الجزء الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق «1»
1- مؤلف الكتاب:
هو محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون المكنى بأبي المعالي؛ ويبدو أن لا علاقة له ولأسرته بأسرة حمدون النديم الذي كان هو وأبناؤه ندماء لعدد من خلفاء بني العباس «2» ؛ واشتهر من هذه الأسرة الثانية حمدون نفسه واسمه ابراهيم بن اسماعيل وكان نديما للمتوكل، وابنه أحمد أبو عبد الله وكان نديما للمتوكل ومن بعده من الخلفاء وله عدد من المؤلفات، وأبو محمد ابن حمدون الذي نادم المعتمد وتوفي سنة 309، وأبو العنبس بن أحمد وابنه ابراهيم وكانا مشهورين بجودة الغناء. وقد أنكر هذه العلاقة بين الأسرتين ابن صاحب التذكرة حين سأله ياقوت قائلا: حمدون الذي تنسبون إليه: أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا، نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بني تغلب «3» ، وسواء أصحّ هذا الذي يقوله ابن صاحب التذكرة من حيث الصلة بالحمدانيين أم لم يصح فليس في سلسلة نسب صاحب التذكرة ما يصله بأسرة بني حمدون الندماء.(1/5)
وقد اتفقت المصادر على أن أسرة صاحب التذكرة كانت مشهورة بالرياسة والفضل «1» ؛ وتفرد المنذري بقوله: «بالرياسة والرواية والكتابة» «2» ويبدو أن الفضل في تأثيل الرياسة لهذه الأسرة لا يعود إلى أبعد من والد صاحب التذكرة أعني الحسن بن محمد بن علي، إذ لا تذكر المصادر شيئا عن الجدّ؛ وإنما تعزو إلى الحسن المكنى بأبي سعد بداية تلك السيادة حين تتحدث كيف أنه كان من شيوخ الكتاب والعارفين بقواعد التصرّف والحساب، وأنه ألّف كتابا في معرفة (أو تصريف) الأعمال، مما يدلّ على رسوخ قدم في شؤون الدواوين، ويوم توفي أبو سعد في جمادى الأولى سنة 546، أي في خلافة المقتفي لأمر الله (530- 555) كان طاعنا في السن «3» .
وقد عرّفتنا المصادر بثلاثة من أبناء أبي سعد أكبرهم يسمى أيضا محمدا ويفترق عن أخيه بكنيته ولقبه؛ فهو أبو نصر غرس الدولة، ولد سنة 488 «وكان من العمّال» وكتاب الدواوين، كتب في الديوان من سنة 513- 545 ولم يثبت كثيرا من رسائله لأنه كان يمليها ارتجالا، وعرف بتقريبه ومصاحبته لأهل الصلاح والخير، وكانت وفاته سنة 545 أي قبل وفاة أبيه بنحو خمسة أشهر، وله من المؤلفات كتاب رسائل، وتاريخ الحوادث «4» ؛ وأوسط الإخوة- فيما أقدّر- هو أبو المظفر، ولعله كان يسمى محمدا أيضا، ولكن المصادر لا تتحدث عنه بشيء؛ وثالث الإخوة هو محمد أبو المعالي الذي شهر بكتاب «التذكرة» .
ولد محمد أبو المعالي في رجب سنة 495 أي في خلافة المستظهر بالله (487- 512) وكان في حوالي الثامنة عشرة من عمره يوم توفي هذا الخليفة،(1/6)
وعاصر خلافة المسترشد (512- 529) والراشد (529- 530) والمقتفي (530- 555) وجانبا من خلافة المستنجد (555- 566) .
ولا نسمع بشيء عنه قبل خلافة المقتفي، ولكنا لا نستطيع أن نقدر أنه ظلّ حتى بداية عهد المقتفي، وسنّه يومئذ تناهز السادسة والثلاثين، عاطلا عن العمل وقد كان أبوه وأخواه قد مهّدوا له الطريق إلى وظائف الدولة؛ ولا بد من أن تكون وظيفة «عارض الجيش» التي تولاها في عهد المقتفي «1» درجة من درجات الترقي في وظائف الدولة. وفي سنة 558 وفي خلافة المستنجد خلت وظيفة صاحب ديوان الزمام بعد عزل أبي المظفر محمد بن عبد الله، فخلفه عليها أبو المعالي «2» ، ولعله لم يدم فيها أكثر من ثلاث سنوات، فقد تغيرت نفس الخليفة عليه، وكان كتابه التذكرة، فيما يقال، سببا في ذلك. وكل ما يقوله العماد الأصفهاني في هذا الصدد- وعنه ينقل سائر المصادر- أن الإمام المستنجد وقف في الكتاب «على حكايات ذكرها نقلا عن التواريخ توهم في الدولة غضاضة، ويعتقد للتعرض فيها عراضة، فأخذ من دست منصبه وحبس، ولم يزل في نصبه إلى أن رمس» «3» . وليس في مقدورنا اليوم أن نحدّد- على وجه الدقة- طبيعة التهمة الموجهة إلى ابن حمدون، ولا تعيين النصوص التي ظنها المستنجد غمزا وتعريضا، وربما لم نستطع ذلك حتى بعد رؤية جميع أجزاء التذكرة محققة والقيام بدراسة محتوياتها ودلالاتها، فقد كانت هذه الأسرة تعيش في كنف العباسيين، وتنعم بعطفهم، وإن أظهر الجزء الأول من التذكرة بعض ميل إلى العلويين؛ فأكبر الظنّ أن هذا الميل كان معروفا لدى الخلفاء الذين عمل لهم بنو حمدون، وهو شيء موروث من بني حمدان إن صحت النسبة إليهم، وذلك لم يكن أمرا يحاسب(1/7)
عليه أصحابه، ويودعون في غياهب السجون؛ وربما افترضنا أنّ الخليفة المستنجد الذي جعل لابن حمدون مكانة خاصة وكفل له تقدما في حضرته واختصاصا بخدمته «1» أخذ عليه بعض التقصير في شؤون العمل أو الاستخفاف ببعض الآيين، فأخرج غضبه في صورة أخرى، حرّضه عليها بعض الحاسدين، حين نبهه إلى أن ذلك «الموظف» غير المخلص يغمز من الدولة التي يعمل في ظلها، فيما جمعه من أخبار وقصص في كتابه، فأمر بحبسه؛ أما مدة ذلك الحبس فلا تتحدث عنها المصادر، ولعلها صادفت لديه مرضا وقهرا نفسيا فقضى نحبه في أوائل سنة 562 (حسب قول العماد وابن خلكان) أو في الحادي عشر من ذي القعدة سنة 562 (حسب قول ابن الدبيثي) ، ودفن في مقابر قريش «2» ؛ وفي ظلّ خدمته للدولة كان يلقب بكافي الكفاة أو كافي الدولة كما كان يلقب ببهاء الدين «3» .
عرف ابن حمدون بالفصاحة «4» والمعرفة التامة بالكتابة والأدب، كما وصف بأنه كان كريم الأخلاق حسن العشرة وأنه «كلف باقتناء الحمد وابتناء المجد» «5» ويستفاد من كلمة للعماد أنه كان يقرب أهل الأدب ويشملهم بعطفه «6» ؛ وتدلّ التذكرة على أنه كان شغوفا بالأدب والتاريخ إلى جانب ما يحتاج إليه «الكاتب» من فروع الثقافة الأخرى؛ ولا بدّ لمن يؤلف مثل التذكرة أن يكون شغوفا بجمع الكتب، فالتذكرة إنما هي في نهاية الأمر ثمرة المطالعة والتقييد لما يستحسنه المطالع، وقد نقدر أن هذا النحو من النشاط كان مجالا لارتياح ابن حمدون من أعباء الوظيفة، كلما خلا إلى نفسه، كما أن الحكايات في التذكرة(1/8)
كانت زادا له في صحبته للخلفاء وبرهانا على حسن اطلاعه واتساع حدوده.
ولا تذكر المصادر من الشيوخ الذين أخذ عنهم أبو المعالي سوى اسماعيل بن الفضل الجرجاني، وقد أخذ عنه الحديث، وذكر ابن الدبيثي أنه روى عنه بسند ينتهي إلى ابن عباس «أمرنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- باسباغ الوضوء، ونهانا- ولا أقول نهاكم- أن نأكل الصدقة ولا ننزي حمارا على فرس» «1» . أما الذين سمعوا منه ففيهم: أحمد بن طارق القرشي وأبو المعالي أحمد بن يحيى بن هبة الله وأبو العباس أحمد بن الحسن العاقولي وابن صاحب التذكرة أبو سعد الحسن (الذي حمل اسم جده وكنيته) .
وقد كان أبو المعالي يحاول شيئا من النظم، وأورد له العماد في الخريدة ثلاث مقطعات: احداها في وصف مروحة الخيش (على طريقة اللغز) والثانية في المدح، والثالثة في الهجاء، وهذه المقطوعة الثالثة تدلّ على خفة روح وميل إلى الدعابة، وفيها يقول «2» : [من الرمل]
يا خفيف الرأس والعقل معا ... وثقيل الروح أيضا والبدن
تدعي أنك مثلي طيب؟ ... طيب أنت ولكن بلبن
واعتمدت المصادر على ما أورده العماد فلم يرد فيها شيء من الشعر زيادة عما أورده.
وقد ورث ابنه الحسن أبو سعد المولود في صفر سنة 547 «3» ، الشغف بالكتب من أبيه أبي المعالي، يقول فيه ياقوت: «وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها العتيقة وأمهاتها المعينة ما لم يحصل أحد للكثير» «4» . وبعد أن تولى هذا الابن عدة ولايات مثل(1/9)
النظر في البيمارستان العضدي، وكتابة السكة بالديوان العزيز، قعد به الدهر، وأخذ يبيع كتبه لينفق من ثمنها على معيشته، ويصف ياقوت مبلغ حزنه عليها وبكائه لفراقها وصفا مؤثرا؛ وقد كان أبو سعد هذا ذا خط رائق كتب به كثيرا من الكتب الكبار والصغار وصححها على المشايخ الذين لقيهم «1» ، وأحدثت له حادثة السجن التي تعرض لها أبوه «عقدة نفسية» فقد صنّف عددا من الكتب لم يجرؤ على إظهارها «خوفا مما طرق أباه» «2» . وهذا يدل على أن ما رواه العماد عن سبب سجن صاحب التذكرة كان مما اعتقده أهله، وراج بين الناس. وقد توفي أبو سعد تاج الدولة هذا في سنة 608 ودفن بمقبرة موسى بن جعفر بباب التبن من بغداد؛ وبه وبأبيه يصحّ القول بأن تلك الأسرة شهرت بالرواية مثلما شهرت بسائر أفرادها بالرياسة وبالكتابة.
2- كتاب التذكرة الحمدونية:
لا ريب في أن جامع هذا الكتاب هو أبو المعالي محمد بن الحسن، وإن وهم في ذلك أبو شامة فنسب جمعه إلى ابنه «3» وكذلك فعل الذهبي «4» ، وهو كتاب ضخم ذكر الصفدي (وعنه الكتبي) أنه في اثني عشر مجلدا «5» ، وقد ذكر العماد أنه كتاب كبير «جمع فيه الغث والسمين والمعرفة والنكرة» ، كما ذكر المنذري أنه مشهور وأنه أجاد فيه وأحسن، وقال الدبيثي يحتوي على فنون أجاد فيه وأحسن في جمعه، وقال ابن خلكان: «من أحسن المجاميع يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار لم يجمع أحد من المتأخرين مثله وهو مشهور بأيدي الناس كثير الوجود، وهو من الكتب الممتعة» . وليس بين هذه الأقوال فروق، فهي تترادف أو يكمّل بعضها بعضا، وقد يكون قول العماد «جمع فيه(1/10)
الغث والسمين والمعرفة والنكرة» موهما بمناقضته لقول غيره: أحسن فيه أو أجاد فيه، ولكن لا تناقض هنالك، والأمر في ذلك نسبي، بحسب الزاوية التي ينظر الناظر منها إلى ذلك الكتاب؛ وابن حمدون لم يزعم أنه يجمع- في كل الأحوال- أجود المختارات من الشعر والنثر، وإنما كان يقيد ما يظنه متصل المعنى بالباب الذي يعقده، وإن قال في مقدمته: «ونظمت فيه فريد النثر ودرره، وضمنته مختار النظم ومحبره، وأودعته غرر البلاغة وعيونها، وأبكار القرائح وعونها، وبدائع الحكم وفنونها، وغرائب الأحاديث وشجونها» ، فهذا يعني أن الكتاب يحتوي من ذلك الكثير، ولكنه لا ينفي أن المخشلبة قد تقع أحيانا إلى جانب الدرة لتظهر الأولى مدى تفرد الثانية.
وربما لمس المرء في مقدمة التذكرة أن ابن حمدون كان يعاني نوعا من العزلة حين أخذ في جمع مادتها، مؤثرا عشرة الكتب على عشرة الآدميين، فهو يقول إنه أخذ في وضع كتابه حين «فسد الزمان وخان الاخوان، وأوحش الأنيس، وخيف الجليس، وصار مكروه العزلة مندوبا، ومأثور الخلطة محذورا» ، وكانت غايته من وراء ذلك- بعد التسلية الذاتية- أن يقدم للناس أمثالا وحكما وحكايات وأخبارا ونوادر، لعلهم يجدون في كل ذلك الترويح والمتعة والعبرة والتأدب والتثقف.
ولفظة «التذكرة» أقرب إلى أن تدل على مقيدات مرسلة لا يضبطها ضابط، تقف فيها الموعظة إلى جانب النادرة، إلى جانب الفائدة العلمية، إلى جانب التجربة الذاتية، ولكن ابن حمدون شاء لتذكرته التبويب، فقسمها في خمسين بابا وجعل كلّ باب يحتوي على فصول، فاخضاع التذكرة لهذا التنظيم الواعي قد جعل لها منهجا ومخططا شأنها شأن معظم كتب «الأدب» من أمثال عيون الأخبار والعقد الفريد ونثر الدرّ وبهجة المجالس ولباب الآداب ومحاضرات الراغب وربيع الأبرار والمستطرف؛ فكلها قائم على التقسيم إلى فصول، ولكنها تتفاوت فيما بينها في شيئين: في طبيعة ما تركّز عليه من توجّه، كالتوجّه الأخلاقي أو الأدبي مثلا، وفي طبيعة ما تنفرد به رجاء الخروج من دائرة النقل(1/11)
المستمرّ عن عدد محدد من المصادر السابقة. ويكاد كتاب البصائر والذخائر لأبي حيان- من دون غيره من كتب الأدب- أن يستحق اسم التذكرة لأنه لا يخضع لأي تبويب منظم أو خطة تصنيفية؛ ولكن دين تذكرة ابن حمدون للبصائر ولنثر الدرّ واضح تماما، فعن الأول أخذ ناحية البدء بالأدعية في مطلع كل باب، ولكن شتان ما بين تلك الأدعية الأدبية الجميلة التي يصدر بها أبو حيان كل جزء من البصائر وبين الأدعية العادية التي يجعلها ابن حمدون دلالة على محتوى الباب؛ هذا عدا عما استمده ابن حمدون من نقول عن البصائر، وربما كانت نقوله عن نثر الدر (وهو مدين للبصائر بالكثير) أكثر من نقله عن البصائر، ولكن اتفاق المؤلفين الآبي وابن حمدون في الميل الشيعي جعلهما يتحدان في طبيعة الترتيب للأبواب الأولى. فبعد البدء بالقرآن والحديث النبوي عند كليهما نجد المؤلفين يقدمان كلام علي والعترة النبوية على كلام سائر الصحابة والتابعين، ثم يفترقان بعد ذلك في طبيعة الترتيب العام، فبينا يعمد الآبي إلى قسمة كل كتاب من كتبه السبعة «1» إلى جزءين متوازيين من الجد والهزل؛ نجد الهزل يأتي في ذيل كل باب من الأبواب الخمسين عند ابن حمدون، (ما عدا الباب الثامن والأربعين فهو في النوادر والمجون) ؛ وبما أن عدد الأبواب أكثر فإن كمية الهزل في التذكرة قد توازي كمية الهزل عند الآبي، ولكنها لا تستطيع أن ترجح بكمية الجد نفسه في التذكرة، ولهذا سبب واضح هو أنّ ابن حمدون يستغل الشعر في مؤلفه بقدر ما يستغل النثر أو أكثر، بينما لم يحفل الآبي بإيراد الأشعار.
وقد اختار ابن حمدون بداية وخاتمة طبيعيتين حين ابتدأ كتابه بالمواعظ والآداب الدينية وختمه بالأدعية، ثم وزع المادة على أبواب معينة، كلها يمكن أن ينتظمها اسم «الأدب» ما عدا الباب التاسع والأربعين المخصص للتاريخ؛ ومن يقرأ أسماء هذه الأبواب الباقية يجدها تقع تحت العنوانات الآتية:(1/12)
1- الأبواب التي تتحدث عن الأخلاق كالسخاء والبخل والشجاعة والجبن والوفاء والغدر والصدق والكذب والتواضع والكبر والقناعة والحرص ...
الخ (الباب الرابع حتى الباب: 16) .
2- الأبواب ذات النزعة الأدبية الشعرية: كالمدح والتهنئة والرثاء والهجاء والعتاب والوصف والغزل (الباب 17- الباب 29) .
3- الأبواب القائمة على فنون النثر: كالخطابة والكتابة والأمثال والأجوبة المسكتة (الباب 30 حتى الباب 33) .
4- وبعد ذلك أبواب لا يربطها رابط وكان يمكن أن يدرج بعضها فيما تقدّم كالباب في الخمر (رقم: 44) فإنه كان يمكن أن يلحق بالأبواب ذات النزعة الشعرية.
ومن الواضح أن هذا التنظيم كان شكليا في معظمه وذلك لتباعد الأبواب التي كان من الممكن أن تجيء متعاقبة، ولهذا لم تنج تقسيمات ابن حمدون من التداخل؛ خذ مثالا على ذلك الباب الثاني في الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك، فإن هذا الباب لا يمكن أن ينفصل عن العدل والجور (وهو الباب الثاني عشر) وعن المشورة والرأي (وهو الباب الرابع عشر) وعن الحجاب (وهو الباب الحادي والأربعون) فكل هذه الأبواب تتصل بالسياسة (كما تتصل بغيرها) ولهذا عمد ابن قتيبة في عيون الأخبار إلى إيرادها متتابعة، وحذا حذوه في ذلك ابن عبد ربه في العقد.
ويمكن أن يقال إن التذكرة الحمدونية حيادية لا تنم عن ميل صاحبها، فليس فيها من ذاته إلا الاختيار- وهذا كثيرا ما يحكمه الموضوع- وظهور الميل الشيعي دون إسراف، وبعض الأدعية في فواتح الأبواب وهي من إنشائه؛ ولكن ابن حمدون لا يسجل فيها تجاربه ومشاهداته وقضايا عصره، ومن الجور أن نقرنه هنا بالبصائر الذي جعله أبو حيان معرضا لآراء أهل عصره ومشاكله وخصوماته ونزعاته، ولتجاربه الذاتية وآرائه فضلا عن ذوقه وجميل إنشائه؛ وقد قرأت كثيرا من أبواب التذكرة التي قد تحصلت لديّ مخطوطاتها فلم أجد ابن(1/13)
حمدون يستشهد بشيء من هذه الأمور أو يتوقف كثيرا عندها؛ نعم وجدته يقول في بعض المواطن وهو يتحدث عن السخاء «1» : «وشاهدت اثنين أحدهما من أوساط الناس والآخر من فقرائهم، أما الأول فكان يجوع ويطعم، ويعرى ويكسو، ويتكسب بالتصرف، فيلبس القميص المرقوع، ويركب الدابة الضعيفة، لا زوجة له ولا ولد ولا عبد؛ وأما الثاني فرجل ضعيف يجتدي الناس في الأسواق، ويسألهم، ويجمع ذلك ينفقه على المحبوسين ويطعمهم ويسقيهم ويداوي مرضاهم، ويضع الأجاجين على الطرق يملأها ثريدا ويدعو الفقراء إليها وهو بقميص منخرق مكشوف الرأس، لا يعود على نفسه مما يحصله إلا ببلغته، فهذان يستحقان اسم الكرم» ؛ ولكن أشباه هذا النصّ قليلة فيما أعتقد، أستثني من ذلك مؤقتا قسم التاريخ لأني لم أحصل عليه بعد. ولهذا يمكن أن يقال إن التذكرة في معظمها تمثل جهدا في النقل عن مصادر الأدب والتاريخ.
3- النسخ المعتمدة في التحقيق:
للتذكرة الحمدونية نسخ عديدة تمثل أجزاء كثيرة منها مبثوثة في المكتبات في أرجاء العالم، وقد حصلت على عدة نسخ منها، (سأصف كلّا منها في مطلع كل جزء بحسب الحاجة) . ولما رتبت النسخ التي يمكن أن تعتمد لتحقيق الجزء الأول وجدتها ثلاثا، وهي:
1- نسخة أحمد الثالث رقم: 2948 (ورمزها ح) ، وتقع هذه النسخة في 172 ورقة في كل ورقة 17 سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وقد كتب على الورقة الأولى منها: الجزء الأول من كتاب التذكرة تأليف الشيخ الصدر الأجل الأمجد محمد بن حمدون رحمه الله، اللهم كما أنعمت فزد، ثم بعض تملكات يدل أحدها أنها كانت برسم خزانة السلطان الأعظم سليمان بن السلطان شهاب الدين غازي بن محمد الأيوبي؛ وفي(1/14)
آخرها: «تم الجزء الأول من تذكرة ابن حمدون، ولله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه وعترته الطيبين الطاهرين، ويتلوه في الجزء الثاني/ الباب الثاني/ (صوابه: الثالث) في الشرف والرياسة والسيادة وما هو من خصائصها ومعانيها» . وهي مكتوبة بخط نسخي واضح جميل، وتكاد تكون إلى جانب الضبط أقرب منها إلى جانب الخطأ لولا بعض الأوهام والجمل التي سقطت، ولولا اضطراب وقع فيه الناسخ أثناء النقل فاضطرب بذلك ترتيب بعض الأوراق، وعند مقارنتها ببعض النسخ أمكن إعادة الترتيب على حسب ما كان في الأصل.
2- نسخة رئيس الكتاب رقم: 766 (ورمزها: ر) وقد كتب عليها أنها تمثل «الجزء الأول من التذكرة الحمدونية» وتقع في 98 ورقة؛ وفي كل صفحة منها 21 سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وخطها نسخي واضح؛ ولكنها تقف عند آخر الفصل الرابع من الباب الثاني، فهي ليست كل الجزء الأول الذي تضمنته النسخة السابقة؛ كما أن ما سقط منها من النصوص يمثل نسبة كبيرة.
3- نسخة مكتبة عمومية رقم 5363 (ورمزها: ع) وقد كتب على الورقة الأولى منها: الجزء الأول من تذكرة المحاضرة وتبصرة المحاورة «1» ، جمع العالم المحقق الشيخ محمد بن الحسن بن حمدون رحمه الله تعالى؛ وعلى هذه الورقة تملكات؛ وتقع النسخة في 244 ورقة؛ وهي في الحقيقة تتجاوز ما جعلناه الجزء الأول، وفي داخلها قسمة تدلّ على أنها ثلاثة أجزاء، وتنتهي عند آخر الباب الرابع عشر من التذكرة، أي الباب الخاص بالمشورة والرأي؛ وقد جاء على الورقة الأخيرة منها أن الفراغ منها تم يوم الجمعة ثاني عشر المحرم سنة ثمان وأربعين وثمانمائة، ولم يذكر اسم الناسخ؛ وعيبها فيما يتعلق بالجزء الأول (الذي تقع نهايته في الورقة 51/أ) وجود سقط فيها ليس من قبيل الخرم بل(1/15)
هو من قبيل الاضطراب في النسخ.
4- تجدر الاشارة إلى أنّ قسما من الجزء الأول من التذكرة (يشمل الباب الثاني) كان قد نشر بمصر سنة 1345 1927 بعناية مكتبة الخانجي، في سلسلة «الرسائل النادرة» . وقد جاء هذا القسم من التذكرة ثالثا في تلك السلسلة، ويؤخذ من مقدمة الناشر أنه اعتمد على مخطوطة خاصة كانت لدى السيد نور الدين بك مصطفى مكتوبة بخط محمد بن أركماس الطويل اليشبكي [البشتكي] وأنها قد نسخت سنة 868.
وقد أفدت من هذه الطبعة وأشرت اليها في الحواشي باسم «المطبوع من التذكرة» أو «المطبوعة» ، معتبرا أنها تقوم مقام نسخة رابعة.
من الواضح- بعد وصف النسخ، ومن الاحالة على تجارب سابقة- أن نصوص الكتب التي تعتمد على الاختيار يمكن أن يحذف منها الناسخ ما يشاء ويبقي ما يود إبقاءه، ولا يتم اكتشاف ذلك إلا عند مقارنة النسخ بعضها ببعض؛ بل إن المقارنة نفسها قد تظل ناقصة إذا لم يستطع المحقق أن يحصل على مسودة المؤلف نفسه؛ ولهذا أستطيع القول إنني مطمئن لضبط النصّ في هذا الجزء لأني قد قرأته على مختلف المصادر، ولم اكتف بالمقارنة بين النسخ، ولكني لا أستطيع الجزم إن كانت هناك نسخة أخرى لم أطلع عليها وفيها زيادة على ما جاءت به أكمل النسخ وهي نسخة أحمد الثالث؛ وإن كنت أرجح أن ذلك أمر مستبعد.
4- ملاحظات حول التحقيق:
سيلحظ القارىء أنني تعمدت ردّ كل فقرة إلى مصادرها- بعد أن رقمت الفقرات- وذلك لعدة أمور منها:
1- ضبط النصّ على أتم وجه ممكن.
2- تصوير مدى دوران هذه النصوص في كتب الأدب.
3- صنع فهرسة أولية لكتب الأدب التي نقلت عنها نصوص التذكرة أو نقلت عن التذكرة.(1/16)
4- تبيان مصادر ابن حمدون على وجه يكاد يكون قطعيا.
وسيكتشف القارىء مدى اعتماد ابن حمدون على نهج البلاغة وحلية الأولياء والبيان والتبيين (وعيون الأخبار) ونثر الدر والبصائر والأدب الكبير لابن المقفع وكليلة ودمنة وكتاب النمر والثعلب لسهل بن هارون (في هذا الجزء الأول وحده) وغيرها من مصادر «1» . ولهذا الأمر أجدني قد تأنيت كثيرا في تخريج الأقوال وأوجزت كثيرا في تعريف الأعلام، فاكثر الأعلام التي يذكرها ابن حمدون مشهور، وما كان منها غير مشهور فقد عرفت به لفائدة القارىء بذكر مصدر أو مصدرين، غير ملتفت إلى الاستكثار من ذكر المصادر، إذ أن بعضها يهدي إلى بعض في يسر.
وقد ضبطت النصّ ببعض الشكل، ورجحت الصواب وأثبته في المتن، غير متخذ إحدى المخطوطات الثلاث أصلا معتمدا، وقسمت الحاشية في قسمين: واحد جعلته لاختلاف القراءات في المخطوطات والمصادر والثاني لتخريج النصوص والتعريف ببعض الأعلام، وما كان زيادة من المصادر جعلته بين معقفين مستطيلين [] ؛ وميزت الآيات القرآنية بوضعها بين قوسين مزهرين وأثبتّ في المتن اسم السورة ورقم الآية بين قوسين عاديين.
ولا بد لي من أن أوجه الانتباه إلى ما تكشفه المصادر من تعدد في نسبة القول إلى عدد كبير من الناس؛ حتى ليكون القول الواحد نفسه منسوبا إلى خمسة، وهذه مشكلة قد توقف عندها ابن حمدون نفسه حين قال في أول الفصل الثاني من الباب الأول؛ عند الحديث عن كلام علي والعترة النبوية:
«قد اختلفت الرواة فيما جاء من مثل هذه الآداب والمواعظ اختلافا شديدا ونسبوا الكلمة منها إلى جماعة من القرابة والصحابة، وكثيرا ما نسبوا فقرا يتداولها الناس تارة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتارة إلى أهله وأصحابه» ... وذكر ابن 2 1 التذكرة(1/17)
حمدون أن كثيرا مما رواه الرضي في نهج البلاغة لعلي تبين أنه للنبي، «وكذلك غيره فعل، نسب شطرا من كلامه إلى أولاده رضي الله عنهم، ولعل أحدهم كان يذكر الكلمة رواية أو تمثلا عن آبائه فيغفل الراوي الاسناد، وقد يقع التوارد في الكلمة كما يتفق الإبطاء في الشعر» . وهذا القول قد يفسّر الأقوال التي تتردد نسبتها بين الرسول وعلي وأبنائه، ولكنه لا يستطيع أن يفسر كيف يمكن أن يكون كلام لعلي موجودا في الأدب الكبير لابن المقفع أو كلام في كليلة ودمنة وقد أدرج في نهج البلاغة أو حكمة لأرسطاطاليس تنسب إلى أبي حازم الأعرج- مثلا-. وربما كان السبب الأكبر في الاضطراب هنا هو الاهتمام بالقول نفسه وبمحتواه، أكثر من الاهتمام بمن قاله، أو كما يقول ابن حمدون: «إذ المقصود المذاكرة بمعانيه لا نسبته إلى قائليه» ، وكما قال أبو حيان التوحيدي: «الحكمة نسبتها فيها، وأبوها نفسها، وحجتها معها، وإسنادها متنها، لا تفتقر إلى غيرها، ولا تستعين بشيء ويستعان بها» «1» .
وهذا إن كان لا يضرّ بأن تكون الحكمة منسوبة لسقراط أو لديوجانس أو لعمرو ابن العاص فإنه يضرّ كثيرا حين تكون الحكايات صالحة لخدمة التاريخ، ثم يفسدها أن تكون كذلك الاضطراب في نسبتها؛ ولهذا فإن كتب الأدب التي ذكرت عددا منها وضعت في مرتبة متواضعة جدا بالنسبة للمؤرخ الحديث، مع أن فيها أخبارا ربما عزّ أن نجدها في كتب التاريخ نفسها.
إن كتاب التذكرة سيجيء في عدة أجزاء، ولذلك فإن هذا الجزء لا يصوّر تماما روح الكتاب، وقيمته واعتماد المصادر التالية عليه، وهذه أمور ستتضح تباعا وتستكمل صورتها بعد نشر سائر الأجزاء، وربما توضحت بالتالي صورة ابن حمدون نفسه، على ضوء ما يجدّ من معلومات.
هذا وقد بذلت في تحقيق هذا الجزء من الجهد ما يستدعي فهرسة عشرات الكتب ذات الأجزاء لاستخدامها في التخريج والتوثيق، وإني لأرجو أن يعينني(1/18)
الله على إنجاز ما بقي- وهو كثير-؛ كما أرجو ألا أحرم من وجود النفر الذين لا يعملون ويسوءهم أن يعمل الناس، متمنيا على الله ان يمدّ في أعمارهم لكي يستمتعوا بلذة الغيظ والحقد والتنقص للآخرين.
وإذا كان لي من كلمة أقولها في ختام هذه المقدمة، فهي تقديم الشكر الجزيل للشاب اللامع المتوقد الذكاء صديقي الدكتور رضوان نايف السيد الذي أعانني على استكمال المصادر الضرورية في التحقيق، ورعى هذا العمل ببصيرته النافذة، واقتراحاته السديدة، حفظه الله ورعاه، ووفقني إلى الخير، وأقدرني على العمل المثمر في خدمة التراث العربي الاسلامي، إنه نعم المولى ونعم النصير.
بيروت في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1982.
إحسان عباس(1/19)
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرّحيم ربّ يسّر بخير يا كريم «1» اللهم إنا نحمدك على ما أوليت من الآلاء والمنن، وأبليت من البلاء الحسن، وأفضلت علينا من إنعامك مبديا ومعيدا، وأفضت لنا من إحسانك مسديا ومفيدا، ونشكر لك على ما ألهمتنا من الشكر، وجعلته وهو منحة منك أوفى عدة لنا وذخر، ونسألك العصمة من الزيغ والزلل، ونعوذ بك من الخطأ والخطل، ونأمل منك توفيقا يقينا مزلّة العاثرين، ويحمينا من مذمّة العائبين.
اللهم وكما آتيتنا قلوبا واعية، فاجعلها إلى شكر نعمك داعية، وبما خصصتنا من فضيلة البيان، فاكفنا بلوى العجب والافتتان، واحرسنا من إساءة نتوهمها إحسانا، وعيّ فاضح نظنه بيانا، وأرنا ما خفي عنّا من عيوبنا، وواراه الهوى عن بصائرنا وعيوننا، وسلّمنا من معرّة الأقوال وهذرها، وجنبنا مضرّة الأفعال وكدرها، وصلّ على حبيبك مولانا وسيدنا «2» محمد المختار، وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار «3» ، صلاة تعلي بها «4» شريف درجته، وتنجز له «5» بها وعده في أمته، حتى يسعهم عفوك السابغ، وتوردهم من تجاوزك وصفحك منهلك السائغ.(1/21)
هذا كتاب جمعته من نتائج الأفكار، وطرف الأخبار والآثار، ونظمت فيه فريد النثر ودرره، وضمنته مختار الشعر «1» ومحبّره، وأودعته غرر البلاغة وعيونها، وأبكار القرائح وعونها، وبدائع الحكم وفنونها، وغرائب الأحاديث وشجونها، حين بدّل الصفو بالكدر، وغيّرت بني الأيام الغير، وفسد الزمان، وخان الإخوان، وأوحش الأنيس، وخيف «2» الجليس، وصار مكروه العزلة مندوبا، ومأثور الخلطة محظورا، وأضاءت آثار الوحدة في القلوب فأنارتها، وحكمت العقول بفضيلة التخلّي فاختارتها، فوجدت الكتاب خير صاحب وقرين، وأفضل رفيق وخدين، لا يخون ولا يمين، ولا يماكر ولا يناكر، ولا يعصي ولا ينافر، المفضي إليه بسرّه مستظهر آمن، والمصاحب له وادع ساكن، مأمون الهفوة والزلة، محمود الخلوة والخلّة، فهو لمن وفّق للاعتزال أسلم خليل، وأكرم أخ برّ وصول، ولمن سلب الايثار، وحكمت عليه غلبة الاضطرار، تذكرة للناسي، وتبصرة للساهي، وكلّ منهما يجد في هذا الكتاب لمراده مستمتعا، ويسلك منه إلى مراده نهجا متسعا، فسيتخرج «3» منه أدبا يقدح من زناده قبسا، ويكشف بضيائه لبسا، وحكمة يدعو إليها مرغّبا ومفيدا، ومثلا شرودا، يورده دليلا لما جوري فيه وشهيدا، وحكاية يتمثل بها، ويجعلها قياسا «4» لما سئل عنه وشبها، وأخلاقا كريمة تحثّ على اقتفائها فالخير مأثور اتباعه، أو لئيمة تنفّر بقبحها عن احتذائها فالشرّ يكفيك منه سماعه «5» ، وسيرا وأخبارا تتمثّل «6» بمعانيها، وتروّح القلوب لتعي الذكر بالتفكّر «7» فيها، ونادرة يجلو بها صدأ القلوب، ويهزّ لها عطف السامع المكروب، وغير(1/22)
ذلك مما هو مشروح في أبوابه وفصوله، ومغن بتمييزه «1» عن الدأب في تطلبه وتحصيله.
وشرّفت كلّ باب بأن بدأته بآي من كتاب الله سبحانه وتعالى، وأثر من رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقدّمت أمامه تحميدا يكون مشيرا إلى معناه، وطليعة لمقصده ومغزاه، وختمته بطرف من نوادره، وملح من غرائبه، ليستريح إليها اللغب الطليح من كلال الحدّ، ويأمن معها الدئب الحريص من ملال الجدّ، خلا بابي الافتتاح والخاتمة فإنّهما لله خالصان، وللانقاذ من هفوات القلب واللسان مؤمّلان.
وهو مصروف عن الإسهاب المملّ إذ كان مطيّة العثار والإرداء، ومصدوف عن الاختصار المخلّ فانه مظنّة الخيبة والإكداء، وهما طرفان مذموم بهما الإفراط، وخير الأمور الأوساط «2» ، وما ألوت جهدا في الاختيار، ولا يلزمني أن يكون لكل الناس رضى فقد يروق للرجل لفظ وهو للآخر قذى، ويلذّ له معنى ويجده سواه أذى، والعالم في المقاصد شتّى الطرق أخياف «3» ، والاختيارات لها ائتلاف واختلاف.
وأفردت منه بابا يشتمل على جمل من التاريخ ليعرف منه أهل كلّ زمان، وأعيان كلّ أوان، فيسلم ممّا ابتلي به بعض الفضلاء وقد ذكر رؤيا رآها هارون الرشيد زعم أنه قصها على ابن سيرين، فصار بما جهل من تباعد عصريهما ضحكة للحاضرين، وودّ لو كان وفضله في الغابرين.(1/23)
ورتبته في «1» خمسين بابا، يجمع كل باب فيها فصولا متقاربة، ومعاني متناسبة، ليقرب على متصفّحه ما يريد انتزاعه بمعرفة مكانه، ويسرع إلى ملتمسه بعلم مظانّه، وابتدأته بالمواعظ والآداب الدينية، وختمته بالأدعية المستحبّة المرويّة، رجاء أن يمحّص الله بهما ما بينهما من خائنة الأعين ويمحو، وينهض من كبّة حصائد الألسن ويعفو «2» ، وبالله المستعان «3» .
فرحم الله امرءا وقف من كتابي هذا على خلل فأصلحه وزلل فاستدركه، فإني نقلته والقلب عليل، والخاطر كليل، والأثر قد قوّض خيمه وارتحل، والنذير قد حلّ مزعجا للزيال ونزل، والأحباب قد دلفوا، والأتراب قد سلفوا، وهم لنا فرط سابق، وأنا لظعنهم مشيّع لاحق، فلم أكد أعاود لحظه ولا تتبعت غلط الوهم واليد، وغفر له ولنا من وسعت «4» رحمته سهو الأعمال وعمدها، ولغو النيّات وقصدها، إنه جواد كريم، غفور رحيم، وهو حسبي «5» .
الباب الأول: في المواعظ والآداب الدينية وهو بعد الآيات المستخرجة من الكتاب العزيز أربعة فصول:
الفصل الأول: في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما ورد موعظة وأدبا يتعلّق بالورع والزهد، وأتبعته بشيء من كلام الأنبياء قبله «6» صلى الله عليهم أجمعين.
الفصل الثاني: من كلام آل الرسول صلى الله عليه وعليهم والعترة الهاشمية وأخبارهم فيما يناسب الباب «7» .(1/24)
الفصل الثالث: من كلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين «1» .
الفصل الرابع: من كلام التابعين وسائر طبقات الصالحين وأخبارهم.
الباب الثاني: في «2» الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك والرعية وهو ستة فصول الفصل الأول: الحكم «3» والآداب التي تهذّب بها النفوس ويشترك في احتذائها السائس والمسوس.
الفصل الثاني: السياسة الملكية وما يجب للولاة وعليهم والرعية «4» ، وما يلزمهم من تقيّل «5» الأخلاق المرضيّة.
الفصل الثالث: سياسة الوزراء والكتاب وأتباع الملوك في خدمة ولاتهم.
الفصل الرابع: الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور.
الفصل الخامس: أخبار في السياسة والآداب يقتدى بها وتكون مثالا لطالبها.
الفصل السادس: نوادر تتعلق بهذا الباب مع بعده عنها وعلى قلّتها فيه.
الباب الثالث: في الشرف والرئاسة.
ويتضمّن هذا الباب ما جاء في شرف النفس وعلوّ الهمة والسؤدد والحلم وحمل المغارم وحفظ الجوار وحمي الذمار.
الباب الرابع: في محاسن الأخلاق ومساوئها.(1/25)
الباب الخامس: في السخاء والجود والبخل واللؤم.
الباب السادس: في البأس والشجاعة والجبن والضراعة.
ويجيء في هذا الباب أسماء المشهورين من الفرسان وقتلهم في الإسلام.
الباب السابع: في الوفاء والمحافظة والغدر والملل.
الباب الثامن: في الصدق والكذب ويتصل به العهود والمواثيق والأقسام المستغربة.
الباب التاسع: في التواضع والكبر.
الباب العاشر: في القناعة واللطف والحرص والطمع.
الباب الحادي عشر: في تحصين السر والنميمة.
الباب الثاني عشر: ما جاء في العدل والجور.
الباب الثالث عشر: ما جاء في العقل والحمق.
الباب الرابع عشر: في المشورة والرأي: صوابه وخطئه.
الباب الخامس عشر: في العهود والوصايا.
الباب السادس عشر: في الفخر والمفاخرة.
الباب السابع عشر: في المدح ويتصل به فصلان: الشكر والاعتذار، والاستعطاف.
الباب الثامن عشر: في التهاني.
وفصوله تسعة: الفتوح، الولاية، الخلع، الولد، المواسم، النكاح، القدوم من سفر، الشواذ، النوادر.
الباب التاسع عشر: في المراثي والتعازي.
وفصوله ستة: الملوك والرؤساء، الإخوان، والأهل، الأطفال، النساء، الشواذ، النوادر.
الباب العشرون: في العبادة والمرض.
الباب الحادي والعشرون: في المودة والإخاء والمعاشرة والاستزارة.
الباب الثاني والعشرون: في الهدايا.(1/26)
الباب الثالث والعشرون: في الهجاء ومقدماته.
وهي ثلاثة فصول: العتاب والاستزادة، التعريض، شكوى الزمان.
الباب الرابع والعشرون: الاغراء والتحريض.
الباب الخامس والعشرون: التقريع والتوبيخ.
الباب السادس والعشرون: الوعيد والتحذير.
الباب السابع والعشرون: في النعوت والصفات.
وهي أربعون نوعا: نعت الخيل والبغال والحمير. نعت الإبل. نعت الفيل. الأسد. وحش الفلاة وسباعها. القنص وآلاته وأماكنه. الطير. أنواع شتى من الحيوان. الحية. الهوام والحشرات. النساء ولباسهن وزينتهن.
الغلمان. السودان. السماء والنجوم وما يتعلق بها. الليل والصبح وما جاء في طول الليل وقصره.
السحاب والغيث وما كان منهما. الرياح. الخصب والمحل. المياه والغدران والأنهار. السفن. الجسر. الرياض والأزهار. النخل والشجر. الحرب والجيش. السلاح والجبن. أنواع القتل والجراح. الأبنية والمعاقل. الديار والرسوم. الفلاة والسير والسّرى. البيان والمحاورة. القوافي. الكتاب والقلم وآلاتهما. النار والحر وما تنوّع منهما. القرّ والصلاء. المآكل والأكول والقدر.
الملاهي. الشواذ. النوادر.
الباب الثامن والعشرون «1» : في الشيب والخضاب.
وهي خمسة فصول: الفجيعة بالشيب. التسلّي عن حدوثه. مدح الخضاب وذمّه. أخبار المعمرين. النوادر.
الباب التاسع والعشرون: في الغزل والنسيب.
وهو اثنان وعشرون نوعا: شدة الغرام والوجد. الإعراض والهجر والصد. الشوق والنزاع. ذكر الوداع. المسرة باللقاء عند الإياب. الطيف(1/27)
والخيال. الرقة والنحول. البكاء والهمول. إحماد المواصلة ولذة العناق.
شكوى الفراق والبين واحتمالهما. الأرق والسهاد. تعاطي الصبر والجلد. العذول والواشي والرقيب. وصف المحبوب. طيب الأفواه. وصف الثغر. إسرار الهوى وإعلانه. عشق الحلائل. غزل العبّاد وتساهلهم فيه. أخبار من قتله الكمد.
جمل من الغزل والنسيب. نوادر من الباب وأخبار المتيمين.
الباب الثلاثون: في أنواع شتى من الخطب.
الباب الحادي والثلاثون: في المكاتبات.
الباب الثاني والثلاثون: في الأمثال والاستشهادات.
وهي ستون مفصلة في مواضعها «1» .
الباب الثالث والثلاثون: الحجة البالغة والأجوبة الدامغة.
الباب الرابع والثلاثون: كبوات الجياد وهفوات الأمجاد.
الباب الخامس والثلاثون: في أخبار العرب وعوائدهم وغرائب سيرهم وأوابدهم.
الباب السادس والثلاثون: في الكهانة والزجر والفأل والطيرة والعيافة والفراسة.
الباب السابع والثلاثون: في اليسر بعد العسر والرخاء بعد الضر.
الباب الثامن والثلاثون: ما جاء في الغنى والفقر.
الباب التاسع والثلاثون: في الأسفار والاغتراب.
ويدخل في هذا الباب: الوداع والإياب وورود الكتاب وصدور «2» الجواب.
الباب الأربعون: في تنجّز الحوائج والسعي فيها والشفاعة والوعد والإنجاز والمطل.
الباب الحادي والأربعون: في الحجاب متيسّره ومتعسّره.
الباب الثاني والأربعون: في الحيل والخدع «3» المتوصل بها إلى نجح المقاصد والمطالب.(1/28)
الباب الثالث والأربعون: في الكناية والتعريض.
ويتضمن: المعاياة والأحاجي والتورية واستطراد الشعراء.
الباب الرابع والأربعون: في الخمر والمعاقرة.
وما جاء في مدحها وذمها ووصفها ونعتها «1» وأخبار معاقريها ومحاسن الندماء ومساوئهم.
الباب الخامس والأربعون: في الغناء والقيان.
الباب السادس والأربعون: في المؤاكلة والنهم والتطفيل وأخبار الأكلة والمآكل.
وهو ستة فصول: آداب الأكل والمؤاكلة، الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها. الجشع والنهم وأخبار الاكلة. التطفيل وأخبار الطفيليين. أوصاف الأطعمة وفنونها. نوادر الباب «2» .
الباب السابع والأربعون: في أنواع السير وعجيبها، وفنون الأشعار والأخبار وغريبها «3» .
الباب الثامن والأربعون: في النوادر والمجون.
وابتدأته: بمزح الأشراف والأفاضل وفكاهتهم، والرخصة فيه ثم جعلته من بعد اثني عشر نوعا:
نوادر الأعراب. نوادر الشعراء والأدباء. نوادر الظرفاء. نوادر مواجن «4» النساء. نوادر في التعصب والتحزب. نوادر المخنثين. نوادر ذوي «5» العاهات والأدواء «6» . نوادر الخلعاء. نوادر الأغبياء والجهلاء وعيّهم وتصحيفهم وغلطهم. نوادر المتنبئين والقصّاص والممخرقين. نوادر المجانين. نوادر السفلة وأصحاب المهن والسوقة.(1/29)
الباب التاسع والأربعون «1» : جمل في التاريخ.
الباب الخمسون: في الأدعية.(1/30)
الباب الأوّل في المواعظ والآداب الدّينيّة وسيرة السّلف الأوّل والصّالحين(1/31)
بسم الله الرحمن الرحيم قد حوى الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من المواعظ والإنذار والآداب التي يفوز ممتثلها وينجو من عمل بها، ما فيه عبرة لمن اعتبر، ومزدجر لمن وعى وادّكر، وكفاية لمن تفكر في آياته وتدبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كقوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
(الحج: 1، 2) . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(لقمان: 33) .
وقوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ
(المؤمن: 18) . وقوله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
(الحشر: 18، 19) . وقوله: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ
(الحشر: 20) . وقوله تعالى:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَ
3 1 التذكرة(1/33)
عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
(الأنعام: 94) . وقوله عز وجل: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
(الكهف: 49) . وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
(الكهف: 57) . وقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(الزمر: 22) .
ومما أدبنا به عز وجل ودعانا إلى اتباعه وتقبّله قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(البقرة: 237) . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
(البقرة: 267) . وقوله عز وجل: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(البقرة: 268) . وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
(آل عمران: 103) . وقوله عز وجل: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
(آل عمران: 173، 174) . وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(آل عمران:
188) . وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
(النساء: 57) . وقوله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ(1/34)
أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(الأنعام: 152) . وقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(يونس: 57، 58) . وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(النحل: 90) . وقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً
(الإسراء: 78، 79) . وقوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً، إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً، وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً
(الفرقان: 63- 68) . وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً، وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً
(الفرقان: 72- 74) . وقوله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
(فصلت: 33، 34) . وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ
(المنافقون: 9، 10) . وقوله عزّ(1/35)
وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
(الطلاق: 2، 3) .
وحسبنا ما شرّفنا الكتاب بإيراده نفتتح به تيمنا ونستنجح ببركته مقصدنا إذ كان تقصّي آياته، وطلب غاياته، شأوا لا يدرك، ونهجا لا يسلك. ونعود إلى فصول هذا الباب، وهي أربعة:
الفصل الأول: في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأوامره ونواهيه «1» ونتبعه بنبذة من كلام النبيين صلى الله عليهم أجمعين.
الفصل الثاني «2» : من كلام آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والعترة الهاشمية وما جاء عنهم ومن أخبارهم مما يجانس هذا الباب.
الفصل الثالث: في كلام الصحابة وأخبارهم رضوان الله عليهم أجمعين «3» .
الفصل الرابع: في أخبار التابعين وسائر طبقات الصالحين وكلامهم ومواعظهم.(1/36)
الفصل الأول من كلام الرّسول صلّى الله عليه وسلّم
[1]- قال النبي «1» صلّى الله عليه وسلّم: يا أيها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إنّ المؤمن «2» بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار الجنة أو النار.
[2]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا يكمل عبد الإيمان حتى يكون فيه خمس خصال: التوكّل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضى بقضاء الله، والصبر على بلاء الله، إنه من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان.
__________
[1] البيان والتبيين 1: 302، والكامل 1: 208، وعيون الأخبار 2: 231 وأخبار الزجاجي:
73؛ والشافي على الكافي 5: 93 (رقم: 612) ؛ وغرر الخصائص: 154 وعين الأدب:
188، وبعضه في مجموعة ورام 1: 31، وأدب الدنيا والدين: 126- 127.
[2] اللآلىء المصنوعة 1: 43؛ قال الخطيب: باطل باسناد ذكره، ورجح أن يكون من صنع زيد بن رفاعة المذكور في السند، وقال السيوطي إنه قد يصح بإسناد آخر.(1/37)
[3]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وأنّى لنا برياض الجنة في الدنيا؟ قال: حلق الذّكر.
[4]- ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم «من انقطع إلى الله كفاه الله كلّ مؤونة وفي لفظ: (ورزقه من حيث لا يحتسب) ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها، ومن حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له مما رجا وأقرب مما اتقى، ومن طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده منهم ذاما، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إليهم، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرّهم، ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن أحسن سريرته أصلح الله علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه.
[5]- ومن كلام له عليه السلام: إن في القنوع لسعة وإنّ في الاقتصاد لبلغة، وإنّ في الزهد لراحة، ولكلّ عمل أجرا، وكل آت قريب.
[6]- وقال: أكثروا ذكر هادم اللذات، فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسّعه عليكم فرضيتم به وأجرتم، وإن ذكرتموه في غنى بغّضه إليكم فجدتم به
__________
[3] أمالي الشيخ الصدوق: 363 والجامع الصغير 1: 35 وربيع الأبرار: 265 ب والتمثيل والمحاضرة: 170. وقد أخرجه ابن حنبل والترمذي والبيهقي عن أنس، وهو صحيح؛ ونسب قوله «إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا» لمالك بن دينار في الايجاز والاعجاز: 34.
[4] الشهاب: 16 (اللباب: 89- 90) وانظر نهج البلاغة: 483 حيث ورد: من اصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه ... وقارن بكنز العمال 15: 797- 898.
[6] أكثروا ذكر هادم (ويروى بالذال أيضا) اللذات: ورد في سنن الترمذي (قيامة: 26، زهد:
4) والنسائي (جنائز: 3) وابن ماجه (زهد: 31) ومسند أحمد 2: 293؛ وسائر الحديث ورد في صور مختلفة؛ انظر كشف الخفا 2: 188- 189 والمقاصد الحسنة: 74 وصححه ابن حبان والحاكم وابن السكن وحسنه الترمذي وأعلّه الدارقطني بالإرسال؛ وانظر ملحق زهد ابن المبارك: 37 ومجموعة ورام 1: 268، 269 والمحاسن والأضداد: 255 والتمثيل والمحاضرة:
25.(1/38)
فأثبتم. إن المنايا قاطعات للأعمال، والليالي مدنيات للآجال، وإنّ المرء بين يومين: يوم مضى أحصي فيه عمله فختم عليه، ويوم قد بقي لعلّه لا يصل إليه، إنّ العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما أسلف وقلة غناء ما خلّف، ولعله من باطل جمعه ومن حقّ منعه.
[7]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله، ومن أحبّ أن يكون أكرم الناس فليتّق الله، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد «1» الله أوثق منه بما في يديه. ألا أنبئكم بشراركم «2» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من أكل «3» وحده، ومنع رفده، وجلد عبده، أفأنبئكم بشرّ من هذا؟ قالوا: نعم. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، أفأنبئكم بشرّ من هذا؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنبا. أفأنبئكم بشرّ من هذا؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه؛ إن «4» عيسى بن مريم قام في بني إسرائيل خطيبا، فقال: يا بني إسرائيل لا تكلّموا بالحكمة عند الجهّال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا ظالما «5» فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل: الأمور ثلاثة أمر تبيّن رشده فاتبعوه وأمر تبيّن غيّه
__________
[7] أمالي الشيخ الصدوق: 305 والبيان والتبيين 2: 35 (ببعض اختلاف في الترتيب) ؛ ومن قوله «ألا أنبئكم بشراركم» في الجامع الصغير 1: 115 والعقد 2: 418 ونثر الدر: 1: 158 ومجمع الزوائد 8: 183، وانظر اللباب: 70 وأدب الدنيا والدين، 143 وألف باء 1: 21 وقولة المسيح أفردت في نثر الدر 7: 6.(1/39)
فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردّوه إلى الله «1» .
[8] قالت عائشة رضي الله عنها: كان يمرّ بنا هلال وهلال وما توقد في منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار، فقال عروة بن الزبير: أي خالة، فبأيّ شيء كنتم تعيشون؟ قالت: بالأسودين التمر والماء.
[9] وقالت: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنّ درعه لمرهونة بثلاثين صاعا من شعير.
[10] وقالت: ما شبع آل محمد صلّى الله عليه وسلّم منذ قدموا المدينة من طعام برّ ثلاثة أيام حتى لحق بالله.
[11] وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: تفعل ذلك وقد غفر الله لك؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا.
__________
[8] للحديث صور مختلفة، انظر ارشاد الساري 9: 465 وصحيح مسلم 2: 87، ومسند أحمد 2: 405، 6: 71، 86، وحلية الأولياء 3: 256- 257 وصفة الصفوة: 1: 77.
[9] ورد الحديث عند البخاري (جهاد: 89 ومغازي: 86) والترمذي (بيوع: 7) والنسائي (بيوع: 58، 83) وابن ماجه (رهون: 1) والدارمي (بيوع: 44) ومسند أحمد 1:
236، 300، 301، 306، ومواطن أخرى فيه وصفة الصفوة 1: 77.
[10] حديث «ما شبع آل محمد» برواياته المختلفة في إرشاد الساري: 264 وصحيح مسلم 2: 87، وصفة الصفوة 1: 76، 77 وحلية الأولياء 3: 256، ومجموعة ورام 1: 48، وربيع الأبرار: 213/أ، وألف باء 1: 444.
[11] في قيام النبي حتى ترم قدماه انظر البخاري (تفسير السورة: 48) والنسائي (قيام الليل: 17) وابن ماجه (إقامه: 200) ومسند أحمد 4: 251 وصفة الصفوة 1: 76، واللمع للسراج:
100 وشرح النهج 6: 237، وسراج الملوك: 180، والمستطرف 1: 236، وعيون الأخبار 2: 298.(1/40)
[12] وقال صلّى الله عليه: ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا:
ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمدّني الله برحمة منه وفضل «1» .
[13] قال أنس: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته الجدعاء وليست بالعضباء فقال: أيها الناس كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأنّ الذين نشيّع «2» من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون نبوّئهم أجداثهم ونأكل تراثهم، كأنا مخلّدون بعدهم، قد نسينا كلّ واعظة وأمنّا كلّ جائحة «3» ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مال كسبه من غير معصية، ورحم أهل الذلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن أذلّ نفسه وحسّن خليقته، وأصلح سريرته وعزل عن الناس شرّه، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنّة ولم يتعدّها إلى البدعة.
[14] ومن كلامه صلّى الله عليه: أما رأيت المأخوذين على الغرّة والمزعجين بعد الطمأنينة الذين أقاموا على الشبهات وجنحوا إلى الشهوات حتى
__________
[12] انظر مسند أحمد 2: 344، 519، والدارمي 2: 305 وفي أوله «قاربوا وسددوا فإن أحدا منكم ... » .
[13] أخرجه ابن عساكر، انظر كنز العمال 16: 125- 126، 142- 143 عن أنس بن مالك؛ والنهج: 490 (رقم 122، 123) والشهاب: 19- 20 (اللباب: 106) ، واللآلىء المصنوعة 2: 358، ومحاضرات الراغب 4: 486، وعين الأدب: 188، والبصائر 2:
507- 508 وأدب الدنيا والدين: 129.
[14] لم أجد منه إلا قوله «وقد جف القلم» في قرائن أخرى، منها حديث ابن عباس في مسند أحمد 1: 293، 303، 307 وفي البخاري (قدر: 2) ، والترمذي (ايمان: 18) ... الخ؛ وانظر كشف الخفا 1: 366، 398، وكنز العمال 16: 136.(1/41)
أتتهم رسل ربّهم فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، قدموا على ما عملوا، وندموا على ما خلّفوا، ولن يغني الندم، وقد جفّ القلم، فرحم الله امرءا قدّم خيرا وأنفق قصدا، وقال صدقا، وملك دواعي شهوته ولم تملكه، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه.
[15] وقال صلّى الله عليه وسلّم: إياكم وفضول المطعم فإنها تصم القلب بالقسوة وتبطىء بالجوارح عن الطاعة وتصمّ الهمم عن سماع الموعظة، وإياكم وفضول النظر فإنه يبذر الهوى ويولّد الغفلة «1» ، وإياكم واستشعار الطمع فإنه يشرب القلوب شدّة الحرص ويختم على القلوب بطابع حبّ الدنيا، وهو مفتاح كلّ سيئة وسبب إحباط كلّ حسنة.
[6] ومن كلام له صلّى الله عليه وسلّم: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن يموت عبد حتى يستكمل رزقه، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوا شيئا من فضل الله بمعصيته، فإنه لن ينال ما عند الله إلا بطاعته، ألا وإنّ لكل امرئ رزقا هو يأتيه لا محالة، فمن رضي به بورك له فيه فوسعه، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه فلم يسعه، وإنّ الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله.
[17] لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث معاذا إلى اليمن، ركب معاذ
__________
[16] ورد بعضه في بهجة المجالس 1: 138، 2: 301، والشهاب: 33- 34 (اللباب: 203) وانظر الكافي 5: 80 وكشف الخفا 2: 268، وقارن بالمستدرك 4: 325، وشرح النهج 3:
158، والعقد 3: 205، ومجموعة ورام 1: 163، وأدب الدنيا والدين: 314، ونثر الدر 1: 201، وللحديث صور مختلفة في كنز العمال 4: 22- 24.
[17] اللآلىء المصنوعة 2: 376، 377 (ببعض اختلاف) .(1/42)
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي إلى جانبه فقال: يا معاذ إني أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وترك الخيانة، ورحمة اليتيم، وحفظ الجار، وكظم الغيظ، وخفض الجناح، وبذل السلام «1» ، ولين الكلام، ولزوم الايمان، والتفقه في القرآن، وحبّ الآخرة، والجزع من الحساب، وقصر الأمل وحسن العمل. وأنهاك أن تشتم مسلما، أو تكذّب صادقا، أو تصدّق كاذبا، أو تعصي إماما عادلا. يا معاذ: اذكر الله عند كلّ حجر وشجر وأحدث مع كلّ ذنب توبة، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية (وزيد فيه:
وعد المريض، وأسرع في حوائج الأرامل والضعفاء، وجالس الفقراء والمساكين، وأنصف الناس من نفسك، وقل الحقّ ولا تأخذك في الله لومة لائم) .
[18] ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم: المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السيئات «2» ، والذي نفس محمد بيده لا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه.
__________
[18] هذه عدة أحاديث جمعت معا، فقوله «المؤمن من أمنه الناس» في ابن ماجه (فتن: 2) والترمذي (ايمان: 12) ، والنسائي (ايمان: 8) وانظر كشف الخفا 2: 390، والجامع الصغير 2: 184، وقوله «المسلم من سلم.... هجر ما حرّم الله» في البخاري (ايمان 4، 5 ورقاق:
26) ومسلم (إيمان: 64، 65) ، والترمذي (قيامة: 52؛ إيمان: 12) ، والدارمي 2:
300، ومسند أحمد 2: 160، 163؛ 3: 154؛ 4: 114، 6: 21، 22 (وصفحات أخرى كثيرة) وانظر كشف الخفا 2: 274، والمقاصد الحسنة: 386؛ وقوله «والذي نفس محمد ... » في البخاري (أدب: 29) ، ومسلم (إيمان: 73) ، والترمذي (قيامة: 60) ومسند أحمد 1: 387، 2: 288 ... وانظر بهجة المجالس 2: 319، واللباب: 31، 33 وأمثال الماوردي: 95 ب.(1/43)
[19] وقال صلّى الله عليه وسلّم: فضل صلاة الليل على النهار كفضل صدقة السرّ على العلانية.
[20] وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما من والي عشرة إلا يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، أطلقه عدله أو أوثقه جوره.
[21] وقال صلّى الله عليه واله: أربع من أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا من البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه في نفسه وماله خونا.
[22] وقال صلّى الله عليه وسلّم: افعلوا الخير دهركم وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمّن روعاتكم.
[23] ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم:
(1) ملاك الدين الورع.
(2) التحدّث بالنعم شكر.
(3) خشية الله رأس كلّ حكمة.
__________
[19] الجامع الصغير 2: 76، وخرجه الطبراني في المعجم الكبير وأبو نعيم في الحلية، وحسّنه.
[20] الجامع الصغير 2: 149 (ما من أمير عشرة ... ) وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه، وهو في مسند أحمد 2: 413 واللآلىء المصنوعة 1: 479، والمصباح المضيء 1: 301 والشفا:
55 ومجمع الزوائد 5: 204، 205.
[21] ورد ببعض اختلاف في الجامع الصغير 1: 37 وهو حديث حسن عن ابن عباس أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في الشعب.
[22] انظر الشهاب: 22.
[23] هذه مجموعة من الأحاديث وردت في الشهاب: 4- 6، 11- 12، 14، 24 وإليك تخريج بعضها على وجه التفصيل- بحسب أرقامها:(1/44)
(4) القناعة مال لا ينفد.
(5) الحياء خير كله.
(6) السعيد من وعظ بغيره.
(7) طلب الحلال جهاد.
(8) مداراة النّاس صدقة.
(9) كثرة الضحك تميت القلب.
(10) المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم.
(11) المؤمنون هينون لينون.
(12) تحفة المؤمن الموت.
(13) اليقين الايمان كله.
(14) فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
__________
. (4) في بهجة المجالس 2: 301، ونهج البلاغة: 559.
(6) في صحيح مسلم (قدر: 3) ، وابن ماجه (مقدمة: 7) ، واتقان الغزّي: 101 وكشف الخفا 1: 548 وورد في مختار الحكم: 198 لأرسطاطاليس، وانظر البصائر 7: 71 (حاشية رقم: 8) وأدب الدنيا والدين: 342.
(7) في الجامع الصغير 2: 54 أخرجه القضاعي وأبو نعيم، وهو ضعيف.
(8) في الجامع الصغير 2: 155، وهو صحيح، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في الشعب وابن حبان في الصحيح.
(9) في كشف الخفا 2: 139 رواه القضاعي عن أبي هريرة مرفوعا ورواه ابن ماجه بلفظ: لا تكثر الضحك ... وقارن بنثر الدر 1: 248.
(10) قد مرّ تخريجه رقم: 18.
(11) في كشف الخفا 2: 384 والجامع الصغير 2: 185 أخرجه البيهقي عن ابن عمر وهو حديث ضعيف وورد منسوبا لمكحول في محاضرات الراغب 1: 274.
(12) في كشف الخفا 1: 352 والجامع الصغير 1: 129، والمستدرك 4: 319؛ وهو حسن.
(14) في كشف الخفا 2: 112، والجامع الصغير 2: 76، وهو ضعيف.(1/45)
(15) الويل كلّ الويل لمن ترك عياله بخير وقدم على الله بشرّ.
(16) ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
(17) ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضى.
(18) من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لهى عن الشهوات، ومن ترقّب الموت لهى عن اللذات «1» ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. ومن فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه.
(19) ازهد فيما في أيدي الناس يحبّك الناس.
(20) اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك
__________
. (15) في كشف الخفا 2: 464 رواه الديلمي عن ابن عمر.
(16) في الجامع الصغير 1: 138 وكشف الخفا 1: 386.
(17) هو جزء من الحديث السابق عند الطبراني في الأوسط، وانظر كنز العمال 16: 45، وأدب الدنيا والدين: 141 وكتاب الآداب: 41 ومحاضرات الراغب 1: 263، والمنهج المسلوك:
9/أوبرد الأكباد: 113.
(18) في كشف الخفا 2: 305 والمقاصد الحسنة: 402 وسنده ضعيف.
(19) في الجامع الصغير 1: 39 وكشف الخفا 1: 127، والمقاصد الحسنة: 52 وأخرجه ابن ماجه في الزهد والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية وغيرهم؛ وهو في أدب الدنيا والدين:
314 والخصال: 61، وأمالي الطوسي 1: 139.
(20) في كشف الخفا 1: 166 والجامع الصغير 1: 48، والمستدرك 4: 306، وبهجة المجالس 2: 319، والعقد 3: 183، وأدب الدنيا والدين: 334، وقوانين الوزارة: 181، والخصال 1: 239، ومحاضرات الراغب 4: 407، والبصائر 2: 71 ومجموعة ورام 1:
279.(1/46)
قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.
(21) عش ما شئت فانك ميت، وأحبب من شئت فانك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به.
(22) ما نزعت الرحمة إلا من شقي.
(23) ما امتلأت دار النعيم حبرة إلا امتلأت عبرة.
(24) ما استرعى الله عبدا رعية فلم يحطها بنصحه إلّا حرّم الله عليه الجنة.
(25) لا تسبّوا الأموات فانهم قد أفضوا إلى ما قدّموا.
(26) إياك وما يعتذر منه.
(27) إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل فما جلاؤها؟
قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن.
(28) كفى بالموت واعظا وبالعبادة شغلا.
__________
. (21) في بهجة المجالس 2: 322 والخصال 1: 7.
(22) في كشف الخفا 2: 254 رواه الحاكم والقضاعي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(23) في كشف الخفا 2: 254.
(25) في كشف الخفا 2: 474 والجامع الصغير 2: 200، وهو في صحيح البخاري (جنائز:
97، ورقاق: 42 وفضائل الصحابة: 5) ، ومسلم (فضائل الصحابة: 221، 222) ، والترمذي (بر: 51، ومناقب: 58) ، والنسائي (جنائز: 52) ومسند أحمد 1: 300، 3: 11، وبلوغ المرام: 305.
(26) في كشف الخفا 1: 325، والتمثيل والمحاضرة: 28.
(27) في كنز العمال 1: 545 عن الحلية والبيهقي والخرائطي، وهو في شرح النهج 10: 23، وبهجة المجالس 1: 116، وربيع الأبرار: 161 ب، وأمثال الماوردي: 55/أ.
(28) في كشف الخفا 2: 146 عن عمار يرفعه ونصه: كفى بالموت واعظا وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلا؛ وانظر زهد ابن المبارك، الملحق: 37.(1/47)
(29) ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.
(30) لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا.
[24] وقال صلّى الله عليه وسلّم: أكثر «1» ذكر الموت يسلك عن الدنيا، وعليك بالشكر فإن الشكر يزيد في النعمة، وأكثر من الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك.
[25] إياك والبغي، فإنه من بغي عليه لينصرنه الله، قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
. (يونس: 23) [26] وقال عليه السلام «2» : إياك والمكر فإن الله قد قضى أن لا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
[27] وقال صلّى الله عليه: الأئمة من قريش. إذا حكموا عدلوا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا استرحموا رحموا، فمن لم يفعل ذلك منهم عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل منه صرف ولا عدل.
[28] وقال صلّى الله عليه: من نقله الله من ذلّ المعاصي إلى عزّ التقوى أغناه بلا مال، وأعزّه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس، من خاف الله
__________
. (30) في كشف الخفا 2: 202، متفق عليه عن أنس مرفوعا، وانظر الجامع الصغير 2: 130 (وللحديث روايات مختلفة) .
[24- 26] هذه الأحاديث وردت مجتمعة في البيان والتبيين 2: 22، وانظر الشهاب: 41.
[27] الأئمة من قريش: أخرجه أحمد والنسائي، وفيه الزيادة (انظر كشف الخفا: 318- 319) .
[28] قارن بقول منسوب لعلي في مجموعة ورام 1: 51، ثم أورده منسوبا لجعفر الصادق 2: 89 وهو لجعفر في بهجة المجالس 1: 201، 394، وللباقر في الفصول المهمة: 216 (نقلا عن حلية الأولياء) ولداود الطائي في ربيع الأبرار 1: 826.(1/48)
أخاف الله منه كلّ شيء، ومن رضي باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل، ومن زهد في الدنيا ثبّت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار القرار.
[29]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ومخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب.
[30]- وقال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببعض جسدي «1» وقال: اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
[31]- ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رجل يعوده، وهو في الموت، فقال كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلّا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف.
[32]- وقال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة، وقد سألت عن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
(المؤمنون: 11) هو الذي يزني ويسرق ويشرب
__________
[29] الحديث في ابن ماجه (أدب: 57) ، والترغيب والترهيب: 151 وقال: رواه الأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم.
[30] ورد في البخاري (رقاق: 3) ، والترمذي (زهد: 25) ، وابن ماجه (زهد: 3) ، ومسند أحمد 2: 24، 41، 232، وفيه زيادة «واعدد نفسك في الموتى» وانظر بلوغ المرام:
300- 301، وبهجة المجالس 2: 278، وسراج الملوك: 13، والعزلة: 44، ومحاضرات الأبرار 2: 276.
[31] بهجة المجالس 1: 378، ومجموعة ورام 1: 4، وربيع الأبرار: 343 ب وقارن بكنز العمال 3: 14 حيث ورد: ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب مؤمن إلا أعطاه الله عز وجل الرجاء وآمنه الخوف؛ وهو مرسل عن سعيد بن المسيب.
[32] الحديث في مسند أحمد 6: 159.
4 1 التذكرة(1/49)
الخمر وهو في ذلك يخاف الله؟ يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلّي ويصوم ويتصدق وهو في ذلك يخاف الله.
[33]- وقال صلى الله عليه وعلى آله: شرّ الناس رجل فاجر، يقرأ كتاب الله لا يرعوي عن شيء منه.
[34]- ومن كلام بعض العارفين «1» : العالم الفاجر فتنة لكلّ مفتون.
[35]- ومن كلامه صلى الله عليه وعلى آله: الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهة، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه أوشك أن يواقع ما استبان، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه.
[36]- ومن كلامه عليه السلام: إنّ أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظّ من صلاة، أحسن من عبادة ربه وأطاعه في السرّ، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، عجّلت منيته وقلّ تراثه وقلّت بواكيه.
[37]- قال عمر رحمه الله: ما اجتمع عند النبي صلّى الله عليه وسلّم أدمان إلا أكل أحدهما وتصدّق بالآخر.
__________
[35] الحديث في البخاري (إيمان: 39 وبيوع: 2) ، ومسلم (مساقاة: 107، 108) ، وأبي داود (بيوع: 3) ، والترمذي (بيوع: 1) ، والنسائي (بيوع: 2) ، وابن ماجه (فتن:
14) ، ومسند أحمد 4: 267، 269- 271، 275 وفيه روايات مختلفة، انظر كشف الخفا 1: 438 والجامع الصغير 1: 153، وبلوغ المرام: 300، ومجموعة ورام 1: 6، وأدب الدنيا والدين: 213، وأمثال الماوردي: 68 ب.
[36] الحديث في الترمذي (زهد: 35) ، وابن ماجه (زهد: 4) ، ومسند أحمد 5: 252، 255، والجامع الصغير 1: 88، وانظر مجموعة ورام 1: 182.
[37] مجموعة ورام 1: 48، وربيع الأبرار: 213/أ.(1/50)
[38]- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إياكم وخشوع النّفاق، قالت عائشة:
وما خشوع النفاق؟ قال: يخشع البدن ولا يخشع القلب.
[39]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ فقال: خطباء أمتك الذين يقولون الشيء ولا يعملون به.
[40]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان.
[41]- وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تزال يد الله عليها رفرف بالرحمة والرزق والنصر، ما لم يرفق خيارهم بشرارهم، وما لم يعظّم أمراؤهم فجّارهم، وما لم يمل قرّاؤهم إلى أمرائهم، فإذا فعلوا ذلك فلينتظروا من الله النكال، يضربهم الله بالفقر والحاجة والذلّ.
[42]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله يغضب إذا مدح الفاسق.
[43]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا مدح الفاسق اهتزّ لذلك العرش وغضب له الربّ تعالى.
[44]- ومما يروى عنه صلّى الله عليه وسلّم: من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه بثلاث:
همّ لا يفارق قلبه أبدا، وفقر لا يستغني معه أبدا، وحرص لا يشبع أبدا.
__________
[38] في زهد ابن المبارك: 47، عن أبي الدرداء أو أبي هريرة: تعوذوا بالله من خشوع النفاق ...
أن يرى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع؛ وانظر صفة الصفوة 1: 261، حيث نسب لأبي الدرداء.
[39] ورد هذا الحديث في مسند أحمد 3: 120، 231، 239، وزهد ابن حنبل: 45.
[40] كشف الخفا 1: 70 (أخوف) ، والجامع الصغير 1: 14، والبيان والتعريف 1: 41.
[43] انظر الجامع الصغير 1: 35، وقد أورده ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة والبيهقي وأبو يعلى في مسنده، وهو حديث ضعيف. وانظر أيضا نثر الدر 1: 253، وكنز العمال 1: 318، وربيع الأبرار: 355 ب.(1/51)
[45]- ومن مواعظه عليه السلام: أيّها الناس إنّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، ألا وإنّ الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، وإنها لسريعة الذهاب وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرّضين، ولعقوبته مستحقّين.
[46]- وقال صلّى الله عليه وسلّم لرجل يوصيه: أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر، وأقلل من الذنوب يسهل عليك الموت، وقدّم مالك أمامك يسرّك اللحاق به، واقنع بما أوتيته يخفّ عليك الحساب، ولا تتشاغل عمّا فرض الله عليك بما ضمن لك، إنه ليس بفائتك ما قسم لك ولست بلاحق ما زوي عنك، فلا تك جاهدا فيما يصبح نافدا، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه.
[47]- وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت نائمة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة النصف من شعبان ثم انتبهت فإذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليس عندي، فأدركني ما يدرك النساء من الغيره فلففت مرطي، أما والله ما كان خزّا ولا قزا ولا قطنا ولا كتانا، قيل: فما كان يا أم المؤمنين «1» ؟ قالت: كان سداوته من
__________
[45] قارن ببهجة المجالس 2: 292، حيث ورد بعضه منسوبا لسفيان الثوري.
[46] محاضرات الأبرار 2: 273.
[47] العلل المتناهية 2: 66- 69، وذكر عدة صور له وقال في جميعها: إنه حديث لا يصحّ.(1/52)
شعر، ولحمته من أوبار الإبل، قالت: فحبوت إليه أطلبه، فألفيته كالثوب الساقط على وجهه من الأرض وهو يقول: سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي، وهذه يدي وما جنيت بها على نفسي، أنت عظيم ترجى لكل عظيم، فاغفر الذنب العظيم، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، إنك لفي شأن وإني لفي شأن، فرفع رأسه ثم عاد ساجدا فقال: أعوذ بوجهك الذي أضاءت له السموات السبع والأرضون السبع من فجأة نقمتك، وتحويل عافيتك، ومن شرّ كتاب قد سبق، وأعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فلما انصرف من صلاته تقدمت أمامه حتى دخلت البيت ولي نفس عال، فقال: مالك يا عائشة؟ فأخبرته الخبر، فقال: ويح هاتين الركبتين ماذا لقيتا هذه الليلة ومسح عليهما، ثم قال: أتدرين أيّ ليلة هذه يا عائشة؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: هذه ليلة النصف من شعبان فيها تراقب الآجال وتثبت الأعمال.
[48]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: كلمة من الخير يسمعها المؤمن ويعمل بها ويعلّمها خير من عبادة سنة.
[49]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: استأنسوا بالوحدة عن جلساء السّوء.
[50]- وقال: لا تدعوا حظكم من العزلة فإن العزلة عبادة.
[51]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أسرّ امرؤ سريرة إلّا ألبسه الله رداءها، إن خيرا
__________
[48] قارن بما في كشف الخفا 2: 168.
[49] العقد 3: 213.
[50] العقد 3: 213، وأورد الخطابي (العزلة: 12) ، خذوا بحظكم من العزلة منسوبا لعمر بن الخطاب ونسب له في المستطرف 1: 86، وورد في طبقات ابن سعد 4: 161، منسوبا لابن عمر وكذلك في ربيع الأبرار 1: 766.
[51] العقد 3: 215.(1/53)
فخيرا وإن شرّا فشرّا.
[52]- وعنه صلّى الله عليه وسلّم: إن المؤمن ليذنب الذنب فيدخله الجنّة، قالوا يا رسول الله «1» : كيف يدخله الجنة؟ قال: يكون نصب عينيه تائبا عنه مستغفرا حتى يدخل الجنة.
[53]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: أعجب الناس إليّ منزلة رجل يؤمن بالله ورسوله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعمر ماله، ويحفظ دينه، ويعتزل الناس.
[54]- روى زيد بن أرقم عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، ثم قال: إخلاصها أن تخرجه مما حرّم الله.
[55]- وروى أنس عنه صلّى الله عليه وسلّم: سبعة تجري للعبد بعد موته، من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو بنى مسجدا أو أورث مصحفا أو ترك ولدا صالحا أو ترك صدقة تجري له بعد موته.
[56]- وعنه قال قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا بني لا تغفل عن قراءة القرآن إذا أمسيت، فإنّ القرآن يحيي القلب الميت وينهى عن الفحشاء والمنكر.
[57]- وقال «2» صلى الله عليه: إنه ما سكن حبّ الدنيا قلب عبد إلا
__________
[52] قارن بما في زهد ابن المبارك: 53 (رقم: 164) والحديث في ربيع الأبرار 1: 727، ومحاضرات الراغب 2: 408.
[54] كشف الخفا 2: 354، والزيادة فيه: «أن تحجزه عن محارم الله» ؛ والجامع الصغير 2:
177.
[55] الجامع الصغير 2: 31 «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره ... » وربيع الأبرار 1: 234.
[57] محاضرات الأبرار 2: 273.(1/54)
التاط منها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا يدرك منتهاه. إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه. ألا وإنّ السعيد السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها، وقدّم لما يقدم عليه مما هو الآن في يديه أن يخلّفه لمن يسعد بانفاقه وقد شقي بجمعه واحتكاره.
[58]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: من لم يتعزّ بعزاء «1» الله عز وجل تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير أن لله عز وجل عنده نعمة إلا في مطعم أو مشرب قلّ علمه وكثر جهله، ومن نظر إلى ما في أيدي الناس طال حزنه ولم يشف غيظه.
[59]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله عز وجل يبغض البخيل في حياته والسخيّ عند «2» موته.
[60]- وقال صلّى الله عليه: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
[61]- وقال صلّى الله عليه وسلّم لعلي كرّم الله وجهه: يا عليّ إنّ من اليقين ألا ترضي بسخط الله أحدا، ولا تحمد أحدا على ما آتاك الله، ولا تذمّ أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يجرّه حرص حريص ولا تصرفه كراهة كاره، يا
__________
[58] أخرجه العسكري عن أنس، وجزؤه الأخير «من نظر إلى ... غيظه» في كشف الخفا 2: 372، والمقاصد الحسنة: 430، وهو ضعيف؛ ونسب الحديث في الخصال 1: 64 لعلي بن الحسين.
[59] الجامع الصغير 1: 75، وكنز العمال 3: 447.
[60] الشهاب: 13 (واللباب: 76) ، والجامع الصغير 2: 170، وقد أخرجه الترمذي (قيامة:
18) والحاكم في المستدرك؛ ونسبه ابن عبد البر في بهجة المجالس 1: 278 لأبي الدرداء؛ وانظر مجموعة ورام 1: 279.(1/55)
علي: لا فقر أشدّ من الجهل، ولا وحشة أشدّ من العجب.
[62]- قال الحسن بن علي سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الحق «1» طمأنينة والكذب ريبة، ولن تجد فقد شيء تركته لله تعالى.
[63]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي.
[64]- قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: جاءت المؤلّفة قلوبهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي وذووهما، فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء لأرواح جبابهم- يعنون أبا ذرّ وسليمان وفقراء المسلمين، وكان عليهم الجباب الصوف لم يكن لهم غيرها- جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
حتى بلغ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
(الكهف: 27- 29) يتهددهم بالنار، فقام نبيّ «2» الله صلّى الله عليه وسلّم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد
__________
[62] الحديث في البخاري (بيوع: 3) ، والترمذي (قيامة: 60) ، ومسند أحمد 3: 153، والمقاصد الحسنة: 214، (وقد أخرجه أيضا أبو يعلى والطيالسي والدارمي والنسائي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد) ، والجامع الصغير 2: 15، وكشف الخفا 1: 489، واللباب:
112، وانظر مجموعة ورام 1: 52، ونثر الدر 1: 161، وربيع الأبرار: 227 ب، والتمثيل والمحاضرة: 28، وأدب الدنيا والدين: 315.
[63] الجامع الصغير 2: 162، أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس، وهو ضعيف؛ ومجموعة ورام 1: 18، 1: 112 (وفي الثانية نسبه لابن عباس) وفي الحلية 2: 229 لبكر المزني: من يأت الخطيئة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي؛ وورد بصورة أطول في البصائر 2: 24 (لبعض الصالحين) .
[64] انظر حلية الأولياء 1: 344، 345.(1/56)
يذكرون الله تعالى فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات.
[65]- قال ابن عباس «1» لهند بن أبي هالة وكان ربيبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
صف لنا رسول الله فلعلك أن تكون أثبتنا معرفة به، قال: كان بأبي وأمي طويل الصمت، دائم الفكرة، متواتر «2» الأحزان، إذا تكلم تكلّم بجوامع الكلم، [لا فضول] ولا تقصير، إذا حدّث أعاد وإذا خولف أعرض وأشاح، يتروّح إلى حديث أصحابه، يعظّم النعمة وإن دقّت، ولا يذمّ ذواقا، [ولا يمدحه] ويبسم «3» عن مثل حبّ الغمام.
[66]- قال عيسى بن مريم «4» صلى الله عليه: إن أولياء الله لا «5» خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميت قلوبهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم.
[67]- ورأوه صلّى الله عليه يخرج من بيت مومسة فقالوا: يا مسيح الله
__________
[65] طبقات ابن سعد 1: 422- 423، والموفقيات: 354- 358، والمعرفة والتاريخ 3:
284- 285، والفائق 1: 642- 643، وشمائل الرسول: 50- 51 (مع اختلافات) ونثر الدر 1: 416، وكنز العمال 7: 164، وانظر عيون أخبار الرضا 1: 317، وبعضه في مكارم الأخلاق: 5، 10، والبصائر 3: 608.
[66] نثر الدر 7: 7، والبيان والتبيين 3: 140، وعيون الأخبار 2: 351، 370، وزهد ابن حنبل: 60، ونسب في نهج البلاغة: 552 لعلي.
[67] نثر الدر 7: 3، والبيان والتبيين 3: 140، وعيون الأخبار 2: 370، وأدب الدنيا والدين:
128.(1/57)
ما تصنع عند هذه؟ فقال: إنما يأتي الطبيب المرضى.
[68]- وكان عليه السلام يقول: يا معاشر العلماء مثلكم مثل الدّفلى يعجب ورده «1» من نظر إليه، ويقتل طعمه من أكله «2» ، كلامكم دواء يبرىء «3» الداء، وأعمالكم داء لا يقبل الدواء، الحكم تخرج من أفواهكم وليس بينها وبين آذانكم إلا أربع أصابع ثم لا تعيها قلوبكم، معاشر العلماء: إن الله إنما بسط لكم الدنيا لتعملوا، ولم يبسطها لكم لتطغوا، معشر «4» العلماء كيف يكون من أهل العلم «5» من يطلب الكلام ليخبر به ولا يطلبه ليعمل به، العلم فوق رؤوسكم والعمل تحت أقدامكم، فلا أحرار كرام ولا عبيد أتقياء.
[69]- وقال عليه السلام: حبّ الدنيا راس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح «6» الله ما داؤه؟ قال: لا يؤدّى حقّه، قيل: فإن أدّي حقه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قيل: فإن سلم؟ قال: يشغل استصلاحه عن ذكر الله.
__________
[68] في البيان والتبيين 3: 140 جانب من هذا النص ولكن الاختلاف واضح، وقارن بنثر الدر 7:
7، والتمثيل والمحاضرة: 272.
[69] قارن بما في البيان والتبيين 3: 191، ونثر الدر 7: 3، ومحاضرات الراغب 1: 512، وبهجة المجالس 1: 196، وعيون الأخبار 1: 246، 2: 331، وأدب الدنيا والدين: 119، والحكمة الخالدة: 180، والأسد والغواص: 47، وربيع الأبرار: 353/أ، وشرح النهج 6:
233.(1/58)
[70]- ومن كلامه الشريف المحيي «1» : الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، متى بعد أحدكم عن أحدهما قرب من الآخر، ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر.
[71]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: تقرّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي والتمسوا رضوانه بالتباعد منهم، قالوا: فمن نجالس؟ قال: من تذكركم بالله تعالى رؤيته، ويزيد في فهمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله.
[72]- قال داود لابنه سليمان عليهما السلام: يا بنيّ إنما يستدلّ على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: بحسن توكّله على الله فيما يأتيه، وبحسن رضاه فيما آتاه، وبحسن صبره فيما فاته.
[73]- قيل: لما ابتلى الله عز وجل أيوب عليه السلام بذهاب المال والولد والأهل، فلم يبق له شيء أحسن من الذكر والحمد لله رب العالمين، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إليّ؛ قد أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلّا قد دخله ذلك، فأخذت كله وفرّغت قلبي فليس يحول بيني وبينك شيء، فمن ذا تعطيه المال والولد فلا يشغله حبّ المال والولد عن ذكرك، لو يعلم إبليس بالذي صنعت إليّ حسدني، قال: فلقي إبليس من هذا شيئا منكرا.
__________
[70] قارن بما في أمالي المرتضى 1: 153 (ونسب لعلي) وبهجة المجالس 2: 278، وربيع الأبرار 1: 45 (لعلي) ، والبصائر 7: 117، وغرر الخصائص: 107.
[71] كله في زهد ابن حنبل: 54 (باختلاف يسير) وبعضه في البيان والتبيين 3: 175 وانظر نثر الدر 7: 9 (رقم: 53) وربيع الأبرار 1: 483 ونهاية الأرب 5: 245، ومحاضرات الراغب 1:
531، ولباب الآداب: 6.(1/59)
[74]- ومما روي عن السيد المسيح عليه السلام قوله: البرّ ثلاثة:
المنطق والنظر والصمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها.
[75]- وقيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟
فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
[76]- مرّ المسيح عليه السلام بقوم يبكون على ذنوبهم فقال: اتركوها تغفر لكم.
[77]- روي أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال: ربّ ما أحكم الحكم، وما أغنى الغنى، وما أفضل الشكر؟ فقال جلّ ثناؤه:
أحكم الحكم أن تحكم على الناس بما تحكم به على نفسك، وأغنى الغنى أن يرضى العبد بما قسم له، وأفضل الشكر ذكر الله تعالى.
[78]- وكان السيد المسيح «1» يقول: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله رجس، انظروا إلى طير
__________
[74] نثر الدر 7: 3، ومعظمه في عيون الأخبار 2: 178، وبهجة المجالس 1: 78، ولباب الآداب: 272، وربيع الأبرار 1: 828 وروايته «الزهد ثلاث ... » ، وقارن بمجموعة ورام 1: 250، وتسهيل النظر: 63، وأمثال الماوردي: 91/أ (ونسب للحسن) ، والحكمة الخالدة: 195، وأدب الدنيا والدين: 106، والخصال 1: 98 (لعلي) .
[75] نثر الدر 7: 3، والتمثيل والمحاضرة: 14، وربيع الأبرار: 210 ب والحكمة الخالدة: 163، ومحاضرات الراغب 1: 632.
[76] نثر الدر 7: 8، والبيان والتبيين 3: 167، والحكمة الخالدة: 153، والعقد 3: 181، ولباب الآداب: 8، ومجموعة ورام 2: 114.
[77] نثر الدر 7: 9 (رقم: 51) .
[78] قارن بما في عيون الأخبار 2: 270 (نقلا عن الانجيل) ، وشرح النهج 3: 158، وربيع الأبرار: 409 ب، والمستطرف 1: 68.(1/60)
السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن زعمتم أنكم أكبر بطونا من الطير، فهذه الوحوش من البقر والحمير تغدو وتروح وليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
[79]- في الخبر أن لقمان نودي: إني أجعلك خليفة في الأرض، فقال: إن اختارني ربي فسمعا وطاعة، وإن خيّرني اخترت العافية، فأولاه الله الحكمة وصرفت الخلافة إلى داود عليه السلام، فكان إذا رآه داود يقول:
وقيت الفتنة يا لقمان.
[80]- وقال ابن عباس: خيّر سليمان بن داود بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه.
__________
[79] عرائس المجالس: 349، ومختار الحكم: 262، ومحاضرات الراغب 1: 174.
[80] نثر الدر 1: 175، والحكمة الخالدة: 132، والشريشي 5: 130، 131، والنهج المسلوك:
5/أ.(1/61)
الفصل الثاني «1» كلام القرابة رضي الله عنهم وآدابهم وآثارهم ومواعظهم
[81]- قد اختلفت الرواة فيما جاء من «2» مثل هذه الآداب والمواعظ اختلافا شديدا، ونسبوا الكلمة منها إلى جماعة من القرابة والصحابة، وكثيرا ما نسبوا فقرا يتداولها الناس تارة إلى رسول الله وتارة إلى أهله وأصحابه رضوان الله عليهم، حتى أن الرضي أبا الحسن الموسوي رحمه الله كان مع شدة توقيه ومعرفته بكلام أبيه، في نهج البلاغة وهو الذي حققه من كلام علي عليه السلام واختاره «3» ، كثيرا ما تحقق أصحاب الحديث أنه كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك غيره فعل، نسب شطرا من كلامه إلى أولاده رضي الله عنهم، ولعلّ أحدهم كان يذكر الكلمة رواية أو تمثلا عن آبائه فيغفل الراوي الاسناد، وقد يقع التوارد في الكلمة كما يتفق الإيطاء في الشعر.
وروي أن عليا عليه السلام سئل عن سبب اختلاف الناس في الحديث فقال «5» : الناس أربعة: رجل منافق كذب على رسول الله متعمدا، فلو علم أنه منافق ما صدّق ولا أخذ عنه، ورجل سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قولا أو رآه يفعل فعلا ثم غاب ونسخ ذلك من قوله وفعله، فلو علم أنه نسخ ما حدّث ولا عمل به، ولو علم الناس أنه نسخ ما قبلوا منه ولا أخذوا عنه، ورجل(1/63)
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول قولا فوهم فيه، فلو علم أنه وهم ما حدّث ولا عمل به، ورجل لم يكذب ولم يهم وشهد ولم يغب، وإنما دلّ بهذا على نفسه.
وكلهم ينزعون إلى غاية ويستقون من قليب واحد ولأيّهم كان الكلام فبنور النبوة أشرق ضياؤه ومن شجرتها المباركة اقتبست ناره. فإن حقق قارىء هذا الكتاب نقلا يخالف في بعض الكلمات، فالعهدة فيه على الرواة، وأنا لم آل في بذل الاجتهاد مع شدة تناقض أرباب الاسناد، وليس ذلك بقادح فيه، إذ المقصود المذاكرة بمعانيه، لا نسبته إلى قائليه.
[82]- قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه علمه ولم يضرّه أمله، ومن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أمله «1» ، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحقّ ضرّه الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال، ألا وإنكم قد أمرتم بالظّعن ودللتم على الزاد، وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.
__________
[82] نهج البلاغة: 71، وعيون الأخبار 2: 235، والعقد 4: 65، ومروج الذهب: 3:
178- 179، والحكمة الخالدة: 144، ونثر الدر 1: 323- 324، والفصول المهمة:
114- 115، وغرر الخصائص: 154، وكنز العمال 16: 202، وقوله: «لم أر كالجنة ...
هاربها» أورده في بهجة المجالس 2: 320، ونسبه للرسول؛ وقوله: «وان أخوف ما أخاف عليكم» في الخصال 1: 51، 52 مرفوعا وموقوفا، وأمالي الطوسي 1: 117، وأدب الدنيا والدين: 34 ومحاضرات الراغب 2: 457 والمصباح المضيء 1: 362، والبصائر 3/2: 653 ولقاح الخواطر: 12/أ.(1/64)
[83]- وخطب عليه السلام فقال: اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، واحذروا «1» الموت الذي إن أقمتم أخذكم، وإن هربتم أدرككم.
[84]- ومرّ في منصرفه من صفين بمقابر فقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبع وإنا بكم عما قليل لاحقون «2» اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم، الحمد لله الذي منها خلقنا، وعليها ممشانا، وفيها معاشنا، طوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب وقنع بالكفاف.
[85]- وقال لابنه الحسن: يا بنيّ لا تخلّفنّ وراءك شيئا من الدنيا، فإنك تخلّفه لأحد رجلين: إما رجل عمل فيه بطاعة الله عز وجل فسعد بما شقيت به، وإما رجل عمل بمعصية الله فكنت عونا له على ذلك، وليس أحد هذين بحقيق أن تؤثره على نفسك.
[86]- ومن كلامه عليه السلام: من العبادة الصمت وانتظار الفرج.
__________
[83] نهج البلاغة: 505.
[84] نهج البلاغة: 492 (وفيه اختلافات عما هنا) ، وزهر الآداب: 42، ونثر الدر 1: 278، والبيان والتبيين 3: 148، والعقد 3: 236- 237، والمستطرف 2: 316 ومحاضرات الراغب 4: 484، والشريشي 2: 9.
[85] نهج البلاغة: 549، ولباب الآداب: 123، وقد وردت هذه الوصية منسوبة إلى زيمون الشاعر في فقر الحكماء: 270، ونسبت للحسن بن علي في محاضرات الراغب 1: 523، 571.
[86] نثر الدر 1: 279 (أفضل العبادة ... ) وكذلك في البيان والتبيين 1: 297، و 2: 165، 350، 3: 260.
5 1 التذكرة(1/65)
[87]- ومنه: أما بعد فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته: ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا، وليكن همّك فيما بعد الموت.
[88]- ورؤي «1» عليه إزار مرقوع فقيل له في ذلك فقال: يخشع له القلب وتذلّ له النفس ويقتدي به المؤمنون بعدي.
[89]- وقال عليه السلام لسلمان الفارسي رحمة الله عليه: إنّ مثل الدنيا مثل الحية ليّن مسّها قاتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها، فإن المرء العاقل كلّما صار منها إلى سرور أشخصه منها إلى مكروه، ودع عنك همومها إن أيقنت بفراقها.
__________
[87] نهج البلاغة: 378 (من كتاب إلى عبد الله بن عباس) والتعازي والمراثي: 302، ونثر الدر 1: 281، وعين الأدب: 202، والبصائر 2: 777، وأدب الدنيا والدين: 107، والحكمة الخالدة: 179، ومحاضرات الراغب 2: 404 والفصول المهمة: 115 وتذكرة الخواص:
150.
[88] نهج البلاغة: 486، وصفة الصفوة 1: 123، وطبقات ابن سعد 3: 28، وحلية الأولياء 1: 83، وأنساب الأشراف (المحمودي) 2: 129، والرياض النضرة 2: 307، وذخائر العقبى: 102، وشرح النهج 9: 235، وربيع الأبرار: 331/أ (4: 8) وتذكرة الخواص: 113.
[89] نهج البلاغة: 458، والبصائر 7: 232- 233 ومحاضرات الراغب 2: 390 والحكمة الخالدة: 111، والمجتنى: 41، وسراج الملوك: 16، ومجموعة ورام 1: 148، وبعضه في البصائر 2: 34 (وفي النص سقط) وأدب الدنيا والدين: 114- 115، والتمثيل والمحاضرة:
249.(1/66)
[90]- قال كميل بن زياد «1» النخعي: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلى الجبانة، فلما أصحر تنفّس الصعداء ثم قال: يا كميل إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك: إنّ الناس ثلاثة عالم ربانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل: العلم خير من المال فالمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق. يا كميل: معرفة العلم دين يدان به، يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم والمال محكوم عليه. يا كميل بن زياد: هلك خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، ها إنّ ها هنا لعلما جما- وأشار إلى صدره- لو أصبت له حملة؛ بلى أصبت لقنا «2» غير مأمون عليه «3» ، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقادا بجملة «4» الحق لا بصيرة له في إجابة «5» ، ينقدح الشكّ في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادّخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب
__________
[90] نهج البلاغة: 495- 497، وحلية الأولياء 1: 79- 80، وصفة الصفوة 1: 127، والإرشاد: 121، وعين الأدب: 265، وسراج الملوك: 110، والخصال 1: 186، وأمالي الطوسي 1: 19، وديوان المعاني 1: 146- 147، ولقاح الخواطر: 12/أوتذكرة الخواص: 141- 142.(1/67)
[شيء] شبها بهما الأنعام السائمة؛ كذلك يموت العلم بموت حامليه «1» . اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته. ولم ذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلّون عددا، الأعظمون قدرا، بهم يحفظ الله حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم العلم بهم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى. أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقا إليهم، انصرف إذا شئت.
[91]- ومن كلام له عليه السلام: أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من دار ممرّكم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل ان تخرج منها أبدانكم؛ ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم، إنّ المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ لله آباؤكم، فقدّموا بعضا يكن لكم، ولا تخلّفوا كلّا فيكون عليكم.
[92]- قال «2» مجاهد: خرج علينا علي عليه السلام يوما معتجرا فقال:
جعت مرة بالمدينة جوعا شديدا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا
__________
[91] نهج البلاغة: 320، ومن الغريب أن ينسبها ابن أبي الحديد (شرح النهج 5: 232) لأعرابي كان واليا على ضرية، وكذلك هي لأعرابي في المحاسن والأضداد: 112، وفي محاضرات الأبرار 1: 314، وزهر الآداب: 404 ونثر الدر 6: 25.
[92] حلية الأولياء 1: 7، وصفة الصفوة 1: 124، والرياض النضرة 2: 308، وذخائر العقبى: 104.(1/68)
أنا بامرأة قد جمعت مدرا فظنتها تريد بلّه فأتيتها فقاطعتها كلّ ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت بكفّي هكذا بين يديها «1» فعدّت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه فأخبرته، فأكل معي منها. قوله: مجلت أي تنفّطت.
[93]- ودخل عليه بعض أصحابه بالخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟! فقال: والله ما أرزأكم من مالكم شيئا، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي، أو قال: من المدينة.
[94]- وقسم عليه السلام ما في بيت المال على سبعة أسباع، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر، ثم دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم.
[95]- قال الأحنف: دخلت على معاوية فقدّم إليّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه، ثم قدّم لونا ما أدري ما هو، فقلت ما هذا؟ قال:
مصارين البطّ محشوة بالمخّ قد قلي بدهن الفستق وذرّ عليه الطبرزد، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: ذكرت عليا، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره، فسألني المقام إذ دعا بجراب مختوم، قلت: ما في الجراب؟ قال: سويق شعير، قلت: خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به؟ قال: لا ولا أحدهما ولكني خفت أن يلتّه الحسن والحسين بسمن أو زيت. قلت: محرّم هو يا أمير
__________
[93] حلية الأولياء 1: 82، وصفة الصفوة 1: 122 وتذكرة الخواص: 113 وانظر التعارض بين هذه الرواية وما ورد في رقم: 143، فهنا عليّ يرعد من البرد وهنالك كفي الحرّ والبرد.
[94] حلية الأولياء 7: 300.
[95] نثر الدر 1: 304 وتذكرة الخواص: 110.(1/69)
المؤمنين؟ قال: لا ولكن يجب على أئمة الحقّ أن يعتدّوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يطغي الفقير فقره، قال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله.
[96]- واشترى علي عليه السلام بالكوفة تمرا فحمله في طرف ردائه، فتبادره الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين نحمله عنك، فقال: رب العيال أحقّ بحمله «1» .
[97]- وروي أنه عليه السلام ملك أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلا وبآخر نهارا وبدرهم سرا وبآخر علانية فأنزل الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(البقرة: 247) .
[98]- ومن كلامه عليه السلام: يا ابن آدم إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع نعمه عليك فاحذره.
[99]- وقال: من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب.
__________
[96] نثر الدر 1: 292، وزهد ابن حنبل: 133 وتذكرة الخواص: 116.
[97] نثر الدر 1: 293، ومحاضرات الراغب 1: 586.
[98] نهج البلاغة: 472، وربيع الأبرار: 396 ب وتذكرة الخواص: 132 وفي أن النعمة استدراج قارن برقم: 159، ونسب القول لأبي حازم في حلية الأولياء 3: 244، وفي أنس المحزون:
7/أ، وفي نثر الدر 7: 67 (رقم: 50) . ولعليّ في لقاح الخواطر: 14/أ.
[99] نهج البلاغة: 472 نثر الدر 1: 291 وتذكرة الخواص: 132.(1/70)
[100]- ومن كلامه: أفضل الزهد إخفاء الزهد. إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى. من أطال الأمل أساء العمل. لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض. سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.
[101]- وقال «1» عليه السلام: الدهر يخلق الأبدان ويجدّد الآمال ويقرّب المنية ويباعد الأمنية، من ظفر به نصب، ومن فاته تعب.
[102]- وقال: أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل كانت لذلك أهلا، لا يرجونّ أحد منكم إلا ربّه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحيينّ أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم «2» ، ولا يستحيين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر «3» فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه.
__________
[100] نهج البلاغة: 472، 475، 477 وتذكرة الخواص: 132، 136 وقوله «إذا كنت في ادبار ... الخ» في نثر الدر 1: 326، وكتاب الآداب: 77، وقوله: «من أطال الأمل ... »
في البيان والتبيين 3: 144، وأدب الدنيا والدين: 108، للحسن البصري، وكذلك في محاضرات الأبرار 2: 440، ولعلي في الخصال 1: 15، وانظر محاضرات الراغب 1: 457، والفصول المهمة: 118، وقوله «أفضل الزهد» لابن المبارك في أدب الدنيا والدين: 111 وفي زهر الآداب: 810 وهو ليحيى بن معاذ في الإيجاز والإعجاز: 35.
[101] نهج البلاغة: 480، ومجموعة ورام 1: 135، وورد في أمالي القالي 3: 42 والعقد 3:
174، ولباب الآداب: 18، (لراهب) وزهر الآداب: 1010 وتذكرة الخواص: 133 وبعضه في البصائر 2: 433، (لزاهد) وقارن بما ورد لأرسطاطاليس في صوان الحكمة: 148، ومحاضرات الأبرار 2: 284، والسعادة والإسعاد: 309.
[102] نهج البلاغة: 482، وحلية الأولياء 1: 75 والعقد 4: 80، ونثر الدر 1: 280 (أوصيكم بأربع) ، ولباب الآداب: 293، وعين الأدب: 202، وكتاب الآداب: 51، وأدب الدنيا والدين: 83، والخصال 1: 315، وقارن بعيون الأخبار 2: 119، والبيان والتبيين 2: 77 (أوصيكم بأربع) وتذكرة الخواص: 140- 141.(1/71)
[103]- وقال عليه السلام: عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار.
[104]- وقال: كان في الأرض أمانان فرفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، أما الأمان الذي رفع في الدنيا «1» فهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما الأمان الآخر فالاستغفار، قال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
(الأنفال: 33) .
[105]- وقال عليه السلام: من اصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ.
[106]- وقال وقد سمع رجلا من الحرورية يتهجّد ويقرأ: نوم على يقين خير من صلاة في شكّ.
[107]- وقال عليه السلام: لا يترك الناس شيئا من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضرّ منه.
[108]- وقال عليه السلام: كم من مستدرج بالاحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه.
__________
[103] نهج البلاغة: 482، ومحاضرات الراغب: 4: 406 وتذكرة الخواص: 133.
[104] نهج البلاغة: 483، ونثر الدر 1: 278 وتذكرة الخواص: 133.
[105] نهج البلاغة: 483 وتذكرة الخواص: 133.
[106] نهج البلاغة: 485، ونثر الدر 1: 280، ومجموعة ورام 1: 24، والبصائر 1: 318.
[107] نهج البلاغة: 487.
[108] نهج البلاغة: 513 وتذكرة الخواص: 133.(1/72)
[109]- وقال: شتّان بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره.
[110]- وقال عليه السلام وقد سمع رجلا يذمّ الدنيا: أيها الذامّ للدنيا المغتر بغرورها، بم تذمّها؟ أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم علّلت بكفيك، وكم مرّضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء «1» ، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثّلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية «2» لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها: مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكته، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وتربحوا «3» فيها الجنة؛ فمن ذا يذمّها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور؟ راحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبا وترهيبا، وتخويفا وتحذيرا، فذمّها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون، ذكّرتهم فذكروا، وحدّثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا.
__________
[109] نهج البلاغة: 490، ومجموعة ورام 1: 22، وربيع الأبرار: 298/أونسب في الامتاع والمؤانسة 2: 122 لبعض السلف.
[110] نهج البلاغة: 492- 493، وبعضه في محاضرات الراغب 2: 391، ومروج الذهب 3:
172- 173، ومحاضرات الأبرار 1: 315- 316، والبيان والتبيين 2: 190.(1/73)
[111]- وقال عليه السلام: استنزلوا الرزق بالصدقة، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
[112]- وقال: لكلّ أمر عاقبة حلوة أو مرة. لكلّ مقبل إدبار وما أدبر كأن لم يكن. الرحيل وشيك. من ابدى صفحته للحقّ هلك.
[113]- وقال عليه السلام: من أعطي أربعا لم يحرم أربعا: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
(المؤمن: 60) . ثم قال في الاستغفار: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(النساء: 110) . وقال في الشكر: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
(ابراهيم: 7) . وقال في التوبة: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
(النساء: 16) .
__________
[111] نهج البلاغة: 494 (رقم: 137، 138) وتذكرة الخواص: 133. وقوله من أيقن بالخلف ... إلخ في البيان 3: 143، واللباب: 70، والإيجاز والإعجاز: 8، والتمثيل والمحاضرة: 30، وكتاب الآداب: 78، وبهجة المجالس 1: 625 (لبعض الحكماء) .
[112] نهج البلاغة: 499 (رقم: 151، 152) ، 502 (رقم: 187، 188) وقوله «من أبدى صفحته ... » في الفصول المهمة: 113.
[113] نهج البلاغة: 494 وتذكرة الخواص: 133. (قوله، وتصديق ذلك ... إلخ. يبدو انه تعليق للشريف الرضيّ) والبيان والتبيين 2: 197، ونسب في 3: 288، لعمر وانظر أنس المحزون 4/أ، وقوله «من أعطي الدعاء ... » ورد في أنساب الأشراف: 695 (استانبول) ونثر الدر 2: 54 منسوبا لعمر بن الخطاب؛ وانظر مجموعة ورام 2: 84 حيث نسب القول لجعفر الصادق؛ وقارن بكتاب الآداب: 46، حيث ورد: «من ألهم ثلاثا لم يحرم ثلاثا ... » ونسب في الخصال 1: 101، 202 لجعفر الصادق، مرة على أساس ثلاثي ومرة على أساس رباعي كما نسب في برد الأكباد: 125 للشعبي.(1/74)
[114]- وقال عليه السلام لرجل سأله أن يعظه: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويرجىء التوبة لطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة على ما أولي «1» ، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له «2» ، إن سقم ظلّ نادما، وإن صحّ أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعا مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترّا، تغلبه نفسه على ما يظنّ، ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله؛ إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقصّر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل؛ أسلف «3» المعصية وسوّف بالتوبة «4» ، يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ، فهو بالقول مدلّ، ومن العمل مقلّ؛ ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى؛ يرى الغنم مغرما والغرم مغنما؛ يخشى الموت ولا يبادر الفوت؛ يستعظم من معصية غيره ما يستقلّ أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن؛ اللغو «5» مع الأغنياء أحبّ إليه من الذّكر
__________
[114] نهج البلاغة: 497- 499، ونثر الدر 1: 277، والمجتنى: 39، وعين الأدب 1:
189، وسراج الملوك: 183 وتذكرة الخواص: 133 وبعضه في البيان والتبيين 2:
101، وأدب الدنيا والدين: 116، وفي أمالي الطوسي 1: 110، نسبه إلى عبد الله ابن عباس يوصي ابنه عليّا، والبصائر 1: 356- 357 (باختلاف) وانظر كنز العمال 16: 205.(1/75)
مع الفقراء؛ يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره؛ يرشد غيره ويغوي نفسه.
[115]- وقال له رجل أوصني قال: لا تحدّث نفسك بفقر ولا طول عمر.
[116]- وقال: الأمل على الظنّ آفة العمل على اليقين.
[117]- وسئل عن الإيمان فقال: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
[118]- وقال عليه السلام: من أصبح على الدنيا حزينا فقد أصبح لقضاء الله ساخطا، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربّه، ومن أتى غنيا فتواضع لغناه ذهب ثلثا دينه.
[119]- وقال عليه السلام: إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
__________
[115] نثر الدر 1: 278.
[116] نثر الدر 1: 278.
[117] نهج البلاغة: 508، وقد رواه علي؛ ورفعه في الخصال 1: 178، 179، وكذلك ورد مرفوعا في أمالي الطوسي 2: 64، ونثر الدر 1: 362.
[118] نهج البلاغة: 508 وتذكرة الخواص: 135. ونسب لابن أدهم في حلية الأولياء 8:
23.
[119] نهج البلاغة: 510 وصفة الصفوة 2: 53، وربيع الأبرار: 2: 140، وتذكرة الخواص: 135. وقارن بقول منسوب لعلي بن الحسين في حلية الأولياء 3: 134، ونسب القول للباقر في نثر الدر 1: 344.(1/76)
[120]- وقال: يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم.
[121]- وقال: احذروا نفار النعم فما كلّ شارد بمردود.
[122]- وقال: أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه.
[123]- وقال عليه السلام: لو لم يتوعّد الله على معصية لكان يجب أن لا يعصى شكرا لنعمته «1» .
[124]- وقال: ما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار.
[125]- وقال: ما المبتلى الذي قد استبدّ به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء.
[126]- وقال: أقلّ ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
__________
[120] نهج البلاغة: 511، وربيع الأبرار: 229 ب وقارن بكتاب الآداب: 72 حيث ورد:
«يوم العدل على الظالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم» والمستطرف 1: 104.
[121] نهج البلاغة: 511، وربيع الأبرار: 396 ب، والفصول المهمة: 113، ولقاح الخواطر: 14 ب وتذكرة الخواص: 135.
[122] نهج البلاغة: 511 ونثر الدر 1: 294، وبهجة المجالس 2: 343 (دون نسبة) وربيع الأبرار: 258/أوتذكرة الخواص: 135. ونسب في نثر الدر 7: 4 للمسيح.
[123] نهج البلاغة: 527 وتذكرة الخواص: 135. وقارن بالبصائر 2: 423، وربيع الأبرار:
397 ب، حيث نسب قول مشابه لعيسى بن مريم، وأنس المحزون: 7/أ.
[124] نهج البلاغة: 528.
[125] نهج البلاغة: 528.
[126] نهج البلاغة: 533 وتذكرة الخواص: 135.(1/77)
[127]- وقال عليه السلام في صفة المؤمن: المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا، وأذلّ نفسا، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصّلد، وهو أذلّ من العبد.
[128]- ومما ينسب إليه قوله: المدة «1» وإن طالت قصيرة. والماضي «2» للمقيم عبرة، والميت للحيّ عظة، وليس لأمس إذا مضى عودة، ولا أنت من غد «3» على ثقة، وكلّ لكلّ مفارق، وكلّ بكلّ لاحق، واليوم الهائل لكلّ آزف، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، اصبروا على عمل لا غنى بكم عن ثوابه، وارجعوا عن عمل لا صبر لكم على عقابه، فإن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه، واعلموا أنكم في نفس معدود، وأمل محدود، وأجل ممدود، ولا بدّ للأجل [من] أن يتناهى، وللنّفس أن يحصى، وللأمل أن يطوى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ
(الانفطار: 10، 11) .
[129]- قال سويد بن غفلة: دخلت على عليّ عليه السلام بعد ما
__________
[127] نهج البلاغة: 533 وربيع الأبرار 1: 805 وتذكرة الخواص: 138.
[128] نثر الدر 1: 283 وتذكرة الخواص: 135 والبصائر 7: 72؛ وعلق أبو حيان على هذه القطعة بقوله: «انظر إلى انتثار اللؤلؤ في هذا الفصل، فإنك ترى ما يعجب صدقا في المعنى وترتيبا في اللفظ ... إلخ» وانظر مجموعة ورام 2: 22، وبعضه في محاضرات الراغب 2:
487.
[129] تذكرة الخواص: 115.(1/78)
صار إليه الأمر، فإذا هو جالس في مصلّى ليس في داره سواه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ملك الاسلام ولا أرى في بيتك أثاثا ولا متاعا سوى مصلّى أنت جالس عليه؟! فقال: يا ابن غفلة إن البيب لا يتأثث في دار النقلة، وأمامنا دار هي دار المقامة، وقد نقلنا إليها حرّ المتاع؛ ونحن إليها منتقلون.
[130]- ومما ينسب إليه من [الوافر] :
إذا عقد القضاء عليك أمرا ... فليس يحلّه غير القضاء
فما لك قد أقمت بدار ذلّ ... ودار العزّ واسعة الفضاء
تبلّغ باليسير فكلّ شيء ... من الدنيا يؤول إلى انقضاء
[131]- ومن كلام له في صفة فتنة: يكيلكم بصاعها، ويخبطكم بباعها، قائدها خارج من الملّة، قائم على الضلّة، فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر أو نفاضة كنفاضة العكم، تعرككم عرك الأديم، وتدوسكم دوس الحصيد، وتستخلص المؤمن منكم استخلاص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب.
[132]- ومن كلامه: ما قال الناس لشيء طوبى له، إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء.
[133]- ووقف عليه سائل فقال لأحد ولديه: قل لأمك هاتي درهما من ستة دراهم. فقالت: هي للدقيق، فقال: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يديه فيتصدق به، ثم مرّ به رجل يبيع جملا
__________
[131] ربيع الأبرار: 1: 553.
[132] نهج البلاغة: 256، ومجالس ثعلب: 45، وربيع الأبرار 1: 561 وتذكرة الخواص:
156 وغرر الخصائص: 81، ونسب في تعازي المدائني: 73 لابن عباس.
[133] مروج الذهب 3: 176، وربيع الأبرار 1: 601 وتذكرة الخواص: 118.(1/79)
فاشتراه بمائة وأربعين درهما وباعه بمائتين، فجاء بالستين إلى فاطمة عليها السلام، فقالت: ما هذا؟ قال: هذا ما وعدنا الله على لسان أبيك: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
(الأنعام: 160) .
[134]- ومن كلامه: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: محسن يزداد كلّ يوم إحسانا ومسيء يتدارك بالتوبة.
[135]- وقال: أعظم الذنوب ما استخفّ به صاحبه.
[136]- وقال: العلم في غير طاعة الله مادّة الذنوب.
[137]- ومن كلامه عليه السلام: ليخزن الرجل «1» لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه، والله ما أرى عبدا يتّقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه، وإن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب الكافر من وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبّره في نفسه، فإن كان خيرا أبداه، وإن كان شرا واراه، وإنّ المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه. ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يستقيم إيمان عبد [حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه] حتى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى الله وهو نقيّ الراحة من
__________
[134] نهج البلاغة: 484 (مع اختلاف) ، وحلية الأولياء 1: 75، وصفة الصفوة 1:
124، وبهجة المجالس 2: 279، ونثر الدر 1: 313، وربيع الأبرار 1: 738، 804 وتذكرة الخواص: 131، وقد نسب للقمان في مختار الحكم: 269.
[135] نهج البلاغة: 535 (وروايته: أشد الذنوب) وكذلك نثر الدر 1: 325 وانظر ربيع الأبرار 1: 744.
[136] نهج البلاغة: 253- 254، وربيع الأبرار 1: 774 وتذكرة الخواص: 138 وبعضه في الفصول المهمة: 113 ولقاح الخواطر: 14/أ؛ والحديث «لا يستقيم إيمان عبد ... » في مسند أحمد 3: 198، والشهاب: 29 (اللباب: 155) .(1/80)
دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم فليفعل.
[138]- ومن كلامه عليه السلام: أين «1» الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إلى الجهاد فولهوا [وله] اللقاح [إلى] أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفا صفّا؟ بعض هلك وبعض نجا، لا يبشّرون بالأحياء، ولا يعزّون عن القتلى، مره العيون من البكاء، خمص البطون من الطّوى، ذبل الشفاه من الظما «2» ، صفر الألوان من السّهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخواني الذاهبون، فحقّ لنا أن نظمأ، ونعضّ الأيدي على فراقهم.
[139]- ومن كلامه كرّم الله وجهه: واعلموا أنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبّارون المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ والمتجر المربح.
[140]- ومنه: اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم.
[141]- وقال عليه السلام: كانت العلماء والحكماء والأتقياء يتكاتبون
__________
[138] نهج البلاغة: 177- 178 وربيع الأبرار 1: 805 وانظر أيضا 1: 836.
[139] نهج البلاغة: 383، وربيع الأبرار 1: 825- 826.
[140] ربيع الأبرار 1: 826 (وروايته: فإن المشاهد) وتذكرة الخواص: 135.
[141] قارن بما في نهج البلاغة: 551 (رقم: 423) وورد كما هو هنا في ربيع الأبرار 1:
828، والخصال 1: 129.
6 1 التذكرة(1/81)
بثلاث ليس معهن رابعة: من أحسن سريرته أحسن الله علانيته، ومن أحسن فيما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن كانت الآخرة همّه كفاه الله همّه من الدنيا.
[142]- ومن كلامه عليه السلام: عليك بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والريّ الناقع، والعصمة للمتمسّك، والنجاة للمتعلّق، لا يعوجّ فيقام ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الردّ وولوج السمع، من قال به صدق، ومن عمل به سبق.
[143]- وكان علي كرم الله وجهه يخرج في الشتاء والبرد الشديد في إزار ورداء خفيفين، وفي الصيف في القباء المحشوّ والثوب الثقيل لا يبالي، فقيل له في ذلك «1» ، فقال، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر حين أعطاني الراية وكنت أرمد تفل في عينيّ، وقال: اللهم اكفه الحرّ والبرد، فما آذاني بعده حرّ ولا برد.
[144]- عاد علي عليه السلام العلاء بن زياد الحارثي فرأى سعة داره، فقال: ما كنت تصنع في سعة الدار في الدنيا؟ أنت إليها في الآخرة أحوج؛ بلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرّحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.
[145]- ووقف على خيّاط، فقال: يا خيّاط ثكلتك أمّك، صلّب
__________
[142] نهج البلاغة: 219 «وعليكم بكتاب الله ... » .
[143] انظر الإرشاد: 66 وذخائر العقبى: 74 وأمالي الطوسي 1: 87، 2: 160، وربيع الأبرار 1: 167، وراجع ما تقدم رقم: 93.
[144] نهج البلاغة: 324، وربيع الأبرار 1: 336.
[145] مجموعة ورام 1: 42، وربيع الأبرار: 192/أوتذكرة الخواص: 118.(1/82)
الخيوط، ودقّق الدّروز، وقارب الغرز، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
يحشر الله الخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاط وخان فيه، واحذر السقاطات فإن صاحب الثوب أحقّ بها، ولا تتخذ بها الأيادي تطلب بها المكافأة.
[146]- قال نافع بن أبي نعيم: كان أبو طالب يعطي عليا قدحا من لبن يصبّه على اللات، فكان عليّ يشرب اللبن ويبول على اللات، حتى سمن فأنكر ذلك أبو طالب حتى عرف القصة فولّى ذلك عقيلا.
[147]- نزل بالحسن بن علي ضيف فاستسلف درهما اشترى له به خبزا، واحتاج إلى الادام فطلب من قنبر أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءت من اليمن، فأخذ منه رطلا، فلما قعد علي رضي الله عنه ليقسمها، قال: يا قنبر قد حدث في هذا الزقّ «1» حدث، فقال: صدق فوك، وأخبره الخبر، فغضب وقال: عليّ به، فرفع عليه الدرة «2» ، فقال: بحقّ عمي جعفر، وكان إذا سئل بحقّ جعفر سكن، وقال: ما حملك على أن أخذت منه قبل القسمة؟
قال: إنّ لنا فيه حقا فإذا أعطيتناه رددناه، قال: فداك أبوك، وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم، لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل ثنيّتيك لأوجعتك ضربا، ثم دفع إلى قنبر درهما وقال: اشتر به أجود عسل تقدر عليه، قال الراوي: فكأني أنظر إلى يدي عليّ على فم الزق وقنبر يقلب العسل فيه، ثم شدّه وجعل يبكي ويقول: اللهم اغفرها للحسن فإنه لم يعلم.
__________
[146] ربيع الأبرار: 221 ب والمستطرف 1: 178.
[147] ربيع الأبرار: 245 ب وتذكرة الخواص: 114.(1/83)
[148]- قال علي عليه السلام: ولقد كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا فما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيّا على اللّقم، وصبرا على مضض الألم. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما، أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا ومرّة لعدوّنا منّا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه، متبوئا أوطانه.
ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإيمان عود، وايم الله لتحتلبنّها دما ولتتبعنّها ندما.
[149]- استعدى رجل عمر على علي رضي الله عنهما، وعليّ جالس، فالتفت عمر إليه وقال: يا أبا الحسن قم فاجلس مع خصمك، فقام فجلس مع خصمه، فتناظرا وانصرف الرجل، ورجع علي إلى مجلسه فتبيّن عمر التغيّر في وجه علي «1» فقال: يا أبا الحسن مالي أراك متغيّرا؟ أكرهت ما كان؟ قال:
نعم، قال: وما ذاك؟ قال: كنّيتني بحضرة خصمي فألّا قلت: قم يا عليّ فاجلس مع خصمك، فأخذ عمر برأس عليّ فقبّل بين عينيه، ثم قال: بأبي أنتم بكم هدانا الله، وبكم أخرجنا من الظّلمات إلى النور.
[150]- ومن كلامه: إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ودعاء
__________
[148] نهج البلاغة: 91- 92، وربيع الأبرار: 280/أ.
[149] شرح النهج 17: 65، وربيع الأبرار: 313/أوالمستطرف 1: 97.
[150] نهج البلاغة: 59، والإرشاد: 123- 124، ونثر الدرّ 1: 308- 309 (وقد اختلط برقم: 167) وبعضه في ربيع الأبرار: 3: 614- 616.(1/84)
ضلالة، ورجل قمش جهلا، موضع في جهّال الأمة، غارّ «1» في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه الناس عالما وليس به، تكثّر «2» فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن «3» ، واكتنز من غير طائل، جلس للناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المهمات هيأ له حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشهوات «4» في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، خبّاط «5» جهالات، ركّاب «6» عشوات، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، تصرخ «7» من جور قضائه الدماء، وتعجّ منه المواريث إلى الله.
[151]- قال الربيع بن زياد الحارثي لعلي عليه السلام: أعنّي «8» على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك، قال: عليّ به، فأتي به مؤتزرا بعباءة مرتديا «9» بأخرى أشعث الرأس واللحية، فعبس في وجهه وقال: ويحك أما استحييت من أهلك، أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح
__________
[151] بعضه في نهج البلاغة: 324- 325، والبصائر 2: 669- 670، وانظر ربيع الأبرار:
411/أ (4: 380) (حيث نسبه إلى العلاء بن زياد) وتذكرة الخواص: 111 والعقد 6:
225.(1/85)
لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله، أما سمعت الله تعالى في كتابه يقول: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ
إلى قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ
(الرحمن: 10- 22) ، أفترى الله أباح هذه لعباده ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثيبهم، وإن ابتذالك نعم الله بالفعال خير منه بالمقال، قال: عاصم: فما بالك في جشوبة مأكلك وخشونة ملبسك، فإنما تزييت بزيك، قال: ويحك إن الله فرض على أئمة الحقّ أن يقدروا نفسهم بضعفة الناس لئلا يتبيّغ بالفقير فقره.
[152]- قال ابن عبّاس: دخلت على علي عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال:
والله هي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.
[153]- ومن كلام له: ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار المعرّى «1» ، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فيه التصاوير فيقول: يا فلانة غيّبيه عنّي فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحبّ أن يغيّب زينتها عن عينيه.
ولقد كان في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يدلّك على مساوئها وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه مع عظم زلفته، فلينظر ناظر بعقله: أأكرم الله محمدا بذلك أم أهانه؟ فإن قال: أهانه فقد كذب والعظيم، وإن قال أكرمه، فليعلم أن الله قد أهان غيره حين بسط الدنيا له وزواها عن اقرب الناس إليه:
__________
[152] نهج البلاغة: 76، ومجموعة ورام 2: 9، وربيع الأبرار: 376/أ.
[153] نهج البلاغة: 228، وقارن بالمستطرف 1: 115، ومكارم الأخلاق: 7، 13، والبيان والتبيين 2: 30 (دون نسبة) .(1/86)
خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر، فما أعظم منّة الله عندنا حين أنعم به علينا سلفا نتّبعه، وقائدا نطأ عقبه. والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل ألا تنبذها، فقلت: اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى «1» .
[154]- روي عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: مرض الحسن والحسين وهما صبيّان، فعادهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال عمر: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذرا إن عافاهما الله، فقال: أصوم ثلاثة أيّام شكرا لله تعالى وكذلك قالت فاطمة، وقال الصبيّان: نحن كذلك أيضا نصوم ثلاثة أيّام، وكذلك قالت جاريتهما فضّة، فألبسهما الله تعالى عافيته، فأصبحوا صياما وليس عندهم طعام، فانطلق عليّ إلى جار له يهوديّ اسمه شمعون، فأخذ منه جزّة صوف تغزلها فاطمة بثلاثة أصوع شعير، فكانوا كلما قدّموا طعامهم جاءهم مسكين فآثروه به ليالي صومهم، حتى نزلت: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ
(الدهر: 8) .
[155]- وقال: لو رأى العبد الأجل ومصيره لأبغض الأمل وغروره.
[156]- وقال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر.
[157]- وقال من كلام له عليه السلام: الأقاويل محفوظة، والسرائر
__________
[154] ربيع الأبرار: 169/أ، ومحاضرات الأبرار 1: 150- 151.
[155] نهج البلاغة: 534، وجاء في الحكمة الخالدة: 116، قول حكيم: لو رأيتم مسير الأجل لأعرضتم عن غرور الأمل، وقارن بما في محاضرات الراغب 2: 520 وانظر ربيع الأبرار 2:
770، 772.
[156] نهج البلاغة: 534، وانظر شرح النهج 6: 193 وربيع الأبرار 2: 217.
[157] نهج البلاغة: 535، (رقم: 343، 344) وتذكرة الخواص: 135.(1/87)
مبلوّة؛ وكلّ نفس بما كسبت رهينة. معاشر الناس اتقوا ربكم فكم من مؤمّل ما لا يبلغه، وبان ما لا يسكنه، وجامع ما سوف يتركه، ولعلّه من باطل جمعه، أصابه حراما، واحتمل به آثاما، فباء بوزره، وقدم على ربه أسفا لاهفا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ*
(الزمر:
15) .
[158]- وقال: من علم أن كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه.
[159]- وقال عليه السلام: أيها الناس، ليركم الله من النعمة وجلين، كما يراكم من النقمة فرقين: إنه من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا، فقد أمن مخوفا، ومن ضيق عليه في ذات يده فلم ير ذلك «1» اختبارا فقد ضيّع مأمولا.
[160]- وقال: الفكر مرآة صافية، والاعتبار منذر ناصح «2» ، وكفى أدبا لنفسك تجنّبك ما كرهته لغيرك.
[161]- وروي أنه قل ما اعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبته: أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثا فيلهو، ولا ترك سدى فيلغو، وما دنياه التي
__________
[158] نهج البلاغة: 536، وورد غير منسوب في شرح النهج 10: 137، ومحاضرات الراغب 1: 69.
[159] نهج البلاغة: 537.
[160] نهج البلاغة: 538، وقوله «الفكر مرآة صافية» في نثر الدر 1: 285، وكتاب الآداب:
65، وقارن بقول الفضيل بن عياض في حلية الأولياء 8: 109، الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
[161] نهج البلاغة: 540، ومجموعة ورام 1: 79.(1/88)
تحسّنت له بخلف من الآخرة التي قبّحها سوء النظر عنده، وما المغرور الذي ظفر من الدنيا بأعلى همّته كالآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى سهمته.
[162]- وقال: ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره، ومغبوط في أوّل ليله قامت بواكيه في آخره؛ كما قال الشاعر «1» : [من البسيط]
يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا
أنشد ذلك ابن السكيت، وتمام الشعر «2» :
أفنى القرون التي كانت مسلّطة ... مرّ الجديدين إقبالا وإدبارا
يا من يكابد دنيا لا مقام بها ... يمسي ويصبح في دنياه سيارا
كم قد أبادت صروف الدهر من ملك ... قد كان في الأرض نفّاعا وضرارا
[163]- وقال عليه السلام: الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهل، والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن، والطمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار عجز.
[164]- وقال لقائل قال بحضرته، استغفر الله: ثكلتك أمك، أتدري
__________
[162] نهج البلاغة: 543، ولم ترد الأبيات فيه، والاستشهاد بها من عمل المؤلف أو أحد المعلقين، فهي منسوبة إلى محمد بن حازم الباهلي كما جاء في معجم الشعراء: 371 (وأورد منها البيت الأول) ، وهي في البصائر 1: 51، والبيت الأول في البيان 3: 202، والحيوان 6: 508 (دون نسبة) ونسب مع بيت آخر لابن الرومي في تفسير القرطبي؛ وانظر تذكرة الخواص: 135.
[163] نهج البلاغة: 544 ومجموعة ورام 2: 297، ونسب لأميروس الشاعر في فقر الحكماء:
163، وفي البصائر 3/2: 641، لبزرجمهر، والفصول المهمة: 118.
[164] نهج البلاغة: 549.(1/89)
ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليّين «1» ، وهو اسم واقع على ستة معان «2» : أولها الندم على ما فعل «3» ، والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقّها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم زائد «4» ، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
[165]- وقال عليه السلام: الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
(الحديد: 23) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
[166]- ومن كلام له لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المناظرة «5» ، وضعوا «6» تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح؛ ماء آجن ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا:
حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا «7» : جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيا
__________
[165] نهج البلاغة: 553، ومحاضرات الراغب 1: 511 للفضيل بن عياض وربيع الأبرار 1:
826 وتذكرة الخواص: 136 وسيأتي منسوبا له رقم: 546.
[166] نهج البلاغة: 52، ونثر الدر 1: 399- 400، ولقاح الخواطر: 13/أ.(1/90)
والتي!! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به «1» لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة.
[167]- ومن خطبة له عليه السلام: ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم، إنّ من صرّحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه «2» التقوى عن تقحّم الشبهات.
ومنها: ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها وقحمت «3» بهم في النار. ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة، حق وباطل، ولكلّ أهل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قلّ الحقّ فربّما ولعلّ، ولقلما أدبر شيء فأقبل.
[168]- ومن كلام له عليه السلام: فإن المرء المسلم ما لم يغش دناءة وتظهر فيخشع لها إذا ذكرت ويغرى به لئام الناس، كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم، فيرفع عنه بها المغرم، وكذلك المرء المسلم البريء من الخيانة، ينتظر إحدى الحسنيين: إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه دينه وحسبه؛ إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، قد يجمعها الله لأقوام، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه، واخشوه خشية ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء ولا سمعة، فإنه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له.
__________
[167] نهج البلاغة: 57، ونثر الدر 1: 308، وعيون الأخبار 1: 60، وأمالي الطوسي 1:
240، وكنز العمال 16: 197، وبعضه في الحكمة الخالدة: 111، ولقاح الخواطر: 13 ب.
[168] نهج البلاغة: 64، ونثر الدر 1: 306.(1/91)
[169]- ومن مواعظه: واتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، وترحّلوا فقد جدّ بكم، واستعدّوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به، وإنّ غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة، وإنّ غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحريّ بسرعة الأوبة، وإن قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحقّ لأفضل العدّة، فاتّقى عبد ربه: نصح نفسه، قدم توبته، غلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة «1» ليسوّفها حتى تهجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، وان تؤديه أيامه إلى شقوة، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم «2» ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة.
[170]- ومن مواعظه: رحم الله عبدا أسمع حكما فوعى، ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا، راقب ربّه، وخاف ذنبه، قدّم صالحا، وعمل خالصا، اكتسب مذخورا، واجتنب محذورا، رمى غرضا، وأحرز عوضا، كابر هواه، وكذّب مناه، جعل الصبر مطيّة نجاته، والتقوى عدّة وفاته، ركب الطريقة الغراء، ولزم المحجّة البيضاء، اغتنم المهل، وبادر الأجل، وتزوّد من العمل.
__________
[169] نهج البلاغة: 95 وتذكرة الخواص: 136.
[170] نهج البلاغة: 103.(1/92)
[171]- ومنها: فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع، واعتبروا بالآي السّواطع، وازدجروا بالنّذر البوالغ، وانتفعوا بالذّكر والمواعظ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة، وانقطعت منكم علائق الأمنيّة، ودهمتكم مفظعات الأمور، والسياقة إلى الورد «1» المورود، وكل نفس معها سائق وشهيد: سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها.
[172]- ومن كلامه عليه السلام في صفة الدنيا: ما أصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عذاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر «2» حزن، ومن سعى لها فاتته، ومن قعد عنها أتته «3» ، ومن أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته.
[173]- وله عليه السلام كلام يصف فيه المتقين نبه فيه على آداب، أفلح من استضاء بنورها، أوله: أما بعد فإن الله تعالى خلق الخلق حيث خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا لمعصيتهم «4» ، لأنه سبحانه «5» لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم
__________
[171] نهج البلاغة: 116 (قوله: ومنها: يعني ومن مواعظه، لا أن هذه الموعظة جزء من السابقة) .
[172] نهج البلاغة: 106 ونثر الدر 1: 294، ومجموعة ورام 1: 88، 2: 28، وأدب الدنيا والدين: 115، ومحاضرات الراغب 2: 386، وأنس المحزون: 65 ب والعقد 3:
172، والشريشي 3: 98، ولقاح الخواطر: 15 ب وتذكرة الخواص: 136.
[173] نهج البلاغة: 303 وتذكرة الخواص: 138- 139 وبعضه في العقد 3: 177.(1/93)
الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء، لولا الأجل الذي كتب الله لهم «1» لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجتهم «2» خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة «3» يسّرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففادوا «4» أنفسهم منها. أما الليل فصافون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن «5» يرتلونه ترتيلا، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، فظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا، ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم بالقليل «6» ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحد منهم خاف مما يقال له، فيقول: ربي أعلم بنفسي مني، وأنا أعلم بنفسي من غيري، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون. فمن علامة أحدهم: أنك ترى له(1/94)
قوة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدّة، وطلبا في حلال، ونشاطا في هدى، وتحرّجا عن طمع، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل يمسي وهمّه الشكر، ويصبح وهمّه الذّكر، يبيت حذرا ويصبح فرحا، حذرا من الغفلة، وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ، قرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره «1» ، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه؛ الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، بعيدا فحشه، لينا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره، مدبرا شرّه، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم «2» فيمن يحبّ، يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه، لا يضيّع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكّر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضرّ «3» بالجار، ولا يشمت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ، إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه، بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنّوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنّوه بمكر وخديعة.(1/95)
[174] وسمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين فقال لهم: إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به.
[175]- ومن «1» كلام له عليه السلام: وحقا أقول ما الدنيا غرّتك ولكن بها اغتررت، ولقد كاشفتك الغطاء «2» ، وآذنتك على سواء، ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك والنقص في قوتك أصدق وأوفى من أن تكذبك وتغرّك، ولربّ ناصح لها عندك متّهم، وصادق من خبرها مكذّب، ولئن تعرفتها في الديار الخاوية والربوع الخالية، لتجدنّها من حسن تذكرك «3» وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك والشحيح بك، ولنعم دار من لم يرض بها دارا، ومحلّ من لم يوطنها محلا، وإن السعداء بالدنيا [غدا] «4» هم الهاربون منها اليوم، إذا رجفت الراجفة وحقّت بجلائلها القيامة.
منها: فكم حجّة يوم ذاك داحضة، وعلائق عذر متقطعة، فتحرّ من أمرك ما يقوم به عذرك، وتثبت به حجّتك، وخذ ما يبقى لك مما لا تبقى له، وتيسّر لسفرك، وشم برق النجاة، وارحل مطايا التشمير.
__________
[174] نهج البلاغة: 323 وتذكرة الخواص: 154.
[175] نهج البلاغة: 345.(1/96)
[176] ومن كلام له عليه السلام: والله أبيت على حسك السّعدان مسهّدا، وأجرّ في الأغلال مصفّدا، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحدا والنفس «1» يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟! والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الألوان من فقرهم، كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرّر عليّ القول مردّدا، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقا طريقتي «2» فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل «3» أتئنّ من حديدة أحماها إنسان للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها «4» لغضبه؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ «5» من لظى؟! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هديّة، فقلت له: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط أنت أم ذو جنّة أم تهجر؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضّمتها «6» ، ما
__________
[176] نهج البلاغة: 346 وتذكرة الخواص: 155 وبعضه في مجموعة ورام 1: 56، وفي ربيع الأبرار: 231/أوفيه أيضا 1: 192.
7 1 التذكرة(1/97)
لعليّ ونعيم يفني؟! نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل، وبه نستعين.
[177]- ومن كلام له: فاحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدّوا له عدّته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شرّ أبدا، وشرّ لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ ومن أقرب إلى النار من عاملها؟ وإنكم «1» طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم. الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من خلفكم، واحذروا نارا قعرها بعيد، وحرّها شديد، وعذابها جديد، دار ليس فيها رحمة، ولا تسمع فيها دعوة، ولا تفرّج فيها كربة، وإن استطعتم أن يشتدّ خوفكم من الله وأن يحسن ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حسن ظنّه بربه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظنّا بالله أشدّهم خوفا لله.
[178]- ومن كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وبلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أما بعد يا ابن حنيف، قد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب «2» لك الألوان، وتنقل عليك «3» الجفان. وما «4» ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم «5» ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
__________
[177] نهج البلاغة: 384 (من عهد له إلى محمد بن أبي بكر) .
[178] نهج البلاغة: 416 وربيع الأبرار: 217/أ، (2: 719) ، ولقاح الخواطر: 13/أ.(1/98)
ألا وإن لكلّ مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد «1» ، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمرا؛ بلى، كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله؛ ما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم؛ وإنما هي نفس أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر منها. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير «2» الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشّبع؛ أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل [من الطويل] :
وحسبك داء أن تبيت ببطنة ... وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم في خشونة «3» العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، والمرسلة شغلها تقمّمها.
[179]- ومن «4» كلام له عليه السلام: فلا يكن أفضل ما نلت من
__________
[179] نهج البلاغة: 457، من كتاب له إلى ابن عباس.(1/99)
دنياك في نفسك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ، وليكن سرورك بما قدّمت، وأسفك على ما خلّفت، وهمّك فيما بعد الموت.
[180]- وقال «1» كرم الله وجهه: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله.
[181]- وقال: إن أخسر الناس صفقة وأخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه في طلب آماله، ولم تساعد المقادير على إرادته، فخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على الآخرة بتبعته.
[182]- وقال كرم الله وجهه: اذكروا انقطاع اللذات وبقاء التبعات «2» .
[183]- ودخل عليه قوم فقالوا: يا أمير المؤمنين لو أعطيت هذه الأموال وفضّلت بها هؤلاء الأشراف ومن تخاف فراقه، حتى إذا استتب لك ما تريد عدت إلى أفضل ما عوّدك الله تعالى من العدل في الرعية والقسم بالسوية، فقال:
تأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام «3» ؟ والله لا أفعل ذلك ما سمر ابنا سمير، وما آب في السماء نجم «4» ، لو كان هذا المال لي لسوّيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم «5» ؟
__________
[180] نهج البلاغة: 547، وربيع الأبرار: 354/أ، والفصول المهمة: 118.
[181] نهج البلاغة: 552 ونثر الدر 1: 288، والحكمة الخالدة: 130.
[182] نهج البلاغة: 553.
[183] نهج البلاغة: 183، وقوله: فمن آتاه الله مالا فليصل به القرابة ورد في ص: 198 من النهج؛ وورد النصان موصولين في نثر الدر 1: 318- 319.(1/100)
ثم أرم طويلا ثم قال: من منكم له مال فاياه والفساد، فإن إعطاء المال في غير حلّه «1» تبذير وإسراف وفساد، وهو يرفع ذكر صاحبه ويضعه عند الله عزّ وجلّ، ولن يضع امرؤ ماله في غير حقّه وعند غير أهله إلا حرمه الله تعالى شكرهم، وكان لغيره ودّهم، فإن بقي معه منهم من [يبدي له] الود ويظهر له الشكر فإنما هو ملق وكذب «2» ، فإن زلّت بصاحبه النّعل واحتاج إلى معونته ومكافأته فشرّ خليل والأم خدين، فمن «3» آتاه الله مالا فليصل به القرابة وليحسن فيه الضيافة، وليفكّ به العاني والأسير، وليعط منه الغارم وابن السبيل والفقراء والمجاهدين، وليصبر نفسه على الحقوق ابتغاء الثواب، فإنه ينال بهذه الخصال مكارم الدنيا وفضائل الآخرة، إن شاء الله.
[184]- وقال: يوشك أن يفقد الناس ثلاثة: درهم حلال، ولسان صادق، وأخ يستراح إليه.
[185]- وكان الحسن بن علي عليهما السلام يقول في مواعظه: يا ابن آدم عفّ عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله سبحانه تكن غنيا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وصاحب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك بمثله تكن عدلا. إنه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيرا، ويبنون مشيدا، ويأملون بعيدا، أصبح جمعهم بورا، وعملهم غرورا، ومساكنهم قبورا، يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإن المؤمن يتزود والكافر يتمتع. وكان يتلو بعد هذه الموعظة: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
(البقرة: 197) .
__________
[184] تذكرة الخواص: 136.(1/101)
[186] ومن كلام الحسين بن علي عليه السلام: أيها الناس نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجّلوه، واكتسبوا الحمد بالنّجح، ولا تكتسبوا بالمطل ذمّا: فمهما يكن لأحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله مكاف له «1» ، فإنه أجزل عطاء وأعظم أجرا. اعلموا أنّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، ولا تملّوا النعم فتحور نقما، واعلموا أنّ المعروف مكسب «2» حمدا ومعقب أجرا، فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه «3» حسنا جميلا يسرّ الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤم رجلا رأيتموه سمجا مشوّها تنفر منه القلوب وتغضّ دونه الأبصار. أيها الناس «4» من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفا عن قدرة، وإنّ أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها بفروعها تسمو. من تعجّل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا، ومن أراد الله تعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء «5» الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفّس كربة مؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحبّ المحسنين.
[187]- ومن كلام «6» محمد بن علي المعروف بابن الحنفية: أيها الناس
__________
[186] نثر الدر 1: 334.
[187] نسبت له في التعازي والمراثي: 87- 88، وأصول هذه الكلمة في النهج: 202، وكذلك نسبت لعلي في الارشاد: 127، ومجموعة ورام 1: 76، وقد نسبت هذه الكلمة في شرح النهج 12: 18 لعمر بن الخطاب (قال ابن أبي الحديد: وأكثر الناس يرويه لعلي) وفي نثر الدر 2: 49، كما رويت لعمر بن عبد العزيز في حلية الأولياء 5: 265، وانظر البيان والتبيين 4: 74.(1/102)
إنكم أغراض تنتضل فيكم المنايا. لن يستقبل أحد منكم يوما بدأ من عمره إلا بانقضاء آخر من أجله، فأية أكلة ليس معها غصص، أو أية شربة ليس معها شرق؟ أيها الناس استصلحوا ما تقدمون عليه مما تظعنون عنه، فإن اليوم غنيمة وغدا لا يدرى لمن هو. أهل الدنيا أهل سفر يحلّون عقد رحالهم في غيرها، قد خلت من قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله؟ أين الذين كانوا أطول منّا أعمارا وأبعد منّا آمالا؟! أتاك يا ابن آدم ما لا تردّه، وذهب عنك ما لا يعود، ولا تعدّنّ عيشا منصرفا، عيشا ما لك منه إلا لذّة تزدلف بك إلى حمامك وتقرّبك من أجلك، وكأنك قد صرت الحبيب المفقود والسواد المخترم، فعليك بذات نفسك ودع عنك ما سواها، واستعن بالله يعنك.
[188]- وقال جعفر بن محمد: المرء بين ذنب ونعمة، لا يصلحه غير استغفار من هذا وشكر على هذا.
[189]- قيل لعبد الله بن العبّاس: أيما أحبّ إليك رجل يكثر من الحسنات ويكثر من السيئات «1» ، أم رجل يقلّ من الحسنات ويقلّ من السيئات؟ قال: ما أعدل بالسلامة شيئا.
[190]- وقال عبد الله قال لي أبي العبّاس: يا بني إن «2» أمير المؤمنين قد
__________
[188] قارن بما في ربيع الأبرار: 155/أ (ونسب القول لبعض العباد) والتمثيل والمحاضرة: 171 (ونسب لذي النون) وزهر الآداب: 810 (لذي النون أيضا) .
[189] البيان والتبيين 3: 257، 2: 94 (وكتب لابن عياش) ، وأنساب الأشراف 3: 34، وأدب الدنيا والدين: 104.
[190] أخبار الدولة العباسية: 120، والكامل للمبرد 1: 265، 2: 312، وأنساب الأشراف(1/103)
اختصّك من دون من أرى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثا ولا تجاوزهنّ: لا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا تغتب عنده أحدا، ولا تفشينّ لأحد سرّا.
[191]- وقال العبّاس رضي الله عنه: شهدت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حنينا، فلمّا انهزم الناس، قال: ناد يا أصحاب السّمرة، فناديت، فو الله لكأنّ عطفتهم حين سمعوا صوتي كعطفة البقر على أولادها.
[192]- وقال «1» العبّاس لابنه رضي الله عنهما: تعلّم العلم ولا تعلّمه لتماري به ولا لتباهي به، ولا تدعه رغبة في الجهل وزهادة في العلم واستحياء من التعلم.
[193]- أتي «2» زيد بن ثابت بدابته، فأخذ عبد الله بن عبّاس بركابه، فقال زيد: دعه بالله، فقال عبد الله: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال
__________
3: 51، والعقد 1: 9، وعيون الأخبار 1: 19، والزهرة 2: 264، ولباب الآداب:
15 ونثر الدر 1: 404، وبهجة المجالس 1: 343، 402، 458، وكتاب الآداب:
28، وشرح النهج 6: 357- 358، وربيع الأبرار 1: 496، وعين الأدب: 154، وسراج الملوك: 203، والمستطرف 1: 89، ونهاية الأرب 6: 16، وغرر الخصائص:
441، وبرد الأكباد: 114 والشهب اللامعة: 5.
[191] قارن بسيرة ابن هشام 2: 444- 445، وطبقات ابن سعد 4: 18، 19، والكامل للمبرد 2: 164 ونثر الدر 1: 404، وربيع الأبرار: 196/أ، والبيان 1: 123، وفي البصائر 2: 461 إشارة موجزة إلى ذلك.
[192] نثر الدر 1: 405، وقارن بما في ألف باء 1: 25.
[193] نثر الدر 1: 408- 8809، وعيون الأخبار 1: 269، وأنساب الاشراف 3: 46، والعقد 2: 127، 224، والبصائر 1: 112، ومحاضرات الراغب 1: 262، وألف باء 1: 19.(1/104)
زيد: أخرج يدك، فأخرجها فقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا عليه السلام.
[194]- وكان عبد الله يقول: تواعظوا وتناهوا عن معصية ربكم تعالى، فإن الموعظة تنبيه للقلوب «1» من سنة الغفلة، وشفاء من داء الجهالة، وفكاك من رقّ ملكة الهوى.
[195]- وقال أيضا: من استؤذن عليه فهو ملك.
[196]- وقيل له: أنّى لك هذا العلم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول.
[197]- وقال: من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله.
[198]- وجاء إليه رجل فقال: أريد أن أعظ «2» ؟ فقال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى قوله عزّ وجل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
، (البقرة: 44) . وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
(الصف: 2) ، وقول العبد الصالح شعيب:
وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ
(هود: 88) . أأحكمت هذه الآيات؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك إذن.
__________
[194] نثر الدر 1: 409.
[195] نثر الدر 1: 409.
[196] نثر الدر 1: 412، والبيان والتبيين 1: 84- 85 (قال الجاحظ: وقد رووا هذا الكلام عن دغفل بن حنظلة العلامة، وعبد الله أولى به منه) وأنساب الأشراف 3: 33.
[197] نثر الدر 1: 412، والبيان 2: 90، وعيون الأخبار 2: 125، وأنساب الأشراف 3:
52، والعقد 2: 217 (لمالك بن أنس) ، ونسبت في نهج البلاغة: 482 لعلي وفي حلية الأولياء 7: 247 لسفيان بن عيينة؛ وألف باء 1: 22.
[198] نثر الدر 1: 413 ومجموعة ورام 2: 11.(1/105)
[199]- وقال: ملاك أموركم الدين، وزينتكم العلم، وحصون أعراضكم الأدب، وعزكم الحلم، وصلتكم الوفاء، وطولكم في الدنيا والآخرة المعروف، فاتقوا الله يجعل لكم من أمركم يسرا.
[200]- وسمع كعبا يقول: مكتوب في التوراة من يظلم يخرب بيته، فقال ابن عبّاس: تصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا
(النمل: 52) .
[201]- وقال: كل ما شئت. والبس ما شئت «1» إذا أخطأتك اثنتان:
سرف ومخيلة.
[202]- وقال إنكم مرّ الليل «2» والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة.
من زرع خيرا أوشك أن يحصد رغبة، ومن عمل شرا أوشك أن يحصد ندامة، ولكلّ زارع «3» ، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدّر له بحرصه. ومن أوتي خيرا فالله آتاه، ومن وقي شرّا فالله وقاه، المتقون سادة والعلماء قادة «4» .
[203]- وقال: ذللت للعلم طالبا فعززت مطلوبا.
__________
[199] نثر الدر 1: 413.
[200] نثر الدر 1: 414.
[201] نثر الدر 1: 415، وعيون الأخبار 1: 296، والبصائر 2: 194، وربيع الأبرار: 331 ب (4: 12) ومحاضرات الراغب 2: 365.
[202] نثر الدر 1: 422، ونسب في عين الأدب: 198 لابن مسعود.
[203] نثر الدر 1: 422 وعيون الأخبار 2: 122، وربيع الأبرار: 274 ب وألف باء 1: 18.(1/106)
[204]- وقال علي بن عبد الله بن عبّاس: من لم يجد مسّ نقص الجهل في عقله، وذلة المعصية في قلبه، ولم يستبن موضع الخلّة في لسانه عند كلال حدّه عن حدّ خصمه، فليس ممن ينزع عن ذنبه «1» ولا يرغب عن حال معجزة، ولا يكترث لفضل ما بين حجّة وشبهة.
[205]- وقال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء.
[206]- وكان علي بن عبد الله سيدا شريفا، يقال إنه كان له خمسمائة أصل زيتون، يصلي في كل يوم إلى كل أصل منها ركعتين. وكان علي بن أبي طالب بشّر أباه حين ولد بانتقال الخلافة إلى ولده وقال: خذ إليك أبا الأملاك؛ وله في ذلك حكايات كثيرة منها أنه دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس وأبو جعفر، فلما ولّى قال هشام: إن هذا الشيخ قد أخلّ وأسنّ وصار يقول: إنّ هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك عليّ فالتفت إليه وقال: أي والله ليكوننّ ذلك وليملكنّ هذان.
[207]- ومن كلام عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام: لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسعة رحمة الله عزّ وجلّ. خف الله لقدرته عليك واستحي لقربه منك. إذا صليت فصلّ صلاة مودّع، وإيّاك وما
__________
[204] نثر الدر 1: 430، والبيان والتبيين 1: 85، وبهجة المجالس 1: 394، وربيع الأبرار 1:
638 (دون نسبة) .
[205] نثر الدر 1: 430، والجوهر النفيس: 63 ب (للمأمون) .
[206] نثر الدر 1: 438، وأخبار الدولة العباسية: 144، 139- 140، والكامل للمبرد 2:
217، وقارن بما في ألف باء 1: 225.
[207] قارن بما في ربيع الأبرار: 369/أ، وقوله: «إياك وما يعتذر منه» يعدّ حديثا، انظر الجامع الصغير 1: 116، كما أنه يدرج في الأمثال: انظر الميداني 1: 29 وما تقدم ص: 47.(1/107)
يعتذر منه، وخف الله خوفا ليس بالتعذّر. إيّاك والابتهاج بالذنب فإنّ الابتهاج بالذنب «1» أعظم من ركوبه.
[208]- وقال: أعجب لمن يحتمي من الطعام لمضرّته، ولا يحتمي من الذنب لمعرّته «2» [209]- وقال أبو حمزة الثّمالي: أتيت باب عليّ بن الحسين فكرهت أن أصوّت، فقعدت حتى خرج، فسلمت عليه ودعوت له، فردّ عليّ السلام ودعا لي، ثمّ انتهى إلى الحائط فقال لي: يا أبا حمزة، ترى هذا الحائط؟
قلت: بلى يا ابن رسول الله، قال فإني اتكأت عليه يوما وأنا حزين، فإذا رجل حسن [الوجه حسن] الثياب ينظر في اتجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيبا حزينا؟ أعلى الدنيا، فهي رزق حاضر يأكل منها البرّ والفاجر. فقلت: ما عليها أحزن [لأنه] كما تقول. فقال: أعلى الآخرة؟
فهي وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر. قلت: ما عليها أحزن لأنه كما تقول. فقال: وما حزنك يا علي بن الحسين؟ قلت: الخوف من فتنة ابن الزبير. فقال: يا علي بن الحسين، هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟
قلت: لا، قال: فخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا؛ ثم غاب عنّي، فقيل لي: يا عليّ هذا الخضر ناجاك.
__________
[208] نثر الدر 1: 340، والفصول المهمة: 202 ومحاضرات الراغب 2: 407، ونسب لحماد بن زيد في أدب الدنيا والدين: 104 ولاسقليبيوس في نزهة الارواح 1: 89.
[209] حلية الأولياء 3: 134، والارشاد: 258، والفصول المهمة: 202، وبعضه في البصائر 4: 299.(1/108)
[210]- قال «1» ابن شهاب الزهري شهدت عليّ بن الحسين يوم حمله إلى عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديدا، ووكل به حفّاظا في عدّة وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لي، فذخلت عليه وهو في قبّة والقيود في رجليه والغلّ في يديه، فبكيت وقلت: وددت أني مكانك وأنت سالم، فقال: يا زهري أوتظنّ هذا مما ترى عليّ وفي عنقي يكربني؟ أما لو شئت ما كان، فإنه إن بلغ منك ومن أمثالك «2» ليذكرني عذاب الله، ثم أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد، ثم قال: يا زهري لا جزت معهم على ذا ميلين «3» من المدينة. قال: فما لبثت إلّا أربع ليال حتّى قدم الموكلون به يطلبونه بالمدينة، قال: فلمّا وجدوه «4» ، فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعا، إنه لنازل ونحن حوله لا ننام لنرصده، إذ أصبحنا نفتقده فما وجدنا بين محمليه إلا حديده. قال الزهريّ: وقدمت بعد ذلك على عبد الملك، فسألني عن عليّ بن الحسين فأخبرته، فقال: إنه قد جاء في يوم فقده الأعوان، فدخل عليّ فقال: ما أنا أنت، فقلت: أقم عندي، قال: لا أحبّ، ثم خرج فو الله لقد امتلأ «5» ثوبي منه خيفة؛ قال الزهريّ فقلت: يا أمير المؤمنين ليس عليّ بن الحسين حيث يظنّ، إنه مشغول بنفسه، قال: حبذا شغل مثله. قال: وكان الزهريّ إذا ذكر عليّ بن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين.
__________
[210] حلية الأولياء 3: 135 وتذكرة الخواص: 324 (وصرح بالنقل عن التذكرة الحمدونية) .(1/109)
[211]- ولمّا مات عليّ بن الحسين غسلوه، ثمّ جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
[212]- وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات زين العابدين فقدوا ما كانوا يؤتون به باللّيل.
[213]- وكان نافع بن جبير يقول لزين العابدين: غفر الله لك، أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس معه؟! يعني زيد بن أسلم، فقال: إنه ينبغي للعلم أن يتّبع حيث كان.
[214]- قال محمد بن عليّ بن الحسين: ندعو الله فيما نحبّ فإذا وقع الذي نكره لم نخالف «1» الله فيما أحبّ.
[215]- وقال: توقي الصرعة قبل الرجعة «2» .
[216]- وقال لابنه جعفر: يا بني إنّ الله تعالى خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة
__________
[211] حلية الأولياء 3: 136، وصفة الصفوة 2: 54، وربيع الأبرار: 258/أ (2: 149) ولقاح الخواطر: 42/أ.
[212] حلية الأولياء 3: 136، وهو في زهد ابن حنبل: 166، وصفة الصفوة 2: 54، والفصول المهمة: 202 وتذكرة الخواص: 327 (ببعض اختلاف) .
[213] حلية الأولياء 3: 137- 138، وصفة الصفوة 2: 55 وتذكرة الخواص: 329.
[214] حلية الأولياء 3: 187، وعيون الأخبار 3: 57.
[215] البصائر 7: 196 (دون نسبة) وروايته: اسهل من طلب الرجعة.
[216] نثر الدر 1: 343، وكتاب الآداب: 44 والفصول المهمة: 216، ونسب في الخصال 1: 209 لعلي بن أبي طالب، وهو في البصائر 4 رقم: 449 وسقط من الطبعة الدمشقية.(1/110)
أشياء: خبأ رضاه في طاعته فلا تحقرن من الطاعة شيئا فلعلّ رضاه فيه، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا فلعلّ سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرنّ أحدا فلعلّ ذلك الوليّ.
[217]- وقال جعفر بن محمد بن علي «1» : تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله عزّ وجل هلكة، والإصرار [على الذنب] أمن: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ
(الأعراف: 99) .
[218]- وقال «2» : ما كلّ من أراد شيئا قدر عليه، ولا كلّ من قدر على شيء وفّق له، ولا كلّ من وفّق أصاب له موضعا، فإذا اجتمع النية والقدرة والتوفيق والإصابة فهناك تمّت السعادة.
[219]- وقال: صلة الرّحم تهوّن الحساب يوم القيامة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ
(الرعد: 23) .
[220]- وممّا «3» ينسب إليه: الصلاة قربان كلّ تقيّ، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا
__________
[217] الارشاد: 283، والفصول المهمة: 228.
[218] الارشاد: 282 والفصول المهمة: 228.
[219] محاضرات الراغب 1: 357، وقارن بقوله في نثر الدر 1: 355، صلة الرحم منسأة في الأعمار ... إلخ.
[220] حلية الأولياء 3: 194- 195، ومعظم هذه الأقوال ورد في نهج البلاغة، 494- 495، وقوله «الداعي بلا عمل ... » قد مرّ منسوبا لعلي برقم: 156، وكذلك قوله استنزلوا الرزق بالصدقة رقم: 111؛ وقوله: قلة العيال ... الخ في أمثال الماوردي: 104/أ.(1/111)
الرزق بالصدقة، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وما عال من اقتصد، والتقدير نصف العيش، والتودد نصف العقل، وقلة العيال أحد اليسارين، ومن حزّن والديه فقد عقّهما، والصنيعة لا تكون صنيعة إلّا عند ذي حسب أو دين، الله ينزل الصبر على قدر المصيبة، وينزل الرزق على قدر المؤونة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذّر معيشته حرمه الله.
[221]- وكان عليّ بن الحسين إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة، وكان لا يسمع من داره: يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا، وكان يقول: سمّوهم بأحسن أسمائهم.
[222]- وقيل له «1» : من أعظم قدرا؟ قال: من لا يرى بالدنيا لنفسه قدرا.
[223]- وقالوا: قارف الزهريّ ذنبا فاستوحش من الناس وهام على وجهه، فقال له زيد بن عليّ بن الحسين: يا زهريّ لقنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شيء أشدّ عليك من ذنبك، فقال الزهريّ: الله يعلم حيث يجعل رسالاته.
[224]- وقال موسى بن جعفر: وجدت علم الناس في أربع: أولها أن
__________
[221] البيان والتبيين 3: 158- 159، وعيون الأخبار 2: 208، ونسب لمحمد بن علي الباقر في نثر الدر 1: 345.
[222] نثر الدر 1: 339، والبداية والنهاية 9: 105 «من أعظم الناس خطرا» .
[223] نثر الدر 1: 347، والبداية والنهاية 9: 107 (مرويا عن علي بن الحسين) والبيان والتبيين 3: 168 (مرويا عن زيد بن عليّ) وربيع الأبرار: 414/أ (4: 389) (لعلي بن الحسين) وطبقات ابن سعد 5: 214 والجوهر النفيس 48 ب- 49/أ.
[224] نسب في أمالي الطوسى 2: 194، 265 لجعفر الصادق.(1/112)
تعرف ربك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد بك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك من ذنبك. معنى هذه الأربع، الأولى: وجوب معرفة الله تعالى التي هي اللطف، الثانية: معرفة ما صنع بك من النعم التي يتعيّن عليك لأجلها الشكر والعبادة، الثالثة: أن تعرف ما أراد منك فيما أوجبه عليك وندبك إلى فعله على الحدّ الذي أراده منك فتستحق بذلك الثواب، الرابعة: أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعة الله فتجتنبه.
[225]- وقال علي بن موسى بن جعفر: من رضي من الله عزّ وجلّ بالقليل من الرزق رضي منه بالقليل من العمل.
[226]- وقال: لا يعدم المرء دائرة السّوء مع نكث الصفقة، ولا يعدم تعجيل العقوبة مع ادّراع البغي.
[227]- وقال «1» : الناس ضربان: بالغ لا يكتفي وطالب لا يجد.
[228]- وقال محمد بن علي بن موسى: كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه؟ ومن انقطع إلى غير الله وكله الله تعالى إليه، ومن عمل على غير علم أفسد أكثر مما يصلح.
[229]- وقال: القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال.
[230]- كتب المنصور إلى جعفر بن محمد: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما
__________
[227] ورد في مختار الحكم: 254، لبطليموس؛ وهو في أمثال الماوردي: 50 ب، ونسب لابن المعتز في الوافي بالوفيات 17: 450 ولهرمس في نزهة الأرواح 1: 75.
8 1 التذكرة(1/113)
نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها، ولا تراها نقمة فنعزّيك بها، فما نصنع عندك؟ قال فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه: من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك. فقال المنصور: والله لقد ميّز عندي منازل الناس، من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة، وإنه ممن يريد الآخرة لا الدنيا.
[231]- قال سفيان الثوري لجعفر بن محمد: حدثني، قال جعفر: أما إنّي أحدثك، وما كثرة الحديث لك بخير، يا سفيان: إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت تمامها «1» ودوامها فأكثر من الحمد والشكر فإن الله تعالى قال في كتابه المبين: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
(إبراهيم: 72) . وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، فإن الله تعالى قال في كتابه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
يعني في الدنيا والآخرة، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً
(نوح: 10- 12) . يا سفيان إذا حزبك «2» أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول ولا قوة إلّا بالله، فإنها مفتاح للفرج وكنز من كنوز الجنّة. فعقد سفيان بيده وقال:
ثلاث وأي ثلاث، قال جعفر: عقلها والله أبو عبد الله ولينفعنه بها.
[232]- سقط «3» ابن لعلي بن الحسين عليهما السلام في بئر، فتفرغ أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وكان قائما يصلّي فما زال عن محرابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما شعرت، كنت أناجي ربّا كريما.
__________
[231] حلية الأولياء 3: 193، ومحاضرات الراغب 4: 467، والفصول المهمة: 223.
[232] نثر الدر 1: 338.(1/114)
[233]- وكان عليّ بن الحسين يأتي ابن عم له بالليل «1» متنكرا فيناوله شيئا من الدنانير، فيقول: لكن عليّ بن الحسين لا يصلني، لا جزاه الله خيرا، فيسمع ذلك ويحتمله ويصبر عليه ولا يعرّفه نفسه، فلمّا مات عليّ بن الحسين عليه السلام فقدها، فحينئذ علم أنه هو كان، فجاء إلى قبره وبكى عليه.
[234]- وقيل له: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة؟
فقال: أكره أن آخذ برسول الله عليه السلام ما لا أعطي مثله.
[235]- قال طاووس: رأيت رجلا يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب ويدعو ويبكي في دعائه فتبعته حين «2» فرغ «3» من الصلاة فإذا هو عليّ بن الحسين، فقلت: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا وكذا، ولك ثلاثة أرجو أن تؤمّنك من الخوف أحدها: أنك ابن رسول الله، والثانية: شفاعة جدك، والثالثة: رحمة الله. فقال: يا طاووس أما أني ابن رسول الله فلا يؤمنني، وقد سمعت الله عزّ وجل يقول: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
، (المؤمنون: 101) ، وأما شفاعة جدّي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى
(الأنبياء: 28) ، وأما رحمة الله فإن الله عزّ وجلّ يقول: انها قريب من المحسنين، ولا أعلم أني محسن.
__________
[233] نثر الدر 1: 339.
[234] نثر الدر 1: 341، وربيع الأبرار: 243 ب، ولقاح الخواطر: 39 ب والكامل 2:
138.
[235] نثر الدر 1: 342، والعقد 3: 307، والكامل للمبرد 1: 255.(1/115)
[236]- وقال أيضا «1» : كلّ عين ساهرة يوم القيامة إلّا ثلاث عيون:
عين سهرت في سبيل الله تعالى، وعين غمضت عن محارم الله، وعين فاضت من خشية الله.
[237]- سئل محمد بن علي بن الحسين: لم فرض الله تعالى الصوم على عباده، فقال: ليجد الغنيّ من الجوع فيحنو على الضعيف.
[238]- قرّب إلى عليّ بن الحسين طهوره في وقت ورده، فوضع يده في الإناء ليتوضأ، ثم رفع رأسه فنظر إلى السماء والقمر والكواكب، فجعل يفكّر في خلقها حتى أصبح، وأذّن المؤذّن ويده في الإناء.
[239]- كان زيد بن موسى بن جعفر خرج بالبصرة ودعا إلى نفسه وأحرق دورا وعاث، ثمّ ظفر به وحمل إلى المأمون، قال زيد: لما دخلت إلى المأمون نظر إليّ ثمّ قال: اذهبوا به إلى أخيه أبي الحسن علي بن موسى الرضا، وتركني بين يديه ساعة، ثمّ قال: يا زيد سوأة لك، ما أنت قائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ سفكت الدماء وأخفت السبيل وأخذت المال من غير حلّه؟
لعلّه غرّك حديث حمقى أهل الكوفة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: إن فاطمة أحصنت فرجها وذريتها عن النار، إنّ هذا لمن خرج من بطنها، الحسن والحسين فقط، والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله، فلئن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوا بطاعته إنك إذا لأكرم على الله منهم.
__________
[236] نثر الدر 1: 343.
[237] نثر الدر 1: 344.
[238] ربيع الأبرار 1: 128.
[239] ربيع الأبرار: 305 ب وقوله «إن فاطمة أحصنت فرجها....» وأن ذلك يراد به الحسن والحسين فقط منسوب إلى جعفر الصادق في شرح النهج 18: 252، وانظر أيضا ربيع الأبرار 1: 747- 748 والجليس الصالح 2: 209 وتذكرة الخواص: 351.(1/116)
[240]- نظر عليّ بن الحسين عليهما السلام إلى الناس يضحكون في يوم فطر، فقال: إنّ الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخيب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء باساءته عن تجديد ثوب وترجيل شعر.
[241]- قال جعفر بن محمد: كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان.
__________
[240] البيان والتبيين 3: 137 للحسن البصري (يضحكون يوم فطر) ، والعقد 3: 199 للحسن في ناس يضحكون في شهر رمضان؛ وللحسن أيضا في مجموعة ورام 1: 78، ورأى الناس يضحكون في يوم فطر؛ وللحسن في بهجة المجالس 2: 335، إذ رأى الناس يضحكون يوم عيد، وله في زهر الآداب: 578.
[241] نثر الدر 1: 354 ومحاضرات الراغب 1: 174، والبصائر 7: 123، وربيع الأبرار:
370/أوالتمثيل والمحاضرة: 150، والمستطرف 1: 87.(1/117)
الفصل الثالث كلام الصّحابة رضي الله عنهم ومأثور أخبارهم وسيرهم
[242]- كان أبو بكر رضي الله عنه إذا مدح يقول: اللهم أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم منهم بنفسي، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
[243]- وقيل «1» له في مرضه: لو أرسلت إلى الطبيب، قال، قد رآني، قيل: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء.
[244]- ولما استخلف قال للناس: إنكم قد شغلتموني عن تجارتي فافرضوا لي، ففرضوا له كلّ يوم درهمين.
[245]- وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: دخلت عليه في علته
__________
[242] نثر الدر 2: 15، وزهر الآداب 1: 83، وربيع الأبرار: 355/أ (4: 155) وعيون الأخبار 1: 276، والمستطرف 1: 229، ومحاضرات الراغب 1: 381، وورد ضمن كلمة لعلي رقم: 173 ص: 94 وهو لعلي في أمالي المرتضى 1: 274.
[243] نثر الدر 2: 14، ومحاضرات الراغب 1: 431، وحلية الأولياء 1: 34، وصفة الصفوة 1: 100، وطبقات ابن سعد 3: 198 وزهد ابن حنبل: 113، وأدب الدنيا والدين:
125، وأنس المحزون: 11/أ.
[244] نثر الدر 2: 15، وطبقات ابن سعد 3: 184، 185، وصفة الصفوة 1: 97، ومحاضرات الراغب 1: 474.
[245] نثر الدر 2: 16، والعقد 4: 267، والكامل 1: 8، وحلية الأولياء 1: 34، وأنساب(1/119)
التي مات فيها، فقلت، أراك بارئا يا خليفة رسول الله فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي، إني ولّيت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذنّ نضائد الديباج ولتألمنّ النوم على الصوف الأذربيّ كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدّم أحدكم فتضرب عنقه بغير حلّ خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البجر. فقلت: اخفض عليك يا خليفة رسول الله، فإنّ هذا يهيضك إلى ما بك، فو الله ما زلت صالحا مصلحا، لا تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تحليت الأمر وحدك فما رأيت إلّا خيرا.
[246]- وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه والله لا شتمنك شتما يدخل معك قبرك «1» قال: معك والله يدخل لا معي.
__________
الأشراف (استانبول) : 704، ولقاح الخواطر: 8/أ، وورد في النص قوله: «إنما هو الفجر أو البجر» وقد ذهب هذا القول مثلا؛ انظر الميداني 1: 45، واللسان (بجر، بحر، فجر) ، ولفظة «البجر» تروى بالجيم وبالحاء المهملة؛ فالبجر- بالجيم- الداهية والبحر بالمهملة إشارة إلى غمرات الدنيا شبهها بالبحر؛ ومعنى القول: ان انتظرت حتى يضيء لك الفجر أبصرت قصدك وإن خبطت الظلماء وركبت العشواء هجما بك على المكروه.
[247]- بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن أقواما يفضلونه على أبي بكر فوثب مغضبا حتّى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أقبل على الناس فقال: إني أخبركم عنّي وعن أبي بكر، إنّه لمّا
[246] نثر الدر 2: 17، والعقد 2: 275، والكامل 1: 350، 3: 81 ومجموعة ورام 1:
125، والمستطرف 1: 194، وألف باء 1: 464، وشرح النهج 18: 379.
[247] نثر الدر 2: 16- 17، والكامل 1: 343.(1/120)
توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدّت العرب ومنعت شاتها وبعيرها، فاجتمع رأينا كلّنا أصحاب محمد أن قلنا: يا خليفة رسول الله إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمدّه الله تعالى بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك فإنه لا طاقة لك بالعرب، فقال أبو بكر: أوكلّكم رأيه هذا؟
فقلنا: نعم فقال: والله لأن أخرّ من السماء فتخطّفني الطير أحبّ إليّ من أن يكون «1» هذا رأيي.
ثمّ صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وكبّره وصلّى على النبيّ عليه السلام، ثمّ أقبل على الناس فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله تعالى فإنّ الله حيّ لا يموت، أيها الناس إن كثر اعداؤكم وقلّ عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرنّ هذا الدين على الأديان كلّها ولو كره المشركون، وقوله الحقّ ووعده الصدق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
(الأنبياء: 18) . وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
(البقرة: 249) ، أيها الناس، لو أفردت من جمعكم لجاهدتهم في الله حقّ جهاده حتى أبلغ من نفسي عذرا أو أقتل مقبلا، والله أيها الناس لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت بالله خير معين. ثم نزل فجاهد في الله حقّ جهاده، حتّى أذعنت العرب بالحقّ.
وهذا الخبر يدلّ على قوّة اليقين والإيمان والتشمير في ذات الله عزّ وجلّ على ما يوجب له التقديم والتسليم.
[248]- ومن كلامه «2» في خطبته يوم الجمعة: الوحى الوحى النجاء
__________
[248] نثر الدر 2: 18، وانظر عيون الأخبار 2: 232، وحلية الأولياء 1: 35- 36، وصفة الصفوة 1: 99.(1/121)
النجاء؛ وراءكم طالب حثيث، مرّه سريع، ففكّروا عباد الله فيمن كانوا قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم، أين الشباب الوضأة «1» المعجبون بشبابهم؟ صاروا كلا شيء، أين الملوك الذين بنوا الحوائط واتخذوا العجائب؟
تلك بيوتهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
(مريم: 98) أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ تضعضع بهم الدهر فصاروا رميما، أين من كنتم تعرفون من آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وقراباتكم؟ وردوا على ما قدّموا وحلّوا بالشقاوة والسعادة فيما بعد الموت. اعلموا عباد الله أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه خيرا، ولا يدفع به عنه سوءا إلّا بطاعته واتباع أمره، فإن أحببتم أن تسلم دنياكم وآخرتكم فاسمعوا وأطيعوا ولا تفرّقوا فتفرّق بكم السّبل، وكونوا إخوانا بما أمركم الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[249]- وقال في خطبة له: تعلمون «2» أنّ أكيس الكيس التّقى وانّ أعجز العجز الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتّى أعطيه حقّه، وأن أضعفكم عندي القويّ حتّى آخذ منه الحقّ، أيها الناس إنما أنا متّبع ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني.
[250]- وقال: أربع من كنّ فيه كان خيار «3» عباد الله: من فرح
__________
[249] نثر الدر 2: 20، وطبقات ابن سعد 3: 183، وعيون الأخبار 2: 234، وانظر العقد 4: 59، والكامل 1: 13، وصفة الصفوة 1: 98، وقوله «إن اكيس الكيس....
الفجور» في التمثيل والمحاضرة: 30 للحسن بن علي.
[250] نثر الدر 2: 23.(1/122)
للتائب، واستغفر للمذنب «1» ، ودعا للمدين «2» ، وأعان المحسن على إحسانه:
[251]- وروي أنّه قال لعمر رضي الله عنهما: إني مستخلفك من بعدي، وموصيك بتقوى الله. فإن لله تعالى عملا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنّه لا يقبل نافلة حتّى تؤدّى فريضة «3» ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحقّ في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ الميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلّا الباطل أن يكون خفيفا. إن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم أقول إني لأرجو أن أكون من هؤلاء، وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ولم ينكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم، قلت: إنّي لأخاف أن أكون من هؤلاء، وذكر العدل مع آية الرحمة «4» ، ليكون العبد [راغبا] راهبا ولا يتمنّى على الله تعالى غير الحقّ، ولا يلقي بيده إلى التّهلكة. فإن قبلت «5» وصيّتي فلا يكوننّ غائب أحبّ إليك من الموت، وهو آتيك، وإن أضعت وصيّتي فلا يكوننّ غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجز الله تعالى.
[252]- قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في خطبة له: إنما الدنيا
__________
[251] نثر الدر 2: 22، والبيان والتبين 2: 45، والعقد 3: 148، وطبقات ابن سعد 3:
200، وحلية الأولياء 1: 36، وصفة الصفوة 1: 100، وعين الأدب: 227، وربيع الأبرار: 375 أ- ب، وبهجة المجالس 1: 580- 581، والتعازي والمراثي: 116- 117، 220، ولباب الآداب: 21.
[252] نثر الدر 2: 29، والبصائر 2: 545.(1/123)
أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسيّر إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرءا فكّر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربّه «1» ، واستقال ذنبه.
[253]- وقال له «2» المغيرة: إنا بخير ما أبقاك الله. فقال عمر: أنت بخير ما اتقيت الله.
[254]- وخطب فقال: إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مؤدّية إلى السّقم، وعليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد من السّرف وأصحّ للبدن وأقوى على العبادة، وإنّ العبد لن يهلك حتّى يؤثر شهوته على دينه.
[255]- وقال «3» على المنبر: اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعلموا به تكونوا من أهله. إنه لن يبلغ من حقّ ذي حق أن يطاع في معصية الله عزّ وجلّ. إني أنزلت نفسي من مال الله عزّ وجلّ بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرّم البهمة الأعرابيّة: القضم لا الخضم.
__________
[253] نثر الدر 2: 29، ومجموعة ورام 2: 17، والحكمة الخالدة: 117، (يقولها رجل لعمر بن عبد العزيز) والبصائر 1: 16.
[254] نثر الدر 2: 30، والمجتنى: 36، والبصائر 3: 103، وبهجة المجالس 2: 73، والشريشي 5: 158.
[255] نثر الدر 2: 30- 31، 32، وطبقات ابن سعد 3: 276، والبيان والتبيين 2: 70، وعيون الأخبار 1: 54، والعقد 4: 62، والبصائر 3: 201، وأنساب الاشراف (مخطوطة استانبول) : 705، وكنز العمال 16: 152- 153، وقوله «إني أنزلت نفسي من مال الله....» في أنساب الأشراف: 696، 706، وورد قوله «تعلموا القرآن تعرفوا به ... الخ» منسوبا لعلي في عيون الأخبار 2: 352.(1/124)
[256]- وكتب إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإنه من اتّقى الله وقاه، ومن توكّل عليه كفاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فعليك بتقوى الله فإنّه لا ثواب لمن لا نيّة له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا جديد لمن لا خلق له.
[257]- ومن كتاب إلى أبي موسى: فإيّاك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرّت بواد خصب، فلم يكن لها همّ إلّا السّمن وإنما حتفها في السمن «1» .
[258]- وحضر باب عمر رحمه الله جماعة منهم سهيل بن عمرو، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فخرج الآذن فقال: أين صهيب؟
أين عمار؟ أين سلمان؟ فتغيّرت «2» وجوه القوم. فقال سهيل: لم تتغيّر «3» وجوهكم؟ دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطانا، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ «4» لهم من الآخرة أكثر.
[259]- وسأله عبد الرحمن أن يلين للناس فقال: الناس لا يصلح لهم
__________
[256] نثر الدر 2: 31، والعقد 3: 155، وعيون الأخبار 1: 249، وزهر الآداب 1: 40، وبهجة المجالس 2: 247- 248، وكنز العمال 16: 155.
[257] نثر الدر 2: 31 والبيان والتبيين 2: 293، وعيون الأخبار 1: 11، والعقد 1: 89، وحلية الأولياء 1: 50، وشرح النهج 12: 12، وكنز العمال 16: 160.
[258] نثر الدر 2: 33، والبيان والتبيين 1: 317، وعيون الأخبار 1: 85، ومحاضرات الراغب 4: 480، وقارن بزهد ابن حنبل 113- 114، وشرح النهج 17: 91- 92.
[259] نثر الدر 2: 35، ومحاضرات الراغب 1: 166، وقارن بالطبري 1: 2746، وانظر رقم:
1051، في ما يلي.(1/125)
إلّا هذا، ولو علموا ما لهم عندي لأخذوا ثوبي من عاتقي.
[260]- ومرّ عمر رضي الله عنه بشابّ فاستسقاه، فخاض له عسلا فلم يشرب وقال: إني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
(الأحقاف: 20) . فقال الفتى: إنها ليست لك، اقرأ ما قبلها: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
(الاحقاف: 20) . أفنحن منهم؟ فشربها وقال: كلّ الناس أفقه من عمر.
[261]- وكان يحمل الدقيق على ظهره إلى الفقراء فقال له بعضهم:
دعني أحمله عنك، فقال: ومن يحمل عني ذنوبي؟
[262]- وكتب «1» إلى عبيدة: أما بعد فإنه لم يقم أمر الله سبحانه وتعالى في الناس إلا حصيف العقدة بعيد الغرّة، لا يحنق في الحقّ على جرّة، ولا يطّلع للناس على عورة، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
[263]- وخطب فقال: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم، ولا تمنعوهم [حقوقهم] فتكفّروهم، ولا تجمّروهم فتفتنوهم.
[264]- وطلى بعيرا من الصدقة بالقطران، فقال له رجل: لو أمرت
__________
[260] نثر الدر 2: 36، وأنساب الأشراف (استانبول) : 696- 697، وشرح النهج 1: 182.
[261] نثر الدر 2: 40.
[262] نثر الدر 2: 43، والمجتنى: 72، وبهجة المجالس 1: 331، وعيون الأخبار 1: 9 والبيان 3: 255، وتسهيل النظر: 239، وكنز العمال 5: 436- 440 والمصباح المضيء 2:
130، ولقاح الخواطر: 9/أ.
[263] نثر الدر 2: 45، وتاريخ الطبري 1: 2741، 2742.
[264] نثر الدر 2: 48.(1/126)
عبدا من عبيد الصدقة كفا كه، فضرب صدره «1» وقال: عبد أعبد مني؟! [265]- وقال: كلّ عمل كرهت من أجله الموت فاتركه ثم لا يضرّك متى مت.
[266]- وقال: من زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته.
[267]- وقال: الناس طالبان: فطالب يطلب الدنيا فارفضوها في نحره، فإنه ربما أدرك الذي طلب منها فهلك بما أصاب منها، وربما فاته الذي طلب منها فهلك بما فاته منها «2» ، وطالب يطلب الآخرة، فإذا رأيتم طالب الآخرة فنافسوه.
[268]- وقال: استغزروا «3» العيون بالتذكر.
[269]- وقال أيضا: أيها الناس إنه أتى عليّ حين وأنا احسب أنه من
__________
[265] نثر الدر 2: 48، وشرح النهج 12: 117، وحلية الأولياء 3: 239، (لأبي حازم) وكذلك في زهر الآداب: 169.
[266] هو تكملة للرقم: 257، من كتابه لأبي موسى. انظر نثر الدر 2: 32، وبقية المصادر المذكورة في رقم 257.
[267] نثر الدر 2: 52- 53، والبيان والتبيين 3: 137- 138، وأدب الدنيا والدين: 128.
[268] نثر الدر 2: 53، والبيان والتبيين 1: 297، 3: 149، وعيون الأخبار 2: 298، وسراج الملوك: 172، وورد في أدب الدنيا والدين: 286 «لا تستفزوا العيون بالتذكر» وهو تحريف غريب؛ وانظر كنز العمال 16: 158.
[269] نثر الدر 2: 53، والبيان والتبيين 3: 138، والعقد 4: 64، وأنساب الأشراف (استانبول) : 696، والنص في شرح النهج 12: 22، بتغيير في الترتيب، وانظر كنز العمال 16: 162- 163.(1/127)
قرأ القرآن إنما يريد به الله تعالى وما عنده، ألا وقد خيّل إليّ أخيرا أن أقواما يقرأون القرآن يريدون به ما عند الناس، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وأريدوا الله بأعمالكم، فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبيّ بين أظهرنا، فقد رفع الوحي وذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا أعرفكم بما أقول لكم، ألا فمن أظهر لنا خيرا ظننّا به خيرا وأثنينا عليه، ومن أظهر لنا شرّا ظننّا به شرّا وأبغضناه عليه، اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلّاعة تنزع إلى شرّ غاية، إن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيف وبيء، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، وربّ نظرة زرعت شهوة، وربّ شهوة ساعة أورثت حزنا دائما.
[270]- بعث إلى عمر رضي الله عنه بحلل فقسمها، فأصاب كلّ رجل ثوب، ثم صعد المنبر وعليه حلّة، والحلة ثوبان، فقال: أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان الفارسي رحمه الله: لا نسمع، فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟ فقال: إنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك حلة فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله؛ ثمّ نادى يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله، الثوب الذي اتزرت به أهو ثوبك؟ قال: نعم، فقال سلمان: أما الآن فقل نسمع.
[271]- قال عمر رضي الله عنه: لو ماتت سخلة على شاطىء الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها.
__________
[270] نثر الدر 2: 33، وعيون الأخبار 1: 55، وسيرة عمر: 147، وصفة الصفوة 1:
215، والمصباح المضيء: 162.
[271] قارن بطبقات ابن سعد 3: 305، وحلية الأولياء 1: 53، وصفة الصفوة 1: 109، وتسهيل النظر: 144، وسيرة عمر (ابن الجوزي) : 113 والمصباح المضيء 1: 274، والشفا: 61 (باختلاف بين سخلة أو شاة أو جدي ... إلخ) ، ولقاح الخواطر: 29 ب.(1/128)
[272]- وقال: السلطان أربعة أمراء: فأمير قويّ ظلف نفسه وعمّاله فذلك المجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه بالرحمة؛ وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله بضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عمّاله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال [فيه] رسول الله صلّى الله عليه وآله: شرّ الرّعاء الحطمة، فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكا جميعا.
[273]- وقال عمر: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يديّ على من كان الحقّ من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين.
[274]- وقال عمر رضي الله عنه لعبد الله بن أرقم: اقسم بيت المال في كلّ شهر لا بل في كل جمعة؛ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، لو حبست شيئا بعده، عسى أن يأتيك أمر تحتاج إليه، فلو تركت عدة لنائبة ان نابت المسلمين، فقال عمر: كلمة ألقاها الشيطان على لسانك لقّاني الله حجّتها ووقاني فتنتها، لتكوننّ فتنة لقوم بعدي، أعصي الله العام مخافة عام قابل؟ أعدّ لهم ما أعدّ رسول الله عليه السلام، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
(الطلاق: 2، 3) .
[275]- ومن كلامه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله
__________
[272] الذهب المسبوك: 206، وعيون الأخبار 2: 340، والمصباح المضيء 2: 130.
[273] قارن بابن سعد 3: 290، والسعادة والاسعاد: 242.
[274] حلية الأولياء 7: 291، وقارن بأنساب الأشراف (استانبول) : 700 وشرح النهج 12:
7، ومحاضرات الراغب 1: 517، والبصائر 2: 455، ومجالس ثعلب: 23.
[275] هذه حكم متفرقة وقد جمعها الآبي في نثر الدر 2: 43، ما عدا «لا تعترض فيما لا يعنيك» و «تخشع ... المعصية» ، وفي كنز العمال 16: 262، أن سعيد بن المسيب قال: وضع عمر بن الخطاب للناس ثماني عشرة كلمة؛ وأورد زيادة عما جاء هنا؛ وانظر الموفقيات:
107، وعيون الأخبار 3: 12، وقوله «لا تظن بكلمة ... » في نهج البلاغة: 538، 9 1 التذكرة(1/129)
فيه. (وقد ورد هذا الكلام عن أبي ذر رضي الله عنه، ويرد فيما بعد) ضع أمر أخيك على أحسنه. لا تظنّ بكلمة خرجت من مسلم شرّا وأنت تجد لها في الخير محملا. لا تهاونوا بالحلف «1» بالله فيهينكم الله. لا تعترض فيما لا يعنيك. لا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغلا. اعتزل عدوّك، واحذر صديقك إلا الأمين، والأمين من خشي الله. تخشّع عند القبور، وذلّ عند الطاعة، واستغفر عند المعصية، واستشر في أمورك الذين يخشون الله.
[276]- لما حضر معاذ بن جبل الموت قال: انظروا أصبحنا؟ فأتي فقيل له: لم تصبح، فقال: انظروا أصبحنا؟ فأتي فقيل له: لم تصبح، حتى أتي في بعض ذلك فقيل له: قد أصبحت، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار؛ مرحبا بالموت، مرحبا بزائر مغبّ حبيب جاء على فاقة.
اللهم إني قد كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرّكب عند حلق الذكر.
[277]- قالت أم ذر: لما حضرت أبا ذرّ الوفاة بكيت، فقال: ما
__________
لعلي، وانظر روضة العقلاء: 90، والمحاسن والأضداد: 20 (ونسبها للرسول) وقوله: «ما عاقبت من عصى ... » في كتاب الآداب: 5، وربيع الأبرار: 727، وزهر الآداب:
1074 ورقم: 293، ونسب القول نفسه في الخصال 1: 20 لجعفر الصادق؛ وقوله «واحذر صديقك ... الله» في ربيع الأبرار 1: 463، وقوله «اعتزل عدوك ... خشي الله» في عيون الأخبار 3: 112.
[276] عيون الأخبار 2: 309، وحلية الأولياء 1: 239، وصفة الصفوة 1: 210، وزهد ابن حنبل: 180- 181، والعقد 3: 229، وأنس الوحيد: 16 ب وبعضه في البصائر 3: 626.
[277] أنساب الأشراف 4/أ: 545، وطبقات ابن سعد 4: 232- 235، وحلية الأولياء 1:
170، وصفة الصفوة 1: 243، وبعضه في نثر الدر 2: 77- 78، وربيع الأبرار 248 ب- 249/أ.(1/130)
يبكيك؟ قلت: أبكي أنه لا بدّ لي من تكفينك وليس لي ثوب من ثيابي يسعك كفنا، قال: فلا تبكي فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لنفر أنا فيهم: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كذبت ولا كذبت، فانظري الطريق، فقلت: أنّى وقد انقطع الحجّاج؟ فكانت تشتد الى كثيب «1» تقوم عليه ثم تنظر، ثم ترجع إليه فتمرّضه، ثم ترجع إلى الكثيب، فبينا هي كذلك إذا بنفر «2» تخبّ بهم رواحلهم كأنّهم عليها الرّخم، فألاحت بثوبها فأقبلوا حتى وقفوا عليها، فقالوا: ما لك؟
قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفّنونه، قالوا: من هو؟ قالت: أبو ذر، ففدّوه بآبائهم ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إليه حتى جاءوه، فقال:
أبشروا، فحدّثهم وقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر الخبر، وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوب لي أو لها، أنتم تسمعون إليّ، إني أنشدكم الله والإسلام أنّ يكفّنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا، فليس أحد من القوم إلا قارف بعض ما قال، إلا فتى من الأنصار، فقال: يا عمّ أنا أكفّنك، لم أصب مما ذكرت شيئا، أكفّنك في ردائي هذا الذي عليّ وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي، قال: أنت فكفّني، فكفّنه الأنصاريّ في النفر الذين شهدوه، ومنهم حجر بن الأدبر ومالك الأشتر «3» في نفر كلهم يمان.
[278]- ولما حضرت سلمان الفارسيّ الوفاة عرف منه بعض الجزع،
__________
[278] نثر الدر 2: 74- 75 (ببعض اختلاف) ، وطبقات ابن سعد 4: 90، 91، وحلية الأولياء 1: 197، وصفة الصفوة 1: 223، وزهد ابن حنبل: 152.(1/131)
فقالوا: ما يجزعك أبا عبد الله، وقد كان لك سابقة في الخير، شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغازي حسنة وفتوحا عظاما؟ فقال: يحزنني أنّ حبيبي محمدا عهد إلينا حين فارقنا، فقال: ليكف المؤمن كزاد الراكب، فهذا الذي حزنني؛ فجمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر دينارا.
[278 ب]- وعنه رحمه الله أنه أكره على طعام يأكله، فقال: حسبي حسبي، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أكثر الناس جمعا في الدنيا أكثرهم جزعا في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر.
[279]- كتب «1» أبو الدرداء إلى أخ له: أما بعد فلست في شيء من أمر الدنيا إلّا وقد كان له أهل قبلك، وهو صائر له أهل بعدك، وليس لك منه إلا ما قدّمت لنفسك، فآثرها على المصلح من ولدك، فإنك تقدم على من لا يعذرك، وتجمع لمن لا يحمدك. وإنما تجمع لواحد من اثنين: إما عامل فيه بطاعة الله يسعد بما شقيت له، وإما عامل فيه بمعصية الله فيشقى بما جمعت له، وليس والله أحد منهما بأهل أن تبرد له على ظهرك، ولا تؤثره على نفسك.
ارج لمن مضى منهم رحمة الله، وثق بمن بقي منهم رزق الله، والسلام.
[280]- قال عبد الله بن مسعود: إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة.
__________
[278] ب حلية الأولياء 1: 198 وقوله «إنما الدنيا سجن المؤمن ... » في العقد 3: 172 ومجموعة ورام 1: 128، 2: 55 والخصال 1: 108.
[279] حلية الأولياء 1: 216 وصفة الصفوة 1: 261- 262 ونسب لابي حازم في عيون الأخبار 2: 360- 361 وفي قوله: «وانما تجمع لواحد من اثنين ... » قارن بما تقدم لعلي رقم:
85.
[280] حلية الأولياء 1: 130 وصفة الصفوة 1: 163 وزهد ابن حنبل: 159 وقارن بربيع الأبرار: 246 ب (منسوبا لعمر بن الخطاب) والفوائد: 192.(1/132)
[281]- ومن كلام كان يقوله ابن مسعود: أيها الناس، إنكم مجموعون لصعيد واحد يسمعكم الداعي ويفقدكم البصر؛ إنّ أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشرّ الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعزّ الضلالة ضلالة بعد الهدى، وخير العمل ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشرّ العمى عمى القلب، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، وشرّ الندامة ندامة يوم القيامة، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، والغلول من جمر جهنم، والكبر كيّ من النار، والشعر مزامير إبليس، والخمر جامع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب أكل الربا والأمر بأخذه، وأملك العمل به خواتمه، وشرّ الروايا روايا الكذب، وسباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألّ على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزايا يعقبه الله، ومن يتبع السّمعة يسمّع الله به، ومن يثق بالدنيا تعجزه، ومن يطع الشيطان يعص الله، ومن يعص الله يعذّبه.
[282]- وروي «1» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل سعيد بن
__________
[281] نثر الدر 2: 69 والبيان والتبيين 2: 56- 57 والبصائر 7: 69- 72 (منسوبة للرسول) ومصنف عبد الرزاق 11: 159 (لابن مسعود) 11: 16 (للرسول) وانظر حلية الأولياء 1: 138 وصفة الصفوة 1: 162 وعين الأدب: 222 والفوائد: 191.
[282] مروج الذهب 3: 48- 49 وصفة الصفوة 1: 275 وألف باء 1: 442 وحلية الأولياء 1:
244.(1/133)
عامر بن خذيم الجمحي على حمص، فلما قدم عمر حمص قال: كيف وجدتم عاملكم؟ قال: وكان يقال لحمص الكويفة الصغرى لشكايتهم العمّال، قالوا: نشكو أربعا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحدا بليل، قال: عظيمة، وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج إلينا، قال: عظيمة، وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظ «1» بين الأيام حتى تأخذه موتة، قال: فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم لا تفيّل رأيي فيه اليوم؛ ما تشكون منه؟ قالوا لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال:
والله إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج اليهم، قال عمر: وما تشكون منه؟
قالوا: لا يجيب أحدا بليل، [قال: ما تقول؟] قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله؛ قال: وما تشكون منه؟
قالوا: إن له يوما في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: ليس لي خادم تغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثم أدكلها، ثم أخرج إليهم في آخر النهار. قال: وما تشكون منه؟ قالوا يغنظ الغنظ بين الأيام، قال:
شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة، فقالوا له: أتحبّ أن محمدا مكانك، فقال: والله ما أحبّ أني في أهلي ومالي وولدي وأنّ محمدا شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم، إلا ظننت أنّ الله لا يغفر لي بذلك الذنب أبدا، فيصيبني تلك الغنظة. فقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إلى من يأتينا بها(1/134)
أحوج ما نكون إليها. قالت: نعم، فدعا رجلا من أهل بيته يثق به، فصرّها صررا ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان. فبقيت ذهيبة، فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادما؟ ما فعل ذلك المال؟ قال:
سيأتيك أحوج ما تكونين.
[283]- وروي أن عمر رضي الله عنه بعث عمير بن سعد الأنصاري عاملا على حمص، فمكث حولا لا يأتيه خبره، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير، فو الله ما أراه إلا خائنا: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما جبيت من فيء مال المسلمين حين تنظر في كتابي هذا. قال: فأخذ عمير جرابه فجعل فيه زاده وقصعته وعلّق إداوته وأخذ عنزته «1» ، ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينة، فقدم وقد شحب لونه واغبّر وجهه وطال شعره، فدخل على عمر وسلّم عليه، فقال عمر: ما شأنك؟ فقال؟ عمير: ما ترى من شأني، ألست تراني صحيح البدن ظاهر الدم، معي الدنيا أجرّها بقرنيها؟
قال: وما معك؟ - وظنّ عمر أنه قد جاء بمال- فقال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض لي، فو الله ما الدنيا إلّا تبع لمتاعي، قال عمر: فجئت تمشي؟ قال: نعم. قال: ما كان أحد يتبرّع لك بدابة تركبها؟ قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك؛ فقال عمر:
بئس المسلمون خرجت من عندهم، فقال عمير: اتقّ الله يا عمر، قد نهاك
__________
[283] حلية الأولياء 1: 247 وصفة الصفوة 1: 291 وانظر البيان والتبيين 3: 43 وسراج الملوك:
223- 224 والمستطرف 1: 110 ومنه جزء يسير في محاضرات الراغب 1: 170 وألف باء 1: 448 والمنهج المسلوك 24/أ- 25/أ.(1/135)
الله عن الغيبة، وقد رأيتهم يصلّون صلاة الغداة، قال عمر: فأين بعثتك وأي شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سبحان الله، فقال عمير: لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك، بعثتني حتى أتيت البلدة فجمعت صلحاء أهلها فولّيتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به، قال فما جئتنا بشيء؟ قال: لا، قال:
جددوا لعمير عهدا، قال: إن ذلك لشيء، لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت، بلى لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أي أخزاك الله، فهذا ما عرّضتني له، ورجع إلى منزله، قال: وبينه وبين المدينة أميال، فقال عمر حين انصرف عمير: ما أراه الّا قد خاننا، فبعث رجلا يقال له الحارث وأعطاه مائة دينار وقال: انطلق إلى عمير حتى تنزل به كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالا شديدا فادفع إليه هذه المائة دينار.
فانطلق الحارث فإذا هو بعمير جالس يفلي قميصه إلى جنب الحائط، فسلّم عليه، فقال له عمير: انزل رحمك الله، فنزل ثم سأله فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة، قال: فكيف تركت أمير المؤمنين؟ فقال:
صالحا، قال: فكيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: ليس يقيم الحدود؟ قال: بلى ضرب ابنا له على أن أتى فاحشة فمات من ضربه. فقال عمير: اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلّا شديدا حبّه لك، قال: فنزل به ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرصة من شعير كانوا يخصّونه بها ويطوون، حتى علم أن قد أتاهم الجهد، فقال له عمير: إنك قد أجعتنا فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل، قال: فأخرج إليه الدنانير فدفعها إليه وقال: بعث بها أمير المؤمنين إليك فاستعن بها، فصاح وقال: لا حاجة لي فيها ردّها، فقالت له امرأته:
إن احتجت إليه وإلا فضعها موضعها، فقال عمير: والله مالي شيء أجعلها فيه، فشقّت المرأة أسفل درعها، فأعطته خرقة فجعلها فيها، ثم خرج فقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء، ثم رجع والرسول يظنّه يعطيه منها شيئا، فقال له(1/136)
عمير: اقرأ السلام مني أمير المؤمنين، فرجع الحارث إلى عمر، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين حالا شديدا، قال: فما صنع بالدنانير؟
قال: لا أدري، فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل، فدخل على عمر فقال له: ما صنعت بالدنانير؟ قال: صنعت ما صنعت، وما سؤالك عنها؟ فقال: أقسم بالله لتخبرنّي ما صنعت بها، قال:
قدّمتها لنفسي. قال: رحمك الله، وأمر له بوسق من طعام وثوبين، فقال:
أما الطعام فلا حاجة لي فيه، قد تركت في المنزل صاعين [من] شعير، إلى أن آكل ذلك قد جاء الله بالرزق، ولم يأخذ الطعام، وأما الثوبان فنعم، إن أمّ فلان عارية، فأخذهما ورجع إلى منزله، ولم يلبث أن هلك رحمه الله.
[284]- قال الشعبي: مرّ رجل في مراد على أويس القرنيّ فقال:
كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحمد الله، قال: كيف الزمان عليك؟
قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظنّ أنه لا يمسي، وإن أمسى ظنّ أنه لا يصبح، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار. يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحا، وإنّ علمه بحقوق الله لم يترك في ماله فضة ولا ذهبا، وإن قيامه بالحقّ لم يترك له صديقا.
وأويس وإن لم يكن صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه ذكره عليه السلام ونبّه عليه «1» بما شرف محله، فلهذا أضفته إلى ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
[285]- وقال عبد الله بن مسعود: إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا فلا تكونوا أعوان الشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا
__________
[284] طبقات ابن سعد 6: 164- 165 حلية الأولياء 2: 83 وصفة الصفوة 3: 28.(1/137)
الله العافية فانا أصحاب محمد كنّا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم على ما يموت، فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيرا، وإن ختم له بشرّ خفنا عليه.
[286]- لقي هرم بن حيان أويسا القرني فقال: السلام عليك يا أويس ابن عامر، فقال: وعليك [السلام] يا هرم بن حيان، قال: أما أنا فعرفتك بالصفة فكيف عرفتني؟ قال: عرفت روحي روحك، لأن أرواح المؤمنين تشامّ كما تشامّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. قال: إني أحبك في الله، قال: ما ظننت أن أحدا يحبّ في غير الله؛ قال: إني أريد أن أستأنس بك، قال: ما ظننت أنّ أحدا يستوحش مع الله. قال:
أوصني، قال: عليك بالأسياف، يعني ساحل البحر، قال: فمن أين المعاش؟ قال: أفّ أف، خالط الشكّ الموعظة، تفرّ إلى الله بدينك وتتهمه في رزقك؟! [287]- قال رجل لأم الدرداء: إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، وأجد قسوة شديدة، وأملا بعيدا. قالت: اطّلع في القبور واشهد الموتى.
[288] قال أبو بكر بن حفص: جاءت عائشة إلى أبيها رضي الله عنهما
__________
[286] طبقات ابن سعد 7: 132 وحلية الأولياء 10: 20 شرح النهج 3: 162- 163 وربيع الأبرار: 412 ب (4: 385) وقارن بما في حلية الأولياء 2: 84 وبهجة المجالس 2: 250 وعقلاء المجانين: 48- 51.
[287] البيان والتبيين 3: 159 وفي الشريشي 2: 4 ان رجلا سأل عائشة رضي الله عنها عما يحسه من قسوة فقالت: عد المرضى واشهد الجنائز وتوقع الموت.
[288] بعضه في زهد ابن حنبل: 109، 110 والتعازي والمراثي: 147، 219 وقارن أيضا ص:
111 وانظر طبقات ابن سعد 3: 196، 197 وبهجة المجالس 1: 368 وألف باء 1: 134 وبعضه في ربيع الأبرار: 248/أوالعقد 3: 232 والبصائر 2: 116 وفي ردّ أبي بكر ما.(1/138)
فرأته يعالج الموت، فتمثلت بهذا البيت: [من الطويل] .
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إليها كهيئة الغضبان، وقال: يا بنيّة ليس كذلك، ولكن:
جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
(ق: 19) وهو في قراءة ابن مسعود هكذا «1» ، قال: أي بنية إني كنت آثرتك بحائط، وإنه كان في نفسي منه شيء فرديّه، قالت: فرددته، قال: يا بنية إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لهم درهما ولا دينارا، ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا أنا متّ فابعثي بهنّ إلى عمر. فجاءه الرسول وعنده عبد الرحمن ابن عوف، فبكى عمر رضي الله عنه حتى سالت دموعه على الأرض وقال:
يرحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، ارفعهنّ يا غلام، فقال عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله يا أمير المؤمنين تسلب عيال أبي بكر عبدا حبشيا وبعيرا ناضحا وجرد قطيفة ثمنه خمس دراهم، قال: فما تأمر؟ قال: آمر بردهنّ على عياله، فقال: يخرج أبو بكر منهنّ عند الموت وأردهنّ أنا على عياله؟ لا يكون والله ذلك أبدا، الموت أسرع من ذلك.
[289]- وكتب سلمان الفارسي رحمه الله إلى أبي هريرة: إنك لن
__________
لديه إلى بيت المال انظر الروايات المختلفة في ابن سعد 3: 192- 195 والمصباح المضيء 1:
334؛ والبيت الذي استشهدت به عائشة لحاتم الطائي في ديوانه: 210 وروايته «أماويّ ما يغني ... » وورد في المصادر التي ذكرت القصة.
[289] نثر الدر 2: 75.(1/139)
تكون عالما حتى تكون متعلما، ولن تكون بالعلم عالما حتى تكون به عاملا.
[290]- وكتب إليه أيضا: إن نافرت الناس نافروك، وإن تركتهم تركوك «1» ، فأقرضهم من عرضك ليوم فقرك، وكفى بك ظالما ألا تراك مخاصما.
[291]- واشترى رجل بالمدائن شيئا فمرّ بسلمان، وهو أميرها، فلم يعرفه فقال: احمل هذا «2» يا علج، فحمله، فكان من يتلقّاه يقول ادفعه إليّ أيها الأمير، والرجل يعتذر وهو يقول: لا والله ما يحمله إلا العلج، حتى بلغ منزله.
[292]- وكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: إنما مالك لك أو للجائحة أو للوارث، فلا تكن أعجز الثلاثة.
[293]- وشتمه رجل فقال له أبو ذر: يا هذا لا تغرق في سبّنا ودع للصلح موضعا، فانا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
[294]- وقال أبو ذر: ما تقدر قريش أن تعمل بي؟ والله للذلّ أحبّ
__________
[290] نثر الدر 2: 75.
[291] نثر الدر 2: 74 وطبقات ابن سعد 4: 88 وصفة الصفوة 1: 219 ومحاضرات الراغب 1:
262.
[292] نثر الدر 2: 76 والبيان 3: 91 وغرر الخصائص: 239 وانظر العقد 1: 228 وقارن بالبصائر 1: 125 نقلا عن نوادر الأموي.
[293] نثر الدر 2: 76 وبهجة المجالس 1: 418 والعقد 2: 276 وحلية الأولياء 1: 163 وصفة الصفوة 1: 241 وعيون الأخبار 1: 285 وبهجة المجالس 1: 196 وعين الأدب: 171 وأدب الدنيا والدين: 245 (لأبي الدرداء) والمستطرف 1: 193 وقوله: فانا لا نكافئ ... فيه، من قول عمر وقد مرّ أيضا آنفا رقم: 275.
[294] نثر الدر 2: 77.(1/140)
إليّ من العزّ، ولبطن الأرض أحبّ إليّ من ظهرها.
[295]- ولما بنى معاوية خضراء دمشق أدخلها «1» أبا ذرّ، فقال له:
كيف ترى ما هاهنا؟ قال: إن كنت بنيتها من مال الله عز وجل فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيتها من مالك فأنت من المسرفين.
[296]- قال أبو الدرداء: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه. ولا يدري أساخط عليه ربه تعالى، أم راض عنه؛ وأبكاني: هول المطّلع، وانقطاع الأمل، وموقفي بين يدي الله سبحانه وتعالى لا أدري أيأمر بي إلى الجنة أم إلى النار.
[297]- سأل رجل بلالا وقد أقبل من الحلبة فقال: من سبق؟ قال المقربون. قال: إنما أسألك عن الخيل؟ قال: وأنا أجيبك عن الخير.
[298]- وقال رجل لعمار بن ياسر رحمه الله: أيها العبد الأجدع، وكانت أذنه قد أصيبت في سبيل الله، فقال: عيّر تموني بأحبّ أذني إليّ.
[299]- كان بين سعد بن أبي وقاص وبين خالد بن الوليد كلام،
__________
[295] نثر الدر 2: 75 وأنساب الأشراف 4/1: 542 وشرح النهج 8: 256.
[296] نثر الدر 2: 96 والبيان والتبيين 3: 151 وعيون الأخبار 2: 359 وحلية الأولياء 1: 207 وزهد ابن حنبل: 154 (منسوبا الى سلمان الفارسي) وشرح النهج 6: 234.
[297] نثر الدر 2: 99 والبيان والتبيين 2: 282 ومحاضرات الراغب 4: 440 وطبقات ابن سعد 3: 172 وانظر ما يأتي رقم: 471 حيث نسب مثله لعامر بن عبد قيس، وفي انساب الاشراف رواية أخرى عن بلال وكذلك انظر البصائر 2: 247 وطبقات ابن سعد 3: 172.
[299] نثر الدر 2: 103 وطبقات ابن سعد 2: 16 والعقد 2: 335 وحلية الأولياء 1: 94 وصفة الصفوة 1: 140 وبهجة المجالس 1: 397 وربيع الأبرار: 172 ب ونثر الدر 2: 111.(1/141)
فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد، فقال: مه إنّ ما بيننا لم يبلغ ديننا.
[300]- قال عمر في كلام له: العلم بالله يوجب الخشوع والخوف، وعدم الخوف دليل على تعطيل القلب من المعرفة، والخوف ثمرة العلم، والرجاء ثمرة اليقين، ومن طمع في الجنة اجتهد في طلبها، ومن خاف من النار اجتهد في الهرب منها، وللحبّ علامات وللبغض علامات، فمن وجدناه يعمل عمل أهل الجنة استدللنا بعمله على يقينه، ومن وجدناه يعمل عمل أهل النار استدللنا بعمله على شكه، ولو وجدنا رجلا يستدبر مكّة ذاهبا ثم زعم أنه يريد الحج لم نصدّقه، ولو وجدناه يؤمّها ثم زعم أنه لا يريدها لم نصدقه.
[301]- ومرّ عمر على معاذ بن جبل وهو قاعد عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم يبكي فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ لعلك ذكرت أخاك، إن ذكرته إنه لذلك أهل، قال: لا ولكن أبكاني شيء سمعته منه في مجلسي هذا، أو مكاني هذا. يقول صلّى الله عليه وسلّم: يسير الرياء شرك. إن الله يحبّ الأتقياء الأخفياء الأبرار، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كلّ سوداء مظلمة.
[302]- ومن كلام لقمان لابنه: يا بنيّ إنك حين سقطت من بطن أمك استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت لما استقبلت أقرب منك لما استدبرت.
[303]- وقال: يا بني كيف يذهل الناس عما يوعدون وهم كلّ يوم سراع إلى الوعد يذهبون.
[304]- قال هرم بن حيان لأويس: أوصني، فقال له أويس: ادع
__________
[301] شرح النهج 2: 183.(1/142)
الله أن يصلح لك ذنبك وقلبك فما تجد شيئا أشدّ عليك منهما، بينما قلبك مقبول إذا هو مدبر، وبينما هو مدبر إذا هو مقبل، ولا تنظر في صغر الخطيئة، ولكن انظر عظم من عصيت فإنك إن عظمتها فقد عظّمت الله، وإن صغّرتها فقد صغرتها أمره.
[305]- وقال له هرم: صلنا بالزيارة، فقال له أويس: قد وصلتك بما هو خير من الزيارة، الدعاء بظهر الغيب، إن الزيارة قد يعرض فيها الرياء والتزيّن.
[306]- كان معيقيب على بيت مال عمر، فكسح بيت المال يوما فوجد فيه درهما فدفعه إلى ابن لعمر، قال معيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال: ويحك يا معيقيب أوجدت في نفسك عليّ شيئا أو مالي ولك؟ قلت: وما ذاك؟ قال:
أردت أن تخاصمني أمّة محمد في هذا الدرهم يوم القيامة.
[307]- كتب عمر إلى أبي موسى: إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم، واحمل إليّ ما بقي مع زياد، ففعل؛ فلما كان عثمان، كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك ففعل، فجاء زياد بما معه فوضعه بين يدي عثمان، فجاء ابن لعثمان فأخذ استيدانة «1» من فضة فمضى بها، فبكى زياد، فقال له عثمان: ما يبكيك؟ قال: أتيت أمير المؤمنين عمر بمثل ما أتيتك، فجاء ابن له وأخذ درهما فأمر به فانتزع منه حتى بكى الغلام، وإن ابنك جاء فأخذ هذا فلم أر أحدا قال له شيئا، فقال عثمان: إن عمر كان يمنع أهله وأقرباءه ابتغاء وجه
__________
[305] صفة الصفوة 3: 29، وربيع الأبرار 2: 255.
[306] سيرة عمر (لابن الجوزي) : 75 والشفا: 83.
[307] قارن بشرح النهج 12: 106- 107.(1/143)
الله، وأنا أعطي أهلي وقرابتي ابتغاء وجه الله، ولن تلقى مثل عمر ولن تلقى مثل عمر، ثلاثا.
[308]- حدث زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا على واقم فإذا نار تؤرّث بضرام، فقال يا أسلم: إني أحسب هؤلاء ركبا يضربهم «1» الليل والبرد، انطلق بنا إليهم، قال: فخرجنا نهرول حتى أتينا إليهم، فإذا امرأة توقد تحت قدر ومعها صبيان يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم أصحاب الضوء، وكره أن يقول أصحاب «النار» ، أدنو؟ فقالت:
ادن بخير أو دع، قال: ما بالكم؟ قالت: يضربنا البرد والليل، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فما هذه القدر؟ قالت:
ماء أسكتهم به، الله بيننا وبين عمر، قال: وما يدري عمر؟ قالت: يتولّى أمرنا ثم يغفل عنّا، فأقبل عليّ فقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق فيه كبّة من شحم، فقال: أتحمله علي، قلت: أنا أحمله عنك قال: احمله علي، قلت: أنا أحمله عنك «2» . قال:
أنت تحمل وزري عني يوم القيامة؟ لا أمّ لك، احمله عليّ، فحملته عليه، فخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها، ثم أخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول للمرأة ذرّي عليّ وأنا أحركه، يعني أسوطه، وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته حتى أنضج فأخذ من الشحم فأدمها به، ثم قال: ابغيني شيئا، فجاءته بصحفة
__________
[308] تاريخ الطبري 1: 2743 وشرح النهج 12: 47- 49 والشفا: 82 وسيرة عمر (ابن الجوزي) : 48 والمنهج المسلوك: 13/أولقاح الخواطر: 56/أوالقصص عن عسّه بالليل مختلفة، قارن بالمصباح المضيء 1: 342.(1/144)
فأفرغ القدر فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم، وأنا أسطح «1» لك، يعني أبرّده لك، حتى أكلوا وشبعوا، ثم خلّى عندها فضل ذلك، فقالت له: جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين قال: قولي خيرا، إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك، ثم تنحّى قريبا وربض مربض السبع، فقلت: إنّ لك شأنا غير هذا؛ فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ويضحكون ثم ناموا، فقام وهو يحمد الله ثم أقبل عليّ «2» فقال: يا أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى منهم مثل الذي رأيت.
[309]- اغتاظت عائشة على خادمها، فقالت: لله درّ التقوى ما ترك لذي غيظ «3» شفاء.
[310]- لما بنى سعد بن أبي وقاص منزله بالعقيق قيل له تركت مجالس إخوانك، وأسواق الناس ونزلت العقيق، فقال «4» : رأيت أسواقهم لاغية، ومجالسهم لاهية، فوجدت الاعتزال فيما هناك عافية.
[311]- قال خارجة بن مصعب: ختم القرآن في الكعبة في ركعة أربعة من الأئمة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير وأبو حنيفة.
__________
[309] أدب الدنيا والدين: 245.
[310] ربيع الأبرار 1: 768 والعزلة: 17 (ونسبه لعروة) والمستطرف 1: 86 والبصائر 1: 175 والصداقة والصديق: 97 (لعروة) .
[311] ربيع الأبرار: 163 ب والمستطرف 1: 7.
10 1 التذكرة(1/145)
[312]- قال عمر رضي الله عنه: جالسوا التوابين فإنهم أرقّ أفئدة.
[313]- وقال أيضا: يا ابن آدم لا يلهك الناس عن نفسك، فإنّ الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع النهار سادرا «1» فإنه محفوظ عليك ما عملت، وإذا أسأت فأحسن فإني لم أر شيئا أشدّ طلبا ولا أسرع دركا من حسنة حديثة لذنب قديم.
[314]- قال أبو ذر لغلامه: لم أرسلت الشاة على علف الفرس؟
قال: أردت أن أغيظك، قال: لأجمعن مع «2» الغيظ أجرا، أنت حرّ لوجه الله.
[315]- قال «3» الحسن: كان عطاء سلمان الفارسي خمسة آلاف، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين، وكان يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، فإذا خرج عطاؤه تصدّق به وأكل من سفيف يده.
[316]- كان أبو بكر رضي الله عنه يقول إذا حضرت الصلاة: قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها.
__________
[312] زهد ابن حنبل: 120 وزهد ابن المبارك: 42 وربيع الأبرار 1: 727 وروضة العقلاء:
31.
[313] البيان والتبيين 3: 143 وشرح النهج 12: 117 والبصائر 4: 123 وربيع الأبرار 1: 758 وكنز العمال 16: 158 وسيأتي القول منسوبا لمطرف بن عبد الله بن الشخير رقم: 419 وهو لمطرف في البيان والتبيين 3: 172.
[314] نثر الدر 2: 77 والبصائر 2: 331- 332 والمستطرف 1: 193.
[315] حلية الأولياء 1: 197- 198 وصفة الصفوة 1: 217 وزهد ابن حنبل: 150 وطبقات ابن سعد 4: 87 وربيع الأبرار 4: 377.
[316] ربيع الأبرار: 163/أ، 164/أ، والمستطرف 1: 7.(1/146)
[317]- وجّه عمر رضي الله عنه إلى ملك الروم بريدا فاشترت امرأة عمر، أمّ كلثوم بنت عليّ، طيبا بدينار وجعلته في قارورتين وأهدته إلى امرأة «1» ملك الروم، فرجع البريد بملء القارورتين من الجواهر «2» ، فدخل عليها عمر وقد صبّته في حجرها فقال: من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه وقال: هذا للمسلمين، فقالت: كيف وهو عوض من هديتي، قال: بيني وبينك أبوك، فقال عليّ: لك منه بقيمة دينارك والباقي للمسلمين لأن بريد المسلمين حمله.
[318]- مرّ عمر براع مملوك فاستباعه شاة، فقال: ليست لي، فقال: أين الغلل؟ فقال: أين الله؟ فاشتراه وعتقه، فقال: اللهم قد رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر.
[319]- قال الفضيل: ما ينبغي لك أن تتكلم بفمك كلّه، تدري من كان يتكلم بفمه كله؟ عمر بن الخطاب، كان يطعمهم الطّيب ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللّين ويلبس الخشن، ويعطيهم الحقّ ويزيدهم، وأعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم وزاده ألفا فقيل له: ألا تزيد ابنك كما تزيد هذا؟ فقال: إن هذا ثبت أبوه يوم أحد ولم يثبت أبو هذا.
[320]- قال الحسن: أتى عمر رضي الله عنه مال كثير فأتته حفصة
__________
[317] ربيع الأبرار 2: 287.
[318] البيهقي: 572 والبصائر 7: 119 (وأسند الخبر إلى ابن عمر) ومحاضرات الراغب 2: 402، 1: 211 (وفي الموضع الثاني نسبه إلى ابن عمر) . وهو لابن عمر في ربيع الأبرار 3: 15- 16.
[319] شرح النهج 11: 100 وربيع الأبرار: 244/أ (3: 73) .
[320] زهد ابن حنبل: 116 وطبقات ابن سعد 3: 277- 278 وقارن بأنساب الاشراف (استانبول) : 698 وربيع الأبرار: 245 ب.(1/147)
فقالت: يا أمير المؤمنين حق أقربيك، فقد أوصى الله بالأقربين، فقال: يا حفصة إنما حقّ أقربائي من مالي، فأما مال المسلمين فلا، يا حفصة نصحت قومك وغششت أباك، فقامت تجرّ ذيلها.
[321]- قال أبو الدرداء: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، فمن لم يصدّقني فإنّ الله تعالى يقول: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ
(آل عمران: 198) ، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
(آل عمران: 178) .
[322]- قال ابن عمر: تضرّعت إلى ربي سنة أن يريني أبي في النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه فسألته فقال: لولا رحمة الله هلك أبوك، إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه، وقال: فعل هذا بالتقيّ الطاهر، فكيف بابن المترف عمر بن عبد العزيز؟!
__________
[321] ربيع الأبرار: 361/أوالمحاسن والأضداد: 254 وشرح النهج 8: 291 والحكمة الخالدة:
162 وتحسين القبيح: 72 (لابن مسعود مع اختلاف يسير) ومحاضرات الراغب 2: 497.
[322] ربيع الأبرار: 401 ب (4: 339) .(1/148)
الفصل الرابع في أخبار التّابعين وسائر طبقات الصالحين رضي الله عنهم وكلامهم ومواعظهم
[323]- قال الحسن البصري: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يتمتع بما جمع، ولم يدرك ما أمّل، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه.
[324]- كتب سفيان الثوري إلى أخ له: واحذر حبّ المنزلة فإن الزهادة فيها أشدّ من الزهادة «1» في الدنيا.
[325]- وقيل لسفيان: أيكون الرجل زاهدا ويكون له المال؟ قال:
نعم إن كان إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر.
[326]- أتى رجل بعض الزهاد، فقال له الزاهد: ما جاء بك؟
قال: بلغني زهدك، قال: أفلا أدلك على من هو أزهد مني؟ قال: من هو؟ قال: أنت، قال: وكيف ذاك، قال: لأنك زهدت في الجنة وما أعدّ الله فيها، وزهدت أنا في الدنيا على فنائها وذمّ الله إياها، فأنت أزهد مني.
__________
[324] حلية الأولياء 6: 387 وقارن بربيع الأبرار 1: 829 «اياك وطلب المحمدة الى الناس وحبها فإن الزهد فيها أشد من الزهد في الدنيا» .
[325] حلية الأولياء 6: 387- 388.
[326] عين الأدب: 197 وقارن بنثر الدر 2: 172، 7: 65 (رقم: 29) والبصائر 4: 188.(1/149)
[327]- لما «1» ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ بلحمته وأهل بيته وأخذ ما كان في أيديهم فسمّى أعمالهم المظالم، ففزعت بنو أمية إلى عمّته فاطمة بنت مروان، فأرسلت إليه: إنه قد عناني أمر لا بدّ من لقائك فيه، فأتته ليلا فأنزلها عن دابتها، فلما أخذت مجلسها قالت: تكلّم يا أمير المؤمنين، فقال:
إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة، ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافّة، ثم اختار له ما عنده فقبضه اليه، وترك لهم نهرا شربهم فيه شربا، ثم قام أبو بكر رضوان الله عليه فترك النهر على حاله، ثم قام عمر فعمل على أمر صاحبه، فلما ولي عثمان اشتقّ من ذلك النهر نهرا، ثم ولي معاوية فاشتقّ الأنهار، ثم لم يزل ذلك النهر يشتقّ منه يزيد ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان، حتى أفضى الأمر إليّ، وقد يبس النهر الأعظم، ولن تري أصحاب النهر حتى يعود النهر الأعظم إلى ما كان عليه. فقالت له: قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأما إذا كانت هذه مقالتك فلست بذاكرة لك شيئا، ورجعت إلى بني أمية فقالت:
ذوقوا مغبة أمركم في تزويجكم إلى عمر بن الخطاب. وأمّ عمر بن عبد العزيز أمّ عاصم بنت [عاصم بن] عمر بن الخطاب.
[328]- ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة جمع ولده حوله، فلما رآهم استعبر ثم قال: بأبي وأمي من خلّفتهم بعدي فقراء، فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين فتعقّب فعلك وأغنهم فما يمنعك أحد في حياتك ولا
__________
[327] قارن بصفة الصفوة 2: 69- 70 وطبقات ابن سعد 5: 373 وبسيرة عمر (ابن كثير) :
108- 109 وشرح النهج 17: 103- 104 وربيع الأبرار: 245/أوالمستطرف 1:
102.
[328] قارن بصفة الصفوة 2: 71.(1/150)
يرتجعه الوالي بعدك، فنظر إليه نظر مغضب متعجّب ثم قال: يا مسلمة منعتهم إياه في حياتي وأشقى به بعد وفاتي؟! إن ولدي بين رجلين: إما مطيع لله فالله تعالى مصلح شأنه ورازقه ما يكفيه، أو عاص له فما كنت لأعينه على معصية؛ يا مسلمة إني حضرت أباك حين دفن فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من الله عز وجل هالني وراعني، فعاهدت الله أني لا أعمل مثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك طول حياتي، وأرجو أن أفضي إلى [عفو من] الله وغفران. قال مسلمة: فلما دفن حضرت دفنه، فلما فرغ من شأنه حملتني عيني فرأيته فيما يرى النائم وهو في روضة خضراء فيحاء وأنهار مطّردة، وعليه ثياب بيض، فأقبل عليّ وقال: يا مسلمة، لمثل هذا فليعمل العاملون، هذا أو نحوه.
[329]- وكتب إليه الحسن البصري لما استخلف: من الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز- فقيل له: إن الرجل قد ولي وتغيّر فقال: لو أعلم أن غير ذلك أحبّ إليه لاتبعت محبّته- أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل. قال: فمضى الرسول بالكتاب إليه، فإنه لعنده يتوقّع الجواب إذ خرج يوما غير جمعة حتى صعد المنبر واجتمع الناس، فلما كثروا قام فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم في أسلاب الماضين، وسيرثكم الباقون، حتى نصير إلى خير الوارثين، كلّ يوم تجهّزون غاديا إلى الله ورائحا، وقد حضر أجله وطوي عمله، وعاين الحساب، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، ثم يدعونه غير موسّد ولا ممهّد، ثم وضع يديه على وجهه فبكى مليا، ثم رفعهما فقال: أيها الناس من وصل إلينا بحاجة لم نأله خيرا، ومن عجز فو الله لوددت أنه وآل عمر في العجز سواء؛ قال: ثم نزل فكتب إلى الحسن: أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات، والسلام.(1/151)
[330]- قال المعروف بجسر «1» القصاب: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز فمررت براع وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئبا، فحسبتها كلابا، ولم أكن رأيت الذئاب قبل ذلك، فقلت: يا راعي، ما ترجو بهذه الكلاب كلّها؟ فقال: يا بنيّ، إنها ليست كلابا إنما هي ذئاب، فقلت:
سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها؟ فقال: يا بنيّ إذا صلح الرأس، فليس على الجسد بأس.
[331]- وخطب عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حيّ لمعرق في الموت، والسلام عليكم.
[332]- ولما مات عبد الملك ابنه جعل عمر يثني عليه «2» فقال له مسلمة: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا، قال: ولم أنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زيّن في عيني [منه] ما زيّن في عين الوالد من ولده.
[333]- وروي أنّ مولى لعمر قال له، وقد رجع من جنازة سليمان:
مالي أراك مغتما؟ قال: مثل ما أنا فيه يغتمّ له، ليس أحد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقّه غير كاتب إليّ فيه
__________
[330] حلية الأولياء 5: 255 وقارن بما في طبقات ابن سعد 5: 387.
[331] حلية الأولياء 5: 265 وطبقات ابن سعد 5: 398 وبعضه في حلية الأولياء 5: 298 وانظر غرر الخصائص: 115.
[332] حلية الأولياء 5: 267 وزهد ابن حنبل: 301.
[333] حلية الأولياء 5: 289 وصفة الصفوة 2: 66 وزهد ابن حنبل: 292.(1/152)
ولا طالبه مني.
[334]- وقال عمر لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة تفكرا، قال:
فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة «1» في قبره لا ستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوامّ ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان، مع تغيّر الريح وبلى الأكفان، بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة وخرّ مغشيا عليه، فقالت فاطمة: يا مزاحم، ويحك أخرج هذا الرجل عنّا فلقد نغّص على أمير المؤمنين الحياة منذ ولي، فليته لم يكن، فخرج الرجل، فجاءت فاطمة تصبّ على وجهه الماء وتبكي حتى أفاق من غشيته، فرآها تبكي فقال: ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بين يدي الله عز وجل للموت وتخلّيك من الدنيا وفراقك لنا، فذاك الذي أبكاني. قال: حسبك يا فاطمة فلقد أبلغت، ثم مال ليسقط فضمّته إليها وقالت: بأبي أنت يا أمير المؤمنين ما نستطيع أن نكلمك بكلّ ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل على حاله تلك حتى حضرته الصلاة فصبّت على وجهه ماء ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق فزعا.
[335]- وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الموسم: أما بعد فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم الحجّ الأكبر أني بريء من ظلم من ظلمكم، وعدوان من اعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو
__________
[334]- حلية الأولياء 5: 268- 269 وسيرة عمر (ابن كثير) : 82- 83 وسيرة عمر (ابن الجوزي) : 187.
[335] حلية الأولياء 5: 292- 293.(1/153)
تعمدته، إلا أن يكون وهما مني، أو أمرا خفي عليّ لم أتعمده، وأرجو أن يكون ذلك موضوعا عنّي مغفورا لي إذا علم مني الحرص والاجتهاد. ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معوّل كلّ مظلوم، ألا وأيّ عامل من عمالي رغب عن الحقّ ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيّرت أمره إليكم حتى يراجع الحقّ وهو ذميم. ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم ولا أثرة على فقرائكم في شيء من فيئكم، ألا وأيّما وارد ورد في أمر يصلح الله به خاصّا أو عاما من «1» هذا الدين فله بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار على قدر ما نوى من الحسنة وتجشّم من المشقة. رحم الله امرءا لم يتعاظمه سفر يحيي الله «2» به حقا لمن وراءه. لولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أمورا من الحقّ أحياها الله، وأمورا من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري، والسلام.
[336]- وقال عمر: ما أحبّ أن يخفّف عني الموت لأنه آخر ما يؤجر المسلم عليه.
[337]- وقال رجاء بن حيوة: قوّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة اثنا عشر درهما، فذكر قميصه ورداءه وقباءه وسراويله وعمامته وقلنسوته وخفّيه.
[338]- وقيل إنه كان في إمارته على المدينة إذا غسل ثيابه أعطي غاسلها دراهم ممن يغسل ثيابه بعدها من كثرة الطّيب، وكان يلبس الرقيق من الثياب
__________
[336] حلية الأولياء 5: 317.
[337] حلية الأولياء 5: 323، ومحاضرات الراغب 2: 366 وصفة الصفوة 2: 67 وشرح النهج 11: 197 وألف باء 1: 449 وسيرة عمر (ابن الجوزي) 75، 85 والشفا: 86.
[338] نثر الدر 2: 118 والبصائر 2: 603.(1/154)
ويبالغ في أثمانها.
[339]- وقال عمر لجلسائه: أخبروني بأحمق الناس؟ قالوا: رجل باع آخرته بدنياه، فقال: ألا أنبئكم بأحمق منه؟ قالوا: بلى، قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره.
[340]- وروي «1» أنه أتي بعنبرة من اليمن، فوضع يده على أنفه بثوبه.
فقال له مزاحم: إنما هو ريحها يا أمير المؤمنين، قال: ويحك يا مزاحم، وهل ينتفع من الطّيب إلا بريحه، (وإنما اقتدى في ذلك بعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه الكافور من فتح العراق، فإنه فعل مثل هذا الفعل فيه، وقال مثل هذه المقالة) .
[341]- ولما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر بن عبد العزيز دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أقفرت أفواه ولدك من هذا المال، فتركتهم عيلى لا شيء لهم. فلو «2» أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتك، فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك إنّي أقفرت أفواه ولدي من هذا المال، فإني والله ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك لو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتي، فإن وصيي وولييّ فيهم
__________
[339] حلية الأولياء 5: 325 وشرح النهج 18: 329 وقارن بالايجاز والاعجاز: 27 حيث أورد القول منسوبا للحاكم وزير نوح بن نصر.
[340] حلية الأولياء 5: 326 وقارن بطبقات ابن سعد 5: 368 وبسيرة عمر (ابن عبد الحكم) :
40 ومطالع البدور 1: 62.
[341] نثر الدر 2: 128 وحلية الأولياء 5: 333 وصفة الصفوة 2: 71 وسيرة عمر (ابن عبد الحكم) : 97- 98 وألف باء 1: 458 وقارن برقم: 328 في ما تقدّم.(1/155)
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
(الأعراف: 196) .
بنيّ أحد رجلين إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجا، وإما رجل مكبّ على المعاصي فإني لم أكن لأقوّيه على معصية الله. ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكرا، قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه فبكى ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلى لا شيء لهم، بل بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بنيّ إنكم لن تلقوا أحدا من العرب ولا من المعاهدين «1» إلا أنّ لكم عليه حقا، أي بنيّ إن أباكم ميّل «2» بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحبّ إليه من أن تستغنوا ويدخل النار؛ قوموا عصمكم الله.
[342]- لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة دعا ابنه محمدا فأوصاه وقال: يا بني إني أرى داعي الموت «3» لا يقلع، وبحقّ إنّ من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع، يا بنيّ: ليكن أولى الأمور بك تقوى الله في السرّ والعلانية والشكر لله وصدق الحديث والنيّة، فإن الشكر مزيد والتقوى خير زاد، كما قال الحطيئة: [من الوافر] .
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكنّ التقيّ هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد
«4»
__________
[342] البيان والتبيين 2: 113- 114، 262 والعقد 3: 186 وأمالي القالي 2: 202 وأنس المحزون: 6/أوالأغاني 2: 146 ولباب الآداب: 22 والحماسة البصرية 2: 67 وديوان الحطيئة: 393 (وهي ملحقة بديوانه) وورد البيتان الأول والثاني في الحماسة البصرية 2: 424 وهما منسوبان لعبد الله بن المخارق نابغة بني شيبان وكذلك في حماسة البحتري: 159 وهما من قصيدة طويلة في ديوانه: 35.(1/156)
وما لا بدّ أن يأتي قريب ... ولكن الذي يمضي بعيد
[343]- وقال بعضهم: الايام ثلاثة فأمس حكيم مؤدّب أبقى فيك موعظة وترك فيك عبرة، واليوم ضيف كان عنك طويل الغيبة وهو عنك سريع الظعن، وغدا لا تدري من صاحبه.
[344]- وأنشد الرياشي: [من البسيط] .
حتّى متى نحن في الأيام نحسبها ... وإنما نحن فيها بين يومين
يوم تولّى ويوم نحن نأمله ... لعله أجلب الأيام للحين
[345]- وقال الأقرع بن معاذ: [من الطويل] .
وقد هوّن الدنيا عليّ وأهلها ... منازل قد بادت وبادت قرونها
وأني أراني للمنايا رهينة ... وأنّ المنايا لا يفكّ رهينها
[346]- وقال أيضا: [من الطويل] .
بكت أمّ بكر أن تشتّت شملها ... وأن أصبحوا منهم شعوب وهالك
فقالت كذاك الناس ماض ولابث ... وباك قليلا شجوه ثم ضاحك
فإمّا تريني اليوم حيّا فإنني ... على قتب من غارب الموت وارك
[347]- قال خالد بن صفوان بن الأهتم: أوفدني يوسف بن عمر إلى
__________
[343] بهجة المجالس 2: 330 وحلية الأولياء 7: 305 والنمر والثعلب: 110 (71) وقارن بما قاله سفيان الثوري (حلية الأولياء 7: 287) .
[345] الأقرع بن معاذ: اسمه الأشيم بن معاذ القشيري وقيل اسمه معاذ بن كليب، كان في أيام هشام ابن عبد الملك، وكان يناقض جعفر بن علبة الحارثي اللص (معجم المرزباني: 291) .
[347] الذهب المسبوك: 183- 186 وعيون الأخبار 2: 341 والأغاني 2: 136 والامامة(1/157)
هشام بن عبد الملك في وفد أهل العراق، قال: فقدمت عليه، وقد خرج بقرابته وحشمه وحاشيته وجلسائه فنزل في أرض قاع صحصح، في عام قد بكّر وسميّه وتتابع وليّه، وأخذت الأرض زينتها، فهي في أحسن منظر، قال:
وقد ضرب له سرادق من حبر كان يوسف بن عمر صنعه له باليمن، فيه فسطاط فيه أربعة أفرشة من خزّ أحمر، مثلها مرافقها، وعليه درّاعة من خزّ أحمر مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم، قال فأخرجت رأسي من ناحية السمّاط، فنظر إليّ شبه المستنطق لي، فقلت: أتمّ الله نعمه عليك يا أمير المؤمنين، وجعل ما قلّدك من هذا الأمر رشدا، وعاقبة ما يؤول إليه حمدا، أخلصه الله لك بالتقى وكثّره لك بالنماء، ولا كدّر عليك ما صفا، ولا خالط سرورك الأذى، فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة [ومستراحا]- إليك يقصدون في مظالمهم ويفزعون في أمورهم، وما أجد شيئا هو يا أمير المؤمنين أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن أمير المؤمنين أخبرته به، قال: فاستوى جالسا وكان متكئا ثم قال: هات يا ابن الأهتم، قلت: يا أمير المؤمنين، إنّ ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامك هذا إلى الخورنق والسّدير، وكان قد أعطي فتاء السنّ مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر، ثم قال لجلسائه: هل رأيتم مثل ما أنا فيه وهل أعطي مثل ما أعطيت؟ قال: وعنده رجل من بقايا حملة الحجّة والمضيّ على أدب الحقّ ومنهاجه، قال: ولم تخل الأرض من قائم لله عز وجل بحجّة في عباده، فقال: أيها الملك إنك قد سألت عن أمر، أفتأذن في الجواب عنه؟ قال: نعم، قال: أرأيت الذي أنت فيه أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك؟ قال: كذلك هو، قال: فلا أراك إلا أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا وتغيب عنه طويلا، وتكون غدا بحسابه
__________
والسياسة 2: 105 ومعجم الأدباء 11: 28- 34 والمصباح المضيء 2: 110 وقصيدة عدي بن زيد في ربيع الأبرار 1: 596- 598 وعيون الأخبار 3: 115 والشريشي 3:
393- 394 ومنها عشرة أبيات في العقد 3: 191 وديوان عدي: 84 (وفيه تخريج كثير) .(1/158)
مرتهنا، قال: ويلك فأين المهرب وأين المطلب؟ قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله، على ما ساءك وسرّك وأمضّك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك وتلبس أطمارك وتعبد ربّك حتى يأتيك أجلك، قال: فإذا كان السحر فاقرع عليّ بابي، فإني مختار أحد الرأيين فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا يعصى، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا يخالف، فقرع عليه الباب عند السّحر، فإذا هو قد وضع تاجه ولبس أمساحه وتهيّأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، وهو حيث يقول عدي بن زيد العباديّ: [من الخفيف] .
أيها الشامت المعيّر بالده ... ر أأنت المبرّأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيا ... م بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى، كسرى الملوك أنوشر ... وان، أم أين قبله سابور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وشيّده كل ... سا فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك منه فبابه مهجور
وتذكّر ربّ الخورنق اذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير
سرّه ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والإ ... مّة وارتهم هنالك القبور
ثم أضحوا كأنّهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور
قال: فبكى والله هشام حتى اخضلّت لحيته وبلّ عمامته، وأمر بنزع أبنيته ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان وقالوا: ما أردت إلى أمير المؤمنين؟ أفسدت عليه لذته ونغّصت عليه باديته، فقال: إليكم عنّي فإنّي عاهدت الله عهدا ألا أخلو بملك إلا ذكّرته الله عزّ وجل.(1/159)
[348] قال الحسن بن أبي الحسن البصري: المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا، ولا يسعه إلا ذلك لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيبه فيه من المهالك.
[349]- وقال الحسن: يحقّ لمن يعلم أن الموت مورده، وأن القيامة موعده، وأن القيام بين يدي الله مشهده، أن يطول حزنه.
[350]- ومن كلام الحسن رحمه الله: وقد يدلّك على شرّ هذه الدار، أن الله زواها عن أنبيائه وأحبّائه اختبارا، وبسطها لغيرهم اعتبارا واغترارا، فيظنّ المغرور فيها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنع بمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيه ورسوله، وبموسى المصطفى بالكرم وبمناجاة المختار له، فأمّا محمد فشدّ الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى الكليم فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، وما سأل الله يوم أوى إلى الظلّ طعاما من جوعه، ولقد جاءت الروايات عنه أن الله أوحى إليه: أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجّلت عقوبته.
وإن شئت ثلثت «1» بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة، كان يقول أدمي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام، أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني. ولو
__________
[348] حلية الأولياء 2: 132 وقوله «بين مخافتين ... الخ» من حديث للرسول في زهد ابن المبارك:
102 وقارن بما في كتاب الحسن البصري: 61 وأمالي الطوسي 1: 211 (لعلي) .
[349] حلية الأولياء 2: 133 والبصائر 2: 127.
[35] حلية الأولياء 2: 136- 138 وقارن بربيع الأبرار 4: 383 حيث نسب لعلي.(1/160)
شئت ربّعت بسليمان بن داود فليس دونهم في العجب، كان يأكل خبز الشعير في خاصّته ويطعم أهله الخشكار ويطعم النّاس الدرمك «1» ، فإذا جنّه الليل لبس المسوح وغلّ اليد إلى العنق وبات باكيا حتى يصبح، كلّ هذا منهم: يبغضون ما أبغض الله، ويصغّرون ما صغّر الله، ويزهدون فيما فيه زهّد. ثم اقتصّ الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم، وألزموا أنفسهم الذكر والعبر، وألطفوا الفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير عن متاع الغرور، والذي إلى الفناء يصير، [ونظروا] إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى باطن الدنيا ولم ينظروا إلى ظاهرها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها، وأنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحلّ الشبع منها في حال «2» الضرورة إليها، فأكلوا منها قدر ما ردّ النفس وبقّى الروح ومكّن من النوم.
[351]- ومن كلام الحسن: لا تغتّر يا ابن آدم بقول من يقول أنت مع من أحببت، فإنه من أحبّ قوما تبع آثارهم، واعلم أنك لم «3» تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم وحتى تهتدي بهداهم «4» وتقتدي بسنتهم، فتسلك مسلكهم، وتأخذ طريقتهم، وإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامة. والله إنما هلك من هلك حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم، فضلوا وأضلوا. يا ابن آدم ما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء المردية يحبّون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في العمل والقول وسلكوا غير طريقتهم فصار موردهم إلى النار، فتعوّذ بالله من ذلك «5» . قال الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا
11 1 التذكرة(1/161)
الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ
(الاعراف: 169) . وقال:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً
(النساء: 124) . وقال: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
(الحديد: 14) . وقال: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
(النجم: 39- 41) .
[352]- ولما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن البصريّ وإلى الشعبيّ فأمر لهما ببيت فكانا فيه شهرا أو نحوه، ثم إن الخصيّ غدا عليهما ذات يوم فقال: إن الأمير داخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له، فسلّم ثم جلس معظّما لهما فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إليّ كتبا أعلم أن في إنفاذها الهلكة، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل ترون لي في متابعتي إياه فرجا؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير، فتكلم الشعبيّ فانحطّ في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت؟
قال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله فظّ غليظ لا يعصي الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك «1» ، يا عمر ابن هبيرة إن تتّق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله. يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما
__________
[352] حلية الأولياء 2: 149- 150 وقارن بعيون الأخبار 2: 343 ومجموعة ورام 1: 88- 89 والبيهقي 343، 344، والمصباح المضيء 2: 211 ومحاضرات الأبرار 1: 117 وشرح النهج 16: 158.(1/162)
تعمل في «1» طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت فيغلق بها باب المغفرة دونك؛ يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا، وهي مقبلة، أشدّ إدبارا من إقبالهم عليها وهي مدبرة؛ يا عمر بن هبيرة إني أخوّفك مقاما خوّفكه الله تعالى فقال: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ
(ابراهيم: 14) يا عمر ابن هبيرة إن تك مع الله في طاعته يكفك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله يكلك الله إليه. قال: فبكى عمر وقام بعبرته. فلما كان الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما فأكثر منه ما للحسن، وكان في جائزة الشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد فقال: أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن شيئا جهلته ولكن أردت وجه ابن هبيرة فأقصاني الله منه.
[353]- قال هشيم بن بشير قلت لعمرو بن عبيد: صف لي الحسن؟
فقال: كان إذا أقبل فكأنه قد جاء من دفن أمه، وكأنّ زفير جهنّم في آذانه، وكأنه قد قعد قعود الأسير يضرب عنقه.
[354]- وقال همّام بن مطر: كان رجل أهل البصرة جابر بن زيد، فلمّا ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة فهو يخبر عما رأى وعاين.
[355]- وقال عون بن ذكوان: صلّى بنا زرارة بن أوفى صلاة الصبح
__________
[353] البيان 3: 171 وقارن بما في ربيع الأبرار 1: 808 وعيون الأخبار 2: 355- 356 ومحاضرات الراغب 2: 412، وهشيم بن بشير بن القاسم السلمي محدث حافظ وثقه ابن سعد وغيره وكانت وفاته سنة 183 (تهذيب التهذيب 11: 59- 64) .
[355] عيون الأخبار 2: 366 وطبقات ابن سعد 7: 150 وحلية الأولياء 2: 258 وأخبار القضاة 1: 294 وصفة الصفوة 3: 52 وزهد ابن حنبل: 247 والبصائر 2: 231؛ وعون ابن ذكوان هو أبو جناب القصاب، وهو بالكنية أعرف، وقال الدارقطني متروك، ووثقه غيره (ميزان الاعتدال 3: 305) .(1/163)
فقرأ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
حتى بلغ منها إلى قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ
(المدّثّر: 1- 8) خرّ ميتا.
[356]- روي أن محمد بن سيرين ركبه دين فقال: إني لأعرف الذنب الذي حمل به عليّ الدين ما هو، قلت لرجل منذ أربعين سنة يا مفلس.
فحدّث بهذا الحديث أبو سليمان الداراني فقال: قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نؤتى.
[357]- وروي أن ثابتا البناني بكى حتى كادت عينه تذهب، فجاء برجل يعالجها فقال: أعالجها على أن تطيعني. قال: على أيّ شيء؟ قال:
على أن لا تبكي. قال: فما خيرهما إن لم يبكيا؟ وأبى أن يعالج.
[358]- اجتمع مالك بن دينار ومحمد بن واسع، فقال مالك: إني لأغبط رجلا معه دينه [له قوام من عيش راض عن ربه عز وجل؛ فقال محمد ابن واسع: إني لأغبط رجلا معه دينه] «1» ليس معه شيء من الدنيا راضيا عن ربه. فانصرف القوم عنهما وهم يرون أن محمدا أقوى الرجلين.
[359]- وقال رجل لمحمد بن واسع: أوصني، قال: أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة، فقال: كيف لي بذلك؟ قال: ازهد في الدنيا.
__________
[356] حلية الأولياء 2: 271 وصفة الصفوة 3: 169 وربيع الأبرار 1: 752.
[357] حلية الأولياء 2: 323 وصفة الصفوة 3: 185.
[358] حلية الأولياء 2: 349.
[359] حلية الأولياء 2: 350- 351 والحكمة الخالدة: 162 ومحاضرات الراغب 1: 518.(1/164)
[360]- وكان أيوب السختياني يقول: ليتّق الله رجل، وإن زهد فلا يجعلنّ زهده عذابا على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه.
وكان أيوب ممن يخفي زهده؛ قال حماد بن زيد: فدخلنا عليه مرة فإذا على فراشه مجلس أحمر فرفعته- أو رفعه بعض أصحابه- فإذا خصفة محشوّة بليف.
[361]- وكان يقول: والله ما صدق عبد إلّا سرّه ألا يشعر بمكانه.
[362]- وقال له إنسان يوما: أوصني يا أيّوب، فقال: أقلّ الكلام.
[363]- قال عون بن عبد الله: كان أخوان في بني إسرائيل، فقال أحدهما لصاحبه ما أخوف عمل عملته عندك؟ قال ما عملت عملا أخوف عندي من أني مررت بين قراحي سنبل فأخذت من أحدهما سنبلة، ثم ندمت فأردت أن ألقيها في القراح الذي أخذتها منه فلم أدر أيّ القراحين هو، فطرحتها في أحدهما، فأخاف أن أكون طرحتها في القراح الذي لم آخذها منه. فما أخوف عمل عملته أنت عندك؟ قال الآخر: إذا قمت إلى الصلاة أخاف أن أكون أحمل على إحدى رجليّ فوق ما أحمل على الأخرى. قال: وأبوهما يسمع كلامهما، فقال: اللهم إن كانا صادقين فاقبضهما إليك قبل أن يفتتنا فماتا. قال يزيد بن هارون: أي هؤلاء أفضل؟ الأب ارى أفضل.
__________
[360] حلية الأولياء 3: 6 وربيع الأبرار: 262/أ؛ وأيوب بن أبي تميمة السختياني أبو بكر، كان ثقة ثبتا في الحديث جامعا وكان يكره الشهرة ويقول: ذكرت وما أحبّ أن أذكر، وتوفي في الطاعون بالبصرة سنة 131 (ابن سعد 7: 246) وتوفي حماد بن زيد أبو اسماعيل سنة 179 وكان له أربعة آلاف حديث يحفظها ولم يكن له كتاب (عبر الذهبي 1: 274) .
[361] حلية الأولياء 3: 6.
[362] حلية الأولياء 3: 7 (والذي طلب منه الوصية هو صالح بن أبي الأخضر) .
[363] حلية الأولياء 4: 249.(1/165)
[364] كان زبيد الأيامي «1» إذا كانت ليلة مطيرة أخذ بشعلة من نار فطاف على عجائز الحيّ فقال: أوكف عليكنّ البيت؟ أتردن نارا؟ فإذا أصبح طاف على عجائز الحيّ فيقول: ألكنّ في السوق حاجة؟ أتردن شيئا؟
[365]- وروي أن منصور بن المعتمر «2» صام ستين سنة، قام ليلها وصام نهارها، وكان يبكي فتقول له أمه: يا بنيّ قتلت قتيلا؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي، فإذا كان الصبح كحل عينيه ودهن رأسه وبرّق شفتيه وخرج إلى الناس.
[366]- قال عبد الله بن محيريز: إني صبحت فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: أوصني رحمك الله؛ قال: احفظ عني ثلاث خصال ينفعك الله بها، إن استطعت أن تعرف ولا تعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تتكلّم فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يقام «3» إليك فافعل.
__________
[364] حلية الأولياء 5: 31؛ وزبيد بن الحارث اليامي أو الأيامي محدث كوفي توفي سنة 122 أو 124 وقد وثقوه، وقال فيه البخاري كان صدوقا (تهذيب التهذيب 3: 310- 311) .
[365] حلية الأولياء 5: 41 وصفة الصفوة 3: 62 وقارن بطبقات ابن سعد 6: 337؛ ومنصور المعتمر السلمي أبو عتاب كان ثقة مأمونا كثير الحديث رفيعا عاليا توفي سنة 132؛ انظر طبقات ابن سعد (نفسه) وتهذيب التهذيب 10: 312- 315) .
[366] حلية الأولياء 5: 141 وبعضه في عيون الأخبار 2: 358؛ وعبد الله بن محيريز مكي نزل الشام وسكن بيت المقدس، وكان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ذكره فيهم، وكانت وفاته سنة 99 هـ (تهذيب التهذيب 6: 32) وفضالة بن عبيد الذي يروي عنه عبد الله أنصاري، انتقل إلى الشام وسكن دمشق، وكان فيها قاضيا لمعاوية (الاستيعاب: 1262) .(1/166)
[367]- قال الأعشى وهو ميمون بن قيس: [من الطويل] .
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
[368]- وقال عمران بن حطان: [من الطويل] .
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على أنّهم فيها عراة وجوّع
أراها وإن كانت تحبّ فإنّها ... سحابة صيف عن قليل تقشّع
[369]- أهدى رجل نصرانيّ إلى الأوزاعيّ جرة عسل وقال له: يا أبا عمرو، تكتب لي إلى والي بعلبك فقال: إن شئت رددت «1» الجرة وكتبت لك، وإلّا قبلت الجرة ولم أكتب لك. قال: ردّ الجرة، [فردّها] وكتب له فوضع عنه ثلاثين دينارا.
[370]- قال صالح المري وقفت في دار «2» المورياني «3» حين خربت، فعرض لي فيها بضع عشرة آية:
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا
(القصص: 58) وكَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(الدخان:
__________
[367] ديوان الأعشى: 103 والأغاني 9: 122.
[368] شعر عمران في الخزانة 2: 440 وابن كثير 9: 53 والذهبي 3: 284 والشريشي 2: 318 ومجموعة المعاني: 4 وكنايات الجرجاني: 101 وانظر ديوان شعر الخوارج: 172 (وفيه مزيد من التخريج) .
[369] حلية الأولياء 6: 143 وصفة الصفوة 4: 230.
[370] حلية الأولياء 6: 169 وقارن بالبيان والتبيين 3: 149 ومحاضرات الراغب 1: 216.(1/167)
25) وما أشبه ذلك، قال: فإني أقرأ إذ خرج عليّ أسود من ناحيتها، فقال يا أبا عبد الله، هذه سخطة مخلوق على مخلوق «1» فكيف بسخطة الخالق؟ قال: ثم ذهب فاتبعته فلم أر أحدا.
[371]- وقال صالح قال لي عطاء: يا أبا بشر أشتهي الموت ولا أرى لي فيه راحة، غير أني قد علمت أن الميت قد حيل بينه وبين الأعمال، فاستراح من أن يعمل معصية «2» فيحطب «3» على نفسه، والحيّ في كل يوم هو من نفسه على وجل، وآخر ذلك كلّه الموت.
[372]- وكان عطاء السلميّ إذا فرغ من وضوئه انتفض وارتعد وبكى بكاء شديدا، فقيل له في ذلك، فيقول: إني أريد أن أقدم على أمر عظيم، أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل. وكذلك كان يصيب عليّ بن الحسين زين العابدين، فيقال له في ذلك، فيقول: أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي؟.
[373]- روي أنّ عبد الواحد بن زيد لقي عتبة بن أبان الغلام برحبة القصّابين في يوم شات شديد البرد، فإذا هو يرفضّ عرقا، فقال له عبد الواحد: عتبة قال: نعم، قال: فما شأنك؟ مالك تعرق في مثل هذا
__________
[371] هو عطاء السلمي أو العبدي؛ وقوله هذا في حلية الأولياء 6: 223.
[372] ورد الخبر في حلية الأولياء 6: 218 وعن ما كان يصيب علي بن الحسين انظر طبقات ابن سعد 3: 28 وحلية الأولياء 3: 133 ونثر الدر 1: 338 والعقد 3: 169 والشفا: 109.
والبداية والنهاية 9: 104 ونسب ذلك إلى الحسن في ربيع الأبرار: 162 ب.
[373] حلية الأولياء 6: 228 وربيع الأبرار 1: 760/أ.(1/168)
اليوم؟ قال: خير، قال: لتخبرنّي، قال: خير، قال فقال: بالأنس الذي بيني وبينك والإخاء إلا ما أخبرتني، قال: إني والله ذكرت ذنبا أصبته في هذا المكان فهذا الذي رأيته من أجل ذلك.
[374]- وكان رأس مال عتبة فلسا، فيشتري بالفلس الخوص، فإذا عمله باعه بثلاثة فلوس، فلس يتصدّق به، وفلس يتّخذه رأس مال، وفلس يشتري به شيئا يفطر عليه.
[375]- ونازعت عتبة نفسه لحما، فقال لها: اندفعي عنّي إلى قابل، فما زال يدافعها سبع سنين، حتى إذا كان في السابعة أخذ دانقا ونصفا أفلاسا فأتى بها صديقا له من أصحاب عبد الواحد بن زيد خبازا، فقال: يا أخي إن نفسي تنازعني لحما منذ سبع سنين، وقد استحييت منها، كم أعدها وأخلفها، فخذ لي رغيفين وقطعة من لحم بهذا الدانق والنصف، فلما أتى به إذا هو بصبي، قال: يا صبي ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك؟ قال:
بلى، فجعل يبكي ويمسح رأسه، وقال: قرة عيني من الدنيا أن تصير شهوتي في بطن هذا اليتيم، فناوله ما كان معه ثم قرأ وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
(الانسان: 8) .
[376]- كان يجالس سفيان الثوريّ رجل ضرير، فإذا كان شهر رمضان يخرج إلى السواد فيصلّي بالناس، فيكسى ويعطى، فقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أثيب أهل القرآن من قراءتهم، ويقال لمثل هذا: قد تعجّلت ثوابك في الدنيا «1» فقال: يا أبا عبد الله تقول لي هذا وأنا جليس لك؟ قال: إني
__________
[374] حلية الأولياء 6: 229- 230.
[375] حلية الأولياء 6: 230.
[376] حلية الأولياء 7: 16.(1/169)
أخاف أن يقال لي يوم القيامة: هذا كان جليسك، أفلا «1» نصحته؟.
[377]- وقال سفيان: لو أنّ اليقين استقرّ في القلب كما ينبغي لطار فرحا وحزنا، شوقا إلى الجنة وخوفا من النار.
[378]- وكان سفيان بمكة فمرض ومعه الأوزاعيّ، فدخل عليه عبد الصمد بن علي فحوّل وجهه إلى الحائط، فقال الأوزاعيّ لعبد الصمد: إن أبا عبد الله سهر البارحة فلعلّه أن يكون نائما، فقال سفيان: لست بنائم، لست بنائم؛ فقام عبد الصمد، فقال الأوزاعيّ لسفيان: أنت مستقتل لا يحلّ لأحد أن يصحبك.
[379]- وعنه أنه قال: النظر إلى وجه الظالم خطيئة، ولا تنظروا إلى الأئمة المضلّين إلّا بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم.
[380]- وقال، وقد ذكروا أمر السلطان وطلبهم إياه: أترون أني أخاف هوانهم «2» ؟ إنما أخاف كرامتهم «3» .
[381]- قال عبد الرحمن بن مهديّ: ما عاشرت في الناس رجلا هو
__________
[377] حلية الأولياء 7: 17.
[378] حلية الأولياء 7: 38.
[379] حلية الأولياء 7: 40.
[380] حلية الأولياء 7: 40.
[381] حلية الأولياء 7: 60 وصفة الصفوة 3: 84- 85؛ وعبد الرحمن بن مهدي البصري الحافظ أبو سعيد، كان الغالب عليه حديث سفيان، وكان ثقة توفي سنة 198 (تهذيب التهذيب 6: 279- 281.(1/170)
أرقّ من سفيان الثوري، قال ابن مهدي: وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا في أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار النار، شغلني ذكر النار عن النوم واللذات «1» ، كأنه يخاطب رجلا في البيت، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ ثم يقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلّم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي إن الجزع قد أرّقني والخوف فلم يؤمنّي، وكلّ هذا من نعمك «2» السابغة عليّ، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلّي ما أقمت مع الناس «3» طرفة عين، ثم يقبل على صلاته. وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه، وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.
[382]- ورؤي سفيان يأكل الطباهج، وقال: إني لم أنهكم عن الأكل، ولكن انظر من أين تأكل، وادخل «4» وانظر على من تدخل، وتكلّم وانظر كيف تكلم، كيف أنهاكم عن الأكل، والله عز وجل يقول خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
(الأعراف: 31) .
[383]- وعن سفيان أنه رأى رجلا قريبا من المنبر فقال له: شغلتني يا فلان بقربك من المنبر، أما خفت أن يقولوا قولا «5» فيجب عليك رده؟ فقال له
__________
[382] حلية الأولياء 7: 70.
[383] حلية الأولياء 7: 70 وربيع الأبرار: 372/أ.(1/171)
الرجل: أليس يقال ادن واستمع؟ قال: ذاك لأبي بكر وعمر والخلفاء، فأمّا هؤلاء فتباعد منهم حتى لا تسمع كلامهم ولا ترى وجوههم.
[384]- روي أنّ عليا والحسن ابني صالح بن حي وأمهما كانوا قد جزّءوا الليل كله ثلاثة أجزاء، فكان علي يقوم الثلث ثم ينام، ويقوم الحسن الثلث ثم ينام، وتقوم أمهما الثلث، فماتت أمهما، فجزءا الليل بينهما «1» فكانا يقومان به حتى الصباح، ثم مات عليّ فقام به الحسن كله.
[385]- وكان الحسن بن صالح لا يقبل من أحد شيئا، فيجيء إليه صبيه وهو في المسجد، فيقول: أنا جائع، فيعلله بشيء حتى تذهب الخادم إلى السوق، فتبيع ما غزلت هي ومولاتها من الليل، ثم تشتري قطنا وتشتري شيئا من الشعير، فتجيء به فتطحنه ثم تعجنه فتخبز ما يأكل الصبيان والخادم، ويرفع له ولأهله لافطارهما، فلم يزل على ذلك حتى مات رحمه الله.
[386]- وقال الحسن بن صالح: لما احتضر أخي علي بن صالح رفع بصره ثم قال: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
(النساء: 69) ثم خرجت نفسه، قال:
__________
[384] حلية الأولياء 7: 327- 328 وصفة الصفوة 3: 87- 88 وقارن بخير عن محمد بن المنكدر في ربيع الأبرار 2: 99. وعلي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني ابو محمد كوفي وهو وأخوه الحسن توأمان؛ وعليّ محدث مأمون عند أكثرهم، توفي سنة 151 في أرجح الأقوال (تهذيب التهذيب 7: 332) ، وكان الحسن صحيح الرواية متفقها صائنا لنفسه في الحديث والورع، وثقه بعضهم، وكانت وفاته سنة 167 (تهذيب التهذيب 2: 285) .
[385] حلية الأولياء 7: 328 وصفة الصفوة 3: 89.
[386] حلية الأولياء 7: 329 وصفة الصفوة 3: 88 وتهذيب الهذيب 6: 333.(1/172)
فنظرنا إلى جنبه فإذا ثقب في جنبه وقد وصل إلى جوفه وما علم به أحد من أهله.
[387]- وروي أن داود بن نصير الطائيّ رحمه الله لقيه رجل فسأله عن حديث، فقال: دعني فإني أبادر خروج نفسي، فكان سفيان إذا ذكر داود قال: أبصر الطائي «1» أمره.
[388]- وقال له رجل: يا أبا سليمان ما ترى في الرّمي فإني أحبّ أن أتعلّمه؟ قال: إنّ الرمي لحسن، ولكن هي أيامك فانظر بم «2» تقطعها.
[389]- قال عبد الله بن إدريس: قلت لداود الطائي: أوصني؟
قال: أقلل من معرفة الناس، قلت: زدني، قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بالدنيا مع فساد الدين، قلت:
زدني، قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطر على الموت.
[390]- وقال أحمد بن ضرار العجلي: أتيت داود الطائيّ وهو في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت، وليس على البيت باب، فقال له بعض
__________
[387] حلية الأولياء 7: 335- 336 وصفة الصفوة 3: 77؛ وداود بن نصير الطائي أبو سليمان كوفي زاهد متفقه أخذ عن أبي حنيفة، وتوفي سنة 165 (تاريخ بغداد 11: 221) .
[388] حلية الأولياء 7: 336 وصفة الصفوة 3: 80 ومجموعة ورام 1: 74 ومحاضرات الراغب 2:
384 وورد في الكلم الروحانية: 130 أن رجلا قال لبعض الحكماء: أترى لي أن اتعلم الفروسية فقال: العمر عمرك أنفقه كما شئت.
[389] حلية الأولياء 7: 343؛ وعبد الله بن ادريس بن يزيد الأودي ابو محمد الكوفي محدث قال فيه أحمد: كان نسيج وحده، وقال غيره: هو ثقة في كل شيء، وتوفي سنة 192 (تهذيب التهذيب 5: 144) .
[390] حلية الأولياء 7: 343.(1/173)
القوم: يا أبا سليمان أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابا، أما تستوحش؟ فقال: حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا.
[391]- وقال عطاء بن مسلم «1» الحلبي: عاش داود عشرين سنة بثلاثمائة درهم ينفقها على نفسه، فأتاه ابن أخيه فقال: يا عمّ تكره التجارة؟ قال:
لا، قال: فأعطني شيئا أتّجر به، قال: فأعطاه ستين درهما، قال: فمكث شهرا ثم جاءه بعشرين ومائة درهم فقال: هذه ربحها، فقال: أنت كلّ شهر تربح للدرهم درهما؟ ينبغي أن يكون عندك بيت مال، أردت أن تخدعني؟ قال: فرمى بها عليه وقال: ردّ عليّ رأس مالي.
[392]- وقالت مولاة لداود الطائيّ: لو طبخت لك دسما قال:
فافعلي، فطبخت له شحما ثم جاءته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟
قالت: على حالهم، قال: اذهبي به إليهم، قالت له: فديتك «2» انما تأكل هذا الخبز بالماء من المطهرة، قال: إني إذا أكلته كان في الحشّ، وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخورا.
[393]- ودخل رجل على داود الطائي فقال: يا أبا سليمان بعت كلّ شيء حتى التراب، وبقيت تحت نصف سقف، فلو سوّيت هذا السقف فكان يكنّك «3» من الحرّ والبرد والمطر، فقال داود: اللهم غفرا، كانوا يكرهون
__________
[391] حلية الأولياء 7: 347؛ وعطاء بن مسلم الخفاف أصله من الكوفة ونزل حلب، وكان صاحب حديث، توفي سنة 190 (عبر الذهبي 1: 306) .
[392] حلية الأولياء 7: 351 وصفة الصفوة 3: 75.
[393] حلية الأولياء 7: 351.(1/174)
فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام، يا عبد الله، اخرج عنّي، فقد شغلت قلبي، إني أبادر جفوف القلم وطيّ الصحيفة. قال: يا أبا سليمان، أنا عطشان، قال: اخرج واشرب، فجعل يدور في الدار لا يجد ماء، فرجع إليه فقال: يا أبا سليمان ليس في الدار حبّ ولا جرّة، فقال: اللهم غفرا، بل هناك ماء، فخرج يلتمس فإذا دنّ من هذه الأصص الذي ينقل فيه الطين وخزفة «1» أسفل كوز، فأخذ تلك الخزفة فغرف بها فإذا ماء حارّ كأنه قد علي لم يقدر أن يسيغه، فرجع إليه وقال: يا أبا سليمان: مثل هذا الحر؟! الناس يكادون ينسلخون «2» من شدّة الحرّ، ودنّ مدفون في الأرض وكوز مكسور فلو كانت جريرة وقلّة؟ فقال داود: حبّ حيريّ وجرة مذاريّة وقلال منقّشة، وجارية حسناء وأثاث وناضّ- يعني بالناض الدنانير والدراهم- وفضول، لو أردت هذا الذي يشغل القلب لم أسجن نفسي ها هنا، إنما طلّقت «3» نفسي من هذه الشهوات، وسجنت نفسي حتى يخرجني مولاي من سجن الدنيا إلى روح الآخرة. فقال: يا أبا سليمان ففي هذا الحرّ أين تنام وليس لك سطح؟ قال إني أستحي من مولاي أن يراني أخطو خطوة ألتمس راحة نفسي في الدنيا حتى يكون مولاي هو الذي يخرجني «4» من الدنيا.
[394]- وقال داود: اليأس سبيل أعمالنا هذه، ولكنّ القلوب تحنّ إلى الرجاء.
[395]- وقال إبراهيم بن بشار الصوفي الخراساني خادم إبراهيم بن
__________
[394] حلية الأولياء 7: 359 وصفة الصفوة 3: 80.
[395] حلية الأولياء 7: 368 وقارن بصفة الصفوة 4: 127 وسراج الملوك: 20 والذهب المسبوك:(1/175)
أدهم: قلت لابن أدهم «1» : يا أبا إسحاق، كيف كان أوائل أمرك حتى صرت إلى ما صرت إليه؟ فقال: غير ذا أولى بك؛ فقلت له: هو كما تقول رحمك الله، ولكن أخبرني لعلّ الله ينفعنا به يوما، فقال: اشتغل بالله، فسألته الثالثة فقلت: يا أبا إسحاق، إن رأيت، فقال: كان أبي من أهل بلخ، وكان من ملوك خراسان والمياسير «2» ، وحبّب إليّ الصيد، فخرجت راكبا فرسي وكلبي معي، فبينما أنا كذلك ثار أرنب أو ثعلب، فحركت فرسي فسمعت نداء من ورائي: ليس «3» لذا خلقت ولا بذا أمرت؟ فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله إبليس، ثم حركت نفسي فسمعت «4» نداء أجهر من ذلك، يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله إبليس، ثم حركت فرسي فأسمع نداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ما لذا خلقت ولا بذا أمرت، فوقفت انظر يمنة ويسرة «5» فقلت: أنبهت أنبهت، جاءني نذير من ربي «6» ، والله لا عصيت الله بعد يومي هذا أبدا ما عصمني ربّي، فرجعت إلى أهلي، فخلّيت عن فرسي ثم جئت إلى راع لأبي فأخذت جبة منه وكساء وألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق، أرض تضعني وأرض ترفعني، حتى وصلت إلى العراق، فعملت بها أياما، فلم يصف لي منها شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقالوا لي: عليك ببلاد الشام، فصرت إلى مدينة يقال لها المنصورة، وهي
__________
274 والمستطرف 2: 312 والمصباح المضيء 2: 259 والشفا: 106؛ وابراهيم بن بشار خادم ابن أدهم كان أيضا صوفيا ودخل بغداد وحدث بها (تاريخ بغداد 6: 47) .(1/176)
المصّيصة، فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال لي: إن أردت الحلال الصافي فعليك بطرسوس فإن فيها المباحات والعمل الكثير، فتوجهت إلى طرسوس فعملت بها، أنظر البساتين وأحصد الحصاد، فبينما أنا قاعد على باب البحر جاءني رجل فاكتراني أنطر له بستانا، فكنت في البستان أياما كثيرة، فإذا أنا بخادم قد أقبل ومعه أصحابه فقعد في مجلسه ثم صاح: يا ناطور، فقلت: هو ذا أنا، قال: فاذهب فأتنا بأكبر رمّان تقدر عليه وأطيبه، فذهبت فأتيته بأكبر رمان فأخذ الخادم رمانة فكسرها فوجدها حامضة، فقال لي: يا ناطور أنت في بستاننا منذ كذا وكذا تأكل فاكهتنا وتأكل رمّاننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟ قال إبراهيم فقلت: والله ما أكلت من فاكهتك شيئا، وما أعرف الحلو من الحامض، فأشار الخادم إلى أصحابه وقال: أما تسمعون كلام هذا؟ ثم قال: أتراك لو أنك «1» إبراهيم بن أدهم ما زاد على هذا، وانصرف فلما كان من الغد ذكر صفتي «2» في المسجد فعرفني بعض الناس، فجاء الخادم ومعه خلق «3» فلما رأيته قد أقبل مع أصحابه اختفيت خلف الشجر، والناس داخلون، فاختلطت معهم وهم داخلون وأنا هارب. كان هذا «4» أوائل أمري وخروجي من طرسوس إلي بلاد الرمال.
[396]- وكان إبراهيم يعمل بفلسطين بكراء إذ مرّ به الجيش إلى مصر وهو يستقي الماء قطع الدلو وألقاه في البئر لئلا يسقيهم، فكانوا يضربون رأسه يسألونه عن الطريق وهو يتخارس عليهم لئلا يدلّهم.
__________
[396] حلية الأولياء 7: 379.
12 1 التذكرة(1/177)
[397] قال علي بن بكار: كنا جلوسا عند الجامع بالمصيصة وفينا إبراهيم ابن أدهم، فقدم رجل من خراسان وقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟
قال القوم: هذا، أو قال: أنا هو، قال: إنّ إخوتك بعثوني إليك، فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذ بيده فنحّاه وقال: ما جاء بك؟ قال: أنا مملوكك، معي فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها إليك إخوتك، قال:
إن كنت صادقا فأنت حرّ وما معك فلك، اذهب فلا تخبر أحدا.
[398]- وقال إبراهيم: المسألة مسألتان: مسألة على أبواب الناس ومسألة يقول الرجل ألزم المسجد وأصلّي وأصوم وأعبد الله، فمن جاء بشيء قبلته، فهذه شرّ المسألتين وهذا قد ألحف في المسألة.
[399]- قال شقيق بن إبراهيم: مرّ إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا أبا إسحاق إن الله يقول في كتابه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
(غافر: 60) ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا، فقال إبراهيم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء، أولها: عرفتم الله ولم تؤدّوا حقه: والثاني: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، والثالث: ادعيتم حب رسول الله عليه السلام وتركتم سنته «1» ، والرابع «2» ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، والخامس: قلتم نحبّ الجنة ولم تعملوا لها، والسادس: قلتم نخاف النار ورهنتم أنفسكم بها، والسابع: قلتم إن الموت حقّ ولم تستعدّوا له، والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم، والتاسع: أكلتم نعمة
__________
[397] حلية الأولياء 7: 383 وصفة الصفوة 4: 129 وربيع الأبرار: 409/أ.
[398] حلية الأولياء 8: 14.
[399] حلية الأولياء 8: 15- 16.(1/178)
ربّكم ولم تشكروها، والعاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم.
[400]- وقال إبراهيم بن أدهم: لم يصدق الله من أحبّ الشهرة.
[401]- وقال إبراهيم بن بشار: كنت يوما من الأيام مارا مع إبراهيم ابن أدهم في الصحراء، فأتينا على قبر مسنّم، فترحم عليه وبكى، فقلت:
قبر من هذا؟ قال: هذا قبر حميد بن جابر أمير هذه المدن كلّها، كان غريقا «1» في بحار الدنيا ثم أخرجه الله منها واستنقذه، ولقد بلغني أنه مرّ «2» ذات يوم بشيء من ملاهي ملكه ودنياه وغروره وفتنته، ثم نام في مجلسه مع من يخصّه من أهله، فرأى رجلا واقفا على رأسه بيده كتاب «3» ، فناوله إياه فإذا فيه مكتوب بالذهب: لا تؤثرنّ فانيا على باق، ولا تغترنّ بملكك وقدرتك وسلطانك وخدمك وعبيدك ولذاتك وشهواتك، فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم، وهو ملك لولا أنّ بعده الهلك «4» ، وهو فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور، وهو يوم لو كان يوثق له بغد، فسارع إلى أمر الله تعالى فإن الله تعالى قال:
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
(آل عمران: 133) . قال: فانتبه فزعا وقال: هذا تنبيه من الله وموعظة، فخرج من ملكه لا يعلم به أحد، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه، فلما بلغني قصته وحدّثت بأمره قصدته، فحدثني ببدء أمره وحدثته ببدء أمري، فما زلت أقصده حتى مات ودفن ها هنا، رحمه الله.
__________
[400] حلية الأولياء 8: 19- 20.
[401] حلية الأولياء 8: 33.(1/179)
[402] قال إبراهيم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة؛ فالفرض الزهد في الحرام، والفضل الزهد في الحلال، والسلامة الزهد في الشبهات.
[403]- ومن كلام الحسن البصري: يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا. يا ابن آدم، إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشرّ فلا تغبطهم به. الثواء ها هنا قليل والبقاء هناك طويل، وأمتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون؟ المعاينة فكأن قد، هيهات هيهات! ذهبت الدنيا بحال بالها «1» وبقيت الاعمال قلائد «2» في أعناق بني آدم، فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة! إنه والله لا أمة بعد أمتكم، ولا نبيّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأوّلكم أن يلحق بآخركم. من رأى محمدا صلى الله عليه فقد رآه غاديا ورائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، فالوحى الوحى والنجاء النجاء. على ما تعرّجون؟ أتيتم وربّ الكعبة. إن الله بعث محمدا على علم به، اختاره لنفسه، وبعثه برسالاته «3» ، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض، وآتاه منها قوتا وبلغة، ثم قال
__________
[402] حلية الأولياء 8: 26 ومحاضرات الراغب 2: 511 وقارن بما في بهجة المجالس 2: 303 (لسفيان أو إبراهيم) حيث جعل الزهد زهدين.
[403] البيان والتبيين 3: 132- 135 وبعضه في حلية الأولياء 2: 143 ومحاضرات الراغب 1:
511 وعيون الأخبار 2: 344 وألف باء 1: 447.(1/180)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
(الأحزاب: 21) فرغب أقوام عن عيشه، وسخطوا ما رضي له ربه، فأبعدهم الله وسحقهم. ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عما قليل قبرك، واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. رحم الله رجلا نظر فتفكر وتفكر فاعتبر واعتبر فأبصر وأبصر فصبر، فقد أبصر أقوام فلم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم فلم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا. يا ابن آدم اذكر قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
(الإسراء:
13- 14) . عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. لقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أشفق من أن تردّ عليهم منكم من سيئاتكم أن تعذّبوا عليها وكانوا فيما أحلّ الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرّم عليكم. يا ابن آدم ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب «1» وصدّقته الأعمال.
[404]- وكان يقول: لا يستحقّ أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدا بعيب هو فيه، ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك في نفسه، فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عملا «2» إلا وجد في نفسه عيبا آخر ينبغي أن يصلحه، فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره. وإنك ناظر إلى عملك خيره وشرّه فلا تحقرنّ شيئا من الخير وان صغر، فانك إذا رأيته سرّك مكانه، ولا تحقرنّ شيئا من الشرّ وإن صغر، فإنك إذا رأيته ساءك مكانه.
[405]- وكان يقول: كان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبة في علمهم، فأصبح أهل العلم اليوم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبة في
__________
[404] البيان والتبيين 3: 135.
[405] البيان والتبيين 3: 136 وجامع بيان العلم 1: 231 (لأبي حازم) .(1/181)
دنياهم، فرغب أهل الدنيا بدنياهم وزهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم.
[406]- وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري عنّي غناه، ويبدي لي فقره، ويغلق دوني بابه، ويمنعني ما عنده، وأدع من يفتح لي بابه، ويبدي لي غناه، ويدعوني إلى ما عنده.
[407]- دخل أبو حازم الأعرج على بعض ملوك بني مروان، فقال: يا أبا حازم، ما المخرج «1» مما نحن فيه؟ قال: تنظر إلى ما عندك فلا تضعه إلا في حقه وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه، قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنّة والناس أجمعين، قال: ما مالك؟ قال:
مالان، قال: ما هما؟ قال: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس، قال: ارفع إلينا حوائجك، قال: هيهات رفعتها إلى من هو لا تختزل الحوائج دونه، فإن أعطاني منها شيئا قبلت، وإن زوى عنّي منها شيئا رضيت.
[408]- ومن كلام الفضيل بن عياض: يا ابن آدم إنّما يفضلك الغنيّ بيومك، أمس قد خلا وغد لم يأت، فإن صبرت يومك أحمدت أمرك، وقويت على غدك، وإن عجزت عن يومك ذممت أمرك وضعفت عن غدك.
__________
[406] البيان والتبيين 3: 136.
[407] البيان والتبيين 3: 139 وبعضه في ربيع الأبرار: 408 ب والذهب المسبوك: 172 وأدب الدنيا والدين: 119 ونزهة الظرفاء: 11 ب؛ وفي الموفقيات: 148 سئل أبو حازم ما مالك ... الخ.
[408] البيان والتبيين 3: 139 وقارن بقول منسوب لأبي حازم في أدب الدنيا والدين: 121 وآخر غير منسوب في المستطرف 1: 25.(1/182)
وإنّ الصبر يورث البرء، وان الجزع يورث السّقم، وبالسقم يكون الموت، وبالبرء تكون الحياة.
[409]- وقال بكر بن عبد الله المزني: الدنيا ما مضى منها فحلم، وما بقي منها فأمانيّ.
[410]- وقال عامر بن عبد قيس: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمبرم، مرتجعة للعطيّة، وكلّ من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكلّ مستقرّ فيها غير راض بها، وذلك شهيد على أنها ليست بدار قرار.
[411]- وقيل: من تذكّر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباده.
[412]- قال هانىء بن قبيصة لحرقة بنت النعمان ورآها تبكي: مالك تبكين؟ قالت: رأيت لأهلك غضارة، وقلّما امتلأت دار فرحا «1» ، إلا امتلأت حزنا.
__________
[409] نثر الدر 7: 63 (رقم: 11) والبيان والتبيين 3: 152 والعقد 3: 172 والقول منسوب لأبي حازم في حلية الأولياء 3: 238 والمستطرف 1: 53.
[410] نثر الدر 7: 62 (رقم: 8) والبيان والتبيين 3: 143 والعقد 3: 172 وشرح النهج 2:
95 والنمر والثعلب: 112 (69) ولم يرد منه في البصائر 2: 699 إلا قوله «الدنيا والدة الموت» .
[411] البيان والتبيين 3: 144 ونثر الدر 4: 78 وقارن بقول عمر بن عبد العزيز لعدي بن أرطاة:
«اذا أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق» (نهاية الأرب 6: 41. وقريب منه قولة له في ربيع الأبرار 2: 820) .
[412] البيان والتبيين 3: 145، 161، والبصائر 2/1: 72 وتعازي المدائني: 71 وأدب الدنيا والدين: 119، وقارن بما أورده المسعودي مطولا في مروج الذهب 2: 228 وابن عربي في محاضرات الابرار 2: 467 وشرح النهج 18: 365 وربيع الأبرار 1: 567، وقارن قولها «ما امتلأت دار فرحا ... » بحديث ورد في رقم: 23 (23) وفي البصائر 2: 463 ما امتلأت دار حبرة إلا وستملأ عبرة، وفي كلمة لقطري بن الفجاءة (البصائر 2: 700) ما نال أحد فيها حبرة إلا اعقبته عبرة.(1/183)
[413]- ونظرت امرأة إلى أعرابية حولها عشرة من بنيها، كأنهم الصقور، فقالت: لقد ولدت أمكم «1» حزنا طويلا.
[414]- وباع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضا بثمانين ألفا، فقيل له «2» : لو اتخذت لولدك من هذا المال ذخرا، قال: أنا أجعل هذا المال ذخرا عند الله، وأجعل الله ذخرا لولدي، وقسم المال.
[415]- قال الحسن: ما أعطي رجل من الدنيا شيئا إلا قيل: خذه ومثله من الحرص.
[416]- وقال قتادة: يعطي الله العبد على نيّة الاخرة ما شاء من الدنيا والآخرة «3» ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا.
[417]- وقيل: ثلاثة أشياء يستوي فيها الملوك والسوقة والعلية والسفلة: الموت والطلق والنزع، ويشبه هذا المعنى قول عبد الله بن الزبعرى
__________
[413] البيان والتبيين 3: 145 وعيون الأخبار 2: 370 ونثر الدر 4: 16 وقارن بتعازي المدائني:
71.
[414] نثر الدر 7: 63 (رقم: 9) والبيان والتبيين 3: 146 وعيون الأخبار 1: 334 والبصائر 2/1: 231 وشرح النهج 2: 95 وعين الأدب: 198 وربيع الأبرار: 322 ب وأدب الدنيا والدين: 121 وأنس المحزون: 66/أ (ونسبه لابن عباس) .
[415] البيان والتبيين 3: 146 ونثر الدر 5: 62 ومحاضرات الأبرار 2: 250 ولقاح الخواطر: 18 ب وعده حديثا في محاضرات الراغب 1: 524.
[416] نثر الدر 7: 72 (رقم: 143) والبيان والتبيين 3: 147 وحلية الأولياء 2: 233 ومجموعة ورام 1: 76 وربيع الأبرار 1: 64 (ببعض اختلاف) .
[417] البيان والتبيين 3: 148 وقد جاء بيت ابن الزبعرى في المصدر نفسه؛ وقوله «الأمور خساس بينهم» أي دول؛ وانظر السيرة: 3: 136.(1/184)
[من الرمل] .
والعطيات خساس بينهم ... وسواء قبر مثر ومقلّ
[418]- سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف، فقال: كيف تركته؟ قال: عظيما سمينا «1» : قال: ليس عن هذا أسألك، قال: تركته ظلوما غشوما، قال: أوما علمت أنه أخي؟ قال: أتراه بك أعزّ منّي بالله.
[419]- قال مطرّف بن عبد الله بن الشخّير لابنه: يا بنيّ لا يلهينّك الناس عن نفسك، فإنّ الأمر خالص إليك دونهم. إنك لم تر شيئا هو أشدّ طلبا ولا أسرع دركا من توبة حديثة لذنب قديم.
[420]- وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أصلح ما بقي يغفر لك ما مضى.
[421]- قال المكيّ: كنت عند سفيان بن عيينة وجاءه رجل فقال:
إن جاري قد آذاني، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: من آذى
__________
[418] البيان والتبيين 3: 156 وربيع الأبرار: 200/أ- ب (والمسؤول يمني) والعقد 3: 424 وسراج الملوك: 66 ومحاضرات الراغب 1: 238 ونثر الدر 6: 14 والأجوبة المسكتة رقم:
956 والجليس الصالح 2: 24 وحياة الحيوان للدميري 2: 98.
[419] البيان والتبيين 3: 172 وقارن هذه الكلمة بقولة أخرى نسبت إلى عمر بن الخطاب في ما تقدّم رقم: 313.
[420] حلية الأولياء 9: 281 وصفة الصفوة 4: 252 وربيع الأبرار 1: 736 ولقاسم الكوفي في المستطرف 1: 142 من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى وما بقي؛ وأحمد بن عاصم الأنطاكي أبو عبد الله أو أبو علي (والأولى أصحّ) صوفي من أقران المحاسبي والسري السقطي وبشر بن الحارث؛ انظر طبقات السلمي: 137.
[421] البصائر 1: 77.(1/185)
جاره ملّكه الله داره فقال: إن هذا لفي كتاب الله عز وجل، قال الرجل:
وأين ذلك رحمك الله؟ قال الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ
(ابراهيم: 13- 14) فقام المكيّ فقبل رأسه.
[422]- قال حذيفة المرعشيّ: دخلت مكة مع إبراهيم بن أدهم فإذا شقيق البلخي قد حجّ في تلك السنة، فاجتمعنا في شقّ الطواف، فقال إبراهيم لشقيق: على أي شيء أصّلتم أصلكم؟ قال: أصّلنا أصلنا على أنا إذا رزقنا أكلنا، وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا تفعل كلاب بلخ، قال له شقيق: فعلى ماذا أصّلتم؟ قال أصّلنا «1» على أنا إذا رزقنا آثرنا، وإذا منعنا شكرنا وحمدنا، فقام شقيق فجلس بين يدي إبراهيم بن أدهم وقال: أنت أستاذنا.
[423]- قال محمد بن أبي عمران: سمعت حاتما الأصم، وكان من جلّة أصحاب شقيق البلخي، وسأله رجل فقال: على ما بنيت أمرك هذا في
__________
[422] حلية الأولياء 8: 37 والمستطرف 1: 70 وربيع الأبرار 1: 696- 697 وقارن بأنس المحزون: 5 ب؛ وشقيق بن ابراهيم البلخي صوفي من مشايخ خراسان صحب إبراهيم بن أدهم وأخذ عنه الطريقة وكان استاذ حاتم الأصمّ، وكانت وفاته سنة 153؛ انظر وفيات الأعيان 2: 475 وطبقات السلمي: 61 وتهذيب ابن عساكر 6: 327.
[423] نثر الدر 7: 66 (رقم: 44) وكتاب الآداب: 48- 49 وأدب الدنيا والدين: 118- 119 والبصائر 3: 635 والمستطرف 1: 140 ورحلة النهروالي: 159 وقارن بما في حلية الأولياء 8: 73 وأنس المحزون: 64/أ- 65/أ؛ وأما حاتم بن عنوان الأصم (ويقال حاتم بن يوسف) فكانت وفاته سنة 237؛ انظر طبقات السلمي: 91 وتاريخ بغداد 8: 241.(1/186)
التوكّل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنّت به نفسي، وعلمت أن عليّ دينا لا يعلمه «1» غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله «2» حيث كنت فأنا مستحي «3» منه.
[424]- ومرّ عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلّم في مجلسه فقال:
يا حاتم تحسن تصلّي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلّي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالتوكل «4» والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتّمام، وأسلّم بالسبيل والسنة، وأسلّمها بالإخلاص إلى الله، وأرجع على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن تصلي.
[425]- قال الفضيل بن عياض: إذا أراد الله أن يتحف العبد سلّط عليه من يظلمه.
[426]- وقال: أعلم الناس بالله أخوفهم له.
__________
[424] حلية الأولياء 8: 74 وصفة الصفوة 4: 135 وقارن بالبصائر 7: 215.
[425] حلية الأولياء 8: 104 والمستطرف 1: 79- 81 وفي فقر الحكماء: 216 من أقوال سقراط: اذا أراد الله بعبد [.....] سلط عليه من يظلمه؛ ووضع المحقق لفظة «سوءا» في ما بين قوسين، وخفي عليه وجه الصواب.
[426] قارن بحلية الأولياء 8: 110 «رهبة العبد من الله على قدر علمه» .(1/187)
[427] قال الفضل بن الربيع: حجّ هارون الرشيد، فاتاني فخرجت إليه مسرعا فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: ويحك قد حلّ «1» في نفسي شيء فانظر لي رجلا أسأله؛ فقلت: [هاهنا] سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب فقال: من ذا؟ فقلت:
أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك، قال: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدّثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: يا عباسيّ اقض دينه، فلما خرجنا، قال: ما أغنى عنك «2» صاحبك شيئا، انظر لي رجلا أسأله، قلت: ها هنا عبد الرزاق بن همّام، قال: امض بنا إليه، فأتيناه فكانت حاله كحال سفيان بن عيينة، فقلت له: ها هنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلّي يتلو آية من القرآن يردّدها، فقرعت الباب فقال: من ذا؟
فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة لبشر؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول البيت «3» عليه بأيدينا، فسبقت «4» كف هارون الرشيد إليه قبلي فقال: يا لها من كفّ ما ألينها إن نجت من عذاب الله، فقلت في نفسي ليكلمنّه الليلة بكلام من قلب نقيّ، فقال له: خذ لما جئناك له يرحمك الله، فقال: [إن] عمر بن عبد العزيز لما ولي
__________
[427] حلية الأولياء 8: 105- 108 وسراج الملوك: 51 والذهب المسبوك: 212 ومحاضرات الراغب 1: 538 والمصباح المضيء 2: 152 ومحاضرات الأبرار 1: 193- 194 والمنهج المسلوك: 48 ب والدميري 1: 152.(1/188)
الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ، فعدّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم أخا، وأصغرهم ولدا، فوقّر أباك وأكرم أخاك وتحنّن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحبّ للمسلمين ما تحبّ لنفسك أو اكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت فإني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزلّ الأقدام. فهل معك مثل هذا، أو من يشير عليك «1» بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه، فقلت: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن أمّ الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟! ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أنّ عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه كثرة النوم فكتب إليه عمر: يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإنه «2» يطرد بك إلى ربك نائما أو يقظان، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، ولا أعود لولاية حتى ألقى الله تعالى، قال: فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عمّ المصطفى جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله أمّرني على إمارة؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل، فبكى هارون بكاء شديدا،(1/189)
وقال له: زدني رحمك الله، قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فان استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشّ لأحد من رعيتك، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
من أصبح لهم غاشّا لم يرح رائحة الجنة، فبكى هارون وقال له: عليك دين؟
قال: نعم، دين لربّي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجّتي، قال: إنما أعني من دين العباد؛ قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدّق وعده وأطيع أمره، فقال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
(الذاريات: 56- 58) ، فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك، وتقوّ بها على عبادتك، فقال له: سبحان الله أنا أدلّك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلّمك الله ووفقك؟ ثم صمت فلم يكلّمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب، قال هارون: يا عباسي إذا دللتني على رجل فدلّني على مثل هذا، فهذا سيد المسلمين. فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرّجنا به، فقال لها:
مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في «1» السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلّمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف يرحمك الله، فانصرفنا.
[428]- قال زهير بن عباد: كان فضيل بن عياض، ووهيب بن الورد
__________
[428] حلية الأولياء 8: 143؛ وزهير بن عباد رؤاسي كوفي، حدث بمصر ودمشق عن مالك وابن(1/190)
وعبد الله بن المبارك جلوسا فذكروا الرّطب، فقال وهيب: وقد جاء الرطب؟
فقال ابن المبارك: يرحمك الله، هذا آخره أولم تأكله؟ قال: لا، قال:
ولم؟ قال وهيب: بلغني أن عامة أجنّة مكة من الصوافي والقطائع فكرهتها، فقال عبد الله: يرحمك الله أو ليس قد رخّص في الشراء من السوق إذا لم تعرف الصوافي والقطائع منه وإلّا ضاق على الناس خبزهم، أو ليس عامة ما يأتي من قمح مصر إنما هو من الصوافي والقطائع؟ ولا أحسبك تستغني عن القمح فسهّل عليك، قال: فصعق، فقال فضيل لعبد الله: ما صنعت بالرجل؟ فقال ابن المبارك: ما علمت أنّ كل هذا الخوف قد أعطيه، فلما أفاق وهيب قال: يا ابن المبارك، دعني من ترخيصك، فلا جرم لا آكل من القمح إلّا كما يأكل المضطر من الميتة، فزعموا أنه نحل جسمه حتى مات هزالا.
[429]- قال عبد الله بن المبارك: رب عمل صغير تعظّمه المنية، وربّ عمل كبير تصغره المنية.
[430]- قال محمد بن صبيح بن السماك: كتب إليّ أخ من إخواني من أهل بغداد: صف لي الدنيا، فكتبت إليه: أما بعد فإنه حفّها بالشهوات وملأها بالآفات، مزج حلالها بالمؤونات، وحرامها بالتبعات، حلالها حساب وحرامها عذاب [والسلام] .
__________
عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم، ووثقه أبو حاتم، وتوفي سنة 238 (تهذيب التهذيب 3:
344) ؛ ووهيب بن الورد القرشي المكي أبو عثمان أحد الزهاد، يروي عن عطاء ويروي عنه الفضيل وابن المبارك وله أحاديث ومواعظ وزهد وكانت وفاته سنة 153 (تهذيب التهذيب 11: 170) .
[430] حلية الأولياء 8: 204 والبصائر 2/1: 109، ومحمد بن صبيح بن السماك كوفي زاهد واعظ، مولى لبني عجل روى عن الأعمش وجماعة، وكان كبير القدر دخل على الرشيد فوعظه، وتوفي سنة 183؛ (انظر عبر الذهبي 1: 287) .(1/191)
[431] قال يوسف بن أسباط: لو أنّ رجلا في ترك الدنيا مثل أبي ذرّ وسلمان وأبي الدرداء ما قلنا إنه زاهد، لأن الزهد لا يكون إلا في الحلال المحض، والحلال المحض لا يعرف اليوم.
[432]- كان عبد الله بن عبد العزيز العمري يلزم الجبّان «1» كثيرا، وكان لا يخلو من كتاب يكون معه ينظر فيه، فقيل له في ذلك فقال: إنه ليس شيء أوعظ من قبر، ولا أسلم من وحدة، ولا آنس من كتاب.
[433]- قال بشر بن الحارث: بلغني أن بنتا لفتح الموصلي عريت، فقيل له: ألا تطلب من يكسوها؟ قال: أدعها حتى يرى الله عريها وصبري عليها. قال: فكان إذا كانت ليالي الشتاء جمع عياله ومال «2» بكسائه عليهم ثم قال: اللهم أفقرتني وأفقرت عيالي، وجوّعتني وجوّعت عيالي، وأعريتني وأعريت عيالي، بأي وسيلة أتوسّل إليك، وإنما تفعل ذلك بأوليائك وأحبابك، فهل أنا منهم حتى أفرح؟.
[434]- قال بشر بن الحارث الحافي: إذا أعجبك الكلام فاصمت،
__________
[431] عيون الأخبار 2: 356 وحلية الأولياء 8: 204، 238، 370 (وفي الموضع الثالث يروى عن وكيع) وألف باء 1: 446؛ ويوسف بن أسباط الشيباني الكوفي زاهد واعظ يروي عن سفيان الثوري وغيره، وثقه ابن معين وتوفي سنة 195 (تهذيب التهذيب 11: 407) .
[432] حلية الأولياء 8: 283 والحيوان 1: 62 وقارن بما في ربيع الأبرار 1: 769 والعقد 2:
210 وتقييد العلم: 142.
[433] حلية الأولياء 8: 292.
[434] حلية الأولياء 8: 347 وقارن بما ورد بما ورد في الحلية 7: 281 على لسان سفيان الثوري وورد في نثر الدر 1: 445 (من جملة كلمة لعبد الملك بن صالح) وفي نثر الدر أيضا 1: 414 إذا حدث احدكم فاعجبه الحديث فليسكت فان أعجبه السكوت فليتكلم لابن عباس، وانظر ربيع الأبرار 1: 780.(1/192)
وإذا أعجبك الصمت فتكلم. وقد روي هذا الكلام بعينه عن ابن عباس أو غيره.
[435]- وقال بشر سمعت خالدا الطحان وهو يذكّر ويقول: إياكم وسرائر الشرك فقيل: وكيف سرائر الشرك؟ قال: أن يصلّي أحدكم فيطوّل في ركوعه وسجوده حتى تلحظه الحدق.
[436]- وقال بشر: اكتم حسناتك كما تكتم سيّئاتك.
[437]- قال إبراهيم الحربي: حملني أبي إلى بشر بن الحارث فقال:
يا أبا نصر، هذا ابني مستهتر «1» بكتابة الحديث والعلم، فقال لي: يا بنيّ هذا العلم ينبغي أن تعمل به، فإن لم تعمل به كله فمن كل مائتين خمسة مثل زكاة الدراهم، فقال له أبي: يا أبا نصر تدعو له؟ قال: دعاؤك له أبلغ، فإن دعاء الوالد للولد كدعاء النبي لأمته، قال إبراهيم: فاستحليت كلامه واستحسنته، فأنا مارّ «2» إلى صلاة الجمعة فإذا بشر يصلي في قبة الشعر «3» فقمت وراءه أركع إلى أن نودي بالأذان، فقام رجل رثّ الحال والهيئة، فقال: يا قوم احذروا أن أكون صادقا وليس مع الاضطرار اختيار، ولا يسع السكوت عند العدم، ولا السؤال مع الوجود، وثمّ فاقة رحمكم الله، قال: فرأيت بشرا أعطاه قطعة وزنها دانق، قال إبراهيم: فقمت إليه فاعطيته درهما وقلت:
أعطني القطعة، فقال: لا أفعل، فقلت: هذان درهمان، فقال: لا
__________
[435] حلية الأولياء 8: 343.
[436] حلية الأولياء 8: 347 (وورد أيضا في الحلية 3: 240 لأبي حازم) .
[437] حلية الأولياء 8: 347- 348.
13 1 التذكرة(1/193)
أفعل، قال: ومعي عشرة دراهم صحاحا، قلت: هذه عشرة دراهم، قال لي: يا هذا وأيّ شيء رغبتك في دانق تبذل فيه عشرة صحاحا، فقلت: هو رجل صالح، فقال لي: أنا في معروف هذا أرغب، ولست أستبدل النعم نقما، وإلى أن آكل هذا فرج عاجل أو منيّة قاضية. قال إبراهيم فقلت:
انظروا معروف من بيد من، وقلت: يا شيخ دعوة، فقال: مرّ أحيا الله قلبك ولا أماته حتى يميت جسمك، وجعلك ممن يشتري نفسه بكلّ شيء ولا يبيعها بشيء.
[438]- وروي أن أخت بشر بن الحارث قصدت أحمد بن حنبل فقالت: إنّا قوم نغزل الليل «1» ومعاشنا منها، وربما تمرّ بنا مشاعل بني طاهر ولاة بغداد ونحن على السطح فنغزل في ضوئها الطاقة والطاقتين، أفتحلّه لنا أم تحرّمه علينا؟ فقال لها: من أنت؟ قالت: أخت بشر، قال: آه يا آل بشر لا عدمتكم، لا أزال أسمع الورع الصافي من قبلكم.
[439]- قال معروف لأبي توبة وقد حضرت الصلاة: صلّ بنا؟
فقال: إن صلّيت بكم هذه الصلاة لا أصلي بكم الثانية، فقال معروف:
وأنت تطمع أن تعيش إلى الصلاة الثانية؟! نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.
[440]- وعنه قال: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح عليه «2» باب العمل
__________
[438] حلية الأولياء 8: 353 وصفة الصفوة 2: 295 والمستطرف 1: 143.
[439] حلية الأولياء 8: 361 وصفة الصفوة 2: 180 ومحاضرات الراغب وربيع الأبرار 223/ب- 224/أ (2: 771) ومعروف هو الكرخي.
[440] حلية الأولياء 8: 361 والقول في ربيع الأبرار: 258 ب (منسوب للأوزاعي) وكذلك في المستطرف 2: 62 وأدب الدنيا والدين: 54 وقارن ببهجة المجالس 1: 428.(1/194)
وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل.
[441]- وقيل له في علته: أوص «1» ، فقال: إذا متّ فتصدقوا بقميصي هذا فإني أحبّ أن أخرج من الدنيا عريان كما دخلت إليها عريان.
[442]- قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم، وسخت نفسه في نفقته، وقلّت وساوسه في صلاته.
[443]- قال منصور بن عمار: سبحان من جعل قلوب العارفين أوعية الذكر، وقلوب أهل الدنيا أوعية الطمع، وقلوب الزاهدين أوعية التوكل، وقلوب الفقراء أوعية القناعة، وقلوب المتوكلين أوعية الرضا.
[444]- وقال: سلامة النفس في مخالفتها، وبلاؤها في متابعتها «2» .
[445]- وقال منصور بن عمار: حججت حجة فنزلت سكة من سكك
__________
[441] حلية الأولياء 8: 362 وصفة الصفوة 2: 183.
[442] حلية الأولياء 9: 257؛ وأحمد بن أبي الحواري من أهل دمشق صحب ابا سليمان الداراني وسفيان بن عيينة وغيرهما، وكان زاهدا ورعا توفي سنة 230 (طبقات السلمي: 98) أما أستاذه أبو سليمان الداراني فهو عبد الرحمن بن عطية أو عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وكانت وفاته سنة 215 (طبقات السلمي: 75) .
[443] حلية الأولياء 9: 327 وطبقات السلمي: 135؛ ومنصور بن عمار أصله من خراسان، وأقام بالبصرة، وكان من أحسن الناس كلاما بالموعظة (انظر تاريخ بغداد 13: 71 وطبقات السلمي: 130) .
[444] حلية الأولياء 9: 327 وطبقات السلمي: 136.
[445] حلية الأولياء 9: 328.(1/195)
الكوفة، فخرجت في ليلة مظلمة طخياء، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت وأعانني عليها شقائي، وغرّني سترك المرخى عليّ وقد عصيتك بجهدي وخالفتك «1» بجهلي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك مني؟ واشباباه واشباباه. فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله عز وجل:
ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
(البقرة: 24) الآية، فسمعت دكة «2» لم أسمع بعدها حسّا، فمضيت، فلما كان من الغد رجعت من «3» مدرجتي فإذا أنا بجنازة قد أخرجت، وإذا عجوز قد ذهبت منّتها- يعني قوّتها- فسألتها عن الميت ولم تكن عرفتني، فقالت: هذا رجل لا جزاه الله خيرا مرّ بابني البارحة وهو قائم يصلّي فتلا آية من كتاب الله عز وجل فتفطرت مرارته فوقع ميتا، رحمه الله.
[446]- فقد الحسن بن حي شابا كان ينقطع إليه، فخرج الحسن حتى أتى منزله فدقّ عليه الباب فخرج إليه الشابّ، فقال له: يا أخي مالك لم أرك منذ أيام؟ فقال له: يا أخي إن هذه الدار ليست هي دار ليست هي دار لقاء، إنما هي دار عمل، واللقاء ثمّ، أغلق الباب في وجهه فما رآه الحسن بعد ذلك اليوم حتى أخرجت جنازته.
[447]- قال محمد الكندي: سمعت أشياخنا يقولون: إذا عرض لك
__________
[447] ورد هذا القول مرة في الأدب الصغير (رسائل البلغاء) : 14 ومرة في الأدب الكبير: 98؛ وهو منسوب لعتبة في ربيع الأبرار: 201/أولفيثاغور في فقر الحكماء: 208 وانظر الحكمة الخالدة: 73 وسيأتي تحت رقم: 939 وضمن كلمة نسبت لعلي ولا بن المقفع رقم:
1026.(1/196)
أمران لا تدري في أيهما الرشاد، فانظر أقربهما إلى هواك فخالفه، فإن الحقّ في مخالفة الهوى.
[448]- قال أبو الحسن السري بن المغلّس السقطي، وهو خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه: كلّ الدنيا فضول إلا خمس خصال: خبز يشبعه، وماء يرويه، وثوب يستره، وبيت يكنّه، وعلم يستعمله.
[449]- وقال: من استعمل التسويف طالت حسرته يوم القيامة.
[450]- قال أبو علي الروذباري: في اكتساب الدنيا مذلّة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها، فيا عجبا لمن يختار المذلّة في طلب ما يفنى، على العزّ في طلب ما يبقى.
[451]- وكان يقول: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.
[452]- وقال بديل بن ميسرة العقيليّ: من أراد بعمله وجه الله أقبل الله عليه بوجهه، وأقبل بقلوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله صرف الله عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه.
__________
[448] حلية الأولياء 10: 119 وصفة الصفوة 2: 211.
[449] حلية الأولياء 10: 122.
[450] حلية الأولياء 10: 357؛ وأبو علي الروذباري اسمه أحمد بن محمد بن القاسم، من أهل بغداد، سكن مصر ومات بها، وكان عالما فقيها محدثا متصوفا توفي سنة 322 (تاريخ بغداد 1: 329 وطبقات السلمي 354 وعبر الذهبي 2: 195) .
[451] هذا القول للحسن بن أحمد المعروف بابن الكاتب في حلية الأولياء 10: 360.
[452] حلية الأولياء 3: 62 وصفة الصفوة 3: 189؛ وبديل محدث بصري وثقه ابن سعد وابن معين والنسائي، وكانت وفاته سنة 130 (تهذيب التهذيب 1: 424) .(1/197)
[453] قال أبو يزيد البسطاميّ: إنّ في الطاعات من الآفات ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي.
[454]- وقال: ما دام العبد يظنّ أنّ في الخلق من هو شرّ منه فهو متكبر.
[455]- وقال: من سمع الكلام ليتكلّم به مع الناس رزقه الله فهما يكلّم به الناس، ومن سمعه ليعامل الله به رزقه الله فهما يناجي به ربّه.
[456]- وقال أبو حازم الأعرج: إن عوفينا من شرّ ما أعطينا لم يضرّنا فقد ما زوي عنّا.
[457]- قيل لرابعة القيسية «1» : لو كلّمنا «2» رجال عشيرتك فاشتروا لك خادما تكفيك مهنة بيتك، قالت: والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟!.
[458]- دخل ناسك على صاحب له وهو يكيد بنفسه، فقال له:
طب نفسا فإنك تلقى رحيما، قال: أما ذنوبي فأرجو أن يغفرها الله لي،
__________
[453] حلية الأولياء 10: 36 وصفة الصفوة 4: 90.
[454] حلية الأولياء 10: 36 وصفة الصفوة 4: 90.
[455] حلية الأولياء 10: 38.
[456] نثر الدر 7: 78 (رقم: 141) والبيان والتبيين 3: 126 والبصائر 2: 553 وشرح النهج 2: 94 وصفة الصفوة 2: 89 (باختلاف يسير) .
[457] نثر الدر 7: 62 (رقم: 4) والبيان والتبيين 3: 127 وشرح النهج 2: 95 وربيع الأبرار:
413/أ (4: 387) «ألا نكلم لك السلطان ... » .
[458] البيان والتبيين 1: 211، 3: 131 والأجوبة المسكتة رقم: 801.(1/198)
وليس اهتمامي إلا لمن أدع من بناتي، قال له صاحبه: الذي ترجوه لمغفرة ذنوبك «1» فارجه لحفظ بناتك.
[459]- قال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم.
[460]- قال ابن أبي عدي: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله «2» وكان خرّازا يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدّق به في الطريق، ويرجع عشاء فيفطر معهم.
[461]- قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها، قال: فصلّى بالناس الظهر، ثم فتح باب المقصورة وقد استند إلى المحراب، واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم الزهري عن غير معرفة، فقال: يا عمر من هذا؟ ما رأيت سمتا أحسن منه، قال: يا أمير المؤمنين هذا صفوان بن سليم، قال: يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار، فأتي «3» به فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلّي؟ فوصفه للغلام حتى أثبته، قال: فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان، فلمّا نظر صفوان إليه ركع وسجد ثم سلّم، فأقبل عليه وقال: ما حاجتك؟ قال: أمرني أمير
__________
[459] البيان والتبيين 3: 141 وشرح النهج 2: 95.
[460] حلية الأولياء 3: 93- 94 وصفة الصفوة 3: 221 والشفاء: 110؛ وداود بن أبي هند محدث بصري روى عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن سيرين ومكحول، وكان ثقة كثير الحديث توفي سنة 139 وقيل بعد ذلك (طبقات ابن سعد 7: 255 وتهذيب التهذيب 3:
204) وابن أبي عدي اسمه محمد واسم أبيه ابراهيم، مولى لبني سليم ثقة توفي بالبصرة سنة 194 (طبقات ابن سعد 7: 292) .
[461] حلية الأولياء 3: 160- 161 وصفة الصفوة 2: 87.(1/199)
المؤمنين، وهو ذا ينظر إليك وإليّ، أن أدفع إليك هذا الكيس، ويقول لك: استعن بهذه على زمانك وعلى عيالك، فقال صفوان للغلام: ليس أنا الذي أرسلت إليه، قال الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى أنا صفوان بن سليم، قال فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبت فإذا أثبتّ فهلمّ، فقال الغلام: أمسك الكيس معك وأذهب أنا، قال: لا إذا أمسكت فقد أخذت «1» ، ولكن اذهب واستثبت وأنا ها هنا جالس، فولّى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة.
[462]- وكان أبو مسلم الخولاني يقول: كان الناس ورقا لا شوك فيه، وأنتم اليوم شوك لا ورق فيه.
[463]- قال أبو حازم سلمة بن دينار: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته «2» الفتوح.
[464]- وقال: كلّ نعمة لا تقرّب من الله فهي بلية.
[465]- وقال: قاتل هواك كما «3» تقاتل عدوّك.
__________
[462] ربيع الأبرار 1: 398 والبيان والتبيين 3: 127 (ونسبه لأبي الدرداء) 2: 197 (لأبي ذر) وصفة الصفوة 1: 262 (لأبي الدرداء) وحلية الأولياء 2: 123 والبصائر 2: 201 ومجموعة ورام 1: 72 والعزلة: 85 والمستطرف 1: 123 (لأبي الدرداء) والايجاز والاعجاز: 9 والتمثيل والمحاضرة: 31 (لأبي ذر) ومحاضرات الراغب 2: 27 (لأبي الدرداء) .
[463] حلية الأولياء 3: 230 وصفة الصفوة 2: 92.
[464] حلية الأولياء 3: 230 وصفة الصفوة 2: 89.
[465] حلية الأولياء 3: 231.(1/200)
[466] وقيل له: ما مالك؟ قال: ثقتي بالله ويأسي مما في أيدي الناس.
[467]- وقال: قليل الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وإن كثيرها ينسيك قليلها، وإن كنت تطلب من الدنيا ما يكفيك فأدنى ما فيها يجزيك، وإن كنت لا يغنيك ما يكفيك «1» فليس فيها شيء يغنيك.
[468]- ودخل سليمان بن عبد الملك المدينة «2» حاجّا فقال: هل بها أحد أدرك عدّة من الصحابة؟ قيل: نعم أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه قال:
يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟
قال: وأيّ جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني، قال: والله ما عرفتني قبل يومي هذا ولا أنا رأيتك فأيّ جفاء رأيت مني؟ فالتفت سليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا، ثم قال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: عمرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. قال: صدقت يا أبا حازم، ليت
__________
[466] نثر الدر 7: 71 (رقم: 87) والبيان 3: 139 وعيون الأخبار 2: 360 وحلية الأولياء 3:
232، 3: 183 والعقد 3: 205 والأجوبة المسكتة، رقم: 833 وأدب الدنيا والدين:
120 ومحاضرات الأبرار 2: 244 والشريشي 3: 12 وصفة الصفوة 2: 88 وقارن بشرح النهج 2: 94 وربيع الأبرار 2: 802 وقد مرّ هذا القول في رقم: 407.
[467] حلية الأولياء 3: 232 وبعضه في عيون الأخبار 2: 361 والآمل والمأمول: 55.
[468] حلية الأولياء 3: 234- 237 (وقوله «ما بالنا نكره الموت ... الخراب» في عيون الأخبار 2: 370) وانظر سراج الملوك: 50- 51 والذهب المسبوك: 165 وصفة الصفوة 2:
89. والمصباح المضيء 2: 48- 53 والامامة والسياسة 2: 88- 91 ومحاضرات الأبرار 1: 301- 304 وأنس المحزون: 66 ب والمنهج المسلوك: 45 ب.(1/201)
شعري ما لنا عند الله غدا؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: أين أجده في كتاب الله؟ قال: قال الله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
(الانفطار: 13- 14) ، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(الاعراف: 56) قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على الله غدا؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتدّ بكاؤه، وقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصّلف، وتقسمون بالسّويّة وتعدلون في القضيّة، قال: وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذه بحقّه وتضعه لحقّه في أهله، قال: يا أبا حازم من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنهى، قال: فما أعدل العدل؟ قال:
كلمة صدق عند من ترجوه أو تخافه، قال: فما أسرع الدعاء إجابة؟ قال:
دعاء المحسن للمحسن «1» ، قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقلّ إلى البائس «2» الفقير لا يتبعها منّ ولا أذى، قال: يا أبا حازم من أكيس الناس؟
قال: رجل ظفر بطاعة الله فعمل بها ثم دلّ الناس عليها، قال: فمن أحمق الناس؟ قال: رجل اغتاظ في «3» هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنياه، قال: يا أبا حازم هل لك أن تصحبنا وتصيب منا ونصيب منك؟ قال:
كلّا، قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تكون لي منه نصيرا، قال: يا أبا حازم ارفع إليّ حاجتك، قال: نعم تدخلني الجنّة وتخرجني من النار، قال ليس ذلك إليّ، قال: فما لي حاجة سواها، قال: يا أبا حازم فادع الله لي، قال:
نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسّره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان(1/202)
من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحبّ وترضى، قال سليمان: عظني، قال:
قال: قد أكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فماذا حاجتك «1» أن ترمي على قوس ليس لها وتر؟ قال سليمان: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه؟
قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين، قال: بل نصيحة تلقيها إليّ، قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر عنوة بالسيف عن غير مشورة ولا إجماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم، فقال رجل من جلساء سليمان: بئس ما قلت، قال أبو حازم: كذبت، إنّ الله أخذ على العلماء الميثاق ليبيننّه للناس ولا يكتمونه. قال: يا أبا حازم أوصني، قال:
نعم أوصيك وأوجز، نزّه الله وعظّمه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك، ثم قام، فلما ولّي قال: يا أبا حازم هذه مائة أنفقها ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها وقال: ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي، إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إيّاي هزلا وردّي عليك بذلا، إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين: فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
(القصص: 24) فسأل موسى ربّه ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان ولم يفطن الرّعاء لما فطنتا له، فأتتا أباهما، وهو شعيب عليه السلام، فاخبرتاه خبره، قال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعا، ثم قال لاحداهما: اذهبي ادعيه، فلما أتته أعظمته وغطّت وجهها ثم قالت: (إنّ أبي يدعوك ليجزيك) فلما قالت: ليجزيك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا
(القصص: 25) كره موسى عليه السلام ذلك، وأراد أن لا يتبعها ولم يجد بدّا من أن يتبعها «2» لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها وكانت امرأة ذات عجز، وكانت الرياح تضرب ثوبها فتصف لموسى عليه السلام عجزها فيغضّ مرّة ويعرض أخرى، فقال: يا(1/203)
أمة الله كوني خلفي، فدخل إلى شعيب والعشاء مهيأ، فقال: كل، فقال موسى: لا، قال شعيب: ألست جائعا؟ قال: بلى ولكنني أنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا، وأخشى أن يكون هذا أجر ما سقيت لهما. قال شعيب لا يا شابّ، ولكن هذا عادتي وعادة آبائي، قرى الضيف وإطعام الطعام، قال: فجلس موسى فأكل، فإن كانت هذه المائة دينار عوضا مما قد حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلّ منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم وإلّا فلا حاجة لي فيها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتّقى، حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلمّا نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله وآمنوا بالجبت والطّاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، وشاركوهم في دنياهم وشركوا معهم في فتنتهم. قال ابن شهاب: يا أبا حازم، وإياي تعني أو بي تعرّض، قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع، قال سليمان: يا ابن شهاب تعرفه؟ قال: نعم جاري منذ ثلاثين سنة ما كلّمته كلمة واحدة «1» قط، قال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني، قال ابن شهاب: يا أبا حازم تشتمني؟ قال سليمان:
ما شتمك ولكن أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقا كحقّ القرابة؟ فلما ذهب أبو حازم قال رجل من جلساء سليمان: يا أمير المؤمنين تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم؟ قال: لا.
[469]- جاء ابن «2» لسليمان بن عبد الملك حتّى جلس إلى جنب طاووس
__________
[469] حلية الاولياء 4: 16. وصفة الصفوة 2: 162 والأجوبة المسكتة رقم: 789.(1/204)
ابن كيسان، فلم يلتفت إليه فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه، فقال: أردت أن يعلم إنّ لله عبادا يزهدون فيما في يديه.
[470]- قال مورق العجليّ: ضاحك «1» معترف بذنبه خير من باك مدلّ على ربه.
[471]- استقبل عامر بن عبد قيس «2» رجل في يوم حلبة، فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقرّبون.
[472]- قال محمد بن واسع: ما آسى من «3» الدنيا إلا على ثلاث، بلغة من عيش ليس لأحد عليّ فيها منّة ولا لله عليّ فيها تبعة، وصلاة في جماعة أكفى سهوها ويذخر لي أجرها، وأخ إذا ما اعوججت قوّمني.
[473]- قال مكحول: إن كان في الجماعة الفضيلة «4» ، فإنّ في العزلة السلامة.
__________
[470] نثر الدر 7: 63 (رقم: 13) والبيان والتبيين 2: 198، 3: 158 وأدب الدنيا والدين:
105 والمستطرف 1: 27 وورد في فقر الحكماء: 279 منسوبا لبطليموس على النحو الآتي:
نائم (؟) مقر بذنبه خير من ضال مدل على ربه (فتأمل دقة التحقيق) وجاء في محاضرات الراغب 2: 411 ضحك العبد وهو مشفق من ذنبه خير من بكائه وهو مدل على ربه.
[471] البيان والتبيين 3: 160 وعيون الأخبار 2: 370 وقد ورد في البيان 2: 282 بصورة أتم منسوبا إلى بلال، وهذا هو الذي مرّ آنفا رقم: 297.
[472] البيان والتبيين 3: 162 وصفة الصفوة 3: 194 والبرصان: 266- 267 ونثر الدر 4:
50.
[473] البيان والتبيين 3: 168، 181 وحلية الأولياء 4: 181 وبهجة المجالس 1: 669.(1/205)
[474]- قال واصل بن عطاء: المؤمن إذا جاع صبر وإذا شبع شكر.
[475]- قال الحسن: إنكم ما تنالون ما تحبّون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلّا بالصبر على ما تكرهون.
[476]- وقال: إنّ أهل الدنيا وإن دقدقت بهم الهماليج ووطىء الناس أعقابهم، فإنّ ذلّ المعصية في قلوبهم.
[477]- وقال: لا تزول قدما ابن آدم حتى يسأل عن ثلاث: شبابه فيم أبلاه، وعمره فيم أفناه «1» ، وماله فيم أنفقه ومن أين اكتسبه.
[478]- قال محمد بن عمرو بن علقمة: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو يقول: ما أنعم الله على عبد بنعمة فانتزعها منه فعاضه في ذلك الصبر إلا كان ما عاضه الله أفضل مما نزع، ثم قرأ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ
(الزمر: 10) .
[479]- وكتب عمر إلى الجّراح بن عبد الله الحكمي، وهو عامله: إن استطعت أن «2» تترك مما أحلّ الله لك ما يكون حاجزا بينك وبين ما حرّم الله فافعل، فإنه من استوعب الحلال كلّه تاقت نفسه إلى الحرام.
__________
[474] البيان والتبيين 3: 169.
[476] البيان والتبيين 3: 167 والعقد 3: 202 وربيع الأبرار 176/أ.
[477] البيان والتبيين 3: 125 وبهجة المجالس 1: 394 ورفعه في أدب الدنيا والدين: 119 وفي أمالي الطوسي 2: 206 «حتى يسأل عن أربع» وأمثال الماوردي: 94 ب.
[478] البيان والتبيين 3: 142 وحلية الأولياء 5: 298 وسراج الملوك: 168 ونثر الدر 2: 127 والتعازي والمراثي: 63.
[479] البيان والتبيين 3: 170 وأدب الدنيا والدين: 213 ونثر الدر 2: 127، 129.(1/206)
[480]- وقال عمر لخالد بن صفوان: عظني وأوجز، فقال خالد: يا أمير المؤمنين إن أقواما غرّهم ستر الله وفتنهم حسن الثّناء فلا يغلبنّك جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعمّا افترض الله تعالى متخلفين ومقصرين، وإلى الأهواء مائلين؛ فبكى ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى.
[481]- قال جحدر بن ربيعة العكليّ: [من الطويل] .
إذا انقطعت دنيا الفتى وأجنّه ... من الأرض رمس ذو تراب وجندل
رأى أنّما الدنيا غرور وأنما ... ثواب الفتى في صبره والتوكل
[482]- وقال الأخطل: [من الكامل]
والناس همّهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
[483]- وقال آخر: [من الطويل]
يعلّل والأيام تنقص عمره ... كما تنقص النيران من طرف الزّند
[484]- وقال آخر: [من الطويل]
__________
[480] حلية الأولياء 8: 18 وسيرة عمر (ابن الجوزي) : 137- 138 والمصباح المضيء 2: 89- 90.
[482] ديوان الأخطل: 158 والحماسة البصرية 2: 419.
[484] البيان والتبيين: 179 وعيون الأخبار 3: 66 واللسان (قبر) والحماسة 1: 368 (شرح المرزوقي: 891) وأنس المحزون: 19/أ- ب والشعر لعبد الله بن ثعلبة الحنفي؛ ونسب لأعرابي في شرح النهج 7: 235.(1/207)
لكلّ أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
هم جيرة الأحياء أما محلّهم ... فدان ولكنّ اللقاء بعيد
[485]- وقال بشار: [من الخفيف] .
كيف يبكي لمحبس في طلول ... من يبكّي لحبس يوم طويل
إنّ في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دار محيل
[486]- وقال «1» آخر: [من الرجز] .
كل امرىء مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
[487]- وقال عروة بن أذينة: [من الوافر] .
نراع إذا الجنائز قابلتنا ... ويحزننا بكاء الباكيات
كروعة ثلّة لمغار سبع ... فلمّا غاب عادت راتعات
[488]- وكان محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه من زهاد الفقهاء، روي عنه أنه قال: ما حلفت بالله قطّ لا صادقا ولا كاذبا.
[489]- وروي عنه أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث
__________
[485] ديوان بشار (جمع العلوي) : 189 والبيان 3: 197 وزهر الآداب: 424 والمحاسن والأضداد: 119.
[486] البيان والتبيين 3: 182، وألف باء 1: 291 (يردده أبو بكر حين أصابته الحمى) .
[487] البيان والتبيين 3: 201 والحيوان 6: 507 وعيون الأخبار 3: 62 وأمالي المرتضى 1: 415 وشعر عروة: 309 وورد البيتان في الزهرة 2: 88 لأبي بكر العرزمي.
[488] حلية الأولياء 9: 128، 135 ومناقب الشافعي 2: 164.
[489] حلية الأولياء 9: 135 وصفة الصفوة 2: 144 ومناقب الشافعي 2: 157.(1/208)
للصلاة، وثلث للنوم.
[490]- أما أبو حنيفة فكان يحيي نصف اللّيل، فلم يزل بعد ذلك يحيي كلّ الليل، وقال: أنا أستحيي من الله أن أوصف بما ليس فيّ من عبادته.
[491]- وقال الربيع: كان الشافعيّ يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرّة كل ذلك في الصلاة.
[492]- وقال الشافعيّ: ما شبعت منذ ستّ عشرة سنة، لأن الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.
[493]- وسئل عن مسئلة فسكت فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟
فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب.
[494]- وروي عن عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوسا نتذاكر العبّاد والزهّاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي، خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصّفا، وكان الحارث تلميذا لصالح المرّي، فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ:
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
(المرسلات: 35- 36) فرأيت الشافعيّ وقد تغيّر لونه واقشعرّ جلده، فاضطرب اضطرابا شديدا وخرّ مغشيا عليه، فلمّا أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكذابين، وإعراض
__________
[490] في تهجد أبي حنيفة قارن بما ورد في مناقب أبي حنيفة 1: 209، 214.
[491] حلية الأولياء 9: 134 وصفة الصفوة 2: 145 (والربيع هو ابن سليمان) والشريشي 4: 90 وربيع الأبرار 2: 80.
[492] حلية الأولياء 9: 127 والشريشي 4: 90 وقارن بمناقب الشافعي 2: 166.
[494] مناقب الشافعي 2: 176، 177.
14 1 التذكرة(1/209)
الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين، وذلّت هيبة المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك، واعف عن تقصيري بكرم وجهك، قال: ثم قمنا وانصرفنا، فلمّا دخلت بغداد، وكان هو بالعراق، فقعدت على الشطّ أتوضأ للصلاة إذ مرّ بي رجل فقال لي: يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفتّ فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره، فالتفت إليّ فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت:
نعم تعلّمني مما علّمك الله شيئا، فقال لي: اعلم أنّ من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرّت عيناه بما يرى من ثواب الله غدا، أفلا أزيدك؟ قلت: بلى، قال: من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود الله تعالى؛ ألا أزيدك؟ قلت: بلى، قال: كن في الدنيا زاهدا، وفي الآخرة راغبا، واصدق الله في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى فسألت عنه من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي.
[495]- وسئل عن الرياء فقال على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء، فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم.
[496]- وقال الشافعي رضي الله عنه أيضا: إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، وأي عقارب ترهب، وأي عافية تشكر، وأي بلاء تذكر، فإنك إذا فكرت في واحد من هذه الخصال صغر في عينك عملك.
[497]- وكان الشافعيّ ممن يريد بالفقه وجه الله لا السمعة «1» والرئاسة،
__________
[497] قارن بصفة الصفوة 2: 142 وتقييد العلم: 19.(1/210)
ولذلك قال: وددت أنّ الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إليّ منه شيء.
[498]- وقال: ما كلّمت أحدا قطّ إلا أحببت أن يوفّق ويسدّد ويعان ويكون عليه رعاية من الله عز وجل وحفظ، وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يبيّن الله الحق على لساني أو على لسانه.
[499]- وكان أبو حنيفة رضي الله عنه طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة للناس؛ وذكر عند ابن المبارك فقال: أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففرّ منها.
[500]- قال الربيع بن عاصم: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه، فأراده على بيت المال فأبى فضربه عشرين سوطا.
[501]- وقيل لأبي حنيفة: قد أمر لك أبو جعفر أمير المؤمنين بعشرة آلاف درهم، قال: ما رضي أبو حنيفة. فلما كان في اليوم الذي توقّع أن يؤتى بالمال صلّى الصبح ثم تغشّى بثوبه فلم يتكلّم، فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال فدخل عليه فلم يكلّمه، فقال من حضر: ما يكلّمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة، أي هذه عادته، فقال: ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت، ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك «1» بمتاع بيته، فقال لابنه: إذا متّ فادفنوني، وخذ «2» هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة فقل له: هذه
__________
[498] صفة الصفوة 2: 142 وربيع الأبرار 248/أوالشريشي 4: 90.
[499] مناقب أبي حنيفة 1: 189 وقارن بما ورد فيه 1: 181- 182.
[500] مناقب أبي حنيفة للمكي 1: 273- 274 وربيع الأبرار 3: 605.
[501] قارن بمناقب أبي حنيفة للكردري 2: 244 وانظر ربيع الأبرار: 248/أ.(1/211)
وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة، قال ابنه: ففعلت ذلك فقال الحسن: رحمة الله على أبيك لقد كان شحيحا على دينه.
[502]- قال حكيم: الدنيا تراد لثلاثة أشياء: العز والغنى والراحة، فمن زهد فيها عزّ، ومن قنع استغنى، ومن ترك السعي استراح.
[503]- وقيل للحسن إن أبا ذرّ كان يقول: الفقر أحبّ إليّ من الغنى والسقم أحبّ إليّ من الصحة. فقال الحسن: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن الاختيار من الله لم يتمنّ أنه في غير الحال التي اختارها الله له.
[504]- زفّت معاذة إلى صلة بن أشيم، فبات ليلة الزفاف يتهجد، فقيل له فقال: أدخلت بيتا فذكرت النار، يعني الحمام، ثم أدخلت بيتا فذكرت الجنة يعني بيت العروس، فما زال فكري فيهما حتى أصبحت.
[505]- كان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي، فسكر يوما ففاتته الصلاة، فجاءته جارية بمجمرة فوضعتها على رجله، فانتبه مذعورا، فقالت: لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصنع بنار الآخرة؟ فقام وقضى الصلاة وتصدّق بما معه وذهب يبيع البقل، فدخل عليه فضيل بن عياض «1» وابن عيينة
__________
[502] البصائر 7: 99 وربيع الأبرار 1: 45 وغرر الخصائص: 107.
[503] حلية الأولياء 1: 162 وربيع الأبرار: 408 ب والحكمة الخالدة: 115 وقارن بقول لأبي ذر اذ صرح أنه يحب ثلاثة: الفقر والسقم والموت وتعليق لدهثم في البيان 3: 153 وانظر العقد 3: 196 حيث يتحدث أبو هريرة عن ثلاث يكرههن الناس وهو يحبهن.
[504] قارن بصفة الصفوة 3: 141 وربيع الأبرار: 388 ب. (4: 285) .
[505] ربيع الأبرار: 409/أ (4: 372) والمستطرف 1: 68.(1/212)
فإذا تحت رأسه لبنة وما تحت جنبه شيء فقالا: إنه لم يدع أحد شيئا إلّا عوّضه الله منه بدلا، فما عوّضك ما تركت له؟ قال: الرّضا بما أنا فيه. قال سفيان ابن عيينة: ما من عملي شيء أرجى عندي من بغض هؤلاء، قال الفضيل:
رجل لا يخالط هؤلاء ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل ويصوم النهار ويحجّ ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم.
[506]- صحب رجل الربيع بن خثيم فقال: إني لأرى الربيع لم يتكلّم منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد؛ وكان لا يتكلم كلمة «1» في الفتنة، فلمّا قتل الحسين قالوا ليتكلمنّ اليوم، فقالوا: يا أبا يزيد قتل الحسين «2» فقال: أوقد فعلوا: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
(الزمر: 46) ثم سكت.
[507]- كان «3» وكيع يقول: ما خطوت للدنيا منذ أربعين سنة، ولا سمعت حديثا قطّ فنسيته، قيل وكيف ذاك؟ قال: لأنّي لا أسمع شيئا إلا عملت به.
[508]- وكان يزيد بن أبان الرقاشي من أصحاب الحسن وأنس يبكي
__________
[506] البيان والتبيين 3: 160 وحلية الأولياء 2: 109، 110، 111 وصفة الصفوة 3: 32 وربيع الأبرار 1: 772 والبصائر 2: 508 وشرح النهج 7: 93.
[507] ربيع الأبرار 277/أ؛ ووكيع بن الجراح كان أعجوبة في قدرته على الحفظ مع النسك والتعفف، وله مؤلفات عديدة، وكانت وفاته سنة 206 (تهذيب التهذيب 11: 123- 131) .
[508] العقد 3: 198 وصفة الصفوة 3: 211 وربيع الأبرار: 291 ب؛ وكان يزيد بن أبان الرقاشي البصري قاصا زاهدا بكاء وفي حديثه ضعف، وتوفي ما بين 110- 120 (تهذيب التهذيب 11: 309- 311) .(1/213)
عامّة ليله ونهاره حتى سقطت أشفار عينيه، فقال له ابنه: لو خلقت النار لأجلك ما زدت ما تصنع، فقال: هل خلقت النّار إلا لي ولأمثالي.
[509]- حاك مجمع التيمي ثوبا قد تنوّق فيه فباعه فردّ عليه بعيب فبكى، فقال له المشتري: لا تبك فقد رضيت به، فقال: ما أبكاني إلّا أني «1» تنّوقت فيه فردّ بالعيب، فأخاف أن يردّ عليّ عملي الذي عملته في أربعين سنة.
[510]- كان عمر بن حبيب إذا فرغ من تهجده قال: الرواح الرواح، السباق السباق، سبقتم إلى الماء والظلّ، من يسبق إلى الماء يظمأ، ومن يسبق إلى الظلّ يضح.
[511]- وكان في بستان له مع غلامه فأذّن المؤذن فقال الغلام: الله أكبر الله أكبر، فقال: سبقتني إليها، أنت حرّ ولك هذه النخلة.
[512]- قال جعفر بن عبد القادر المقدسي: سألت جعيلا عن حدّ الزهد؟
فقال: استصغار الدنيا، فلما وليت دعاني فقال: بل هو محو الدنيا من القلب.
[513]- قال سكين بن موسى: كنت مجاورا بمكة، وكان فيها مجنون
__________
[509] مجموعة ورام 1: 42 وربيع الأبرار: 192/أ؛ وهو مجمع بن صمغان التيمي صاحب سفيان الثوري؛ كان زاهدا عابدا ثقة (حلية الأولياء 5: 89) .
[510] ربيع الأبرار: 259 ب؛ وكان عمر بن حبيب المكي قاصا سكن اليمن، روى عن عطاء والزهري وكان حافظا متقنا (تهذيب التهذيب 7: 431) .
[511] ربيع الأبرار: 259 ب.(1/214)
ينطق بفنون الحكمة، فقلت: أين تأوي بالليل؟ فقال: إلى دار الغرباء، قلت: ما أعرف بمكة دار الغرباء، قال: سكني تلك المقابر، قلت: ما تستوحش في الليل وظلمته؟ قال: إذا ذكرت القبر ووحشته هان عليّ الليل وظلمته.
[514]- قيل: الزهادة في الدنيا قصر الأمل، لا أكل الغليظ ولا لبس السّمل «1» .
[515]- قيل للحسن: ما الحجّ المبرور؟ فقال: أن ترجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة.
[516]- وكان يقول: من ساءته خطيئة ولم يستغفر غفر له.
[517]- كان مالك بن دينار يمرّ بالسوق فيرى ما يشتهيه فيقول: يا نفس اصبري، ما أحرمك ما تريدين إلّا لكرامتك عليّ.
[518]- وقال له جار له في مرضه: ما تشتهي؟ قال: إن نفسي لتنازعني إلى شيء منذ أربعين سنة، رغيف أبيض ولبن في زجاج، فأتاه به فجعل ينظر إليه ثم يقول: دافعت «2» شهوتي عمري كلّه، حتى إذا لم يبق من عمري إلا مثل ظمء الحمار آخذها؟! انظروا يتيم آل فلان فادفعوه إليه، ومات بشهوته.
__________
[514] نسب هذا القول لسفيان بن عيينة في عيون الأخبار 2: 356 ومحاضرات الراغب 1: 511 وفي ألف باء 1: 446 (للثوري) وانظر ربيع الأبرار 1: 825 ومجموعة ورام 1: 73.
[515] ربيع الأبرار 2: 135.
[517] ربيع الأبرار: 190/أ.
[518] ربيع الأبرار: 190/أومحاضرات الراغب: 2: 412- 413 وقارن بما في حلية الأولياء 2:
366.(1/215)
[519]- قال الثوري: إذا مررت بدورهم، يعني السلاطين، فلا تنظر إليها فإنما بنوها لينظر إليها، ثم تلا قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
(الحجر: 88) الآية.
[520]- قبل سعيد بن المسيب من مال الخمس من السلطان ولم يقبله الثوري، وقال: إني لأعلم أنه حلال لي ولكن أكره أن يقع لهم في قلبي مودّة.
[521]- وقيل له: لو دخلت عليهم وتحفّظت، قال: أفتأمرونني أن أسبح في البحر «1» ولا تبتلّ ثيابي؟! [522]- محمد بن هانىء: [من الطويل] .
وما الناس إلّا ظاعن ومودّع ... وثاو «2» قريح الجفن يبكي لراحل
فهل هذه الأيام إلّا كما خلا ... وهل نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم ... ونبكي من «3» الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلّا كآجل ... وما آجل نخشاه إلا كعاجل
[523]- نظر سريع الأهوازي إلى شابّ من أولاد الملوك وهو يتوقّى في
__________
[519] ربيع الأبرار: 371 ب.
[520] ربيع الأبرار: 371 ب.
[521] ربيع الأبرار: 372/أ.
[522] ديوان ابن هانىء: 331.(1/216)
الأطعمة ويتّقي الحرّ والبرد، فقال له: يا ابن أخي، لم تفعل هذا؟ قال:
أخاف الموت، قال: فاحذر أن تصير إلى دار تتمنّى فيها الموت تقدر عليه.
[524]- وكتب رجل إلى عبد الله بن الزبير لما دعا إلى الخلافة يعظه: أما بعد، فإنّ التقوى في أهلها علامات يعرفون بها ويعرفون بها أنفسهم «1» : من صبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر النعمة، وذلّ لحكم القرآن، وإنّما الإمام كالسوق يحمل اليها ما زكا فيها، فمن كان من أهل الحقّ أتاه أهل الحقّ بحقهم، ومن كان من أهل الباطل أتاه أهل الباطل بباطلهم، فانظر أيّ الإمامين أنت.
[525]- ولما احتضر معاوية جعلوا يقلبونه فقال: إنكم تقلّبون حوّلا «2» قلّبا إن نجا من عذاب الله، ثم قال: [من الخفيف] .
إن تعذّب يكن عذابك يا ربّ ... غراما لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت أهل لعفو ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
[526]- ولما احتضر المنصور قال: يا ربيع بعنا الآخرة بنومة.
__________
[524] حلية الأولياء 1: 336 وصفة الصفوة 1: 324 والمصباح المضيء 2: 43.
[525] انظر انساب الأشراف 4/1 الفقرة 426، 425 ونور القبس: 292 وابن الأثير 4: 4 والعمدة 1: 14 وابن كثير 8: 142، 9: 68 وبهجة المجالس 2: 369 والكامل للمبرد 4: 111 والميداني 1: 149، والعسكري 1: 409.
[526] نثر الدر 3: 30 ومحاضرات الراغب 1: 174 (منسوبا لعبد الملك) وربيع الأبرار: 363/أ (منسوبا للمنصور) والبصائر 2: 433 وقارن بما قاله عند موته في ربيع الأبرار ايضا:
362/أ.(1/217)
[527]- وقال الرشيد عند موته «1» : وا حيائي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[528]- وقال المأمون لما احتضر: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
[529]- وروي أن عبد الملك قال حين ثقل، ورأى غسّالا يلوي ثوبا بيده: وددت أني كنت غسّالا لا أعيش إلّا بما أكسب يوما بيوم. فذكر ذلك لأبي حازم فقال: الحمد الله الذي جعلهم عند الموت يتمنّون ما نحن فيه، ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
[530]- وروي أيضا أنه قال عند موته، وأشار إلى الدنيا: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنّا منك لفي غرور.
[531]- ونظر هشام بن عبد الملك لما احتضر إلى بنيه وهم يبكون عليه فقال: جاد هشام لكم بالدنيا وجدتم له بالبكاء «2» ، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
__________
[527] قولة الرشيد في البصائر 2: 433 ونثر الدر 3: 35 وقارن بما قاله لدى احتضاره في مجموعة ورام 1: 282.
[528] نثر الدر 3: 39 وسراج الملوك: 48 والبصائر 2: 433 ومحاضرات الراغب 2: 495 وربيع الأبرار 363/أومجموعة ورام: 282 وأنس المحزون: 13/أ.
[529] البيان والتبيين 3: 191 والتعازي والمرائي: 226 والحكمة الخالدة: 174 ونثر الدر 7: 79 (رقم: 151) وسراج الملوك: 41 وأدب الدنيا والدين: 124 ومحاضرات الراغب 1:
174، 2: 494 ومجموعة ورام 1: 281 ولقاح الخواطر: 63/أوالدميري 2: 441.
[530] مروج الذهب 5: 369 (باريس) .
[531] الموفقيات: 473 والعقد 3: 213 والحكمة الخالدة: 175 ولباب الآداب: 122 وبهجة المجالس 1: 371 وسراج الملوك: 48 وأدب الدنيا والدين: 220 والمستطرف 1: 78 ومحاضرات الراغب 2: 495 وغرر الخصائص: 239 والجليس الصالح 2: 386.(1/218)
[532]- وأنشد لأبي العتاهية ويروى لأبي نواس: [من الكامل] .
والموت لا يخفى على أحد ... ممن أرى وكأنه يخفى
ولقد مررت على القبور فما ... ميّزت بين العبد والمولى
[533]- وقال سليمان بن الوليد «1» : [من المديد] .
ربّ مغروس يعاش به ... عدمته كفّ مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
[534]- من كلام سفيان الثوري فيما أوصى به عليّ بن الحسين «2» السلمي: عليك بالصدق في المواطن كلّها، وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها، فإنها وزر كله، وإياك يا أخي والرياء في القول والعمل، فإنه شرك بعينه، وإياك والعجب فإنّ العمل الصالح لا يرفع وفيه عجب، ولا تأخذنّ دينك إلّا ممن هو مشفق على دينه، فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه «3» كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه، كيف يعالج
__________
[532] ورد البيت الثاني في ديوان أبي العتاهية: 9 من قصيدة طويلة وفي أدب الدنيا والدين: 285 ولم ترد الأبيات في ديوان أبي نواس (رواية الصولي) .
[533] البيتان في البيان والتبيين 3: 202 والحيوان 4: 195 وعيون الأخبار 3: 61 وأدب الدنيا والدين: 120 وسليمان هذا هو أخو مسلم بن الوليد، وفي معجم الأدباء 11: 255 ونكت الهميان: 160 أنه ابن مسلم بن الوليد.
[534] حلية الأولياء 7: 82- 85 (مع بعض حذف) .(1/219)
داء الناس وينصح لهم؟ فهذا الذي لا يشفق على دينه كيف يشفق على دينك؟
وليكن جليسك من يزهّدك في الدنيا ويرغّبك في الآخرة، وإياك ومجالسة الذين يخوضون في حديث الدنيا «1» فإنهم يفسدون عليك دينك وقلبك، وأكثر ذكر الموت؛ وأكثر الاستغفار ممّا قد سلف من ذنوبك، وسل الله السلامة لما بقي من عمرك، وانصح لكلّ مؤمن إذا سألك في أمر دينه، وإياك أن تخون مؤمنا فمن خان مؤمنا «2» فقد خان الله ورسوله. وإذا أحببت أخاك في الله فابذل له نفسك ومالك، وإياك والخصومات والجدل والمراء فإنك تصير ظلوما خوّانا أثيما، وعليك بالصبر في المواطن كلها، وإياك والحدّة والغضب فإنهما يجرّان إلى الفجور، والفجور يجرّ إلى النار، ولا تمارينّ عالما فيمقتك، وإن الاختلاف إلى العلماء رحمة والانقطاع عنهم سخط الرحمن. ودع كثيرا مما يريبك إلى ما لا يريبك تكن سليما، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر تكن حبيب الله، وأقلل الفرح والضحك بما تصيب من الدنيا تزدد قوة عند الله، واعمل لآخرتك يكفك الله أمر دنياك، وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك، وإذا هممت بأمر من أمر الآخرة فشمّر إليها وأسرع من قبل أن يحول بينك وبينها الشيطان. كن طاهر القلب، نقيّ الجسد من الذنوب والخطايا، نقيّ اليدين من المظالم، سليم القلب من الغشّ والمكر والخيانة، خالي البطن من الحرام، فإنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت. كفّ بصرك عن الناس. ولا تمشينّ لغير حاجة. أقل العثرة، واقبل المعذرة، ولا تبغض أحدا ممن يطيع الله. صل من قطعك وصل رحمك، وتجاوز عمّن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء، وأقلّ دخول السوق فإنهم ذئاب عليهم «3» ثياب وفيها مردة الشياطين من الجنّ والإنس، وإذا دخلتها لزمك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنك لا ترى(1/220)
فيها إلا منكرا، فقم على طرقها فقل: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير كلّه، وهو على كلّ شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم» ، فقد بلغنا أنه يكتب لقائلها بكلّ من في السوق، عجميّ أو فصيح، عشر حسنات، ولا تجلس فيها، واقض حاجتك وأنت قائم يسلم لك دينك، وإياك أن يفارقك الدسم «1» فإنه أتمّ لعقلك، ولا تمنعنّ «2» نفسك من الحلاوة فإنها تزيد في الحلم، وعليك باللحم ولا تدم عليه ولا تدعه أربعين يوما فإنه يسيء خلقك، وعليك بالعدس فإنه يعزر الدموع ويرقّ القلب، وعليك باللباس الخشن تجد حلاوة الإيمان.
وعليك بقلة الأكل تملك سهر الليل «3» ، وعليك بالصوم فإنه يسدّ عنك باب الفجور ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلة الكلام يلن قلبك، وعليك بطول الصمت تملك الورع. ولا تكوننّ حريصا على الدنيا، ولا حاسدا، ولا تكن طعانا تنج من ألسن الناس، وكن رحيما تكن محببا إلى الناس، وارض بما قسم الله تكن غنيا، وتوكل على الله تكن قويا، ولا تنازع أهل الدنيا في دنياهم يحبك الله ويحبك أهل الأرض، وكن متواضعا تستكمل أعمال البّر. ولا تدع أيامك ولياليك وساعاتك تمرّ عليك باطلا، وعليك بذكر الموت يهّون الله عليك أمر الدنيا. اشتق إلى الجنة يوفّق الله لك الطاعة، وأشفق من النار يهوّن الله عليك المصائب، ولا تحقرنّ شيئا من المعروف. انظر يا أخي أن يكون أول أمرك تقوى الله في السّر والعلانية، واخش خشية من قد علم أنه ميت ومبعوث ثم الحشر ثم الوقوف بين يدي الجبار عز وجل، ومحاسب بعملك ثم المصير إلى إحدى الدارين: إما إلى جنة ناعمة خالدة «4» ، وإمّا إلى نار فيها ألوان(1/221)
العذاب مع خلود لا موت فيه، وارج رجاء من يعلم أنه يعفو «1» أو يعاقب.
[535]- يقال إنه «2» كان في عضد بزرجمهر مكتوب: إن كانت الحظوظ بالجدود فما الحرص؟ وإن كانت الأشياء غير دائمة فما السرور؟ وإن كانت الدنيا غرّارة فما الطمأنينة؟
[536]- روى عمر البناء البغدادي قال: لما كانت محنة غلام الخليل ونسب الصوفية إلى الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم، فأخذ فيهم أبو الحسين أحمد بن محمد المعروف بالنوري، وكان صوفيا متكلما، فأدخلوا على الخليفة فأمر بضرب أعناقهم، فتقدم النوريّ مبتدرا إلى السيّاف ليضرب عنقه، فقال له: ما دعاك إلى الابتدار إلى القتل من بين أصحابك؟ فقال: آثرت حياتهم على حياتي هذه اللحظة، فتوقّف السياف والحاضرون عن قتله، ورفع أمرهم إلى الخليفة، فردّهم إلى قاضي القضاة، وهو يومئذ إسماعيل بن إسحاق، فسأل النوريّ عن مسائل في العبادات من الطهارة والصلوات فأجابه، ثم قال: وبعد هذا لله عباد «3» يسمعون بالله، وينطقون بالله، ويصدرون بالله، ويوردون بالله، ويأكلون بالله، ويلبسون بالله، فلما سمع إسماعيل كلامه بكى بكاء طويلا، ثم دخل على الخليفة فقال: إن كان هؤلاء زنادقة فليس في
__________
[535] عيون الأخبار 3: 191 وأمالي الزجاجي: 186 وأخبار الزجاجي: 187 وقارن بقولة لحكيم في غرر الخصائص: 354.
[536] حلية الأولياء 10: 250- 251 وزهر الآداب: 991 وبهجة المجالس 2: 336. وقارن بما جاء في سراج الملوك: 155 وبهجة المجالس 2: 279 ونثر الدر 7: 42 (93) والعقد 2:
258 وعيون الأخبار 3: 191 وأبو الحسين النوري توفي سنة 295 (انظر المنتظم 6: 77 وتاريخ بغداد 5: 130 والبداية والنهاية 11: 106) .(1/222)
الأرض موحّد، فأمر بتخليتهم؛ وسأله السلطان يومئذ من أين تأكلون؟
قال: لسنا نعرف الأسباب التي تستجلب بها الأرزاق، نحن قوم مدبّرون.
[537]- قال يزيد بن الصقيل «1» العقيليّ، وكان لصا فتاب: [من الطويل] .
وإن امرءا ينجو من النار بعد ما ... تزوّد من أعمالها لسعيد
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود
[538]- وقال الحسين بن مطير الأسدي: [من الطويل] .
وقد تخدع الدنيا فيمسي غنّيها ... فقيرا ويغني بعد بؤس فقيرها
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مريرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
وكم طامع في حاجة لا ينالها ... ومن آيس منها أتاه يسيرها
[539]- كعب بن زهير: [من البسيط] .
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهمّ منتشر
__________
[537] أمالي القالي 1: 61 والبيت الأول في بهجة المجالس 1: 189.
[538] ديوان المعاني 2: 248 وأمالي المرتضى 1: 433 وحماسة ابن الشجري: 163 والخزانة 2:
486 وشعر الحسين (جمع عطوان) : 167- 169 (باختلاف في الترتيب) ، وانظر الفرج بعد الشدة 5: 12.
[539] ديوان كعب: 229 والبصائر 3: 446. ومنها بيتان في أدب الدنيا والدين: 52؛ وبيتان في حماسة البحتري: 217 منسوبان لقعنب بن أم صاحب الغطفاني والدميري 1: 71.(1/223)
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
ويروى مجمّو «1» له القدر، أي مجموع من قولك جممت «2» الماء في الحوض إذا جمعته.
[540]- وقال آخر: [من الطويل] .
ومن يحمد الدنيا لعيش يسرّه ... فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
[541]- وقال آخر: [من الكامل] .
إنّ المساءة للمسرّة موعد ... أختان رهن للعشيّة أو غد
فإذا سمعت بهالك فتيقّنن ... أن السبيل سبيله فتزوّد
[542]- قال المسيّب بن واضح «3» : صحبت ابن المبارك مقدمه من الحجّ فقال لي يا مسيّب: ما أتى فساد العامة إلا من قبل الخاصة، قلت: وكيف ذاك رحمك الله؟ قال لأنّ أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على طبقات خمس: فالطبقة الأولى هم الزهاد، والثانية العلماء، والثالثة الغزاة، والرابعة التجّار، والخامسة الولاة. فأما الزهاد فهم ملوك هذه الأمة، وأما العلماء فهم ورثة الأنبياء، وأما الغزاة فهم سيوف الله عز وجل، وأما التجار فهم الأمناء، وأما الولاة فهم الرعاة.
__________
[540] ورد البيتان في المحاسن والأضداد: 117.
[542] المسيب بن واضح حمصي روى عن اسماعيل بن عياش والكبار، وتوفي في آخر سنة 246 (عبر الذهبي 1: 448) .(1/224)
فإذا كان الزاهد طامعا فالتائب بمن يقتدي؟ وإذا كان العالم راغبا فالجاهل بمن يهتدي؟ وإذا كان الغازي مرائيا فمتى يظفر بالعدوّ؟ وإذا كان التاجر خائنا فعلام يؤتمن الخونة؟ وإذا كان الراعي ذئبا فالشاة من يحفظها؟.
[543]- قال عمرو بن عبيد للمنصور في موعظة له طويلة مشهورة: إن الله تعالى أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، وإن هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يدي من كان قبلك لم يصر إليك، فاحذر ليلة تمخّض بيوم هو آخر عمرك. فبكى المنصور وقال له: سل حاجتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى أجيئك.
[544]- قيل لزاهد كيف سخت نفسك عن الدنيا؟ قال: أيقنت أني خارج عنها كارها فأحببت أن أخرج منها طوعا.
[545]- قال الفضيل: يا ربّ إني لأستحيي أن أقول توكلت عليك، لو توكلت عليك لما خفت ولا رجوت غيرك.
[546]- وسئل الفضيل عن الزهد فقال: هو حرفان في كتاب الله عز وجل: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ
(الحديد:
23) .
__________
[543] نثر الدر 7: 64 (رقم: 19) وعيون الأخبار 2: 337 وأنساب الاشراف 3: 233- 234 وشرح النهج 2: 96، 18: 147 والموفقيات 142 والبيان والتبيين 2: 198 والشريشي 3:
35 والذهب المسبوك: 191 وتاريخ بغداد 12: 167 والمصباح المضيء 2: 136 وزهر الآداب: 102- 103 وبهجة المجالس 2: 335 (بايجاز) وتاريخ الخلفاء: 289.
[544] نثر الدر 7: 64 (رقم: 22) وشرح النهج 2: 96 ومجموعة ورام 2: 9 والبصائر 1: 247 وبهجة المجالس 2: 290.
[545] نثر الدر 7: 65 (رقم: 30) وشرح النهج 2: 97 والعقد 3: 178 والبصائر 2: 433.
[546] نثر الدر 7: 66 (رقم: 37) ومحاضرات الراغب 1: 511 وشرح النهج 2: 97 وقد مرّ هذا في رقم: 165.
15 1 التذكرة(1/225)
[547]- وقف أعرابيّ على قبر هشام، وخادم له يقول: ما لقينا بعدك؟ فقال: إيها عليك، أما إنه لو نشر لأخبرك أنه لقي أشدّ مما لقيتم.
[548]- قال مطرّف: لأن يسألني ربّي ألا فعلت، أحبّ إليّ من أن يسألني لم فعلت.
[549]- وقف بعضهم على قبر بعض الجبابرة فقال: أيها الجبار كم نفس قتلتها طلبا للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكبر شغلك؟
[550]- كان ابن الفضيل يوما خلف الامام، وسمع سورة الرحمن فجعل يتلوّى وأبوه ينادي: أما سمعت قوله: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ
(الرحمن: 72) فقال ابنه: يا أبة لكنّي سمعت يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ
(الرحمن: 41) .
[551]- دخل لصّ على بعض الزهاد فلم ير في داره شيئا فقال له: يا هذا أين متاعك؟ قال: حوّلته إلى الدار الأخرى.
[552]- قال بعضهم: رأيت صوفيا بالبادية فقلت له: أين الزاد؟
فقال: قدّمته إلى المعاد.
__________
[547] نثر الدر 7: 66 (رقم: 11) ومحاضرات الراغب 2: 484. وفي العقد 3: 243- 244 يقول هذا القول خصي وقف على قبر الوليد.
[548] نثر الدر 7: 68 (رقم: 52) وحلية الأولياء 2: 200 وصفة الصفوة 3: 145 وربيع الأبرار: 259/أوبايجاز في ربيع الابرار 1: 172- 173 وقارن بقولة واصل: لأن يقول لي هلا قلت ... في ربيع الأبرار 1: 763- 764. وانظر لقاح الخواطر: 45/أ.
[549] نثر الدر 7: 68 (رقم: 58) والبصائر 7: 189.
[550] نثر الدر 7: 68 (رقم: 61) . والبصائر 2: 325 وحلية الأولياء 2: 400 وصفة الصفوة 3: 45 وربيع الأبرار: 259/أ.
[551] نثر الدر 7: 69 (رقم: 65) وشرح النهج 2: 98.
[552] نثر الدر 7: 69 (رقم: 70) والبصائر 1: 176 (عن فتح الموصلي) .(1/226)
[553]- ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئا يقعدون عليه، فلما خرجوا قال لهم: لو كانت دار مقام لا تّخذنا لها أثاثا.
[554]- قال ابن السماك: خف الله كأنك لم تطعه، وارج الله تعالى كأنك لم تعصه.
[555]- وقال آخر: ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يردّه عليك الفوت، وتفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت؟! [556]- كتب آخر إلى عابد: بلغني تفرّغك للعبادة، فما سبب المعاش؟ فكتب إليه: [يا بطّال، يبلغك عنّي أنني منقطع إلى الله وتسألني عن المعاش؟!] .
[557]- قال سفيان: إذا أردت أن تعرف الدنيا فانظر عند من هي.
[558]- وقال آخر: اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها وللآخرة كذلك.
[559]- قال يحيى بن معاذ: الوعد حقّ الخلق على الله فهو أحقّ من وفى، والوعيد حقّه على الخلق فهو أحق من عفا.
__________
[553] نثر الدر 7: 70 (رقم: 77) وأدب الدنيا: 119- 120 والبصائر 4: 215.
[554] نثر الدر 4: 71، 7: 70 (رقم: 75) وربيع الأبرار 224 ب وشرح النهج 2: 99 وربيع الأبرار 2: 774 ونسب في فقر الحكماء: 297 لبزرجمهر.
[555] نثر الدر 7: 70 (رقم: 79) والبصائر 4: 288.
[556] نثر الدر 7: 71 (رقم: 85) ومنه تكملة النقص في النص.
[557] نثر الدر 7: 71 (رقم: 89) والحكمة الخالدة: 129 ومحاضرات الراغب 1: 509 (ببعض اختلاف) وربيع الأبرار 1: 57.
[558] نثر الدر 7: 71 (رقم: 91) والحكمة الخالدة: 129 وبهجة المجالس 2: 288.
[559] نثر الدر 7: 72 (رقم: 95) .(1/227)
[560] قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ قال: آسفا على أمسي، كارها ليومي، متّهما لغدي.
[561]- قيل «1» لآخر: لم تركت الدنيا؟ قال: لأني أمنع من صافيها وأمتنع من كدرها.
[562]- وقيل لآخر: ما الذي تطلب؟ قال: الراحة، قيل: فهل وجدتها؟ قال: قد وجدت أني لا أجدها في الدنيا.
[563]- كان يحيى بن معاذ يقول: يا أيها الناس لا تكونوا ممن يفضحكم يوم موتكم ميراثه، ويوم القيامة ميزانه.
[564]- وقال آخر: اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا «2» عن عمل لا صبر لكم على عقابه.
[565]- وكان بعض التابعين يقول: أصبحت في أجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابنا، والنار من ورائنا، ولا ندري ما يفعل الله بنا.
__________
[560] نثر الدر 7: 74 (رقم: 108) والبصائر 3: 471. وشرح النهج 8: 247.
[561] نثر الدر 7: 74 (رقم: 109) وهو في نسخة الفاتح من البصائر ولم يرد في المطبوعة وموقعه فيها لو ورد ص: 478 من الجزء الثالث وشرح النهج 7: 247 وربيع الأبرار 1: 98.
[562] نثر الدر 7: 74 (رقم: 110) والبصائر 3: 617.
[563] نثر الدر 7: 75 (رقم: 124) وحلية الأولياء 10: 63 ومحاضرات الراغب 1: 523 والمستطرف 1: 140.
[564] نثر الدر 7: 76 (رقم: 127) .
[565] نثر الدر 7: 76 (رقم: 130) والبصائر 2: 435 وشرح النهج 8: 247 ونسب في أمالي الطوسي 2: 254 للربيع بن خثيم.(1/228)
[566]- قال أبو حازم: عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كلّ يوم مرحلة، ويتركون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كلّ يوم مرحلة.
[567]- قال مطرف بن عبد الله: لا تنظروا إلى خفض عيشهم ولين لباسهم؛ ولكن انظروا إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم.
[568]- قال قتادة: يعطي الله العبد على نية الآخرة ما شاء من الدنيا، ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا.
[569]- وقال آخر: إذا ابتليت أن تدخل مع الناس إلى سلطان فإذا أخذوا في الثناء فخذ في الدعاء.
[570]- كتب ناسك إلى ناسك يستوصفه الدنيا والآخرة فكتب إليه:
الدنيا حلم والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث ننقل إلى أجداث.
[571]- رأى بعض العبّاد رجلا يضرب غلامه فوعظه ونهاه، فقلب السوط، وأخذ يضرب العابد، وتسارع الناس إليه فقال: دعوه فقد أمرت
__________
[566] نثر الدر 7: 77 (رقم: 132) والحكمة الخالدة: 126 وشرح النهج 2: 94.
[567] نثر الدر 7: 78 (رقم: 144) والبيان والتبيين 3: 152- 153 وبهجة المجالس 1: 351 ومحاضرات الراغب 1: 173 وربيع الأبرار 1: 565، 369 ب وشرح النهج 18: 365 وغرر الخصائص: 81.
[568] في مجموعة ورام 1: 76 عن أنس يرفعه؛ ومرّ في رقم: 416 وقارنه بقول للحسن البصري في الحكمة الخالدة: 151.
[569] نثر الدر 7: 79 (رقم: 150) وعيون الأخبار 1: 23 والبيان والتبيين 3: 275.
[570] نثر الدر 7: 26 (رقم: 126) ، 86 (رقم: 160) وبعضه في مجموعة ورام 2: 24 منسوبا لعلي بن الحسين؛ وورد القول نفسه في مختار الحكم: 336 والتمثيل والمحاضرة: 170 والبصائر 4: 75 وزهر الآداب: 810 وهو للفضيل بن عياض في الايجاز والاعجاز: 35.
[571] نثر الدر 7: 86 (رقم: 161) .(1/229)
بالمعروف ونهيت عن المنكر وأحتاج الآن أن أصبر على ما أصابني، فبذلك نطق الكتاب.
[572]- كان معروف الكرخي يقول: ليكن الله عز وجل جليسك وأنيسك وموضع شكواك، فإن الناس لا ينفعون ولا يعطون ولا يحرمون، وإن شفاء ما ينزل بك من المصائب كتمانه.
[573]- بنى ملك في بني إسرائيل مدينة فتأنّق «1» في بنائها، ثم صنع للناس طعاما، ونصب على باب المدينة من سأل عنها، فلم يعبها أحد، إلا ثلاثة نفر عليهم الأكسية، فإنهم قالوا: رأينا عيبين، فسألهم فقالوا: تخرب ويموت صاحبها، فقال: فهل تعلمون دارا تسلم من هذين العيبين؟ قالوا:
نعم، الآخرة. فخلّى ملكه وتعبّد معهم زمانا، ثم ودّعهم فقالوا: هل رأيت منا ما تكرهه؟ قال: لا لكن عرفتموني فأنتم تكرمونني فأصحب من لا يعرفني.
[574]- قال الحسن: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، قيل له فإن كلام الحجاج ليقذك؟ قال: نعم، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرءا ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحريّ أن تطول عليها حسرته.
[575]- وقال المدائني: حجّ الحجاج فنزل بعض المياه، ودعا بالغداء
__________
[572] نثر الدر 7: 86 (رقم: 162) وقارن بحلية الأولياء 8: 360 وصفة الصفوة 2: 181.
[573] ربيع الأبرار 1: 59 وقارن بالمستطرف 2: 115.
[574] البيان والتبيين 2: 193- 194 ومحاضرات الراغب 2: 384 وربيع الأبرار 1: 68؛ وفي الموفقيات: 100- 101 أن الذي وقذته كلمات الحجاج هو مالك بن دينار.
[575] البيان والتبيين 4: 98- 99 وعيون الأخبار 2: 366 والعقد 3: 444 والامتاع والمؤانسة 3: 80 وسراج الملوك: 60.(1/230)
فقال لحاجبه: اطلب «1» من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر، فنظر الحاجب فإذا هو بأعرابيّ في شملتين من شعر نائم، فضربه برجله وقال: إيت الأمير، فأتاه فقال له الحجاج: اغسل يديك للغداء قال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: من هو؟ قال: الله تعالى، دعاني إلى الصوم فصمت، قال: أوفي مثل هذا اليوم الحار؟ قال: نعم ليوم هو أحرّ منه، قال: فافطر وصم «2» غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء، قال: ليس ذلك إلي، قال:
فكيف تسألني آجلا لعاجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز ولكن تطيّبه العافية.
[576]- ذكرت الدنيا عند الحسن فقال: [من الكامل] .
أحلام نوم أو كظلّ زائل ... إن الليب بمثلها لا يخدع «3»
[577]- وكان يتمثل: [من الكامل] .
اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغدا لغيرك كفّها والمعصم
[578]- قال عبد الله بن المخارق الشيباني: [من البسيط] .
كم من مؤمّل شيء ليس يدركه ... والمرء يزري به في دهره الأمل
ترجو الثراء وترجو الخلد مجتهدا ... ودون ما ترتجي الأقدار والأجل
__________
[576] أمالي المرتضى 1: 160.
[577] أمالي المرتضى 1: 160 (وفي الحاشية بيتان يتوسطهما هذا البيت) .
[578] عبد الله بن المخارق الشيباني هو المعروف بنابغة بني شيبان، والبيتان في ديوانه: 95 وهما في حماسة البحتري: 217 (وسقط اسم الشاعر) .(1/231)
[579] قال محمد بن الحسين الأسدي «1» : [من الوافر] .
إذا طمحت إلى أمل وطيّ ... تعرّض دونه أجل قريب
[580]- قال عبدة بن الطبيب: [من الكامل] .
إن الحوادث يخترمن وإنما ... عمر الفتى في أهله مستودع
يسعى ويجمع جاهدا مستهترا ... جدا وليس بآكل ما يجمع
[581]- وقال الجراح بن عمرو: [من الطويل] .
يرجّون أيام السلامة والغنى ... وتغتالهم دون الرجاء غوائله
[582]- روي أن عابدا قدم قرصيه ليتعشّى فعرض له سائل فأعطاه أحدهما ثم قال: ما ذاك بمشبعه ولا هذا بمشبعي، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان «2» ، ثم ناوله القرص «3» الآخر فلما نام أتي في منامه، فقيل له:
سل حاجتك؟ فقال: أن يغاث الناس.
[583]- وكان أبو عمران الجوني يقول: لا يغرّنكم من ربكم طول النسيئة وحسن الطلبة «4» فإنّ أخذه أليم شديد.
[584]- قال مجاهد في قوله عز وجل:
__________
[580] البيتان من قصيدة مفضلية رقم: 27 وهي في الحماسة البصرية 1: 282- 283.
[581] البيت له في حماسة البحتري: 217.
[583] حلية الأولياء 2: 309.(1/232)
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
(الفتح: 29) هو الخشوع.
[585]- قالت أعرابية في الموقف: سبحانك ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه.
[586]- قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟ قال: كيف يصبح من يفنى ببقائه؟! [587]- سمع يحيى بن خالد نوح بن قدامة العدوي «1» ينشد في صفة الدنيا: [من البسيط] .
حتوفها رصد وشربها رنق ... وعيشها نكد وملكها دول
فقال: لقد انتظم هذا الشعر صفة هذه الغرّارة.
__________
[585] البصائر 1: 15 ونثر الدر 4: 15 وربيع الأبرار: 156/أ (2: 247) .
[586] نسب لعلي في نهج البلاغة: 489 (رقم: 115) وأمالي الطوسي 2: 254.
[587] المحاسن والأضداد: 118 والبيت في ديوان المعاني 2: 181.(1/233)
الباب الثّاني في الآداب والسّياسة الدنيويّة ورسوم الملوك والرّعيّة(1/235)
(بسم الله الرحمن الرّحيم) الحمد لله مبدع الأشياء بمتقن فطرته، ومودعها لطائف حكمته، ومصرّف الأقدار على مشيئته، ومدبّرها بقدرته، خلق خلقه أغيارا وأخيافا، «1» ورتّبهم منازل وأصنافا، وجعل بعضهم لبعض سخريّا، وفضّلهم في الرزق فكانوا فقيرا وغنيا، وأرضى كلّا «2» بما قسم فسكنوا إليه متبوعا وتبعا، وشرع لهم في دينهم سياسة أمرهم باتّباعها شرعا، حتى دانت الرعية لملوكها وقادتها، وأعطت طوعا وكرها ذليل مقادتها، فانتظم بذلك فيهم التدبير وتمّ، وجرى عليهم حكم القضاء فحتم. أحمده على ما بطن من نعمه وظهر، وأشكر له على ما أعلن من مواهبه وأسرّ، حمد راض بما سنّي من فضله ويسّر، شاكرا لما عمّ من جوده ونشر، وأستمدّ منه صدق البصيرة فيما أدّبنا به من الأمثال والحكمة، وحسن السريرة فيما ألزمنا به من طاعة الولاة والأئمة، وأسأله الصلاة على نبيّه خير البشر، وخاتم الأنبياء والنّذر، أقام في أمته سائسا ومدبّرا، وداحضا كيد الكفر وله مدمّرا، ومجاهدا في دينه مشمّرا، وأوجب عليهم استخلاف قائم من بعده احتياطا لهم ونظرا، وجمع بذلك أمرهم فلم يجعله هملا ولا نشرا، وعلى آله وأصحابه، الناطقين برشد الحكم وصوابه.(1/237)
(الباب الثاني في الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك والرعية) هذا الباب يشتمل على بدائع الحكم وفوائد الآداب التي نطق بها العلماء والحكماء ضياء للقلوب «1» ، وشفاء للألباب، وأصناف السياسة التي هي قوام العالم، وبها انتظام مصالحهم، وما يلزم منها طبقات الناس على اختلافها وتنوعها، وما جاء في ذلك من تمثيل الحكماء وأخبار ولاة الأمور في آدابهم وسياستهم، ومن تلاهم من أتباعهم وغيرهم؛ وهو ستة فصول:
الفصل الأول: فيه «2» الحكم والآداب التي نطق بها الحكماء والعلماء تهذيبا للنفوس، يشترك فيها السائس والمسوس.
الفصل الثاني: فيه السياسة والآداب الملكية، وما يجب عليهم من حقوق الرعية، ويلزمهم من تقيّل الأخلاق المرضيّة.
الفصل الثالث: فيه سياسة وزراء الملوك وأتباع السلطان وآدابهم «3» على اختلافهم.
الفصل الرابع: فيه الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور.
الفصل الخامس: أخبار في السياسة والآداب يقتدى بها، وتكون مثالا لمن طلبها.
الفصل السادس: نوادر تتعلق بهذا الباب «4» على قلّتها فيه وبعدها عنه «5» .(1/238)
مقدّمة
«1» قد حوى كتاب الله سبحانه وتعالى من فنون السياسة وأقسامها ما يغني متدبّره ويكفي متأمله: كالقصاص الذي جعل الله لنا فيه الحياة، والحدود التي عصم بها الأنفس والأموال والأعراض من تسرّع الجناة، والزكاة العائدة بفضل الأغنياء على الفقراء، منّة منه ليجعلهم فيما أنزل عليهم من رزقه شركاء، وكالطاعة المفترضة على الرعيّة للرّعاة، والمعدلة الموجبة لهم على الولاة، وكحقوق النساء من القسمة والتعديل على الرجال، وما يلزمهنّ لهم من حفظ الفروج ولزوم الحجال «2» ، وغير ذلك مما يخرج من هذا الكتاب ولا يليق إيراده به.
وهو بحر الحكمة التي جعلها شفاء للأسقام والأوصاب، وجلاء للأفهام والألباب، لا يدرك قراره، ولا تحصى آثاره. فمن الآيات التي فيها أدب يتّبع قوله عز وجل: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ(1/239)
مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
(لقمان: 17- 19) . وقوله عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ.
(الإسراء: 29) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
(الحجرات: 12) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
(الممتحنة: 13) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
(الحجرات: 6) . كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ*
(الروم:
32) . إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(القصص: 76) . وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
(النحل: 18) . وتقصّي ذلك وترتيبه يخرج الكتاب عن نمطه الموضوع له.(1/240)
الفصل الأول في الحكم والآداب التي نطق بها الحكماء والعلماء
[588]- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحكمة ضالّة المؤمن.
[589]- وقال علي عليه السلام: لكلّ جواد كبوة، ولكلّ حكيم هفوة، ولكلّ نفس ملّة فاطلبوا لها طرائف الحكمة.
[590]- وقال: الفكر يورث نورا، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة.
__________
[588] كشف الخفا 1: 435 والمقاصد الحسنة: 191 والشهاب: 4 (اللباب: 27) ورواه الترمذي في أواخر العلم من جامعه والبيهقي في المدخل، ونسب القول لعلي، انظر نهج البلاغة: 481 وهو لعلي في ربيع الأبرار: 263 ب وجامع بيان العلم 1: 121 وكتاب الآداب: 3 ولأبي جعفر في مجموعة ورام 2: 149 وانظر التمثيل والمحاضرة: 174 والعقد 2: 254 ولباب الآداب: 422.
[589] قارن بجامع بيان العلم 1: 126 وأمثال أبي عبيد: 51 وجمهرة العسكري 1: 308 ومجمع الميداني 2: 90 والمستقصى 2: 291، 292، ونهاية الأرب 8: 176، 181؛ وقارن أيضا بالتمثيل والمحاضرة: 174 حيث ورد: إن هذه القلوب تمل كما تمل الابدان فاطلبوا لها طرائف الحكمة، وفي الأسد والغواص: 160 أي جواد لا يكبو وأي صارم لا ينبو. ولعلي أيضا (النهج: 483) ان هذه القلوب تمل كما تمل الابدان فابتغوا لها طرائف الحكم، وانظر أيضا الحكمة الخالدة: 112 وبهجة المجالس 1: 115 ونسب القول لابن مسعود في نثر الدر 2: 70.
[590] في بهجة المجالس 1: 116 كان يقال: «التفكر نور والغفلة ظلمة» وكذلك هو في العقد 2:
255.
16 1 التذكرة(1/241)
[591] قال ابن مسعود رضي الله عنه: العلم أكثر من أن يحصى فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
[592]- وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انظروا إلى من تحتكم ولا تنظروا إلى من فوقكم.
[593]- وقال أيضا صلّى الله عليه وسلّم: جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
[594]- ومن كلامه أيضا: (1) - كرم الرجل دينه ومروءته عقله، وحسبه عمله. (2) - خير الأمور أوسطها. (3) - كلّ ميسّر لما خلق له.
__________
[591] نسب في جامع بيان العلم 1: 127 لابن عباس، ولا بن سيرين في العقد 2: 208 وللشعبي في نثر الدر 5: 50 وللرسول في مجموعة ورام 2: 15 وورد دون نسبة في كتاب الآداب: 68 وللحسن بن علي في الايجاز والاعجاز: 9 وانظر مطالع البدور 1: 7.
[592] كشف الخفا 1: 243 والمقاصد الحسنة: 103 وقد جاء على صور مختلفة عند مسلم وأحمد وابن حبان؛ ومن صوره عن أبي ذر «أوصاني خليلي أن أنظر الى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي» . وانظر الشهاب: 24 (اللباب: 131) وكتاب الآداب: 4 والتمثيل والمحاضرة: 25 ومحاضرات الراغب 1: 517.
[593] مسند أحمد 2: 254، 482 واتقان الغزي: 43 وأمثال الماوردي: 56/أوكشف الخفا 1:
395 والمقاصد الحسنة: 171 والشهاب: 19 (اللباب: 103) وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن حبان في روضة العقلاء، وانظر كتاب الآداب: 70 والتمثيل والمحاضرة: 25 والبيان والتبيين 2: 99 ومحاضرات الراغب 1: 648، 2: 31، 40 (ونسب لعائشة) والبصائر 7: 328 (وفيه مزيد من التخريج) .
[594] حشد المؤلف هنا مجموعة من الأحاديث، وإليك تخريجها واحدا واحدا:
1- كشف الخفا 2: 143 والمقاصد الحسنة: 315 والشهاب: 7 (اللباب: 34) .
2- كشف الخفا 1: 469 والمقاصد الحسنة: 205 وقد مرّ تخريجه على صورة مثل في مقدمة الكتاب ص: 23.
3- هذا جزء من حديث، انظر البخاري (تفسير السورة: 192، وأدب: 120 وقدر: 4 وتوحيد: 54) ومسلم (قدر: 6- 8) والترمذي (قدر: 3) وابن ماجه (مقدمات:
10) ومسند أحمد 1: 6، 29، 82، 129 ... ومحاضرات الراغب 1: 451(1/242)
(4) - زر غبّا تزدد حبّا. (5) - الوحدة خير من جليس السوء. (6) -
البركة في الحركة. (7) - بلّوا أرحامكم ولو بسلام. (8) - من كثّر سواد قوم فهو منهم. (9) - ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. (10) - ليس الغنى كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس.
[595]- ويقارب هذا المعنى قول علي بن أبي طالب عليه السلام:
ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك.
[596]- وقال أبو بكر رضي الله عنه: صنائع المعروف تقي مصارع السّوء.
__________
والتمثيل والمحاضرة: 28 والايجاز والاعجاز: 7 وأمثال الماوردي: 49 ب وأمل الآمل:
25.
4- كشف الخفا 1: 528 والمقاصد الحسنة: 232 والجامع الصغير 2: 27 والبيان والتبيين 2: 289 والعقد 2: 420، 3: 23 وأمثال الماوردي: 60 ب والصداقة والصديق:
131 والايجاز والاعجاز: 7.
5- كشف الخفا 2: 445 والمقاصد الحسنة: 451 وأمثال أبي عبيد: 130 وجمهرة العسكري 2: 330 والميداني 2: 216.
6- نسب لثالس في فقر الحكماء: 279.
7- كشف الخفا 1: 341 والمقاصد الحسنة: 146.
8- كشف الخفا 2: 445 والمقاصد الحسنة: 426 والتمثيل والمحاضرة: 28 والايجاز والاعجاز: 7.
9- كشف الخفا 2: 250 والمقاصد الحسنة: 370 والجامع الصغير 2: 147 وكتاب الآداب: 82 والعقد 2: 418 والشريشي 3: 12 (ضمن دعاء لعمر) والتمثيل والمحاضرة: 27 وأمثال الماوردي: 60 ب وأنس المحزون: 57 ب.
10- كشف الخفا 2: 104 والمقاصد الحسنة: 297 وأدب الدنيا والدين: 151.
[595] نهج البلاغة: 484 وحلية الأولياء 1: 75 وصفة الصفوة 1: 24 ونثر الدر 1: 313 وربيع الأبرار 1: 804 وبهجة المجالس 2: 279 وألف باء 1: 18، 462 ومجموعة ورام 1:
125 وتذكرة الخواص: 131.
[596] هو للرسول في كشف الخفا 2: 42 والمقاصد الحسنة: 268 وأدب الدنيا والدين: 201(1/243)
[597] وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: استغن عمن شئت فأنت نظيره، واحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأفضل على من شئت فأنت أميره.
أخذ هذا «1» المعنى الأول الشاعر فقال: [من الخفيف]
وإذا ما الرجاء أسقط بين النا ... س فالناس كلّهم أكفاء
[598]- قال لقمان لابنه: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب إذا لاقى الأقران، ولا أخوك إلا عند حاجتك إليه.
[599]- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحبّكم إلينا قبل أن نخبركم أحسنكم صمتا، فإذا تكلّم فأثبتكم منطقا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا. (وفي رواية: أحبّكم إلينا أحسنكم اسما، فإذا رأيناكم
__________
ولباب الآداب: 334 والجليس الصالح 1: 233 ولأبي بكر في التمثيل والمحاضرة: 28 والايجاز والاعجاز: 8 وربيع الأبرار: 328/أ (قال: وروي مرفوعا) .
[597] التمثيل والمحاضرة: 30 والايجاز والاعجاز: 8 والحكمة الخالدة: 178 ومروج الذهب 3: 174 وكتاب الآداب: 59 وربيع الأبرار: 206/أومجموعة ورام 1: 169 وأمل الآمل: 19، 26 وقارن بما وجد مكتوبا على حجر بدمشق في محاضرات الأبرار 2: 426.
[598] نثر الدر 7: 10 (رقم: 64) والكامل للمبرد 1: 213 ومختار الحكم: 276 والبيان والتبيين 2: 76 وعيون الأخبار 3: 83 (دون نسبة) وبهجة المجالس 2: 127 (دون نسبة) وورد في بهجة المجالس 1: 720 منسوبا، وهو في سراج الملوك: 143، 251 وكتاب الآداب:
45 وبرد الأكباد: 118- 119 وأدب الدنيا والدين: 248 والمستطرف 1: 194 وحلية الأولياء 7: 389 وربيع الأبرار 1: 438 وقارن بالعقد 2: 305 «أربعة لا تعرف إلا عند اربعة» .
[599] ربيع الأبرار: 292/أ: «إن أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم اسما» وانظر نثر الدر 2:
37 ومحاضرات الراغب 2: 336.(1/244)
فأجملكم منظرا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبرا) .
[600]- من كلام الجاحظ، وينسب إلى غيره: خير الدنيا والآخرة التقوى والغنى، وشرّ الدنيا والآخرة الفقر والفجور.
[601]- قال الحارث بن أسد المحاسبي: الظالم نادم وإن مدحه الناس، والمظلوم سالم وإن ذمّه الناس، والقانع غنيّ وإن جاع، والحريص فقير وإن ملك.
[602]- وقال يحيى بن معاذ الرازي: لا يعجبك حلم امرىء حتى يغضب، ولا أمانته حتى يطمع، فإنك لا تدري على أيّ شقيّه يقع.
[603]- خطب علي عليه السلام يوما فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله موادّ في الحكمة وأضداد «1» من خلافها، فإن سنح له الرجاء هاج به الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضي نسبي التحفّظ، وإن ناله «2» الخوف شغله الحزن «3» ، وإن أصابته مصيبة قصبه «4» الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن جهد
__________
[600] ورد في محاضرات الراغب 1: 503 (بصياغة مختلفة) .
[601] حلية الأولياء 10: 76.
[602] يحيى بن معاذ الرازي زاهد توفي بنيسابور سنة 258 (انظر طبقات السلمي: 107 وحلية الأولياء 1: 51 وتاريخ بغداد 14: 208) وقارن بربيع الأبرار 2: 32.
[603] نهج البلاغة: 487 ومروج الذهب 3: 175 والبصائر 3: 22 وأنس المحزون: 24 ب.
وفاضل المبرد: 3 والعقد الفريد للملك السعيد: 4- 5.(1/245)
به الجوع أقعده الضعف، وكلّ تقصير به مضّر، وكلّ إفراط له مفسد.
[604]- ومن كلام له عليه السلام: فرض الله تعالى الإيمان تطهيرا من الشرك، والصلاة تنزيها من الكبر، والزكاة سببا «1» للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للبدن «2» ، والجهاد عزا للاسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل، ومجانبة السرقة إيجابا للعفة، وترك الزنا تصحيحا للنسب، وترك اللواط تكثيرا للنسل، والشهادات استظهارا على المجاحدات، وترك الكذب تشريفا للصدق، والسلام أمانا من المخاوف، والأمانة نظاما للأمّة، والطاعة تعظيما للإمامة.
[605]- وقال أيضا: صديق الجاهل في تعب.
[606]- وقال أيضا: (1) استدلّ على ما لم يكن بما قد كان فإن الأمور أشباه. (2) من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه. (3) من اقتصر على قدره كان أبقى له. (4) هلك امرؤ لم يعرف قدره. (5) المرء مخبوء تحت لسانه.
__________
[604] نهج البلاغة: 512.
[606] هذه حكم متفرقة جمعها المؤلف في نطاق: واليك تخريج ما تيسر تخريجه منها:
1- نهج البلاغة: 480 «ان الأمور اشتبهت اعتبر آخرها بأولها» .
4- نهج البلاغة: 497 وكتاب الآداب: 59 «ما ضاع امرؤ عرف قدره» وقارن بالبيان والتبيين 2: 23 وقوانين الوزارة: 237 ومحاضرات الراغب 1: 219، 263.
5- نهج البلاغة: 497 وكتاب الآداب: 59 والفصول المهمة: 112 وأحاسن المحاسن:
153 وهو حديث في لباب الآداب: 330.(1/246)
(6) قيمة كلّ امرىء ما يحسنه. (7) بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا.
(8) ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده. (9) قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. (10) إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان. (11) نعم طارد الهمّ اليقين.
[607]- قيل لبعض العلماء: من أسوأ الناس حالا؟ قال: من قويت شهوته، وبعدت همّته، واتسعت معرفته، وضاقت مقدرته.
[608]- قال يحيى بن طالب: [من الطويل]
إذا أنت لم تفكر لنفسك خاليا ... أحاط بك المكروه من حيث لا تدري
__________
6- نهج البلاغة: 482 والتمثيل والمحاضرة: 29 وأدب الدنيا والدين: 42 والبيان والتبيين 1: 83 والبيهقي: 427 ونور القبس: 200 (والتعليق على هذه الحكمة) وقوانين الوزارة: 237 والبصائر 2: 299، 7: 210 وبهجة المجالس 1: 65 والعقد 2:
209، 3: 12 والايجاز والاعجاز: 8 والفصول المهمة: 112.
7- البيان والتبيين 2: 316 والبصائر 1: 489 وربيع الأبرار: 280 ب وشرح النهج 18:
235 (وعلّق عليه بأن ما ذكره وجد مصداقه في أولاد علي وأولاد الزبير وبني المهلب ممن أسرع فيهم القتل) .
8- نهج البلاغة: 404 والبصائر 2: 797، 3: 55 (لأعرابي) والبيان والتبيين 4: 93 (في وصية لعبد الملك بن صالح) وكتاب الآداب: 82 وقوانين الوزارة: 203 والمرادي: 64- 65 وزهر الآداب: 81 وربيع الأبرار 1: 637.
10- نسب لبطليموس في فقر الحكماء: 278.
[607] المجتنى: 72- 73 والبيان والتبيين 3: 165، 2: 99 وعيون الأخبار 1: 233 وبهجة المجالس 1: 120، 421 والجليس الصالح 2: 369. وقارن بسراج الملوك: 346 وبما ورد في كتاب الآداب: 78 «من عظمت همته طالت حسرته» ، وورد معكوسا في محاضرات الراغب 1: 449 وانظر 1: 504.
[608] هو يحيى بن طالب الحنفي من اليمامة؛ شاعر مقل من شعراء الدولة العباسية، شهد عهد الرشيد؛ وبيته هذا في الأغاني 23: 293 وفي روايته: لم تنظر ... أحاطت بك الأحزان ...(1/247)
[609] وقال قيس بن الخطيم: [من الطويل]
وإني لأغنى الناس عن متكلّف ... يرى الناس ضلّالا وليس بمهتد
وما المال والأخلاق إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود
متى ما تقد بالباطل الحقّ يأبه ... وإن قدت بالحقّ الرواسي تنقد «1»
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
[610]- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا كان الشّغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة.
[611]- قال سقراط: السبب الذي به أدرك العاجز حاجته هو الذي أقعد الحازم عن طلبته.
[612]- وقال فرفوريوس: لو تميّزت الأشياء بأشكالها لكان الكذب مع الجبن، والصدق مع الشجاعة «2» ، والراحة مع اليأس، والتعب مع الطمع، والحرمان مع الحرص، والعزّ مع القناعة، والأمن مع العفاف، والسلامة مع الوحدة.
__________
[609] الشعر في ديوان قيس: 73- 74.
[610] ربيع الأبرار: 246 ب وأدب الدنيا والدين: 58، 106 وأمثال الماوردي: 83 ب وقوانين الوزارة: 218 ومحاضرات الراغب 1: 492 (لبزرجمهر) والتمثيل والمحاضرة: 398.
[611] ورد هذا القول في كليلة ودمنة: 161 والأدب الصغير (رسائل البلغاء) : 33 والنمر والثعلب:
165 وقد ورد منظوما (البيان والتبيين 3: 259) .
والسبب المانع حظّ العاقل ... هو الذي سبب رزق الجاهل
[612] ورد في أخلاق الوزيرين: 390 لابن المعتز وهو له أيضا في نثر الدر 3: 54 وفي الوافي بالوفيات 17: 451.(1/248)
[613] وقال أيضا: لا يرفع أحد فوق درجته إلا فسد، ألا ترى إلى دودة النحل إذا جعلت في العسل كيف تموت؟! [614]- وقال آخر: السهر ألذّ للمنام كما أن الجوع أزيد في طيب الطعام؛ وهذا مطّرد في كلّ نعمة تزداد طيبا وموقعا إذا جاءت بعد ضدها.
[615]- وقال «1» آخر: من عرف الأيام لم يغفل الاستعداد.
[616]- وقال حكيم من اليونانيين: السعادات كلها في سبعة أشياء:
حسن الصورة، وصحة الجسم، وطول العمر، وكثرة العلم، وسعة ذات اليد، وطيب الذكر، والتمكن من الصديق والعدو.
[617]- وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض والدّعة.
[618]- وقال بعض الادباء، وقد سئل عن العيش: العيش في الغنى فإني رأيت الفقير لا يلتذّ بعيش أبدا؛ وقال السائل زدني، قال: الصحة، فإني رأيت المريض لا يلتذ بعيش أبدا، قال: زدني، قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا يلتذّ بعيش أبدا، قال: زدني، قال: لا أجد مزيدا.
فهذا الكلام على كمال تقسيمه واستغراقه المعنى إنما أخذه من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أصل كلّ حكمة ومآلها: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، له قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها.
__________
[617] الكامل للمبرد 1: 202، 236 ومحاضرات الراغب 1: 438 ونثر الدر 3: 7.
[618] ربيع الأبرار: 335 ب وكتاب الآداب: 19 وبهجة المجالس 1: 126 (من حوار بين الحجاج وخريم الناعم) وقارن بما في كتاب الآداب: 59 حيث جعل النعمة في تسعة أشياء؛ والحديث «من أصبح معافى في بدنه ... » ورد في روضة العقلاء: 277 والخصال 1: 161 ومحاضرات الراغب 1: 518، 2: 396، 518 وأخبار الزجاجي: 20 والعقد 3: 204.(1/249)
[619] قيل لسقراط: ما الشيء الذي لا يستغنى عنه؟ قال:
التوفيق، قيل: ولم لم تقل «1» العقل؟ قال: العقل بما هو عقل لا يجدي عاجلا وآجلا دون التوفيق الذي به يهتدى إلى ثمرة العقل وينال درجة «2» الانتفاع به.
[620]- قال صالح بن جناح العبسي: [من الطويل]
ألا إنما الإنسان غمد لقلبه ... ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل
[621]- قال فيلسوف: كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها: لا ينفع العلم بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.
[622]- قال علي عليه السلام: من كشف ضره هانت عليه نفسه.
[623]- ومن كلامه، الفقر يخرس الفطن عن حجته. المقلّ غريب في
__________
[619] نثر الدر 7: 26 (رقم: 126) ومحاضرات الراغب 1: 453.
[620] صالح بن جناح لخمي لا عبسي، وهو من شعراء العصر الأموي؛ وبيته هذا في تهذيب ابن عساكر 6: 368 ومجموعة المعاني: 30 والحماسة البصرية 2: 41.
[621] هو في الأدب الصغير (رسائل البلغاء: 28) وقارن بما نسب لأردشير في المستطرف 1: 15، 73 وانظره في التمثيل والمحاضرة: 471 (دون نسبة) ونصه: أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب الى الأدب ... الخ وانظر البصائر 1: 471 وفيه لفيلسوف: «النظر محتاج الى القبول والحسب الى الأدب والسرور الى الأمن ... الخ» ونثر الدر 7: 19 (رقم: 61) .
[622] نهج البلاغة: 469 والنص هنا مغير؛ وفي النهج: «أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من أمر عليها لسانه.
[623] نهج البلاغة: 469، 472 (رقم: 3، 4، 5، 6، 9، 26) وقوله: «إذا أقبلت الدنيا-(1/250)
وطنه. العجز آفة. الورع جنّة. نعم القرين الرضى. العلم وراثة كريمة.
البشاشة حبالة المودة. إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. ما أضمر أحدكم شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه؛ (وقد روي لنا هذا الكلام عن النبي صلّى الله عليه وسلّم) ومثله قول زهير: [من الطويل]
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى عن الناس تعلم
[624]- ومن كلامه: امش بدائك ما مشى بك. قلوب الرجال وحشية فمن تألّفها بالإحسان أقبلت إليه. من حذّرك كمن بشّرك. أوضع العلم ما وقف على اللسان وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان. إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثم تلا: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ
(آل عمران: 68) الآية. ثم قال: إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدوّ محمد من عصى الله وإن قربت قرابته.
[625]- وقال في صفة الغوغاء: هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، فقيل: قد علمنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟ قال:
__________
على أحد ... » في كتاب الآداب: 4 وفي المحاسن والأضداد: 116 (لأبي الدرداء) والتمثيل والمحاضرة: 250 وفقر الحكماء: 276 (لثالس) والحكمة الخالدة: 131 ومحاضرات الراغب 1: 451 ومروج الذهب 3: 175 والامتاع والمؤانسة 2: 150؛ وقوله «ما أضمر أحدكم شيئا ... » في الفصول المهمة: 113.
[624] نهج البلاغة: 472، 477، 478، 483، 484، (رقم: 27، 50، 59، 92، 96) وقوله «قلوب الرجال وحشية» في ربيع الأبرار 1: 458؛ وقوله: «إن أولى الناس بالأنبياء ... » ورد في ربيع الأبرار: 309/أ.
[625] نهج البلاغة: 504 (رقم: 199) وربيع الأبرار: 405/أوورد غير منسوب في العزلة: 95 وبعضه في المستطرف 1: 156 وبعضه في العقد 2: 294- 295 وقد نسب لعبد الله بن عباس.(1/251)
يرجع أصحاب المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى بنائه، والنسّاج إلى نسجه، والخبّاز إلى مخبزه.
[626]- ومن كلامه كرم الله وجهه: (1) من لان عوده كثفت أغصانه. (2) في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال. (3) من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة (معناه أن ما ينفقه في سبل الخير والبر وإن كان يسيرا فإن الله يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا) . (4) الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها. (وقد روي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) . (5) إذا ازدحم الجواب خفي الصواب. (6) الحظّ يأتي من لا يأتيه. (7) قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول. (8) كلّ معاجل يسأل الإنظار وكلّ مؤجّل يتعلّل بالتسويف. (9) كفى بالأجل حارسا.
[627]- وقال لسائل سأله عن معضلة: سل تفقها ولا تسأل تعنتا، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالم المتعنت «1» شبيه بالجاهل.
__________
[626] وردت هذه الأقوال في نهج البلاغة: 507، 509، 510، 511، 524، 525، (وأرقامها: 214، 217، 232، 240، 243، 275، 278) وورد بعضها في مصادر أخرى على النحو التالي:
1- المجتنى: 58 ونثر الدر 4: 76، وربيع الأبرار 2: 23.
2- المجتنى: 58.
3- ربيع الأبرار 1: 603.
4- سراج الملوك: 350.
5- الحكمة الخالدة: 150 وربيع الأبرار 1: 675، 717، وزهر الآداب: 375 ونسب في البيان والتبيين 2: 11 لعبد الله بن وهب الراسبي.
7- المستطرف 2: 62.
[627] نهج البلاغة: 531 (رقم: 320) وبعضه في ربيع الأبرار: 268/أولقاح الخواطر: 53/أ (لابن المعتز) .(1/252)
[628] وقال كرم الله وجهه: قيام الدنيا «1» بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف من التعلم، وغني «2» لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع دينه «3» . فإذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم عنه «4» ، وإذا بخل الغنيّ بماله شره الفقير إلى الحرام، ففسدت الدنيا بكثرة الجهال والفجار.
[629]- وقال عليه السلام: (1) الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمّنهم من مكر الله، ولا يؤيسهم من روح الله، ولا يرخّص لهم في «5» معاصي الله تعالى. (2) لكل امرىء في ماله شريكان: الحوادث والوارث. (3) صواب الرأي بالدول ويذهب بذهابها. (4) العفاف زينة الفقر. (5) الشكر زينة الغنى. (6) من نظر في عيب نفسه اشتغل عن
__________
[628] نهج البلاغة: 541 (رقم: 372) والنصّ هنا مختلف عما هو في النهج، وانظر الحكمة الخالدة: 110.
[629] وردت هذه الأقوال في نهج البلاغة: 483، 534، 536، 544 (وأرقامها: 90، 335، 340، 349، 386) واليك تخريج بعضها:
1- الحكمة الخالدة: 112 ولباب الآداب: 293 وعين الأدب والسياسة: 189 ومجموعة ورام 1: 300، وهو مرفوع في جامع بيان العلم 2: 55 وتذكرة الخواص: 140 وكنز العمال 10: 181، 261، 262.
2- نسب القول لأبي ذر في نثر الدر 2: 76 وقارن بما تقدم رقم: 292.
4- ربيع الأبرار: 247/أ، 354/أ.
5- ربيع الأبرار: 354/أ.
6- المستطرف 1: 78 وجانب منه في شرح النهج 12: 19 (منسوبا لعمر بن الخطاب) وانظر النمر والثعلب: 154 (77) وأمالي القالي 3: 119 وألف باء 1: 373 ولباب الآداب: 17.(1/253)
عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته، ومن سلّ سيف البغي قتل به ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم اللّجج غرق، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار، ومن طلب شيئا ناله أو بعضه.
[630]- وقال أيضا: ألا إنّ من البلاء الفاقة، وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب. ألا وإنّ من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلب.
المنية ولا الدنيّة، التقلّل ولا التوسّل.
[631]- وسئل أيّهما أفضل: العدل أم الجود؟ فقال: العدل سائس عام، والجود عارض خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما.
[632]- وقال: يغلب المقدار على التقدير حتى تكون الآفة في التدبير.
وقد قارب ابن الرومي هذا المعنى في قوله: [من الكامل]
غلط الطبيب عليّ غلطة مورد ... عجزت محالته عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
[633]- وقال: إذا انقضت المدة كان الهلاك في العدة.
__________
[630] نهج البلاغة: 553 (رقم: 437) .
[632] نهج البلاغة: 556 (رقم: 459) وزهر الآداب: 226 وبيتا ابن الرومي في الجهشياري 227 وتاريخ بغداد 12: 26 وابن خلكان 3: 361 وزهر الآداب: 227 ومعاهد التنصيص 1: 118 وديوانه: 1111 وقارن بقول ابن المعتز (ربيع الأبرار 1: 561) تذل الأشياء للتقدير حتى يصير الهلاك في التدبير.
[633] الجهشياري: 227 وسراج الملوك: 294، 301 ومحاضرات الراغب 1: 453، 2:
488.(1/254)
[634] وروي أن يحيى بن خالد دخل إلى الرشيد في أوّل ما ابتدأت حاله في الفساد فرآه متخلّيا فرجع، فاستعاده الرشيد، فقال: يا يحيى رأيتني خاليا فاتهمتني قال: والله يا أمير المؤمنين ما اعتمدت إلا مسرّتك، ولكن إذا انقضت المدّة كان الحتف في الحيلة «1» .
[635]- قال عمرو «2» بن مروان بن محمد: عرض أبي بظهر الكوفة ثمانين ألف عربي، ثم قال بعد أن وثق في نفسه بكثرة العدد والعدد: إذا انقضت المدة لم تغن العدّة.
[636]- وقال علي عليه السلام: ربّ مفتون بحسن القول فيه.
[637]- ومن كلامه عليه السلام: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.
[638]- وقالت القدماء: الدنيا كالماء المالح متى يزدد صاحبه منه شربا يزدد عطشا وظمأ.
__________
[634] قارن بالجهشياري: 227 والمرادي: 230 والتمثيل والمحاضرة: 145 والبصائر 1: 159 وغرر الخصائص: 353.
[635] نثر الدر 3: 26 والايجاز والاعجاز: 18- 19 وكتاب الآداب: 21.
[636] نهج البلاغة: 556 (رقم: 462) والفصول المهمة: 118 ومحاضرات الراغب 1: 51، 525، 2: 702.
[637] نهج البلاغة: 556 (رقم: 457) والبيان والتبيين 1: 274 والعقد 2: 210 وأدب الدنيا والدين: 83 ومحاضرات الراغب 1: 525، 4: 704 وبرد الأكباد: 104 (وذكر أنه حديث) .
[638] سراج الملوك: 42 والبصائر 2: 28 ومحاضرات الراغب 2: 524 وأمثال الماوردي: 82 ب وأصله في كليلة ودمنة: 70 وقارن بقول منسوب لعيسى في مجموعة ورام 1: 149.(1/255)
[639] وقال أبرويز: إنما الكلام أربعة: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم الكلام إن التمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا أمرت فاحتم، وإذا أخبرت فحقّق، وإذا سألت فأوضح.
[640]- قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: كما أن الصديق يحول بالجفاء عدوا، كذلك العدوّ يحول بالصلة صديقا.
[641]- وقال آخر: شرّ المال ما لا ينفق، وشرّ الإخوان الخاذل في الشدائد، وشرّ السلطان من خافه البريء، وشرّ البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن.
[642]- قال أفلاطون: لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.
[643]- وقال: إذا أقبل الرئيس استجاد الصنائع، وإذا أدبر استغره
__________
[639] نثر الدر 7: 45 (رقم: 104) وعيون الأخبار 1: 46 والعقد 2: 266 وتاريخ الطبري 2: 836.
[640] ربيع الأبرار 1: 464 وبهجة المجالس 1: 687.
[641] عيون الأخبار 1: 13 وأصله في كليلة ودمنة: 286.
[642] مختار الحكم: 138 وروايته: لا تقصروا ... ؛ والكلم الروحانية: 8 لا تقسروا (وهو أصوب) .
[643] وردت أقوال أفلاطون في مختار الحكم: 139، 149، 156 وقوله: «اذا أقبل الرئيس ... »
في الكلم الروحانية: 9 وقوله: «اذا خبث الزمان ... » مشابه لما في سراج الملوك: 348 ولباب الآداب: 448 والكلم الروحانية: 24 وقوله: «اذا استعمل الرئيس النفاق ... » فيه حذف مخلّ، فقد جاء في مختار الحكم: «إذا استعمل الرئيس النفاق لمن لم يقدر عليه صعب مأتاه [وإذا استعمل النفاق لمن دونه] لم يقبل بشره وضاعت عوارفه» ؛ وقوله: «اذا بلغ المرء من الدنيا ... » في الكلم الروحانية: 10.(1/256)
الأعداء. إذا خبث الزمان كسدت الفضائل وضرت، ونفقت الرذائل ونفعت، وكان خوف الموسر أشدّ من خوف المعسر. إذا بلغ المرء من الدنيا فوق مقدار نفسه تنكر على الناس. إذا استعمل الرئيس النفاق لمن دونه ضاعت عوارفه.
[644]- قيل: أحقّ الناس بالهوان المحدّث لمن لا يسمع منه، والداخل بين اثنين في حديث لم يدخلاه فيه، وآتي دعوة لم يدع إليها، وطالب المعونة من عدوّه، والمتعمّق «1» في أحواله «2» .
[645]- وقيل: الأدب يزيد العاقل عقلا والأحمق شرّا.
[646]- قال ابن مسعود: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه.
[647]- سئلت أعرابية: ما السرور؟ فقالت: كفاية ووطن وسلامة وسكن.
[648]- وروي أن أنيسا وطارقا ابني جندل من رجال كلب وفدا إلى ملك من ملوك غسّان، وكان قد بلغه عنهما عقل وأحبّ أن يمتحنهما، فقال يا
__________
[644] قارن بالبيان والتبيين 2: 115 ونثر الدر 4: 64 والمستطرف 1: 121 والخصال 2: 410 (ونسبه للرسول) والحكمة الخالدة: 77 ومحاضرات الراغب 4: 705 وبهجة المجالس 2:
174- 175.
[645] قارن بقول ابن المقفع في كليلة ودمنة: الأدب يدفع عن اللبيب السكر ويزيد الأحمق سكرا (كليلة ودمنة: 123) وسيمرّ هذا في رقم: 726.
[646] عيون الأخبار 2: 179 والحكمة الخالدة: 147 وألف باء 1: 25 ولقاح الخواطر: 73/أ.
[647] ربيع الأبرار: 402/أ (لأعرابي) وتتمته: «فيه أمن لا يذعر سوامه ولا ينحسر غمامه» .
17 1 التذكرة(1/257)
أنيس ما أنكأ الأشياء للقلوب؟ قال: فقر مكبّ وضرع إلى غير محبّ، قال يا طارق: ما أضرّ الأشياء على الملوك؟ قال: عدوّ تسري مكايده، وجليس يبثّ حبائله، وصديق يودّك ظاهره ويغولك باطنه. قال: فما الداء العضال؟
قال: ابن العمّ الحسود، كالسّبع الرصيد يساء إن أثريت ويبجح إن اختبيت، قال: يا أنيس، ما الشقاء العاجل؟ قال: الحليلة الورهاء، خطابها عواء، ورضاها بكاء، وسخطها اجتراء، قال: يا طارق ما شرّ مصحوب؟ قال: اللسان الذي لا يقيّده الحجى ولا يردعه النّهى، قال: يا أنيس ما الداء الذي لا شفاء له؟ قال: الحسد الذي لا انقضاء له. قال: يا طارق ما الداء العياء؟ قال: البخل بالممكن الموجود، والأسف على الغائب المفقود. قال: يا أنيس ما العار الذي لا يرحض؟ قال: إسلام الجار، والعجز عن حماية الذّمار. قال: يا طارق ما أكرم الأخلاق؟ قال: الجود في الإثراء والإملاق. قال: يا أنيس ما الشرف؟ قال: احتمال العظائم واجتناب المحارم. قال: يا طارق ما العزّ؟ قال: حدب العشير، وكثرة النفير، والمعاونة على القليل والخطير. قال: يا أنيس ما الكرم؟ قال: الوفاء بالذمم والبذل في الأزم. قال: يا طارق ما الشجاعة؟ قال: دفاعك عمن لا يلزمك له ذمام، وإقدامك حين تكره الإقدام. قال: يا أنيس ما أجلب الأشياء للمقت؟ قال: العجب والخرق. فقال الملك: وأبيكما لقد استمجدتما «1» أدبا، وترويتما لبا، وأحسن صلتهما.
[649]- قال معاوية: آفة المروءة الكبر وإخوان السوء، وآفة العلم
__________
[649] البصائر 3: 528 (باسهاب) ونسبه لبعض الحكماء، ونثر الدر 3: 13 وبهجة المجالس 2:
172 ولباب الآداب: 67، وقارن بما ورد في أحاسن المحاسن: 163 وقوله «آفة العلم النسيان» في الميداني 1: 39.(1/258)
النسيان، وآفة النسيان الكذب، وآفة الحلم الذلّ، وآفة الجود السّرف، وآفة القصد البخل، وآفة المنطق الفحش، وآفة اللبّ العجب، وآفة الظّرف الصّلف، وآفة الحياء الضعف، وآفة الجلد الكسل، وآفة الرزانة الكبر، وآفة الصمت العيّ.
[650]- قال عبد الملك بن مروان: أربعة لا يستحيى من خدمتهم:
السلطان والولد والضيف والدابّة.
[651]- وقال: اطلبوا معيشة لا يقدر سلطان جائر على غصبها، قيل وما هي؟ قال: الأدب.
[652]- وكان يقول: اللحن هجنة على الشريف والعجب آفة الرأي.
[653]- قال سهل بن هرون: ليس الريّ عن التشاف. من عاش غير خامل المنزلة وأفضل «1» على نفسه وأصحابه فهو وإن قلّ عمره طويل العمر، ومن كان عيشه في وحدة وضيق وقلّ خيره على نفسه وعلى الناس فهو وإن طال عمره قصير العمر. وقد يبلغ الخضم القضم، ويركب الصعب من لا ذلول له.
__________
[650] العقد 2: 460 والبصائر 4: 224 ونثر الدر 4: 15 (وفيه قصة مجملها أن عبد الملك بصق فقصر بصاقه على البساط فقام رجل فمسحه بثوبه، فقال عندئذ هذا القول) وبهجة المجالس 1: 344، 2: 138 (خمسة) وربيع الأبرار 2: 300.
[651] العقد 2: 379 ونثر الدر 3: 17 ومحاضرات الراغب 1: 32.
[652] البيان والتبيين 2: 216 وبهجة المجالس 1: 455.
[653] ورد هذا في كتاب النمر والثعلب: 166 وقوله «ليس الري عن التشاف» في مجمع الأمثال 2:
92 وكذلك قوله «قد يبلغ الخضم القضم» فيه 2: 27 وقوله «يركب الصعب من لا ذلول له» فيه 2: 252.(1/259)
والكلام الأول والأخير من أمثال العرب. (المعنى في التشاف أن يشرب الرجل الشفافة كلها وهي بقية الماء في الإناء، يقول: قد يروى الشارب قبل بلوغ تلك، ومعنى المثلين الحضّ على الرضى بيسير الحاجة إذا أعوزه جليلها) .
[654]- قال مسلمة بن عبد الملك: ما حمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم.
[655]- وقال: مروءتان ظاهرتان: الرياش «1» والفصاحة.
[656]- قال أبو العباس السفاح: إذا عظمت القدرة قلّت الشهوة، وقل أن يوجد «2» تبرع إلا ومعه حقّ مضاع.
[657]- وكان يقول: إن المقدرة تصغّر الأمنيّة، لقد كنا نستكثر أمورا أصبحنا نستقلّها لأقلّ من صحبناه؛ ثم يسجد شكرا.
[658]- قال بعضهم أنشدت المعتضد: [من الطويل] :
__________
[654] نثر الدر 3: 25 وبهجة المجالس 1: 335 ولقاح الخواطر: 33 ب.
[655] نثر الدر 3: 25 والبيان والتبيين 1: 296 وعيون الأخبار 1: 296 والامتاع والمؤانسة 2:
149 وشرح النهج 18: 129 ومحاضرات الراغب 2: 365 ومعجم الأدباء 1: 75.
[656] نثر الدر 3: 27 والبيان والتبيين 2: 99 والايجاز والاعجاز: 19 ولطائف الظرفاء: 18 (لطائف اللطف: 37) وقوله «وقلّ أن يوجد ... مضاع» شبيه بقول معاوية: «ما رأيت سرفا إلا وإلى جانبه حق مضاع» انظر البيان والتبيين 3: 267 وربيع الأبرار: 351 ب وكتاب الآداب: 81 والتمثيل والمحاضرة: 31 ومحاضرات الراغب 2: 459 والحكمة الخالدة: 177.
[657] نثر الدر 7: 27 والبصائر 2: 256.
[658] نثر الدر 3: 51 والبيت (مع بيتين آخرين) في البصائر 2: 833 ورحلة النهروالي: 155 وانظر الريحان والريعان 1: 27.(1/260)
وما الأدب الموروث لا درّ درّه ... إذا لم تؤيّده بآخر مكتسب
فكان بعد ذلك إذا رأى هاشميا لا أدب له ينشد البيت ويقول: الآداب خير من الأنساب، والأعمال خير من الأموال.
[659]- قال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر فيهما من العيّ، إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلا.
[660]- وقال: الولاية تظهر المحاسن والمساوىء.
[661]- قالت القدماء: الفاقة بلاء، والحزن بلاء، وقرب العدوّ بلاء وفراق الأحبّة بلاء، والسّقم بلاء، والهرم بلاء، ورأس البلايا كلّها الموت.
نظر إلى هذا المعنى عمران بن حطان الخارجيّ فقال: [من البسيط]
لا يعجز الموت شيء دون خالقه ... والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكلّ كرب أمام الموت متّضع ... للموت والموت فيما بعده جلل
الجاهل لا يجد للبلاء مسّا كما لا يسدي في الرخاء معروفا، ولا صبر له في أيام الشدّة كما لا رزيّة له في أيام السلامة، ولا يصدّق بالحقّ كما لا ينزع عن الكذب. إذا كان السخط عن علّة كان الرضا مرجوّا، وإذا كان عن غير علّة انقطع الرجاء، لأن العلة إذا كانت الموجدة في ورودها كان الرضى في صدرها، والعلة لها وقوع وذهاب يوجد أحيانا ويفقد أحيانا، والباطل قائم موجود لا يفقد على حال.
__________
[659] نثر الدر 3: 59 وعيون الأخبار 2: 175 3: 190 وكتاب الآداب: 41 والتمثيل والمحاضرة:
468 ومحاضرات الراغب 1: 64، 543 وأمثال الماوردي: 89 ب والعقد الثمين 4: 577..
[661] كليلة ودمنة: 285؛ وبيتا عمران في الأغاني 16: 151 وزهر الآداب: 856 وتهذيب ابن عساكر 1: 433 وربيع الأبرار: 367 ب وديوان شعر الخوارج: 168 وبيتا العباس بن الأحنف في ديوانه: 36 وفيه تخريجات وفي ربيع الأبرار 3: 91 وقوله: «ان الموجدة إذا كانت عن علة ... » في النمر والثعلب: 156 (25) وعيون الأخبار 3: 107.(1/261)
ما أحسن ما لمح هذا المعنى العباس بن الأحنف فنقله إلى الغزل واختصر اللفظ فقال: [من الكامل]
لو كنت عاتبة لسكّن عبرتي ... أملي رضاك وزرت غير مجانب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتب
[662]- وقالوا: لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصديق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلّا مع حسن النية، ولا في الحياة إلّا مع الصحة والأمن والسرور.
[663]- قال رجل لهشام: يا أمير المؤمنين احفظ عني أربعا فيهنّ صلاح ملكك واستقامة رعيّتك: لا تعدنّ عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرّنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أنّ للأعمال جزاء فاحذر العواقب وللأمور تبعات فكن على حذر.
[664]- وقالوا: الموت فيما يجمل خير من الحياة فيما يقبح. نظر إلى هذا المعنى بعض فتيان بني أمية وهم يحاربون عبد الله بن عليّ ورآه عبد الله مجدّا في الحرب فأعطاه الأمان فلم يقبله، وتقدم يقاتل ويقول، والشعر لعقيل بن علفة المّري: [من المتقارب]
__________
[662] كليلة ودمنة: 122 وكتاب الآداب: 54- 55 ومحاضرات الراغب 2: 704.
[663] سراج الملوك: 50 (والزهري يرويها في مجلس سليمان بن عبد الملك) والبصائر 4: 154- 155 وربيع الأبرار: 396/أ (لهشام) والذهب المسبوك: 150 وكتاب الآداب: 48 وزهر الآداب: 857 والمصباح المضيء 2: 120 ونهاية الأرب 6: 11 والمنهج المسلوك: 12 ب.
[664] قصة الأموي وهو يجارب عبد الله بن علي والشعر في الأغاني 4: 346 وهذا الأموي هو أحد أبناء مسلمة بن عبد الملك؛ وانظر النجوم الزاهرة 1: 258 والبيتان في عيون الأخبار 1:
191 وذكر أن زيد بن علي تمثل بهما يوم قتل.(1/262)
أذلّ الحياة وعزّ الممات ... وكلّا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثم قاتل حتى قتل. وينظر هذا الشعر إلى قول حكيم: الموت في قوة وعزّ خير من الموت في ذلّ وعجز.
[665]- قيل: أشياء ليس لها ثبات ولا تواصل ولا بقاء: ظلّ الغمام، وخلّة الأشرار، وعشق النساء، والثناء الكاذب، والمال الكثير.
[666]- قيل: من ابتلي بمرض في جسده، أو بفراق أحبته وإخوانه، أو بالغربة حيث لا يعرف مبيتا ولا مظلّا ولا يرجو إيابا، أو بفاقة تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت والموت له راحة.
[667]- قال عبد الله «1» بن سالم: رأيت بالأنبار رجلا من الصابئين، وهم «2» لا يؤمنون بعقاب ولا حساب، فلم أر رجلا أعقل ولا أزهد منه، فقلت له: فيم هذا الزهد وأنت لا ترجو ثوابا ولا تخشى عقابا؟ قال: لا أتنعم «3» منها لأنني لا أراني أصيب من الدنيا شيئا إلا دعاني إلى أكثر منه، فلما رأيت ذلك تنعّمت بقطع الأسباب بيني وبينها.
[668]- قال بعض الزهاد: من عمل بالعافية في من دونه رزق العافية
__________
[665] قارن بما ورد في مختار الحكم: 259 من أقوال بطليموس؛ والقول نفسه في كليلة ودمنة:
176 وكتاب الآداب: 54 والحكمة الخالدة: 78 والأدب الصغير: 37 وعيون الأخبار 3:
169 وأمثال الماوردي: 96 ب- 97/أوتسهيل النظر: 184- 185 (ستة أشياء لا ثبات لها) ومحاضرات الراغب 2: 704 والصداقة والصديق: 339.
[668] البصائر 1: 16 (للحسن البصري) والبيان والتبيين 3: 190 وبهجة المجالس 1: 384.-(1/263)
في من فوقه.
[669]- قيل لبعض الحكماء: ما الأشياء الناطقة الصامتة قال:
الدلائل المخبرة والعبر الواعظة.
[670]- قال بطلميوس الثاني: خذوا الدرّ من البحر، والذهب من الحجر، والمسك من الفأرة، والحكمة ممن قالها. لكلّ حريق مطفىء، فالماء للنار، والدواء للسم، والصبر للحزن، ونار «1» الحقد لا تخبو «2» أبدا.
[671]- قال المخبّل الشاعر: [من الكامل] :
وتقول عاذلتي وليس لها ... بغد ولا ما بعده علم
إنّ الثراء هو الخلود وإ ... نّ المرء يكرب يومه العدم
إني وجدّك ما يخلّدني ... مائة يطير عفاؤها أدم
ولئن بنيت لي المشقّر في ... هضب تقصّر دونه العصم
لتنقّبن عنّي المنية إ ... نّ الله ليس كحكمه حكم
إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الاله وشرّه الإثم
__________
وقارن بالحكمة الخالدة: 196 حيث ورد: «التمس العافية في من هو دونك تعطها ممن فوقك» .
[669] ربيع الأبرار 1: 702.
[670] قوله «خذوا الدرّ ... ممن قالها» ورد- ببعض اختلاف- منسوبا لأرسطاطاليس في مختار الحكم: 209 وهو لبطليموس في ربيع الأبرار: 268 ب وانظر التمثيل والمحاضرة: 174 والايجاز والاعجاز: 11.
[671] هو المخبل السعدي، والمخبل لقب له، واختلف في اسمه فقيل الربيع بن ربيعة أو كعب بن ربيعة أو ربيعة بن مالك، شاعر مخضرم يكنى أبا يزيد (الأغاني 13: 190 والسمط: 857 والشعر والشعراء: 333 والخزانة 2: 536 والاصابة 2: 218) وأبياته هذه في حماسة البحتري: 98 (ما عدا السادس) ومنها بيتان في اللسان والتاج (شقر) .(1/264)
[672] قال «1» بعض بني تميم: حضرت مجلس الأحنف بن قيس، وعنده قوم يجتمعون في أمر لهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن [من] الكرم منع الحرم. ما أقرب النقمة من أهل البغي. لا خير في لذة تعقب ندما.
لن يهلك من قصد ولن يفتقر من زهد. ربّ هزل قد عاد جدّا. من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه. دعوا المزاح فإنه يورث الضغائن وخير القول ما صدّقه الفعل. احتملوا لمن أدلّ عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم. أطع أباك «2» وإن عصاك وصله وإن جفاك. أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك. إياكم ومشاورة النساء. واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، ومن الكرم الوفاء بالذمم. ما أقبح القطيعة بعد الصّلة، والجفاء بعد اللطف، والعداوة بعد المودة. لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل. واعلم أنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك فأنفق في حقّ ولا تكوننّ خازنا لغيرك. وإذا كان الغدر في الناس موجودا فالثقة بكلّ أحد عجز. اعرف الحقّ لمن عرفه لك، واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. قال: فما رأيت كلاما أبلغ منه، فقمت وقد حفظته.
[673]- وقال المتوكّل الليثيّ: [من الكامل]
الشعر لبّ المرء يعرضه ... والقول مثل مواقع النّبل
__________
[672] قوله: «إذا كان الغدر موجودا ... » ينسب إلى ابقراط في عيون الأنباء 1: 29 وانظر:
أمالي القالي 2: 20 والجليس الصالح 2: 248.
[673] البيتان له في الأغاني 12: 156 والسمط: 252 ومعجم المرزباني: 340 (قال: وله في رواية الصولي ويروى لغيره) وكتاب الآداب: 116 وهما لمعقر بن حمار البارقي في الحيوان 3:
62 وانظر شعر المتوكل الليثي: 277.(1/265)
منها المقصّر عن رميّته ... ونوافذ يذهبن بالخصل
[674]- ولآخر: [من الطويل]
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
[675]- الأضبط بن قريع: [المنسرح]
لكلّ همّ من الهموم سعه ... والمسي والصّبح لا بقاء معه
فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه
وخذ من الدّهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه
لا تحقرنّ الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
[676]- قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أتمثل بهذين البيتين: [من الكامل]
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإنّ من ... أثنى عليك بما صنعت فقد جزى
__________
[674] البيت لهبيرة بن أبي وهب المخزومي كما في البيان والتبيين 1: 319، 3: 203.
[675] شعر الأضبط في الخزانة 4: 589 والعيني 4: 334 والبيان والتبيين 3: 341 وأمالي القالي 1: 107 وشرح الأمالي: 326 والعقد 2: 315 والحماسة البصرية 2: 2 ومجالس ثعلب:
480 وحماسة ابن الشجري: 137 والأغاني 18: 68 والفرج بعد الشدة 5: 10- 11 والايجاز والاعجاز: 39 ونشوة الطرب: 440.
[676] ربيع الأبرار: 356 ب (4: 160) والأغاني 3: 111، 112 وأدب الدنيا والدين:
205- 206 وبهجة المجالس 1: 310 ورسائل ابن أبي الدنيا: 89- 90 وزهر الآداب 529 ونشوة الطرب: 820 (لسعية بن السموأل) والشعر في البصائر 2: 419 والعقد 1:
278- 279 والصداقة والصديق: 32- 33 وأمل الآمل: 44.(1/266)
فقال عليه السلام: أعيدي عليّ قول اليهودي قاتله الله، لقد أتاني جبريل برسالة ربي عز وجل: أيّما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد لها جزاء إلا الثناء فقد كافأه؛ وقد روي هذا الشعر لغريض اليهودي وروي أيضا لورقة بن نوفل وروي أيضا لزيد بن عمرو بن نفيل.
[677]- قال جحدر بن ربيعة العكليّ: [من الطويل]
بكلّ صروف الدهر قد عشت حقبة ... وقد حملتني بينها كلّ محمل
وقد عشت منها في رخاء وغبطة ... وفي نعمة لو أنها لم تحوّل
إذا الأمر ولّى فاتعظ في طلابه ... بعقلك واطلب سيب آخر مقبل
فإنّك لا تدري إذا كنت راجيا ... أفي الريث نجح الأمر أم في التعجل
ولا تمش في الضرّاء يوما ولا تطع ... ذوي الضّعف عند المأزق المتحفل
ولا تشتم المولى تتّبع أذاته ... فإنك إن تفعل تسفّه وتجهل
ولا تخذل المولى لسوء بلائه ... متى يأكل الأعداء مولاك تؤكل
[678]- قال أفلاطن: الذكر في الكتب عمر لا يبيد.
[679]- وقال أفريدون: الأيام صحائف أعماركم فخلّدوها أحسن أعمالكم. ومثله قول المتنبي [من البسيط]
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
[680]- قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال:
__________
[678] قارن بربيع الأبرار: 357/أحيث ورد: «سئل الحكيم عن أحسن شيء في العالم فقال حسن الذكر» .
[679] التمثيل والمحاضرة: 137 والايجاز والاعجاز: 9 وأدب الدنيا والدين: 127 وفقر الحكماء:
210 (لفيثاغور) ومحاضرات الراغب 2: 407 وزهر الآداب: 212، وبيت المتنبي في ديوانه: 505.
[680] البيان والتبيين 3: 156 والعقد 2: 268 ونسب لسقراط في نزهة الأرواح 1: 145.(1/267)
الأجل. قيل: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل، قيل فما أوحش شيء؟ قال الميت، قيل: فما آنس شيء؟ قال: الصاحب المؤاتي.
[681]- قال أبو العتاهية: [من السريع]
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها من خطى الدّهر
فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر
[682]- وقال بشر بن المعتمر: [من السريع]
حيلة ما ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس والصبر
والجيد في هذا قول من قال: إذا حزبك أمر فانظر، فإن كان مما فيه حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع.
[683]- وقال آخر: [من الطويل]
وللدهر أيام فكن في لباسها ... كلبسته يوما أجدّ وأخلقا
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
__________
[681] أبيات أبي العتاهية في البيان والتبيين 4: 21 والأغاني 4: 109 وديوانه: 144 وكتاب الآداب: 95- 96 والفرج بعد الشدة 5: 66 وأنس المحزون: 25/أ- ب.
[682] بيت بشر في البيان والتبيين 4: 22 وقارن بالفرج بعد الشدة 5: 58 وبهجة المجالس 2: 366 وقوله: «إذا حزبك أمر ... تجزع» في البصائر 2: 362 (لابن المقفع) وكذلك في كتاب الآداب: 13 وأمالي المرتضى 1: 36 لابن المقفع وفي نثر الدر 4: 68 وفي ربيع الأبرار 1:
799 وأنس المحزون 10/أوفي نثر الدر 7: 41 (رقم: 80) لبزرجمهر وفي فقر الحكماء: 267 لهرمس، ونصّه «وإذا أحزنك (؟) أمر» فتأمل هذه القراءة فإنها مثال للتحقيق الدقيق (!!!) .
[683] هو عقيل بن علفة المري؛ وبيتاه في البيان والتبيين 1: 245، 4: 21 والحماسة 2: 17 ومجالس ثعلب: 502 (منسوبة لماجد الأسدي) .(1/268)
[684] وقال آخر: [من الطويل]
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره
ولا تظلم المولى ولا تضع العصا ... عن الجهل إن طارت إليك بوادره
[685]- وقال النابغة الجعدي: [من الطويل]
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
مثله «1» للمتنبي: [من الطويل]
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
[686]- وقال كعب بن عدي: [من الكامل]
شدّ العصاب على البريء بما جنى ... حتى يكون لغيره تنكيلا
والجهل في بعض الأمور إذا اعتدى ... مستخرج للجاهلين عقولا
[687]- قال المهلب بن أبي صفرة: عجبت لمن يشتري العبيد بماله
__________
[684] البيتان في البيان 3: 61 للأسدي، وورد الأول مع بيتين آخرين في 2: 357 وينسب الشعر لأوس بن حبناء في الحماسة 1: 266 وانظر ربيع الأبرار: 149 ب وكتاب الآداب: 111 ونهاية الأرب 6: 66 وغرر الخصائص: 391 (لأوس بن حسان) ولباب الآداب: 48- 49.
[685] بيتا الجعدي في رسائل الجاحظ 1: 364 وأدب الدنيا والدين: 249 وديوانه: 69؛ وبيت المتنبي في ديوانه: 196.
[686] بيتا كعب في البيان والتبيين 4: 56.
[687] البيان والتبيين 3: 205 ونثر الدر 5: 22 والبصائر 2: 708 (ببعض اختلاف) والكامل.(1/269)
ولا يشتري الأحرار بنواله.
[688]- قال عبد الله بن المعتز: أفقرك الولد أو عاداك.
[689]- قال القاهر: من صنع خيرا أو شرّا بدأ بنفسه.
[690]- قال الراضي «1» : من طلب عزا بباطل أورثه الله ذلّا بحق.
[691]- وقال عبيد «2» الله بن يحيى بن خاقان: عقل الكاتب في قلمه.
[692]- قال أوس بن حارثة: أحقّ من شركك في النعم شركاؤك في المكاره.
أخذ المعنى أبو تمام فقال، ويرويان لإبراهيم بن العباس: [من البسيط]
__________
للمبرد 2: 169 والتمثيل والمحاضرة: 134 والايجاز والاعجاز: 17 ولطائف الظرفاء: 15 (لطائف اللطف: 34) وربيع الأبرار: 323/أومحاضرات الراغب 1: 548 وروي عن ابن عمر مرفوعا في السعادة والاسعاد: 313 كما نسب في المصباح المضيء 1: 288 لابن السماك وكذلك في الشفا: 65.
[688] الايجاز والاعجاز: 22 وتحسين القبيح: 106 والوافي بالوفيات 17: 450.
[689] الايجاز والاعجاز: 22.
[690] الايجاز والاعجاز: 22 وهو لابن أبي لبابة في ربيع الأبرار: 261/أودون نسبة في كتاب الآداب: 80 والبصائر 7: 91 والتمثيل والمحاضرة: 156 وتحفة الوزراء: 124 ولقاح الخواطر: 47/أ (لبعض الحكماء) .
[691] الايجاز والاعجاز: 27 ولطائف الظرفاء: 43 (لطائف اللطف: 65) وفيها نسب للقاسم بن عبيد الله؛ وقارن بقول لاسماعيل بن صبيح في رسالة في علم الكتابة للتوحيدي: 39 «عقول الرجال تحت اسنان اقلامها» وفي التمثيل والمحاضرة: 155.
[692] عيون الأخبار 3: 20 والعقد 2: 336 وربيع الأبرار 1: 467 (وأورد البيتين) ومحاضرات الراغب 2: 14- 15 والبيتان في الحماسة البصرية 2: 3 لدعبل بن رزين الخزاعي وعيون الأخبار 3: 20 وملحقات ديوان ابراهيم الصولي: 177 والشعر والشعراء: 730 (لدعبل) وانظر ديوانه (صنعة الدكتور نجم) ص: 192.(1/270)
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
[693]- قال عبد الله بن أبي بكر: من حدّث نفسه بطول البقاء فليوطّنها على المصائب.
[694]- قال أرسطاطاليس: من أيس من الشيء استغنى عنه.
[695]- وقيل له: لم لا تجتمع الحكمة والمال؟ قال: لعزّ الكمال.
[696]- وقال آخر: من أكل ما لا يشتهي اضطرّ إلى الامتناع مما يشتهي. الاستقلال مما يضرّ خير من الاستكثار مما ينفع.
[697]- قال أبو إسحاق المروزي: من تعوّد الفقر ثم استغنى فلا ترجونّ فضله؛ كأنه ينظر إلى قول من قال: من ولد [في] الفقر أبطره الغنى.
__________
[693] البصائر 4: 300 (دون نسبة) : «من تمنى طول العمر ... » والتعازي والمراثي: 9 وبهجة المجالس 2: 223 لعبد الرحمن بن أبي بكرة، ومحاضرات الراغب 2: 329 وقارن بقولة لابن المعتز في الايجاز والاعجاز: 22 والوافي بالوفيات 17: 449.
[694] ينسب لعمر في سيرته (ابن الجوزي) : 126 وتسهيل النظر: 220 ونثر الدر 2: 39 وانظر عيون الأخبار 3: 139 والايجاز والاعجاز: 34 (حيث نسب لأفلاطون) وأمل الآمل: 33 ولقاح الخواطر: 8 ب.
[695] نسب لأفلاطون في مختار الحكم: 132 ونثر الدر 7: 24 (رقم: 107) والايجاز والاعجاز:
34 وعيون الأنباء: 1: 51؛ والقول ورد في البصائر 4: 187 وربيع الأبرار 1: 535 وكتاب الآداب: 13 والتمثيل والمحاضرة: 174 وأدب الدنيا والدين: 42 ومحاضرات الراغب 1: 508 ومطالع البدور 2: 99.
[696] قوله «الاستقلال مما يضر ... » في البصائر 1: 448 ومطالع البدور 2: 96 وأدب النديم:
26 وعيون الأنباء 1: 30 وقارن بزهر الآداب: 863 ولقاح الخواطر: 69 ب.
[697] قوله: «من ولد في الفقر أبطره الغنى» لعبد الله بن الأهتم في بهجة المجالس 1: 207 وورد في المستطرف 2: 54 وربيع الأبرار: 351 ب (لأعرابي) وتتمته: ومن ولد في الغنى ...
الفقر.(1/271)
[698] وقال حكيم: بقدر السموّ في الرفعة تكون وجبة الوقعة.
نظر إلى هذا المعنى ابن الرومي فقال: [من الطويل]
فلا تغبطنّ المترفين فإنهم ... على قدر ما يعطيهم الدهر يسلب
[699]- وقال آخر: الكريم لا تغلبه الشهوة، ولا يحكم عليه الشّره بسوءة، ولا القدرة بسطوة، ولا الفقر بذلة، ولا الغنى بعزّة، ولا الضرّ بضجر، ولا الغنى «1» ببطر.
[700]- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث من الفواقر: جار مقامة إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت إليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك.
[701]- ومن كلام علي عليه السلام: يا بنيّ إنه من أبصر عيب نفسه
__________
[698] المجتنى: 63 وسراج الملوك: 345 ومحاضرات الراغب 1: 450 ولباب الآداب: 450؛ وبيت ابن الرومي في ديوانه 1: 187 ومجموعة المعاني: 15.
[700] عيون الأخبار 1: 3 و 4: 4 وغرر الخصائص: 479 وبهجة المجالس 2: 124 ونسب لعبد الله بن عمر في برد الأكباد: 114- 115 ونسب للحسن في البصائر 2: 372 وفيه «أربع قواصم للظهر ... وفقر حاضر» وكذلك في أمثال الماوردي 91/أ (لمحمد بن سلام) وعده حديثا في الخصال 1: 206 وذكر المرأة من الفواقر في شرح النهج 18: 200 وانظر مطالع البدور 1: 13.
[701] بعضه في نهج البلاغة: 536 (رقم: 349) والعقد 2: 420 وقد مرّ مع حكم أخرى رقم:
629 وفي ربيع الأبرار 1: 783 «طوبى لمن شغله عيبه ... » . وقوله: «من سل سيف البغي ... » في ربيع الأبرار: 229 ب لفيروز بن يزدجرد وكذلك في الإيجاز والاعجاز: 14 ولجعفر الصادق في الفصول المهمة: 224 وقوله: «السعيد من وعظ بغيره» في الفصول المهمة 113.(1/272)
شغل عن عيب غيره، ومن سلّ سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبّر على الناس ذلّ، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط العلماء وقّر، ومن خالط الأنذال حقّر، ومن أكثر من شيء عرف به، والسعيد من وعظ بغيره، وليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غناء. رأس العلم الرفق وآفته الخرق. كثرة الزيارة تورث الملالة.
[702]- ومن كلام الحسين بن علي: [خير] المعروف ما لم يتقدّمه مطل ولم يتبعه منّ. الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم. النعمة محنة، فإن شكرت كانت كنزا، وإن كفرت صارت نقمة.
[703]- قال الحسن بن علي: الأمين آمن، والبريء جريء، والخائن خائف، والمسيء مستوحش.
[704]- وقال: مالك إن لم يكن لك كان عليك، فلا تبق عليه فإنه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك.
[705]- قال علي بن الحسين: من مأمنه يؤتى الحذر. يكتفي اللبيب بوحي الحديث وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول وإن كان بليغا مع سوء الاستماع.
[706]- قال محمد بن علي بن الحسين: كن لما لا ترجو أرجى منك لما
__________
[702] قوله « [خير] المعروف ... منّ» في البصائر 1: 202 (لأعرابي) وغرر الخصائص: 257- 258.
[703] قوله: «البريء جريء والخائن خائف» في ربيع الأبرار: 289/أ (3: 391) (دون نسبة) والبصائر 1: 512 وهو في نشوار المحاضرة 3: 121 للسري السقطي.
[705] قوله «من مأمنه يؤتى الحذر» ورد في فقر الحكماء: 210 لفيثاغور.
[706] المحاسن والأضداد: 110 وربيع الأبرار: 224/أوقد نسب لابن عائشة القرشي فيه وفي الأيجاز والأعجاز: 36 وبعضه في بهجة المجالس 1: 177 وقد نظمه أحد الشعراء 1: 179 18 1 التذكرة(1/273)
ترجو، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس نارا فعاد نبيا مرسلا.
[707]- وقال أيضا: ما عرف الخير من لم يتبعه، ولا عرف الشرّ من لم يجتنبه.
[708]- وقال آخر: اعرف الخير لتعمل به، واعرف الشرّ لئلا «1» تقع فيه.
[709]- وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلانا لا يعرف الشرّ، قال: ذلك أحرى أن يقع فيه.
[710]- ومن كلام محمد بن علي أيضا: ما أقبح الأشر عند الظّفر، والكآبة عند النائبة، والغلظة على الفقير، والقسوة على الجار، ومشاحنة القريب، والخلاف على الصاحب، وسوء الخلق على الأهل، والاستطالة بالقدرة، والجشع مع الفقر، والغيبة للجليس، والكذب في الحديث، والسعي بالمنكر، والغدر من السلطان، والحلف من ذي المروءة. من سأل فوق قدره استحقّ الحرمان. صلاح من جهل الكرامة في هوانه. المسترسل موقّى، والمحترس ملقّى.
[711]- وقال جعفر بن محمد: من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن
__________
الإيجاز والإعجاز: 36 وبعضه في بهجة المجالس 1: 177 وقد نظمه أحد الشعراء 1: 179.
[709] البيان والتبيين 1: 99، 2: 327 والعقد 3: 11 والطبري 1: 2757 والبصائر 2: 368 والأجوبة المسكتة رقم: 320.
[710] قوله «المسترسل موقى ... » في نثر الدر 1: 355 من كلام جعفر الصادق.
[711] قارن بربيع الأبرار 1: 707 حيث ورد: «من علامة الأحمق الاجابة قبل استقصاء الاستماع ... » .(1/274)
يسمع، والمعارضة «1» قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم.
[712]- وقال موسى بن جعفر: من لم يجد للإساءة مضضا لم يكن للإحسان عنده موقع.
[713]- وقال: ما استبّ «2» اثنان إلا انحطّ الأعلى إلى مرتبة الأسفل.
[714]- وقال آخر: ما استبّ اثنان إلّا غلب ألأمهما.
[715]- وقال موسى أيضا: من تكلّف ما ليس من عمله ضاع عمله وخاب أمله، ومن ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه منها لم ينل جسيما، ومن أبطرته النعمة وقّره زوالها.
[716]- وقال محمد بن علي بن موسى: إذا نزل القضاء ضاق الفضاء.
سوء العادة كمين لا يؤمن. وأحسن من العجب بالقول ألا تقول. وكفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. ولا يضرّك سخط من رضاه الجور. تعزّ عن الشيء إذا منعته لقلّة صحبته إذا أعطيته.
[717]- وقال الحسن ابنه: شر من المرزئة «3» سوء الخلف «4» . من أقبل مع
__________
[713] محاضرات الراغب 1: 392، 414 (لعلي) .
[714] العقد 2: 283 وربيع الأبرار: 172/أوالتمثيل والمحاضرة: 455 وكتاب الآداب: 82 ومحاضرات الراغب 2: 414 وقد وردت العبارة في حوار بين أبي العيناء وابن مكرم في البصائر 2: 557.
[716] قوله «سوء العادة كمين لا يؤمن» في البصائر 1: 318 (لارسطاطاليس) .
[717] قوله «شر من المرزئة سوء الخلف» في عيون الأخبار 3: 53 وقوله: «المراء يفسد ... الوثيقة» في البصائر 1: 131 (لأعرابي) وانظر ما يلي رقم: 1017.(1/275)
أمر ولّى مع انقضائه. راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه. المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلّل العقدة الوثيقة «1» ، وأقلّ ما فيه المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
[718]- وقال علي بن موسى: إن للقلوب إقبالا وإدبارا ونشاطا وفتورا، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت «2» ، وإذا انصرفت كلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها.
[719]- قيل: إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن تظنّ بأحد سوءا حتى تعلم ذلك منه، فإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتى يرى ذلك منه.
[720]- قال محمد بن علي بن موسى: خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشرّ من الشرّ جالبه، وأهول من الهول راكبه.
[721]- وقال الحسن ابنه «3» : من مدح غير المستحقّ للمدح فقد قام مقام المتّهم.
[722]- وقال: ادفع المسألة ما وجدت المحمل يمكنك، فإن لكلّ يوم خيرا جديدا.
__________
[720] قارن بأدب الدنيا والدين: 85 والتعازي للمدائني: 17، 93 والبيان والتبيين 4: 75 وقوانين الوزارة: 164 والجوهر النفيس: 45/أوبمطالع البدور 2: 98 حيث نسب الى سقراط قوله: «خير من الخير وشر من الشر من عمل به» ؛ وهو له أيضا في عيون الأنباء 1: 47؛ وجاء في نزهة الارواح 1: 136 «خير من الخير من عمل به» وهو منسوب لسقراط.(1/276)
[723] وقال الحسن بن محمد أيضا: حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن.
[724]- وقال: اعلم أن للحياء مقدارا «1» فإن زاد عليه فهو حصر، وللجود مقدار فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدار فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد مقدار فإن زاد عليه فهو تهوّر.
[725]- وقال جعفر بن محمد: الأدب عند الأحمق كالماء العذب في أصول الحنظل، كلما ازداد ريّا ازداد مرارة.
[726]- وقال صاحب كليلة ودمنة: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الجاهل سكرا، كالنهار يزيد البصير بصرا ويزيد الخفّاش سوء بصر.
[727]- وقال عبد الله بن عمر: اتقوا من تبغضه قلوبكم.
[728]- وقال بعض ملوك الهند: من ودّك لأمر أبغضك عند انقضائه.
[729]- وقال آخر: من كان نفعه في مضرّتك لم يخل من عداوتك.
[730]- وقال آخر: الاحتمال حتى تمكن القدرة.
__________
[723] زهر الآداب: 983.
[726] عيون الأخبار 1: 281، 2: 41 والبصائر 2: 29 وكليلة ودمنة: 123 وتشبيهات ابن أبي عون: 313 (عن كليلة ودمنة) وراجع ما تقدم رقم: 645.
[727] الايجاز والاعجاز: 8 والبيان والتبيين 3: 212.
[728] الايجاز والاعجاز: 11 (لبلهرا ملك الهند) والعزلة: 60 (نقش خاتم بعض الحكماء) والبصائر 1: 146 وربيع الأبرار 1: 431 (لحكيم) وروايته «ولّى مع انقضائه» ؛ وانظر رقم: 717 حيث ورد: «من أقبل مع أمر ولّى مع انقضائه» من أقوال الحسن بن محمد بن علي؛ وكتاب الآداب: 79.
[730] الايجاز والاعجاز: 12 (لفغفور ملك الصين) .(1/277)
[731] وقال أنوشروان: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
[732]- وقال الحارث بن أبي شمر الغساني: إذا التقى السيفان بطل الخيار.
[733]- وقال رستم «1» : إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع. ويشبهه قول عمرو بن معدي كرب: [من الوافر]
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
[734]- من كلام أرسطاطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة. الزمان ينشيء ويلاشي ففناء كلّ قوم سبب لكون آخرين. يسير من ضياء الحسّ خير من كثير من حفظ الحكمة. ونقله المتنبي إلى معنى آخر فقال: [من الطويل]
فإن قليل الحبّ بالعقل صالح ... وإن كثير الحبّ بالجهل فاسد
__________
[731] البيان والتبيين 1: 210 والايجاز والاعجاز: 14 والتمثيل والمحاضرة: 138 والبصائر 1: 412 (لأعرابي) وكتاب الآداب: 77 (دون نسبة) .
[732] الايجاز والاعجاز: 15.
[733] الايجاز والاعجاز: 10 والتمثيل والمحاضرة: 467 والبيان والتبيين 3: 122 والامتاع والمؤانسة 2: 150 وبهجة المجالس 1: 321 وكتاب الآداب: 77 (دون نسبة) وربيع الأبرار 2:
645، 792 (لاسفنديار) وبيت عمرو في الحماسة البصرية 1: 33 (وفيه تخريج) .
[734- 744] هذه الأقوال المنسوبة إلى أرسطاطاليس مأخوذة جميعا من رسالة الحاتمي: 24، 26، 30، 40، 34، 42، 65، 73، 71، 68، 34، 62 وانظر بديع أسامة: 264- 283؛ وقوله «الزمان ينشىء ويلاشي ... » شبيه بقول سقراط: «حوادث الزمان هلاك لقوم ووعظ لآخرين» (مختار الحكم: 101- 102) وانظر دراسة هذه الأقوال ومدى صلة شعر المتنبي بها في كتابي «ملامح يونانية» : 154- 163 وبيت المتنبي في ديوانه: 314.(1/278)
[735] وقال: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء كالكيّ والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرهما. ومثله قول المتنبي: [من البسيط]
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... فريّما صحّت الأجسام بالعلل
[736]- وقال: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدّها عن ذلك أحد علتين: إما علة دينية لخوف معاد، أو علة سياسية لخوف سيف. وقال المتنبي: [من الكامل]
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّه فلعلّة لا يظلم
[737]- وقال: علل الأفهام أشدّ من علل الأجسام.
[738]- وقال: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وعبدك وزوجك، فسبب صلاح حالهم التعدّي عليهم.
[739]- وقال: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل بوادرها لم يجزع لحلوها «1» .
__________
[735] بيت المتنبي في ديوانه: 731.
[736] بيت المتنبي في ديوانه: 219.
[737] زعم الحاتمي أن المتنبي استمد من هذه الحكمة قوله:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
[738] عدّه حديثا في الخصال 1: 86؛ وقد ذهب الحاتمي إلى أن هذا هو الذي أوحى إلى المتنبي أن يقول:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
والتعسف واضح في مثل هذه الدعوى.
[739] من هذا أخذ المتنبي قوله في رأي الحاتمي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتنا لم تزدني بها علما(1/279)
[740] وقال: إذا لم تتجرّد الأفعال من الذمّ، كان الإحسان إساءة.
[741]- وقال: خوف وقوع المكروه قبل تناهي المدّة خور في الطبع.
[742]- وقال: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله في ترك الرذائل.
[743]- وقال: من جعل الفكر في موضع البديهة فقد أضرّ بخاطره، وكذلك مستعمل البديهة في موضع الفكر.
[744]- وقال: إفراط التوقي أول موارد الخوف.
[745]- وقال عمر بن عبد العزيز: قيّدوا النّعم بالشّكر، وقيّدوا العلم بالكتاب.
__________
[740] قرن الحاتمي هذا بقول المتنبي:
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
[741] هذا أصل قول المتنبي- في نظر الحاتمي-:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا
[742] قوله «من لم يقدر على فعل الفضائل ... » ورد ما يشبهه لارسطاطاليس أيضا في مختار الحكم:
198؛ وبهذا يقرن الحاتمي قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من اكثر الناس إحسان وإجمال
[743] زعم الحاتمي أن المتنبي أخذ من هذه الحكمة قوله:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
[744] قوله هذا يذكر بقول افلاطون: إن من التوقّي ترك الافراط في التوقي (مختار الحكم: 165، 157 وانظر عيون الأخبار 1: 52) .
[745] نثر الدر 2: 123 والكامل للمبرد 1: 260 وأنس المحزون: 3 ب؛ وقوله «قيدوا العلم بالكتاب» رفعه أنس وعبد الله بن عمر إلى الرسول في جامع بيان العلم 1: 86، 88 والبيان 2: 39 والعقد 2: 419، كما نسب لعمر بن الخطاب وابن عباس وأنس.(1/280)
[746]- وقال الخليل بن أحمد: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك.
[747]- وقال أيضا: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنّفقة.
[748]- ومن أمثال العرب: خير العالم ما حوضر به، يقول: ما حفظ يكون للمذاكرة.
[749]- وقال ضابىء البرجمي: [من الطويل]
وما عاجلات الطّير تدني من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهنّ يخيب
وربّ أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهنّ وجيب
ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
[750]- وقال الصّلتان العبديّ: [من المتقارب]
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرّ الغداة ومرّ العشي
إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش ما تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
__________
[746] الكامل للمبرد 1: 302.
[747] البيان والتبيين 1: 258 والكامل للمبرد 1: 303، والشريشي 4: 385 وتقييد العلم:
141.
[748] في مجمع الأمثال 1: 162 خير الفقه ما حاضرت به أي أنفع علمك ما حضرك في وقت الحاجة إليه، وانظر محاضرات الراغب 1: 61. والقول في الكامل 1: 303.
[749] الأبيات له في أمالي المرتضى 2: 104 وزهر الآداب: 479 والخزانة 4: 227 والحماسة البصرية 2: 56- 57 ومنها بيتان في مجموعة المعاني: 153.
[750] عيون الأخبار 3: 132 والعقد 3: 188.(1/281)
[751] وقال شبيب بن البرصاء: [من الطويل]
تبيّن أدبار الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها
ترجّي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها
[752]- وقال الحارث بن حلّزة: [من السريع]
لا تكسع الشّول بأغبارها ... إنّك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإنّ شرّ اللبن الوالج
بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج
يترك ما رقّح من عيشة ... يعيث فيه همج هامج
[753]- وقال أحيحة بن الحلاج: [من الوافر]
وما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغنيّ متى يعيل
ولا تدري إذا أزمعت أمرا ... بأيّ الأرض يدركك المقيل
[754]- وقال بشر بن عامر «1» بن جون بن قشير: [من الطويل]
__________
[751] من قصيدة طويلة تنسب له ولمضرس بن ربعي ولعوف بن الأحوص الكلابي؛ انظر الحماسة البصرية 2: 242- 244 وهما البيتان 23، 5 منها.
[752] البيان والتبيين 3: 303- 304.
[753] البيتان له في حماسة الخالديين 1: 16 وحماسة البحتري: 124 ونهاية الأرب 8: 189 والحماسة البصرية 2: 43 وجمهرة اشعار العرب 1: 21 والاغاني 15: 41 واللسان (عيل) ومجموعة المعاني: 6 وربيع الأبرار 1: 584.
[754] البيت الأول مع اثنين آخرين لم يردا هنا في الحماسة البصرية 2: 50 لقتادة بن جرير أو لعبد الله ابن أبي بن سلول.(1/282)
ولم أر مثل الخير يتركه امرؤ ... ولا الشرّ يأتيه امرؤ وهو طائع
ولا كاتقاء الله خيرا تقيّة ... وأحسن صوتا حين يسمع سامع
ولا كالمنى لا ترجع الدهر طائلا ... لو أن الفتى عنهنّ بالحقّ قانع
ولا كذهاب المرء في شأن غيره ... ليشغله عن شأنه وهو ضائع
[755]- وقال «1» أبو بكر العرزمي الكوفي: [من الطويل]
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
[756]- وقال الرضيّ الموسوي: [من الطويل]
وما الدهر إلّا نعمة ومصيبة ... وما الخلق إلّا آمن وجزوع
ويوم رقيق الطرّتين مصفّق ... وخطب جراز المضربين قطوع
عجبت له يسري بنا وهو واقف ... ويأكل من أعمارنا ويجوع
[757]- وقال أيضا: [من البسيط]
لا تطلب الغاية القصوى فتحرمها ... فإنّ بعض طلاب الربح خسران
والعزم في غير وقت العزم معجزة ... والازدياد بغير العقل نقصان
__________
[755] نسبهما في البيان والتبيين 1: 171. للأعور الشني؛ ويردان في معلقة زهير حسب ورودها في جمهرة أشعار العرب ووردا في حماسة البحتري: 205، 367 منسوبين مرة لعبد الله بن معاوية ومرة لزهير، وفي فصل المقال: 52 للهيثم بن الأسود النخعي أو للأعور؛ وفي بهجة المجالس 1: 56 ودون نسبة وعين الأدب والسياسة: 105 وفاضل المبرد: 6.
[756] ديوان الرضي 1: 623.
[757] ديوان الرضي 2: 450.(1/283)
واجعل يديك مجاز المال تحظ به ... إن الأشحّاء للورّاث خزّان
[758]- وقال تأبط شرّا: [من البسيط]
عاذلتا إنّ بعض اللّوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق
سدّد خلالك من مال تجمّعه ... حتى تلاقي الذي كلّ امرىء لاق
لتقرعنّ عليّ السنّ من ندم ... إذا تذكّرت يوما بعض أخلاقي
[759]- أبو النشناش أحد لصوص بني تميم: [من الطويل]
إذا المرء لم يسرح سواما «1» ولم يرح ... إليه ولم يبسط له الوجه صاحبه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا «2» ومن مولى تعاف مشاربه
فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالبه
فعش معذرا أو مت كريما «3» فإنني ... أرى الموت لا يبقي على من يطالبه «4»
وبعده بيتان أوردناهما في الفصل الرابع من هذا الباب «5» . وسمع عبد الملك ابن مروان قوله: ولم أر مثل الفقر، فقال: لصّ وربّ الكعبة.
[760]- وقال المتوكل الليثي: [من الكامل]
__________
[758] من المفضلية رقم: 1 وهي القصيدة: 22 في مجموع شعره: 103 وتخريجها ص: 185- 186.
[759] الأبيات في الحماسة (المرزوقي رقم: 103) والأصمعيات: 125 والحماسة البصرية 1: 112 وعيون الأخبار 1: 237.
[760] بيتان من قصيدة في الخزانة 3: 617 والعيني 4: 393 والأغاني 12: 156 والحماسة البصرية(1/284)
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
والهمّ إن لم تمضه لسبيله ... داء تضمّنه الضلوع مقيم
[761]- وقال رجل من بني قريع: [من الطويل]
متى ما ير الناس الغنيّ وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسّمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
وكائن رأينا من غنيّ مذمّم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
[762]- وقال آخر: [من الطويل]
وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
[763]- وقال محمد بن هانىء: [من المتقارب]
صه كلّ آت قريب المدى ... وكلّ حياة إلى منتهى
ولم أر كالمرء وهو اللبيب ... يرى ملء عينيه ما لا يرى
__________
. 2: 15 وأدب الدنيا والدين: 39- 40 والمستطرف 1: 20 والعقد 2: 335؛ والأول منهما في حماسة البحتري: 117 وسيبويه 1: 378 (منسوبا للأخطل) وفرحة الأديب: 134 (لحسان) وقد نسب هذا البيت إلى شعراء آخرين.
[761] هو المعلوط السعدي القريعي كما في عيون الأخبار 2: 246- 247، 3: 189 وانظر الحماسة (المرزوقي رقم: 415) والبصرية 2: 71 وكتاب الآداب: 110 وزهر الآداب: 496- 497 وبهجة المجالس 1: 189 ومنها بيتان في حماسة البحتري: 157 والثالث في عين الأدب والسياسة: 48.
[763] من قصيدة له في رثاء والدة جعفر ويحيى ابني علي في ديوانه: 383.(1/285)
وليس النواظر إلا القلوب ... فأمّا العيون ففيها العمى
ومن لي بمثل سلاح الزمان ... فأسطو عليه إذا ما سطا
يجدّ بنا وهو رسل العنان ... ويدركنا وهو داني الخطى
[764]- قال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له، كما لا ينبغي للصاحي أن يخاطب السكران.
[765]- وفخروا عند فيثاغورس بالمال وكثرته فقال: ما حاجتي إلى الذي يعطيه الحظ، ويحفظه اللؤم، ويهلكه السخاء.
[766]- وقال عديّ بن زيد العباديّ: [من الطويل]
أعاذل من تكتب له النّار يلقها ... كفاحا ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل إنّ الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للرجال بمرصد
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدّد
أعاذل من لا يحكم النفس خاليا ... عن الغيّ لا يرشد بطول التفنّد
كفى زاجرا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها عن الغيّ والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
فإن كانت النعماء عندك لامرىء ... فمثلا بها فاجز المطالب أو زد
__________
[764] مختار الحكم: 153 وكتاب الآداب: 23 وشرح النهج 18: 193، وهو في التمثيل والمحاضرة: 175 وكذلك في نزهة الأرواح 1: 134 لسقراط وفي الايجاز والاعجاز: 111 لبطليموس ملك الروم، وفي فقر الحكماء: 278 لثاليس؛ ولا فلاطون في الكلم الروحانية: 19 والساوي (مختصر الصوان) : 12/أوانظر محاضرات الراغب 1: 34.
[765] المجتنى: 93 ومنتخب صوان الحكمة: 116 (باختلاف يسير) ومختار الحكم: 70 وقارن بالحكمة الخالدة: 140 وديوان المعالني 2: 92 ومحاضرات الراغب 1: 512 (لافلاطون) ونثر الدر 7: 23 (رقم: 99) 28 (رقم: 152) والكلم الروحانية: 119 (لفندرس) وعيون الأنباء 1: 42 والامتاع والمؤانسة 2: 45 (لثيودورس) ونزهة الأرواح 1: 185.
[766] ديوان عدي بن زيد: 102- 109 وتخريجها فيه: 221- 223.(1/286)
إذا ما امرؤ لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت طالبت الرجال برأيهم ... فعفّ ولا تأخذ بجهد فتنكد
وما المرء إلّا حيث يجعل نفسه ... فأبصر بعينيك امرءا حيث تعمد
إذا ما رأيت الشرّ يبعث أهله ... وقام جناة الغيّ بالغيّ فاقعد
[767]- قال حكيم: إذا كانت الغاية الزوال فما الجزع من تصرّف الأحوال. من رضي عن نفسه سخط الناس عليه.
[768]- قال رجل لمسعر: أتحبّ أن تهدى إليك عيوبك؟ قال: أمّا من ناصح فنعم، وأمّا من شامت فلا.
[769]- قال بشار: [من الرجز]
وافق حظّا من سعى بجدّ ... ما ضرّ أهل النّوك ضعف الكدّ
الحرّ يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الردّ
والنّصف يكفيك من التعدّي
[770]- قال حكيم: ربّ مغبوط بنعمة هي داؤه، وربّ محسود «1» على حال هي بلاؤه، وربّ مرحوم من سقم هو شفاؤه.
__________
[768] الحكمة الخالدة: 146 ونثر الدر 4: 52 ومحاضرات الراغب 1: 20 وقارن بكتاب الآداب:
11 (حيث نسب قول مشابه للاسكندر) وأدب الدنيا والدين: 236.
[769] من أرجوزته في مدح عقبة بن سلم، انظر ديوانه (جمع العلوي) : 84 وفيه تخريجها.
[770] نثر الدر 4: 60 وأدب الدنيا والدين: 120، 220 وأمثال الماوردي: 103 ب ومحاضرات الراغب 2: 394 ولباب الآداب: 463 ومطالع البدور 2: 99- 100 وعيون الأنباء 1:
52 (لافلاطون) وقارن بقول منسوب لثاليس في فقر الحكماء: 276.(1/287)
[771] ومن كلامهم: من ضاق قلبه اتّسع لسانه. من اغتّر بالعدوّ الأريب خان نفسه. من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب. من ترك التوقّي فقد استسلم لقضاء السوء. من لم تؤدّبه المواعظ أدّبته الحوادث. من لم يعرف قدره أوشك أن يذلّ. من لم يدبّر ماله أوشك أن يفتقر.
[772]- قال الأحنف: كلّ ملك غدار، وكلّ دابة شرود، وكل امرأة خؤون.
[773]- قال حكيم: لذّات الدنيا معدودة، منها لذة ساعة «1» ، ولذة يوم، ولذة ثلاث، ولذة شهر، ولذّة سنة، ولذّة الدهر. فأما لذّة ساعة فالجماع، وأما لذّة يوم فمجلس الشراب، وأما لذّة ثلاث فلين البدن بعد الاستحمام، وأما لذّة الشهر فالفرح بالعرس، وأمّا لذّة السنة فالفرح بالمولود الذكر، وأما لذّة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
[774]- وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودّة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجدّ.
__________
[771] قوله: «من ضاق قلبه اتسع لسانه» في المجتنى: 71.
[772] نثر الدر 5: 17 وبهجة المجالس 1: 339 وقارن بالمستطرف 1: 90 حيث ورد لحسان بن ربيع الحميري: «لا تثق بالملك فإنه ملول، ولا بالمرأة فإنها خؤون، ولا بالدابة فإنها شرود» والايجاز والاعجاز: 15.
[773] نثر الدر 7: 17 (رقم: 46) والبصائر 1: 147 وقارن بما ورد في ألف باء 2: 61.
[774] نثر الدر 7: 19 (رقم: 61) وبهجة المجالس 2: 132 وبعض هذا القول ينسب لأردشير في ربيع الأبرار: 258/أوبرد الأكباد: 128 وقارن بما ورد في الحكمة الخالدة: 766 والبصائر 4: 218- 219 وعيون الأخبار 4: 32.(1/288)
[775] كان لقمان عند داود عليه السلام وهو يسرد الدرع، فجعل يرى شيئا لا يدري ما هو، وتمنعه حكمته عن السؤال؛ قال: فلمّا فرغ صبّها عليه وقال: نعم أداة الحرب هذه، فقال: إنّ من الصمت حكما وقليل فاعله، أردت أن أسألك فكفيتني.
[776]- وقال لقمان لابنه: يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم في مجالسهم بركبتيك فإن الله عز وجل يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
[777]- ومن كلامه: يا بنيّ كذب من قال: إنّ الشّرّ يطفىء الشرّ، فإن كان صادقا فليوقد نارا عند نار فلينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى؛ يا بنيّ الخير يطفىء الشر كما يطفىء الماء النار.
[778]- ومن كلامه: لا تأمننّ امرأة على سرّ، ولا تطأ خادمة تريدها للخدمة، ولا تستسلفنّ من مسكين استغنى.
[779]- قال أبو بكر رضي الله عنه: أشقى الناس الملوك، فرأى ممن
__________
[775] نثر الدر 7: 11 (رقم: 79) ومختار الحكم: 261 والعقد 3: 471 وسراج الملوك: 240 ومجموعة ورام 1: 108 وقوله «الصمت حكم وقليل فاعله» مثل في الميداني 1: 272 وورد منسوبا للرسول في مجموعة ورام 1: 104 والتمثيل والمحاضرة: 425.
[776] البيان والتبيين 2: 149 والعقد 3: 152 والصداقة والصديق: 53 وجامع بيان العلم:
1: 128 والغنية: 47، 233 (وفيه مزيد من التخريج) والتمثيل والمحاضرة: 35 ومختار الحكم:
261 والمستطرف 1: 21.
[777] مختار الحكم: 264 وأدب الدنيا والدين: 326 والمستطرف 1: 155.
[778] ربيع الأبرار: 237/أوالمستطرف 2: 86.
[779] قارن بالبيان والتبيين 2: 43 وعيون الأخبار 2: 232 حيث ورد النصّ مسهبا، وانظر بهجة المجالس 1: 332.
9 1 التذكرة(1/289)
حضره استبعادا «1» لذلك فقال: عجلون جائرون، أما علمتم أنّ الملك إذا ملك قصر أجله، ووكلت به الروعة والحزن، وكثر في عينه قليل ما في يد غيره، وقلّ في نفسه كثير ما عنده؟(1/290)
الفصل الثاني السّياسة والآداب الملكيّة وما يجب للولاة وعليهم للرّعيّة وما يلزمهم من تقيّل الأخلاق المرضية
قالت العلماء: مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا يوصل إلى الدين إلا بالدنيا فإنها الطريق إلى الآخرة، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمالهم، والأعمال تنحصر في ثلاثة أقسام:
أحدها، أصول هي قوام العالم لا غناء للأغلب منهم عنها، وهي أربعة: الزراعة وهي للمطعم، والحياكة وهي للملبس، والبناء وهي للمسكن «1» ، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على بقية الأعمال وضبطها.
القسم الثاني: ما يهيىء هذه الصناعات ويعين عليها كالحدادة يعدّ بها آلات الزراعة، والغزل يعدّ به محلّ الحياكة.
القسم الثاني: ما يهيىء هذه الصناعات ويعين عليها كالحدادة يعدّ بها آلات الزراعة، والغزل يعدّ به محلّ الحياكة.
القسم الثالث: ما يتمّم به الأصول ويزينها، كالخبز للزراعة، والخياطة للحياكة. وأشرف هذه الصناعات أصولها، وأشرف أصولها السياسة إذ كانت حافظة نظام الكلّ، فتستدعي هذه الصناعة من الكمال ما لا تستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم صاحبها سائر الصنّاع.(1/291)
وخلق الله تعالى الدنيا زادا للمعاد ليتناول الناس منها ما يؤدّيهم إلى الدار الأخرى، فلو تناولوها بالعدل انقطعت الخصومات، ولكنهم يتناولونها بالجور ومتابعة الشّهوات ومحبة الاستئثار، فتولّدت بينهم المنازعات فاحتاجوا إلى سلطان يسوسهم ويضبط أمورهم، ولولا ردع السلطان لغلب قويّهم ضعيفهم، ولم يكن دافع عن قتل ولا وازع عن غصب.
وقد قال أردشير «1» : الدين والملك توأمان، والدين أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
ودلّت الشرائع والعقول على وجوب مقتدى به في كلّ زمان وأوان؛ وما رأينا ملة ولا دولة خلت من ذلك حتى العرب ساكني البيد والقفار والجائلين مع الوحوش في الفلوات، فإنهم لما لم يجمعهم مكان ولا نظم شملهم سلطان، جعلت كلّ فرقة منهم لها سيدا من فضلائها وذوي آلائها، يرجعون إليه في حروبهم، ويأتمرون بأمره، وينزجرون بزجره، وكانت لهم أيضا ملوك أكثرهم لها مطيعون، ولذلك قال حكيم من شعرائهم «2» [من البسيط]
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
وعلى حسب أخلاق السلطان يكون الزمان:
__________
[780] نسبه في العقد 1: 32 للأصمعي يرويه، وهو حديث في بهجة المجالس 1: 339 «صنفان من أمتي ... » وانظر نثر الدر 4: 80 وجامع بيان العلم 1: 184 وتسهيل النظر: 45 والخصال 1: 37 وحلية الأولياء 7: 5 والمصباح المضيء 1: 245 والشفا: 43 (لسفيان الثوري) .(1/292)
الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء.
[781]- وقالت الحكماء: الملوك ثلاثة: ملك دين، وملك حزم، وملك هوى. أما ملك الدين فإذا أقام لرعيته دينهم فكان هو الذي يعطيهم مالهم ويلحق بهم ما عليهم، أرضاهم بذلك وأنزل الساخط منهم بمنزلة الراضي في التسليم والاقرار. وأما ملك الحزم فإنه يقوى على الأمر ولا يسلم من الطّعن، ولن يضير طعن الذليل مع حزم القوي؛ وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر.
[782]- وقالوا: الملك محتاج من الناس إلى كثير منهم، وهم محتاجون منه إلى واحد، ومن ها هنا وجب أن يوازي حلمه أحلامهم، ويوازن فهمه أفهامهم، وأن يعمّهم بعدله، ويغمرهم بفضله، ويكنفهم كنافة الجفون لنصولها والكنائن لسهامها.
[783]- وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم.
[784]- ومن كلام عليّ عليه السلام، يذكر فيه حقّ الولاة والرعية بعضهم على بعض: أما بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم، والحقّ أوسع الأشياء في التواصف
__________
[781] الأدب الكبير: 49 (والحكمة الخالدة: 298) وعيون الأخبار 1: 2، 36 وسراج الملوك:
92 ولباب الآداب: 74 والشهب اللامعة: 9 وقارن بالمرادي: 189، 145 وبهجة المجالس 2: 128 ويتيمة السلطان (في رسائل البلغاء) 157.
[783] هو في الأدب الصغير: 14 وانظر نهج البلاغة: 480 (رقم: 73) وربيع الأبرار: 264/أوالمستطرف 1: 20 والحكمة الخالدة: 73.
[784] نهج البلاغة: 332- 334.(1/293)
وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له؛ ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله تعالى دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه، ولكن جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد لأهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها [تتكافأ] في وجوهها، ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض. وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية، وحقّ الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله تعالى لكلّ على كلّ، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه، وأدّى إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعيّة واليها، وأجحف الوالي برعيّته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاجّ «1» السنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا تستوحش لعظيم حقّ «2» عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلّ الابرار، وتعزّ الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه.
[785]- يقال إن جمشيد وهو الثالث من ملوك الفرس ملك الأقاليم وصنّف الناس وطبقهم، وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحرب والشرط وكتب
__________
[785] الجهشياري: 2 ونهاية الأرب 6: 37.(1/294)
عليه الأناة، وخاتما للخراج وجباية الأموال وكتب عليه العمارة، وخاتما للبريد وكتب عليه الوحى، وخاتما للمظالم وكتب عليه العدل. فبقيت هذه الرّسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام.
[786]- وقال أردشير بن بابك في عهده المشهور: اعلموا أن من شاء ألا يسير بسيرة إلّا قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم يكن الناس بأعلم منه بعيبه. واعلموا أن لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السّوقة ومطعمهم، وبالحرى أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا، وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد، فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليست السوقة كذلك. واجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وشرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه.
[787]- قال ابن المقفع فيما يتأدّب به السلطان: إنك إن تلتمس رضى جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتّفق لك رضى المتخالفين، أم ما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار وذوي العقول، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مؤونة ما سواه. احرص أن تكون خبيرا بأمور عمّالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن ليستبشر لعلمك فيه قبل أن يأتيه معروفك. ليعرف الناس من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإنّ ذلك أدوم لخوف الخائف ولرجاء الراجي.
[788]- قال صاحب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه
__________
[786] عهد أردشير: 66 (ف: 16) ، 70 (ف: 21) ، 72 (ف: 25) .
[787] الأدب الكبير: 46- 47 (والحكمة الخالدة: 296) ونهاية الأرب 6: 46.
[788] كليلة ودمنة: 295- 296.(1/295)
وإنزالهم منازلهم، واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى إهلاك بعض سبيلا، أو إلى تهجين بلاء المبلين «1» ، وإحسان المحسنين، والتغطية على إساءة المسيئين، سارعوا إلى ذلك «2» ، واستحالوا محاسن أمور المملكة، وهجّنوا مخارج رأيه، ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحا، وكاذب قد اتّهم أمينا، ومحتال قد أعطب بريئا. وليس ينبغي للملك أن يفسد أهل الثقة في نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغي في فضل حلمه وبسط علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وأن لا يسرع إلى إفسادهم، ولا يغتفر مع ذلك زلّة زلّها أحد منهم، ولم يزل جهّال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجّارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.
[789]- وقال سابور بن أردشير في عهده إلى ولده: وليكن وزيرك مقبول القول عندك «3» ، قويّ المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك وما يثق به من لطافة منزلته من الخشوع لأحد أو الضراعة لأحد، أو المداهنة في شيء مما تحت يده، لتبعثه الثقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشّك، وانتقاصك حقّك، وإن أورد عليك رأيا يخالفك ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبهه جبهة الظنين، ولا ترده عليه بالتهجم فيفت في عضده ذلك ويقبضه عن ابثاثك «4» كلّ رأي يلوح صوابه، بل اقبل ما ارتضيت من قوله، وعرّفه ما تخوّف من ضرر الرأي الذي انصرفت عنه، لينتفع بأدبك فيما يستقبل الرأي فيه، واحذر كلّ الحذر أن تنزل بهذه المنزلة سواه ممّن يطيف بك من خدمك
__________
[789] نثر الدر 7: 43 (رقم: 99) والجهشياري: 6 وانظر السعادة والاسعاد: 432 وقوانين الوزارة: 175- 176 وتحفة الوزراء: 21 ونهاية الأرب 6: 18.(1/296)
وحاشيتك، وأن تسهل لأحد منهم السبيل إلى الانبساط بالنطق عندك، والإفاضة في أمور رعيتك وولايتك، فإنه لا يوثق بصحّة رأيهم ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السرّ إليهم.
[790]- قال أبو إسحاق الصابي في كلام جمعه من كلام الحكماء:
الملك باصطفاء رجاله أحقّ منه باصطفاء أمواله، لأنّ كلّ درهم يسدّ مكان أخيه، وما كلّ رجل يسدّ مكان أخيه.
[791]- قال علي بن أبي طالب عليه السلام: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره ويتفقّد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن.
واجترأ المسيء، وفسد الأمر وضاع العمل.
[792]- ومن كلام «1» له عليه السلام: ازجر المسيء بثواب المحسن؛ أخذ المعنى إبراهيم بن العباس الصولي فقال: إذا كان للمحسن من الثواب ما ينفعه، وللمسيء من العقاب ما يقمعه، بذل المحسن ما عنده رغبة، وانقاد المسيء للحقّ رهبة.
[793]- كتب أبرويز إلى ابنه شيرويه وهو في حبسه: لا توسعنّ على
__________
[790] قارن بالتمثيل والمحاضرة: 141 وزهر الأداب: 588.
[791] ورد هذا القول في كليلة ودمنة: 290 وانظر لباب الآداب: 42.
[792] نهج البلاغة: 501 (رقم: 177) وقوله: «ازجر المسيء بثواب المحسن» في ربيع الأبرار 1: 603، وقول الصولي في لقاح الخواطر: 58 ب.
[793] نثر الدر 7: 35 (رقم: 34) وعيون الأخبار 1: 11 والعقد 1: 26 ومحاضرات الراغب 1:
165 والبصائر 4: 395 (وفيه ورد قول المنصور أيضا كما ورد في البيهقي: 461 ولقاح الخواطر: 78/أوفي المثل «أجع كلبك يتبعك» انظر فصل المقال: 489 وجمهرة العسكري 1: 111 والميداني 1: 111 والحيوان 1: 290 ونزهة الأرواح 1: 214 (لذيوجانس) وكذلك مختار الحكم: 79 والمقترح في جوامع الملح (باب الحكايات) .(1/297)
جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقنّ عليهم فيضجّوا منك، أعطهم عطاء قصدا، وامنعهم منعا جميلا، ووسّع عليهم «1» في الرجاء، ولا توسّع عليهم في العطاء.
وروي أن المنصور لما سمع هذا الكلام قال في عقيبه، صدق الأعرابي:
«أجع كلبك يتبعك» فقام أبو العباس الطوسيّ فقال: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوّح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك، فسكت المنصور وعلم أنها كلمة لم تخطم.
[794]- كتب أرسطاطاليس الى الإسكندر: املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإنّ طلبك بإحسانك أدوم بقاء منه لا عتسافك، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطّها إلى القلوب بالمعروف، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد على أن لا تقول تسلم من أن تفعل.
وهذا مخالف لما روي عن معاوية: فإنّ رجلا أغلظ له فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن مثل هذا؟ فقال: إنّا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.
[795]- وقال بعض ملوك العجم: إنما أملك الأجساد لا النيات،
__________
[794] نثر الدر 7: 22 (رقم: 90) وعيون الأخبار 1: 8 والعقد 1: 24 ومحاضرات الراغب 1:
168 وبهجة المجالس 1: 306. ومختار الحكم: 197 وسراج الملوك: 199 ولباب الآداب:
44 (منسوبا لابرويز) وقول معاوية «إنا لا نحول بين الناس ... » . في انساب الاشراف 4/أ:
20 وعيون الأخبار 1: 9، 283 ومحاضرات الراغب 1: 111، 226 والمجتنى: 40 والطبري 2: 214 ونهاية الأرب 6: 16 وابن الأثير 4: 8 وفاضل المبرد: 87 وسراج الملوك: 200 وشرح النهج 3: 417 والجوهر النفيس: 45 ب ولقاح الخواطر: 32 ب.
[795] عيون الأخبار 1: 8 والعقد 1: 25 وسراج الملوك: 200 وربيع الأبرار: 243 ب (لكسرى ابن قباذ) وأصله في عهد أردشير: 56 (الفقرة: 6) وانظر غرر الخصائص: 62 ومحاضرات(1/298)
وأحكم بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. وقد قال من قبلنا: أسوس الناس من قاد أبدان الرعية إلى طاعته بقلوبها.
[796]- وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبة ما السياسة؟ قال:
هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
[797]- قال صاحب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أنّ رجلا يساوى به في المنزلة والرأي والهمّة والمال والتّبع فليصرعه، فإن لم يصرعه فهو المصروع.
[798]- وقال معاوية: ليس بين الملك وبين أن يملك جميع رعيته أو يملكه جميعهم إلا حزم أو توان.
[799]- قال «1» صاحب كليلة ودمنة: لا ينبغي للملك أن يثق بهذه الأصناف: من قد عوقب العقوبة الكثيرة في غير جرم، أو من ناله الضرّ
__________
الراغب 1: 167، 227 (وقارنه بقول بزرجمهر في الحكمة الخالدة: 47) والبصائر 1: 487 وقوانين الوزارة: 176- 177 ولباب الآداب: 37- 38، 72 وخاص الخاص: 85 والايجاز والاعجاز: 13 وتسهيل النظر: 285 ونهاية الأرب 6: 16، 122 وشرح النهج 11: 99.
[796] عيون الأخبار 1: 10 والعقد 1: 24 ولباب الآداب: 35 وبهجة المجالس 1: 335 وتسهيل النظر: 266 ونهاية الأرب 6: 266 ونثر الدر 3: 15 وأمالي القالي 2: 80 ولقاح الخواطر:
33 ب.
[797] كليلة ودمنة: 104 والجهشياري: 11 وعيون الأخبار 1: 45 ولباب الآداب: 43 ونهاية الأرب 6: 46.
[798] سراج الملوك: 98 ولباب الآداب: 35 والعقد 1: 43 (لعبد الملك بن مروان يقوله لابنه الوليد وكان ولي عهده، وكذلك نسب لعبد الملك في كتاب الآداب: 27) وانظر عيون الأخبار 1: 33 والسعادة والاسعاد: 294 وتسهيل النظر: 250 ونهاية الأرب 6: 45.
[799] كليلة ودمنة: 300.(1/299)
العظيم منهم، أو من عزلوه عن ولاية وعمل كانا في يده، ومن سلبوه ماله وعقاره، ومن كان في مكان الثقة عندهم فأقصوه وقطعوا طمعه، وذا المروءة والنبل إذا أنزل عن منزلته، ومن قدّم عليه أكفاؤه ونظراؤه، والمظلوم الطالب المنصفة غير المنصف، ومن يرجو المنفعة والصلاح بمضارّ «1» السلطان، ومن استقبل بما يكره في المحافل، وذي الحرص القليل القنوع، والمذنب الراجي العفو فلم يعف عنه.
[800]- قيل: مضارّ السلطان من قبل ستّة أشياء: الحرمان، والفتنة، واللهو «2» ، والفظاظة، والزمان، والخرق. فأما الحرمان فأن يحرم خصالا ستا، أو يعطاها منقوصة فاسدة، منها: صالحو الوزراء من أهل الرأي والنصيحة والأمانة، ومنها الأجناد، ومنها الأموال، ومنها البلد، ومنها الحصون، ومنها البرد والرسل. وأما الفتنة فتهيج «3» بعض الأعوان واعوجاجه إلى الخروج على الملك، أو شغب الجند وتحاربهم. وأما اللهو فالإغرام بالنساء أو الشراب أو الملاعب أو الصيد إغراما يستغرق الفراغ؛ وأما الفظاظة فافراط الخشونة حتى يجمع اللسان بالشتم، واليد بالبسط والابتزاز لما ليس له بحقّ.
وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين من الغرق والحرق والوباء وكثرة الأمطار والبرد وقلة الأمطار، وشدّة البرد والحرّ بافراط، وكثرة الهوامّ التي يكون بها نقص الثمرات أو الموتان. وأما الخرق وسوء التدبير فإن يعامل الأعداء في موضع السلم بالحرب، وفي مواضع الحرب بالسلم والموادعة، وفي المواضع التي يحتاج فيها إلى المكيدة والصبر والحذر والتدبير بالخطأ والمغالبة والغلظة وترك السياسة.
__________
[800] كليلة ودمنة: 98 (وبين النصين اختلاف وما هنا اكثر بسطا) ولباب الآداب: 42- 43.(1/300)
[801] قيل: أهل الحزم من الملوك يجعلون لكل ذنب عقوبة: فلذنب السّر عقوبة السر، ولذنب العلانية عقوبة العلانية.
[802]- ومن كتاب أبرويز إلى ابنه شيرويه: اجعل عقوبتك على اليسير من الجناية «1» كعقوبتك «2» على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترأ عليك في الكبير، وأبرد البريد في الدرهم ينقص من الخراج، ولا تعاقبنّ على شيء [كعقوبتك على كسره، ولا ترزقنّ على شيء] «3» كرزقك على إزجائه.
[803]- وقال لصاحب بيت ماله: إني لا أحتملك على خيانة درهم، ولا أحمدك على حفظ ألف ألف، لأنك إنما تحقن بذلك دمك، وتعمر به أمانتك، وإنك إن خنت قليلا خنت كثيرا.
[804]- وقال زياد: أحسنوا إلى أهل الخراج فانكم لا تزالون سمانا ما سمنوا.
[805]- من كلام ابن المقفع: ليس للملك أن يغضب لأن القدرة من
__________
[801] كليلة ودمنة: 108 والمرادي: 150 وقارن بالحكمة الخالدة: 315 وتحفة الوزراء (بغداد) :
150.
[802] عيون الأخبار 1: 59.
[803] عيون الأخبار 1: 59 والعقد 1: 13.
[804] عيون الأخبار 1: 10 ونثر الدر 5: 3 وسراج الملوك: 208 (وفيه: أحسنوا الى المزارعين ... ) وأنساب الأشراف 4/أ: 223 (أحسنوا إلى الدهاقين) ومحاضرات الراغب 1: 81، 191 وشرح النهج 4: 74 وتسهيل النظر: 161 وربيع الأبرار 1: 199.
[805] الأدب الكبير: 51، 52- 53 وأصله في عهد أردشير: 69 (الفقرة: 18) . وانظر عيون الأخبار 1: 289 ونثر الدر 4: 81 ولباب الآداب: 70- 71، وكتاب الآداب: 26 وسراج الملوك: 97 والذهب المسبوك: 161 (يقوله موبذ لكسرى) ونهاية الأرب 6: 4 والتحفة الملوكية: 930 وقوله «فإنما يصول الكريم اذا جاع واللئيم ... » منسوب لعليّ في نهج(1/301)
وراء حاجته، وليس له أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل لأنه أقلّ الناس قدرا في خوف الفقر، وليس له أن يكون حقودا لأن خطره قد عظم عن مجازاة كلّ الناس، وليتّق أن يكون حلّافا، فأحقّ الناس باتقاء الأيمان الملوك، وإنما يحمل الرجل على الحلف إحدى خلال: إما مهانة يجدها في نفسه وضرع وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عيّ بالكلام حتى يجعل الأيمان لكلامه حشوا ولمنطقه وصلا، وإما تهمة قد عرفها من الناس لحديثه فهو ينزل نفسه بمنزلة من لا يقبل له قول إلا بعد جهد اليمين، وإما عبث في القول وإرسال اللسان على غير تروية ولا تقدير ولا حسن تعويد له، فيعوّد قول السداد والتثبيت. ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الودّ، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسه وعن الولاة صفات السوء التي يوصفون بها. ليتفقد الوالي فيما يتفقد من أمور رعيته فاقة الأحرار والأخيار فليعمل في سدّها، وطغيان السّفلة منهم فليقمعه، وليستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشعبان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. لا يحسن بالوالي أن يحسد من دونه، فأنه أقلّ عذرا في ذلك من السّوقة التي إنما تحسد من هو فوقها، وكلّ لا عذر له، لا يولعنّ الوالي بقول الناس في سوء الظن «1» ، وليجعل لحسن الظنّ من نفسه نصيبا موفورا، ويروّح به عن قلبه ويصدّر به أعماله. لا يضيعنّ الوالي التثبت عند قوله وفعله وعطائه، فإن الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه،
__________
البلاغة؛ ولحكيم الهند في البصائر 1: 477 ولاردشير في الامتاع 3: 40 ولا افلاطون في ابن هندو: 9 وللاسكندر في كتاب الآداب: 11 ولبزرجمهر في محاضرات الأبرار 2: 261 ولعمرو ابن العاص في الجوهر النفيس: 48 ب ولأردشير في البيان والتبيين 3: 169 وبهجة المجالس 1:
627 ودون نسبة فيه 1: 336 ولكسرى في عيون الأخبار 1: 238 والعقد 2: 355.(1/302)
وإنّ العطية بعد المنع أحسن من المنع بعد الإعطاء، وكلّ الناس محتاجون إلى التثبّت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع وليس عليهم مستحثّ.
[806]- وقد جمع أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي من كلام الحكماء فقرا فمنها: الملك القادر أولى بالتأني في حكوماته، والتثبت في عزماته، لأنه إن أخذها على شبهة وأمضاها على غير بيّنة لم يكن له دافع عنها، ولم يخل أيضا من مساعد عليها. الملك المنعّم إذا أفاض المكارم، واغتفر الجرائم، ارتبط بذلك خلوص نية من قرب منه وهم الأقلّ، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض. الملك تلزمه الحقوق بأيسر سعي الساعي لها، وأقصر أمد الجارين إليها، لأنه ان انتظر بهم أن يعقدوا عليه المنن الجمّة، وان يسبغوا عليه النعمة الضخمة، لم يكن لهم بذلك طاقة، ولم يكن به إليهم فاقة، لكن المحلّ الذي حلّه، والمكان الذي تبوّأه يوجبان عليه أن يكون على القليل من الذمام محافظا، وبعين الرعاية لهم ملاحظا. الملك إذا وعد وفى، وإذا أوعد عفا. الملك إذا استكفى أحد ثقاته أمرا تشكل عواقبه، وتشتبه أعجازه، فانتشر ذلك الأمر عليه من حيث لم يأل جهدا في طلب نظامه والسعي لالتئامه، فواجب أن يحمده أو أن يذمّه، فإنه إن ذمّه قبضه وقبض نظراءه عن الدأب في المصالح والطلب للمناجح، ولحقهم من قصور الهمم ما يعود وهنه عليه وتتعلّق شكايته به، لأنهم يشغلون عن التوصل إلى ما يرومه، بالتحرز عما يضرهم. الملك يتوصل إليه كلّ من تنكّر له وتعتّب عليه، وهم طبقات ثلاث: فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليما منه، ويقال أقرّ بالذنب طاعة، وأمسك عن العذر هيبة، ولا يحسن أن يقتصر بمن هذه
__________
[806] بعضه في زهر الآداب: 588 ولقاح الخواطر: 88/أ.(1/303)
حاله على أن تسقط اللائمة عنه دون أن تجب المحمدة له؛ ومنهم من ذنبه واضح وعذره معوز، ولكنه فرد لا أخ له وفذّ لا تؤام معه، والأولى به أن يقال إذا اعترف بالحوبة وأخلص في التوبة؛ ومنهم المتردّد في هفواته والمتكرر في عثراته، الجارية عادته أن يكسر التوبة إذا تاب، ويفسخ عقد الإنابة إذا أناب، فذلك الذي يعاقب بالاطّراح ولا يطمع منه بالفلاح. الملك بمن غلط من أتباعه فاتعظ أشد انتفاعا منه بمن لم يغلط ولم يتعظ، فإن الأول كالقارح الذي أدّبته العثرة وأصلحته الندامة، والثاني كالذي هو راكب للغرّة وراكن إلى السلامة؛ والعرب تزعم أن العظم إذا جبر من كسره، عاد صاحبه أشد بطشا وأقوى يدا.
[807]- وقال ابن المقفع فيما يتأدب به السلطان: عوّد نفسك الصبر على ما خالفك من رأي ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهّلنّ سبيل ذلك إلا لأهل الفضل والمروءة والعقل في ستر، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترىء به سفيه، أو يستخفّ به شانىء. واعلم أن رأيك لا يتّسع لكلّ شيء ففرّغه لمهمّ ما يعنيك، وأن مالك لا يتّسع للناس، فاخصص به أهل الحقّ، وأنّ كرامتك لا تطيق العامة، فتوّخ بها أهل الفضل، وأنّ ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وان دأبت فيهما فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك. واعلم أن ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بك في المهمّ، وما صرفت من مالك في الباطل فقدته حين تريده للحقّ، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضرّ بك في العجز عن أهل الفضل. إن كان سلطانك عند جدّة دولة فرأيت أمرا استقام بغير رأي أو أعوانا اجزأوا بغير نيل، وعملا أنجح بغير حزم، فلا يغرنّك ذلك ولا تستنيمنّ إليه، فإن الأمر الجديد مما يكون له
__________
[807] الأدب الكبير: 47- 48، 50 (الحكمة الخالدة: 296 وما بعدها) وانظر بعضه في نهاية الأرب 6: 18 والبصائر 4: 220.(1/304)
مهابة في أنفس أقوام «1» وحلاوة في قلوب قوم آخرين، فيعين قوم على أنفسهم، ويعين قوم بما قبلهم، ويستتبّ ذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشّؤون إلى حقائقها وأصولها، فما كان شيء من الأمر على غير أركان وثيقة ودعائم محكمة أوشك أن يتداعى ويتصدع. لا تكوننّ نزر الكلام والسلام، ولا تبلغنّ إفراط «2» البشاشة، فإن إحداهما من الكبر والأخرى من السّخف.
[808]- ومن كلام الحكماء: إذا كان الملك محصّنا للأسرار، متخيرا لصالح الوزراء، مهيبا في أنفس العامة، بعيدا أن يعلم ما في نفسه، لا يسلم منه ذو جريمة بجريمته، ولا يضيع عنده بلاء، مقدرا لما ينفق وما ينفد «3» ، كان جديرا ألا يسلب صالح ما أوتي.
[809]- قال سهل بن هارون: للسلطان سكرات فمنها الرضى عن بعض من يستوجب السخط، والسخط على بعض من يستوجب الرضى، ولذلك قيل قد خاطر من لجّج في البحر وأشدّ منه مخاطرة صاحب السلطان.
الملك «4» صبيّ الرضا كهل الغضب، يأمر بالقتل وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم وهو يمزح، يخلط الجدّ بالهزل، ويجاوز في العقوبة قدر الذنب، ربما أحفظه الذنب اليسير، وربما أعرض صفحا عن الخطب الكبير؛ أسباب الموت
__________
[808] كليلة ودمنة: 189.
[809] جاءت كلمة سهل هذه في كتاب النمر والثعلب: 65 (16) ، 157 (24) ؛ ومعظمها في العقد 1: 52 ونهاية الأرب 6: 6؛ وقارن بقوله: «صبي الرضا كهل الغضب» قول معاوية: «إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويصول صولة الأسد» (أنساب الأشراف 4/1: 48، 55، 59) .
20 1 التذكرة(1/305)
والحياة مضاعفة «1» بطرف لسانه، لا يعرف ألم العقوبة فيتقي، ولا يؤتى «2» على بادرة فينتهي، يخطىء فيصيب «3» ويصيب فيفرط، مفتون الهوى فظ الخليقة على اختراق العقوبة، لا يمنعه من ذوي الخاصّة به ما يعلم من عناية وطول صحبة، أن يقتله بخطرة من خطرات موجدته، ثم لا ينفكّ أن يخطب إليها مكانه، وينافس الرجال موضعه، فلا الثاني بالأول يعتبر، ولا الملك عن مثل ما فرط ينزجر.
[810]- قال صاحب كليلة ودمنة: السلطان لا يقرّب الرجال على قرب آبائهم ولا يباعدهم لبعدهم، ولكنه ينزلهم على قدر ما عند كلّ امرىء منهم فيما ينتفع به، وقد يكون الجرذ في البيت جارا مجاورا، فينفى إذا كان ضارّا مؤذيا، ولما كانت في البازي منفعة وهو وحشيّ اقتني واتّخذ.
[811]- قال «4» ابن المقفع: جميع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوّي سلطانه ورأي يزيّنه في الناس، ورأي القوة أولاهما بالتقديم وأحقّهما بالأثرة، ورأي التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعوانا، مع أن الزينة من القوة، والقوة بالزينة، ولكنّ الأمر ينسب إلى معظمه «5» .
[812]- وقال: ليعلم الوالي أنّ الناس على دينه «6» إلا من لا يبالي
__________
[810] كليلة ودمنة: 90.
[811] الأدب الكبير: 54 ولباب الآداب: 84.
[812] الأدب الكبير: 54 (والحكمة الخالدة: 299) .(1/306)
به «1» ، فليكن للدين والمروءة عنده نفاق فسيكسد بذلك الدناءة والفجور في آفاق الأرض.
[813]- وقال أفلاطون في معناه «2» : الملك كالبحر تستمدّ منه الأنهار، فان كان عذبا عذبت، وإن كان ملحا ملحت «3» .
وقد أكثر المتأخرون في هذا المعنى، قال أبو الفضل ابن العميد: صفة كلّ زمان منبجسة من سجايا سلطانه؛ وقال سيف الدولة علي بن حمدان:
السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها «4» .
[814]- كتب أبرويز إلى ابنه شيرويه من الحبس: ليكن من تختاره لولايتك امرءا كان في ضعة فرفعته، وذا شرف وجدته مهتضما فاصطنعته، ولا تجعله امرءا أصبته بعقوبة فاتّضع عنها، ولا امرءا أطاعك بعدما أذللته، ولا
__________
[813] الكلم الروحانية: 17 والسعادة والاسعاد: 213 ومختار الحكم: 135 ولباب الآداب: 70 وكتاب الآداب: 25 وتسهيل النظر: 45 وعيون الأنباء 1: 51، وتشبيه الملك بالبحر ورد في كليلة ودمنة: 188 والأدب الصغير: 33 «الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار» وقوله: «الملك سوق ... » ورد في عيون الأخبار 1: 2 والعقد 1:
32 وأنساب الأشراف 3: 199 وحلية الأولياء 3: 240 ومروج الذهب 4: 10- 11 (منسوبا لأبي حازم الأعرج في الأغلب؛ ووروده في هذه المصادر المبكرة بهذه النسبة يبعد نسبته عن سيف الدولة) ؛ وقد ورد منسوبا لأبي حازم أيضا في نثر الدر 4: 81 وكتاب الآداب: 25 كما نسب لميمون بن مهران في طبقات ابن سعد 5: 394 يخاطب به عمر بن عبد العزيز؛ وورد أيضا في بهجة المجالس 1: 354 والتمثيل والمحاضرة: 131 ومحاضرات الراغب 1: 191 والشفا: 62؛ ونسب لسيف الدولة (كما ذكر ابن حمدون) في الايجاز والاعجاز: 23 وربيع الأبرار: 375 ب ولعمر بن عبد العزيز في تاريخ الخلفاء: 293 وأيا كانت نسبته فالقول قديم قبل عصر سيف الدولة بكثير.
[814] الجهشياري: 10 وعيون الأخبار 1: 15 والعقد 1: 27.(1/307)
أحدا ممن يقع في خلدك أنّ إزالة سلطانك خير له من ثبوته، وإياك أن تستعمل ضرعا غمرا كثر إعجابه بنفسه وقلّت تجاربه في غيره، ولا كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السنّ من جسمه.
[815]- قال لقيط الإياديّ في مثله: [من البسيط]
فقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب درّ الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
حتى استمرّت على شزر مريرته ... مستحصد الرأي لا قحما ولا ضرعا
القحم: الشيخ المسن، والضرع: الضعيف الصغير.
[816]- استشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم، فقال له بعض أصحابه: عليك بأهل العذر الذين إن عدلوا فهو ما رجوت فيهم، وإن قصّروا قال الناس: قد اجتهد عمر.
[817]- كتب علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أهل البصرة من كتاب له: ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق، مع أنّي عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقّه، غير متجاوز متّهما إلى بريء، ولا ناكثا إلى وفي.
هذا القول الفصل والفعل العدل، لا كما قال زياد: والله لآخذنّ الوليّ
__________
[815] ديوان لقيط: 47 وشرح النهج 18: 238 ونهاية الأرب 6: 17 وديوان المعاني 1: 55 ونشوة الطرب: 666 والكامل 2: 152، 3: 406.
[816] عيون الأخبار 1: 17 ومحاضرات الراغب 1: 165.
[817] نهج البلاغة: 389- 390 وربيع الأبرار 242 ب- 243/أوقول زياد «لآخذن الوليّ ... »
من خطبته المشهورة، انظر البيان والتبيين 2: 63 والعقد 4: 110- 113.(1/308)
بالوليّ والسميّ بالسميّ حتى يلقى الرجل صاحبه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد.
[818]- قال عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز حين وجهه إلى مصر: تفقّد كاتبك وحاجبك وجليسك، فإن الغائب يخبر عنك بكاتبك، والمتوسّم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك.
[819]- وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث عاملا اشترط عليه أربعا: لا يركب البراذين، ولا يلبس الرقيق، ولا يأكل النقيّ، ولا يتّخذ بوابا.
[820]- وكان زياد إذا ولّى رجلا قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك وسلّمتك من معرّتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويا استهنّا بقوتك وأحسنّا على خيانتك أدبك، فأوجعنا ظهرك وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرّتين، وإن وجدناك قويا أمينا زدنا في عملك، ورفعنا لك ذكرك وكثّرنا مالك وأوطأنا عقبك.
[821]- وكان عبد الملك إذا أراد أن يولّي رجلا عمل البرد سأل عن صدقه ونزاهته وأناته، ويقول: كذبه يشكّك في صدقه، وشرهه يدعوه في
__________
[818] رسائل الجاحظ 2: 40 وعيون الأخبار 1: 44 ونثر الدر 3: 15 ومحاضرات الراغب 1:
205.
[819] عيون الأخبار 1: 53 وسراج الملوك: 240 وشرح النهج 12: 23 والحكمة الخالدة: 157.
[820] أمالي القالي 2: 80 وعيون الأخبار 1: 55 والجليس الصالح 2: 133 وغرر الخصائص:
103.
[821] نثر الدر 3: 17 وهذا النصّ أيضا في نسخة الفاتح من البصائر ولم يرد في المطبوعة وموضعه منها 3: 59 وبهجة المجالس 1: 278.(1/309)
الحقّ إلى كتمانه، وعجلته تهجم بمن فوقه على ما يؤثّمه ويندّمه.
[822]- ولّى المهدي الربيع بن أبي الجهم فارس فقال له: يا ربيع آثر الحقّ، والزم القصد، وارفق بالرعية، واعلم أنّ أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجورهم من ظلمهم لغيره.
[823]- قال المنصور: الملوك تحتمل كلّ شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السرّ، والتعرّض للحرم، والقدح في الملك.
[824]- كان يقال: طاعة السلطان على أربعة أوجه: على الرغبة والرهبة والمحبة والديانة.
[825]- كان أنوشروان إذا ولّى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع أربعة أسطر ليوقّع فيها بخطّه، فإذا أتى بالعهد وقّع فيه: سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرغبة بالرهبة، وسس سفلة الناس بالإخافة.
[826]- قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمرا من العدل فأخاف أن لا تحتمله قلوبهم، فأخرج لهم معه طمعا
__________
[822] العقد 1: 31 ونثر الدر 3: 32 ونهاية الأرب 6: 35.
[823] نثر الدر 3: 30 والبيهقي: 374 والمحاسن والأضداد: 18 وبرد الأكباد: 117 ومحاضرات الأبرار 2: 29 وهو للمأمون في التمثيل والمحاضرة: 139 وبهجة المجالس 1: 347 وزهر الآداب: 214 ولباب الآداب: 243 وللأكاسرة في السعادة والاسعاد: 306؛ وانظر العقد 1: 12 وكتاب الآداب: 43 والأسد والغواص: 115- 116 ونهاية الأرب 6: 7 وقارن بمروج الذهب 4: 302 (للمأمون) وتاريخ الخلفاء: 293.
[824] عيون الأخبار 1: 7 وشرح النهج 15: 102.
[825] عيون الأخبار 1: 8 وسراج الملوك: 242 وقارن بقول منسوب الى افليمن في منتخب صوان الحكمة: 246.
[826] عيون الأخبار 1: 9 وسراج الملوك: 200 وشرح النهج 15: 102 وبايجاز في البصائر 1: 30 وجاء في السعادة والاسعاد: 217 من كلام أرسطاطاليس: «إذا أردت إلى رعيتك أمرا في باب الخير فامزج معه طمعا من الدنيا» .(1/310)
من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا.
[827]- كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، وولّيت الحرب «1» الحازم في أمره، وقلدت الخراج المؤتمن «2» لأمانته، وخصمت لكلّ خصم من نفسي قسما يعطيه حظا من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النّطف المسيء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظّه من الثواب.
[828]- قال معاوية: ينبغي أن يحترز الملك من خمس خصال «3» : لا ينبغي أن يكون كذابا، فإنه إذا «4» كان كذابا فوعد لم يرج وإذا «5» أوعد بشرّ لم يخف، ولا ينبغي أن يكون بخيلا فإنه إذا كان بخيلا لم يناصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة [ولا ينبغي أن يكون حديدا فإنه إذا كان حديدا مع القدرة هلكت الرعية] ، ولا ينبغي أن يكون حسودا فإنه إذا كان حسودا لم يشرف أحد، ولا يصلح الناس إلّا على أشرافهم، ولا ينبغي أن يكون جبانا فإنه إذا كان جبانا اجترأ عليه عدوّه.
__________
[827] عيون الأخبار 1: 10 والعقد 1: 22 ونثر الدر 5: 11 وسراج الملوك: 102 والبصائر 2:
268 ونهاية الأرب 6: 43.
[828] عيون الأخبار 1: 13 وسراج الملوك: 96- 97 والبصائر 1: 203 ومحاضرات الراغب 1:
156- 157 وكتاب الآداب: 26 ونهاية الأرب 6: 4 ولباب الآداب 70- 71 والمختار من شعر بشار: 200.(1/311)
[829] قال الحسن: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستشير حتى المرأة، فتشير «1» عليه بالشيء فيأخذ به.
[830]- وفي «2» كتاب التاج أن بعض ملوك العجم استشار وزراءه، فقال أحدهم: لا ينبغي للملك أن يستشير منّا أحدا إلا خاليا، فإنه أموت للسّر، وأحزم للرأي، واجدر بالسلامة، وأغنى ببعضنا من غائلة بعض، فإن إفشاء السرّ إلى رجل أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشاؤه إلى ثلاثة كإفشائه إلى العامّة، لأن الواحد رهن بما أفشي إليه، والثاني يطلق عن ذلك الرهن، والثالث علاوة فيه، وإذا كان سر الرجل عند واحد كان أحرى ألا يظهره رهبة ورغبة إليه، وإذا كان عند اثنين دخلت الشبهة على الملك واتّسعت على الرجلين المعاذر فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتّهم بريئا بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجّة عليه.
وما جاء في المشورة من الأخبار والأشعار وكلام الحكماء قد ذكر في مكان آخر، إذ ليس هذا موضعه، والذي ذكر مما يليق بهذا الباب فيه كفاية.
[831]- يقال: لا يكون الملك ملكا حتى يعاقب على صغير الذنوب
__________
[829] عيون الأخبار 1: 27 وفي السعادة والاسعاد: 424 كان عمر يستشير ... الخ وكذلك في بهجة المجالس 1: 455.
[830] نثر الدر 7: 46 (رقم: 107) وعيون الأخبار 1: 27 والجهشياري: 11 والعقد 1: 66 وسراج الملوك: 133 ونهاية الأرب 6: 73 ولقاح الخواطر: 76/أوالريحان والريعان 1:
99.
[831] البيتان في عيون الأخبار 1: 100 ومروج الذهب 3: 241 والتمثيل والمحاضرة: 134 وتسهيل النظر: 281 وحماسة الظرفاء 10: 178 ونهاية الأرب 6: 7 والجوهر النفيس: 43 ب وربيع الأبرار 1: 733 والمنهج المسلوك: 15/أ.(1/312)
ويعفو عن كبيرها، ومثله قول الشاعر: [من الكامل المجزوء]
تعفو الملوك عن العظيم ... من الذنوب لفضلها «1»
ولقد تعاقب في اليسير ... وليس ذاك بجهلها
[832]- وقال أبرويز: أطع من فوقك يطعك من دونك.
[833]- وقال النجاشي: الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم.
[834]- قال عمرو بن هند: الملوك يشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويسفهون بالأيدي لا بالألسن. ومثله لمعبد بن علقمة: [من الطويل] .
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلّم
[835]- قال مروان بن محمد لما أحيط به: وا لهفاه على دولة ما نصرت، وكفّ ما ظفرت، ونعمة ما شكرت؛ فقال له خادمه باسيل «2» ، وكان من أشراف الروم فوقع عليه سباء: من أغفل الصغير حتى يكبر، والقليل حتى يكثر، والخفيّ حتى يظهر، أصابه هذا.
__________
[832] لباب الآداب: 36 (وفيه: اتق من فوقك ... ) والتمثيل والمحاضرة: 138 والايجاز والاعجاز:
14 وأدب الدنيا والدين: 142 وشرح النهج 11: 94 وزهر الآداب: 212 وربيع الأبرار 2:
792.
[833] بهجة المجالس 1: 353 (دون نسبة) وربيع الأبرار: 229 ب والتمثيل والمحاضرة: 130 والايجاز والاعجاز: 15 وتسهيل النظر: 184 وأدب الدنيا والدين: 142 والمصباح المضيء 1: 231 والشفا: 54.
[834] الايجاز والاعجاز: 15 ونهاية الأرب 6: 6 وفيه البيت وورد أيضا في بهجة المجالس 1: 432 وأدب الدنيا والدين: 248.
[835] سراج الملوك: 94.(1/313)
[836] قال قابوس: لذة الملوك فيما لا تشاركهم فيه العامة من معالي الأمور.
[837]- قال «1» أنوشروان: العدوّ الضعيف المحترس من العدوّ القوي أحرى بالسلامة من العدوّ المغتّر بالعدوّ الضعيف.
[838]- وقال صالح بن سليمان: لا تستصغر عدوا فإن العزيز ربما شرق بالذباب.
[839]- وروي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: لا تولينّ الأحكام بين الناس جاهلا بالأحكام، ولا حديدا طائشا عند الخصام، ولا طمعا هلعا يقرّب «2» أهل الغنى ويبشّ بأهل السعة فيكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الادلاء «3» بالحجّة والإبلاغ في النصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائش القلق لا يعقل، والطّمع الشّره لا ينفع عنده الحجة ولا تغني قبله البينة.
[840]- قال أم جبغويه «4» ملك طخارستان لنصر بن سيار: ينبغي أن
__________
[836] كتاب الآداب: 22 والايجاز والاعجاز: 23.
[837] نثر الدر 4: 65 وربيع الأبرار: 240/أوالبصائر 7: 91 ولباب الآداب: 46 ومحاضرات الراغب 1: 247، وأصل هذا القول في كليلة ودمنة: 278.
[838] لباب الآداب: 47 وربيع الأبرار: 240/أ، وجاء في البصائر 7: 247 لا تستصحب واجدا فإن ... الخ وقارن بما في عيون الأخبار 3: 108 «احذر معاداة الذليل ... » .
[839] البصائر 3: 311 ونثر الدر 3: 17.
[840] عيون الأخبار 1: 110 وسراج الملوك: 122 (وفيه: وأوصت امرأة ابنها وكان ملكا) ولباب الآداب: 38 ونهاية الأرب 6: 7 والمنهج المسلوك: 8 ب.(1/314)
يكون للأمير ستة أشياء: وزير يثق به ويفضي إليه بسرّه، وحصن يلجأ إليه إذا فزع أنجاه، يعني فرسا، وسيف إذا نازل الأقران لم يخنه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة أخذها، وامرأة إذا دخل إليها أذهبت همّه، وطباخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئا يشهّيه.
[841]- العتابي في الرشيد: [من الطويل]
أيا من له كفّ يضمّ بنانها ... عصا الدين ممنوعا من البري عودها
وعين محيط بالبريّة طرفها ... سواء عليها قربها وبعيدها
[842]- وقالوا: من حقّ الملك أن يفحص عن أسرار الرعية؛ وكان أردشير متى علم شيئا «1» قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت، حتى كان يقال يأتيه ملك من السماء، وما ذاك إلا لتصفّحه وتيقظه.
وكان عمر رضي الله عنه علمه بمن نأى عنه كعلمه بمن بات معه على وسادة واحدة، واقتفى معاوية أثره وكذلك زياد؛ وتعرّف إلى زياد رجل فقال: أتتعرّف إليّ وأنا أعرف بك منك بأبيك وأمك، وأعرف هذا البرد الذي عليك؟ فرعب الرجل حتى أرعد.
[843]- كتب عليّ عليه السلام عهدا لمالك الأشتر النخعي حين ولاه
__________
[841] البيان والتبيين 3: 40، 353 ومعجم المرزباني: 245.
[842] ربيع الأبرار: 371/أوالبيهقي: 143- 144 والمستطرف 1: 88 وقارن بتسهيل النظر:
249 وعن تحري زياد وحده انظر المستطرف 2: 106.
[843] نهج البلاغة: 426- 445 ونهاية الأرب 6: 19- 32 ودعائم الاسلام 1: 354 ومنه أجزاء مفرقة في السعادة والاسعاد، وورد جزء يسير منه في ربيع الأبرار: 245/أ، 376 ب وانظر عن هذا العهد ونسبته مقالا للدكتورة وداد القاضي بمجلة: L StudiaIslamica LL (1978) .(1/315)
مصر جمع فيه بين حاشيتي التقوى والسياسة على بعد أقطارهما، وجدته يغني عن كثير من كلام الحكماء والقدماء، وهو مع فرط الإطالة مأمون الملالة، لجمعه بين البلاغة البارعة «1» والمعاني الرائعة، ولولا رغبة الناس في تغاير الكلام وميل النفوس إلى التنقل في الألفاظ، لا كتفيت بايراد هذا العهد عن غيره، إذ كان حاويا لأشتات الآداب والسياسات، جامعا للأسباب التي تلزم الملوك والولاة، والعهد:
هذا ما أمر عبد الله عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها: أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنّته التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه، وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويردعها عند الجمحات، فإنّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحلّ لك فإن الشحّ بالنفس الانصاف منها فيما أحبّت وكرهت. وأشعر قلبك الرحمة بالرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا، يغتنم أكلهم، فإنهم صنفان:
إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك(1/316)
مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يدلك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولنّ إنّي مؤمّر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومهلكة «1» للدين وتقرّب من الغير، فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة ومخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله عزّ وجل فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكفّ عنك من غربك «2» ، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبار، ويهين كلّ مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته، وكان لله حربا حتى يرجع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم.
وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وانّ سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقلّ معونة له في البلاء وأكره للانصاف وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك [لهم] وميلك معهم.(1/317)
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإنّ في الناس عيوبا الوالي أحقّ من سترها، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله عليك ما تحبّ ستره من عيبك، أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كلّ وتر، وتغاب عن كلّ ما لا يضح لك، ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاشّ، وان تشبّه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزيّن لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله.
شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بطانة، فانهم أعوان الأئمة وإخوان الظّلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لا يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفا، فاتخذ أولئك «1» خاصة لخلواتك وجفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع؛ والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرّة.
ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء أدعى إلى حسن ظنّ وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عنهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له(1/318)
قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيتك، فإن حسن الظنّ يقطع عنك نصبا طويلا، وان أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحقّ من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده؛ ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثنّ سنة تضرّ بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها.
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها كتّاب أهل الجزية والخراج من الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل من قد سمّى الله سهمه، ووضع على حدّه وفريضته في كتابه وسنة نبيه عليه السلام عهدا منه محفوظا:
فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعزّ الدين وسبل الأمن، وليس الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقل «1» ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمون من أسواقهم ويكفونهم بالرفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ(1/319)
رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكلّ سعة، ولكلّ على الوالي حقّ بقدر ما يصلحه. فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله تعالى ولرسوله ولإمامك [وأنقاهم] جيبا، وأفضلهم حلما، ممّن يبطىء عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف، ثم تفقّد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنّ في نفسك شيء قوّيتهم به، ولا تحقرنّ لطفا تعاهدتهم به وان قلّ، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظنّ بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه.
وليكن آثر رؤوس «1» جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همّهم هما واحدا في جهاد العدوّ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك [وإن أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم] «2» ولا تصحّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدّتهم، وافسح في آمالهم وواصل من حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهزّ الشجاع، وتحرّض الناكل إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرىء منهم ما أبلى، ولا تضمنّ بلاء امرىء إلى غيره، ولا تقصرّنّ به دون غاية بلائه، ولا يدعونّك شرف امرىء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرىء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.(1/320)
واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
(النساء: 58) ، فالرادّ إلى الله الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ إلى الرسول الآخذ بسنته الجامعة غير المفرّقة.
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحّكه الخصوم ولا يتمادى في أزله «1» ولا يحصر عن الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه:
أوقفهم في الشّبهات وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف «2» الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علّته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا.
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختيارا، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المقدّمة «3» ، فإنهم أكرم خلاقا، وأصحّ أعراضا، وأقلّ إلى المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم 21 1 التذكرة(1/321)
تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، ووسمته بالخيانة، وقلّدته عار التهمة.
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحهم وصلاحه صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علّة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق وأجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به [عليك] في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجّحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا أفضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حمّلته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لاشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة انتفاعهم بالعبر.
ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تذخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترىء بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصّر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك وإصدار جواباتها على الصواب عنك، وفيما يأخذ لك(1/322)
ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ [قدر] نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثم لا يكون اختيارك إياهم على فراستك، واستنامتك وحسن الظنّ منك، فإن الرجال يتعرّضون لفراسات الولاة بتصنيعهم «1» وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العمامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على النصيحة «2» لله ولمن ولّيت أمره. واجعل لرأس كلّ أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها، ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه، فإنهم موادّ المنافع، وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح، في برّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس إلى مواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا «3» قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار فإنّ رسول الله عليه السلام منع منه؛ وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين: من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكّل به وعاقب في غير إسراف.
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين و [أهل] البؤسى والزّمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعتّرا، فاحفظ الله ما(1/323)
استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلّات صوافي الاسلام في كلّ بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلك عنهم نظر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهمّ، ولا يشخص همّك عنهم، ولا تصعّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك «1» من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكلّ فأعذر إلى الله في تأدية حقّه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقّة في السنّ ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحقّ كلّه ثقيل، وقد يخفّفه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه نفسك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلّمك متكلمهم غير متعتع فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول في غير موطن «2» : «لن تقدّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متعتع» ، ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحّ عنك «3» الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعي «4» عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تخرج به(1/324)
صدور أعوانك، وأمض لكلّ يوم عمله، فإنّ لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله «1» أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصّة ما تخلص به لله دينك: إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فاعط لله من بدنك في «2» ليلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبت به إلى الله من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ، وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننّ منقّرا ولا مضيّعا، فإن في الناس من به العلّة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله عليه السلام حين وجّهني إلى اليمن: كيف أصلّي بهم؟ فقال: صلّ بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما.
وأما بعد هذا فلا يطولنّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحقّ بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحقّ سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحقّ ففيم احتجابك من واجب حقّ تعطيه، أو فعل كرم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا يئسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.
ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف، فاحسم مؤونة «3» أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعنّ لأحد من حاشيتك(1/325)
وحامّتك قطيعة، ولا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.
وألزم الحقّ من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخواصك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبّة ذلك محمودة.
وإن ظنّت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونك باصحارك فإن في ذلك [رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك و] «1» إعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحقّ.
ولا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوك، لله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة لهمومك، وأمنا لبلادك، ولكن أحذر كل الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم، واتّهم في ذلك حسن الظنّ. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتيت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترىء على الله إلا جاهل شقيّ. وقد جعل الله عهده وذمّته أمنا قضاه «2» بين العباد برحمته، وحرما «3» يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مخالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة،(1/326)
ولا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب «1» انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك في ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن يحيط بك فيه من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكها بغير حقّها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم تبعة ولا أحرى لزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء بغير حقها «2» يوم القيامة، فلا تقوينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، فإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقّهم.
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحبّ الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسن.
وإياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيّد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلف، فإن المنّ يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحقّ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس؛ قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ
(الصف: 3) .
إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التثبّط «3» فيها عند إمكانها، واللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كلّ أمر موضعه، وأوقع كلّ عمل موقعه.(1/327)
وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح لعيون الناظرين، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم.
املك حميّة أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة وتأخير السّطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتّى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن النبي عليه السلام أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكيلا يكون لك علة عند تسرّع نفسك إلى هواها.
ومن هذا العهد، وهو آخره: وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة أن يوفّقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راغبون «1» .
[844]- قال بعض العباسيين: كلمت المأمون في امرأة خطبتها، وسألته النظر إليها فقال: يا أبا فلان [من] قصتها وحالها وفعلها، فو الله إن زال يصفها ويصف أحوالها حتى بهتّ.
__________
[844] ربيع الأبرار: 371/أوالبيهقي: 144.(1/328)
[845]- ورفع رجل رقعة «1» يسأله إجراء الرزق، فقال له: كم عيالك؟ فزاد في العدد، فلم يوقّع، ثم كتب إليه في السنة التالية فصدق فوقّع.
[846]- أبو الفتح «2» البستي: [من البسيط]
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
ألم تر الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا برج نجم اللهو والطرب
[847]- قال عبد الله بن الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم، فينبغي للسلطان أن يحترز منهما.
[848]- كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا.
[849]- وكان زياد إذا أغضبه رجل حبسه ثلاثة أيام ثم دعا به، فإن رأى عقوبة عاقبه وقال: إنما منعني من عقوبته أول يوم مخافة أن أكون عاقبته للغضب. فإن لم ير عقوبة خلّى سبيله.
__________
[845] ربيع الأبرار: 371/أوالبيهقي: 145.
[846] اليتيمة 4، 315 والتمثيل والمحاضرة: 190.
[847] العقد 1: 27 وأصل هذا في كليلة ودمنة: 92 وانظر كتاب الآداب: 25.
[848] المستطرف 1: 192.
[849] أنساب الأشراف 4/1: 275 وبهجة المجالس 1: 347 ونسب هذا الفعل الى عمر بن عبد العزيز في عيون الأخبار 1: 89 وفي محاضرات الأبرار 2: 253.(1/329)
[850]- قيل لبعض المجوس: ما أحكم شيء في كتابكم: قال:
نحتك الحجارة بغير فأس وإذابتك الحديد [بغير نار أهون من رياضة مستصعب قد جفا عن التقويم] .
[851]- قيل: كانت الملوك تختار لرسائلها العاقل الجميل الوجه.
[852]- قيل لحكيم: أيّ الرسل أنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل.
[853]- وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا أبردتم إليّ بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم.
__________
[850] ورد في ربيع الأبرار 1: 513 وما بين معقفين زيادة منه.
[852] نثر الدر 4: 56 وربيع الأبرار: 133/أوالبصائر 1: 139 ونسب لارسطاطاليس في منتخب صوان الحكمة: 147 والكلم الروحانية: 77.
[853] اللآلىء المصنوعة 1: 113 ومجمع الزوائد 8: 47 وبهجة المجالس 1، 277 والعقد 2: 1، 3 ونثر الدر 1: 176 ومجموعة ورام 1: 29 وربيع الأبرار 133/أ.(1/330)
الفصل الثالث سياسة الوزراء والكتّاب وأتباع السلطان في خدمة ولاتهم وآداب نفوسهم
[854]- قالوا: من صحب الملوك «1» وقرب منهم، ينبغي أن يكون جامعا للخلال المحمودة، فأولها: العقل فإنه رأس الفضائل، والعلم فإنه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملوك «2» بأهل الجهل؛ والودّ فإنه خلق من اخلاق النفس يولّده العدل في الإنسان لذوي ودّه، والنصيحة وهي تابعة للودّ وهو الذي يبعث عليها؛ والوفاء فإنه شيمة لا تتمّ الصحبة إلا بها، وحفظ السرّ وهو من صدق الوفاء، والعفة عن الشهوات والأموال، والصرامة وهي شدّة القلب، فإن الملوك لا يجوز أن يصحبهم أولو النكول ولا ينال الجسيم من الأمور إلّا الشجاع النّجد؛ والصدق فإنه من لا يصدق يكذّب، ومضرّة الكذب لا تتلافى؛ وحسن الزيّ والهيئة فإن ذلك يزيد في بهاء الملك، والبشر في اللقاء فإنه يتألّف به قلب من يلاقيه وفي الكلوح تنفير عن غير ريبة، والأمانة فيما يستحفظ، ورعاية الحق فيما يستودع، والعدل والانصاف فإن العدل يصلح السرائر ويجمّل الظواهر، وبه يخاصم الإنسان نفسه إذا دعته إلى أمر لا يحسن ركوبه. وينبغي له أن يجانب أضداد هذه الخلال، وألا يكون حسودا فإن
__________
[854] بعضه مأخوذ من الأدب الكبير: 44 (62) وهو قوله: «وينبغي لمن يصحب السلطان أن يأخذ لعمله ... الخ» .(1/331)
الحسد يفسد ما بينه وبين الناس، وليفرّق بين الحسد والمنافسة فإنهما يشتبهان على من لا يعقل، وأن يخلو من اللجاج والمحك، فإن ذلك يضرّ بالأفعال إذا وقع فيها اشتراك، وأن لا يكون بذّاخا ولا متكبرا فإن البذخ من دلائل سقوط النفس، والكبر من دواعي المقت، وأن لا يكون حريصا فإن الحرص من ضيق النّفس وشدة الطيش والبعد عن الصبر، وينبغي أن لا يكون فدما وخما ولا ثقيل الروح، فإنها صفة لا تليق بمن يلاقي الملوك وأبدا تكون سببا للمقت من غير جرم. وبالجملة فالفضائل والأخلاق المحمودة كثيرة، وأولى الناس بطلب غاياتها الملوك كما هم الغاية، ثم أتباعهم، ثم سائر الرعية. وينبغي «1» لمن يصحب السلطان أن يأخذ لعمله من جميع شغله: فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه، لا كما يفعل الأغمار الجهّال بخدمة السلطان فإن أحدهم كلّما ازداد عملا نقص من ساعات نصبه وعمله فزادها في ساعات دعته وشهوته وعبثه.
[855]- قالوا:
(1) ولتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك، ورضى سلطانك، ورضى صالح من تلي عليه، ولا عليك أن تلهى «2» عن المال والذّكر فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب، فاجعل هذه الخصال بمكان ما لا بدّ منه، واجعل المال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدا، ولا تحدثنّ لك صحبة السلطان والاستئناس به غفلة ولا تهاونا.
__________
[855] هذا النصّ مأخوذ من الأدب الكبير لابن المقفع، وابن حمدون ينقل غير مراع للترتيب المتسلسل، ولهذا آثرت تقسيم النصّ الى فقرات مرقمة وتخريج كل فقرة (وقارن بالحكمة الخالدة 293- 327 فقد استوعب هذا الكتاب الأدب الكبير، ولا حاجة هنا إلى إثبات ذلك دائما) .
1 الأدب الكبير: 45 ونثر الدر 4: 86 (ما عدا قوله: ولا تحدثن ... ولا تهاونا) .(1/332)
(2) وإذا رأيت السلطان يجعلك أخا فاجعله أبا، وإن زادك فزده.
(3) وإن استطعت أن تجعل صحبتك منهم لمن قد عرفك قبل ولايته بصالح مروءتك فافعل، فإن الوالي لا علم له بالناس إلا ما كان علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكلّ الناس يحرص على أن يلقاه بالتزيين والتصنّع له، وكلهم يحتال لأن يثنى عليه عنده بما ليس فيه، غير أنّ الأنذال والأرذال أشدّ له تصنّعا وعليه مثابرة وفيه تمحلا، فلا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخونة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطّى عنه كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التصنّع والتمحّل.
(4) إذا نزلت من الوالي بمنزلة الثقة فاعتزل عنده كلام الملق، ولا تكثر الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يشبه حال الوحشة والغربة، إلا أن تكلّمه على رؤوس الناس فلا تأل عما وقّره وعظّمه.
(5) إذا أردت أن يقبل قولك فصحّح رأيك ولا تشوبنّه بشيء من الهوى، فإن الرأي يقبله منك العدوّ، والهوى يردّه عليك الصديق.
(6) تبصّر ما في الوالي من الأخلاق التي تحبّ وتكره وترضى ولا
__________
. (2) الأدب الكبير: 54 ونثر الدر 4: 81 والحكمة الخالدة: 299 وتحفة الوزراء: 26 والأسد والغواص: 58 وكتاب الآداب: 28 والمستطرف 1: 89 وقارن بقول لابن المعتز في الوافي بالوفيات 17: 451.
(3) الأدب الكبير: 55.
(4) الأدب الكبير: 65 والبصائر 4: 224 وبهجة المجالس 1: 324 وشرح النهج 17:
76 ونهاية الأرب 6: 143 وما بعدها.
(5) الأدب الكبير: 56.
(6) الأدب الكبير: 56- 57.(1/333)
ترضى له، ولا تكابره بالتحويل عما يحبّ ويكره إلى ما تحبّ وتكره فإنها رياضة صعبة قد تحمل على الإباء والقلى، وقلما يقدر على ردّ رجل بالمكابرة والمناقصة وإن لم يكن جمح به عزّ سلطان فكيف إذا جمح به، ولكن تعينه على أحسن رأيه وتزيّنه وتقوّيه عليه، فإذا قويت المحاسن كانت هي التي تكف «1» المساوىء، وإذا استحكمت منها ناحية من الصواب كان ذلك الصواب هو الذي يبصره مواقع الخطايا بألطف من تبصيرك وأعدل من حكمك في نفسه، فإنّ الصواب في يده يؤيّد بعضه بعضا ويدعو بعضه إلى بعض، وإذا كنت له مكابرا لحقك الخطر ولم تبلغ ما تريد.
(7) لا يكن طلبك ما عند السلطان بالمسألة، ولا تستبطئه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما عنده بالاستحقاق له والاستيناء به، وإن طالت الأناة «2» ، فإنك إذا استحققته أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه كان أعجل له، ولا تخبرنّ الوالي أنّ لك عليه حقا وأنك تعتدّ عليه ببلاء «3» ، وإن استطعت أن تنسى حقّك وبلاءك فافعل، وليكن ما تذكره به تجديدك له النصيحة والاجتهاد وألا يزال ينظر منك إلى آخر يذكّره الأول، فإن السلطان إذا انقطع عنه الآخر نسي الأول، وإن أرحامهم منقطعة وحبالهم منصرمة إلا من رضوا عنه في يومهم وساعتهم.
(8) اعلم أن أكثر الناس عدوا وزير السلطان ذو المكانة عنده لأنه منفوس عليه مكانه كما ينفس على الملك ملكه، ومحسود كما يحسد عليه، غير أنه يجترأ عليه ولا يجترأ على الملك، لأن حسّاده أحبّاء الملك الذين
__________
. (7) الأدب الكبير: 57.
(8) الأدب الكبير: 59.(1/334)
يشاركونه في المداخل والمنازل، وهم حضور، وليسوا كعدوّ الملك النائي عنه المكتّم لعداوته، فهم لا يغفلون عن نصب الحبائل له، فالبس لهؤلاء الأعداء سلاح الصحة والاستقامة ولزوم الحجّة فيما تسرّ وتعلن، ثم روّح عن قلبك كأن لا عدوّ لك ولا حاسد.
(9) جانب «1» المسخوط عليه والمظنون به عند السلطان، ولا يجمعنّك وإياه مجلس ولا منزل، ولا تظهرنّ له عذرا ولا تثنينّ عليه خيرا، فإذا رأبته قد بلغ في الإعتاب مما سخط عليه ما ترجو أن تلين له الوالي [فضع عذره عند الوالي] «2» واعمل في إرضائه [عنه] بالرفق واللطف.
(10) إذا أصبت الجاه عند الوالي وكانت لك خاصة منزلة فلا يحدثنّ لك تغيرا على أهله وأعوانه واستغناء عنهم، فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوة فتذلّ لهم، وفي تلوّن الحال في ذلك من العار ما فيه.
(11) إن استطعت أن تعرّف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن صوابه فتسند ذلك إليه وتزيّنه به فافعل، فإن الذي أنت بذلك آخذ أفضل من الذي أنت به معط.
(12) إذا سأل الوالي غيرك فلا تكن أنت مجيبا فإن استلابك الكلام خفّة منك واستخفاف بالمسؤول والسائل، فما أنت قائل إن قال لك السائل: ما إياك سألنا، أو قال المسؤول عند المسألة تعارضه فيها:
دونك فأجب. وإذا عمّ السائل بمسألة الجلساء فلا تسابقهم بالجواب،
__________
. (9) الأدب الكبير: 60.
(10) الأدب الكبير: 61.
(11) الأدب الكبير: 62.
(12) الأدب الكبير: 62 ونهاية الأرب 6: 13.(1/335)
ولا تواثب الكلام، فإن في ذلك مع الشّين والتكلّف والخفة أنك إذا سابقتهم إلى الجواب صار كلامك خصما فتعقّبوه بالعيب والطعن، وإذا لم تعجل بالجواب وخلّيته للقوم اعترضت كلامهم على قلبك، ثم تدبّرته وفكّرت فيما عندك ثم هيأت من تفكّرت ومحاسن ما سمعت جوابا رضيّا، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخ إليك الأسماع وتهدأ عنك الخصوم، فإن لم يبلغك الكلام واكتفي بغيرك وانقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكوننّ من الغبن عند نفسك فوت ما فاتك من الجواب، فإن صيانة القول خير من سوء موضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب بها فرصتها وموضعها [خير من مائة كلمة تقولها في غير فرصها ومواضعها] مع أن كلام العجلة والمبادرة موكّل به الزلل والعثار وسوء القرين «1» ، وإن ظنّ صاحبه أنه قد أتقن وأحكم.
(13) إذا كلّمك الوالي فأصغ لكلامه، ولا تشغل طرفك عنه بالنظر، ولا أطرافك بالعمل، ولا قلبك بحديث النفس، وتعهّد ذلك واحذره من نفسك.
(14) وارفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه فاتّخذهم أعوانا «2» ولا تتخذهم أعداء، ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها والعمل يؤمرون به، فإنما أنت في ذلك أحد رجلين: إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف تبدي ذلك ويحتاج إليك أو يلتمس منك وأنت محمود «3» ، وإما أن لا يكون ذلك عندك، فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقاربتك وملاينتك، وما أنت واجد في موافقتك إياهم ولينك لهم
__________
. (13) الأدب الكبير: 63.
(14) الأدب الكبير: 64.(1/336)
من موافقتهم إياك ولينهم لك أفضل مما أنت مدرك بالمنافسة والمنافرة «1» لهم.
(15) اعلم أنّ السلطان يقبل من الوزراء التبخيل ويعدّه منهم شفقة ونظرا، ويحمدهم عليه وإن كان جوادا، فإن كنت مبخّلا غششت صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخّيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك، فالرأي لك تصحيح النصيحة والتماس المخرج بأن لا يعرف منك ميلا إلى شيء من هواك.
(16) لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة نفسك على طاعتهم في المكروه وموافقتهم فيما خالفك من ذلك، وتزيين الأمور على أهوائهم دون هواك، وعلى أن لا تكتمهم سرّك، ولا تستطلع ما كتموك، وتخفي ما أطلعوك عليه عن الناس كلّهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطّف بحاجتهم، والتثبيت لحجّتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وقلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا، وكثرة الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساوئهم، والمقاربة لما قاربوا وان كانوا بعداء، والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا قرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتمّوا به، والتحفّظ له وإن ضيعوه، والذكر له وإن نسوه، والتخفيف عنهم لمؤونتك، والاحتمال لمؤونتهم، والرضى منهم بالعفو، وقلة الرضى من نفسك لهم بالمجهود.
(17) إنك لا تأمن أنف الملوك إن أعلمتهم، ولا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم. إنك إن لزمتهم لا تأمن برمهم، وإن زايلتهم لم تأمن قلّة
__________
. (15) الأدب الكبير: 68 ونهاية الأرب 6: 11.
(16) الأدب الكبير: 69 وشرح النهج 17: 76.
(17) الأدب الكبير: 70.
22 1 التذكرة(1/337)
تفقّدهم «1» . إنك إن استأمرتهم حملت الأمور «2» عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم. إنك لا تأمن أمرهم إن صدقتهم، ولا تأمنهم إن كذبتهم. كن حافظا إن ولوك «3» ، حذرا «4» إن قرّبوك، أمينا إن ائتمنوك، وعلّمهم كأنك تتعلّم منهم، وأدّبهم كأنهم أدبوك، واشكرهم ولا تكلّفهم الشكر؛ كن بصيرا بأهوائهم مؤثرا لمنافعهم، ذليلا إن ضاموك «5» ، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كلّ البعد، والحذر كلّ الحذر.
وهذه جملة من كلام القدماء هي أدب لأتباع الملوك على اختلاف طبقاتهم، ولا حاجة بنا إلى تخصيص كلّ طائفة بما ينبغي لها «6» فعله وتوخّيه، ويجب عليها تركه وتنحيته، فإن الأدب والسياسة يشترك فيهما أصل الحسّ ثم يأخذ كلّ منهما بمقدار حظّه من الولاية، ولو أوردنا ذلك لخرج عن معنى هذا الكتاب، ولكان مصنّفا مخصوصا به فيحتمل حينئذ التحبيس والتفريع. وسنذكر من كلام الخلفاء وملوك الاسلام، وما أخذوه على أتباعهم، ورسموه لهم ما يكمل به المقصود إن شاء الله.
[856] وقد قالت القدماء: إن وجدت عن صحبة السلطان غنى فأغن نفسك عنه واعتزله جهدك، فإن من يأخذ للسلطان بحقّه يحل بينه وبين لذّة الدنيا وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.
__________
[856] الأدب الكبير: 69- 70 (والحكمة الخالدة: 309) ونهاية الأرب 6: 150 وشرح النهج 17: 77.(1/338)
[857]- قال علي بن أبي طالب عليه السلام: صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه.
[858]- وقال زياد بن أبيه يوما لاصحابه: من أنعم الناس عيشا؟
قالوا: الأمير قال: قولوا، قالوا: الأمير وأصحابه- قال: كلّا إن لأعواد المنبر لفزعة، وإن لقعقعة لجام البريد لروعة، ولكنّ أنعم الناس رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له صنعة تمونه فإنا إن عرفناه أسهرنا ليله وأتعبنا نهاره.
[859]- وقال حكيم «1» : إنما يستطيع عمل السلطان وصحبتهم رجلان:
إما رجل فاجر ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته، وإما رجل مهين مغفّل لا يحسده أحد، فأما من أراد صحبتهم بالصدق والنصيحة والعفاف لا يخلط ذلك بمصانعة، فقلّ ما يستتمّ له صحبتهم، فانه يجتمع عليه عدوّ السلطان وصديقه بالبغي والعداوة والحسد، أما صديق السلطان فينافسه، وأما عدوّ السلطان فيضطغن عليه نصيحته وغناه عنه، فإذا اجتمع هذان الصنفان عليه كان يتعرّض للهلاك.
__________
[857] نهج البلاغة: 521 (رقم: 263) وربيع الابرار: 376 ب والعقد 3: 201 ونثر الدر 4:
81 وعيون الاخبار 1: 21 مثل صاحب السلطان مثل راكب الأسد يهابه الناس وهو لمركبه أهيب (لابن المقفع) وبهجة المجالس 1: 353 (دون نسبة) وقوانين الوزارة: 170 وكتاب الآداب: 29 والأسد والغواص: 58 والمرادي: 125 ومفيد العلوم: 158 وفقر الحكماء:
276 والتمثيل والمحاضرة: 131 والمستطرف 1: 90 وزهر الآداب: 675 وتحسين القبيح:
90.
[858] عيون الأخبار 1: 264 والعقد 1: 83، 200 وقارن بقول منسوب إلى الاسكندر في ربيع الأبرار: 370/أالسعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه فانا إذا عرفناه أطلنا يومه وأطرنا نومه؛ وأخبار القضاة 2: 118 وغرر الخصائص: 468 والبصائر 1: 309 ومنتخب صوان الحكمة: 165 وانظر مطالع البدور 1: 12 حيث نسب القول للمأمون.
[859] كليلة ودمنة: 291.(1/339)
[860]- وقيل: ثلاثة لا يستطيعها أحد إلا بمعونة وارتفاع همة، وعظيم خطر: صحبة الملوك، وتجارة الماء، ومناجزة العدوّ.
[861]- وقيل: إن ابتليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعيته، فاعلم أنّك قد خيّرت بين خلّتين ليس فيهما خيار: إما الميل مع الوالي على الرعية فهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي فهذا هلاك الدنيا، ولا حيلة لك في ذلك إلا الهرب أو الموت، ولا ينبغي لك، وإن كان الوالي غير مرضيّ السيرة إذا علقت حبائلك حبائله إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا.
[862]- وقال أفلاطون: إذا ثقل على الرئيس الوعظ، ولجّ في ترك الانقياد للناصح، وآثر التفويض، واحتقر العدوّ فاطلب الخلاص منه.
[863]- وقال: ينبغي للعاقل أن يكون مع سلطانه كراكب البحر، إن سلم من الغرق لم يسلم من الفرق.
فأما ما جاءت به الأمثال والأخبار من الخوف على أتباع السلطان، والتحذير من ممالأته والنهي عن العمل معه، مما لو تكلفناه لأراد كتابا مفردا، وقد جاء بعض ذلك في الباب الأول. وهذا بيّن واضح لأنّ الشريعة جاءت برفض الدنيا والتقلل منها والاكتفاء بما يزوّد للآخرة، والتحوّب مما تكون به التبعات ولا شيء أدعى إلى ذلك من خدمة السلطان لا سيما في هذا الأوان.
[864]- وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّا إذا أمّرنا رجلا وفرضنا له رزقا فما
__________
[860] كليلة ودمنة: 88 وكتاب النمر والثعلب: 165 (16) ومحاضرات الراغب 1: 444 وقارن بما في محاضرات الراغب 2: 703 وأمثال الماوردي: 96 ب والبصائر 4: 218.
[861] الأدب الكبير: 56 (والحكمة الخالدة: 300) ونثر الدر 4: 86.
[862] مختار الحكم: 171 ولباب الآداب: 455.
[863] مختار الحكم: 138 والكلم الروحانية: 16.(1/340)
أصاب من شيء بعد كان غلولا.
[865]- وفي حديث آخر: من ولي لنا شيئا فلم يكن له امرأة فليتزوج، ومن لم يكن له مسكن فليتّخذ مسكنا، ومن لم يكن له مركب فليتّخذ مركبا، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادما، فمن أعدّ سوى ذلك جاء يوم القيامة غالّا سارقا.
[866]- ولعليّ عليه السلام من كتاب إلى بعض عماله «1» : أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأشدّ به لهاة الثغر المخوف، فاستعن بالله على ما أهمّك، واخلط الشدّة بضغث من اللّين، وارفق ما كان الرفق أوفق، واعتزم بالشدّة حين لا يغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية حتى لا يطمع الأقوياء في حيفك ولا ييأس الضّعفاء من عدلك.
[867]- ومن كلام الحكماء: للكاتب على الملك ثلاث: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السرّ إليه.
[868]- وقال أبرويز لكاتبه: اكتم السرّ، واصدق الحديث واجتهد في النصيحة، واحترس بالحذر فإنّ لك عليّ ألا أعجل بك حتى أستأني لك، ولا أقبل عليك قولا حتى أستيقن، ولا أطمع فيك فتغتال. لا «2» تدعنّ أن ترفع إليّ الصغير فإنّه يدلّ على الكبير. هذّب أمورك ثم القني بها، وأحكم لسانك
__________
[866] نهج البلاغة: 420- 421.
[867] عيون الأخبار: 1: 44 (ونسبه الى المنصور) ونثر الدر 4: 81 وشرح النهج 17: 79.
[868] عيون الأخبار 1: 45 وشرح النهج 17: 81.(1/341)
ثمّ راجعني به. لا تجترئنّ عليّ فأمتعض، ولا تنقبض عنّي فأتّهم، ولا تمرّض بما تلقاني ولا تجحدنّه، وإذا أفكرت فلا تعجل، وإذا كتبت فلا تعذر، ولا تستعن بالفضول فإنّها علاوة على الكفاية، ولا تقصّرنّ عن التحقيق عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة، ولا تلبّسنّ كلاما بكلام ولا تباعدنّ معنى عن معنى.
وللكتّاب آداب تخصّهم ليس هذا موضعها، ومكانهم من العلوم والسياسة وحسن التدبير وأصالة الرأي ووضع الأشياء مواضعها، أجلّ من أن ينبّه عليه، هذا إذا كان فيهم أدوات الكتابة وشروطها، فأمّا من تجمّل بالاسم دون المعنى فخارج عن هذا الإطراء.
[869]- وقد قال حكيم لبنيه: يا بنيّ تزيّوا بزيّ الكتاب فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السوقة.
[870]- وقد ذكرهم عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري في رسالة له يوصيهم فيها بمحاسن الأفعال، نحن نقتصر عليها في وصفهم وما ينبغي لهم أن يتأدبوا به، أولها: أما بعد، حفظكم الله يا أهل هذه الصناعة «1» ، فإنّ الله تعالى جعل الناس من بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم جميعا، وبعد الملوك المكرّمين شرفا، وصرّفهم في صنوف الصناعات التي منها سبب معاشهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرفها صناعة، أهل الأدب والمروءة والحلم والرويّة، وذوي الأخطار والهمة وسعة الذّرع في الإفضال
__________
[869] عيون الأخبار 1: 46 والبصائر 1: 428 (لسهل بن هارون) ونثر الدر 4: 68 والعقد 4:
171، 179 وبهجة المجالس 1: 358؛ وفي لباب الآداب: 229 أبو السمراء: قال لنا أبي ... وانظر الريحان والريعان 1: 98.
[870] رسائل البلغاء: 222- 226 والجهشياري: 73- 79 وصبح الأعشى 1: 85- 89 (وفي النص هنا بعض اختلافات وتفاوت في ترتيب الفقرات) .(1/342)
والصّلة، بكم ينتظم الملك، وبتدبيركم وسياستكم يصلح الله سلطانهم ويجمع فيئهم ويعمر بلدانهم، يحتاج إليكم الملك في عظيم ملكه، والوالي في سنيّ قدره، فموقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بضوئها ينظرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون. أنتم إذا آلت الأمور إلى موئلها وصارت إلى محاصلها ثقاتهم دون أهليهم وأولادهم وقراباتهم ونصائحهم، فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل «1» صناعتكم، ولا نزع عنكم سربال النعمة عليكم، وليس أحد من أهل الصناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة والمعدودة منكم.
أيها الكتّاب؛ إنكم على ما سبق به الكتّاب من سنتكم، فإنّ الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج من صاحبه الذي يثق به في مهمّات أموره إلى أن يكون حليما في موضع الحلم، حكيما في موضع الحكمة، مقداما في موضع الإقدام، محجما في موضع الإحجام، ليّنا في موضع اللين، شديدا في موضع الشدّة، مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيّا عند الشدائد، عالما بما يأتي ويذر، ويضع الأمور مواضعها، وقد نظر في كلّ صنف من صنوف العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه شدا منه شدوا يكتفي به، يكاد يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدره، فيعدّ لكلّ أمر عدّته ويهيّىء له أهبته.
فتنافسوا معشر الكتّاب في صنوف العلم والأدب وتفقهوا في الدين وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخطّ فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا معانيها وغريبها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعفنّ نظركم في الحساب فإنه قوام كتّاب الخراج منكم،(1/343)
وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها، ومسافّ الأمور ومحاقرها فإنها مذلّة للرقاب مفسدة للكتاب، ونزّهوا صناعتكم واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الجهالة «1» والدناءة.
إيّاكم والكبر [والصلف] والعظمة فإنها عداوة مجتلبة بغير إحنة، وتحابّوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها فإنها شيم أهل الفضل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم، فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، فإن أقعد الكبر أحدكم عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحدب وأحوط منه على أخيه وولده، وإن عرضت مذمّة فليحملها من دونه، وليحذر السّقط والزلّة والملال عند تغيّر الحال، فإنّ العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى المرآة «2» ، وهو لكم أفسد منه [لها] . وابذلوا وفّقكم الله ذلك من أنفسكم في الرخاء والشدة، والاحسان والاساءة، والغضب والرضى، والسّرّاء والضّراء، والحرمان والمواساة، فنعمت «3» هذه السمة لمن يوسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة.
وإذا ولي الرجل منكم أو صيّر إليه من أمور خلق الله وعياله أمر فليراقب الله تعالى ذكره، وليؤثر طاعته فيه، وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبّهم إليه أرفقهم على عياله، وليكن بالحقّ عالما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفّرا، وللبلاد عامرا، وللرعيّة متألّفا، وليكن في مجلسه متواضعا حليما لينا، وفي استجلاب خراجه واستقضاء حقّه رفيقا إن شاء الله.(1/344)
وإذا صحب أحدكم الرجل فليستشفّ خلائقه كما يستشفّ الثوب يشتريه لنفسه، وإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه «1» على ما يوافقه من الحسن، واحتال لصرفه عما يهوى من القبيح بألطف حيلة وأحسن مداراة ورفقة، فقد عرفتم أن سائس البهيمة إذا كان حاذقا بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحا اتّقاها من قبل رجلها، وإن كانت جموحا لم يهجها إذا ركبها، وإذا كانت شبوبا توقّاها من ناحية يدها، وإن خاف منها عضاضا توقّاها من تلقاء رأسها، وإن كانت حرونا لم يلاحها بل يتبع هواها في طريقها، وإذا استمرّت عطفها فسلس عليه قيادها، وفي هذا الوصف من سائس البهيمة [في] رفق سياسته «2» دليل وأدب لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وصحبهم، والكاتب بفضل أدبه وشريف صناعته ولطف حيلته ومعاملته من الناس لمن يحاوره ويناظره ويفهم عنه ويخاف سطوته أولى بالرفق «3» بصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف خطأ ولا صوابا، إلّا بقدر ما يصيّرها إليه سائسها أو صاحبها الراكب. فأدقّوا «4» رحمكم الله في ذلك النظر، وأعملوا فيه الروية والفكر، تأمنوا ممن صحبتموه- بإذن الله- النبوة والاستثقال والجفوة، ويصر منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المواساة والشفقة، إن شاء الله.
ولا يجوزنّ «5» الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون «6» أمره قدر صناعته، فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صناعتكم خدمة لا تحتملون في خدمتكم على التقصير،(1/345)
وخزّان وحفظة لا يحتمل منكم التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما عدا عليكم، فنعم العون عونكم على صيانة دينكم، وحفظ أمانتكم وصلاح معاشكم. واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف، فإنّهما يعقبان الفقر، ويذلّان الرقاب، ويفضحان أهليهما، ولا سيّما الكتاب.
والأمور أشباه وبعضها دليل على بعض، فاستدلّوا على مؤتنف عملكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجّة، وأرجحها «1» حجّة، وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة وضدا واقعا لا يجتمعان في أحد أبدا، وهو الوصف المشغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورويّته، فليقصد الرجل منكم في مجلس تدبيره قصد الكافي في منطقه، وليوجز في ابتدائه، وليأخذ بمجامع حججه، فإنّ ذلك مصلحة لعقله، ومحجّة لذهنه، ومدفعة للتشاغل عن إكثاره، وإن لم يكن الاكثار عادة، ثم وضع وضعه في ابتداء كتاب أو جواب لحاجة فلا بأس؛ ولا يدعونّ الرجل صنيع الله جلّ ذكره في أمره وتأييده إياه بتوفيقه، إلى العجب المضرّ بدينه وعقله وأدبه، فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ، أو قال قائل، إنّ ذلك الصّنع لفضل حيلة، وأصالة رأي وحسن تدبير كان متعرضا «2» لأن يكله الله تعالى إلى نفسه، فيصير بها إلى غير كاف.
ولا يقل أحد منكم إنه آدب وأعقل وأحمل لعبء التدبير والعمل من أخيه في صناعته، فإنّ أعقل الرجلين عند ذوي الألباب القائل إنّ صاحبه أعقل منه، وأحمقكم الذي يرى أنه أعقل من صاحبه، لعجب هذا بنفسه، ونبذ ذلك العجب وراء ظهره إذ كان الآفة العظمى من آفات عقله. ولكن قد يلزم الرجل أن يعرف فضل الله عزّ وجلّ من [غير] عجب، ويحمده بالتواضع لعظمته، وأنا أقول في آخر كتابي هذا وغبر كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله(1/346)
عز وجل فلذلك جعلته آخره وختمته به: تولّانا الله وإياكم معشر الكتاب بما يتولّى من سبق عمله في إسعاده وإرشاده، فإنّ ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأما القضاء والمظالم فمن أكبر أسباب السلطان، ومتوليها أعلى منزلة من أعوانه، وكتب الفقه أولى مكان لذلك.
[871]- وقد كتب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري كتابا يمثّل به أدب القضاء نحن نقتصر عليه: أما بعد فإنّ القضاء فريضة محكمة، وسنّة متّبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنّه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حقّك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر، والصلح بين المؤمنين جائز إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا.
لا يمنعك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه رشدك أن ترجع إلى الحق، فإنّ الحقّ قديم، ومراجعة الحقّ خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنّة، ثم اعرف الأمثال والأشباه فقس الأمور عند ذلك [بنظائرها] ، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل وأشبهها بالحقّ، واجعل لمن ادّعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقّه، وإلّا استحالت عليه القضية، فإنّه أخفى للشكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإنّ الله عزّ وجلّ تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان. وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإنّ الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به
__________
[871] البيان والتبيين 2: 48- 50 وعيون الأخبار 1: 66 والكامل للمبرد 1: 14 والعقد 1: 86 ونثر الدر 2: 24- 25 وأخبار القضاة 1: 70- 73 ورونق التحبير، الورقة: 18/أ (مخطوطة الرباط/ د: 1182) ولقاح الخواطر: 9 ب (وفيه تفسير ألفاظه) .(1/347)
الذخر، فمن صحّت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله [فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته؟] .
[872]- قال الزهري: ثلاث إذا كنّ في القاضي فليس بقاض، إذا كره اللوائم، وأحبّ المحامد، وكره العزل.
[873]- وقال ابن وهب: إذا لم يكن في القاضي ثلاث خصال فليس بقاض: يشاور إن كان عالما، ولا يسمع شكيّة من أحد إلا ومعه خصمه، ويقضي إذا علم.
[874]- عزل عمر بن عبد العزيز قاضيا فقال له: لم عزلتني؟ قال:
بلغني أنّ كلامك أكثر من كلام الخصمين.
[875]- قال الاسكندر لصاحب حرسه: إنّك مستودع روحي فاحفظ هذه المنزلة لنفسك وعقبك، وقال لحاجبه: إنك مالك وجهي فانف قذاه أبصر لك. وقال لطبّاخه: إنك مسلّط على مروءتي فاجتهد أحمدك، وقال لكاتبه: إنك مصرّف عقلي فاحفظني بك. وقال لنديمه: إنك روضة أنسي فاحذر القبيح والدّخول تدم نزهي فيك واستراحتي إليك، والسلام.
[876]- كان الفضل بن الربيع يقول: المسألة عن حال الملوك من تحيّة النوكى، فإذا أردت أن تقول للملك كيف أصبحت، فقل: صبّحك الله
__________
[872] محاضرات الراغب 1: 194 وعيون الأخبار 1: 65 وأخبار القضاة 1: 80.
[873] عيون الأخبار 1: 65 وأخبار القضاة 1: 80 ونثر الدر 5: 45.
[874] محاضرات الراغب 1: 194 وبهجة المجالس 1: 61 وربيع الأبرار: 315 ب ونثر الدر 2:
118 وشرح النهج 17: 64.
[876] البيان والتبيين 2: 275، 286، وعيون الأخبار 1: 22 والعقد 2: 124، 460 والجهشياري: 294 والتمثيل والمحاضرة: 142 ونثر الدر 4: 82 ونزهة الظرفاء: 5 ب.(1/348)
بالخير، وإذا أردت أن تقول كيف تجدك، فقل: أنزل الله عليك الشفاء والرحمة، فإنك إذا قلت: كيف تجدك؟ فإما أجابك فقد ألزمته مؤونة الجواب، وإما سكت عنك وذاك شديد على من يعقل.
وكان الفضل هذا سديدا عاقلا ومتصرفا بخدمة الملوك، قال له المهديّ:
إنّي قد ولّيتك ستر وجهي وكشفه، فلا تجعل الستر بيني وبين خواصّي سبب ضغنهم عليّ بقبح ردّك وعبوس وجهك، وقدّم أبناء الدولة فإنّهم أولى بالتقديم، وثنّ بالأولياء، واجعل للعامّة وقتا إذا وصلوا فيه أعجلهم ضيقه من التلبّث وحثّك لهم عن التمكّث.
[877]- قال الفضل بن سهل لحاجبه: إنك تسمع مني السرّ والعلانية، وربما ذكرت الرجل، فأسأت ذكره، فلا ترينّ ذلك قليلا ولا تتغيرنّ له بما سمعت، فلعلّ ذلك غاية عقوبتي إياه.
[878]- وقال زياد لحاجبه: يا عجلان إني ولّيتك هذا الباب، وعزلتك عن أربع، عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا إلى الصلاة، فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشرّ ما جاء به، ولو جاء بخير ما كنت من حاجته. وعن رسول صاحب الثّغر فإنّ إبطاء ساعة يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه.
[879]- قال الحجاج: دلّوني على رجل أولّيه الشرطة؟ فقيل له: أيّ الرجال تريد؟ فقال: أريده دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحقّ على جرّة، ويهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة، فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي، فأرسل إليه
__________
[878] رسائل الجاحظ 2: 36 والكامل 1: 258 والعقد 1: 71 ونثر الدر 5: 50 ومحاضرات الراغب: 1: 205 والجوهر النفيس: 34 ب- 35/أولقاح الخواطر: 22/أ.
[879] عيون الأخبار 1: 16 ومحاضرات الراغب 1: 165 وزهر الآداب 1006- 1007.(1/349)
فاستعمله. قال: لست أقبلها إلّا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك.
فقال: يا غلام من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمّة. قال الشعبي: فلا والله ما رأيت صاحب شرطة قطّ مثله، كان لا يحبس إلّا في الدّين، وكان إذا أتي برجل قاتل بحديد أو شهر سلاحا قطع يده، وإذا أتي بنبّاش قبر حفر له قبرا فدفنه فيه، فإذا أتي برجل قد احرق على قوم منازلهم أحرقه، وإذا أتي برجل يشكّ فيه وقد قيل إنه لصّ ولم يكن منه شيء ضربه ثلاثمائه سوط، فربما أقام أربعين ليلة لا يؤتى بأحد، فضمّ إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
[880]- وتحدّث المأمون فضحك إسحاق بن إبراهيم المصعبي، فقال:
يا إسحاق أؤهّلك لشرطتي وتفتح فاك من الضحك؟! خذوا سواده وسيفه، ثم قال: أنت بالشرابيّ أشبه، فضعوا منديلا على عاتقه، فقال إسحاق:
أقلني يا أمير المؤمنين، قال: قد أقلتك؛ فما ضحك إسحاق بعدها.
وكتب عليّ عليه السلام كتبا إلى عماله في الحروب والصدقات وغيرها، ووصّى فأوقفهم فيها على سبيل الهداية، وبصّرهم من تيه العماية، يحصل بالوقوف عليها التأدب المغني عن التمثيل بغيرها:
[881]- فمنها ما وصّى به معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام مقدمة له: اتّق الله الذي لا بدّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلنّ إلّا من قاتلك، وسر البردين، وغوّر الناس، ورفّه في السير، ولا تسر أول الليل فإنّ الله جعله سكنا، وقدره مقاما [لا ظعنا] فأرح فيه بدنك، وروّح ظهرك، فإذا وقفت حتى فجر الصبح «1» فسر على بركة الله، فإذا رأيت
__________
[880] نثر الدر 3: 43 ومحاضرات الراغب 1: 283 والشهب اللامعة: 79.
[881] نهج البلاغة: 372.(1/350)
العدوّ فقف في أصحابك وسطا، ولا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد بهم تباعد من يهاب البأس حتى يأتيك أمري، ولا يحملنكم شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم.
[882]- وكتب إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكّة: أما بعد فأقم للناس الحجّ، وذكّرهم بأيام الله عزّ وجلّ، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلّم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلّا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها. وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع المفاقر والخلّات، وما فضل «1» عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا، ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا، فإنّ الله تعالى يقول:
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ
(الحج: 25) ، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله، وفّقنا الله وإياك لمحابّه والسلام.
[883]- وقال لزياد وقد استخلفه لعبد الله بن العباس على فارس وأعمالها، في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقديم الخراج: استعمل العدل واحذر العسف والحيف، فالعسف يعود بالجلاء والحيف يدعو إلى السيف.
[884]- ومن كلام له كان يوصي به المصدقين: انطلق على تقوى الله عزّ وجلّ، فاذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض اليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية، ثم
__________
[882] نهج البلاغة: 457.
[883] نهج البلاغة: 559.
[884] نهج البلاغة: 380 وبعض هذه الوصية في ربيع الابرار: 245/أ.(1/351)
تقول: عباد الله، أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدوه؟ فإن قال قائل [لا] فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، وإن كانت له ماشية أو إبل، فلا تدخلها إلا باذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخلها دخول متسلّط عليها ولا عنيف به. ولا تنفرنّ بهيمة ولا تفزّعها، ولا تسوءنّ صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعترض لما اختار، فلا تزال بذلك «1» حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله في ماله، فاقبض حقّ الله منه، فإن استقالك فأقله «2» ثم اخلطها، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حقّ الله في ماله، ولا تأخذنّ عودا ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عور «3» ، ولا تأمننّ عليها إلا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى توصله إلى وليّهم فيقسمه بينهم، ولا توكّل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا غير معنف ولا مجحف، ولا ملغب «4» ولا متعب، ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر الله به، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه الا يحول بين ناقة وفصيلها، ولا يمصر بلبنها فيضرّ ذلك بولدها، ولا يجهدها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها وبينها في ذلك، وليرفّه على اللاغب وليستأن بالنّقب والظالع، وليوردها ما تمرّ به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطرق، وليروّحها في الساعات، وليمهلها عند النّطاف والأعشاب، حتى تأتينا بها باذن الله بدّنا منقيات غير متعبات ولا مجهودات لنقسمها على كتاب الله وسنّة نبيه صلّى الله عليه، فإنّ ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك، إن شاء الله تعالى.(1/352)
[885]- قال معاوية لعامل له: كل قليلا تعمل طويلا، والزم العفاف يلزمك العمل، وإياك والرّشا يشتدّ ظهرك عند الخصام.
[886]- وقال البحتري يذكر ولاية الحسن بن مخلد: [من الكامل المجزوء] .
ولي السياسة واسطا ... بين التسهل والتشدّد
كالسيف يقطع وهو مس ... لول ويرهب وهو مغمد
[887]- ومن الكلام البديع فيما يوصّى به أتباع السلطان ما وصّى به الرشيد الأصمعيّ في أول ما عزم على تأنيسه. قال له: يا عبد الملك، أنت أحفظ منّا ونحن أعقل منك، لا تعلّمنا في ملاء، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال، فإذا بلغت من الجواب قدر استحقاقه فلا تزد، وإياك والبدار إلى تصديقنا، أو شدة العجب بما يكون منّا، وعلّمنا من العلم ما نحتاج إليه على عتبات المنابر وفي أعطاف «1» الخطب وفواصل المخاطبات، ودعنا من رواية حوشيّ الكلام وغرائب الأشعار، وإياك وإطالة الحديث إلّا أن يستدعى ذلك، ومتى رأيتنا صادفين عن الحقّ فأرجعنا إليه ما استطعت، من غير «2» تقرير بالخطأ ولا إضجار بطول الترداد. قال الأصمعي:
أنا إلى حفظ هذا الكلام أحوج منّي إلى كثير من البر.
__________
[885] عيون الأخبار 1: 60 (ونسبه لبعض السلاطين) وبهجة المجالس 2: 252 (لمعاوية يخاطب سفيان بن عوف) ونثر الدر 3: 4 وفيه 4: 78 من أكل قليلا عمل طويلا.
[886] ديوان البحتري: 606.
[887] أدب الدنيا والدين: 91 والشريشي 5: 215 ونثر الدر 3: 37 ولقاح الخواطر: 30 ب.
23 1 التذكرة(1/353)
[888]- وقال عتبة بن أبي سفيان لمعلّم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاح نفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنته والقبيح عندهم ما استقبحته. علّمهم كتاب الله تعالى، وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه، ولا تكرههم على علم فيملّوه، ولا تخرجهم من علم إلى علم فإنّ ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم، وعلّمهم سير الحكماء، وهدّدهم بي، وأدّبهم دوني، ولا تتكل على عذر منّي، فإنّي أتّكل على كفاية منك.
[889]- قال سهل بن هارون: ليس يواظب على باب السلطان أحد فيلقي عنه الأنف، ويحتمل الأذى، ويكظم الغيظ، ويرفق بالناس، إلّا خلص إلى حاجته.
[890]- وقيل إنه رأى أبا يوسف القاضي على باب الرشيد والشمس تنقله من ظل ظلّ، فقال له: أمثلك مع علمك وفضلك تقف هذا الموقف؟
فأنشد: [من الطويل] .
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا تكرم النفس التي لا تهينها
[891]- قال ابن عباس: قال لي أبي: يا بنّي إني أرى أمير المؤمنين عمر يستخليك ويستشيرك ويقدّمك على كثير من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإني أوصيك بخلال ثلاث: لا تفشينّ له سرّا، ولا يجرّبنّ عليك كذبا، ولا
__________
[888] البيان والتبيين 2: 73 وعيون الاخبار 2: 166 والعقد 2: 436 ونثر الدر 3: 59 وربيع الأبرار 1: 523 ونور القبس: 187 ومحاضرات الراغب 1: 53 والشريشي 5: 214.
[889] ورد هذا القول في كتاب النمر والثعلب: 166 وقارن بما في عيون الاخبار 1: 19 (دون نسبة) وشرح النهج 17: 93 والعقد 1: 69 ومحاضرات الراغب 1: 192.
[890] ورد البيت في بهجة المجالس 1: 365 (لأعرابي) وكذلك في البيان والتبيين 2: 189.
[891] قد مرّ هذا تحت رقم: 190 وتخريجه هنالك.(1/354)
تغتابنّ عنده أحدا. قال الشعبي قلت لابن عباس: كلّ واحدة منها خير من ألف. قال: أي والله ومن عشرة آلاف.
[892]- وقال القدماء: إقبال السلطان تعب وإعراضه مذلّة.
[893]- وقال آخر: السلطان إذا أرضيته أتعبك وإذا أغضبته أعطبك.
[894]- قال الفضل بن سهل: من أحبّ المنزلة عند سلطانه فليكفه، ومن أحبّ المزيد من النّعم فليشكر.
[895]- قال أحمد بن أبي خالد للمأمون لما همّ أن يستوزره: اجعل بيني وبين العامّة منزلة يرجوها الصديق ويخافها العدو، فما بعد الغايات الا الآفات.
[896]- نفذ أبو عبيد الله كاتب المهديّ الى جعفر بن محمد رضي الله عنهما رسولا وكتابا منه يقول: حاجتي إلى أن تهدي إليّ من تبصيرك على مداراة الناس والسلطان، وتدبير أمري كحاجتي إلى دعائك لي. فقال لرسوله: احذر أن يعرفك السلطان بالطّعن عليه في اختيار الكفاة، وإن أخطأ في اختيارهم، أو مصافاة من يباعد منهم، وإن قربت الأواصر بينك وبينه، فإنّ الأولى تغريه بك والأخرى توحشه منك، ولكن بتوسّط الحالين. واكفف عن عيب من
__________
[892] نثر الدر 4: 80 (لابن المقفع) والأسد والغواص: 47 احذر صحبة السلطان فان اقباله ...
الخ.
[893] نثر الدر 4: 80.
[894] المحاسن والأضداد: 24: «من أحب الازدياد من النعم فليشكر ومن أحب المنزلة فليكف ومن أحب بقاء عزه فليسقط دالته ومكره» ونثر الدر: 45 وقارن بقول للحسن بن سهل في لباب الآداب: 20 «من أحب الازدياد من النعم فليشكر ومن أحب المنزلة عند السلطان فليعظه، ومن أحب بقاء عزه فليتواضع، ومن أحب السلامة فليدم الحذر» .
[895] محاضرات الراغب 1: 450 وتحسين القبيح: 87 ومطالع البدور 2: 112.(1/355)
اصطفوا والإمساك عن تقريظهم عنده، ومخالطة من أقصوا والتّنائي عن تقريبهم، وإذا كدت فتأنّ في مكايدتك، واعلم أنّ من عنف بحيلته كدحت فيه بأكثر من كدحها في عدوّه، ومن صحب حيلته بالصبر والرفق كان قمنا أن يبلغ بها إرادته وينفذ فيها مكايده. واعلم أنّ لكلّ شيء حدا فإن جاوزه كان سرفا، وإن قصّر عنه كان عجزا. فلا تبلغ بك نصيحة السلطان إلى أن تعادي له حاشيته وخاصته فإن ذلك ليس من حقه عليك، ولكنّ الأقضى لحقّه والأدعى إلى السلامة إليك أن تستصلحهم له جهدك، فإنّك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته وأمنت حجّته وطلت عدوّك عنده. واعلم أن عدوّ سلطانك عليك أعظم مؤونة منه عليك، وذلك أنه يكيده في الأخصّ فالأخصّ من كفاته وأعوانه، فيحصي مثالبهم ويتبع آثارهم.
وهذا الكلام أكثر معانيه قد سبق إيرادها في أماكن متفرقة من هذا الفصل، إلا أني وجدته هاهنا أحوى وأوجز وأبلغ فلزمني إثباته.(1/356)
الفصل الرابع الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور
[897]- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنبّه على مواضع آداب النفس وبيّن ما هو جملة للتفصيل الذي أكثر فيه الناس: لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا حزم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميزان كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله، ولا ورع كالوقوف عند الشّبهة، ولا زهد كالتّزهّد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا مظاهرة كالمشاورة، فاحفظ الرأس وما حوى، والبطنّ وما وعى، واذكر الموت وطول البلى.
[897 ب]- وقال صلّى الله عليه وسلّم: اغد عالما أو متعلما أو مجيبا أو سائلا، ولا تكن الخامس فتهلك.
__________
[897] نثر الدر 1: 171 والبصائر 1: 13 وبعضه في الشهاب: 28 (اللباب: 148) ونسب في نهج البلاغة: 488 لعلي، وورد في مجموعة ورام 1: 84 دون نسبة، وورد بعضه في بهجة المجالس 1: 523 منسوبا لعليّ، وانظر أمثال الماوردي: 55 ب، 104 ب، والأدب الصغير: 35 والعقد 2: 254.
[897 ب] أخرجه البيهقي في الشعب وابن عبد البر من حديث عطاء بن مسلم الخفاف وهو عند الطبراني، وينسب أحيانا الى ابن مسعود أو أبي الدرداء؛ انظر المقاصد الحسنة: 68 وكشف الخفا 1:
167 ونثر الدر 1: 174 ومجمع الزوائد 1: 122 والخصال: 123 ونسب للقمان في عيون الاخبار 2: 119 وربيع الأبرار: 274/أولعلي في أدب الدنيا والدين: 51.(1/357)
[898]- وقال عليه السلام: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوّته.
[899]- ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم: العارية مؤدّاة والمنحة مردودة. الدين مقضيّ به. الزعيم غارم.
وهذا الكلام مخرجه مخرج الخبر والمراد به الأمر.
[900]- ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم:
(1) من يزرع الشرّ يحصد ندامة.
(2) من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا.
(3) ثق بالناس رويدا.
(4) دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
(5) إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث.
(6) مداراة الناس صدقة.
(7) الاقتصاد نصف العيش وحسن الخلق نصف الدين.
__________
[898] نثر الدر 1: 171- 172 والشهاب: 17 (اللباب: 96) .
[899] رواه أبو داود عن أبي أمامة ورواه الترمذي وحسّنه؛ انظر كشف الخفا 2: 67.
[900] هذه مجموعة من الأحاديث واليك تخريجها:
1- نثر الدر 1: 167 والترغيب والترهيب 3: 242.
4- نثر الدر 1: 161 وسنن الدارمي وسنن الترمذي والايجاز والاعجاز: 7 وقد ورد من قبل رقم: 62 (5) - ارشاد الساري 9: 58 وصحيح مسلم: 1985 وكشف الخفا 1: 324 واللباب: 167 وهو متفق عليه، (6) - كشف الخفا 2: 262 والشهاب: 5 (اللباب: 17) والعزلة: 119 ومحاضرات الراغب 1: 277 وأمثال الماوردي: 49 ب ولباب الآداب: 320 (7) - كشف الخفا 1: 179 والشهاب: 4 (اللباب: 7) بلفظ التدبير نصف العيش.(1/358)
(8) لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك.
(9) لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا.
(10) عليكم بالرفق فإنه ما خالط شيئا إلا زانه، ولا فارقه إلّا شانه.
(11) ترك الشرّ صدقة.
(12) إياك وما يعتذر منه.
وما أكثر ما تحت هذه الكلمة الوجيزة من المعاني.
[901]- ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم: لو أنّ ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت. إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه.
[902]- قال أنس: توفي رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: أبشر بالجنّة، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أفلا تدرون فلعلّه تكلّم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينفعه.
(8) - كشف الخفا 2: 479 ورواه الترمذي والطبراني عن واثلة مرفوعا والشهاب: 30 (اللباب:
159) (9) - اللباب: 162 وربيع الابرار 1: 469 (10) - كشف الخفا 2:
92 ورواه البخاري في الأدب عن عائشة وكذلك مسلم. (11) كشف الخفا 1: 360.
12 كشف الخفا 1: 325 والشهاب: 31 (اللباب: 166) والايجاز والاعجاز: 7 وورد في بهجة المجالس للأحنف (1: 484) ونسب في نثر الدر 7: 41 (رقم: 78) لا نوشروان وانظر غرر الخصائص: 375 والفاضل: 17 والعقد 2: 444 ومرّ من قبل في رقم: 23 (26) .
__________
[901] قوله «لو أن ابن آدم ... » في كشف الخفا 2: 200 رواه أبو نعيم وفي سنده ضعف، وأخرجه ابن عساكر عن أبي الدرداء، وقوله: «إذا كنتم ثلاثة ... » في البخاري (استئذان: 47) ومسلم (سلام: 37، 38) والترمذي (أدب: 59) وابن ماجه (أدب: 50) ومسند أحمد 1: 431، 460، 462، 464، 2: 9، 43، 45، 430، 438.(1/359)
[903]- ومن كلامه صلّى الله عليه وسلّم: من كنوز البرّ كتمان المرض والمصايب والصدقة.
[904]- وقد روي عن سفيان ألفاظ تقارب هذه، قال: ثلاثة من الصبر: لا تحدّث بمصيبتك، ولا يوجعك، ولا تزكّ نفسك.
[905]- وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: بكثرة الصمت تكون الهيبة، وبالنّصفة يكثر المواصلون لك، وبالافضال تعظم الأقدار، وبالتواضع تتمّ النعمة، وباحتمال المؤن يكون السؤدد، وبالسيرة العادلة تقهر المساوىء، وبالحلم عن السفيه يكثر الأنصار عليه.
[906]- وقال أيضا: من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن تفهّم علم.
[907]- ومن كلامه عليه السلام: اتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهنّ على حذر، ولا تطيعوهنّ في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر. من ترك القصد جار.
وله عليه السلام أيضا آداب كثيرة مأثورة من هذا الباب سنذكرها متفرقة فيه إن شاء الله تعالى.
__________
[903] محاضرات الراغب 2: 451 والعقد 3: 204 ونثر الدر 4: 62 وقارن بأنس المحزون: 28/أوببرد الأكباد: 125.
[905] نهج البلاغة: 508 وقوله «بكثرة الصمت تكون الهيبة» في ربيع الابرار 1: 782 والمجتنى:
59.
[906] نهج البلاغة: 506 وبعضه في أدب الدنيا والدين: 122 وأمثال الماوردي: 52/أولباب الآداب: 19 (لحكيم) .
[907] نهج البلاغة: 106 والبصائر 3: 517 وبهجة المجالس 2: 33 (لعمر) وهو للقمان في الف باء 1: 396 ونثر الدر 7: 10 (رقم: 70) والعقد 3: 152 ومختار الحكم: 275؛ وقوله «من ترك القصد جار» مقتبس من موضع آخر.(1/360)
[908]- قال محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط عن اللئيم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
[909]- قيل: عشر خصال في عشرة أصناف من الناس أقبح منها في غيرهم: الضيق في الملوك، والغدر في الأشراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الأبرار، والحرص في الأغنياء، والسّفه في الشيوخ، والمرض في الأطبّاء، والتهزي في الفقراء، والفخر في القرّاء.
[910]- قال أكثم بن صيفي فيما وصّى به أهله: تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار.
[911]- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما استودع الله عبدا عقلا إلا استنقذه به يوما ما.
[912]- وقال علي عليه السلام لابنه الحسن: يا بنيّ، احفظ عنّي
__________
[908] حلية الأولياء 9: 122 وصفة الصفوة 2: 143 وعيون الاخبار 1: 329 ومحاضرات الراغب 2: 19 (لأكثم) ونثر الدر 4: 67 وقارن بربيع الأبرار 1: 776.
[909] البيان والتبيين 3: 246، 4: 96 ومحاضرات الراغب 2: 705 ونثر الدر 4: 63 وقارن بكتاب الآداب: 54 حيث جعلها ست خصال، وهي أربع في التمثيل والمحاضرة: 472 وبرد الأكباد: 129 والمستطرف 1: 156 وخمس في بهجة المجالس 2: 138 ومحاضرات الأبرار 1: 445 والجوهر النفيس: 48 والنمر والثعلب: 105 (76) .
[910] البيان والتبيين 3: 255 وقارن بقول له في البيان 2: 70 والعقد 2: 326 تباعدوا في الدار وتقاربوا في المودة.
[911] روضة العقلاء 18 (عن حاتم بن اسماعيل) ونثر الدر 1: 168 وربيع الابرار: 254/أونسب للحسن البصري في أدب الدنيا والدين: 19 والعقد 2: 247 وانظر البصائر 7 رقم: 816 وقوانين الوزارة: 238.
[912] نهج البلاغة: 475 ولباب الآداب: 11 وقوله «اياك ومصاحبة الأحمق ... » في البيان والتبيين 2: 103 وربيع الأبرار 1: 493 ونسب في البيان 4: 96 لعمر بن الخطاب.(1/361)
أربعا، وأربعا لا يضرّك ما عملت معهنّ: إنّ أغنى الغنى العقل، وأفقر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق.
يا بنيّ إياك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرك، ومصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذّاب فإنه كالسّراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عنك القريب.
[913]- وكان الحسن بن أبي الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه فإذا عرض له القول نظر فإن كان صوابا قال، وإلّا أمسك، ولسان الأحمق أمام قلبه فإذا عرض له القول قال له أو عليه.
وقد روي هذا الكلام أو قريب منه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
[914]- وسئل الحسن عن العاقل فقال: العاقل من اتّقى الله تعالى وتمسك بطاعته. قال له رجل: فمعاوية؟ قال: تلك الشيطنة، تلك الفرعنة، ثم قال: ذلك شبيه بالعقل.
[915]- وسمع سفيان الثوري رجلا في مجلسه يقول: كان معاوية عاقلا، فقال: العقل لزوم الحقّ وقول الصدق.
[916]- وقيل لعلي عليه السلام: صف لنا العاقل؛ فقال: يضع
__________
[913] الكامل 1: 389 والعقد 2: 240 والكامل للمبرد 2: 44 وقارن بروضة العقلاء: 47 ومحاضرات الراغب: 1: 70 وشرح النهج 7: 90 وأصل هذا الكلام في نهج البلاغة: 476 وقد مرّ تحت رقم: 137 ونسب للحسن في بهجة المجالس 1: 86 ومحاضرات الراغب 1:
70 وقارن بلباب الآداب: 270 حيث أورد حديثا للرسول في هذا المعنى؛ وقد نسب للرسول في مجموعة ورام 1: 106 (لسان المؤمن ... ) وأدب الدنيا والدين: 287 ولباب الآداب:
270 وقارن أيضا بلباب الآداب: 15 ومختار الحكم: 334 والعقد 2: 240 والمرادي:
165.
[916] نهج البلاغة: 510 وربيع الابرار: 256/أ (وفي النسخة سقط) والمستطرف 1: 15.(1/362)
الشيء مواضعه. فقيل فصف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت (يعني أنه لا يضع الشيء مواضعه) .
[917]- ومن كلامه: كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيك من رشدك.
[918]- وقال عليّ كرم الله وجهه: الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك.
[919]- وقيل: ظنّ العاقل كهانة.
[920]- وقال جعفر بن محمد: كلّ الأشياء تحتاج إلى العقل إلا شيئا واحدا. قيل: ما هو؟ قال: الدول.
[921]- وأنشد الخليل: [من الطويل] .
إذا كمّل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه وضرائبه
يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه
ويزري به في الناس قلة عقله ... وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه ... على العقل يجري علمه وتجاربه
[922]- من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم: البلاء موكّل بالمنطق. من خزن
__________
[917] نهج البلاغة: 550 والمجتنى: 84 ولباب الآداب: 429 والامتاع والمؤانسة 2: 152.
[918] نهج البلاغة: 551.
[919] العقد 2: 244 والتمثيل والمحاضرة: 427 وفقر الحكماء: 219 (لسقراط) وبهجة المجالس 1: 419 (ويروى لمعاوية) .
[921] انظر روضة العقلاء: 17 (دون نسبة) والعقد 2: 252- 253 وأدب الدنيا والدين: 20 (لابراهيم بن حسان) وغرر الخصائص: 86.
[922] قوله «البلاء موكل بالمنطق» في كشف الخفا 1: 343 والشهاب: 8 (اللباب: 41) .
والجامع الصغير 1: 128 والمقاصد الحسنة: 147 والمقاصد الحسنة: 147 وقوله: «من خزن لسانه» في نثر الدر 1:
168.(1/363)
لسانه رفع الله شانه.
[923]- وقال عليّ عليه السلام: الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فربّ كلمة سلبت نعمة [وجلبت نقمة] .
[924]- وقد قال أيضا: لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل.
[925]- وقال محمد بن المنكدر: لأن أسمع أحبّ إليّ من أن أتكلم، لأنّ المستمع يتنقّى والمتكلم يتوقّى.
[926]- وقيل لرجل من كلب طويل الصمت: بحقّ ما سميتم خرس العرب؟ فقال: أسكت لأسلم وأستمع فأغنم.
[927]- وقال الحسن بن علي: قد أكثر من الهيبة الصامت.
[928]- وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك: ملك فارس
__________
[923] نهج البلاغة: 543 ونسب جانب منه لأعرابي في بهجة المجالس 1: 79 وجاء دون نسبة في ربيع الأبرار 1: 781.
[924] نهج البلاغة: 558 وربيع الأبرار 1: 784.
[925] محاضرات الراغب 1: 71.
[926] ربيع الأبرار 1: 764 وأخبار أبي تمام: 258 وبعضه في البيان والتبيين 1: 194، 270 ومحاضرات الراغب 1: 71 وديوان المعاني 1: 149 ونثر الدر 6: 15 والحكمة الخالدة:
139 وشرح النهج 7: 90 والأجوبة المسكتة رقم: 961.
[927] قد مرّ مثله لعلي «بكثرة الصمت تكون الهيبة» وانظر ربيع الابرار 1: 782.
[928] عيون الاخبار 2: 179 ونور القبس: 61- 62 وربيع الأبرار 1: 781 وحلية الاولياء 8:
170 وبهجة المجالس 1: 80 وزهر الآداب: 984 والبيهقي: 395 وكتاب الآداب: 49 والجوهر النفيس 38 ومحاضرات الأبرار 2: 308 ومختار الحكم: 299 وتسهيل النظر: 59 والمحاسن والاضداد: 17 والتمثيل والمحاضرة: 426 والمستطرف 1: 82 والشهب(1/364)
وملك الروم وملك الهند وملك الصين، فتكلّموا بأربع كلمات كأنما رمي بها عن قوس واحدة، فقال أحدهم: أنا على قول ما لم أقل أقدر منّي على ردّ ما قلت. وقال آخر: الكلمة إذا قلتها ملكتني وإذا لم أقلها ملكتها. وقال الآخر: لم أندم على ما لم أقل وقد أندم على ما قلت. وقال الآخر: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن رفعت عليه ضرّته، وإن لم ترفع عليه لم تنفعه.
ومنه قول الشاعر: [من الرجز] .
والقول لا تملكه إذا نمى ... كالسهم لا يملكه رام رمى
وقال الآخر: [من الطويل] .
فداويته بالحلم والمرء قادر ... على نفسه ما دام في كفّه السّهم
وإلى هذا ذهب عامر الشعبي حيث يقول: وإنك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على ردّ ما أوقعت.
وقال الخطفى جدّ جرير: [من الطويل] .
عجبت لازراء العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصّمت ستر للعيي وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما
وقال أبو نواس: [الرمل المجزوء] .
__________
- اللامعة: 61 والرجز: «والقول لا تملكه ... » في البيان والتبيين 3: 203 ومعه البيت التالي:
«فداويته بالحلم ... » وقول الشعبي أيضا، وانظر الرجز والبيت في بهجة المجالس 1: 79؛ أما بيتا جرير فقد وردا في البيان والتبيين 1: 220 ومجموعة المعاني: 169 منسوبين إلى حذيفة الخطفى جد جرير وفي العقد 2: 266 للحسن بن جعفر ووردا في عيون الأخبار 1:
175 ومعجم الأدباء 1: 90 وبهجة المجالس 1: 62 (دون نسبة) ؛ وبيتا أبي نواس في البيان 2: 79، 199 والعقد 2: 473 ولباب الآداب: 274، 276 وبهجة المجالس: 85 وديوانه: 985 وأدب الدنيا والدين: 299 وكتاب الآداب: 109 وغرر الخصائص: 181.(1/365)
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنّط ... ق مغاليق الحمام
[929]- وقال ابن عباس رحمه الله: الهوى إله معبود، وقرأ:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
(الجاثية: 23) . ويكفي من ذمّ الهوى قوله عز وجل: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى
(النازعات:
40) .
[930]- ومن كلام جعفر بن محمد عليهما السلام: الهوى يقظان والحزم نائم.
[931]- وقال عمرو بن العاص لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رادّا لهواه.
[932]- وقال أعرابي: الهوى الهوان ولكن غلط باسمه.
__________
[929] قارن بمحاضرات الراغب 1: 17، 1: 526 وهو كما ورد هنا في البيان والتبيين 1: 235 وعيون الأخبار 1: 37 وأدب الدنيا والدين: 33 وبعضه في التمثيل والمحاضرة: 30 والايجاز والاعجاز: 8 ونسب قوله «الهوى اله معبود» لفيثاغور في فقر الحكماء: 208.
[930] قارن بالبيان والتبيين 1: 264 ونثر الدر 6: 14 وبهجة المجالس 1: 449 حيث ورد «الرأي نائم والهوى يقظان» منسوبا لعامر بن الظرب، وكذلك هو في عيون الاخبار 1: 37 ومحاضرات الراغب 1: 17 وكتاب الآداب: 66 والتمثيل والمحاضرة: 453 وأخلاق الوزيرين: 18؛ أما في البصائر 1: 182 فهو من كلام أكثم بن صيفي، ونشوة الطرب: 593، وفي الوافي بالوفيات 17: 450 قول مقارب لابن المعتز.
[931] المجتنى: 83 ومجالس ثعلب: 266 والبيان والتبيين 2: 188، 3: 154 وانساب الأشراف 4/1: 16 (وفيه مزيد من التخريج) وبهجة المجالس 1: 516، 812 ولباب الآداب:
336، 348.
[932] عيون الاخبار 1: 37 والعقد 3: 460 وأدب الدنيا والدين: 34 ومحاضرات الراغب 1:
18 وورد منظوما منسوبا للمأمون في محاضرات الابرار 2: 422. وهو في مناقب أبي حنيفة 2: 285.(1/366)
[933]- وقال آخر: العقل وزير ناصح والهوى خادم كذوب.
[934]- وقال الشاعر: [من الطويل] .
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
[934] ب- وقال آخر: اعص الهوى وأطع من شئت.
[935]- وقال الأخطل: [من الطويل] .
وإن امرءا لا ينثني عن غواية ... إذا ما اشتهتها نفسه لجهول
[936]- وقال أردشير: أسعدوا الرأي على الهوى.
[937]- وقال حاتم: [من الطويل] .
وانك إن اعطيت بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذمّ أجمعا
[938]- وقال عمرو بن العاص: [من الطويل] .
__________
[933] قارن بالبصائر 1: 151 ونثر الدر 6: 17 وفقر الحكماء: 209 (لفيثاغور) .
[934] البيت في البيان والتبيين 3: 169 وعيون الاخبار 1: 37 والكامل 1: 236 وبهجة المجالس 1: 808 وأدب الدنيا والدين: 35 ومجموعة ورّام 2: 28 ومحاضرات الراغب 1: 526 وغرر الخصائص: 90 وهو لهشام بن عبد الملك، وقيل إنه لم يقل شعرا غيره.
[934] ب نثر الدر 4: 69 وبهجة المجالس 1: 908 وفيه «اعص النساء وهواك ... » وكذلك ورد في فقر الحكماء: 279 منسوبا لبطليموس؛ وانظر الايجاز والاعجاز: 34 (لارسطاطاليس) ومحاضرات الراغب 1: 18 والمنهج المسلوك: 6/أ- ب وغرر الخصائص: 91 وشرح النهج 18: 199.
[935] ديوان الأخطل: 258.
[936] عهد اردشير: 74 وفيه «استعدوا» وفي بعض أصوله «أسعدوا» .
[937] عيون الاخبار 1: 37 وديوان حاتم: 183 والبيان والتبيين 3: 308 والفاضل للمبرد: 41 وأمالي القالي 2: 380 وبهجة المجالس 2: 85- 86 وتهذيب ابن عساكر 3: 427.
[938] عيون الاخبار 1: 37.(1/367)
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم يعص قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه يسيرا وأصبحت ... إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
[939]- وقال ابن المقفع: إذا ابتدأك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أقربهما إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في مخالفة الهوى.
[940]- وقال المعتصم: إذا نصر الهوى بطل الرأي.
[941]- وقال الحسين بن علي عليهما السلام: اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحقّ، واصبر عما تحبّ مما يدعوك إليه الهوى.
[942]- وقال جعفر بن محمد: من كان الهوى مالكه والعجز راحته، عاقاه عن السلامة وأسلماه إلى الهلكة.
وما قيل في ذم الهوى والتحذير منه يوفي على الإحصاء، وإنما نذكر من الشيء ما يتفق.
[943]- قال مضرّس بن ربعيّ: [من الطويل] .
فلا تهلكنّ النفس لوما وحسرة ... على الشيء سدّاه لغيرك قادره
ولا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان نوشا بين أيد تبادره
__________
[939] عيون الاخبار 1: 37 (لبزرجمهر) والعقد 3: 441 (لأعرابي) ونثر الدر 7: 41 (رقم:
80) والحكمة الخالدة: 73، 323 وبهجة المجالس 1: 812 ومحاضرات الراغب 1: 18 وقد مرّ هذا القول تحت رقم: 447 وتمّ تخريجه من الأدب الكبير والصغير وغيرهما، وقارن بكتاب الآداب: 77.
[940] الايجاز والاعجاز: 20 وزهر الآداب: 214 وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 364.
[943] مضرّس بن ربعي من شعراء العصر الأموي، انظر ترجمته في معجم المرزباني: 307 والخزانة 2: 293 والمؤتلف والمختلف: 292؛ وقد جرى خلط بينه وبين مغلس بن لقيط في معجم الشعراء فالبيتان الأول والرابع نسبا لمغلس كما نسب الثاني الى مضرس نفسه، ووردت الابيات الاربعة لمضرس في المؤتلف وورد الثاني والثالث لمضرس في كتاب الآداب: 95.(1/368)
وما فات فاتركه إذا عزّ واصطبر ... على الدهر إن دارت عليك دوائره
فانك لا تعطي امرءا حظّ غيره ... ولا تعرف الشقّ الذي الغيث ماطره
[944]- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجال ثلاثة، والنساء ثلاثة: فامرأة عفيفة مسلمة هيّنة ليّنة ودود ولود تعين أهلها على الدهر ولا تعين على أهلها وقلّ ما تجدها، وأخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا، وأخرى غلّ قمل يجعلها الله في عنق من يشاء. والرجال [ثلاثة] رجل عاقل إذا أقبلت الأمور واشتبهت تأمّل فيها أمره ونزل عند رأيه، وآخر ينزل به الأمر فلا يعرفه فيأتي ذوي الرأي فينزل عند رأيهم، وآخر حائر بائر لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا.
[945]- يقال: لا تغتبطنّ بسلطان مع غير عدل، ولا بغنى من غير حلّ، ولا ببلاغة من غير صدق منطق، ولا بجود في غير إصابة موضع، ولا بأدب في غير أصالة رأي، ولا بحسن عمل في غير حسنة.
[946]- وقيل: الكامل من لم يبطره الغنى، ولم يستكن للفاقة، ولم تهدّه المصائب، ولم يأمن الدوائر، ولم ينس العاقبة، ولم يغترّ بالشبيبة. واعلم أن عيبة العيوب وخزانة المخازي الشباب والبطش والجمال والغنى والشبق والفخر وشرب الخمر وكظة الطعام وكثرة النوم وانتشار الهم واشتعال الجهل وعادة السوء، فقابل كلّا من ذلك بما يقمعه ويقدعه.
[947]- قالوا: العدل لا بدّ منه في كلّ الأشياء حتى إن الجور يحتاج
__________
[944] البيان والتبيين 3: 299 والعقد 6: 112 ونسبه في عيون الاخبار 4: 2 لغيره؛ وأورد بعضه في نثر الدر 2: 54- 55 (عن الرجال) وفي بهجة المجالس 2: 31، 128 ورد النصّ مقسوما مرة عند الحديث عن النساء وأخرى عند الحديث عن أنواع الرجال؛ وفي النص على الرجال انظر السعادة والاسعاد: 424 وغرر الخصائص: 94 ومحاضرات الراغب 1: 28.
24 1 التذكرة(1/369)
إلى العدل، وضربوا لذلك مثلا في قطّاع الطريق والمجتمعين على ظلم، قالوا:
لو لم يتناصفوا فيما بينهم ولم يستعملوا الواجب فيما يقسمونه لانفسد أمرهم وانحلّ نظامهم.
[948]- قال ميمون بن مهران: ثلاث الكافر فيهن والمؤمن سواء، الأمانة تؤديها لمن ائتمنك عليها من مسلم وكافر، وبرّ الوالدين، قال الله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً
(لقمان: 15) ، والعهد تفي به لمن عاهدت من مسلم وكافر.
[949]- قال معاوية لابنه: اتخذ المعروف عند ذوي الإحسان تستمل به قلوبهم، وتعظم به في أعينهم، وتكفّ به عنك عاديتهم.
[950]- قال الأقيشر: [من الطويل] .
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى ... وإن مدّ أسباب الحياة له العمر
[951]- وقال حارثة بن بدر الغداني: [من الطويل] .
__________
[948] حلية الاولياء 4: 87 ولباب الآداب: 249 (باختلاف يسير) وبرد الأكباد: 115 (لسفيان الثوري) وبهجة المجالس 2: 124 وجاء في الخصال 1: 123، 128 على صورتين منسوبا لجعفر الصادق.
[949] أنساب الأشراف 4/1: 26 (الفقرة: 89) وبهجة المجالس 1: 306.
[950] البيتان في الحماسة البصرية 2: 74 منسوبين لمالك بن أسماء (قال: وتروى لأبي دهبل) وفي أمالي القالي 1: 78 وتهذيب ابن عساكر 1: 189 والأغاني 17: 166 لايمن بن خريم؛ وقال أبو عبيد البكري: والصحيح أن هذا الشعر للأقيشر، وراجع السمط: 261 لمزيد من التعليقات.
[951] الأبيات في أمالي المرتضى 1: 380- 381، 382 ومنها ثلاثة في الحيوان 3: 77 وأدب الدنيا والدين: 279 (لحارثة بن زيد) والبيان 3: 218 وواحد في البيان 2: 187 والفرج بعد الشدة 5: 7.(1/370)
إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه ... ولست بممضيه وأنت معادله
ولا تنزلن أمر الشديدة بامرىء ... إذا رام أمرا عوقته عواذله
إذا ما قتلت الشيء علما فقل به ... وإياك والأمر الذي أنت جاهله «1»
وقل للفؤاد إن نزا بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله.
[952]- وقال آخر: [من الطويل] .
وأبثثت عمرا بعض ما في جوانحي ... وجرّعته من مرّ ما أتجرّع
ولا بدّ من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلّع
[953]- وقال آخر وأظنها لبعض اليهود: [من الطويل] .
وإني لأستبقي إذا العسر مسّني ... بشاشة وجهي حين تبلى المنافع
فأعفي ثرى قومي ولو شئت نوّلوا ... إذا ما تشكّى الملحف المتضارع
مخافة أن أقلى إذا جئت زائرا ... ويرجعني نحو الرجال المطامع
وأسمع منّا أو أشرّف منعما ... وكلّ مصادي نعمة متواضع
[954]- وجدت للأحنف بن قيس حديثا إن كان صحيحا أو مصنوعا ففيه أدب وسياسة لجمهور الناس في مقاصدهم وأفعالهم ومتصرفاتهم، قيل:
__________
[952] البيتان في أمالي القالي 3: 219 (دون نسبة) وكذلك في البيان 4: 63 والعقد 2: 361 والصداقة: 48 ومعاني العسكري 1: 143 وهما لبشار في المختار من شعره: 145.
[953] الأبيات الأربعة في البيان والتبيين 3: 308 لبعض اليهود، وهي ما عدا الثاني في حماسة الخالديين 2: 218 لمالك بن النعمان وفي البصرية 2: 208 لمالك هذا أو لمحمد بن عوف الأزدي.
[954] قوله: «السواك مطهرة للفم ... » ورد في ربيع الأبرار 2: 113 (وهو حديث) ونسب للحسن في نثر الدر 5: 70.(1/371)
دخل الأحنف على معاوية، فذكر أهل العراق وحسن آرائهم، وميسون بنت بحدل الكلبية أمّ يزيد تسمع كلامه، فلما انصرف قالت: يا أمير المؤمنين أحببت أن تأذن لقوم من أهل العراق عليك، وتجعلني بحيث أسمع كلامهم.
فقال لآذنه: انظر من بالباب، فقال له: بنو تميم. فقال: أدخلهم وفيهم الأحنف. فقال له معاوية: اقرب أبا بحر، وضربت لميسون قبة بحيث تسمع كلامهم. فقال له: يا أبا بحر كيف زيّك لنفسك؟ قال: أفرق الشعر؛ وأقصّ الشارب، وأقلّم الأظفار، وأنتف الإبط، وأحلق العانة، وأديم السواك، فإنه مطهرة للفم ومرضاة للربّ وزيادة في حسنات الصلاة، وأغتسل في كلّ جمعة فإنه كفّارة ما بين الجمعتين. قال: فكيف زيّك في لبسك؟
قال: أعرّض النعلين، وأقصّر الكمّين، وأوسّع الرداء، وأشمّر الإزار، وألزم الوقار. قال: كيف زيك في مشيتك؟ قال: أوطىء قدميّ على الأرض في ترسّل، وأنقلهما على تمهّل، وأرعاهما بعينيّ وأقلّ التلفت حولي. قال: فكيف زيك إذا دخلت على من فوقك من غير الأمراء؟ قال: أطلق الحبى، وأدع التكا، وأقلّ الكلام، وأردّ السلام. قال: فكيف زيّك إذا دخلت على نظرائك؟ قال: أنازعهم الكلام في سمت، وأفاوضهم الحديث في تثبت، وأجيبهم إذا سالوا، وأنصت لهم إذا قالوا، ولا أجول فيما جالوا. قال:
فكيف زيك إذا دخلت على أمرائك؟ قال: أسلّم من غير إشارة، وأنتظر الإجابة، فإن قرّبني تقربت وإن أومأ إليّ تباعدت. قال: فكيف زيّك مع أهلك؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: عزمت عليك لتفعلنّ، قال:
أحسّن الخلق، وأظهر البشر، وأوسّع النفقة فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج. قال: فكيف زيك إذا أردت مباضعتها؟ قال: من هذا استعفيتك، قال: نشدتك لما قلت، قال: أكلمها حتى تنشط، وألثمها حتى تطرب، فإذا كان الذي تعلم طرحت على ظهري وقاية تقيني، فإذا استقرّت النطفة في قرارها قلت: اللهم اجعلها ميمونة مباركة ولا تجعلها شقيّة مشاركة، وصوّرها(1/372)
أحسن صورة، ثم أقوم إلى الوضوء فأفيض الماء على يدي وترا، ثم أصبّه على جسدي مسبغا، ثم أحمد الله على ما أعطاني من النعمة السابغة والحلال الطيب. قال له معاوية: لقد أحسنت الجواب فسلني حاجتك؟ قال:
حاجتي يا أمير المؤمنين أن تتفي الله في الرعية، وتعدل بينهم بالسوية، ثم نهض. فلما ولّى قالت ميسون: لو لم يكن بالعراق إلا هذا لكفاهم.
[955]- قال أفلاطن: ينبغي للذين يأخذون على أيدي الأحداث أن يدعوا لهم موضعا للعذر لئلا يضطروا إلى القحة بكثرة التوبيخ.
[956]- وقال بعض الاسلاميين: ليس من العدل سرعة العذل.
[957]- وقال علي كرم الله وجهه: كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب.
[958]- ومن كلامه عليه السلام: الاحتمال قبر العيوب. من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه. قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمر مرّ
__________
[955] الكلم الروحانية: 15 «اذا عاقبت الحدث على جرم فاترك موضعا لجحود ذنبه كيلا يحمله المراء على المكابرة» ونثر الدر 7: 23 (رقم: 101) ومختار الحكم: 134 والبصائر 1: 431 وصوان الحكمة 11/أوديوان المعاني 1: 169 ولقاح الخواطر: 55/أ. ونزهة الأرواح 1:
176.
[956] العقد 2: 142 والشريشي 5: 274 ونسب في البيان والتبيين 2: 97 لحذيفة، والامتاع والمؤانسة 2: 149- 150 ولقاح الخواطر: 44 ب.
[957] نهج البلاغة: 469 (رقم: 1) .
[958] نهج البلاغة: 469 (رقم: 6) ، 471 (رقم: 21) ، 474 (رقم: 35) ، 500 (رقم: 158) ؛ وقوله «قرنت الهيبة بالخيبة» في تحسين القبيح 98- 99، وقوله «الفرصة تمر ... » في كتاب الآداب: 4 باختلاف يسير، وقارن بقوانين الوزارة: 227 ومحاضرات الراغب 1: 285 ونهاية الأرب 6: 47 وعيون الأخبار 2: 123 والجوهر النفيس:
47 ب، وقوله «من أسرع ... » في زهر الآداب: 55 وقوله «عاتب أخاك ... » في ربيع الأبرار 1: 603.(1/373)
السحاب، فانتهزوا فرص الخير. من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون. عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شرّه بالإنعام عليه.
[959]- وقد قال جعفر بن محمد: لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فيه فتسدّ عليه طريق الرجوع إليك، ولعل التجارب أن تردّه إليك.
[960]- قال الشاعر، هو محمد بن عبد الله الأزدي: [من الطويل] .
لا أدفع ابن العمّ يمشي على شفا ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوما إليّ الرواجع
وأفرشه مالي وأحفظ غيبه ... وأرعاه عينا بالذي هو سامع
وحسبك من جهل وسوء صنيعة ... معاداة ذي القربى وإن قيل قاطع
فألبس ثراك الأهل تسلم صدورهم ... فلا بدّ يوما أن تروع الروائع
[961]- قال أبو هلال الأسدي وتروى لأبي النشناش التميمي: [من الطويل] .
ودع عنك مولى السوء والدهر إنه ... ستكفيكه أيامه ونوائبه
ويلقى عدوا من سواك يردّه ... إليك فتلقاه وقد لان جانبه
[962]- ولما بلغ سيف الدولة علي بن حمدان قول أبي الطيّب المتنبي وهو بمصر: [من الطويل] .
__________
[960] منها ثلاثة أبيات في أمالي القالي 2: 233 وأدب الدنيا والدين: 154 وهي جميعا في مجموعة المعاني: 62 وحماسة البحتري: 356 وانظر شرح التبريزي على الحماسة 1: 211 والصداقة والصديق: 248 وشرح الامالي: 856 ولباب الآداب: 357.
[961] انظر رقم: 759 في ما تقدم.
[962] بيت أبي الطيب في ديوانه: 469.(1/374)
وإن بليت بودّ مثل ودكم ... فإنني بفراق مثله قمن «1»
[قال: سار وحقّ أبي] .
[963]- ومن كلام علي كرم الله وجهه: إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن شدة التوقّع أعظم مما يخاف منه. أغض على القذى والألم ترض أبدا. من أطاع التواني ضيّع الحقوق، ومن أطاع الواشي ضيّع الصديق. من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه. من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصّر فيها ظلم، ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم. لا تظنّن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا. الغيبة جهد العاجز.
[964]- سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوصيه ويوجز فقال: لا تغضب.
[965]- وقد قيل: إياك وجرأة الغضب فإنها تصيّرك إلى ذلّ الاعتذار.
__________
[963] هذه الاقوال في نهج البلاغة: 501 (رقم: 175) 507 (رقم: 213) 510 (رقم:
239) 511 (رقم: 248) 528 (رقم: 298) 538 (رقم: 360) 556 (رقم:
461) وقوله: «لا تظنن بكلمة خرجت ... » جزء من قولة تنسب لعمر، وقد مرّت تحت رقم: 275 وانظر لباب الآداب: 12 وربيع الأبرار: 227/أوتنسب للرسول في محاضرات الأبرار 2: 310؛ وقوله: «إذا هبت أمرا ... تخاف منه» في المستطرف 1: 156.
[964] إرشاد الساري 9: 84 وقارن ببهجة المجالس 1: 375 وعيون الاخبار 1: 282 وألف باء 1: 464.
[965] قوانين الوزارة: 130 وقارن بعيون الاخبار 1: 291 ونثر الدر 4: 67، 6: 16 والمجتنى:
61 والبصائر 2: 430 وأدب الدنيا والدين: 235 والايجاز والاعجاز: 16 (لعمرو بن العاص) ومحاضرات الراغب 1: 224 والمنهج المسلوك: 20 ب ولابن المعتز: لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار في الوافي 17: 449 وفي نشوة الطرب: 681 لأعرابي وفي مختار الحكم: 339.(1/375)
[966]- وقال ابن المقفع: إذا حاججت فلا تغضب، فإن الغضب يدفع عنك الحجة ويظهر عليك الخصم.
[967]- وقال أيضا فيما ترجمه من حكم الفرس: إن ذكرك ذاكر عند السلطان بسوء في وجهك أو غيبك، فلا يرينّ الوالي ولا غيره منك اختلاطا لذلك ولا غيظا، ولا تكترث له فيدخل عليك من ذلك شبيه بالريبة مؤكدة لما قال فيك العائب، وان اضطررت إلى الجواب فإياك وجواب الانتقام والغضب، وعليك بجواب الوقار والحلم والحجّة، ولا تشكنّ في أن القوة والغلبة للحليم.
[968]- قال الشاعر: [من الطويل] .
ولم أر عقلا تمّ إلا بشيمة ... ولم أر علما تم إلا على أدب
ولم أر في الأشياء حين بلوتها ... عدوا للبّ المرء أقوى من الغضب
[969]- قيل: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بثّه، فقد خان نفسه.
[970]- وقال صاحب كليلة ودمنة: خير الأعوان والإخوان أشدّهم مبالغة في النصيحة وخير الأعمال أجلّها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وخير الأصدقاء من لا ينافق، وخير الأخلاق أعونها على الورع،
__________
[966] لباب الآداب: 24.
[967] الأدب الكبير: 59.
[968] البيت الأول في معجم الأدباء 1: 72 وربيع الأبرار 3: 261 ببعض اختلاف في الرواية.
[969] كليلة ودمنة: 104 وربيع الابرار 1: 464 والعقد 1: 10 وعيون الاخبار 1: 92 ونسب في مختار الحكم: 257 لبطليموس؛ وانظر الاسد والغواص: 45 ومطالع البدور 1:
177.
[970] كليلة ودمنة: 106.(1/376)
وأفضل السلطان ما لم يخالطه بطر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا، وأعجز الملوك آخذهم بالهوينا وأقلّهم نظرا في العواقب.
[971]- وقال: من بلغ جسيما فلم يبطر؟ ومن اتّبع الهوى فلم يعطب؟
ومن جاور النساء فلم يفتن؟ ومن صحب السلطان فلم يعنت؟ ومن طلب إلى اللئام فلم يهن؟ ومن واصل الأشرار فسلم؟.
[972]- وقال: أحسن القياس عند تشابه الأمور، واعتبر ما أنت فيه بما بقي وما يكون بما قد كان، فكفى بذلك علما، واقنع فحسب المرء أن يكون بما أوتي قانعا، وأبصر حيث تضع رجلك لا تطأ بها دحضا فتزلق.
وأحسن الروغان عند جولة الطالب، وافرق بين العدوّ والصديق وأنزلهما منازلهما، أما الصديق فتصله وتقضي حقّه، وأما العدوّ فتحذره وتنأى عنه، واحذر محلّ السوء وإن موّه لك ببعض الكذب فقد ينثر الحبّ في الشباك، لا من كرامة الطير، والكلمة اللينة من العدوّ في حال ضرورة فاحذرها، وقس بما في نفسه لك بما في نفسك فكفى بذلك دليلا.
[973]- وقيل: ليس صلح العدو بموثوق به على حال، فإن الماء وإن أطيل إسخانه فليس يمنعه ذلك من إطفاء النار.
[974]- ومثل الكلام الأول قول محمد بن علي بن موسى بن جعفر للمتوكل في كلام دار بينهما: لا تطلب الصفاء ممن كدّرت عليه، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنّك إليه، وإنما قلب غيرك لك كقلبك له. وهذا الكلام مأخوذ من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي هو منبع كل حكمة: الذنب لا ينسى والبرّ لا يبلى، وكن كيف شئت فكما تدين تدان.
__________
[971] كليلة ودمنة: 109 والحكمة الخالدة: 130 ومحاضرات الراغب 2: 701 ونثر الدر 4: 75.
[973] كليلة ودمنة: 163 وقارن بالبصائر 2: 33 ومحاضرات الراغب 1: 249 وعيون الأخبار 3:
111 ولباب الآداب: 47.(1/377)
[975]- قال عبد الله بن الحسن لابنه: يا بني إياك ومعاداة الرجال فإنه لا يعدمك مكر حليم أو مفاجأة لئيم.
[976]- وقيل: من وجد عدوا مغترا معورا فلم يسترح منه، أصابته الندامة حين يقوى عدوه فيعجزه، والعاقل يصالح عدوه إذا اضطر إلى ذلك ويصانعه ويظهر له ودّه ويريه الاستئمان إليه إذا لم يجد من ذلك بدا، ثم يعجل الانصراف عنه حين يجد إلى ذلك سبيلا ويعلم أن صريع الاسترسال لا تقال عثرته.
[977]- وقال علي عليه السلام: من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة.
[978]- قال حكيم: من ظفر بالأمر الجسيم فأضاعه فاته، ومن التمس فرصة فأمكنته فأخّر العمل بها لم تعد إليه.
[979]- وقال علي: كفى أدبا لنفسك اجتناب ما كرهته لغيرك.
[980]- وقال: للمؤمن ثلاث ساعات، فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يروم فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل،
__________
[975] أمالي اليزيدي: 153 وزهر الآداب: 80 والسعادة والاسعاد: 134 وأمثال الماوردي:
90/أولباب الآداب: 15 ومحاضرات الراغب 1: 245 وربيع الأبرار: 420/أوالخصال 1: 72- 73 (لعلي) والجوهر النفيس: 48/أ.
[976] ورد بعض منه في كليلة ودمنة: 200 وبعضه الآخر فيه: 278.
[977] نهج البلاغة: 538 (رقم: 363) .
[978] كليلة ودمنة: 200.
[979] نهج البلاغة 548 (رقم: 418) .
[980] نهج البلاغة: 545 (رقم: 390) وأمالي الطوسي 1: 164 وبهجة المجالس 1: 116؛ وهي أربع ساعات في نثر الدر 7: 22 (رقم: 73) وعيون الاخبار 1: 279 والعقد 3:
252 وبهجة المجالس 1: 572 وربيع الابرار 1: 38.(1/378)
وليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم.
[981]- وقال: خذ من الدنيا ما أتاك وتولّ عما تولى عنك، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب. الدهر يومان فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر.
[982]- وقال: مقاربة الناس في أخلاقهم أمن من غوائلهم. لا تجعلن درن لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سدّدك.
[983]- وقال: لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين العافية والغنى، بينا تراه معافى إذ سقم، وبينا تراه غنيا إذ فقر.
[984]- وقال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته. من عظّم صغار المصائب ابتلاه الله بكبارها. زهدك في راغب فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذلّ نفس.
[985]- وقال: ما مزح امرؤ مزحة إلا مجّ من عقله مجّة.
__________
[981] نهج البلاغة 545 (رقم: 393) 546 (رقم: 396) .
[982] نهج البلاغة: 546 (رقم: 401) 548 (رقم: 411) .
[983] نهج البلاغة: 551 (رقم: 426) .
[984] نهج البلاغة: 555 (رقم: 449، 448، 451) وقارن بقول لمحمد بن الحنفية «من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر» في صفة الصفوة 2: 42 والتمثيل والمحاضرة: 32 وبرواية من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته (أو هانت عليه الدنيا) في العقد 3: 173 والايجاز والاعجاز: 9 ومحاضرات الراغب 1: 519 والشريشي 3: 89.
[985] نهج البلاغة: 555 (رقم: 450) وقارن بعيون الاخبار 1: 319 وربيع الأبرار:
358/أوفي التمثيل والمحاضرة: 24 للرسول «من ضحك ضحكة ... » ولعليّ في أدب الدنيا والدين: 302 وحلية الأولياء 3: 134 ولعلي بن الحسين في الفصول المهمة: 202.(1/379)
[986]- وقال الحسن بن علي: المزاح يأكل الهيبة.
[987]- وقال ابن المقفع في رسالته المعروفة بالدرة اليتيمة: لا تخلطن بالجد هزلا فتسحته، ولا بالهزل جدا فتكدّره، وقد عرفت لذلك موضعا إن فعلته أصبت الرأي وظهرت على الأقران، وذلك أن يتورّدك متورّد بالسّفه والغضب وسوء اللفظ فتجيبه إجابة الهازل المداعب، برحب من الذّرع، وطلاقة من الوجه، وثبات في المنطق.
[988]- وقال آخر: لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا السفيه فيجترىء عليك.
[889]- وقال أفلاطن: لا تستعمل البطش حتى ينفد القول. لا تفرح بسقطة غيرك فإنك لا تدري تصرّف الأيام بك.
[990]- يقال: لا تخلط يقينك بالشكّ فيفسد عليك العزم، ولا توقف عملك على الشكّ فيدخل عليك الوهن.
[991]- قيل: أول كلام بارع سمع من سليمان بن عبد الملك قوله:
الكلام فيما يعنيك خير من الكلام فيما يضرك.
[992]- وقال سهل بن هرون: الهول إن كان عنه مندوحة فركوبه خطأ
__________
[986] ورد للأحنف في نثر الدر: 19 وروايته: كثرة الضحك تذهب الهيبة.
[987] الأدب الكبير: 72- 73 والحكمة الخالدة: 310.
[988] بهجة المجالس 1: 567 (لسعيد بن العاص) والمنهج المسلوك: 24/أوباختلاف يسير في محاضرات الراغب 1: 281؛ ونثر الدر 3: 59 (لسعيد بن العاص) والعقد الثمين 4:
577.
[991] البيان والتبيين 1: 305 (خير من السكوت عما يضرك) ونثر الدر 3: 21.
[992] النمر والثعلب: 143 (38) .(1/380)
وإلا فركوبه صواب، فإن كنت راكبا هولا لاجترار نفع دونه مقنع، أو لدفع ضرر له مدفع فموضعه «1» خطأ، وإن كنت دافعا به أعظم منه ومضطرا إليه غير مزحزح عنه فموضعه «2» صواب.
[993]- ولأبي مسلم كلام يشبه هذا قد ذكرناه في فصل الأخبار.
[994]- وقّع مروان بن محمد إلى عامله بالكوفة: حاب علية الناس في كلامك، وسوّ بينهم وبين السفلة في أحكامك.
[995]- قالت القدماء: لا ينبغي لأحد أن يمنع ناسكا شيئا يتقرّب به إلى الله، ولا يمنع السلطان شيئا يستعين به على صلاح أمور العامة، ولا يمنع صديقه شيئا يفرّج به كربته ويجبر مصيبته.
[996]- وقالوا: أحسن القول لا يتمّ إلا بحسن الفعل كالمريض إذا عرف دواء مرضه فلم يتداو به لم ينتفع بعلمه ولا يجد منه راحة ولا خفّة.
[997]- قال كسرى: لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء: سلطان قاهر، وقاض عادل، وسوق قائمة، وطبيب عالم، ونهر جار.
[998]- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يكن حبّك كلفا ولا
__________
[994] البصائر 7: 207.
[996] كليلة ودمنة: 176.
[997] نثر الدر 7: 37 (رقم: 42) وعيون الاخبار 1: 6 وكتاب الآداب: 52 والعقد 2: 248 ومختار الحكم: 23 وبهجة المجالس 2: 132 وربيع الابرار 1: 355.
[998] قول عمر: «لا يكن حبك كلفا ... » في العزلة: 118 والمجتنى: 73 وربيع الابرار 1:
454 وكتاب الآداب: 76 والتمثيل والمحاضرة: 29 وقوله «أحبب حبيبك هونا ما» في كشف(1/381)
بغضك تلفا. وأتمّ من هذا الخبر المرويّ: أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما فعسى أن يكون حبيبك يوما ما. وشبيه به قول الشاعر وهو النمر بن تولب: [من المتقارب] .
وأحبب حبيبك حبّا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما
وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تصرما
[999]- قيل في حكمة الهند مكتوب: اليقين بالقدر لا يمنع العاقل توقّي الهلكة، وليس لأحد أن ينظر في القدر المغيّب، وإنما عليه أن يأخذ بالحزم، ونحن نجمع تصديقا بالقدر وأخذا بالحزم.
[1000]- وقال المأمون: ليس من توكّل المرء إضاعة الحزم، ولا من الحزم إضاعة التوكل.
نظر إلى هذا المعنى محمد بن عبد الملك الزيات في كتاب كتبه: لا تخدعنّك نفسك عن الحزم فتمثّل لك التواني في صورة التوكل، فتسلبك الحذر وتورثك الهوينا باحالتك على الأقدار، فإن الله تعالى إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم بعد الإعذار والاجتهاد، بذلك أنزل الله كتابه وبه أمضى سنته، قال الله سبحانه وتعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ*
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اعقل وتوكّل.
__________
الخفا 1: 54 رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومحاضرات الراغب 2: 30 ولباب الآداب:
25 والقولان معا في أدب الدنيا والدين: 177 وفي الغنية: 122 وبهجة المجالس 1: 665؛ وبيتا النمر في الاغاني 22: 297 وسمط اللآلىء 3: 80 وفي الحاشية تخريج للبيتين.
[999] عيون الاخبار 2: 143 وأصله في كليلة ودمنة (حكمة الهند) : 284 ومثله في النمر والثعلب:
156 (25) ومحاضرات الراغب 1: 22.
[1000] نثر الدر 3: 44 ووردت كلمة ابن عبد الملك الزيات في نثر الدر 5: 39 وموجزة في البصائر 7: 196.(1/382)
[1001]- وكتب كاتب: ولعاجل الحزم مؤونة تؤدّي إلى خفض ودعة، وللعجز من يسير الراحة ما يفضي بأهله إلى جهد ومنصبة.
[1002]- قال الحسين بن علي عليهما السلام: إذا وردت على العاقل ملمّة قمع الحزن بالحزم، وقرع العقل للاحتيال.
[1003]- وقال جعفر بن محمد: من كان الحزم حارسه والصدق حليفه، عظمت بهجته وتمّت مروءته.
[1004]- قال الشيرازي سألت المفيد الجرجرائي عن قول جعفر بن محمد: الحزم سوء الظن، وعن قول أبيه: من حسن ظنّه روّح عن قلبه، فما هذه المضادة؟ قال: يريد بسوء الظن ألا تستنيم إلى كلّ أحد فتودعه سرّك وأمانتك، ويريد بحسن الظنّ ألا تسيء ظنّك بأحد أظهر لك نصحا، وقال لك جميلا، وصحّ عندك باطنه، وهو مثل قولهم: احمل أمر أخيك على أحسنه حتى يبدو لك ما يغلبك عليه.
[1005]- وسئل محمد بن علي بن موسى عن الحزم فقال: هو أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك.
[1006]- قال جعفر بن محمد: لا تحدّث من تخاف أن يكذّبك، ولا تسأل من تخاف أن يمنعك، ولا تأمن من تخاف أن يغدر بك.
[1007]- وقال علي بن موسى: اصحب السلطان بالحذر، والصديق بالتواضع، والعدوّ بالتحرز، والعامة بالبشر.
[1008]- وقال محمد ابنه: من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته المصادر.
__________
[1006] قارن بغرر الخصائص: 87 وشرح النهج 18: 187.(1/383)
[1009]- وقال: اتئد تصب أو تكد.
[1010]- وقال الحسن بن محمد بن علي: ادفع المسألة ما وجدت التجمل يمكنك، فإن لكلّ يوم خيرا جديدا. والإلحاح في المطالب يسلب البهاء إلا أن يفتح لك باب يحسن الدخول فيه، فما أقرب الصّنع من الملهوف، وربما كانت الغير نوعا من آداب الله تعالى. والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة لم تدرك فإنك تنالها في أوانها. والمدبّر لك أعلم بالوقت الذي يصلح فيه فثق بخيرته في أمرك، ولا تعجل في حوائجك فيضيق قلبك ويغشاك القنوط.
[1011]- وقال: أضعف الأعداء كيدا من أظهر عداوته.
[1012]- قال صاحب كليلة ودمنة: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الندامة، كالريح التي إذا مرّت على الطيب حملت طيبا، وإذا مرّت على النتن حملت نتنا، والعاقل لا تبطره منزلة أصابها كالجبل الذي لا تزلزله شدة الرياح.
[1013]- قال عثمان بن أبي العاص: الناكح مغترس «1» فلينظر امرؤ أين يضع نفسه.
__________
[1012] كليلة ودمنة: 128 والبصائر 2: 29 ومحاضرات الراغب 2: 6 والصداقة والصديق: 34 وتشبيهات ابن أبي عون: 313 (عن كليلة ودمنة) وقارن بما نسب لأردشير في كتاب التاج:
24 ومروج الذهب 1: 244 (باريس) وسرح العيون: 37 وشرح البسامة: 35 وغرر الخصائص: 44 وعين الأدب: 160 وانظر بعضه في قوانين الوزارة: 220 وعيون الاخبار 1: 281 وعهد أردشير: 90- 91 وربيع الأبرار 3: 142.
[1013] البيان والتبيين 3: 267 وبهجة المجالس 2: 34 (منسوبا لعمرو بن العاص) ومحاضرات الراغب 2: 202.(1/384)
[1014]- وقالت هند بنت عتبة: المرأة غلّ لا بدّ منه للعنق فانظر من تضعه في عنقك.
[1015]- ومن كلام الحكماء: من ترك ما لا طاقة له به كان أستر لمكتوم أمره وأبقى للآمال فيه. لا تشعر قلبك الغمّ مما فات فيشغل ذهنك عن الاستعداد لما تأتي به الأيام، وكن بحسن الظنّ بما عند الله تعالى أوثق منك بما في يديك فإنك تضنّ بما تملك وذلك على الله يسير، وفي كلّ حركة وساعة أمر حادث وقدر جار بتبديل الأحوال وتنقّل الدول. تجنبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خوّلتم، وتستصغرون مواهب الله عندكم وتعقبكم الحسرات على ما أوهمتموه منها أنفسكم، وهي مكيدة من مكايد إبليس للعبد، وختل له عن الشكر، واستدراج إلى استصغار عظيم المواهب.
[1016]- وقيل لأفلاطن: كيف يغمّ الإنسان عدوّه؟ قال يغمّه إذا أصلح نفسه.
[1017]- وقال عبد الله بن الحسن: المراء يفسد الصداقة القديمة ويحلّ العقدة الوثيقة، وأقلّ ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
[1018]- ومن كلام علي عليه السلام: أيها الناس ليركم الله من النعمة
__________
[1014] البيان والتبيين 3: 267 وعيون الاخبار 4: 7 والكامل 1: 302 ونسب في التمثيل والمحاضرة: 217 لأسماء بنت أبي بكر وروايته: النكاح رق ... الخ.
[1016] قارن بالسعادة والاسعاد: 133 (قولين لسقراط وافلاطون) وفقر الحكماء: 225 والحكمة الخالدة: 346 والمختار: 132 ونثر الدر 7: 23 (رقم: 102) والكلم الروحانية: 19 وعيون الاخبار 3: 108.
[1017] قد تقدّم هذا القول في كلام الحسن بن محمد برقم: 717 ونسب في العقد 3: 5 لابن المقفع؛ وهو في البيان والتبيين 1: 313 والبصائر 1: 131 والصداقة والصديق: 45 وبهجة المجالس 1: 427 ونثر الدر 1: 369 وزهر الآداب: 65 وربيع الابرار 1: 716 وقارن بكتاب الآداب: 9.
[1018] نهج البلاغة: 537 (رقم: 358) .
25 1 التذكرة(1/385)
وجلين كما يراكم من النقمة فرقين، إنه من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا، فقد أمن مخوفا، ومن ضيّق عليه في ذات يده فلم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا.
وقد جمع ابن المقفع في رسالته المسماة بالدرة اليتيمة ما فرقه غيره مما يليق بهذا الباب، وبسط الكلام، إيضاحا للمعاني، وأنا ذاكره الآن وإذا تأمله المتصفح وجد معانيه منبوذه في النثر الذي نقلناه عن المتقدمين في هذا الفصل، إلا أن كلامه حاو كعادة المصنفات في الاحتواء على معاني ما وضعت له.
[1019]- قال عبد الله بن المقفع:
(1) يجب لطالب الأدب أن يعرف الأصول والفصول، ولا يكون كمن
__________
[1019] هذا النصّ مأخوذ من الادب الكبير، وهو هناك بصيغة الامر: «يا طالب الأدب اعرف الاصول» وبين النص اختلافات، ولما كان مجتزءا من صفحات متفرقة، فاليك تخريج كل فقرة منه على حدة.
1 الأدب الكبير (ورمزه في هذا الموضع د) : 42- 45.
2 د: 71 والصداقة والصديق: 37 ونثر الدر 4: 69.
3 د: 72.
4 د: 73 ومحاضرات الراغب 3: 19.
5 د: 74.
6 د: 75.
7 د: 75. 8 د: 76.
9 د: 77.
10 د: 76.
11 د: (؟) .
12 د: 81.
13 د: 82.
14 د: 93.
15 د: 94.
17 د: 96 وعيون الاخبار 2: 121.
18 د: 85.
19 د: 86.
20 د: 86.
21 د: 87- 88.
22 د: 92- 93.
23 د: 92- 93.
24 د: 93.
25 د: 99.
26 د: 100- 101.
27 د: 101.
28 د: 102- 103.
29 د: 103.
30 د: 103- 104 31 د: 104- 105.(1/386)
طلب الفصل مع إضاعة الأصل، فلا يكون [دركه] دركا، فإن إحراز الأصل كاف، فإن أصاب بعدها الفصل كان أفضل. فأصل [الأمر في] الدين أن تعتقده على الصواب، وأن تؤدّي الفرائض وتجتنب الكبائر، فالزم ذلك لزوم من إن فرّط فيه هلك، ثم إن قدرت على أن تجاوزه إلى العبادة والفقه فهو أفضل. وأصل إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المأكل والمشرب والباه إلّا خفّا، ثم إن قدرت على علم منافع الجسد ومضارّه مع الانتفاع لتنتفع به وتنفع فهو أفضل. وأصل الأمر في البأس الا تحدّث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوّهم، ثم إن قدرت على أن تكون أول حامل وآخر منصرف من غير تضييع للحذر فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السّقط بالتحفظ، ثم إن قدرت على بارع «1» الصواب فهو أفضل. وأصل الأمر في الجود ألا تضنّ بالحقوق على أهلها، ثم إن قدرت أن تزيد ذا الحقّ على حقه، وتطّوّل بالفضل على من لا حقّ له فهو أفضل. وأصل الأمر في المعيشة ألّا تني في طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد وتنفق، وأن لا تعدل عن ذلك لسعة فيها، فإن أعظم الناس في الدنيا خطرا أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إليه من السوقة، لأن السوقة تعيش بغير مال، وان الملك لا قوام له بغير مال وسعة، وان قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب فهو أفضل.
(2) ابذل لصديقك نفسك ومالك، ولمعرفتك «2» رفدك ومحضرك،
__________
[1019] /2 معجم الأدباء 11: 35 (لخالد بن صفوان) وعيون الأخبار 3: 15 والصداقة والصديق: 37 ونثر الدر 4: 69 والأدب الكبير: 71 وقارن بما ورد في نزهة الأرواح 1:
89 لا سقليبيوس «سبيل من له دين ومروءة أن يبذل لصديقه نفسه وماله» .(1/387)
وللعامة بشرك وتحنّنك، ولعدوّك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كلّ أحد إلا أن تضطرّ إلى بذل العرض للوالي أو للوالد، ومن سواهما فلا.
(3) اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع فإنه ليس في كل حين يحسن الصواب.
(4) إن رأيت صاحبك مع عدوّك فلا يغضبك ذلك عليه فإنّما هو أحد رجلين، إن كان رجلا من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشرّ يكفّه عنك، وعورة يسترها منك، وغائبة يطّلع عليها لك، وإن كان رجلا من غير خاصّة إخوانك فبأيّ حقّ تقطعه من الناس وتكلّفه ألّا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى؟
(5) وإن استطلت على الإخوان والأكفاء فلا تثق منهم بالصفاء.
(6) إن أردت أن تلبس ثوب الجمال وتتحلّى حلية المروءة فكن عالما كجاهل وناطقا كعييّ، فأما العلم فيرشدك، وأما قلّة ادّعاء العلم فتنفي عنك الحسد، وأما المنطق إذا احتجت إليه فما بلّغ حاجتك لم يفتك، وأما الصمت فيكسبك المحبة والوقار.
(7) إذا رأيت رجلا يحدّث حديثا قد علمته أو يخبر خبرا قد سمعته فلا تشاركه فيه ولا تفتحه «1» عليه حرصا على أن يعلم الناس أنك قد علمته، فإن في ذلك خفة وسوء أدب وشحا.
(8) لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوّك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضى، وذلك أن العدوّ خصم تصرفه بالحجة وتغلبه بالأحكام، والصديق ليس بينك وبينه قاض، إنما هو رضاه وحكمه.(1/388)
(9) ارتد لإخائك، فإن كان من إخوان الآخرة فليكن فقيها ليس بمراء ولا حريص، وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حرا ليس بجاهل ولا كذاب ولا شرير [ولا] متسرع «1» ، فإن الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب لا يكون أخا صادقا لأن الكذب الذي يجري على لسانه إنما هو من فضول كذب قلبه، وإنما سمّي الصديق من الصدق، وقد يتّهم صدق القلب وإن صدق اللسان، فكيف به إذا ظهر الكذب على اللسان. وإن الشرير يكسبك العداوة فلا حاجة لك في صداقة تجرّ إليك العداوة، وإن التسرع تابع صاحبه «2» .
(10) فإذا آخيت أخا فلا تقطعه وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمرأة الرديّة تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك ولو كنت معذورا لنزل ذلك عند أكثر الناس بمنزلة الخيانة للإخاء. لا تعتذرنّ إلا إلى من يحبّ أن يجد لك عذرا. لا تستعيننّ إلا بمن تحبّ أن يظفر لك بحاجتك ولا تحدّثنّ إلا من يرى حديثك مغنما ما لم يغلبك اضطرار.
(11) إذا أصاب أخوك فضل منزلة أو سلطان فأره أنّ سلطانه زاده عندك توقيرا وإجلالا من غير أن تزيده ودّا ولا نصحا، ولا تقرر الأمر بينك وبينه على ما كنت تعرف من أخلاقه فإن الأخلاق مستحيلة مع السلطان، وربما رأينا الرجل المدلّ على السلطان بقدمه قد أضرّ به قدمه.
(12) احترس من سورة الغضب وسورة الحمية وسورة الحقد وسورة الجهل، واعدد لكلّ شيء من ذلك عدة تجاهده بها: من الحلم والتفكر والروية وذكر العاقبة وطلب الفضيلة، فليس أحد من الناس إلا فيه من كل طبيعة ونحيتة سوء غريزة، وإنما التفاضل في مغالبة طباع السوء، فأما أن يسلم(1/389)
أحد من تلك الطبائع فمما ليس فيه مطمع.
(13) ذلّل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء، وخليط السوء، فإن ذلك مما لا يكاد يخطئك.
(14) اعلم أن بعض العطيّة لؤم، وبعض السلاطة عيّ، وبعض العلم جهل، فإن استطعت أن لا يكون إعطاؤك خورا ولا بيانك هذرا ولا علمك وبالا فافعل.
(15) إن استطعت ألا تخبر بخير إلا وأنت مصدّق، ولا يكون تصديقك إلا ببرهان فافعل، ولا تقل كما يقول السفهاء: أخبر بكل ما سمعت، فإن الكذب أكثر ما أنت سامع، وإنّ السفهاء أكثر من هو قائل.
(16) لا تصاحبنّ أحدا وإن استأنست به ذا قرابة ومودة ولا ولدا ولا والدا إلا بمروءة، فإن كثيرا من أهل المروءة قد يحملهم الاسترسال والتبذل على أن يصحبوا كثيرا من الخلطاء بالإدلال والتهاون، وإنه من فقد من صاحبه المروءة وإجلالها ووقارها أحدث ذلك في قلبه رقة شان وسخف منزلة.
(17) لا يعجبك إكرام من أكرمك لمنزلة أو سلطان، فإن السلطان أوشك أمور الدنيا زوالا، ولا من يكرمك للمال، فإن المال يتلو السلطان في سرعة الزوال.
(18) لا تخبر عدوّك أنك له عدوّ فتنذره بنفسك وتؤذنه بحربك قبل الاعذار والفرصة، فتحمله على التسلّح لك وتوقد ناره عليك؛ واعلم أنه أعظم لخطرك أن يرى عدوك أنك لا تتخذه عدوا فإن ذلك غرّة له وسبيل إلى المقدرة عليه، فإن قدرت ولم تكاف بالعداوة احتقارا، فهنالك استكملت عظم الخطر والمروءة، وان كافيت بها فإياك أن تكافئ عداوة السرّ بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة، فإن ذلك هو الظلم والاعتداء. وليس كلّ عداوة تكافأ بمثلها، فالخيانة لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة. ومن(1/390)
الحيلة في أمر عدوك أن تصادق أصدقاء وتؤاخي إخوانه وتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي.
(19) لا تتخذنّ الشتم واللعن على عدوك سلاحا، فإنه لا يجرح في نفس ولا مال ولا دين ولا منزلة، بل احص معايبه ومعايره وتتبع عوراته، حتى لا يشذّ عنك صغيرها ولا كبيرها، من غير أن تشيع ذلك فيتقيك به ويستعدّ له، أو تذكرة في غير موضعه فيكون كمستعرض الهواء [بنبله قبل إمكان الرمي] ومن أحزم الرأي في عدوّك أن لا تذكره إلا حيث تضرّه وألا تعدّ يسير الضرّ يسيرا.
(20) إن أردت أن تكون داهيا فلا تعلمنّ الناس ذلك، فإنه من عرف بالدهاء صار خاتل علانية، وحذره الناس، وإن من إرب الأريب دفن رأيه ما استطاع حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة والطريقة.
(21) عليك بالحذر في علمك والجراءة في قلبك. إن من عدوك من تعمل في هلاكه، ومنهم من تعمل في البعد عنه، ومنهم من تعمل في مصالحته، فاعرفهم على منازلهم، ومن أقوى القوة لك على عدوك أن تحصي على نفسك العيوب والعورات كما تحصيها على عدوك، وتنظر عند كلّ عيب تسمعه هل قارفت ما شاكله أم سلمت منه، فكاثر «1» عدوّك بإصلاح عيوبك وتحصين عوراتك واحراز مقاتلك. وإن حصل من عيوبك وعوراتك ما لا تقدر على إصلاحه من ذنب قد مضى أو ذنب يعيبك عند الناس ولا تراه أنت عيبا فاحفظ ذلك وما عسى أن يقول فيه قائل من نسبك ومثالب آبائك وعيب إخوانك وأخدانك، ثم اجعل ذلك كلّه نصب عينك، واعلم أن عدوك مريدك بذلك، فلا تغفل عن التهيؤ له والإعداد لعدّتك وحجتك وحيلتك فيه سرا وعلانية، فأما الباطل فلا تروعنّ به قلبك ولا تستعدنّ له، ولا تشتغلنّ بشيء(1/391)
من أمره فإنه [لا] يهولك ما لم يقع، فإذا وقع اضمحل.
(22) واحذر المراء واعرفه ولا يمنعنّك حذر المراء من حسن المناظرة والمجادلة، واعلم أن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلّم من صاحبه، [ولا يرجو أن يتعلم منه صاحبه] «1» فإن زعم زاعم أنه إنما يجادل الباطل عن الحقّ فإن المجادل وإن كان ثابت الحجة حاضر البيّنة فإنه يخاصم إلى غير قاض، وإنما قاضيه عدل صاحبه وعقله، وإذا آنس عند صاحبه عقلا يقضي به على نفسه فقد اصاب وجه أمره، فإذا تكلم على غير ذلك كان مماريا.
(23) إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرّوح في مدافعتها والرّواغ فيها، فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يحقّقها، والضجر منها هو الذي يراكمها عليك. وإذا ورد عليك شغل وأنت في آخر قبله فلا تكدّر عليك الأول تكديرا يفسده، وليكن معك رأيك، فاختر أولى الأمرين فاشتغل به حتى يفرغ، ولا يعظمنّ عليك تأخير ما تأخر إذا أعملت الرأي معمله وجعلت شغلك في حقه.
(25) اجعل لنفسك في كلّ شيء غاية ترجو القوة والتمام عليها، واعلم أنك إذا جاوزت الغاية في العبادة صرت الى التقصير، وان جاوزتها في حمل العلم لحقت بالجهال، وإن جاوزتها في تكلّف رضى الناس والخفة معهم في حاجاتهم كنت المسحور «2» المضيّع.
(25) لا تجالسنّ امرءا بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعيي بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك وتؤذي جليسك لحملك عليه ثقل ما لا يعرف، واعلم أنه ليس من علم يذكر عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له ونقضوه وحرصوا على أن يجعلوه جهلا، حتى إن(1/392)
كثيرا من اللعب واللهو الذي هو أخفّ الأشياء على الناس، ليحضره من لا يعرفه فيثقل عليه ويغتّم به.
(26) اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على الطّلق ويشكر المكتئب. وإذا سمعت من جليسك حديثا يحدّث به عن نفسه أو عن غيره، مما تنكره وتستخفّه، فلا يكونن منك التكذيب والتسخيف، ولا يجرئنّك عليه أن تقول إنما حدّث عن غيره، فإن كلّ مردود عليه سيمتعض من الردّ، فإن كان في القوم من تكره له أن يستقرّ في قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يعتقده أو مضرة تخشاها على أحد فإنّك قادر على أن تنقض ذلك في ستر فيكون أيسر للنقض، وأبعد من البغضة، واعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودّة إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب.
(27) تعلّم حسن الاستماع وإمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفّت «1» إلى الجواب والاقبال بالوجه والنظر الى المتكلم والوعي لما يقول.
(28) ومن الأخلاق السيئة على كلّ حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه والقطع للحديث.
(29) واعلم أن شدة الحذر عين عليك لما تحذر، وان شدة الاتقاء تدعو إلى ما تتقي.
(30) إن رأيت نفسك قد تصاغرت الدنيا إليها، ودعتك نفسك إلى الزهادة فيها، على كل حال تعذّر من الدنيا عليك، فلا يغرنّك ذلك من نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة ولكنها ضجر واستخذاء عند ما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها بما التوى عليك منها، ولو تممت على رفضها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشدّ من ضجرك الأول، ولكن إذا دعتك نفسك إلى بغض الدنيا وهي مقبلة عليك فاسرع(1/393)
إجابتها.
(31) إذا كنت في جماعة قوم فلا تعمّنّ جيلا من الناس ولا أمة من الأمم بشتم ولا ذمّ، فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك، ولا تذمّنّ مع ذلك اسما من أسماء الرجال والنساء تقول: إنّ هذا لقبيح من الأسماء، إذا كنت لا تدري لعلّ ذلك يوافق لبعض جلسائك بعض أسماء الأهلين والحرم، ولا تستصغرنّ من هذا كلّه شيئا، فكلّه يجرح في القلب، وجرح اللسان أشدّ من جرح اليد.
[1020]- وصّى محمد بن علي بن الحسين بعض أصحابه وهو يريد سفرا، فقال: لا تسيرنّ سيرا وأنت حاقن، ولا تنزلنّ عن دابة ليلا لقضاء حاجة إلا ورجلك في خفّ، ولا تبولنّ في نفق، ولا تذوقنّ بقلة ولا تشمّها حتى تعلم ما هي، ولا تشرب من سقاء حتى تعلم ما فيه، واحذر من تعرف، ولا تصحب من لا تعرف. تعلموا العلم فإن تعلّمه جنّة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعظيمه صدقة، وبذله لأهله قربة، والعلم منار الجنة، وأنس من الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السّرّاء، وعون على الضرّاء، وزين عند الاخلّاء، وسلاح على الأعداء، ويرفع الله به قوما ليجعلهم في الخير أئمة يقتدى بفعالهم وتقتصّ آثارهم، ويصلّي عليهم كلّ رطب ويابس وحيتان البحر وهوامّه وسباع البّر وأنعامه.
[1021]- ومن كلامه: صانع المنافق بلسانك، وأخلص مودتك للمؤمن، ولا تجاوز صدقاتك إلى كافر.
[1022]- وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: بلغني أنك قد لهجت
__________
[1022] ربيع الابرار: 380/أوالعقد 5: 281 وأنساب الأشراف 4/1: 22 ومجالس ثعلب: 411(1/394)
بقول الشعر؛ قال: قد فعلت، قال: فإياك والتشبيب بالنساء فتعرّ الشريفة وترمي العفيفة وتقرّ على نفسك بالفضيحة، وإياك والهجاء فإنك تحنق عليك كريما وتستثير سفيها، وإياك والمديح فإنه طعمة الوقاح وتفحّش السّؤال، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الشعر ما تزين به نفسك وتؤدّب به غيرك.
[1023]- قال علي عليه السلام: عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شرّه بالإنعام عليه.
وللعرب وصايا فيها أدب حسن لمن تأملها، إلا أنّ أكثرها أمر بالسؤدد والجود والشجاعة وما يلائم طباعهم ويشاكل عوائدهم، وسأذكرها هنا ما يليق بهذا الباب خاصة.
[1024]- قيل إن عمرو بن حممة الدّوسيّ قضى بين العرب ثلاثمائه سنة، فلما كبر قرنوا به السابع أو التاسع من ولده، فإذا غفل الشيخ قرع له العصا، فكانت هذه الأمارة بينهما ليرجع إلى الصواب، وذلك قول الشاعر:
[من الطويل] .
__________
والبصائر 7 (رقم: 325) والطبري 2: 213 وابن الاثير 4: 8 والبيهقي: 432 ومحاضرات الراغب 1: 37.
[1023] نهج البلاغة: 500 (رقم: 158) وقد مرّ قبل في الفقرة 958.
[1024] المعمرون: 58- 60 (ونسبه لعامر بن الظرب) والبيت للمتلمّس في ديوانه: 26 والبيان 3:
38، 269 وجمهرة ابن دريد 2: 284، 384 والشعر والشعراء: 113 وعيون الأخبار 2: 205 والمصون: 84 والمستقصى 2: 281 وفصل المقال: 131 وانساب الأشراف 4/1: 114، 243. وقوله: «من لك بأخيك كله» مثل في أمثال ابي عبيد: 51 (لأبي الدرداء) وجمهرة العسكري 2: 283 والميداني 2: 301 والمستقصى: 359 وفصل المقال: 44؛ وقوله: «من ير يوما ير به» مثل عند أبي عبيد: 334 وجمهرة العسكري 2: 172 والميداني 2: 304 والمستقصى 2: 361 وفصل المقال: 461؛ وقوله «قبل الرماء تملأ الكنائن» في أمثال أبي عبيد: 215 وجمهرة العسكري 2: 122 والميداني 2: 107 والمستقصى 2: 186 واللسان (رمى) .(1/395)
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الإنسان إلّا ليعلما
فلمّا خشي عليه قومه الموت اجتمعوا، فقالوا: إنك سيدنا وشريفنا فاجعل لنا سيدا وشريفا بعدك. فقال: يا معشر دوس، كلفتموني تعبا، إن القلب يخلق كما يخلق الجسم، ومن لك بأخيك كله (وهو أول من قالها) إن كنتم شرفتموني [فإني] أفرشتكم نفسي، وتحمّلت مؤنكم وخففت عنكم مؤونتي، وألنت لكم جانبي، افهموا ما أقول لكم: إنه من جمع بين الحقّ والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطل أولى به، فإن الحقّ لم يزل ينفر من الباطل، والباطل ينفر من الحقّ. يا معشر دوس لا تشمتوا بالزلّة ولا تفرحوا بالعلو، فإنّ الفقير يعيش بفقره كما يعيش الغنيّ بغناه، ومن ير يوما ير به (وهو أول من قالها) وأعدّوا لكلّ امرىء قدره، وقبل الرماء تملأ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، ولليد العليا العاقبة. إذا شئت وجدت مثلك. إن عليك كما أن لك. وللكثرة الرعب وللصبر الغلبة. من طلب شيئا وجده وإلّا يجده فيوشك أن يقع قريبا منه.
[1025]- ولما قتل قيس بن زهير أهل الهباءة خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط، فقال: يا معشر النمر أنا قيس بن زهير، غريب حريب، طريد شريد موتور، فانظروا لي امرأة قد أدّبها الغنى وأذلّها الفقر. فزوجوه امرأة منهم يقال لها ظبية بنت الكبش النّمريّ. ثم قال: إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي: إني فخور غيور أنف، ولست أفخر حتى أبتلى، ولا أغار حتى أرى، ولا آنف حتى أظلم، فرضوا بأخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم إنه أراد التحول، فقال: يا معشر النمر، إنّي أرى لكم عليّ حقا بمصاهرتي لكم وإقامتي بين أظهركم، وإني آمركم بخصال وأنهاكم عن خصال: عليكم بالأناة
__________
[1025] نثر الدر 6: 91 وأمالي المرتضى 1: 207- 208 وشرح النهج 17. 110 والمعمرون: 144 وسرح العيون: 139 ونشوة الطرب: 531.(1/396)
فبها تدرك الحاجة وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، والوفاء فإن به يعيش الناس، وإعطاء من تريدون اعطاءه قبل المسألة، ومنع من تريدون منعه قبل الإلحاح، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيامى، وخلط الضيف بالعيال، وأنها كم عن الرهان فبه ثكلت مالكا أخي، وعن البغي فإنه صرع زهيرا أبي، وعن السّرف في الدماء فإنّ قتلي أهل الهباءة أورثني العار، ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامى الأكفاء، فإن لم تصيبوا الأكفاء فخير بيوتهن القبور، واعلموا أني أصبحت ظالما مظلوما- ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا أخي، وظلمتهم بقتل من لا ذنب له.
ثم رحل عنهم فلحق بعمان فأقام بها حتى مات.
[1026]- وصف عليّ كرم الله وجهه صاحبا له فقال: كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يتشهّى ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذّ القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفا مستضعفا، فإذا جاء الجدّ فهو ليث عاد وصلّ واد، لا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، وكان لا يلوم أحدا على ما لا يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا إلا عند برئه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيّهما أقرب إلى الهوى فخالفه، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، وإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير.
__________
[1026] نهج البلاغة: 526 (رقم: 289) والنصّ نفسه مع ما فيه من زيادات في الأدب الكبير:
105 (والحكمة الخالدة: 326) وربيع الابرار 1: 805 ونسب في عيون الاخبار 2: 355 للحسن؛ وانظر الاسد والغواص: 40 والمرادي: 239 وزهر الآداب: 198.(1/397)
وقد ادّعى ابن المقفع أكثر هذا الكلام في رسالة له وألحق به: كان خارجا من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مؤونة ولا يستخفّ له رأيا ولا بدنا، وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يقدم أبدا إلّا على ثقة بمنفعة. كان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء. كان لا يشكو إلّا إلى من يرجو النصيحة لهما جميعا. كان لا يتبرّم ولا يسخط ولا يتشهّى ولا يتشكّى ولا ينتقم من الوليّ، ولا يغفل عن العدو، ولا يخصّ نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته.
[1027]- ومن كلام الحسن بن علي عليهما السلام: إذا سمعت أحدا يتناول أعراض الناس فاجتهد أن لا يعرفك، فإن أشقى الأعراض به معارفه، ولا تتكلّف ما لا تطيق ولا تتعرّض لما لا تدرك، ولا تعد ما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما عندك من الغناء، ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله تعالى، ولا تتناول إلّا ما ترى نفسك أهلا له، فإنّ تكلّف ما لا تطيق سفه، والسعي فيما لا تدرك عناء، وعدة ما لا تنجز تفضح، والانفاق من غير فائدة حرب، وطلب الخير بغير غناء سخافة، وبلوغ المنزلة بغير استحقاق يشفي على الهلكة.
[1028]- لما احتضر قيس بن عاصم قال لبنيه: يا بنيّ احفظوا عنّي فإنه لا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم وتهونوا عليهم، وعليكم بحفظ المال فإنّه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها أخر كسب الرجل.
[1029] قال الزبير بن عبد المطلب: [من المتقارب] .
__________
[1028] البيان والتبيين 2: 79- 80 والكامل 1: 181، 210 وأمالي الزجاجي 290 وشرح النهج 17: 122.
[1029] منها خمسة أبيات في الشريشي 2: 249 والاول والثاني في بهجة المجالس 1: 278- 279 والثاني والخامس 1: 454 لصالح بن عبد القدوس؛ والأول ومعه بيت آخر لم يرد هنا في(1/398)
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور حكيما ولا تعصه
ولا تنطق الدهر في مجلس ... حديثا إذا أنت لم تحصه
ونصّ الحديث إلى أهله ... فإنّ الوثيقة في نصّه
وإن ناصح عنك يوما نأى ... فلا تنأ عنه ولا تعصه
وكم من فتى عازب عقله ... وقد تعجب العين من شخصه
وآخر تحسبه جاهلا ... ويأتيك بالأمر من فصّه
[1030]- وقال الكميت بن زيد: [من الطويل] .
وإن لم يكن إلّا الأسنّة مركب ... فلا رأي للمحمول إلّا ركوبها
[1031]- وقال أعرابي: [من الوافر] .
إذا ضيعت أوّل كلّ أمر ... أبت أعجازه إلا التواء
وإن سوّمت أمرك كلّ وغد ... ضعيف كان أمركما سواء
وإن داويت أمرا بالتناسي ... وباللّيّان أخطأت الدواء
[1032]- قال الرضيّ: [من الرجز] .
كم قابس عاد بغير نار ... لا بدّ للمسرع من عثار
__________
حماسة البحتري: 132 لعبد الله بن معاوية الجعفري؛ والسادس والسابع في حماسة البحتري:
135 له أيضا (وأدرجت في مجموع شعره: 51) وانظر الحماسة البصرية 2: 59 وطبقات فحول الشعراء: 246 وغرر الخصائص: 94.
[1030] شعر الكميت 1: 119 وعيون الاخبار 3: 112 والشعر والشعراء: 488 والتمثيل والمحاضرة:
68.
[1031] الأبيات في ديوان المعاني 1: 143.
[1032] ديوان الرضي 1: 543.(1/399)
[1033]- وقال أيضا: [من السريع] .
من أشرع الرمح إلى ظهره ... لا بدّ أن يقلب ظهر المجن
[1034]- وقال: [من الكامل] .
ما كنت أجرع نطفة معسولة ... طوع المنى وإناؤها من حنظل
[1035]- وقال آخر: [من الطويل] .
إياك والأمر الذي إن توسّعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
[1036]- وقال محمد بن أبي شحاذ الضبيّ: [من الطويل] .
إذا أنت أعطيت الغنى ثمّ لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمّة ورواعد
إذا العزم لم يفرج لك الشكّ لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد
وقلّ غناء عنك مال جمعته ... إذا كان ميراثا وواراك لاحد
[1037]- قيل: العزلة توفّر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل
__________
[1033] لم أجده في ديوان الرضي.
[1034] ديوان الرضي 2: 115.
[1035] عيون الأخبار 2: 192 وبهجة المجالس 2: 263.
[1036] يقال له أيضا حميد وهو شاعر إسلامي (معجم الشعراء: 344- 345 وفيه الابيات) ؛ وانظر شرح المرزوقي على الحماسة: 1199 وكتاب الآداب: 96 والبيت الثاني في اللسان (عرك) والثالث في بهجة المجالس 1: 616.
[1037] محاضرات الراغب 2: 26.(1/400)
المكافأة.
[1038]- وقد قيل: ما احتنك أحد قطّ إلّا أحبّ الخلوة.
[1039]- قال الأحنف: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم العار والنار.
[1040]- قال حكيم: لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك، ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النمّو، ولا تلاح رجلا غضبان فإنك تقلقه باللّجاج، ولا تجمع في منزلك بين نفسين تتنازعان في الغلبة، ولا تفرح بسقطة غيرك فما تدري كيف يدور الزمان، ولا في وقت الظفر فإنك لا تدري حدثان الدهر، ولا تهزأ بخطأ غيرك لأنّ المنطق لا تملكه، ولا تؤاخذ بالخطأ بنوع الصواب الذي في جوهرك، ولا تغرس النخل في منزلك. وينبغي للأديب أن يأخذ من جميع الآداب أجودها كما أن النحل يأخذ من كلّ زهر أطيبه.
__________
[1038] محاضرات الراغب 2: 26 والبصائر 2: 639 وربيع الابرار 1: 779.
[1039] نثر الدر 5: 17 والتمثيل والمحاضرة: 434 وكتاب الآداب: 17 ومحاضرات الراغب 1: 242 وورد في التمثيل والمحاضرة: 31 وفي أدب الدنيا والدين: 249 وزهر الآداب: 55 منسوبا لعمرو بن العاص وورد في تحسين القبيح: 53- 54 للأحنف.
[1040] هو لأفلاطون في السعادة والاسعاد: 168 وانظر لباب الآداب: 457.
26 1 التذكرة(1/401)
الفصل الخامس أخبار في السّياسة والآداب
[1041]- لما وضع كسرى أنوشروان الخراج على الأرض وأحكم أمره وقرّر الإتاوات على مجاوري أطراف مملكته، وأتت عليه ثماني وعشرون سنة لملكه جدّد النظر في ولايته، والعدل على رعيته وانصافهم وإحصاء مظالمهم. وكان أنوشروان ملك على ضعف ممن كان قبله، ولين انتشر به حبل الفرس وغلب عليهم مجاوروهم، قال أنوشروان: فأمرت موبذ كلّ ثغر ومدينة وبلد وجند بانهاء حالهم إليّ، وأمرت بعرض الجند: من كان منهم بالباب بمشهد مني، ومن غاب في الثغور والأطراف بمشهد القائد وباذوسبان «1» والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها مع القائد وقاضي البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه إلى كلّ مصر ومدينة ليجمعوا بين العمال وبين أهل أرضهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه، فما نفّذ لهم فيه أمر، أو صحّ فيه القضاء ورضي به أهله فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه إليّ، وبلغ من اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أداري من الأعداء
__________
[1041] قارن بما أورده مسكويه (في تجارب الأمم) ونقله الدكتور محمدي في كتابه الترجمة والنقل عن الفارسية: 65 وما بعدها؛ وابن حمدون يعتمد الحذف في النقل.(1/403)
والثغور لباشرت ذلك بنفسي وتصفّحت الخراج والرعية قرية قرية وكلمت رجلا رجلا، غير أني خفت أن يضيع بذلك ما هو أكثر منه، والأمر الذي لا يغني فيه غنائي أحد مع ما في الشخوص إلى قرية قرية من المؤونة على الرعية وجندنا، وكرهنا إشخاصهم إلينا تخوفا أن نشغل أهل الخراج عن عمارة أراضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة، وبلغنا أن أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في الرعية، فأمرت بالكتب إلى قاضي كلّ كورة أن يجمع أهل كورته بغير علم عاملهم وأولي أمرهم، ويسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه ويبالغ فيه ويكتب حال [رجل] رجل منهم ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضى من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ. ونظرت في الكتب والمظالم فأية مظلمة كانت من العمال أو من وكلائنا أو من وكلاء أولادنا ونسائنا وأهل بيتنا حططناها عنهم بغير بيّنة، لضعف أهل الخراج وظلم أهل القوة من السلطان لهم، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، وأية مظلمة كانت لبعض الرعية من بعض ووضحت لنا، أمرت بانصافهم قبل البراح، وما أشكل أوجب الفحص عنه بشهود البلد وقاضيه، فسرّحت أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقت به من حاشيتنا، حتى أحكمت ذلك إحكاما وثيقا.
[1042]- وقيل إنّ أنوشروان لما تقلّد المملكة عكف على الصّبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره يقول: إن في إدمان الملك الشرب ضررا على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة. فوقّع على ظهر الرقعة بما ترجمته: إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتها عامرة،
__________
[1042] مطالع البدور 1: 146.(1/404)
وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحة عاجلة؟
اعترض عليه في ذلك فقيل: أخطأ في وجوه أحدها أنّ الإدمان إفراط، والإفراط مذموم، والآخر أنه جهل أنّ أمن السّبل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحقّ متى لم يوكل به الطّرف الساهر ولم يحظ بالعناية التامة، ولم يحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظر، دبّ إليها النقص، والنقص مزيل للأصل، مزعزع للدعامة، والآخر أنّ الزمان أعزّ من أن يبذل كله للهو والتمتع، فإنّ في تكميل النفس باكتساب الرشد لها، وإبعاد الغيّ عنها ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرا أو كان ما يدعو إليه الهوى كثيرا، والآخر أنه ذهب عليه أنّ العامة والخاصة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات وانهماكه في طلب الشهوات ازدرته واستهانت به وحدّثت عنه بالأخلاق المذمومة، واستهانتهم للناظر في أمورهم والقيّم بشأنهم، متى تكررت على اللسان انتشرت في المحافل والتفت بها بعضهم إلى بعض، وهذه مكسرة للهيبة، وقلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قطّ، وليس ينبغي للملك الحازم أن يظنّ أنه لا ضدّ له ولا منازع، فقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب، وما أكثر خجل الواثق. وعلى الضدّ متى كان السائس ذا تحفّظ وبحث وتتبّع وحزم وإكباب على لمّ الشّعث وتقويم الأود وسدّ الخلل وتعرّف المجهول وتحقق المعلوم ودفع المنكر وبثّ المعروف، احترست منه العامة والخاصة، واستشعرت الهيبة والتزمت بينها النّصفة، وكفّت كثيرا من معاناتها ومراعاتها، فإن كان للدولة راصد للعثرة، يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأنّ اللصّ إذا رأى مكانا حصينا، وعهد حراسا لم يحدّث نفسه بالتعرّض له، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة، أو بابا إليه طريق. والأعراض بالأسباب، فإذا ضعف السبب ضعف العرض، وإذا انقطع العرض انقطع السبب.(1/405)
[1043]- لما حارب الإسكندر دارا بن دارا تقرّب إليه قائدان من قواد دارا بقتله على شرط لهما وبذل، فلما قتلاه وفّى لهما بالشرط والبذل ثم قتلهما وقال: لم تكونا شرطتما أنفسكما، وليس لقتلة الملوك أن يستبقوا إلّا بذمّة لا تخفر.
[1044]- ولما ملك الاسكندر بلاد الفرس هاب رجالهم لما رأى من كلامهم وعقولهم فهمّ بقتل أكابرهم، وكاتب أرسطاطاليس يستشيره فيهم، فنهاه عن قتلهم وقال: هذا من الفساد في الأرض، ولو قتلتهم لأنبتت أرض بابل أمثالهم، وأشار عليه بأن يفرّق المملكة بين أولاد الملوك لتتفرّق كلمتهم ولا يدين بعضهم لبعض، ففعل ذلك. حتى أمكنه تجاوز بلاد فارس إلى أرض الهند والصين، وكانت نتيجة هذا الرأي أن ملك الفرس تقسّم بعد موت الاسكندر، فصار في ملوك الطوائف مدة خمسمائة واحدى عشرة سنة، إلى أن قام بالملك أردشير بن بابك فجمع المملكة بعد معاناة شديدة ومشقة عظيمة، وقال أردشير: نحن نضرب بسيف أرسطاطاليس مذ هذه المدة البعيدة.
[1045]- وقيل جلس الاسكندر يوما مجلسا عاما، فلم يسأل حاجة، فقال لجلسائه: والله ما أعدّ هذا اليوم من أيام عمري في ملكي. قيل: ولم أيها الملك، دامت لك السعادة؟ قال: لأنّ الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود للسائل، والا باغاثة الملهوف، وإلا بمكافأة المحسن، وإلّا بانالة الطالب وإسعاف الراغب. قيل له: إنا نظنّ أنك أتعب الخلق وأنك لا تنام الليل ولا تنعم النهار ولا تجد لذة طعام ولا شراب، فقال: ليس كما ظننتم، إنّ الأمور التي أليها قد انقسمت لي بين مسموع بالأذن، وبين ملحوظ بالعين،
__________
[1043] قارن بما في سرح العيون 65- 66، وفي التاج: 109 ان الذين قتلوا دارا كانوا جماعة.
[1044] وردت رسالة ارسطاطاليس الى الاسكندر في سرح العيون: 67- 68.
[1045] منه جزء يسير في نثر الدر 7: 21 (رقم 86) : ومختار الحكم: 244 وسرح العيون: 73 ومنتخب صوان الحكمة: 161.(1/406)
وبين مصروف بالرويّة، وبين مدبّر باللسان، وعناية النفس السائسة قد دبرت هذه الأشياء كلها، فما ينساق منها بقوتها على المراد والايثار أكثر مما ينساق منها بالاجتهاد والإجبار، وإني لأهمّ بالشيء فأكون كأني قد باشرته، وأومىء إليه فأكون كأني قد تقدمت فيه، وآمر به فكأني قد كفيته، وألبسه فأكون كأني قد فرغت منه، وربما وجدت في أموري ما يسبق أمنيتي ويزيد على اقتراحي، ولقد بلغت ما ترون فما أعيتني إيالة ولا أعوزتني آلة، وما نفعني كلام ككلام كتبه إليّ أرسطو معلمي، فإنه قال في رسالة: أيها الملك لا تنخدع للهوى وإن خيّل إليك أنّ في انخداعك له خداعه، فقد يسترسل الانسان في بعض الأشياء، وهو يظنّ أنه متحفّظ ليظفر بمطلوبه، فيعود إليه ذلك الاسترسال بأعظم الوبال، ويضمحلّ ذلك التحفظ كأنه لم يخطر ببال. واجمع في سياستك بين بدار لا حدّة فيه وريث لا غفلة معه، وامزج كلّ شيء بشكله حتى تزداد قوة وعزّة من ضده حتى تتميز لك صورته، وصن وعدك من الخلف فإنه شين، وشب وعيدك بالعفو فإنه زين، وكن عبدا للحقّ فعبد الحقّ حرّ، وليكن وكدك الاحسان إلى جميع الخلق، ومن الاحسان وضع الإساءة في موضعها، فإن للاحسان أهلا وإن لضده أهلا، وكن نصيح نفسك فليس لك أرأف بك منك، وإذا أشكل عليك أمر، واعتاص على حولك وجه، فاضرع إلى الله الذي قادك إلى هذه الغاية، فإنه يفتح عليك المرتج، ويتمّ لك المخدج، ويجعل لك في كلّ أمر أسهل المدخل والمخرج. وإذا أفاتك الله شيئا فاستيقن أنّ ذلك لسهو عرض لك في الشكر على ما أفادك، والشكر على النعمة هو أن تعترف بالنعم لله أولا، ثم تشرك عباده فيها ثانيا، ومهما أخطأك شيء فلا يخطئنّك الفكر في الرحيل عن هذا الحرى «1» ، فإنك إذا فكّرت فيه سلوت عن الفائت، وقلّ اعتدادك بالحاصل، وكما يعجبك من غيرك أن يصدقك فليعجبك أن تصدق نفسك حتى يقبل منها صدقها لك. وإذا تظاهر(1/407)
الصدق بينكما ظهرت على جميع أوليائك ورعيتك. واجتنب الشراب فإنه وقود الشرّ، واللهو فإنه فوت العمر، ولا تجعل إحسانك ضربة فإنّ ذلك مغراة بالمنهيّ عنه، ولكن بتدريج يحفظ عليك اعتدالك، ومداراة تظهر عنك جمالك، والزم الخمص فأنه أذكر بالخصاصة، وأجلب للاعتدال، وأبعد من شبه البهيمة، وأدخل في مشاكلة الأشخاص السماوية.
[1046]- كتب ملك إلى ملك: بم انتظمت مملكتك، واستقامت رعيتك؟ فقال في الجواب: بثماني خصال: لم أهزل في أمر ولا نهي، ولا أخلفت موعدا ولا وعيدا قطّ، وعاقبت للجرم لا للحقد، وولّيت للغناء لا للهوى، واستملت قلوب الرعية من غير كره، وسهّلت الإذن من غير ضعف، وعممت بالقوت، وحسمت الفضول.
[1047]- طلب أهل يونان رجلا يصلح للملك بعد ملك لهم فذكروا رجلا، فقال فيلسوف لهم: هذا الرجل لا يصلح للملك، قالوا: ولم؟
قال: لأنه كثير الخصومة، وليس يخلو في خصومته أن يكون ظالما أو مظلوما، فإن كان ظالما لم يصلح للملك بظلمه، وإن كان مظلوما لم يصلح لضعفه، قالوا: صدقت، فأنت أولى بالملك منه، فملكوه.
[1048]- وكان المنصور يقول: الخلفاء أربعة أبو بكر وعمر وعثمان
__________
[1046] نثر الدر 4: 84 7: 34 (رقم: 45) وعيون الاخبار 1: 10 والعقد 1: 24 وبهجة المجالس 1: 337 ومنتخب صوان الحكمة: 319 ولباب الآداب: 37، 51- 52 وتسهيل النظر: 279- 280 ونهاية الأرب 6: 44 والأسد والغواص: 197 والجوهر النفيس:
35 ب وغرر الخصائص: 101.
[1047] نثر الدر 7: 14 (رقم: 17) وربيع الأبرار: 370/أوالبصائر 7: 269 وفي فقر الحكماء:
210 (لفيثاغور) .
[1048] أنساب الأشراف 3: 191- 192 وورد بعضه في محاضرات الراغب 1: 243؛ وقارن بقول له في نثر الدر 3: 28 والموفقيات: 199. وبيت كثير في ديوانه: 261 وانساب الاشراف (استانبول) 1: 622، وروايته «وهو ليث خفية ... اذا أمكنته عدوة» .(1/408)
وعلي، على ما نال عثمان، وما نيل منه أعظم، ولنعم الرجل عمر بن عبد العزيز. والملوك أربعة: معاوية وكفاه زياد، وعبد الملك وكفاه حجّاجه، وهشام وكفاه مواليه، وأنا ولا كافي لي. ولنعم رجل الحرب كان حمار الجزيرة، من رجل لم يكن عليه طابع الخلافة. وكان معاوية للحلم والأناة، وعبد الملك للإقدام والإحجام، وهشام لوضع الأمور مواضعها. ولقد شاركت عبد الملك في قول كثير: [من الطويل] .
يصدّ ويغضي وهو ليث عرينة ... وإن أمكنته فرصة لا يقيلها
[1049]- قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما لك لا تنام بالليل؟
فقال: لئن نمت بالليل لأضيّعنّ نفسي، ولئن نمت بالنهار لأضيّعنّ الرعية.
[1050]- وكان عمر رضوان الله عليه يقول: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوة في غير عنف.
[1051]- وكلّم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلّم عمر بن الخطاب في أن يلين لهم، فإنه قد أخافهم حتى أخاف الأبكار في خدورهنّ، فقال عمر:
إني لا أجد لهم إلّا ذلك، إنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي.
[1052]- وقال عمر رضي الله عنه: دلّوني على أحد أستعمله، قالوا:
كيف تريده؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا
__________
[1049] نثر الدر 2: 188 (منسوبا لعمر بن عبد العزيز) وكذلك في محاضرات الراغب 2: 405.
[1050] البيان والتبيين 3: 255 والعقد 1: 24 وعيون الاخبار 1: 9 وكتاب الآداب: 26 ولقاح الخواطر: 8 ب.
[1051] قد تقدم هذا، انظر رقم: 259 وهو في عيون الاخبار 1: 12.
[1052] عيون الاخبار 1: 16 والبيهقي: 371- 372 ونثر الدر 2: 32.(1/409)
كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، قالوا: ما نعلمه إلّا الربيع بن زياد الحارثي قال: صدقتم هو لها.
[1053]- استشار عمر رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الشخوص بنفسه إلى قتال الفرس، فقال له عليّ كرم الله وجهه: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعزّه وأيده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا؛ والعرب اليوم، وإن كانوا قليلا، كثيرون بالاسلام وعزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك مما بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فانا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وانما كنا نقاتل بالنّصر والمعونة.
[1054]- ومثل هذا الرأي ما ذكر أنه كرم الله وجهه حضّ أصحابه على الجهاد، فسكتوا مليّا، فقال: ما لكم أمخرسون أنتم؟ قال قوم منهم: يا أمير المؤمنين إن سرت سرنا معك. فقال عليه السلام: ما لكم لا سدّدتم لرشد، ولا هديتم لقصد، أفي مثل هذا ينبغي أن أخرج؟ إنما يخرج في مثل هذا رجل
__________
[1053] نهج البلاغة: 203.
[1054] نهج البلاغة: 175.(1/410)
ممّن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة اتبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، وإنما أنا قطب الرحى تدور عليّ وأنا مكاني، فإذا فارقته استحار مدارها، واضطرب ثفالها؛ هذا لعمر الله الرأي السوء.
[1055]- لما حصر عثمان الحصار الأول اجتمع ناس إلى طلحة وطمع في الخلافة، وكان عليّ كرم الله وجهه بخيبر، فلما قدم أرسل إليه عثمان فكلّمه وأذكره بحقّه من الاسلام والقرابة والصّهر، فقال له: صدقت، وسيأتيك الخبر، ثم دخل المسجد فرأى أسامة جالسا فدعاه، فاعتمد عليه وخرج يمشي إلى طلحة، فلمّا دخل عليه وجد داره ممتلئة بالرجال، فقام عليّ وقال: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا حسن أبعد ما مسّ الحزام الطبيين؟ فسكت عليّ وانصرف حتى أتى بيت المال فقال: افتحوا هذا الباب فلم يقدر على المفاتيح وتأخر عنه صاحبها، فقال: اكسروه، فكسر باب بيت المال، وقال: أخرجوا المال، وجعل يعطي الناس، فبلغ الذين في دار طلحة ما يصنع عليّ فجعلوا يتسلّلون إليه حتى ترك طلحة وحده، ثم أقبل طلحة يمشي إلى دار عثمان، فلما دخل عليه قال: أستغفر الله يا أمير المؤمنين وأتوب إليه، أردت أمرا فحال الله بيني وبينه، فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائبا ولكن جئت مغلوبا، الله حسيبك يا طلحة.
[1056]- وروي أن عليا وجد درعا له عند يهوديّ التقطها فعرفها فقال: درعي سقطت عن جمل لي أورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فاتيا شريحا، فلمّا رأى شريح عليا قد أقبل تحرّف عن موضعه وجلس عليّ عليه السلام فيه، ثم قال: لو
__________
[1056] بعضه في محاضرات الراغب 1: 196.(1/411)
كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تساووهم في المجلس وألجئوهم إلى أضيق الطريق، فإن سبّوكم فاضربوهم، وان ضربوكم فاقتلوهم. ثم قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟
قال: درعي سقطت منّي وعرفتها، قال شريح: يا يهوديّ ما تقول؟ قال اليهوديّ: درعي وفي يدي، فقال شريح: صدقت، والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بدّ من شاهدين، فدعا قنبرا مولاه والحسن ابنه فشهدا إنّها لدرعه، فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها. فقال علي: ثكلتك أمّك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة؟ قال: اللهم نعم، قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنّة؟ والله لأوجهنّك إلى بانقيا تقضي بين أهلها أربعين ليلة، ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهوديّ:
أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي، صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل أورق لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فوهبها له وأجازه بتسعمائة، وقتل معه يوم صفين. وهذا الخبر يجمع معناه سياسة الدين والدنيا.
[1057]- قال أبو حاتم: حضرت بعض ولاة البصرة وكان جبارا (ولم يسمّه) فسمعت رجلا في مجلسه يقول: الأتباع يؤنسهم البشر، ويوحشهم الازورار، ويلمهم لين الجانب، ويفرّقهم عنف المعشرة، وازدحام الآمال لديك نعمة من الله عليك، فقابل النعمة بحسن المعاشرة تستدم ورادها، وتستدع نافرها.
قال: فما زلت أعرف موقع هذا الكلام من ذلك الوالي حتى افترقنا.
[1058]- نظر رجل من قريش إلى صاحب له قد نام في غداة من
__________
[1058] الامتاع والمؤانسة 2: 66 وقارن بما أورده البيهقي: 547 عن ابن عباس حين وجد بعض ولده نائما بالغداة فركله برجله ... وربيع الابرار: 400/أ- ب.(1/412)
غدوات الصيف طيّبة النسيم، فركضه برجله وقال: مالك تنام عن الدنيا في أطيب أوقاتها؟ نم عنها في أخبث حالاتها، نم نصف النهار لبعدك من الليلة الماضية والجائية، ولأنها راحة لما قبلها من التعب، وجمام لما بعدها من العمل، نمت في وقت الحوائج وتنتبه في وقت رجوع الناس، وقد جاء: قيلوا فإن الشياطين لا تقيل.
[1059]- وكان رجل من العرب في الجاهلية إذا رأى رجلا يظلم ويعتدي يقول: فلان لا يموت سويا فيرون ذلك، حتى مات رجل ممن قال فيه ذلك سويّا، فقيل له مات فلان سويا، فلم يقبل حتى تتابعت الأخبار، فقال: إن كنتم صادقين إن لكم دارا سوى هذه تجازون فيها.
[1060]- قال زياد: ما غلبني معاوية بشيء من أمر السياسة إلّا في شيء واحد، قيل ما هو؟ قال: وليت رجلا دستميسان فكسر عليّ الخراج، وهرب فلحق بمعاوية، فكتبت إليه أسأله أن يبعث به، فكتب إليّ: أما بعد، فإنه ليس لمثلي ومثلك أن نسوس الناس بسياسة واحدة، أن نشتدّ عليهم جميعا فنخرجهم، أو نلين لهم فنمرجهم، ولكن تلي أنت الفظاظة والغلظة، وألي أنا الرأفة والرحمة، فإذا هرب هارب من باب وجد بابا يدخل فيه؛ ولقد نظر معاوية لنفسه واختار أخفّ السياستين وأحبّهما إلى الناس.
[1061]- ويشبه هذا ما روي عنه أنه قال: إذا لم يكن الهاشميّ جوادا لم يشبه قومه، وإذا لم يكن الأموي حليما لم يشبه قومه، وإذا لم يكن المخزوميّ تيّاها لم يشبه قومه. فبلغ ذلك الحسن بن عليّ فقال: ما أجود ما
__________
[1059] عيون الاخبار 1: 75.
[1060] العقد 1، 242 ولباب الآداب: 52 ومحاضرات الراغب 1: 166 والجوهر النفيس:
36/أ.
[1061] البيان والتبيين 4: 61 (لمعاوية) وعيون الاخبار 1: 196 وربيع الابرار 283/أونثر الدر 1:
331 وقارن بمحاضرات الراغب 1: 340.(1/413)
نظر لقومه، أراد أن يجود بنو هاشم بما في أيديهم فيحتاجوا إليه، وأن يتيه بنو مخزوم فيبغضوا، وأن يحلم بنو أمية فيحبوا.
[1062]- قدم قادم على معاوية فقال له: هل من مغرّبة خبر؟ قال:
نعم، نزلت بماء من مياه العرب، فبينا أنا عليه أورد أعرابيّ إبله، فلما شربت ضرب على جنوبها وقال: عليك زيادا، فقلت له: ما أردت بهذا؟ فقال:
هي سدى ما قام لها راع منذ ولي زياد. فسرّ معاوية بذلك وكتب به إلى زياد.
[1063]- قال معاوية: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كنت إذا مدّوها خلّيتها وإذا خلّوها مددتها.
[1064]- كان معاوية يأذن للأحنف في أول من يأذن له، فأذن له يوما، ثم أذن لمحمد بن الأشعث، فجاء محمد فجلس بين معاوية وبين الأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسست من نفسك ذلّا، إني لم آذن له قبلك ليكون في المجلس دونك، وإنّا كما نملك أموركم نملك تأديبكم، فأريدوا ما يراد بكم، فإنه أبقى لنعمكم وأحسن لأدبكم.
[1065]- لما مات زياد وفد ابنه عبيد الله على معاوية فقال له: من
__________
[1062] عيون الاخبار 1: 8.
[1063] البيان 1: 214 وعيون الاخبار 1: 9 وأنساب الأشراف 4/1: 21 والمجتنى: 40، 50 والعقد 1: 25 واليعقوبي 2: 283 ونهاية الارب 6: 44 وبهجة المجالس 1: 96 وسراج الملوك: 104 وكتاب الآداب: 26- 27 وشرح النهج 15: 102 والتحفة الملوكية: 99 وغرر الخصائص: 103.
[1064] البيان والتبيين 2: 156، 4: 70 وعيون الاخبار 1: 90 (دون ذكر للاسماء) والعقد 1:
68، 3: 8- 9 وأنساب الاشراف 4/1: 48 ونثر الدر 3: 10 والطبري 2: 209 وشرح النهج 17: 94- 95.
[1065] عيون الاخبار 1: 229- 230.(1/414)
استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قال: عبد الله بن خالد بن أسيد. قال:
فعلى البصرة؟ قال: سمرة بن جندب. فقال له معاوية: لو استعملك أبوك استعملتك، فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها أحد لي بعدك: لو ولاك أبوك وعمّك وليتك، فولّاه خراسان وأوصاه فقال: اتّق الله ولا تؤثر على تقواه شيئا، وق عرضك من أن تدنّسه، وإذا أعطيت عهدا فف به، ولا تبيعنّ كثيرا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، ولا يخرجنّ منك أمر حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردنّ عليك، وإذا لقيت عدوك فغلبك على ظهر الأرض فلا يغلبنّك على بطنها، وإن احتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فواسهم، ولا تطمعنّ أحدا في غير حقّه ولا تؤيسنّ أحدا من حقّ هو له.
[1066]- ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاما له فقال: لا تفسد أدبك بتأديبه.
[1067]- وكان زياد يجلس في كلّ يوم إلّا يوما واحدا في الجمعة، فيبدأ برسل عماله فينظر فيما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم ويجيبهم عن كتبهم، ثم ينظر في نفقاتهم وفي نفقاتهم وفي أعطيات رجاله، ثم فيما دخل فيه من البياعات وفي الأسعار، ويسأل عن الأخبار، وينظر فيما يحتاج إليه: من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثم يأخذ في كتب العمال فيمليها بنفسه. وكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء ولا يخالفه حتى كبر، فكان الضحاك بن قيس يملي وهو يسمع.
[1068]- بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيد الله أخي الاشتر النخعي، وفي الهدايا سفط فيه جوهرة لم ير مثلها، فقدم عبيد الله بالهدايا ثم
__________
[1066] عيون الاخبار 1: 284 والبصائر 1: 266.
[1067] الجهشياري: 25.
[1068] نثر الدر 5: 12.(1/415)
قال: يا أمير المؤمنين إن زيادا بعث معي بسفط ما أدري ما فيه، وأمرني أن أدفعه إليك في خلاء، فقال: أحضره، فلما فتحه قال: ما أظنّ رجلا آثر هذا على نفسه إلا سيؤثره الله تعالى بالجنة، ارجع به إليه فإنّ من قبله من المسلمين أحقّ بهذا من معاوية، ثم كتب الى زياد: إنك رفعت عليّ راية الأشتر حين وضعها الله، بعثت مع أخيه بسفط يشهد به عليّ عند أهل العراق، فاردده إليّ مع رجل لا يفقه عنّي ولا أفقه عنه، فردّه إليه زياد مع غلام من غلمانه.
[1069]- دخل عبد الملك بن مروان على معاوية فتحدّث ونهض، فقال معاوية: إنّ لهذا الغلام همة، وخليق أن تبلغ به همته، وإنه مع ما ذكرت تارك لثلاث آخذ بثلاث، تارك مساءة الجليس جدّا وهزلا، تارك لما يعتذر منه، تارك لما يعيبه، آخذ بأحسن الحديث إذا حدّث، وأحسن الاستماع إذا حدّث، وبأهون الأمرين إذا خولف.
[1070]- ذكر معاوية لابن الزبير بيعة يزيد فقال ابن الزبير: أنا أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تقدم، وتفكّر قبل أن تندم، فإنّ النظر قبل التقدم والتفكّر قبل التندّم؛ فضحك معاوية وقال:
تعلمت أبا بكر الشجاعة عند الكبر.
[1071]- قدّم رجل خصما إلى زياد في حقّ له فقال: أصلح الله الأمير
__________
[1069] المجتنى: 54 والبيان 2: 41 (آخذ بأربع تارك لأربع) ، وعيون الاخبار 1: 307 والكامل للمبرد 1: 44 ونثر الدر 3: 13 وبعضه في مروج الذهب 3: 321.
[1070] البيان والتبيين 1: 301.
[1071] البيان والتبيين 2: 301 وعيون الاخبار 1: 70 ونثر الدر 5: 3 والصداقة والصديق:
278- 279 (تقدما الى المغيرة) والبيهقي: 475 ومحاضرات الراغب 1: 193 وقول عمر:
«اللهم ان كنت تعلم أني أبالي ... » . ورد في الذهب المسبوك: 207 وأنس المحزون:
61 ب ورقم: 273.(1/416)
إنّ هذا يدلّ بخاصة منك. قال صدق، وسأخبرك ما ينفعه عندي من مودته، إن يكن الحقّ له عليك آخذك به أخذا عنيفا، وإن يكن الحق لك عليه أقض عليه ثم أقضي عنه.
وهذا في ظنّ زياد غاية العدل، والمستحسن الخالص ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يديّ على أيهما كان الحقّ فلا تمهلني طرفة عين.
[1072]- كان المنصور داهيا أريبا سديد الرأي، وكان مقدّما في علم الكلام مكثرا من كتب «1» الآثار، فلما همّ بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرق ليلته في ذلك، فلما أصبح دعا باسحاق بن مسلم العقيلي وقال له: حدّثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحرّان، قال: أخبرني أبي عن الحضين بن المنذر أن ملكا من ملوك فارس يقال له سابور ذو الاكتاف «2» كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبا من أدب الملوك وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجّهه سابور داعية إلى أهل خراسان، وكانوا قوما عجما يعظّمون الدنيا جهالة بالدين، وكان يقال: لكلّ ضعيف صولة، ولكلّ ذليل دولة. فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقّح، استحالت حربا عوانا شالت أسافلها بأعاليها فانتقل العزّ إلى أذلّهم «3» والنباهة إلى أخملهم، فاشربوا له حبا، فلمّا استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم و [ما] أحال عليه [من] طاعتهم، ثم لم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم، وكان يقال: [من الوافر] .
__________
[1072] البيان والتبيين 3: 367- 370.
27 1 التذكرة(1/417)
وما قطع الرجاء بمثل يأس ... تبادهه القلوب على اغترار
فصمّم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة ونأي الرجعة، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه. فأطرق المنصور مليا ثم رفع رأسه يقول: [من الطويل] .
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علّم الانسان إلا ليعلما
وأمر إسحاق بالخروج ثم دعا بأبي مسلم، فلمّا دخل إليه نظر إليه وقال: [من الوافر] .
قد اكتنفتك خلّات ثلاث ... جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك يزدهيني «1» ... وقودك للجماهير العظام
ثم وثب إليه ووثب حشمه بالسيوف، فلما رآهم أبو مسلم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربة طرحه «2» ثم قال: [من السريع] .
اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم
زعمت أنّ الدّين لا يقتضى ... كذبت فاستوف أبا مجرم
ثم أمر فحزّ رأسه وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا جولة ساعة ثم ردعهم عن شغبهم انقطاعهم عن بلادهم وإحاطة الأعداء بهم، فذلّوا وسلموا له، وكان إسحاق إذا رأى المنصور قال: [من الوافر] .
وما أحذو لك الأمثال إلّا ... لتحذو إن حذوت على مثال(1/418)
وكان المنصور إذا رآه قال: [من الطويل] .
وخلّفها سابور للناس يقتدى ... بأمثالها في المعضلات العظائم
[1073]- وكان المنصور أنفذ يقطين بن موسى لإحصاء ما في خزائن عبد الله بن علي لما حاربه أبو مسلم وهزمه، فقال أبو مسلم ليقطين: أيأمننا ابن سلامة على الدماء ولا يأمننا على الأموال؟! فكتب يقطين إليه: [من الطويل] .
أرى جذعا إن يثن لا يقو ريّض ... عليه، فبادر قبل أن يثني الجذع
وكتب عيسى بن علي إلى المنصور لما همّ بقتل أبي مسلم: [من الطويل] .
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبّر ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
فأجابه المنصور: [من الطويل] .
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
[1074]- وخلا المنصور بيزيد بن أسيد «1» ، فقال: يا يزيد ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أن تقتله وتتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بدمه، فو الله ما يصفو ملكك ولا تهنأ بعيش ما بقي. قال يزيد: فنفر مني
__________
[1073] قارن بتاريخ الطبري 3: 103 وأنساب الأشراف 3: 201- 202 ومروج الذهب 4:
139- 143 والبيت: «أرى جذعا ... » في ربيع الأبرار 2: 455.
[1074] الموفقيات: 139 ونثر الدر 3: 28 والاذكياء: 38- 39.(1/419)
نفرة ظننت أنه سيأتي عليّ ثم قال: قطع الله لسانك، وأشمت بك عدوك، أتشير بقتل أنصح الناس لنا وأثقله على عدوّنا؟! أما والله لولا ما سلف منك وأني أعدّها هفوة من رأيك لضربت عنقك، قم لا أقام الله رجليك. فقال يزيد: فقمت وقد أظلم بصري، وتمنيت أن تسيخ بي الأرض. فلما كان بعد قتله بدهر قال لي: يا يزيد أتذكر يوم شاورتك في أمر العبد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وما رأيتني قطّ أدنى إلى الموت مني يومئذ، قال: فو الله لكان ذلك رأيي وما لا أشك فيه، ولكني خشيت أن يظهر منك فيفسد عليّ مكيدتي.
[1075]- وإنما اقتدى المنصور في قتل أبي مسلم، وعسكره مطيفون به، بعبد الملك بن مروان في قتل عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق، فإنه لما قوي أمر عمرو والتمس أن يبايع له عبد الملك بالعهد بعده خافه عبد الملك على نفسه فاستدعاه، فحضر مخفّا في نحو مائة رجل من مواليه لا يخاف غيلة من عبد الملك، فلما دخل عمرو على عبد الملك أغلق الباب دونه وحجب مواليه، ووثب عبد الملك إليه في أصحابه وأولاده فذبحه، وهو يقول: [من البسيط] .
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وثار الجيش فأحدقوا بالدار وحاربوا، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، فألقى إليهم عبد الملك بدر الدراهم فاشتغلوا بلقاطها عن الحرب، ثم تفرقوا. ولما هدأت الفتنة تتبع عبد الملك البدر ممن التقطها فاستعادها. ولما قتل عمرا أذن للناس إذنا عاما فدخلوا عليه، وجثة عمرو في ناحية البيت، فلما أخذوا مجالسهم تكلم عبد الملك، فقال: ارمقوا بأبصاركم نحو مصارع أهل
__________
[1075] في مقتل عمرو بن سعيد انظر انساب الأشراف 4/1: 443 وما بعدها، وخطبة عبد الملك لما قتله في نثر الدر 3: 18- 19.(1/420)
المعصية، واجعلوا سلفهم لمن غيّر منكم عظة، ولا تكونوا أغفالا من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة السطوة، وتجوس خلالكم بوادر النقمة، وتطأ رقابكم بثقلها المعصية فتجعلكم همدا رفاتا، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا. إياي من قول قائل وسفه جاهل، فإنما بيني وبينكم أن أسمع النعرة، فأصمّم تصميم الحسام المطرور، وأصول صيال الحنق الموتور، إنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنّة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب أو هلك خائب، والتّوب مقبول، والاحسان مبذول لمن أبصر حظّه وعرف رشده، فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم، وليكن أهل الطاعة منكم يدا على ذوي الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغد عيشها ونفيس زينتها، فإنكم من ذاك بين فضلين: عاجل الخفض والدعة، وآجل الجزاء والمثوبة. عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه، وأيّدكم بحسن معونته وحفظه، انهضوا رحمكم الله لقبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم، ولا ممنوعة منكم، ولا مكدّرة عليكم، إن شاء الله.
[1076]- ولما قتل المنصور أبا مسلم خطّأه في الرأي الفرج بن فضالة، وكان يتقلّد له بيت المال، وقد كان عمل لعبد الملك بن مروان، فقال له: لم لم تخطّىء صاحبك لما قتل عمرا، يعني عبد الملك، قال: لأنه قتله ودونه أبوابه ومغالقه، وحوله اثنا عشر ألفا من جنوده ومواليه، وقتلت أبا مسلم وأنت في خرق، وكلّ من حواليك إليه ومنه وله، فتمثل أبو جعفر: [من الطويل] .
وما إن شفى نفسا كأمر صريمة ... إذا حاجة في النفس طال اعتراضها
[1077]- واقتدى المهتدي بالمنصور فكان ذلك سبب هلاكه، فإنه لما
__________
[1076] الجهشياري: 112.
[1077] المهتدي هو محمد بن الواثق بويع سنة 255- 256؛ انظر الطبري 3: 1813 وابن(1/421)
زاد تبسّط بايكباك وتسلّطه، قبض عليه ليواقفه على أفعاله وهو لا يريد قتله، فجاشت الأتراك وحضروا الباب يطلبونه، فاستشار المهتدي صالح بن عليّ بن يعقوب بن المهدي بن المنصور، وكان ذا قعددهم، فقال: يا أمير المؤمنين، هو حديث أبي مسلم والمنصور، فلو فعلت كما فعل لسكنوا، فأمر بضرب عنقه ورمى رأسه إليهم، فتناخروا وشدّوا على الذي ألقى الرأس فقتلوه، وأضرموا حربا أجلت عن هزيمة المهتدي، ثم ظفروا به وقد هرب إلى دار وغيّر زيه، فأردفوه سائسا على بغل وخلعوا أصابعه حتى خلع نفسه ثم قتلوه.
[1078]- وكان المهتدي أمير صدق وصاحب نسك، لبس الصوف، وهمّ بافاضة العدل فحالت دونه الأتراك، وقصرت أيامه فلم يتمكن من مرامه، وكان يسمّى راهب بني العباس؛ تظلّم إليه رجل من بعض أسبابه فاحضره وحكم عليه بما صحّ عنده، فقام الرجل وشكره وقال: أنت يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى: [من السريع] .
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أما أنت فأحسن الله جزاءك، وأما شعر الأعشى فما رويته، ولكني قرأت اليوم قبل خروجي إلى هذا المجلس قول الله سبحانه وتعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
(الأنبياء: 47) فما بقي أحد في المجلس إلّا بكى.
__________
العمراني: 133 وخلاصة الذهب المسبوك: 232 وابن الكازروني: 159 والفخري: 222.
[1078] نثر الدر 3: 49 وانظر ابن العمراني: 134 وتاريخ بغداد 3: 350 والمصباح المضيء 1:
525- 528 ومحاضرات الراغب 1: 195.(1/422)
[1079]- وجلس المهتدي يوما للمظالم فرفع إليه في الكسور، فسأل الكتّاب عنها فأخبر بها، فقال: معاذ الله أن ألزم الناس ظلما تقدّم العمل به أو تأخر، أسقطوا هذا الظلم وهذه الكسور عن الناس، فقام الحسن بن مخلد فقال: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من مال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم، ومدّ بها صوته، فقال المهتدي: قد عرفت مذهبك في هذا وتحريضك الموالي بما ينقص من أموالهم، وما أمتنع من أن أقيم حقا لله تعالى وأزيل مظلمة قد تقدمت بها الأيام، ولو كان في ذلك كلّ حيف على بيوت الأموال، ولو نظر الموالي في أمرك وأمر نظرائك لأخذوا منك ما خوّفتهم أن يذهب مقداره من مالهم. فارتعد الحسن وأبلس، ثم كلّم المهتدي بعد ذلك فيه فرجع له.
[1080]- قال المنصور لابنه المهدي: يا بنيّ أشبع العباس بن محمد فإنك إن لم تشبعه أكلك؛ وكان العباس بن محمد من رجال بني هاشم وذوي آرائهم، قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، إنما هو درهمك وسيفك فازرع بهذا من شكرك، واحصد بهذا من كفرك.
[1081]- وكتب إليه صاحب أرمينية: إن الجند شغبوا عليّ وكسروا أبواب بيت المال ونهبوه، فأمر بعزله ووقع في كتابه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا «1» .
[1082]- وشغب الجند على عهد المأمون فوقع: لا يعطون على
__________
[1079] نثر الدر 3: 49.
[1080] نثر الدر 3: 29 ومحاضرات الراغب 1: 447 (وهو أطول) .
[1081] نثر الدر 3: 29 والبصائر 2: 718 وقوانين الوزارة: 145 (أيام المأمون) ومحاضرات الراغب 1: 180 (أيام السفاح) .
[1082] نثر الدر 3: 42.(1/423)
الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب.
[1083]- وقال للمهديّ حين عقد له: يا بنيّ استدم النعم بالشكر، والمقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع، والرحمة من الله سبحانه وتعالى بالرحمة للناس.
[1084]- وقال له الربيع: إن لفلان حقا، فإن رأيت أن تقضيه وتولّيه ناحية، فقال: يا ربيع إن لاتصاله بنا حقا في أموالنا لا في أعراض المسلمين وأموالهم، إنا لا نولّي للحرمة والرعاية بل للاستحقاق والكفاية، ولا نؤثر ذا النسب والقرابة على ذوي الدراية والكفاية، فمن كان منكم كما وصفنا شاركنا في أعمالنا، ومن كان عطلا لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له، وفي خاصّ أموالنا ما يسعه.
[1085]- وقد قال المأمون في مثل ذلك: واقتصر الأعمال للكفاة من العمّال، وقضاء الحقوق على بيت المال.
[1086]- وقال المنصور: لا تنفّروا أطراف النعم بقلة الشكر فتحلّ بكم النقمة. ولا تسرّوا غشّ الأئمة فإنّ أحدا لا يسرّ منكرا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقّنا ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا عروة هذا القميص أوطأنا أمّ رأسه خبيء هذا الغمد.
[1087]- أهوى هشام بن عروة إلى يد المنصور ليقبّلها فقال له: يا أبا
__________
[1083] المجتنى: 73 والجهشياري: 126 ونثر الدر 3: 29 وتاريخ الطبري 3: 403 والمصباح المضيء 1: 148 وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 288.
[1086] نثر الدر 3: 28 وقارن بقول منسوب لعلي في ربيع الابرار: 396 ب والفصول المهمة: 113 والمستطرف 1: 237 «إذا وصلت اليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر» .
[1087] نثر الدر 3: 28 وربيع الابرار: 134/أوالبصائر 7: 92 ووفيات الاعيان 6: 81.(1/424)
المنذر إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك.
[1088]- وكان المأمون أفضل خلفاء بني العباس علما وحلما وبيانا وسياسة وجودا؛ قال سهل بن هارون: ما رأيت أنطق من المأمون، وقال سهل يوما، وهو عند المأمون: من أصناف العلم ما لا ينبغي للمسلمين أن يرغبوا فيه، وقد يرغب عن بعض العلم كما يرغب عن بعض الحلال، فقال المأمون: قد يسمّي الناس الشيء علما وليس بعلم، فإن كنت هذا أردت فوجهه الذي ذكرناه، ولو قلت: إنّ العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا تستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فإذا كان الأمر كذلك فابدأوا بالأهم فالأهم، وابدأوا بالفرض قبل النفل، كان ذلك عدلا وقولا قصدا. وقد قال بعض العلماء: اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى إلى نفسك وأخفّ على قلبك، فإن نفاذك فيه على قدر شهوتك له وسهولته عليك. وقال بعض الحكماء: لست أطلب العلم طمعا في بلوغ غايته والوقوف على نهايته، ولكن التماس ما لا يسع جهله. وقال آخرون: علم الملوك النسب والخبر وجمل الفقه، وعلم التجار الحساب والكتاب، وعلم أصحاب الحرب درس كتب المغازي وكتب السير. فأما أن تسمّي الشيء علما ثم تنهى عنه من غير أن يكون يشغل عما هو أنفع منه، بل تنهى نهيا جزما وتأمر أمرا حتما، والعلم بصر وخلافه عمى، والاستبانة للشرّ ناهية عنه والاستبانة للخير آمرة به، فلا «1» .
[1089]- ولما دخل عليه المرتدّ الخراسانيّ، وقد كان حمله معه من
__________
[1088] البيان والتبيين 3: 373- 374 والعقد 2: 207 وقول بعض الحكماء في أمثال الماوردي:
83 ب ولباب الآداب: 456.
[1089] البيان والتبيين 3: 375- 376 وعيون الاخبار 3: 154- 155 وكتاب بغداد 37- 38 والعقد 2: 384.(1/425)
خراسان حتى وافى به العراق، قال له المأمون: لأن أستحييك بحقّ أحبّ إليّ من أن أقتلك بحقّ، ولأن أقتلك بالبراءة أحبّ إليّ من أن أقتلك «1» بالتهمة، وقد كنت مسلما بعد أن كنت نصرانيا، وكنت فيها أنتج «2» وأيامك فيها أطول، فاستوحشت مما كنت به آنسا، ثم لم تلبث أن رجعت عنّا نافرا، فخبّرنا عن الشيء الذي أوحشك من الشيء الذي صار آنس لك من إلفك القديم وأنسك الأول، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، والمريض من الأطباء يحتاج إلى المشاورة، وان أخطأك الشفاء ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك باللائمة، فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصّر في اجتهاد ولم تفرّط في الدخول في باب الحزم. قال المرتدّ: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم. قال المأمون: لنا اختلافان، أحدهما كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف وانما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذّن مثنى وأقام مثنى لم يؤثّم من أذن مثنى وأقام فرادى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا وتشهد عليه بيانا؛ والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا وتأويل الحديث عن نبينا صلّى الله عليه وسلّم، مع إجماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت هذا الكتاب فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة والانجيل متفقا على تأويله، كما يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلّا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا(1/426)
من الدين والدنيا دفع لنا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله تعالى الدنيا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله واحد لا ندّ له ولا ولد، وأنّ المسيح عبده، وأنّ محمدا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا. فالتفت المأمون إلى أصحابه وقال: فروا عليه عرضه ولا تبرّوه في يومه هذا، ريثما يعتق إسلامه كي لا يقول عدوّه إنه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من برّه وتأنيسه ونصرته والعائدة عليه.
[1090]- وناظر المأمون يوما محمد بن القاسم النوشجاني، فجعل يصدّقه ويغضي له، فقال له المأمون: تنقاد إلى ما تظنّ أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك، ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرئاسة لصدّقت وإن كنت كاذبا، وصوّبت وإن كنت مخطئا، وعدّلت وإن كنت جائرا، ولكنّي لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجّة، وإن شرّ الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم: صدق الأمير.
[1091]- وكان المأمون يقول: إذا وضحت الحجة ثقل عليّ استماع المنازعة فيها.
[1092]- وقال أحمد بن أبي دواد، قال المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرا، حتى لا يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله أو رغبة في بعض ما لا تجود النفس به،
__________
[1090] نثر الدر 3: 42.
[1091] البيان والتبيين 3: 377 والموفقيات: 132.(1/427)
ولعلّ الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك منه؛ وهناك جنايات «1» في صلب الملك أو في بعض الحرم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ويحتجّ لتلك العقوبة بما يستحقّ ذلك الذنب «2» ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد، على علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة.
ولعلّ المأمون أراد العذر بهذا الكلام عما كان يتّهم به من قتل الفضل بن سهل وينسب إليه من الوضع عليه. وان صحّ ذلك فمأخوذ من رأي رآه الرشيد في يحيى بن خالد فلم يتم له؛ قال يزيد بن مزيد، «3» قال لي الرشيد: ما بقي في العرب من يفتك؟ قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: رجل يقتل لي يحيى ابن خالد، قال قلت له: أنا أقتله وآتيك برأسه. قال: ليس كذا أريد، إنما أريد أن يقتله رجل فأقتله به، قال: فحدّثت به الفضل بن سهل بمرو فوجم واغتمّ.
[1093]- نزل رجل من أهل العسكر فعدا بين يدي المأمون وشكا إليه مظلمته، فأشار بيده: حسبك، فقال له بعض من كان يقرب من المأمون:
يقول لك أمير المؤمنين اركب، قال له المأمون: لا يقال لمثل هذا اركب، إنما يقال له: انصرف.
[1094]- بينا الحسن اللؤلؤيّ يحدّث المأمون ليلا بالرقّة، وأطال الحسن
__________
[1093] البيان والتبيين 2: 256 3: 377- 378 ومحاضرات الراغب 1: 187.
[1094] البيان والتبيين 2: 330، 3: 378 والعقد 3: 7 ونثر الدر 3: 36 وربيع الابرار:
139 ب وكتاب بغداد: 40 ومحاضرات الراغب 1: 187 وكتاب الاذكياء: 40 ونزهة الظرفاء: 6/أوالريحان والريعان 1: 20.(1/428)
الحديث فنعس المأمون، فقال الحسن: نعست يا أمير المؤمنين، ففتح المأمون عينه وقال: سوقيّ وربّ الكعبة، يا غلام خذ بيده.
ولولا أن يخرج الكتاب عن فنّه لذكرت من محاسن المأمون في أخباره وأفعاله ما يغني عن أخبار غيره، ولكني أورد من أخبار كلّ ذي أدب وسياسة طرفا.
[1095]- لما ولّى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيما، وقد استكفيتك صغيرا، فلا تتكلنّ على عذر مني، فإني قد اتكلت على كفاية منك، وإياك منّي قبل أن أقول إياي منك، فإن الظنّ إذا أخلف فيك أخلف منك، وأنت في أدنى حظّك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك فلا تريحنّ نفسك، وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك حديث غدك.
[1096]- بلغ عبد الملك بن مروان أنّ عاملا له قبل هدية، فسأله عن ذلك فقال: بلادك عامرة، وخراجك وافر، ورعيتك راضية؛ قال:
أخبرني عمّا سألتك، قال: قد قبلت، قال: لئن كنت قبلتها ولا تنوي لصاحبها مكافأة إنك للئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفي رجلا عاجزا إنك لخائن، ولئن كنت قبلتها وأنت مضمر تعويض صاحبها لقد بسطت ألسن أهل عملك بالقدح فيك، وذلك جهل، وما في من أتى أمرا لم يخل فيه من لؤم وخيانة وجهل مصطنع؛ وعزله.
__________
[1095] البيان والتبيين 2: 151 وعيون الاخبار 1: 110 ونثر الدر 5: 12 وشرح النهج 15: 96 وغرر الخصائص 102- 103 (معاوية يخاطب سلما) ولقاح الخواطر: 20 ب.
[1096] البيان والتبيين 4: 89 (باختلاف في العبارة) والجهشياري: 43 والبصائر 2: 434 ومحاضرات الراغب 1: 170 (ونسب لانوشروان) ومروج الذهب 3: 321 وزهر الآداب: 992- 993 (وهو من كلام يزيد لعبيد الله بن زياد) .(1/429)
[1097]- شبب النّمريّ بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، وله فيها أشعار وأخبار ليس هذا موضعها، فكتب إليه عبد الملك: قد بلغني ما قال هذا الخبيث، فإياك أن تقرّبه فتطمعه، أو تعاقبه فتصدقه، ولكن اله عنه وتناس أمره. وما أحسن ما لقنه السياسة في هذا المضيق.
[1098]- وقد فعل معاوية بأبي دهبل الجمحيّ لما شبّب بابنته مأثورا من السياسة أيضا. وكان أبو دهبل ألحّ على عاتكة بنت معاوية بالشعر حتى سارت الرواة بما قال فيها، فأشار عليه يزيد بقتله، فقال معاوية: أفّ لك، أنا أرشّحك للخلافة وأنت تشير بهذا الرأي، وإن عملت به حققت عليها قوله.
ثم حجّ معاوية فلما دخل عليه الناس أمر بالعطاء لهم، وفرّق فيهم الصلات وفيهم أبو دهبل، فلما أراد الخروج استعاده بعد خروج الناس، وقال له: مالي رأيت أبا خالد- يعني يزيد ابنه- متغيّظا عليك لأبيات لا تزال تأتي منك إلى حصاننا؟! فأسقط في يده وأنكر، فقال له معاوية: أما أنا فلا بأس عليك مني، ولكني أحذّرك يزيد فله سورة الشباب، ثم قال له: هل لك زوجة؟
قال: لا، قال: فأيّ بنات عمّك أحبّ إليك أزوجكها؟ قال: فلانة، فما برح حتى زوّجه إياها وساق مهرها من ماله، فحلف أبو دهبل ألا يذكر عاتكة في شعره أبدا. وله مع عاتكة هذه أخبار ليس هذا موضعها.
[1099]- لما ندب الفضل بن سهل طاهر بن الحسين للشخوص إلى الريّ عند حرب عليّ بن عيسى بن ماهان رآه متثاقلا فقال له: أمنيتك؟
__________
[1097] هو محمد بن عبد الله بن نمير شاعر غزل مولد من شعراء الدولة الاموية، ونشأ بالطائف (الاغاني 6: 180 وما بعدها) ونصيحة عبد الملك للحجاج في الاغاني 6: 183 وانظر ربيع الابرار 1: 757.
[1098] أبو دهبل الجمحي وهب بن زمعة، شاعر من شعراء الدولة الاموية مدح معاوية وابن الزبير (الاغاني 7: 112 وما بعدها وقصته مع عاتكة 7: 119- 123) .
[1099] الجهشياري: 290- 291.(1/430)
قال: أمنيتي أن أخطب على منبر بوشنج، ويكون في صندوقي مائة ألف درهم، فولاه بوشنج وأمر له بمائة ألف درهم، وتركه أياما ثم دعاه إلى الشخوص فأجابه، قال الفضل: إذا نال الرجل المنى خاض الدماء.
[1100]- لما ولي يزيد بن الوليد بن عبد الملك الخلافة خطب يستميل الناس فقال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الوليد ومعايبه: أيها الناس، إن لكم عليّ أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتى أسدّ ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أجمّركم على بعوثكم فأفتنكم وأفتن عليكم أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما عليهم عن بلادهم، وإن لكم أعطياتكم عندي في كلّ سنة، وأرزاقكم في كلّ شهر، حتى تستدرّ المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف فلكم أن تخلعوني، إلّا أن تستتيبوني، فإن تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، وانما الطاعة طاعة الله ورسوله، فمن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
هذا قول حسن وإنصاف فيما له وعليه إلّا أنّ فيه لمن يريد الملك ويقتل عليه ابن عمه ويطلب الخلافة بغير حقّها ضعفا وعجزا.
__________
[1100] البيان والتبيين 2: 142 وعيون الاخبار 2: 248 والعقد 4: 95 ونثر الدر 3: 24 وتاريخ الطبري 2: 1834- 1835 وابن الاثير 5: 292 والبصائر 3: 52- 55 والجليس الصالح 2: 291.(1/431)
[1101]- قال الحجاج: سلطان تخافه الرعية خير من سلطان يخافهم.
(وما أحسن هذا الكلام لو كان من أهله) .
[1102]- وقد فعل الوليد بن يزيد، وهو الذي شهد عليه أهل عصره بالمروق عن الدين، حين ولي أصناف الخير من بثّ الصّلات والزيادة في الأعطيات، وأجرى على الزّمنى والعميان وأخدمهم وأجرى على خدمهم الأرزاق. وكذاك كانت سياسة الملوك والولاة وإفضالهم رأيا وحزما إذا لم يكن دينا وورعا.
[1103]- أول ظهور أبي مسلم صاحب الدولة باسفيذنج من أرض خراسان ندب إليه نصر بن سيار عامل خراسان مولى له يقال له يزيد في عسكر كثيف، فأنفذ إليه أبو مسلم مالك بن الهيثم الخزاعيّ ومصعب بن قيس في مائتي رجل، وأمدّهم من بعد بمدد آخر، فلما وقعت الحرب كسر جيش نصر بن سيار، وأخذ يزيد أسيرا، فأتى به أبو مسلم فداواه أبو مسلم من جراحه، وأحسن إليه وردّه إلى مولاه، وأحلفه أن لا يحاربه أبدا، وأن لا يكذب عليهم وقال: هذا يردّ عنا أهل الورع والصلاح فانا عندهم على غير الاسلام، فكان كما قال وظنّ، وكان هذا الفعل يعدّ من تدبير أبي مسلم الصائب، وكتب نصر ابن سيار إلى بني أمية حينئذ: [من الوافر]
أرى خلل الرماد وميض جمر ... وأحسب أن سيتبعه ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أوّلها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام
__________
[1101] ربيع الابرار: 374 ب ولباب الآداب: 44 والمستطرف 1: 86.
[1103] أبيات نصر في العقد 2: 359 والبيان والتبيين 1: 158 والحماسة البصرية 1: 107 والجليس الصالح 2: 383.(1/432)
[1104]- قال مروان بن الحكم لابنه يوصيه: آثر الحقّ وحصّن مملكتك بالعدل فإنه سورها المنيع الذي لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق.
[1105]- وروي أن عامل عمر بن عبد العزيز على حمص كتب إليه:
إن سورها قد استهدم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في عمارته، فكتب إليه عمر: أما بعد، فحصّنها بالعدل، والسلام.
[1106]- وذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند عبد الملك فقال:
قللوا من ذكره فهو طعن على الأئمة، حسرة على الأمة.
[1107]- وقالت له حبّى المدنيّة: أقتلت عمرا؟ فقال: قتلته وهو أعزّ عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول.
[1108]- ومثله ما قال معاوية لعبيد الله بن زياد: يا ابن أخي، احفظ عني، لا يكوننّ معك في عسكرك أمير غيرك، ولا تقولنّ على منبرك قولا يخالفه فعلك.
[1109]- وأقبل رجل من خاصّة عبد الملك يعيب مصعبا، فنظر إليه عبد الملك نظر كراهة لما قال، ثم قال: أمسك، أما علمت أنّ من صغّر مقتولا فقد أزرى بقاتله؟!
__________
[1105] عيون الاخبار 1: 13 والايجاز والاعجاز: 18 والمستطرف 1: 101 وسيرة عمر (ابن الجوزي) : 90 وحلية الاولياء 5: 309 والمصباح المضيء 1: 216 والشفاء: 46- 47 ونهاية الارب 6: 35 ومحاضرات الراغب 1: 169.
[1106] نثر الدر 3: 17 (واعاده ص: 20 ونسبه للوليد بن عبد الملك) وربيع الابرار: 378 ب وشرح النهج 12: 15 ومحاضرات الراغب 1: 158 والبصائر 2: 856.
[1107] نثر الدر 3: 17 وربيع الابرار: 369 ب والبصائر 1: 21.
[1108] نثر الدر 5: 13.
28 1 التذكرة(1/433)
[1110]- تغدّى سليمان بن عبد الملك عند يزيد بن المهلب فقيل له:
صف لنا أحسن ما كان في منزله، فقال: رأيت غلمانه يخدمون بالاشارة دون القول.
[1111]- لما ولي مروان بن محمد الخلافة أرسل الى ابن رغبان الذي نسب إليه بعد ذلك مسجد ابن رغبان ليولّيه فرأى له سجّادة مثل ركبة البعير، فقال له: يا هذا إن كان ما بك من عبادة فما يحلّ لنا أن نشغلك، وإن كان من رياء فما يحلّ لنا أن نستعملك.
[1112]- وقال عدي بن أرطاة لإياس بن معاوية: دلّني على قوم من القراء أولّهم؟ فقال له إياس: القراء ضربان: فضرب يعملون للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنّك بهم إذا أنت أمكنتهم منها؟
قال: فما أصنع؟ قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم.
[1113]- أحضر الرشيد رجلا ليوليه القضاء، فقال: إنّي لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، فقال الرشيد: فيك ثلاث خلال، لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، ولك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يستعجل قلّ خطؤه، وأنت رجل تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فسنضمّ إليك من تفقه به. فولي فما وجدوا فيه مطعنا.
__________
[1110] نثر الدر 3: 20 وربيع الأبرار: 236 أ- ب والبصائر 7: 142 والنهروالي: 147: 7 رقم: 214 (قاضي 2) .
[1111] نثر الدر 3: 26 والبصائر 5 رقم: 259 والاجوبة المسكتة رقم: 111 وقارن بما في محاضرات الراغب 1: 165، 2: 416 (ونسب الى المنصور) .
[1112] عيون الاخبار 1: 17 والبصائر 1: 76 (وفيه: وقال عمر بن عبد العزيز لاياس وهو الأصوب) ومحاضرات الراغب 1: 165 وقارن بما في لقاح الخواطر: 18/أ (بين عمر والحسن) .
[1113] عيون الاخبار 1: 17- 18.(1/434)
[1114]- كلّم المنصور أبا العباس السفاح في محمد بن عبد الله بن الحسن وأهله فقال: يا أمير المؤمنين أنّسهم بالإحسان، فإن استوحشوا فالشرّ يصلح ما عجز عنه الخير، ولا تدع محمدا يمرح في أعنّة العقوق. فقال: يا أبا جعفر أنا كذلك، ومن شدّد نفّر ومن لان تألّف، والتغافل من سجايا الكرام.
وما أحسن ما قال الأعشى [من الكامل المجزوء] .
مغض على العوراء لو ... لا الحلم غيّرها انتصاره
[1115]- كان المهديّ يحب الحمام، فأدخل عليه عتاب بن إبراهيم، فقيل له حدّث أمير المؤمنين، وكان قد بلغه استهتار المهدي بالحمام فقال:
حدثني فلان «1» عن فلان عن أبي هريرة رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا سبق إلّا في حافر أو جناح، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام [قال] المهدي وهو ينظر في قفا عتّاب: أشهد أن قفاك قفا كذّاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما استحليت ذلك أنا، وأمر بالحمام فذبحت.
[1116]- اعتلت الخيزران فأراد الهادي ابنها الركوب إليها، فقال له عمر ابن بزيع: ألا أدلّك يا أمير المؤمنين على ما هو أنفع من عيادتها وأجلب لعافيتها؟ قال: بلى، قال: تجلس للمظالم، فقد احتاج الناس إلى ذلك.
فرجع وجلس ووجّه إليها: إني أردتك اليوم فعرض من حقّ الله ما هو أوجب فملت إليه، وأنا أجيئك في غد، إن شاء الله.
__________
[1114] نثر الدر 3: 27 وربيع الأبرار 2: 52.
[1115] ربيع الابرار: 265/أ، والقصة حدثت في بلاط الرشيد، والذي يكذب هو أبو البختري في الدميري 1: 293.
[1116] تاريخ الطبري 3: 582 وابن الاثير 6: 102.(1/435)
[1117]- وكانت الخيزران تتشبّه بالرجال وتحبّ الأمر والنهي، وأن يكون لها باب يقصد بالرغبات والمدائح، فقال لها الهادي لما ولى الخلافة: إن الأمر والنهي لا يبلغه قدر النساء، فلا تخرجي من خفر الكفاية الي بذلة التدبير، واختمري بخمرتك وعليك بسبحتك، ولا أعلمك تعدّيت ذلك إلى تكليف يضرّك وتعنيف يلزمك، ولك بعد هذا عليّ الطاعة التي أوجبها الله تعالى لك، في غير كفر ولا مأثم ولا عار.
[1118]- شغب الجند على الرشيد ثم سكنوا بعد إيقاع بهم، فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والصلاة على رسوله: اما بعد، فقد كان لكم ذنب وكان منّا عتب، وكان منكم اصطلام ومنّا انتقام، وعندي بعد هذا لكم التنفيس عن المكروبين، والتفريج عن المغمومين، والإحسان إلى المحسنين، والتغمّد لإساءة المسيئين، وأن لا يكفر لكم بلاء، ولا يحبس عليكم عطاء، وعليّ بذلك الوفاء، ثم نزل.
[1119]- كان سبب خروج المعتصم إلى سرّ من رأى أن غلمانه الأتراك كثروا ببغداد، فتولعوا بحرم الناس وأولادهم، فاجتمع إليه جماعة منهم وقالوا: يا أمير المؤمنين ما أحد أحبّ إلينا مجاورة منك، لأنك الامام والمحامي عن الدين، وقد أفرط علينا أمر غلمانك، فاما منعتهم منّا أو نقلتهم عنّا، قال: نقلهم لا يكون إلا بنقلي، ولكنّي افتقدهم وأزيل ما شكوتم منه، فنظر فإذا الأمر قد زاد وعظم وخاف أن يقع بينهم حرب، وعاودوه بالشكوى وقالوا: إن قدرت على نصفتنا وإلا فتحوّل عنّا، فقال، أتحول وكرامة، فرحل إلى سرّ من رأى واتخذها دارا.
__________
[1117] تاريخ الطبري 3: 569 (ببعض اختلاف) والبيهقي: 552- 553 والبصائر 3: 69- 70 ومروج الذهب 4: 186- 187 ونثر الدر 3: 33.
[1119] نثر الدر 3: 44.(1/436)
[1120]- لما أقطع المعتصم أشناس ضياع الحسن بن سهل، وجّه الحسن بقبالاتها إلى أشناس، وكتب إليه: قد عرفت رأي أمير المؤمنين في إخلاصك بهذه الضياع وأحببت أن لا يعترض على عقبك عقبي، فأنفذت إليك قبالاتهم معتدّا في قبولكها بإسباغ النعمة عليّ، وادخار الشكر لديّ، ومتقرّبا به إلى سيدي أمير المؤمنين، فرأيك في الامتنان عليّ بقبولها، موفقا إن شاء الله. فلما قرأ الكتاب أنفذه إلى المعتصم فوقّع فيه: ضيم فصبر، وسلب فعذر، فليقابل بالشكر على صبره، وبالاحسان على عذره، وتردّ عليه ضياعه، ويرفع عنه خراجه، ولا أؤامر فيه إن شاء الله.
[1121]- وكان المعتصم يقول: الفضل بن مروان عصى الله وأطاعني، فسلّطني الله عليه.
[1122]- وقال لأحمد بن [أبي] دواد لما كان [من] التياث العباس ابن المأمون ما كان: يا أبا عبد الله أكره أن أحبسه فأهتكه، وأكره أن أدعه فأهمله، فقال أحمد: الحبس، أصلح الله أمير المؤمنين فإن الاعتبار «1» خير من الاغترار.
[1123]- وقيل ما رؤي أشدّ تيقظا في حرب من المعتصم، كانت الأخبار ترد عليه من أرض بابل إلى سرّ من رأى في ثلاثة أيام على خيل عتاق مضمّرة، قد أقام على كلّ فرسخين «2» فرسين. واحتاج الناس في حصار عمورية
__________
[1120] نثر الدر 3: 44 وهو في الجزء الرابع من البصائر (مخطوطة الامبروزيانا) وسقط من الطبعة الدمشقية.
[1121] نثر الدر 3: 44 والايجاز والاعجاز: 20 وغرر الخصائص: 63.
[1122] نثر الدر 3: 45، 5: 58.
[1123] نثر الدر 3: 45 وبيت أبي تمام في ديوانه 1: 71.(1/437)
إلى ماء فمدّ لهم حياضا من أدم عشرة أميال. ولما دخل عليه المازيار، وكان شديد الغيظ عليه، قيل له: لا تعجل عليه فإن عنده أموالا جمّة، فأنشد بيتا لأبي تمام [من البسيط] .
إن الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السّلب
[1124]- قال إبراهيم بن المدبّر: قال لي المتوكل: إذا خرج توقيعي إليك بما فيه مصلحة الناس ورفق بالرعية فأنفذه ولا تراجعني فيه، وإذا خرج إليك فيه حيف على الرعية فراجعني فإنّ قلبي بيد الله عزّ وجل.
[1125]- كتب الاسكندر إلى أرسطاطاليس يذكر أن في عسكره جماعة من خاصته وذوي حشمه وأهل الحرمة، وأنه لا يأمنهم على نفسه لما يرى من بعد هممهم وقوة شجاعتهم وأنه لا يجد لهم عقولا تفي بالفضائل التي فيهم، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنّة مع واجب الحرمة، وسأله عن الرأي في أمرهم، فكتب إليه أرسطاطاليس: أما بعد فإن الوفاء من بعد الهمة، وأما شجاعتهم ونقصان عقولهم عن الوفاء بها، فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشته وقوله، وخوّله حسان النساء، فإنّ رفاهة العيش توهي العزم وتكسر حميّة الشجاعة، ومحبة النساء تحبّب السلامة وتباعد من ركوب المخاطر، وليكن خلقك خلقا حسنا تستدع به صفو النية وخلوص المقة «1» ، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوسط أصحابك تناول مثله، فليس مع الاستئثار محبة ولا مع المواساة بغضة.
[1126]- غضب الاسكندر على شاعر فأقصاه وفرّق ماله في الشعراء،
__________
[1124] نثر الدر 3: 48.
[1125] الجهشياري: 9- 10.
[1126] البصائر 2: 337 وسرح العيون: 71 وربيع الابرار 1: 729.(1/438)
فقيل له في ذلك فقال: أما إقصائي إياه فلجرمه، وأما تفريقي ماله في الشعراء فلئلا يشفعوا فيه.
[1127]- كتب الاسكندر إلى أرسطاطاليس يعلمه بما افتتح من البلاد ويعجّبه من قبّة الذهب، وجدها في بلاد الهند، فأجاب: إني رأيتك تعجب من قبة عملها الآدميون، وتدع التعجب من هذه القبّة المرفوعة فوقك، وما زيّنت به من الكواكب وأنوار الليل والنهار. وأما البلدان فليكن ملكك فيها بالتودّد إلى أهلها، لا كقهر الراعي غنمه بالعصا، فإنك في طاعة المودة أحمد بدنا وعافية من طاعة القهر والاستطالة، فحدّث به المأمون فقال: لقد حثّ على التودّد فأحسن، فلقد أدّبنا الله قبل معرفتنا بحكمة أرسطاطاليس: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
(آل عمران: 159) .
[1128]- لما قتل شيرويه بن كسرى أباه أبرويز، وقف له رجل من الرعية يوما وقد رجع من الميدان فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يديك، وملّكك ما كنت أحقّ به منه، وأراح آل ساسان قتل من جبروته وعتوّه وبخله ونكده، فإنه كان ممن يأخذ بالحبة ويقتل بالظنّ، ويخيف البريء ويعمل بالهوى؛ فقال للحاجب: احمله إليّ، فقال: كم كانت أرزاقك في حياة أبرويز؟ قال: في كفاية من العيش. قال: فكم رزقك اليوم؟ قال: ما زيد في رزقي شيء، فقال: هل وترك أبرويز فأبصرت منه مما سمعت من كلامك؟
قال: لا، قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه ولم يقطع عنك رزقا، ولا وترك في نفسك؟ وما للعامة وهم رعية والوقوع بالملوك؟ وأمر أن ينزع لسانه من قفاه، وقال: بحقّ ما يقال: ان الخرس خير من البيان بما لا يجب.
__________
[1127] ربيع الأبرار: 376/أوطبقات صاعد: 34.
[1128] التاج: 109- 110 والبيهقي: 383 ومحاضرات الراغب 1: 387.(1/439)
[1129]- ولما أتي المنصور برأس إبراهيم بن عبد الله بن الحسن فوضع بين يديه جاء بعض الراوندية فضرب الرأس بعمود في يده، فقال المنصور للمسيّب: سوّ وجهه، فدقّ المسيّب أنفه حتى سطّحه مع وجهه، ثم قال:
يا ابن اللخناء تجيء إلى رأس ابن عمي وقد صار إلى حال لا يدفع عن نفسه ولا ينفع فتضربه بعمود، كأنك رأيته يريد نفسك أو نفسي فدفعته عني؟! اخرج إلى لعنة [الله] وأليم عقابه.
[1130]- قال حسن بن رجاء: لما ورد الخبر على المأمون بقتل أبي السرايا لم يكن في بيت ماله إلا ألف ألف ومائتا ألف درهم، قال ذو الرياستين للمأمون: هذا لا يسع الناس، ولكن صل بهذا المال حتى أخرج إلى الناس فآمر لهم به على قدر مراتبهم، فيكون القليل مني أحمد منه منك، ويكون الناس يتوقعون فضلك إلى أن تأتي الأموال فترى رأيك. ففعل فوقع أحسن موقع.
[1131]- أمر المأمون الحسن بن عيسى كاتب وزيره عمرو بن مسعدة أن يكتب كتابا، فالتفت الحسن إلى الوزير ينتظر الإذن منه، ففهمها عنه المأمون فقال: يعطى الحسن مائة ألف لانتظاره إذن صاحبه.
[1132]- ركب زياد يوما بالسوس فرأى عمارة حسنة، فخاف أهلها أن يزيد في خراجها، فقال لهم: بارك الله عليكم قد وضعت عنكم مائة ألف لما رأيت عمارة بلدكم.
[1133]- دعا الواثق إسحاق بن إبراهيم المصعبي إلى منادمته فامتنع،
__________
[1129] التاج: 111.
[1131] ربيع الأبرار 2: 322.
[1132] المصباح المضيء 1: 322 ومحاضرات الراغب 1: 168 وشرح النهج 17: 75.
[1133] الفرج بعد الشدة 1: 393.(1/440)
فتلاحيا في ذلك إلى أن تغيّر الواثق لإسحاق وأمر بحجابه، فكتب إليه إسحاق: يا أمير المؤمنين لئن أطلقتني الحشمة التي عقد بها لساني عن الانبساط لتغيره علي، لقد كان فيما عقد لي عليه قلب أمير المؤمنين ذبّ ان كان يؤمنني من امتهان العامة إياي. فرمى الواثق بكتابه إلى أحمد بن أبي دواد وقال: انظر ذا، فنظر ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما على من كانت هذه همته بذبّه عن أمير المؤمنين عتب، وهو يجد من أشخاص عوضا في منادمته، [فأبقاه] على رسمه وأعفاه من المنادمة.
[1134]- قال معاوية لسعيد بن مرة الكنديّ: أنت سعيد؟ قال:
أمير المؤمنين السعيد وأنا ابن مرّة.
[1135]- وقال المأمون للسيّد بن أنس: أنت السيّد؟ فقال: أمير المؤمنين لسيد وأنا ابن أنس.
[1136]- وقال الحجاج للمهلب وهو يماشيه: انا أطول أم أنت؟
قال: الأمير «1» أطول وأنا أبسط قامة.
[1137]- قال رجل لأبي خليفة الجمحي: ما أحسبك تثبتني؟
__________
[1134] التاج: 88 والبيهقي: 459 والمحاسن والاضداد: 14 ومحاضرات الراغب 1: 67 والمستطرف 1: 59 ونزهة الظرفاء: 4 ب وربيع الأبرار 2: 319، 339 والاجوبة المسكتة رقم:
601.
[1135] التاج: 88 والبيهقي: 459 والمحاسن والاضداد: 14 ومحاضرات الراغب 1: 67 ونزهة الظرفاء: 4/أوربيع الأبرار 2: 319، 339 والاجوبة المسكتة رقم: 602.
[1136] المحاسن والاضداد: 14 والبيهقي: 459 ونثر الدر 2: 183 والبصائر 2: 690 وربيع الابرار 1: 684، 2: 319 والمستطرف 1: 59.
[1137] ربيع الابرار: 133/أوالبصائر 1: 117 وزهر الآداب: 825.(1/441)
فقال: وجهك يدلّ على سنك «1» ، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد السبيل إلى معرفتك.
[1138]- قال العتبيّ لأحمد بن أبي خالد الأحول: هل أنكرت عليّ يوم دخولي على المأمون شيئا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: ضحك من شيء فكان ضحكك أكثر من ضحكه.
[1139]- قال محمد بن عبيد الله [بن يحيى] بن خاقان: بعثني أبي إلى المعتضد «2» في شيء فقال لي: اجلس، فاستعظمت ذلك فقلت: إنه لا يجوز، فقال: يا محمّد، أدبك في القبول مني خير لك من أدبك في قيامك.
[1140]- قال المأمون لثمامة بن أشرس: ارتفع؟ قال: يا أمير المؤمنين لم يف شكري بموضعي هذا، وأنا أبعد عنك إعظاما لك، وأقرب منك شحا عليك.
[1141]- ومن أدب العلماء: قال بعض أصحاب أبي حنيفة، قال أبو حنيفة: لا تسألني عن أمر الدين وأنا ماش، ولا تسألني وأنا أحدّث الناس، ولا تسألني وأنا قائم، ولا تسألني وأنا متكىء، فإن هذه أماكن لا يجتمع فيها عقل الرجل. قال: فخرج يوما فتبعته من حرصي أسائله ومعي دفتر، وأنا أمشي في الطريق، فلما خلوت عقلت ما يقول، فلما كان من الغد واجتمع إليه أصحابه سألته عن تلك المسائل فغيّر الجواب، فأعلمته ذلك
__________
[1138] نور القبس: 191 وربيع الابرار: 134/أوالبصائر 7: 253 ومحاضرات الراغب 1:
283.
[1139] نثر الدر 3: 50 والبصائر 2: 528 وربيع الابرار: 133/أ.
[1140] نثر الدر 2: 188 وربيع الابرار: 134/أوالبصائر 4: 121.(1/442)
فقال: ألم أنهك عن السؤال وعن الشهادات في دين الله إلا في وقت جمام العقول؟
[1142]- وقيل: أراد أحمد بن طولون أن يكتب وثائق بأحباسه التي حبسها على البيمارستان والمسجد والسّقاية بمصر، فتولّى له كتب ذلك أبو حازم قاضي دمشق، فلما جاءت الوثائق أحضر لها علماء الشروط لينظروا هل فيها شيء يفسدها، فنظروها فقالوا: ما فيها شيء، ونظر فيها أبو جعفر أحمد بن محمد ابن سلامة الطحاوي الفقيه، وهو يومئذ شابّ، فقال: فيها غلط؛ فأحضره.
ابن طولون وسأله عن الغلط فقال: حتى أعرف من عملها، فقيل له: أبو حازم القاضي، فقال: ما يمكنني أن أذكر الغلط الذي فيها، فقال له أحمد ابن طولون: إن أنت لم تذكره لرسلي فاذكره لي، فقال: ما أفعل، قال:
ولم؟ قال: لأنّ أبا حازم رجل عالم وعسى أن يكون الصواب معه وقد خفي عليّ، فأعجب ذلك أحمد بن طولون وقرّبه وأجازه وقال له: فتخرج إلى أبي حازم لتواقفه، فخرج وواقفه عليه واعترف أبو حازم بالغلط، ثم رجع الطحاويّ إلى مصر وأدخل إلى ابن طولون، فقال: كان الصواب مع أبي حازم وقد رجعت إلى قوله، وستر ما كان، فذكر لابن طولون فزاد في نفسه.
[1143]- كان أحمد بن طولون شديد الاهتمام بأمر رعيته، وكان يجلس في الليل في قبة عالية من داره يتسمّع ويراعي أحوال مصر، فبينا هو ذات ليلة إذ سمع صياح كلب يصيح صياحا شديدا، فدعا بغلمانه وقال:
اسمعوا، فقالوا: نسمع صياح كلب. فقال: انظروا أين، فلم يزالوا ينظرون حتى قالوا: في ناحية كذا وكذا، فقال: عليّ بالكلب الساعة وسببه، فمضى الغلمان فلم يزالوا ينظرون حتى عرفوا الموضع فأخذوا الكلب، وإذا برجل نائم
__________
[1142] انظر سيرة البلوي: 350 (الحاشية) نقلا عن مجموعة من الحكم منسوبة لياقوت المستعصمي.(1/443)
في الظلام معه سكين، وإذا قوم يصيحون، فقالوا لهم: ما خبركم؟ فخرج إليهم شيخ فقال: هذا رجل يتعرّض ببعض حرمي، فأخذوا الكلب والرجل والشيخ وجاءوا بهم إلى أحمد بن طولون، فقال: اضربوا الكلب فضربوه فصاح فقال: هو هو، وأمر بالرجل فغرّق وانصرف الشيخ إلى منزله.
[1144]- وقال أحمد بن طولون لبعض كتابه: اختر لي كاتبا ترضاه وأتني به، قال: فأتيته به وتركته عنده ولم أعرف له خبرا، فلما كان بعد شهر جاءني، فقلت: من أين؟ قال: من أمر عظيم، لما انصرفت أرسلني إلى المطبق وقال لي: احفظ ما يقولون وإلى من يكتبون ومن يكتب إليهم. فأقمت شهرا بالمطبق حتى عرفت جميع ما كانوا فيه، ثم أحضرني اليوم وحدثته بكلّ شيء فأمر لي بجائزة وقال لي: انصرف.
[1145]- رفع إلى المعتضد أنّ طائفة من الناس يجتمعون في دكان رجل شيخ تبّان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنون من الأحاديث، وفيهم سراة وكتّاب وأهل بيوتات سوى من يسترق السمع منهم من داصة الناس، فلما عرف المعتضد ذلك حرج صدره وامتلأ غيظا، ودعا بعبيد الله بن سليمان ورمى بالرقعة إليه وقال له: انظر فيها وتفهمها، ففعل، ورأى من تربّد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره، وقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين، قال: فما الدواء؟ قال: تتقدّم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت كان الهول أشدّ والهيبة أفشى، والزجر أنجع، والعامّة أخوف، فقال المعتضد: لقد برّدت لهب غضبي بقسوتك هذه، ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة، وحضضت على الرفق من حيث أشرت
__________
[1144] سيرة البلوي: 115- 117.
[1145] الامتاع والمؤانسة 3: 88- 91 (بتفصيل كثير) وقارن بما ورد في المنتظم 5: 136- 137 والمصباح المضيء 1: 250 والجوهر النفيس: 37/أ.(1/444)
بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكفّ وتبعثني على الحلم وتحبّب إليّ الصفح، وترغّبني في فضل الاغضاء على هذه الاشياء، وقد ساءني جهلك بحدود العقاب، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلّة الرحمة ويبس الطينة وقلّة الديانة. أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأن الله سائله عنها كيف سستها ولعله لا يسألها عنه، فإن سألها فلتوكيد الحجّة عليه منها؟ ألا تدري أن أحدا من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم لحقه، أو داهية نالته أو نالت صاحبا له؟ وكيف نقول لهم كونوا أتقياء صالحين مقبلين على معاشكم غير خائضين في حديثنا ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا وأكل خضرتنا، وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السيد على ضروب تكاليفه ومكاره تصاريفه إذا كان العيش في كنفه رافغا، والأمل فيه قويا، والصدر عليه باردا، والقلب معه ساكنا، أتظن أنّ العلم بالجهل يدفع والعذر به يسع؟ لا والله، ما الرأي ما رأيت ولا الصواب ما ذكرت، وجّه صاحبك وليكن ذا خبرة ورفق، معروفا بتحرّ وصدق، حتى يعرف حال هذه الطائفة ويقف على شان كل واحد منها في معاشه وقدر ما هو [متقلب فيه و] منقلب إليه، فمن كان منهم يصلح لعمل فعلّقه به، ومن كان سيء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيد طمأنينة باله، ومن لم يكن من هذا الرهط بل هو غنيّ مكفيّ، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبّان البطر والزهو فادع به وانصحه ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع وكلامك مرفوع، ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلّا في عرصة المقابر، فاستأنف لنفسك سيرة تسلم بها من سلطانك وتحمد بها عند إخوانك، وإياك أن تجعل نفسك عظة لغيرك بعد ما كان غيرك عظة لك، ولولا أن الأخذ بالجريرة الأولى مخالف(1/445)
للسيرة المثلى لكان هذا الرأي الذي تسمعه ما تراه، تودّ لو أنك سمعته قبل أن تراه، فإنك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة، ففعل عبيد الله ما أمره به.
[1146]- قال عبد الملك بن عمر الليثي: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، أتانا آت، فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على أهل العراق، فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامته قد غطّى بها أكثر وجهه، متقلّدا سيفا، متنكبا قوسا، يؤمّ المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلّم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبّح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابىء البرجمي، ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال: [من الوافر] .
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وقال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم ... قد لفّها الليل بسّواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبيّ ... أبيض خرّاج من الدويّ
مهاجر ليس بأعرابيّ
__________
[1146] نثر الدر 5: 13 والمستطرف 1: 50- 52 وانظر خطبة الحجاج نفسها في عيون الاخبار 2:
243 والبيان والتبيين 2: 307- 310 والعقد 4: 119 والكامل 1: 333- 340 وتاريخ ابن الاثير 4: 375 وصبح الاعشى 1: 218. والدميري 1: 190.(1/446)
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا
والقوس فيها وتر عردّ ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز البنان. ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وإنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجم عيدانها عودا عودا، فوجدني أمرّها عودا وأصلبها مكسرا، فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضّلال. والله لأحزمنّكم حزم السّلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كلّ مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وإني والله ما أقول إلا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلّب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلّف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا ضربت عنقه، يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئا، فقال الحجاج:
قف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: أسلّم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا عليه شيئا؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمنّ الطريق، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال:
أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني أفتقبله بدلا؟ فقال له الحجاج: نفعل يا شيخ، فلما ولّى قال له قائل:
أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي يقول أبوه: [من الطويل] .(1/447)
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان وهو مقتول فوطىء بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال: ردّوه. فلما ردّ قال الحجاج له: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين بدلا يوم الدار؟ إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحا للمسلمين، يا حرسيّ اضربا عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزّبير الأسدي: [من الطويل] .
تجهّز فاما أن تزور ابن ضابىء ... عميرا، وإما أن تزور المهلّبا
تفسير كلمات غريبة من هذا الخبر: أراد بابن جلا الفعل، فحكى، فلذلك لم يصرفه، والبيت لسحيم بن وثيل؛ طلاع الثنايا: جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها. حطم لا يبقي من السير شيئا وكذلك الذي يأتي على الزاد فيأكله حطم، والنار التي لا تبقي حطمة والوضم [ما] يوضع عليه اللحم من [صخر] أو خشب. والعصلبيّ: الشديد؛ الدويّ: كلّ غماء شديدة، ويقال للصحراء دوّيّة، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدوّ، وهو الصحراء الملساء التي لا أمارة بها، والداوية: المتسعة التي تسمع لها دويا بالليل، وإنما ذلك الدويّ من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها وتقول جهلة الاعراب ذاك عزيف الجن؛ والعردّ: الشديد ويقال في معناه عرند، والذكاء ها هنا تمام السنّ وهو في غير هذا حدّة القلب.
[1147]- ومن سياسة زياد المستحسنة أنه ألزم كلّ قبيلة بمن يخرج من الخوارج منهم وأخذهم بهم، فكانت كل قبيلة إذا أحسّت بخارجية منها شدّتهم وأتت بهم زيادا. وله أخرى في الخوارج، وأخرجوا معهم امرأة فظفر بها فقتلها ثم عرّاها، فلم تخرج النساء بعد ذلك على زياد، وكنّ إذا دعين إلى الخروج يقلن: لولا التعرية لسارعنا. وكنّ بعد زياد يخرجن مع الخوارج فيحاربن ويبارزن الرجال.(1/448)
[1148]- نصب معاوية قميص عثمان على المنبر فبكى أهل الشام فقال:
هممت أن أدعه على المنبر، فقال له عمرو بن العاص: إنه ليس بقميص يوسف، وانهم إن طال نظرهم إليه وبحثوا عن السبب، وقفوا على ما لا تحبّ ولكن لذّعهم بالنظر إليه في الأوقات.
[1149]- ووصّى عمرو معاوية بالسياسة فقال: لا يكون شيء آثر عندك من أمر رعيتك، وتكون له أشدّ تفقدا منك لخصاصة الكريم أن تعمل في سدّها، ولطغيان اللئيم أن تقمعه، واستوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان، فإن الكريم يصول إذا جاع واللئيم يصول إذا شبع.
[1150]- كان الرشيد أخذ ضيعة من صالح صاحب المصلّى ودفعها إلى أم جعفر، فلما ولي الأمين سأله الفضل بن الربيع ردّها على صالح، فقال:
أنا أعوّضه ولا أظلم أمّي ولا أعقّ أبي.
[1151]- وقّع المأمون في قصة متظلم من أبي عيسى بن الرشيد فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
(المؤمنون: 101) .
[1152]- قال المعتزّ لأحمد بن وزير البصريّ لما ولاه القضاء: يا أحمد قد ولّيتك القضاء وإنما هي الدماء والفروج والأموال تنفذ فيها حكمك ولا يردّ أمرك، فاتّق الله عز وجل وانظر ما أنت صانع.
[1153]- ولما جيء إليه بأمان وصيف وبغا من بغداد على دمائهم وأموالهم وأجاز ذلك، وقّع في الكتاب بخطه بين الأسطر: خلا ما فيها من حقّ لمسلم أو معاهد.
__________
[1149] قوله: «احذر صولة ... » منسوب لاردشير في ربيع الابرار 213 ب وقد ورد تخريجه في رقم: 805.
[1152] ربيع الابرار: 313 ب (بين المعتز وابن أبي الشوارب) .
29 1 التذكرة(1/449)
[1154]- دخل أبو مجلز على قتيبة وهو بخراسان، وهو يضرب رجلا بالعصا فقال: أيها الأمير إن الله جعل لكلّ شيء قدرا، ووقّت له وقتا، فالعصا للأنعام والهوامّ والبهائم العظام، والسوط للحدود والتعزير، والدرّة للأدب، والسيف لقتال العدوّ والقود.
[1155]- قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: وافاني كتاب المعتزّ وكتاب أحمد بن إسرائيل مع رسول ومعه رأس بغا، وفي الكتب أن أنصبه على الجانبين، فلم أفعل وكتبت: قد أوجب الله تعالى عليّ نصح أمير المؤمنين من جهات منها ما تقتضيه الديانة وتوجبه الأمانة، ومنها اصطناع آبائه لخدمهم من أسلافي، ومنها اختصاصه إياي بجميل رأي، ومع هذا فلم أكن لأذخر عنه رأيا مع ما أنا عليه من المناصحة والشكر، وإن الكتب وردت عليّ بنصب رأس بغا في الجانبين، وقد أخّرت ذلك إلى أن يعود إليّ الأمر بما أعمل عليه، وبغا فقد علمت أنه عدوّ أمير المؤمنين وعدوّك، وقد أراح الله تعالى منه بحيث لم تتّهموا فيه، وأخاف أن يتبعكم الأتراك عند أوّل شغبة به، ويطالبوكم بدمه، ويجعلوا ذلك ذريعة إلى إيقاع سوء. وكان الصواب عندي أن يغسله أمير المؤمنين ويصلّي عليه ويدفنه ويظهر حزنا ويقول: ما أحبّ أن يصاب صغير منكم ولا كبير، وقد غمّني أمر بغا، ولو وصل إليّ لزدت في مرتبته، وما يشبه هذا.
فورد عليّ كتاب أحمد بن إسرائيل يشكر ما كان منّي، ويحلف أنه سبقني إلى هذا الرأي واجتهد فيه، فما أمكنه إلا أن يفعل ما فعل، ولم يقبل قوله، وفي آخر كتابه: واعلم أنه قد حدث بعدك، وهو مما لا نعرفه نحن ولا أنت، رأي للحرم والخدم يقبل ويعمل عليه، وهذا فتح للخطأ وإغلاق للصواب، فانصب الرأس قليلا ثم أنفذه إلى خراسان.
[1156]- كتب الفضل بن الربيع إلى عبد الله بن سوار يسأله أن يشتري
__________
[1154] البيان والتبيين 3: 45 ونثر الدر 4: 83 وكتاب العصا: 304.
[1156] نثر الدر 5: 45 وأخبار القضاة 2: 156 ولقاح الخواطر: 64/أ.(1/450)
له ضيعة فكتب إليه: إن القضاء لا يدنّس بالوكالة.
[1157]- قال بعض صحابة أبي العباس السفاح: غضب أبو العباس السفاح على بعض أصحابه فأبعده، فذكره ليلة من الليالي، فقلت: لو رآه أعدى خلق الله له لرحمه، قال: ممّ ذلك؟ قلت: لغضب أمير المؤمنين عليه، فقال: ما له من الذنب ما تبلغ به العقوبة هذا المبلغ، قلت: فمنّ عليه يا أمير المؤمنين برضاك، قال: ما هذا وقت ذاك. قلت: إنك يا أمير المؤمنين لما صغّرت ذنبه طمعت في رضاك. قال: إنه من لم يكن بين غضبه ورضاه مدة طويلة لم يحسن أن يغضب ولا يرضى.
[1158]- قال عبيد الله بن سليمان: كنت أكتب بين يدي أبي سليمان داود بن الجراح، فقال لي يوما: اكتب: أطال الله بقاءك وأعزّك وأكرمك وأتمّ نعمته عليك وإحسانه إليك، كتب الوكيل- أعزك الله- متّصلة بشكرك، والضيعة ضيعتك، وكلّ ما تأتيه في أمرها فموقعه يحسن منّي، وشكري يتضاعف عليه، وخطابا في هذا المعنى، وكانت هذه المخاطبة لا يخاطب بها إلا صاحب مصر أو فارس، فقلت: قد ابتاع ضيعة بأحد الموضعين؛ ثم أصلح الكتاب فقال: عنونه إلى الرخّجي، وكان يتقلّد النهروان الأوسط. ثم رمى إليّ كتابا لصاحب بريد فقال: وقّع عليه: أنت أعزّك الله تقف على ما تضمّنه هذا الكتاب، ولئن كان ما تضمنه حقا لأفعلنّ ولأصنعنّ، وخطابا أغلظ فيه، ثم قال عنونه إلى الرخّجي، فعجبت من الكتابين، وفطن لما في نفسي فقال: أظنّك قد أنكرت الخطابين، هذه ثناءتي خدمتها، وهذا حقّ سلطاني استوفيته.
[1159]- قال عليّ بن مخلد: كنت واقفا على رأس المنصور وأنا
__________
[1157] التاج: 92.
[1158] نثر الدر 5: 4 والبصائر 3/أ: 194- 196.(1/451)
غلام، فما رأيت ملكا ولا سوقة كان أفسح منه أخلاقا، ولا أقلّ ضربا وشتما لملك يمين، وكان ربّما دعا الغلام من غلمانه لبعض ما يحتاج إليه فيسمع نداءه فلا يجيبه، قال: فسمعته يوما يقول للربيع: ما أدري كيف أصلح غلماني وخدمي؟
أصوّت للواحد منهم أصواتا فلا يجيبني وأنا أعلم أنه قد سمع. قال: يا أمير المؤمنين، لنت لهم غاية اللين فلو غلظت عليهم بعض الغلظة استقاموا. فقال:
ابغني سوطا ومسمارا، فأتاه بهما فعلّق السوط تجاه مجلسه فكان إذا صاح بالخادم وافاه عشرون في لحظة، فقال: قاتل الله القائل: [من الكامل المجزوء] .
العبد يقرع بالعصا ... والحرّ تكفيه الملامه
[1160]- قال الفضل بن يحيى لرجل استبطأ عدة الرشيد، وكان من أهل بيته: إنما شغل عنك أمير المؤمنين حقوق أهل الطاعة دونك، ولو فرغ منهم إليك لم يؤثر من دونك عليك، فقام أبوه يحيى فقبل رأسه.
[1161]- كان المعتضد بالله من ساسة الخلفاء وذوي التدبير، وسمّي السفاح الثاني لأنه جدّد الدولة العباسية بعد دروسها، ولي بعد المعتمد عمّه وكان مستضعفا حتى أنه طلب ما يراعي به مغنّية عنده، فلم يعط وقصرت يده عنه فقال: [من الوافر] .
أليس من العجائب أنّ مثلي ... يرى ما قلّ ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه
وكان تؤخذ جواريه غصبا فلا يقدر على الامتناع وليس هذا موضع أخباره. فلما ولي المعتضد لم يجد في بيت المال غير سبعة وعشرين درهما زائفة،
__________
[1161] تولى الخلافة (279- 289) ، وقارن ما ذكره هنا بما في تاريخ الخلفاء: 399 وخلاصة الذهب المسبوك: 235 وابن الكازروني: 164- 165 وابن العمراني: 140، وبيتا المعتمد في تاريخ الخلفاء: 394.(1/452)
ووجد الدنيا خرابا فعمرها بالعدل، حتى صار دخل المملكة يزيد على الخرج في كلّ سنة ألف ألف دينار، بعد الخرج والنفقات على التمام والكمال، واستيفاء الجيوش وسائر المرتزقة جاريهم على الإدرار من غير مطالبة او إذكار بسببه، وكان هذا الفاضل في بيت مال الخاصّة لا ينفق منه شيء البتة، ولا يحتاج إليه في وجه من الوجوه، وأخّر النوروز إلى أحد عشر يوما من حزيران حيث تتكامل جميع الغلّات الشتوية والثمار، فيأخذ الخراج في أوانه من غير إضرار بتقديمه، وأمر بالزيادة في المسجد الجامع بمدينة أبي جعفر، وأمر بتسهيل عقبة حلوان وقال: هذا طريق الملك. فسهّلت إلى الموضع المعروف بدهليزان، وأنفق عليها عشرون ألف دينار، وأمر بردّ المواريث على ذوي الأرحام، ولما أراد بناء قصره بالشمّاسية بأعلى بغداد، استزاد في الذّرع بعد أن فرغ من تقدير جميع ما أراده للقصر، فسئل عما يريد ذلك له، فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتّب في كلّ موضع منها رؤساء كلّ صناعة ومذهب، من كلّ مذاهب العلوم النظريّة والعملية، ويجري عليه الأرزاق السنيّة، ليقصد كلّ من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. ولو مدّ له في العمر حتى يفعل هذا، لظهر فضل هذه الأمة على سائر الأمم، ولكن حالت المنية دون الأمنية، ولله أمر هو بالغه وهو أعرف بمصالح عباده.
[1162]- وكان عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد من العقلاء ورجال التدبير. قال علي بن عيسى بن داود بن الجراح: دخلنا إليه لما فتح هو وبدر المشرق، وفتح المعتضد والقاسم بن عبيد الله معه ديار بكر، وذلك في آخر سنة ستّ وثمانين ومائتين، وكنت أنا وعمّي محمّد بن داود والقاسم، فجعل القاسم ونحن بعده نهنّىء عبيد الله باستمرار الصلاح في جميع البلاد، وسكون النفوس، وسقوط جميع الأعداء في أقطار المملكة، قال: وعبيد الله يسمع وهو مطرق، ثم رفع طرفه وجعل ينظر إلى ابنه القاسم نظر متعجب، ثم(1/453)
قال: الساعة والله يا بنيّ وقعنا نحن في الشّغل والخوف، لأنّ عادة هؤلاء القوم، يعني الخلفاء، إذا خلص لهم الملك وانتظم، الفكر في أقرب الناس منهم والإقدام على الإيقاع بهم وهم الوزراء، وحقّ الوزير أبدا أن يشغل قلب سلطانه بالشيء بعد الشيء يلقيه إليه مما يحذره ويخشى سوء عاقبته، فتدعوه الضرورة عند ذلك إلى اتصال الفكر فيه والاعتماد على وزيره في تلافيه، فإذا خلا من ذلك صرف همّه وفكره إلى الأقرب فالأقرب منه، فلم تؤمن بادرته ولم يسلم من معرّته وتغيير أمره وملالته، إما ضجرا باتصال خدمته وطول معاملته، وإما طمعا في ماله وحاله وشرها إلى نعمته. قال: فورد على القاسم من قول أبيه وعلينا ما علمنا أنّه قال الحقّ، مع ممارسته للأمور، وما شوهد ونقل من الأخبار في ذلك.
[1163]- وقال المحسّن بن علي بن محمد بن الفرات، قال لي أبي: يا بنيّ إن خدمت هؤلاء الخلفاء، فلا تترك حالا تقدر عليها في إزعاجهم وإرهابهم إلّا اجتلبتها وأوردت خبرها عليهم، حتى يكون قلب من تخدمه أبدا مشغولا منخوبا غير مفكر فيك، فإنه إذا فرغ قلبه مما يتخوّفه عاد بالمكروه عليك وانصرف به إليك ولم يفكّر إلا فيك.
[1164]- لما أسرف الحجاج في القتل بالعراق وإعطاء أصحابه الأموال، كتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد فقد بلغني سرفك في الدماء وتبذير الأموال، ولا أحتمل هاتين لأحد من الناس، وقد حكمت عليك في الدّم بالقود في العمد، والدّية في الخطأ، وأن تردّ الأموال إلى مواضعها، فإنما المال مال الله ونحن أمناؤه، وسيّان منع حقّ وإعطاء باطل، فلا يؤمّننك إلا الطاعة ولا يخيفنّك إلا المعصية، وكتب في أسفل كتابه: [من الطويل] .
__________
[1164] مروج الذهب 3: 341- 342 ووفيات الاعيان 2: 35 والمستطرف 1: 52.(1/454)
إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها ... وتطلب رضائي بالذي أنت طالبه
وتخشى الذي يخشاه مثلك هاربا ... إلى الله منه ضيّع الدرّ حالبه
وإن تر منّي غفلة قرشيّة ... فيا ربّما قد غصّ بالماء شاربه
وإن تر منّي وثبة أمويّة ... فهذا وهذا كلّه أنا صاحبه
فلا تعد ما يأتيك مني، فإن تعد ... تقم فاعلمن يوما عليك نوادبه
[1165]- ومن الآراء السديدة ما فعله أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات بعد فتنة ابن المعتز فإن ابن المعتز لما تفرّق أصحابه وهلك، واستقام الأمر للمقتدر في ملكه استوزر أبا الحسن ابن الفرات فظفر بصندوقين عظيمين فيهما جرائد بأسماء من بايع ابن المعتز فلم يفتحهما ولا قرأ الجرائد، ودعا بنار عظيمة، وألقى الصندوقين فيها وقال: لا حاجة بنا إلى الوقوف على ما فيها فتفسد نية أمير المؤمنين في [كلّ] أوليائه، ويستشعرون هم الخوف منه، وقد عفا أمير المؤمنين عن كل من كان له في أمر ابن المعتز فعل أو قول. واقتدى في هذا الفعل بأخيه أبي العباس ابن الفرات.
[1166]- وكان عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد لما عاد من الجبل حضر عنده أبو العباس فسلّم إليه أضابير وقال له: يا أبا العباس سعايات وصلت إلينا بالجبل من أسبابك ووكلائك وأصحابك، فقف عليها لتعرف وليّك منهم وناصحك من عدوّك والغاشّ لك، فابتدا أخوه أبو الحسن يقرأها، فجذبها أبو العباس من يده ومنعه من قراءتها وقال: لا حاجة بي إلى الوقوف عليها، ولست أقابل نعمة الله في التفات الوزير إليّ ورأيه فيّ وحراسته إياي بفساد نيّتي في أسبابي وأصحابي ومقابلتهم على فعلهم. وفعل أبي الحسن هذا
__________
[1165] تجارب الأمم 1: 13- 14 والأذكياء: 47- 48.
[1166] كتاب الوزراء: 83 وتحفة الوزراء: 155.(1/455)
مجرّد سياسة ونظر للملك، وفعل أبي العباس مع أنه ما خلا من سياسة وأدب فهو بكرم الأخلاق أليق وأولى.
[1167]- ومن صائب الرأي ما كان يفعله أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي فإن صاحبه معزّ الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه، كان حديدا سريع الغضب بذيء اللسان يشتم وزراءه ويسبّهم، وكان المهلبيّ مع فضله وعلمه وكمال مروءته وأدبه، يصبر من ذلك على ما لا يصبر عليه أحد، ولا ينكسر لما يبدو منه في حقّه. فقيل له: لو أظهرت الانخزال والانكسار لكان أصلح لئلا يظنّ بك تهاونا بأمره. فقال: ليس يخفى عليّ ذلك، ولكنّ هذا الأمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذيانه، وقع له أني قد تنكّرت له وأنّي لا أناصحه، ولعله يتّهمني بما لا يدور في فكري فيكون سببا لجائحة ونكبة، وليس له غير التغافل والتبسّم في وجهه إذا أمكن، فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلا قلة الفكر فيه.
[1168]- ذكر أنّ فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام أعطت ولدها من الحسن بن الحسن ما ورثته منه، وأعطت ولدها من عبد الله بن عمرو بن عثمان موروثها منه، فوجد ولد الحسن بن الحسن في أنفسهم، لأن ما ورثت من عبد الله بن عمرو كان أكثر، فقالت: يا بنيّ، إني كرهت أن يرى أحدكم شيئا من مال أبيه بيد أخيه فيجد من ذلك في نفسه فلذلك فعلت ما فعلت.
[1169]- وكان عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو بن الحسن بن بويه من ساسة الملوك، وله في ذلك أخبار مشهورة وأفعال مستحسنة، ولما ملك
__________
[1167] تجارب الامم 2: 146.
[1169] تجارب الامم 2: 404.(1/456)
بغداد والعراق وجدها خرابا، والأسواق بعضها تلول بالحريق، والجوامع خراب، فبدأ بعمارتها وعمارة الأسواق، وألزم أرباب العقار بالعمارة، فمن قصّرت قدرته عن النفقة اقترض من بيت المال ما ينفقه عليها وذلك في الأسواق والدور، وكان ببغداد أنهار كثيرة فيها مرفق للمحالّ البعيدة عن دجلة قد انقطعت ودرست فابتدأ بحفرها مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزازين ونهر الدجاج ونهر طابق ونهر القلائين ومسراها إلى دجلة والصراة ونهر اشتقّ من دجيل إلى الحربية وعمر القناطر ورتّب أمر الجسر وجعل له الدرابزينات تحفظ من يجتاز به ووكّل به الحفظة واستقصى في عمارة السواد، وعمر طريق مكة ورفع الجباية عنها، وأطلق الصدقات والصلات لسائر طبقات الناس من المسلمين، ثم تجاوز ذلك إلى الذمة.
30 1 التذكرة(1/457)
الفصل السّادس نوادر هذا الباب
هذا باب جدّ لا مدخل للنوادر فيه، لكنّي تكلفت منه ما شرطته في أول الكتاب من اتباع كلّ باب بنوادره، ووجدت ذلك يتهيأ فيما كان أصله جدا فعدل به إلى الهزل، وأصله هزلا فاستعمل فيه الأدب والسياسة، أو ما حصل الاشتراك بينهما فيه، فحسن إضافته إليه من جهة الاشتراك، واقتصرت منه على ما لا تليق الحال بالزيادة عليه.
[1170]- بلغ معاوية أن ابنته امتنعت على ابن عامر في الافتضاض، فخرج إليها يتوذّف في مشيته، وفي يده مخصرة، فجلس وجعل ينكت في الأرض ويقول: [من الطويل] .
من الخفرات البيض أما حرامها ... فصعب وأما حلّها فذلول
وخرج ودخل ابن عامر فلم تمتنع عليه.
[1171]- وقال معاوية: العيال أرضة المال.
[1172]- قال أبو الزناد: كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز، وكان
__________
[1170] نثر الدر 3: 7 وتاريخ ابن عساكر (تراجم النساء) : 461.
[1171] أنساب الاشراف 4/1: 26 وعيون الاخبار 1: 245، 4: 81 وبهجة المجالس 2: 194 (سوس المال) ومحاضرات الابرار 2: 250 (للأصمعي) والبصائر 1: 266 ورحلة النهروالي: 153 وشرح النهج 18: 339.
[1172] الجهشياري: 54- 55 والعقد 3: 9 والبيان والتبيين 12: 28 وقارن بابن سعد 5: 381.(1/459)
يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه فيها، فكتب إليه: يخيّل إليّ أنّي لو كتبت إليك أن تعطي لرجل شاة لكتبت إليّ: أضأن أم ماعز، ولو كتبت إليك باحداهما: لكتبت: أذكر أم أنثى، ولو كتبت إليك بإحداهما لكتبت: أصغير أم كبير، فإذا أتاك كتابي هذا فلا تراجعني فيها.
[1173]- وكتب أبو جعفر إلى سلم يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم ابن عبد الله بن الحسن وعقر نخلهم، فكتب إليه: بأيّ ذلك نبدأ بالدور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد فإني لو أمرتك بإفساد تمرهم لكتبت تستأذن بأيّه تبدأ بالبرنيّ أو الشهريز؛ وعزله وولّى محمد بن سليمان مكانه.
[1174]- قال [أبو] عيسى بن المنجم: سمعت الصاحب يقول: ما أستأذن على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلّا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذّل بين يديّ وما مازحني قط إلّا مرة واحدة، فإنه قال لي في شجون الحديث: بلغني أنك تقول: المذهب الاعتزال والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهية لانبساطه وقلت: بنا من الجدّ ما لا نفرغ معه إلى الهزل، وذهبت كالمغاضب، فما زال يعتذر إليّ مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري هذا المجرى.
[1175]- قال الوليد بن يزيد لابن ميّادة: من تركت عند نسائك؟
قال: رقيبين لا يخالفاني طرفة عين: الجوع والعري، فهذا البدويّ قد ساس النساء بما يليق بهن إما اضطرارا أو تدبيرا أو رأيا.
__________
[1174] يتيمة الدهر 3: 203.
[1175] الاغاني 2: 383 وأضاف أبو الفرج: «وهذا القول والجواب يروى أن عمر بن عبد العزيز وعقيل بن علفة تراجعاهما» وانظر الاغاني 12: 260- 261 وقارن بما في البصائر 2: 617.(1/460)
[1176]- عاتب المنصور أصحابه على أن أبق غلام له ولم يطلبوه ولم يخبروه قبل هربه بما عزم عليه، ووبّخهم ونسبهم إلى ترك النصيحة له. فقال لهم ابن عياش المنتوف: ولّوني جوابه، قالوا: أنت وذاك، فقال للرسول:
تبلّغه كما أبلغتنا؟ قال: نعم، قال: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له إنك اخترتنا من بين عشائرنا وبلداننا فظننا أردتنا لأن نكون جلساءك والمجيبين للوفود إذا قدموا عليك، والخارجين لرتق الفتوق إذا انفتقت عليك، فاما إذ أردتنا لمن يأبق من غلمانك، فبزيع غلامك يريد أن يأبق فاستوثق منه.
[1177]- وقف عبد الله بن الزبير على باب منّة- مولاة لمعاوية كانت ترفع حوائج الناس إليه- فقيل له: يا أبا بكر تقف على باب منة؟! قال:
نعم، إذا أعيتك الأمور من رؤوسها فأتها من أذنابها.
[1178]- قال العلاء بن أيوب: ما تكلم الفضل بن سهل قطّ بكلام فيه جفاء إلّا مرة، فإنه ذكر الفضل بن الربيع فقال: ما يريد منا؟ ألم نوجّه إليه عبد الله بن أبي سمير؟ يريد أنه كان فحله.
[1179]- قال عنبسة بن سعيد: خرجت ليلة مع الحجاج فرأى رجلا واقفا على باب، فقال له: أما سمعت نداء الأمير؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج؟ قال: كنت ألازم غريما لي فلما كان في هذا الوقت جاءني إلى هاهنا ودخل إلى هذه الدار، وأنا لا أظنّ إلا أنها داره، وبقيت واقفا هاهنا. قال: ما أراك إلا صادقا، يا حرسيّ اضربا عنقه. ثم مضى وأنا معه
__________
[1176] نثر الدرّ 2: 197.
[1177] مجالس ثعلب: 346 ونثر الدر 3: 64 ومحاضرات الراغب 1: 568 وربيع الابرار:
204 ب (والاسم فيه: مية) وبهجة المجالس 1: 100 وتاريخ ابن عساكر (تراجم النساء) :
402 (وفيه: مية) .
[1179] المحاسن والأضداد: 34.(1/461)
فرأى رجلا واقفا فقال له مثل ذلك، فقال له: كنت عند أمي وهي مثقلة بالعلّة فأفاقت في هذه الساعة، وجاءتني امرأة فقالت: قد ولدت امرأتك، فعزمت عليّ أمي أن أمضي فخرجت، وهذا باب أمي وهذا بابي، فقال: ما أراك إلّا صادقا، يا حرسيّ اضربا عنقه. ثم مضى وأنا معه، فرأى رجلا شاربا فقال: ألم تسمع نداء الأمير؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج؟ قال: خذلان الله وانه ماصّ كذا أو كذا فقال: ما أحسبك إلّا صادقا خلّيا عنه.
[1180]- لقي أبو العيناء الفتح بن خاقان في حاجة فوعده ثم لقيه فوعده، فلما كان في الثالثة ألفاه على حال ضجر، فقال له الفتح: أما علمت أنه من طالب السلطان احتاج إلى ثلاث خلال؟ قال: وما هنّ، أعزّ الله الأمير؟ قال: عقل وصبر ومال، فقال أبو العيناء: لو كان لي عقل لعقلت عن الله تعالى أمره ونهيه، ولو كان لي صبر لصبرت منتظرا رزقي أن يأتيني، ولو كان لي مال لاستغنيت به عن تأميل الأمير والوقوف ببابه.
[1181]- حدّث مخلد بن زردي الكاتب المدائني وكان يلقّب بلبد لطول عمره، أنّ المأمون أول ما قدم العراق حظر أن يقلّد الأعمال إلّا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان فطالت عطلة كتّاب السواد وعمّاله، وكانوا يحضرون في كلّ يوم حتى ساءت حالة أكثرهم فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة، وكان مغفلا، فتأمّل وجوههم فلم ير فيهم أسنّ من مخلد فجلس إليه وقال: إنّ أمير المؤمنين قد أمرني أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقّع بتقليدي إياها، فاختر لي أنت ناحية، فقال: إنّي لا أعرف لك عملا أولى من زبدات البحر وصدقات الوحش وخراج وبار، فقال: اكتبه لي بخطّك فكتبه؛
__________
[1180] زهر الآداب: 203- 204 ومعجم الأدباء 14: 53 (عن علي بن عبيدة) ومحاضرات الراغب 1: 192.(1/462)
فذهب الشيعيّ حتى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل، فقال له: من كتب لك هذه الرّقعة؟ قال: شيخ من الكتّاب يحضر الدار كلّ يوم، قال: هلمّه، فلما أدخل قال له المأمون: ما هذا يا جاهل قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصّل استخراجه، وصار في أيديهم، فأما شروط الخراج وحكمه وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إيقافه، وما يجب الاحتساب به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب المال، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن نضمّ إلى كلّ رجل منهم رجلا منّا ليكون الشيعي لحفظ المال ونحن لجمعه، فرضي المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمال السواد وكتابه، وأن يضمّ إلى كلّ واحد منهم واحد من الشيعة، وضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ وقلّده ناحية جليلة.
[1182]- قيل كان محمد الأمين يلاعب الفضل بن الربيع بالنرد ورهنا خواتيمهما على القمر، فقمر محمد الفضل فصار خاتمه في يده، وكان نقشه، «الفضل بن الربيع» ونهض ليبول وهو معه، فدعا بنقّاش فكتب تحت النقش في الفصّ «ينكح» ، ثم عاد إلى مجلسه وأحضر الفضل فكاك الخاتم فدفعه إليه، فلما كان بعد عشرة أيام دعا بالفضل وعاود ملاعبته، وأخذ الخاتم منه فتأمله وسأله عن نقشه فقال: اسمي واسم أبي، فقال له: أرى عليه شيئا سوى ذلك، ودفع الخاتم إلى الفضل فتأمله فلما رأى ما أحدث في نقشه لم يتمالك أن قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ
(الرعد:
11) هذا خاتم وزيرك يختم به إلى جميع الآفاق منذ عشرة أيام، ومن كاتبه أخوك الذي يظهر أنك لست موضعا للخلافة ويجمع خلعك، والله ما بقّيت من هتك نفسك عند اوليائك والمنافقين لك والمصرّحين ببغضك شيئا إلا وقد
__________
[1182] الجهشياري: 298- 299.(1/463)
أتيته، وما يضرّ ذلك الفضل ولا الربيع، والله المستعان؛ فما زاد محمد على الضحك.
[1183]- كان ركن الدولة أبو الحسن علي بن بويه ضعيف السياسة على خير فيه وكرم طبع، فخرجت له بغال للعلف فقطع عليها اللصوص وأخذوها، فلما أخبر بالحال قال: كم كانت البغال؟ فقيل: ستة. قال:
واللصوص؟ قيل: سبعة. قال: الآن يختلفون، كان ينبغي أن تكون البغال سبعة حتى تصحّ قسمتها بينهم.
[1184]- وذكر له أكراد قطعوا الطريق فقال: وهؤلاء الأكراد أيضا يحتاجون إلى خبز ومعيشة.
[1185]- ولّى زياد شيبان باب عثمان وما يليه، فجدّ في طلب الخوارج وأخافهم، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة وهو متكىء على بابه رجلان من الخوارج فضرباه بسيفيهما فقتلاه، وخرج بنون له للاغاثة فقتلوا ثم قتلهما الناس، فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج فقال: اقتلوه متّكئا كما قتل شيبان، فصاح الخارجيّ يا عدلاه، يهزأ به.
[1186]- قال بعض الملوك لوزيره وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد؟
قال: عقل يعيش به، قال: فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلّى به، قال:
فإن عدمه؟ قال: حال تستره، قال: فإن عدمه؟ قال: صاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد.
__________
[1183] تجارب الامم 2: 281.
[1184] تجارب الامم 2: 281.
[1186] نثر الدر 7: 40 (رقم: 68) والبيان والتبيين 1: 72، 221 وأدب الدنيا والدين: 31 والأدب الصغير: 30 وكتاب الآداب: 39 والتحفة الملوكية: 61- 62 وشرح النهج 18:
188 وربيع الابرار 1: 675 ولقاح الخواطر: 46/أوالكامل للمبرد 1: 75 وقارن بقول لبزرجمهر في البيان والتبيين 1: 7.(1/464)
[1187]- قيل: لما صرفت اليمانيّة من أهل مزّة الماء عن أهل دمشق ووجّهوه إلى الصحارى كتب إليهم أبو الهيذام: إلى بني استها أهل مزة، ليمسّيني الماء أو لتصبحنّكم الخيل، قال: فوافاهم الماء قبل أن يعتموا. قال أبو الهيذام: الصدق ينبي عنك لا الوعيد.
[1188]- وكان أعرابيّ باليمامة واليا على الماء، فإذا اختصم إليه اثنان وأشكل عليه القضاء حبسهما جميعا حتى يصطلحا، وقال: دواء اللّبس الحبس.
[1189]- ولي أعرابيّ تبالة، فصعد المنبر، فما حمد الله تعالى ولا أثنى عليه حتى قال: اللهم أصلح عبدك وخليفتك، إن الأمير أصلحه الله ولّاني عليكم، وأيم الله ما أعرف من الحقّ موضع سوطي هذا، واني والله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا ضربته حتى يموت، قال: فتعاطى القوم الحقّ بينهم فرقا أن يتقدّموا إليه.
[1190]- أقبل عيينة بن حصن الفزاريّ قبل إسلامه الى المدينة، فلقيه ركب خارجون منها، فقال لهم: أخبروني عن هذا الرجل- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- فقالوا له: الناس فيه ثلاثة: رجل أسلم فهو معه يقاتل قريشا والعرب، ورجل لم يسلم فهو يقاتله وبينهم التذابح، ورجل يظهر له الإسلام إذا لقيه ويظهر لقريش أنه معهم، قال: وما يسمّى هؤلاء؟ قالوا:
__________
[1187] البيان والتبيين 1: 301 وعيون الأخبار 1: 197 والريحان والريعان 1: 46 ونثر الدر 6:
111 وقوله: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» مثل عند أبي عبيد: 321 وجمهرة العسكري 1: 578 والميداني 1: 398 والمستقصى 1: 328 وفصل المقال: 448 واللسان (نبا) .
[1188] محاضرات الراغب 1: 196 والبصائر 3/2: 472 وربيع الابرار 1: 520 ونثر الدر 6:
112.
[1189] أخبار الظراف: 71.
[1190] عيون الاخبار 3: 73.(1/465)
المنافقون، قال: ليس في من وصفتم أحزم من هؤلاء، أشهدكم أنّي من المنافقين.
[1191]- الخولاني: [من الكامل] .
إنّ السياط تركن لاستك منطقا ... كمقالة التمتام ليس بمعرب
[1192]- شكت أعرابية زوجها إلى صواحب لها، فقلن: طلّقيه، فقالت: اشهدن أنه طالق ثلاثا، فاختصموا إلى والي الماء، فتكلّمت فقال لها: إيها أمّ فلان، لا تجوري فنحاربك، الزمي الطريق المهيع، ودعي بنيّات الطريق، كيف قلت؟ قالت قلت: هو طالق ثلاثا؛ ففكّر الوالي ساعة ثم قال: أراك تحلّين له ولا أراه يحلّ لك.
[1193]- تظلّم قوم إلى المأمون من قاضي جبّل، وذكروا أنه يعضّ رؤوس الخصوم، فوقّع في قصتهم: يشنق «1» إن شاء الله.
[1194]- مدح بعض الشعراء محمد بن عبدوس صاحب الشرقية، فقال له: أما أن أعطيك شيئا من مالي فلا، ولكن اذهب فاجن جناية حتى لا آخذك بها.
__________
[1192] نثر الدر 6: 115.
[1193] نثر الدر 3: 41 وثمار القلوب: 236 وأخبار القضاة 3: 317 (والنص فيه مصحف) ومحاضرات الراغب 1: 77، 199 والاجوبة المسكتة رقم: 1128.
[1194] غرر الخصائص: 300 وربيع الابرار 1: 758- 759 والاجوبة المسكتة رقم: 1245.(1/466)
محتويات الكتاب
مقدمة التحقيق 5
1- مؤلف الكتاب 5
2- كتاب التذكرة الحمدونية 10
3- النسخ المعتمدة في التحقيق 14
4- ملاحظات حول التحقيق 16
مقدمة المؤلف 21
أبواب الكتاب الخمسون 24
الباب الأول في المواعظ والآداب الدينية وسيرة السلف الأول والصالحين 31
مقدمة الباب الأول 33
الفصل الأول:
من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم 37
[من كلام بعض الأنبياء] 57
الفصل الثاني:
كلام القرابة وآدابهم وآثارهم ومواعظهم 63
أقوال لعلي بن أبي طالب 64
أقوال للحسن بن علي 101
أقوال للحسين بن علي 102
أقوال لمحمد بن الحنفية 102
أقوال للعباس وابنه عبد الله وحفيده علي 103(1/467)
أقوال لعلي بن الحسين وجعفر الصادق والباقر وغيرهم 108
الفصل الثالث:
كلام الصحابة ومأثور أخبارهم وسيرهم 119
خطب وأقوال لأبي بكر 119
خطب وأقوال لعمر 120
أقوال لمعاذ وأبي ذر وسلمان وابن مسعود 130
أخبار وأقوال لسائر الصحابة دون ترتيب معتمد 131
الفصل الرابع:
في أخبار التابعين وسائر طبقات الصالحين وكلامهم ومواعظهم 149
أخبار وأقوال لعمر بن عبد العزيز 150
أخبار وأقوال لسائر التابعين دون ترتيب معتمد 156
بعض أخبار إبراهيم بن أدهم 175
عود إلى أخبار وأقوال متنوعة للتابعين 180
مجموعة من شعر الحكمة 207
أخبار وأقوال للشافعي وأبي حنيفة 208
أقوال قيلت في لحظات الاحتضار 216
حكم نثرية وشعرية 219
الباب الثاني في الآداب والسياسة الدنيوية ورسوم الملوك والرعية 235
توطئة للباب الثاني 237
فصول الباب 238
مقدمة 239
الفصل الأول:
في الحكم والآداب التي نطق بها الحكماء والعلماء 241
من كلام الرسول والصحابة وغيرهم 241(1/468)
أشعار حكمية 265
عود إلى الحكم النثرية 272
عود إلى الأشعار الحكمية 282
عود إلى الحكم النثرية 287
الفصل الثاني:
في السياسة والآداب الملكية وما يجب للولاة وعليهم للرعية 291
أدب الملوك والسلاطين والولاة 294
عهد علي إلى الأشتر- نموذج جامع لأصول السياسة 315
الفصل الثالث:
في سياسة الوزراء والكتّاب وأتباع السلطان 331
آداب صحابة السلاطين (من الأدب الكبير) 332
كلام للقدماء في آداب أتباع الملوك 338
الكتّاب ورسالة عبد الحميد إليهم 342
القضاء والمظالم 347
الحجاب وغيرهم من أتباع السلطان 349
توجيهات لعمال الصدقات وقادة الحروب 351
مزيد من الوصايا لأتباع السلطان 353
الفصل الرابع:
الآداب والسياسة التي تصلح للجمهور 357
أقوال للرسول 357
أقوال لعلي وغيره 362
أقوال في ذمّ الهوى خاصة 366
عود إلى حكم ونصائح مختلفة 368
آراء في العداوة 377
أقوال في ضرر المزح 379(1/469)
جوامع من الآداب مأخوذة من الأدب الكبير 386
وصايا للعرب 395
الفصل الخامس:
أخبار في السياسة والآداب 403
نموذج من سياسة كسرى أنوشروان 403
نموذج من سياسة الاسكندر 406
أخبار عن الخلفاء والولاة في الاسلام 408
سياسة معاوية وزياد 413
سياسة أبي جعفر المنصور وحزمه 417
سياسة المهتدي واقتداؤه بالمنصور 422
عود إلى سياسة المنصور 423
بعض المواقف السياسية للمأمون 423
عود إلى سياسة بعض الأمويين وغيرهم 429
الهادي وأمه الخيزران 435
سبب خروج المعتصم إلى سرّ من رأى وشيء من سياسته 436
أخبار للاسكندر 438
أخبار متنوعة حول السياسة 439
من أخبار أحمد بن طولون 443
موقف هام للمعتضد 444
سياسة الحجاج وزياد 446
من أخبار الدولة العباسية وبخاصة الوزراء 449
الفصل السادس:
نوادر في باب السياسة (على قلتها) 459(1/470)
الجزء الثاني
التذكرة الحمدونيّة تصنيف ابن حمدون محمّد بن الحسن بن محمّد بن علي تحقيق احسان عبّاس وبكر عبّاس المجلّد الثّاني دار صادر بيروت(2/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة التحقيق
1 يشتمل هذا الجزء (الذي جعلته ثانيا) من التذكرة الحمدونية على أربعة أبواب، وإنما راعيت في هذه التجزئة أمر الحجم وحده بحيث يجيء هذا الجزء مقاربا للأول في عدد صفحاته، فأما التجزئة في النسخ الخطية فإنها متفاوتة ولا تعتمد قاعدة موحدة.
وقد تضمنت الأبواب الأربعة الموضوعات الآتية على التوالي:
1- الشرف والرياسة والسيادة (الفقرة 1- 370) .
2- محاسن الأخلاق ومساوئها (الفقرة 371- 664) .
3- الجود والبخل (الفقرة 665- 1006) .
4- الشجاعة والجبن (الفقرة 1007- 1234) .
ومن الواضح ان هذه القسمة تغليبيّة، إذ ان هذه الموضوعات الأخلاقية متداخلة في ما بينها في حالات كثيرة، ومن ثم يتعذّر الفصل الدقيق بين موضوع وآخر منها، ولو تأملنا الباب الرابع مثلا وهو في محاسن الأخلاق ومساوئها لوجدناه يشمل- كما لاحظ المؤلف نفسه- الصدق والوفاء والجود والبأس والصبر والقناعة والتواضع وأضدادها من المساوى، وإذن فإن عقد باب عام لهذا الموضوع يعدّ تزيّدا غير ضروري، ما دام المؤلف يعرف انه سيعقد أبوابا مستقلة لتلك الموضوعات فيتحدث عن الجود والبخل في الباب الخامس،(2/5)
والشجاعة والجبن في الباب السادس، والوفاء والغدر في الباب السابع، وهكذا.
وبسبب المسحة الأخلاقية العامة التي تسيطر على جميع موضوعات هذا الجزء، نجد ان تلك الموضوعات تسمح بإيراد استشهادات شعرية كثيرة تكاد توازي الجانب النثري في الكتاب؛ وهذا ما يميّز هذا الجزء عن سابقه تمييزا بعيدا، لذلك يعدّ هذا الجزء نقلة واضحة من جوّ دينيّ سياسيّ تختلط فيه التوجهات والقيم على نحو قد يتضمن مفارقة حادة بين التوجه للآخرة وسياسة الدنيا، إلى جوّ نابض بحيوية ما اختاره العرب من مثل عليا في جاهليتهم، وحافظوا عليه في الإسلام، فهذه النماذج الكبيرة للجوانب الإيجابية من المروءة:
من جود وصبر وشجاعة وحلم وعلوّ همة ومحافظة على الجوار وتهمّم بما يكفل السؤدد والسيادة تجيء في هذا الجزء منتزعة- في الغالب- من السلوك العملي الدنيوي، دون نظر إلى ثواب أخروي، وتجيء الجوانب السلبية المعاكسة لها نوعا من السخرية بمن يعجز عن بلوغ تلك النماذج العليا؛ وقد حاول المؤلف أن يرسم نوعا من السيادة عن طريق الدين، ولكنه كان يدرك أنه لو أسرف في هذه الناحية لعاد يدرج في الأبواب الجديدة مادة كالتي نثرها في الجزء الأول.
ولعلّ ابن حمدون لم يتعمّد أن يكون أكثر الحكايات عن مكارم الأخلاق من حلم وسؤدد وشجاعة متصلة بالعنصر العربي حتى عصره، ولم يتعمد كذلك أن تكون نسبة كبيرة منها إنما يمثلها رجال عاشوا في العصر الأموي، إذ لعلّ طبيعة الفصول هي المسؤولة عن ذلك، مثلما ان طبيعة المصادر التي يستمد منها مادته تشاركها هذه المسؤولية.
ثم إن تلك الموضوعات نفسها تطلبت من المؤلف أن يرجع إلى مصادر لم يكن لها دور واضح في الجزء السابق، وهنا تبرز أهمية كتاب الأغاني والكامل للمبرد وحماسة أبي تمام وحماسة البحتري والوزراء والكتّاب للجهشياري والفرج بعد الشدة للتنوخي والبخلاء للجاحظ ودواوين الشعراء: كديوان المتنبّي والرضي وابن هاني الأندلسي والببغا والسريّ الرفاء. وهذا لم يقطع الصلة بالمؤلفات المشهورة في الأدب: فظل دور البيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد(2/6)
والبصائر ونثر الدر ومحاضرات الراغب متميّزا، بل لعلّ «العقد» من بينها قد اكتسب أهمية خاصة. وبالمقارنة تبيّن مدى دين ربيع الأبرار ونهاية الأرب والمستطرف للتذكرة الحمدونية في ما أوردته من نصوص. إلى جانب ذلك تضاءل الدور الذي احتلته مصادر كانت محورا هامّا في الجزء الأول مثل حلية الأولياء، ونهج البلاغة، وكليلة ودمنة، والأدب الكبير لابن المقفع.
ومما يلفت النظر ان ابن حمدون تعرّف على بعض شعراء أفريقية، وهم في الأغلب ممّن ضمهم كتاب الأنموذج لابن رشيق، غير أن صورة الأندلس لا وجود لها، ومثل هذا الاحتجاب للدور الأندلسي- في القرن السادس الهجري- يعدّ مستغربا.
وفي هذا الجزء تزحزح ابن حمدون قيد فتر عن مجال الاعتماد الكلي على النقل إلى شيء من تسجيل تجاربه الذاتية، فهو يعرف الشيخ الزاهد أبا عبد الله محمد بن عبد الملك الفارقي ويروي عنه (الفقرة 167) ، ويحدثنا عن بعض رجالات عصره حديث العارف بهم المتتبع لأخبارهم مثل وزير الموصل الملقب بالجواد ويوسف بن أحمد الحرزي ومجاهد الدين قايماز صاحب إربل؛ وهو لسبب يصعب الكشف عنه أو الاهتداء إليه شديد التحامل على زنكي بن آق سنقر، من بين معاصريه، وينسب إليه أعمالا منكرة، تجعل منه جبّارا عتيّا، وينسى دوره في جهاد الصليبيين، ونشر العدل والأمن في ربوع بلاده.
ولعلّ من الإنصاف أن نقول إن ابن حمدون ناقل تعجبه الحكاية ويهمّه منها مدى انطباقها على موضوع الباب، وانه لا يحكمه في نقله ميل أو هوى- مذهبي أو سياسيّ- وان كتابه سيظلّ «أدبيّا» في المنزع العامّ، يرجح فيه جانب العبرة أو التسلية على موثوقية الخبر؛ ومن المغالاة أن نتطلب منه شيئا أبعد من ذلك.
(2) وقد اعتمدت في تحقيق هذا الجزء على النسخ الآتية:(2/7)
1- نسخة مكتبة عمومية رقم: 5363 (ورمزها: ع) ورقمها المتسلسل في معهد المخطوطات التابع للجامعة العربية (120) حسبما جاء في فهرس المخطوطات المصورة (ص: 435) وهي تشتمل على الأبواب 1- 14 وقد تمّ وصفها في الجزء الأول (انظر ص: 15) .
2- نسخة رئيس الكتاب رقم: 767 (ورمزها: ر) وتشمل الأبواب:
الثالث والرابع والخامس من هذا الجزء، وتعدّ من أقدم النسخ من حيث تاريخها، إذ تم نسخها سنة 646، وعلى الورقة الأولى منها انها تمثل «الجزء الثاني من كتاب التذكرة» وتقع في 163 ورقة، وعدد السطور في كل صفحة من صفحاتها 17 سطرا، ومعدل الكلمات في كل سطر 12 كلمة، وفي السطور فجوات بعضها يفيد أن الناسخ يعني بداية فقرة جديدة، وبعضها محض بياض دون أي حذف؛ وهي على وجه العموم حسنة الضبط قليلة الخطأ.
3- نسخة أحمد الثالث رقم: 2948 (ورمزها: ح) وتحمل الرقم:
122 في مصورات معهد المخطوطات (ص: 436) وتقع في 175 ورقة، وتبدأ بالباب السادس وتنتهي بالباب الرابع عشر، وخطها نسخي جميل، وفي الصفحة الواحدة منها 17 سطرا، ومعدل الكلمات في السطر الواحد 12 كلمة، وقد اقتصرت الإفادة منها في هذا الجزء على تحقيق الباب السادس وحده، وسيكون دورها أهم في تحقيق الجزء الثالث.
4- نسخة المتحف البريطاني رقم: 3179: وتقع في قسمين يضم الأول منهما الأبواب 1- 31 ويضم الثاني الأبواب 32- 47 وينقصها حتى تشمل كل التذكرة الأبواب الثلاثة الأخيرة، والقسم الأول منها يجيء في 452 ورقة والثاني في 272 ورقة، وهي مكتوبة بخط نسخي أقرب إلى الدقة، ولهذا تتسع الصفحة منها لثلاثة وثلاثين سطرا في كل سطر ما معدله 15 كلمة. وأقدم تملك عليها مؤرّخ بالعام 1004 وهو عام انتساخها أيضا، ومع انها حديثة نسبيّا فإنها هامة لضبط الترتيب وإبراز بعض الفروق المهمة، وقد انفردت- في هذا الجزء- بفقرة طويلة لم ترد في سائر النسخ وهي الفقرة 934 ب التي يتحدث فيها المؤلف(2/8)
بإعجاب عن معاصره مجاهد الدين قايماز صاحب مدينة إربل.
وقد اتبعت في تحقيق هذا الجزء الخطة التي سرت عليها في تحقيق الجزء الأول، فقمت بإثبات الفروق بين النسخ (وهي نسبيّا غير كثيرة) وتتبعت النصوص المنقولة في أماكنها الأصلية، وأثبت أحيانا بعض الفروق الضرورية لدى مقارنة التذكرة بالمصادر التي ثبت لديّ اعتماد المؤلف- دون ريب- عليها. ومما تجدر ملاحظته في هذا الجزء ان المواد التي سقطت من هذه المخطوطة أو تلك أقلّ بكثير من المواد التي كانت تخلّ بها إحدى المخطوطات في الجزء الأول، وان الاضطراب في ترتيب النصوص قليل كذلك.
ولقد كان المرجو أن يظهر هذا الجزء في وقت قريب من ظهور الأول، ولكن الأحداث الأليمة والكوارث المريرة التي تعرضت لها بيروت، قد عطّلت هذا العمل كثيرا تارة على مستوى التحقيق وتارة على مستوى الإخراج الطباعي، وإني لأرجو أن تكون الأجزاء اللاحقة أسرع تتابعا، دون إهدار لمستوى الضبط والإتقان.
3 ويقتضيني واجب الإقرار بالفضل توجيه الشكر إلى عدد من الأصدقاء، وفي مقدمتهم الدكتورة وداد القاضي التي أذنت لي بالاطلاع على نسختها المحققة تحقيقا جديدا دقيقا لكتابي البصائر (بأجزائه التسعة) والأجوبة المسكتة، فالأرقام التي أعتمدها عند الإحالة على هذين الكتابين إنما تمثل الأرقام التي أثبتتها المحققة لفقرات الكتابين المذكورين اللذين سيظهران وشيكا.
وما يزال أخي الدكتور رضوان السيد مدير معهد الإنماء العربي ببيروت بالوكالة، صاحب الفضل الكبير في رعاية هذا الكتاب والحرص على إخراجه فله وللمعهد أجزل الشكر وأصدقه.
أما صديقي العلّامة زهير الشاويش فإنه- حفظه الله- قدّم إليّ من بين هداياه المتواترة من مطبوعات المكتب الإسلامي، صحيح الجامع الصغير(2/9)
وضعيف الجامع الصغير (مرتبين مرقمين بعناية المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الألباني) وأشار عليّ باعتمادهما في تخريج الأحاديث، في ما يلي من أجزاء التذكرة، ففعلت ما أشار به شاكرا له فضله العميم ومقدّرا نصحه الكريم.
وللصديق الدكتور طريف الخالدي أتمّ التقدير لاهتمامه بالكتاب وبشخص محققه. لقد لامني محقّا من أجل جملة وردت في مقدّمة الجزء الأول (ص:
19) إذ وجدها تتنافي- حسب قوله- والخلق والمنهج العلميين اللذين حرصت عليهما دائما. فأنا أرجو أن يقبل اعتذاري عن هفوة جرّتني إليها تهجمات ظالمة.
وأخيرا لا آخرا أشكر اثنين من طلابي أسهما بالعون المشكور في إخراج هذا الكتاب وهما: الآنسة ناهد جعفر والسيد جمال خطاب، أسأل الله لهما التوفيق والرعاية، وأدعوه جلّ وعلا أن يسدّد الخطى وأن يلهم الصواب.
بيروت في تموز (يوليه) 1984 إحسان عباس.(2/10)
الباب الثّالث في الشّرف والرّئاسة والسّيادة وما هو من خصائصها ومعانيها [1]
__________
[1] زاد في م: وهو أحسن ما قيل.(2/11)
خطبة الباب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أثق الحمد لله الذي شرّف أولياءه بتقريبه واصطفائه [1] ، وأعلى منازلهم عن إسفاف الطمع وإدنائه، وجعل هممهم في عبادته دالة على أخطارهم، وعزائمهم في طاعته زنة لأقدارهم [2] ، فعبدوه [3] إذ كان للعبادة أهلا عبادة الأحرار، لا رغبة في الجنّة ولا رهبة من النار، أولئك ذوو الهمم العلية، والنفوس الأبيّة، عزفت عن الارتغاب [4] ، وعزّت عن ذلّة الإرهاب، فلم يعملوا للجزاء، ولا سبقوا عند الجراء، نعم [5] السابقون الأولون، والصدّيقون المقرّبون أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(المجادلة: 22) سادة في الدنيا والآخرة، وقادة في رقدة دار الغفلة ويقظة الساهرة. والصلاة [6] على رسوله المصطفى المبعوث من أشرف عمارة [7] وأرفعها حسبا، وأطهر قبيلة وأكرمها نسبا، المخصوص بصفة الكمال، الممنوح حلما يستخفّ [8] رواسي الجبال، وصفحا يفكّ العناة [9] وإن ثقلت مغارمهم، وعفوا يسع الجنّاة وإن عظمت جرائمهم، وعلى آله الحالّين أعلى المنازل والرتب، الباقي ذكر شرفهم على الأزمان والحقب، وسلّم وشرّف وكرّم. [10]
__________
[1] ع: بتقريبهم واصطفائهم.
[2] ر: لاقرارهم.
[3] م: فعبده.
[4] م: الاتعاب (دون إعجام) .
[5] م ر: هم.
[6] م: وصلواته.
[7] العمارة: (بفتح العين وكسرها) اصغر من القبيلة، وقيل هو الحيّ العظيم.
[8] م: يستحق.
[9] العناة: جمع عان، وهو الأسير.
[10] وسلم ... وكرم: سقط من ر م.(2/13)
مقدمة الباب
(الباب الثالث في الشرف والرياسة والسيادة وما هو من خصائصها ومعانيها) الرياسة أصلها علوّ الهمة، وقطبها الحلم، وزينها حمل [1] المغارم، وبهجتها حفظ الجوار، وحصنها حمي الذمار، وأنا ذاكر ما جاء في ذلك جملة وتفصيلا، ومجتهد في إضافة كلّ كلام إلى جنسه وشبيهه [2] ، ويدخل في الشرف والرياسة كفّ الأذى، وغضّ العين على القذى، وحياطة العشيرة، والايثار والتنزه والظلف والجود والبأس والصدق والوفاء وحسن الخلق والحياء، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، ولهذه الخصائص أبواب مفردة قد استوفيتها، والفرق بين المكانين أن الشرف والرياسة معنى يشمل جميع الفضائل بطريق الاستيلاء والاستتباع [3] ، وهما قسمان: أحدهما وهو الحقيقي: رياسة العلم والدين، وهو المنهج الواضح المبين، وتلك رياسة لا تنازع فيها، ومنزلة تزلّ عنها قدم مساميها، والآخر رياسة الدنيا، وهو المقصود بهذا المكان [4] ، فإن القسم الأوّل قد دخل بالإشارة في الباب الأوّل من هذا الكتاب.
وقد تحصل الرياسة بالولاية لكنها عارية مؤدّاة، وبلغة تفارقه عند العزل وتقلاه، وإذا خلت من الفضيلة زادت اشتهارا بالمخازي [5] ، وكشفت مكنون
__________
[1] ر: حمال.
[2] ر م: وشبهه.
[3] م: والاتباع.
[4] م: الكتاب.
[5] ع: بالحاوي.(2/15)
المساوي، وخلّدت الكتب والآثار من قبح الذكر [1] ، ما يبقى عاره وشناره على وجه الدهر. والرياسة عقبة كؤود، ومرتقى صعود، لا ينالها إلا من تجشّم فيها المشقّة، ولم يستبعد الشقّة، وقد أحسن القائل في وصفها: [من الوافر]
وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلبها طويل [2] .
أقوال وأخبار في السيادة والسؤدد
وأنا أضمّن هذا الباب ما جاء من الآثار والأخبار والأشعار في علوّ الهمة وحمل المغارم، وحفظ الجوار وحمي الذمار، والحمية والأنف والحلم والعفو والصفح والتثبت والأناة، وما شاكل هذه المعاني وقاربها، إذ كان ما عداها قد أتى في أماكنه، مستمدا من الله سبحانه حسن التوفيق والتسديد، ومستدعيا بشكر نعمه فضل المزيد، قال الله عز من قائل: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(الشورى: 43) وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ
(الشورى: 37) وقال عز وجل: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
(الشورى: 40) وقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
(الشورى: 39) .
«1» وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: من رزقه الله فبذل معروفه وكفّ أذاه فذاك السيّد [3] .
__________
[1] ع: ذكر.
[2] البيت في اللسان والتاج (صعد) والبيان والتبيين 1: 195، 270 والحيوان 2: 95، وعيون الأخبار: 226 وبهجة المجالس 1: 612 وهو للأعلم الهذلي كما في ديوان الهذليين: 323 والذخيرة 4:
499 وأكمة ذات صعداء: يشتد صعودها على الراقي؛ وقد تضبط «صعداء» .
[3] وقعت الفقرتان: 140، 141 في م بعد هذا الحديث ثم وردتا أيضا في موضعهما.(2/16)
«2» - قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: ببذل القرى، وترك المرا، ونصرة المولى.
«3» - وقيل لأبي سفيان: بم سدت قومك؟ قال لم أخاصم أحدا قطّ إلّا تركت للصلح موضعا.
«4» - من كلام سهل بن هارون: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعلّه أن يبلغ به حاجته مخافة ما لعلّه أن يوقّاه فليس ينال جسيما.
«5» - قال أبو بكر رضي الله عنه لسعيد الفهميّ: أخبرني عن نفسك في جاهليتك وإسلامك، فقال: أما جاهليتي فو الله ما خمت عن بهمة، ولا هممت بلمّة، ولا فاديت غير كريم، ولا رئيت إلّا في خيل مغيرة، أو حمل جريرة، أو في نادي عشيرة، وأما مذ خطمني الإسلام فلن أزكّي لك نفسي.
6- قال أفلاطون: إذا كبرت النفس استشعرت الخلود فعملت في العاجل ما يبقى لها في الآجل، وإذا صغرت استشعرت الفناء، فاستعجلت الأشياء خوفا من فواتها.(2/17)
«7» - قال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلا مذ كنت رجلا لأني لا أشاتم إلا أحد رجلين: إما كريم فأنا أحقّ من احتمله، وإما لئيم فأنا أولى من رفع نفسه عنه.
«8» - قال الكلبيّ: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز: ما تعدّون السؤدد؟ فقلت: أما في الجاهليّة فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية، وخير من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: لم يدرك الأوّل الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلّا بما أدرك به الأوّل، قال: قلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع [1] بمحبة العشيرة له، وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بهذه [2] الخلال.
فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذاك أنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السّرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنا لئلا يحدّ، فسلم الناس منه لإبقائه على نفسه.
«9» - وقالوا: من نعت السيد أن يكون لحيما ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمّل [3] ملأ العين لأن حقّه أن يكون في صدر
__________
[1] م: مجمع.
[2] نثر الدر: بجميع هذه.
[3] ر: يؤمل.(2/18)
مجلس أو ذروة منبر أو منفردا في موكب.
«10» - وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالا والسمع مقالا.
«11» - وقال رجل لبعض أهله: والله ما أنت بعظيم فتكون سيدا، ولا بأرسح فتكون فارسا.
«12» - وقال آخر: والله ما فتقت فتق السادة ولا مطلت مطل الفرسان.
«13» - قيل للأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي: بم كنتم تعرفون السؤدد في الصبيّ [1] منكم؟ قال: إذا كان ملوث الأزرة، طويل الغرلة، سائل الغرّة كأنّ به لوثة فلسنا نشكّ في سؤدده.
هذه أمارات تصيب وتخون، والمعوّل على ما أدركته الحقيقة لا الظنون.
«14» - قيل للأحنف: من السيد؟ قال: الذليل في نفسه، الأحمق في ماله، المعنيّ بأمر قومه، الناظر للعامة.
«15» - وقال عدي بن حاتم: السيد الأحمق في ماله، الذليل في
__________
[1] م: الفتى.(2/19)
عرضه، المطرّح لحقده، المعنيّ بأمر جماعته، وأحسن القول ما قارنه الفعل.
«16» - قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف، فقام الآذن وقال:
إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن يتكلم أحد إلا لنفسه، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أنّ رادفة ردفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، والكلّ بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره. فقال:
حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد.
«17» ومثل ذلك، بل أبلغ وأصلت [1] ، ومن امرأة أعظم وأغرب، ما روي عن سودة بنت عمارة الهمدانيّة، وفدت على معاوية فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: إنك أصبحت للناس سيدا، ولأمرهم متقلّدا، والله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقّنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء [2] بعزّك ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السّنبل، ويدوسنا دوس [3] البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا [4] الجليلة، وهذا بسر بن أرطأة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي، يقول لي فوهي [5] بما أستعصم الله سبحانه وتعالى منه وألجأ إليه فيه، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة. فإما عزلته عنّا فشكرناك، وإما لا فعرفناك. فقال معاوية: أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب [6] أشرس فأردّك إليه ينفذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول:
[من البسيط]
__________
[1] م: وأصلب.
[2] العقد: ينهض.
[3] العقد: دياس.
[4] العقد: ويسألنا.
[5] م: فهو.
[6] م: ذنب.(2/20)
صلّى الاله على جسم [1] تضمّنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا [2] ... فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
فقال لها: ومن ذاك؟ قالت: عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه.
قال: وما صنع بك حتّى صار عندك كذا؟ قالت: قدمت عليه في مصدّق قدم علينا من قبله، والله ما كان بيني وبينه إلا ما بين الغثّ والسمين، فأتيت عليّا لأشكو إليه ما صنع بنا فوجدته قائما يصلي. فلما نظر إليّ انفتل من صلاته ثم قال لي، برأفة وتعطّف: ألك حاجة؟ فأخبرته، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقّك؛ ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
(هود: 85- 86) . إذا [3] قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام.
فأخذته منه والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام، فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمّظكم [4] ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئا ما [5] تفطمون، ثم قال: اكتبوا لها بردّ مالها والعدل عليها. قالت: ألي خاصة أم لقومي عامة؟ قال: ما أنت وقومك؟ قالت: هي إذن والله الفحشاء واللؤم، إن كان عدلا شاملا وإلا أنا كسائر قومي، قال: اكتبوا لها ولقومها.
__________
[1] العقد: روح؛ م: قبر.
[2] العقد: ثمنا.
[3] ع: واذا.
[4] لمظكم: ذوقكم.
[5] ما: زيادة من رم.(2/21)
«18» - ومثله خبر الراعي مع عبد الملك لما أنشده قوله: [من البسيط]
فإن رفعت بهم رأسا نعشتهم ... وإن لقوا مثلها في قابل فسدوا
قال له: تريد ماذا؟ قال: تردّ عليهم صدقاتهم، وتدرّ أعطياتهم، وتنعش فقيرهم، وتخفّف مؤونة غنيّهم، قال: إنّ ذا لكثير، قال: أنت أكثر منه، قال: قد فعلت فسلني حوائجك، قال: قد قضيتها، قال: سل لنفسك، قال: لا والله لا أشوب هذه المكرمة بالمسألة لنفسي.
«19» - ومما يناسبه أن البادية قحطت في أيام هشام، فقدمت عليه العرب فهابوا أن يتكلموا وفيهم درواس بن حبيب ابن ست عشرة سنة له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عينا هشام فقال لحاجبه: ما يشاء أحد يدخل علي إلا دخل حتى [1] الصبيان؟! فوثب درواس بن حبيب حتى وقف بين يديه مطرقا، فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشرا وطيّا، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذنت لي أن أنشره نشرته. قال: انشر لا أبا لك، وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه. فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله ففرّقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدّقوا بها عليهم إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
__________
[1] حتى: سقطت من ر.(2/22)
الْمُتَصَدِّقِينَ
(يوسف: 88) فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذرا. فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، فقال:
ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفاية [1] . فقال: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصّة نفسي دون عامة المسلمين. فخرج وهو من أنبل القوم.
«20» - قال رجل للأحنف: لم سوّدك قومك وما أنت بأشرفهم بيتا، ولا أصبحهم وجها، ولا أحسنهم خلقا؟ قال: بخلاف ما فيك يا بني، قال: وما ذاك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
«21» قال عمرو بن العاص لدهقان نهر تيرى: بم ينبل الرجل عندكم؟ قال: بترك الكذب فإنه لا يشرف من لا يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب فإنه لا يعزّ من لا يؤمن أن يصادف على سوءة، وبالقيام بحاجات الناس فإنه من رجّي الفرج عنده كثرت غاشيته.
«22» - وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعا، وبعد صوته وإن كان خاملا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجات إليه وإن كان فقيرا.
__________
[1] ر: كفايتهم.(2/23)
«23» - قال المعلوط الرّبعي: [من الطويل]
فما سوّد المال اللئيم ولا دنا ... لذاك ولكن الكريم يسود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
ولهذا المعنى الذي بيّنه المعلوط قالوا: السؤدد مع السواد.
«24» - وقال المقنع الكنديّ [1] : [من الطويل]
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسدّ به ما قد أخلّوا وضيّعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لحما مدفّقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجابا لبيتي ثم أخدمته عبدا
فإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا
__________
[1] م: والمقنع الكندي الذي يقول.(2/24)
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قلّ مالي لم أكلّفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
«25» - وقال آخر أيضا: [من الطويل]
وليس فتى الفتيان من جلّ همّه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضرّ عدوّ أو لنفع صديق
26- وقد كان أحمد بن أبي دواد القاضي جبل على مثل هذا، قال أبو العيناء: ما رأيت مثل ابن أبي داود من رجل قد مكّن له في الدنيا ذلك التمكين، كنت أراه في مجلس سقفه غير مغرّى، جالسا على مسح وأصحابه معه، يتدرّن القميص عليه فلا يبدّله حتى يعاتب في ذلك، ليس له همة ولا لذة في الدنيا إلا أن يحمل رجلا على منبر وآخر على جذع.
«27» - قال أسد بن عبد الله القسريّ لسلم بن نوفل: ما أرخص السؤدد فيكم!! فقال سلم: أما نحن فلا نسوّد إلا من بذل لنا ماله، وأوطأنا عرضه، وامتهن في حاجتنا نفسه؛ فقال أسد: إنّ السؤدد فيكم لغال.
«28» - وقال معاوية لعرابة بن أوس بن قيظيّ الأنصاري: بم سدت(2/25)
قومك؟ قال: لست بسيدهم ولكني رجل منهم فعزم عليه فقال: أعطيت في نائبتهم، وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل منهم فعلي فهو مثلي، ومن قصّر عني فأنا أفضل منه، ومن تجاوزني فهو أفضل مني.
وقيل في رواية بأربع خلال: أنخدع لهم في مالي، وأذلّ لهم في عرضي، ولا أحتقر صغيرهم، ولا أحسد رفيعهم.
«29» وكان سبب ارتفاع ذكر عرابة أنه قدم من سفر فجمعه والشمّاخ ابن ضرار المرّي الطريق فتحادثا، فقال له عرابة: ما الذي أقدمك المدينة؟
قال: قدمتها لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله برّا وتمرا وأتحفه بغير ذلك، فقال الشماخ: [من الوافر]
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلّغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
«30» - سأل عبد الملك بن مروان روح بن زنباع عن مالك بن مسمع فقال: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف لا يسأله واحد منهم لم غضب، قال عبد الملك: هذا والله السؤدد.
«31» - كتب معاوية إلى زياد: اعزل حريث بن جابر فإني ما أذكر فتنة(2/26)
صفين إلا كانت حزازة في صدري. فكتب إليه: خفّض عليك يا أمير المؤمنين، فقد بسق حريث بسوقا لا يرفعه عمل ولا يضرّه [1] عزل.
«32» - وكتب إليه: انظر رجلا يصلح لثغر الهند فولّه، فكتب إليه زياد: إن قبلي رجلين يصلحان لذلك: الأحنف بن قيس وسنان بن سلمة.
فكتب معاوية: بأيّ يومي الأحنف نكافئه: ألخذلان أم المؤمنين أم بسعيه علينا يوم صفين؟ فوجّه سنانا. فكتب إليه زياد: إنّ الأحنف قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا ترفعه الولاية ولا يضعه العزل.
«33» - وقيل لرجل: بم ساد عليكم الأحنف؟ فو الله ما كان بأكبركم سنّا ولا بأكثركم [2] نشبا. قال: بقوّته على سلطان نفسه.
«34» - لما ولي زياد البصرة خطب فقال: إني رأيت خلالا ثلاثا نبذت إليكم فيهن النصيحة: لا يأتيني شريف بوضيع لم يعرف له شرفه إلا عاقبته، ولا كهل بحدث لم يعرف له فضل سنه [3] إلا عاقبته، ولا عالم يجاهل عنته إلا عاقبته، فإنما الناس بأشرافهم وذوي سنهم وعلمائهم.
«35» - أراد أنوشروان أن يقلد ابنه هرمز ولاية العهد، فاستشار عظماء
__________
[1] البصائر: يضعه.
[2] ر: بأكرمكم (اقرأ بعدها: نسبا) .
[3] ع: لم يعرف له شرفه.(2/27)
مملكته فأنكروا عليه، وقال بعضهم: إن الترك ولدته وفي أخلاقهم ما علمت فقال: الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، وكانت أم قباذ تركية، وقد رأيتم من عدله وحسن سيرته ما رأيتم. فقيل: هو قصير وذاك يذهب ببهاء الملك. فقال: إن قصره من رجليه ولا يكاد يرى إلا جالسا أو راكبا فلا يستبين ذلك فيه، فقيل: هو بغيض في الناس، فقال: أوه، أهلكت ابننا هرمز فقد قيل: إن من كان فيه خير واحد ولم يكن ذلك الخير المحبة في الناس فلا خير فيه، ومن كان فيه عيب واحد ولم يكن ذلك العيب المبغضة في الناس فلا عيب فيه.
«36» - ذكرت البيوتات عند هشام بن عبد الملك فقال: البيت ما كانت له سالفة ولا حقة وعماد حال ومساك دهر، فإذا كان كذلك فهو بيت قائم؛ أراد بالسالفة ما سلف من شرف الآباء، واللاحقة ما لحق من شرف الأبناء، وبعماد الحال الثروة، وبمساك الدهر الجاه عند السلطان.
37- وكان يقال: مضر خيرة الله من خلقه، وقريش خيرة مضر، وهاشم خيرة قريش، وعترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيرة هاشم.
«38» - وأحفظ معاوية الأحنف وجارية بن قدامة ورجالا من بني سعد فأغلظوا له، وذلك بمسمع من بنت قرظة، فأنكرت ذلك فقال لها: إن مضر كاهل العرب، وتميما كاهل مضر، وسعدا كاهل تميم، وهؤلاء كاهل سعد.
ومن الرياسة علو الهمة
«39» - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تصغرنّ هممكم فإني لم(2/28)
أر شيئا أقعد بالرجل من سقوط همته.
40- وقال معاوية: تهامموا فإني هممت بالخلافة فنلتها. (يعني مع بعده عن رتبتها ووجود أعيان الصحابة الألى [1] هم أحقّ منه بها، كما يقال: قلّ من طلب إلا وجد أو كاد) .
«41» - وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن لي نفسا تتوق إلى معالي الأمور، تاقت إلى الخلافة فلما نلتها تاقت إلى الجنة.
«42» - وقيل للعتابي: إنّ فلانا بعيد الهمة، فقال: إذن لا يقنع بدون الجنة.
وإذا أردنا حقيقة علوّ الهمة، فطلب الجنة [2] ، وإذا أردنا الرياسة التي لا يفسدها الزمان فرياسة الدين والعلم، وإنما نذكر رياسة الدنيا والراغبين فيها مجازا ولذاك يقع بالأمر غير مستحقه، وينال الدنيا وشرفها ويدرك غاياتها من لا فضيلة عنده، فيهلك [3] صاحبها المحروم أسفا وكمدا، ويتقطع قلبه لهفا وحسدا.
ونعود إلى ما قصدنا له:
«43» - نازع عبد الملك بن مروان وهو حدث عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأربى عليه عبد الرحمن، فقيل له لو شكوت ما صنع بك إلى عمه لا نتقم لك منه، فقال: اني لا أرى انتقام غيري لي انتقاما؛ فلما استخلف
__________
[1] م: اللائي.
[2] م: الآخرة.
[3] م: فهلك.(2/29)
أذكر بذلك فقال: حقد السلطان عجز.
«44» - وخاض جلساؤه يوما في مقتل عثمان فقال رجل: يا أمير المؤمنين في أيّ سنّك كنت يومئذ؟ قال: كنت دون المحتلم، فقال فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: شغلني الغضب له عن الحزن عليه.
«45» - قال يزيد بن المهلب: ما يسرّني أني كفيت أمر الدنيا كله، قيل: ولم أيها الأمير؟ قال: أكره عادة العجز.
«46» - ومن الهمّة البعيدة ما فعله بنو العبّاس: خرجوا في أربعة عشر راكبا يطلبون الخلافة، وأعداؤهم في أيديهم الأموال والبلاد، والجيوش منقادة لهم حتى قال بعضهم وهو داود بن عليّ، وقد لقيهم ولم يعلم أين يريدون: ما قصتكم وأين تريدون؟ فقصّ عليه أبو العبّاس القصة، وأنهم يريدون الكوفة ليظهر أمرهم بها، فقال له داود: يا أبا العبّاس تأتي الكوفة وشيخ بني مروان بحرّان، وهو مطلّ على العراق في أهل الشام، يعني مروان بن محمد، وشيخ العرب في العراق في حلبة العرب، يعني يزيد بن عمر بن هبيرة؟! فقال أبو العبّاس: من أحبّ الحياة ذلّ، ثم تمثل قول الأعشى: [من الطويل]
فما ميتة إن متّها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، ارجع بنا معه نعش أعزاء أو نموت كراما، فرجعوا معه.(2/30)
والركب الأربعة عشر هم: أبو العبّاس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس وهو [أبو] العبّاس [1] السفاح، وأخوه أبو جعفر عبد الله المنصور، وعمومتهما عبد الله وصالح وعبد الصمد وإسماعيل وداود وعيسى بنو علي بن عبد الله بن عبّاس، ويحيى بن محمد بن علي، وعبد الوهّاب ومحمد ابنا إبراهيم بن محمد بن علي، وعيسى بن موسى بن علي، وموسى بن داود بن علي ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس.
وكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: إن ركبا أربعة عشر خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم، كبيرة نفوسهم، شديدة قلوبهم.
«47» - وممن علت به همّته ورفعته من أوضع منزلة إلى أعلى درجة أبو مسلم صاحب الدولة، وهو عبد اشتراه إبراهيم الامام وأعتقه، وذلك بعد تعرضه للدعوة، وقد ذكرنا مبدأ أمره في موضعه من هذا الكتاب. قيل له في أيّام شبيبته وعصر حداثته: إنا نراك تأرق كثيرا ولا تنام كأنك موكّل برعي الكواكب أو متوقع للوحي من السماء. قال: والله ما هو ذاك، ولكن لي رأي جوال، وغريزة تامة، وذهن صاف، وهمّة بعيدة، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج والرعاع، وحال متناهية في الخساسة والاتضاع [2] ، وإني لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر ولا تتلافى برفق.
فقيل له: ما الذي يبرد غليلك، ويشفي أحاح صدرك، ويطفىء أوار نارك؟
قال: الظفر بالملك. قيل له: فاطلب، قال: إن الملك لا يطلب إلا بركوب
__________
[1] أبو العبّاس: سقطت من ر.
[2] نثر الدر: متناهية في الاتضاع.(2/31)
الأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال: هيهات، العقل مانع من ركوب الأهوال، قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة وتذوب كمدا؟ قال: سأجعل من عقلي بعضه جهلا وأحاول به خطرا لأنال بالجهل ما لا ينال إلا به، وأدبّر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوّته، وأعيش عيشا يبين [1] مكان حياتي فيه من مكان موتي عليه فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أبو الكون.
«48» - وكان للفاذوسبان [2] ، وهو من كبار أهل نيسابور، يد عند أبي مسلم في اجتيازه إلى خراسان، فكان يرعى له ذلك، فقال له يوما الفاذوسبان: أيها السلار، وبذاك كان يخاطب قبل قتل [ابن] الكرماني، مال قلبك إلى أحد بخراسان؟ فقال: كنت في ضيافة رجل يقال له فلان السمرقندي، فقامت بين يديّ جارية له توضيني فاستحليتها، قال فأنفذ الفاذوسبان إلى سمرقند واحتال في تحصيل الجارية، ثم أضاف أبا مسلم وأمرها أن [3] توضيه، فلما نظر إليها عرفها، فوهبها له الفاذوسبان، وكان لا يحجب عن أبي مسلم في أي وقت جاءه، فدخل إليه يوما فوجده نائما في فراشه فانصرف، وأمر أبو مسلم برده فجاء حتى وقف عليه فرآه مضاجعا تلك الجارية، وهما في ثيابهما [4] ، وبينهما سيف مسلول، فقال: يا فاذوسبان، إنما أحببت أن تقف على صورتي في منامي لتعلم أنّ من قام بمثل ما قمت به لا يتفرغ إلى مباشرة النساء، وأنشد [5] : [من البسيط]
__________
[1] ر: يدين.
[2] م: لفاذوسان.
[3] ر ونثر الدر: بأن.
[4] م: شأنهما.
[5] م: ثم انشد في ذلك.(2/32)
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
«49» - وكتب عبد الحميد كتابا إلى أبي مسلم وقال لمروان: إني قد كتبت كتابا إن نجع فذاك وإلا فالهلاك، وكان من كبر حجمه يحمل على جمل، وكان عبد الحميد قال: أنا ضامن أنه متى قرأ الرسول على المستكفين حول أبي مسلم ذلك بمشهد منه أنهم يختلفون، وإذا اختلفوا كلّ حدّهم وذلّ جهدهم، فلما ورد الكتاب على أبي مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلا قدر ذراع فإنه كتب عليه: [من الطويل]
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كلّ جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة ... يهون عليها العتب من كل عاتب
وردّه، فحينئذ وقع اليأس من معالجته.
«50» - وتزعم [1] الفرس انّ كابي كان حدادا بخراسان وقيل [2] بأصفهان في ملك بيوراسب، وأن بيوراسب قتل ابنين له، فسمت همّته إلى أن أخذ النطع [3] الذي يتوقى به من النار فجعله علما، ودعا الناس إلى مجاهدة [4] بيوراسب، فأجابه خلق كثير لما كان عليه بيوراسب من الجور [5] ، وهزم بيوراسب وقتل، وسألوا كابي أن يلي عليهم الملك فأبى حتى ملكوا غيره،
__________
[1] ر: ويزعم.
[2] بخراسان وقيل: زيادة من م.
[3] م: إلى أخذ النطع.
[4] م: مجاهرة.
[5] فأجابه ... الجور: سقط من م.(2/33)
وعظموا ذلك النطع ورصعوه بالجوهر وصار علم ملوكهم الأكبر الذي يتبركون به في حروبهم ويسمونه درفش كابيان.
«51» - ويقال [1] لا ينبغي للرجل ذي المروءة الفاضلة أن يرى إلا في موضعين ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرما، وإما مع النساك متبتلا.
«52» - وممن حركته همته حتى نال أمنيته على بعد منالها المختار بن أبي عبيد الثقفي، قال بن العرق [2] : رأيت المختار مشتور العين، قلت: من فعل بك هذا، قطع الله يده؟ فقال: ابن الفاعلة عبيد الله بن زياد، والله لأقطعنّ أنامله وأباجله، ولأقتلن بالحسين عدد من قتل بيحيى بن زكريا عليهما السلام. وحبس في فتنة يزيد فلما هلك اجتمعت الشيعة لإخراجه، فاستأناهم حتى أخرجه عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة وهما على الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير وكفلاه وحلّفاه ألا يخرج ما دام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة، ومماليكه ذكرهم وأنثاهم [3] أحرار، فلما عزلا عن الكوفة وبعث ابن الزبير عليها عبد الله بن مطيع أظهر أمره حينئذ، وبلغ من الثأر ما هو مشهور. وكان يقول: قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم باليمين، أما يميني بالله فانه ينبغي لي إذا حلفت على يمين ثم رأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفّر عن يميني، وأما
__________
[1] م: وقال.
[2] م: قال ابن العريق وقيل ابن العرق.
[3] م: ذكورهم وإناثهم.(2/34)
هدي البدن فأهون عليّ من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني! وأما عتق مواليّ فو الله لوددت أنه قد استتب لي أمري ولم أملك مملوكا أبدا.
«53» - ولما حارب المختار مصعبا فلّ جيش مصعب، وقتل محمد بن الأشعث، وأوغل أصحاب المختار في أصحاب مصعب فظن أنهم انهزموا، فانصرف منهزما إلى القصر بالكوفة، وعاد أصحاب المختار من حملتهم فلم يجدوه، فتبعوه إلى القصر بعد أن تفرّق شطرهم وظنّوا أنه قد قتل، واجتمعوا في القصر ثمانية آلاف، وحصرهم مصعب فقال لهم: اخرجوا إلى القوم فما بكم من قلّة، فجبنوا عن ذلك وضعفوا، فخرج المختار إليهم في تسعة عشر رجلا فقاتلهم حتى قتل ولم يسلم نفسه لهم.
«54» - خرج معاوية متنزها فمرّ بحواء [1] ضخم فقصد لبيت منه، فإذا بفنائه امرأة برزة، فقال لها: هل من غداء؟ قالت: نعم حاضر، قال: وما غداؤك؟ قالت خبز خمير، وماء نمير، وحيس فطير، ولبن هجير [2] ، فثنى وركه ونزل، فلما تغدّى قال: هل لك من حاجة؟ فذكرت حاجة أهل الحواء، قال: هاتي حاجتك في خاصّة نفسك، قالت: يا أمير المؤمنين إني أكره أن تنزل واديا فيرفّ أوله ويقفّ آخره.
«55» - قال ابن عامر لامرأته أمامة بنت الحكم الخزاعية: إن ولدت
__________
[1] الحواء: بيوت مجتمعة متقاربة.
[2] الهجير: الفائق الفاضل.(2/35)
غلاما فلك حكمك، فلما ولدت قالت: حكمي أن تطعم سبعة أيّام، كلّ يوم ألف خوان من فالوذج، وأن تعقّ بألف شاة، ففعل.
«56» - قال بعضهم: رحت عشية من طريق مكة مع عبد الله بن الحسن بن الحسن، فضمّنا المسير وداود وعبد الله وعيسى بني علي بن عبد الله ابن العبّاس، فسار عيسى وعبد الله أمام القوم، فقال داود لعبد الله بن الحسن: لم لا يظهر محمد، يعني ابنه؟ فقال عبد الله: لم يأت الوقت الذي يظهر فيه محمد بعد، ولسنا بالذين نظهر عليهم، وليقتلنّهم الذي يظهر عليهم قتلا ذريعا، قال: فسمع عبد الله بن علي الحديث فالتفت إلى عبد الله بن الحسن وقال: يا أبا محمد [من الوافر]
سيكفيك الجعالة مستميت ... خفيف الحاذ من فتيان جرم [1]
أنا والله أظهر عليهم وأقتلهم وأنتزع ملكهم، فكان كما قال.
«57» - قال أبو هريرة رأيت هندا يعني بنت عتبة بمكة جالسة وكأنّ وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبيّ يلعب، فمرّ رجل فنظر إليه وقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودنّ قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فلا جبره الله.
__________
[1] الجعالة: ما يجعل للغازي وذلك إذا وجب على الإنسان غزو فجعل مكانه رجلا آخر يجعل يشترطه؛ خفيف الحاذ: خفيف الظهر.(2/36)
«58» - وقال عتبة بن ربيعة لابنته هند: قد خطبك إليّ رجلان «السم ناقعا» يعني سهيل بن عمرو، و «الأسد عاديا» يعني أبا سفيان، فأيهما أحبّ إليك أن أزوّجك؟ قالت: الذي يأكل أحبّ إلي من الذي يؤكل؛ فزوّجها أبا سفيان.
59- لما قتل حاجب بن زرارة قراد بن حنيفة قالت قبائل بني دارم لحاجب: إمّا أن تقيد من نفسك، وإما أن تدفع إلينا رجلا من رهطك، فأمر فتى من بني زرارة بن عدس أن يذهب إليهم حتى يقاد، فمرّوا بالفتى على أمه فحسبوها [1] تجزع فيدفع إليهم حاجب غيره، فقالت: إنّ حيضة وقت حاجبا الموت [2] لعظيمة البركة.
«60» - قيل إن الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرّي قال لخارجة بن سنان المريّ: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ قال: نعم، قال: ومن ذاك؟
قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي، فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، فركبا حتى انتهيا إلى أوس بن حارثة في بلاده، فوجداه في ثني [3] منزله، فلما رآه قال: مرحبا بك يا حار، ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطبا، قال: لست هناك، فانصرف ولم يكلّمه؛ ودخل أوس على امرأته مغضبا، وكانت من بني عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل ولم تكلّمه؟ قال: ذاك سيد
__________
[1] م ر: وحسبوها.
[2] م: وقت لنا حاجبا من الموت.
[3] ثني: سقطت من الأغاني.(2/37)
العرب الحارث بن عوف، قالت: فما لك لم تستنزله [1] ؟ قال: إنه استحمق، جاءني خاطبا، قالت: أفتريد أن تزوّج بناتك؟ قال: نعم، قالت: فإذا لم تزوّج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك، قالت: فتدارك ما كان منك، قال: بماذا؟ قالت: أن تلحقه فتردّه. قال: وكيف وقد فرط إليه مني ما فرط؟ قالت: تقول: إنك لقيتني وأنا مغضب بأمر لم تقدّم فيه قولا، فلم يكن عندي من الجواب إلا ما سمعت، فانصرف ولك عندي كلّ ما أحببت، فركب في أثرهما؛ قال خارجة بن سنان: فو الله إنا نسير [2] إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يكلمني غمّا، فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا، قال: وما نصنع به؟ امض، فلما رآنا لا نقف عليه صاح:
يا حار اربع [3] عليّ، فوقفنا له وكلّمه بذلك الكلام، فرجع مسرورا، فبلغني أن أوسا لما دخل منزله [4] دعا ابنته الكبرى وأعلمها خطبة الحارث بن عوف فقالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأنّ في وجهي ردّة وفي خلقي بعض العربدة [5] ، ولست بابنة عمه فيرعى حقي [6] ، وليس بجارك فيستحي منك، ولا آمن أن يرى منّي ما يكره فيطلقني، فيكون عليّ في ذلك ما تعلم؛ قال:
قومي بارك الله عليك، ثم دعا بابنته الوسطى وقال لها كمقالته للكبرى، فقالت له: أنا خرقاء، وأجابته بنحو جواب أختها. فقال: ادعوا لي بهيسة، يعني الصغرى [7] ، فقال لها كمقالته لأختيها، فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إنّي عرضت ذلك على أختيك فأبتاه، فقالت: لكني والله الجميلة وجها، الصّناع
__________
[1] م: فما رأيتك تستقر له.
[2] الأغاني: إني لأسير؛ انا لنسير.
[3] ع ر م: ارجع.
[4] م: إلى منزله.
[5] م ر والأغاني: العهدة (والعهدة: الضعف) .
[6] الأغاني: رحمي.
[7] م: يعني الطفلة وهي الصغرى.(2/38)
يدا، الرقيقة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلّقني فلا أخلف الله عليه بخير.
قال، فخرج إلينا وقال: قد زوجتك يا حار بهيسة بنت أوس، قال:
قد قبلت؛ فأمر أمّها أن تهيّئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إيّاه، ثم خرج إليّ فقلت: أفرغت من شأنك؟ فقال:
لا، قلت: وكيف؟ قال: لما مددت يدي إليها قالت: مه أعند أهلي [1] وإخوتي؟! هذا والله ما لا يكون، قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدّم فتقدّمت، وعدل بها عن الطريق، فما لبث أن لحقني فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قلت:
ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة والسبيّة الأخيذة؟ لا والله حتى تنحر وتذبح [2] وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي، قال: قلت والله إني لأرى همّة وأرى عقلا وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. فرحلنا حتى جئنا بلادنا فأحضر الإبل والغنم ودخل عليها ثم خرج فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله، قلت: ولم؟ قال: دخلت عليها أريدها، وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما تريدين [3] . فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك، قلت: وكيف؟ قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يأكل بعضها بعضا؟! وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فتقولين ماذا؟ فقالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتوك، فقلت: والله إني لأرى همة وعقلا ولقد قالت قولا. قال: فاخرج بنا، فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحسبوا [4] القتلى ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين،
__________
[1] الأغاني: أبي.
[2] الأغاني: حتى تنحر الجزر وتذبح الغنم.
[3] الأغاني: ما قد ترين.
[4] الأغاني: يحتسبوا.(2/39)
فانصرفنا بأجمل الذكر.
«61» - لما احتضر ذو الاصبع العدوانيّ دعا ابنه أسيدا فقال: يا بنيّ إن أباك قد فني وهو حيّ، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك ما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبّوك، وتواضع لهم [1] يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عنهم حتى يسوّدوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكبر على مودّتك صغارهم، واسمح بمالك واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ فان لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا يتمّ سؤددك.
«62» - لما أمعن داود بن علي في قتل بني أمية بالحجاز قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن: يا ابن عمّ، إذ أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهي بسلطانك؟ أو ما يكفيك منهم أن يروك رائحا وغاديا فيما يسرّك ويسوءهم؟
«63» - كان عثمان بن حيان [2] المرّي على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك، فأساء بعبد الله والحسن ابني الحسن إساءة عظيمة وقصدهما، فلما عزل أتياه فقالا: لا تنظر إلى ما كان بيننا فان العزل قد محاه، وكلّفنا أمرك كله. فلجأ إليهما فبلّغاه كلّ ما أراد، فجعل عثمان يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
__________
[1] بعد هذا سقط من ع مقدار كراسة، وما أثبته فهو من ر م.
[2] نثر: عثمان بن خالد.(2/40)
«64» - كان محمد بن سليمان بن علي من رجال بني هاشم وذوي هممهم، وكان له خمسون ألف مولى أعتق منهم عشرين ألفا، وخرج يوما إلى باب داره بالمربد في عشية من عشايا الصيف فرأى الحرّ شديدا فقال: رشّوا هذا الموضع، فخرج من داره خمسمائة عبد بخمسائة قربة ماء [1] ، فرشوا الشارع حتى أقاموا الماء فيه، وكانت غلّته كلّ يوم مائة ألف درهم، وسمع دعاؤه في السحر: اللهمّ أوسع عليّ فإنه لا يسعني إلا الكثير.
«65» - ولما أراد أن يدخل بالعبّاسة بنت المهدي شاور كاتبه حمادا في اللباس الذي يلبسه، فأشار عليه بأن لا يتصنّع، ويقتصر على ما كان يلبسه في كلّ يوم، فلم يقبل منه، وعمد إلى ثياب دبيقية كأنها غرقيء البيض فلبسها، فرأتها عليه، فلما كان الغد دخل عليها، وإذا هي في دار قد فرشت بالدبيقي الذي يشابه ما لبس أو يزيد عليه، فعلم أنّ كاتبه قد نصحه، وتمثّل يقول [2] :
[من الطويل]
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد
«66» - وكان يتصدّق في كل سنة بخمسمائة ألف درهم، ويوم الفطر بمائة ألف درهم وفي كل يوم بكرّين من الدقيق. [3]
«67» - وقدم المهديّ البصرة فنزل دار محمد بن سليمان، وترك محمد
__________
[1] نثر: قربة مملوءة ماء.
[2] يقول: زيادة من م.
[3] م: بكر بن دقيق.(2/41)
المحدثة، فقام محمد بنزل المهديّ وأصحابه، فقال المهديّ ذات يوم لأصحابه: لنفضحنّ محمدا اليوم، فصلّى الفجر وركب هو وأصحابه ومحمد معه، فمضى نحو الجعفريّة والنحيت، ثم قال لمحمد: يا أبا عبد الله، امض بنا نتغدّى في المحدثة، فساعة جلس المهديّ قال لمحمد: إنه خطر ببالي لبأ الظباء مع أزاذ [1] فأحضره له من ساعته؛ وكان عند محمد ألف ظبية بالنحيت يتوالدن، ثم جاءوه بالطعام فأكل فقال: يا أبا عبد الله قد خطر ببالي مخ السوق معقود [2] بسكر طبرزذ، فأحضره، فقال يا أبا عبد الله أردنا أن نفضحك فغمرتنا، فأكثر الله في عمومتنا وبني عمنا مثلك.
68- ومن ذوي الهمم سعيد بن العاص، وكان أيضا من أجواد قريش، وأخباره في الجود ترد في موطنها. خطب سعيد أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام، وبعث إليها مائة ألف درهم وشاور الحسن بن علي في ذلك، فقال: أنا أزوّجك، واتعدوا ولم يحضر الحسين معهم، فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ فقال الحسن: لم يحضر وأنا أكفيك، فقال: لعلّه كره شيئا مما نحن فيه، قالوا: نعم، فقال سعيد: لم أكن لأدخل في شيء كرهه أبو عبد الله، فتفرقوا [3] عن غير تزويج، وردّت المال فلم يقبله سعيد.
«69» - دخل المسور على معاوية فقال له: كيف تركت سعيدا؟
__________
[1] الأزاذ: نوع جيد من التمر؟؟؟.
[2] معقود: سقطت من م.
[3] ر: يتقرقرا.(2/42)
فقال عليلا، قال: لليدين والفم: [من الطويل]
به لا بظبي بالصريمة أعفرا
قال: وعمرو بن سعيد صبيّ يسمع قوله من ورائه، فقال: إذن والله لا يسدّ حفرتك [1] ، ولا يزيد [2] في رزقك، ولا يدفع حتفا عليك، بل يفتّ في عضدك، ويهيض ظهرك، وينشر أمرك، فتدعو فلا تجاب، وتتوعّد فلا تهاب؛ فقال معاوية: أبا أمية أراك هاهنا، إنّ أباك جارانا إلى غاية الشرف [3] فلم نعلق بآثاره، ولم نقم لمحضاره، ولم نلحق بمضماره، ولم ندن من غباره، هذا مع قوة إمكان، وعزة سلطان، وإنّ أثقل قومنا علينا من سبقنا إلى غاية شرف.
«70» - وكان معاوية يعاقب بين سعيد وبين مروان في ولاية المدينة، وكان يغري بينهما، فكتب إلى سعيد وهو وال عليها أن أهدم دار مروان فلم يهدمها، وأعاد عليه الكتاب بهدمها فلم يفعل، فعزله وولّى مروان، وكتب إليه أن أهدم دار سعيد، فأرسل الفعلة وركب ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إليّ أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت، فقال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله ولو كتب إليك لهدمتها، قال: كلا يا أبا عبد الملك، وقال لغلامه: انطلق فجئني
__________
[1] ر: يسر حقرتك.
[2] ر: زيد.
[3] م: الغاية الشرف.(2/43)
بكتب معاوية فجاءه بها، فقال مروان: كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري فلم تهدمها ولم تعلمني؟ قال: ما كنت لأهدم دارك ولا أمنّ عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرّض بيننا، فقال مروان: فداك أبي وأمي، أنت والله أكرمنا ريشا وعقبا، ورجع فلم يهدم دار سعيد.
«71» - وقدم سعيد على معاوية فقال له: يا أبا عثمان كيف تركت أبا عبد الملك؟ قال: تركته ضابطا لعملك، منفذا لأمرك، قال: إنه كصاحب الخبزة كفي نضجها [1] فأكلها، قال: كلا والله يا أمير المؤمنين، إنه لمع قوم ما يجمل بهم السوط ولا يحلّ لهم السيف، يتهادون [فيما بينهم كلاما] كوقع النبل:
سهم لك وسهم عليك، قال: ما باعد بينك وبينه؟ قال: خافني [2] على شرفه وخفته [3] على شرفي، قال: فما له عندك؟ قال: أسرّه غائبا وأسوءه شاهدا، قال: تركتنا يا أبا عثمان في هذه الهنات [4] ، قال: نعم يا أمير المؤمنين فتحملت الثقل، وكفيت الغرم [5] وكنت قريبا: لو دعوت أجبت، ولو وهنت وقعت [6] .
«72» - وكان [7] ابن ظبيان نذر أن يقتل من قريش مائة بأخيه النابي، فقتل منهم ثمانين ثم قتل مصعبا وقال: [من الطويل]
__________
[1] البيان: إنضاجها.
[2] ر: حاقني.
[3] ر: وحقيه.
[4] البيان: الحروب.
[5] البيان: الحزم.
[6] البيان: ولو أمرت لأطعت.
[7] تأخرت هذه الفقرة في م عن الفقرتين 73، 74.(2/44)
يرى مصعب أني تناسيت نابيا ... وليس لعمر الله ما ظنّ مصعب
فو الله ما أنساه ما ذرّ شارق ... وما لاح في داج من الليل كوكب
وثبت عليه ظالما فقتلته ... فقصرك منه يوم شرّ عصبصب
قتلت به من حيّ فهر بن مالك ... ثمانين منهم ناشئون وأشيب
وكفّي لهم رهن بعشرين أو يرى ... عليّ مع الإصباح نوح مسلّب
أأرفع رأسي وسط بكر بن وائل ... ولم أرو سيفي من دم يتصبّب
«73» - دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على أبيه وهو يكيد بنفسه فقال: ألا أوصي بك الأمير زيادا؟ قال: لا، قال: ولم ذلك؟ قال: إذا لم يكن للحيّ إلا وصية الميت فالحيّ هو الميت.
«74» - وعبيد الله هذا هو قاتل مصعب بن الزبير، ولما أتي عبد الملك برأسه خرّ عبد الملك ساجدا، قال عبيد الله: فهممت أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين في يوم واحد. وأمر له عبد الملك بألف دينار فأبى أن يأخذها وقال: إنما قتلته على وتر لي عنده، وكان مصعب قتل أخاه النابي بن ظبيان.
«75» - لما أخذ عبد الحميد بن ربعيّ وأتي به المنصور ومثل بين يديه قال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى، قال المنصور: إني لست أقتل أحدا من آل قحطبة، أهب مسيئهم لمحسنهم، قال: يا أمير المؤمنين إن لم يكن فيّ مصطنع فلا حاجة بي إلى الحياة، لست(2/45)
أرضى أن أكون طليق شفيع وعتيق ابن عمّ.
76- ويناسب هذه القصة ما فعله بابويه، أحد الشطّار، وكان محبوسا بعدة دماء، فلما نقب حمير بن مالك السجن وقام على باب النقب يسرّب الناس ويحميهم ليستتم المكرمة جاء رسوله إلى بابويه فقال: أبو نعمانة ينتظرك، وليس له همّ سواك، وما بردت [1] مسمارا ولا فككت حلقة وأنت قاعد غير مكترث ولا محتفل، وقد خرج الناس حتى الضعفاء، فقال بابويه:
ليس مثلي يخرج في الغمار ويدفع عنه الرجال، لم أشاور ولم أؤامر [2] ، ثم يقال لي الآن: كن كالظعينة والأمة والشيخ الفاني؟! والله لا أكون في شيء تابعا ذليلا، فلم يبرح وخرج سائر الناس، وأجرامه وحده كأجرام الجميع، فلما جاء الأمير ودخل السجن فلم ير فيه غيره قال للحرس: ما بال هذا؟ فقصّوا عليه القصّة فضحك وقال: خذ أيّ طريق شئت، فقال بابويه: هذا عاقبة الصبر.
«77» - لما عزل الحجاج أمية بن عبيد الله عن خراسان أمر رجلا من بني تميم فعابه بخراسان وشنّع عليه، فلما قفل لقيه التميميّ فقال: أصلح الله الأمير، أقلني فإني كنت مأمورا، فقال: يا أخا بني تميم، وحدّثتك نفسك أني وجدت عليك؟ قال: قد ظننت ذاك، قال: إنّ لنفسك عندك قدرا.
«78» - دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه، وقام رجل
__________
[1] ر: يردق.
[2] ر: أذامر.(2/46)
فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة غضبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصم، إن كانت الضيعة له فلست أنازعه، وإن كانت لي فهي له، ولا أقوم من مجلس قد شرّفني أمير المؤمنين بالرفعة إليه لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة.
«79» - وجرى بين الرشيد وزبيدة (وقيل: بل كان بين أبي العبّاس السفّاح وأمّ سلمة، وهو الأشبه) نزاهة نفس عمارة وكبره، فقالت له: ادع به وهب له سبحتي هذه، فإنّ شراءها خمسون ألف دينار، فإن ردّها علمنا نزاهته، فوجّه إليه فحضر، فحادثه ساعة ورمى إليه بالسبحة وقال: هي طرفة [1] وهي لك، فجعلها عمارة بين يديه، فلما قام تركها، فقالت: أنسيها، فأتبعوه خادما بالسبحة، فقال للخادم: هي لك، فرجع وقال: وهبها لي عمارة، فأعطت المرأة بها الخادم ألف دينار وأخذتها منه.
«80» - دخل الطرماح بن حكيم الطائيّ على خالد بن عبد الله القسري فقال له: أنشدني بعض شعرك فأنشده: [من الطويل]
وشيّبني ألّا أزال مناهضا ... بغير غنى أسموا به وأبوع [2]
وإنّ رجال المال أضحوا، ومالهم ... لهم عند أبواب الملوك شفيع
__________
[1] م ر: طريقة.
[2] أبوع: أبسط باعي بالمال.(2/47)
فقال له خالد: لو كان لك مال ما كنت به صانعا؟ قال: أسود به قومي، وأصون به عرضي، فأمر له بعشرين ألفا.
«81» - كان المعتصم ينفق أمواله في جمع الرجال وابتياع الغلمان، وكان العبّاس بن المأمون مشغولا باتخاذ الضّياع، فكان المأمون كلّما نظر إلى المعتصم تمثل ببيتي أبي عبد الرحمن الأعمى الذي كان مع الحسن بن الحسين بن مصعب [1] : [من الكامل]
يبني الرجال وغيره يبني القرى ... شتان بين مزارع ورجال
قلق بكثرة ماله وسلاحه ... حتى يفرّقه على الأبطال
«82» - قيل: ما رئيت بنت عبد الله بن جعفر ضاحكة بعد أن تزوجها الحجاج، فقيل لها: لو تسليت فإنه أمر قد وقع، فقالت: كيف وبم [2] ؟
فوالله لقد ألبست قومي عارا لا يغسل درنه بغسل. ولما مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها: ألا تبكين على أبيك؟ قالت: والله إنّ الحزن ليبعثني وإنّ الغيظ ليصمتني. ولما أهديت إلى الحجاج نظر إليها في تلك الليلة وعبرتها تجول في خدّها فقال: ممّ تبكين؟ بأبي أنت؟ قالت: من شرف أتضع، ومن ضعة شرفت. ولما كتب عبد الملك إلى الحجاج بطلاقها قال لها: إن أمير المؤمنين أمرني بطلاقك، قالت: هو أبرّ بي ممّن زوّجك.
__________
[1] بن مصعب: سقطت من م.
[2] وبم: سقطت من م.(2/48)
«83» - قيل ليزيد بن المهلب: ألا تبني دارا؟ فقال: منزلي دار الامارة.
«84» - وقيل للحسين بن حمدان في منزل بناه أخوه إبراهيم وأكثر من الإنفاق عليه، فقال: إنّا لا ننزل إلا دار الإمارة والقبر، فأخذ المعنى أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان فقال، وهو في الأسر: [من الكامل المجزوء]
من كان مثلي لم يبت ... إلا أميرا أو أسيرا
ليست تحلّ سراتنا ... إلا القبور أو القصورا
85- قام رجل إلى الرشيد ويحيى بن خالد يسايره فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل من المرابطة، وقد عطبت دابتي، فقال: يعطى ثمن دابة خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزل قال: يا أبة أومأت إليّ بشي لم أفهمه، فقال: يا أمير المؤمنين مثلك لا يجري هذا المقدار على لسانه، إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف إلى مائة ألف قال: فإذا سئلت مثل هذا كيف أقول؟ قال: تقول يشترى له دابة، يفعل به ما يفعل بأمثاله.
«86» - أهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولي مصر مائة وصيف مع كلّ وصيف ألف دينار، ووجّه بذلك ليلا، فردّه وكتب إليه: لو(2/49)
قبلت هديتك ليلا لقبلتها نهارا فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
(النمل: 36) . وكان المأمون قال لطاهر: أشر عليّ بإنسان يكفيني أمر مصر والشام، فقال له طاهر: قد أصبته، فقال: من هو؟ قال: ابني عبد الله خادمك وعبدك، قال: كيف شجاعته؟ قال: معه ما هو خير من ذلك، قال المأمون: وما هو؟ قال: الحزم، قال: فكيف سخاؤه؟ قال:
معه ما هو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: التنزه وظلف النفس، فولّاه فعفّ عن إصابة خمسة آلاف ألف دينار.
«87» - وكان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد من أصحاب الهمم والنبل والرياسة، قال: أنفذ إليّ أبو العبّاس تاش الحاجب رقعة في السرّ بخطّ صاحبه نوح بن منصور صاحب خراسان، يريدني فيها على الانحياز إلى حضرته ليلقي إليّ مقاليد ملكه، ويعتمدني لوزارته، ويحكّمني في ثمرات بلاده، فكان فيما اعتذرت به من تركي امتثال أمره والصّدر عن رأيه ذكر طول ذيلي، وكثرة حاشيتي، وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظنّ بما يليق بها من تجمّل؟
وكان يفطر عنده في شهر رمضان كل ليلة ألف نفس، قال عون بن الحسين الهمذاني التميمي: كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت حسبانات كاتبه [1] مبلغ عمائم الخز التي صارت تلك الشتوة في خلع العلويّة والفقهاء والشعراء، سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين.
__________
[1] اليتيمة: كاتبها (يعني الخزانة) .(2/50)
«88» - قيل: أوّل يوم عرف فيه الحجاج أنه كان في الشرط مع عبد الملك بن مروان، فبعث إلى زفر بن الحارث عشرة هو أحدهم، فكلّموه وأبلغوه رسالة عبد الملك، فقال: لا سبيل إلى ما تريدون، فقال له أحدهم: أراه والله سيأتيك ما لا قبل لك به، ثم لا يغني عنك فسّاقك هؤلاء شيئا، فأطعني واخرج، قال: وحضرت الصلاة فقال: نصلّي ثم نتكلم، فأقام الصلاة وهم في بيته، فتقدّم زفر وصلّى بهم، وتأخر الحجاج فلم يصلّ، فقيل له: ما منعك من الصلاة؟ قال: أنا لا أصلّي خلف مخالف للجماعة مشاقّ للخلافة، لا والله لا يكون ذلك أبدا، فبلغت عبد الملك فقال: إنّ شرطيّكم هذا لجلد، فكان هذا مبدأ ظهور همته. ثم إن عبد الملك خطب بالكوفة بعد قتل مصعب، وندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير فلم يقم أحد، فقام الحجاج فأقعده، ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين إني رأيت في المنام كأني قتلته وسلخته، فلم يكن ليفعل به ذلك غيري فقال: أنت له، وولّاه حربه.
«89» - قال الجاحظ حدثني إبراهيم بن السنديّ قال: سمعت عبد الملك ابن صالح يقول، بعد إخراج المخلوع له من حبس الرشيد، وذكر ظلم الرشيد له وإقدامه عليه، وكان يأنس به ويثق بمودته وعقله: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته، ولا تصدّيت إليه ولا تبغيته [1] ، ولو أردته لكان أسرع إليّ من السيل إلى الحدور، ومن النار في يابس العرفج، وإني لمأخوذ بما لم أجن،
__________
[1] نثر: تبعته، م: تتبعته.(2/51)
ومسؤول عمّا لا أعرف، ولكنه حين رآني للملك أهلا، ورأى للخلافة خطرا وثمنا، ورأى أنّ لي يدا تنالها إذا مدّت، وتبلغها إذا بسطت، ونفسا تكمل لها بخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح [1] لها في سرّ، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحنّ إليّ حنين الواله، وتميل نحوي ميل الهلوك، وخاف أن ترغب إلى خير مرغب وتنزع إلى أخصّ [2] منزع، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتعذّر [3] لها بجهده، وتهيأ لها بكلّ حيلة. فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحطّ نفسي عنه. وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من إعطابه، إلّا بأن أخرج له من الحلم والعلم، ومن الحزم والعزم، فكما لا يستطيع المضياع أن يكون حافظا، كذلك العاقل لا يستطيع أن يكون جاهلا، وسواء عاقبني على عقلي وعلمي أم على نسبي وسببي، وسواء عاقبني على خلالي أو على طاعة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، ولشغلته عن التدبير، ولما كان فيه من الخطار إلا اليسير، ومن بذل الجهد إلا القليل.
«90» - كان سبب فتح المتعصم لعمورية أنّ امرأة من الثغر سبيت فصاحت: وا محمداه وامعتصماه، فبلغه الخبر، فركب لوقته وتبعه الجيش، فلما فتحها قال: لبيك.
«91» - ولما أسر المعتضد وصيفا عاد إلى إنطاكية وعليه قباء أصفر،
__________
[1] نثر: أرشح.
[2] نثر: أحص؛ م: أحصن.
[3] م ونثر: وتقدر.(2/52)
فعجب الناس من تركه السواد، فقيل: إنه لما جاءه خبر وصيف وعصيانه كان ذلك القباء عليه، فركب وسار إلى طرسوس فأوقع به وأسره ولم ينزع قباءه.
«92» - قال عبد العزيز بن زرارة: [من البسيط]
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه [1] ... ولا يضيق به صدري [2] إذا وقعا
كلّا لبست [3] فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها [4] جزعا
«93» - وقال الآخر: [من الكامل]
راع المهيرة في الظلام تأوّهي ... واستنبأت نبأي فقلت لها صه
غضّي وأرعي مقلتيك حمى الكرى ... للخفض نمت وللعلاء تنبّهي
أذر الزّلال إذا أردت وروده ... وأبلّ ريقي بالصّرى المتسنّه
إن قلّ مالي لم تشنّي فاقة ... وإذا سعيت إلى الغنى لم أشره
«94» - وقال الشنفرى: [من الطويل]
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحوّل
__________
[1] الفرج: لا يملأ الهول صدري قبل وقعته.
[2] الفرج: ولا أضيق به ذرعا.
[3] البصرية: بلوت.
[4] البصرية: مكروهها.(2/53)
وإني كفاني فقد من ليس جازيا ... بخير ولا في قربه متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيّع ... وأبيض إصليت وصفراء عيطل [1]
أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستفّ ترب الأرض كيلا يرى له ... عليّ من الحق امرؤ متطوّل
ولولا اجتناب الذمّ لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لديّ ومأكل
ولكنّ نفسا حرّة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحوّل
فاما تريني كابنة الرمل ضاحيا ... على قنّة أحفى ولا أتسر بل
فإني لمولى الصبر أجتاب بزّه ... على مثل قلب الليث والحزم أفعل
«95» - لما بلغ يزيد ومروان ابنا عبد الملك من عاتكة بنت يزيد بن معاوية قال لها عبد الملك: قد صار ابناك رجلين، فلو جعلت لهما من مالك ما يكون لهما فضيلة على إخوتهما، قالت: اجمع لي أهل معدلة من مواليّ ومواليك، فجمعهم وبعث معهم روح بن زنباع الجذامي، وكان [يدخل] على نسائهم، مدخل كهولتهم وجلّتهم، وقال له: أخبرها برضاي عنها، وحسّن لها ما صنعت، فلما دخلوا عليها اجتهد [2] روح في ذلك، فقالت: يا روح، أتراني أخشى على ابنيّ العيلة وهما ابنا أمير المؤمنين؟ أشهدكم أني قد تصدقت بمالي وضياعي على فقراء آل أبي سفيان، فقام روح ومن معه، فلما نظر إليه عبد الملك مقبلا قال: أشهد بالله لقد أقبلت بغير الوجه الذي أدبرت به، قال أجل، تركت معاوية في الإيوان آنفا، وخبّره بما كان، فغضب،
__________
[1] المشيع: الشجاع؛ الاصليت: الماضي؛ الصفراء العيطل: القوس الملساء الناعمة.
[2] ر: احتد.(2/54)
فقال [روح] : مه يا أمير المؤمنين، هذا العقل [1] منها في ابنيك خير لهما ممّا أردت.
«96» ابن المعتز فيما [2] يدل على الهمّة: [من الوافر]
وبكر قلت موتي قبل بعل ... وإن أثرى وعدّ من الصميم
أأمزج باللئام دمي ولحمي ... فما عذري إلى النّسب الكريم
«97» - آخر: [من الطويل]
ومن يخش أطراف المنايا فاننا ... لبسنا لهنّ السّابغات من الصبر
وإنّ كريه الموت مرّ مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منيّة ... أراحت من الدنيا ولم يجز في القبر
«98» - كان إبراهيم الموصلي المغني ذا همة ونبل، فحدث مخارق أنه أتى محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان، فسأله محمد أن يقيم عنده، فقال:
ليس يمكنني لأنّ رسول أمير المؤمنين قد أتاني، قال: فتمرّ بنا إذا انصرفت ولك عندي كلّ ما يهدى إليّ اليوم، قال: نعم، وترك في المجلس صديقا له يحصي ما يبعث به إليه، قال: فجاءت هدايا عجيبة من كلّ صنف، قال: وأهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان، فقال محمد للرجل: لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة، ففعل، وانصرف إبراهيم إليه
__________
[1] م وبلاغات: الفعل.
[2] م: مما.(2/55)
فقال: أحضرني ما أهدي لك، فأحضره ذلك كله إلا التمثال، وقال له: لا بدّ من صدقك، كان الأمر كذا وكذا، قال: لا إلّا على الشريطة وكما ضمنت لي، فجيء بالتمثال، فقال إبراهيم: أليس الهديّة لي وأعمل بها ما أريد؟ قال: بلى، قال: فردّ التمثال على الجارية، وجعل يفرّق الهدايا على جلساء محمد شيئا شيئا وعلى جميع من حضر من إخوانه وغلمانه وعلى من في دور الحرم [1] من جواريه حتى لم يبق منها شيئا، ثم أخذ من المجلس تفاحتين لما أراد الانصراف، قال: هذا لي، وانصرف، فجعل محمد يعجب من كبر نفسه ونبله.
«99» - قطع عبد الملك بن مروان عن آل أبي سفيان أشياء كان يجريها عليهم لمباعدة بينه [2] وبين خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل عليه عمرو بن عتبة ابن أبي سفيان فقال: يا أمير المؤمنين أدنى حقّك متعب وتقصّيه فادح، ولنا مع حقّك علينا حق عليك، لقرابتنا منك وإكرام سلفنا لك، فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحيث وضعتنا الرحم [3] منك، وزدنا بحسب [4] ما زادك الله، فقال عبد الملك: أفعل، وإنما يستحقّ عطيّتي من استعطاها، أمّا من ظنّ أنه يستغني بنفسه فسنكله إلى ذلك- يعرّض بخالد بن يزيد- ثم أقطع عمرا هزاردر [5] ، فبلغ ذلك خالدا فقال: أبا لحرمان يتهدّدني؟
يد الله فوق يده مانعة، وعطاؤه دونه مبذول، فأما عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ.
__________
[1] م: الخدم.
[2] عيون: لتباعد كان بينه.
[3] ر: الرحمة.
[4] عيون: بقدر.
[5] ر: هزادر؛ م: هزاد.(2/56)
«100» - وتشبه همة خالد في هذه القصة وضراعة عمرو، قول الكثيريّ: [من الكامل]
الموت أجمل بالفتى من خطة ... في الناس خوف شنارها يتقنّع
شتّان من أعطى الرجال ظلامة ... حذر البلاء وآخر لا يخضع
ليس الجزوع بمفلت من يومه ... والحرّ يصبر والأنوف تجدّع
لعن الإله عداوة لا تتّقى ... وقرابة يدلى بها لا تنفع
«101» - وكان سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ذا نخوة وهمة، قيل له عند الموت إن المريض ليستريح إلى الأنين، وإلى أن يصف ما به للطبيب، فقال: أما الأنين فو الله إنه لجزع وعار، ووالله لا سمع الله منّي أنينا فأكون عنده جزوعا، وأما صفة ما بي للطبيب فو الله لا يحكم غير الله في نفسي، فإن شاء قبضها وإن شاء وهبها ومنّ بها وقال: [من الطويل]
أجاليد من ريب المنون فلا ترى ... على هالك عينا لنا الدهر تدمع
«102» - قال عليّ عليه السلام: كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
«103» - ومن كلامه عليه السلام: أكرم نفسك عن كلّ دنيّة، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، ولا تكن(2/57)
عبد غيرك وقد جعلك الله حرّا.
«104» - قال رجل لسعيد بن العاص وهو أمير الكوفة: يدي عندك بيضاء، قال: وما هي؟ قال: كبت بك فرسك، فتقدّمت إليك غلمانك [1] ، فرفعت بضبعك، وهززتك ثم سقيتك ماء، ثم أخذت ركابك حتى ركبت، قال: فأين كنت؟ قال: حجبت عنك، قال: أمرنا لك بمائتي ألف درهم وبما يملكه الحاجب تأديبا [2] له أن يحجب مثلك، وهذه وسيلتك.
«105» - المتنبي [3] : [من الطويل]
أهمّ بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن فعله وأطارد
وحيدا من الخلّان في كلّ منزل ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
(2) وله: [من الخفيف]
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
(3) وقال: [من الطويل]
وإنّا لنلقى الحادثات بأنفس ... كثير الرزايا عندهنّ قليل
__________
[1] البصائر: وقد تقدمت غلمانك.
[2] ر: بأذننا.
[3] م: والمتنبي الذي يقول.(2/58)
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
«105» .- (4) وقال: [من الطويل]
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بدّ دون الشّهد من إبر النحل
«106» - قال رجل لقتيبة بن مسلم: أتيناك لا نرزأك ولا نبكأك، وإنما نسألك جاهك، فقال: سألتم أثقل الأمور عليّ، والله إنا لنعطي أموالنا وقاية لوجوهنا.
«107» - قيل لأبي مسلم: بم أصبت ما أصبت؟ قال: ارتديت بالصبر، وائتزرت بالكتمان، وحالفت الحزم، ولم أجعل العدوّ صديقا ولا الصديق عدوا.
«108» ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير العبسي أنه لما تنقّل في العرب احتاج، فكان يأكل الحنظل حتى قتله ولم يخبر أحدا بحاجته.
«109» - قال المفضل بن المهلب: [من الطويل]
هل الجود إلا أن تجود بأنفس ... على كلّ ماضي الشفرتين قضيب
ومن هزّ أطراف القنا خشية الردى ... فليس لحمد صالح بكسوب
وما هي إلا رقدة تورث العلى ... لرهطك ما حنّت روائم نيب(2/59)
«110» - دخل النخّار العذريّ على معاوية في عباءة، فاحتقره معاوية، فرأى ذلك النخار في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين ليست العباءة تكلّمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم فملأ سمعه ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلا أحقر أوّلا ولا أجلّ آخرا منه.
«111» - قال شاعر: [من الطويل]
كفى حزنا أنّ الغنى متعذّر ... عليّ وأني بالمكارم مغرم
فو الله ما قصّرت في طلب العلى ... ولكنني أسعى إليها فأحرم
«112» - ومن المستحسن في ظلف النفس وبعد شأوها ما روي عن أمّ سليمان بن علي، وهي أمة من الصغد، قال جعفر بن عيسى الهاشمي: حضر علي بن عبد الله بن العبّاس عند عبد الملك بن مروان [1] وقد أهدي له من خراسان جارية وفص وسيف فقال: يا أبا محمد إن حاضر الهديّة شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحدا، فاختار الجارية، وكانت تسمّى سعدى، وهي من سبي الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان بن علي، فلما أولدها اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدريّ خرج عليه، فانصرف عليّ
__________
[1] ر: عبد الله بن مروان.(2/60)
من مصلّاه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحبا بك يا أمّ سليمان، فوقع بها فأولدها صالحا، فاجتنبته بعد، فسألها عن ذلك فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع السبب [1] بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالآن إذ ولدت صالحا فبالحرى إن ذهب أحدهما أن يبقى الآخر، وليس مثلي وطئه الرجال، وكانت فيها رتّة، وهي الآن معروفة في ولد سليمان وولد صالح.
«113» - وكان علي يقول: أكره أن أوصي إلى محمد، وكان سيّد ولده، خوفا من أن أشينه بالوصيّة، فأوصى إلى سليمان، فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى هذه ليلا فقال: أخرجي إليّ وصيّة أبي، قالت: إنّ أباك أجلّ من أن تخرج وصيته ليلا، ولكنها تأتيك غدا، فلما أصبح غدا عليه بها سليمان فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك، قال: جزاك الله من ابن وأخ خيرا، ما كنت لأثّرب على أبي بعد موته كما لم أثّرب عليه في حياته.
113 ب- الرتّة كالرتج تمنّع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل؛ والتمتمة الترديد في التاء، والفأفأة الترديد في الفاء، والعقلة التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة تعذّر الكلام عند إرادته، واللّفف إدخال حرف في حرف، والغمغمة أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف، والطمطمة أن يكون الكلام مشبها لكلام العجم، واللكنة أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية، واللثغة أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنّة أن يشوب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة أشدّ منها، والترخيم حذف الكلام. ويقال رجل
__________
[1] م: النسب.(2/61)
فأفاء، تقديره فاعال، ونظيره من الكلام ساباط وخاتام؛ والحكلة نقصان آلة النطق حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال؛ فأما الرتّة فانها تكون غريزية، قال الراجز:
يا أيها المخلّط الأرتّ
ويقال إنها كثيرة في الاشراف. وأما المغمغة فقد تكون من الكلام وغيره لأنه [1] صوت لا يفهم تقطيع حروفه.
«114» - وكان فيروز حصين شريف الأفعال بعيد الهمة، وهو من أهل بيت في العجم، فلما أسلم [2] والى حصين بن عبد الله العنبريّ من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز شجاعا جوادا نبيل الصورة جهير الصوت. ويروى أن رجلا من العرب كانت أمه فتاة فقاول بني عمّ له فسبّوه بالهجنة، ومرّ فيروز حصين فقال: هذا خالي فمن منكم له خال مثله؟ وظنّ أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى فاشترى له جارية ومنزلا ووهب له عشرة آلاف درهم.
«115» - ومن مآثره أنّ الحجاج لما واقف ابن الأشعث نادى منادي الحجاج من أتاني برأس فيروز حصين فله عشرة آلاف درهم، ففصل فيروز من الصفّ فصاح بالناس وقال: من عرفني فقد عرفني وقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي فمن أتاني برأس الحجاج فله مائة ألف
__________
[1] م: فانها.
[2] م: أسلموا.(2/62)
درهم، قال الحجاج: تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتي به الحجاج فقال: أنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم؟ قال: قد فعلت، فقال: ولا والله لأمهدنك ثم لأحملنّك على مركب صعب، ثم قال: أين المال؟ قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل؟ قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرقّ عليّ، ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحلّ الناس من ودائعه وأعتق رقيقه وتصدّق بماله، ثم ردّ إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشّدّ في القصب الفارسيّ ثم سلّ حتى شرّح ثم نضح بالخلّ والملح فما تأوه حتى مات.
«116» - كان أوس بن حارثة بن لام الطائي سيدا شريفا، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هند الملك، وأبوه المنذر بن ماء السماء، فدعا أوسا فقال: أنت أفضل أم حاتم؟ فقال: أبيت اللعن، لو ملكني حاتم وولدي ولحمي [1] لوهبنا في غداة واحدة؛ ثمّ دعا حاتما فقال:
أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن، إنما ذكرت بأوس، ولأحد ولده أفضل مني.
«117» - وكان النعمان بن المنذر دعا بحلّة، وعنده وفود العرب من كلّ حيّ، فقال: احضروا في غداة غد فاني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعا إلا أوسا، فقيل له: لم تتخلّف؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء لي أن لا أكون حاضرا، وإن كنت المراد بها فسأطلب ويعرف
__________
[1] م والكامل: ولحمتي.(2/63)
مكاني. فلما جلس النعمان لم ير أوسا فقال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمنا مما خفت، فحضر فألبس الحلّة، فحسده قوم من أهله [1] فقالوا للحطيئة:
اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلا لا أرى في بيتي أثاثا ولا مالا إلا من عنده؟ ثم قال: [من البسيط]
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم الأسدي: أنا أهجوه لكم، فأخذ الابل وفعل، فأغار عليها أوس فاكتسحها، وطلبه فجعل لا يستجير أحدا إلا قال له: قد أجرتك إلا من أوس، وكان في هجائه قد ذكر أمّه، فأتي به، فدخل أوس الى أمّه فقال: قد أتينا ببشر الهاجي لك ولي، فما ترين فيه؟
فقالت: أو تطيعني؟ قال: نعم، قالت: أرى أن تردّ عليه ماله وتعفو عنه وتحبوه، وأفعل مثل ذلك به، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه، فخرج إليه فقال: إنّ أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا، قال:
لا جرم والله لا مدحت حتى أموت أحدا غيرك.
«118» - وقيل إنّ المخبّل السعديّ مرّ بخليدة بنت بدر أخت الزبرقان بعد ما أسنّ وضعف بصره، وكان من قبل قد أفرط في هجائها، فأنزلته وقرته [2] وأكرمته ووهبت له وليدة، وقالت له: إني آثرتك بها يا أبا يزيد فاحتفظ بها، فقال لها: ومن أنت حتى أعرفك وأشكرك؟ قالت: لا عليك، قال:
بل، قالت: أنا بعض من هتكت بشعرك ظالما، أنا خليدة بنت بدر، قال: يا سوأتا منك فإني أستغفر الله وأستقيلك وأعتذر إليك، ثم قال: [من الطويل]
__________
[1] م: فحسده القوم وهم قوم من أهله.
[2] م: وفدته.(2/64)
لقد ضل حلمي في خليدة إنني ... سأعتب قومي بعدها وأتوب
فأقسم بالرحمن أن قد ظلمتها ... وجرت عليها والهجاء كذوب
«119» - سأل عبد الله بن عبّاس صعصعة بن صوحان عن السؤدد قال:
إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النوال، وكفّ المرء نفسه مع الحاجة عن السؤال.
«120» - قال له: صف لي أخويك بما فيهما لأعرف ميزتك [1] فقال: أما زيد فكما قال أخو غنيّ: [من الطويل]
فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا نال خلّات الكرام شحوب
(وهي أبيات ذكرت في المديح) ثم قال: كان والله يا ابن عبّاس عظيم المروّة، شريف الأبوّة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش الغزوة، زين الندوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر [2] ، ذاكرا لله طرفي النهار وزلفا من الليل، الجوع والشبع عنده سيّان، لا منافس في الدنيا ولا غافل عن الآخرة، يطيل السكوت ويديم الفكر ويكثر الاعتبار، ويقول الحقّ ويلهج بالذكر، ليس في قلبه عير ربّه، ولا يهمّه غير نفسه، فقال ابن عبّاس: ما ظنّك برجل سبقه عضو منه إلى الجنّة؟ رحم الله زيدا. فأين كان عبد الله منه؟
قال: كان عبد الله سيّدا شجاعا، سخيا مطاعا، خيره وساع، وشرّه دفاع، قلّبيّ النحيزة، أحوذيّ الغريزة، لا ينهنه منهنه عما أراده، ولا يركب إلا ما
__________
[1] م: وزنكم.
[2] م: قليل الوساوس في الفكر.(2/65)
اعتاده، سمام العدى، فيّاض الندى، صعب المقادة، جزل الوفادة، أخا إخوان، وفتى فتيان (وذكر أبياتا للبرجمي غير مختارة، في خبر طويل) .
«121» - وروي أن رجلا قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما منّ الله به من بقائك لكنا كما قال لبيد: [من الكامل]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس، فهلّا قلت كما قال نهار ابن توسعة: [من الخفيف]
قلّدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور
«122» - ومن صفات السيّد قول الخنساء في صخر: [من المتقارب]
طويل النجاد رفيع العماد ... ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدّوا بأيديهم ... إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يكلّفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
«123» - وقول جرير: [من الطويل]
وإني لأستحيي أخي أن يرى له ... عليّ من الحقّ الذي لا أرى ليا(2/66)
«124» - قال معاوية: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم، فإنّ فيه مآثر أسلافكم، ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار فما ردّني إلا قول ابن الاطنابة: [من الوافر]
أبت لي عفّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
«125» - قال عامر بن الطفيل [1] : [من الطويل]
إني وإن كنت ابن سيّد عامر ... وفي السرّ منها والصريح المهذّب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبي الله أن أسموا بأمّ ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
«126» - وإلى هذا المعنى نظر المتوكّل الليثي في شعره السائر وهو: [من الكامل]
__________
[1] م: عامر بن الطفيل الذي يقول.(2/67)
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
127- وقول الآخر، وقد أجاد القول فيه [1] : [من الكامل]
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشر ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء
«128» - وقال عوف [2] بن الأحوص: [من الطويل]
وإني لترّاك الضغينة قد أرى ... ثراها من المولى فلا أستثيرها
إذا قيلت العوراء ولّيت [3] سمعها ... سواي ولم أسأل بها ما دبيرها
لعمري لقد أشرفت يوم عنيزة ... على طمع لو شدّ نفسي مريرها
ولكنّ هلك الأمر ألّا تمرّه ... ولا خير في ذي مرّة لا يغيرها
«129» - وقال ابن هرمة وقد أجاد فيه [4] : [من الطويل]
وإني وإن كانت مراضا صدوركم ... لملتمس البقيا سليم لكم صدري
وان ابن عمّ المرء من شدّ أزره ... وأصبح يحمي غيبه وهو لا يدري
وانّ الكريم من يكرّم معشرا ... على ما اعتراه لا يكرّم ذا يسر
وما غيّرتني ضجرة عن تكرّمي ... ولا عاب أضيافي غناي ولا فقري
__________
[1] وقد أجاد القول فيه: زيادة من م.
[2] م: العوف.
[3] م: أوليت.
[4] وقد أجاد فيه: زيادة من م.(2/68)
«130» - وقال الحضين بن المنذر وأحسن وأجاد [1] : [من الكامل]
إنّ المكارم ليس يدركها امرؤ ... ورث المكارم عن أب فأضاعها
أمرته نفس بالدناءة والخنا ... ونهته عن طلب العلى فأطاعها
وإذا أصاب من الأمور كريمة ... يبني الكريم بها المكارم باعها
«131» - وقال آخر [2] : [من الطويل]
وإني لأستحيي صحابي أن يروا ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أكفّ يدي عن أن [3] تنال أكفّهم ... إذا نحن أهوينا إلى زادنا معا [4]
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا ... حياء وأخشى الذمّ [5] أن أتضلّعا
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذمّ أجمعا
«132» - وقال رافع بن حميضة [6] : [من الطويل]
__________
[1] وأحسن واجاد: زيادة من م.
[2] م: وقال حاتم بن عدي الطائي.
[3] الديوان: أقصر كفي أن.
[4] الديوان: وحاجاتنا معا.
[5] الديوان: أخاف الذم.
[6] زاد في م: وقد جود فيه.(2/69)
وإنّي لعفّ عن زيارة جارتي ... وإنّي لمشنوء إليّ اغتيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زؤورا ولم تأنس إليّ كلابها
وما أنا بالداري خبيئة سرها [1] ... ولا عالما من أيّ حوك [2] ثيابها
وإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها [3]
«133» - وقال حسّان بن حنظلة: [من الكامل]
تلك ابنة العدويّ قالت باطلا ... أزرى بقومك قلّة الأموال
إنا لعمر أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... ويزيد جاهلنا على الجهال
«134» - قدم عقيل بن علّفة على عبد الملك فقال له: ما أحسن أموالكم عندكم؟ قال: ما ناله أحدنا عن أخيه تفضلا، قال: ثم أيها؟
قال: مواريثنا، قال: فأيها أسرى؟ قال: ما استنقذناه بوقعة خوّلت نعما، قال: فما مبلغ عزكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم نؤمن قال: فما مبلغ جودكم؟
قال: ما عقد مننا وأبقى ذكرا، قال: فكيف خفارتكم؟ قال: يدفع الرجل منا عن المستجير به كما يدفع عن نفسه، قال: مثلك فليصف قومه.
«135» - قال أبو خراش الهذليّ: [من الطويل]
__________
[1] بهجة والشجري: ولم اك طلابا أحاديث سرها.
[2] بهجة: جنس.
[3] بعد هذا الموضع ينتهي السقط في ع.(2/70)
وإني لأثوي الجوع حتى يملّني ... فيذهب لم تدنس ثيابي ولا جرمي
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلّج ذا طعم [1]
أردّ شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطّعم
مخافة أن أحيا برغم وذلّة ... وللموت خير من حياة على رغم
«136» - قال المأمون: الرتبة نسب تجمع أهلها، فشريف العرب أولى بشريف العجم من شريف العرب بوضيع العرب، وشريف العجم أولى بشريف العرب من شريف العجم بوضيع العجم، فأشراف الناس طبقة كما أن أوضاعهم طبقة.
«137» - وقال مرة: أهل السوق سفل، والصنّاع أنذال، والتجار بخلاء، والكتاب ملوك على النّاس.
«138» - قال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة بن حصن، وبلغه أنه أتي في ديات فعجز عنها وضمن منها أشياء يسيرة: يا أسماء بلغني عنك أشياء حسان أحببت أن أسمعها منك. قال: يا أمير المؤمنين هي من غيري أحسن، قال: لتفعلن، قال: يا أمير المؤمنين ما قدّمت ركبتي أمام جليسي مخافة أن يرى ذلك مني استخفافا بمجالسته، ولا صنعت طعاما قطّ فدعوت إليه إنسانا فأجابني إلا كنت له شاكرا حتى ينصرف ورأيت له الفضل إذ رآني للإجابة أهلا، ولا بذل لي رجل وجهه في حاجة فرأيت أنّ شيئا من الدنيا
__________
[1] المزلج: الذي ليس بمتين من الرجال وغيرهم.(2/71)
عوض لبذل وجهه. فقال: ما أحقّ من كانت هذه الخصال فيه أن يكون شريفا!! وقد بلغني أنك أتيت في ديات ولم تكن بالضعيف عنها فاحتملت منها القليل، فقال: يا أمير المؤمنين: قد قلت في ذلك ما عذرت به إلا أن يهجّنني مهجّن، قال: وما قلت؟ قال: قلت: [من الطويل]
يرى المرء أحيانا إذا قلّ ماله ... إلى المجد سورات فلا يستطيعها
وليس به بخل ولكنّ ماله ... يقصّر عنها والبخيل يضيعها
فقال عبد الملك: هذا النقد الحاضر بالميزان العدل، حركناك فظهر الأحسن.
139- وقال أعرابي من طيء [1] : [من الطويل]
إذا الريح حلّت بالجهام تلفّه ... مدى ليله شلّ النعام الطرائد
وأعقب نوء المرزمين بهبوة ... وغيم قليل الماء بالليل بارد
كفى خلّة الأضياف حتى يزيحها ... عن الحيّ منا كلّ أروع ماجد
وليس أخونا عند شرّ يخافه ... ولا عند خير يرتجيه بواحد
إذا قال من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منّا طوال السواعد
وللموت خير للفتى من حياته ... إذا لم يطق علياء إلا بقائد
«140» - دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز وعليه ريطة من رياط مصر فقال: بكم أخذت هذه يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا.
قال: فلو نقصت من ثمنها شيئا أكان ناقصا من شرفك؟ قال: لا، قال:
فلو زدت في ثمنها شيئا أكان زائدا في شرفك؟ قال: لا، قال: فاعلم يا
__________
[1] زاد في م: وهو الذي أنشد.(2/72)
مسلمة أن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللين ما كان بعد الولاية.
«141» - معد بن الحسين [1] بن خيارة الفارسيّ المغربي: [من البسيط]
تضيق في عيني الدنيا ويعجبني ... في فسحة الجوّ تصعيدي وتصويبي
كأنني حامل رحلي على فلك ... تسري به عزماتي وهو يسري بي
«142» - ابن ميخائيل المغربي: [من الكامل]
ومن العجائب أن ترى مستصغرا ... لملمّة من لا يرى مستعظما
يقتاده الأمل القريب فينثني ... عنه إلى الأمل البعيد تقدما
ما بين أفئدة المنون مطنّبا ... أطنابه وعلى الحتوف مخيّما
وابن المهامة إن أراد يقوده ... عزم يقود به الجديل وشدقما
يستنّ من مجهولها في هبوة ... لو شقّها السّمع الأزلّ تندّما
«143» - ومن الحمية والأنف ما رواه أبو رياش يسنده إلى رجل من كندة كوفي قال: كنت أجالس شريحا وهو قاض لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فإني لفي مجلسه ذات يوم إذا أقبل رجل جيدر صعل الرأس ناتىء
__________
[1] ر: حسن؛ م: حسين.(2/73)
الجبهة ثطّ اللحية [1] كأنه محراث، ومعه امرأة كالبكرة العيساء [2] تدير مقلتين نجلاوين كأن هدبها قوادم خطّاف، ثم أبرزت كفا كبياض الإغريض [3] ، وأنامل كبنات النّقا، فقالت: أيها الحاكم هذا بعلي، فقال شريح للرجل:
أكذاك؟ فكشر بشفتين بثعاوين [4] عن ثنايا ثعل [5] كأنها سناسن عير فقال:
نعم، فقال شريح للمرأة: وما قصّتك؟ قالت: إنه ابن عمي، وأنا خولة ابنة مخرمة إحدى نساء بني جرم ابن زبّان، وانه خرج بي وغرّبني عن بلادي وقومي وذوي قرابتي فصرت لا أنظر إلا إليه ولا أعوّل إلا عليه، وهو نهم إذا أكل، فلحس [6] إذا سأل، حريص مقفل اليدين بالبخل، مطلق اللسان بالخطل، يأكل وحده، ويخلف وعده، ويمنع رفده، ويضرب عبده، فحّاش نجّاش [7] ، إن سانيت قطّب، وإن راشيت غضب [8] ، يصون ماله، ويهين عياله، فقال شريح: تالله ما رأيت كاليوم ذمّا أشنع، أحسني ملأ [9] أيتها الحرة، فإنه بعلك وابن عمك، فجثا الرجل على ركبتيه ثم قال: يا للأفيكة أيها الحاكم: [من البسيط]
سائل سراة بني جرم فانهم ... قد ينبئونك بالجالي من الخبر
هل أترك البكرة الكوماء كائسة [10] ... إذا تلاعبت النكباء بالخطر
للجار والضيف والمعترّ قد علموا ... في ليلة تتبع الشفّان بالخصر [11]
__________
[1] الجيدر: القصير؛ الصعل: الدقيق الصغير؛ ثط: قليل شعر اللحية.
[2] العيساء: البيضاء في شقرة.
[3] الاغريض: الطلع.
[4] بثعت الشفة: غلظ لحمها وظهر دمها.
[5] ثعل: متداخلة، نبت واحدها تحت الآخر.
[6] الفلحس: الملح في السؤال.
[7] نجاش: وقاع في الناس.
[8] سانى: راضى ودارى؛ راشى: لاين.
[9] الملأ: الخلق والعشرة: وفي م: كلامك.
[10] البكرة: الناقة الفتية؛ الكوماء: الضخمة السنام؛ كائسة: عقيرة.
[11] الشفان: الريح الباردة؛ الخصر: البرد.(2/74)
وأترك الخصم مصفرّا أنامله ... دامي المرادغ منكبّا على العفر [1]
وأنظر الخصم ذا العوصاء حجّته ... حتى يلجلج بين العيّ والحصر
واسألهم هل رموا بي صدر معضلة ... فلم أكافح شبا أنيابها البتر
واسألهم كيف ذبّي عن ذمارهم ... إذا ترامى استعار الحرب بالشّرر
إني لأعظم في صدر الكميّ [2] على ... ما كان فيّ من التجدير [3] والقصر
حتى يصدّ لواذا عن مبادهتي ... صدّ الهجارس [4] عن ذي اللبدة الهصر
تالله تجمع شخصينا ملاءمة ... من بعد ذا اليوم في بدو ولا حضر
فقال شريح: أوضح عن نيتك، عافاك الله. قال: نعم هي طالق ثلاثا وهذا السائب بن عمرو فهو ابن أبي وأمها [5] يقوم بمؤونتها إلى انقضاء عدتها.
«144» - المتلمس [6] : [من الطويل]
فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة ... وموتن بها حرّا وجلدك أملس
فمن حذر الأوتار ما حزّ أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرّع القوم حوله ... تبيّن في أثوابه كيف يلبس
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
__________
[1] المرادغ: ما بين العنق إلى الترقوة؛ العفر: التراب.
[2] الكميّ: الفارس.
[3] ر: التجرير.
[4] الهجارس: جمع هجرس وهو الثعلب.
[5] الزجاجي: بن عمرو بن أبي وليها.
[6] م: والمتلمس في هذا المعنى هو الذي يقول.(2/75)
«145» - وقال بيهس نعامة حيث قتل قتلة إخوته: [من الرجز]
شفيت يا مازن حرّ صدري ... أدركت ثأري ونقضت وتري
كيف رأيتم طلبي وصبري ... السيف عزّي والاله ظهري
«146» - أنشد زيد بن علي وقد نهض من عند هشام بن عبد الملك مغضبا لكلام مما دار بينهما: [من الخفيف]
من أحبّ الحياة أصبح في قي ... د من الذلّ ضيّق الحلقات
ثم خرج فكان من أمره ما كان.
«147» وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك، فذكر حاجبه عبد الله بن الزبير فنال منه، فضرب يحيى وجهه حتى أدمى أنفه، فقال له عبد الملك: من فعل [1] بك؟ قال: يحيى، قال: أدخله، وكان متكئا فجلس وقال: ما حملك على ما صنعت بحاجبي؟ قال: يا أمير المؤمنين عمي عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك لنا، والله إن كان ليوصي أهل ناحيته أن لا يسمعوها قذعا، وإن كان ليقول لها: من سّب أهلك فسبّي أهله، أنا
__________
[1] فعل: سقطت من ر.(2/76)
والله المعمّ المخول، تفرقت العرب عن عمي وخالي، وكنت كما قال الأوّل: [من الطويل]
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فرجع عبد الملك إلى متكأه ولم يزل يعرف فيه الإكرام ليحيى، وكانت أمّ يحيى بنت الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك.
«148» - ثابت قطنة: [من الوافر]
فما حلموا ولكن قد نهتهم ... سيوف [1] الأزد والعز القديم
وخيل كالقداح مسوّمات ... يفيض لما مغابئها حميم
عليها كلّ أبيض دوسريّ ... أغرّ تزين غرّته الكلوم [2]
به تستعتب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تدركها الحلوم
149- قال بزرجمهر لكسرى وعنده أولاده: أيّ أولادك أحبّ إليك؟ فقال: أرغبهم في الأدب، وأجزعهم من العار، وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه.
«150» - وقال معاوية: طيروا الذمّ في وجوه الصبيان، فإن بدا في وجوههم الحياء وإلا فلا تطمعوا فيهم.
«151» - السريّ الرفاء: [من المنسرح]
__________
[1] ر: سيود.
[2] الديوان: عزيز لا يفر ولا يريم.(2/77)
لا تعجبوا من علوّ همته ... وسنّه في أوان منشاها
إن النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها
«152» بينما عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف: يا أمير المؤمنين طأطىء من إشرافه، وقصّر من عنانه، واشدد من شكاله، فقال الرشيد: ما يقول هذا: فقال عبد الملك: مقال معاند ودسيس حاسد، قال: صدقت، نقص القوم وفضلتهم، وتخلّفوا وسبقتهم، حتى برز شأوك، وقصّر عنك غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلّف وحزازات التبلد، فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين فأضرمها عليهم بالمزيد.
«153» - المتنبي: [من الطويل]
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّة ... فلا تستعدنّ الحسام اليمانيا
ولا تستطيلنّ الرماح لغارة ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقى حتى تكون ضواريا
«154» - النمريّ [1] : [من الطويل]
يقولون في بعض التذلّل عزّة ... وعادتنا أن ندرك العزّ بالعزّ
أبى الله لي والأكرمون عشيرتي ... مقامي على دحض ونومي على وخز
__________
[1] م: والنمري هو الذي أنشد في هذا المعنى وقد أجاد فيه.(2/78)
«155» - قال يحيى بن خالد للعتابي في لباسه، وكان لا يبالي ما لبس، فقال: يا أبا عليّ أخزى الله امرءا رضي أن ترفعه هيئتاه من ماله وجماله، فإنما ذلك حظّ الأدنياء من الرجال والنساء، لا والله حتى يرفعه أكبراه: همّته ونفسه، وأصغراه: قلبه ولسانه.
«156» قرأ الرشيد، قوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
(الزخرف:
51) فقال لعنه الله، ادّعى الربوبيّة بملك مصر، والله لأولّينّها أخسّ خدمي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه.
«157» - أبو زبيد الطائي: [من الوافر]
إذا نلت الإمارة فاسم منها ... إلى العلياء بالسّبب الوثيق
ولا تك عندها حلوا فتحسى ... ولا مرّا فتنشب في الحلوق
وكل امارة إلا قليلا ... مغيّرة الصديق على الصديق
«158» - قال رؤبة: بعث إليّ أبو مسلم لما أفضت الدولة إلى بني(2/79)
هاشم، فلما دخلت إليه رأى مني جزعا فقال: اسكن فلا بأس عليك، ما هذا الجزع الذي ظهر منك؟ قلت: أخافك، قال: ولم؟ قلت: لأنّه بلغني أنك تقتل الناس، قال: إنما أقتل من يقاتلني ويريد قتلي، أفأنت منهم؟ قلت:
لا، فأقبل على جلسائه ضاحكا فقال: أما أبو العجاج فقد رخّص لنا، ثم قال: أنشدني قولك [1] : [من الرجز]
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فقلت: أو أنشدك أصلحك الله أحسن منه؟ قال: هات، فأنشدته: [من الرجز]
قلت ونسجي مستجد حوكا ... لبّيك إذ دعوتني لبيكا
أحمد ربا ساقني إليكا
قال: هات كلمتك الأولى. قلت: أو أنشدك أحسن منها؟ قال:
هات، فأنشدته: [من الرجز]
ما زال يبني خندقا وتهدمه ... ويستجيش عسكرا وتهزمه
ومغنما يجمعه وتقسمه ... مروان لما أن تهاوت أنجمه
وخانه في حكمه منجمه
قال: دع هذا وأنشدني: وقاتم الأعماق. فقلت: أو أحسن منه؟
قال: هات فأنشدته: [من الرجز]
رفعت بيتا وخفصت بيتا ... وشدت ركن الذين إذ بنيتا
في الأكرمين من قريش بيتا
قال: هات ما سألتك عنه، فأنشدته: [من الرجز]
__________
[1] قولك: سقطت من ر.(2/80)
ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره
مشمرا لا يصطلى بناره ... حتى أقرّ الملك في قراره
وفرّ مروان على حماره
فقال: ويلك هات ما دعوتك له وأمرتك بانشاده ولا تنشد شيئا غيره فأنشدته: «وقاتم الأعماق» فلما وصلت إلى قولي:
ترمي الجلاميد بجلمود مدقّ
قال: قاتلك الله لشدّ ما استصلبت الحافر، ثم قال: حسبك أنا ذلك الجلمود المدق. قال: وجيء بمنديل فيه مال فوضع بين يديّ، فقال أبو مسلم: يا رؤبة إنك أتيتنا والأموال مشفوفة (يقال: اشتفّ ما في الاناء وشفّه إذا أتى عليه) وإنّ لك إلينا لعودة وعلينا معوّلا والدهر أطرق مستتب، فلا تجعل بيننا وبينك الأسدّة؛ قال رؤبة: فأخذت المنديل منه، وتالله ما رأيت أعجميا أفصح منه، وما ظننت أنّ أحدا يعرف هذا الكلام غيري وغير أبي.
«159» - قال أبو الفرج الأصفهاني: حضرت أبا عبد الله الباقطائي وهو يتقلّد ديوان المشرق وقد تقلد ابن أبي السلاسل ماسبذان ومهر جانقذق وجاءه ليأخذ كتبه، فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين والعمال، فقال ابن أبي السلاسل: كأنك قد استكثرت لي هذا العمل؛ أنت أيضا قد كنت(2/81)
تكتب لأبي العبّاس ابن ثوابة ثم صرت صاحب ديوان. فقال له الباقطائي: يا جاهل يا مجنون لولا أنه قبيح بمثلي مكافأة مثلك لراجعت الوزير- أيده الله- في أمرك حتى أزيل يدك، ومن لي بأن أجد مثل ابن ثوابة في هذا الزمان فأكتب له ولا أريد الرياسة، ثم أقبل علينا يحدثنا فقال: دخلت مع أبي العبّاس ابن ثوابة إلى المهتدي وكان سليمان بن وهب وزيره، وكان يدخل إليه الوزير وأصحاب الدواوين والعمال والكتاب فيعملون بحضرته ويوقّع إليهم في الأمور. فأمر سليمان بأن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فأخذ سليمان بيد أبي العبّاس ابن ثوابة ثم قال له: أنت اليوم أحدّ ذهنا مني فهلمّ نتعاون، ودخلا بيتا ودخلت معهما، وأخذ سليمان خمسة أنصاف وأبو العبّاس خمسة أخر [1] ، فكتبا الكتب التي أمر بها، ما احتاج أحدهما إلى نسخة، وقرأ كلّ واحد منهما ما كتب به صاحبه فاستحسنه، ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي فقال له وقد قرأها: أحسنت يا سليمان، نعم الرجل أنت لولا المعجّل والمعدّل- وكان سليمان إذا ولّى عاملا أخذ منه ما لا معجّلا وعدّل له مالا إلى أن يتسلّم عمله [2]- فقال له: يا أمير المؤمنين هذا قول لا يخلو أن [3] يكون حقا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك قبله، وإن كان حقا وقد علمت أنّ الأصول محفوظة فما يضرّك من مساهمتي عمالي على بعض ما يصل إليهم من مرفق لا يجحف بالرعية ولا ينقص الأصول؟ فقال له: إذا كان هذا هكذا فلا بأس، ثم قال له: اكتب إلى فلان العامل بقبض ضيعة فلان العامل المصروف المعتقل في يديه بباقي ما عليه من المصادرة، فقال له أبو العبّاس ابن ثوابة: كلنا يا أمير المؤمنين خدمك وأولياؤك، وكلّنا حاطب في حبلك وساع فيما أرضاك وأيّد ملكك، أفنمضي ما تأمر به على ما خيّلت أم
__________
[1] م: خمسة أنصاف أخر.
[2] وكان سليمان ... عمله: سقط من م.
[3] م: إما أن.(2/82)
نقول الحقّ؟ قال: لا بل قل الحقّ يا أحمد، فقال: يا أمير المؤمنين الملك حقّ والمصادرة شكّ، أفترى أن نزيل اليقين بالشك؟ قال: لا، فقال: قد شهدت للرجل بالملك وصادرته عن شكّ فيما بينك وبينه وهل خانك أم لا، فجعلت المصادرة صلحا، فإذا قبضت ضيعته بها فقد أزلت اليقين بالشكّ، فقال له: صدقت، ولكن كيف الوصول إلى المال؟ فقال له: أنت لا بدّ مولّ عمّالا على أعمالك، وكلّهم يرتزق ويرتفق فيحوز رزقه ورفقه إلى منزله، فاجعله أحد عمالك ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه ويسعفه معاملوه فيخلّص نفسه وضيعته ويعود إليك مالك. فأمر سليمان بن وهب أن يفعل ذلك. فلما خرجنا عن حضرة المهتدي قال له سليمان: عهدي بهذا الرجل عدوّك، وكلّ واحد منكما يسعى على صاحبه، فكيف زال ذاك حتى نبت عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها وتخلّصت نعمته؟ فقال: إنما كنت أعاديه وأسعى عليه وهو يقدر على الانتصاف مني، فأما وهو فقير إليّ فهو مما يحظره الدين والصناعة والمروءة، فقال له سليمان: جزاك الله خيرا، أما والله لأشكرنّ هذه النية لك، ولأعتقدنّك من أجلها أخا وصديقا، ولأجعلنّ هذا الرجل لك عبدا ما بقي؛ ثم قال له الباقطائي: من كان هذا وزنه وفضله يعاب من كان يكتب له؟
«160» - كليب بن وائل في العزم: [من الرجز]
ليس الكلام مغنيا دون العمل ... وشرّ ما رام امرؤ ما لم ينل
وكثرة الايغال عجز وفشل
«161» - عمرو بن الحارث [1] الطائي: [من الطويل]
__________
[1] م: حارثة.(2/83)
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة ... وأحلامها فانظر إلى من يسودها
«162» - الرضي أبو الحسن الموسوي: [من الخفيف]
أترى آن للمنى أن تقاضى ... حاجة طال مطلها في الفؤاد
بين همّ تحت المناسم مطرو ... ح وعزم على ظهور الجياد
«163» - (1) وكان الرضيّ بعيد مطمح الهمة يرى نفسه أهلا للخلافة، ويطمع في تقمصها، وكانت حاله كما أنبأ عن نفسه في قوله [من الوافر]
ولي أمل كصدر الرّمح ماض ... سوى أنّ الليالي من خصومي
(2) وفي قوله: [من الوافر]
وما يغني مضيّك في صعود ... إذا ما كان جدّك في صبوب
(3) فمن شعره في أمله وهمته قوله: [من الوافر]
وما في الأرض أحسن من يسار ... إذا استولى على أمر مطاع
(4) وقوله: [من الطويل]
وركب سروا والليل ملق رواقه ... على كلّ مغبّر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور [1] العزائم
__________
[1] الديوان: صدور.(2/84)
تريهم نجوم الليل ما يبتغونه ... على عاتق الشعرى وهام النعائم
«163» . (5) وقال: [من البسيط]
وغلمة في ظهور العيس أرّقهم ... همّ شعاع وآمال عباديد
ملثّمين بما راخت عمائمهم ... وكلّهم طرب للبين غرّيد
لا آخذ المجد [1] إلا عن رماحهم ... إذا تطاعنت الشمّ المناجيد
(6) وقال: [من البسيط]
وما أسرّ بمال لا أعزّ به ... ولا ألذّ برأي فيه تفنيد
ليس الثراء بغير المجد فائدة ... ولا البقاء بغير العزّ محمود
(7) وقال: [من الطويل]
ولله قلب لا يبلّ غليله ... وصال ولا يلهيه من خلّة وعد
يكلّفني أن أطلب العزّ بالمنى ... وأين العلى إن لم يساعدني الجد
وليس فتى من عاق عن حمل سيفه ... إسار وحلّاه عن الطلب القدّ
ولا مال إلا ما كسبت بنيله ... ثناء ولا مال لمن ماله مجد
(8) وقال: [من الطويل]
ولي أمل لا بدّ أحمل عبئه ... على الجرد من خيفانة وحصان
فإن أنا لم أركب عظيما فلا مضى ... حسامي ولا روّى الطعان سناني
__________
[1] الديوان: الطعن، م: المدح.(2/85)
«163» (9) وقال: [من المنسرح]
كيف يهاب الحمام منصلت ... مذ خاف غدر الزمان ما أمنا
لم يلبس الثوب من توقعه ... للأمر إلا وظنّه الكفنا
أعطشه الدهر من مطالبه ... فراح يستمطر القنا اللّدنا
(10) وقال في تعرضه للخلافة ودعواه استحقاقها: [من الطويل]
يخيفونني بالموت والموت راحة ... لمن بين غربي قلبه مثل همّتي
فلا صلح حتى يسمعوا [1] من أزيزها ... صواعق إما صكّت الأذن صمّت [2]
فخرت بنفسي لا بأهلي موفرا ... على ناقصي قومي مناقب أسرتي [3]
أما أنا موزون بكلّ خليفة ... أرى أنفا من أن يكون خليفتي
ولا بد يوما أن تجيء فجاءة ... فلا تنظراني عند وقت موقّت
(11) وقال: [من المنسرح]
فتى رأى الدهر غير مؤتمن ... فما فشا سرّه إلى أحد
واقتحم الليل [4] فهو يمتحن ال ... مهرة قبل الطّراد بالطّرد
في كلّ فج يقود راحلة ... تجذبها الأرض جذبة المسد
لا يبعد الله غلمة ركبوا ... أغراضهم واشتفوا من البعد
رموا بعهد النعيم واصطنعوا ... كلّ شريف [5] الذباب مطرد
__________
[1] الديوان: تسمعوا.
[2] الديوان: صكت.
[3] وقع البيت بعد التالي له في الديوان وفي ر.
[4] الديوان: واتهم الليل.
[5] الديوان: نحيل.(2/86)
قلّوا على كثرة العدوّ لهم ... كم عدد لا يعدّ في العدد
«163» . (12) وقال: [من الكامل]
ما عذر من ضربت به أعراقه ... حتى بلغن إلى النبيّ محمد
ألّا يمدّ إلى المكارم باعه ... وينال منقطع العلى والسؤدد
متحلقا حتى تكون ذيوله ... أبد الزمان عمائما للفرقد
أعن المقادر لا تكن هيّابة ... وتأزّر اليوم العصبصب وارتد
لا تغبطنّ على البقاء معمّرا ... يا قرب يوم منية من مولد
«164» . (1) وقال محمد بن هانىء المغربي: [من الطويل]
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه ... فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
(2) وقال: [من البسيط]
فلست من سخطه المردي على وجل [1] ... ما دمت من عفوه المحيي على أمل
لعلّ حلمك أملى للذين هووا ... في غيهم بين معفور ومنجدل
فما شفا داءهم إلا دواؤهم ... والسيف نعم دواء الداء والعلل
(3) وقال أيضا: [من الكامل]
تأتي له خلف الخطوب عزائم ... تذكى لها خلف الصباح مشاعل
فكأنهن على الغيوب غياهب ... وكأنهنّ على النفوس حبائل
__________
[1] الديوان: خطر.(2/87)
ملك إذا صدئت عليه دروعه ... فلها من الهيجاء يوم صاقل
«164» . (4) وقال: [من الكامل]
دعني أخاطر بالحياة فإنما ... طلب الرجال العزّ ضرب قداح
(5) وقال: [من الوافر]
وما لي من لقاء الموت بدّ ... فمالي لا أشدّ له حزيمي
«165» - ومن ارتفاع الهمّة الأبنية المشاهدة في دار الإسلام فمنها:
(1) إيوان كسرى: ويقال إنّ المنصور لما بنى بغداد أحبّ أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار خالد بن برمك فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبيّ، وهو مصلّى علي بن أبي طالب، والمؤونة في نقضه أكثر من الارتفاق به، فقال: أبيت إلا ميلا للعجم، فهدمت ثلمة فبلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك، فقال له خالد: أنا الآن أشير بهدمه لئلا يتحدّث بعجزك عنه، فلم يفعل.
وصفه البحتري فقال: [من الخفيف]
وكأن الإيوان من عجب الصّن ... عة جوب في جنب أرعن مرس
لم يعبه أن بزّ من ستر الديبا ... ج واستلّ من ستور الدمقس(2/88)
مشمخرا تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لست أدري أصنع أنس لجن ... [سكنوه] أم صنع جنّ لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الرجال بنكس
«165» . (2) ومنها الهرمان بمصر، يقال: ليس في الأرض بناء أرفع منهما وأن ارتفاع كلّ واحد منهما أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة، ولا يزالان ينخرطان في الهواء صنوبريا حتى ترجع دورتهما إلى مقدار خمسة أشبار في مثلها مبنيّة بحجار المرمر والرخام وكل حجر عشر أذرع إلى ثمان، وحجارتهما منقولة من مسافة أربعين فرسخا من موضع يعرف بذات الحمام فوق الإسكندريّة، منقولا فيهما بالمسند كل سحر وطب وطلسم، وفيه: إني بنيتهما فمن ادّعى قوة في ملكه فليهدمهما، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما. وقالوا لا يعرف من بناهما، قال المتنبيّ: [من الكامل]
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
وأما البحتري فقد سمّى بانيهما وليست تسميته حجّة في صحة الأخبار فقال: [من الطويل]
ولا كسنان بن المشلّل بعد ما ... بنى هرميها من حجارة لابها
(3) ومنارة الإسكندريّة مبنيّة على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر(2/89)
سرطان من نحاس في بطن أرض البحر، وطولها أربعمائة وخمسون ذراعا، وهي غاية ما يمكن رفعه في الهواء، وفيها ثلاثمائة وخمسون بيتا، وكانت في أعلاها مرآة كبيرة يرى فيها الناظر قسطنطينية وبينهما عرض البحر، وكلما جهّز ملك الروم جيشا أبصر فيها، فوجه ملك الروم إلى بعض الخلفاء أن في الثلث الأعلى كنوزا لذي القرنين فهدموه فلم يجدوا شيئا وعلم أنها حيلة في إبطال الطلسم في المرآة.
«166» - قال عبد الله بن المقفع: [من البسيط]
إن كنت لا تدّعي مجدا ومكرمة ... إلا بقصرك لم ينهض بأركان
سام الرجال بما تسمو الرجال به ... تلك المكارم لا تشييد بنيان
«167» - أخبرني الشيخ الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الفارقي قال: كان بميافارقين بائع يعرف بأبي نصر بن جريّ واسع المعيشة، فرفع إلى نصر الدولة بن مروان أنه تحصّل له من دلالة المقايضة في ليلة واحدة عشرون ألف درهم، فأحضره وسأله عما أنهي إليه فقال: كذب الواشي أيها الأمير، إنما كانت عشرين ألف دينار وهي خدمة مني للمولى فضل- يعني ولده- وهو قائم على رأسه، فقال: معاذ الله بل نوفّر عليك، وأحمد الله على أن حصل لتاجر من رعيتي في ليلة واحدة من الدلالة مثل هذا المال. ثم إنّ البائع المذكور قال له: أيها الأمير أنا كثير المال، واسع الحال، وقد جمعت شيئا أعددته لعمل مصلحة إن أعنتني عليها وأذنت لي فيها، قال: وما هي؟ قال أن أسوق(2/90)
الماء من الجبل إلى البلد وأنقب له خرقا في السور، قال: وما يصنع بدور الناس ومجازه فيها؟ قال: أشتري كلّ دار تكون مجازا للماء فإن لم يبعنيها صاحبها أجريت له الماء في داره، فأذن له وأخرج مائة ألف دينار عمل بها هذه المصلحة، وأجرى الماء إلى المسجد الجامع والأسواق والآدر.
رياسة العلم والدين:
«168» - قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والحلم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم.
169- وروي عن عيسى عليه السلام أنّه قال: من علم وعمل وعلّم عدّ في الملكوت الأعظم عظيما.
17»
- وقد كرهت الشهرة بذلك خوف الفتنة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا.
«171» - وروي في الحديث: من تعلّم العلم لأربعة دخل النار: ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به من الأمراء، أو يميل به وجوه الناس إليه.
«172» - وقال الحسن: لقد صحبت أقواما ان الرجل لتعرض له الكلمة من الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلّا مخافة الشهرة.(2/91)
«173» - وقال ابن سيرين: لم يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى أخذ بلحيتي، فأقمت على المصطبة [1] فقيل: هذا ابن سيرين.
«174» - قال معمر [2] : رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمس الأرض فقلت: ما هذا؟ فقال: إنما كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها واليوم الشهرة في تقصيرها؛ وكان يقول للخياط: اقطع وأطل فإن الشهرة اليوم في القصر.
«175» - وقال رجل لفضيل [3] : عظني، فقال: كن ذنبا ولا تكن رأسا، حسبك.
وهم وإن كرهوا الشهرة فإن الرياسة حاصلة لهم وإن أخفوا حالهم وستروها، والقلوب مسلّمة إليهم الرياسة وان أبوها، والجبابرة منقادة إليهم [4] صغرا وكرها لتمكن هيبتهم في صدورهم.
«176» - جاء عطاء بن أبي رباح إلى سدّة سليمان بن عبد الملك فجعل يقعقع الحلقة، فقال سليمان بن عبد الملك: افتحوا له، وتزحزح له عن مجلسه
__________
[1] م: المصيطبة.
[2] م: قال نعم.
[3] ع: للفضل؛ م: للفضيل.
[4] م ر: لهم.(2/92)
فقال: أصلحك الله، احفظ وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أبناء المهاجرين والأنصار قال: أصنع بهم ماذا؟ قال: انظر في أرزاقهم، قال: ثم ماذا؟
قال: أهل البادية تفقّد أمورهم فإنهم مادة العرب، قال: ثم ماذا؟ قال: ذمّة المسلمين تفقد أمورهم وخفف عنهم من خراجهم فإنهم عون لك على عدو الله وعدوهم، قال: ثم ماذا؟ قال: أهل الثغور تفقدهم فإنه يدفع بهم عن هذه الأمّة، قال: ثم ماذا؟ قال: يصلح الله أمير المؤمنين. فلما ولى قال: هذا والله الشرف لا شرفنا، وهذا والله السؤدد لا سؤددنا، والله لكأنما معه ملكان ما أقدر أن أراجعه في شيء سألني، ولو سألني أن أتزحزح عن هذا المجلس لفعلت.
«177» - ودخل عمر بن عبد العزيز على عطاء وهو أسود مفلفل الشعر يفتي الناس في الحلال والحرام فتمثل: [من البسيط]
تلك المكارم لا قعبان من لبن
«178» - ودخل محمد بن أبي علقمة على عبد الملك بن مروان فقال له: من سيد الناس بالبصرة؟ قال: الحسن، قال: مولى أم عربي؟
قال: مولى، قال: ثكلتك أمك، مولى ساد العرب؟ قال: نعم، قال:
بم؟ قال: استغنى عما في أيدينا من الدنيا وافتقرنا إلى ما عنده من العلم.
قال: صفه لي، قال: آخذ الناس لما أمر به وأتركهم لما نهى عنه.(2/93)
«179» - وروي أن بدويا قدم البصرة فقال لخالد بن صفوان: أخبرني عن سيد هذا المصر، قال: هو الحسن بن أبي الحسن، قال: عربيّ أم مولى؟ قال: مولى، قال: وبم سادهم؟ قال: احتاجوا إليه في دينهم واستغنى عن دنياهم، قال البدوي: كفى بهذا سؤددا.
180- ولما وقعت الفتنة بالبصرة رضوا بالحسن فاجتمعوا عليه وبعثوا إليه، فلما أقبل قاموا، فقال يزيد بن المهلب: كاد العلماء يكونون أربابا، أما ترون هذا المولى كيف قام له سادة العرب؟! «181» - وجّه الرشيد إلى مالك بن أنس ليأتيه فيحدثه، فقال مالك: إن العلم يؤتى، فصار الرشيد إلى منزله فاستند معه إلى الجدار فقال: يا أمير المؤمنين من إجلال الله إجلال العلم، فقام وجلس بين يديه. وبعث إلى سفيان ابن عيينة فأتاه وقعد بين يديه وحدّثه، فقال الرشيد بعد ذاك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به.
182- وأراد أن يسمع منه الموطأ مع ابنيه فاستخلى المجلس، فقال مالك: إن العلم إذا منع منه العامة لم ينتفع به الخاصّة، فأذن للناس فدخلوا.
«183» - وكان مالك يكرم العلم ويعظّمه، فإذا أراد أن يتحدث توضّأ وسرّح لحيته وجلس في صدر مجلسه بوقار وهيبة. ودخل عليه ليلة بعد ما أوى إلى فراشه قريبه إسماعيل بن أويس ليحدثه، فقام فتوضّأ وفعل نحو ذلك فحدّثه ثم نزع ثيابه وعاد إلى فراشه.(2/94)
«184» - وفيه قيل: [من الكامل]
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعزّ سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
«185» - قال سفيان الثوري: ما رأينا الزهد في شيء أقلّ منه في الرياسة لأنّ الرجل يزهد في الأموال ويسلمها وإذا نوزع في الرياسة لم يسلمها.
«186» - قال علي عليه السلام: من حقّ إجلال الله إكرام ثلاثة: ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الجافي عنه ولا الغالي فيه.
«187» - قام وكيع بن الجراح إلى سفيان الثوري فأنكر عليه قيامه، فقال وكيع: حدثتني عن عمرو بن دينار عن أنس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، فسكت سفيان وأخذ بيده فأجلسه إلى جانبه.
«188» - قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوريّ من الناس؟ قال:
العلماء، قلت: من الأشراف؟ قال: المتقون، قلت: من الملوك؟ قال:
الزهاد، قلت: من الغوغاء؟ قال: القصّاص الذين يستأكلون أموال الناس(2/95)
بالكلام، قلت: من السفلة؟ قال: الظلمة.
«189» - دخل أبو العالية على ابن عبّاس فأقعده معه على السرير وأقعد رجالا من قريش تحته، فرأى سوء نظرهم إليه وحموضة وجوههم، فقال:
ما لكم تنظرون إليّ نظر الشحيح إلى الغريم المفلس؟ هكذا الأدب يشرّف الصغير على الكبير، ويرفع المملوك على المولى، ويقعد العبيد على الأسرّة.
«190» - مر الحسن بأبي عمرو بن العلاء وحلقته متوافرة، والناس عليه عكوف فقال: من هذا؟ قالوا: أبو عمرو، قال: لا إله إلا الله كاد العلماء يكونون أربابا.
«191» - قال الفضيل [1] : لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزّوا هذا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله إذن لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس فكانوا لهم تبعا، ولكنهم ابتذلوا أنفسهم، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا فهانوا وذلوا، ووجدوا لغامز فيهم مغمزا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أعظم بها مصيبة.
نظر إلى هذا المعنى القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني فقال:
[من الطويل]
ولم أقض حقّ العلم إن كنت كلّما ... بدا طمع صيرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأغرسه عزا وأجنيه ذلة ... إذا فاتباع الجهل قد كان أسلما
__________
[1] م: الفضل.(2/96)
فإن قلت جدّ العلم كاب فإنما ... كبا حين لم يحرس حماه وأسلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظما
ولكن أذالوه فهان ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهما
«192» - سأل خالد القسري واصل بن عطاء عن نسبه فقال: نسبي الإسلام الذي من ضيّعه فقد ضيّع نسبه، ومن حفظه فقد حفظ نسبه، فقال خالد: وجه عبد وكلام حرّ.
193- أوصى حكيم ابنه فقال: يا بني عزّ المال للذهاب والزوال، وعزّ السلطان يوم لك ويوم عليك، وعزّ الحسب للخمول والدثور، وأما عزّ الأدب فعز راتب رابط لا يزول بزوال المال، ولا يتحوّل بتحوّل السلطان، ولا ينقص على طول الزمان؛ يا بني عظّمت الملوك أباك وهو أحد رعيتها، وعبدت الرعية ملوكها فشتّان ما بين عابد ومعبود؛ يا بنيّ لولا أدب أبيك لكان للملوك بمنزلة الابل النقالة والعبيد الحمالة.
«194» - قال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عبّاس، أكثر فقها وأعظم جفنة: إن أصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، وأصحاب الفقه عنده، يصدرهم كلهم في واد واسع.
ومن الشرف والرياسة حمل المغارم:
«195» - جلس الاسكندر يوما فلم يسأله أحد حاجة فقال لجلسائه: إني لا أعدّ هذا اليوم من ملكي.(2/97)
«196» - وقال أسماء بن خارجة: لا أشاتم رجلا ولا أردّ سائلا، فإنما هو كريم أسدّ خلّته، أو لئيم أشتري عرضي منه. (ولما جعل فعله وقاية لعرضه لم يكن جودا بل دل على طلب الرياسة ببذل ماله) .
«197» - ومثل هذا المعنى لبعض الأعراب: [من الطويل]
سأمنح مالي كلّ من جاء طالبا ... وأجعله وقفا على النّفل والفرض
فإما كريم صنت بالمال عرضه ... وإما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
«198» - باع حكيم بن حزام داره من معاوية بستين ألف دينار فقيل له: غبنك معاوية، فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقّ خمر، أشهدكم أنّها في سبيل الله، فانظروا أينا المغبون.
«199» - وقال حسان بن ثابت: [من البسيط]
أصون عرضي بمالي لا أدنّسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال
200- اشترى عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كريز من عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقيقا من سبي ففضل عليهما ثمانون ألف درهم، فأمر(2/98)
بهما أن يلازما، فمرّ عليهما طلحة بن عبيد الله وهو يريد الصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما لابن معمر ملازم؟ فأخبر بخبره، فأمر له بالأربعين الألف الدرهم التي عليه فقضى عنه، فقال ابن معمر لابن عامر: انها إن قضيت عني بقيت ملازما، وإن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى تنقضي عني، فدفع إليه الأربعين الألف فقضاها ابن عامر عن نفسه وخلّيت سبيله، فمرّ طلحة منصرفا من الصلاة فوجد ابن معمر ملازما فقال ما لابن معمر، ألم آمر بالقضاء عنه؟ فأخبر بما صنع، فقال: أمّا ابن معمر فإنه علم أنّ له ابن عمّ لا يسلمه، احملوا عنه أربعين ألف درهم فاقضوها عنه، ففعلوا وخلّي سبيله.
201- سأل رجل ابن شبرمة القاضي أن يكلّم له رجلا في صلة يصله بها، ولازمه، فأعطاه ابن شبرمة من ماله وقال: [من الوافر]
وما شيء بأثقل وهو خفّ ... على الأعناق من منن الرجال
فلا تفرح بمال تشتريه ... بوجهك إنه بالوجه غال
«202» - زعم الأصمعي أنّ حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى عبد الله بن عبد الرحمن من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي فدخلت، فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب، فخبّرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصحفة وصاح: يا جارية [1]
__________
[1] سقط من م.(2/99)
غدّينا، قال: فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته أن آكل معه، حتى إذا قضى من أكله وطرا وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح [1] : يا جارية اسقيني ماء، فأتته بماء فشربه، ومسح فضله على وجهه ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم [2] ؟ ثم قال: [يا جارية] عليّ بردائي، فأتته برداء عدنيّ فارتدى به على تلك الشملة، قال الأصمعيّ: فتجافيت عنه استقباحا لزيه، فلما دخل المسجد صلّى ركعتين ثم مضى إلى القوم فلم تبق حبوة إلّا حلّت إعظاما له، ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء من ماله ثم انصرف.
«203» - قال أبو عبيدة: لما أتى زياد بن عمرو المعنيّ المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي جعل في الميمنة بكر بن وائل، وفي الميسرة عبد القيس، وهم لكيز بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة، وكان زياد بن عمرو في القلب، فبلغ ذلك الأحنف فقال: هذا غلام حدث شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه، فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني [3] فجعله في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعل سعدا والرباب في القلب، ورئيسهم عبس ابن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس وهو أحد بني صريم بن يربوع بحذاء الأزد، وجعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحبّ إلينا من تميم الكوفة، جيراننا في الدار، ويدنا على عدونا، وأنتم بدأتمونا
__________
[1] سقط من م.
[2] م: النعمة.
[3] م: العدواني.(2/100)
بالأمس ووطئتم حرمنا، حرّقتم علينا، فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشرّ ما أصبنا في الخير مسلكا، فتيمموا بنا طريقة قاصدة. فوجّه إليه زياد بن عمرو: تحيّر [1] خلّة من ثلاث: إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخلّ لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم، وإلا فدوا قتلانا واهدروا دماءكم وليؤدّ مسعود دية المشعرة. (قوله: دية المشعرة يريد أمر [الملوك في] الجاهلية، وكان الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات) . فبعث إليه الأحنف: سنختار، فانصرفوا في يومكم، فهزّ القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان من الغد بعث إليهم: إنكم خيرتمونا خلالا ليس فيها خيار، أمّا النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر [دما] [2] ، وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ
(النساء: 66) ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال، فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم، وإنما مسعود رجل من المسلمين، وقد أذهب الله عز وجل أمر الجاهليّة. فاجتمع القوم على أن يقضوا [3] أمر مسعود، ويغمد السيف، ويودى سائر القتلى من الأزد وربيعة، فتضمن ذلك الأحنف ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدّى هذا المال، فرضي به القوم، ففخر بذلك الفرزدق فقال: [من الطويل]
ومنا الذي أعطى يديه رهينة ... لغاري معد يوم ضرب الجماجم
عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موت بالسيوف الصوارم
هنالك لو تبغي كليبا وجدتها ... أذلّ من القردان تحت المناسم
ويقال إن تميما في ذلك الوقت اجتمعت مع باديتها وحلفائها من الأساورة والزطّ والسيابجة وغيرهم فكانوا زهاء سبعين ألفا. قال الأحنف: فكثرت
__________
[1] م: يخيره.
[2] م: والكلام تقطر.
[3] م والكامل: يقفوا.(2/101)
الديات عليّ فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل، فسلمت عليه وانتسبت له فقال: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقلت توفي صلوات الله عليه. قال: فما فعل عمر بن الخطاب رحمه الله الذي كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات رحمه الله، قال: فأيّ خير في حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة قال، فقال:
أقم، فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها فقال: خذها، فقلت لا أحتاج إليها، قال: فانصرفت بالألف من عنده ولا أدري من هو إلى الساعة.
«204» - كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في جيش مسلمة بن عبد الملك حين غزا الروم في خلافة عمر بن عبد العزيز التي بلغ فيها القسطنطينيّة فشتا بها، فسامه مسلمة بماله الذي يعرف بالعرصة، فأبى المغيرة أن يبيعه، ثم أصاب أهل تلك الغزاة مجاعة، فباعها إياه بخمسة عشر ألف دينار، فنقده مسلمة الثمن، فبعث المغيرة بذلك المال مع من اشترى له إبلا من كلب، واشترى له دقيقا وزيتا وقباطيّ، وحمل ذلك على الابل، وكانوا لا يقدرون على الحطب، فأمر بالقباطيّ فأدرجت في الزيت وأوقدها ونحر الإبل واطّبخ [1] واختبز وأطعم الناس، وكان في تلك الغزاة أخوه أبو بكر بن عبد الرحمن فقيل له: نرى نارا في العسكر، فقال: لا تجدونها إلا في رحل
__________
[1] م: وطبخ.(2/102)
المغيرة، فقولوا له يبعث إلينا من طعامه، فبعث إليه، فلما قفل الناس من غزاتهم تلك وبلغ هذا الخبر عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة: أنت كنت أقوى وأولى باطعام الناس من المغيرة، وذلك لك ألزم، لأنك إنما كنت تطعمهم من بعض مالك وهو يطعمهم عظم ماله، فأقله البيع فإنه بيع ضغطة لا يجوز، فعرض ذلك مسلمة على المغيرة فأبى وقال: قد أنفذت البيع، فأمر عمر بن عبد العزيز بتلك الضّيعة فردّت على المغيرة، وأمر بالمال فدفع إلى مسلمة من بيت المال، فتصدق المغيرة بالعرصة، وأمر أن يطعم الحاجّ منها يوم عرفة وثلاث منى، فهو السويق والسمن والتمر الذي يطعم بمنى من صدقة المغيرة.
«205» - كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري سيدا شجاعا جوادا، وكان سعد أبوه حيث توجه إلى حوران قسم ماله بين ولده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما ولد له مشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود فقال: نصيبي له ولا أغير ما فعل سعد.
«206» - استعمل الوليد بن عبد الملك ابن هبيرة على البحرين، فلما قام سليمان أخذ ابن هبيرة بألف ألف، ففزع إلى يزيد بن المهلب، فأتاه في جماعة من قومه فقال له: زاد الله في توفيقك وسرورك، أخذت بما لا يسعه مالي، ولا يحتمله عيالي، فقلت: ما لها إلّا سيد أهل العراق ووزير الخليفة وصاحب المشرق، فقال آخر من أصحاب ابن هبيرة: أيها الأمير ما خصّ هذا عمّنا، وقد أتيناك فيما شكا فإن تستقلّه فقد ترجّى لأكثر منه، وإن تستكثره فقد تضطلع بدونه، ووالله ما الدخان بأدلّ آية على النار ولا العجاج على الريح من ظاهر أمرك على باطنه. وقال آخر: عظم أمرك أن يستعان عليك إلا بك،(2/103)
فلست تأتي شيئا من المعروف إلا صغر عنك وكبرت عنه، ولا غاية بلغتها إلا وحظّك منها مقدّم وحقك فيها معظّم، ولا نقيسك بأحد من الملوك إلا عظمت عنه، ولا نزنك بأحد منهم إلا رجحت به، ووالله ما العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. فقال يزيد: مرحبا بكم وأهلا، إنّ خير المال ما قضي به الحقّ، وإنما لي من مالي ما فضل عن الناس، وايم الله لو أعلم أن أحدا أملأ بحاجتكم مني لأرشدتكم إليه، فاحكموا واشتطوا. قال ابن هبيرة:
النصف أصلحك الله، قال: اغد على مالك فاقبضه، فدعوا له وانصرفوا، فمضوا غير بعيد وتثاقلوا في مشيهم، فقال لهم ابن هبيرة: ويحكم والله ما يفرق يزيد بن النصف والكلّ، وما لما بقي غيره؛ فهم يفكرون في الرجوع فظنّ ذلك يزيد بهم فأمر بردّهم وقال: إن ندمتم أقلناكم، وإن ازددتم زدناكم، قالوا: أقلنا وزدنا قال: قد حملتها كلّها؛ ثم كلّم يزيد سليمان وأخبره فقال:
احملها إلى بيت المال، ثم سوّغه إياها.
«207» - ومن أحسن الأفعال وأشرفها في احتمال المغارم ما فعله صعصعة ابن ناجية المجاشعيّ جدّ الفرزدق في افتداء الموؤدات، حتى جاء الإسلام وقد فدى ثلاثمائة وستين موؤدة، وخبره في ذلك يرد في باب أخبار العرب وعجائبهم.
«208» - قال ابن عياش: كان حوشب بن يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني وعكرمة بن ربعي البكري يتنازعان الشرف، ويتبازيان في إطعام الطعام ونحر الجزر في عسكر مصعب، وكان حوشب يغلب عكرمة بسعة يده، قال: وقدم عبد العزيز بن يسار مولى بحتر [1]- قال: وهو زوج أمّ شعبة
__________
[1] الأغاني: بخنر (وبحير في نسخة أخرى) .(2/104)
الفقيه- بسفائن دقيق، فأتاه عكرمة فقال له: الله الله فيّ قد كاد حوشب يغلبني ويستعليني [1] بماله، فبعني هذا الدقيق بتأخير ولك فيه مثل ثمنه ربحا، فقال: خذه، فدفعه إلى قومه وفرقه فيهم فعجنوه كلّه، ثم جاء بالعجين كله فجمعه في هوّة عظيمة وأمر به فغطّي بالحشيش، وجاءوا برمكة فقربوها إلى فرس حوشب حتى [طلبها وأفلت ثم ركضوها بين يديه وهو يتبعها حتى] [2] ألقوها في ذلك العجين ومعها الفرس، فتورطا في ذلك العجين وبقيا فيه جميعا، وخرج قوم عكرمة يصيحون في العسكر: يا معشر المسلمين أدركوا فرس حوشب فقد غرق في خميرة عكرمة، فخرج الناس تعجبا من ذلك أن تكون خميرة يغرق فيها فرس، فلم يبق في العسكر أحد إلا ركب ينظر، وجاءوا إلى الفرس وهو غريق في العجين ما يبين منه إلا رأسه وعنقه، فما أخرج إلّا بالعمد والحبال وغلب عليه عكرمة.
209- كان للحسن بن سهل غريم له عليه مال كثير، فعلق به وصار به إلى ابن أبي داود فلم يقدر أن يمتنع عليه، وكان ابن أبي داود يريد أن يضع من الحسن، فصادفه قد ركب يريد دار الواثق فقال: انتظرا عودي، وتباطأ عن العود ليزيد في إذلال الحسن، فجاء وكيل الحسن فدخل عليه، فقال له الحسن: بعت الضيعة؟ قال: نعم، قال: زن لهذا الغريم ماله، وسأل جماعة من حضر مجلس الحكم ممن عليه دين وهو ملازم به عمّا عليهم، فتقدم إلى وكيله بأن يزن عنهم جميع ما عليهم لغرمائهم، ففعل، وعاد ابن أبي داود فلم يجد الحسن ولا أحدا ممن كان عنده ملازما عنده بدين، فسأل عن الخبر فأخبر به، فانكسر وخجل، وصار بعد ذلك يصف الحسن بالجلالة والنبل.
__________
[1] م: ويستغلبني.
[2] زيادة من الأغاني.(2/105)
210- ولما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخّجي، ثم وجّه إليه يوما: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرّده واضربه مائة سوط، ولا تتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ما أمره به، فهو في ذلك إذ طلع عليه [1] محمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير حينئذ وأبوه الوزير، وكانا عدوّيه، فلما رآهما سليمان أيقن بالهلاك، وعلم أنّ الجلّادين سيجوّدون [2] ضربه لما يعرفون من عداوتهما له، فلما دنا منه محمد بن عبد الملك الزيات قال له: يا أبا أيوب ليس إلا؟ قال له سليمان: ليس إلا، فقال للجلادين حطّوه، ففعلوا، فقال: بكم تطالب؟ قال: بمائة ألف دينار وما أملك زكاتها، فقال له: اكتب خطّك بها، فقال: أكتب وليس معي ما أؤديه؟ فقال له: إنّ عمالك ما أدّوا شيئا ونحن نقسّط عليهم خمسين ألف دينار، ونلزم في أموالنا خمسين ألف دينار؛ ثم التفت إلى عمر فقال: ابعث من يقبض المال، ثم قالا [3] : يا أبا أيوب إنا على جملتنا في عداوتك، وإنما فعلنا هذا للحرية، وأن تكون وأنت حرّ على مثل هذه الصورة فلا نتخلّصك، فلا تعتقد غير هذا.
211- ويشبه هذا ما ذكر أنّ أحمد بن المدبر لما اجتمع الكتّاب عليه وخانوه حتى نفي إلى أنطاكية وخرج إلى مضربه بظاهر سرّ من رأى أتاه المعلّى ابن أيوب وكان من أعدى الناس له، فقال له: قد عرفت حالك وشغل قلبك بمخلّفيك وضيعتك، فلا تهتمّ بشيء من ذلكم ولا تفكّر فيه، فإنني النائب عنك في جميعه حتى لا تبالي ألا تكون حضرته، وهذه سبعة آلاف دينار
__________
[1] عليه: سقطت من ر م.
[2] م: سيجيدون.
[3] م: قال.(2/106)
استعن بها في طريقك، فشكره ابن المدبر غاية الشكر وسرّ بعود مودته وصفائه، فقال له المعلّى: لا تظنّ ذلك فما كنت قطّ أشدّ عداوة مني الساعة، ولكنّ عداوتي لك ما دمت مقيما معنا في بلدنا، فإذا خرجت وكفينا شرّك فنحن لك على ما ترى من المودّة، ومتى عدت إلى الحضرة عدنا إلى ما عرفت من العداوة.
«212» - كان على بني تميم حمالات فاجتمعوا فيها إلى الأحنف، فقال الأحنف: لا تعجلوا حتى يحضر سيدكم، قالوا: ومن سيدنا غيرك؟ قال:
حارثة بن بدر، وكان حارثة قد قدم قبل [1] ذاك بمال عظيم من الأهواز، فبلغه ما قال الأحنف فقال: أغرمنيها ابن الزافريّة، ثم أتاهم كأنه لم يعلم فيم اجتمعوا فأخبروه، فقال: لا تلقوا فيها أحدا، هي علي، ثم أتى منزله فقال: [من الكامل]
خلت البلاد فسدت غير مسوّد ... ومن العناء تفرّدي بالسؤدد
«213» - جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي، إني اشتريت بها دارا في الجنة، أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله (وقد ورد هذا الخبر بغير هذه
__________
[1] م: قبيل.(2/107)
الألفاظ وفيه زيادة ونقصان) [1] .
«214» - حجّة جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان أخت أبي تغلب صارت تاريخا مذكورا، حجت سنة ست وثمانين وثلاثمائة [2] فسقت أهل الموسم كلّهم السويق بالطبرزد والثلج، واستصحبت البقول المزروعة في المراكن على الجمال، وأعدّت خمسمائة راحلة للمنقطعين، ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار، ولم يستصبح عندها وفيها الا بشموع العنبر، وأعتقت ثلاثمائة عبد ومائتي جارية وأغنت الفقراء والمجاورين.
«215» - جاء الإسلام وإنّ جفنة العبّاس لتدور على فقراء بني هاشم، وإن درته لمعلقة لسفهائهم، وكان يقال: هذا السؤدد، يشبع جائعهم ويؤدب سفيههم.
«216» - قال بعضهم: قدمت على سليمان بن عبد الملك، فبينا أنا عنده إذ نظرت إلى رجل حسن الوجه يقول: يا أمير المؤمنين والله لحمدها خير منها ولذكرها أحسن من جمعها، ويدي موصولة بيدك فابسطها لسؤالها خيرا؛ فسألت عنه فقيل: يزيد بن المهلب يتكلّم في حمالات حملها.
217- وفد دهقان أصفهان على معاوية فلم يجد من يكلّمه في حاجته، فقيل له: ليس لها إلا عبد الله [3] بن جعفر، فكلّمه الدهقان وبذل له ألف ألف
__________
[1] وقد ورد ... ونقصان: سقط من ر.
[2] يبدو أن التاريخ خطأ (انظر التعليق: 214) .
[3] م: عبد الرحمن.(2/108)
درهم، فكلم معاوية فقال: قد أردنا أن نصلك بألف ألف درهم فربحناها، فقال عبد الله: قد ربحت وربحنا شكر الدهقان. فلما قضى حاجته أكبّ عليه الدهقان يقبّل أطرافه ويقول: أنت قضيتها لا أمير المؤمنين، وحمل إليه المال فقال: ما كنت لآخذ على معروفي أجرا، وبلغ الخبر معاوية فبعث إليه ألف ألف درهم فلم يقبلها وقال: لا أقبل ما هو عوض عما تركت، فقال معاوية:
لوددت أنه من بني أمية وأنّي مخزوم ببرة.
«218» - أصاب الناس بالبصرة مجاعة [1] ، فكان ابن عامر يغدّي عشرة آلاف ويعشّي مثلهم حتى تجلّت الأزمة فكتب إليه عثمان يجزّيه خيرا، وأمر له بأربعمائة ألف معونة على نوائبه، وكتب إليه: لقد رفعك السؤدد إلى موضع لا يناله إلا الشمس والقمر، فتوخّ أن يكون ما أعطيت لله فإنه لا شرف إلا ما كان فيه وله.
«219» قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأهدى له خارجة بن زيد بن ثابت ألف عذق موز، وألف قرعة عسل أبيض، وألف شاة، وألف دجاجة، ومائة إوزة، ومائة جزور، فقال سليمان: أجحفت بنفسك يا خارجة، قال: يا أمير المؤمنين قدمت بلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزلت في أهل بيتي مالك بن النجار، وأنت ضيف، وإنما هذا قرى، فقال: هذا وأبيكم السؤدد. ثم سأل عن دينه فقيل خمسة وعشرون ألف دينار، فقضاها عنه وأعطاه عشرة آلاف دينار.
«220» - حرم الحجاج الشعراء في أوّل مقدمه العراق، فكتب إليه عبد
__________
[1] م: مجاعة بالبصرة.(2/109)
الملك أجز الشعراء فإنهم يحبّون مكارم الأخلاق ويحرّضون على البرّ والسخاء، نظر إلى هذا المعنى أبو تمام فقال: [من الطويل]
ولولا خلال سنّها الشعر ما درت ... بغاة العلى من أين تؤتى المكارم
وقال ابن الرومي: [من الطويل]
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات
«221» قيل لبزرجمهر: أيّ شيء نلته أنت به أشدّ سرورا؟ قال: قوّتي على مكافأة من أحسن إليّ.
«222» - وسئل الإسكندر عن أفضل ما سرّه من مملكته فقال: اقتداري على أن أكثر الإحسان إلى من سبقت منه حسنة إليّ.
«223» - حبس داود كاتب أمّ جعفر وكيلا لها عليه في حسابه مائتا ألف درهم، فكتب الوكيل إلى عيسى [بن داود] وسهل بن صباح [1] وكانا صديقيه يسألهما الركوب إلى داود في أمره، فركبا إليه، فلقيهما الفيض بن أبي صالح فسألهما عن قصدهما فأخبراه، فقال: أتحبّان أن أكون معكما؟ قالا: نعم، فصاروا إلى داود فكلّموه في إطلاق الرجل، فطالع أمّ جعفر بحضورهم وسؤالهم، فوقّعت في الرقعة تعرّفهم ما وجب لها من المال وتعلمهم أنّه لا سبيل إلى إطلاقه دون أداء المال، قال: فاقرأهم التوقيع واعتذر، فقال عيسى وسهل: قد قضينا حقّ الرجل، وقد أبت أمّ جعفر أن تطلقه إلا بالمال،
__________
[1] م: الصباح.(2/110)
فقوموا بنا ننصرف، فقال لهما الفيض: كأننا إنما جئنا لنؤكد حبس الرجل، قالا له: فما نصنع؟ قال: نؤدي المال عنه؛ ثم أخذ الدواة وكتب إلى وكيله في حمل المال عن الرجل ودفع الكتاب إلى داود وقال: قد أزحنا علّتك في المال فادفع إلينا صاحبنا، قال: لا سبيل إلى ذلك حتى أعرّفها الخبر، فكتب إليها فوقعت في رقعته: أنا أولى بهذه المكرمة من الفيض، فاردد عليه كتابه بالمال، وادفع إليه الرجل، وقل له: لا يعاود مثل ما كان منه. قال: ولم يكن الفيض يعرف الرجل وإنما أراد مساعدة صاحبيه في حقّه.
«224» - وحكي أنّ الفيض بن أبي صالح وأحمد بن الجنيد وجماعة من العمال والكتّاب خرجوا من دار الخليفة منصرفين إلى منازلهم في يوم وحل، فتقدم الفيض وتلاه أحمد فنضح دابة الفيض على ثياب أحمد من الوحل، فقال أحمد للفيض: هذه والله مسايرة بغيضة، لا أدري بأي حقّ وجب لك التقدم علينا، فلم يجبه الفيض عن ذلك بشيء ووجه إليه عند منصرفه إلى منزله بمائة تخت في كلّ تخت قميص ومبطّنة وسراويل وطيلسان ومع كلّ واحد عمامة أو شاشية، وقال لرسوله: قل له أوجب التقدم لنا عليك أنّ لنا مثل هذا نوجّه به إليك عوضا مما أفسدناه من ثيابك، فإن كان لك مثله فلك التقدم علينا، وإلا فنحن أحقّ بالتقدم منك.
225- حدث أبو الهيثم الرحبي من حمير قال: كان رجل من ذي مناخ، وهم بطن من ذي كلاع، يقال له جميم [1] بن معدي كرب، جوادا فأشفى جوده على ماله، فتدارأت بطون من ذي الكلاع في أمواه لهم، وكانت بينهم دماء، ثم تداعوا إلى الصلح وتعاقل الدماء وأن يبيئوا الدم بالدم، ويؤدّوا ما فضل، ففضلت إحدى الطائفتين بسبع ديات فحملها جميم، فسعى في
__________
[1] م: حميم.(2/111)
عشيرته فتدافعوه، فأدّى ديتين فاستوعبتا ماله، فخرج ضاربا في الأرض حتى أوغل في مفاوز اليمن. قال أبو الهيثم: فحدثني شيخان منّا ممن أدركه وسمع حديثه من فلق فيه [1] ، قال: بينا أنا ذات عشيّة في بعض تلك الأغفال [2] أوائل الليل إذ حبا لي نشء [3] فألبس الأفق، فهمهم وتهزّم، وأطلّت أعاليه وتلاحقت تواليه، وبرق فخطف، ورعد فرجف، وأشرفت على الهلاك، وإني مع ذلك لسخيّ بنفسي أودّ لو هلكت لأعذر، والنفس مجبولة على طلب النجاة، فملت لأقرب الجبال مني لأعتصم بلجأ منه، فلما سندت في سفحه عرض لي غار غامض، فأطمأننت إليه، فإذا نار كالمصباح تخبو تارة وتضيء أخرى، واحتفل السحاب وشري [4] المطر، فاندفعت في الغار فأنخت في أدناه، فإذا نار في لوذ منه، فعقلت مطيتي وأخذت سيفي وولجت، لكني هجمت على شويخ [5] يوقد نويرة وبين يديه حمار قد قيّده ونبذ له أضغاثا فقلت: عم ظلاما، فقال:
نعم ظلامك، من أنت؟ فقلت: خابط ضلال ومعتسف أغفال، فقال:
أعاف أم باغ [6] ؟ فقلت: بل راكب خطار، وخائض غمار، تؤدي إلى بوار، فقال: إنّك لتنبىء عن شرّ، ليفرخ روعك، اجلس وخفّض عليك وتطامن، فلما اطمأننت قال: قرّب مطيّتك واحطط رحلها، واعضد لها من أغصان السّمر المتهدل على فجوة هذا الغار، ففعلت، ثم أقبلت إليه [7] فجلست، فاستنبث [8] رمادا إلى جانب موقده فاختفى [9] خبزة فلطمها بيده حتى
__________
[1] فلق: بكسر الفاء وفتحها أي شق فمه.
[2] الأغفال: الأراضي ليس فيها أعلام.
[3] حبا: دنا واعترض؛ والنشء: أول ما ينشأ من السحاب.
[4] شري: عظم واشتد.
[5] م: شيخ.
[6] العافي: طالب الرزق؛ والباغي: المتجاوز ما يحق له.
[7] م: عليه.
[8] م: واستنبش.
[9] اختفى: نبش عن الشيء حتى أظهره.(2/112)
أبرز عن صميمها، وقرّب صحفة له، فكسر الخبزة فيها واستخرج نحيا [1] من خرج إلى جانبه فنكب [2] على الخبزة سمنا حتى سغبلها [3] ، ثم قرّبها مني فأكلت وأكل حتى انتهيت وأتى على ما فيها، ثم اضطجع وقال لي: نم آمنا واثقا بأنّك غير موّرّق ولا محقق، فاضطجعت، وطبن من ناره [4] ، واستوثق من عقال حماره وقال لي: أرّب [5] عقال مطيتك، ففعلت، وبتّ [6] ناعم البال، وكأن الأين قد وقذني فغلبتني عيناي هزيعا من الليل، ثم أزعج الخوف النوم وأتتني هماهم ولم آمن اغتيال الرجل، ثم ضربت بجروتي [7] ثم قلت: واثكل أماه، ما هذا الوهل [8] ؟! والله إنه لأعزل وإني لمستلئم [9] ، وإنه لمتسعسع [10] وإنّ فيّ لبقية شباب، فلما أحسّ بالصبح استيقظ فأرّث نارا وشبّها وقال:
أنائم أنت؟ فقلت: بل كميع [11] أرق وضجيع قلق، قال: ولم، وقد تقدم مني ما سمعت وأنا به زعيم [12] ؟ وفي كلّ ذلك لا يسألني عن نسبي، ثم استخرج مزودا فيه طحن [13] ، فقمت لأتكلّف ذلك عنه، فقال: اقعد فانك ضيف، وإنه للؤم بالرجل أن يمتهن ضيفه، فاعتجن طحنه [14] في جفنته وكفأ
__________
[1] النحي: السقاء أو الزق.
[2] نكب: هراق وصبّ.
[3] سغبلها: روّاها.
[4] طبن النار: دفنها كي لا تطفأ.
[5] أرّب: اشدد.
[6] م: ونمت.
[7] ضرب بجروته: وطن نفسه وصمم.
[8] الوهل: الفزع.
[9] مستلئم: لابس لأمة.
[10] متسعسع: هرم مضطرب من الكبر.
[11] كميع: مضطجع.
[12] زعيم: كفيل.
[13] م: طحين.
[14] م: طحينه.(2/113)
عليها صحفته ثم مال إلى جانب من الغار فاحتمل أضغاثا من يبيس فألقاها لحماره، ثم استخرج معضدا من تحت وساده، وخرج إلى فم الغار فخطرف [1] ما استطفّ [2] له من الشجر والسّلم فألقاه لناقتي، وجلس يحادثني ويفاكهني ويناشدني الأشعار المؤسيّة، ويصف لي صروف الأيّام وتقلّبها بالرجال، فكأنه كان في نفسي أو قد بطن أمري، فلما ظنّ أنّ خبزته قد آنت استخرجها، ثم فعل كفعله أوّل الليل، فلما صددت أتى على باقي الخبزة، ثم قام فخرج من الغار، ثم رجع فقال: قد تقطّع أقران الحفل [3] وطحرت الريح الجفل [4] ، ووضح الحزن من السّهل فقم فارحل، ثم قذف رحالته على حماره، وقمت فارتحلت، وخرج وخرجت [5] أتبعه حتى دلكت الشمس أو كربت [6] ثم أشرفنا على واد عظيم شجير، وإذا نعم ما ظننت أنّ الأرض تحمل مثله، فهبط الوادي وتصايحت الرّعاء وأقبلوا [7] إليه من كل أوب حتى حفّوا به، وسار في بطن الوادي حتى انتهى إلى قباب متطابنة [8] ، فمال إلى أعظمها فنزل، وتباعد الأعبد فحطّوا رحلي وقادوا مطيتي وألقوا إلي مثالا، وقال: نم ليتسبخ لغوبك [9] فنمت آمنا مطمئنا حتى تروّيت، ثم هببت وإذا عبد موكّل بيه، فقال لي: انهض إن أردت المذهب [10] ، فقمت وقام معي بإداوة حتى أولجني خمرا وأدبر عني، فلما أحسّ بفراغي أقبل فحمل الإداوة وردّني إلى مثالي،
__________
[1] خطرف: ضرب.
[2] استطف: دنا.
[3] الأقران: الحبال، والحفل: اجتماع الماء؛ والمعنى قد انقطع المطر.
[4] م: وطرحت، وطحرت: فرّقت. والجفل: السحاب الذي هراق ماءه.
[5] م: وخرجت معه.
[6] دلكت الشمس: غربت؛ أو كربت أو كادت.
[7] م: وأقبلت.
[8] الطّبن: البيت؛ ولعلّ متطابنة بمعنى متقاربة أو متطامنة.
[9] م: لتنسخ؛ ويتسبخ: تخف شدته؛ واللغوب: التعب.
[10] المذهب: قضاء الحاجة.(2/114)
وإذا الشيخ قد أقبل ومعه عبدان يحملان جفّنتين، فقلت: والله ما بي إلى الطعام من حاجة، فقال: لا بدّ منه، فلما فرغنا من غدائنا قال: هات الآن خبرك، فأخبرته، فقال لبعض عبيده: أوف ذلك النّدّ فألمع بنيّ [1] ، فكلا ولا ما كان إذا عجاجة مستطيرة وإذا عشرون فارسا تنكدر بهم خيولهم وقفوا عليه، فأمرهم بالنزول فنزلوا واقتصّ عليهم قصتي، وقال: ما عندكم لابن عمكم؟
قالوا: مرنا بأمرك فقال: خمس ديات يؤديها وثنتان شروى ما رزئه، فو الله ما أمسيت حتى أنيخت بفنائه، ورجع بنوه، وبتّ بأنعم مبيت، فلما أصبح قال لعبيده: عليّ عشرة يوردون هذا الابل بلاد هذا الرجل، ثم هم له إن شاء أعتق وإن شاء أرقّ، فانتدب له عشرة كالذئاب فوقفوا بين يديه، فقال لعبد آخر: هلمّ ما قبلك، فما راث أن جاء بمائة كالهضاب قال: وهذه لك من لدنّي، وارحل راشدا إلى أرض قومك، فقلت له: يا ابن عمّ إنه للؤم أن تقلّدني مثل هذه المنّة ولا أعرف لك اسما ولا نسبا قال: أنا محمية ابن الأدرع أحد بني هزّان.
«226» - كان يزيد بن مفرغ الحميريّ منفاقا كثير الدين وقدّمه غرماؤه إلى زياد مرات كثيرة فضجر وقال لغرمائه: بيعوه فقد نهيته أن يستدين فأبى، فأقاموه فنادوا عليه، فجعل الرجل يمرّ به فيؤدي عنه الألف والخمسمائة وأكثر وأقلّ، فمر به عبيد الله بن أبي بكرة فقال: مالك؟ فقال: أمر الأمير أن أباع في دين علي، قال: وكم دينك؟ قال: ثمانون ألفا، قال: هي عليّ، فقال يزيد بن مفرغ: [من السريع]
__________
[1] أوف: إبت، وأشرف على؛ الند: التلّ الذاهب في السماء؛ ألمع: أشر؛ يريده أن يصعد على التلّ ويدعو أبناءه.(2/115)
لو شئت لم تشقي ولم تنصبي ... عشت بأسباب أبي حاتم
عشت بأسباب الجواد الذي ... لا يختم الأموال بالخاتم
ما دون معروفك قفل ولا ... أنت لمن يلقاك بالحارم
الواهب الجرد بأرسانها ... والحامل الثّقل عن الغارم
والطاعن الطعنة يوم الوغى ... توقظ منها سنة النائم
بكفّ بهلول له نجدة ... ما إن لمن عاداه من عاصم
فوجه إليه بعشرين ألفا تمام المائة الألف.
«227» - أتى الأخطل أسماء بن خارجة في خمس ديات ليحملهنّ فحملهن، ثم قال لبنيه وهم حوله: أقسمت عليكم إلّا حملتم له مثلها، فخرج الأخطل وهو يقول: [من الوافر]
إذا مات ابن [1] خارجة بن حصن ... فلا مطرت على الأرض السماء
ولا رجع البشير [2] بخير غنم ... ولا حملت على الطّهر النساء
فيوم منك خير من رجال ... يروح عليهم [3] نعم وشاء
وبورك في أبيك وفي بنيه [4] ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
«228» - ركب محمد بن إبراهيم الامام دين فركب إلى الفضل بن يحيى
__________
[1] ع م: اذا ما مات خارجة.
[2] الأغاني: الوفود.
[3] الأغاني: كثير حولهم.
[4] الأغاني: فبورك في بنيك وفي أبيهم.(2/116)
ومعه حق فيه جوهر وقال له: قصّرت غلاتنا، وأغفل أمرنا خليفتنا، وتزايدت مؤونتنا، ولزمنا دين احتجنا لأدائه إلى ألف ألف درهم، وكرهت بذل وجهي للتجار وإذالة عرضي بينهم، ولك من يعطيك منهم، ومعي رهن ثقة بذاك، فإن رأيت أن تأمر بعضهم بقبضه وحمل المال إلينا، فدعا الفضل بالحق فرأى ما فيه وختمه بخاتم محمد بن إبراهيم ثم قال له: نجح الحاجة أن تقيم في منزلنا [1] ، فقال له: إنّ في المقام عليّ مشقّة، قال له: وما يشقّ عليك من ذلك؟ إن رأيت أن تلبس شيئا من ثيابنا دعوت به، وإلا أمرت باحضار ثياب من منزلك، فأقام، ونهض الفضل فدعا بوكيله وأمر بحمل المال وتسليمه إلى خادم محمد بن إبراهيم وتسليم الحقّ الذي فيه الجوهر إليه بخاتمه وأخذ خطّه بقبضها، ففعل الوكيل ذلك، وأقام محمد عنده إلى المغرب وليس عنده شيء من الخبر، ثم انصرف إلى منزله فرأى المال، وأحضره الخادم الحقّ، فغدا على الفضل يشكره فوجده قد سبقه بالركوب إلى دار الرشيد، فوقف منتظرا له، فقيل له قد خرج من الباب الآخر قاصدا منزله، فانصرف عنه فلما وصل إلى منزله وجّه إليه الفضل ألف درهم آخر، فغدا عليه فشكره وأطال، فأخبره بأنه باكر إلى أمير المؤمنين فأعلمه حاله فأمره بالتقدير له ولم يزل يماكسه إلى أن تقرر الأمر معه على ألف ألف درهم، وأنه ذكر أنه لم يصلك بمثلها قطّ ولا زادك على عشرين ألف دينار، فشكرته وسألته أن يصكّ بها صكا بخطه ويجعلني الرسول، فقال له محمد: صدق أمير المؤمنين إنه لم يصلني قط بأكثر من عشرين ألف دينار، وهذا إنما تهيأ بك وعلى يدك، وما أقدر على شيء أقضي به حقّك ولا شكر أوازي به معروفك، غير أنّ علي وعليّ- وحلف أيمانا مؤكدة- إن وقفت بباب أحد سواك أبدا، ولا سألت حاجة أحدا غيرك ولو سففت التراب. فكان لا يركب إلى غير الفضل إلى أن حدث من أمرهم ما
__________
[1] ع: منزلك: وسقطت من ر.(2/117)
حدث، فكان لا يركب إلى غير دار الخليفة ويعود إلى منزله، فعوتب بعد تقضي أيامهم في [ترك] [1] إتيان الفضل بن الربيع فقال: والله لو عمّرت ألف سنة ثم مصصت الثماد؟؟؟ ما وقفت بباب أحد بعد الفضل بن يحيي ولا سألت أحدا بعده حتى ألقى الله عز وجل، فلم يزل على ذلك حتى مات.
«229» - قال يحيى بن خالد: بلغت العطلة من أبي ومني وتوالت المحن علينا وأخفقنا حتى لم نهتد إلى ما ننفقه، فلبست يوما لأركب وأتنسّم الأخبار واتفرج، فقالت لي أهلي: أراك على [نية] [2] الركوب؟ قلت: نعم، قالت: فاعلم أنّ هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوأ حال، وإني ما زلت أعلّلهم بما لا علالة فيه وما أصبحت ولهم شيء، ولا لدابتك علف، ولا لك ما تأكل، إذا انصرفت فينبغي أن يكون بكورك وطلبك بحسب هذه الحال، فقطعتني عن الحركة ورميت بطرفي فلم أر إلا منديلا طبريا كان أهدي إليّ، فأخرجته مع الغلام [3] فباعه باثني عشر درهما، فاشترى به ما يحتاج إليه من القوت وعلف الدابة، وركبت لا أدري أين أقصد، فإذا بأبي خالد الأحول وهو خارج من درب ومعه موكب ضخم، وهو يكتب يومئذ لأبي عبيد الله كاتب المهدي، فملت إليه وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك وبي إلى كذا، وشرحت له القصّة وهو مستمع لذاك ماض في سيره، فلما بلغ مقصده عدت ولم يقل لي حرفا، فعدت منكسرا منكرا على نفسي ما كشفت له من أمري، فلما كان اليوم الثاني بعت أحد قميصيّ وتبلّغنا به يومين، ولحقني من الوسواس ما خفت منه على نفسي، فخرجت لأبلي عذرا فلقيني رسول أبي خالد، فلما جئته قال لي:
__________
[1] زيادة من الجهشياري.
[2] زيادة من الجهشياري.
[3] ر: فأخرجه الغلام؛ م: فأخرجه مع الغلام.(2/118)
يا ابن أخي شكوت إليّ شكوى لم يكن ينفع في جوابها الا الفعل، ثم أحضر ابن حميد وزاهرا [1] ، تاجرين كانا يبيعان الطعام، فقال لهما: قد علمتا أني بايعتكما البارحة ثلاثين ألف كرّ على أنّ ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر، ثم التفت إليّ فقال: لك في هذه الاكرار عشرة آلاف كر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، فآثرت أن تخرج إليهما من حصتك فعلت، وإن آثرت أن تقيم على هذا الابتياع فعلت، فانفردا معي وقالا: أنت رجل شريف، وليست التجارة من شأنك، وتحتاج في الابتياع إلى أعوان وكفاة، وبذلا لي ثلاثين ألف دينار ففعلت، واستصوب أبو خالد فعلي، وقلت لأبي: تأمر في المال بأمرك، فقال: أحكم عليك فيه حكم أبي خالد في التاجرين، فأخذ الثلث، واشتريت بالثلث عقدة، وأنفقنا الباقي إلى أن أدّت بنا الحال إلى ما أدّت.
ومن الرياسة الحلم والعفو والصفح:
«230» - وقد ندب الله عز وجل إليه رسوله صلّى الله عليه وسلّم في قوله (فاصفح الصّفح الجميل) (الحجر: 85) . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أعزّ الله بجهل قط [2] ، ولا أذلّ بحلم قط.
231- وفي حديث آخر: ما عفا رجل عن مظلمة قطّ إلا زاده الله بها عزّا.
232- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث [3] خصال من لم
__________
[1] ع م: وداهرا.
[2] قط: سقطت من ر.
[3] ثلاث: سقطت من ر.(2/119)
يكنّ فيه لم ينفعه الإيمان، حلم يردّ به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يداري به الناس.
«233» - ومرّ عيسى عليه السلام ببعض الخلق فشتموه، ثم مر بآخرين فشتموه فكلما قالوا شرا قال خيرا، فقال له رجل من الحواريين: كلما زادوك شرا زدتهم خيرا كأنك إنما تغريهم بنفسك وتحثهم على شتمك، فقال: كلّ إنسان يعطي مما عنده.
وهذا وإن كان مخرجه مخرج الحلم فهو منه صلّى الله عليه وسلّم احتساب وتأديب.
«234» - وشتم رجل الشعبيّ فقال: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
«235» - وقيل للحسن بن عليّ عليهما السلام: إنّ فلانا يقع فيك، فقال: ألقيتني في تعب، الآن أستغفر الله لي وله.
«236» - وقال علي عليه السلام: أوّل عوض الحليم من حلمه أنّ الناس أنصار له على الجاهل.
«237» - وقال: إن لم تكن حليما فتحلّم، فإنه قلّ من تشبّه بقوم إلا(2/120)
أوشك أن يكون منهم.
«238» - وقال عليه السلام: الحلم فدام السفيه.
«239» - وقال: الحلم والأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمة.
«240» - قيل: اجعل الحلم عدّة للسفيه، وجنّة من ابتهاج الحاسد، فإنك لم تقابل سفيها بالاعراض عنه والاستخفاف بعقله إلا أذللته في نفسه، وسلّطت عليه الانتصار من غيرك، وإذا كافأته بمثل ما أتى وزنت قدرك بقدره ولم تنصر عليه.
«241» - وقال المنتصر: لذة العفو أطيب من لذّة التشفي لأنّ لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، وإن لذة التشفي يلحقها ذمّ الندم.
«242» - وقال ابن المعتز: لا تشن وجه العفو بالتقريع.
24»
- وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع عليه.
«244» - قال كثير: [من الطويل]
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ العقاب أو عفا لم يثرّب(2/121)
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك أهله ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب
«245» - وقال زهير بن أبي سلمى: [من الطويل]
وذي نعمة تمّمتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحقّ باطله
دفعت بمعروف عن القول صائب ... إذا ما أضلّ القائلين مفاصله
وذي خطل في القول تحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
«246» - وقال المرار بن سعيد: [من الطويل]
إذا شئت يوما أن تسود عشيرة ... فبالحلم سد لا بالتسرّع والشّتم
وللحلم خير فاعلمنّ مغبة ... من الجهل إلا أن تشمّس من ظلم
«247» - وقف رجل عليه مقطّعات على الأحنف بن قيس يسبّه، وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفّه الأحنف، وجعل لا يألو أن يسبّه سبّا يغضب، والأحنف مطرق صامت لا يكلمه. فلما رآه لا يكلّمه أقبل الرجل يعضّ إبهامه ويقول: يا سوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلّا هواني عليه.
«248» - وقال رجل لرجل من آل الزبير كلاما أقذع فيه، فأعرض(2/122)
الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيريّ عليّ بن الحسين فلم يجبه، فقال له الزبيري: ما يمنعك من جوابي؟ فقال علي: ما منعك من جواب الرجل.
«249» - وقال رجل لرجل سبّه فلم يلتفت إليه: إيّاك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض.
«250» - وقال آخر: لو قلت واحدة لسمعت عشرا، فقال له الآخر:
ولكنك لو قلت عشرا لما سمعت واحدة.
«251» - وقال الشاعر في نحو ذلك: [من الكامل]
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني
«252» - قال الأحنف: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره باحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه.
«253» - وشتمه رجل فأمسك عنه، وأكثر الرجل إلى أن أراد الأحنف(2/123)
القيام للغداء، فأقبل على الرجل فقال: يا هذا إنّ غداءنا قد حضر فانهض بنا إليه إن شئت فإنك منذ اليوم تحدو بجمل ثفال.
«254» - وروي عن رجل من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب فامتلأ قلبي له بغضا وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه فقلت له: أنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه. قلت: فبك وبأبيك، أسبّهما، فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبا، قلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال واسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال:
فانصرفت عنه وما على الأرض أحد أحبّ إليّ منه.
«255» - وقال معاوية: ما وجدت لذّة شيء ألذّ عندي غبّا من غيظ أتجرّعه، ومن سفه بالحلم أقمعه.
«256» - وقال له رجل: ما أشبه استك باست أمك، قال: ذاك الذي كان يعجب أبا سفيان منها.
«257» - وأغلظ له رجل فاحتمله، وأفرط عليه فحلم عنه، فقيل له في(2/124)
ذلك فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا؛ وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام بقوله: [من الطويل]
جهول إذا أزرى التحلّم بالفتى ... حليم إذا أزرى بذي الحسب الجهل
وكأنه ألمّ بقول سالم بن وابصة: [من البسيط]
إنّ من الحلم ذلا أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم
وقول الآخر: [من الطويل]
قليل الأذى إلّا على القرن في الوغى ... كثير الأيادي واسع الذرع بالفضل
ويحلم ما لم يجلب الحلم ذلّة ... ويجهل ما شدّت قوى الحلم بالجهل
«258» - وقال عامر بن مالك ملاعب الأسنة: [من الطويل]
دفعتكم عنّي وما دفع راحة ... بشيء إذا لم يستعن بالأنامل
تضعّفني حلمي وكثرة جهلكم ... عليّ وأني لا أصول بجاهل
«259» - وقال يزيد بن الحكم الكلابي: [من الطويل]
دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وبالراح حتى كان دفع الأصابع
فلما رأينا جهلكم غير منته ... وما غاب من أحلامكم غير راجع
مسسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع(2/125)
«260» - وكان معاوية مذكورا بالحلم، وأخباره فيه كثيرة، وقد دفعه قوم عن ذلك؛ ذكر عند ابن عبّاس رضي الله عنه بالحلم فقال: وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد إحنة؟! وقال شريك بن عبد الله: لو كان معاوية حليما ما سفه الحق ولا قاتل عليا. وقال: لو كان حليما لما حمل أبناء العبيد على حرمه ولما أنكح إلا الأكفاء.
وقال الآخر: كان معاوية يتعرّض، ويحلم إذا أسمع، ومن تعرّض للسفيه فهو سفيه.
وقال آخر: كان يحبّ أن يظهر حلمه، وقد كان طار اسمه بذلك فأحبّ أن يزداد فيه.
«261» - وكان معاوية يقول: إني لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن إلا كلمة يشتفي بها مشتف جعلتها تحت قدمي ودبر أذني.
«262» - وشهد أعرابيّ عند معاوية بشهادة، فقال له معاوية:
كذبت، فقال له الأعرابيّ: الكاذب والله متزمّل في ثيابك، فقال معاوية:
هذا جزاء من عجل.
263- كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التأني، فكتب إليه(2/126)
معاوية: أما بعد، فإن التفهم في الخير زيادة ورشد، وان المتثبت مصيب والعجل مخطىء، وإن لم ينفعه الرفق ضرّه الخرق، ومن لم تعظه التجارب لم يدرك المعالي، ولا يبلغ الرجل أعلى المبالغ حتى يغلب حلمه جهله، والعاقل سليم من الزلل بالتثبت والأناة وترك العجلة، ولا يزال العجل يجتني ثمرة الندم.
«264» - وقال معاوية يوما: ما ولدت قرشية خيرا لقريش مني، فقال ابن زرارة: بل ما ولدت شرا لهم منك، فقال: كيف؟ قال لأنك عوّدتهم عادة يطلبونها ممن بعدك فلا يجيبونهم إليها، فيحملون عليهم كحملهم عليك فلا يحتملون، وكأني بهم كالزقاق المنفوخة على طرقات المدينة.
«265» - والأحنف بن قيس السعدي ثم أحد بني منقر قد اشتهر عند الناس بالحلم، وبذاك ساد عشيرته، وكان يقول: لست بحليم ولكني أتحالم، قلة رضى عن نفسه بما استكثره الناس منه، وهو اقتفى بقيس بن عاصم المنقريّ، وقال: كنا نختلف إليه في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه.
«266» - وقال الأحنف: حضرت قيس بن عاصم وقد أتوه بابن أخ له قتل ابنه، فجاءوه به مكتوفا يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل عليه فقال: يا بنيّ نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتتّ في عضدك، وأشمتّ عدوك، وأسأت بقومك، خلّوا سبيله واحملوا إلى أمّ المقتول ديته، فانصرف القاتل وما حلّ قيس حبوته ولا تغيّر وجهه.(2/127)
«267» - وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
«268» - وقاتل بصفين فاشتدّ، فقيل له: أين الحلم يا أبا بحر؟ قال ذاك عند عقد الحبا.
«269» - وجلس على باب زياد فمرت به ساقية فوضعت قربتها وقالت:
يا شيخ احفظ قربتي حتى أعود، ومضت، وأتاه الآذن فقال: انهض، قال: لا فان معي وديعة.
«270» - وقال: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، وربّ غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشدّ منه.
«271» - وأسمعه رجل وأكثر فقال: يا هذا ما ستر الله أكثر.
«272» - ركب عمرو بن العاص يوما بغلة له شهباء، ومضى على قوم جلوس، فقال بعضهم: من يقوم إلى الأمير فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟
فقال واحد منهم: أنا، فقام إليه فأخذ بعنانه وقال: أصلح الله الأمير، أنت أكرم الناس خيلا فلم تركب دابّة قد شاب وجهها؟ فقال: اني لا أملّ دابتي(2/128)
حتى تملّني، ولا أملّ رفيقي حتى يملّني، إنّ الملالة من كدر الأخلاق، فقال:
أصلح الله الأمير، أما العاص بن وائل فقد عرفنا شرفه ونسبه ومنصبه، فمن أمّ الأمير أصلحه الله؟ قال: على الخبير وقعت، أمي النابغة بنت حرملة من عنزة ثم من بني جلّان، سبتها رماح العرب فأتي بها سوق عكاظ فبيعت فاشتراها عبد الله بن جدعان ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كان جعل لك جعل فامض فخذه، خلّ عنان الدابة.
وقد قيل إنها كانت بغيّا عند عبد الله بن جدعان، فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأميّة بن خلف وهشام بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل، فولدت عمرا فادعاه كلهم، فحكّمت فيه أمّه فقالت: هو للعاص، لأن العاص كان ينفق عليها، وقالوا: كان أشبه بأبي سفيان.
«273» - ودخل عمرو مكة فرأى قوما من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم وقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري، قالوا: أجل، كنا نميّل بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل، فقال عمرو: إنّ لهشام عليّ أربعة: أمه ابنة هشام بن المغيرة وأمي من قد عرفتم، وكان أحبّ إلى أبي مني وقد عرفتم الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت.
274- كان داود بن علي بن عبد الله بن العبّاس أديبا عاقلا جميلا جوادا فقيها عالما، وكان بينه وبين رجل من آل أبي معيط كلام في دولة بني أمية، فقدم داود العراق على خالد بن عبد الله القسري، فلقيه المعيطي في بعض الطرق فأخذ بلجام بغلته ثم أسمعه ما يكره، وداود منصت حتى قضى كلامه، فقال(2/129)
له داود: فرغت من كلامك؟ قال: نعم، قال: أما لو كان خيرا ما سبقتني إليه.
«275» - وكان أبو جعفر المنصور شديد السطوة سريع الانتقام، وعدّت له فعلة كريمة في العفو، روي أنه خطب فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكّل عليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، واعترضه معترض عن يمينه فقال: أيها الإنسان، أذكّرك من ذكّرت به، فقطع الخطبة وقال:
سمعا سمعا لمن حفظ الله وذكّر به، وأعوذ بالله أن أكون جبّارا عنيدا، وأن تأخذني العزة بالاثم، قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين؛ وأنت أيها القائل فو الله ما الله أردت بها، ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها ويلك لو هممت، وأهيب لها إذ عفوت، وإياكم معشر الناس مثلها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردّوا الأمر إلى أهله يوردوه موارده ويصدروه مصادره، ثم عاد في خطبته كأنما يقرأها من كفّه:
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
«276» - جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين شهرام المروزي كلام، فسبّه شهرام، فحلم عنه أبو مسلم وقال: لسان سبق ووهم أخطأ، والغضب غول الحلم، وأنا قسيمك في الذنب حين جرّأتك بالحلم والاحتمال، فأشفق شهرام فاعتذر وأطنب، فقال أبو مسلم: قد صفحت عنك فليفرخ روعك، فقال شهرام: إن ذنبي يأبى أن يقارّ قلبي السكون، فقال أبو مسلم: إن العجب أن تسيء وأحسن، ثم تحسن وأسيء، فقال: الآن وثقت بعفوك.(2/130)
«277» - قالت خالدة بنت هاشم بن عبد مناف لأخ لها، وقد سمعته يتجهم [1] صديقا له: أي أخي، لا تطلع من الكلام إلا ما قد روّيت [2] فيه قبل ذلك ومن أجبته بالحلم وداويته بالرفق فإن ذلك أشبه بك، فسمعها أبوها هاشم فقام إليها فاعتنقها وقبلها وقال: واها لك يا قبّة الديباج، فلقبت بذلك.
«278» - وممن أوتي الحلم طبعا لا تحلّما، ومنح كرم الأخلاق لا تكرما المأمون، كان يقول: لقد حبّب إليّ العفو حتى أظنّ أني لا أثاب عليه. عفا عمن نازعه رداء الملك، كما عفا عمن نازعه درة الكأس، فعفوه عن إبراهيم ابن المهدي بعد أن بويع بالخلافة مشهور، وكذاك عفا عن الفضل بن الربيع وهو الذي جلب الحرب بينه وبين أخيه الأمين، وعفا عن الحسين بن الضحاك وقد أمعن في هجائه ممايلة لأخيه، وبالغ في الإشادة بتقبيح ذكره.
«279» - قال عمرو بن بانة: كنت عند صالح بن الرشيد، فقال لي:
لست تطرح على جواريّ وغلماني من الغناء ما أستجيده، فبعثت إلى منزلي فجئته بدفاتر الغناء ليختار منها ما يرضيه، فأخذ دفترا منها فتصفحه فمرّ به شعر للحسين ابن الضحاك يرثي الأمين ويهجو المأمون وهو: [من الطويل]
أطل جزعا وابك الامام محمدا ... بحزن وإن خفت الحسام المهندا
فلا تمّت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك عنه مبدّدا
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريدا مشردا
__________
[1] م: يتهجم.
[2] م ر: روأت.(2/131)
فقال لي صالح: أنت تعلم أنّ المأمون يجيء إليّ في كلّ ساعة، فإذا قرأ هذا ما تراه يكون فاعلا؟ فدعا بسكين وجعل يحكه، وصعد المأمون من الدرجة، فرمى صالح بالدفتر، فقال المأمون: يا غلام الدفتر، فأتي به فنظر فيه ووقف على الحكّ وقال: إن قلت لكم ما كنتم فيه تصدقوني؟ قلنا: نعم.
قال: ينبغي أن يكون أخي قال لك: ابعث بدفاترك ليتخيّر ما يطرحه على الجواري، فوقف على هذا الشعر فكره أن أراه فأمر بحكه، قلنا: كذا كان، قال: غنّه يا عمرو، فقلت: يا أمير المؤمنين: الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لسعيد بن جابر، فقال: وما يكون؟ غنّه، فغنيته، فقال اردده، فرددته ثلاث مرات، فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال: حتى تعلم أنه لم يضرّك عندي.
280- قال ابن أبي داود: سمعت المأمون يقول لرجل: إنما هو عذر أو يمين، وقد وهبتهما لك، فلا تزال تسيء وأحسن، وتذنب وأعفو، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك.
«281» - قال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف، وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المسدود الطنبوري من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره فيتجاوز، وكان المسدود قد هجاه ببيتين كانا معه في رقعته، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها الواثق فإذا فيها: [من الهزج]
من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين
أنا طبل له شقّ ... فّيا طبلا بشقين(2/132)
وكانت في عين الواثق نكتة، فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: غلطت بين الرقعتين فاحذر أن يقع مثل هذا عليك، فما زاده على هذا القول شيئا ولا تغيّر له عما كان عليه.
وكان الواثق يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه، ويسمّى المأمون الصغير، وهو رباه دون أبيه وخرّجه فتقيّل أفعاله وكاد ولم يبلغ.
282- قال يحيى بن الربيع: رأيت قوما يسألون يحيى بن خالد بن برمك حاجة فقال: ما يمكنني، فقالوا: نسألك بحق الله، قال: وحقّ الله لا يمكنني، قالوا: فنسألك بحق ماني، فتغير وجهه، وساءني ذلك وهممت والله بهم، فكفّني عنهم وقال: لا تفعل، ولم يقل لهم شيئا ولا ردّ عليهم جوابا، فحدثت بهذا الفضل بن الربيع فقال: قاتله الله ما أشدّ استدامته للنعم.
283- وقال الشعبي: أول إشارات [1] العفو التّثبت.
284- وقال أبو حازم: التأني في العقوبة طرف من العفو.
«285» - دخلت ابنة مروان بن محمد على عبد الله بن علي فقالت:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: لست به، قالت:
السلام عليك أيها الأمير، قال: وعليك السلام، فقالت: ليسعنا عدلك، قال: إذن لا نبقي على الأرض منكم أحدا لأنكم حاربتم عليّ بن أبي طالب ودفعتم حقّه، وسممتم الحسن ونقضتم شرطه، وقتلتم الحسين وسيّرتم رأسه، وقتلتم زيدا وصلبتم جسده، وقتلتم يحيى بن زيد ومثّلتم به، ولعنتم عليّ بن أبي طالب على منابركم، وضربتم علي بن عبد الله ظلما بسياطكم، وحبستم
__________
[1] ر م: بشارات.(2/133)
الامام في حبسكم، فعدلنا ألا نبقي منكم أحدا، قالت: فليسعنا عفوك، قال: أما هذا فنعم، وأمر بردّ أموالها عليها، ثم قال: [من الطويل]
سننتم علينا القتل، لا تنكرونه ... فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
«286» - لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وقومه [1] وقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصنيّ، وهو من ولد مسلمة ابن عبد الملك، فأفرط في السبّ وتجاوز الحدّ في قبح الردّ، وتوسط بين القوم [2] وبين بني هاشم فأربى في التوسط والتعصّب، فكان فيما قال: [من المديد]
يا ابن بيت النار موقدها ... ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوك ومن ... مصعب غالتهم غول
نسب عمرك [3] مؤتشب ... وأبوّات أراذيل [4]
قاتل المخلوع مقتول ... ودم المقتول مطلول
وهي قصيدة طويلة. فلما ولي عبد الله مصر وردّ إليه تدبير الشام [5] ، علم الحصنيّ أنه لا يفلت منه إن هرب، ولا ينجو من يده حيث حلّ، فثبت في موضعه، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابّه وكلّ ما يملكه في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه، وتوقع الناس من عبد الله بن طاهر أن يوقع به. قال محمد بن الفضل الخراساني: فلما شارفنا بلده وكنّا على أن نصبّحه دعاني عبد الله
__________
[1] م والأغاني: وأهله.
[2] بين القوم و: سقطت من ر.
[3] الأغاني: نسب في الفخر.
[4] ر: أواذيل.
[5] الأغاني: تدبير أمر الشام.(2/134)
في الليل فقال لي: بت عندي [1] وليكن فرسك معدّا عندك لا يرد. فلما كان في السحر أمر أصحابه وغلمانه ألا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواصّ غلمانه معه، فسار حتى صبّح الحصن [2] ، فرأى بابه مفتوحا ورآه جالسا مسترسلا، فقصده وسلّم عليه ونزل عنده وقال له: ما أجلسك ها هنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصّن من هذا الجيش المقبل، ولم تتنحّ عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك، ومع ما بلغه عنك؟ فقال له: إنّ ما قلت لم يذهب عليّ، ولكن تأمّلت أمري، وعلمت أني قد أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرّة الحداثة، وأني إن هربت منه لم أفته، فباعدت البنات والحرم [3] ، واستسلمت بنفسي وكلّ ما أملك، فإنا أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي بمن مضى أسوة، فإني أثق بأنّ الرجل إذا قتلني وأخذ مالي شفى غيظه ولم يتجاوز ذلك إلى الحرم ولا له فيهنّ أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته له؛ قال: فوالله ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا عبد الله بن طاهر وقد أمّن الله روعك [4] ، وحقن دمك، وصان حرمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجّلت إليك وحدي إلا لتأمن قبل هجوم الجيش، ولئلا يخالط عفوي عنك روعة تلحقك؛ فبكى الحصنيّ وقام فقبّل رأسه، وضمّه عبد الله إليه وأدناه، ثم قال له: إما لا فلا بدّ من عتاب يا أخي، جعلني الله فداك، قلت شعرا في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك، ولا أدّعيت فضلا عليك، وفخرت بقتل رجل هو وإن كان من قومك فهم القوم الذين ثارك عندهم، وقد كان يسعك السكوت أو إن لم
__________
[1] زاد في الأغاني: الليلة.
[2] م والأغاني: الحصني.
[3] م: الثبات والحزم.
[4] الأغاني: روعتك.(2/135)
تسكت ألا تغرق وتسرف، فقال: أيها الأمير قد عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب، ولا يكدّر صفوه تأنيب، قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل إلى منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة، فقام مسرورا فأدخلنا منزله فأتى بالطعام كأنه قد أعده، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له، وأقبل الجيش فأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحّلهم، ولا ينزل منهم أحد إلا في المنزل، وهو على ثلاثة فراسخ، فنزلت فرحلتهم، وأقام عنده إلى العصر، ثم دعا بدواة فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين، وقال له: إن نشطت لنا فالحق بنا وإلا فأقم بمكانك، فقال: أنا أتجهز والحق بالأمير، ففعل ولحق بنا مصر فلم يزل مع عبد الله لا يفارقه حتى رحل إلى العراق، فودّعه وأقام ببلده.
«287» - كان عبد الله بن الزبير قد هجا آل الزّبير، وأفرط في العصبية لآل مروان فمن قوله: [من الطويل]
ففي رجب أو غرّة الشهر بعده ... تزوركم [1] حمر المنايا وسودها
ثمانون ألفا دين عثمان دينهم [2] ... كتائب فيها جبرئيل يقودها
فمن عاش منكم عاش عبدا ومن يمت ... ففي النار سقياه هناك صديدها
فلما ولي مصعب العراق أدخل إليه عبد الله بن الزّبير، فقال له: إيه يا ابن الزّبير أنت القائل: إلى رجب السبعين أو ذلك قبله، وذلك الشعر، فقال: نعم أنا القائل ذلك [3] ، وإنّ الحقين ليأبى العذرة، ولو قدرت على
__________
[1] الأغاني: إلى رجب السبعين أو ذاك قبله تصبحكم.
[2] الأغاني: ثمانون ألفا نصر مروان دينهم.
[3] م: لذلك.(2/136)
جحده لجحدته، فاصنع ما أنت صانع، قال: أما إني لا أصنع إلا خيرا، أحسن قوم إليك فأحببتهم وواليتهم فمدحتهم، وأمر له بجائزة وكسوة وردّه إلى منزله مكرّما، فكان ابن الزّبير بعد ذلك يمدحه ويشيد بذكره.
«288» - قال أبو الفضل العباس بن أحمد بن ثوابة: قدم البحتريّ النيل على أحمد بن عليّ الاسكافي مادحا له، فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها: [من الخفيف]
ما كسبنا من أحمد [1] بن عليّ ... ومن النيل غير حمّى النيل
وهجاه بقصيدة أخرى أولها: [من الخفيف]
قصة النيل فاسمعوها عجابه
فجمع إلى هجائه إياه هجاء لبني ثوابة، وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف [2] درهم وثيابا ودابة بسرجه ولجامه، فردّه وقال: قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول صلتكم، فكتب إليه أبي: أما الإساءة فمغفورة، وأما المعذرة فمشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك، فقد رددت إليك ما رددته عليّ وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا. فقبل ما بعث به وكتب إليه: كلامك
__________
[1] م: لأحمد.
[2] م: ألف.(2/137)
والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني، وحمّلتني ما أثقلني، وسيأتيك ثنائي، ثم غدا عليه بقصيدة أولها: [من الطويل]
ضلال لها ماذا أرادت من الصدّ
وقال فيه بعد ذلك: [من المنسرح]
برق أضاء العقيق من ضرمه
وأيضا: [من الخفيف]
أن دعاه داعي الصّبا فأجابه
قال: ولم يزل أبي بعد ذلك يصله ويتابع برّه لديه حتى افترقا.
289- غضب كعب الأحبار على غلامه فحذفه بالدواة فشجه، فقيل له: أنت في حلمك تغضب؟ قال: قد غضب خالق الحلم.
290- قال معاوية لابنه، وقد رآه ضرب غلاما له: إياك يا بني والتشفي ممن لا يمتنع منك، فو الله لقد حالت القدرة بين أبيك وبين ذوي تراته، ولهذا قيل: القدرة تذهب الحفيظة.
291- وقال مالك بن أسماء: [من الكامل]
لما أتاني عن عيينة أنه ... عان عليه تظاهر الأقياد
تركت له نفسي الحفيظة إنه ... عند التمكن تذهب الأحقاد
«292» - قال الربيع: بلغ المنصور قتل عبد الله بن علي من قتل من بني أمية فقال: قاتله الله، ألا تركهم حتى يرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، ويروا من(2/138)
ملكنا ودولتنا مثل الذي رأينا من ملكهم ودولتهم، وكان القتل بعد أقبح من العفو (وهو يشبه كلاما لعبد الله بن الحسن قد تقدم ذكره) .
«293» - قال معاوية: ما غضبي على من أملك وما غضبي على من [1] لا أملك.
«294» - وأتي عمر بن عبد العزيز برجل كان واجدا عليه فأمر بضربه، ثم قال: لولا أنّي غاضب لضربتك، ثم خلّى سبيله ولم يضربه.
«295» - سبّ رجل من قريش في أيام بني أمية بعض أولاد الحسن بن علي عليهما السلام فأغلظ له وهو ساكت، والناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال أقبل عليه الحسنيّ متمثلا قول ابن ميادة: [من الطويل]
أظنت وذاكم من سفاهة رأيها ... أن اهجوها كما هجتني محارب
«296» - قال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنّ فلانا يقع فيك، فقال:
والله إني لأدع الانتصار وأنا أقدر عليه، وأدع الصغيرة مخافة الكبيرة، وإن التقيّ ملجم.
«297» - قال أنوشروان: وجدنا للعفو من اللذة ما لم نجده للعقوبة.
__________
[1] ر: ما؛ م: إلا على ما.(2/139)
«298» - وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عفو الملوك بقاء للملك.
«299» - وفي بعض الكتب أن كثرة العفو زيادة في العمر، وأصله قوله تعالى: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
(الرعد: 17) .
«300» - قال معاوية: إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي (وهذه دعوى عالية الرتبة إن قاربت الفعل استحق صاحبها صفة الكمال) .
«301» - قال عمر بن عبد العزيز: متى أشفي غيظي؟ أحين أقدر فيقال: ألا غفرت، أم حين أعجز فيقال: ألا صبرت؟
«302» - وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلّا الحقّ فما أجده.
«303» - أغلظ رجل لعمر بن عبد العزيز فأطرق طويلا ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا؟!(2/140)
«304» - قال الحسن: المؤمن لا يجهل، وان جهل عليه حلم؛ لا يظلم وإن ظلم غفر؛ لا يبخل وإن بخل عليه صبر.
«305» - وقال أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندم.
«306» - قال الشعبي: لا يكون الرجل سيدا حتى يعمل ببيتي الهذلي:
[من الطويل]
وإنّي للبّاس على المقت والقلى ... بني العم منهم كاشح وحسود
أذبّ وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود
«307» - الأحنف: [من الوافر]
وذي ضغن أمتّ القول عنه ... بحلم فاستمرّ على القتال
ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاق المعضلات من الرجال
«308» - معد بن حسين بن خيارة الفارسيّ المغربيّ: [من الطويل]
إذا الحرّ لم يحمل على الصبر نفسه ... تضعضع وامتدّت إليه يد العبد
«309» - وقف أحمد بن عروة بين يدي المأمون لما عزله عن الأهواز،(2/141)
فقال له: خرّبت البلاد، وقتلت العباد، والله لأفعلنّ بك ولأفعلنّ، قال:
يا أمير المؤمنين ما تحبّ أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه وقد قرّعك بذنوبك؟ قال: العفو والصفح، قال: يا أمير المؤمنين، فافعل بعبدك ما تحبّ أن يفعل بك مولاك، قال: قد فعلت، ارجع فوال مستعطف خير من وال مستأنف.
«310» - قال المأمون للفضل بن الربيع: يا فضل، أكان حقي عليك وحقّ آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تثلبني وتشتمني وتحرّض على دمي؟
أتحبّ أن أفعل بك مع القدرة ما أردت أن تفعله بي مع العجز؟ فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن عذري يحقدك إذا كان واضحا جميلا، فكيف إذا غيّبته العيوب وقبّحته الذنوب؟ فلا يضق عنّي من عفوك ما وسع غيري من حلمك، فانت والله كما قال الشاعر: [من الطويل]
صفوح عن الاجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
«311» - قال يزيد بن مزيد: أرسل إليّ الرشيد ليلا يدعوني، فأوجست منه خيفة فقال: أنت القائل: أنا ركن الدولة والثائر لها، والضارب أعناق بغاتها، لا أم لك، أيّ ركن لك، وأيّ ثائر أنت؟ وهل كان منك فيها إلا نفحة أرنب رعبت قطاة جثمت بمفحصها؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما قلت هذا إنما قلت: أنا عبد الدولة والفائز بها؛ فأطرق وجعل ينحلّ غضبه عن وجهه، ثم ضحك، فقلت: أسرّ من هذا قولي: [من البسيط](2/142)
خلافة الله في هارون ثابتة ... وفي بنيه إلى أن ينفخ الصور
إرث النبيّ لكم من دون غيركم ... حقّ من الله في القرآن مسطور
فقال: يا فضل أعطه مائتي ألف درهم قبل أن يصبح.
«312» - مدح شاعر زبيدة فقال: [من الكامل المجزوء]
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكفّ من الرغاب
فتبادر العبيد ليوقعوا به، فقالت زبيدة: كفوا عنه فلم يرد إلا خيرا، ومن أراد خيرا فاخطأ خير ممن أراد شرا فأصاب؛ سمع الناس يقولون وجهك أحسن من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمنى سواك، وقدّر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمّل، وعرّفوه ما جهل.
«313» - تقلّد فرج الرخجي الأهواز، واتصلت السعايات به، وتظلمت رعيّته منه فصرفه الرشيد بمحمد بن أبان الأنباري؛ قال مطير [1] بن سعيد كاتب فرج: فأحضره الرشيد وحضرنا معه، ولسنا نشك في إيقاعه به وإزالة نعمته، فوقفنا ننتظره يخرج على حال نكرهها، إذ خرج وعليه الخلع، فلما خلا سألته عن خبره فقال لي: دخلت إليه ووجهه في الحائط [2] وظهره إليّ، فلما أحسّ بي شتمني أقبح شتم، وتوعّدني أشدّ توعّد، ثم قال لي: يا ابن الفاعلة رفعتك فوق قدرك، وائتمنتك فخنتني، وسرقت مالي، وفعلت وصنعت،
__________
[1] الجهشياري: مظهر.
[2] الجهشياري: إلى المغرب؛ م: إلى الحائط.(2/143)
لأفعلنّ ولأصنعنّ، فلما سكن قلت له: القول قول سيدي، أمّا ما قال في إنعامه عليّ فهو صحيح وأكثر منه، وحلفت له بأيمان أكدتها [1] لقد نصحت وما سرقت، ووفّرت وما خنت، واستقصيت في طلب حقوقه من غير ظلم، ولكني كنت إذا حضرت أوقات الغلات جمعت التجار وناديت عليها، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع، وجعلت لي مع التجار حصة، فربما ربحت وربما وضعت، إلى أن جمعت [2] من ذلك وغيره في عدة سنين عشرة آلاف ألف درهم، فاتخذت أزجا كبيرا فأودعته المال وسددته عليه، فخذه وحوّل وجهك إليّ، وكررت القول والحلف على صدقي، فقال لي: بارك الله لك في مالك، فارجع إلى عملك.
«314» - قال الجاحظ: ليس نفس تصبر على مضض الحقد ومطاولة الأيّام صبر الملوك، أشهد لكنت من الرشيد وهو متعلّق بأستار الكعبة بحيث يمسّ ثوبي ثوبه ويدي يده، وهو يقول في مناجاته: اللهمّ إني أستخيرك في قتل جعفر، ثم قتله بعد ذلك بستّ سنين.
«315» - قال ابن عبّاس لمعاوية: هل لك في مناظرتي فيما زعمت؟
قال: وما تصنع بذلك؟ فأشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا
__________
[1] م: بالأيمان وأكدتها.
[2] م: أجمع.(2/144)
ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرّك.
«316» - كان ابن عون إذا وجد على إنسان وبلغ منه قال له: بارك الله فيك، وكانت له ناقة كريمة عليه، فضربها الغلام فأندر عينها فقالوا: إن غضب ابن عون فهو يغضب اليوم، فقال للغلام: غفر الله لك.
317- ويقال: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟ وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟
«318» - بينا أبو العبّاس السفّاح يحدّث أبا بكر الهذلي، فعصفت الريح فأذرت طستا من سطح إلى المجلس، فارتاع من حضر ولم يتحوّل الهذليّ ولم تزل عينه مطابقة لعين السفاح، فقال: ما أعجب شأنك يا هذلي!! فقال:
إن الله تعالى يقول: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
(الأحزاب:
4) وإنما لي قلب واحد، فلما غمره السرور بفائدة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، فلو انقلبت الخضراء على البيضاء ما أحسست بها ولا وجمت لها، فقال السفاح: لئن بقيت لأرفعنّ منك ضبعا لا تطيف [1] به السّباع ولا تنحطّ عليه العقبان.
«319» - وقال معاوية، يغلب الملك حتى يركب بالحلم عند سورته والاصغاء إلى حديثه.
ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار وحمي الذمار:
وكانت العرب ترى ذلك دينا تدعو إليه، وحقا واجبا تحافظ عليه.
__________
[1] ر: تطرف.(2/145)
«320» - كان أبو سفيان بن حرب إذا نزل بن جار قال: يا هذا إنك اخترتني جارا، واخترت داري دارا، فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبيّ على أهله.
«321» - وذكر أبو عبيدة أن رجلا من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب- والسواقط من قدم اليمامة ووردها من غير أهلها- قدم اليمامة ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلميّ أنه جار له، وكان أخو هذا الكلابي جميلا، فقال له قرين أخو عمير: لا تردنّ أبياتنا هذه بأخيك هذا؛ فرآه بعد بين أبياتهم فقتله، قال أبو عبيدة: وأما المولى فذكر أن قرينا أخا عمير كان يتحدّث إلى امرأة أخي الكلابيّ، فغيّر ذلك عليه زوجها فخافه قرين فقتله، وكان عمير غائبا، فأتى الكلابيّ قبر سلميّ أبي عمير وقرين فاستجار به وقال:
[من الكامل]
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمّع
وأتيت سلميّا فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائذ بالأمنع
أقرين إنّك لو رأيت فوارسي ... بعمايتين إلى جوانب ضلفع [1]
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع
(الإصبع موضعها ها هنا موضع اليد، يقال: لفلان عليك يد، وله عليك إصبع، والمراد النعمة، والعرب تقول: هو مغلّ الإصبع من أغل إذا خان وهو الذي يخدّ بإصبعه حتى يستسيل الودك) [2] .
__________
[1] عمايتان وضلفع أسماء أمكنة.
[2] الاصبع ... الودك: سقط من ر.(2/146)
فلجأ قرين إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابيّ ديات مضاعفة، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك، فأبى الكلابيّ أن يقبل؛ فلما قدم عمير قالت له أمه، وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابيّ جميع ماله، فأبى الكلابيّ أن يقبل وقد لجأ قرين إلى خاله السمين بن عبد الله، فلم يمنع عميرا منه، فأخذه عمير فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة وقال للكلابيّ: أما إذ أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابيّ، ففي ذلك يقول عمير: [من الطويل]
قتلنا أخانا بالوفاء لجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقالت أم عمير: [من الوافر]
تعدّ معاذرا لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
«322» - جاور عروة بن مرّة أخو أبي خراش الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوما بفناء بيته آمنا لا يخاف شيئا، فاستقبله رجل منهم بسهم فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراش: [من الكامل]
لعن الإله وجوه قوم رضّع ... غدروا بعروة من بني بلّال
وأسر خراش بن أبي خراش، أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيما، فدعا آسره رجلا منهم يوما للمنادمة، فرأى ابن ابي خراش موثقا في القدّ، فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعوّ لابن أبي خراش: من أنت؟ فقال:
ابن أبي خراش فقال: كيف دلّيلاك؟ فقال: قطاة، قال: فقم فاجلس(2/147)
ورائي، وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبه، فلما رأى ذلك أصلت له بالسيف وقال له: أسيري، فنثل المجير كنانته وقال: والله لأرمينّك إن رميته، فإني قد أجرته، فخلّى عنه؛ فنجا إلى أبيه فقال له: من أجارك؟ قال: والله ما أعرفه، فقال أبو خراش: [من الطويل]
حمدت الهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشرّ أهون من بعض
يقول فيها:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض
«323» - وكان الفرزدق شريفا، وكان يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة، فممن استجار بقبره فأجاره امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسما ولا نسبا، ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب:
[من الطويل]
عجوز تصلّي الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها
«324» - ومن ذلك أنّ الحجاج لما ولّى تميم بن زيد القيني السنّد، دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت:
إني استجرت بقبر أبيك، وأتت منه بحصيّات، فقال: ما شأنك؟ قالت:
إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه، ولا قرّة لعيني ولا كاسب عليّ غيره، فقال لها: وما اسم ابنك؟ قالت: حبيش، فكتب إلى تميم مع بعض من(2/148)
شخص: [من الطويل]
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها
وهب لي حبيشا واحتسب منه منّة ... لعبرة أمّ ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام أنك ماجد ... وليت إذا ما الحرب شبّ شهابها
فلما ورد الكتاب على تميم تشكّك في الاسم فقال: أحبيش أم خنيس؟
فقال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا، فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس، فوجّه بهم إليه.
«325» - ومنهم مكاتب لبني منقر، ظلع بمكاتبته فأتى قبر غالب فاستجار به، وأخذ منه حصيّات فشدّهنّ في عمامته، ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره وقال: إني قد قلت شعرا، فقال: هاته، فقال: [من الطويل]
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الردى أو أن أردّ على قسر
بقبر امرىء تقري المجير [1] عظامه ... ولم يك إلا غالبا ميّت يقري
فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق ما اسمك؟ قال: لهذم، قال: يا لهذم، حكمك مشتطا [2] ، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة [3] ، قال: يا جارية اطرحي إلينا حبلا، ثم قال: يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت، فتخيّر العبد على عينه، ثم رمى بالحبل في عنق ناقة، وجاء صاحبها فقال له
__________
[1] م والكامل: المئين.
[2] الكامل: مسمطا.
[3] م: سوداء الحدقة كوماء.(2/149)
الفرزدق: اغد عليّ [في] ثمنها، قال: فجعل لهذم يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من البيوت إلى الصحراء صاح به الفرزدق: يا لهذم قبّح الله أخسرنا.
«326» - كان أحمد بن أبي داود من المتقدمين في علوّ الهمة وحفظ الجوار، قال أبو العيناء: كان سبب اتصالي بأحمد بن أبي داود أن قوما من أهل البصرة عادوني وادّعوا عليّ دعاوى كثيرة، منها أنني رافضي، فاحتجت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى، وألقيت نفسي على ابن أبي داود وكنت نازلا في داره أجالسه في كلّ يوم، وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يدا عليّ، فقال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
(الفتح: 10) فقلت: إن لهم مكرا، فقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
(الأنفال: 30) فقلت هم كثيرون، فقال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
(البقرة:
249) فقلت: لله درك أيها الأمير فأنت والله كما قال الصّموت الكلابيّ:
[من الكامل]
لله درّك أي جنّة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان
متخمّط يطأ الرجال غلبّة ... وطء العتيق دوارج [1] القردان
ويكبّهم حتى كأنّ رؤوسهم ... مأمومة [2] تنحطّ للغربان
ويفرّج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان
فقال لابنه الوليد: اكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه.
قال الصولي: حفظي عن أبي العيناء الصموت الكلابيّ على أنه رجل،
__________
[1] زهر: مدارج.
[2] مأمومة: مشجوجة.(2/150)
وقال لي وكيع: حفظي أنها الصموت الكلابيّة، على أنها امرأة.
«327» - والعرب تضرب المثل بجار أبي داود، وهو أبو داود الإيادي، حلّ جارا للحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة، ثم مات ابن أبي داود وهو في جواره فوداه، فمدحه أبو داود، فحلف الحارث أنّه لا يموت له ولد إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه، فذلك قول قيس ابن زهير: [من الوافر]
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي داود
«328» - تزوج مروان بن الحكم أمّ خالد بن يزيد بن معاوية، فقال مروان لخالد يوما، وأراد أن يصغّر به: يا ابن الرطبة، فقال له خالد: الأمير مخبر وأنت أعلم بهذا، ثم أتى أمّه فأخبرها وقال: أنت صنعت بي هذا، فقالت: دعه فإنه لا يقولها لك بعد اليوم، فدخل عليها مروان فقال لها: هل أخبرك خالد بشيء، فقالت: يا أمير المؤمنين خالد أشدّ تعظيما لك من أن يذكر لي شيئا جرى بينك وبينه. فلما أمسى وضعت مرفقة على وجهه، وقعدت هي وجواريها عليها حتى مات، فأراد عبد الملك قتلها، وبلغها ذلك فقالت:
أما إنه أشدّ عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة، فكفّ عنها. فهذه امرأة حميت أن سبّها ذو أمرها حتى انتصرت وكشفت العار عن ولدها.
«329» - قال العتبي: حمل زياد من البصرة مالا إلى معاوية، ففزعت(2/151)
بنو تميم والأزد إلى مالك بن مسمع، وكانت ربيعة مجتمعة عليه كاجتماعها على كليب في حياته، واستغاثوا به وقالوا: يحمل المال ونبقى بلا عطاء، فركب مالك في ربيعة، واجتمع إليه الناس، فلحق بالمال فردّه وضرب الفسطاط بالمربد، وأنفق المال في الناس حتى وفّاهم عطاءهم وقال: إن شئتم الآن أن تحملوا فاحملوا، فما راجعه زياد في ذلك بحرف.
«330» - ولما ولي حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة جمع مالا ليحمله إلى أبيه، فاجتمع الناس إلى مالك واستغاثوا به، ففعل مثل فعله بزياد، فقال العديل بن الفرخ العجلي في ذلك: [من الطويل]
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوما فعسكرا
ترى الناس أفواجا إلى باب داره ... إذا شاء جاءوا دارعين وحسّرا
«331» - ومن أنواعه ما فعله هاشم بن عبد مناف في اعتقاد قريش (واعتفادها أن أهل البيت منهم كانوا إذا سافت [1] أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض، وضربوا على أنفسهم الأخبية، ثم تتاموا [2] فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بخلّتهم، حتى نشأ هاشم وعظم قدره في قومه) فقال: يا معشر قريش، إنّ العز مع كثرة العدد، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالا وأعزّهم نفرا، وإن هذا الاعتقاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيت رأيا؛ قالوا:
رأيك رشد [3] فمرنا نأتمر؛ قال رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم، فأعمد إلى رجل
__________
[1] سافت: هلكت.
[2] ر: تنادموا؛ م: تناوموا؛ السيوطي: تناوبوا.
[3] السيوطي: راشد.(2/152)
غنيّ فأضمّ إليه فقيرا عياله بعدد عياله، فيكون مؤازره [1] في الرحلتين: رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن، فما كان في مال الغنيّ من فضل عاش الفقير وعياله في ظله، وكان ذلك قطعا للاعتقاد، قالوا: فإنك نعم ما رأيت. فألّف بين الناس، فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان، وأنزل الله بهم ما أنزل، كان ذلك مفتاح النبوّة وأوّل عزّ قريش حتى هابهم الناس كلهم وقالوا: أهل الله والله يمنعهم [2] ، وكان مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك العام، فلما بعث الله رسوله صلّى الله عليه وآله، وكان فيما أنزل عليه وهو يعرّف قومه ما صنع بهم وما نصرهم من الفيل وأهله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ
(الفيل: 1) إلى آخر السورة. ثم قال: ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك، وهم يوم فعلت ذلك بهم أهل عبادة أوثان لا يعبدونني، ولا يحلّون لي ولا يحرّمون، فنصرتهم كما أنصر أوليائي وأهل طاعتي، ثم أخبره لم فعل ذلك، فقال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ
(قريش: 1) إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم، وإن كانوا على شرك، وكان الذي أمنتهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه، وإطعامه إياهم من الجوع، من جوع [3] الاعتقاد.
«332» - مروان بن أبي حفصة: [من الطويل]
هم يمنعون الجار حتى كأنّما ... لجارهم بين السماكين منزل
__________
[1] ر: والسيوطي: يؤازره.
[2] السيوطي: معهم.
[3] من جوع: سقطت من ر.(2/153)
«333» - نهشل: [من الطويل]
وجار منعناه من الضّيم والعدى ... وجيران أقوام بمدرجة النمل
«334» - ابن نباتة: [من البسيط]
ولو يكون سواد الشعر في ذممي [1] ... ما كان للشيب سلطان على القمم
«335» - قال علي بن محمد المدائني [2] : كان رجل من الشيعة يسعى في فساد الدولة، فجعل المهديّ لمن دلّ عليه أو أتى به مائة ألف درهم، فأخذه رجل ببغداد، فأيس من نفسه، فمرّ به معن بن زائدة فقال له: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله، فقال معن للرجل: مالك وماله؟ قال هذا طلبة أمير المؤمنين، قال: خلّ سبيله، قال: لا أفعل، فأمر معن غلمانه فأخذوه، وأردفه بعضهم، ومضى الرجل إلى سّلام الأبرش فأخبره بالقصة، وقال له:
إنّ معنا قال له إن طلبه أمير المؤمنين فأعلمه أنه عندي، فلم يضع معن ثيابه حتى أتاه رسول المهديّ، فركب وقال لغلمانه: اذهبوا، ولأهل بيته ومواليه:
كونوا دونه ولا يصل أحد إلى هذا الرجل ومنكم عين تطرف؛ فلما دخل على المهدي قال: يا معن أتجير عليّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قتلت في طاعتكم في يوم واحد خمسة آلاف رجل، هذا إلى أيام كثيرة قد تقدّمت فيها طاعتي وسبق فيها بلائي، أفما تروني أهلا أن تجيروا لي رجلا واحدا استجار
__________
[1] م: لممي.
[2] م: ابن المدائني.(2/154)
بي؟ فاستحيا المهدي وأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال: قد أجرنا يا أبا الوليد من أجرت، قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يحبو جاري فيكون قد أحياه وأغناه، قال: وقد أمرنا له بخمسين ألف درهم، قال: يا أمير المؤمنين ينبغي أن تكون صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية، وإنّ ذنب الرجل عظيم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزل صلته، قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم، فقال: ان رأى أمير المؤمنين أن يهنّئه بتعجيلها، قال: تحمل بين يديه، فرجع إلى منزله فدعا بالرجل ووعظه وقال: لا تتعرض لمساخط الخلفاء، ودفع إليه المال.
«336» - كان جعفر بن أبي طالب يقول لأبيه: يا أبه إني لأستحيي أن أطعم طعاما وجيراني لا يقدرون على مثله، فكان أبوه يقول له: إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب.
«337» - نزل الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بقوم فقروه، فأغير على بعضهم، فركب في نفير [1] معه فاستنقذهم وقال [2] : [من البسيط]
ناديتهم حين صمّوا عن مناشدتي ... صمّ القنا زعزعت أطرافه الخرق
وكم ترى يوم ذاكم من مولولة ... إنسان مقلتها في دمعها غرق
«338» - استنصر سبيع بن الخطيم التيمي زيد الفوارس الضبيّ فنصره
__________
[1] م: نفر.
[2] م: ثم أنشد.(2/155)
وقال: [من البسيط]
نبّهت [1] زيدا ولم أفزع إلى وكل ... رثّ السلاح ولا في الحيّ مغمور [2]
سالت عليه شعاب الحيّ [3] حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
«339» - سقط الجراد قريبا من بيت أبي حنبل جارية [4] بن مرّ، فجاء الحيّ وقالوا: نريد جارك فقال: أما إذ جعلتموه جاري فو الله لا تصلون إليه، فأجاره حتى طار من عنده فقيل له: مجير الجراد، وفي ذلك يقول هلال بن معاوية الثعليّ: [من المتقارب]
وبالجبلين لنا معقل ... صعدنا إليه بصمّ الصّعاد
ملكناه في أوليات الزمان ... من قبل نوح ومن قبل عاد
ومنا ابن مرّ أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم ... غياث الورى في السّنين الشداد
340- كان يقال: من تطاول على جاره، حرم بركة داره.
«341» - وكان عبيد الله بن أبي بكرة ينفق على من حول داره على أهل أربعين دارا من كل جهة من جهاتها الأربع، وكان يبعث إليهم بالأضاحي
__________
[1] الوحشيات: ناديت.
[2] الوحشيات: مكثور.
[3] الوحشيات: شعاب العزّ.
[4] م: حارثة.(2/156)
والكسوة، ويقوم لمن تزوج منهم بما يصلحه، ويعتق في كل عيد مائة رقبة سوى ما يعتق في سائر السنة.
«342» - قال الحسن: ليس حسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى.
«343» - وجاءته امرأة محتاجة وقالت: أنا جارتك، قال: كم بيني وبينك؟ قالت: سبع أدؤر، فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم، فأعطاها إياها وقال: كدنا نهلك.
«344» - كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام بما يصلحه وأهله، وحماه ممن يقصده، وإن هلك له شيء أخلفه، وإن مات وداه، فجاوره أبو داود الإيادي، فزاده على عادته. واحتذى أبو داود فعله حتى قال فيه قيس بن زهير: [من الوافر]
أطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي داود
وصار مثلا في حسن الجوار (وله خبر قد ذكر من قبل) .
«345» - (1) الرضيّ أبو الحسن الموسوي: [من الطويل]
وأبيض من عليا معدّ كأنما ... تلاقى على عرنينه القمران
إذا رمت طعنا بالقريض حميته ... وإن رام طعنا بالرماح حماني
(2) وقال أيضا: [من المنسرح](2/157)
لو أمطرته السماء أنجمها ... عزا لما قال للسماء قد
لا يسأل الضيف عن منازله ... ومنزل البدر غير مفتقد
نوادر من هذا الباب
«346» - كان عقيل بن علّفة من الغيرة والأنفة على ما ليس عليه [1] أحد، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات، فقال له: إما إذ كنت فاعلا فجنبني هجناءك.
وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة، وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة، وكان أبيض شديد البياض، فردّه عقيل وقال: [من الوافر]
رددت صحيفة القرشيّ لما ... أبت أعراقه إلّا احمرارا
347- قدّم أعرابيّ رجلا إلى القاضي واستعدى عليه، وتقدم شاهدان فقالا: نشهد أنه قد ظلم الأعرابيّ، فقال الأعرابيّ: كذبا ما ظلمني ولكنّه لوى حقي، (كأنه أنف أن يكون مظلوما) .
«348» - ومثل هذا أن أعرابيا من بني سليم قيل له: أيما أحبّ إليك:
أن تلقى الله ظالما أو مظلوما؟ فقال: بل ظالما، قالوا: سبحان الله أتحبّ الظلم؟ قال: فما عندي إذا أتيته مظلوما يقول لي: خلقتك مثل البعير
__________
[1] م: مثله.(2/158)
الصّمحمح ثم أتيتني تعصر عينيك وتشتكي؟! «349» - قيل لأعرابي اشتدّ به الوجع: لو تبت؟ فقال: لست ممن يعطي على الضيم، إن عوفيت تبت.
«350» - قال أعرابيّ لرفيقه: أترى هذه الأعاجم تنكح نساءنا في الجنة؟ قال له: نعم أرى ذلك بأعمالهم الصالحة، فقال: توطأ إذن والله رقابنا قبل ذلك.
«351» - نزل عطّار يهوديّ بعض أحياء العرب ومات، فأتوا شيخا لهم لم يكن يقطع في الحيّ أمر دونه، فأعلموه خبر اليهودي، فجاء فغسله وكفّنه وتقدّم وأقام الناس خلفه وقال: اللهمّ إن هذا اليهوديّ جار وله ذمام، فأمهلنا حتى نقضي ذمامه، فإذا صار في لحده فشأنك والعلج.
«352» - كان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول قال، فيقال إن سليمان بن عليّ سأله عن ابنيه جعفر ومحمد، فقال له: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال: [من الطويل]
أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيا لك جاري ذلّة وصغار
والشعر ليزيد بن مفرغ الحميري، فأعرض عنه سليمان، وكان سليمان من أجمل الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعمّ الخليفة المنصور.(2/159)
«353» - خرج زياد الأعجم إلى المهلب ومدحه وهو بخراسان [1] ، فأمر له بجائزة، وأقام عنده أياما، قال: فإنه لعشية يشرب مع حبيب بن المهلب في دار فيها دلبة وفيها حمامة، فسجعت الحمامة فقال زياد: [من الوافر]
تغنّي أنت في ذممي وعهدي ... وذمة والدي ألّا تضاري
وبيتك أصلحيه ولا تخافي ... على صفر مزغّبة صغار
فإنك كلّما غنيت صوتا ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فاما يقتلوك طلبت ثأرا ... له نبأ لأنك في جواري
فقال حبيب: يا غلام هلمّ القوس، فأتي به، فنزع لها بسهم فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلب، فحدّثه الحديث وأنشده الشعر، فقال المهلب: عليّ بأبي بسطام فأتي بحبيب، فقال: أعط أبا أمامة دية جاره ألف دينار، فقال: أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب، فقال أعطه كما آمرك، فأعطاه، فأنشأ زياد يقول: [من الطويل]
فلله [2] عينا من رأى كقضيّة ... قضى لي بها قرم العراق المهلّب
قضى ألف دينار لجار أجرته ... من الطير حضّان على السقب ينعب
رماها حبيب بن المهلب رمية ... فأثبتها بالسهم والشمس تغرب
فألزمه عقل القتيل ابن حرّة ... وقال حبيب إنما كنت ألعب
فقال زياد لا يروّع جاره ... وجارة جاري مثل جاري وأقرب [3]
قال: فإنه لبعد هذا يشرب مع حبيب، وفي قلب حبيب عليه الألف،
__________
[1] م: وهو بخراسان ومدحه.
[2] م: ولله.
[3] في الأصول: بل من الجار اقرب.(2/160)
إذ عربد عليه فشق قباء ديباج عليه فقام وقال: [من الطويل]
لعمرك ما الديباج خرّقت وحده ... ولكنّما خرّقت جلد المهلب
فبعث المهلب إلى حبيب فأحضره وقال: صدق زياد ما خرّقت إلا جلدي، تبعث عليّ هذا [1] يهجوني؟! ثم أحضره وتسلّل سخيمته وأمر له بمال وصرفه.
«354» - قيل لأعرابيّ ما يمنعك أن تمنع جارتك فإنه يتحدّث إليها فتيان الحيّ، قال: وهي طائعة أو كارهة؟ قالوا: طائعة، قال: إنما أمنع جاري مما يكره.
«355» - قدم الحكم بن عبدل الأسديّ على ابن هبيرة واسطا، فأقبل حتى وقف بين يديه ثم قال: [من الطويل]
اتيتك في أمر من آمر عشيرتي ... وأعيا الأمور المفظعات جسيمها
فإن قلت لي في حاجة أنا فاعل ... فقد ثلجت نفسي وولّت همومها
فقال ابن هبيرة: أنا فاعل إن اقتصدت، فما حاجتك؟ قال: غرم لزمنا في حمالة، قال: وكم هي؟ قال: أربعة آلاف، قال: نحن مناصفكوها، قال: أصلح الله الأمير، أتخاف عليّ التخمة إن أتممتها؟ قال: أكره أن أعوّد الناس هذه العادة، قال: فأعطني جميعها سرّا وامنعني جميعها ظاهرا حتى تعوّد الناس المنع، وإلا فالضرر عليك واقع إن عوّدتهم نصف ما يطلبون، فضحك ابن هبيرة وقال: ما عندنا غير ما بذلنا لك، فجثا بين يديه وقال:
__________
[1] م: هذا عليّ.(2/161)
امرأته طالق لا أخذت أقلّ من أربعة آلاف أو أنصرف وأنا غضبان، قال:
أعطوه إياها قبّحه الله فإنه ما علمت حلّاف مهين، فأخذها وانصرف.
«356» - قال الأصمعي: دخلت خضراء [روح] فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يؤتى، فقلت: قبحك الله، هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي فيه اللهى، وأنت تفعل فيه ما أرى؟! فالتفت إليّ من غير أن يزول عنها وقال: (الشعر لمعن بن أوس المزني) [1] [من الوافر]
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بناة السوء أوشك أن يضيعا
357- حضر يوما بشر بن هارون وجماعة من الكتاب في دار أبي محمد المهلبي الوزير، وكان المهلبيّ بحيث يراهم ويسمع كلامهم، وهم لا يشاهدونه، فأنشأ أحدهم يقول: [من المتقارب]
سبال الوزير سبال كبير
فقال الآخر:
وعقل الوزير فعقل صغير
فقال بشر بن هارون:
زيادة هذا بنقصان ذا ... كما طال ليل النهار القصير
فخرج إليهم المهلبيّ وشاتمهم وجلس معهم ومازحهم وأجاز كل واحد
__________
[1] الشعر ... المزني: جاء في م بعد البيتين.(2/162)
منهم.
«358» - نظر أبو الحارث جمين [1] إلى برذون يستقى عليه الماء فقال:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
لو هملج هذا البرذون لم يجعل للرواية، والشعر لمعاوية بن فروة المنقري، وأوله: [من الطويل]
وإن خفت من أمر هوانا فولّه ... سواك وعن دار الأذى فتحوّل
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
«359» - ومن الحمية المنكرة ما فعله عبد العزيز بن أبي دلف: كان له جارية يرى الدنيا بعينها فضرب عنقها وقال: خفت أن أموت من حبها فتنام هي بعدي تحت غيري.
360- وقد ذكر أن عضد الدولة قتل جارية أحبّها لأنها ألهته عن النظر في أمور المملكة، وهذا من السياسة المذمومة.
«361» - عيّر شريف النسب سقراط بسقوط نسبه، فقال: نسبي عار عليّ، وأنت عار على نسبك.
«362» - وقال عبد الملك لروح بن زنباع: أيّ رجل أنت لولا أنك
__________
[1] حمير أو جميز (حيثما ورد في النسخ) وصوبته اعتمادا على ضبط المحدثين لاسمه.(2/163)
ممّن أنت منه!! قال يا أمير المؤمنين، ما يسرني أنني ممن أنت منه، قال:
كيف؟ قال: لأني لو كنت ممن أنت منه لغمرتني أنت ونظراؤك، وأنا اليوم قد سدت قومي غير مدافع، فأعجب بقوله.
363- شاعر يذم صامتا لغير حلم ولا سيادة:
يا صنما في الصمت لا في الحسن
«364» - ولابن حجاج [1] في معناه: [من السريع]
يا صنما يعبده شعري ... بلا ثواب وبلا أجر
انطق تنفّس قبل أن يحسبوا ... أنك من جصّ وآجرّ
«365» - قال أعرابيّ: إذا لم يكن لك في الخير اسم فارفع لك في الشر علما.
«366» - قال رجل لسيد: إن سوّدك القوم لجهلهم فسيد الجاهلين غير شريف، وإن سودوك للفقر إليك فأنت كما قال القائل: [من الكامل]
خلت البلاد فسدت غير مسوّد ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
«367» - شتم مجنون رجلا فقال: أتشتمني وأنا سيد قومي؟ فقال:
__________
[1] ر: الحجاج.(2/164)
[من الطويل]
وإنّ بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيّد لو يظفرون بسيّد
368- نادرة في رياسة العلم: قال حماد بن سلمة: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاته لا شعير فيها.
«369» - قال حفص بن غياث [1] : خرج إلينا الأعمش يوما فقال لنا:
تدرون ما قالت الأذن؟ قلنا: وما قالت؟ قال: قالت لولا أني أخاف أن أقمع بالجواب لطلت كما طال اللسان (قال حفص: فكم من كلمة غاظني صاحبها منعني جوابها قول الأعمش) .
«370» - قال الجاحظ: مررت بحجّام يحجم حجاما أيام قتل المخلوع وهو يقول: سقط والله المأمون من عيني مذ قتل أخاه، فقلت له: هلك والله المأمون إذ سقط من عين مثلك؛ فرفع الخبر إلى المأمون فوجّه إليه بدرة وقال:
إن رأيت أن ترضى عني فعلت، قال: قد فعلت.
تمّ الباب الثالث بحمد الله ومنّه يتلوه الباب الرابع في مكارم الأخلاق ومساوئها.
__________
[1] م: عباد.(2/165)
الباب الرّابع في محاسن الأخلاق ومساوئها(2/167)
خطبة الباب
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الرؤوف بعباده، العطوف على من أناب منهم بعد عناده، الداني منهم برحمته، النائي عنهم بعظمته، العفوّ عن المذنب المسي، الغفور لهفوة المحتقب الغوي، مقيل العثرات، والمنجي من الغمرات، مسبل القطر عند اليأس، ومنزل الصبر حين البأس، وسعت رحمته، وشملت نعمته، حتى نال حظّه منها الملمّ [1] والمسرف، وأبصر بنورهما فاهتدى المضحي والمسدف، أحمده على صنوف آلائه، وأستدفع برأفته صروف بلائه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي عن القلوب غواشي اللمم، وتشفي الأسماع من عوادي الصمم، والصلاة على محمد رسوله المبعوث بمكارم الأخلاق والشيم، والداعي إلى معالم الفضل والكرم، المأثور عنه حسن العفو الجزيل، والمأمور بالصفح الجميل، والمنعوت بالخلق العظيم، وعلى آله أهل التبجيل والتعظيم.
__________
[1] م: المسلم..(2/169)
مقدمة الباب
(الباب الرابع في محاسن الأخلاق ومساوئها) هذه سمة [1] تجمع معاني لو أتيت بها في باب واحد طال فأملّ [2] ، وبعد على ذي الحاجة إليه مكان ملتمسه، إذ كانت تحوي الآداب والسياسة، والهمّة والسيادة، والصدق والوفاء، والجود والسخاء، والبأس والصبر، والقناعة والتواضع، وغير ذلك من خلال الخير والفضائل، وأضدادها من المساوىء والرذائل، فأفردت لكلّ واحد من هذه وعكسها بابا تطلب فيه، ويسرع إليه تأمل مبتغيه، وأوردت في هذا المكان جملا من مكارم الأخلاق نهجا لمن رام تقيّلها، ومن مساوئها تنبيها لمن أراد [3] تجنبها، والله الموفق للسداد، والهادي إلى سبيل الرشاد.
«371» - جاء [4] جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أتيتك بمكارم الأخلاق: أهل الجنة وأهل الدنيا في ثلاثة أحرف من كتاب الله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
(الأعراف: 199) وهو يا محمد أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
__________
[1] ر: شهرة.
[2] م: لطال تأمله.
[3] م: آثر.
[4] تأخرت هذه الفقرة في م فجاءت بعد رقم: 372.(2/171)
«372» - قال الله عزّ وجل وقوله الحق ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
(فصلت: 34) ووصف نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وأثنى عليه فقال وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
(القلم: 4) . فسّروا قوله تعالى وَلِباسُ التَّقْوى
(الأعراف: 26) إنه الحياء؛ ومن أوامره تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
(البقرة: 83) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
(طه:
44) وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً
(الإسراء: 23) فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً
(الإسراء: 28) وقال صلّى الله عليه وسلّم: من لانت كلمته وجبت محبته.
«373» - وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرني ربي بتسع: الاخلاص في السرّ والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة.
«374» - وقال صلّى الله عليه وسلّم من كلام له: ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا الذين يألفون ويؤلفون.
«375» - وقالت عائشة رضي الله عنها: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهنّ الحياء.(2/172)
«376» - وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في الخير، عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كنا لا نرجو جنّة ولا نخشى نارا، ولا ننتظر ثوابا ولا عقابا، لكان ينبغي أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها تدلّ على سبل النجاة، فقام رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قال: نعم، وما هو خير منه، لما أتينا بسبايا طيء [1] كانت في النساء جارية حمّاء حوراء، لعساء لمياء عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، درماء الكعبين، خدلّجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصر، ظاهرة الكشح، مصقولة المتن، فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت: لأطلبنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعلها من فيئي، فلما تكلمت نسيت جمالها لما سمعت من فصاحتها، فقالت: يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلّي عني ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفكّ العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، لم يردد [2] طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق والله يحبّ مكارم الأخلاق.
377- ومن كلام عليّ عليه السلام: إن الله تعالى جعل مكارم الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فحسب أحدكم أن يتمسك بخلق متصل بالله
__________
[1] م: بني طيء.
[2] ر: ولم يردّ.(2/173)
عز وجل [1] .
«378» - وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. (وفي رواية أخرى: فسعوهم ببسط الوجه والخلق الحسن) .
«379» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن.
«380» - وقال صلّى الله عليه وسلّم حسن الخلق نصف الدين.
«381» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: الحياء خير كله.
«382» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: صلة الرحم منماة للعدد، مثراة للمال، محبة للأهل، منسأة للأجل.
«383» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه عمله [2] .
__________
[1] في نسخة رئيس الكتاب وردت الآيات الآتية بعد هذا الموطن:
من الآيات في الحسد: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ
(النساء: 32) وقال أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
(النساء: 54) وقال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
(الزخرف: 32) .
[2] م: حلمه.(2/174)
«384» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تجلسوا على الطرق فإن أبيتم فغضّوا الأبصار، وترادّوا السلام، واهدوا الضالّة، وأعينوا الضعيف.
«385» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا عقل كالتدبير في رضى الله، ولا ورع كالكفّ عن محارم الله، ولا حسب كحسن الخلق.
«386» - ومما يروى عنه صلّى الله عليه وسلّم: من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن برّه لأهل بيته مدّ له في عمره؛ ثم قال: وحسن الخلق وكفّ الأذى يزيدان في الرزق.
«387» - وقيل ليوسف عليه السلام: أتجوع وخزائن الدنيا بيدك؟
قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.
«388» - وقالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل له: لم [1] قلت كذا وكذا؟ ولكن يعمّي فيقول: ما بال أقوام.
«389» - وقال صلّى الله عليه وعلى آله: لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه
__________
[1] لم: سقطت من م.(2/175)
الله ويبتليك.
«390» - كان [1] الحسن إذ ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أكرم ولد آدم على الله عز وجل، أعظم الأنبياء منزلة عند الله، أتي بمفاتيح الدنيا فاختار ما عند الله، كان يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض ويقول: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يلبس المرقوع والصوف، ويركب الحمار ويردف خلفه، ويأكل الجشب من الطعام، ما شبع من خبز برّ يومين متواليين حتى لحق بالله، من دعاه لباه، ومن صافحه لم يدع يده من يده حتى يكون هو الذي يدعها، من دعاه لباه، ومن صافحه لم يدع يده من يده حتى يكون هو الذي يدعها، يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجالس الفقراء، أعظم الناس من الله مخافة وأتعبهم لله عز وجل بدنا، وأجدّهم في أمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما والله ما كانت تغلق دونه الأبواب ولا كان دونه حجاب صلّى الله عليه وسلّم كثيرا.
«391» - وقال أنس: ما بسط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركبتيه بين يدي جليس له قطّ، ولا جلس إليه رجل فقام حتى يكون هو الذي يقوم من عنده، ولا صافحه رجل قطّ فأخذ يده من يده حتى يكون هو الذي يأخذ يده، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
392- وحدّث ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل غيضة ومعه صاحب له، فأخذا منها مسواكين أراكا، أحدهما مستقيم والآخر معوج، فأعطى
__________
[1] وردت هذه الفقرة في ر بعد رقم: 393.(2/176)
صاحبه المستقيم وحبس المعوج، فقال يا رسول الله: أنت أحقّ بالمستقيم مني قال: كلا إنه ليس من صاحب يصاحب صاحبا ولو ساعة من نهار إلا سأله الله تعالى عن مصاحبته إياه، فأحببت أن لا أستأثر عليك بشيء.
«393» - وقال عبد الله بن مسعود: كنا يوم بدر كلّ ثلاثة على بعير، فكان عليّ وأبو لبابة زميلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكانا إذا دارت عقبتهما قالا: يا رسول الله اركب ونمشي عنك، فيقول: ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما.
«394» - وعن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وآله ما عاب طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله، وإلا لم يعبه.
395- وكان عليه السلام يطوف بالبيت، فانقطع شسعه، فأخرج رجل شسعا من نعله فذهب يشدّه في نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: هذه أثرة ولا أحبّ الأثرة.
«396» - وقال أنس: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط فلم تهيّأ إلا قال: لو قضي كان، لو قدّر كان.
«397» - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة قط ولا خادما له ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله، ولا خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد(2/177)
الناس منه.
«398» - قال علي عليه السلام: خالطوا الناس مخالطة جميلة، إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم.
399- وقال محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرم الرفق والخلق كان ذلك سبيلا إلى كلّ شرّ وبلية، إلّا من عصمه الله.
«400» - وقال ابن عبّاس: لجليسي علي ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا حدث.
«401» - وكان القعقاع بن شور أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة إذا جالسه جليس فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيبا في ماله، وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا عليه بعد المجالسة شاكرا حتى شهر بذلك، وفيه يقول القائل: [من الوافر]
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السنّ إن نطقوا بخير ... وعند الشرّ مطراق عبوس(2/178)
«402» - قال بعض الحكماء: ليس من جهل الناس بقدر الفضل قصّروا عنه، ولكن من استثقال فرائضه حادوا عن التمسك به، وهم على تبجيل أهله مجمعون؛ وإلى هذا المعنى نظر منصور النمري في قوله: [من البسيط]
الجود أخشن مسّا يا بني مطر ... من أن تبزّكموه كفّ مستلب
ما أعلم الناس أنّ الجود مكسبة ... للحمد لكنه يأتي على النّشب
ونظر المتنبي إلى المعنى فقال: [من البسيط]
لولا المشقة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال
«403» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: المكر، قال الله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
(فاطر: 43) والبغي، قال الله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ
(يونس: 23) ومن بغي عليه لينصرنّه الله، والنكث، قال الله عزّ وجلّ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ
(الفتح: 10) .
«404» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: أعجل الأشياء عقوبة البغي.
«405» وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما من ذنب أدنى [1] أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخّر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم.
__________
[1] ر: أحرى.(2/179)
«406» - وقيل [1] : سوء الخلق يعدي لأنّه يدعو صاحبه إلى أن يقابله بمثله.
«407» - وقيل: الحسن الخلق قريب عند البعيد، والسيء الخلق بعيد عند أهله.
408- وقيل: المرء عبد من رجاه، وبئس الشعار الحسد، والافتقار يمحق الأقدار، والبطر يسلب النعمة، وكثرة الكلام تكسب الملال وإن كان حكما، وإظهار الفاقة من خمول الهمة.
«409» - وقال معاوية: ثلاث ما اجتمعن في حرّ: مباهتة الرجال، والغيبة للناس، والملال لأهل المودة.
«410» - وقيل: شرّ الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.
«411» - وقال سقراط: المال رداء الكبر، والهوى مركب المعاصي، والتمني؟؟؟ رأس مال الجاهل، والكبر قاعدة المقت، وسوء الخلق سدّ بين المرء وبين الله.
«412» - وقال عليّ عليه السلام: الحاسد بخيل بما لا يملكه.
«413» - وقال أيضا: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له.
__________
[1] قبل هذه اللفظة في ع: غيره.(2/180)
«414» - وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله تعالى فإن الحسود عدوّ للنعم.
«415» - وقيل في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصّر دون الظّفر، وحسدك من لا ينام دون الشفاء.
«416» - وقيل: الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه.
«417» - وقيل لبعضهم: ما بال فلان ينتقصك؟ قال: لأنّه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة؛ فذكر دواعي الحسد كلها.
«418» - وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كاد الفقر أن يكون كفرا، وكاد الحسد أن يغلب القدر.
«419» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
420- وكان يقال: الحسد يضعف اليقين، ويسهر العين، ويكثر(2/181)
الهمّ.
421- وفي الحكمة: الحاسد لا يضرّ إلا نفسه.
«422» - وقال أعرابيّ: الحسد داء منصف يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود، وهو مأخوذ من الخبر: قاتل الله الحسد فما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله.
«423» - وقيل [1] : ثلاث موبقات: الكبر فإنه حطّ إبليس عن مرتبته، والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
«424» - وقيل: يكفيك [2] من الحاسد أنه يغتمّ في وقت سرورك.
425- وقال محمد بن علي بن موسى بن جعفر: الحسد ما حق للحسنات، والزهو جالب للمقت، والعجب صادف عن طلب العلم داع إلى التخمّط في الجهل، والبخل أذمّ الأخلاق، والطمع سجية سيئة.
«426» - وقال أيضا: مخالطة الأشرار تدل على شر من يخالطهم، والكفر للنعم أمارة البطر وسبب للغير، واللجاجة مسلبة للسلامة ومؤذنة بالندامة، والهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهال، والنّزق مغضبة للاخوان
__________
[1] وقعت هذه الفقرة والتالية لها بعد الفقرة: 417 في ر.
[2] ع: يشفيك.(2/182)
يورث الشنآن، والعقوق يعقب القلة ويؤدي إلى الذلة.
«427» - وقال: إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يبين في عدوّك.
«428» - وقال محمد بن واسع: ليس لملول صديق، ولا لحسود غنى.
429- وقال آخر: يجب على ذي السعة في رأيه، والفضل في خصاله، أن يتطوّل على حسّاده بنظره، ويتحرّى لهم المنافع، فإنه بلاء غرسه الله فيهم ثم لم يسلطهم عليه، فهم يعذّبون بحركات الحسد في وقت مسرّته بما أكرم به.
430- وقال آخر: الحقد غصّة لا يسيغها إلا الظفر، والحسد شجى فارح [1] لا يدفعه عن صاحبه إلا بلوغ أمله في من قصده بحسده، وأنّى له بذلك؟ وقد قيل: من كنت سببا لبلائه فالواجب عليك التلطف له في علاجه من دائه.
«431» - قال صاحب كليلة ودمنة: مثل الحقد في القلب ما لم يجد محركا مثل الجمر المكنون، وليس ينفكّ الحقد يتطلّع إلى العلل كما تبتغي [2] النار الحطب، فإذا وجد شيئا استعر ثم لا يطفئه مال ولا كلام ولا تضرّع ولا
__________
[1] م: فادح.
[2] م: تتلقى.(2/183)
مناصفة ولا شيء غير تلف تلك الأنفس.
«432» - وقال: لا يزيدك لطف الحقود بك، ولينه لك، وتكرمته إياك إلا وحشة وسوء ظن، وإنك لا تجد للحقود الموتور أمانا هو أوثق من الذّعر، ولا أحرز من البعد والاحتراس منه.
«433» - وقد اعتذر عبد الملك بن صالح للحقد فشبه وما قصر، قال له يحيى بن خالد: لله أنت من سيد لولا أنّك حقود؛ فقال عبد الملك: أنا خزانة تحفظ الخير والشرّ، فقال يحيى: ما رأيت أحدا احتجّ للحقد حتى حسّنه غيرك.
وسلك ابن الرومي هذه [1] السبيل فقال: [من الطويل]
وما الحقد إلا توأم الشكر للفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
«434» - ومن مكارم الأخلاق قول الشاعر: [من الطويل]
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعا بادي الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
__________
[1] م: هذا.(2/184)
«435» - وقول آخر: [من الطويل]
ومرضى إذا لوقوا [1] حياء وعفّة ... وفي الحرب أمثال الليوث الخوادر
كأن بهم وصما يخافون عاره ... وما وصمهم إلّا اتّقاء المعاير
«436» - وقول آخر: [من الوافر]
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فافعل ما تشاء
«437» - وقيل: الحياء لباس سابغ، وحجاب واق [2] ، وستر من المساوىء واقع، وحليف للدين، وموجب للصنع، ورقيب للعصمة، وعين كالئة، يذود عن الفساد وينهى عن الفحشاء والأدناس.
«438» - وقيل: لا ترض قول أحد حتى ترضى فعله، ولا ترض بما فعل حتى ترضى عقله، ولا ترض عقله حتى ترضى حياءه، فإن ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم، فإذا قوي الحياء قوي الكرم، وإذا ضعف الحياء قوي اللؤم.
__________
[1] م: لاقوا.
[2] واق: سقطت من ر.(2/185)
«439» - قال عروة بن الزبير: لعهدي بالناس والرجل منهم إذا أراد أن يسوء جاره سأل غيره حاجة، فيشكوه جاره ويقول: تجاوزني بحاجته [1] ، أراد بذلك شيني.
«440» - قال بعضهم: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شسع نعلي، فخلع نعله، فقلت ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفا.
«441» - وكان الأحنف إذا أتاه إنسان أوسع له، فإن لم يجد موضعا تحرّك ليريه أنه يوسع له.
«442» - وقال ابن السمّاك لمحمد بن سليمان أو لحماد بن موسى كاتبه، ورآه كالمعرض عنه: مالي أراك كالمعرض عني؟ قال: بلغني عنك شيء كرهته، قال: إذن لا أبالي، قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان ذنبا غفرته، وإن كان باطلا لم تقبله. فعاد إلى مؤانسته.
«443» - دخل على الحسين بن علي عليهما السلام جارية في يدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى؛ قال أنس، فقلت له: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ فقال: كذا أدبنا الله عز وجل قال: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
(النساء: 86) .
«444» - وكتب إليه أخوه الحسن في إعطائه الشعراء، فكتب إليه
__________
[1] م: حاجته.(2/186)
الحسين: أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقى العرض (فانظر شرف خلقه كيف [1] ابتدأ كتابه بقوله: أنت أعلم مني) .
«445» - وجنى غلام له جناية توجب العقاب عليها فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
قال: خلّوا عنه، فقال: يا مولاي وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
قال: قد عفوت عنك، قال: يا مولاي وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(آل عمران: 134) قال: أنت حرّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
«446» - وكان بينه وبين أخيه الحسن كلام، فقيل له: ادخل على أخيك فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي صلّى الله عليه وسلّم يقول: أيّما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضى الآخر كان سابقه إلى الجنة؛ وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر، فبلغ قوله الحسن فأتاه عاجلا.
«447» - وقال المغيرة بن حبناء: [من الطويل]
فإن يك عارا ما لقيت فربّما ... أتى المرء يوم السّوء من حيث لا يدري
ولم أر ذا عيش يدوم ولا أرى ... زمان الغنى إلّا قريبا من الفقر
ومن يفتقر يعلم مكان صديقه ... ومن يحي لا يعدم بلاء من الدهر
__________
[1] م ر: حيث.(2/187)
وإني لأستحيي إذا كنت معسرا ... صديقي والخّلان أن يعلموا عسري
وأهجر خلّاني وما خان عهدهم ... حياء وإعراضا وما بي من كبر
وأكرم نفسي أن ترى بي حاجة ... إلى أحد دوني وإن كان ذا وفر
ولما رأيت المال قد حيل دونه ... وصدّت وجوه دون أرحامها البتر
جعلت حليف النفس عضبا ونثرة ... وأزرق مشحوذا كخافية النسر
ولا خير في عيش امرىء لا ترى له ... وظيفة حقّ في ثناء وفي أجر
«448» - وقال آخر: [من الطويل]
وإني لألقى المرء أعلم أنه ... عدوّ وفي أحشائه الضّغن كامن
فأمنحه بشري فيرجع قلبه ... سليما وقد ماتت لديه الضغائن
«449» - وقال يحيى بن زياد الحارثي: [من الطويل]
ولكن إذا ما حلّ كره فسامحت ... به النفس يوما كان للكره أذهبا
«450» - وقال آخر: [من الكامل]
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
ويصمّ عمّا كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر
«451» - حدّث رجل من الأعراف قال: نزلت برجل من طيّء فنحر لي(2/188)
ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى فقلت: إن عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله ما أطعم ضيفي إلا لحما عبيطا، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث، وفي كلّ ذلك آكل شيئا ويأكل الطائي أكل جماعة، ثم يؤتى باللبن فأشرب شيئا ويشرب عامّة الوطب، فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع، فلما امتلأ نوما استقت قطيعا من إبله فأقبلته الفجّ فانتبه، واختصر عليّ الطريق حتى وقف لي في مضيق منه فألقم وتره فوق [1] سهمه، ثم نادى: لتطب نفسك عنها، قلت: أرني آية، قال: انظر إلى ذلك الضبّ فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه، فرماه فأندر ذنبه، فقلت:
زدني، قال: انظر إلى أعلى فقاره، فرمى فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك، قال قلت: شأنك بإبلك، قال: كلّا حتى تسوقها إلى حيث كانت، قال: فلما انتهيت بها قال: فكرت فيك فلم أجد لي عندك ترة تطالبني بها، وما أحسب حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة، قلت: هو والله ذاك، قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها [2] فخذها، فقلت: إذن والله لا أفعل حتى تسمع مدحك، فو الله ما رأيت رجلا أكرم ضيافة، ولا أهدى لسبيل، ولا أرمى كفّا، ولا أوسع صدرا، ولا أرغب خوفا، ولا أكرم عفوا منك، قال: فاستحيا فصرف وجهه عني وقال: انصرف بالقطيع مباركا لك فيه.
«452» - خرج رجل من طيء، وكان مصافيا لحاتم، فأوصى حاتما
__________
[1] م: وفوق.
[2] ر ع م: جيادها.(2/189)
بأهله فكان يتعهدهم، وإذا جزر جزرة بعث إليهم من أطايبها، فراودته امرأة الرجل فاستعصم ولم يفعل، فلما قدم زوجها أخبرته أنّ حاتما أرادها، فغضب من ذلك، وجاءت العشيرة للتسليم وحاتم معهم، فلم يلق حاتما بما كان يلقاه به من طلاقة الوجه وحسن البشر، فعلم حاتم أنّ ذلك من قبل امرأته، فأنشأ يقول: [من الطويل]
إني امروّ من عصبة ثعليّة ... كرام أغانيها عفيف فقيرها [1]
إذا ما بخيل الناس هرّت كلابه ... وشقّ على الضيف الطروق عقورها
فإني جبان الكلب رحلي موطّأ ... جواد [2] إذا ما النفس شحّ ضميرها
وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع زوجها [3] ... إليها ولم تسبل عليّ ستورها
فلما بلغ الرجل الشعر عرف أن حاتما بريء، فطلّق امرأته.
«453» - وكان مسلمة بن عبد الملك إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخشي الضجر أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب، فتذاكروا مكارم الأخلاق في الناس وجميل طرائقهم ومروءاتهم، فيطرب ويهيج ثم يقول: ائذنوا لأصحاب الحوائج، فلا يدخل عليه أحد إلا قضى حاجته.
«454» - كان يحيى بن خالد بن برمك عاقلا أديبا كريما حسن الأخلاق
__________
[1] رواية الديوان:
أبت لي ذاكم أسرة ثعلية ... كريم غناها مستعف فقيرها
[2] الديوان: بيتي موطأ أجود.
[3] الديوان: بعلها.(2/190)
رضيّ الأفعال حليما ركينا، حتى لو ادّعى اجتماع مكارم الأخلاق فيه لكان أهلا للدعوى؛ وسخط الرشيد على كاتبه منصور بن زياد، وأمر أن يطالب بعشرة آلاف ألف درهم، أو يؤتى برأسه، وأمر صالحا صاحب المصلّى بذلك، قال صالح: فاستسلم للقتل وحلف أنه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف درهم فكيف بعشرة آلاف ألف، ثم دخل إلى داره فأوصى وارتفع الصراخ منها، وخرج فقال لي: امض بنا إلى أبي عليّ يحيى بن خالد لعل الله أن يأتينا بفرج من جهته، فلما قصّ القصة على يحيى قلق وأطرق مفكرا ثم قال لخازنه: كم عندك من المال؟ قال: خمسة آلاف ألف، فقال: أحضرني مفاتيحها، فأحضرها، ثم وجه إلى ابنه الفضل: إنك كنت أعلمتني أن عندك ألفي ألف درهم، قدّرت أن تشتري بها ضيعة، وقد أصبت لك ضيعة يبقى لك ذكرها وشكرها، فوجّه إليه بالمال، ثم وجه إلى جعفر ابنه فاستدعى منه ألف ألف درهم، ثم أرسل إلى دنانير جاريته فاستدعى منها عقدا كان وهبه الرشيد لها وابتاعه بمائة ألف وعشرين ألف دينار، قال صالح: وكان كعظم الذراع، وقال يحيى: قد حسبناه [1] بألفي ألف درهم، وهذا تمام مالك فانصرف وخلّ عن [2] صاحبنا، قال صالح: فأخذت ذلك ورددت منصورا معي فلما صرنا بالباب أنشد منصور متمثلا (والشعر للعين المنقري) [3] : [من الوافر]
فما بقيا عليّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
قال صالح: فقلت ما على الأرض أنبل من رجل خرجنا من عنده ولا
__________
[1] ر: حسبنا.
[2] عن: سقطت من م.
[3] والشعر.. المنقري: زيادة من ر م.(2/191)
أخبث سريرة من هذا النبطي، قال: ثم حدثت يحيى من بعد بقوله وقلت:
أنعمت على غير شاكر، فجعل يحيى يطلب له المعاذير ويقول: إن المنخوب القلب ربّما سبقه لسانه بما ليس في ضميره، وقد كان الرجل في حال عظيمة، فقلت: والله ما أدري من أيّ أمريك أعجب، أمن أوّله أم [1] من آخره.
«455» - وأمر يحيى بن خالد كاتبين من كتابه أن يكتبا كتابا في معنى واحد فكتباه، واختصر أحدهما وأطال الآخر، فلما قرأ يحيى كتاب المختصر قال: ما أجد موضع مزيد، ثم قرأ كتاب المطيل فقال: ما أجد موضع نقصان.
«456» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا إلى ما يتبعه من حسن الثناء.
«457» - وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
(الشعراء: 84) إنه أراد حسن الثناء من بعده.
«458» - وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار [فطيبوا أخباركم] [2] ؛ ألمّ بهذا المعنى أبو تمام فقال: [من البسيط]
وما ابن آدم إلّا ذكر صالحة ... أو ذكر سيئة يسري بها الكلم
إذا سمعت بدهر باد أمّته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
__________
[1] م: أو.
[2] زيادة من العقد.(2/192)
وإنما يكون الثناء على مكارم الأخلاق.
«459» - وقال الأحنف بن قيس: ما ذخرت الآباء للأبناء، وما أبقت الموتى للأحياء، أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الآداب والأحساب.
460- وقال بعضهم: ظفر الكريم عفو، وظفر اللئيم عقوبة.
«461» - وقال الأحنف: المروءة كلّها إصلاح المال وبذله للحقوق.
462- قال ابن أبي دواد، وقد وصف كرم أخلاق المعتصم: دخلت عليه يوما فدعا بالغداء ثم قال: يا أبا عبد الله ها هنا رجل قد صار إليه من مال فارس أيام عليّ بن عيسى القمي عشرون ألف ألف درهم، وقد عزمت على أخذها منه، فإن خرج إليّ منها طوعا وإلا قتلته وأخذت كل ما ظهر لي من ماله، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يعقوب بن فرادون [1] النصراني كاتب عليّ بن عيسى، فقلت: وفّق الله أمير المؤمنين لطاعته، قال: وأحضر الطست ليغسل يده فغسلها ثم قال لي: اغسل يدك، فقلت: مالي إلى الطعام حاجة، قال: ولم؛ قلت: تأخذ مال [2] جاري وتقتله؟! قال: هو جار لك؟ قلت: بيتي وبيته، قال: فقد تركت من المال لك [3] خمسة آلاف ألف درهم، فقلت: ما آكل شيئا، قال: يا غلام هات طعامك ولا أبالي أن لا يأكل، وهو في خلل ذلك يكلّمني ويبتسم، فوضع الطعام بين يديه، فو الله ما هناه أن يأكل كرما ونبلا، ثم قال: يا أبا عبد الله كل حتى أترك لك من المال
__________
[1] م: مرادون.
[2] مال: سقطت من ر.
[3] م: لك من المال.(2/193)
المذكور نصفه، فقلت: ما آكل شيئا، قال: فأكل لقما ثلاثا وأنا ألحظه ما يقدر أن يسيغها، ثم قال: يا أبا عبد الله ادن فكل فقد وهبت لك المال جميعه [1] ودمه، فقلت: وهب الله لأمير المؤمنين الجنة فو الله الذي لا إله إلّا هو ما رأيت ولا سمعت بخليفة قط ولا ملك أكرم منك عفوا، ولا أسمح كفا، ولا أجمل عشرة، ولا أنبل أخلاقا، ثم قال: يا غلام الطست، فجاء به، فغسلت يدي وأكلت، وبلغ الخبر إلى يعقوب فشكرني على ذلك فاستكففته وقلت: فعلت ذاك للحرمة لا للشكر.
«463» - سرق بعض غاشية جعفر بن سليمان بن علي درة نفيسة من بين يديه وباعها بمال جزيل، فأنفذ جعفر بن سليمان إلى الجوهريين بصفة الدرة فقالوا: باعها فلان منذ مدة، فأخذ وجيء به إليه وكان يختصّ به، فلما رآه جعفر ورأى ما قد ظهر عليه من الجزع والخوف قال له: أراك قد تغير لونك، ألست يوم كذا وكذا طلبت مني هذه الدرة فوهبتها لك؟ وأقسم بالله لقد أنسيت هذه الحال؛ وأحضر ما كان اشتريت به فدفعه إلى الجوهري ثم قال للرجل: خذ الدرة الآن [2] وبعها حلالا بالثمن الذي تطيب به نفسك لا بيع خائف ولا وجل، والله لقد آلمني ما دخل عليك من الرعب والجزع.
«464» - وقال الأصمعي: ما رأيت أكرم أخلاقا ولا أشرف أفعالا من جعفر بن سليمان، كنا عنده فتغدينا معه واستطاب الطعام فقال لطباخه [3] : قد أحسنت وسأعتقك وأزوّجك، فقال الطباخ: قد قلت هذه غير مرة وكذبت،
__________
[1] م: كله.
[2] الآن: سقطت من م.
[3] م: لصاحبه.(2/194)
قال: فو الله ما زاد على أن ضحك، وقال لي: يا أصمعيّ إنما يريد البائس «أخلفت» ، قال الأصمعي: وإذا هو قد رضي ب «أخلفت» .
«465» - قيل كان المهتدي [1] يصلّي الصلوات كلّها في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوما فقال أعرابي: يا أمير المؤمنين لست على طهر وقد رغبت إلى الله تعالى في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء أن ينظروني، قال: انتظروه رحمكم الله، ودخل المحراب فوقف إلى أن أقبل وقيل له قد جاء الرجل، فعجب الناس من سماحة أخلاقه.
«466» - قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستانه ويده في يدي، فكان في الظلّ وأنا في الشمس، فلما بلغنا ما أردنا ورجعنا صرت أنا في الفيء وصار هو في الشمس، فدرت أنا إلى الشمس فقال: لا ليس هذا بإنصاف، كما كنت أنا في الفيء ذاهبا فكن أنت في الفيء راجعا.
467- ووقع إلى علي بن هشام وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك [2] من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريا [3] وضيفك طاويا.
468- كان أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي من أفاضل العلويين، وبقي في الاستتار ستين سنة، (فلما قام المنتصر وأظهر الميل إلى العلوية أراد أن يظهر فاعتلّ وتوفي بالبصرة) ؛ فبينا هو في استتاره مرّ به رجلان
__________
[1] ع م: المهدي.
[2] م: يكون بيتك.
[3] ر ع م: عاويا.(2/195)
قد تلازما، فطالب أحدهما صاحبه بمائة دينار دينا له عليه: والرجل المطالب معترف فهو [1] يقول: يا هذا لا تمض بي إلى الحاكم، فإني قد تركت في منزلي أطفالا قد ماتت أمهم لا يهتدون لشرب ماء إن عطشوا، فإن تأخرت عنهم ساعة ماتوا، وإن أقررت عند القاضي حبسني فتلفوا، فلا تحملني على يمين فاجرة، فإني أحلف لك ثم أعطيك مالك، وصاحبه يقول: لا بدّ من تقديمك وحبسك أو تحلف، فلما كثر هذا منهما إذا صرّة قد سقطت بينهما ومعها رقعة: يا هذا خذ هذه المائة الدينار التي لك قبل الرجل ولا تحمله على الحلف كاذبا، وليكن جزاء هذا أن تكتماه فلا يعلم به غيركما، ولا تسألا عن فاعله، فسرّا جميعا بذلك وافترقا، فبدأ الحديث من أحدهما فشاع، فقيل: فمن يفعل هذا الفعل إلا أحمد بن عيسى؛ فقصدوا الدار لطلبه فوجدوا آثارا تدلّ على أنه كان فيها وتنحى، وهرب صاحب الدار فأحرقت.
469- قال علي بن عبيدة من كلام له: [حسن] الخلق جوهر الانسان، العفاف طهارة الجوارح. النية الحسنة عمارة الدين.
470- وقال أعرابيّ: خصلتان من الكرم: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان.
«471» - كان العبّاس بن الحسن [2] بن عبيد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب شاعرا عالما فصيحا وكان يقال: من أراد لذة لا تبعة فيها فليسمع كلام العبّاس بن الحسن. ودخل أبو دلف العجلي على الرشيد وهو جالس على طنفسة في طارمة، وعند باب الطارمة شيخ على طنفسة مثلها، فقال الرشيد:
__________
[1] م: وهو.
[2] نثر الدر: الحسين.(2/196)
يا قاسم ما خبر الجبل؟ قال: خراب يباب اعتوره الأكراد والأعراب، قال:
أنت سبب خرابه وفساده، فان ولّيتك إياه، قال: أعمره وأصلحه، فقال بعض من حضر: أو غير ذلك، فقال أبو دلف: وكيف يكون غير ذلك وأمير المؤمنين يزعم أني ملكته فأفسدته وهو عليّ، أفتراني لا أقدر على إصلاحه وهو معي؟ فقال الشيخ: إن همته لترمي به وراء سنّه مرمى بعيدا، وأخلق به أن يزيد فعله على قوله، فقبل الرشيد قوله [1] وولاه، وأمر بأن يخلع عليه، فلما خرج أبو دلف سأل عن الشيخ فقيل له: هو العبّاس بن الحسن العلويّ، فحمل إليه عشرة آلاف دينار وشكر فعله، فقال له العباس: ما أخذت على معروف أجرا قطّ، فاضطرب أبو دلف وقال: إن رأيت أن تكمل النعمة عندي وتتمّها عليّ بقبولها، فقال: أفعل، هي لي عندك، فإذا لزمتني حقوق لقوم يقصّر عنها مالي صككت عليك بما تدفعه إليهم إلى أن أستنفدها، فقنع بذلك أبو دلف، فما زال يصك عليه للناس إلى أن أفناها من غير أن يصل إلى العباس درهم منها.
«472» - روي أنّ شيخا أتى سعيد بن سلم وكلّمه في حاجة وما شاه، فوضع زجّ عصاه التي يتوكأ عليها على رجل سعيد حتى أدماها، فما تأوّه لذلك ولا نهاه، فلما فارقه قيل له: كيف صبرت منه على هذا؟ قال: خفت أن يعلم جنايته فينقطع عن ذكر حاجته.
«473» - مرّ عبد العزيز بن مروان بمصر فسمع امرأة تصيح بابنها: يا عبد العزيز، فوقف وقال: من المسمّى باسمنا؟ ادفعوا إليه خمسمائة دينار، فما ولد
__________
[1] م ر: رأيه.(2/197)
في أيامه مولود بمصر إلا سمي عبد العزيز.
«474» - استلب رجل رداء طلحة بن عبيد الله، فذهب صاحبه يتبعه، فقال له طلحة: دعه فما فعل هذا إلا من حاجة.
«475» - قرع رجل باب بعضهم فقال لجاريته: انظري من القارع، فقال: أنا صديق لمولاك، فنهض وبيده السيف وكيس يسوق جاريته، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لا يك ما ساءك [1] ، قد قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وبين عدوّ فهذا السيف، وأيّم فهذه [2] الجارية.
«476» - وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به، هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل، فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا، وإن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان.
«477» - قال خالد: أيلبس الرجل أجود ثيابه ويتطيّب بأطيب طيبه ثم يتخطى القبائل والوجوه لا [3] يريد إلا قضاء حقي [4] وتعظيمي بسؤاله حاجة، فلا أعرف ذلك له ولا أكافيه عليه؟! تخطيت إذن مكارم الأخلاق ومحاسنها إلى مساوئها.
__________
[1] لايك ما ساءك: سقط من م.
[2] ع ر م: وأتمه بهذه.
[3] م: فلا.
[4] م: قضاء حقه وقيل حقي.(2/198)
«478» - قال ابن عبّاس: قدم علينا الوليد بن عتبة المدينة واليا كأن وجهه ورقة مصحف، فو الله ما ترك عانيا إلا فكّه، ولا غريما إلّا أدّى عنه، ينظر إلينا بعين أرقّ من الماء، ويكلّمنا بكلام أحلى من الجنى، ولقد شهدت منه مشهدا لو كان من معاوية لذكرته منه أبدا: تغدينا عنده فأقبل الخباز بصحفة فعثر بوسادة وندرت الصحفة من يده، فو الله ما ردّها إلا ذقنه، وصار ما فيها في حجره، ومثل الغلام ما فيه من الروح إلا ما يقيم رجله، فقام فدخل فغير ثيابه ثم أقبل تبرق أسارير وجهه، فأقبل على الخباز فقال: يا بائس ما أرانا إلا قد روّعناك، أنت وأولادك أحرار لوجه الله تعالى. فهذا هو التواضع الجميل، والبذل الحسن، والكرم المحض.
«479» - وفد داود بن سلم [1] على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، فلما نزل به حطّ غلمانه رحله فقال: [من المتقارب]
ولما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حربا لقيت النجاحا
رأيناه يحمده المجتدون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا
فأجازه بجائزة عظيمة، ثم استأذنه داود في الخروج فأذن له، فأعطاه ألف دينار، ولما أراد أن يرحل لم يعنه غلمانه ولم يقوموا إليه، فظنّ داود أن حربا ساخط عليه، فرجع إليه فأخبره بما رأى من غلمانه، فقال، سلهم لم فعلوا
__________
[1] م: سليم.(2/199)
بك ذلك [1] . قال فسألهم فقالوا: إنا ننزل من جاءنا ولا نرحّل من خرج عنا؛ فسمع الغاضريّ هذا الحديث فجاءه وقال له: أنا يهوديّ إن لم يكن الذي قال لك الغلمان أحسن من شعرك.
«480» - قال إسحاق الموصليّ: دخلت يوما إلى المعتصم وعنده إسحاق ابن إبراهيم بن مصعب، فاستدناني فدنوت، واستدناني فتوقفت خوفا من أن أكون موازيا في مجلسي لإسحاق بن إبراهيم، ففطن المعتصم وقال: إنّ إسحاق كريم وإنك لم تستنزل [2] ما عند الكريم بمثل إكرامه، ثم تحدثنا فأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي: [من الطويل]
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشرّ أهون من بعض
فأنشدها المعتصم إلى آخرها، وأنشد فيها:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنّه قد حطّ عن ماجد محض
فغلطت وأسأت الأدب فقلت: يا أمير المؤمنين هذه رواية الكتّاب وما أخذ عن المعلم، والصحيح: بزّ عن ماجد محض، فقال لي: نعم صدقت، وغمزني بعينه يحذّرني من إسحاق، وفطنت لغلطي فأمسكت، وعلمت أنه قد أشفق عليّ من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم [3] عقوبته، ويطيل حبسه كائنا من كان، فنبهني رحمه الله على ذلك.
481- لما مات عبيد الله بن سليمان بن وهب وارتفع الصراخ من داره
__________
[1] ر: ذاك.
[2] ر: يسترك.
[3] ر: تعظم.(2/200)
سجد المعتضد فأطال السجود، وكان بحضرته بدر المعتضديّ، فلما رفع رأسه قال له بدر: والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الولاء مجتهدا في خدمتك، عفيفا عن أموالك وأموال رعيتك، ميمون النقيبة حسن التدبير، قال:
أفظننت يا بدر أني سجدت سرورا بموته؟ إنما سجدت شكرا لله إذ وفّقني فلم أصرفه ولم أوحشه، ولم يبلغ بي الطمع فيه إلى القبض عليه، ولم يبلغ به الفزع مني إلى التدبير عليّ، ففارقني ومضى راضيا وما بيننا مستور، ولم يجد أعداؤنا طريقا إلى أن يصفوني بقلّة الرعاية، والمسارعة إلى الاستبدال بالخدم، والشره إلى أموال حاشيتي.
482- قال علي بن عبد الملك بن صالح: ما سمعت في الكرم بأحسن من فعل بعض ولد الحسين بن علي عليهما السلام بمستميح له، وذلك أنه أتاه ليلا، فلما ابتدأ يتكلم بحاجته أطفأ السراج وقال له: تكلّم بلسانك كلّه فإني أتخوّف أن تخجلك المعاينة عن استيفاء جميع مسألتك.
483- أنشد اليزيدي [1] : [من الطويل]
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ... ولكنّه خيم النفوس وخيرها
فنفسك أكرم عن أمور كثيرة ... فمالك نفس بعدها تستعيرها
«484» - وقال إبراهيم بن العبّاس: [من الوافر]
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وأقضي للصديق على الشقيق
__________
[1] م: وأنشد الزينبي في هذا المعنى.(2/201)
أفرّق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق
فإن ألفيتني مولى مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق
485- وقال ابن صرمة الأنصاري: [من الوافر]
لنا صرم يؤول الحقّ فيها ... وأخلاق يسود بها الفقير
ونصح للعشيرة حيث كانت ... إذا ملئت من الغشّ الصدور
وحلم لا يصوب الجهل فيه ... وإطعام إذا قحط الصّبير
بذات يد على ما كان فيها ... نجود به قليل أو كثير
ومما روي في مساوىء الأخلاق:
«486» - شخص أبو وجزة السلميّ (المعروف بالسعديّ لنزوله في بني سعد ومحالفته إياهم) إلى المدينة يريد آل الزبير، وشخص أبو زيد الأسلميّ يريد إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر [1] بن مخزوم وهو والي المدينة وخال هشام بن عبد الملك [2] ، فاصطحبا، فقال أبو وجزة: هلمّ فلنشترك فيما نصيبه، فقال أبو زيد: كلا أنا أمدح الملوك، وأنت تمدح السّوق، فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى إبراهيم بن هشام فأنشده:
يا ابن هشام يا أخا الكرام
فقال إبراهيم: وكأنما أنا أخوهم وكأني لست منهم، ثم أمر به فضرب بالسياط. وامتدح أبو وجزة آل الزبير فكتبوا له بستين وسقا من تمر وقالوا: هي لك في كل سنة، فانصرفا فقال أبو زيد: [من الطويل]
__________
[1] ع ر: عبد الملك.
[2] بن مخزوم ... عبد الملك: سقط من ع ر.(2/202)
مدحت عروقا للندى مصّت الثرى ... حديثا فلم تهمم بأن تتزعزعا [1]
نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلّبت الأيّام والدهر أضرعا
سقاها ذوو الأرحام سجلا على الظما ... وقد كربت أعناقها أن تقطّعا
بفضل سجال لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعا وأشبعا
فضمّت بأيديها على فضل ما بها ... من الريّ لما أوشكت أن تضلّعا
وزهّدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها من قبله [2] الفقر جوّعا
وقال أبو وجزة: [من البسيط]
راحت رواحا قلوصي وهي حامدة ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت بستّين وسقا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السّددا
ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستّين وسقا ولا جابت به بلدا
ذاك القرى لا قرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملويّة الجددا [3]
«487» - قال رجل من أهل العراق: أدناني أبو مسلم وآنسني ثم سألني فقال: أي الأعراض أدنى؟ قلت: عرض بخيل، قال: كلا، ربّ بخيل لم يكلّم عرضه، قلت: فأيها أصلح الله الأمير؟ قال: عرض لم يرتع فيه حمد ولا ذمّ.
«488» - قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[1] ع ر: تترعرعا.
[2] م: قبلها.
[3] ر: الجردا؛ والملوية: السياط.(2/203)
بمحاسن الناس لرجحت وهي قوله: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم؛ هذا أبو عبّاد كان كريم العهد كثير البذل، سريعا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه فما ترى له حامدا.
«489» - قيل للمأمون: إنّ دعبلا قد هجاك، فقال: وأيّ عجب في ذاك؟ هو يهجو أبا عبّاد لا يهجوني أنا؟ ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي. ثم قال للجلساء: من كان منكم يحفظ شعره في أبي عباد فلينشده، فأنشده بعضهم: [من الكامل]
أولى الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبّره أبو عبّاد
خرق على جلسائه فكأنّهم ... حضروا لملحمة ويوم جلاد
يسطو على كتّابه بدواته ... فمضمّخ بدم ونضح مداد
وكأنه من دير هزقل مفلت ... حرد يجرّ سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقه ... فأصحّ منه بقية [1] الحداد
وكان بقية هذا مجنونا في البيمارستان.
ولأبي عباد حكايات عجيبة في طيشه وجهله، فمما يروى عنه أنه غضب على بعض كتّابه فرماه بدواة، فأبلغ المأمون فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال:
أنا ممن قال الله فيهم: وإذا ما غضبوا هم يعقرون فقال: ويلك لا تحسن آية؟
فقال: نعم: أنا أقرأ من سورة ألف آية.
__________
[1] ر: مقية.(2/204)
«490» - وكان محمد بن جميل كاتب المنصور صاحب ديوان الخراج شديد الخرق غاية في الخفّة، وكان ومجلسه غاصّ بأهله يعدو خلف كاتبه بالنعل، وكاتبه يعدو بين يديه.
«491» - لقي الحجاج أعرابيا بفلاة فسأله عن نفسه، فأخبره بكلّ ما يكره وهو لا يعرفه، فقال: إن لم أقتلك فقتلني الله، قال الأعرابي: فأين حقّ الاسترسال؟ فقال الحجاج: أولى لك، وأعرص عنه. (وليس الحجاج ممن تأتي منه مكرمة، ولكن ربّ رمية من غير رام) .
«492» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما نزعت الرحمة إلا من شقي.
«493» - ولما وفد عليه صلّى الله عليه وسلّم قيس بن عاصم سأله بعض الأنصار عما يتحدّث به عنه في الموؤدات، فأخبره أنه ما ولدت له قطّ بنت إلا وأدها وقال: كنت أخاف العار، وما رحمت منهنّ إلّا بنيّة كانت لي ولدتها أمّها وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخوالها، وقدمت فسألت عن الحمل فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولدا ميتا، ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت، فزارت أمّها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفّرت شعرها، وجعلت في قرونها شيئا من خلوق، ونظمت عليها ودعا، وألبستها قلادة جزع، وجعلت في عنقها مخنقة بلح، فقلت: من هذه الصبية، فلقد أعجبني كمالها وكيسها؟(2/205)
فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها، ثم أخرجتها يوما فحفرت لها حفيرة وجعلتها فيها وهي تقول لي: يا أبة ما تصنع بي؟ وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول: أمغطي أنت بالتراب؟ أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني؟ وجعلت أقذف عليها التراب حتى واريتها فانقطع صوتها. فدمعت عين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إنّ هذه لقسوة وإن من لا يرحم لا يرحم.
ورأى في حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض بناته يشمّها فقال له: ما هذه السخلة تشمها؟ والله لقد وأدت ثمانية، وولد لي ثمانون ما شممت منهم أنثى ولا ذكرا قط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فهل إلا أن ينزع الله الرحمة منك.
«494» - وكان محمد بن عبد الملك الزيات قاسيا مع غير ذلك من رذائل جمعت فيه، على فضله وعلمه وأدبه وكفايته، فذكروا أن رجلا دخل عليه فقال له: أنا أصلحك الله أمتّ إليك بجواري وأرغب إليك في عطفك عليّ، فقال له: أما الجوار فنسب بين الحيطان، وأما العطف والرقة فهما للصبيان والنساء.
495- وقيل: كان له جار أيّام انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد، فلما بلغ محمد ما بلغ من الولاية شخص إلى سرّ من رأى، فورد بابه وهو يتغدّى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائما لا يرفع إليه طرفه وهو يأكل حتى فرغ من أكله، ثم رفع رأسه إليه وقال له: ما خبرك؟ فقال الرجل: قد أصارك الله تعالى أيها الوزير إلى أجلّ الآمال، وصرف رغبات الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه عليّ، وقد غيّر الدهر حالي فوفدت إليك مستقيلا عثرتي ومستعطفا لك على خلّتي، فقال له: قد(2/206)
علمت هذا فانصرف وعد إليّ في غد، فولّى الرجل من بين يديه، فلما صار في صحن داره دعا به، فلما وقف بين يديه قال: لا والله مالك عندي شيء مما أمّلته وقدّرته، فلا تقم عليّ، ثم أقبل على بعض من بين يديه فقال: إنما رددته وأيّسته بخلا عليه بفسحة الأمل وأنس الرجاء في بقيّة يومه.
496- وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر موصوفا بالقسوة، كان [1] يغضب على الرجل فيأمر بضربه بالسياط وهو يتحدّث، ويتغافل عنه حتى يموت تحت السياط.
وقال عيسى النوفلي: غضب ابن جعفر على غلام له وأنا عنده جالس في غرفة بأصفهان، فأمر أن يرمى به منها إلى أسفل، ففعل به ذلك، فتعلق بدرابزين كان على الغرفة فأمر بقطع يده التي أمسكه بها فقطعت، ومرّ الغلام يهوي حتى بلغ الأرض فمات.
497- شاعر: [من الطويل]
ولا تك ذا وجهين وجه شهادة ... ووجه مغيب غيبه غير طائل
«498» - آخر: [من الطويل]
وكم من صديق ودّه بلسانه ... خؤون بظهر الغيب لا يتذمّم
كذلك ذو الوجهين يرضيك شاهدا ... وفي غيبه إن غاب صاب وعلقم
499- آخر: [من الوافر]
وذو الوجهين ظاهره صحيح ... وباطن غيبه داء دفين
__________
[1] ر: وكان.(2/207)
«500» - قال بعض الحكماء: آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء سوء السريرة، وآفة الجند مخالفة القادة، وآفة الرعيّة مفارقة الطاعة، وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدّة الطمع، وآفة العدول قلة الورع، وآفة الملوك مضادة الأعوان، وآفة العدل ميل الولاة، وآفة الجريء إضاعة الحزم، وآفة القويّ استضعاف الخصم، وآفة المنعم قبح المنّ، وآفة المذنب سوء الظنّ. من كثر ملقه لم يعرف بشره.
«501» - كان يوسف بن عمر الثقفي من الموصوفين بالقسوة والفظاظة، وكان في إمارته العراق يعظ الناس ويأمر بالخير، وينهى عن الأذى، ويزهّد في الدنيا، ويرغّب في المعاد، ويخالف فعله قوله- كان يتخد لهشام طنافس الخزّ في واسط، فامتحن طنفسة منها بأن جرّ عليها ظفر إبهامه فعلقت به غفرة من الطنفسة فأمر بيد الصانع فقطعت.
وأمر أن يضرب الدرهم لا ينقص حبّة فما فوقها، ونادى من فعل ذلك ضربته ألف سوط، ووجد درهما ناقصا حبّة فأحضر الضرّابون فكانوا مائة، فضرب كلّ واحد ألف سوط، فقيل ضرب في حبّة فضة مائة ألف سوط.
وقد أكثر الشعراء في ذكر حسد الأقارب:
502- قال الأقرع بن معاذ: [من الطويل]
ومولى أمنّا داءه تحت جنبه ... فلسنا نجازيه ولسنا نعاتبه
رأى الله أعطاني فأضمر صدره ... على حسد الإخوان وازورّ جانبه
فويل له منّا وويل لأمّه ... علينا إذا ما حرّكته حوازبه(2/208)
«503» - وقال مبذول العنزي [1] : [من الطويل]
ومولى كضرس السوء يؤذيك مسّه ... ولا بدّ إن آذاك أنك فاقره
دويّ الجوف إن ينزع يسؤك مكانه ... وان يبق تصبح كلّ يوم تحاذره
يسرّ لك البغضاء وهو مجامل ... وما كلّ من يجني عليك تساوره
وما كلّ من مدّدت ثوبك فوقه ... لتستره ممّا جنى أنت ساتره
«504» - وقال عمر بن أبي ربيعة: [من الكامل]
ومشاحن ذي بغضة وقرابة ... يزجي لأقربه عقارب لسّعا
يسعى ليهدم ما بنيت وإنني ... لمشيّد بنيانه المتضعضعا
وإذا سررت يسوءه ما سرّني ... ويرى المسرّة مروتي أن تقرعا [2]
وإذا عثرت يقول إني شامت ... وأقول حين أراه يعثر دعدعا [3]
«505» - وقال الحسن بن هانىء: [من المديد]
وابن عمّ لا يكاشفنا ... قد لبسناه على غمره
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره
«506» - وقال آخر: [من الطويل]
__________
[1] ربما قرئت «الغنوي» في ر.
[2] المروة: الصخرة؛ ويقرع مروته: يعيبه.
[3] دع دع: كلمة لاقالة العاثر.(2/209)
لكلّ كريم من ألائم قومه ... على كلّ حال حاسدون وكشّح
«507» - وقال ابن المعتز: [الكامل المجزوء]
ما عابني إلا الحسو ... د وتلك من خير المناقب
وإذا فقدت الحاسدي ... ن فقدت في الدنيا الأطايب
«508» - ومن كلام بعض الزهاد: إذا زال المحسود عليه علمت أنّ الحاسد كان يحسد على غير شيء.
«509» - وقال عروة بن أذينة: [من البسيط]
لا يبعد الله حسّادي وزادهم ... حتى يموتوا بداء فيّ مكنون
إني رأيتهم في كلّ منزلة ... أجلّ قدرا من اللائي يحبوني
«510» - ولقد أحسن الآخر في قوله، وهو الكميت بن معروف الأسدي [1] : [من البسيط]
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
511- وفي الحسد يقول الشاعر: [من الطويل]
__________
[1] وهو.. الأسدي: سقط من ر.(2/210)
إني امرؤ لا أحسد الناس نعمة ... إذا نالها قبلي من الناس نائل
أأحسد فضل الله أن ناله امرؤ ... سواي وعندي للاله فضائل
وهبني حسدت المرء بالجهل رزقه ... وحال به عني من الله حائل
ولم يضرر المحسود مني نفاسة ... أليس على قلبي تحوم البلابل
«512» - ومن أبلغ ما سمع في الحنق أنّ أبا العبّاس السفّاح لمّا قتل بني أميّة بحضرته دعا بالغداء، ثم أمر ببساط فبسط عليهم، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ قال: ما أعلمني أكلت أكلة قطّ كانت أهنا ولا أطيب في نفسي منها. ويقال: إنهم صلبوا في بستانه حتى تأذّى جلساؤه بروائحهم، فكلموه في ذلك فقال: والله لهذا ألذّ عندي من شمّ المسك والعنبر، غيظا عليهم، وتمثّل بقول ذي الإصبع: [من البسيط]
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ تشفيني
«513» - وضد هذا التشفي [1] ما حكي عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين في حكاية طويلة رواها القاضي التنوخي قال: كان محمد بن زيد الداعي العلوي بطبرستان إذا افتتح الخراج نظر ما في بيت المال من خراج السنة التي قبلها، ففرّق في قبائل قريش قسطا على دعوتهم، وفي الأنصار والفقهاء وأهل القرآن وسائر الناس، حتى يفرق جميع ما بقي، فجلس في سنة من السنين يفرّق المال كما كان يفعل، فلما فرغ من بني هاشم دعا بسائر عبد مناف، فقام رجل فقال له: من أيّ عبد مناف أنت؟ قال من بني أميّة، قال: من
__________
[1] ر: الشفاء.(2/211)
أيهم؟ فسكت. قال: لعلك من بني معاوية؟ قال: نعم، قال: فمن أي ولده؟ فأمسك، قال: لعلك من ولد يزيد، قال: نعم، قال بئس الاختيار اخترت لنفسك من قصدك بلدا ولايته لآل أبي طالب، وعندك ثأرهم في سيدهم، وقد كانت لك مندوحة عنهم في الشام والعراق إلى من يتوالى جدّك ويحبّ برّك، فإن كنت جئت على جهل [1] بهذا [2] منك فما يكون بعد جهلك شيء، وإن كنت جئت لغيره فقد خاطرت بنفسك، قال: فنظر إليه العلويون نظرا شديدا، فصاح بهم محمد وقال: كفوا، كأنكم تظنون أنّ في قتل هذا دركا أو ثأرا بالحسين بن علي، وأيّ جرم لهذا؟ إنّ الله جل وعز قد حرّم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت، والله لا يعرض له أحد إلا أقدته منه؛ واسمعوا حديثا أحدثكم به يكون لكم قدوة فيما تستأنفون، حدثني أبي عن أبيه قال:
عرض على المنصور سنة حجّ جوهر فاخر فعرفه وقال: هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك وهو هذا بعينه وقد بلغني [3] خبره عند محمد ابنه، وما بقي منهم أحد غيره، ثم قال للربيع: إذا كان غدا وصليت بالناس في المسجد الحرام وحصل الناس فيه فأعلق الأبواب كلّها ووكلّ بها ثقاتك من الشيعة فأقفلها وافتح للناس بابا واحدا وقف عليه، فلا يخرج أحد إلا من عرفته. فلما كان من الغد فعل الربيع ما أمره به وتبيّن محمد بن هشام القصة، فعلم أنه هو المطلوب وأنه مأخوذ، فتحير، وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على تفئة ذلك فرآه متحيرا وهو لا يعرفه، فقال له: يا هذا أراك متحيرا فمن أنت، ولك أمان الله وأنت في ذمتي حتى أتخلّص بك، فقال: أنا محمد ابن هشام بن عبد الملك، فمن أنت؟ قال: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين، فقال عند ذلك: أحتسب نفسي إذن، قال: لا بأس عليك يا ابن
__________
[1] م: جئت جاهلا.
[2] م: بهذا المكان.
[3] ر ع: وهذا بعينه قد بلغني.(2/212)
عمّ، فانك لست قاتل زيد ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا الآن بخلاصك أولى مني بإسلامي إيّاك، ولكن تعذرني في مكروه أتناولك به وقبيح [1] أخاطبك به يكون [2] فيه خلاصك، قال: أنت وذاك، فطرح رداءه على رأسه ووجهه، ولبّبه وأقبل يجره، فلما وقعت عين الربيع عليه لطمه لطمات وجاء به إلى الربيع وقال له: يا أبا الفضل إنّ هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة أكراني جماله ذاهبا وراجعا، وقد هرب منّي في هذا الوقت وأكرى بعض القواد الخراسانية، ولي عليه بيّنة فتضمّ إليّ حرسيّين يصيران به معي إلى القاضي ويمنعان الخراسانيّ من إعزازه، فضمّ إليه حرسيين وقال امضيا معه، فلما بعد عن المسجد قال له: يا خبيث تؤدّي إليّ حقي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقال للحرسيين: انصرفا، فانصرفا وأطلقه، فقبّل محمد بن هشام رأسه وقال: بأبي أنت وأمي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ثم أخرج جوهرا له قدر وقال: تشرّفني بقبول هذا؟ قال: يا ابن عم إنّا أهل بيت لا نقبل على المعروف مكافأة، وقد تركت لك أعظم من ذلك، تركت لك دم زيد بن علي، فانصرف راشدا ووار شخصك حتى يخرج هذا الرجل فإنه مجدّ في طلبك، فمضى وتوارى.
ثم أمر للداعي الأموي بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف، وضمّ إليه جماعة من مواليه، وأمرهم أن يخرجوه إلى الريّ ويأتوه بكتابه بسلامته، فقام الأمويّ فقبّل رأسه، ومضى معه القوم حتى وصل إلى مأمنه، وجاءوه بكتابه من الري.
«514» - ومن الحقد البليغ ما فعله عبد الله بن الزبير بأخيه عمرو، وكان
__________
[1] م: ومكروه.
[2] م: ويكون.(2/213)
عمرو بن الزبير قد شايع بني أميّة، وهدم دور قوم في هواهم، فلما ولي عبد الله ابن الزبير أخوه واستولى على الحجاز، أقام عمرا للناس ليقتصوا منه، فبالغ كلّ ذي حقد عليه في ذلك، وتدسّس فيه من يتقرّب إلى أخيه، وكان أخوه عبد الله لا يسأل من ادعى عليه شيئا بيّنة، ولا يطالبه بحجة، وإنما يقبل قوله ودعواه، ثم يدخله إلى السجن ليقتص منه، فكانوا يضربونه والقيح يتنضح [1] من ظهره وأكتافه على الأرض والحائط [2] ، لشدّة ما يمرّ به، ثم يضرب وهو على تلك الحال، ثم أمر بأن ترسل عليه الجعلان، فكانت تدبّ عليه فتثقب لحمه وهو مقيّد مغلول يستغيث فلا يغاث، حتى مات على تلك الحال.
فدخل الموكل به على أخيه عبد الله بن الزبير وفي يده قدح لبن يريد أن يتسحر به وهو يبكي، فقال له: مالك، أمات عمرو؟ قال: نعم، قال: أبعده الله، وشرب اللبن ثم قال: لا تغسلوه ولا تكفّنوه وادفنوه في مقابر المشركين، فدفن فيها.
«515» - حدث شيخ من بني نبهان قال: أصابت بني شيبان [3] سنة ذهبت بالأموال، فخرج منهم رجل بعياله حتى أنزلهم الحيرة، وقال لهم:
كونوا قريبا من الملك يصبكنّ من خيره حتى أرجع إليكنّ، وآلى أليّة لا يرجع حتى يكسبهن خيرا أو يموت؛ فتزود زادا ثم مشى [يوما] إلى الليل فإذا هو بمهر مقيّد يدور حول خباء [4] ، فقال: هذا أول الغنيمة، فذهب يحلّه ويركبه، فنودي خلّ عنه واغنم [5] نفسك، فتركه ومضى، فمشى سبعة أيّام
__________
[1] م والأغاني: يتنضح.
[2] والحائط: سقطت من الأغاني.
[3] الأغاني: نبهان.
[4] الأغاني: مقيد يد ورجل حول خباء.
[5] م: واغتنم.(2/214)
حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطفيل الشمس، وإذا خباء عظيم وقبة أدم [1] ، قال: فقلت في نفسي: ما لهذا الخباء بدّ من أهل، وما لهذه القبة بدّ من ربّ، وما لهذا العطن بدّ من إبل، فنظرت في الخباء فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه كأنه نسر، [قال] : فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارسا قطّ أعظم منه، ولا أجسم، على فرس مشرف، ومعه أسودان يمشيان جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل وبركن حوله، فقال لأحد عبديه احلب فلانة ثم اسق الشيخ، فحلب في عسّ حتى ملأه ووضعه بين يدي الشيخ وتنحّى، فكرع فيه الشيخ مرة أو مرتين ثم نزع، وثرت إليه فشربته، فرجع إليه العبد فقال: يا مولاي شربه حتى أتى على آخره، ففرح بذلك وقال: احلب له فلانة، فحلبها ثم وضع العسّ بين يدي الشيخ، فكرع فيه كرعة ثم نزع، فثرت إليه فشربت نصفه وكرهت أن آتي على آخره فأتّهم، فجاء العبد وأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي: قال: دعه، ثم أمر بشاة فذبحت وشوى للشيخ منها، واكل هو وعبداه، فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت [2] ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحدا، فشللتها إذن شلا عنيفا حتى تعالى النهار، ثم التفتّ التفاتة فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبيّنته، فإذا فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فقال: احلل عقاله، فقلت: كلا والله، لقد خلّفت نسيّات بالحيرة وآليت أليّة ألا أرجع أو أفيدهنّ خيرا أو أموت، قال: فإنك ميت، حلّ عقاله لا أمّ لك، قلت: هو ما قلت لك، قال: إنك لمغرور انصب لي خطامه وانصب [3]
__________
[1] م والأغاني: من أدم.
[2] م: فهمشت.
[3] الأغاني: واجعل فيه.(2/215)
خمس عجر، ففعلت فقال: أين تحبّ أن أضع سهمي، فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمس بخمسة أسهم، فرددت نبلي وحططت قوسي، ووقفت له مستسلما فدنا مني، فأخذ السيف والقوس ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الذي شربت عنده اللبن، فقال: ما ظنّك بي؟ قلت: أحسن الظنّ، قال: وكيف ذاك؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، فقال: أترانا نهيجك وقد بتّ تنادم مهلهلا؟ فقلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، فقلت: كن خير آخذ، فقال: ليس عليك بأس، فمضى إلى موضعه الذي كان به ثم قال:
أما لو كانت هذه الإبل لي لسلّمتها إليك ولكنها لبنت مهلهل، فأقم عليّ فإني على شرف غارة، فأقمت أياما [1] ، فمضى فأغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير فقال: هذه أحبّ إليك أم تلك؟ قلت: بل هذه، قال: دونكها، وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء حتى وردت الحيرة، فلقيني نبطيّ فقال:
أيسرّك أنّ لك بإبلك هذه بكلّ بعير منها [2] بستانا من هذه البساتين؟ فقلت:
وكيف ذلك؟ قال: هذا قرب مخرج نبيّ يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بين أربابها وبينها حتى إنّ أحدكم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير، قال: فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى مواطننا، فبينا نحن في الشّيطين على ماء لنا وقد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم، فجاءنا خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلمنا فما مضت أيّام حتى اشتريت بثمن بعير من إبلي بستانا بالحيرة.
«516» - أسلم أبو خراش الهذلي فحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجا [فنزلوا بأبي خراش] والماء غير بعيد عنهم، فقال: يا بني
__________
[1] ر: فأقت أنا.
[2] بكل بعير منها: سقط من الأغاني.(2/216)
عمي ما أمسى عندنا ماء ولكن هذه برمة وشاة وقربة فردوا الماء ثم كلوا شاتكم ودعوا برمتنا وقربتنا على الماء حتى نأخذهما، فقالوا: لا والله ما نحن بسارين في ليلتنا هذه وما نحن ببارحين حيث أمسينا. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل صادرا فنهشته حيّة. فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا، ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه، فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال: لولا أن تكون سنّة لأمرت أن لا يضاف يمان أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق، إنّ الرجل ليضيف أحدهم فيبذل له مجهوده فيتسخطّه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه، كأنه يطالبه بدين، أو يتعنّته ليفضحه فهو يكلّفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله، ثم كتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرّمهم ديته ويؤدّبهم بعد ذلك بعقوبة يمسّهم بها جزاء لفعلهم.
«517» - قال أعرابيّ: أسوأ ما في الكريم أن يكفّ عنك خيره [1] ، وخير ما في اللئيم أن يكفّ عنك شرّه [2] .
«518» - قال عبد الملك بن مروان: يا بني أمية ابذلوا نداكم، وكفّوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، فإن خير المال ما أفاء حمدا
__________
[1] ربيع: جداه.
[2] ربيع: أذاه.(2/217)
أو نفى ذمّا، ولا يقولنّ أحدكم ابدا بمن تعول فإنما الناس عيال الله قد كفل بأرزاقهم فمن وسّع أخلف الله عليه ومن ضيّق ضيق الله عليه.
«519» - وقال أعرابي: لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الملول ذا أخدان [1] ، ولا الحرّ حريصا، ولا الشّره غنيا.
520- وقال أعرابي: صن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، ومحلك بالإجمال في الطلب.
«521» - شاعر: [من الطويل]
أبا حسن ما أقبح الجهل بالفتى ... وللحلم أحيانا من الجهل أقبح
إذا كان حلم المرء عون عدوّه ... عليه فإن الجهل أعفى وأروح
وفي العفو ضعف والعقوبة قوة ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح
«522» - قال رجل للأحنف: دلّني على رجل كثير العيوب، قال:
اطلبه عيّابا فإنما يعيب الناس بفضل ما فيه.
«523» - وأنشد ابن الأعرابيّ: [من الطويل]
ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب
__________
[1] ر: إخوان.(2/218)
«524» - ومثله: [من الوافر]
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب
«525» - ويقال: شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الاعطاء.
526- وقال سفيان بن عيينة، وذكر عنده البغي: أراد إخوة يوسف أن يذلّوه فما برح بهم الدهر حتى قالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
(يوسف: 88) .
527- الأقرع بن معاذ: [من الطويل]
يطّيب نفسي أنني غير مجرم ... وأني إذا ناجيتها لا ألومها
«528» - زهير: [من الطويل]
وفي الحلم إدهان وفي العفو دربة ... وفي الصدق منجاة من الشرّ فاصدق
ومن يلتمس حسن الثناء بماله ... يصن عرضه من كلّ شنعاء موبق
ومن لا يصن قبل النوافذ عرضه ... فيحرزه يعرر به ويخرّق
«529» - العرزمي: [من الطويل]
وإياك إياك المراء فإنه ... إلى الشرّ دعّاء وللغيّ جالب(2/219)
والأصل فيه قوله تعالى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
(الأنفال: 46) .
«530» - عدي بن زيد: [من الطويل]
وإياك من فرط المزاح فإنّه ... جدير بتسفيه الحليم المسدّد
531- يحيى بن زياد: [من البسيط]
لا يلبث الهزل أن يجني لصاحبه ... ذما ويذهب عنه بهجة الأدب
«532» - طريح بن إسماعيل: [من الطويل]
إذا كنت عيّابا على الناس فاحترس ... لنفسك مما أنت للناس قائله
«533» - بشار: [من الرجز]
وصاحب كالدمّل الممدّ ... حملته في رقعة من جلدي
أرقب منه مثل يوم الورد ... حتى مضى غير حميد الفقد
وما درى ما رغبتي من زهدي
534- نافع بن لقيط الاسدي: [من الطويل]
إذا أنت اكثرت المجاهل كدّرت ... عليك من الأخلاق ما كان صافيا(2/220)
«535» - هدبة بن الخشرم: [من الطويل]
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب
ولا أتمنّى الشرّ والشرّ تاركي ... ولكن متى أحمل على الشرّ أركب
وقد علل سقراط هذا المعنى، قيل له: لم لا تهتمّ على فائتة و [لا] تفرح بعائدة؟ قال: لأن تلك لا تتلافى بالعبرة، وهذه لا تستدام بالحبرة [1] .
«536» - تأبط شرا: [من البسيط]
لكنّما عولي إن كنت ذا عول ... على بصير بكسب الحمد سبّاق
سباق غايات مجد في عشيرته ... مرجّع الصوت هدّا بين أرفاق
حمّال ألوية شهّاد أندية ... هبّاط أودية جوّال آفاق
وفيها يقول [2] :
لتقرعن عليّ السنّ من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
«537» - قيس بن الخطيم: [من الطويل]
سلي من جليسي في النديّ [3] ومألفي ... ومن هو لي عند الصفاء خدين
وأيّ أخي حرب إذا هي شمّرت ... ومدره خصم يا نوار [4] أكون
__________
[1] وقد علل ... بالحبرة: وقع في ر بعد رقم 534.
[2] وفيها يقول: سقط من ر.
[3] ديوانه: من نديمي في الندامى.
[4] الديوان: بعد ذاك.(2/221)
وهل يحذر الجار الغريب فجيعتي ... وخوني وبعض المقرفين خؤون
وما لمعت عيني لغرّة جارة ... ولا ودّعت بالذمّ حين تبين
أبى الذمّ آباء نماني مجدهم [1] ... ومجدي لمجد الصالحين معين
فهذا كما قد تعلمين وإنني ... لجد على ريب الخطوب متين
وإني لأعتام الرجال بخلتي ... أولي الرأي في الأحداث حين تحين
فأبري بهم صدري وأصفي مودّتي ... وأترك [2] عهدي دون ذاك مصون
أمرّ على الباغي ويغلظ جانبي ... وذو القصد أحلولي له وألين
«538» - المتنبي: [من الطويل]
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع النّدى
«539» - سأل الرشيد أبا يوسف عن أخلاق أبي حنيفة فقال: إن الله يقول ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
(ق: 18) وهو عند لسان كل قائل، كان علمي بأبي حنيفة أنه كان شديد الذبّ عن محارم الله عز وجل أن تؤتى، شديد الورع أن ينطق في دين الله بما لا يعلم، يحبّ أن يطاع الله ولا يعصى، مجانبا لأهل الدنيا في دنياهم، لا ينافسهم في عزها، طويل الصمت دائم الفكر على عمل واسع، لم يكن مهذارا ولا ثرثارا، إن
__________
[1] الديوان: نمتني جدودهم.
[2] م: ويترك.(2/222)
سئل عن مسألة كان عنده فيها علم نطق فيها وأجاب عنها بما سمع، وإن كان غير ذلك قاس على الحقّ واتبعه، لا يميل إلى طبع [1] ، بعيد [عن] الغيبة لا يذكر أحدا إلا بخير؛ فقال الرشيد: هذه أخلاق الصالحين، ثم قال للكاتب: اكتب هذه الصفة وادفعها إلى ابني ينظر فيها، ثم قال: احفظها حتى أسألك عنها.
«540» - وكان أبو حنيفة سهل الأخلاق جوادا سمحا حسن الجوار مغضيا عمن يسيء إليه مسامحا له؛ وقيل: إن رجلا أتاه فقال: معي عشرة آلاف درهم كتبت على لسانك كتابا إلى الأمير بجرجان فوهبها لي، وهي لك وقد أحضرتها، فقال: بارك الله لك فيها، ومن استطاع منكم أن يفعل كما فعل فقد أذنت له في ذلك.
«541» - ورأى على بعض جلسائه ثيابا رثّة، فأمره فجلس حتى تفرّق الناس وبقي وحده، فقال: ارفع المصلّى وخذ ما تحته، فرفع المصلّى فكان تحته ألف درهم فقال: خذ هذه الدراهم فغيّر بها حالك، فقال الرجل: إني موسر وأنا في نعمة ولست أحتاج إليها، فقال: أما بلغك الحديث: إنّ الله يحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده؟ فينبغي لك أن تغير حالك حتى لا يغتمّ بك صديقك.
542- وكان أبو حنيفة يفضل ويعطي من كسب تجارته، وكان قوته في الشهر درهمين لخاصّه.
«543» - قال خارجة بن مصعب: خرجت إلى الحجّ وخلّفت جارية لي
__________
[1] ر: الطبع.(2/223)
عند أبي حنيفة وأقمت بمكة نحوا من أربعة أشهر، فلما قدمت قلت لأبي حنيفة: كيف وجدت خدمة هذه الجارية وخلقها؟ فقال: من قرأ القرآن وحفظ على الناس علم الحلال والحرام احتاج أن يصون نفسه عن الفتنة، والله ما رأيت جاريتك منذ خرجت إلى أن رجعت، فسألت الجارية عنه فقالت:
ما رأيت ولا سمعت مثله [1] ، ما رأيته [نام] على فراش منذ دخلت إليه، ولا رأيته اغتسل في ليل ولا نهار، ولقد كان يوم الجمعة يخرج يصلي [2] صلاة الصبح، ثم يدخل إلى منزله فيصلي صلاة الضحى صلاة خفيفة، وذاك أنه كان يبكر إلى المسجد ويغتسل غسل الجمعة ويمسّ شيئا من الدهن، ثم يمضي إلى الصلاة، وما رأيته يفطر النهار قط، وكان يأكل في آخر الليل، ثم يرقد رقدة خفيفة، ثم يخرج إلى الصلاة.
544- قال بعض أهل الأدب: عشر فيهنّ الكمال: كرم الحسب، وشدّة العقل، وصحة الدين، والسخاء، والمال، والحياء، والرفق، والتواضع، والشجاعة، وحفظ القرآن.
وعشر خصال تزري ومنها تتفرّع النذالة: الحسب الرديء، والخلق الدنيء، وقلة العقل، وسوء الفعل، ودناءة النفس، والجبن، والبخل، والفجور، والكذب، والغش للناس والوقيعة فيهم.
وعشر يجتلبن ودّ الناس ويذهبن الضّغن: العفو، والحلم، والاغضاء، وترك التأنيب والتوبيخ، والأخذ بالحزم، والعفة، وترك الغيبة، وكتمان السرّ، وقضاء الحقوق، وحسن اللقاء.
وعشر يمحقن الشكر ويجتلبن البغضة: الامتنان بالعطاء، وسوء الخلق، وتنكيد الهبة، ووضع الصنيعة في غير موضعها، وكمون الحقد، وبذاء
__________
[1] م: بمثله.
[2] م: فيصلي.(2/224)
اللسان، والامساك عند الحاجة، وقلة الانصاف، والشماتة عند المصيبة، وترك العفو عند الزلة.
وعشر يفسدن المروءة ويقطعن الأخوّة: كثرة العتاب، وكثرة الهجران، والتعنت، والحمية، وقلة اللقاء، وقبح اللفظ، والحدة، وقلة المواساة، وقلة الحفاظ، وخلف الوعد.
وعشر يورثن المحبة: كثرة السلام، واللطف بالكلام، واتباع الجنائز، والهدية، وعيادة المرضى، والصدق، والوفاء، وانجاز الوعد، وحفظ المنطق، وتعظيم الرجال.
وعشر ينفين الذلّ: اقتصاد في الكثير، والقنوع بالقليل، ولزوم المنزل، وحضور الصلوات، ومجانبة السفل، والتفقه في الدين، وقلة سؤال الرجال، وترك النبيذ، وكثرة الصمت، ورأسهن ترك الدّين.
وعشر يورثن العز: مجالسة السراة، وكثرة الصدقة، وإسعاف الناس في حوائجهم، وتحمل الغرم، وأداء الأمانة، وطاعة الله، وحبّ المساكين، وترك المعازة [1] للسلطان، وقلة المشي في الأسواق، وترك الشتم.
وعشر يورثن الكرم: خفة المؤونة على الإخوان، وبذل المعروف، وقلة الأيمان، وترك ما لا تطيق، والتحمل لما أطقت، وإبقاء الرجل على ضيعته، وقلة دخوله فيما لا يعنيه، وقلة حرصه، واغضاؤه عن [2] المسيء يراه، وصبره على المكروه.
وعشر يورثن حميد العاقبة: حسن الجوار، وصحة المحاورة، وسلامة الصدر، وحفظ المودة، وكثرة المعونة، وقلة المشارّة، وقول الخير في كل أحد، ومجانبة السّفه، وترك المشورة على أحد، والتخلي عن الناس.
__________
[1] م: الغارة.
[2] م: على.(2/225)
545- اشترى فائق غلام أحمد بن طولون دارا عظيمة بمصر، وأراد أن يدخل فيها دار العمريين وما يليها، فاستأذن مولاه في شراء ذلك فأذن له، فاشتراها وما حولها بعشرين ألف دينار، وأقبضهم الثمن وأشهد عليهم وأجّلهم شهرين، فلما انقضى الشهران ركب أحمد بن طولون إلى صلاة الجمعة ثم رجع، وانصرف فائق إلى داره فسمع صياحا عظيما فأنكره، وقال: ما هذا الصياح؟ فقالوا: صياح العمريين ينتقلون ويبكون، فدعاهم وقال: أليس بطيب أنفسكم بعتم؟ قالوا: نعم، قال: وقبضتم الثمن؟ قالوا: نعم، قال: فما هذا البكاء والصياح حتى يظنّ مولاي أنكم ظلمتم؟ قالوا: ما نبكي إلا على جوارك، فأطرق وأمر بالكتب فردّت عليهم، ووهب لهم الثمن، وركب إلى مولاه فأخبره فصوّب رأيه واستحسن فعله.
«546» - قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: صرت أعمل الخير فلا أسرّ به، وأعمل الشرّ فلا أساء به، فقال: الآن تكامل فيك الموت، يعني موت القلب.
«547» - دخل محمد بن عباد على المأمون فجعل يعممه بيده، وجارية على رأسه تبتسم، فقال المأمون: مم تضحكين؟ فقال ابن عباد: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين تتعجّب من قبحي واكرامك لي، فقال: لا تعجبي فإن تحت هذه العمّة مجدا وكرما.
«548» - شاعر: [من الطويل]
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعراض غير حسان(2/226)
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني
«549» - ابن الرومي: [من البسيط]
كلّ الخلال التي فيكم محاسنكم ... تشابهت فيكم الأخلاق والخلق
كأنكم شجر الأترجّ طاب معا ... حملا ونورا وطاب العود والورق
550- استعان عمر بن عبد العزيز برجل كريه المنظر فوجده حسن المخبر، فقال وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً
(هود:
31) .
«551» - قال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب، والسيّىء الخلق أجنبيّ عند أهله.
«552» - الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحبّ إليّ من أن يصحبني عابد سيّىء [الخلق] . إن الفاسق إذا حسن خلقه خفّ على الناس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه ثقل عليهم ومقتوه.
«553» - وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ثلاثة يعذرون بسوء الخلق: المريض والصائم والمسافر.(2/227)
«554» - قال فرقد: بلغني أنه قيل يا رسول الله على من تحرم النار؟
قال: على الهين اللين القريب السهل.
555- قيل: من أحبّ المحمدة من الناس بغير مرزئة فليتلقّهم ببشر حسن.
«556» - وقال الأحنف: رأس المروءة طلاقة الوجه والتودّد إلى الناس.
«557» - وقال معاذ: إن المسلمين إذا التقيا فضحك كلّ واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحاتّ ورق الشجر.
558- البشر دالّ على السخاء كما يدلّ النّور على الثمر.
«559» - من حسن الخلق أن يحدّث الرجل صاحبه وهو مبتسم.
«560» - قال علي بن الحسين عليهما السلام: من تمام المروءة خدمة الرجل ضيفه كما خدمهم أبونا إبراهيم عليه السلام بنفسه وأهله، ألم تسمع قوله وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ
(هود: 71) .
«561» - قال الأصمعي: سألت عنبسة بن وهب الدارمي عن مكارم الأخلاق فقال: أما سمعت قول عاصم بن وائل المنقري: [من الطويل]
وإنا لنقري الضيف قبل نزوله ... ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك(2/228)
مدح قوم سوء الظنّ ورأوه حزما، وكرهه آخرون، ولكلّ مقام:
562- قيل لعالم من أسوأ الناس حالا؟ قال: من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله.
«563» - سهل الأحول كاتب إبراهيم بن المهدي: ما أحسن حسن الظنّ إلا أن فيه العجز، وما أقبح سوء الظنّ إلا أنّ فيه الحزم.
564- وقيل لبعضهم: أسأت الظن، فقال: إن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذرا.
«565» - قال المأمون: لم أر أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره به أنه كان لا يتوضأ إلا بماء مسحّن، فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة، فلما أخذ يحيى مضجعه قام الفضل إلى قمقم فأدناه من المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح، فشعر السجّان بذلك فغيّب المصباح فبات متأبّطه إلى الصباح.
«566» - قال الأحنف: رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في مال الا بجود، ولا في صدق إلا بوفاء، ولا في فقه إلا بورع، ولا في حياة إلا بصحة وأمن.
567- قال ابن مسعود: جاء رجل إلى فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت رسول الله، هل ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا تطرفينيه؟ فقالت: يا جارية هاتي تلك الجريدة، فطلبتها فلم تجدها، فقالت: ويحك اطليبها فإنها تعدل عندي حسنا أو حسينا، فطلبتها فإذا هي: قال محمد صلّى الله عليه وسلّم: ليس من المؤمنين(2/229)
من لم يأمن جاره بوائقه. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت؛ إن الله عز وجل يحبّ الحليم المتعفف ويبغض الفاحش السآل الملحف؛ إن الحياء من الإيمان، والايمان في الجنة، وإن الفحش من البذاء، والبذاء في النار.
«568» - وجاء في الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: الحياء والعيّ شعبتان من الايمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق. ويشبه أن يكون العيّ في هذا الموضع في معنى الصمت، والبيان في معنى التشدق والتقعير، كما جاء في الحديث الآخر: أبغضكم الثرثارون المتفيهقون المتشدّقون.
«569» - قال إياس بن معاوية بن قرة المزني: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكر عنده الحياء، فقالوا: الحياء من الدين، فقال عمر: بل هو الدين كلّه. قال إياس قلت: يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن قرة المزني قال:
كنا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر عنده الحياء فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين، فقال صلّى الله عليه وسلّم: بل هو الدين كله، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الحياء والعفاف والعيّ- عيّ اللسان لا عيّ القلب- والعمل من الايمان، وهنّ يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا وما يزدن في الآخرة أكثر مما ينقصن من الدنيا؛ وإن الفحش والبذاء من النفاق وانهن ينقصن من الآخرة ويزدن في الدنيا؛ قال إياس:
فأمرني عمر فأمليته عليه فكتبه بخطه، ثم صلّى الظهر وإنها لفي كفه ما يضعها إعجابا بها.
«570» - وجاء في حديث آخر: الحياء من الايمان، والايمان في(2/230)
الجنة، والبذاء من النفاق، والنفاق في النار.
«571» - قال بعض أهل العلم: إنما جعل الحياء- وهو غريزة- من الايمان، وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي، وإن لم يكن له تقية، فصار كالايمان الذي يقطع عنها، ولذلك قال بعض الشعراء:
[من الوافر]
وربّ قبيحة ما حال بيني ... وبين ركوبها إلا الحياء
إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلّب في الأمور كما يشاء
572- ويقال: القناعة دليل الامانة، والأمانة دليل الشكر، والشكر دليل الزيادة، والزيادة دليل بقاء النعمة، والحياء دليل على الخير كلّه.
«573» - وقال الأحنف: أربع من كنّ فيه كان كاملا، ومن تعلّق بواحدة منهنّ كان من صالحي أهله: دين يرشده، أو عقل يسدّده، أو حسب يصونه، أو حياء يفثأه.
«574» - وقال أعرابي: من كساه الحياء ثوبه، خفي على [1]- الناس عيبه.
575- وقال الشاعر: [من المنسرح]
إياك أن تزدري الرجال فما ... يدريك ماذا تجنّه الصّدف
__________
[1] زهر الآداب: ستر عن.(2/231)
نفس الجواد العتيق باقية ... فيه وإن كان مسّه العجف
والحرّ حرّ وإن ألمّ به ال ... ضرّ ففيه الحياء والأنف
«576» - قيل للأحنف: ما المروءة؟ قال: أن لا تعمل في السرّ شيئا تستحيي منه في العلانيّة.
577- ومنه حديث حرملة العنبريّ، قال: قلت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: دلّني على شيء ينفعني، قال: انظر ما تكره أن يتحدّث به الناس فإذا خلوت فلا تفعله.
«578» - نازع المهلب رجلا من كبار بني تميم فأربى على المهلب، فقيل له في ذلك فقال: كنت إذا سبّني أستحيي من سخف المسابّة، وأرغب عن غلبة اللئام والسفلة، وكان إذا سبّني تهلّل وجهه لنبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء، وثلج بذلك صدره، وطلق له وجهه، وبرد له غليله.
«579» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من كثر همّه سقم بدنه، ومن ساء خلقه عذّب نفسه، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته.
580- قيل كان ملك في بني اسرائيل، فجمع المشيخة وأهل العلم وقال: هاتوا ما عندكم وأشيروا علي، فقام شيخ منهم فقال: أيها الملك إن فيما حدّثنا إذا كان علينا الامام السمح الحليم عادت علينا السماء والأرض وإذا كان(2/232)
علينا البخيل السفيه أمسكت علينا السماء والأرض، وانه من خلق الامام ان يقبل من المحسن، ويعفو عن المسيء، ويعطي كلّ ذي حقّ حقه.
«581» - يقال: الأدب خير ميراث، والاجتهاد أربح بضاعة، وحسن الخلق خير قرين، والتوفيق خير قائد، والرأي أعظم البذل.
«582» - وكان إياس بن معاوية يقول: إنه إن يكن في فعال الرجل فضل عن قوله أجمل من أن يكون في قوله فضل عن فعاله.
«583» - وروي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
584- وقيل: ثلاث هي أحسن شيء فيمن كنّ فيه: جود لغير ثواب، ونصب لغير الدنيا، وتودد من غير ذلّ.
585- قال أنس بن مالك، زكاة الرجل في داره أن يجعل فيها بيتا للضيافة.
«586» - روي عن النبيّ عليه السلام أنه قال: إنّ الله جعل للمعروف وجوها من خلقه حبّب إليهم المعروف وحبّب إليهم فعاله، ووجّه طلّاب المعروف إليهم، ويسّر إعطاءه كما ييسّر الغيث إلى الأرض الجدبة ليحييها ويحيي بها أهلها، وإن الله عز وجل جعل للمعروف أعداء من خلقه، بغّض إليهم المعروف، وبغّض إليهم فعاله، وحظر على طلّاب المعروف الطلب إليهم وحظر(2/233)
عليهم إعطاءه، كما يحظر الغيث على الأرض الجدية ليهلكها ويهلك بها أهلها، وما يعفو الله أكثر، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أوّل أهل الجنة دخولا أهل المعروف، وإن صدقة السرّ لتطفىء غضب الربّ، وإن صلة الرحم لتزيد في العمر.
«587» - ذكر أنّ بهرام بن بهرام خرج يوما للصيد، فانفرد وراء طريدة وتبعها طامعا في لحاقها، حتى بعد عن أصحابه، فدفع إلى راع في أصل شجرة وقد احتاج إلى البول فنزل عن فرسه وقال للراعي: احفظ عليّ رأس فرسي حتى أبول، فوثب وأخذ برأس دابته، وقعد بهرام ناحية يبول، وكان عنان الدابة ملبسا ذهبا، فاغتنم الراعي غفلة بهرام، فأخرج سكينا وقطع أطراف اللجام، فرفع بهرام رأسه فنظر إليه، فاستحيا ورمى بطرفه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتى أخذ الراعي حاجته، وقام بهرام فوضع يده على عينه وقال للراعي: قدّم إليّ فرسي فإنه قد دخل في عيني من سافي الريح، فما أقدر على فتحها، وغمّض عينه ليوهمه [1] أنه لا يرى حلقة اللجام، فلما ولّى قال له الراعي: أيها العظيم كيف آخذ إلى موضع كذا وكذا- وذكر موضعا بعيدا- قال له بهرام: وما سؤلك عن ذلك الموضع؟ قال: هناك منزلي وما وطئت هذه الأرض قبل يومي هذا، ولا أراني أعود إلى موضعي هذا ثانية، فضحك بهرام وفطن لما أراد وقال: أنا رجل مسافر، وأنا أحقّ بأن لا أعود إلى ها هنا أبدا، ثم مضى، فلما نزل قال لصاحب مراكبه: إن معاليق اللجام وهبتها لسائل فلا تتهمنّ بها أحدا.
«588» - وذكر أن أنوشروان وضع الموائد للناس في يوم نوروز أو
__________
[1] ليوهمه: سقطت من م.(2/234)
مهرجان، وجلس ودخل وجوه أهل [1] المملكة الايوان، فلما فرغوا من الطعام جاءوا بالشراب، وحضر الملهون، وأحضرت الأنقال والمشموم في آنية الذهب والفضة، فلما رفعت آلة المجلس أخذ بعض أولئك جام ذهب وزنه ألف مثقال، فطواه وأخفاه تحت ثيابه، وأنوشروان يراه، وافتقد صاحب الشراب الجام فقال بصوت عال: لا يخرجنّ أحد من الدار حتى يفتّش، فقال كسرى ولم ذاك؟ قال: قد افتقدت جام ذهب، فقال كسرى: لا تعرض لأحد، فقد أخذه من لا يرده، ورآه من لا ينمّ عليه، وأخذ الرجل الجام فكسره، وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وسكينه، وجدّد به كسوة جميلة، فلما كان في يوم جلوس الملك لمثل ما كان جلس له دخل ذلك الرجل بتلك الحلية والزينة، فدعاه كسرى فقال له: هذا من ذاك؟ فقبّل الأرض وقال: نعم.
«589» - وقعد معاوية للناس في يوم عيد، ووضعت الموائد، وأحضر أكياسا فيها دنانير ودراهم، صلات وجوائز، ووضعت بالقرب من مجلسه، فجاء رجل فجلس على بعض تلك الأكياس، فصاح به الخدم تنحّ فليس لك هذا بموضع، فسمع ذلك معاوية فقال: دعوا الرجل يقعد حيث انتهى به مجلسه، فأخذ كيسا فوضعه بين بطنه وحجزة سراويله وقام، فلم يجترىء أحد أن يدنو منه، فقال الخازن: أصلح الله أمير المؤمنين إنه قد نقص من المال كيس دنانير، فقال: أنا صاحبه وهو محسوب لك.
«590» - وخرج سليمان بن عبد الملك في حياة أبيه إلى منتزه له، فنزل
__________
[1] أهل: سقطت من م.(2/235)
بعض المروج المعشبة، فبسط له فتغدّى، وأقام فيه إلى حين الرواح، فلما حان انصرافه تشاغل غلمانه بالترحال، فجاء أعرابي فوجد منهم غفلة، فأخذ دوّاجا [1] لسليمان مثمنا فوضعه على عاتقه، وسعى وسليمان ينظر إليه، ورآه بعض حشم سليمان فصاح به: ألق ما معك، فقال الأعرابي: لا ألقيه ولا كرامة لك، وهذا كسوة الأمير وخلعته، فضحك سليمان وقال: صدق أنا كسوته، فمرّ كأنه إعصار ريح.
591- حكى بعض أسباب عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير أنه كان في أيام وزارته يذكر موسى بن بغا فيترحم عليه، ويتلهف على أيامه وطيبها، فقلت له يوما: قد أسرفت في هذا الباب، ولو رآك موسى بن بغا في حالك هذه لرضي أن يقف على سيفه بين يديك، فقال لي: أنا أحدّثك الآن بحديث واحد من أحاديثه فإن استحقّ ما أنا عليه وإلا فلمني، وأنشأ يحدثني قال: كنا بالري، وكنت قد عرّفته أني قد استفدت معه مائة ألف دينار، ورحلنا نريد سرّ من رأى، فلما نزلنا همذان دعاني يوما وإذا هو مشمئزّ مقطّب، فقال لي:
أريد مائة ألف دينار لا بدّ منها، فقلت له: قد استخرجنا مال البلاد وأخذناه وأجحفنا بأهلها فمن أين؟ قال: لا أدري لا بدّ منها البتة، فقام في نفسي أنه يريد المال الذي عرّفته أني قد أفدته، فقلت له: عندي المال الذي قد علمته، وهو مائة ألف دينار، خذه، فقال: تلك دعها بحالها لست أريدها، ولي فيها تدبير، وما أبرح من ها هنا أو تحصّل لي من مال البلاد مائة ألف دينار، فما زلت قائما وقاعدا ومكاتبا، وهو مقيم بهمذان لا يبرح منها، حتى حصّلتها وعرّفته خبرها، فلما عرفه أمسك عني، حتى إذا صار بخانقين دعاني فسألني عن المال، فعرّفته حصوله وحضوره، فقال لي: كنت عرّفتني أنك حصلت من الفائدة معي مائة ألف، فعلمت أن أبا أيوب- يعني أباه سليمان- يلقاك فيقول
__________
[1] الدواج: ضرب من الثياب.(2/236)
لك: أيّ شيء معك؟ وكم مقدار ما أفدت؟ فتعرفه ذلك، فيقول لك:
عليّ ديون ومؤن، وقد امتدت عيون أهلك ومواليك ومؤمّليك إلى ما تنصرف به، ويأخذ منك المائة الألف وتحصل أنت على غير شيء، فأردت المائة الأخرى لتكون لك بعد الذي أخذ منك أبو أيوب، فهذا يا فلان لا يجب أن يتذكّر في كلّ وقت ويترحّم عليه؟ فقلت: بلى والله يا سيدي.
ومما يعد من محاسن الأخلاق الصمت: وقد ورد ما جاء فيه مكانا آخر مع الآداب الدنيويّة، ونجدّد من ذكره ها هنا لئلا يخلو الباب منه من غير تكرير للأوّل:
«592» - قال عمرو بن العاص: الكلام كالدواء، إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل.
«593» - لما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت طال صمته، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيّرني في بطن الحوت.
«594» - وقال علي عليه السلام: إذا تمّ العقل نقص الكلام.
«595» - تحدثوا عند الأوزاعي وفيهم أعرابي من بني عليم بن جناب لا يتكلم، فقيل له: بحقّ ما سميتم خرس العرب، أما تحدث؟ فقال: إنّ الحظ للمرء في أذنه، وإن الحظ في لسانه لغيره، فقال الأوزاعي: لقد حدثكم فأحسن.(2/237)
«596» - كان يقال: من السكوت ما هو أبلغ من الكلام؛ إن السفيه إذا سكت عنه كان في اغتمام.
«597» - قيل: كان بهرام جور قاعدا ليلة تحت شجرة، فسمع منها صوت طائر، فرماه فأصابه، فقال: ما أحسن حفظ اللسان بالطائر والإنسان، لو حفظ هذا لسانه ما هلك.
598- شاعر: [من البسيط]
أقلل من القول تسلم من غوائله ... وارض السكوت شجى في الحلق معترضا
599- قيل لبعضهم: الصمت مفتاح السلامة، فقال: ولكنه قفل الفهم.
600- وقال الشاعر في مثله: [من الكامل]
خلق اللسان لنطقه وكلامه ... لا للسكوت وذاك صوت الأخرس
601- وقال أبو عطاء: [من الطويل]
أقلّبه كيلا يكلّ بحبسه ... وأبعثه في كلّ حقّ وباطل
602- قال علي عليه السلام: أكرم عشيرتك فانهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، وانك بهم تصول وبهم تطول، وهم العدّة عند الشدة، فأكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورك ويسّر عن معسرهم.(2/238)
«603» - قال زادان: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكا له، فأخذ من الأرض عودا فقال: مالي من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفّارته أن يعتقه.
«604» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: عاقبوا أرقاءكم على قدر عقولهم.
«605» - قال المعرور بن سويد: دخلنا على أبي ذرّ بالرّبذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوبا غيره، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلّفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه.
«606» - أبو هريرة رفعه: لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي، كلّكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي. ولا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضّىء ربك، ولا يقل أحدكم: ربي ولكن سيدي ومولاي.
«607» - وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: حسن الملكة نماء، وسوء الخلق شوم.
«608» - أبو مسعود الأنصاري: كنت أضرب غلاما لي، فسمعت من(2/239)
خلفي صوتا: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه، فالتفتّ فإذا هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله فقال:
أما لو لم تفعل للفحتك [1] النار.
«609» - وقال هلال بن يساف: كنا نزولا في دار سويد بن مقرن، وفينا شيخ فيه حدة ومعه جارية، فلطم وجهها، فما رأيت سويدا أشدّ غضبا منه ذلك اليوم قال: أعجز عليك إلّا حرّ وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من ولد مقرن ما لنا إلا خادم فلطم أصغرنا وجهها، فأمرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعتقها.
«610» - قال عبد الله بن طاهر: كنت عند المأمون ثاني اثنين، فنادى بالخادم: يا غلام يا غلام بأعلى صوته، فدخل غلام تركي فقال: ألا ينبغي للغلام أن يأكل أو يشرب أو يتوضّأ أو يصلي؟ كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام يا غلام؟! فنكس رأسه طويلا فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، فقال: يا عبد الله إنّ الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه، فلا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتحسن أخلاق خدمنا.
«611» - وكان للمأمون خادم يتولى وضوءه فيسرق طساسه، فقال له يوما: كم تسرقها، فهلا تأتيني بها فأشتريها منك، قال فاشتر مني هذه التي بين يديك، قال: بكم؟ قال: بدينارين، فاشتراها منه وقال: فهذه الآن في أماني، قال: نعم قال: فلنا فيها كفاية إلى دهر.
__________
[1] ر م: للفعتك.(2/240)
«612» - قال الشعبيّ: جاءت خادم لعليّ عليه السلام تشكو إليه مؤذنا له، فقالت له: يا أمير المؤمنين إنه يؤذيني، وقلّ ما أمرّ إلا قال لي: أنا والله لك محبّ. قال علي: فإذا قال لك ذلك فقولي له: وأنا أيضا محبة، ففعلت ذلك، وقالت له: فمه؟ فقال: تصبرين ونصبر حتى يوفّي الله الصابرين أجرهم بغير حساب، قال: فجاءت الجارية فأخبرت بذلك عليا عليه السلام، فاستعبر لقوله: «تصبرين ونصبر» ، ثم أرسل إليه فوهبها له وجعل الجمع بينهما ثواب صبرهما [1] .
613- وروي أن رجلا من بني عبد الأشهل يقال له معاذ القاري أبو حليمة كان يصلي بالناس القيام في ولاية عمر وعثمان، وكان عابدا قليل الكلام، وأنه رأى جارية لزيد [2] بن ثابت رضي الله عنه فأعجبته، فكانت إذا مرّت به نظر إليها نظرا شديدا، فاخبرت به زيدا، فأمرها فتهيأت وبعث إليه فأجلسه معها، وقال لها: إذا قمت فكلّميه وانظري ما يقول لك، فقام زيد معتلا بالوضوء، فأقبلت عليه فقالت: يا معاذ، أنا والله أحبك، قال: وأنا والله، قالت: فما الحيلة؟ قال: تصبرين كما أصبر، ثم خرج زيد إليهما، فانصرف معاذ، فأخبرته بما قالت له وقال لها، فبعث بها زيد إليه ووهبها له.
614- قيل: جاء رجل من قريش إلى محمد بن عبد العزيز فسأله، فقال: والله ما وجدت الحاجة حاضرة، ولكن تروح العشية تجدها مهيأة إن شاء الله. وأرسل فادّان وهيأ حاجة الرجل ووضعها تحت مصلّاه وقد حضر إخوانه، فجاء الرجل بالعشيّ فقال: قوموا بنا، وأقام إخوانه وقال للرجل:
__________
[1] ر: صبره.
[2] ع: لسويد (في هذا الموضع) .(2/241)
حاجتك تحت المصلّى، فقال له أبو ثابت: سبحان الله قد هيّأت له مالا فهلّا أعطيته إياه؟ فقال: والله ما كنت لأجمع عليه خصلتين: ذلّ المسألة والإعطاء من يدي إلى يده.
«615» - مرض أحمد بن أبي دواد فعاده المعتصم وقال: نذرت إن عافاك الله أن أتصدّق بعشرة آلاف دينار، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين فاجعلها لأهل الحرمين فقد لقوا من غلاء الأسعار عنتا، فقال: نويت أن أتصدق بها على من ها هنا وأطلق لأهل الحرمين مثلها، فقال أحمد: أمتع الله الإسلام وأهله بك، فإنك كما قال النمريّ لأبيك الرشيد: [من البسيط]
إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع [1]
من لم يكن بأمين الله معتصما [2] ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
فقيل للمعتصم: عدته ولا تعود جلّة أهلك؟ فقال: كيف وما وقعت عليه عيني قط إلا ساق إلى أجرا أو أوجب لي شكرا، وما سألني حاجة لنفسه قط.
«616» - قال علي بن الجنيد: كانت بيني وبين يحيى بن خالد مودة وأنس، وكنت أعرض الرقاع في الحوائج، فكثرت رقاع الناس عندي واتصل شغله، فقصدته يوما فقلت: يا سيدي قد كثرت الرقاع وامتلأ خفي وكمي، فإما تطوّلت بالنظر فيها وإما رددتها، قال فقال لي: أقم عندي حتى أفعل ما سألت، فأقمت وجمعت الرقاع في خفي، وأكلنا وغسلنا أيدينا وقمنا للنوم،
__________
[1] الأغاني: تتسع.
[2] الأغاني: أي امرىء بات من هارون في سخط.(2/242)
واستحييت من إذكاره، ويئست من عرضها، لأني علمت أنا نقوم ونتشاغل بالشرب، فنمت، ودعا هو بالرقاع من خفّي فوقع في جميعها وردّها إليه، ونام وانتبه، ودخلت إليه في مجلس الشرب فلم أستجز ذكر الرقاع له، وشربت وانصرفت بالعشي، وبكّر إليّ أصحاب الرقاع لما وقفوا على إقامتي عنده، فاعتذرت إليهم وضاق صدري بهم، فدعوت بالرقاع لأميزها وأخفّف منها ما ليس بمهمّ، فوجدت التوقيعات في جميعها، فلم يكن لي همة إلا تفريقها والركوب إليه لشكره، وقلت له: يا سيدي قد تفضّلت وقضيت حاجاتي فلم علّقت قلبي ولم تعرّفني حتى يتكامل سروري؟ فقال: سبحان الله، أردت منّي أن أمتنّ عليك بأن أخبرك بما لم يكن يجوز أن يخفى عليك؟! «617» . (1) وقال الرضيّ في ذم الأخلاق السيئة: [من الطويل]
وأكثر من شاورته غير حازم ... وأكثر من صاحبت غير الموافق
إذا أنت فتشت القلوب وجدتها ... قلوب الأعادي في جسوم الأصادق
رمى الله بي من هذه الأرض غيرها ... وقطّع من هذا الأنام علائقي
يظنّون أنّ المجد ممن له الغنى ... وأنّ جميع العلم فضل التشادق
(2) وقال: [من الطويل]
أكلّ قريب لي بعيد بودّه ... وكلّ صديق بين أضلعه حقد
(3) وقال: [من الوافر]
بأخلاق كما دجت الليالي ... وأحساب كما نغل الأديم
«618» - ارسطاطاليس: سوء العادة كمين لا يؤمن وثوبه.(2/243)
619- قال عبد الله الدارمي [1] : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
«620» - قال أبو عبيدة: ألأم الناس الأغفال الذين لم يهجوا ولم يمدحوا.
62»
- قيل لسقراط: هل من إنسان لا عيب فيه؟ قال: لو كان انسان لا عيب فيه لكان لا يموت.
«622» - شاعر: [من الطويل]
إذا نلت يوما صالحا فانتفع به ... فأنت ليوم السوء ما عشت واجده
«623» - قال هاشم بن عبد مناف: أكرموا الجليس يعمر ناديكم.
«624» - قال روح بن زنباع: أقمت مع عبد الملك تسع عشرة سنة فما أعدت عليه حديثا إلا مرّة، فقال: قد سمعته منك.
«625» - وقال الشعبي: ما حدثت بحديث مرتين رجلا بعينه.
__________
[1] ع م: الداراني.(2/244)
«626» - مرّ العبّاس بن عبد المطلب بابنه وهو نائم نومة الضحى، فركله برجله وقال: قم لا أنام الله عينك، أتنام في ساعة يقسم الله فيها الرزق بين عباده؟ أو ما سمعت ما قالت العرب: انها مكسلة مهزلة منساة للحاجة.
«627» - والنوم على أنواع ثلاثة: نومة الخرق، ونومة الخلق، ونومة الحمق؛ نومة الخرق: نومة الضحى، ونومة الخلق هي التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها أمته: قيلوا فإن الشيطان لا يقبل، ونومة الحمق: النوم بعد العصر، لا ينامها إلا سكران أو مجنون.
«628» - شاعر: [من الطويل]
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه
«629» - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حسب امرىء من الشر أن يخيف أخاه المسلم.
«630» - الحسن: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها وفاسقها وجئنا بالحجاج وحده لزدنا عليهم.
«631» - وقيل للشعبي: أكان الحجاج مؤمنا؟ قال: نعم بالطاغوت.(2/245)
«632» - حميد شر الكوفي: [من البسيط]
إني امرؤ فوق رأس الشرّ مضطجعي ... أغفي عليه ولا أغفي على السّرر
الشرّ يعلم أني إن ظفرت به ... لم ينج مني بأنياب ولا ظفر
«633» - قيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسود أشد غما؟ قال: لأنه يأخذ بنفسه من غموم الدنيا، ويضاف إلى ذلك غمّه لسرور الناس.
«634» - قال مالك بن دينار: شهادة القراء مقبولة في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض، فأنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر.
«635» - قيل لعبد الله بن عروة: لزمت البدو وتركت قومك، قال:
وهل بقي إلا حاسد على نعمة أو شامت على نكبة؟! «636» - المتنبيّ: [من البسيط]
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أني بما أنا باك منه محسود
«637» - سئل الحسن رحمة الله عليه: أيحسد المؤمن؟ قال: وما أنساك بني يعقوب؟(2/246)
«638» - كان الفضل بن صالح بن عبد الملك الهاشمي يهوى جارية لأخيه عبيد بن صالح، فسقى أخاه سما فقتله وتزوجها، فقال ابن برد الشاميّ وقد ظلمه في أرض له: [من الطويل]
لئن كان فضل بزّني الأرض ظالما ... فقبلي ما أردى عبيد بن صالح
سقاه نشوعيا من السمّ ناقعا ... ولم يتّئب من مخزيات الفضائح
«639» - كان أسلم بن زرعة والي خراسان من قبل عبيد الله بن زياد ينبش قبور الأعاجم فربما أصاب فيها الذهب والفضة، فقال يهس بن صهيب الجرميّ: [من الطويل]
تعوّذ بحجر واجعل القبر في الصّفا ... من الأرض لا ينبش عظامك أسلم
هو النابش القبر المحيل عظامه ... لينظر هل تحت السقائف درهم
«640» - وكان [1]- في عصرنا زنكي بن آق سنقر والي الموصل والشام، أقسى الناس وأعظمهم تجبرا، أما قسوته وغلظه على من ناوأه واتهمه فما يقصر فيهما عن الحجاج، وزاد عليه بأنه كان يعامل نداماه ومطربيه ونساءه وذوي هواه بما يعامل به أعداءه: خلا بجارية له بكر ليفتضّها فتلوّت تحته فضربها بالسيف حتى قتلها. واستدعى أخرى بكرا فرأت صاحبتها متشحطة في دمائها فكادت تموت فرقا. وكان له نديم محدث يتعاطى كثرة الشراب والزيادة على غير
__________
[1] سقطت الفقرتان: 640، 641 من م.(2/247)
نداماه، فسقاه الخمر العتيق الشاميّ صرفا وأكثر عليه وهو يستقيله ويستعطفه فلا يرجع، فتقطعت كبده ومات. وركب بغلة كان يؤثرها فحمحمت تحته فضرب عنقها بالسيف. وهو راكبها، ونزل فانتقل إلى أخرى.
وكان إذا رأى صبيا وضيئا خصاه وتركه في قلعة من قلاعه، ظنا منه أن نفسه تدعوه إليه فيما بعد، فيكون قد التحى، ولعله لا يذكره ولا يعلم ما يكون منه.
وسقى يوما بعض أصحابه خمرا صرفا في أقداح دسّها عليه في أثناء شربه، وأراد قتله سرا بذلك، فمرض ولم يهلك سريعا، وعالجه طبيب كان من أصحابه ولم يشعر بالقصة، فبرأ، فأحضره زنكي وقال له: عالجت فلانا وقد أردت قتله، فقال: كيف لي بعلم ذاك؟ وإنما أنا طبيب دخلت إلى مريض فداويته بما أخذ علينا في صناعتنا، ولو علمت أنك سقيته واعتمدت قتله ما دخلت إليه، فقال: اسقوه الخمر صرفا، فقال: الله الله اقتلني بالسيف ولا تعذبني، فلم يلتفت إلى تضرّعه، وسقاه حتى تقطعت كبده ومات بعد أيام.
(ومن مساوىء الأخلاق العقوق:) «641» - قيل لبعض الفلاسفة: لم تعق والديك؟ قال: لأنهما أخرجاني إلى الكون والفساد.
(نوادر من هذا الباب) 642- ورد على الصاحب بن عباد بعض كتّاب العراق ممن كان عرفه وقت مقامه ببغداد، وشكا سوء حاله، فأحسن إليه وولّاه عملا، وأجرى له في كلّ شهر خمسمائة درهم وكتب صكه بذلك، فحسده بعض الحاضرين(2/248)
وقال للصاحب: إن هذا رجل مأبون معروف الطريقة بالفساد، وجميع ما تصله به وتوصله إليه ينفقه على من يرتكب منه الفضيحة، وأفرط في ذمّ الرجل والدلالة على قبائحه حتى ظنّ أنه قد أفسد حاله، فلما ردّ الصكّ إليه للتوقيع فيه لم يشكّ الساعي أنه يبطله أو يمزّقه، فلما نظر فيه كتب تحت ما كان قرّر [1] له في كل شهر: ولغلام يخدمه ويستعين به خمسون درهما، ووقع في الصكّ وردّه إليه.
«643» - اجتمع ثلاثة حسّاد فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ فقال ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قط، قال الثاني: أنت رجل صالح، ولكني ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قط، قال الثالث: ما في الأرض أصلح منكما، ولكني ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيرا قط.
«644» - قال المدائني: تذاكر قوم من ظراف أهل البصرة الحسد، فقال رجل منهم: إنّ من الناس من يحسد على الصّلب، فأنكروا ذلك عليه، ثم جاءهم بعد أيام فقال: الخليفة قد أمر أن يصلب الأحنف ومالك بن مسمع وقيس بن الهيثم وحمدان الحجام، فقال الحاضرون: هذا الخبيث يصلب مع هؤلاء؟! فضحك وقال: ألم أقل إن من الناس من يحسد على الصّلب؟! 645- قال إبراهيم الموصليّ: كنت عند الرشيد يوما فرفع إليه في الخبر أنّ رجلا أخذه صاحب الجسر، رفع في قصته أنه يجمع بين الرجال والنساء في منزله، وأنه سئل عما رفع عليه فأقرّ بذلك على نفسه وذكر أنه يجمع بينهم على
__________
[1] ر م: قدر.(2/249)
تزويج لا على ريبة، وعلى نكاح لا على سفاح، وأنه شهد له بذلك جماعة من مستوري جيرانه وخلق كثير من وجوه الناس وأشرافهم، وشفع فيه من الكتّاب والقواد وأعيان العسكر قوم سمّاهم في آخر كتابه وما رفع من خبره؛ قال: فلما قرأ الرشيد الخبر واستوفاه تربّد واغتاظ وغضب واستشاط حتى أنكرناه وظننا أنه سينكّل بالرجل وبمن تكلم فيه، حتى قال: وما سبيلهم على رجل وسّع في منزله لصديقه، وأسبل عليه ستره، وسعى له فيما يطيب ويحلّ من لذته، وهو بعد مستراح للأحرار والأشراف وذوي الأقدار. ونحن نعلم أنّ الرجل الشريف المستور والأديب والأريب قد تكون عنده العقيلة بن بنات عمه وأشراف قومه ونظرائه، فتحظر عليه شهوته، وتملك عليه أمره، وهي أقبح من السحر، وأسمج من القرد، وأهرّ من الكلب، وأشدّ تعديا من الليث العادي، فبريد شراء الجارية أو تزويج الحرّة فلا يقدر على ذلك لمكانها، حتى يستريح إلى مثل هذا من الفتيان، ويغشى منزل مثله من الإخوان، يجعله سكنه، وينزل به مهمّه، فيساعده على حاجته، ويسعى له فيما يحبّ من لذته، ويستره بمنزله؛ اكتبوا في إطلاقه والسؤال عن حاله، فإن كان كما ذكر عنه من الستر وكان صادقا فيما حكى عن نفسه من الفعل أعين بألف دينار على مروءته، وأومن من روعته، وعرّف ما أمرنا به فيه، قال فقلنا جميعا:
سددك الله يا أمير المؤمنين ووفقك.
«646» - قال أبو العيناء: رأيت جارية في النّخاسين تحلف لا ترجع إلى مولاها، فقلت: لمه؟ قالت: يا سيدي يواقعني من قيام ويصلّي من قعود، ويشتمني باعراب ويلحن في القرآن، ويصوم الاثنين والخميس ويفطر في رمضان، ويصلي الضحى ويترك الفجر.(2/250)
«647» - ظلمة القوادة يضرب بها المثل، كانت صبية في المكتب تسرق دويّ الصبيان وأقلامهم، فلما شبّت زنت، فلما أسنّت قادت، فلما قعدت اشترت تيسا تنزيه.
«648» - ابن الحجاج: [من البسيط]
إن تحسدوني فلا والله ما بلغت ... لولا الخساسة حالي موضع الحسد
وإنما في يدي عظم أمشّشه ... من المعاش بلا لحم ولا غدد
«649» - ابن حازم الباهلي: [الكامل المجزوء]
مالي رأيتك لا تدو ... م على المودة للرجال
خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغال
(1) وله: [من الكامل]
ومتى اختبرت أبا العلاء وجدته ... متلونا كتلون البغل
«650» - أبو تمام: [من الوافر]
مساوىء لو قسمن على الغواني ... لما جهّزن إلا بالطلاق
651- آخر: [من البسيط]
الليث ليث وإن جزّت براثنه ... والكلب كلب وإن طوّقته ذهبا(2/251)
«652» - حكي أن اعرابيا أخذ جرو ذئب فربّاه بلبن شاة عنده، فقال:
إذا ربيته مع الشاء أنس بها فيذبّ عنها ويكون أشدّ من الكلب، ولا يعرف طبع أجناسه، فلما قوي وثب على شاته فافترسها، فقال الأعرابي: [من الوافر]
أكلت شويهتي ونشأت فينا ... فمن انباك [1] أن أباك ذيب
«653» - قال رجل ملول: إنه ليبلغ من مللي أني أغيّر كلّ شهر كنيتي مرتين.
«654» - وقال خالد بن صفوان: إنه ليبلغ من مللي أن أتبرم بنفسي فأتمنى أن يؤخذ مني رأسي فلا يردّ إليّ إلا في كلّ أسبوع.
«655» - وقال بشار في نحوه: [من الطويل]
إذا كان ذواقا أخوك من الهوى ... موجهة في كلّ أوب ركائبه
فخلّ له وجه الفراق ولا تكن ... مطية رحّال كثير مذاهبه
«656» - شاعر يذم وقحا: [من الكامل المجزوء]
الصّخر هشّ عند وج ... هك [ ... ] في الوقاحه
__________
[1] ر: فما أدراك.(2/252)
«657» - في مثله: [من الكامل]
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقدّ منها حافرا للأشهب
«658» - آخر: [من الخفيف]
لك عرض مثلّم من قواري ... ر ووجه ململم من حديد
«659» - تشاجر رجلان فقال كل واحد منهما أنا ألأم، فتحاكما إلى رجل فقال: قد حكمتماني فأخبراني بأخلاقكما، فقال أحدهما: ما مرّ بي أحد إلا اغتبته ولا ائتمنني أحد إلا خنته، وقال الآخر: أنا أبطر الناس في الرخاء، وأجبنهم عند اللقاء، وأقلهم عند الحياء، فقال الرجل: كلا كما لئيم، وألأم منكما الحطيئة فإنه هجا أباه وأمّه ونفسه.
(من نوادر العقوق [1] ) :
«660» - ضرب رجل أباه فقيل له: أما عرفت حقّه؟ قال: لا فإنه لم يعرف حقّي، قيل: وما حقّ الولد على الوالد؟ قال: أن يتخير أمّه، ويحسن اسمه، ويختنه، ويعلمه القرآن، فكشف عن عورته فإذا هو أقلف، وقال:
اسمي برغوث، ولا أعلم حرفا من القرآن، وقد أولدني من زنجية، فقالوا للوالد: احتمله فانك تستأهل.
«661» - جفا جحا أمه فقالت له: هذا جزائي منك وقد حملتك في
__________
[1] من نوادر العقوق: سقطت من ر.(2/253)
بطني تسعة أشهر؟! فقال: ادخلي في استي حتى أحملك سنتين وخلصيني.
«662» - وقالت امرأة لابنها: هذا جزائي وقد أرضعتك سنتين؟ فقال:
ارتجعي عن دورقين لبنا دورقين محضا وأعفيني.
«663» - كان لحنظلة النميري ابن عاقّ اسمه مرة، فقال له يوما: إنك لمرّ يا مرة فقال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة، فقال: إنك خبيث كاسمك، فقال: أخبث مني من سمّاني به، فقال: كأنك لست من الناس، فقال:
من أشبه أباه فما ظلم، قال: ما أحوجك إلى أدب، قال: الذي نشأت على يده أحوج إليه مني، قال: عقمت أمّ ولدتّك، قال: إذا ولدت من مثلك، قال: لقد كنت مشؤوما على إخوتك، دفنتهم وبقيت، قال:
أعجبني كثرة عمومتي، قال: لا تزداد إلا خبثا، قال: لا يجتنى من الشوك العنب.
«664» - أمر بعض الملوك عاملا له أن يصيد شرّ طائر ويشويه بشرّ حطب، ويبعثه على يد شرّ رجل، فصاد رخمة، وشواها ببعر، ودفعها إلى خوزي، فقال الخوزي: أخطأت في كلّ ما أمرك به الملك، صد بومة، واشوها بدفلى، وادفعها إلى نبطي ولد زنا، ففعل، وكتب به إلى الملك، فقال الملك: أصبت، ولكن كفى أن يكون الرجل نبطيا لا يحتاج إلى ولد زنا، فليس يزداد النبطيّ بذلك شرارة، فقد بلغ بجنسه الغاية.
تمّ الباب الرابع بحمد الله ومنّه يتلوه باب الجود والسخاء والبخل واللؤم(2/254)
الباب الخامس في السّخاء والجود والبخل واللّوم(2/255)
خطبة الباب
بسم الله الرّحمن الرّحيم رب أنعمت فزد [1] الحمد لله الكريم الجواد، السابغ فضله على العباد، معطي الرغبات ومنيلها، ومنهض عثرات الكريم ومقيلها، سمح فأفضل، ومنح فأجزل، أحمده على سعة عطائه وأثني عليه بنعمه وآلائه، وأعوذ به من شحّ الأنفس، ومنع المنفس، وبخل مطاع مرد، وهوى متبع مغو، وأسأله التوفيق لحسن التقدير، في غير ما سرف ولا تقتير، وصلواته على رسوله النبيّ الأميّ معدن الافضال، وبحر النوال [2] ، عصمة الأرامل والأيامى، وثمال العيّل واليتامى، أطعم في المحل والجدب إطعامه في الرخاء والخصب، وأعطى مع اللأواء والعسر، عطاء من لا يخاف الفناء والفقر، وعلى أصحابه وآله، المهتدين بهديه وفعاله.
__________
[1] سقطت من ر م.
[2] م: السؤال.(2/257)
مقدمة الباب
(الباب الخامس في السخاء والجود والبخل واللؤم) الجود بذل المال [1] ، وأنفعه ما يصرف [2] في وجه استحقاقه، وقد حثّ الله عزّ وجلّ عليه، وندب إليه في قوله لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
(آل عمران: 92) والبخل منع الحقوق، وإليه الاشارة في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
(التوبة: 34- 35) .
وقال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
(آل عمران:
180) . وقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(الحشر: 9) .
«665» - وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله استخلص هذا الدين لنفسه، ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق، ألا فزيّنوا دينكم بهما.
«666» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: تجاوزوا عن ذنب السخيّ فإن الله عز وجل آخذ
__________
[1] نهاية الأرب 3: 204.
[2] م: صرف.(2/259)
بيده كلّما عثر وفاتح له كلما افتقر.
«667» - ووفد عليه صلّى الله عليه وسلّم رجل فسأله فكذبه فقال له: أسألك فتكذبني؟! لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشرّدت بك من وافد قوم.
«668» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: شرّ ما في الرجل شحّ هالع، أو جبن خالع.
«669» - وقال صلّى الله عليه وسلّم: خلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق.
«670» - وقال بعض السلف: منع الموجود سوء ظنّ بالمعبود، وتلا وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(سبأ: 39) .
«671» - وقال علي عليه السلام: الجود حارس الأعراض.
«672» - وقال أيضا: السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمّم.(2/260)
«673» - وقال أيضا: البخل عار.
«674» وقال أيضا: عجبت للبخيل الذي استعجل الفقر الذي منه هرب، وفاته الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.
«675» - وقال علي بن عبد الله بن العبّاس: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
676- وقال يحيى بن معاذ الرازي: تأبى القلوب للأسخياء إلا حبّا ولو كانوا فجارا، وللبخلاء إلا بغضا ولو كانوا أبرارا.
«677» - وقال بعض الحكماء: الجواد من جاد بماله وصان نفسه عن مال غيره.
«678» - وقيل لعمرو بن عبيد: ما الكرم؟ فقال: أن تكون بمالك متبرعا، وعن مال غيرك متورّعا.
679- نظر أعرابي إلى قوم ينصرفون من المسجد الجامع فقال: لو ورد هؤلاء على بخيل لقضى حوائجهم، فكيف على أجود الأجواد؟(2/261)
«680» - ومن كلام ينسب إلى جعفر بن محمد عليهما السلام: (1) لا يتمّ المعروف إلا بثلاثة: بتعجيله وتصغيره وستره. (2) جاهل سخيّ خير من ناسك بخيل. (3) الجود زكاة السعادة. (4) الايثار على النفس موجب لاسم الكريم. (5) لا تستحي من بذل القليل فإن الحرمان أقلّ منه. ويشبه هذا المعنى قول الشاعر، وينسب إلى حماد عجرد: [من البسيط]
بثّ النوال ولا يمنعك قلّته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
ومن هذا الشعر:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى يخال غنيّا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
«681» - وقال علي بن موسى: لا خير في المعروف إذا أحصي.
«682» - وقال علي بن الحسين: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله.
«683» - وقال الحسين بن عليّ لمعاوية: من قبل عطاءك فقد أعانك على الكرم.(2/262)
«684» - ومن كلام له: أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه.
«685» - وأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر: [من الكامل]
إنّ الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فقال: هذا شعر رجل يريد أن يبخّل الناس؛ أمطر المعروف مطرا فإن صادف موضعا فهو الذي قصدت، وإلا كنت أحقّ به.
«686» - وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود؟ فقال: إعطاء المال من لا تعرف فإنه لا يصير إليه حتى يتخطّى من تعرف [1] .
«687» - وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر: ما دام قلمك يرعف فأمطره معروفا.
«688» - قال سعيد بن العاص، وكان من الأجواد: قبّح الله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك يتردد دمه في وجهه مخاطرا لا
__________
[1] ر: يعترف.(2/263)
يدري أتعطيه أم لا، وقد بات ليلته يتململ على فراشه، يعاقب بين شفتيه مرة هكذا ومرة هكذا من لحاجته، فخطرت بباله أنا أو غيري فمثّل أرجاهم في نفسه وأقربهم من حاجته ثم عزم عليّ وترك غيري، فلو خرجت له مما أملك لم أكافه وهو عليّ أمنّ مني عليه.
«689» - وقال علي بن أبي طالب عليه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق في كلام دار بينهما: ما فعلت إبلك الكثيرة؟ قال: ذعذعتها [1] الحقوق يا أمير المؤمنين، قال: ذاك أحمد سبلها.
«690» - قال عمرو بن الأهتم: [من الطويل]
ألا طرقت أسماء وهي طروق ... وباتت على أنّ الخيال يشوق
بحاجة محزون كأنّ فؤاده ... جناح وهت عظماه فهو خفوق
ذريني فإن البخل يا أمّ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق
وإنّي كريم ذو عيال تهمّني ... نوائب يغشى رزؤها وحقوق
ذريني وحطّي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ومستنبح بعد الهدوء دعوته ... وقد حان من ساري الشتاء طروق
يعالج عرنينا من الليل باردا ... تلفّ رياح ثوبه وبروق
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فهذا مبيت صالح وصديق
__________
[1] ذعذعتها: فرقتها.(2/264)
وقمت إلى البرك الهواجد فاتّقت ... مقاحيد كوم كالمجادل روق [1]
بأدماء مرباع النتاج كأنّها ... إذا عرضت دون العشار فنيق [2]
بضربة ساق أو بنجلاء ثرّة [3] ... لها من أمام المنكبين فتيق
وقام إليها الجازران فأوقدا ... يطيران عنها الجلد وهي تفوق [4]
فجرّ إلينا ضرعها وسنامها ... وأزهر يحبو للقيام عتيق [5]
بقير [6] جلا بالسيف عنه غشاءة ... أخ باخاء الصالحين رفيق
فبات لنا منها وللضيف موهنا ... عشاء سمين راهن وغبوق
وبات له دون الصّبا وهي قرّة ... لحاف ومصقول الكساء رقيق
وكلّ كريم يتّقي الذمّ بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق
أضفت فلم أفحش عليه ولم أقل ... لأسمعه إن الفناء مضيق [7]
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
نمتني عروق من زرارة للعلى ... ومن فدكيّ والأشدّ عروق
أكارم يجعلن الفتى في أرومة ... يفاع وبعض الوالدين دقيق
«691» - وقال حاتم الطائي: [من الطويل]
__________
[1] البرك: الابل، الهواجد: النيام؛ المقاحيد: الابل العظام الاسنمة، وكذلك الكوم؛ المجادل:
القصور، روق: كريمة.
[2] الأدماء: البيضاء؛ مرباع النتاج: نتجت في أول النتاج؛ الفنيق: فحل الابل.
[3] في الأصل: بادماء؛ والنحلاء: الطعنة الواسعة؛ ثرة: واسعة مخرج الدم.
[4] تفوق: يخرج نفسها.
[5] الأزهر العتيق، يعني ولد الناقة.
[6] بقير: مبقور.
[7] لم يرد في المفضليات.(2/265)
أماويّ إنّ المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أنّ حاتما ... أراد ثراء المال أمسى له وفر
أماويّ إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لديّ ولا خمر
تري أنّ ما أفنيت لم يك ضرّني ... وأنّ يدي مما بخلت به صفر
أماويّ إما مانع فمبيّن ... وإمّا عطاء لا ينهنهه الزّجر
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلّا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
«692» - وقال أيضا: [من الكامل]
وإذا تنوّر طارق مستنبح ... نبحت فدلّته عليّ كلابي
وعوين يستعجلنه فلقينه ... يضربنه بشراشر الأذناب
«693» - وقال الأقرع بن معاذ القشيري: [من الطويل]
دعيني فإن الجود يا أمّ خالد ... إليّ ومعروف الثناء عجيب
وإنك إن بخّلت ثم ندبتني ... بصالح أخلاق الفتى لكذوب
وما يك من عسري ويسري فإنني ... ذلول بحاج المعتفين أريب
وما زلت مثل البحر يركب مرة ... فيعلى ويولي مرة فيثيب
وما خير معروف الفتى في شبابه ... إذا لم يزده الشيب حين يشيب(2/266)
وما السائل المحروم يرجع خائبا ... ولكن بخيل الأغنياء يخيب
وللمال أشراك وإن ضنّ ربه ... يصيب الفتى من ماله وتصيب
«694» .- (1) وقال ابن هرمة: [من المنسرح]
لا غنمي في الحياة مدّ لها ... إلى دراك القرى ولا إبلي
كم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهلّ الشؤبوب أو جمل
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
(2) وقال أيضا: [من الكامل]
أغشى الطريق بقبّتي ورواقها ... وأحلّ في قلل الرّبى فأقيم
إنّ امرءا جعل الطريق لبيته ... طنبا وأنكر حقّه للئيم
(3) وقال أيضا: [من الطويل]
ومستنج تستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثوب معصم [1]
عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبح كلب أو ليفزع نوّم
فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له عند إتيان المهبين [2] مطعم
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلّمه من حبّه وهو أعجم
__________
[1] معصم: مستمسك.
[2] المهبين: الضيوف.(2/267)
«695» - وقال الخثعمي: [من البسيط]
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينفدها التبذير والسّرف
وان تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقد روي هذان البيتان لبعض الكتاب، أنشدهما يحيى بن خالد وقد رآه يفرّق الصلات في النّاس.
«696» - وأخذ المعنى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر فقال: [من الطويل]
فأنفق إذا أنفقت إن كنت موسرا ... وأنفق على ما خيّلت حين تعسر
فلا الجود يفني المال والحظّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر
«697» - وقد قال عسل بن ذكوان: [من البسيط]
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولّية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق
والكلّ مأخوذ من قول امرأة من العرب لابنها: يا بنيّ إذا رأيت المال مقبلا فأنفق، فإن ذهابه فيما تريد خير من ذهابه فيما لا تريد.
698- وصف رجل عبد الله بن جعفر فقال: كان إذا افتقر لم تفتقر نفسه، وإذا استغنى لم يستغن وحده.(2/268)
«699» - وكان عبد الله بن جعفر من الجود بالمكان المشهور، وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف ألف درهم كل سنة فيفرقها في الناس، ولا تراه إلّا وعليه دين. ولما مات معاوية وفد على يزيد فقال له: كم كان أمير المؤمنين معاوية يعطيك؟ قال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف، قال يزيد: قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف، قال: بأبي وأمي أنت، قال: ولهذه ألف ألف، قال: أمّا إني لا أقولها لأحد بعدك، فقيل ليزيد: أعطيت هذا المال العظيم رجلا واحدا من مال المسلمين فقال: والله ما أعطيته إلّا لجميع أهل المدينة، ثم وكل به من صحبه وهو لا يعلم، لينظر ما يفعل في المال، فلما وصل المدينة فرّق جميع المال حتى احتاج بعد شهر إلى الدّين.
«700» - وقال له الحسن والحسين عليهما السلام: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما، إن الله عز وجل عوّدني أن يفضل عليّ وعوّدته أن أفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فتنقطع عنّي المادة.
«701» - ولما ولي عبد الملك بن مروان جفا عبد الله ورقّت حاله. فراح يوما إلى الجمعة وجاءه سائل فقال له: إن كان يقنعك أحد قميصيّ هذين فخذه، فقال نعم، فقال: اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها، فإن كان ذلك قد انقطع فاقبضني إليك، فتوفي في الجمعة الأخرى.(2/269)
«702» - وامتدح نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وأثاث وإبل ودنانير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال؟
فقال عبد الله: إن كان أسود فإن شعره لأبيض وإن ثناءه لعربيّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى ومالا يفنى ومطايا تنضى، وأعطانا مدحا يروى وثناء يبقى؟
«703» - وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك تبذل الكثير إذا سئلت، وتضيّق في القليل إذا توجرت، فقال: إنّي أبذل مالي وأضنّ بعقلي.
وله أخبار سأذكر بعضها حيث يتفق من هذا الباب.
«704» - كان لبيد بن ربيعة العامري جوادا شريفا في الجاهلية والإسلام، وكان نذر أن لا تهبّ الصّبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي، فهبت في الإسلام وهو بالكوفة مملق مقتر، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو واليها من قبل عثمان، فخطب الناس فقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل وما وكّد على نفسه، فأعينوا أخاكم؛ ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة وبعث الناس إليه أيضا، فقضى نذره، ففي ذلك تقول بنت لبيد: [من الوافر]
إذا هبّت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبّتها الوليدا(2/270)
«705» - وكان عبد الله بن جدعان التيميّ- تيم قريش- من أجواد العرب في الجاهلية، فلما أسنّ أخذت بنو تيم على يده ومنعوه أن يعطي شيئا من ماله، فكان إذا أتاه الرجل يطلب منه قال: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه، ثم يقول: اذهب فاطلب لطمتك أو ترضى، فترضيه بنو تيم من ماله، وذلك قول ابن قيس الرقيات: [من الخفيف]
والذي إن أشار نحوك لطما ... تبع اللطم نائل وعطاء
«706» - مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ عوّاده، فقال لمولى له: ما بال الناس لا يعودونني؟ قال: للدّين الذي لك عليهم، قال: ناد فيهم: من كان عليه شيء فهو له، فكسروا درجته من تهافتهم.
«707» - كان سعيد بن العاص إذا سأله سائل فلم يكن له ما يعطيه قال له: اكتب عليّ سجّلا إلى يوم يسري؛ ولما مات أتى غرماوءه ابنه بما عليه من الصكاك وكان في جملتها صكّ لفتى من قريش فيه شهادة مولى له بعشرين ألفا فقال ابنه للمولى: من أين له هذا المال وإنما هو صعلوك من فتيان قريش؟
فقال المولى: إن أباك خرج من منزله فلقيه هذا الفتى فمشى معه، فلما بلغ حيث أراد سأله هل من حاجة؟ فقال: لا إنما رأيتك تمشي وحدك فوصلت جناحك، فلم يكن معه ما يعطيه فكتب له على نفسه بما رأيت.(2/271)
«708» - اشترى عبيد الله بن أبي بكرة جارية بستين ألف درهم، فطلب دابة تحمل عليها فلم توجد، فجاء رجل بدابّته فحملها فقال له: إلى أين أحملها؟ فقال له عبيد الله: اذهب بها إلى منزلك، ووهبها له.
«709» - واستعمله عبيد الله بن زياد على إطفاء بيوت النيران بين البصرة وسجستان، فأصاب أربعين ألف ألف درهم، فحال الحول عليه وعليه دين.
«710» - أرتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فسكت ساعة ثم قال: لا أجمع عليكم عيّا وبخلا، من أخذ شاة من السوق فهي له، وثمنها عليّ.
«711» - باع أبو الجهم داره، فلما أرادوا الاشهاد عليه قال: بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: سبحان الله، وهل رأيت أحدا يشتري جوار أحد؟ قال: ألا تشترون جوار إنسان إذا أسأت إليه أحسن؟ لا أريد أن أبيعكم شيئا، ردّوا عليّ داري، فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه بألف دينار.
«712» - طلب رجل من أبي العبّاس الطوسي خطرا فلم يعطه، فبلغ(2/272)
ذلك معن بن زائدة وهو باليمن، فأرسل إليه بجراب خطر فيه ألف دينار وكتب إليه: اختضب بالخطر وانتفع بالنخالة.
«713» - كان معن بن زائدة قد أبلى مع يزيد بن عمر بن هبيرة بلاء شديدا، فطلبه المنصور وبذل مالا لمن جاء به، فاضطر لشدة الطلب إلى أن أقام في الشمس حتى لوّحت وجهه، وخفّف عارضه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملا ثفالا، وخرج عليه ليمضي إلى البادية فيقيم بها؛ قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلّد سيفا حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض علي فقلت: مالك؟
فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت له: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟
قال: دع هذا فأنا أعرف بك منك، قال معن فقلت له: يا هذا أتّق الله فيّ فان كانت القصة كما تقول فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي، فقال: هاته، فأخرجته فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل، فقال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت قطّ مالك كلّه؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال:
فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت وقلت: أظنّ أني قد فعلت ذلك، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا والله رزقي من أبي جعفر عشرون درهما، وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير قد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أنّ في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعدها كلّ شيء تفعله، ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى بالجوهر في حجري وخلّى خطام البعير وانصرف، فقلت له: يا هذا قد والله فضحتني، ولسفك(2/273)
دمي أهون عليّ مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني عنه غني، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا؟ والله لا آخذه ولا آخذ لمعروف ثمنا أبدا. فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاء به ما شاء فما عرفت له خبرا، وكأن الأرض ابتلعته.
«714» - أراد رجل أن يمدح رجلا عند خالد بن عبد الله القسري فقال: والله لقد دخلت إليه فوجدته أسرى الناس فرشا ودارا وآلة، فقال خالد: لقد ذممته من حيث أردت أن تمدحه، هذه والله حال من لم تدع فيه شهوته للمعروف فضلا.
«715» - قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في علّته: لم يبق عليّ من لباس الزمان إلا العلة والخلّة، وأشدّهما عليّ أهونهما على الناس، لأن ألم جسمي بالأوجاع أهون من ألم قلبي للحقّ المضاع.
«716» - قال أعرابي: ما زال فلان يعطيني حتى ظننته يودعني، وما ضاع مال أودع حمدا.
«717» - شاعر: [من الكامل]
وإذا الرجال تصرّفت أهواؤها ... فهواه لحظة سائل أو آمل
ويكاد من فرط السخاء بنانه ... حبّ العطاء يقول هل من سائل(2/274)
«718» - وقال عمارة بن عقيل في خالد بن يزيد: [من الكامل]
تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلا تجنّب كلّ أمر عائب
وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء لنا برغم الحاجب
«719» - وقال الخريميّ: [من الطويل]
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
«720» - مرّ يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزا فقبلها وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟
قال: ثمانمائة دينار، قال: فادفعها إليها، فقال له ابنه: إنك تريد الرجال ولا تكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير وهي بعد لا تعرفك، قال:
فإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي؛ ادفعها إليها.
«721» - قال العتبيّ: أشرف عمر بن هبيرة يوما من قصره فإذا هو بأعرابيّ يرقص قلوصه الآل، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إليّ، فلما(2/275)
دنا الأعرابيّ سأله فقال: قصدت الأمير، فأدخله إليه، فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك؟ فقال الأعرابيّ: [من المنسرح]
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألحّ دهر أنحى بكلكه ... فأرسلوني إليك وانتظروا
قال: فأخذت عمر الأريحية فجعل يهترّ في مجلسه ثم قال: أرسلوك إليّ وانتظروا، إذن والله ولا تجلس حتى ترجع إليهم غانما، فأمر له بألف دينار وردّه على بعيره.
قال أبو العبّاس المبرد: بلغني أنّ الخبر لمعن، وذلك عندي أصحّ.
«722» - أتى رجل يسأل الحسن بن علي عليهما السلام فقال له: إنّ المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح، أو فقر مدقع، أو حمالة مفظعة، قال الرجل: ما جئت إلّا في إحداهن، فأمر له بمائة دينار، ثم أتى أخاه الحسين عليه السلام فقال له مثل ما قال له أخوه، فأعطاه تسعة وتسعين دينارا، كره أن يساوي أخاه. ثم أتى عبد الله بن عمر رضوان الله عليهما فأعطاه سبعة دنانير، ولم يسأله عن شيء، فحدثه بقصته وما جرى بينه وبينهما، فقال عبد الله: ويحك وأين تجعلني منهما؟ إنهما عذّيا العلم [1] غذاء.
«723» - لما وجّه يزيد بن معاوية عسكره لاستباحة أهل المدينة ضمّ عليّ ابن الحسين إلى نفسه أربعمائة منافيّة يعولهنّ إلى أن انقرض جيش مسلم بن عقبة، فقالت امرأة منهن: ما عشت والله بين أبويّ بمثل ذلك التتريف [2] .
__________
[1] م: بالعلم.
[2] ع م: الشريف.(2/276)
724- ذكر العبّاس بن محمد أنّ المهديّ لما وجّه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين خرج يشيّعه وأنا معه، فلما حاذى قصر مسلمة قلت له: يا أمير المؤمنين إن لمسلمة في أعناقنا منّة، كان محمد بن علي مرّ به فأعطاه أربعة آلاف دينار وقال له: يا ابن عم هذان ألفان لدينك وألفان لمعونتك، فإذا نفدت فلا تحتشمنا؛ فقال لما حدّثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق ثم قال: يا أبا الفضل أكافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: وزدت يا أمير المؤمنين.
«725» - قال يحيى بن خالد: جعلت الدنيا دون عرضي، فأبرّها عندي ما صانه، وأهونها عليّ ما شانه.
«726» - كتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن سليمان في نكبته: إنّ الكريم المنكوب أجدى على الأحرار من اللئيم الموفور، لأنّ اللئيم إذا ازداد نعما ازداد لؤما، والكريم إذا ازداد عسرا ازداد ظنّه بالله حسنا.
«727» - رفع الواقدي قصة إلى المأمون يشكو غلبة الدّين وقلّة الصبر، فوقّع المأمون عليها: أنت رجل فيك خلّتان: الحياء والسخاء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنّا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنّا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء(2/277)
الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بساق [1] العرش، ينزل الله عز وجل للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثّر كثّر له ومن قلّل قلّل له؛ قال الواقدي:
وكنت أنسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي به أعجب إليّ من صلته.
«728» - بعث روح بن حاتم بن المهلب إلى رجل بثلاثين ألف درهم وكتب إليه: قد وجهت إليك بما لا أقلّله تكبرا، ولا أكثّره تمنّنا، ولا أستثيبك عليه ثناء، ولا أقطع لك به رجاء.
«729» - أراد الرشيد أن يخرج إلى القاطول فقال يحيى بن خالد لرجاء ابن عبد العزيز، وكان على نفقاته: ما عند وكلائنا من المال؟ قال: سبعمائة ألف درهم، قال: فاقبضها إليك يا رجاء، فلما كان من الغد غدا إليه رجاء فقبّل يده وعنده منصور بن زياد، فلما خرج قال لمنصور: قد ظننت أنّ رجاء قد توهّم أنا قد وهبنا المال له وإنما أمرناه بقبضه من الوكلاء ليحفظه علينا لحاجتنا إليه في وجهنا هذا، قال منصور: فأنا أعلمه ذلك، قال إذن يقول:
فقل له يقبّل يدي كما قبلت يده، فلا تقل شيئا فقد تركتها له.
«730» - قال سلم بن زياد لطلحة بن عبيد الله بن خلف الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلا له عليّ حقّ وصحبة بألف ألف درهم فما ترى؟ قال:
أرى أن تجعل هذه لعشرة، قال: فأصله بخمسمائة ألف درهم، قال: كثير، فلم يزل به حتى وقف على مائة ألف درهم قال: أفترى مائة الف يقضى بها
__________
[1] ر: بازاء.(2/278)
ذمام رجل له انقطاع وصحبة ومودة وحقّ واجب؟ قال: نعم، قال: هي لك وما أردت غيرك، قال: فأقلني قال لا أفعل والله.
«731» - سئل إسحاق الموصلي عن سخاء أولاد يحيى بن خالد فقال:
أما الفضل فيرضيك فعله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد.
732- بات جماعة من الرؤساء عند أحمد بن أبي دواد، فلما أخذوا مضاجعهم إذا الخدم قد أخرجوا لكلّ واحد منهم جارية، قال: فاحتشموا من ذلك، وبات الجواري ناحية، فلما أصبحوا وجّه بجارية كلّ واحد إلى منزله ومعها وصيفة.
«733» - قال شريح بن الأحوص: [من الطويل]
ومستنبح يبغي المبيت ودونه ... من الليل سجفا ظلمة وستورها
رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهرّ عقورها
فبات وقد أسرى من الليل عقبة ... بليلة صدق غاب عنها شرورها
إذا الشول راحت ثم لم تفد لحمها ... بألبانها ذاق السنان عقيرها
«734» - وقال عروة بن الورد: [من الطويل](2/279)
إني امرو عافي إنائي شركة ... وأنت امرو عافي إنائك واحد
أتهزأ منّي أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحقّ والحقّ جاهد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
«735» - وقال آخر: [من البسيط]
ألا ترين وقد قطّعتني عذلا ... ماذا من الفوت بين البخل والجود
إلّا يكن ورق يوما أجود بها ... للمعتفين فإني ليّن العود
«736» - وقال قيس بن عاصم: [من الطويل]
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي
كريما قصيا أو قريبا فإنني ... أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعا بادي الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما فيّ إلا تيك من شيمة العبد
«737» - وقال آخر: [من الطويل](2/280)
ومستنبح قال الصّدى مثل قوله ... حضأت له نارا لها حطب جزل
وقمت إليه مسرعا فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
وأوسعني حمدا وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
«738» - وقال محمد بن يسير: [من البسيط]
لقلّ عارا إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
فضل [1]- المقلّ إذا اعطاه مصطبرا [2] ... ومكثر في الغنى سيّان في الجود
لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إمّا نوال وإما حسن مردود
«739» - وقال الهذلي: [من البسيط]
وهّاب ما لا تكاد النفس ترسله ... من التّلاد وصول غير منّان [3]
«740» - وقال البحتري: [من الطويل]
ألست ترى مدّ الفرات كأنه ... جبال شرورى جين في البحر عوما
وما ذاك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلما
__________
[1] الحماسة البصرية: جهد.
[2] الحماسة: اعطاك نائله.
[3] روايته في ديوان الهذليين:
يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه ... من التلاد وهوب غير منان(2/281)
«741» - وقال حاتم: [من الطويل]
لا تسأليني واسألي أيّ فارس ... إذا الخيل جالت في قنا فتكسرا
ولا تسأليني واسألي أيّ ياسر ... إذا بادر القوم الكنيف المستّرا
وانّي لوهّاب لقطعي ونمرقي [1] ... إذا ما صحوت [2] والكميت المصدرا
وإني لتغشى أبعد الحيّ جفتني ... إذا ورق الطلح الطوال تحسّرا
«742» - نزل رجل بامرأة من العرب فقال لها: هل من لبن أو طعام يباع، فقالت: إنك للئيم أو حديث عهد باللئام، فاستحسن ذلك منها وخطبها فتزوجها.
«743» - قيل لأعرابيّة وقد حملت شاة تبيعها: بكم هذه؟ قالت:
بكذا، قيل لها: أحسني، فتركت الشاة ومرّت لتنصرف، فقيل لها: ما هذا؟ فقالت: لم تقولوا أنقصي، وإنما قلتم أحسني، والإحسان ترك الكلّ.
«744» - قال أبو الحسين محمد بن عمر بن بكير: كان أبي بين يدي
__________
[1] الديوان: قطوعي وناقتي.
[2] الديوان: إذا ما انتشيت.(2/282)
المنتصر بالله، وأحمد بن الخصيب جالس، فدخل الحاجب فقال: أيها الأمير هذا [1] الحسن بن سهل بالباب، فالتفت إليه أحمد فقال: دعنا من العظام الناخرة والرسوم الداثرة، فوثب أبي وقال: أيها الأمير إنّ للحسن بن سهل عليّ نعما عظاما وله في عنقي أياد جمة، فقال: ما هو يا عمر؟ فقال: ملأ والله بيتي ذهبا وفضة، وأدنى مجلسي، وخلع عليّ وألحقني برؤساء أهل العلم كأبي عبيدة والأصمعي ووهب بن جرير وغيرهم، وقد أقدرني الله سبحانه بالأمير على مكافأته وهذا من أوقاته، فإن رأى الأمير أن يسهّل إذنه ويجعل ذلك على يدي وحبوة لي وذريعة إلى مكافأة الحسن بالحسنى فعل، فقال: يا أبا حفص بارك الله عليك، فمثلك يستودع المعروف، وعندك يثمر البرّ، وبمثلك يرغب الأشراف في اتخاذ الصنائع، وقد جعلت إذن الحسن إليك، فأدخله أيّ وقت حضر من ليل أو نهار، لا سبيل لأحد من الحجّاب عليه، فقبّل البساط ووثب إلى الباب، فأدخل الحسن، وأتكأه يده، فلما سلّم على المنتصر أمره بالجلوس فجلس، وقال له: قد جعلت إذنك إلى أبي حفص فاحضر إذا شئت من غدوّ أو عشيّ، وارفع حوائجك، وتكلّم بكلّ ما في صدرك، فقال الحسن: والله أيها الأمير ما أحضر طلبا للدنيا ولا رغبة فيها ولا حرصا عليها، ولكني عبد يشتاق إلى مواليه وسادته، وبلقائهم يشتدّ ظهره وينبسط أمله وتتجدّد نعم الله تعالى عنده، وما أحضر لغير ذلك، قال:
وأحمد بن الخصيب يكاد ينقدّ غيظا. فقال له المنتصر: فاحضر الآن في أيّ الأوقات أحببت، فأكبّ الحسن على البساط يقبله شكرا ونهض. قال أبي:
ونهضت معه، فلما بعدنا عن عينه بلغني أن المنتصر قال: هكذا فليكن الشاكرون، وعلى مثل هذا فلينعم المنعمون؛ ثم قال الحسن لعمر: والله ما أدري بأيّ لسان أثني عليك، فقال: يا سبحان الله أنا أولى بالثناء عليك
__________
[1] م: إن.(2/283)
منك، والدعاء لك، لأنك خوّلتني الغنى وألبستني النعمى في الزمان الصعب والحال التي يجفوني في مثلها الحميم، فجزاك الله عنّي وعن ولدي أفضل الجزاء، فقال الحسن: والهفاه على أن لا يكون ذلك المعروف أضعاف ما كان، لادرّ درّ الفوت وتعسا للندم وأحواله، ولله درّ الخريميّ حيث يقول:
[من الطويل]
ودون الندى في كلّ قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وودّ الفتى في كلّ نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أنّ نائله جزل
ثم قال لي أبي: يا محمد اخرج معه، أعزه الله، حتى تؤدّيه إلى منزله، قال أبو الحسين: فخرجت معه، فلم أزل أحدّثه حتى جرى ذكر رزين العروضيّ الشاعر، وكان قد امتدحه بقصيدة، فمات رزين من قبل أن يوصلها إلى الحسن، فقلت: أعزّ الله الأمير، كان شاعرا ومن أهل العلم، مدح الأمير بقصيدة هي في العسكر مثل ومات قبل أن ينشدها، قال: فأسمعنيها أنت، فأنشدته:
قرّبوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبّتك الأقربوك
خلّفوك ثم مضوا مدلجين ... مفردا بهمّك ما ودّعوك
وهي ستون بيتا على غير وزن العروض.
قال أبو الحسين: فأنا والله أنشده، ودموعه تهمي على خده وتقطر على نحره، ثم قال: والله ما أبكي إلّا على قصور الأيام عنّا وبنا عنه، ثم جعل يتلهّف وقال: فما الذي منعه من اللقاء: تعذّر الحجاب أم قعود الأسباب؟
فقلت له: اعتلّ، جعلني الله فداك؛ فجعل يترحّم عليه ترحّم الرجل على أخيه ثم قال: والله لا أكون أعجز من علقمة قال: فوالله ما دريت ما عنى، فقلت: جعلني الله فداك: ومن علقمة؟ قال: علقمة بن علاثة حيث مات قبل وصول الحطيئة بالقصيدة التي رحل بها إليه حيث يقول: [من الطويل](2/284)
لعمري لنعم الحيّ من آل جعفر ... بحوران أمسى أدركته الحبائل
فإن تحي لا أملل حياتي وان تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى الا ليال قلائل
فبلغت هذه الأبيات علقمة، فأوصى له بمثل نصيب ابن. ولكن هل ترك الرجل وارثا؟ قلت: بنيّة، قال: أتعرف مكانها؟ قلت: نعم، قال: والله ما أتسع في وقتي هذا ما أبرّ به هذه الصبية، ولكنّ القليل يقع منها والعذر يقنع، ثم دعا غلاما له فقال: هات ما بقي من نفقة شهرنا، قال: هذه فأعطاه ألفي درهم فدفعها إليّ وقال: خذ ألفا وأعط الصبية ألفا، ففعلت ما قال.
«745» - وأتى الحسن بن شهريار الحسن بن سهل فكلّمه في رجل فقال له: العيال متوافرون، والضياع متحيّفة، والوظائف قائمة، وذو العادة لا يرضيه دون عادته، وقد أمرت له بثلاثين ألف درهم، فقال الحسن بن شهريار: إنما مقدار الرجل الذي سألتك فيه أن يعطى ألفا أو ألفين، فقال:
يا حسن إنّ لكلّ شيء زكاة، وإن زكاة الجاه بذله، فإذا أجرى الله تعالى لإنسان على يدك خيرا فلا تعترض فيه.
«746» - قال علي عليه السلام لأصحابه: من كانت له إليّ منكم حاجة فليرفعها إليّ في كتاب لأصون وجهه عن المسألة.
«747» - وقالوا: السخيّ من كان مسرورا ببذله، مسرعا بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة فيسقط شكره، ويكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحبّ للطير لا يريد نفعها ولكن نفع(2/285)
نفسه.
«748» - نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع فقال له: ما أصبرك على هذا القميص!! فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه، فبعث إليه بتخت من ثياب، فقال أبو الأسود: [من الطويل]
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإنّ أحقّ الناس ان كنت شاكرا ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
«749» - ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء فقال: إنّ سعيد بن خريم منهم، فأعطاه ألف دينار وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إذا أعطيت فأغن.
«750» - وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد من العرب، فأعطاهم وفضّل رجلا منهم، فقيل له في ذلك فقال: كلّ القوم عيال عليه.
«751» - وكان عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطلب من الأجواد، أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال: يا ابن عبّاس إنّ لي عندك يدا وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره وصوّبه فلم يعرفه ثم قال: ما يدك عندنا؟
فقال: رأيتك واقفا بزمزم، وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد(2/286)
صهرتك، فظللتك بطرف كسائي حتى شربت، فقال: أجل إني لأذكر ذلك، وإنك لتتردّد بين خاطري وفكري، ثم قال لغلامه ما عندك قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحقّه عندنا، فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك كفاية، فكيف وقد ولد سيّد الأولين والآخرين محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ثم شفع بك وبأبيك.
«752» - وحبس معاوية عن الحسين بن علي عليهما السلام صلاته، فقيل له: لو وجّهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قد قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، فو الله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر، ثم وجّه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله، وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه، وكان أرق الناس قلبا، وألينهم عطفا، انهملت عيناه ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم حين أصبحت ليّن المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال؟! ثم قال لقهرمانه:
احمل إلى الحسين نصف ما نملكه من فضة وذهب ودابّة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر، فقال له القهرمان: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا [ذلك] دللتك على أمر تقيم به حالك، فلما أتاه الرسول قال: إنا لله، حملت والله على ابن عمي وما حسبت أنه يتسع لنا هذا كلّه، وأخذ الشطر من ماله.
«753» - وأهدى إليه معاوية وهو عنده من هدايا النيروز حللا كثيرة ومسكا وآنية من ذهب وفضة، ووجهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر(2/287)
إلى الحاجب وهو ينظر إليها فقال له: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله، وإن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف، فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك قال: جعلت فداك، أنّى وإن يبلغ ذلك معاوية يجد عليّ، قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا كان [1] خروجنا حملها إليك ليلا، قال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم اكبر من الكرم، ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه، يعني معاوية، فظنّ عبيد الله أنها مكيدة منه فقال: دع هذا الكلام فإنا قوم نفي بما عقدنا ولا تنقض ما أكّدنا.
«754» - وجاءه رجل من الأنصار فقال له: يا ابن عمّ محمد، إنه ولد لي في هذه الليلة مولود وإني سمّيته باسمك تبركا مني به، وإنّ أمّه ماتت، فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثم دعا بوكيله فقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار لينفقها على تربيته، ثم قال للأنصاريّ: عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس، وفي المال قلّة. فقال الأنصاري: جعلت فداك، لو سبقت حاتما بيوم ما ذكرته العرب أبدا، ولكنه سبقك فصرت له تاليا، وأنا أشهد أنّ عفو جودك أكثر من مجهوده، وطلّ صوبك أكثر من وابله.
«755» - وعبيد الله بن أبي بكرة من الأجواد، أدلى إليه رجل بحرمة فأمر له بمائة ألف درهم فقال: أصلحك الله ما وصلني بها أحد قط، لقد قطعت لساني عن شكر غيرك، وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لنا بهجة إلا أظلمت ولا نور إلا انطمس.
__________
[1] العقد: حان.(2/288)
«756» - الذين انتهى إليهم الجود في الجاهليّة: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم بن سنان المريّ، وكعب بن مامة الايادي، وضرب المثل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما. فأما كعب فجاد بنفسه وآثر رفيقه بالماء، تصافنا الإداوة في المفازة فمات عطشا، وليس له خبر مشهور غيره. وأما حاتم فأخباره كثيرة، وآثاره في الجود مشهورة، وكان إذا اشتدّ البرد وكلب الشتاء أمر غلامه يسارا فأوقد نارا في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضلّ الطريق ليلا فيصمد نحوها، فقال في ذلك: [من الرجز]
أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ
عسى يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حرّ
قالوا: ولم يكن حاتم يمسك شيئا ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود به ثم جاد بفرسه في سنة أزمة:
«757» - قالت النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض، واغبرّ أفق السماء [1] ، وراحت الإبل حدبا حدابير [2] ، وضنّت المراضيع عن أولادها أن تبضّ بقطرة، وجلفت [3] السنة المال وأيقنّا بالهلاك، فو الله إني لفي
__________
[1] م: واقشعرت لها السماء.
[2] حدابير: سقطت من م.
[3] م: واحلفت.(2/289)
ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى أصيبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت إلى الصبيّة، فو الله ما سكتوا إلّا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني، فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال: من هذا؟ فولى ثم عاد آخر الليل، فقال: من هذا؟ قال: جارتك فلانة، أتيتك [1] من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معوّلا إلا عليك أبا عدي، فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين، ويمشي جانبيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخرّ، ثم كشط عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة، فقال: شأنك فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتا بيتا فيقول: هبّوا، عليكم بالنار، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، لا والله إن ذاق منه مزعة وانه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم أو حافر.
«758» - مرض سعيد بن العاص بالشام، فعاده معاوية ومعه شرحبيل ابن السمط ومسلم بن عقبة المريّ ويزيد بن شجرة الرهاوي، فلما نظر سعيد إلى معاوية وثب عن صدر مجلسه إعظاما له، فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان فإنك ضعفت للعلة، فسقط، فبادر معاوية نحوه حتى حنا عليه، وأخذ بيده فأقعده معه على فراشه وجعل يسائله عن علته ومنامه وغذائه، ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه، وأطال القعود عنده. فلما خرج التفت إلى شرحبيل ويزيد ابن شجرة فقال: هل رأيتما خللا في حال أبي عثمان؟ فقالا: لا ما رأينا شيئا ننكره، فقال لمسلم: ما تقول أنت؟ قال: رأيت خللا، قال: وما ذاك؟
قال: رأيت على حشمه ومواليه ثيابا وسخة، ورأيت صحن داره غير
__________
[1] م: جئتك.(2/290)
مكنوس، ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه، قال: صدقت، كلّ ذلك قد رأيت، فوجه إليه [مع مسلم] بثلاثمائة ألف، فسبق رسول مسلم إلى سعيد يبشره بتوجيهها، ويخبره بما كان، فغضب سعيد وقال للرسول: إنّ صاحبك ظنّ أنه أحسن فأساء، وتأوّل فأخطأ، فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرت حركته اتسخ ثوبه، وأما كنس الدار فلست من جعل داره مرآته، وبهاءه لبسته [1] ، ومعروفه عطره، ثم لا يبالي من مات هزلا من ذوي رحمه أو لحمته [2] ، وأما منازعة التجار قهرماني فمن كثرت حوائجه وبيعه وشراؤه لم يجد بدا من أن يكون طالبا أو مطلوبا، وأما المال الذي أمر لنا به أمير المؤمنين فوصلته به كلّ رحم قاطعة، وهناه كرامة [3] المنعم بها، وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف، ولشرحبيل بن السمط بمثلها، وليزيد بن شجرة بمثلها، وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معوّلنا. فركب مسلم إلى معاوية فأعلمه، فقال: صدق ابن عمّي فيما قال، وأخطأت فيما أنهيت إليه، فاجعل نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك، فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها، كما أنّه من فعل خيرا كوفىء عليه.
«759» - قال الحسن: بلغني أن رجلا جهده الجوع ففطن به بعض الأنصار، فلما أمسى أتى به رحله، وقال لامرأته: هل لك أن نطوي ليلتنا هذه لضيفنا؟ قالت: نعم، قال: فإذا قرّبت الطعام فاعمدي كأنك تصلحين السراج فاطفئيها، ففعلت، وجاءت بثريدة كأنها قطاة فوضعتها، ثم دنت فأطفأت السراج فجعل الانصاريّ يضع يده في القصعة ولا يأكل، وأكل
__________
[1] العقد: وتزينه لبسه.
[2] العقد: من ذي لحمة أو حرمة.
[3] ر: كرمه.(2/291)
الضيف حتى أتى عليها، فلما أصبح صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: أنت صاحب الكلام الليلة؟ قال: وما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: قد كان ذاك يا رسول الله، قال: فوالله لقد عجب الله من صنيعكما.
«760» - اقترض ابن عبدل من التجار مالا، وحلف لهم بالطلاق ثلاثا أن يقضيهم المال عند طلوع الهلال، فلما بقي من الشهر يومان قال: [من المنسرح]
قد بات همّي قرنا أكابده ... كأنما مضجعي على حجر
من رهبة أن يرى هلال غد ... فإن رأوه فحقّ لي حذري
وفقد بيضاء غادة كملت ... كأنها صورة من الصور
أصبحت من أهلي الغداة ومن ... مالي على مثل ليلة الصّدر
فبلغ خبره عبد الملك بن بشر فأعطاهم ما لهم عليه وأضعفه له.
«761» - مرّ عبد الله بن جعفر ومعه عدة من أصحابه بمنزل رجل قد أعرس، فإذا بقينة تغنّي: [من المنسرح]
قل لكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج
فقال عبد الله لأصحابه: لجوا فقد أذن لكم القوم، فنزل ونزلوا فدخلوا، فلما رآه صاحب المنزل تلقاه فأجلسه على الفرش، فقال للرجل: كم أنفقت على وليمتك؟ قال: مائتي دينار، قال: فكم مهر صاحبتك [1] ؟ قال:
كذا وكذا، فأمر له بالجميع وبمائة دينار بعد ذلك معونة واعتذر إليه وانصرف.
762- قيل غاب محمد بن نصر بن بسام عن داره مدة عشرين سنة،
__________
[1] ر: امرأتك.(2/292)
ووكل بها في هذه المدة من يفرشها وينظفها في كلّ يوم فيدخل إليها المقيمون هناك من خواصّه وأصحابه، فيجلسون حيث كان يجلس منها قبل انتقاله إلى بغداد، ومطبخه فيها قائم، ويجتمع الناس فيها على طعامه وهو غائب عنها هذه المدّة الطويلة.
763- صنع عمرو بن حريث طعاما لعديّ بن حاتم، فلما دخل نظر إلى الستور مسبلة فقال: آكل وحدي؟ فقال عمرو: إنما هو شيء هيأناه لك خاصة، فقال: حرام عليّ اكله أو ترفع الستور فيدخل من شاء.
«764» - كان المهلب يقول لبنيه: يا بنيّ ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم وخدمكم عند غيركم أحسن منها عندكم.
765- اشتهى المأمون أن يأكل من الكواميخ، فقال له أخوه أبو إسحاق: إن لي نبطيا يجيدها، فاستدعى منه ما تعجّل عنده، فأحضر في الحال ثمانين غلاما على رؤوسهم جون وأطباق فيها ألوان من الكواميخ والمخللات والشواريز [1]- والسمك الطري والمملوح، ومن البوارد بالفراريج وغيرها، ومن المزوّرات، فاستكثره المأمون وأعجبه واستطابه، فقال لأبي إسحاق: قل له يعمل مثل ذلك في كلّ عام مرة، فقال: بل في كل يوم فإن منازلي لا تخلو منه وليس عليّ فيه كلفة. ثم رفع صاحب الديوان بعد مدة مؤامرة ببقايا السنة، فوجد المأمون فيها اسم مالك بن شاهي فقال: قد مرّ بي هذا الاسم، فقيل: هو الذي أكلت كوامخه، قال: فنأكل طعام الرجل ونحاسبه؟ وكان
__________
[1] ر: والسوارير.(2/293)
عليه ثلاثة عشر ألف درهم، فوقع تحتها: يعان بها على مروءته، ورمى بها من يده ثم قال: ردّوها إليّ، إنّ الناس يتحدثون أن المأمون أكل سكرّجات قامت عليه بكذا وكذا، وأطلق صاحبها من الحبس، ثم وقع في المؤامرة باطلاق جميع من في الحبس، وكان مبلغ ما عليهم أربعين ألف ألف درهم.
«766» - قيل لم يكن لخالد بن برمك جليس الا وقد بنى له دارا على قدر كفايته، وكان يقف على أولاد الإخوان ما يعيّشهم أبدا، وما كان لأحد من إخوانه ولد إلا من جارية هو وهبها له.
«767» - وقيل إنّ جارا لابن المقفع أراد بيع داره لدين ركبه، وكان يجلس في ظلّ تلك الدار كثيرا، فقال: ما قمت إذن بحقّ ظلّ داره إن باعها معدما وبتّ واجدا، فبعث إليه بثمنها وقال: دعها على حالها وقلّب هذا المال في بعض التجارات.
«768» - روي أن سعيد بن خالد بن عثمان بن عفان أتى سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، أتيتك مستعديا، قال: ومن بك؟ قال:
موسى شهوات، قال: وماله؟ قال: سمّع بي واستطال في عرضي، فقال: يا غلام عليّ بموسى شهوات، فأتي به فقال: ويلك أسمّعت به واستطلت في عرضه؟ فقال: ما فعلت يا أمير المؤمنين ولكني مدحت ابن عمه فغضب هو، قال: وكيف ذاك؟ قال: علقت جارية لم تبلغ ثمنها جدتي، فأتيته وهو صديقي فشكوت إليه ذلك، فلم أصب عنده فيه شيئا، فأتيت ابن(2/294)
عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد، فشكوت إليه ما شكوته إلى هذا، قال: تعود إليّ، فتركته ثلاثا ثم أتيته فسهّل من إذنى، فلما استقر بي المجلس قال: يا غلام قل لقيمتي هاتي وديعتي، ففتح باب بين بيتين فإذا أنا بالجارية، فقال لي: أهذه بغيتك؟ قلت: نعم فداك أبي وأمي، قال:
اجلس، ثم قال: يا غلام قل لقيمتي هاتي ظبية نفقتي، فأتي بظبية فنثرت بين يديه فإذا فيها مائة دينار ليس فيها غيرها فردت في الظبية، ثم قال: عتيدة طيبي! فأتي بها، ثم قال: ملحفة فراشي، فأتي بها، فصير ما في الظبية والعتيدة في حواشي الملحفة ثم قال: شأنك بهواك واستعن بهذا عليه؛ فقال له سليمان بن عبد الملك: فذلك حين تقول ماذا؟ فأنشده: [من الطويل]
أبا خالد أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنّني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... وإن مات لم يرض الندى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
فقال سليمان: يا غلام عليّ بسعيد بن خالد، فأتي به فقال: أحقّ ما وصفك به موسى؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال فما طوّقتك عواقب هذه الأفعال؟ قال: دين ثلاثين ألف دينار، قال: قد أمرت لك بها وبمثلها [وبمثلها] وبثلث مثلها، فحمل إليه مائة ألف دينار. قال الراوي: فلقيت سعيد بن خالد بعد ذلك فقلت له: ما فعل المال الذي وصلك به سليمان؟ قال: ما أصبحت والله أملك منه خمسين دينارا، قلت: فما اغتاله؟ قال: خلّة من صديق وفاقة من ذي رحم.
ولما أنشده موسى الشعر قال له: اتفقت أسماؤهما وأسماء آبائهما، فتخوفت أن يذهب شعري باطلا، ففرّقت بينهما بأمهاتهما، فأغضبه أن مدحت ابن(2/295)
عمه، فقال سليمان: بلى والله لقد هجوته، وما خفي عليّ ذلك، ولكن لا أجد إليك سبيلا، فاطلقه.
«769» - والبخيل لا يزال عدوا للجواد يحسده على ما آتاه الله من فضله ويحقد عليه نعمة الله عنده؛ قال الطرماح بن حكيم: [من الطويل]
لقد زادني حبّا لنفسي أنني ... بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل
وأنّى شقي باللئام ولا ترى ... شقيّا بهم إلا كريم الشمائل
«770» - قال إبراهيم بن هرمة: ما رأيت قطّ أسخى ولا أكرم من رجلين: إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وإبراهيم بن طلحة [بن عمرو] بن عبيد الله بن معمر؛ أما إبراهيم بن طلحة فأتيته فقال: أحسنوا ضيافة أبي إسحاق، فأتيت بكلّ شيء من الطعام، فأردت أن أنشده فقال: ليس هذا وقت الشعر، ثم أخرج إليّ الغلام رقعة فقال: إيت بها الوكيل، فأتيته بها فقال: إن شئت أخذت لك جميع ما كتب به، وإن شئت أعطيتك القيمة، قلت: وما أمر لي به؟ قال: مائتي شاة برعائها وأربعة أجمال وغلام جمّال، ومظلة وما يحتاج إليه، وقوتك وقوت عيالك سنة، فقلت: أعطني القيمة، فأعطاني مائتي دينار؛ وأما إبراهيم بن عبد الله فأتيته في منزله بمشاش على بئر الوليد [1] بن عثمان بن عفان، فدخل منزله ثم خرج إليّ برزمة ثياب وصرّة من دراهم ودنانير وحلي ثم قال: لا والله ما بقّينا في منزلنا ثوبا نواري به امرأة ولا حليا ولا دينارا ولا درهما.
__________
[1] الأغاني: ابن الوليد.(2/296)
771- قال أعرابي: من لم يضنّ بالحقّ عن أهله فهو الجواد.
«772» - وقال آخر: الصبر عند الجود أخو الصبر عند البأس.
«773» - قيل: كان مبدأ أمر حاتم في الجود أنه لما ترعرع جعل يخرج طعامه، فإن وجد من يأكله معه أكله، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: الحق بالابل، فخرج إليها، ووهب له جارية وفرسا وفلوها. وقيل: بل هلك أبو حاتم وهو صغير، وهذه القصة كانت مع جدّه سعد بن الحشرج، فلما أتى حاتم الابل طفق يبغي الناس فلا يجدهم، ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدا، فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الابل؟
وكان الذين بصر بهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني، وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بدّ متكلفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكنّي رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة وأردت أن يذكر كلّ واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فصار لكم الفضل عليّ، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقوموا إليها فتقسموها، ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وثلاثين بعيرا، ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وإن أبا حاتم أو جدّه سمع بما فعل، فأتاه فقال: أين(2/297)
الابل؟ فقال: يا أبت [1] طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر [2] أثنى به علينا عوضا من إبلك، فلما سمع أبوه ذلك قال: أبإبلي فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا، فخرج أبوه بأهله وترك حاتما ومعه جاريته وفرسه وفلوها، فقال يذكر تحول أبيه عنه (والشعر يدلّ على أنه جده لأنه حاتم بن عبد الله بن سعيد بن الحشرج) :
[من الطويل]
إنّي لعفّ الفقر مشترك الغنى ... وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم لمثله ... من الناس إلا كلّ ذي نيقة مثلي
وأجعل مالي دون عرضي جنّة ... لنفسي وأستغني بما كان من فضلي
وما ضرّني أن سار سعد بأهله ... وأفردني في الدار [3] ليس معي أهلي
قالوا: فبينا حاتم يوما بعد أن أنهب ماله ووهبه نائم إذ انتبه، وإذا حوله [4] نحو من مائتي بعير تجول ويحطم بعضها بعضا [5] فساقها إلى قومه فقالوا: يا حاتم أبق على نفسك، فقد رزقت مالا، ولا تعودنّ إلى ما كنت عليه من الإسراف، قال: فإنها نهبى بينكم، فانتهبت فأنشأ حاتم يقول: [من الطويل]
تداركني جدّي بسفح متالع ... فلا يأمنن ذو نومة أن يغنّما
وأقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما فقالوا له: إنا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، وقد أرسلوا إليك برسالة، قال: وما هي؟ فأنشده الأسديون شعرا لعبيد، وأنشده القيسيون شعرا للنابغة، فلما أنشدوه قالوا: إنا لنستحيي أن نسألك شيئا وإنّ لنا لحاجة، قال: وما
__________
[1] ر: يا أبه.
[2] م: بيتأ من الشعر.
[3] م: البرّ.
[4] م: إذ انتبه وحوله.
[5] م: بعضها على بعض.(2/298)
هي؟ قالوا: صاحب لنا قد أرجل، فقال حاتم: خذوا فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم، فأخذوها، وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت فاتبعته الجارية، فقال حاتم: ما لحقكم من شيء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية.
«774» - أسرت عنزة حاتما، فجعل نساء من عنزة يدارين بعيرا ليفصدنه، فضعفن عنه، فقلن: يا حاتم أفاصده أنت إن أطلقنا إحدى يديك؟ قال: نعم فأطلقن إحدى يديه فوجأ لبّته، فاستدمين منه ما شئن، ثم إنّ البعير عضد أي لوى عنقه، فقلن، ما صنعت؟ قال: هكذا فزدي، يريد فصدي، فجرت مثلا فلطمته إحداهنّ فقال: ما أنتنّ نساء عنزة بكرام ولا ذوات أحلام، وإن امرأة منهن يقال لها عاجزة أعجبت به فأطلقته ولم ينقمن [1] عليه، فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده. [من الطويل]
كذلك فصدي إن سألت مطيتي ... دم الجوف إذ كلّ الفصاد وخيم
«775» - عظم [2] على طيء موت حاتم فادعى أخوه أن يخلفه، فقالت له أمه: هيهات فشتان ما بين خلقيكما، وضعته فبقي سبعة أيام لا يرضع حتى ألقمت أحد ثديي طفلا من الجيران، وكنت أنت راضعا أحدهما وآخذا الآخر بيدك، فأنى لك؟! «776» - قال حذيفة بن اليمان: ربّ رجل فاجر في دينه، أخرق في
__________
[1] ر م والأغاني: ولم ينقموا.
[2] سقطت هذه الفقرة من ر.(2/299)
معيشته، يدخل الجنّة بسماحته.
«777» - كان جعفر بن محمد يقول: اللهم ارزقني مواساة من قتّرت عليه رزقك بما أوسعت علي من فضلك.
«778» - قيل لأنوشروان: ما الجود الذي يسع الناس كلهم؟ قال:
إرادة الخير لجميعهم، وبسط الوجه لهم.
«779» - وقيل: الكريم يكرم وإن افتقر، كالأسد يهاب وإن كان رابضا، واللئيم يهان وإن أيسر كالكلب يخسأ وإن طوّق وحلّي.
«780» - قال بعض العرب: يا بنيّ لا تزهدنّ في معروف فإن الدهر ذو صروف، كم راغب كان مرغوبا إليه، وطالب كان مطلوبا ما لديه، وكن كما قال أخو الدئل: [من الطويل]
وعدّ من الرحمن فضلا ونعمة ... عليك إذا ما جاء للخير طالب
ولا تمنعنّ ذا حاجة جاء راغبا ... فإنك لا تدري متى أنت راغب
«781» - المقنع الكندي: [من الكامل]
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل(2/300)
782- آخر مثله: [من الخفيف]
ليس جود الجواد من فضل مال ... إنّما الجود للمقلّ المواسي
«783» - قال خالد بن عبد الله القسري وهو يخطب: أيها الناس من جاد ساد [1] ، ومن بخل رذل، وإنّ اكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع من مغارسها تنمي وبأصولها تسمو، ثم قال في آخر كلامه: [من المنسرح]
قد توهم النفس في تحسّسها ... وتنكر العين في تفرسها
فعندها يستدلّ بالثمر ال ... عذب على مستطاب مغرسها
«784» - احتضر الحكم بن المطلب، وكان من الأسخياء، فأصابته غشية، فقيل: اللهم هوّن عليه فإنه كان وكان، فأفاق فقال: إن ملك الموت يقول: إني بكلّ سخيّ رفيق. وكان الحكم هذا إذا انقطع شسعه خلع النعل الأخرى [2] ومضى، فأخذ نعليه نوبيّ فسوّى الشسع، وجاءه بالنعلين في منزله، وقال: سوّيت لك الشسع، فدعا بثلاثين دينارا فدفعها إليه وقال:
ارجع بالنعلين فهما لك.
«785» - ومن الأجواد عبيد الله بن أبي بكرة، كتب إلى يزيد بن ربيعة
__________
[1] ر: من ساد جاد.
[2] م: وكان الحكم هذا انقطع شسع نعله يوما فخلع الأخرى.(2/301)
ابن مفرغ الحميري: إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي، فلعلك إن قدمت عليّ ألا تندم ولا تذم [1] رأيك، فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى قدم سجستان ممسيا، فدخل عليه وشغله بالحديث وأمر له سرا بمنزل وفرش وخدم، وجعل يطاوله حتى علم أنه قد استتم ما أمر له به، ثم صرفه إلى المنزل الذي هيّىء له، ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له: يا ابن مفرغ إنك قد تجشمت إليّ شقة بعيدة، واتسع لك الأمل فرحلت إليّ لأقضي عنك دينك وأغنيك عن الناس، وقلت: أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى بعده؟
فقال: والله ما أخطأت أيها الأمير ما كان في نفسي، فقال عبيد الله: أم والله لأفعلنّ، ولأقلّنّ لبثك عندي ولأحسننّ صلتك، وأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيف ومائة وصيفة ومائة نجيبة، وأمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة الألف، وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه ومواليه، وقال له: إن [من] خفّة السفر أن لا تهتم بخفّ ولا حافر، فكان مقامه عنده سبعة أيام، ثم ارتحل وشيعه ابن أبي بكرة أربعة فراسخ، ثم قال له: يا ابن مفرغ انه ينبغي للمودّع أن ينصرف، وللمتكلم أن يسكت، وأنا من قد عرفت، فأنفق على الأمل وعلى حسن ظنك بي ورجائك فيّ، فإذا بدا لك أن تعود فعد، والسلام.
«786» - ولزم يزيد بن مفرّغ غرماؤه بدين فقال لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير عسى أن يخرج الأشراف فيروني فيقضوا عني، فانطلقوا به، فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله بن معمر وإما طلحة الطلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا؟ قال: غرمائي هؤلاء لزموني بدين لهم عليّ، قال: وكم هو؟ قال: سبعون ألفا، قال: علي منها عشرة آلاف، ثم خرج الآخر على الأثر فسأله كما سأل صاحبه قال: هل خرج قبلي أحد؟
__________
[1] الأغاني: يذم.(2/302)
قالوا: نعم، قال: فما صنع؟ قال: ضمن عشرة آلاف، قال: فعليّ مثلها، قال: فجعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك حتى ضمنوا له أربعين ألف درهم، وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة، فلم يخرج حتى غربت الشمس، فخرج مبادرا فلم يره حتى كاد يبلغ بيته، فقيل له: إنك مررت بابن مفرغ ملزوما وقد مرّ به الأشراف فضمنوا عنه، فكرّ راجعا فوجده قاعدا فقال له: يا أبا عثمان ما يجلسك ها هنا؟
قال: غرمائي هؤلاء يلزمونني، قال: وكم ضمن عنك قال: أربعون ألفا، قال: فاستمتع بها وعليّ دينك أجمع.
«787» - قيل لم يكن رجل من ولاة بني مروان أنفس على قومه ولا أحسد لهم من الوليد بن عبد الملك، فأذن يوما للناس فدخلوا عليه، وأذن للشعراء فكان أوّل من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري، فاستأذنه في الانشاد فقال: ما بقي لي بعد ما قلت لأخي زهرة؟ قال: وما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين؟ قال: ألست الذي يقول له: [من الكامل]
يا طلح أنت أخو الندى وحليفه ... إنّ الندى من بعد طلحة ماتا
إن السماح إليك أطلق رحله ... فبحيث بتّ من المنازل باتا
أو لست الذي يقول: [من الوافر]
إذا ما جاء يومك يا ابن عوف ... فلا جادت [1] على الأرض السماء
ولا سار العزيز [2] بغنم جيش ... ولا حملت على الطهر النساء
__________
[1] الأغاني: مطرت.
[2] الأغاني: البشير.(2/303)
تساقى الناس بعدك يا ابن عوف ... ذريع الموت ليس له شفاء
ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه؟ لا والله لا أسمع منك شيئا، ولا أنفعك بنافعة أبدا، أخرجوه عنّي. فقال له القرشيون والشاميون: وما الذي أعطاك [1] حتى استخرج هذا منك؟ قال: أم والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته، ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي ولا أبقى شكرا ولا أجدر ألّا أنساه، ما عرفت الصلات، من عطيّته. قالوا: وما أعطاك؟
قال: قدمت المدينة ومعي بضيّعة لي لا تساوي عشرة دنانير أريد أن أبتاع قعودا من قعدان الصدقة، فإذا برجل بصحن السوق على طنفسة قد طرحت له، وإذا الناس حوله، وإذا بين يديه إبل معقولة، فظننت أنه عامل السوق، فسلّمت عليه فأثبتني وجهلته، فقلت له: رحمك الله، هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي؟ فقال: نعم، أو معك ثمنه؟ فقلت: نعم، فأهوى بيده إليّ فأعطيته بضيّعتي، فرفع طنفسته فألقاها تحتها، ومكث طويلا، ثم قمت إليه فقلت: أي رحمك الله انظر في حاجتي، فقال: ما منعني منك إلا النسيان، أمعك حبل؟ قلت: نعم قال: هكذا أفرجوا، فأفرجوا حتى استقبل الابل التي بين يديه، فقال: اقرن هذه وهذه [2]-، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة، أدنى بكرة فيها- ولا دنيّة فيها [3]- خير من بضاعتي ثم رفع طنفسته فقال: شأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه، فقلت: رحمك الله أتدري ما تقول؟ فما بقي عنده إلّا من نهرني وشتمني، ثم بعث معي نفرا فأطردوها حتى أطلعوها في رأس الثنية، فو الله لا أنساه ما دمت حيا أبدا.
__________
[1] الأغاني: أعطاك طلحة.
[2] زاد في الأغاني: أدنى بكرة فيها.
[3] النص مضطرب في النسخ، وأثبت ما في الأغاني.(2/304)
788- قيل: تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفرا ليسألوهم، فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم ومن هم فهو أفضلهم، فاختار كلّ واحد منهم رجلا والذين اختيروا: عمير بن السليل بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي. فأتوا ابن السليل فسألوه مائة ناقة فقال: من أنتم؟ فانصرفوا عنه، ثم أتوا طلبة فقال لهم مثل ذلك، فردّوا عليه كردّ ابن السليل، فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم.
«789» - قال محمد بن حبيب: كان للنمر بن تولب صديق، فأتاه النمر في ناس من قومه يسألونه في دية احتملوها، فلما رآهم وسألوه تبسم فقال النمر:
[من الوافر]
تبسّم ضاحكا لما رآني ... وأصحابي لدى عين التمام
فقال لهم الرجل: إن لي نفسا تأمرني أن أعطيكم ونفسا تأمرني أن لا أفعل، فقال النمر: [من البسيط]
أمّا خليلي فانّي لست معجله ... حتى يؤامر نفسيه كما زعما
نفس له من نفوس الناس صالحة ... تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما
ثم قال النمر لأصحابه: لا تسألوا أحدا فالدية كلها عليّ.
«790» - ابن الرومي: [من الطويل]
عدونا إلى ميمون نطلب حاجة ... فأوسعنا منعا وجيزا بلا مطل
فقال اعذروني إنّ بخلي جبلّة ... وإنّ يدي مخلوقة خلقة القفل
طبيعة بخل أكّدتها خليقة ... تخلّقتها خوف احتياجي إلى مثلي(2/305)
فألقى إلينا عذرة لا نردّها ... وكان ملقّى حجة اللؤم والبخل
«791» - كان رجل من البخلاء قد أفرط في البخل حتى صار مثلا، فأتى جارا له من الزهاد فجعل يشكو إليه البخل وما قد يلي به منه وأنه لا حيلة له فيه، فقال له الزاهد: لهذا القول كلام في الجواب طويل، ولكني أقول لك: إنك على ما وصفت من أنك لا تجود على نفسك بفلس غير بخيل، لأنّ البخيل يعطي ويمنع، وأنت تعطي كلّ مالك، فقال له البخيل: وكيف ذاك مع ما وصفت لك؟ قال: لأنك توفّره كلّه على من تخلّف. قال فرجع والله البخيل عن خلقه وعدّ من الأجواد.
«792» - قيل: كان أسيد بن عنقاء الفزاري من أكثر الناس مالا وأشدّهم عارضة ولسانا، فطال عمره، ونكبه دهره، واختلت حاله، فخرج عشية يتبقّل لأهله، فمرّ به عميلة الفزاريّ فسلّم عليه وقال: يا عمّ ما أصارك إلى ما أرى من حالك؟ فقال بخل مثلك بماله، وصوني وجهي عن مسألة الناس، فقال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرنّ من حالك، فرجع ابن عنقاء إلى أهله فأخبرها بما قال له عميلة، فقالت: لقد غرّك كلام غلام جنح ليل، فكأنما ألقمت فاه حجرا، فبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان السحر سمع ثغاء الشاء ورغاء الابل وصهيل الخيل ولجب الاموال، فقال: ما هذا؟
فقالوا: هذا عميلة ساق إليك ماله، قال: فاستخرج ابن عنقاء ثم قسم ماله شطرين وساهمه عليه، وأنشأ ابن عنقاء يقول: [من الطويل]
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسرّ كما جهر(2/306)
دعاني فآساني [1] ولو ضنّ لم ألم ... على حين لا بدو يرجّى ولا حضر
فقلت له خيرا وأثنيت فعله ... وأوفاك ما أبليت من ذمّ أو شكر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى رداء سابغ الذيل واتّزر
غلام رماه الله بالخير يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر
كأن الثريا علّقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرى وفي خدّه القمر
إذا قيلت العوراء أغضى [2] كأنه ... ذليل بلا ذلّ ولو شاء لانتصر
«793» - دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري فقال: أصلح الله الأمير، شيخ كبير حدته إليك بارية العظام، ومورثة الاسقام، ومطوّلة الأعوام، فذهبت أمواله، وذعذعت إباله، وتغيرت أحواله، فإن رأى الأمير أن يجبره بفضله، وينعشه بسجله، ويردّه إلى أهله، فقال: كل ذلك، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
«794» - بعث معاوية إلى عائشة بمائة ألف درهم فما قامت من مجلسها حتى وزعتها، فدخلت عليها الخادم فقالت: لو حبست لنا درهما نشتري به لحما، فقالت: هلّا ذكرتني ذلك قبل أن أفرقه.
وكانت ترقع قميصا لها، ودخل عليها المنكدر فقال: أصابتني حاجة فأعينيني، فقالت: ما عندي شيء، ولو كانت عندي عشرة آلاف درهم بعثت بها إليك، فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد
__________
[1] ع: فواساني؛ م: فأستاني.
[2] الأغاني: ولّى.(2/307)
ابن أسيد، فقالت: ما أوشك ما ابتليت ثم أرسلت بها في أثره، فدخل السوق فاشترى جارية بألفي درهم فولدت له ثلاثة كانوا عبّاد أهل المدينة:
محمد وأبو بكر وعمر.
795- جاء أسماء بن خارجة الفزاري إلى داره فوجد على بابه فتى جالسا فقال: ما يجلسك ها هنا يا فتى؟ قال: خير، فألحّ عليه فقال:
جئت سائلا إلى هذه الدار فخرجت منها جارية اختطفت قلبي، فجلست لكي تخرج ثانية، فجعل يعرضهنّ عليه حتى مرّت به فقال: هي هذه، فقال:
مكانك، فدخل ثم خرج إليه فقال: إنها لم تكن لي، كانت لبعض بناتي فابتعتها بثلاثة آلاف درهم، خذ بيدها بارك الله لك فيها.
796- شاعر: [من الطويل]
أصبت صنوف المال من كلّ وجهة ... فما نلته إلا بكفّ كريم
وإني لأرجو أن أموت وتنقضي ... حياتي وما عندي يد للئيم
«797» - قال كسرى: اجتماع المال عند الأسخياء أحد الخصبين، واجتماعه عند البخلاء أحد الجدبين.
«798» - ابن الرومي: [من المتقارب]
يقتّر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد(2/308)
«799» - دخل عبد الرحمن بن أبي عمار، وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز، على نخاس يعترض جواري له، فعلق واحدة منهن فاستهتر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه: [من البسيط]
يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له همة غيره، فبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تطيّبها وتحلّيها ففعلت، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: مالي لا أرى ابن أبي عمار؟ فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقعد، فقال له عبد الله بن جعفر: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: في اللحم والمخ والدم والعصب والعظام، قال: تعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها؟ قال: فإنا قد ضممناها إلينا، فو الله ما نظرت إليها، فأمر بها فأخرجت في الحلي والحلل، قال: أهي هذه؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي، قال: فخذ بيدها فقد جعلتها لك، أرضيت؟ قال: أي والله بأبي أنت وأمي وفوق الرضا، فقال له ابن جعفر:
لكني والله لا أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام احمل معه مائة ألف درهم كيلا يهتمّ بها وتهتمّ به، قال: فراح بها وبالمال.
«800» - قال مروان بن أبي حفصة: دخلت على الوليد بن يزيد وأنا(2/309)
غلام شاب ولي جمّة فينانة، وبيد الوليد قضيب، فجعل يشير به إلى جمتي ويقول: إنك لفينان الشعر يا ابن أبي حفصة فمن ولد سكّر أنت؟ قلت:
لا، ثم أنشد الوليد شعرا له: [من الطويل]
ألا أبلغوا أهل الحجاز رسالة [1] ... بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع
ستوشك أموال معا وزوائد ... وأعطية تأتيكم تتسرّع [2]
قال مروان: فقلت معارضا للوليد: [من الطويل]
أتت منك قطّان الحجاز رسالة ... فأنت بها واف وقولك مقنع
وعدت بها أن تكشف الضر عنهم ... وأبلغها الركبان عنك فاسرعوا
في شعر لمروان طويل؛ ثم أنشدته شعرا مضى فيه فقلت: [من البسيط]
... فقلت لهم ... ذو اللبّ يعلم أنّى تؤكل الكتف
قال: ومعن بن زائدة واقف على رأس الوليد، قال: ثم انصرفت، فقبل أن أخرج من الدار أحسست بإنسان يضرب بين كتفيّ، فالتفتّ فإذا هو معن، فقال لي: يا ذا الكتف إن سمعت بي يوما من دهر قد وقعت في شيء فأتني، قال: ثم خرجت فنسيت قول معن وضرب الدهر من ضربه، ثم حججت في خلافة المنصور، فبينا أنا أطوف في البيت إذا رجل يضرب بين كتفيّ ويقول: يا ذا الكتف، فالتفتّ إليه فلم أعرفه فقال: أنا معن بن
__________
[1] هذا الشطر روي بعدة روايات في المصادر مثل: ضمنت لكم إن لم تصابوا بمهجتي.
[2] روايته في الديوان:
سيوشك إلحاق بكم وزيادة ... وأعطية تأتي تباعا فتشفع(2/310)
زائدة، وقد وليت اليمن فالحق بي، فصرت إلى منزله فقلت: أعزّ الله الأمير، إنّ لي أبا شيخا كبيرا وأما عجوزا ولم أقدّر لقاءك في هذا الوجه فأخبرهما به فيسكنا إليه، فأذن لي في الرجوع إليهما واللحوق بك بعد ذلك، فأجابني إلى ما سألت، ونهضت من بين يديه، فلما كنت في بعض الدار تبعني غلام بكيس لا أعلمه إلا قال: خمسمائة دينار وبرد وشي فقال: يقول لك الأمير استعن بهذا على سفرك إلى أهلك ومن أهلك إلينا، فأخذتها ومضيت إلى منزلي، ثم خرجت إليه على طريق نجران فوافيته بصنعاء، فلما دخلت عليه أنشدته قصيدتي التي أقول فيها: [من الكامل]
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفا على شرف بنو شيبان
وكان على فراش فنزل عنه، وأمر لي بمال فأعطانيه، ثم أنشدته قصيدتي التي أقول فيها: [من الكامل]
مسحت ربيعة وجه معن سابقا ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
خلّى الطريق له الجياد قواصرا ... من دون غايته وهنّ كوابي
وسمت به غرّ سوابق زانها ... كرم النّجار وصحّة الأنساب
فقام من مجلسه إليّ وقبّل رأسي وأمر لي بمال فأعطانيه، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: [من الطويل]
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفّان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
لهاميم في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوّلهم في الجاهلية أوّل
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وان أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
ثلاث بأمثال الجبال حباهم ... وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل(2/311)
فأمر لي بمال أعطانيه، فقلت له: أغنيتني أغناك الله، فقال: لعن الله من يقدّر أنه قد كافأك يا ابن أبي حفصة.
«801» - وولي معن أذربيجان، فقصده قوم من أهل الكوفة فاستأذنوا، فدخل الحاجب فقال: أعزّ الله الأمير، إنّ بالباب وفدا من أهل العراق، قال: من أيّ العراقين؟ قال: من أهل الكوفة، فأذن لهم، فلما نظر إليهم وثب عن أريكته وأنشأ يقول (الشعر لعباد بن عباد المهلبي) [1] : [من الطويل]
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمّتها فالدهر بالناس قلّب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ... وأحسن مهريك الذي هو يركب
فبادر بمعروف إذا كنت قادرا ... حذار اقتدار أو غنى منك يعقب
فوثب إليه رجل من القوم فقال: أصلح الله الأمير، أنا أنشدك ما هو أحسن من هذا لابن عمك ابن هرمة، فقال: هات، فقال: [من الطويل]
وللنفس حاجات [2] تحلّ بها العرى ... وتسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه ... أقلّ إذا ضمّت [3] عليه الصفائح
لأية حال يمنع المرء ماله [4] ... غدا فغدا والموت غاد ورائح
__________
[1] الشعر ... المهلبي: سقط من ر: م: لعبادة بن عباد.
[2] الجليس: تارات.
[3] الديوان: رصت.
[4] الديوان: لأي زمان يخبأ المرء نفعه.(2/312)
قال: أحسنت والله، وإن كان الشعر لغيرك، يا غلام أعطهم أربعة آلاف، أربعة آلاف ليستعينوا بها على أمورهم إلى أن يتهيأ لنا فيهم ما نريد، قال الغلام: يا سيدي أعطيهم دنانير أو دراهم؟ قال معن: لا تكون همتك أبعد من همتي صفّرها لهم، فأعطاهم دنانير.
«802» - لم يغسل عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ثوبا قط، كلما استغسل ثوبه كساه، فكلما أراد أحد من أهله أو من غيرهم شيئا من ثيابه قال له: استغسل ثوبك، فيدفعه إليه.
«803» - جاء رجل إلى أحمد بن أبي دواد فقال: أيها القاضي مالي إليك حاجة غير أني أحبّك لعموم معروفك، ثم أنشأ يقول: [من الكامل]
مالي إلى ابن أبي دواد حاجة ... تدني إليه ولا له عندي يد
إلا يد عمّت فكنت كواحد ... ممن يعين على الثناء ويحمد
«804» - كانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لما يجلب من الأضياف بنباحه.
والضمير: الضيف الغريب، من أضمرته البلاد إذا غيبته؛ وكانوا إذا اشتد البرد وهبّت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحيّ وجعلوا لها مظالّ، وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح فتهدي الضلّال.
«805» - المتنبيّ: [من الطويل]
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا(2/313)
وللنفس أخلاق تدلّ على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
806- غزا تبع الأوس والخزرج فكان يقاتلهم نهارا ويخرجون إليه القرى ليلا.
«807» - سأل الوليد بن عقبة مروان بن الحكم، وهو على المدينة، والمغيرة ابن شعبة، وهو على الكوفة، فلم يجد عندهم طائلا، فانحدر إلى عبد الله بن عامر، وهو على البصرة، فقضى عنه دينه مائة ألف، وأجازه بمائة ألف، فقال: [من الطويل]
ألا جعل الله المغيرة وابنه ... ومروان نعلي بذلة لابن عامر
لكي يقياه الحرّ والقرّ والأذى ... ولسع الأفاعي واحتدام الهواجر [1]
«808» - قال يوسف بن محمد مولى آل عثمان: بعثني عبد الرحمن بن قطن المخزوميّ إلى حمزة بن عبد الله بن الزبير يستسلفه ألف دينار، فدخلت عليه، فأمر بنجيبة له مريء [2] ، فحلبت في عسّ وطرح فيه طبرزد فشرب وسقاني، ودعا بالألف فأعطانيه، فلم يلبث عبد الرحمن إلا يسيرا أن بعثني بالألف إليه، فدخلت عليه، فحلبت النجيبة وسقيت لبنها مع الطبرزد، وقسم الألف نصفين وقال: خذ خمسمائة وأعطه خمسمائة وقل له: إنا قوم لا نعود فيما خرج منّا.
__________
[1] جاء في ع بعد هذا: تم الجزء الثالث من كتاب التذكرة يتلوه في الرابع إن شاء الله تعالى: قال يوسف بن محمد [مولى] آل عثمان؛ حسبنا الله ونعم الوكيل، بسم الله الرحمن الرحيم وبه أثق. وقد سقط هذا كله من ر م.
[2] مريء: سقطت من م.(2/314)
«809» - مرّ محمد بن واسع بأسود عند حائط يحفظه، وبين يديه كلب يأكل لقمة ويطعمه لقمة، فقال له: إنك تضرّ [1] بنفسك، فقال: يا شيخ عينه بحذاء عيني، أستحيي أن آكل ولا أطعمه، فاستحسن ذلك منه فاشتراه واشترى الحائط وأعتقه ووهب له الحائط، فقال: إن كان لي فهو في سبيل الله، فاستعظم ذلك منه فقال: يجود هو وأبخل أنا؟ لا كان هذا أبدا.
«810» - وقف أعرابيّ على محمد بن معمر، وكان سخيا، فسأله فخلع خاتمه وأعطاه وقال له: لا تخدعنّ عن هذا الفصّ فانه قام علي بمائة دينار، فهشم الأعرابيّ الخاتم وقلع فصّه وقال: دونكه، فالفضّة تكفيني أياما فقال:
هذا والله أجود مني.
«811» - قدم نهيك بن مالك القشيريّ الملقب بمنهب الورق مكة بعير عليها طعام ومتاع فأنهبه، وقد أنهب ماله بعكاظ ثلاث مرات، فعاتبه خاله فقال: [من البسيط]
يا خال ذرني ومالي ما فعلت به ... وخذ نصيبك منّي إنني مودي
إن نهيكا أبى إلّا خلائقه ... حتى تبيد جبال الحرة السود
فلن أطيعك إلا أن تخلّدني ... فانظر بكيدك هل تسطيع تخليدي
الحمد لا يشترى إلّا له ثمن ... ولن أعيش بمال غير محمود
«812» - لقي سليمان بن المغيرة شعبة فشكا إليه الحاجة، وكان راكب
__________
[1] م: بصير.(2/315)
حمار فقال: والله ما أملك من الدنيا إلا هذا الحمار، فنزل عنه ودفعه إليه.
«813» - دخل طلحة بن عبد الله بن عوف سوق الظّهر يوما فوافق فيه الفرزدق، فقال: يا أبا فراس، اختر عشرا من الابل، ففعل، فقال: ضمّ إليها مثلها، فلم يزل يقول ذلك حتى بلغت مائة فقال: هي لك، فقال:
[من الكامل]
يا طلح أنت أخو الندى وعقيده ... إنّ الندى إن مات طلحة ماتا
إن الندى ألقى إليك رحاله ... فبحيث بتّ من المنازل باتا
«814» - وقدم الفرزدق المدينة فتلقاه من نعى إليه طلحة فقال: بفيك التراب والحجر، ودخل من رأس الثنيّة يولول ويقول: يا أهل المدينة أنتم أذلّ قوم في الأرض، غلبكم الموت على طلحة.
«815» - وخرج طلحة ومع غلامه سبعة آلاف درهم، فقال له أعرابي: أعنّي على الدهر، فقال لغلامه: انثرها في حجر الأعرابي، فذهب يقلّها فعجز عنها فبكى، فقال: لعلك استقللتها، فقال: لا والله، ولكن تفكرت فيما تأكل الأرض من كرمك فبكيت.
«816» - وفد أبو عطاء السنديّ على نصر بن سيار بخراسان مع رفيقين له، فأنزله وأحسن إليه وقال: ما عندك يا أبا عطاء؟ قال: وما عسى أن أقول وأنت أشعر العرب؟ غير أني قلت بيتين، قال: هاتهما، فقال: [من البسيط](2/316)
يا طالب الجود إما كنت طالبه ... فاطلب على نأيه نصر بن سيّار
الواهب الخيل تعدو في أعنّتها ... مع القيان وفيها ألف دينار
فأعطاه ألف دينار ووصائف ووصفاء، وحمله وكساه، فقسم ذلك بين رفيقيه ولم يأخذ منه شيئا، فبلغه ما فعل فقال: ماله قاتله الله من سنديّ فما أضخم قدره!! ثم أمر له بمثله.
«817» - خرج الحسنان وعبد الله بن جعفر وأبو حبّة الأنصاريّ من مكة إلى المدينة، فأصابتهم السماء فلجأوا إلى خباء أعرابي، فأقاموا عنده ثلاثا حتى سكنت السماء، وذبح لهم، فلما ارتحلوا قال له عبد الله: إن قدمت المدينة فسل عنّا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد أنسيت أسماءهم، قالت: سل عن ابن الطيار، فأتاه فقال: الق سيدنا الحسن، فلقيه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعائها، ثم أتى الحسين فقال: كفانا أبو محمد مؤونة الابل، فأمر له بألف شاة، ثم أتى عبد الله بن جعفر فقال: كفاني أخواي الابل والشاء، فأمر له بمائة ألف درهم، ثم أتى أبا حبّة فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن جئني بإبلك، فأوقرها له تمرا، فلم يزل اليسار في أعقاب الأعرابيّ.
«818» - قال المأمون لمحمد بن عباد: بلغني أنّ فيك سرفا، قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فأمر له بمائة ألف درهم وقال:(2/317)
أنا مادتك، والله مادتي، فأنفق ولا تبخل.
«819» - بخلاء العرب أربعة: الحطيئة وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان.
«820» - أما الحطيئة فمرّ به ابن الحمامة وهو جالس بفناء بيته فقال:
السلام عليكم، فقال: قلت ما لا ينكر، فقال: إني خرجت من أهلي بغير زاد، فقال: ما ضمنت لأهلك قراك، قال: فتأذن لي أن آتي ظلّ بيتك فأتفيأ به؟ فقال: دونك الجبل يفىء عليك، قال: أنا ابن الحمامة، قال:
انصرف وكن ابن أيّ طائر شئت.
«821» - وأتاه رجل وهو في غنم له فقال: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا وقال: إنها عجراء من سلم، فقال: إني ضيف، قال:
لكعاب الضيفان أعددتها، فانصرف عنه.
«822» - وأما حميد الأرقط فكان هجاء للضيفان فحّاشا عليهم، فنزل به ضيف ذات ليلة فقال لامرأته: نزل بك البلاء فقومي وأعدّي لنا شيئا، فجعل الضيف يأكل متنفّجا ويقول: ما فعل الحجاج بالناس؟ فلما فرغ قال حميد: [من الطويل](2/318)
يحرّ على الأطناب من جذل بيتنا ... هجفّ [1] لمخزون التحية باذل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى [2] ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت لعمري ما لهذا أتيتنا [3] ... فكل ودع الأخبار [4] ما أنت آكل
تدبّل [5] كفّاه ويحدر حلقه ... إلى الصدر ما حازت عليه الأنامل
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتى كأنّه ... من العيّ لما أن تكلّم باقل
«823» - ونزل به أضياف فأطعمهم تمرا وهجاهم وادّعى عليهم أنهم أكلوه بنواه فقال: [من البسيط]
باتوا وجلّتنا الشهريز حولهم ... كأنّ أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنّوى ملقى معرّسهم ... وليس كلّ النوى ألقى المساكين
«824» - وأما أبو الأسود فعمل دكانا عاليا يجلس عليه، فكان ربما أكل عليه فلا يناله المجتاز، فمر به أعرابيّ على جمل، فعرض عليه أن يأكل معه، وظنّ أنه لا يناله، فأناخ الاعرابيّ بعيره حتى وازى الدكان وأكل معه، فلم يجلس بعدها عليه.
825- وتصدق على سائل بتمرة، فقال له السائل: جعل الله نصيبك
__________
[1] الهجف: الطويل الضخم.
[2] البكري: مراسي مقعد.
[3] البكري: طرقتنا.
[4] البكري: التسآل.
[5] يدبل: يعظم اللقمة.(2/319)
من الجنة مثلها.
«826» - وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالا منهم.
«827» - وأما خالد بن صفوان فكان إذا أخذ جائزته قال للدرهم: والله لطالما سرت في البلاد، أما والله لأطيلنّ ضجعتك ولأديمن صرعتك.
«828» - وقيل لخالد: مالك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر اعرض منه؛ قيل له: كأنك تأمل أن تعيش الدهر كله، قال: ولا أخاف أن اموت في أوله.
«829» - وأحيحة بن الجلاح ممن كان يبخّل، وكان إذا هبّت الصّبا طلع من أطمه فنظر إلى ناحية هبوبها ثم يقول: هبّي هبوبك، فقد أعددت لك ثلاثمائة وستين صاعا من عجوة أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات فيردّ علي ثلاثا لصلابتها بعد جهد، ما يلوك منها اثنتين.
«830» - وتضرب العرب بمادر المثل [1] في اللؤم تقول: هو ألام من
__________
[1] م: ويضرب المثل بمادر ...(2/320)
مادر، يزعمون أنه بنى حوضا وسقى إبله، فلما أصدرها سلح في الحوض لئلا يسقي غيره فيه.
«831» - وكان عمر بن يزيد الأسدي مبخّلا جدا، فأصابه القولنج، فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحلّ ما في بطنه في الطّست، فقال للغلام: ما تصنع به؟ قال: أصبّه، قال: لا ولكن ميّز الدهن منه واستصبح به.
«832» وجاءه الحكم بن عبدل الأسدي ومعه جماعة من قومه يسألونه حاجة، فدخلوا إليه وهو يأكل تمرا، فلم يدعهم إليه، وذكروا حاجتهم فلم يقضها، فقال فيه ابن عبدل. [من البسيط]
جئنا وبين يديه التمر في طبق ... فما دعانا أبو حفص ولا كادا
علا على جسمه ثوبان من دنس ... لؤم وكفر ولولا أيره سادا
قال ذلك لأن أباه وجده مع أمة له فكان يعيّر بذلك.
«833» كان الحكم بن أيوب من ولد أبي عقيل الثقفي بخيلا، وكان عاملا على البصرة، فاستعمل رجلا من بني مازن يقال له جرير بن بيهس، ولقبه العطرّق، على العرق، [فخرج الحكم يتنزّه وهو باليمامة] فأتي بغدائه، فدعا العطرق فتغدّى معه، وجاءوا بدراجة فتناول العطرق فخذها فانتزعها، فعزله الحكم واستعمل مكانه نويرة بن شقيق أحد بني حارثة بن حرقوص، فقال نويرة: [من البسيط]
قد كان بالعرق صيد لو قنعت به ... فيه غنى لك عن درّاجة الحكم(2/321)
وفي عوارض ما تنفكّ آكلها ... لو كان يشفيك لحم الجزر من قرم
وفي وطاب مملّاة متمّمة ... فيها الصريح الذي يشفي من السقم
ثم استعمل الحكم مكانه رجلا من بني ضبة يقال له المحلق، فقال نويرة للحكم: [من الطويل]
أبا يوسف لو كنت تعرف طاعتي ... ونصحي إذن ما بعتني بالمحلّق
ولا اعتلّ سرّاق العراقة صالح ... عليّ ولا كلّفت ذنب العطرق
صالح بن كدير المازني كان على استخراج الحجاج فدفع إليه رجلا ليستخرج منه مالا فدفنه حيا فلقّبه الحجاج «قفل الأمانة» .
«834» - قال أنو شروان لأصحابه: أيّ شيء أضرّ على الإنسان؟
قالوا: الفقر، قال: الشحّ أضرّ منه، لأنّ الفقير إذا وجد اتسع، والشحيح لا يتّسع وإن وجد.
«835» - وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: البخل جامع لمساوىء العيوب، وهو زمام يقاد به إلى كلّ سوء.
«836» - قيل لحبّى المدنية: ما السّقم الذي لا يبرأ والجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم الذي [1] لا يجدي عليه.
__________
[1] الذي: سقطت من ر.(2/322)
«837» - قيل لجعفر بن محمد: إن أبا جعفر المنصور لا يلبس مذ صارت إليه الخلافة إلا الخشن، ولا يأكل إلا الجشب، فقال: ولم يا ويحه مع ما قد مكّن الله له من السلطان وجبى إليه من الأموال؟ فقيل له: إنما يفعل ذلك بخلا وجمعا للمال فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك له دينه [1] .
«838» - وكان المنصور شديد البخل، حدا به سلم الحادي في طريقه إلى الحجّ، فحدا يوما بقول الشاعر: [من الرجز]
أغر بين حاجبيه نوره ... يزينه حياؤه وخيره
ومسكه يشوبه كافوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال: يا ربيع، أعطه نصف درهم، فقال سلم: نصف درهم يا أمير المؤمنين؟ والله لقد حدوت بهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فقال المنصور: ما كان له أن يعطيك ثلاثين ألف درهم من بيت مال المسلمين، يا ربيع وكلّ به من يستخرج منه هذا المال، فقال الربيع: فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه وقفوله بغير مؤونة.
«839» - كان الحارثي يقول: الوحدة خير من جليس السوء، وأكيل السوء شر من جليس السوء، لأن كلّ أكيل جليس وليس كلّ جليس أكيلا.
__________
[1] سقطت الفقرات 837- 843 من النسخة ر.(2/323)
«840» - وكان لسوار القاضي كاتبان، رزق أحدهما أربعون درهما والآخر عشرون درهما، فكتب إلى المنصور يسأله أن يلحق صاحب العشرين بالأربعين فأجابه بأن يحطّ من الأربعين عشرة ويزيدها صاحب العشرين حتى يعتدلا.
«841» - وكان عبد الملك بن مروان بخيلا فقال يوما لكثّير: أيّ الشعر أفضل؟ قال: أفضله قول المقنّع: [من البسيط]
إنّي أحرّض أهل البخل كلّهم ... لو كان ينفع أهل البخل تحريضي
يعرّض ببخله، فقال عبد الملك وعرف ما أراد: الله أصدق من المقنّع حيث يقول: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً
(الفرقان: 67) .
«842» - قال العبّاس بن المأمون لغلامه: إني رأيت [في] الرصافة نقلا حسنا، فاشتر لي منه بنصف درهم [فقال المأمون: أما وقد عرفت للدرهم] نصفا فو الله لا أفلحت أبدا.
«843» .- (1) قال أبو الشمقمق: [من الوافر]
طعامك في السحاب إذا التقينا ... وخبزك عند منقطع التراب
وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
(2) وقال أيضا في سعيد بن سلم: [من الكامل](2/324)
هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد
تالله لو ملك البحور بأسرها ... وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها شربة لطهوره ... لأبي وقال تيممن بصعيد
«844» - وقال آخر: [من الوافر]
فتى لرغيفه شنف وقرط ... ومرسلتان من خرز وشذر
ودون رغيفه لمس الثريا ... ويوم مثل وقعة يوم بدر
وإن ذكر [1] الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
«845» - آخر: [من البسيط]
وأبغض الضيف ما بي جلّ مأكله ... لكن تنفّجه حولي إذا قعدا
ما زال ينفض جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعلّ الضيف قد ولدا
«846» - آخر: [من الطويل]
وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود
847- آخر: [من الطويل]
إذا المرء أثرى ثم قال لقومه ... أنا السيّد المفضى إليه المعمّم
__________
[1] ر: إذا كسر.(2/325)
ولم يعطهم شيئا أبوا أن يسودهم ... وهان عليهم رغمه وهو ألوم
«848» - آخر: [من الطويل]
إذا كنت جماعا لمالك ممسكا ... فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموما إلى غير حامد ... فيأكله عفوا وأنت دفين
«849» - وقال الرضي الموسوي: [من البسيط]
واجعل يديك مجاز المال تحظ به ... إنّ الأشحّاء للورّاث خزّان
85»
- روي أنه افتقر رجل من الصيارفة بإلحاج الناس في أخذ أموالهم التي كانت عليه، وتعذّر أمواله التي له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يصيروا معه إلى رجل من قريش كان موسرا من أولاد أجوادهم ليسدّ من خلته، فصاروا إليه فجلسوا في الصحن، فخرج إليهم يخطر بقضيب في يده، حتى ثنى وساده فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلّة صاحبهم مع قديم نعمته وقرب جواره، فخطر بالقضيب ثم قال متمثلا: [من الطويل]
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توامقه(2/326)
بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... ولم يفتلذك المال إلا حقائقه
ثم أقبل على القوم وقال: إنّا والله ما نجمد عن الحقّ ولا نتدفّق في الباطل، وان لنا لحقوقا تشغل فضول أموالنا، وما كلّ من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا يرحمكم الله، قال: فابتدر القوم الأبواب.
قوله: يفتلذك يقول: يقطع منك، يقال: فلذ له أي قطع له.
«851» - قال الجاحظ: يقول المروزي لزائره إذا أطال عنده: تغديت اليوم؟ فان قال: نعم، قال: لولا أنك تغديت لغديتك بطعام طيّب، فإن قال: لا قال: لو كنت تغديت لسقيتك خمسة أقداح، فلا يكون في يده على هذين الوجهين قليل ولا كثير.
«852» - كان أبو العتاهية ومروان بن أبي حفصة بخيلين يضرب بهما المثل، ويحسن فيهما قول أحمد بن أبي فنن: [من الطويل]
وإن أحقّ الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وكان سلم الخاسر سمحا، فكان يأتي باب المهديّ وعليه الثياب الجميلة، ورائحة الطيب تفوح منه، وتحته برذون فاره، وكان مروان يأتي وعليه فرو كبل منتن الرائحة، وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه، فإذا همّ بأكله اشترى رأسا، فقيل له في ذلك فقال: أعرف سعره فآمن خيانة الغلام فيه، وآكل منه ألوانا، آكل من غلصمته لونا، ومن عينيه لونا، ومن دماغه لونا.
«853» - وقال مروان: ما فرحت بشيء قطّ فرحي بمائة ألف درهم(2/327)
وهبها إليّ المهدي فوزنتها فزادت درهما فاشتريت به لحما.
«854» - واشترى لحما بدرهم فلما وضعه في القدر وكاد أن ينضج دعاه صديق له، فردّه على القصّاب بنقصان دانق، فشكّه القصّاب وجعل ينادي:
هذا لحم مروان، وظنّ أنه يأنف لذلك، فبلغ الرشيد فقال: ويلك ما هذا؟
قال: أكره الإسراف.
«855» - ولما قال أبو العتاهية: [من الوافر]
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى زوال
قال سلم: ويلي على الجرّار ابن الفاعلة قد كنز الكنوز لا ينفق منها وينسبني إلى الحرص، ولا أملك غير ثوبيّ هذين؟! «856» - واجتاز مروان بامرأة من العرب فأضافته، فقال لها: عليّ إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم أن أهب لك درهما فأعطاه سبعين ألفا فأعطاها أربعة دوانيق.
«857» - قال ثمامة بن أشرس: أنشدني أبو العتاهية: [من الطويل]
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه ... تملّكه المال الذي هو مالكه
إلا إنما مالي الذي أنا منفق ... وليس لي المال الذي أنا تاركه(2/328)
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي ... يحقّ وإلا استهلكته مهالكه
فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت؛ فقلت له: هذا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، قلت: فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك لا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكّي ولا تقدّمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إنّ ما قلت لهو الحقّ ولكنّي أخاف الفقر والحاجة إلى الناس، قلت: وبماذا يزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟ فترك جوابي كلّه ثم قال لي: والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم، فأضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه، وعلمت أنه ممن لم يشرح الله صدره للإسلام.
«858» - وقال له بعض إخوانه: أتزكّي مالك؟ فقال: والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي، فقال: سبحان الله، إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال لي: لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم.
859- وقيل له: مالك تبخل بما رزقك الله تعالى؟ فقال: والله ما بخلت بما رزقني الله قطّ، قيل له، وكيف ذلك، وفي بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال: ليس ذلك رزقي، ولو كان رزقي أنفقته.
«860» - حدّث ذارع من أهل البصرة قال: دعاني خالد بن صفوان(2/329)
فقسمت له مالا وأقمت حسابه، فلما كان عند الظهر دعا بالغداء فجاءوه بدجاجة، وجاءوني بزيتون وبصل، فقال لي: تشتهي أن تأكل من هذه الدجاجة؟ قلت: وما عليك لو أكلت منها؟ قال: إذن كنت أنا وأنت في مالي سواء، فما ينفعني مالي.
861- وقد قال بخيل آخر في مثل ذلك: إذا أكلت كما آكل فأين فضل المالك؟
«862» - عمل سهل بن هارون كتابا مدح فيه البخل وأهداه إلى الحسن ابن سهل، فوقّع على ظهره: قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه.
«863» - قال أبو نواس [1] ، قلت لبخيل: لم تأكل وحدك؟ فقال:
ليس في هذا سؤال، إنّما السؤال على من أكل مع الجماعة لأنّ ذاك تكلّف وهذا هو الأصل.
«864» - قال الكندي: من ذلّ البذل أنك [2] تقول نعم مطأطئا رأسك، ومن عزّ المنع أنك [3] تقول: لا، رافعا رأسك.
«865» - دخل هشام بن عبد الملك حائطا له وفيه أشجار فاكهة، ومعه
__________
[1] م: أنوشروان.
[2] م: أن.
[3] م: أن.(2/330)
أصحابه، فجعلوا يأكلون منه ويدعون بالبركات، فقال هشام: كيف يبارك فيه وأنتم تأكلون؟ ثم قال: يا غلام، اقلع هذا واغرس مكانه الزيتون.
«866» - قال صعصعة: أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيبا قيل:
وكيف ذاك؟ قال: كنت آكل معه فهيأ لقمة ليأكلها وأغفلها فأخذتها، فسمعته بعد ذلك يقول في خطبته: أيها الناس، أجملوا في الطلب فربّ رافع لقمة إلى فيه تناولها غيره.
«867» - أصاب أعرابيّ درهما في كناسة الكوفة [1] فقال: أبشر أيها الدرهم وقرّ قرارك، فطالما خيض فيك الغمار، وقطعت فيك الأسفار، وتعرّض فيك للنار.
«868» - وكان بعض البخلاء إذا صار الدرهم في يده خاطبه وناجاه وفدّاه واستبطأه وقال: بأبي أنت وأمي، كم من أرض قطعت، وكيس خرمت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع [2] أخملت، لك عندي ألا تعرى ولا تضحى، ثم يلقيه في كيسه ويقول: اسكن على اسم الله في مكان لا تزول عنه ولا تزعج منه.
«869» - وقال محمد بن أبي المعافى [3] : كان أبي متنحّيا [4] عن المدينة.
__________
[1] م: في الكوفة.
[2] م: وكم من رفيع.
[3] : ابن المعافى.
[4] م: متناحيا.(2/331)
وكانت إلى جنبه مزرعة فيها قثّاء، وكنت صبيّا قد ترعرعت، فجاءني صبيان من جيراننا أقران لي، وكلمت أبي ليهب لي درهما أشتري به قثاء، فقال لي:
أتعرف حال الدرهم؟ كان في حجر في جبل فضرب بالمعاول حتى استخرج ثم طحن ثم أدخل القدور وصبّ عليه الماء وجمع بالزئبق ثم أدخل النار فسبك ثم أخرج فضرب، وكتب في أحد شقيه لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وفي الآخر محمد رسول الله، ثم صيّر إلى أمير المؤمنين فأمر بادخاله بيت ماله، ووكّل به عوج القلانس صهب السبال ثم وهب [1] لجارية حسناء جميلة، وأنت والله أقبح من قرد، أو رزقه رجلا شجاعا وأنت والله أجبن من صفرد، فهل ينبغي لك أن تمسّ الدرهم إلا بثوب؟! «870» - أهل مرو موصوفون بالبخل، ومن عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم ويشدّها في خيط، ويجمعون اللحم كلّه في قدر، ويمسك كلّ واحد منهم طرف خيطه، فإذا نضجت القدر جرّ كلّ واحد خيطه وتفرّد بأكل ما فيه، وتساعدوا على المرقة.
«871» - وحكي عنهم أنهم تخارجوا ثمن [2] بزر للسراج [3] ، وانفرد أحدهم فلم يوافقهم، فشدوا عينه لئلا يرى ضوء السراج.
872- ومن طريف [4] أمورهم أنهم يستعملون الخادم في ستة أعمال في وقت واحد: تحمل الصبيّ وتشدّ البربند في صدرها [5] فتدور وتطحن، وفي
__________
[1] م: وهبه.
[2] ثمن: سقطت من ر.
[3] م: بزر السراج.
[4] م: ظرائف.
[5] م: وسطها.(2/332)
ظهرها سقاء تمخضه باختلافها وحركتها، وتدوس طعاما قد ألقي تحت رجليها، وتلقي الحنطة في الرحى، وتطرد العصافير عن طعام قد وكلت به.
«873» - قال العتبيّ: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لا ستنقص شيئا.
«874» - وسأله متكفّف فقال: لا أرضى لك ما يحضرني، فقال السائل: أنا أرضى به، فقال الأصمعي: بورك فيك.
«875» - أكل أعرابيّ مع أبي الأسود رطبا فأكثر، ومدّ أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها، فسبقه الأعرابيّ إليها وأخذها، فسقطت في التراب فأخذها وجعل يمسحها ويقول: لا أدعها للشيطان، فقال أبو الأسود: ولا لجبريل وميكائيل لو نزلا.
«876» - وسأله رجل شيئا فمنعه فقال له: يا أبا الأسود، ما أصبحت حاتميا، فقال: بل أصبحت حاتميا، أما سمعت حاتما يقول: [من الطويل]
أماويّ إمّا مانع فمبيّن ... وإما عطاء لا ينهنهه الزّجر
«877» - ودخل أبو الأسود السوق [يشتري ثوبا] فقال له رجل: ادن أقاربك [في هذا الثوب] قال له: إن لم تقاربني أنت باعدتك أنا [بكم(2/333)
[هو] ، قال: طلب بكذا قال أبو الأسود: أراك تحدّث بخير قد فاتك.
«878» - سمع أبو الأسود رجلا يقول: من يعشيّ الجائع؟ فعشّاه ثم ذهب السائل ليخرج، فقال: هيهات، عليّ أن لا تؤذي المسلمين الليلة، فوضع رجله في الأدهم وقال: لا تروّع مسلما سائر الليلة.
«879» - ووقف على بابه سائل وهو يأكل فقال: السلام عليكم، قال: كلمة مقولة، قال: أدخل؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت رجليّ، قال: بل عليهما؛ وأغلق دونه الباب [1] .
«880» - وقف أعرابيّ على أبي الأسود وهو يتغدى فسلّم فردّ عليه، ثم أقبل على الأكل ولم يعرض عليه، فقال له الأعرابي: أما إني قد مررت بأهلك، قال: كان ذلك طريقك، قال: هم صالحون، قال: كذلك هم، قال: وأمرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدي بها، قال:
وولدت، قال: ما كان بدّ لها أن تلد، قال: ولدت غلامين، قال: كذاك كانت أمها، قال: مات أحدهما قال: ما كانت تقوى على رضاع اثنين، قال: ثم مات الآخر، قال: ما كان ليبقى بعد أخيه، قال: وماتت الأمّ، قال: حزنا على ولدها، قال: ما أطيب طعامك!! قال: ذاك حداني على أكله، قال: أفّ لك ما ألأمك، قال: من شاء سبّ صاحبه.
__________
[1] م: الباب دونه.(2/334)
«881» - كان الثوري يقول لعياله: لا تلقوا نوى التمر والرطب وتعوّدوا ابتلاعه فإن النوى يعقد الشحم في البطن، ويدفىء الكليتين، واعتبروا ذلك ببطون الصفايا وجميع ما يعتلف النوى، والله لو حملتم أنفسكم على قضم الشعير واعتلاف القتّ لوجدتموها سريعة القبول فقد يأكل الناس القتّ قداحا والشعير فريكا ونوى البسر الأخضر والعجوة، وأنا أقدر أن أبيع النوى وأعلفه الشاء، ولكن أقول هذا بالنظر لكم.
«882» - وكان يقول لهم: كلوا الباقلاء بقشوره فإن الباقلاء يقول: من أكلني ولم يأكل قشوري فأنا آكله، فما حاجتكم إلى أن تصيروا طعاما لطعامكم وأكلا لما جعل أكلا لكم.
«883» - قال الجاحظ: كنا نسمع باللئيم الراضع، وهو الذي يرضع الخلف لئلا يسمع صوت الحلب أو يضيّع من الشخب شيئا، ثم رأيت أبا سعيد المدائني قد صنع أعظم من ذلك، اصطبغ من دنّ خلّ حتى فني وهو قائم ولم يخرج منه شيئا.
«884» - كان الكندي [1] لا يزال يقول للساكن من سكانه والمجاور له:
إنّ في داري امرأة بها حمل، والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة فإذا طبختم فردّوا شهوتها بغرفة أو قطعة فإن النفس يردّها اليسير، وإن لم تفعل ذلك فأسقطت فعليك غرة: عبد أو أمة.
__________
[1] ع م: المنذر.(2/335)
«885» - دعبل [1] : [الكامل المجزوء]
استبق ودّ أبي المقا ... تل حين تأكل من طعامه
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
وتراه من خوف النزي ... ل به يروّع في منامه
«886» - ذكر أعرابيّ قوما فقال: ألقوا من الصلاة الأذان، لئلا تسمعه الآذان [2] ، فتدلّ عليهم الضيفان.
«887» - قال الأصمعي: سمعت بيتين لم أحفل بهما، ثم قلت هما على حال خير من وضعهما من الكتاب، فإني عند الرشيد يوما وعنده عيسى بن جعفر، فأقبل على مسرور الكبير [3] فقال: يا مسرور [4] كم في بيت مال السرور؟
فقال: ما فيه شيء، قال عيسى: هذا بيت مال الحزن، فاغتمّ لذلك الرشيد وأقبل على عيسى وقال: والله لتعطين الأصمعيّ سلفا على بيت مال السرور ألف دينار، فوجم عيسى وانكسر، فقلت في نفسي: جاء موقع البيتين، وأنشدت الرشيد: [من الطويل]
إذا شئت أن تلقى أخاك معبسا ... وجدّاه في الماضين كعب وحاتم
فكشّفه عما في يديه فإنما ... تكشّف أخبار الرجال الدراهم
قال: فتجلّى عن الرشيد وقال: يا مسرور، أعطه على بيت مال السرور
__________
[1] م: وأنشد دعبل.
[2] م: الأذن.
[3] الكبير: زيادة من ر.
[4] يا مسرور: سقطت من ع.(2/336)
ألفي دينار فأخذت بالبيتين ألفي دينار وما كانا يساويان عندي در همين.
«888» - كان المغيرة بن شعبة من المدمنين للشراب، فقال لصاحب له يوم خيبر [1] قد قرمت إلى الشراب، ومعي درهمان زائفان، فأعطني زكرتين، فأعطاه فصب في إحداهما ماء وأتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين، فكال في زكرته فأعطاه الدرهمين فردّهما، وقال هما زائفان، فقال: ارتجع ما اعطيتني فكاله وأخذه، وبقيت بقية في الزكرة بقدر الماء فصبّها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار أتاه حتى ملأ زكرته، ورجع ومعه درهمان.
«889» - كان إبراهيم بن علي بن هرمة- جدّه هرمة [2]- دعيّا في الخلج، والخلج أدعياء في قريش، فكان يقول: أنا ألأم العرب، دعيّ أدعياء؛ وأراد الحارث بن فهر نفيه فقال: [من الطويل]
أحار بن فهر كيف تطّرحونني ... وجاني العدى من غيركم يبتغي نصري
فصار من ولد فهر في ساعته.
«890» - قال [عبد الله بن أبي] عبيدة [3] بن محمد بن عمار بن ياسر:
زرت عبد الله بن حسن [4] بباديته وزاره ابن هرمة، فجاءه رجل من أسلم، فقال ابن هرمة لعبد الله بن حسن: أصلحك الله، سل الأسلميّ أن يأذن لي أن أخبرك خبري وخبره، فقال له عبد الله: إيذن له، فأذن له الأسلميّ،
__________
[1] م: لصاحب له خبير (وقوله: يوم خبير محير حقا) .
[2] جده هرمة: زيادة من ر.
[3] ر ع م: قال أبو عبيدة.
[4] بن حسن بن حسين؛ م: بن حسن بن حسن.(2/337)
فقال له ابن هرمة: إني خرجت أصلحك الله أبغي ذودا فأوحشت وضفت هذا الأسلميّ، فذبح لي شاة وخبز لي خبزا وأكرمني، ثم غدوت من عنده فأقمت ما شاء الله، ثم خرجت أيضا في بغاء ذود لي فأوحشت، فقلت: لو ضفت هذا الأسلمي، فملت إليه فجاءني بلبن وتمر، ثم خرجت بعد ذلك فقلت لو ضفت الأسلمي فاللبن والتمر خير من الطوى، فضفته فجاءني بلبن حامض، فقال: قد أجبته أصلحك الله إلى ما سأل، فسله أن يأذن لي أن أخبرك لم فعلت ذلك. فقال: إيذن له، فأذن له، فقال الأسلميّ: ضافني فسألت من هو، فقال: رجل من قريش، فذبحت له الشاة التي ذكر، والله لو كان لي غيرها لذبحت له حين ذكر أنه من قريش، ثم غدا من عندي وغدا الحيّ فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ فقلت: رجل من قريش، فقالوا: ليس من قريش ولكنه دعيّ فيها، ثم ضافني الثانية على أنه دعيّ في قريش فجئته بلبن وتمر، وقلت: دعيّ من قريش خير من غيره، ثم غدا من عندي وغدا الحيّ فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ فقلت ذلك الرجل الذي زعمتم أنه دعيّ من قريش، فقالوا: لا والله ما هو دعيّ قريش، ولكنه دعيّ أدعياء قريش، فقريته الثالثة لبنا حامضا، وو الله لو كان عندي شرّ منه لقريته إياه.
قال: فانخزل ابن هرمة، وضحك عبد الله وضحكنا معه.
891- وقيل: كان سليم [1] بن سلام من أبخل الناس، قال أبو الحواجب [2] الأنصاري: قال لي سليم يوما: امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه، ووافياني مع الظهر، فجئناه فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا ولم يطعمنا شيئا، فغمز موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا وأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل، فلما رآنا سليم غضب وخاصمنا وقال:
أهكذا يفعل الناس؟ تأكلون ولا تطعموني؟ وجلس معنا يأكل أكل واحد منّا
__________
[1] م: سلم (في هذا الموضع) .
[2] م: أبو الحاجب.(2/338)
حتى فني الخبز والبيض.
«892» - وقد أشار جماعة من شعراء العرب إلى الحثّ على البخل بطريق الارشاد والتبصير (1) فمن ذلك قول المتلمس الضّبعيّ: [من الوافر]
لحفظ المال خير من بغاه ... وسير في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
(2) وقول الشماخ: [من الوافر]
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفّ من القنوع
(3) وقول أبي قيس بن الأسلت: [من الوافر]
بنيّ متى هلكت وأنت حيّ ... فلا ترحم فواضلك العديما
ومالك فاصطنعه وأصلحنه ... تجد فيه الفواضل والنعيما
(4) وقول أحيحة بن الجلاح وكان شديد البخل: [من البسيط]
ولن أزال على الزوراء أعمرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال(2/339)
«892» .- (5) وقول عدي بن زيد: [من البسيط]
البس جديدك إني لابس خلقي ... ولا جديد لمن لم يلبس الخلقا
«893» - قال العتبيّ: قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار الضيفان، وكان ينزلها الغرباء وابن السبيل والضيفان، فأقام يومه لم يطعم شيئا، حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال: كلوا من هذا، وهم نيّف وسبعون رجلا، فغضب معن وخرج من عنده، فأتى عبيد الله بن العبّاس فقراه وحمله وكساه، ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدّثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه، وأقام عنده ثلاثا ثم رحل، وقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن العبّاس: [من الطويل]
ظللنا بمستنّ الرياح غديّة ... إلى أن تعالى اليوم في شر محضر
لدى ابن الزبير خاسئين [1] بمنزل ... من الخير والمعروف والرفد مقفر
رمانا أبو بكر وقد طال يومنا ... بتيس من الشاء الحجازيّ أعفر
وقال اطعموا منه ونحن ثلاثة ... وسبعون إنسانا فيا لؤم مخبر
فقلت له لا تقرين [2] فأمامنا ... جفان ابن عباس العلا وابن جعفر
وكن آمنا وانعق بتيسك إنه ... له أعنز ينزو عليها وأبشر
«894» - وكان عبد الله بن الزبير شديد البخل، وخبره مع عبد الله بن
__________
[1] م والأغاني: جالسين.
[2] الأغاني: لا تقرنا؛ م: تقربن.(2/340)
فضالة، وقيل مع أبيه فضالة، مشهور حين أتاه مسترفدا وشكا إليه جهد سيره ونقب راحلته، فقال: أرقعها بسبت واخصفها بهلب وسر بها [1] البردين تصحّ، فقال: إني أتيتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إنّ وراكبها، فقال عبد الله بن فضالة أبياتا منها: [من الوافر]
شكوت إليه أن نقبت قلوصي ... فردّ جواب مشدود الصّفاد
يضنّ بناقة ويروم ملكا ... محال ذاكم غير السّداد
895- ولما حوصر ابن الزبير كانت عنده البيوت مملوءة قمحا وذرة، وأصحابه يموتون جوعا، فقيل له فرقها فيهم، فلم يفعل، واحتجّ بأنّ قلوبهم قوية ما لم يفن.
«896» - كانت بين بني الديل وبني الليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلا ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته، فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعونة على أدائها، وألحّ عليه منهم غلام ذو بيان وعارضة يقول: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم [2] قلة ذات يد ولا سؤدد ولا جود، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود ثم قال له:
قد أكثرت يا ابن أخي، فاستمع مني: إنّ الرجل والله لا يعطي ماله إلّا لإحدى خلال: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة [3] ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الآخرة، أو رجل
__________
[1] م: وسيرها.
[2] ر: معانتهم.
[3] ر: وجاء بمكافأة.(2/341)
أحمق خدع عن ماله، والله ما أنتم أحد هذه الطبقات، ولا جئتم في شيء من هذا، ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لها، ولما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل. قوموا إذا شئتم، فقاموا يتبادرون الباب.
«897» - كان الفضل بن العبّاس اللهبيّ بخيلا، وكان ثقيل البدن، فكان كلما أراد يمضي [1] في حاجة استعار مركوبا، وطال ذلك من فعله، فقال له بعض بني هاشم: أنا أشتري لك حمارا تركبه وتستريح من العارية، وفعل، فكان الفضل يستعير له سرجا إذا أراد أن يركبه، فتواصى الناس بأن لا يعيره أحد سرجا، فلما طال ذلك عليه اشترى سرجا بخمسة دراهم، وقال: [من الطويل]
لما رأيت المال ما كفّ [2] أهله ... وصان ذوي الأخطار أن يتبذّلوا
رجعت إلى مالي فعاتبت بعضه ... فأعتبني إنّي كذلك أفعل
وقال المدائني [3] ، قال للذي اشترى له الحمار: إني لا أطيق علفه فاما أن بعثت إليّ بقوته وإلا رددته.
«898» - وكان خالد بن عبد الله القسري معروفا بالسماحة مشهورا بالجود [4] إلا أنه [5] كان أبخل الناس بالطعام، فوفد إليه رجل له حرمة، فأمر أن يكتب له بعشرين ألف درهم، وحضر الطعام فدعا به، فأكل أكلا منكرا، فأغضبه وقال للخازن: لا تعرض عليّ صكّه، فعرّفه الخازن ذلك، فقال: ويحك ما
__________
[1] م: يمشي.
[2] ع: يا لف.
[3] وقال المدائني: من م وحدها.
[4] م: مشهورا ... معروفا بالجود.
[5] إلا أنه: سقط من ر.(2/342)
الحيلة؟ قال: تشتري له غدا كلّ ما يحتاج إليه في مطبخه وتهب للطباخ دراهم حتى لا يشتري شيئا، وتسأله إذا أكل خالد أن يقول: إنك كنت اليوم في ضيافة فلان، فاشترى له كلّ ما أراد حتى الحطب فبلغ خمسمائة درهم، فأكل خالد واستطاب ما صنع له، فقال الطباخ: إنك كنت اليوم في ضيافة فلان، فأخبره فاستحيا خالد، ودعا بصكّه فصيّره ثلاثين ألف درهم، ووقّع فيه، وأمر الخازن بتسليمه [1] إليه.
«899» - وكان لبعض التجار على رجل دين، فأراد استعداء خالد عليه، فلاذ الرجل ببواب خالد وبرّه، فقال له: سأحتال لك في أمر هذا بحيلة لا يدخله عليه أبدا قال: فلما جلس خالد للأكل أذن البواب للتاجر، فدخل وخالد يأكل سمكا، فجلس فأكل أكلا شنيعا فغاظ ذلك خالدا، فلما خرج قال خالد لبوابه: فيم أتاني هذا؟ قال: يستعدي على فلان في دين يدّعيه عليه، قال: إني لأعلم أنه كاذب فلا يدخلنّ عليّ، وتقدم إلى صاحب الشرطة بأن يقبض يده عن خصمه.
«900» - كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير حين قال شعره الذي يقدّم فيه غلاما من ربيعة على شيخ بني تميم، وهو مع ذلك من بيت تميم، ولاموه فقال [2] : [من الطويل]
صه يا تميم إنّ شيبان وائل ... بطرفهم عنكم أضنّ وأرغب
أإن سمت برذونا بطرف غضبتم ... عليّ وما في الحقّ والصدق [3] مغضب
__________
[1] الأغاني: بتسليمها.
[2] م: فأنشد.
[3] الأغاني: وما في السوق والسوم.(2/343)
فان أكرمت أو أنجبت أمّ خالد ... فزند الرياحيين أورى وأثقب
ثم قال عمارة: قال لي عليّ بن هشام، وفيه عصبية على العرب: قد علمت مكانك مني وقيامي بأمرك حتى قرّبك أمير المؤمنين، والمائة الألف التي وصلك بها عليّ سببها، وها هنا من بني عمّك من هو أقرب إليك وأجدر أن يعينني على ما أمر به أمير المؤمنين لك، فقلت: ومن هو؟ قال: تميم بن خزيمة، قال: قلت آتيه قال: وخالد بن يزيد بن مزيد؟ قلت: سآتيهما، فبعث معي شاكريا من شاكريته حتى وقف بي على باب تميم، فلما نظر غلمانه إليّ أنكروا أمري، فدنا الشاكريّ فقال: أعلموا الأمير أن على الباب ابن جرير الشاعر جاء مسلّما، فتوانوا وخرج غلام عرّفني أنه قد علم الأمير فحجبني، فدخلني من ذلك ما الله به عالم، فقلت للشاكريّ: أين منزل خالد بن يزيد؟
قال: اتبعني، فما كان إلا قليلا حتى وقف بي على بابه، ودخل بعض غلمانه يطلب الاذن، فما كان إلا كلا حتى خرج في قميصه وردائه يتبعه حشمه، فقال بعض القوم: هذا خالد قد أقبل إليك قال: فأردت أن أنزل إليه فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي، فأنزلني وأدخلني وقرّب الطعام، فأكلت وشربت، وأخرج إلى خمسة آلاف درهم وقال: يا أبا عقيل ما آكل إلا بالدّين، وأنا على جناح من ولاية، فإن صحّت لي لم أدع أن أعينك [1] ، وهذه خمسة أثواب خزّ آثرتك بها كنت قد ادخرتها، قال عمارة فخرجت وأنا أقول: [من الطويل]
أأترك أن قلّت دراهم خالد ... زيارته إنّي إذن للئيم
فليت بثوبيه لنا كان خالد ... وكان لبكر بالثراء تميم
فيصبح فينا سابق متمهّل ... ويصبح في بكر أعمّ [2] بهيم
__________
[1] الأغاني: أغنيك.
[2] م ر ع: أعم.(2/344)
قال عمارة: فلما بلغ خالد بن يزيد [1] هذا الشعر قال: يا أبا عقيل بلغك أن أهلي يرضون مني ببديل كما رضيت بي من تميم بن خزيمة؟ فقلت: إنما طلبت حظّ نفسي وسقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك، فما زال يضاحكني.
«901» - كان الواقدي شيخا سمحا، وأظلّه شهر رمضان ولم يكن عنده نفقة، فاستشار امرأته بمن ينزل ظنّه من اخوانه، فقالت: بفلان الهاشمي، فأتاه فذكر له خلّته، فأخرج له صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: والله ما أملك غيرها، فأخذها الواقدي فساعة دخل منزله جاءه بعض إخوانه وشكا إليه خلته، فدفع إليه الصرة بختمها، وعاد صاحب الصرة إلى منزله، فجاءه الهاشميّ فشكا إليه خلته فناوله الصرة فعرفها الهاشميّ فقال له: من أين لك هذه؟ فحدثه بقصته، فقال له: قم بنا إلى الواقديّ، فأتوه فقال الهاشمي:
حدّثني عنك وعن إخراج الصرة فحدثه الحديث على وجهه، فقال الهاشمي:
فأحقّ ما في هذه الصرة أن نقتسمها، ونجعل فيها نصيبا للمرأة التي وقع اختيارها عليّ.
«902» - والشافعيّ معدود في الأجواد، قال الربيع بن سليمان: ركب يوما فمرّ في الحدادين فسقط سوطه، فوثب غلام فمسحه وأعطاه إياه، فقال لي: ما معك يا ربيع؟ قلت: عشرة دنانير، قال: ادفعها إليه، وما كان معنا غيرها.
«903» - العجير السلوليّ وكان أسرع في ماله فأتلفه، ثم ادّان حتى أثقله
__________
[1] زيد: هكذا في النسخ، وقد مرّ «يزيد» .(2/345)
الدين، ثم مدّ يده إلى مال زوجته فمنعته: [من الطويل]
تقول وقد غاديتها أمّ خالد ... على مالها أغرقت [1] دينا فأقصر
أبى القصر من يأوي إذا الليل جنّه [2] ... إلى ضوء ناري من فقير ومقتر
أيا موقدي ناري ارفعاها لعلّها ... تشبّ لمقو آخر الليل مقفر [3]
أمن راكب أمسى بظهر تنوفة ... أواريك أم من جاري المتنظّر
سلي الطارق المعترّ يا أمّ خالد ... إذا ما أتاني بين قدري ومجزري
أأبسط وجهي إنّه أوّل القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
أقي العرض بالمال التلاد وما عسى ... أخوك إذا ما ضيّع العرض مشتر
يؤدي إليّ الليل [4] قنيان ماجد ... كريم ومالي سارحا مال مقتر
إذا متّ يوما فاحضري أمّ خالد ... تراثك من سيف وطرف وأقدر
«904» - وفد مطيع بن إياس إلى جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري وقد مدحه بقصيدة أولها: [من المتقارب]
أمن آل ليلى عزمت البكورا ... ولم تلق ليلى فتشفي الضميرا
فلما بلغ جريرا خبر قدومه دعا به ليلا ولم يعلم أحدا بحضوره وقال له: قد عرفت خبرك، وإني معجّل لك جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غدا فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، وأزوّدك نفقة طريقك لئلا يبلغ أبا جعفر خبري
__________
[1] ر: أعرفت.
[2] الأغاني: جنني.
[3] بهامش ع: يروى لعروة بن الورد.
[4] الأغاني: النيل.(2/346)
فيهلكني، فأمر له بمائتي دينار وصرفه، فلما أصبح أتاه فاستأذنه في الإنشاد فقال له: يا هذا لقد رميت بأملك غير مرمى، وفي أيّ شيء أنا حتى تنتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إليّ لأني لا أستطيع تبليغك محبّتك ولا آمن سخطك ولا ذمّك، فقال له: تسمع مني ما قلته فإني أقبل ميسورك وأبسط عذرك، فاستمع كالمنكر المتكلّف، فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم مبلغ ما بقي من نفقتنا؟ قال: ثلاثمائة درهم، قال: أعطه مائة درهم ينصرف بها إلى أهله، ومائة درهم لنفقة طريقه، واحبس مائة درهم لنفقتنا فانصرف مطيع عنه شاكرا. فهذا تسلق [1] على المروءة عجيب، وحيلة في الجود مع الخوف من سلطانه ومباينته [2] فيه لأخلاقه.
«905» - وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الأجواد: كان لرجل جارية يهواها فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها؟؟؟ منه عمر بن عبيد الله بن معمر، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول: [من الطويل]
هنيئا لك المال الذي قد قبضته [3] ... ولم يبق في كفّيّ غير التحسّر [4]
أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به صدرا طويل التفكر
فقال الرجل: [من الطويل]
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلّا أن يشاء ابن معمر
__________
[1] ر: تساق.
[2] م: ومباهتة.
[3] م: حويته.
[4] م: التفكر.(2/347)
فقال: قد شئت، خذ الجارية وثمنها وانصرف.
«906» - وكان زياد الأعجم صديقا لعمر بن عبيد الله قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمامة لو وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبدا، فلما ولي عمر فارس قصده زياد، فلما لقيه قال: [من الطويل]
أبلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زياد مستبينا كلامها
فانك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص عليّ ظلامها
فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدا.
فقال زياد:
لقد كنت أدعو الله في السرّ أن أرى ... أمور معدّ في يديك نظامها
فقال: قد رأيت ذلك، فقال:
فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن العام لا شكّ عامها
قال: فهو عامهنّ إن شاء الله تعالى، فقال:
فإني وأرضا أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرب لأرض حمامها
قال: فهي كذاك يا زياد، فقال:
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل عليّ مقامها
وكنت أمنّي النفس منك ابن معمر ... أمانيّ أرجو أن يتمّ تمامها
فقال: قد أتمها الله لك، فقال:
فلا أك كالمجري إلى رأس غاية ... يرجّي سماء لم يصبه غمامها(2/348)
قال: لست كذاك، فسل حاجتك، قال: نجيبة ورحالتها، وفرس رائع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتخت ثياب ووصيف يحمله، فقال: قد أمرنا لك بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل سنة.
«907» دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب وهو في السجن فأنشده: [من المنسرح]
أغلق دون السماح والجود والنّ ... جدة باب حديده أشب
لا بطر إن تتابعت نعم ... وصابر في البلاء محتسب
برزت سبق الجواد في مهل ... وقصّرت دون سعيك العرب
فقال: والله يا حمزة لقد أسأت حين نوّهت [1] باسمي في غير وقت تنويه، ثم رفع مقعدا تحته فرمى إليه بخرقة مصرورة، وعليه صاحب خبر واقف، وقال: خذ هذا الدينار، فوالله ما أملك ذهبا غيره، فأخذه حمزة وأراد أن يرده، فقال له سرا: خذه ولا تخدع عنه، قال حمزة: فلما قال: لا تخدع عنه قلت: والله ما هذا بدينار، فخرجت فقال لي صاحب الخبر: ما أعطاك يزيد؟ فقلت: أعطاني دينارا، وأردت أن أردّه عليه فاستحييت منه، فلما صرت إلى منزلي حللت الصرة وإذا فصّ ياقوت أحمر كأنه سقط زند، فقلت:
والله لئن عرضت هذا بالعراق ليعلمنّ أني أخذته من يزيد فيؤخذ مني، فخرجت إلى خراسان فبعته على رجل يهوديّ بثلاثين ألفا، فلما قبضت المال وصار الفصّ في يد اليهوديّ قال لي: والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم لأخذته منك بها، فكأنه قذف في قلبي جمرة، فلما رأى تغير وجهي قال: إني رجل تاجر، ولست أشكّ أني قد غممتك، قلت: أي والله وقتلتني، فأخرج إليّ
__________
[1] م: توهمت.(2/349)
مائة دينار وقال: أنفق هذه في طريقك ليتوفر المال عليك.
908- وليزيد أخبار في الجود عجيبة: فمن ذلك أنّ المهلب لما مات نادى منادي يزيد ابنه: من كانت له عند المهلب عدة أو له عليه دين فليحضر، فأتاه الناس، إلى أن أتاه رجل فقال: لي عنده عدة قال: وما عدتك؟ قال: سألته شيئا فأمرني بالمقام، قال: فما ظنّك؟ قال: على قدرك، فأمر له بمائة ألف درهم.
«909» قال عقيل بن أبي: لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته فقلت: أيها الأمير إن رأيت أن تأذن لي فأصحبك وأستظلّ بظلك وأكون في كنفك، فقال: إذا قدمت واسطا أتيتنا إن شاء الله، فشخص وأقمت، فقال لي اخواني: مالك لا تشخص؟ فقلت لهم: إن جوابه كان ضعيفا، فقالوا: أنت أضعف خلق الله، تريد من يزيد جوابا أكثر مما قال لك؟
فشخصت حتى قدمت عليه، فلما كان في الليل دعيت الى السمر، فتحدّث القوم حتى ذكروا الجواري فالتفت إليّ يزيد فقال: إيه يا عقيل فقلت: [من الوافر]
أفاض القوم في ذكر الجواري ... فأما الأعزبون فلن يقولوا
قال: إنك لن تبقى بعدها عزبا، فلما رجعت إلى منزلي إذا خادم له معه جارية وبدرة فيها عشرة آلاف درهم وفرس وفرش بيت، فلما كان الليلة الثانية دعيت إلى السمر، فلما رجعت إلى المنزل إذا بمثل ذلك، فمكثت عشر ليال كلما رجعت إلى منزلي وجدت مثل ذلك، فلما رأيت في بيتي عشرا من الجواري وعشرة من الخدم وعشر بدر وفرش عشرة وعشرة أفراس دخلت عليه فقلت:
أيها الأمير، قد والله أغنيت وأقنيت، فإن رأيت أن تأذن لي في الرجوع فأكبت عدوي وأسرّ صديقي، قال: بل نخيّرك خلتين اختر أيتهما شئت، إما أن تقيم(2/350)
فنوليك أو تشخص فنغنيك، فقلت: أو لم تغنني أيها الأمير؟ قال: لا إنما هذا أثاث المنزل ومصلحة المقدم.
«910» - قال أبو العيناء: تذاكروا السخاء فاتفقوا على آل المهلّب في الدولة المروانيّة، وعلى البرامكة في الدولة العبّاسيّة، ثم اتفقوا على أن أحمد بن أبي دواد أسخى منهم جميعا وأفضل. وكان يقال للفضل بن يحيى «حاتم الاسلام وحاتم الأجواد» ، ويقال حدث عن البحر ولا حرج، وعن الفضل ولا حرج. وقالوا: ما بلغ أحد من أولاد خالد بن برمك مبلغه في جوده ورأيه وبأسه ونزاهته. وكان يحيى بن خالد يقول: ما أنا إلا شررة من نار أبي العباس. وقيل لداود الطائي: أيّ الناس أسخى؟ فذكر خالد بن برمك، فقيل: قد وصل الفضل بن يحيى منذ ترك النهروان إلى أن دخل خراسان بثمانين ألف ألف درهم، فقال: ما بلغ ذاك يوما من أيام خالد.
«911» - أتى الفرزدق عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي بالمدينة وليس عنده نقد حاضر، وهو يتوقع أعطيته وأعطيته ولده، فقال: والله يا أبا فراس ما وافقت عندنا نقدا، ولكن عروضا إن شئت، قال: نعم، قال:
فان عندنا رقيقا فرهة فإن شئت أخذتهم، قال: نعم، فأرسل إليه من بنيه وبني أخيه عدّة، وقال: هم لك عندنا حتى تشخص، وجاءه العطاء فأخبره [1] الحبر، وفداهم، فقال الفرزدق، ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان سيدا يطوف بالبيت يتبختر: [من البسيط]
تمشي تبختر حول البيت منتحيا ... لو كنت عمرو بن عبد الله لم تزد
__________
[1] ع: فأخبرهم.(2/351)
«912» - وفد أبو الشمقمق إلى جنديسابور يريد محمد بن عبد السلام، فلما دخلها صار إلى منزله، فخبر أنه في دار الخراج مطالب، فقصده ودخل عليه وهو قائم في الشمس وعلى عنقه صخرة، فلما رآه محمد قال: [من الكامل]
ولقد قدمت على رجال طالما ... قدم الرجال عليهم فتمولوا
أخنى الزمان عليهم فكأنهم ... كانوا بأرض أقفرت فتحولوا
فقال أبو الشمقمق: [من الكامل]
الجود أفلسهم وأذهب مالهم ... فاليوم إن راموا السماح تجملوا
فقال محمد لغلامه: ادن مني يا غلام، فدنا فقال: خذ هذه الصخرة عني ولا تضعها على الأرض، فنزع ثيابه وخاتمه ودفع ذلك إليه وقال: اردد الصخرة على عاتقي، وأخذ أبو الشمقمق الثياب والخاتم معا ومضى، فكتب صاحب الخبر إلى الخليفة يخبره وذكر فعله وشعره، فوقّع إلى عامله بجنديسابور بإسقاط الخراج عنه في تلك السنة، وإسقاط ما عليه من البقايا، وأمر له بمائة ألف درهم معونة على مروءته.
«913» - قدم ربيعة على يزيد بن حاتم بمصر، فشغل عنه ببعض الأمر، فخرج وهو يقول: [من الطويل]
أراني ولا كفران لله راجعا ... بخفّى حنين من نوال ابن حاتم
فسأل عنه يزيد فأخبر أنه قد خرج وقال كذا، وأنشد البيت، فأرسل في طلبه، فأتي به فقال: كيف قلت؟ فأنشده البيت، فقال: شغلنا عنك وعجلت علينا، ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالا، وقال ارجع بهما(2/352)
بدلا من خفي حنين.
«914» - حدّث أبو العبّاس أحمد بن يحيى قال: كان ببغداد فتى يجنّ ستة أشهر ويفيق ستة أشهر [1] ، فاستقبلني في بعض السكك ذات يوم فقال:
ثعلب؟ قلت: نعم، قال: أنشدني، فأنشدته: [من الكامل]
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح
فتضاحك وسكت ساعة ثم قال: ألا قال؟ [من الخفيف]
اذهبا بي إن لم يكن لكما عق ... ر إلى ترب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كا ... ن دمي من نداه لو تعلمان
ثم إني رأيته يوما بعد ذلك فتأملني وقال: ثعلب؟ قلت: نعم، قال:
أنشدني، فأنشدته: [الوافر المجزوء]
أعار [2] الجود نائله ... إذا ما ماله نفدا [3]
وإن أسد شكا جبنا ... أعار فؤاده الأسدا
فضحك وقال: ألا قال؟ [من الرمل]
علّم الجود الندى حتى إذا ... ما حكاه علّم البأس الأسد
فله الجود مقرّ بالندى ... وله الليث مقرّ بالجلد
__________
[1] ويفيق ... أشهر: سقط من ع م.
[2] ر م: أعاد.
[3] ر: فقدا.(2/353)
«915» - قال أبو العيناء: أضقت إضاقة شديدة فكتمتها عن أصدقائي، فدخلت على يحيى ابن أكثم القاضي فقال لي: إن أمير المؤمنين عبد الله المأمون قد جلس للمظالم وأخذ القصص، فتنشط للحضور؟ فقلت: نعم، فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين، فلما بصر بنا أجلس يحيى ثم أجلسني فقال: يا أبا العيناء، بالألفة والمحبة ما جاء بك في هذه الساعة؟ فانشأت أقول: [من البسيط]
فقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجاء حقوق كلّها يجب
إلا تكن لي أسباب أمتّ بها ... ففي العلى لك أخلاق هي السبب
فقال: يا سلامة، انظر أيّ شيء في بيت مالنا وخاصّنا لا في بيت مال المسلمين، فقال: بقية من مال، فقال: ادفع إليه منها مائة ألف وأدررها عليه في كل وقت مثل هذا، فقبضها؛ فلما كان بعد أحد عشر شهرا مات المأمون، فبكى عليه أبو العيناء حتى قرحت عيناه، فدخل عليه بعض ولده فقال له: يا أبتاه بعد ذهاب العين ما يغني البكاء؟ فأنشأ يقول: [من الكامل]
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقّيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
«916» - كان أحمد بن طولون كثير الصدقة، وكان راتبه منها في الشهر ألف دينار سوى ما يطرأ عليه من نذر أو صلة أو شكر على تجديد نعمة، وسوى ما يرسله إلى أهل الستر، وسوى مطابخه التي تطبخ في دار الصدقة، وكان أحد المتولّين لصدقاته سليم الفاقو [1] الخادم المعدّل، وكان معروفا بالخير والورع، قال سليم: فقلت له أيها الأمير، إني أطوف القبائل، وأدقّ الأبواب بصدقاتك،
__________
[1] م: الفافو.(2/354)
وان اليد تمتدّ إليّ فيها الحناء، وربما كان فيها الخاتم الذهب [1] ، وربما كان الدستينج والسوار الذهب، فأعطي أو أردّ؟ فأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال: كلّ يد امتدّت إليك فلا تردها.
«917» - كان بشر بن غالب الأسدي سخيا مطعاما، وكانت له موائد يغشاها إخوانه، ثم إنّ الدهر نبا به وضاقت ذات يده، فاختفى في منزله استحياء من الناس، وأظهر أنه غائب، وكانت له مولاة تقوم بحوائجه وتقيم له مروءته بالقرض والفرض وبيع الشيء بعد الشيء، حتى جاءته يوما فقالت: يا مولاي، قد والله أعيت الحيلة وما أجد اليوم مضطربا، فإن أذنت لي احتلت لك، قال: على أن لا تذكريني لأحد، قالت لا، فأتت عكرمة بن ربعيّ الفياض، فدخلت عليه فقالت له: هل لك في عورة كريم تسترها وخلّة تسدها؟ قال: ومن هو؟ قالت: قد أمرني أن لا أذكره، فدعا بثلاثمائة درهم فدفعها إليها، ثم قال لمولاة له ذات ظرف وعقل: اتبعي هذه المرأة فانظري أين تدخل، فرجعت إليه فأخبرته أنها دخلت دار بشر بن غالب، فقال لوكيله: هيّء أربعمائة دينار في كيس، فلما كان في بعض الليل أخذ عكرمة الكيس وجاء إلى باب بشر بن غالب فقرع الباب، فقيل له إنه غائب، فقال: أخبروه أني مستغيث يستغيث به، فخرج إليه في ظلمة الليل فرمى الكيس وركض البغلة منصرفا، فناداه بشر: أنشدك الله من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: فلما رجع بشر إلى منزله دعا مولاته فقال: أخبريني من أتيت اليوم في حاجتك، قالت: عكرمة بن ربعي، فلم يك إلا أيام يسيرة حتى قدم بشر بن مروان الكوفة، فأرسل إلى بشر بن غالب فولّاه الشرطة، وقلّده سيفا، فقال: أيها الأمير، إنّ الشرطة لحوائج الناس وشفاعاتهم،
__________
[1] ع: الخاتم معا من.(2/355)
فاجعل لي شيئا من الخراج أستعين به، فولّاه رستاقا، فقال له: أيها الأمير بقيت لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: عكرمة بن ربعي، كان من قصته وقصتي كيت وكيت، فإن رأى الأمير أن يأذن لي فاكرمه بهذه الولاية، قال:
أنت وذاك، فلم يشعر عكرمة وهو بباب بشر بن مروان أن خرج بشر بن غالب ومعه السيف، فقلده اياه ثم قال: السلام عليك أيها الأمير.
«918» - مدح بعض ولد نهيك بن إساف الأنصاري الحكم بن المطلب المخزوميّ فقال: [من الطويل]
خليليّ إنّ الجود في السجن فابكيا ... على الجود إذ سدّت علينا مرافقه
ترى عارض المعروف كلّ عشيّة ... وكلّ ضحى يستنّ في السجن بارقه
إذا صاح كبلاه طفا فوق بحره ... لزواره حتى تعوم غرانقه
«919» - وقال سلمة [1] بن عياش في جعفر بن سليمان بن علي: [من الطويل]
فما شمّ أنف ريح كفّ شممتها ... من الناس إلا ريح كفّك أطيب
فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر.
«920» - دخل القعقاع بن شور الذهلي على معاوية، والمجلس غاصّ بأهله، ففسح له رجل حتى جلس إلى جنب معاوية، وأمر له معاوية بألف فجعلها للمفسح.
921- خرج عكرمة بن ربعيّ مع الوليد بن عبد الملك إلى الصائفة
__________
[1] م: سليمان.(2/356)
ومعه ألف بعير عليها الطعام فجعل ينحر كلّ يوم سمينها ويطعم ما عليه.
«922» - لزمت داود بن قحذم العبدي، وكان عامل مصعب، مائة ألف فأخذ بها، فأرسل امرأته أمّ الفضل بنت غيلان بن خرشة الضبي إلى عائشة بنت طلحة امرأة مصعب لتشفع له، فجاء مصعب فسأل أمّ الفضل ومازحها ساعة، وكانت من أجمل نساء زمانها، ثم قال لعائشة: ما حاجتها؟ فذكرتها فقال: تحطّ عنه المائة الألف ونجيزه بمثلها، فجاءت بالكتابين إلى زوجها.
«923» - كان عبد العزيز بن مروان جوادا مضيافا فتغدّى عنده أعرابيّ، فلما كان من الغد رأى الناس على بابه كما رآهم بالأمس، فقال: أفي كلّ يوم يطعم الأمير؟ ثم أنشأ يقول: [من الخفيف]
كلّ يوم كأنه يوم أضحى ... عند عبد العزيز أو عيد فطر
وله ألف جفنة مترعات ... كلّ يوم تمدّها ألف قدر
«924» - وكان الحسن بن قحطبة مضيافا له مطبخان، في كلّ مطبخ سبعمائة تنّور.
«925» - وكان الزهري إذا لم يأكل أحد من أصحابه من طعامه حلف لا يحدثه عشرة أيّام.
«926» - وأراد ابن عامر أن يكتب لرجل خمسين ألفا فجرى القلم(2/357)
بخمسمائة ألف، فراجعه الخازن فقال: أنفذه، فو الله لإنفاذه وإن خرج المال أحسن من الاعتذار، فاستسرفه فقال: إذا أراد الله بعبد خيرا حرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئا وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة وأمره النافذ.
«927» - وقف أعرابيّ على ابن عامر فقال: يا قمر البصرة وشمس الحجاز ويا ابن ذروة العرب وترب بطحاء مكة، نزعت بي الحاجة، وأكدت بي الآمال إلا بفنائك، فامنحني بقدر الطاقة والوسع، لا بقدر المحتد والشرف والهمة، فأمر له بعشرة آلاف، فقال: ماذا؟ تمرة أو رطبة أو بسرة؟ قيل:
بل دراهم، فصعق ثم قال: ربّ إنّ ابن عامر يجاودك فهب له ذنبه في مجاودتك.
«928» - تعشى الناس عند سعيد بن العاص، فلما خرجوا بقي فتى من الشام قاعدا، فقال له سعيد: ألك حاجة؟ واطفأ الشمعة كراهة أن يحصر الفتى عن حاجته، فذكر أن أباه مات وخلّف دينا وعيالا، وسأله أن يكتب له إلى أهل دمشق ليقوموا بإصلاح بعض شأنه، فأعطاه عشرة آلاف دينار وقال:
لا تقاس الذلّ على أبوابهم.
قال بعض القرشيين: والله لإطفاؤه الشمعة أكثر من عشرة آلاف.
«929» - سمع المأمون قول عمارة بن عقيل: [من الطويل]
أأترك أن قلّت دراهم خالد ... زيارته إني إذن للئيم(2/358)
فقال: أو قد قلّت دراهم خالد؟ احملوا إليه مائتي ألف درهم، فعشّرها خالد لعمارة وقال: هذا مطر من سحابك [1] .
«930» - كان يقال لإبراهيم الخليل عليه السلام أبو الضيفان لأنه أول من قرى الضيف وسنّ لأبنائه العرب القرى، وكان إذا أراد الأكل بعث أصحابه ميلا إلى ميل يطلبون ضيفا يؤاكله.
«931» - كان أبو عبيدة [2] بن عبد الله بن زمعة القرشي جوادا مطعاما، وكان يقول: إني لأستحيي أن يدخل داري أو يمّر بي أحد فلا أطعمه، حتى إنه كان يطرح للذّر السويق والحنطة. وأراد إبراهيم بن هشام أمير المدينة أن يبخّله، فقال لأصحابه: تعالوا نفجأ أبا عبيدة فاستنزلهم فقالوا: إن كان شيء عاجل وإلا فلا ننزل، فجاءهم بسبعين كرشا فيها رؤوس، فعجب ابن هشام وقال: ترونه ذبح في ليلته من الغنم عدد هذه الرؤوس.
«932» - أما أنا فما رأيت جوادا ينطلق عليه اسم الجود إلّا أن يكون أبا منصور محمد بن علي الأصفهاني الملقب بالجمال وزير الموصل، فإنه عمّ بعطائه وصلاته أهل ولايته، وتجاوزهم إلى أهل [3] العراق والجبل وأصفهان والحرمين، فكان يعطي من نأى عنه تبرعا كما يعطي من هاجر إليه سائلا، والذي أطلق
__________
[1] ع ر: سحاب.
[2] م: أبو عبد الله.
[3] أهل: سقطت من م.(2/359)
عليه اسم الجود أنه كان مؤثرا على نفسه، متقللا في خاصته، وحاصله في السنة خمسون ألف دينار، كما قيل، ولا يزال يأخذ بالدين يتمم به صلاته، وتصدّق بداره التي يسكنها، فكان يؤدي أجرتها في كلّ شهر على السبيل الذي [1] جعلها فيه.
ومن عجيب أمره أنه خدم زنكي بن آق سنقر في مبدأ أمره مشرفا على الاصطبل، وكان ذاك موصوفا بالشحّ، فتقرب إليه بما يطابق هواه، حتى بما يسقط [2] من النعال، وتوسّل عنده بالتبخل [3] تكلفا تتطلع السجايا الكريمة من خلاله، ويشهد بما ستبديه الأيام من شرف جلاله، حتى صار مشرف ديوانه، فكان أقرب أصحابه إليه [4] ، فلما قتل زنكي وقام ولده بالأمر ووزر له وملك أمره، وأمن ما كان يخافه من أبيه، أظهر مكنون سجيته، وباح بما كان يضمره وأبان عن جود برمكيّ. ومن المستفيض عنه أنه لم يتضجر قطّ على سائل، ولم يبرم بملحّ، ولا منع أحدا، ولا أصغى بسمعه إلى عاذل في الجود ولا مشير.
933- وشاهدت اثنين أحدهما من أوساط الناس والآخر من فقرائهم:
أما الأوّل فكان يجوع ويطعم، ويعرى ويكسو، ويتكسب بالتصرف فيلبس القميص المرقوع ويركب الدابّة الضعيف، لا زوجة له ولا ولد ولا عبد، ويصرف ما يحصله في معونة الناس وإرفادهم وإطعامهم، وأما الثاني فرجل ضعيف يجتدي الناس في الأسواق ويسألهم، ويجمع ذلك فينفقه [5] على المحبوسين: يطعمهم ويسقيهم ويداوي مرضاهم، ويضع الأجاجين على الطرق
__________
[1] ر ع: التي.
[2] م: سقط.
[3] وتوسل عنده بالتبخل سقط من ع م.
[4] ع م: وكان مشرف ديوانه وأقرب أصحابه منه.
[5] ع م: ينفقه.(2/360)
يملأها ثريدا، ويدعو الفقراء إليها، وهو بقميص متخرق مكشوف الرأس، لا يعود على نفسه مما يحصله إلا ببلغته، فهذان يستحقان اسم الكرم.
«934» - وكان يوسف بن أحمد الحرزي [1] وكيل المستظهر بالله يذكر بالكرم، وليس في هذه الرتبة: كان يعطي ويفضل، لكن قليلا من كثير، ولما قبض عليه المسترشد بالله وجد له ذخائر عظيمة وأموالا جليلة [2] لا يدّخرها جواد.
934 ب- وفات [3] هؤلاء المذكورين بالكرم، وفاقهم في حسن الشيم من أهل زماننا صاحب مدينة إربل وما والاها من الأعمال، وهو الأمير مجاهد الدين قايماز، فانه كلف بحب الحسنات، وعكف على فعل الخيرات، وقصر زمانه على مكارم الأخلاق؛ فمما شاهدته من ذلك أنه كان موئلا لكل وافد عليه من بلادنا العراقيّة، ملجأ لكلّ خائف يصل إليه منها، ولقد قصده جماعة من الأكابر أصحاب الأعمال السلطانيّة هاربين إليه إذ كربتهم الحوادث واستأصلتهم النوائب [4] ، فتلقّاهم بالبشر والترحيب وأحسن إليهم وبرّهم وعطف عليهم
__________
[1] م: ابن الجزري.
[2] م: جزيلة.
[3] انفردت النسخة م بهذه الفقرة.
[4] زاد بعدها في م: هاربين إليه.(2/361)
وأشركهم في ماله وجاهه حتى أنساهم ما كانوا عليه بالعراق من حالة العمل وخدمة السلطان، فقال بعضهم فيه، وهو من أنساب الوزير عون الدين بن هبيرة: [من الوافر]
كأني شانى بمهلبيّ ... ونازل عبد شمس في احتكام
وهذا البيت من قصيدة طويلة امتدحه بها وشكره على ما أسداه إليه وإلى غيره من الإحسان. وشاعت هذه المكرمة عنه حتى قصده الخائفون في جميع البلاد، فأصبحت به إربل حمى لّلاجىء وملاذا للمستجير. وأما من وفد عليه من الشعراء والسؤال فكثير لا يحصى عددهم، وكان يحب الشعر ويجيز قائله بأسنى الجوائز، وخصّه الله عز وجل بالذكاء والمعرفة وصفاء النفس واتقاد الخاطر حتى إنه كان يستنبط بدقيق فكره معاني الآيات من القرآن العزيز والأخبار النبويّة والأشعار ويتفرد في ذلك بأشياء لم يسبق إليها. وأما ما منحه الله به من بذل الأموال وإنفاقها في عمارة بيوت الله تعالى وتجديد الرباطات والمدارس والجسور على الدجلة وغيرها من الأنهار وعمارة الخانات في الطرق المخوفة والقفار الخالية عن العمار والعمران فان ذلك مما لا يحتاج إلى ذكر وبيان، فإنه لم يخل بلد من البلاد التي تحت يده من ذلك، حتى أنه عمر بظاهر مدينة الموصل في خطة واحدة من الأرض مقدار رأي العين على الدجلة جامعا ورباطا للصوفيّة وبيمارستان للمرضى، غرم على ذلك مالا كثيرا يزيد على خمسين ألف دينار، ونصب على دجلة الموصل جسرا من الخشب، ووقف على هذه الوجوه الأربعة أوقافا كثيرة يحصل منها في السنة عشرة آلاف دينار أو أكثر من ذلك، فمن تسمح نفسه بهذه الأعمال لحقيق أن يوصف بالجود والكرم، ولولا أن نخرج عما يقتضيه عمل الكتاب لذكرنا من مناقبه ما يطرب السامع ويؤنق المتأمل، وفيما أشرت إليه من ذلك كفاية.(2/362)
«935» - ركب الفضل بن يحيى بن خالد يوما من منزله بالخلد يريد منزله بباب الشماسية [1] فتلقاه فتى من الأبناء [2] مملك، ومعه جماعة من الناس ركبان تحملوا لإملاكه، فلما رآه الفتى نزل وقبّل يده ولم يكن يعرفه، فسأل عنه فعرف نسبه، فسأل عن مبلغ الصداق فعرف أنه أربعة آلاف درهم، فقال الفضل لقهرمانه: أعطه أربعة آلاف درهم لزوجته، وأربعة آلاف ثمن منزل ينزله، وأربعة آلاف للنفقة على وليمته، وأربعة آلاف يستعين بها على العقد وعلى نفسه.
«936» - قال المهلبي للقاضي أبي بكر ابن قريعة: كنت وعدتك أن أغنيك، فهل استغنيت؟ فقال: قد أغناني جود الوزير وإنعامه، ورفع مجلسي بسطه وإكرامه، ولم يبق في قلبي حسرة إلا ضيعة تجاورني لأبي الحسين [3] ابن أبي الطيب العلوي، وأنا متأذّ به، فقال له: كم مقدار ثمنها؟ فقال له:
تساوي ألف [4] دينار، قال: فهذا قريب، فلما انصرف القاضي قال المهلبي لحاجبه: إذا كان غدا فقل لأبي الحسين ابن حاجب النعمان يخرج ما على ابن أبي الطيب من بواقي معاملاته وعلقه وكفالاته، وتحضرني عملا به، فلما أحضر العمل أمر بملازمة ابن أبي الطيب عليه، فدخل العلويّ إلى فرح الخادم وحمّله رسالة إلى المهلبي، وسأله عن سبب وجده عليه، فلم يزل الكلام يتردد حتى
__________
[1] الجهشياري: منزله بالشماسية.
[2] م: الأنبار.
[3] م: لأبي الحسن.
[4] م: تسوى حدود ألف.(2/363)
ذكر له أمر الضيعة ورغبته في شرائها، فحلف أنه لا يملكها وأنها لنساء علويات في داره وبذل له خطابهن عليها ونقد الثمن من ماله، فقال: لا بل تقرره على احتياطي [1] وتعرفني لتزاح العلة فيه، فمضى وعاد بكرة غد ومعه كتاب ابتياع الضيعة باسم أحد وكلائه بعشرة آلاف درهم، فقال لفرح: لا تبرح حتى توفيه المال، فقال: ما عندي دراهم تفي بهذا، فقال تممها من الدنانير التي عندك، ففعل واستدعى الوكيل الذي كتب الكتاب باسمه فأقرّ بالضيعة لأبي بكر ابن قريعة، وأخذ المهلبيّ الكتاب مفروغا منه، وتركه تحت مطرحه، وحضر ابن قريعة على رسمه بعد يومين ولا يعلم شيئا مما جرى، وجلس مع الندماء، فلما همّ المهلبيّ بالنوم نهضوا فقال للقاضي: اجلس حتى تحدثني إلى أن أنام، ثم نهض لبعض الأمر، وقلب جانب المطرح وقال: هذا كتاب ابتياعك الضّيعة التي كنت تتأذى بها، فأخذه القاضي وقرأه وبكى فرحا، فقال له المهلبيّ: القاضي مثل الصبيّ إن منع بكى وإن أعطي بكى، فقال له القاضي: الذي أبكاني فرط السرور، فاني رأيت لنفسي وللوزير ما كنت أسمعه لغيري عن أكارم الزمان فأقدّره كذبا مجموعا وحديثا مصنوعا.
«937» - الفرزدق: [من البسيط]
لو أنّ قدرا بكت من طول محبسها ... عن الحقوق [2] بكت قدر ابن ختّار [3]
ما مسّها دسم مذ فضّ معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار
__________
[1] م: احتياط.
[2] ر م والديوان: على الحقوق.
[3] الديوان: جيار، الشريشي: عمار؛ البخلاء: حبار؛ عيون: جبار.(2/364)