فأبان واستحكم؛ حتى إذا مر في الكلام أو استفرغت الإطالة مجهوده ونزحت مادته، رأيته يتعثر ويتهافت، ورأيت منطقه وقد صرف عن وجهه واختلط وتهالك من الضعف؛ وما على امرئ إلا أن ينظر في خاصة نفسه وداخلة طبيعته، فإنه ولا ريب مصيب فيها كل ذلك أو كثره أو كثيره.
وهذه كلها عيوب تلحق الفصحاء وتقسم عليهم، لا يكاد يسلم منها أحد، وإنما يأتون من جهة النفس في ضعفها أو اضطرابها أو غفلتها، أو ما أشبه ذلك من حال تعتري وعرق يبزع1، وهي خصال لا تكون لأنفس الأنبياء صلوات الله عليهم، فإذا أضفت إلى ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت، ولم يتكلم في غير حاجة، فإذا تكلم لم يسرد سردًا، بل فصل ورتل وأبان وأحكم، بحيث يخرج كل لفظة وعليها طابعها من النفس، علمت أن هذا المنطق النبوي لا يكون بطبيعة إلا على الوجه الذي بسطناه آنفًا، وأنه بذلك قد جمع خصالًا من إحكام الأداء، لا يشاركه فيها منطق أحد إلى حد، ولا تتوافى إلى غيره ولا تتساوى في سواه.
__________
1 لم نزعم هذا زعمًا ولا أخذناه قياسًا على ما نرى، ولكن في لغة القوم ما يثبته، فهم يقولون: ارتك الرجل وفلان مرتك، إذا رأوه بليغًا ولكنه متى خاصم عيي واستضعف. والمخاصمة من أظهر الأحوال التي تضطرب فيها النفس.(2/196)
اجتماع كلامه وقلته صلى الله عليه وسلم:
ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبة فكره صلى الله عليه وسلم على لسانه قل كلامه وخرج قصدًا في ألفاظه محيطًا بمعانيه، تحسب النفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها, فلا ترى من الكلام ألفاظًا ولكن حركات نفسية في ألفاظ1، ولهذا كثرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامع كلمه، كما ستعرفه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء, واتسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لم تم له في كل كلامه؛ لأن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبع غالب مهما تشدد المرء وارتاض ومهما تثبت وبالغ في التحفظ.
هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلة ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادة وخلقًا يجري عليه الكلام في معنى معنى وفي باب باب, شيء لم يعرف في هذه اللغة لغيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلام ويستولي عليه بالكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراه وتعمل؛ كما يشهد به العيان والأثر، فكان تيسير ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم واستجابته على ما يريد وعلى النحو الذي خرج به, نوعًا من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء وذهب بمحاسنها في العرب جميعًا.
وهذا هو الذي كان يعجب له أصحابه، ويرونه طبقة في هذا اللسان وطرازًا لا يحسنه إنسان، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك؛ فمن أدبك "أي: علمك"؟ قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
وهذا خبر متظاهر، وقد مر بك، وهيهات أن يكون في العرب فصيح تعرفه فصاحته ولا يكون قد سمعه أبو بكر، متكلمًا أو خطيبًا أو منشدًا في سوق موسم أو حفل؛ فإنه رضي الله عنه في علم العرب وأنسابها وأخبارها ولغاتها وآثارها, الغاية التي ينتهي إليها ويوقف عندها، حتى لا يعدل به عدل؛ وحسبك أن أنسب العرب في صدر الإسلام، وهو جبير بن مطعم، إنما عنه أخذ ومنه تعلم، وإذا قالوا في المبالغة: أنسب من أبي بكر، فقد قالوا: أنسب الناس!
فهذا أبلغ ما ندلي به من حجة وما ندل به من خبر في هذا الباب2؛ لأنه خبر من أنسب العرب
__________
1 من أجل هذا المعنى وتمكنه فيه صلى الله عليه وسلم كان يكره الإطالة في الكلام بما يجاوز مقدار القصد به، وقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم دون لسانك من حجاب"؟ فقال: شفتاي وأسناني. فقال له: $"إن الله يكره الانبعاق في الكلام؛ فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته". والانبعاق: الاندفاع في الكلام، وهو مظنة الخطأ، وقلما سلم صاحبه من زلل؛ لأنه أبدًا إلى الزيادة عن معانيه وعن حاجته.
2 وجاءت أخبار أخرى مما يدل به، ولكنها في معنى التاريخ دون خبر أبي بكر لما علمت، ونحن نجتزئ بواحد منها لبلاغة التوكيد فيه, وذلك ما رووه من أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس ذات يوم مع أصحابه إذ نشأت=(2/197)
عن معرفة، ومعرفة عن عيان، وعيان بعد استقصاء، واستقصاء عن رغبة في هذا العلم وتحصيله والمعرفة به مع قوة الفطرة وسلامتها ليس وراء ذلك في صحة الدليل مذهب من مذاهب التاريخ.
على أنه لا يؤخذ مما قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الكلام إن رأى وجهًا للإطالة، فقد كان ربما فعل ذلك إن لم يكن منه بد، وقد روى أبو سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم خطب بعد العصر فقال: "ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء! ألا لا يمنعهن رجلًا مخافة الناس أن يقول الحق إذا علمه"!. قال أبو سعيد: ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف1 فقال: "إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى"!.
قلنا: وهذه مدة لا تقدر في عرفنا بأقل من ساعتين، وحسبك بكلام من البلاغة النبوية يستوفيهما، بيد أن الإقلال كان الأعم الأغلب، حتى ورد أنه كان يقصر الخطبة، فروى أبو الحسن المدائني قال: تكلم عمار بن ياسر يومًا، فأوجز، فقيل له: لو زدتنا! قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطالة الصلاة وقصر الخطبة. وقد ورد في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء فينا بكاء"، أي: قلة في الكلام، وهو من بكأت الناقة والشاه إذا قل لبنها، وتأويله على ما بسطناه آنفًا.
غير أن ههنا فصلًا حسنًا لأديبنا الجاحظ ساقه في كتاب "البيان" وقد أورد هذا الحديث بلفظ آخر، وظن أن بعضهم ربما تأوله على جهة الحصر2 والقلة، وعلى وجه المعجزة والضعف، أو خطر له ذلك الهاجس، بما يعطيه ظاهر اللفظ؛ وكل امرئ ظنين بدعواه فكتب ما كتب يستدفع به الظن ويصافح اليقين، وقد رأينا أن نحصل كلامه توفية للفائدة، وبسطًا لما لم نبسطه إذ كان هو قد سبق إليه. قال رحمه الله:
روى الأصمعي وابن الأعرابي عن رجالهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا معشر الأنبياء بكاء"
__________
= سحابة، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة! فقال: "كيف ترون قواعدها"؟ قالوا: ما أحسنها وأشد
تمكنها! قال: "وكيف ترون رحاها"؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: "وكيف ترون بواسقها"؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها! قال: "وكيف ترون برقها؟ أوميضًا أم خعيا أم يشق شقا"؟ قالوا: بل يشق شقا. قال: "فكيف ترون جونها"؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال عليه السلام: "الحياء الحياء": المطر. وقواعد السحابة: أسافلها. ورحاها: وسطها، وبواسقها أعاليها. والوميض اللمع الخفي. وخعيا -بسكون العين- أي: ضعيفًا وجون السحابة: أسودها. فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا الذي هو أفصح منك. قال: "وما يمنعني من ذلك؟ فإنما أنزل القرآن بلساني، لسان عربي مبين".
فتأمل قولهم: "ما رأينا الذي هو أفصح منك" فإن تعبيرهم "بالذي" يدل على تمكن هذا الاعتقاد منهم، وأنهم يخبرون عن نظر ومعرفة واستقصاء، وأنه ليس في جميعهم واحد يقال عند "الذي"، والرواة وعلماء اللغة والبلاغة جميعًا، على أنه صلى الله عليه وسلم من أفصح من نطق بالعربية، وأنه ما جاءهم عن أحد من روائع الكلام مثل ما جاءهم عنه صلى الله عليه وسلم.
1 السعف: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإذا زال الخوص عنها قيل: جريد.
2 الحصر: امتناع الكلام وذهابه عمن يريده، لعجز أو غيره.(2/198)
فقال ناس: البكوء: القلة، وأصل ذلك من اللبن، فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلقة. وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعًا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني، والقلة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلف وعلى البعد من الصنعة ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة.
وتكون من جهة العجز، ونقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى على نبينا وعليه السلام حين قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} .
فلو كانت تلك القلة من عجز، كان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمسألة إطلاق تلك العقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها وطول ألسنتها وتصريف كلامها وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت ذرابتها على كل من قصر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال. وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وخطبه الطوال في المواسم الكبار، ولم يطل التماسًا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوه إذا افتنت كثر عدد اللفظ وإن حذفت فصوله بغاية الحذف. ولم يكن الله ليعطي موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يعطيه محمدًا، والذين بعث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللسن.
"وإنما قلنا هذا لنحسم وجوه الشغب، أن أحدًا من أعدائه شاهد هناك طرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيا ومسموعًا لاحتجوا على الملا ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرع شعرائهم، هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لم يقله،؛ لأن مثل هذا الأخبار يحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنا بفضل الثقة وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشبهه.
وقد علمنا أن من يقرض الشعر ويكلف الأسجاع، ويؤلف المزدوج ويتقدم في تحبير المنثور "لا يكون كذلك إلا" وقد تعمق في المعاني وتكلف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهوًا راهوًا مع قلة لفظه وعدد هجائه، أحمد أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستعين، من كثير خرج بالكد والعلاج؛ ولأن التقدم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يحب السمعة، ويهوى النفج1 والاستطالة؛ وليس بين حال المتنافسين وبين حال المتحاسدين إلا حجاب رقيق وحجاز ضعيف، والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشيمة.
وقال الله تعالى وقوله الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ثم قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ثم قال -أي: في
__________
1 السمعة: الصيت. النفج: الافتخار.(2/199)
الشعراء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} فعم ولم يخص، وأطلق ولم يقيد.
فمن الخصال التي ذمهم بها، تكلف الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق، ومن كان كذلك كان أشد افتقارًا إلى السامع من السامع إليه؛ لشغفه أن يذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء، ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولد ذلك في قلبه شدة الحمية وحب المجاوبة، ومن سخف هذا السخف وغلب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور والفخر والكذب وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه وذم من منعه؛ فنزه الله رسوله، ولم يعلمه الكتاب والحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبد لطلب الألفاظ، والتكلف لاستخراج المعاني، فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة والانبتات إليه، والميل إلى كل ما قرب منه؛ فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يطوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاضلة، فإذا رأت مكانه الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن قد تعبد للمعاني، وتعود نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها واستخراجها من مدافنها، وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد حاولوه قليلًا مما يكون منه على البداهة والفجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله، وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضات لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الاستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن والانتشار، ومن التشديق والإكثار، ورأوه مع ذلك يقول: "إياي والتشادق" و "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون" ثم رأوه في جميع دهره في غاية التسديد، والصواب التام، والعصمة الفاضلة، والتأييد الكريم علموا أن ذلك من ثمرة الحكمة، ونتاج التوفيق، وأن تلك الحكمة من ثمرة التقوى، ونتاج الإخلاص.
"وللسلف الطيب حكم وخطب كثيرة، صحيحة ومدخولة، لا يخفى شأنها على نقاد الألفاظ وجهابذة المعاني، متميزة عند الرواة الخلص، وما بلغنا عن أحد من جميع الناس أن أحدًا ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة واحدة فهذا وما قبله حجة في تأويل ذلك الحديث" ا. هـ.(2/200)
نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم:
ونحن نتم القول فيما بدأ به الجاحظ آنفًا، من تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر، وأنه لا ينبغي له، فإن الخبر في ذلك مكشوف متظاهر والروايات صحيحة متواترة، وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فكان عليه الصلاة والسلام لا يتهدى إلى إقامة وزن الشعر إذا هو تمثل بيتًا منه بل يكسره ويتمثل البيت مكسورًا! مع أن ذلك لا يعرض ألبتة لأحد من الناس في كل حالاته، عربيا كان أو أعجميا، فقد يتعتع المرء في بيت الشعر ينساه أو ينسى الكلمة منه؛ فلا يقيم وزنه لهذه العلة، ولكنه يمر في أبيات كثيرة مما يحفظه أو مما يحسن قراءته؛ فما وزن الشعر إلا نسق ألفاظه، فمن أداها على وجهها فقد أقامه على وجهه، ومن قرأ صحيحًا فقد أنشد صحيحًا.
وهذا خلاف المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، فإنه على كونه أفصح العرب إجماعًا، لم يكن ينشد بيتًا تاما على وزنه، إنما كان ينشد الصدر أو العجز فحسب؛ فإن ألقى البيت كلامًا لم يصحح وزنه بحال من الأحوال، وأخرجه عن الشعر فلا يلتئم على لسانه.
أنشد مرة صدر البيت المشهور للبيد، وهو قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فصححه، ولكنه سكت عن عجزه
"وكل نعيم لا محالة زائل".
وأنشد البيت السائر لطرفة على هذه الصورة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك "من لم تزود" بالأخبار
إنما هو:
"ويأتيك بالأخبار من لم تزود".
وأنشد بيت العباس بن مرداس فقال:
أتجعل نهبي نهب العبيـ ... ـد بين "الأقرع" وعيينه1
فقال الناس: بين عيينة والأقرع. فأعادها عليه الصلاة والسلام: "بين الأقرع وعيينة" ولم يستقم له الوزن.
ولم تجر على لسانه صلى الله عليه وسلم مما صح وزنه إلا ضربان من الرجز المنهوك والمشطور2 أما الأول فكقوله في رواية البراء: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء يوم أحد ويقول:
__________
1 عبيد: اسم فرس العباس، وهذا البيت من أبيات مشهورة.
2 المشطور: جعلت البيت ثلاثة أجزاء، فيتحد العروض والضرب، وعليه أكثر رجز العرب "والجزء الأخير من الشطر الأول يسمى عروضًا، ومثله من الشطر الثاني يسمى صرا" أما المنهوك: فهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وهما أخف أوزان الرجز، لا يمتنع منهما شيء على أحد.(2/201)
أنا النبيئ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
والثاني كقوله في رواية جندب إنه صلى الله عليه وسلم دميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وإنما اتفق له ذلك؛ لأن الرجز في أصله ليس بشعر1 إنما هو وزن؛ كأوزان السجع؛ وهو يتفق للصبيان والضعفاء من العرب، يتراجزون به في عملهم وفي لعبهم وفي سوقهم، ومثل هؤلاء لا يقال لهم شعراء، فقد يتسق لهم الرجز الكثير عفوًا غير مجهود، حتى إذا صاروا إلى الشعر انقطعوا. وإنما جعل الرجز من الشعر تتابع أبياته، وجمع النفس عليه، واستعماله في المفاخرات والمماتنات ونحوها، وأن الأصل في اهتدائهم إلى أوزان الشعر، كما سنفصل كل ذلك في الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب إن شاء الله، فأما البيت الواحد منه، فليس في العرب جميعًا، ولا في صبيانهم وعبيدهم وإمائهم من يأبه له، أو يعده شعرًا، أو يأذن لوزنه، أو يحسب أن وراءه أمرًا من الأمر إنما هو كلام كالكلام لا غير.
ولقد كانت الأوزان فطرية في العرب، فهي في الرجز، وهي في السجع، وهي في الشعر، جميعًا، ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم اتفق له في الرجز أكثر من بيت واحد، أو تمثل منه بأكثر من البيت الواحد كبيت أمية بن أبي الصلت:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وإنما كان له ذلك في الرجز خاصة دون الشعر؛ لأن الشطرين منه كالشطر الواحد في الوزن والقافية، لا يبين أحدهما من الآخر؛ وبخاصة في هذين الضربين المنهوك والمشطور، وهما بعد ذلك كالفاصلتين من السجع، لا يمتازان منه في الجملة إلا بإطلاق حركة الروي، ومن أجل هذه العلة لم يتفق له في غيرهما شيء، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقيم الشطر الواحد من الشعر كما علمت؛ لأن مجازه على انفراده مجاز الجملة من الكلام؛ فلا يستبين فيه الوزن، ولا يتحقق معنى الإنشاد، ولا تتم هيئته من الإيقاع والتقطيع والتشدق ونحوها؛ فإذا صار إلى تمام البيت من المصراع الآخر، وهم الوزن أن يظهر، والإنشاد أن يتحقق، وأوشك الأمر أن يمتاز بما ينفرد به الشعر في خواصه التي تبينه من سائر الكلام كسر وخرج بذلك إلى أن يجعل البيت كأنه جملة مرسلة من الكلام، على ما كان من أمره في الشطر الواحد.
والذي عندنا، أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع إقامة وزن الشعر في إنشاده؛ إلا لأنه منع من إنشائه، فلو استقام له وزن بيت واحد، لغلبت عليه فطرته القوية، فمر في الإنشاد، وخرج بذلك -لا محالة- إلى القول
__________
1 اختلف العلماء في ذلك، وآراؤهم في تعليله مضطربة، فمنهم من يجعل الرجز شعرًا، وهو جمهورهم، ومنهم من ينفي أن يكون من الشعر، والصواب أنه ضرب من الوزن، لم يجعل من الشعر إلا أنه كان الأصل في اهتدائهم إليه، ثم أخذ فيه الشعراء بعد ذلك وأجروه مجرى القصيد، فجعلته العادة شعرًا، أما هو في أصله وحقيقته فليس من الشعر، وسنذكر تاريخه في موضعه من الجزء الثالث.(2/202)
والاتساع وإلى أن يكون شاعرًا، ولو كان شاعرًا لذهب مذاهب العرب التي تبعث عليها طبيعة أرضهم -كما بسطناه في موضعه1- ولتكلف لها، ونافس فيها، ثم لجاراهم في ذلك إلى غايته، حتى لا يكون دونهم فيما تستوقد له الحمية، وما هو من طبع المنافسة والمغالبة، وهذا أمر، كما ترى، يدفع بعضه إلى بعض، ثم لا يكون من جملته إلا أن ينصرف عن الدعوة، وعما هو أزكى بالنبوة وأشبه بفضائل القرآن، ولا من أن يتسع للعرب يومئذ بد، فيقرهم على شيء، ويجاريهم على شيء، وينقض شعره أمر القرآن عروة عروة، ولذا قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 2.
ثم يأتي بعد ذلك جلة أصحابه وخلفائه، يأخذون فيما أخذ فيه، فيمضون على ما كان من أمرهم في الجاهلية، ويثبتون على أخلاقهم وعلى أصول طباعهم ويستطير ذلك في الناس، وهو أمر متى تهيأ نما فيهم، ومتى نما غلب عليهم، ومتى غلب استبد بهم، ومتى استبد لم تقم معه للإسلام قائمة {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .
فانظر، هل ترى شيئًا غير إلهي هذا التدبير المحكم والصنع العجيب؟ وهل ترى ذلك أعجب من أن الله تعالى منع نبيه تصحيح وزن الشعر، وجعل لسانه لا ينطلق به إذ وضعه موضع البلاغة من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه؛ لأنه تعالى من غيب المصلحة لعباده، أنه صلى الله عليه وسلم لو أقام وزن بيت مال به عمود الدين، ثم لتصدع له الأساس الاجتماعي العظيم الذي جاء به القرآن، إذ يكون قد بنى على
__________
1 صفحة 105 من هذا الكتاب فما بعدها.
2 بينا في صفحة 106 وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأتي إلى العرب بالتمويه، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون.... إلخ، وأمسكنا هناك عن مثل نضربه؛ لأن له هنا موضعًا، وذلك أن ثقيفًا، وهم من أشد العرب، كانوا يأبون أن يدينوا للإسلام، حتى أسلم أكثر العرب، فائتمروا بينهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدًا في السنة التاسعة للهجرة، فلما دنوا من المدينة، لقوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب الصحابة، فلما رآهم ترك الركاب وخرج يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم. فلقيه أبو بكر، فلما علم الخبر قال له: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه! ففعل المغيرة، ودخل أبو بكر بهذه البشرى.
ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا، إلا بتحية الجاهلية، ثم كان فيما سألوه عليه الصلاة والسلام واشترطوه لبيعتهم وإسلامهم، أن يدع لهم الطاغية، وهي "اللات" لا يهدمها، ثلاث سنين، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة. فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى أن يدعها شيئًا يسمى وإنما كانوا يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم. ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه"! فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! ثم أسلموا. وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا. ولكنه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وهذا خبر مكشوف ليس منه موضع إلا هو يعطيك معنى من الفرق بين الأمر الإنساني والأمر الإلهي. فليست تبلغ العبارة في معناه ما تبلغ عبارته بمعناه.(2/203)
غير أركان وثيقة ولا عماد محكم.
على أن منع الشعر إنما أخذ به صلى الله عليه وسلم منذ نشأته، ولولا ذلك ما استقام له وجه طبيعي ليس فيه ندرة تعد؛ فقد نشأ منه نشأته على بغضه؛ والانصراف عما يزين الشيطان منه، والنفرة من تعاطيه، وعلى أن يتوهم شيئًا من أوزانه وأعاريضه حتى يميت الدواعي إليه من نفسه، فلا تنزع به الفطرة، لا تستدرجه العادة، وعظم ذلك عنده وبلغ، لا يعرف أحد من العرب كره قول الشعر كرهه، ولا أبغضه بغضه، مع تأصله في فطرتهم، ونزوعهم إليه بالعِرْق، ونشأة الناشئ منهم على أسبابه من طبيعة الأرض وطبائع أهلها، وعلى أنه لا يفتأ يدور في مسمعه، ويختم في قلبه، ولا يبرح منه راويًا أو حاكيًا، فقد كان حكمة القوم وسياستهم ومعدن آدابهم وديوان أخبارهم، بل كان عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، والصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم، كما سلفت الإشارة إليه في موضعه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر 1. ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، فعصمني الله منهما، ثم لم أعد".
لا جرم أن ذلك تأديب من الله أراد به تحويل فطرته صلى الله عليه وسلم عن الشعر وقوله، حتى لا تنزع به العادة منزعًا، ولا تذهب في أسبابه مذهبا وحتى تستوي في ذلك ظاهرًا ودخلة، فلا يستطرق لها الوهم من باب ولا يجد إليها مهوى يبلغه، ومتى كان بغض الشعر في نفسه كبغض الأوثان وأن العمل في ذلك بالنسبة إليه كالعمل لهذه، فكيف يمكن أن يبقى له مع هذا كله طبع فيه أو وجه إليه. وكيف يتأتى أن يكون مثل هذا أدبًا أخذ به نفسه وراضها عليه، دون أن يكون تأديبًا من الله وتصرفًا منه، في تكوين نفسه وتهذيب فطرته، وتحويل طبعه، وأن يكون قد منعه في هذا الباب ما لم يمنعه أحدًا من قومه، كما أعطاه في أبواب كثيرة ما لم يعطه أحدًا منهم، وخاصة إذا عرفت أن الشعر قد كان سجية في أهله، وأنه ليس من بني عبد المطلب رجالًا ونساء من لم يقل الشعر غيره صلى الله عليه وسلم وإنما كل ذلك تفسير طبيعي لقوله عليه الصلاة والسلام: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
على أنه فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر ويستنشده، ويثيب عليه، ويمدحه متى كان في حقه ولم يعدل به إلى ضلالة أو معصية، والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك قد كان منه صلى الله عليه وسلم لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواية من يجل وكده حمل الشعر وروايته وتفسيره واستخراج الشاهد والمثل منه، وكأنه عليه الصلاة والسلام حين سمع الشعر وأثاب عليه ورخص فيه لم يرد إلا هذا المعنى، والشاهد القاطع قوله في أمر الجاهلية: "إن الله قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته" وبمثل هذا القول استأنس العلماء وتجردوا للرواية وتملئوا منها. رحمهم الله وأثابهم بما صنعوا!
وقد كان له صلى الله عليه وسلم شعراء ينافحون عنه، ويتجارون مع شعراء القبائل الأحاديث والأفانين، ولم
__________
1 أي: قوله وعمله. كما فسروه وكما هو ظاهر، وعطف الشعراء على الأوثان هذا. الحديث عجيب، فما من شاعر إلا له كالوثن، من امرأة، أو رذيلة، أو نحوها.(2/204)
يقمهم هو ولكن أقامتهم العادة العربية التي جعلت قولهم أشد على بعض العرب من نضح النبل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالفخر، ولم يبعث للهجاء، وقد ترك عادة العرب ونخوة الجاهلية في مثل ذلك، ولكنهم لم يتركوها في أول العهد بالرسالة، فكانوا يهيجون عليه شعراءهم، ويحرضون خطبائهم، ويقصدونه بالأقاويل يستطيلون بها عليه، فإذا أتاه الوفد منهم: كبني تميم حين جاءوه بشاعرهم الأقرع بن حابس1 وخطيبهم عطارد بن حاجب؛ ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد، اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين. رماهم بمثل خطيبه ثابت بن قيس شماس، أو بأحد شعرائه عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك، فضغموا الشعراء والخطباء، وأبلغوا في الرد عليهم، تأييدًا من الله في المنافحة عن نبيه، وردا لكيدهم الذي يكيدون.
ولقد كانت السابقة في ذلك لحسان رضي الله عنه، وكان ذا لسان ما يسره به معقول من معد وكأنما زاد الله فيه زيادة ظاهرة؛ وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل وروح القدس معك" فكان إذا أرسل لسانه لم يجدوا له دفعًا، وإذا مسهم بالضر لم يجد شعراؤهم نفعًا، وإذا وضع منهم لم يستطيعوا لما وضعه رفعًا:
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم ثبع2
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع، ولا يوهون ما رقعوا
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
__________
1 وكان شاعرهم أيضًا الزبرقان بن بدر، وهو الذي فاخر بهم يومئذ، فلما أجابه حسان رضي الله عنه بأبياته العينية المشهورة؛ قال الأقرع بن حابس: وأبي؛ إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. ثم أسلم القوم جميعًا!
2 من أبيات حسان بن ثابت رضي الله عنه.(2/205)
تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم:
قد علمت مما بسطناه في مواضع كثيرة1، أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بيانًا؛ وأنهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي صلى الله عليه وسلم من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمت ما قلناه آنفًا في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وأن له في تلك رتبة بعيدة المصعد، فلا جرم كان صلى الله عليه وسلم على حد الكفاية في قدرته على الوضع، والشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظًا كثيرة لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، وهي تعد من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلًا، وأصبح ميراثًا خالدًا في البيان العربي، كقوله: مات حتف أنفه2 وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت كلمة غريبة من العرب -يريد التركيب البياني- إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول: "مات حتف أنفه" وما سمعتها من عربي قبله.
ومثل ذلك قوله في الحرب: "الآن حمي الوطيس"، وقوله: "بعثت في نفس الساعة" إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد. وهذا ضرب عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالبه؛ وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصرت طرق الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العربية منه ما أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها.
والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازة مجاز الإيجاز والاقتضاب؛ وهذا الباب كانت تنصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا توجد معدومًا؛ فلم يعرف لأحد من بلغائهم وضع بعينه يكون هو انفرد به وأحدثه في اللغة3 ويكون العرب قد تابعوه عليه، إلا ما ندر لا يعد شيئًا؛ بخلاف المأثور
__________
1 انظر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 أي: على فراشه، قال في "القاموس": وخص الأنف؛ لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه. وقال في النهاية: كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه فإن جرح خرجت من جراحته. قلنا: وكل ذلك تحتمله العبارة غير أن لها رأيًا آخر وهو أن موت الرجل على فراشه من غير حرب ولا قتال ولا أمر يؤرخ به الموت في الألسنة، مما كانوا يأنفون له، والحتف هو الهلاك، فكأن صاحب هذه الميتة إنما ماتت أنفته وكبرياؤه، فلم يرفع الموت أنفه في القوم، بل أذله وأرغمه، فكان به هلاكه؛ لأن حياته كانت في عزته، وعزته كانت في أنفه وأنفه هو الذي كبه الموت وإنما مجاز العبارة كما يقال في الكبر: ورم أنفه، وفي العزة حمى أنفه. وفي الدفاع عن الأم: غضب لمطلب أنفه، وكما يقال: غضبه على طرف الأنف، إذا كان سريع الغضب؛ وجعل أنفه في قفاه إذا ضل، ونحو ذلك مما يكثر في كلامهم، الذي يؤيد ما ذهبنا إليه في سياق العبارة نفسها، فقد وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات حتف أنفه في سبيل الله فهو شهيد" أي: فلا غضاضة عليه مما يكره.
3 هذا المعنى مما انفرد العرب بعلمه، إذ لم يقع إلينا منه شيء يسمى تاريخًا ولو أن أوضاع اللغة كانت منسوبة في الدواوين والمعاجم لأدركنا من إعجاز القرآن ومن قدرة البلاغة النبوية مثل ما أدركه العرب أنفسهم، أو قريبًا من هذه المنزلة، فإن الذي نذهب إليه أن أكثر أوضاع القرآن مبتكر في البيان العربي، وأن العرب لم يرثوه في كلامهم، لكنا أضربنا عن الكلام في هذا الباب على سعته؛ لأن أدلته قد ماتت قبل 1300 سنة من بكائنا عليها ... !(2/206)
عنه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، فهو كثير تعد منه الأسماء والمصطلحات الشرعية مما لم يرد في القرآن الكريم، ومنه ألفاظ كان العرب أنفسهم يسألونه عنها ويعجبون لانفراده بها وهم عرب مثله؛ كما عجبوا لفصاحته التي اختص بها ولم يخرج من أبين أظهرهم، كما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي تميمة الهجيمي: "إياك والمخيلة" فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب؛ فما المخيلة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "سبل الإزار" ومرت الكلمة بعد ذلك على هذا الوضع، يراد بها الكبر ونحوه.
وكثيرًا ما كان يسأل أصحابه عن مثل هذا فيوضحه لهم، ويسددهم إلى موقعه؛ واستمر عصره على ذلك، وهو العصر الذي جمعت فيه اللغة واستفاضت، وامتنع العرب عن الزيادة فيها بعد أن سمعوا القرآن الكريم وراعتهم أسرار تركيبه؛ فلم يكن يومئذ من يتجوز ويقتضب ويشتق ويضع غيره صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان لا يتأتى إلى ذلك بالروية، ولا يستعين عليه بالفكر، ولا يجمع بالنظر؛ إنما هو أن يعرض المعنى فإذا لفظه قد لبسه واحتواه وخرج به على استواء، لا فاضلًا ولا مقصرًا، كأنما كان يلهم الوضع إلهامًا، وليس ذلك بأعجب من مخاطبته وفود العرب بما كان لهم من اللغات والأوضاع الغريبة التي لا تعرفها قريش من لغتها، ولا تتهدى إلى معانيها، ولا يعرفها بعض العرب عن بعض، ثم فهمه عنهم مثل ذلك على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، حتى قال له علي رضي الله عنه وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد1: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فقال عليه الصلاة والسلام: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
ومن ذلك كتبه الغريبة التي كان يميلها2 ويبعث بها إلى قبائل العرب يخاطبهم فيهم بلحونهم ولا يعدو ألفاظهم وعبارتهم فيما يريد أن يلقيه إليهم، وهي ألفاظ خاصة بهم وبمن يداخلهم ويقاربهم، ولا تجوز في غير أرضهم ولا تسير عنهم فيما يسير من أخبارهم، ولا تأتلف مع أوضاع اللغة القرشية
__________
1 لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير النهدي، وهو خطيب مفوه، فتكلم بكلام غريب من لغة قومه، أجابه عنه صلى الله عليه وسلم ودعا لهم، ثم كتب معهم كتابا إلى بني نهد؛ وكل ذلك نقله صاحب "المثل السائر" في كتابه صفحة 97 من الطبعة الأميرية وكلام طهفة أيضًا في كتاب الوفود من "العقد الفريد" ولكنه هناك قد ذهب به التحريف كل مذهب حتى اسم طهفة نفسه، فإنه هناك "طهبة"، وهو غير صحيح وغير المشهور، فإن طهفة اثنان: أحدهما النهدي، والثاني ابن قيس الغفاري، وكلاهما صحابي؛ والاختلاف في اسم هذا دون ذاك، على وجوه متعددة، آخرها طهية.
وكل ما ورد الغريب في كلام طهفة النهدي، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم شرحه ابن الأثير في مواضعه من كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" فالتمسه إن أردته، فإن الاستقصاء في هذا الباب ليس من غرض كتابنا.
2 ولا يفوتنا أن ننبه على أن صناعة الكتابة إنما كان ابتداء تمثيلها بما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الكتاب، ولم يكن ذلك من أمر العرب قبله، إنما كانوا يستودعون رسائلهم في الألسنة، وقد أحصوا من كتبوا عنه الوحي والرسائل فعدهم ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ثلاثة وعشرين، وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.(2/207)
فما ندري أي ذلك أعجب: أن ينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة هذا الغريب من ألسنة العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكون قومه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى اشتق اسمهم منها1، وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، وحين يتوافون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لا يعلمون من هذا الغريب بعض ما يعلمه، ولا يديرونه في ألسنتهم، ولا يورثونه أعقابهم فيما ينشئون عليه من السماع والمحاكاة؛ حتى كان هذا الباب فيه صلى الله عليه وسلم بابًا على حدة، كما يؤخذ كل ذلك من قول علي: "نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فليس العجب في أحد القسمين إلا في وزن العجب من الآخر.
على أنا ننقل كتابًا من هذه الكتب؛ لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغة السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه اللغات الغريبة التي يجمعها صلى الله عليه وسلم دون قومه، ثم لا تجري في منطقه إلا مع أهلها خاصة؛ ولا تندر في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقص من فصاحته، أو تضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظه وروايته، وهم أهل التوعر والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تسلمهم إلى ذلك طبيعة الغريب نفسه، إذ يدور في ألسنتهم ويستجيب لهم كلما مثلت معانيه، غير مختلب ولا مستكره، ويغلبهم على مراده من الكلام السهل المأنوس؛ لأنهم أكثر رغبة فيه، وأشد عناية به في الطلب والحفظ والمدرسة؛ ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفير قسطه من المزاولة، وتوفيه حقه من العناية به تبلغ منه البلاغ كله، وحتى يكون هو الغالب عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية.
أما الكتاب الذي أشرنا إليه فهو كتابه صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، ومنه: "إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب ... ".
وفيه: وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطوا الثبجة. وفي السيوب الخمس ومن زنى مم بكر فاصعقوه مائة، واستوفضوه عامًا. ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم. ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام وائل بن حجر يترفل على الأقيال"2.
__________
1 قال الجاحظ في بعض رسائله: قد علم المسلمون أن خيرته تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه من أهل بيت التجارة: وهي معولهم، وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم. وبالتجارة كانوا يعرفون, ولذلك قالت كاهنة اليمن: لله در الديار، لقريش التجار، وليس قولهم "قرشي"، كقولهم هاشمي وزهري وتميمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشًا فينسبون إليه، ولكن اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش. ا. هـ. وقال في رسالة أخرى: إنهم كانوا إذا أخرجوا التجارة علقوا عليها المقل ولحاء الشجر حتى يعرفوه فلا يقتلهم أحد.
2 تفسير هذا الكتاب على نسق ألفاظه: الأقيال: جمع قيل، وهو الملك من ملوك حمير وحضرموت. والعباهلة المقرون على ملكهم فلم يزالوا عنه. والأرواع الذين يروعون بالهيبة والجمال. والمشابيب: جمع مشبوب، وهو الجميل الزاهر اللون. والتيعة: أربعون شاة. تطلق على أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان والمقورة الألياط أي: المسترخية الجلود. والضناك: الموثقة الخلق السمينة، يريد أن شاة الصدقة لا تكون من المهازيل ولا=(2/208)
ومن هذا الباب كلامه صلى الله عليه وسلم مع ذي المشعار الهمداني، وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي، والأشعث بن قيس، وغيرهم من أقيال حضرموت ورجال اليمن، وقد أحصاه أهل الغريب وفسروه، وانظر كتابه إلى همدان، ومنه:
" ... إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها1، تأكلون علافها، وترعون عفاءها2؛ لنا من دفئهم وصرامهم3 ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل4 والفارض والداجن والكبش الحوري5، وعليهم فيها الصالغ والقارح"6.
فهذه طائفة يسيرة مما انتهى إلينا من غريب اللغات التي كان يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما خرجت عنه هي وأمثالها، مما جمعوا حديثًا كالأحاديث، ورويت كما فصلت؛ ولولا أنها وجه من التاريخ والسيرة، وضرب من تعليم أولئك القوم، لقد كانت انقطعت بها الرواية فلم ينته إلينا منها شيء، فهي ولا ريب لم تكن مجتلبة، ولا متكلفة، ولا ترامي إليها البحث والتفتيش، وإنما جرت منه صلى الله عليه وسلم مجرى غيرها؛ مما قذفه الطبع المتمكن، وألفته السليقة الواعية، ولا ريب أن وراءها في ذلك الطبع وتلك السليقة، ما وراء ألفاظها من سائر ما انفردت به تلك اللغات عن القرشية، فلا بد أن يكون صلى الله عليه وسلم محيطًا بفروق تلك اللغات، مستوعبًا لها على أتم ما تكون الإحاطة والاستيعاب، كأنه في كل لغة من أهلها، بل أفصح أهلها.
وإنما يحمل هذا على قوة في فطرته اللغوية، تتميز بالإلهام عن سائر العرب من قومه وغير قومه، على النحو الذي اختصت به ذاته الشريفة بالوحي من ربه، والباب في كلتا الجهتين واحد أيسره وأكثره.
__________
= من الكرائم، بل تكون وسطًا وهو المراد بقوله: "وأنطوا الثبجة" أي: أعطوا بلغتهم، إذ يبدلون العين نونًا، والثبجة: الوسط، ومنه ثبج البحر.
والسيوب: جمع سيب، وهو العطية. والمراد به الركاز. وهو دفين الجاهلية ومم بكر، ومم ثيب أي: من بكر، ومن ثيب، وهي لغتهم في إبدال النون ميمًا، الصقع: الضرب، والاستيفاض: النفي والتغريب.
والأضاميم: الحجارة الصغار. والتوصيم: الفترة والتواني.
ويترفل أي: يترأس، وتروى في هذا الكتاب صورة أخرى بزيادات غريبة.
1 الفراع: مجاري المياه إلى الشعب، والوهاط والوهاد بمعنى واحد: وهي الأراضي المنخفضة، والعزاز: الأرض الصلبة.
2 العلاف: جمع علف. والعلفاء ما ليس فيه ملك.
3 الدفء والصرام أي: الإبل والغنم.
4 الثلب: البعير الهرم الذي تكسرت أسنانه، والناب: الناقة الهرمة. والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
5 الفارض: المسن من الإبل. والدواجن: الدابة التي تألف البيوت. والحوري يقال في تفسيره: إنه المكوي، منسوب إلى الحوراء، وهي كية مدورة، ويقال: حوره إذا كواه هذه الكية لا.
6 الصالغ من البقر، والغنم: الذي كمل وانتهت سنه في السادسة, والقارح من ذي الحافر: بمنزلة البازل الإبل. وكل ذلك الذي كمل وانتهى في القوة.(2/209)
وإذا كانت تلك فطرته اللغوية، في تمكنها، وشدتها، واستحصافها، وسبيلها إلى الإلهام؛ وانطوائها على أسرار الوضع؛ فانظر ما عسى أن يحدث من مبلغ أثرها في اللغة وضعًا واشتقاقًا واستجازة وتقليبًا، وما عسى أن يبلغ القول في مظاهرها من مخارج الكلام ووجه إرساله وإحكام تنضيده واجتماع نسقه؛ ثم تدبر ما عسى أن تكون جملة ذلك قد أثرت في العرب ومناطقها وأساليبها، وهم كما علمت أهل الفطرة والسليقة وإنما أكبر أمرهم في اللغة التوهم والنزوع إلى المحاكاة، والمضي على ما توهموا، والأخذ فيما نزعتهم إليه الطبيعة، وعلى ذلك مبنى لغتهم كما فصلناه في بابه1.
فالعربي الفصيح منهم، إذا كان جافيًا متوقحًا، وكان صافي الحس بليغ الطبع، وكان في قواه البيانية مع ذلك فضل من التصرف رجع أمره ولا جزم إلى أن يكون صاحب لغتهم، وإلى أن يكون منطقه فيهم مذهبًا من المذاهب، وإن كانوا لا يعرفونه باللغة وعلمها وتصريفها على الحدود التي يعرف بها الناس علماءهم، وكان هو لا يعرف من نفسه أنه لغوي وأنه واضع، إذ ليس من ذلك شيء يسمى عندهم علمًا، إنما هو سمت الفطرة التي تأخذ فيه طبائعهم، ودلالتها التي تهتدي بها وتستقيم عليها لا أكثر من ذلك ولا أقل، ولقد كان هؤلاء العرب أجدر الناس بأن يقال إن فيهم حاسة سادسة، هي حاسة الاهتداء اللغوي، ثم لا يكون هذا القول إلا حقا.
وبعد، فإنه ليس لنا أن نبسط في الفصل أكثر مما بسطنا، فإن علماءنا ورواتنا رحمهم الله لم يوقعوا الكلام في أماليهم وكتبهم على حالة اللغة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم تعيينًا، ولا دلوا على ما كان له من الأثر في أوضاعها وتقليبها، وعلى ما جاء من قبله في ذلك مما كان من قبل سواه؛ وعلى ما صارت إليه اللغة بعد استفاضة الإسلام والاجتماع على المضرية، إلى ما يداخل ذلك من أبواب التاريخ اللغوي، وإنما اكتفوا بأنهم إجماع واحد، ويقين لا تحتل منه، أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وأعلمهم بلغاتها وأوسعهم في هذا الباب, وأنه لم يأتهم عن أحد من روائع الكلام ما جاءهم عنه, وأن له في كل ذلك المزية البينة، التي تواتر النقل، وتظاهر بها الخبر، كما أسلفنا بيانه، ثم تركوا أن يتوسعوا في تفصيل ما أجمعوا عليه وأن يعتلوا له بأسبابه، ويعرضوا له من وجوهه، ويستقصوا فيه إلى أوائله، ويأخذوه من نشأته؛ حتى إن الذين وضعوا الكتب الممتعة في علم غريب الحديث، لم يتعرضوا له، ولم يقولوا فيه قولًا، مع أنه مبنى علمهم، وجهة تأليفهم، وله منصب الحجة، وإليه غاية الرأي، بل اجتزءوا -عفا الله عنهم- ببيان اللفظ الغريب وتفسيره، وصرفوا أكبر همهم إلى الإكثار من الجمع، وإلى صحة المعنى وجودة الاستنباط, وكثرة الفقه, وإشباع التفسير وإيراد الحجة وذكر النظائر, وتخليص المعاني، حتى كانت هذه الكتب كلها كما قال الخطابي البستي2 "إذا حصلت كان مآلها
__________
1 الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 كان بعد الستين وثلاثمائة من الهجرة، وقد ألف كتابًا في غريب الحديث استوعب فيه كل ما تقدمه. ثم اتصل التأليف بعده في هذا العلم حتى وضع الزمخشري كتابه "الفائق": وهو من أوسع الكتب في غريب الحديث، ليس أوسع منه إلا كتاب "النهاية" لمجد الدين ابن الأثير وكلاهما مطبوع متداول، وهم يقتصرون على إيراد الألفاظ وتأويلها، ويقفلون ما وراء ذلك من تاريخ اللفظ، ونسبه في القبائل وتسلسله في الألسنة، فأحيوا بعملهم فروعًا في اللغة، وأماتوا فروعًا في التاريخ، كما بسطناه في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.(2/210)
كالكتاب الواحد".
وما ننكر أن هذا كله حظ النقل والرواية. ولكن أين حظ الرأي والدراية؟ وأين مذهب الحجة، وأين فائدة التاريخ؟ وأين دليل الفصاحة من اللغات؟ وأين أدلة اللغات من أهلها؟ ... وهذه فنون لو أن الرواية امتدت بها أو بعضها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان لعلمائنا رأي محصد في هذا الأمر, وحسبه حسنة, ونظر وتدبير لقد كان الله ارتاح لنا برحمة من عملهم، وأنقذنا عن كثير لا نبرح نضطرب فيه آخر الدهر، وهيأ لنا من صنيعهم أسبابًا وثيقة إلى أبواب من فلسفة هذه اللغة وتاريخ آدابها؛ ولكن ذلك قد كان من أمرهم في اللغة خاصة، ولما بيناه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب, لم يرو أنه يسقط شيئًا على من بعدهم، ولا رأوا أنه وكف ولا نقص1، ولا أن في باب الرأي غير ما صنعوا، فأخذوه على الجهة التي اتفقت لهم، وجاءوا به من عصرهم لا من عصره.
وقد كان هذا الشأن قريبًا منهم لو أرادوه، وذلك الأمر موطأ لهم لو اعتزموا فيه؛ ولكنه فوت قد فات, وعمل قد مات، وأمل لزمته هيهات فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا؛ فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصل القول بين الأسباب وما تسببت له، ونعتل لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونستروح إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبها الإجماع ويشدها الاتفاق، ومهما أخطأنا من ذلك لم يخطئنا الكشف على أصل المعنى وثبته ووجه مذهبه، وفي هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضرب من الكمال والتأليف، وباب من التطوع في العمل، وإنما وجه الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة ومظهر الواجب في الفرض وحده وكم وراء الفرض من نافلة.
__________
1 أي: لا عيب ولا إثم، والعبارة على المجاز.(2/211)
نسق البلاغة النبوية:
قد قلنا في بيان أسلوب كلامه صلى الله عليه وسلم، أنه أسلوب منفرد في هذه اللغة، قد بان من غيره بأسباب طبيعية فيه، وأن ما أشبهه من بلاغة الناس في الكلمات القليلة والجمل المقتضبة، لا يشبهه في العبارة المبسوطة، ولا يستوي له الشبه مع ذلك في كل قليل ولا في كل مقتضب، حتى يقع التنظير بين الأسلوبين على الكفاية، وحتى يميل الحكم إلى الجزم بأن بعض ذلك كبعضه: بلاغة ونسقًا وبيانًا.
ونحن الآن قائلون في نسق هذا الأسلوب؛ ليتأدى بك القول إلى صميم مذهبه، وينتظم هذا القول بعضه ببعض.
إذا نظرت فيما صح نقله1 من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية، رأيته في
__________
1 ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى، لتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه أو غيره من أئمة البصريين على النحو واللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولو كان التدوين شائعًا في الصدر الأول وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه وصوغه وبيانه، لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها.
وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها ما يتفق لهم بنصه. وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا يتفق، فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
ولبعضهم كلام حسن في ذلك، وقال إن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كاف، ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المعقول المحتج به "أي: على اللغة والنحو" لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث شائع بين النقلة والمحدثين ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تبدل, ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحًا فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها، ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى، إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم.
وتدوين الأحاديث والأخبار، بل وكثير من المرويات، وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان أولئك المبدلين -على تقدير تبديلهم- يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال.
قلنا: وهذا الكلام يرجع آخره إلى أوله كما ترى، فلا ينفي رواية الأحاديث بالمعنى؛ لأنه توجيه في صحة الاستدلال بها على النحو واللغة، وإنما الذي هو مادة كلامنا في هذا الباب، اللفظ والعبارة وقيامها بالمعنى. ولولا ما نعلم من حفظ العرب وثبات ما ارتبطوا في صدورهم. وأن الحديث هو كان علمًا من علم الصحابة رضوان الله عليهم لشككنا في لفظ كل ما رووه من الأحاديث إلا قليلًا مما يكون لفظه نصا لمعناه. كالوضع البياني والحكمة القصيرة، والمثل السائر ونحوها.(2/212)
الأولى مسدد اللفظ محكم الوضع جزل التركيب. متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات, فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه واللفظ وضريبه في التأليف والنسق، ثم لا ترى فيه حرفًا مضطربًا؛ ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه؛ ولا كلمة غيرها أتم منها أداء للمعنى وتأتيًا لسره في الاستعمال؛ ورأيته في الثانية حسن المعرض، بين الجملة، واضح التفضيل، ظاهر الحدود جيد الرصف، متمكن المعنى؛ واسع الحيلة في تصريفه، بديع الإشارة، غريب اللمحة، ناصع البيان، ثم لا ترى فيه إحالة ولا استكراهًا، ولا ترى اضطرابًا ولا خطلًا، ولا استعانة من عجز، ولا توسعًا من ضيق، ولا ضعفًا في وجه من الوجوه.
وهذه حقيقة راهنة؛ دليلها ذلك الكلام نفسه بجملته وتفصيله، لا يجهلها إلا جاهل، ولا يغفل عنها إلا غافل، فإذا أنت أضفت إليها ما هناك، من سمو المعنى؛ وفصل الخطاب، وحكمة القول، ودنو المأخذ، وإصابة السر، وفصل التصرف في كل طبقة من الكلام، وما يلتحق بهذه وأمثالها من مذهبه صلى الله عليه وسلم في الإفصاح، ومنحاه في التعبير، مما خص به دون الفصحاء، وكان له خاصة، من عظمة النفس، وكمال العقل، وثقوب الذهن ومن المنزعة الجيدة، واللسان المتمكن, رأيت من جملة ذلك نسقًا في البلاغة قلما يتهيأ في مثول أغراضه وتساوق معانيه لبليغ من البلغاء، إذ يجمع الخالص من سر اللغة ومن البيان ومن الحكمة, بعضها إلى بعض.
أما اللغة فهي لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمنصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان فبيان أفصح الناس نشأة، وأقواهم مذهبًا، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوة، وتبصير الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية.
وأين من ذلك الفصحاء والبلغاء وأنى لهم؟ وما قط عرفنا بليغًا سلمت له جهات الصنعة في كلامه -من اللغة والبيان والحكمة- على أتمها، بحيث لم يرغ عن قصد الطريقة، ولا تحيفته إحدى هذه الثلاث بإدخال الضيم على أختيها في كلامه واستبانة أثرها فيه وغلبتها عليه، وإنما هو جهد الممرن من هذه الفئة أن يصنع الصنعة، ويغلو في الإتقان، ويبالغ في التهذيب والتنقيح، ويعمل بما وسعه لتخليص كلامه، ويتلوم على ذلك1 ويتقدم فيه ويتأخر متأملًا ههنا وههنا من أعطاف الكلام، ثم هو بعد ذلك إن سلمت له الحكمة لم تسلم له صنعة اللغة في حس الهداية إلى الاستعمال والتمكن منه، وإن خلصت له هذه لم يخلص إلى أسرار البيان في تركيبها وتنضيدها، فإن هو أفضى إليها لم يخلص إلى النادر منها، مما يخرج الكلام في قبوله وحسن معرضه وصفاء رونقه ودقة تأليفه كأنه وضع تركيبي مرتجل، له غرابة الارتجال في الوضع المفرد الذي هو من أصل اللغة، فإن قوة البيان إنما هي في هذه الغرابة وفي جهتها ومقدارها على ما عرفته من قبل.
__________
1 تلوم على كذا: تمكث فيه وأبطأ، وتقول: فلان يتلوم على حوك الشعر وصنعته أي: يبطئ في عمله، مما يتكلف من إطالة النظر والتنقيح.(2/213)
ومن أجل ذلك تقرأ كلام البليغ من الناس، فترى الصنعة المحكمة، والطبع القوي، والصقل البديع، واللفظ المونق، والحكمة الناصعة، ولكنك تصيب أكثر ذلك أو عامته على وجهه كما هو، ليس فيه سر من أسرار البيان، ولا دقيقة من أوضاع اللغة، ولا غرابة من التركيب تتحير فيها، وتقف عندها وتعطف برأيك عليها كلما هممت أن تمضي في الكلام، وتردد نظرك في مصادرها ومواردها، على إصابتك من الصناعة، وبلوغك من الأدب، ورسوخك في حكمة البلاغة، فإن البصير بذلك ليمر في كلام البلغاء مرا، لا يعدو أن يستحسنه ويعجب به ويستمرئ أسلوبه، حتى إذا انتهى إلى وجه من وجوه هذه الغرابة البيانية رأى في الكلام عقلًا من العقول تنطوي عليه الأحرف القليلة، وكأنه يكاشفه بنفسه وقد ثبت على نظره كما تثبت العاطفة، فما يعفو ولا يضمحل1 حتى يكون هذا المتبين الذي يطلب أسرار الكلام قد وقف عنده ذاهلًا، وحبس عليه الفكر يتأمل به فرق ما بين عقله وهذا العقل، ويروز نفسه2 منه مختبرًا، ويتعرف من تلك الأحرف القليلة مسافة ما بين العجز والقدرة إن كان عاجزًا عن مثله، أو ما بين قوة وأخرى إن كان قادرًا عليه؛ فكأن اللفظة الواحدة من تلك الجملة إنما هي مقياس للنبوغ والابتكار وكأن الجملة ليست كلامًا من الكلام، ولكنها سر من أسرار النفس يلقي إليه شغلًا طويلًا لم يكن هو من قبل في سبب من أسبابه. وما كان إلا في أحرف وكلمات ينشر منها ويطوي، فقد صار إلى كلمات مسحورة تنشر هي من نفسه وتطوي.
هذا، على أن كلامه صلى الله عليه وسلم ليس مما تكلف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يتلوم على حوكه وسرده، ولكنه عفو البديهة، ومساقطة الحديث، مما يجريه في مناقلة الكلام ومساق المحاضرة، وأنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثله في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الرواية. ومراجعة الطبع، والغلو في الصنعة، وعلى أن لهم السبك الخالص والمعدن الصريح, والبيان الذي يتفجر في الألسنة لرقته وعذوبته واطراده.
والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المورقة في روائها ونضرتها حتى تتسق له أسباب من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمرًا، والثمر بعد متفاوت في أشجار البلاغة، نضجًا وماء وحلاوة وكثرة، وما أثمرت من ذلك بلاغة غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم بلاغة الأرض في كلامه صلى الله عليه وسلم، والناس بعد ذلك أجمعوا حيث طاروا أو وقعوا.
فمن هذه الأوضاع قوله عليه الصلاة والسلام: "مات حتف أنفه" وقد شرحناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حنين: "الآن حمي الوطيس" والوطيس: هو التنور مجتمع النار والوقود، فمهما كانت صفة الحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلام أكلًا، وكأنما هي تمثل لك دماء نارية أو نارًا دموية!
__________
1 لا يندرس ولا يمحى ولا يذهب؛ لأنه وضع النفس للنفس.
2 يزنها ويمتحنها ويعرف مقدارها.(2/214)
وقوله في حديث الفتنة: "هدنة على دخن"، والهدنة: الصلح والموادعة والدخن: تغير الطعام إذا أصابه الدخان في حال طبخه فأفسد طعمه1.
وهذه العبارة لا يعدلها كلام في معناها، فإن فيها لونًا من التصوير البياني لو أذيبت له اللغة كلها ما وفت به، وذلك أن الصلح إنما يكون موادعة ولينًا؛ وانصرافًا عن الحرب، وكفا عن الأذى؛ وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة فإذا بني الصلح على فساد، وكان لعلة من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يسترح غيره من أفعالها، كما يغلب الدخن على الطعام، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان، والطعام من بعد ذلك مشوب مفسد.
فهذا في تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة2 وثم لون آخر في صفة هذا المعنى، وهو اللون المظلم الذي تنصبغ به النية "السوداء" وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة "الدخن".
ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سر البيان في العبارة كلها، وبها فضلت كل عبارة تكون في هذا المعنى وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تطفأ الحرب، فهذه حرب قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نارًا أخرى. كما يلقى الحطب الرطب على النار تخبو به قليلًا، ثم يستوقد فيستعر فإذا هي نار تلظى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جرم من تحته، وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتها معنى من المعاني يمكن أن يتصور في العقل إلا وجدت اللون البياني يصوره في تلك اللفظة لفظة "الدخن".
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت في نفس الساعة" يريد أنه بعث والساعة قريبة منه. فوصف ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهو لفظة النفس كما يحس المرء بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنما أفرد اللفظة ولم يقل: "بعثت في أنفاس الساعة" لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنفس من الأنفاس، وليس المراد من قرب الساعة أنها قدر اليوم أو غد على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها. وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئًا فيما مضى، وإن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة، فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مرية فيها.
وفي تلك اللفظة معنى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلًا فكانت الساعة بعيدة ثم قصر هذا العمر فبدأت الساعة تتنفس، وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟
__________
1 وهو مصدر دخنت النار "من باب فرح" إذا ألقي عليها رطب وكثر دخانها لذلك، وله معان آخرى.
2 الممتلئة غيظًا وحقدًا.(2/215)
وبقي معنى رائع في لفظة "النفس"؛ وذلك أن يقال على المجاز: فلان في نفس من ضيقه، إذا كان في سعة ومندوحة وقد عرف الضيق ما هو بعد أن شد عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتية وأنها قريبة. وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل الناس لآخرتهم فإنه يوشك أن لا يعملوا؛ ثم ليعمروا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.
ومن تلك الأوضاع قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أرض بسماتها"، وقوله: "يا خيل الله اركبي" "ولا تنطح فيها عنزان" 1.
وقوله لأنجشة، وكان يسير بالنساء في هوادجهن، وهو يحدو بالإبل وينشد القريض والزجر، فتنشط وتجد وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطرابًا شديدًا فقال عليه الصلاة والسلام: "رويدك رفقًا بالقوارير" 2.
وقوله في يوم بدر: "هذا يوم له ما بعده" 3، إلى أمثال لذلك كثيرة؛ ولو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جدا ورجع أمر هذا الفصل أن يكون في معنى التأليف كتابًا برأسه إن كنا لا نلتزم إلا جهة البيان وحدها.
وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب صلى الله عليه وسلم في هذه اللغة ابتداء ولم تسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعد، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها، ولا يفي بها كلام في تصوير أجزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليها، وهذا الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثله، أو الكلمتين، أو الكلمات القليلة القليلة. ولو ذهبت تحصيه في العربية ما رأيته إلا معدودًا، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العد وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة الخاصة، حتى لا تساويها في ذلك لغة أمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بعض وكل، وإن عدوا لنا واحدًا "صفرناه" ولا فخر4.
__________
1 أي: لا امتراء فيها، وأكثر ما يكون انتطاح المعزى إذا أخصبت الأرض فشبعت، فإنها تتظالم من الأشر، فتنفش العنز شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وما بها نطاح، ولكنه مراء وأشر ومكابرة، وتلك طبيعة في المعزى بخاصتها.
2 هي الزجاجات، ووجه المعنى ظاهر، وكأنهن نور وصفاء ورقة ثم سلامة قلما تسلم إلا بشدة الصيانة والحفظ والمراعاة.
3 يريد أنه أساس تاريخي لما سيبنى عليه، فليضعوا كل همهم فيه، أو هو يملك الأيام الآتية، فإذا أحرزوه أحرزوها معه، وإن خسروه ذهبت بذهابه.
4 أي: زدناه صفرًا فعددنا عشرة، وأخرجناه كذلك صفرًا ولا فخرًا، وهذه الكثرة كثرة لغوية، كما بيناه في الجزء الأول من التاريخ. فهذه اللغة العربية خاصة تقبل من الإعجاز البياني وضروبه ما لا يحمله شيء من لغات الأرض؛ لأن ذلك طبيعي فيها كما عرفت.(2/216)
وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسائل بين أيدينا؛ فخذ فيها حيث شئت فإنه كلأ حابس فيه كمرسل1.
على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواء ورأيت كلامه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال خاصة مما يطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلة تطوع لك القدرة عليه وتمد لك أسباب المطمعة فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقًا ألبتة، إذ لا تحس منه نفسًا إنسانية، ولا أثرًا من آثار هذه النفس، ولا حالة من حالاتها حتى تأنس إلى ذلك على التوهم، ثم تتوهم الطبع والمعارضة من هذه الأنسة، فتمضي عزمك وتقطع برأيك، وتبت القول فيه كما يكون لك قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحس والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.
بيد أن ذلك مما لا يستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلت منه وفاتت سمت ما قدرت لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلًا إلى حدها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلامًا تعرف حده في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحسن.
وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأن لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قول الجاحظ في "كتاب النبوة" وإن كان لم يهتد إلى تعليله: "لو أن رجلًا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم -أي: العرب- سورة قصيرة أو طويلة، لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها".
ولا يقذفن في روعك أنه صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه؛ وتكلف له، وتأتى لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما لجاء منه ما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي كل ما به صار القرآن معجزًا, تتوهم ذلك الذي يكون من جمع النفس القوية، وكد الذهن الصحيح، والتوفر بأسباب الفطرة والصنعة على عمل هذا أمره وشأنه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لخرج مخرج غيره من فصحاء العرب، قولًا واحدًا2؛ لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنما نوادر
__________
1 هذه العبارة مثل يقال في المرعى الكثير الذي يكون من الخصب في حالة مستوية، فيخرج العشب بعضه كبعضه، فمن حبس إبله في موضع منه كمن أرسله؛ لأنه لا ميزة لموضع على موضع في معنى الكثرة من النوع.
2 يؤكد لك ذلك، وأنه أمر لا خلاف فيه عند أهله: ما أسلفنا بيانه في صدر هذا الفصل؛ من أن الصحابة كانوا يروون الحديث بالمعنى؛ فهم لا يرونه بحس الفطرة إلا كلامًا إنسانيًا: ولو أحسنوا مثل ذلك في القرآن لاقتحموا عليه أو فعل ذلك غيرهم ممن لم يؤمنوا به. بل لكان واجبًا أن يفعلوا.(2/217)
الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عمل لا تبلغ فيه الحيلة، ولا يؤتيه البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تنفذ شيئًا من شيء وتهيئ مادة من مادة، بل كان ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضرب من الإلهام، يقوى بقوة الاستعداد له ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصنعة الكلامية ولو وقعوا في ملء رءوسهم منها1، ولا يمكن أن تنفذ فيه قواعد التأليف البياني التي تصف البلاغة وضروبها وأسرارها؛ بل هو يتفق لهم اتفاقًا على غير طريقة معروفة ولا وجه يسلكونه إليه وقد يعسر على أبلغ الناس في حين قد تيسر له بأسبابه، واتجه إليه بالرغبة، وجمع عليه النفس الحريصة، وحسبه منقادًا فإذا هو عنان لا يملك2.
ولو أن هذا الضرب كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الروية ويحتال عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام, لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه غصة الريق التي لا يعتصر منها3، وإنما يبعثها قدر، ويسيغها قدر، ومع أن الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم كان أمير كلامه، والواسطة في نظامه، والدليل على إلهامه.
فهذه واحدة، والثانية أنه صلى الله عليه وسلم لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تطمع غيره في كلامه، وتجعله أبعد الأشياء عن مظنة الإعجاز بجانب الكلام ورأى ألفاظه تتنفس تنفسًا آدميا، بجانب تلك الألفاظ التي تهب هبوبًا كأن لها جوا فوق كون من اللغة.
وليس الأمر في هذه المعارضة -كما علمت- إلى مقدار الهمة في بعدها وقصرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومهاونته، بل هو أمر فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما توجد في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغة ما بلغت ونازلة حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوطأ له بأسبابه لا تحدثه غير أسبابه، وما عرف الناس يومًا من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنسانًا أخرج من نفسه غير ما في نفسه.
ومن خواص القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصًا من طبيعته، وذهابًا عن قصده وسنته، فكلما اندفع إلى ذلك ارتد بمقدار ما يندفع، وكلما كد طبعه رأى من تبلده على حساب ما يكده فإذا ترك ذلك حينًا فعفا من تعبه4 وتراجع إليه الطبع ثم عاد، كانت الثانية أشد عليه من الأولى؛ لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس وهكذا حتى يكون هو أول من يتهم نفسه بالعجز، ويرمي طبعه بالاختيال، ويصف كلامه بالنقص، فإنه إنما يطمح في تلك
__________
1 يقال وقع في ملء رأسه. أي: فيما يشغله ولا يترك له فكرًا في غيره.
2 استوفينا شيئًا من هذا المعنى في صفحة 176 من هذا الكتاب فارجع إليه.
3 الاعتصار: أن يغض إنسان بالطعام، فيشرب الماء قليلًا قليلًا ليسيغه وقد اعتصر بالماء: إذا فعل ذلك.
4 أي: استراح وثابت إليه القوة.(2/218)
المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنها، بل يمنعها مما تنازع العمل عليه، ويردها عن وجهها ويشق عليها في النزوع، ويكدر بها تكديرًا يفسد عليها كل ما هي فيه من ذلك العمل، فليست تجد منه أبدًا إلا طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صنعت عليه ونشأت فيه.
فإذا طال ذلك به وبها، أمات حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضربها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدى طبعه فيما كان ينجح فيه، وتبدل من شأنه الأل شأنًا ثانيًا كيفما أداره رآه سواء غير مختلف. وذلك كله من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.
وضرب آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما مرت مثله من ذلك النحو الذي يكون مجتمعًا بنفسه منفردًا في الكلم القليلة، وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم اللمحة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالة، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوت عليها كلامًا طويلًا، والوقوف عندها شأوًا بعيدًا وهو القليل في كلام البلغاء إلى حد الندرة التي لا يبنى عليها حكم، ولكنه كثير رائع في البلاغة النبوية، لما عرفت من أسباب قلة كلامه صلى الله عليه وسلم، فإن هذه القلة إن لم تنطو على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تعد في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلها في الكلام فضلًا، ولا يعرف أمرها في البلاغة أمرًا.
فمن ذلك حديث الحديبية1، حين جاءه بديل بن ورقاء يتهدده ويحذره فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي، معهم العوذ المطافيل2 وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قريشًا قد نهكتهم الحرب 3 فإن شاءوا ماددناهم مدة ويَدَعوا ما بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس. وإلا كانوا قد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمرئ هذا حتى تنفرد سالفتي هذه4، ولينفذن الله أمره".
فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى تنفرد سالفتي هذه" وكيف تصور معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه؛ لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا يخاف منها؛ لأن الكثرة فيها من الله، والاستماتة التي لا تردد معها؛ لأن الأمر فيها إلى الله، وانظر كيف يصف العزيمة الحذاء، وكيف تقرع بالوعيد والتهديد،
__________
1 هي بئر قرب مكة أو قيل لها ذلك لشجرة حدباء كانت هناك.
2 يريد النساء والصبيان، والعوذ في الأصل. جمع عائذ، وهي الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أيامًا حتى يقوى ولدها، أو هي كل أنثى حديثة النتاج والمطافيل: جمع مطفل وهي ذات الطفل. وغرضه: أنهم جاءوا بحميتهم وما يقاتلون عليه فلا ينهزمون عنه!.
3 أي: جهدتهم وهزلتهم وبالغت فيهم.
4 المراد بالسالفة: العنق: وهي في الأصل ناحية مقدمها.(2/219)
وكيف تغني في جواب القوم ما لا تغنيه الرسائل الطوال، حتى لتقطع الشهادة عليها قطعًا بما في نية صاحب الجواب من عزم أمره ووثاقة عقده، فكأنها صورة واضحة لما استقر في نفسه من كل ما عسى أن يرجعه جوابًا، وما عسى أن يتهيأ له في باب الحزم، وإنها لكلمة بمعركة!
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك" فتأمل هذا التذييل العجيب، فإنك لا تقضي منه عجبًا، ولن يعجز إنسان أن يهم بالخير، يفعله أو يفعله، وأن ينزع إلى الشر فيمسك عنه، فإن عجز حتى عن هذا فما فيه آدمية، ورحمة الله تنال الإنسان بأسباب من خيره، ومن شره إذا كان فيه الضمير الإنساني، وهذا في الغاية كما ترى.(2/220)
فصل: الخلوص والقصد والاستيفاء
أما فيما عدا هذين النوعين من الأوضاع التركيبية، فإن نسق البلاغة النبوية يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها، إلا وجدته في هذا النسق على مقدار من الاعتبار يفرده بالميزة، ويخصه بالفضيلة؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم في باب التمكين لا يعدله شيء من كلام الفصحاء، فلا تلمح في جهة من جهاته ثلمة يقتحم عليه الرأي منها وتنساب فيها الكلمات التي هي من لغة النقد والتزييف أو بعض هذه الكلمات، أو أضعف ما يكون من بعضها، إذ هو مبني على ثلاثة الخلوص، والقصد، والاستيفاء.
1- أما الأول فهو في اللغة ما علمت وفي الأسلوب ما عرفت مما وقفناك عليه وهو منفرد فيهما جميعًا؛ لأنه لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبد الدهر من ينفذ في اللغة وأسرارها وضعًا وتركيبًا، ويستعبد اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصميم على ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبي الجامع المجتمع على توثق السرد وكمال الملاءمة، كما تراه في الكلام النبوي، وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعًا إذا تصفحت وجوه كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرت ذلك بما سلف؛ وأبلغ الناس من وفق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه صلى الله عليه وسلم.
2- وأما القصد والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها. ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيه "اللفظية والمعنوية" فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركة النفس، وكأن الجملة تخلق في منطقه صلى الله عليه وسلم خلقًا سويا، أو هي تنزع من نفسه انتزاعًا، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيه امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظ نفسه من العجب، وإنما تم في بلاغته صلى الله عليه وسلم بالأمر الثالث.
3- وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام -على حذف فضوله وإحكامه ووجازته- مبسوط المعنى بأجزائه ليس فيها خداج1 ولا إحالة ولا اضطراب حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيبًا على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمه في نفسه، في حسب ذلك التركيب، فوقع إليه تاما مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جمومًا2 لا ينقطع به ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب
__________
1 أي: نقصان، وأصله أن تخدج الناقة أو نحوها من ذوات الظلف والحافر فتلقي ولدها لغير تمام الحمل فيجيء ناقص الخلقة.
2 نقلناه من قولهم: فرس جموم، إذا كان قويا، كلما ذهب منه جري جاءه جري جديد.(2/221)
في نفسه إحساسًا لنظر معنوي.
وهذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تذعن لها النفوس وتتصرف معها، وقلما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدربة والمزاولة إلا شيئًا يسيرًا لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولة فيمن ليس من أهله كما هو في أهله، ولأمر ما قال أفصح العرب صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم" وفي رواية: "أوتيت" وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثر من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غاية من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو "إعطاء وإيتاء" فمن لم يعط لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له من ذلك كائن ولم تنفعه منه نافعة.
ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه صلى الله عليه وسلم وبناء بعضها على بعض، سلم هذا الكلام العظيم من التعقيد والعي والخطل والانتشار وسلمت وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة كالمجاز البعيد الذي يغوص إلى الأعماق الخيالية، وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي، وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاش في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضه، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين باب واحد.
ولذلك السبب عينه كثر في البلاغة النبوية هذا النوع من الكلم الجامعة التي هي حكمة البلاغة، وهو غير ذلك النوع الذي قلنا فيه، مما تكون غرابته من تركيب وضعه في البيان، ثم هو أكثر كلامه صلى الله عليه وسلم كقوله:
"إنما الأعمال بالنيات".
"الدين النصيحة".
"الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات".
"المضعف أمير الركب"1.
وقوله في معنى الإحسان:
"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وقوله:
"لا تجن يمينك عن شمالك".
"خير المال عين ساهرة لعين نائمة".
"آفة العلم النسيان. وإضاعته أن تحدث به غير أهله".
__________
1 المضعف: الذي به ضعف، ومعناه في حديث آخر
"سيروا بسير أضعفكم".
ومتى كان الركب على رأي أضعفهم في سيرهم ونزولهم. فهو أميرهم، وفي قول يروى لعمر رضي الله عنه. المضعف أمير على أصحابه. وبين هذه وتلك فرق في المعنى وجمال في الصياغة، والركب أصحاب! وليس كل أصحاب ركبًا.(2/222)
"المرء مع من أحب".
"الصبر عند الصدمة الأولى".
وقوله في التوديع:
"استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك".
إلى ما لا يحصيه العد من كلامه صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نشرحه لبنينا على كل كلمة مقالة، وهذا الضرب هو الذي عناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة، إذ عرفها بأنها: دنو المأخذ، وقرع الحجة وقليل من كثير. وهي صفات متى أصابها البليغ وأحكمها، وضع عن نفسه في البلاغة مئونة ما سواها، ولكن إن أصابها وأحكمها.
وقد علمت ما تكون وجوه الإعجاز المطلق في هذا الكلام العربي، وذلك مما وصفناه لك من إعجاز القرآن الكريم، فاعلم أن نسق البلاغة النبوية إنما هو في أكثر الحد الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلام الناس من جهة وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمع لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا معجزة عليها فيما دونه، وهو عنده أبدًا بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه.
وقد بقيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاف جمة من محاسن البلاغة النبوية في عقبه من أهل البيت رضوان الله عليهم ومن اتصل منهم بسبب1، أورثهم ذلك أفصح الخلق ولادة، وجادت لهم طباعه الشريفة بهذه الإجادة، فما تعارضهم بمن يحسن البلاغة إلا كانت لهم في البلاغة الحسنى وزيادة!
وبعد فإن القول ما قاله الحسين عليه السلام: "لن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جمع جزءًا".
وقد قلنا بمقدار ما فهمنا وما شهدنا -يعلم الله- إلا بما علمنا، وتلك نعمة على المسلمين لا يكتمها إلا البغيض، ولا ينكرها في الناس إلا ذو قلب مريض، ومن جعل أنفه في قفاه2 فإنما السوءة أن يفتح فاه!
على أننا إن كنا قد عجزنا، ووعدنا الكلام أكثر مما أنجزنا، فلا ضير أن نصف النجم في سراه، وإن لم نستقر في ذراه، ونستدل بما رأينا منه وإن لم ننفذ فيما وراه. وإذا خطر الفكر الضئيل في مثل هذه الحقيقة السامية فقل إنا خطرة طيف، وإذا اجتمع للقلم سواد في تلك السماء العالية، فقل إنما
__________
1 ما برح أهل البيت رضوان الله عليهم يتوارثون بلاغة هي فوق بلاغة الناس، إلى أن انقضت السلائق العربية، وذلك فضل لا يدفعه من هذه الأمة أحد وإنما هي ذرية بعضها من بعض. وقد نص العلماء على أن سبب فصاحة الحسن البصري رحمه الله "وكان من هذا الشأن على ما وصفناه في الجزء الأول من التاريخ عند الكلام على اللحن، وكا يعد من الفصاحة وخلوص اللغة كذي الرمة" أن سبب ذلك من إرضاع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وكانت أرضعته فكيف بمن وشجت عروقه؛ وكان من تلك الغاية ومذهبه وطريقه؟
2 يقولون فيمن أعرض عن الحق وأقبل على الباطل: جعل أنفه في قفاه وقد أكملنا العبارة فذهبنا بها كما ترى مذهبي المجاز والحقيقة؛ وكان بذلك تمامها.(2/223)
هي سحابة صيف، ولعمر الله كيف نضرب بالغاية على تلك البلاغة التي لا تحد، وكيف نمضي بعد أن كل حد الفكر ووقفنا عند هذا "الحد"!
الحمد لله نهاية لا تزال تبدأ، وبدء لا ينتهي!
"تم"(2/224)
المحتويات:
3 فاتحة: للأستاذ محمد سعيد العريان
5 كلمة المغفور له سعد باشا زغلول
7 مقدمة الطبعة الثالثة: للمؤلف
11 كلمة الدكتور يعقوب صروف
13 مقدمة الطبعة الثانية: للمرحوم السيد محمد رشيد رضا
17 مقدمة الطبعة الأولى: للمؤلف
الباب الثالث: القرآن الكريم والبلاغة النبوية
21 القرآن: وصفه
22 فصل: نهج المؤلف
24 تاريخ القرآن
جمعه وتدوينه، حكمة نزوله متفرقًا، البدء بقصار السور، مدة نزول القرآن، كتبة القرآن، المشاورة في جمعه، الصحف الأولى، الاختلاف في القراءة وملاحظات القراء، كيفية جمعه، ترتيبه، المصاحف في الأمصار، رسم المصحف، رواية القرآن، هل سقط منه شيء؟. ما زعموه منسوخ التلاوة.
33 القراءة وطرق الأداء
الموسيقى اللغوية، تعدد وجوه القراءة، إعجاز الفطرة، وجه تعدد القراءة اختلاف القراءات واستنباط الأحكام: التلاؤم بين ألفاظ القرآن ومعانيه حروف القرآن، العرضة الأخيرة.
36 القراء
القراءات السبع، إسناد القراءات، قراء الأمصار، علماء القراءات، مذاهب القراء، شروط القراءة الصحيحة، القراء بالشواذ، الخلاف في رسم المصحف.
38 وجوه القراءة
41 قراءة التلحين
أنواع الإيقاع، مبتدع التلحين، ترجيع النبي يوم الفتح، التغيير في الشعر.(2/225)
43 لغة القرآن
لغة قريش، لغات القبائل في القرآن، ائتلاف لغته على اختلاف لحون العرب.
46 الأحرف السبعة
حديث الأحرف السبعة، القراءات والفروق اللغوية، عدد "السبعة" في كلام العرب.
49 مفردات القرآن
غريب القرآن، إعراب القرآن، الألفاظ المعربة، النظائر والأفراد.
51 تأثير القرآن في اللغة
نسق القرآن، تطور اللغات بتطور أهلها، القيافة اللغوية، والاستدلال بالقرآن على حال العرب، اجتماع العرب على لغة القرآن، الميزان اللغوي، خلود العربية، اتصالها بمادة العلم، إقامة الحروف وصحة الأداء.
56 الجنسية العربية في القرآن
وحدة العرب السياسية، أثر القرآن في تهذيب الروح العربية، أمة على أنقاض أمة، عصبية الدم وعصبية الروح، التوراة والإنجيل والقرآن، اللغة والقومية، انقراض الجرمانية واللاتينية، الفصحى والعامية.
63 آداب القرآن
آداب الإنسانية، العادة والطبيعة، الفرد والجماعة، حدود الحرية، الشريعة والآداب، القوة الاجتماعية في آداب القرآن، القرآن والعرب في تاريخ الحضارة، شرائع الأرض وشريعة السماء، التربية الطبيعية، انفراد آداب القرآن بأسلوبها، قلب اجتماعي ينبض، العقل والخلق، أصول الأخلاق الاجتماعية في القرآن، التقوى، والمساواة، والحرية، أركان الفضيلة، مذاهب الفلسفة وعلوم الاجتماع، إحكام فهم القرآن، غرابة الدين، تتبع غرابة اللغة، حقيقة الإعجاز الأدبي، دعائم الإنسانية، وسائل النهضة، آداب الفطرة، الحرية والمنفعة، عالم العقل وعالم المادة، الإرادة الاجتماعية، الإنسان الاجتماعي، تاريخ الاجتماعي الإنساني.
77 القرآن والعلوم
أثر القرآن في العلم، النهضة الإسلامية، عموم الدعوة إلى العلم، أساس التاريخ العلمي، الأديان وأطوار النمو في عقل البشرية، نشأة العلوم: القراءات النحو التفسير، التوحيد، أصول الفقه، الفقه، التاريخ والقصص، الوعظ والخطابة، الفرائض، الفلك، البلاغة، علوم العرب في الجاهلية، الفلسفة، الخليفة المنصور.(2/226)
موطأ مالك، اجتماع الفقهاء الرشيد وابن المبارك، سبب القرآن إلى العلوم، بين العامة وأهل النظر، حكم الشارع، الجفر، دعاوى الشيعة، استخراج بعض حوادث التاريخ من القرآن بالحساب، مذاهب في تفسير القرآن، إشارته إلى المستحدثات العلمية، تطور العلم وتطور العقل البشري في فهم القرآن.
87 سرائر القرآن
الآيات الكونية والعلمية في القرآن، مسألة من العلم
90 تفسير آية
خلق الإنسان وأطوار النشوء.
93 إعجاز القرآن
فصل في معنى الإعجاز.
94 الأقوال في الإعجاز
مذاهب القدماء في معنى الإعجاز، صناعة الجدل، تاريخ الكلام في القرآن، خلق القرآن، آراء المعتزلة، الإعجاز بالصرفة، إبراهيم النظام، المرتضى، مناقشة القائلين بالصرف، ابن حزم الظاهري، رأي الجاحظ، الإعجاز بالنظم وسلامة اللفظ، الإعجاز البياني، مزايا القرآن، شبه ومطاعن، المنكرون للإعجاز.
100 مؤلفاتهم في الإعجاز
104 حقيقة الإعجاز
إعجاز مطلق. حالة العرب اللغوية قبل الإسلام: التربية اللغوية، تأديب على هرم، أثر القرآن في العرب، سر الفصاحة وسلامة الفطرة, تمرد العرب على كل محاولة للحد من حريتهم، طبيعة المكان وطبيعة أهله، إيمان العرب بالخرافة وذهابهم مع الوهم، والقرآن يدعوهم إلى غير ما ألفوا، دعوة صريحة وأمر صارم، العروبة والإسلام.
110 التحدي والمعارضة
مفاخرة تنتهي إلى خذلان! أو الدعوة إلى الإسلام، حكمة التحدي: التدرج في التحدي, مذاهب العجز, إنما يعلمه بشر! معارضو القرآن فيما زعموا: مسيلمة الكذاب، الأسود العنسي، طليحة الأسدي، "عصبية الدم" سجاح التميمية، النضر بن الحارث، ابن المقفع "المعلقات". ابن الراوندي، المتنبي، المعري.
125 أسلوب القرآن(2/227)
انقطاع العرب عن مقاطعته، اختلاف حالات النفس وأثره في منشآت أهل البيان، كمال الفطرة البيانية في القرآن، تمام الإحساس وقصور التعبير في لغة البشرية، سبب عجزهم عن السور القصار، معارضة الكلمة بالكلمة، والوزن بالوزن، الإعجاز في قليل القرآن وكثيره، التكرار في القرآن وحكمته، القصد في خطاب العرب والبسط في خطاب بني إسرائيل من خصائص الأدب العبراني، من أين صدرت تهمة النبي بالشعر؟ عجز المولدين عن السور القصار، سبيل نظم القرآن في إعجازه، إعجاز القرآن ومعجزات الصناعة إعجاز إلى الأبد، مخالفة القرآن لكل الأساليب والسر في ذلك، صورة مزاج الكاتب فيما يكتبه، القرآن وضع إلهي نريده كلامًا فنراه نفسًا حية، صناعة البيان، مرونة أسلوب القرآن بحيث لا يصادم الآراء المتقلبة على اختلاف العصور، استواؤه على وجه واحد يستجمع درجات الفهم.
139 نظم القرآن وإعجاز تأليفه
141 الحروف وأصواتها
الموسيقى اللغوية، إسلام عمر، قرآن مسيلمة!، إعجاز النظم الموسيقي، مادة الصوت هي المظهر: الانفعال النفسي، ترتيل القرآن وأثره في سامعه، تتابع الأصوات على نسب معينة من مخارج الحروف، الفواصل التي تنتهي بها الآيات، الاستهواء الصوتي، السر في القرآن لا يمل.
146 الكلمات وحروفها
صوت الحس في الكلام البليغ، صور الإحساس في كلم القرآن، الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي، براءة القرآن من الحشو والزيادة، تلاؤم الألفاظ والمعاني، ألفاظ فوق اللغة، الحروف والحركات الصرفية واللغوية، طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، الكلمات الطويلة في القرآن {تلك إذا قسمة ضيزى} زوائد الإعراب. كلمات مجموعة وكلمات مفردة: {فأوقد لي يا هامان على الطين"، القرآن دليل النبوة: الأسماء الجامدة.
156 الجمل وكلماتها
وسيلة البلاغ بين النفس والحواس قول لا ينتقض على هرم الدهر في التحدي، مقاييس البلاغة بعد القرآن كلام خالد ولغة لا تهرم أبدًا، ثبوت الإعجاز بالتحدي، الصفة الحسية في نظم القرآن صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في التركيب. استواء واحدة في تركب الحروف وفي التمكين للمعنى حتى صبيان المكاتب! التناسب في الآيات والسور وتاريخ هذا العلم، روح التركيب في القرآن(2/228)
توافق روحه على اختلاف الوجوه التي يتصرف فيها. ألفاظ لمعانيها ولكنها تتسع لكل ما يحملها عليه تطور العصور وترجمة القرآن.
164 غرابة أوضاعه التركيبية
ائتلاف الألفاظ والنظام والسرد، التراكيب الغريبة في كلام البلغاء، القرآن معجم تركيبي اللغة، منشأ علوم البلاغة، بلغاء العرب قبل القرآن وبعده، كتاب واحد يستوفي وجوه البلاغة.
169 البلاغة في القرآن
أول الباحثين في بلاغة القرآن، فلسفة البلاغة وأسرارها النفسية، الإعجاز بسياستي البيان والمنطق.
173 الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية
175 إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة
الإعجاز المنطقي: الفيلسوف ابن رشد، تحقيق المعنى واستبراء غايته، العقل والإلهام، البيان والعقل والشعور، بعض ما أيأس العرب من المعارضة، القرآن هو نفس الوحي وذلك تمام إعجازه.
181 الخاتمة
183 البلاغة النبوية
185 فصل البلاغة الإنسانية
186 فصاحته صلى الله عليه وسلم
توفيق من الله بغير تدريب ولا رواية، مكان لغته من لغة قومه، نشأته اللغوية، إقرار العرب بفصاحته.
190 صفته صلى الله عليه وسلم
نفسية المتكلم في أسلوب كلامه، الأسلوب العصبي بيانه وبيان الفصحاء $"أدبني ربي فأحسن تأديبي".
194 إحكام منطقه صلى الله عليه وسلم
الملاءمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، عيوب الصوت، الترتيل والسرد، تعبير الصوت، وتغير اللغة.
197 اجتماع كلامه وقلته صلى الله عليه وسلم(2/229)
حركات نفسية في ألفاظ الإيجاز والقصد أسباب القلة بلاغة الصناعة وبلاغة الطبع.
201 نفي الشعر عنه صلى الله عليه وسلم
إنشاد الشعر، الرجز في الشعر، "الشعراء يتبعهم الغاوون": وفد ثقيف، بغضه الشعر منذ نشأته، أوثان الشعراء، استثناء الشعر وروايته شعراء النبي صلى الله عليه وسلم.
206 تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم
ما أحدثه من التراكيب في لغة العرب، المصطلحات والأوضاع المفردة: تاريخ أوضاع اللغة، مخاطبته وفود العرب، اختصاص قريش بالتجارة، ابتداء صناعة الكتابة، رسائله إلى قبائل العرب بلغاتها، فطرة لغوية تتميز بالإلهام، لغة العرب قبل الإسلام وبعد، علم غريب الحديث.
212 نسق البلاغة النبوية
حروف اللغة ووجوه البيان إنما هي مناقلة الحديث بلا صنعة ولا تكلف. أمثلة من البيان، بين القرآن والبلاغة النبوية، أثر النفس الإنسانية وطابع الوضع الإلهي، معارضة القرآن بكلام النبوة.
221 دعائم البلاغة النبوية
الخلوص، والقصد، والاستيفاء.(2/230)
المجلد الثالث
المقدمات
صفحة من الكتاب بخط المؤلف
...(3/3)
مقدمة الطبعة الأولى:
بقلم محمد سعيد العريان
بسم الله الرحمن الرحيم
قلت عن طريقة الرافعي في الكتابة ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له، فقد أملى علي أكثر من مائة مقالة كنت شاهده فيها إذ يلقى الوحي، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه1.
وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفت عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع، والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.
وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين ومتى اجتمع لمؤلفه هذا القدر من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
وظل هذا السؤال قائمًا في نفسي زمنًا وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شيء بعد شيء في صفحات متفرقة من كتب عدة ينسي آخرها أولها من تباعد الزمان بينها، وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه، وكان ذلك يزيدني عجبًا وحيرة ... وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ، ثم عزوت ذلك إلى ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقات قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلًا عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبت إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في ذلك الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته! ثم قرأت له بحثه في "الرواية والرواة"؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء، وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه2؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهمًا من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد
__________
1 حياة الرافعي ص180-186.
2 تاريخ آداب العرب: ج1، ص203.(3/5)
يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة، فالأغاني، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان، والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث؛ فمن أصاب منها غرضًا فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن؛ وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين ثم لم أعثر بها فطويته على سأم وملالة؛ فلما كنت بعد أيام وفات علي الغرض الذي كنت أقصد فتحت الكتاب عرضًا، فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي.
هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب، فهي كتب للقراءة المجردة لا للبحث العلمي، عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقًا.
فكان أول ما يصنع أن ينتخب كل الكتب التي يعنيه أمرها فيما يمهد له من البحث فيقرأها كلها قراءة درس؛ أعني ينفضها نفضًا بحيث لا يفوته منها معنى يتصل بموضوعه، ثم يشرع بعد ذلك في العمل، فيكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصًا يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة. ثم يعود إلى هذه الملخصات فيرتب أجزاءها ترتيبًا يضم القريب إلى القريب بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق. ثم تكون الخطوة الرابعة، فيزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة بضم الأشباه منها إلى الأشباه. ثم يكتب.
ثم يعود إلى ذلك المكتوب فيقرؤه قراءة الباحث: يزاوج بين رأي ورأي ليخرج منهما إلى رأي ثالث. وتجتمع له من ذلك المقدمات التي تبلغ به النتيجة.
ثم تأتي المرحلة الأخيرة، وهي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان وتحكيك الألفاظ وتجميل المعاني وتزيين الأسلوب.
سبع مراحل بين البدء والنهاية. ثم يخرج الكتاب لقارئه ليسائل نفسه في عجب: أين ومتى اجتمع لمؤلفه ذلك القدر من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى وأعرف وأضع يدي على تلك الأوراق التي خلفها في درج مكتبه لأؤلف من أشتاتها هذا الكتاب.
قلت: كانت المرحلة الأولى في مؤلفات الرافعي العلمية أن يختار طائفة من الكتب يرجو أن تعينه على البحث. وأقول إن أول ما كان يختار من ذلك، كتب التراجم. وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه، ثم يكتب له ملخصا يشمل أسماء أهل الفنون الأدبية وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة؛ ثم أسماء الكتب، وموضوعها، وفنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض؛ ثم الطرائف الأدبية التي تشير إلى معنى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب.(3/6)
وأستطيع أن أقول جازمًا: إن الرافعي اعتمد على كتب الطبقات والتراجم في الجمع لهذا الكتاب أكثر مما اعتمد على الكتب الخالصة للأدب، وكان اتجاهه إلى ذلك سببًا في توفيقه إلى ما لم يوفق إليه غيره في موضوعه.
قدمت في الجزء الأول من هذا الكتاب ذكر السبب الذي حفز الرافعي للتأليف في تاريخ آداب العرب، قلت: إنه انقطع لذلك في منتصف سنة 1909 ثم أخرج الجزأين الأول والثاني في سنتي 1911 و1912 ولم يظهر له بعد ذلك شيء حتى وافاه أجله!.
وكنت سمعت منه رحمه الله أنه أتم الجزء الثالث ورأيت موضعه من خزانة كتبه، ولكني لم أقرأ منه شيئًا ولم أعرف موضوع بحثه، ثم قرأت على غلاف بعض مؤلفاته المطبوعة إعلانًا عن الجزء الثالث وموضوعه "تاريخ الخطابة والأمثال والشعر" فأيقنت أنه كتاب تام التأليف والتصنيف.
فلما كان الشتاء الماضي واتفقت "المكتبة التجارية" على نشر مكتبة الرافعي، ذكرت فيما ذكرت هذا الكتاب وعرضت أمره؛ فرغبت المكتبة في نشره، ووكلت إلي أن أقوم بترتيب مواده وتنظيم أبوابه وتحقيق أصوله وإعداده للطبع، وضربت لذلك أجلًا قريبًا، فرضيت؛ كل ذلك ولم أقرأ الكتاب، ولم أستيقن موضوعه، ولم أطلع عليه، وكل مبلغي من العلم به أنني أعرف موضعه من خزانة كتب مؤلفه.
وأخذت أهبتي للعمل، وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقًا مركومة وكتبًا تستند إلى الجدران؛ وبحثت عن الكتاب حتى عثرت به، وكشفت عنه، فعرفت.
هذا كتاب مطبوع بين يدي قارئه، لا يكاد يخطر بباله حين رآه أن يسأل نفسه: ما كان هذا الكتاب وماذا صار؟ ولكني محدثه بخبره، لعله -إن عرف- يجد لي عذرًا مما قد يراه فيه موضعًا للعتب أو المؤاخذة:
لقد كنت مخطئًا حين حسبت في أول أمري أني سأجد حين أجد كتابًا تام التأليف والتصنيف، ليس علي إلا أنه أهيئه للطبع ثم أصحح تجاربه في المطبعة؛ فإني ما كدت أحل الرباط عن الأضابير التي تضخمه حتى وجدت أوراقًا بالية حائلة اللون من تقادم السنين، وقصاصات مبعثرة على غير نظام لا يكاد يعرف أين مكانها من موضوعات البحث.
ثم جهدت أن أعرف موضوعات الكتاب، ونهجه، وتبويبه؛ فلم أهتد إلى شيء، ولم أجد بين يدي إلا ورقات قد اجتمعت على غير ترتيب ولا نظام، في كل صفحة منها حديث عن موضوع، ليس لها بما قبلها ولا بما بعدها سبب.
وحاولت أن أقرأ صحيفة مما بين يدي، فأعياني ذلك إعياء أيأسني من الاستمرار.. فإن خط الرافعي كما قلت في بعض ما كتبت عنه: هو أردأ خط قرأت في العربية، حتى لقد كان يعيا هو نفسه أحيانًا عن قراءة بعض ما يكتبه بخطه بعد مضي ساعات!(3/7)
وحملت على نفسي ما حملت، ومضيت في القراءة متكلفًا ما لا قبل لي به، فإذا الحديث ينقطع بعد أسطر، وإذا هو يحيل على مراجع مختلفة يريد أن ينقل منها نصا، أو خبرًا، أو بابًا، ومنها ما لا أملك ولا يتيسر لي، وقد يذكر رقم الصفحة المنقول عنها وقد لا يذكره، وحينًا يذكر رقم الصفحة ويغفل اسم الكتاب. وأحيانًا كثيرة يقول: "ص كذا كتاب كذا إلى العلامة" وهو يعني علامة وضعها على الصفحة المشار إليها في نسخته الخاصة. وأين مني نسخته الخاصة وبيني وبينها من الزمان ربع قرن أو يزيد وبيني وبين كتبه ما بين القاهرة وطنطا؟
تلك صعوبات لم أكن أتوقعها حين رضيت القيام على نشر هذا الجزء، ولكني لم أستطع أن أنكص. وحاولت أن ينسأ الناشر الأجل المضروب لتقديم الكتاب إلى المطبعة حتى أفرغ منه على وجه تطمئن إليه نفسي؛ ولكن ضرورات تجارية كانت تحدد له مواعيده. فطأطأت رأسي وقلت: ذلك على أي أحواله خير من إهمال الكتاب حتى يأتي عليه الزمن. وأخذت في طريقي.
أما ترتيب الكتاب فقد استهديت فيه بما ذكر المؤلف عن نمط الكتاب وأبوابه في الجزء الأول "ص 19-20" ومقتضى هذا الترتيب أن يكون أول هذا الجزء الباب الرابع في تاريخ الخطابة والأمثال، ولكني لم أجد فيما بين يدي من المخطوط حديثًا عن هذا الباب، إلا فهارس وجزازات وأرقام صفحات في مراجع مختلفة؛ فتركت هذا الباب إلى ما بعده، وجعلت أول الكتاب الباب الخامس في تاريخ الشعر ومذاهبه وفنونه؛ ثم رتبت فصول هذا الباب على ما بدا لي، وكذلك فعلت في البابين السادس والسابع، ثم تجاوزت البابين الثامن والتاسع، إذ كان شأنهما شأن الباب الرابع؛ ثم أثبت في الباب العاشر فصلين كنت أحسبهما مما يشملهما موضوعه، ثم بان لي من بعد أنه أعدهما ليكونا تمامًا للباب الخامس وموضوعه "تاريخ الشعر العربي ومذاهبه" كما ذكرت، ولكني كنت قد فرغت من طبع ما قبلهما فلم أستطع تدارك ما فات. وكان شأن الباب الثاني عشر شأن الأبواب المغفلة مما سبق.
وقد عييت بقراءة خط المؤلف في كثير من المواضع مع وضوح القصد، فالتزمت في مثل هذه الحال أن أثبت في موضع الكلمات المُشْكِلة ما ما أراه أليق بموضعها من الكلام، أو ما أراه أشبه بالرسم من كلمات المؤلف، وجعلت ذلك بين العلامتين [] تمييزًا له؛ وقد أعيا بالقراءة ثم لا يبين لي القصد، فأثبت مكان ذلك علامة الحذف..... على أن ذلك قليل.
وفي بعض فصول الكتاب كان لي تصرف يتم به المعنى أو يتسق التأليف ويتساوق الكلام؛ فنبهت إلى مثل ذلك في هامش الكتاب عند موضعه "انظر فصل الشاعرات وغيره" وجعلت فرق ما بين التعليق الذي أكتبه والتعليق الذي يكون من عمل المؤلف أن يسبق التعليق الذي أكتبه علامة "*" وكلمة "قلت".
وإذا كان خط المؤلف على ما وصفت، وعلى ما يدل النموذج المصور مع هذه المقدمة، فإن أشق ما عانيت كان في قراءة الأعلام؛ ولم تتهيأ لي الفرصة لمراجعة كل هذه الأعلام وتصحيحها؛ فصححت ما صححت منها وتركت سائرها على ما هو؛ إذ كان في التعجيل بنشر الكتاب حفظ له من(3/8)
الضياع وكان تحقيق الأعلام شيئًا يمكن استدراكه. على أني أحسب أن المؤلف رحمه الله لم يكن قد فرغ من تأليف الكتاب والبلوغ به المرحلة الأخيرة من مراحله في التأليف على ما وصفت في أول هذا البحث، فنقل كثيرًا من الأعلام كما هي في مراجعها ولم يفرغ من تحقيقها، وكذلك جاءت في هذا المطبوع. فهذه معاذيري أقدمها لعلها تكون شفيعًا عند الناقد المتصفح.
ولا يفوتني وأنا أكتب هذه المقدمة، أن أنوه بالمساعدة المشكورة التي أسداها إلي "أحمد ممدوح دسوقي أفندي" المدرس بوزارة المعارف فقد قام بنسخ الكتاب عن أصله المكتوب بخط المؤلف، وهو عناء فوق ما أصف، احتمله راضيًا لوجه العلم ووفاء بحق الرافعي على أهل الأدب وتقديرًا لأياديه.
ولا أختم هذا الحديث قبل أن أذكر ما وقفت عليه من تاريخ تأليف هذا الكتاب، فقد كنت أحسب أن ذلك كان بعد سنة 1912، أي: بعد الفراغ من إصدار الجزء الثاني، ولكني رأيت إشارات في بعض الفصول من هذا الجزء تدل على أن تأليفها كان قبل ذلك التاريخ "انظر التعليق في بحث "الشعر الحكمي" وبحث "الشعر الأخلاقي"" ولعله بدأ به مع الجزء الأول في منتصف سنة 1909 ثم رتبه أجزاء وأبوابًا فنشر منه ما نشر وطوى ما طوى. ومما يرجح عندي هذا الظن، أن جزازات مما كتب عليها بعض مباحثه، هي "استمارات" استعارة كتب من المكتبة الخديوية وعليها تاريخ الاستعارة، ولا يكون ذلك إلا أن يكون تاريخ التأليف هو تاريخ الاستعارة. ومما يلذ أن أذكره هنا أن جزازة من هذه الجزازات هي تذكرة دعوة إلى عرس عليها تاريخها، قد اتخذ ظهرها للكتابة.
أما بعد، فهذا كتاب جديد قديم. أحسب أن قراء العربية كانوا في شوق إليه، فلعلهم إذ يقرءونه يجدون فيه -على قدمه- جديدًا كانوا يتشوفون إليه؛ فيذكرون مؤلفه بما بذل للعربية حيا وميتًا؛ فيدعون له دعوة ترطب ثراه، وتكون له شفاعة عند الله.
20 من ربيع الآخر سنة 1359هـ
27 من مايو "أيار" سنة 1940م
محمد سعيد العريان(3/9)
الباب الخامس: تاريخ الشعر العربي ومذاهبه
الأقوال في أولية الشعر العربي
...
يا معين *
الأقوال في أولية الشعر العربي:
إذا ذهبنا نتتبع الشعر العربي إلى أوليته، رأينا لدينا من أحوال الجاهلية تاريخًا سقيم التركيب متفكك الأجزاء مضطرب الجهات، لا يكشف منه التعب ولا يبلغ فيه النصب؛ وإذا كان ما ورد في كتب اليونان والروم عن جزيرة العرب، وما كشفوه من الآثار في هذا العهد، مما يستأنس به في تاريخ بعض أحوال الجاهلية، فليس للشعر من مثل ذلك شيء؛ لأنه لا يعني غير أهله، وهم عرب أميون، ولم يكن للشعر في جاهليتهم الأولى ما كان له من الشأن في جاهليتهم الأخيرة؛ نعرف ذلك من تتبع أحوالهم الاجتماعية كما سنشير إليه.
وقد تصفحنا التواريخ العربية وراجعنا ما نقلوه عن أهل الرواية وهم مصدر آداب الجاهلية وأخبارها، فرأينا أن ما كتبوه من ذلك إذا صلح أن ينقل فهو لا يصلح أن يعقل، وهذا المسعودي يروي في "مروج الذهب" أشعارًا عربية للقبائل البائدة: كعاد وثمود وطسم وجديس، وهي روايات لا يقيدها بتاريخ ولا يحدها بزمن؛ فيمكن على ذلك أن تدخل في غمار المفتريات والأقاصيص.
ولكنا رأيناه يذكر ممن كان في الفترة، أسعد أبا كرب الحميري أول من كسا الكعبة الأنطاع والبرود، قال: وكان مؤمنًا، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، ثم استدل على ذلك بشعر نسبه إليه، وهذا منتهى العجب "ص32 ج1: مروج الذهب".
ويقول الجاحظ في كتاب " البيان" عن هذه القبائل: وقد ذكرت العرب هذه الأمم البائدة والقرون السالفة، ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل: جرهم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور، وقيل بن عثر** وذي جدن، ويقال في بني الناصور أن أصلهم من الروم.
فجعل لهذه القبائل بقايا مغمورين في العرب, ولعل ذلك كان مستفيضًا بين الرواة ليرجحوا به صحة ما نقلوه، إذ الخلف مستودع أخبار السلف؛ ولكنهم إنما أثبتوا هذه البقايا لما جاء في القرآن عن ثمود من قوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} فأخذوا من ذلك أن غير ثمود لهم بقية في العرب، وغفلوا عما يعطيه لفظ الآية ويدل عليه السياق.
وقد بالغنا في تتبع أخبار الوقائع والأيام التي ورد فيها للعرب شعر؛ لأن مثل هذه الوقائع لا
__________
* وجدنا هذه الكلمة في صدر ما خط المؤلف من صفحات هذا الجزء، فأثبتناها حيث وجدناها.
** قلت: كذا في تاريخ الطبري، وفي تفسير الطبري: عنز.(3/13)
يسوقها الرواة نفيًا لدليل ثابت ولا إثباتًا لحجة مقتضية، فهي بعيدة بطبيعتها عن اختلاق الشعر؛ ثم جهدنا أن نثبت تاريخ أقدم تلك الأيام؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بقرينة الأعلام التي ترد فيها، فرأينا في أخبار يوم الرحرحان أن زهير بن جذيمة بن رواحة سيد قيس بن عيلان تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، ولزهير هذا شعر جيد، فحسبنا شعره قبل في أوائل القرن الخامس للميلاد؛ لأن النعمان بن امرئ القيس توفي سنة 431هـ، ولكنا رأينا في أخبار داحس والغبراء أن عنترة بن شداد رثى مالك بن قيس المعروف بقيس الرأي, وهو ابن زهير الذي ذكرناه، وقالوا إنه أنشد أباه وقومه القصيدة؛ وعنترة توفي في القرن السابع للميلاد. فلم نظفر مع هذا الخلط بشيء.
وروى الجاحظ في كتاب "الحيوان" عن الهيثم وابن الكلبي وأبي عبيدة، أن كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى وهو ديوانها..... قال: ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر فبنوا غمدان وكعبة نجران إلخ.
وذلك يدل على أن العرب اقتصروا في تخليد مآثرهم على الشعر أولًا ثم شاركوا العجم في تخليدها بالبناء، ولكن الهمداني وياقوت ذكرا أن الذي بنى غمدان، هو لِيَشَرح بن يحصب، وهو من ملوك حمير، كان حوالي تاريخ الميلاد، وقد بقي غمدان إلى زمن عثمان بن عفان وهو الذي هدمه "ج1: الحيوان"، ووقف الهمداني على بقاياه في القرن الرابع للهجرة. وعلى ذلك يكون الشعر العربي فخر حمير من قبل الميلاد، ويقول الجاحظ: إذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام؛ وهذا هو الذي نذهب إليه.
وقد ترجح لدينا أن سبب هذا الخلط في كلام الرواة، غفلتهم عن تاريخ الوقائع المعروفة، وجهلهم بما أثبته الفرس والروم في تواريخهم عن ملوك العرب التابعين لهم من المناذرة والغسانيين؛ فابن قتيبة يقول في طبقاته عن زهير بن جناب: إنه جاهلي قديم، ثم يقول: ولما قدمت الحبشة تريد هدم الكعبة بعثه ملكهم إلى أرض العراق ليدعو من هناك إلى طاعته. وإنما كانت حادثة الحبشة في القرن السادس للميلاد، ونسب ابن قتيبة لزهير هذا البيت المشهور:
من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
وهذا البيت نسبه غيره للجيم بن صعب، وعده صاحب "المزهر" في قدماء الشعراء؛ وكل ما وقفنا عليه من أقوالهم في قدم الشعر يمكننا أن نورده أمثلة على ذلك الخلط، وقد بالغ بعضهم فعد آباء القبائل في الشعراء، كربيعة ومضر، وكمنبه -أبي باهلة- وغني، والطفاوة، وغيرهم من الأسماء التي لا دليل عليها من خبر أو زمان وكل ما فيها تسلسل النسب وقدم العهد.
تحقيق هذه الأولية:
والذي عندنا أن أولية الشعر العربي لا ترتفع عن مائتي سنة قبل الهجرة، ولا يذهب عنك أنا لا نريد بالشعر التصورات والمعاني، فهذه فطرية في الإنسان، ولا بد أن تكون قد استقلت طريقتها في العرب من أقدم أزمانهم إلى ما وراء ألفي سنة قبل الميلاد، وكذلك لا نريد بالشعر مطلق ما اصطلحوا(3/14)
على وصفه من ذلك، فهذا قد يكون منه شيء في العدنانية قبل الميلاد أو حواليه، ولكنه بغير اللغة المضرية طبعًا، وإنما نريد بالشعر هذا الموزون المقفى، باللغة التي وصلت إلينا، وكل بحث فيما وراء ذلك لا يتعلق بهذه اللغة نفسها.
كانت منازل العدنانيين شمالي بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجد وما وراءها شمالًا إلى مشارف الشام والعراق، ويقال إن لغتهم واللغة الحميرية التي هي لغة عرب الجنوب في اليمن، من أصل واحد، على الاختلاف بينهما في الإعراب والضمائر والاشتقاق والتصريف، وهم ينتسبون إلى إسماعيل، فيكون بدء تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد إذا صح ذلك النسب، وآخر ما ذكرته منهم التوراة يرجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، وذلك زمن بختنصر الذي غزا قبيلة معد، وهي أحد فرعي العدنانية: عك، ومعد. ثم ظل العرب خاملين حتى نبه اسمهم قبيل الميلاد، وذلك أن عقب عدنان إنما هو من قبيلة معد، وقد انقسمت إلى فرعين: نزار، وقنص، والكثرة والنسل في نزار، وهم فروع، أشهرها خمسة: قضاعة، ومضر، وربيعة، وإياد، وأنمار؛ وقد ذكر البكري أن مساكن قضاعة ومراعي أنعامهم كانت جدة من شاطئ البحر فما دونها شرقًا إلى منتهى ذات عرق، وهي الحد بين نجد وتهامة، إلى حيز الحرم من السهل والجبل. وقبائل مضر أقامت في حيز الحرم إلى السروات وما دونها من الغور وما والاها من البلاد، وأقامت ربيعة في مهبط الجبل من غمر ذي كندة وبطن ذات عرق وما صاقبها من بلاد نجد إلى الغور من تهامة، وأقامت إياد وأنمار معًا ما بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها، وصار لقنص وغيره من ولد معد أرض مكة وأوديتها وشعابها وجبالها وما صاقبها من البلاد "ص170: تاريخ العرب".
فاستقرت هذه القبائل في منازلها حتى وقعت بينهم الفتن وفرقتهم الحروب، فتباينت مساكنهم، وكانت قضاعة أول من نزح منهم حوالي تاريخ الميلاد، فنزلت بطونها في مساكن مختلفة، ثم نزحت أنمار، ثم إياد، ثم ربيعة، ثم مضر؛ ولذلك تاريخ لا محل له هنا، فملئوا الجزيرة وابتدأ تاريخهم الاجتماعي الحديث؛ لأن بأسهم أصبح بينهم، فنشأت فيهم يومئذ مقتضيات الشعر ومثلت لهم أغراضه.(3/15)
نشأة الشعر
مدخل
...
نشأة الشعر:
ليس شعر الجاهلية مطلق الكلام الموزون، ولكنه مع وزنه ينبغي أن يكون ممتازًا في تركيبه وتأليف ألفاظه، فإذا عارضته بالمنثور من كلامهم رجح برونق العبارة والاختصار في الدلالة واستجماع الغرض من الكلام، حتى يصح أن يقال فيه إنه إحساس ناطق. وهذه الأمة من أمم الفطرة، فليس لديها من أسباب التعلم والأخذ عن الأمم الأخرى شيء، فلا بد أن يكون شعرها كمالًا في اللغة، فلم ينطقوا به حتى هذبت وصفيت وصارت إلى المطاوعة في تصوير الإحساس وتأديته على وجهه الأتم؛ وهذا شأن لا يكون في لغة من اللغات إلا بعد أن تستقل طريقة تصريفها واشتقاقها ثم يتناولها التنقيح، ثم يجمع عليها في الاستعمال؛ وقد جرت على ذلك لغة العرب العدنانية؛ فإنها انفصلت عن اللغة السامية التي تفرعت منها، ثم استقلت طريقتها بالوضع والارتجال، ثم أخذوا في تهذيبها وتصفيتها حتى خرجت منها لغة مضر؛ ومن هذه اللغة خرج الشعر، ولا يتجاوز ذلك مائتي سنة قبل الهجرة على التحقيق.
اعتبر ذلك بما قاله أبو عبيدة من أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يرونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة "34: الطبقات*"؛ لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر، فإن عرب الجنوب وعرب الشمال كانوا يرتضخون لكنة حميرية أو أرامية أو نبطية أو عربية مشوبة بإحداها، وإن أكثر قبائل مضر هي التي نزلت نجدًا وما حوله إلى تهامة والحجاز، فهي صميم العربية، وهنا منشأ الشعر على ما نرجح.
ومن الأدلة على حداثة الشعر ما رووه من أن كل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول، ولم يدعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة؛ لأنهم لا يسمون ذلك شعرًا، فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد "ص238 ج 2: المزهر" وأقدم هؤلاء في القرن الرابع للميلاد، وليس يدل ذلك على أنهم تنازعوا في أول من قال الشعر، ولكن في أول من أطاله وتصرف فيه، ولولا أن مبدأه قريب من هؤلاء لوقع إليهم من الشعر المروي ما يحسم مادة النزاع.
ودليل آخر، وهو أن لعبيد بن الأبرص قصيدته التي مطلعها:
أقفر من أهله ملحوب
وهي مما لا يستقيم على وزن معروف من أوزانهم، ولا يطرد الموزون منها على وزنه، وهم مع ذلك يروونها وتغد من مفردات قائلها، وقد أسقطوا غيرها كثيرًا، فلولا أن أوزان الشعر كانت يومئذ لم يمر عليها جيل بحيث لم تكن ألفتها الطبائع بعد، لأنكروا قصيدة عبيد، ولالتوت دونها ألسنتهم؛ ولم يبلغنا من ذلك شيء على كثرة اهتمام الرواة بالتجريح والتعديل.
__________
* قلت: يعني الشعر والشعراء لابن قتيبة.(3/16)
الباعث على اختراع الشعر:
الشعر قديم في فطرة العرب كما قلنا، ولكنا إنما نبحث في هذا الكلام المقفى الموزون، فهو بهذا القيد لا يكون شعرًا حتى يكون قد استوفى صفة اللفظ، ولا يستوفيها حتى تكون الألفاظ قد مرت بها اللغة في أدوار كثيرة كما أشرنا إلى ذلك، وقد بقي أن نعرف كيف نطقوا بهذا الكلام، وما الذي نبههم إليه وأجراه على ألسنتهم، وهو معلوم أن ذلك لا يمكن أن يكون احتذاء لشعر أمة أخرى، فإن السريانيين والعبرانيين لا يشترطون في شعرهم التقفية، والعبرانيون قد يشترطون القافية دون الوزن، فيكون الشعر شبيهًا بالسجع عند العرب؛ فضلًا عن أن هذه الأوزان العربية ليست لأمة من الأمم؛ قال ابن رشيق في ذلك: كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبنائها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام؛ فلما تم لهم وزنه سموه شعرًا؛ لأنهم قد شعروا به، أي: فطنوا له.
وهو كلام يعطيك من ظاهره ما شئت أن تتأول ولا باطن له؛ ولكن الذي عندنا من ذلك أن الوزن نفسه مر في العرب على أدوار، فكانوا يحدون الإبل من أقدم أزمانهم بكلام وأصوات تشبه التوقيع؛ لأنه من المعلوم بالضرورة أنه لا ينفس من التعب ولا يبعث على النشاط غير الأصوات الموقعة على وزن ما؛ وقد نقل ابن رشيق في "العمدة" أن أصل الحداء عندهم من النصب، وهو غناء الركبان والفتيان، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فسمي لذلك: الغناء الجنابي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض, وهو لا يريد إلا الحداء المنظم الموزون الذي جروا عليه أخيرًا صنعة لا فطرة فيها, وقال في موضع آخر: ويقال إن أول من أخذ في ترجيع الحداء، مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول، وايداه! وايداه! وكان أحسن خلق الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًا لقوله "هايدا هايدا" يحدون به الإبل. وقالوا في أصل الحداء غير ذلك "ص241 ج2: العمدة" ولكنهم لم يرجعوه إلى ما قبل زمن مضر، وهي أقوال لا دليل عليها، وإنما جاءوا بها تأويلًا للفظ الحداء عند العرب.
ثم خرجوا عن هذا الوزن في الحداء إلى وزن الأصوات في الحروب، إذ كانوا في ذلك لا يجرون على نظام كنظام الأمم المتحضرة، ومن أجل ذلك كان طبيعيا أن تكون تلك الأصوات القوية مما تشد به القلوب على القلوب، وهم لا يمدحون شيئًا كجهارة الصوت وسعة الجرم، وهلم في ذلك أخبار عريضة ذكر الجاحظ منها طرفًا في كتابه "البيان"؛ ثم إنهم كانوا يخرجون تلك الأصوات في مواقفهم للضرب والطعن والصراع والجلاد، وتارة مقاطيع من الحروف تكون صيحات، وتارة(3/17)
كلمات، كقولهم مثلًا عند الطعن: خذها وأنا فلان! ونحو ذلك، وهو مما تبعث عليه فطرتهم وأحوالهم من الأخلاق والاجتماع، فلا بد أن يكون ذلك منشأ انتباههم إلى الوزن؛ إذ لا يبعد أن يكون قد صاح بعضهم بكلمات قذفها القلب غضبًا وحدة، فجاءت كما يجيء قسيم بيت، ثم خرجت على أثرها كلمات أخرى وكانت أشد من تلك، فانتهت بحركة مفزعة هي حركة القافية، ثم انتبه الصائح إلى تتابع هذه الحركات، ووافق ذلك رفيف قلبه واهتزاز نفسه وتحريك الحمية والإعجاب، فقفى على البيت بآخر؛ وكان هذا سبب الانتباه إليه والشعور به، ثم شاع بينهم بعد ذلك وقصدوا إليه قصدًا في أغراضهم التي مثلت لهم بعد ذلك، من المقارضة والمماتنة والمفاتنة حين بعثهم على ذلك طبيعة التفرق وأحوال الاجتماع البدوي، بعد أن طارت بهم الفتن ومزقتهم الحروب على ما نعرفه من التاريخ؛ فتبعوا الوزن وبنوا عليه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها وتهش النفوس إليها، ثم خصوه بعد ذلك بما ينصرف إليه القول من وجوه التفاصح، فكان ذلك سببًا في إطالته وإحكامه.
وأنت إذا تدبرت حركات الأبحر التي شاع فيها نظم العرب، رأيتها من الحركات الحماسية، ولذلك بني أكثر شعرهم على الحماسة، خصوصًا ما وقع إلينا من الشعر القديم، فإن لم تكن تفاعيل الوزن من الحركات الحماسية كانت موسيقية مما تتحرك به العواطف؛ من أجل ذلك قلت في شعرهم القوافي الضعيفة إلى حد الندرة؛ لأن القافية قرار المعنى، وهي الصوت الطبيعي الذي ينزل من الشعر منزلة الإشارة التي تصحب كلام المتكلم؛ وتلك العناية منهم بها مما يرجح عندنا أن أصل الاهتداء إلى الوزن إنما كان بالقافية وما فيها من الرنين وما وافق من ناحية حمية الجاهلية كما سلفت الإشارة إليه.
وعلى هذا كان لا بد في الأوزان التي نظموا بها من موافقة المعنى في حركاته النفسية، للوزن في حركاته اللفظية، حتى يكون هذا قالب ذاك؛ وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصًا بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعًا بينهم، إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة، والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن؛ ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس، كالتشبيهات والأوصاف ونحوها؛ وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان، بخلاف الكامل؛ فإن كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس، فإن كان حماسة كان شديدًا، وإن كان غزلًا كان أدخل في باب العتاب والارتفاع إلى الشكوى، وإن كان رثاء كان أقرب إلى التذمر والسخط، وإن كان وصفًا كان نظرًا سريعًا لا سكون فيه ولا إبطاء؛ وقس على ذلك سائر الأوزان، وهذه الأسرار الدقيقة هي التي امتاز بها الشعر العربي على كل ما سواه من أشعار الأمم، وهي هي التي يتفاضل بها الشعراء على مقدار رعايتها وعلى حساب ما يلهمون منها فيما ينظمون.(3/18)
الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهاشم هذا هو الجد الثاني للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر، وهو العهد الذي نبغ فيه عدي بن ربيعة التغلبي الملقب بالمهلهل، خال امرئ القيس، وقال الأصمعي: إنه أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، تقول: ولعل هذه الكلمة هي التي قام بها على قبر أخيه كليب ومطلعها:
أهاج قذاة عيني الادكار
وإذا كان الشعر العربي طبيعيا كما أسلفنا، فإن العوامل في نموه لا بد أن تكون طبيعية، وعلى ذلك فنحن نرجح ما قالوه من أن عديا هذا هو أول من قصد القصائد وذكر الوقائع في شعره؛ لأنه كان غزلًا على همته، زير نساء على شجاعته، وكان أخوه كليب بن وائل الفارس المشهور أحد الثلاثة الذين اجتمعت عليهم معد، وهم عامر بن الظرب، وربيعة بن الحارث وكليب هذا "ص237ج1: ابن الأثير"، فلما قتل في الخبر المعروف، وكان قتله سبب الأيام بين بكر وتغلب، سير فيه عدي قصائد عدة، أرق بها الشعر وهلهله؛ وبهذا السبب لزمه لقب المهلهل، فكان طبيعيا بعد أن كان أخوه يعيره بأنه زير نساء، أن يعلن همته في القيام بثأره وحميته لذلك، وأن يشير بهذه الفجيعة ليعرف العرب منزلته من أخيه في الهمة، ومنزلة أخيه من نفسه في الحمية والجاهلية؛ وسنأتي على وصف هذه المراثي في ترجمته.
فكان الشعر قبل مهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم جاء امرؤ القيس فافتن به، وطل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء، حتى كان الأغلب العجلي وهو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد، وجاء بعده العجاج وهو وابنه رؤبة أشهر أهل الرجز، ففعل به ما فعل امرؤ القيس بالشعر بعد المهلهل.(3/19)
الرجز والقصيد:
ومما نقله ابن رشيق أن الراجز قلما يقَصّد، فإن جمعهما كان نهاية، نحو: أبي النجم، فإنه كان يقصد، وأما غيلان -ذو الرمة- فإنه كان راجزًا، ثم صار إلى التقصيد، وسئل عن ذلك فقال: رأيتني لا أقع بين هذين الرجلين على شيء، يعني العجاج وابنه رؤبة، وكان جرير والفرزدق يرجزان، وكذلك عمر بن لجأ كان راجزًا مقصدًا، ومثله حميد الأرقط والعماني أيضًا، وأقلهم رجزًا الفرزدق "ص 124 ج1: العمدة". والرجز كثير عند العرب لسهولة الحمل عليه، حتى سماه المتأخرون حمار الشعر، وقد وقع إلى الرواة من ذلك شيء كثير، فكان الأصمعي يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة على ما قيل، وعندنا أن ذلك ليس بكثير إذا علمت ما نقله الجاحظ عن أبي عبيدة، قال: اجتمع ثلاثة من بني سعد يراجزون بني جعدة، فقيل لشيخ من بني سعد: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أفثج1؛ وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أنكف2؛ فقيل للآخر الثالث: ما
__________
1 لا أعيا.
2 لا أنقطع.(3/19)
عندك؟ قال: أرجز بهم يومًا إلى الليل لا أنكش1. فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا وخلوهم "ج2: البيان" وكانوا يروون صبيانهم الأرجاز ويعلمونهم المناقلات ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب؛ لأن ذلك يفتق المهاة ويفتح الجرم، واللسان إذا أكثرت تحريكه رق ولان، وإذا قللت تقليبه وأطلت إسكانه جسأ وغلظ "ج1: البيان". وليس كالرجز ما يهرت الأشداق ويوطئ للشعر ويأخذ النفس بهذه الملكة الموسيقية، ويكاد يكون منفصلًا عن الشعر من حيث الارتباط بين وزنه ومعناه، فهم يرسلونه كلامًا كالكلام، ولكنه أخص ما يكون فيما يؤلف بين حركات البدن وحركات النفس؛ فكانوا يتراجزون على أفواه القلب، وفي بطون الطرق، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة ونحو ذلك "ج2: البيان".
__________
1 لا أنزف.(3/20)
الشعر في القبائل:
كان الشعر إلى مائة سنة قبل الهجرة في أول عهده بالافتتان والتصرف، ولم يكن تم تهذيب اللغة على نحو ما صارت إليه لعهد القرآن، فكان طبيعيا أن لا ينصرف العرب إلى المباهاة به والمفاخرة بقائله منهم؛ ولكن لما جعل الشعراء يحتفلون ويتصرفون في اللغة ويتناولون أعذب ألفاظهم ثم يأتون مكة في موسم الحج فيعرضون أشعارهم على أندية قريش، فما استحسنوه منها روي وكان فخرًا لقائله في القبائل كلها؛ إذ يحضرون الموسم جميعًا؛ لأن كل قبيلة كان لها صنم في الكعبة تأتي لزيارته حتى زادت عدة الأصنام فيها على ثلاثمائة صنم, أصبح العرب بعد ذلك يفاخرون بشعرائهم، وصار الشاعر أيضًا يباهي بقبيلته ويغض من غيرها، فذلك دينه السياسي وديدنه، حتى لا يصدق الرواة أن شاعرًا يمدح قبيلة بينها وبين حيه عداوة، وكان أبو عبيدة إذا أنشدوه أبيات العرندس وهو أحد بني بكر بن كلاب التي يقال إنه مدح بها بني بدر الغنويين، ومنها البيت المشهور:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
يقول: هذا والله محال، كلابي يمدح غنويا؟ يعني عداوة الحيين "ص296: شرح العيون" كان من ذلك أن انصرفوا إلى المنافرات وهي تزيد مادة الحرص في الطبائع، وتمكن غريزة الفخر في النفوس، فصاروا من حاجتهم للشعراء إلى حال كانوا إذا نبغ الشاعر في قبيلة أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة, واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم؛ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتح، وسنلم بشيء من أدلة ذلك في باب الهجاء.
ولا عجب بعد ما مر بك أن يكون الشعر عصبية في القبائل، ومن ذلك ما يقولون إن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل والمرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل ربيعة بن سفيان؛ ثم كان منهم أيضا سعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، وخاله المسيب بن علس، ثم تحول الشعر إلى قيس، فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ وأخوه مزرد، وخداش بن زهير؛ ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع.
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لسانًا وأعذبهم، أهل السروات، وهن ثلاث -وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن- فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة؛ ثم بجيلة السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها؛ ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو الحارث كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد، وقوم يرون تقدمه الشعر لليمن في الجاهلية بامرئ القيس، وفي(3/21)
الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانئ وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين حبيب والبحتري "ص55 ج1: العمدة" على أنه ليس من الممكن أن يحاط بالشعراء المعروفين في قبائلهم وعشائرهم في الجاهلية والإسلام، ولم يقع لأحد من العلماء أنه استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته منها شاعر إلا عرفه، وأشهر من يعرفون أكثر شعرائهم قبائل هذيل، فقد رووا منها لأربعين شاعرًا في الجاهلية والإسلام، وجمع بعض شعرهم في ديوان شرحه العسكري "وطبع الجزء الأول منه في أوروبا"؛ وقد ترجم منهم ابن قتيبة في طبقاته طائفة قليلة، وكان منهم بنو مرة، وهم عشرة رهط كلهم دهاة شعراء، وهم أبو خراش وأبو جندب والأبح والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وعروة. ومرة أبوهم هو أحد بني قرد بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل. وأمهم أم سفيان لبني وهي امرأة من بني حنيفة. وذلك لم يتفق في العرب لغير هذيل, ومن شعراء هذه القبيلة، جنوب المشهورة أخت عمرو ذي الكلب وأختها عمرة، وأول من عرف من شعرائها خويلد بن وائلة بن مطحل من بني سهم بن معاوية وهو أبو معقل بن خويلد الشاعر المعدود -وكان معقل زمن أبي يكسوم ملك الحبشة صاحب الفيل- ولكن أشهرهم جميعًا وأشعرهم أبو ذؤيب الذي كان في زمن عبد الله بن الزبير وخرج معه في مغزى نحو المغرب فمات.
ومن عجيب أمر الشعر في القبائل ما ذكره الجاحظ أن عبد القيس بعد محاربة إياد، تفرقوا فرقتين؛ ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب، قال: ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة " ج1: البيان" وهذا يصح دليلًا على ما قدمناه من أن الشعر لم ينشأ في العرب حين كانوا قبائل مجتمعين، وإنما نشأ بعد تفرقهم وتمزيق الحروب لهم، إذ مثلت لهم أغراضه واتفقت البواعث عليه.
وقال يونس بن حبيب الضبي: ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو كاهن أو فارس، وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو "ج1: البيان" وقد يظن بعضهم أنه لم تخل قبيلة من قبائل العرب بعد الإسلام أن ينبغ فيها شاعر أو شعراء، ولكن ذلك غير مطرد، فقد ذكر صاحب "الأغاني" أن قبيلة قيس لم يكن بها في الإسلام شعر قبل أشجع السلمي وهو من شعراء الرشيد، وإنما كان الشعر في ربيعة واليمن، فلما نجم أشجع وقال الشعر انتهضت به قيس وافتخرت على العرب "ص360 ج17: الأغاني".
بيوتات الشعر والمعرقون فيه جاهلية وإسلامًا:
تلك وراثة الشعر في القبائل، وأما وراثته في البيوتات فهم قد عدوا من ذلك أشياء، لقرب بعضها من الإسلام ولظهور بعضها معه وبعده، ولكنهم لم يذكروها في المفاخرات كما ذكروا بيوتات المجد الغلابة في عرب الجاهلية، وهم بيت تميم بنو عبد الله بن دارم ومركزه بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدر، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه بنو ذي الجدين "ص35 ج1: الكامل للمبرد".
ومن بيوتات الشعر في الجاهلية بيت أبي سلمى.... إلخ "ص235 ج2: العمدة".(3/22)
سيما الشعراء:
لا بد لكل متميز من شكل ومنظر يلقي في الأنفس عنوان حقيقته؛ ومرجع التميز في الأشكال من اللباس والحلية وهيئة الحالة ونحوها إنما يكون إلى مطابقة إحساس الشخص أو موافقة إحساس المجتمع الذي هو مناط العادات ومبنى الصفة القومية، فليس زي الشاعر في بيته وهيئته فيما ينشد لنفسه كزيه في يوم الحفل وبين السماطين، ولا كهيئته فيما ينشد للناس يومئذ. وقد اصطلح أهل الأدب والمناصب العلمية وغيرها من رتب الملك في الاجتماع الإسلامي على أزياء يرون فيها أنفسهم أجزل اعتبارًا وأكمل وقارًا وأفخم أقدارًا، وكذلك تحشو هذه الآلات صدور الناس من إفراط التعظيم، وتملأ قلوبهم من سكون المهابة؛ وقد شاع ذلك في الحضارة الإسلامية منذ أمر أبو جعفر المنصور رجاله سنة 153هـ أن يتخذوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم التي كانت إلى ذلك العهد من مميزات العرب، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم وأن يكون شعارهم السواد كما كان البياض شعار الأمويين؛ ثم تنوعت الأزياء، فكان للقضاة زي ولأصحابهم زي وللشرط زي، وللكتاب زي، ولكتاب الخبر زي؛ وأصحاب السلطان ومن دخل داره على مراتب، فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس القباء، وهكذا مما لا محل لاستيفائه وتفصيله هنا.
وفي علم الفراسة نوع من قيافة الآثار النفسية يمتاز به الناس، وربما وجدت من الشعراء مثلًا من يكون منظر وجهه وحالة تركيبه أشعر عند التأمل من شعره؛ وكان العرب يعرفون هذه القيافة ولكنهم يستعملونها في تحقيق الأنساب وتميز القبائل، وفي الحديث: أن قومًا يزعمون أنهم من قريش أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قائفًا ليثبتهم في قريش. فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع، فنظر في أكفهم ثم قال: اطرحوا العطف "جمع عطاف" ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكف قريش ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه "ص13 ج2: الكامل للمبرد". ولسنا بسبيل ما يكون من هذه القيافة في الشعراء، ولكنا نذكر ما وقفنا عليه من تمييز الهيئة دلالة السيما بعد مطاولة التعب في البحث والتنقيب.
ذكر المرتضى في أماليه في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر وكانوا ثلاثين رجلًا فيهم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم فأرادوا تقديم لبيد ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلمًا ممضًا، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان، فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلًا واحدة، قال: وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء "ص135 ج1: أمالي المرتضى". وكانت لشعراء الأعراب هيئة في الإنشاد إلى ما بعد الإسلام، فئقد دخل العماني الراجز على الرشيد ينشده شعرًا وعليه قلنسوة طويلة على الزي العباسي(3/23)
وخف ساذج، فقال له الرشيد: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور "الطي" وخفان دمالقان فبكر عليه من الغد وقد تزيّا بزي الأعراب فأنشده.... "ج1: البيان" وكان الشاعر العربي ينشد في يوم الحفل وقد أخذ المخصرة بيده أو اتكأ على سية قوسه؛ وإذا فاخر جاثى خصمه والناس حولهما؛ وكذلك كان للخطيب زي خاص سنذكره في بحث الخطابة.
وكان زي حسان بن ثابت في خضابه، فكان يلوث شاربيه وعنفقته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم "ص3 ج4: الأغاني". ومن أزياء الجاهلية وإن كانت في غير ما نحن بسبيله، أن فرسان العرب كانوا في أيام المواسم والجموع وأسواق العرب كعكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك، يتقنعون، وذلك زيهم، إلا ما كان من أبي سليط طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن يثبت عينه جميع فرسان العرب، وكانوا يكرهون أن يعرفوا، وربما أعلم الفارس نفسه بسيما، كريشة نعامة أو عمامة مصبغة "ج2: البيان".
وكان من زي الكاهن أن لا يلبس المصبغ، والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر "ج2: البيان".
وكان الشعراء في أوائل الدولة العباسية يلبسون الوشي والمقطعات والأردية السود وكل الثوب مشهر، قال الجاحظ: وكان عندنا منذ نحو خمسين سنة شاعرًا يتزيا بزي الماضين وكان له برد أسود يلبسه في الصيف والشتاء "ج2: البيان" وهذا يدل على أن ذلك الزي بطل في زمنه.
وقد اخترعوا في تلك الدولة أثواب المنادمة وهي خاصة بالشعراء والأدباء ولا تقييد لها بشكل خاص إلا ما يكون من الأصباغ والخلوق ونحو ذلك مما يستعان به على زيادة التبسط والانشراح، ولا يزال مثل ذلك في جهات العراق إلى اليوم؛ ومن هذه الثياب رداء يسمونه رداء الشرب، ويظهر أنه كان خاصًا بالشعراء في منادمة الملوك والأمراء، وقد وصفه ابن الحجاج من شعراء المهلبي بقوله:
أبيض الغزل فيه خط سواد ... مثل خط الرئيس في القرطاس
"ص237 ج2: اليتيمة"(3/24)
حالة الإنشاد:
أما حالة الإنشاد فإن شعراء العرب إنما كانوا يتحققون بجهارة الصوت ووضوح المخرج ونفض الكلام نفضًا، ولا يخلون ذلك من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا من أوزان الموسيقى الفارسية والرومية ولا الغناء الرقيق، وليس بينهم اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت إلى الفصل "ص239 جزء 2: العمدة".
ولما شاع الغناء بعد الإسلام ووضعت قواعده صار تلحين الشعر مقصورًا على ما يغنى به منه في بعض أبيات من الرقائق إلا ما كان في بعض شعراء الأندلسيين، وسيأتي ذلك في موضعه.
ثم بقي الإنشاد جاريًا مجراه الأول، لا يتأثر إلا بما يكون في المنشد من الزهو واهتزاز العطف، كما كان يفعل البحتري، فإنه كان إذا أنشد اهتز ونظر في عطفيه وطرب طربًا بينًا، وربما أقبل على جلسائه فقال: ما لكم لا تعجبون؟ وكان مثل هذا وأكثر منه في جملة من الشعراء، إلا أننا لم نقف على أن الإنشاد كان تمثيلًا صحيحًا وإن خالطه الزهو والعجب الثقيل، إلا فيما ذكره الصاحب بن عباد -في كتابه المعروف بالروزنامجة- في وصف إنشاد أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم، قال يخاطب أستاذه ابن العميد: "دعاني الأستاذ أبو محمد فحضرت وابنا المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره فأنشدا قعودًا وجودا بعد تشبيب طويل وحديث كثير، فإن لأبي الحسن رسمًا أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته.... يبتدئ فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه من جؤذر غلامه منديل عبراته: والله، والله ... إلخ "ص284 ج2: يتيمة الدهر".
[ولعل فعل أبي الحسن هذا على بساطته أول ما عرف من صنعة التمثيل في الإسلام، فإن الأصل في التمثيل على ما حققه علماء النفس هو تأدية المراكز العصبية المحركة للوظيفة العضوية؛ لأن الأعصاب الممتدة من ظاهر الجسد إلى مراكز الجهاز العصبي، وكذلك هذه المراكز نفسها والأعصاب الممتدة منها إلى العضل، تكون جميعها آلة واحدة علائق أجزائها بعضها ببعض عضوية آلية، فمتى حركت من أي موضع تسرد سائر أجزاء وظيفتها الآلية سردًا.
وهم بذلك يحققون وجود ارتباط قوي بين الصور الذهنية والحركات العضلية، ويثبتون تفاعل الصور في الحركات والحركات في الصور.
فإذا مثلت هيئة الحزين، أي: الحركات التي تبدو بها تلك الحالة النفسية وهي الحزن، وحركت العضلات الخاصة بها من الإطراق والدمع، أثرت هذه الحركات فيك حتى لتحزن حقيقة، وبالعكس(3/25)
إذا جرت في ذهنك صورة مضحكة لا تلبث أن ترى عضلات الضحك والابتسام قد انفعلت بهذه الصورة فتضحك أو تبتسم] *
__________
* قلت: هذه الكلمة الموضوعة بين العلامتين [] كانت مثبتة في حاشية الصفحة الأخيرة من هذا الفصل، وقد جاء في آخرها كلمة: "تنقح وتبسط" يذكر المؤلف نفسه، فأثبتناها هنا كما هي.(3/26)
ألقاب الشعراء:
كان العرب ربما أخذوا الكلمة يصيبونها في بيت من الشعر فيطلقونها لقبًا على قائله بحيث تغلب على اسمه وكنيته فئلا يعرف إلا بها، كشأس بن نهار العبدي؛ وفي "البيان" للجاحظ: سالم؛ لقب بالممزق لقوله.
فإن كنت مأكولًا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
والممزق هذا بالفتح، قال الآمدي: وهو جاهلي، وأما الممزق الحضرمي فبكسر الزاي متأخر وابنه عباد ولقبه "الممزق" وهو القائل:
إني الممزق أعراض الكرام كما ... كان الممزق أعراض اللئام أبي
وقد نقل السيوطي في "المزهر" عن الوشاح لابن دريد وغيره، وأورد الجاحظ في الجزء الأول من "البيان"، وابن رشيق في كتابه "العمدة" زهاء ستين لقبًا لشعراء من الجاهلية والإسلام.
قال ابن رشيق في سبب هذه التسمية: وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب وسرعة ولوجه في آذانهم وتعلقه بأنفسهم.
وليس ذلك بشيء وإلا لزم أن يطرد ذلك في مشاهير الشعراء، ولم يقل به أحد، والذي عندنا أنه لا يصح كل ما نقلوه من ذلك، وأن بعضه من وضع الرواة والنقلة، وإلا فما وجه تسمية منبه بن سعد بأعصر لقوله:
أعمير إن أباك غير لونه ... مر الليالي واختلاف الأعصر
إلا أن تكون الكلمة قد ارتجلها منبه هذا ولم تكن معروفة قبله في لغات العرب بحيث تستغرب منه فيكون السبب في التسمية وجه الغرابة، وهو ما لا سبيل إلى تحقيقه وتصديقه.
والذي تغلب عليه الصحة من ذلك ما يكون سبب التسمية به صفة يحكيها الشاعر عن نفسه, ويمكن أن يكون في إطلاقها عليه نوع من الغرابة كالمرقش الذي لقب بذلك لقوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
فهذه صفة غريبة من شاعر أمي يمكن أن ينبز بها تهكمًا أو مزحًا، كما يمكن أن تطلق عليه تحببًا أو مدحًا أو تكون الصفة المسمى بها من الصفات التي تدل على عمل يصح أن ينعت به، كالجواب الذي سمي بذلك لقوله:
لا تسقني بيديك إن لم تأتني ... رقص المطية، إنني جواب
أو تكون الكلمة التي تطلق على الشاعر مما يصح أن تشق منه صفة ذلك سبيلها، كجابر الكلبي المسمى المرني لقوله:
إذا ما مشى يتبعنه عند خطوه ... عيونًا مراضًا طرفهن روانيا(3/27)
ولا بد من هذا القياس؛ لأن الألقاب إنما تشعر بمدح أو ذم، والأسماء لم توضع إلا للامتياز في التعريف، فأما أن تجيء الكلمة لا هي مما يمتاز بمثله عادة، وليست موضع مدح أو ذم ولو من طريق العتب، ثم يقال إنها اسم أو لقب فهذا ما لا يصدق. ولو أجزنا ذلك لاستغرق جميع الشعراء إلى اليوم، وذلك شيء لم يكن، وقد ذكر الجاحظ أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة -وكان خطيبًا من وجوه قريش ورجالهم سمي القباع- قال: وإنما سمي القباع؛ لأنه أتى بمكتل لأهل المدينة فقال: إن هذا المكتل لقباع، فسمي به. والقباع الواسع الرأس القصير "ج1: البيان" فهذا سبب يدلك على أنهم لم يكونوا يجازفون بالتلقيب والتسمية، ولا بد من معنى لذلك، وهو أمر شائع في كل زمن؛ ومن هذا القبيل -وإن كنا نورده استجمامًا وفكاهة- ما ذكره الجاحظ أيضًا في سبب تسمية علي بن إسحاق بن يحيى المجنون المسمى بمقوم الأعضاء، أنه جلس مع بعض متعاقلي فتيان العسكر وجاءهم النخاس بجوار، فقال: ليس نحن في تقويم الأبدان، إنما نحن في تقويم الأعضاء، ثمن أنف هذه خمسة وعشرون دينارًا، وثمن أذنيها ثمانية عشر، وثمن عينيها ستة وسبعون، وثمن رأسها بلا شيء من حواسها مائة دينار. فقال صاحبه المتعاقل: ههنا باب فهو أدخل في الحكمة من هذا؛ كان ينبغي لقدم هذه أن تكون لساق تلك، وأصابع تلك أن تكون لقدم هذه؛ وكان ينبغي لشفتي تيك أن تكونا لفك تيك، وأن يكون حاجبا تيك لجبين هذه؛ فسمي مقوم الأعضاء "ج2: البيان" والشرط في التلقيب بالكلمات أن تسير الكلمة؛ فإذا قرنت بالاسم زادته معنى، وإذا كانت مفردة أغنت؛ وهذا ما لا يتفق إلا بمثل الأسباب التي ذكرنا، فتنبه له.(3/28)
المقلون والمكثرون:
من الشعراء شاعر نفسه الذي يقول على مؤاتاة السجية والطبع دون أن يستكره على الشعر أو يرهق بالأغراض المتنوعة، وهذا إنما جهده أن يصيب حظ نفسه أقل أو أكثر؛ ولكن منهم شاعر الناس الذي يحرث حياته الأرضية على أقفيتهم، فهم إن تركوه أو تركهم مات، ومثل هذا لا يصيب حظ روحه من القول إلا بعد أن يصيب حظ جسمه منه، فهو مكثر أبدًا من الشعر، يقلبه على أغراض الناس ليأخذ به مكانًا على الأفواه ينزل فيه بضاعته من سوق الكلام، ولا يعرف المقل من المكثر في شعراء الجاهلية إلا بهذا التقسيم؛ لأنهم قد استووا في ضياع كثير من شعرهم وسقوطه من أيدي الرواة المصححين، بحيث لو اعتبرت شهرة أحدهم بقيمة ما يصح له من الشعر لنبا به موضعه حيث وضع من الشهرة والتقدم. فقد عدوا من المقلين طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسبب بن علس، وهؤلاء الثلاثة فيما رووا عن أبي عبيدة أشهر المقلين في الجاهلية باتفاق، وعدوا منهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معديكرب، والأشعر بن حمران الجعفي، وسهيل بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر، ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد كعلقمة، ومنهم من يعرف بالأربع كعدي بن زيد، ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير، وهو يتفاوت في هذه الكثرة بحسب صنعة الشاعر المحمول عليه وتلاحم كلماته وامتلاء أعطافها، ولذلك قالوا: إن عدي بن زيد لقربه من الريف وسكناه الحيرة في جيرة النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وقد ذكر ابن رشيق بعض مطالع القصائد المشهورة في أيدي الناس التي صحت نسبتها لبعض هؤلاء المقلين "ص66 ج1: العمدة".
ولا يبعد أن يشتهر الشاعر الجاهلي بالقصيدة الواحدة، بل بالأبيات القليلة، بل بالبيت المفرد؛ لأنهم يزنون الكلمة بمقدار ما تحرك من ميزاتها الطبيعي الذي هو القلب، وكانوا يسمون البيت الواحد يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة، فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحسن أن يسمى قصيدًا؛ قال ثعلب: وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الراد، ومثله الرئيد "ص119: إعجاز القرآن"؛ وهذا أصح مما ذهب إليه المتأخرون من أن أدنى حد القصيدة سبعة أبيات؛ لأنه لا يلتئم مع وجه الاشتقاق الذي رواه ثعلب كما ترى. وكانوا يستحبون الإطالة عند الإعذار والإنذار والترهيب والترغيب والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير والحارث بن حلزة وغيرهما، والقطع أطير في بعض المواضع كالمحاضرات والمنازعات والتمثيل والملح وغيرها مما ليس من المواقف المشهورات.
وكان العرب يعرفون للإكثار من الشعر صفة طبيعية، وهي قرع روثة الأنف بطرف اللسان، كأن(3/29)
اللسان إذا طال كان ذلك أدعى إلى رقته ولينه ومؤاتاته على التغليب فيبعث من الصغر على الارتياض للكلام والحمل في شعابه وفنونه؛ ولا نعرف أصل هذه الصفة ولا تاريخها فيهم، ولكن ذكر الجاحظ في البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "ما بقي من لسانك"؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أنفه، ثم قال: "والله إني لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه، وما يسرني به مقول من معد"! فهذا يدل على أن الصفة كانت معروفة فيهم، وإلا فلا أسقط من هذا الكلام. قال الجاحظ: وأبو الصمت مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة وأبوه وابنه في نسق واحد: يقرعون بأطرف ألسنتهم أطراف أنوفهم "ج1: البيان". والعجيب في أمر الإقلال والإكثار أنك تجد شعراء من المطبوعين لا يقدر على جمع شعرهم لكثرته "شرح العيون ص320" وقد عدوا من هؤلاء بشار العقيلي، والسيد الحميري، وأبا العتاهية، وابن أبي عيينة؛ وكان يشار يقول إن له اثني عشر ألف قصيدة؛ قال الجاحظ: وقد ذكر الناس في هذا الباب يحيى بن نوفل، وسلما الخاسر، وخلف بن خليفة، قال: وأبان بن عبد الحميد اللاحقي أولى بالطبع من هؤلاء، وبشار أطبعهم كلهم "ج1: البيان".
وتجد شعراء آخرين لا يزيدون في شعرهم الجيد عن البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، وقد يتعمدون ذلك في أغراض معلومة، كعقيل بن علفة الذي كان يقصر هجاءه ويقول في الاحتجاج لذلك: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، وأبي المهوس أيضًا وكان يقول محتجا: لم أجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم أجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا "ج1: البيان".
وكان ابن الزهري يقصر أشعاره ويقول: إن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، ويكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة، وقد يكون الإقلال في بعض أولئك عاما في جميع الجيد من شعرهم كالجماز وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة! وهو القائل:
أقول بيتًا واحدًا أكتفي ... بذكره من دون أبيات
وكابن لنكك البصري "من شعراء القرن الرابع" قال الثعالبي في "اليتيمة": وما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس، وأقدر أنه في الجبال كهو في العراق؛ وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمح بزوجيه قتل1! وكذلك ابن لنكك: إذا قال البيت والبيتين والثلاثة أغرب بما جلب وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد القصيد فقلما يفلح "117 جزء2: اليتيمة". واشتهر بجودة القطع من المولدين قبل هؤلاء، بشار بن برد، وعباس بن الأحنف، والحسين بن الضحاك، وأبو نواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المدل، وابن المعتز، وإن كان بعضهم يحسن في الإطالة، كبشار وأبي نواس وابن الجهم؛ ومن الإسلاميين قبلهم الفرزدق، حتى قال الجاحظ: إن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعرًا لم يسمع بمثله فالتمس ذلك في قصار
__________
1 في المعدة: كانوا يقولون: إياكم ومنصورًا إذا رمح بالزوج، وكان ربما هجا بالبيت الواحد. وفي بعض النسخ: إذا رمى، وهو خطأ.(3/30)
قصائد الفرزدق، فإنك لم تر شاعرًا قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره، وقد قيل: للكميت: الناس يزعمون أنك لا تقدر على القصار، قال: من قدر على الطوال فهو على القصار أقدر. وهذا الكلام يخرج في ظاهر الرأي والظن، ولم نجد ذلك عند التحصيل على ما قال "ص31 ج3: الحيوان".
أما المعروفون بالإطالة فهم كثير، وأشهرهم ابن الرومي، وهو على إطالته محسن، وربما تجاوز حتى يسرف.(3/31)
الارتجال والبديهة والروية:
قد يكون لفظ الارتجال مأخوذًا من الانصباب والسهولة، ومنه قيل: شعر رجل إذا كان سبطًا مسترسلًا غير جعد، أو من ارتجال البئر، وذلك أن ينزلها الرجل برجليه من غير حبل؛ لأن الشعر لا يسمى مرتجلًا إلا إذا كان انهمارًا واندقاقًا لا تعمل فيه ولا تروئة، وكانت هذه سنة العرب في جاهليتهم، إذ هم لم يحتذوا الشعر على مثال، بل كان ذلك نوعًا من كلامهم متى بعث أحدهم عليه انبعث، ولما كانت أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسباب ذلك ما تجد النفس في لذة المغالبة والمدافعة، كالمماتنة والمقارضة ونحوها، وما يرفه عليها ويحسم عنها كالحداء وما في حكمه مما ينشدونه على أفواه القلب وعند الانكفاء من الغارات وأمثال ذلك، ومما يغمر النفس فتكون فيه طافية راسبة، ومن هذا النوع شعر العواطف، كالغزل والرثاء والاستغاثة والتحريض وما إليها، ومن أجل ذلك ابتدأ الشعر عند العرب بالبيتين والأبيات يقولها الرجل في حاجته، حتى وجد فيهم من جعل تلك الأسباب همه وهو الشاعر، فتركوا ذلك له وصار من عدا الشعراء منهم كما كان العرب في أوليتهم: لا يكاد الرجل يجد سبب الأبيات حتى ينتزعها من نفسه وينبعث بها طبعه، ثم فعلت الوراثة في ذلك فعلها الشعر وصار في الارتجال شيء من الصنعة يكفي له تقليب العين وخطرة الوهم، فيجيء الشاعر بالقصيدة فيها من بديع الشبيه وبارع الاستعارة وكرم الديباجة وحسن الرونق، لا يتعاون عليها إلا طبعه ومادته من الأسباب التي قدمناها، فإذا اعترض النفس ما يصرفها عن تلك الأسباب، تبلد الطبع ونضبت المادة، فربما استحالت البديهة بعد الارتجال، وربما استحالت الروية بعد البديهة، كما وقع لعبيد بن الأبرص وهو من أقدم شعراء الجاهلية وأقواهم غريزة، إذ يقول له النعمان في يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض! قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب!
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد!
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول بعد روية ومراجعة. وقد عدوا نفرًا من الشعراء في عصور مختلفة كانوا في هذه الحال كما يكونون في غيرها من أحوال الأمن والدعة، وذلك لقدرتهم وسكون جأشهم وقوة غريزتهم، كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي، وعبد يغوث بن صلاءة، وتميم بن جميل، وعلي بن الجهم وغيرهم. قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إحالة فكرة(3/32)
ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا "ج2: البيان والتبيين".
واستمر ذلك شأنهم حتى نشأ الذين تكسبوا بالشعر والتمسوا به الصلات والجوائز، وجعلوه للسماطين وأيام الحفل، كالنابغة وزهير والأعشى وغيرهم فلم يجدوا من السبب ما وجد الذين قبلهم؛ لأن الشاعر إذا مدح اليد وأشاد بالصنيعة لم يكن له بد من التكلف والاستكراه، إذ يعلم أنه لا يقبل منه عفو الكلام؛ ولأن ذلك المقام لا تجدي فيه غير المبالغة التي تكون من استعراض الصفات وتخير المعاني والتغلغل والإغراق وأشباهها، فكان من ذلك القيام على الشعر ومعاودة النظر فيه وتتبع الشاعر على نفسه حتى يخرج شعره مستويًا في الجودة؛ لأن الطبع في مثل تلك المعاني يندفع ويتبلد، ويضعف ويتجلد، فإذا لم تجتذب الألفاظ ولم تجتلب المعاني جاء الشعر جديدًا مرقعًا أو لبيسًا ممزقًا، فلا يصلح أن تكون حلة الفخر التي لا تبلى على الدهر؛ وقد يكون من أسباب ذلك أيضًا أن الشعر لما فشا فيهم بعد نبوغ امرئ القيس ومن في طبقته، وكان الشعراء يستعينون عليه بالروية استجماعًا لمحاسنه خشي آخرهم أن يقصر عن أولهم إذا هو لم يجار سنة النمو والارتقاء، فكان يبيت المعاني يلتمس لها وجوه الصنعة، ويدع القصيدة تمكث عنده زمنًا طويلًا يردد فيه نظره ويقلب رأيه ويرصد أوقات نشاطه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره؛ وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا "ج1: البيان".
وأول من ذهب لذلك منهم طفيل الغنوي؛ وكان يسمى محبرًا لحسن شعره "العمدة" وكلا السببين قد اجتمعا في زهير؛ لأنه كان يروي شعر ثلاثة من الفحول منهم طفيل، وكان مذهب شعره المديح كما ستراه في الكلام عنه؛ ولذلك كان أول من اشتهر بالثبات المحكك1 من الشعر، وهو الذي كان يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه ينظم القصيدة منها في شهر ثم لا يزال ينقحها ويهذبها حتى يمر عليها الحول؛ غير أن مثل زهير من أهل السيادة والورع لا يمدح لرغبة ولا يكذب في مديح، فكان بديهيا أن يكون من بعض بواعثه على الرواية مغالبة الأنفة ومدافعة الطبع والتماس عذر النفس الأبية في صدق المديح، وهذا كله مما لا يغني فيه الارتجال شيئًا.
وما ظهرت الصنعة والتجويد في الشعر حتى اتقته العرب اتقاء شديدًا؛ لأنها رأت الشاعر في ترويته إنما يسم كلماته فلا يرمي بها إلا قاتلًا، ولا جرم كان ذلك أيضًا سببًا من الأسباب في ضعف
__________
1 قال الجاحظ في كتابه "البيان ج1" كنت أظن قولهم "محكك" كلمة مولدة، حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني:
أبلغ فزارة أن الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب
أزل أطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانًا في اليعاسيب(3/33)
الارتجال؛ لأن شاعر الجاهلية الآخرة ميزان الأحساب، لا يصلح إلا لأن يرفع ويضع، غير أن سبيل هؤلاء [الصنعيين] في غير تلك الطرائق سبيل غيرهم من أهل الطبع، فهم يرتجلون في الحماسة والهجاء وغيرهما.
ثم جاء الإسلام فكانت أسباب الشعر في أوله على ما كانت في أولية العرب؛ إذ كان مثل حسان ينصب له منبر في مؤخر المسجد لينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك مر المخضرمون برونق الطبع ووشي الغريزة، حتى نبغ الحطيئة وهو من هو في الضراعة والجشع وسقوط الهمة، وكان راوية زهير وابنه، فاستعبده الشعر، واستفرغ مجهوده، وكان الأصمعي يسميه هو وزهيرًا وأشباههما "عبيد الشعر" لذلك. ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض الماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل التفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية. وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، وأشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا إنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم نعثر على رواية في ارتجالها بعد المخضرمين إلا ما رواه ابن خلدون عند ذكر استقبال عبد الرحمن الناصر من أمراء الدولة الأموية بالأندلس لرسل الملوك الوافدين من رومة والقسطنطينية وغيرهما؛ قال بعد أن وصف من جلال مجلس الخلافة ما قال: وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل.... وكان من خطباء هذا المجلس منذر بن سعيد "توفي سنة 355هـ وهو فقيه شاعر كاتب خطيب جريء على ذلك كله، وقد أورد الجلسة صاحب "نفح الطيب" وفصل أبهة ذلك المجلس، وحالة الخطباء فراجعه هناك "ص171 ج1: نفح الطيب".
ولا يبعد أن يكون في كل عصر من يرتجل مثل ذلك حتى في المتأخرين إلا أنه لا يجيء بالجيد ولا يباري أهل الروية، ومن عجائب ذلك في المتأخرين ما ذكره صاحب "خلاصة الأثر" في ترجمة أبي السماع البصير المصري أنه كان أعجوبة الزمان وأحد الأفراد في البديهة وارتجال الشعر؛ قال: وكانت طريقته إذا أراد الارتجال أن يبدأ بإنشاد قصيدة من كلام أحد الشعراء المتقدمين بصوت شجي، وفي أثناء إنشاده يبتدر على وزن تلك القصيدة في أي باب كان من أبواب الشعر مدحًا كان أو غزلًا أو غيرهما. "ص139 ج1" ولم نقف على نظير لهذه الرواية إلى عصرنا، ولكن هناك عجيبة أخرى في ارتجال الرسائل ذكرها الثعالبي في "اليتيمة" "ص31 ج4".
أما البديهة فهي عند سببها في كل عصر وزمن، وقد جمع علي بن ظافر كتابًا حسنًا في ذلك سماه "بدائع البدائه" وهو مشهور.
ومن البديهة سريع يقارب الارتجال، وهو الذين تجوز المتأخرون في تسميته بالارتجال، وفي كتب الأدباء أشياء كثيرة منه "كالذخيرة" لابن بسام و"القلائد" وغيرهما.(3/34)
[كان عمود الارتجال القافية, وربما حدا بعضهم بالرجز حتى إذا شردت عليه القافية تركه وسجع بغيره] *.
[من أسباب ضعف الارتجال ... غلبة اللحن ومعاشرة اللحانين، حتى صار الشاعر يحتاج إلى الإطراق ونحو ذلك] *.
__________
* قلت: هاتان العبارتان كانتا مثبتتين في حاشية بعض الصفحات من هذا الفصل، فرأيت إثباتهما في الخاتمة حين لم أجد ما يعين موضع كل منهما في سياق الكلام.(3/35)
النبوغ وألقابه في الشعراء:
جرى المتأخرون على أن يصفوا الشاعر المحسن إحسانًا عاليًا بالنابغ والنابغة في المبالغة، ويطلقون هذا الوصف إطلاقًا عاما غير ملتفتين إلى أصل الكلمة ووجه اشتقاقها، ولا إلى استعمال العرب إياها، وإن كان ذلك يطابق ما ذهبوا إليه بعض المطابقة، ولكنا رأينا الاستعمال العلمي الحديث "السيكوفسيولوجيا" والاستعمال اللغوي القديم، يضعفان هذه الكلمة في جنب القوة التي يحركونها لها كما سنبينه فيما يلي:
لم يكن النبوغ عند العرب لقبًا عاما كما توهموا، ولكنه كان خاصا بالشعراء الذين يقولون الشعر ويجيدونه ولم يكونوا في إرث الشعر، ومن أجل ذلك لم يلقبوا بالنابغة إلا ثمانية من الشعراء ذكرهم بأسمائهم جميعًا الزبيدي في "تاج العروس" في شرح مادة -نبغ- وهم: زياد بن معاوية الذبياني، وقيس بن عبد الله الجعدي، وعبد الله بن المخارق الشيباني، ويزيد بن أبان الحارثي المعروف بنابغة بني الديان، والنابغة ابن لأي الغنوي، والحارث بن كعب اليربوعي، والحارث بن عدوان التغلبي، والنابغة العدواني ولم يسموه.
وعلى السبب في تلقيب هؤلاء بالنوابغ بنى اللغويون تعريف النبوغ في الشعر كما مر، فيظهر من ذلك أنه تعريف خاص مقيد بسبب معروف فلا يطلق إلا مجازًا، أما الألقاب العامة عند العرب فقد ذكرها الجاحظ في "البيان"، قال: والشعراء عندهم أربع طبقات: فأوليهم الفحل الخنذيذ، والخنذيذ هو التام، ودون الفحل الخنذيذ، الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور "البيان والتبيين، ج1" فالخنذيذ هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره, وسئل رؤبة عن الفحولة قال: هم الرواة، والمفلئق الذي لا راوية له إلا أنه مجود كالأول في شعره [وقالوا في سبب هذه التسمية إنه يأتي في شعره بالفلق وهو العجب، وقيل الفلق الداهية" والشاعر فقط الذي يكون فوق الرديء بدرجة، أما الشعرور فهو لا شيء. قال الجاحظ: وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر؛ وشعرور. وأول من سمي بالشويعر امرؤ القيس؛ سمي به محمد بن حمران بن أبي حمران، وقد سمي بعده بذلك نفر، منهم المفوف شاعر بني حميس، وصفوان بن عبد ياليل من بني سعد إلا أنهم إنما ينبذون بذلك في الهجاء وعلى وجه النقيصة؛ وقبل هذه الألقاب كان عندهم لقب بسيط لا يدل على أكثر من هيئة النظم، وبهذه البساطة استدللنا على أنه أقدم من الألقاب المذكورة آنفًا؛ ذكر صاحب "المخصص" "ج2 ص115" قال أبو زيد: العرب تقول: خطيب مصقع وشاعر مرقع، فالمصقع: الذي يأخذ في كل صقع من الكلام أي: ناحية منه؛ والمرقع: الذي يصل الكلام بعضه ببعض يرقع ما انخرق منه، وبهذا قيل: للشعر نظام، لاتصاله واتساقه، فكأن هذا اللقب نشأ عندهم في أوائل العهد بإطالة الشعر ومجاوزة البيتين والثلاثة؛ لأن مد البيتين مثلًا إلى أن يبلغا أبياتًا هو حقيقة ذلك الوصل الذي وضعوا هذه الكلمة لتعريفه.(3/36)
وبعد أن أخذ شعراء العرب في التروية والتنقيح وتحكيك الشعر نشأ عندهم لقب المطبوع واستعملوه فيمن يجري على طبعه العربي ولا يتصنع ولا يتكلف ما يلزم التروية من التبييت ومعاودة النظر ونحو ذلك، فهذه جملة ألقاب الشعراء عندهم.
أما تعريف النبوغ في علم السيكوفيسيولوجيا، وهو الذي يبحث فيه عن ارتباط أحوال النفس بالوظائف العضوية، فإن أهل هذا العلم يقولون: إن النبوغ تميز المخلوق بتأدية أعمال مألوفة على وجه من الإتقان يصعب على كثير ممن يقومون بهذه الأعمال عادة، فهو إذن استعداد فطري تنميه المثابرة على العمل حتى يبلغ حظه المقسوم له من الكمال، وعلى ذلك يكون عاما في كل المخلوقات؛ لأن كل جنس منها يمتاز بعضه على بعضه في أداء الحركات والأعمال الطبيعية له.
ولكن عندهم نبوغًا عبقريا خاصا بالإنسان يصح أن يسمى بالجهبذة، وهو ابتداع المرء ما يكون غيره قد غفل عنه، أو اتباعه ما جرى عليه غيره ولكن على وجه ذاتي يكون له فيه صفة من الابتداع, فهو إذن نمو عضوي كمالي يثبت للعامل شخصية العمل. وهذا المعنى في الشاعر هو الذي يريده العرب بلقب الفحل والخنذيذ -كما سبق- وبه ميزوا السرقة من الاختراع في المعاني، كما سيأتي في موضعه.(3/37)
الاختراع والاتباع:
لم يغفل علماء الأدب العربي عن معنى الجهبذة والنبوغ العبقري، وهم يسمون ذلك بقسميه الاختراع والإبداع، والفرق بينهما عندهم أن الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ، قالوا: فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمر وحاز قصب السبق "ج1 ص177: العمدة" وإنما ذلك معنى شخصية الكلام التي تميزه وتجعله خلقًا وابتكارًا فيكون عملًا ذاتيا يدل على صفة شعرية متخصصة، وليس يصح لقب الشاعر لغير هذه الصفة وإلا فهو منتحل أو مغتصب. واشتقاق الاختراع من التليين، يقال: بيت خرع إذا كان لينًا، والخروع منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى أو لينه حتى أبرزه، وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل الحبل جديدًا، ليس من قوى حبل نقضته ثم فتلته فتلًا آخر.
والاختراع في شعر العرب مما يظلمون به عند المحدثين والمولدين؛ لأن أولئك أهل البادية وتربية العراء وشعراء الفطرة، وهؤلاء أهل الحضارة التي تفتق القرائح بما تنوعه من المآخذ المختلفة؛ ولذلك كانت المعاني قليلة في شعر الجاهلية تكاد تحصر لو حاول ذلك محاول، وإنما نريد المعاني التي لا يشتركون فيها بطبيعة الاجتماع، والتي لو اختلطت جميع أشعارهم لتزايلت وانفصل بعضها عن بعض، فكأن كل معنى قلب فيه سر حياة القصيدة أو القطعة، كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
فهذا المعنى الذي لا تصوره إلا الحواس الدقيقة، قد سلمته له الشعراء جميعًا فلم ينازعه فيه أحد، وقد مكن مزية الاختراع فيه أنه وصف طبيعي ثابت لا يطاوع في التوليد والتشقيق إلا بالعنت والاستكراه، ومن أجل ذلك لم يأخذه أحد إلا فضحه؛ وسنلم به في ترجمة امرئ القيس.
وقد جاء المخضرمون ولا مزية لهم على شعراء الجاهلية في الاختراع، ثم جاء بعدهم شعراء الصدر الأول من الإسلاميين فزادوا في ذلك بعض الزيادة بما مكنتهم منه الحالة الدينية، ثم كانت طبقة جرير والفرزدق والأخطل وأصحابهم فذهبوا في التوليد والإبداع والاختراع مذهبا واضحًا، وطرقوا لذلك طريقًا سابلة، ثم أتى أبو المحدثين بشار بن برد وأصحابه فنظروا إلى مغارس الفطن ومعادن الحقيقة ولطائف التشبيهات فأحكموا سبرها وساروا إليها بالفكر الجيد والغريزة القوية، وقد التقى إليهم طرفا العربية في منطقة البداوة الزائلة ومفتتح الحضارة الثابتة، فأصبح شعرهم خلقًا جديدًا، ووقف شعر من قبلهم عند الاستشهاد بألفاظه، حتى لتجر اللفظة الواحدة قصيدة بطولها, وكان من افتتان هؤلاء المحدثين أن نصبوا لأنفسهم منزلة تضارع المنزلة التي وقف عندها الشعر القديم، فصار يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، وعلماء الأدب مجمعون على أن أكثر الشعراء(3/38)
المولدين اختراعًا وتوليدًا، أبو تمام وابن الرومي.
وهذا الأخير كان ضنينًا بالمعاني حريصا عليها: يأخذ المعنى الواحد ويولده فلا يزال يقلبه ظهرًا لبطن، ويصرفه في كل وجه وفي كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد يتخصص به ويزيد بذلك مادة النبوغ العبقري في شعره؛ وقد تجد من يجيء بعده ممن لا يعد في طبقته قد أخذ هذا المعنى بعينه فولد فيه زيادة ووجهه جهة حسنة تدل البصير بالصناعة على أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة. وذكر ابن رشيق في موضع من كتابه "العمدة" عزمه على تأليف كتاب يحصي فيه معاني الجاهلية ويذكر ما انفرد به المحدثون وما شركهم فيه المتقدمون، كصفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لم يتسع له كتاب العمدة، وشرط [على نفسه] في ذلك إحصاء المخترعات للمحدثين وإقامة البرهان منها على أن ابن الرومي أكثر الشعراء اختراعًا. وابن رشيق [أهل لهذا] التأليف، ولكنا لم نعرف عنه خبرًا غير ما ذكره هو.
والمعاني بما فيها من صفة الحياة وفسحة الروح خاضعة كالأحياء لناموس الانتخاب الطبيعي الذي يقضي بتنازع البقاء، ولولا ذلك لأقفل باب الاختراع والتوليد؛ لأنه إذا اقتصر الناس على طبقة واحدة من الشعر ولم يكن في طباعهم ما يساعد معنى من الكلام على إماتة معنى آخر أو إسقاطه والحلول محله لم يبق من الكلام ما يتفتح للتوليد، ولم يبق من القرائح ما يتمخض للولادة؛ ولو تتبعت معاني الشعر السائرة ورتبتها ترتيبًا تاريخيا على العصور التي قيلت فيها، لأمكنك أن تضع من ذلك تاريخًا لهذه الوفيات المعنوية، ومن أمثلة ذلك ما قاله الجاحظ أن الناس كانوا يستحسنون قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
فلما قال الحطيئة:
متى تأته تعشوا إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
سقط بيت الأعشى "ج1: البيان والتبيين" مع أن بيت الحطيئة مولد من قول الأعشى، والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة إذا كان الشاعر ليس آخذًا على وجهه.
الاتباع وأنواعه:
فالتوليد اتباع، ولكن هذا الاتباع على نوعين: اتباع في طريق المعنى، واتباع للمعنى نفسه؛ والأول يكون إلمامًا وملاحظة واسترواحًا، والثاني لا يكون إلا غصبًا وسرقة واستكراهًا، وذلك دليل البلادة وسقوط الهمة وضعف القدرة والعجز؛ وقد ذكروا للاتباع في الشعر أنواعًا سموها بأسماء خاصة، وهي ألقاب محدثة وضعوا أكثرها في القرن الرابع, وذكرها الحاتمي في حلية المحاضرة، وتبسط فيها ابن رشيق "ص16 ج2: العمدة" وأورد مثالًا لكل من هذه الألقاب فارجع إليها إن شئت.(3/39)
ولا غنى للشاعر -جاهليا أو إسلاميا- عن اتباع غيره من الشعراء، وأول ذلك الرواية، وقد كانت شائعة إلى أن انتشر الخط وكثرت الدواوين فصار الشعراء يتلقون عنها، وقد وقفنا على أسماء بعض الشعراء الذين رووا لغيرهم وتخصصوا بهذه الرواية لهم مبعثرة في بطون الأوراق فجمعناها، وهي على قلتها كافية في الدلالة، فمنهم امرؤ القيس، كان راوية أبي دؤاد الإيادي "ص61 ج1: العمدة" وكان زهير راوية أوس بن حجر، وهو زوج أمه، وطفيل الغنوي "ص132 و155 ج1: العمدة" وكان الحطيئة راوية زهير وابنه "ص78 ج7: الأغاني" ولم يقتصر على الرواية لهما بل كان يروي شعر الحجازيين أيضًا وكان منقطعًا لهم "ص34: الطبقات" وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وجميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل "ص8 ج7: الأغاني" وبلغ من اعتباره إياه أنه كان إذا استنشد لنفسه بدأ فأنشد لجميل "ص132 ج1: العمدة" وكان أبو ذؤيب الهذلي راوية ساعدة بن جوبة الهذلي "ص154: الطبقات" ولا نظن استغراق هذا الباب ممكنًا إلا أن يكون قد كتب فيه أحد المتقدمين من أئمة الأدب.(3/40)
شياطين الشعراء:
نذكر في هذا الفصل ما يعتقد العرب من قول الجن على ألسنة الشعراء ولا نجاوز ذلك؛ لأن استيفاء هذا البحث خاص بالتكاذيب "الميثولوجيا" ولهم من هذا القبيل عقائد وعادات كثيرة سنشير إليها في ذلك الموضع.
لم يكن الشعر في فحول أهله من العرب لفظ لسان يطير ويقع، ولكنه كان حسبًا ونسبًا، وكان الشعراء هم أهل التاريخ، فإذا لم يستطع الشاعر أن يرفع ويضع، وأن يبعث لسانه مع الموت إلى الموتى بحيث يكون كما وصفوا الجني بأن فمه يتأجج نارًا، فذلك الساقط المغمور؛ من أجل هذا كان يجنح الشعراء إلى اعتقاد أن شعرهم أحرف نارية تلقي بها الجن على ألسنتهم، وأنهم إنما يتناولون من الغيب، فهم فوق أن يعدوا من الناس ودون أن يحسبوا من الجن؛ فإذا جاء أحدهم بالقصيدة البارعة، ورمى بالكلمة النافذة، ضرب قلبه أنها من هناك، وأنه إنما يؤديها عن لسان قائلها، فيكون ذلك مدعاة إلى توكيد الثقة والاعتداد، وإلى الذهاب بالنفس ونفرة الأنف، ونحو ذلك مما هو من كبر القرائح وترفع العقول. والعرب فيما حكاه أبو عبيدة يعرفون الجني بأسماء، فإذا كفر وظلم وتعدى وأفسد قيل شيطان. إلخ، وقد يسمون الغضب شيطانًا، ومن ذاك قول أبي الوجيه العكلي في أمر: كان ذلك حين ركبني شيطاني! قيل: وأي الشياطين تعني؟ قال: الغضبّ كما يسمون به الكبر، ومنه قول عمر: لأنزعن شيطانه من تغرته؛ وكذلك يريدون بالشيطان في بعض معانيه الفطنة وشدة العارضة "ج1: الحيوان" فيكون ما جاء في الشعر من ذكر شياطين الشعراء على وجه المثل؛ لأن كل الصفات التي سبقت إنما هي خصيصة بالشاعر قبل الشيطان؛ وعندنا أنهم أخذوا هذا الاعتقاد من الكهانة وهي أقدم فيهم من الشعر، وكان لكل كاهن نجي يسمونه الرئي والتابع، فذهب الشعراء هذا المذهب وسموا شياطينهم أو سماها لهم الرواة ... كما ستعرف. وقد درج شعراء الأمم على استعانة القوى الغيبية من قديم؛ لأن البيان وحي؛ ولأن الشعر يكاد يكون تفاعلًا روحيا من امتزاج روح الشاعر بروح أخرى، إذ هو كالحالة الطارئة على النفس, تشعر بها وقتًا دون وقت، وفي موضع دون موضع؛ فكان شعراء اليونان والرومان يستدعون في أوائل منظوماتهم "Les Muses" وقد اصطلحوا على تسميتها بآلهة الشعراء أو عرائسه أو ربات الأغاني، ولهم في هذه العرائس أساطير منقولة "انظر شرح الجزء الثالث من الديوان" وقد انسحب على آثارهم المتأخرون من شعراء الأوروبيين، فهم يسمون ربة الشعر، بالمنشدة السماوية، ونحو ذلك مما يتوكأ عليه القلب ويلوذ به الاعتقاد.
والعرب لم يكونوا يفتتحون في أشعارهم باستدعاء تلك القوة الغيبية أو الاستمداد منها، كما فعل اليونان والرومان، ولكن ذلك كان لا يجاوز الاعتقاد وحركة النفس كبرًا وغرورًا، وكان ذلك فيهم قبيل الإسلام؛ ونظن أن الذي اخترعه الأعشى؛ لأنه أول من احترف الشعر وجعله تجارة؛ إذ هو لم يكن مكفي المؤنة ولا سري التكسب كالنابغة؛ وقد ذكر صاحب "القاموس" أن جهنام تابعة الأعشى -أي:(3/41)
شيطانه- وهو نفس لقب عمرو بن قطن من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، فكأنه شيطانه؛ لأنه لا يزال يهيجه ويبعثه على الشر، ولعل هذا هو الأصل. ثم اتخذ الأعشى بعد ذلك مسحلًا؛ أما ما نسب من ذلك إلى أوائل الشعراء كامرئ القيس، وما زعموا من أن له قصائد ومطارحات مع عمرو الجني وأن شيطانه لافظ من لاحظ، فهو من تخرصات الرواة وما يجيئون به استيفاء لهذا البحث الخرافي وتكثرًا من النظائر والأشباه في الروايات، ولهم في ذلك أخبار ذكر بعضها صاحب "جمهرة أشعار العرب" وصاحب كتاب "آكام المرجان" وغيرهما.
ونحن ذاكرون ما وقفنا عليه من أسماء شياطين الشعراء، إذ هم جعلوا ذلك مادة في تاريخ آدابهم:
قالوا: إن لافظ بن لاحظة هو صاحب امرئ القيس، وهبيد صاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم، وهاذر بن ماهر صاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره؛ فالعجب منه كيف سلسل لذبيان به؟ "ص19: الجهرة"، ومسحل بن أثاثة صاحب الأعشى، وجهنام صاحب عمرو بن قطن، وعمرو صاحب المخبل السعدي وصاحب حسان بن ثابت من بني الشيصبان، ومدرك بن واغم صاحب الكميت؛ قالوا: وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، وسنقناق صاحب بشار؛ وذكر جرير أنه يلقي عليه الشعر مكتهل من الشياطين؛ والفرزدق يقول إن لسانه لسان أشعر خلق الله شيطانًا، ولكنهما لم يسميا هاجسيهما.
وقالوا: إن رجلًا أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعرًا فانظره، قال أنشد، فقال:
وفيهم عمر المحمود نائله ... كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك الفرزدق ثم قال: يابن أخي إن للشعر شياطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت "ص24: الجمهرة".
وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وأول من لقبهم بذلك عمرو بن كلثوم في مقوله:
وقد هرت كلاب الحي منا ... وشذبنا قتادة من يلينا
والرواية التي أتت كلاب الجن خطأ؛ لأن المراد بكلاب الجن شعراؤهم وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم كما ذكر الجاحظ "ج1: الحيوان" وقد تابعه الشعراء على هذه التسمية؛ لأن كل هجاء منهم يفخر بأنه عقور.
ولم يلتفت المحدثون من الشعراء بعد بشار بن برد لأمر هؤلاء الشياطين إلا ما يجيء لهم من سبيل الفكاهة والبادرة، ولكنهم لم يدعوا الاستعانة بأسماء الله في رأس القصيدة، فيكتبون اسم الفتاح أو العليم أو المعين، أو يبتدئون بالبسملة، وقد درجوا على ذلك إلى اليوم، وبخاصة في العراق.(3/42)
طبقات الشعراء:
يقسمون الشعراء باعتبار عصورهم إلى أربع طبقات: جاهلي قديم, ومخضرم، وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث. قال ابن رشيق: ثم صار المحدثون طبقات: أولى، وثانية مع التدريج؛ وهكذا في الهبوط؛ ويسمى المحدثون بالمولدين أيضًا، وبعضهم يطلق هذا اللقب على الإسلاميين ويخصه بهم.
وأصل المخضرم عندهم من أدرك الجاهلية والإسلام، ثم أطلقوه على هذه الطبقة، فقالوا شاعر مخضرم، قال ابن بري: أكثر أهل اللغة على أنه مخضرم -بكسر الراء- لأن الجاهلية لما دخلوا في الإسلام خضرموا آذان إبلهم: قطعوا أطرافها، "وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام أمروا أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم فيه أهل الجاهلية" لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليها أو حوربوا؛ وأما من قال: مخضرم -بفتح الراء- فتأويله عنده أنه قطع عن الكفر إلى الإسلام "تاج العروس ج7 ص28".
وأشهر المخضرمين من لبيد، وحسان، والحطيئة، والنابغة الجعدي، والخنساء، ثم شعراء الجاهلية عند بعض العلماء ثلاث طبقات، يعدون في الأولى: أصحاب السبع الطوال على المشهور، والنابغة وأعشى قيس، والمهلهل، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت؛ وفي الطبقة الثانية: الشنفري، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والسموأل بن عادياء، وعلقمة الفحل، والحارث بن عباد، وخداش بن زهير، وعروة بن الورد، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وأوس بن حجر، ودريد بن الصمة، والخنساء؛ ولا يعدون من الطبقة الثالثة غير لقيط بن زرارة. وهذا التحديد يسقط كثيرًا من شعراء الجاهلية وشواعرهم. وهم إنما قسموهم على رتبهم في الإجادة كما يقولون؛ ثم إن من يقف على مجازفتهم في التفصيل بالقطعة
والبيت، بل وبنصف بيت، لا يرى في هذا التقسيم إلا أنه رأى مرسل كما اتفق، لا كما تجري به الأدلة وتسيره البراهين؛ ولهم بعد كلام كثير فيمن هو أشعر العرب، تجده مبثوثًا في سطور الكتب، وهو مما لا يؤخذ به؛ لأن سبيله سبيل ذلك الرأي؛ وعندنا أن قولهم فلان أشعر العرب لبيت كذا أو لقصيدة كذا، محمول على المبالغة في الاستحسان، كما يقولون أشعر الإنس والجن ونحو هذا؛ فكأنهم يمدحون الشاعر بكلام على مذهب الشعر.
وشعراء الجاهلية معروف أكثرهم، والمخضرمون معروفون جميعًا، ولكن الإسلاميين لا يعرف منهم إلا عدد قليل، وذلك راجع للفتن الإسلامية التي صرفت قرائحهم واستأصلت أكثر أهل الاستعداد منهم، كما سنبينه في موضعه.
أما المحدثون فلم يسقط من مشاهيرهم أحد، وقد وضعت لهم كتب التراجم في عصورهم المختلفة إلى اليوم، وسنذكرها في "باب التاريخ" إن شاء الله.(3/43)
الشاعرات *:
كان ابن أبي دؤاد يقول: ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر، طبع ركب فيهم، قل قوله أو كثر، فإن صدق هذا على رجالهم صدق على نسائهم، إذ الطبع واحد واللغة متفقة والغريزة لا تختلف، وإنما يتفاوت الجنسان في فنون القول لا في القول نفسه، ثم في براعة الصناعة من جهة قوة الشعر وسبكه ورصفه والتئامه، ومن ناحية المعنى وصحته والإبداع فيه؛ أما في استقامة الألفاظ وفصاحتها، وفي استقامة الأوزان الشعرية بعضها أو كلها فما أحسب ذلك يعيي أحدًا منهم رجالًا ونساء متى أراد وحمل طبعه عليه، إن لم يكن في جميعهم ففي أكثرهم؛ ولهذا كان الذي قصر بالشعر العربي وجعل أكثره متخلفًا لا يثبت على أفواه الرواة، كثرته وتعاطي كل أصوله، حتى العامة والسفلة؛ وما من قائل إلا وهو معد لقوله سامعًا، ولا من سامع إلا وهو يحفظ ويروي بعض ما سمع، فقد خرج الأمر إلى أن صار كالعادة والطبيعة؛ وإذا وجدت أمة كلها شعراء تساقط شعراؤها حتى لا يثبت منهم ولا يتفرد إلا من كان فوق الطبيعة وجاء من وراء العادة فيما قالوا وفيما سمعوا، أو من احتاجوا أن يعتبروه كذلك لأمر من أمورهم كما يحتاج أهل المملكة إلى الملك، وما هو بنفسه صار ملكًا ولكنه بما رضوا وخضعوا وبما سمعوا وأطاعوا.
فهذان سببان إن وقعا في حكم الشعراء من الرجال لم يتفق أحدهما ولا كلاهما للشاعرات من النساء؛ إذ كانت المرأة دون الرجل في هذه القوة، فلا هو ينقلب أنثى ولا هي تنقلب رجلًا، ثم كان لها من الشأن في التاريخ على مقدارها، فما قط عرفت شاعرة أخملت شعراء دهرها، ولا كاتبة غطت على كتاب زمنها، ولا عرف مثل هذا في الأدب ولا في الرواية ولا في شيء من هذه الصناعة بوسائلها وأسبابها، فكانت الطبيعة نفسها حجابا مضروبًا على النساء قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن.
بهذين السببين قل الشاعرات من النساء طبيعة، ثم زادهن قلة في العرب أن تاريخ النساء فيهم كان [ينشئ] جزءًا من تاريخ السيوف، فكانت المرأة العربية كأنها طبيعة من طبائع النقمة؛ إذ لم تكن
__________
* قلت: هذا الفصل من باب الشعر له وصرتان فيما تحت يدي من "الأصل" المكتوب بخط المؤلف، إحداها بعنوان "شواعر العرب" والثانية هذه التي ننشرها هنا، وقد آثرت هذه بالنشر دون تلك، إذ كان فيها ما يغني عن الأخرى في موضوعها، وإذ كانت أحدث عهدًا في الكتابة كما حققت، على أن هذه الصورة نفسها التي آثرتها بالنشر، كان فيها صفحة مكررة، وقد بدا لي أن إحدى الصورتين من هذه الصفحة كانت تعديلًا للأخرى. فحذفت من إحداهما ما كان مكررًا في الثانية ووصلت الكلام بعضه ببعض بحيث تتلاحق المعاني من غير أن أزيد فيها أو أنقص؛ ثم بقيت بعد ذلك فقرة من الصفحة التي طويتها لم أجد لها مرادفًا في أختها فرأيت أن أثبتها في الهامش عند الموضع الذي يناسبها من الكلام.
وقد عانيت في قراءة خط المؤلف في هذا الفصل حتى نشرته على الصحة في جملته، ولكن كلمات عييت بها ولم أستطع قراءتها تطمئن إليه نفسي، فكتبتها على الظن بين العلامتين [] لأخرج من تبعة التقصير.(3/44)
إلا عرضًا يحمي بالسيف أو عرضًا يسلب بالسيف، وجعلها ذلك منهم بمنزلة الذاكرة من وقائع التاريخ، فهي التي تذكرهم الثأر وأيام الدم، وهي التي لا تنسى شيئًا مما هيأتها له الطبيعة الاجتماعية في أرضها وقومها، فإن كانت لم تعش إلا في ظلال السيوف، وإن كانت أما لم تلد إلا قاتلًا أو مقتلولا، فهي في الأولى يتصل بها تاريخ القتلى من أهلها، وفي الثانية تتصل هي بتاريخ القتلى من ذويها؛ فمن ثم انصرفت عن الشعر إلا في أخص شئونها، وشغلت من الخيال بإحساسها الذي لا هم لها إلا أن تستمده من الحادثات لتوقع منه حادثات مثلها، سيئة بسيئة، فهي بعيدة عن القول بمقدار قربها من العمل.
ولذلك بنيت المرأة العربية على أخلاق شديدة، لمكان الطباع والعادات والحوادث التي أنشأتها [وانحدرت] فيها وجرت عليها، فجاءت في مثل تركيب الصحراء إن يكن فيها ساعات ندية من الليل وضوئه ونسجه وأحلامه، ففيها نهار يصب النار على [الأحياء] ملء أقطار السموات، كأنه لم يقسم لها إلا شدة الحب وشدة البغض، تجري فيهما على أسباب وعلل مذ صارت جزءًا من طبيعتها الثانية فتستفرغ فيهما كل وسائلها وتبلغ بهما ما بلغت قواها، فتنتهي إلى خلقين ثابتين: شدة الجزع، وشدة الصبر؛ وكل ذلك مما لا يترك للشعر في طبعها إلا مكانًا محدودًا في معان محدودة.
وسبب رابع في قلة الشاعرات عند العرب، وهو أن كل قبيلة إنما تعتد الشاعر لسانها السياسي، وتعده للخصومة في تاريخها والنضح عن أحسابها، وتنال به ما ينال الأسد من أنيابه، فهو منهم إن أرادوه كان المعنى المتوحش في المعنى الإنساني، وإن أرادوه [لأفئدتهم] كان المعنى الإنساني في المعاني الوحشية ولذلك يسمون الشعراء "أظفار العشيرة" والمرأة لا تصلح ظفرًا ولا نابًا، ولا تحسن أن تمضغ لحوم الأعداء في هجائها، ولا أن تأتي بالكلام الذي تترقرق فيه دماؤهم، ثم هي نفسها [جزء] تقع عليه الخصومة بينهم، وفيها أكثر المعاني التي يستبون بها، بل هي أم هذه المعاني.... ثم كانت [طبيعة جنسهم] أن ينشئوها في الحلية لا في الخصام، وأن يجعلوها فاكهة العيش لا ثمره المر، وكل هذه حدود تتراجع فيها حدا وراء حد، والشعراء منطلقون من جميعها*.
والعرب لا يرون كل من تقول الشعر شاعرة؛ إذ كان ذلك طبيعيا فيهم وإنما الشأن فيمن تتخطى حدود الحجاب الطبيعي وتكثر من القول وتتصرف في فنونه ومعانيه بما يتعدد من حوادثها ومصائبها؛ فتلك هي الشاعرة عندهم لا غيرها، وبذلك جرت لهم العادة في السماع والرواية، إذ المصائب تجعل المرأة في [جو] الرجل أو قريبة منه، بما تضيف إليها من الشعور وبما تبعثها عليه من العمل، ثم هي في تلك الحال إنما تدون لهم بعض التاريخ وتزيدهم لسانًا في رواية المفاخر، ومن هذه الجهة تشبه الشعراء، فيتناشدون شعرها ويستمعون إليها، وتنبغ بالمصائب ثم تكون ندرتها فيهم نبوغًا آخر، وقلما
__________
* قلت: بخط المؤلف في بعض الصفحات من الأصل قرأت العبارة التالية، فرأيت إثباتها هنا.
"..... ثم إن هذه اللغة في العربية فحولة في أكثر ألفاظها وأساليبها، لا تلائم أنوثة النساء، فهذا سبب آخر في اقتصارهن على الرقيق المأنوس مما يجري في المعاني الرقيقة ولا يصلح لغيرها كالرثاء والغزل ونحوهما ... ".(3/45)
تقدمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا؛ فإن الشيء الغريب لو لم تكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه.
وكان نساء العرب يقلن الشعر في معان متقاربة يرجع [أكثرها] إلى إحساس المرأة وحسن تصريفه بين عقلها ولسانها؛ ولم يكن لهن من معاني الشعر غير الرثاء وبعض الغزل، وشعر ترقيص الأطفال، وشعر التحضيض يثرن به نخوة الرجال ويحضضنهم على طلب الثأر والثبات والاستماتة في الحرب؛ وقد تجعل المرأة جسمها قصيدة مع شعرها في التحضيض، كالذي فعلته ابنتا الفند الزماني، فقد قالوا إنه لما اشتدت الوغى يوم التحالق وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عارية مجردة وجعلت تحض الناس وترتجز, وفعلت أختها مثل ذلك، فتحمس القوم ووثبوا يقاتلون قتالًا منكرًا؛ فهذه مادة من شعر النساء لا يستطيعها أبلغ الشعراء من الرجال.
والرجز الذي ارتجزت به إحدى هاتين هو الرجز المشهور:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
وهذه الأبيات تروى أيضًا لهند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، فقد كانت ترتجز بها في وقعة أحد وخلفها النساء يضربن بالدفوف، وهند هذه هي التي شقت بطن حمزة لما قتل، وقد كان أسدًا من أسود الله على قومها، فاستخرجت كبده فلاكتها في فمها فلم تطق إساغتها فلفظتها، وهذا من شر ما يعرف عن امرأة، وليس يشبهه إلا من فعلته ريحانة أخت عمرو بن معديكرب الفارس المشهور؛ وأم دريد بن الصمة فارس هوازن وسيد بني جشم، فإنه لما قتل ابنها عبد الله بن الصمة لم تزل تعير أخاه دريدًا وتحضه، حتى نفر في طلب الثأر من غطفان، فغزاهم وقتل منهم قومًا، ثم أسر قاتل أخيه وأتى به إلى [فناء] أمه فقتله تحت عينيها، فأحضرت السيف وجعلت تلحس الدم بلسانها إلى أن انقطع منه شيء وهي لا تشعر لغلبة الفرح عليها؛ ومع هذا الظمأ إلى الدم لا يروى لريحانة شعر في ابنها، ولا هي معدودة في الشواعر، وإنما رثته أختها كبشة بنت معديكرب، فأجزأت الخالة عن الأم؛ ومن أعجب ما يروى عن شاعرة، خبر عجوز تسمى خويلة، وكان يدخل عليها أربعون رجلًا كلهم لها محرم بنو إخوة وبنو أخوات، طرقتهم بنو واهن وبنو ناغب فقتلوا منهم ثلاثين، فوقفت خويلة على مصارعهم ثم عمدت إلى خناصرهم فقطعتها [ونظمت] منها قلادة وألقتها في عنقها وخرجت حتى لحقت بابن أختها تستنفره للثأر في شعر جاف [مقتضب] كخناصر قتلاها، رواه القالي في أماليه "ص127 ج1".
ومن أعجب شعر النساء القديم في الجاهلية الأبيات المشهورة المروية لليلى بنت لكيز الملقبة بالعفيفة، وهي التي تصف فيها ابتذال الأعداء لعفافها بهذا البيت النادر:
قيدوني غللوني ضربوا ... ملمس العفة مني بالعصا
وقولها "ملمس العفة" من الكلام الذي لا يفنى التعجب من بلاغته ومن حسن التعبير فيه؛ وكذلك أبيات جليلة أخت جساس، وكان أخوها قتل زوجها كليبًا بن ربيعة؛ فلما اجتمع النساء يندبنه(3/46)
أخرجنها وحسبنها شامتة؛ لأنها أخت القاتل، فبلغ ذلك إليها فقالت أبياتًا من أعجب الشعر:
جلّ عندي فعل جساس، فوا ... حسرتا مما انجلى أو ينجلي!
فعل جساس على وجدي به ... قاطع طهري ومدن أجلي
لو بعين فقئت عين سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل
يا قتيلًا قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعًا من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وانثنى في هدم بيتي الأول
يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل مثكلي
إنني قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي1
قال صاحب المثل السائر: وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون لاستعظمت، فكيف بها من امرأة!
ولا يهولنك كثرة أسماء النساء اللاتي قلن شعرًا، فعمود الشعر عندهن الرثاء، وليس لهن إلا المقاطيع والأبيات القليلة، ولم تبن منهن إلا الخنساء وليلى [الأخيلية] ؛ وما شعرت الخنساء حتى كثرت مصائبها؛ وكانت قبل ذلك كغيرها من النساء: تقول البيتين والثلاثة، حتى قتل أخوها صخر [....] به من كان مثله، فأجادت وأطالت؛ لأنها أصبحت مصروفة الهم إلى نوع من الحب في نوع من الشعر؛ وسمت همتها إلى أن صارت تعاظم العرب في مصيبتها بأبيها وأخويها صخر ومعاوية؛ فصارت تشهد المواسم وقد سومت هودجها براية وتقول: أنا أعظم العرب مصيبة! وتبكي أهلها وتنشد مراثيهم فدارت أشعارها على الألسنة؛ وقد قلدتها في هذا الصنيع هند بنت عتبة، فإنه لما قتل أبوها وعمها وأخوها، وبلغها ما تفعل الخنساء في الموسم وتسويمها هودجها ومعاظمتها العرب بمصيبتها، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة! وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وجعلت تسأل عن الخنساء فدلت عليها، وجعلت كل منهما تعاظم الأخرى وتنشد مراثي أهلها. فلو كان يعرف عندهم أشعر من هاتين لسموهن.
وقد استفحلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، وكان أخاها لأبيها ولكنه كان أحب إليها من معاوية وهو لأبيها وأمها.
غير أن المصائب لا تجعل غير الشاعرة شاعرة، ولا بد من تركيب ملائم في بعض الناس لتلقي مادة الشعر عن الروح والقلب والطبيعة، ولم يأت في شعر النساء [خاصة] أفحل ولا أجزل من شعر الخنساء، كأن فقد رجالها جعلها رجلًا.
وكثير من أشعار النساء يضعه الرواة ويهيئون له أخبارًا يجري فيها ذلك الشعر، ولكن ما تقوله المرأة في لوعتها لا يحسن الرجل أن يقول مثله مهما تكلف لذلك ولبسه على تصنع؛ وبهذا تستطيع
__________
1 كنابة عن الموت.(3/47)
أن تميز الصحيح والمنحول من شعر النساء.
وقد [يمسك] لسان امرأة في مصيبتها زمنًا إلى الحول إذا فجعت بحبيبها، فلا تقول شيئًا مع قدرتها على القول؛ لأنها لا تسلو ولا تفيق، ولا تريد أن تسلو ولا تفيق، كامرأة مالك بن عمرو الغساني، فلما زوجوها بعد زوجها الأول نطقت ترثيه ليلة عرسها؛ فكان شعرها طلاقها من بعلها الثاني!
ومن نادر الشعر في مراثي النساء أبيات تروى لامرأة من بني الحارث بن كعب كان لها طفلان من عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان عبيد الله هذا عاملًا لعلي بن أبي طالب على اليمن، فوجه معاوية إلى اليمن بسر بن أرطأة فأرشد على الطفلين، فوارتهما أمهما تحت ذيلها، فأخذهما وذبحهما تحت عينيها؛ فكانت تقول في رثائهما وندبهما أبياتًا، منها:
يا من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف
يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
ولا أبلغ في البلاغة ولا أحسن حكاية لصوت البكاء والندب من قولها "بنيي" فهاتان الياءان المشددتان تعصران الدموع عصرًا وتصوران غصص العبرات مترددة في حلق الباكية أبدع تصوير.
ولم يكن نساء العرب يقلن في الغزل ووصف الهوى إلا قليلًا، لمكان المرأة بينهم وشدة الغيرة فيهم، ثم لا يكون غزلهن إلا عفيفًا، كهذه الأبيات التي رواها ثعلب لامرأة من العرب* تقول فيها تصف خلوة مع حبيبها:
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان
وبتنا يقينا ساقط الطل والندى ... من الليل بردًا يمنة عطران
نذود بذكر الله عنا من الصبي ... إذا كان قلبانا بنا يردان**
وهذا المصراع الأخير من أبدع الكنايات ومن أبلغ البلاغة العربية.
فلما تحضر العرب ونشأت طبقة الشعراء العشاق، وبدأ عصر القيان النادبات المغنيات -مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن في طبقتهن- فشا الغزل في شعر النساء، وكان يندر بعد ذلك أن تظهر الشاعرة المتفحلة التي تجري على سنة العربيات، كليلى بنت طريف الشاعرة [الفارسة] التي كانت في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكانت تسلك في رثاء أخيها الوليد بن طريف الشيباني الخارجي مسلك الخنساء في رثاء صخر، ولها الأبيات الطائرة التي منها هذا البيت البليغ المشهور في كتب النحاة:
__________
* قلت: هي أم ضيغم البلوية.
** قلت: الرواية المشهورة:
إذا كان قلبانا بنا يجفان.(3/48)
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
ولا غرابة في فروسية هذه الشاعرة وفصاحتها وجزالتها؛ فهي من نساء الخوارج، وهن في النساء الإسلاميات كالعضل في الجسم!
وللقيان النادبات تاثير بعيد في تاريخ الأدب؛ لأنهن يتهالكن رقة وظرفًا وحبا، وشعر الشاعرات منهن كخفقان القلوب، كله مقاطيع لا قصائد، وكان منهن من تجلي للشعراء تناقضهم وللأدباء تحاورهم، كخلوب جارية يحيى بن خالد البرمكي، وفضل الشاعرة جارية المتوكل، ولم تكن تشعر الواحدة منهن حتى يتصل [الهوى] بينها وبين شاعر أو شعراء وكاتب أو كتاب، تأخذ منهم وتدع، وتعرف منهم وتنكر، وليس بعد الخنساء وليلى الأخيلية أشهر من فضل الشاعرة جارية المتوكل؛ وروى صاحب الأغاني في أخبار سعيد بن حميد الشاعر الكاتب المترسل، وكانت تهواه فضل، عن إبراهيم بن المهدي، قال: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا وأفصحهم كلامًا وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة؛ فقلت يومًا لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتفيدها [وتخرجها] فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك، فقال لي وهو يضحك: ما أخبث ظنك! [والله] يا أخي لو أخذ [أوائل] الكتاب و [أماثلهم] عنها لما [استغنوا] عن ذلك.
ومن مضحكات فضل هذه أنها كانت تهاجي خنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف، وذلك ما لم نعرف له نظيرًا في الأدب العربي، فقد عرفنا أن الهجاء قد يلج بين شاعرين، أو بين شاعر وشاعرة، ولكنا لم نعرفه بين شاعرة وأخرى مثلها، إلا ما قيل عن فضل وخنساء؛ وكان هجاؤهما نسائيا [حييا] وكانت كلتاهما تستعين في ذلك بالرجال؛ فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلًا، وكان القصيري والحفصي يعينان خنساء، وبهذا رجع الهجاء إلى حقيقته فصار بين رجال بعضهم وبعض.
وكان عند المتوكل شاعرتان غير فضل، هما: بنان ومحبوبة، غير أن السبق لفضل؛ فهي شاعرة زمنها.
وعلى كثرة أسماء النساء الشاعرات في التاريخ الأدبي وروايتهم؛ عن أبي نواس أنه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى، وقول أبي تمام: لم أنظم شعرًا حتى حفظت سبعة عشر ديوانًا للنساء خاصة, لم ينته إلينا ولا ديوان واحد إلا المقطعات التي جمعت للخنساء، وهي ليست ديوانها؛ ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء، إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا وذهب المذاهب كلها في فنون الكلام وبلاغته، وإنما كان يجمع بعض الرواة والعلماء أشياء من ذلك، كالكتاب الذي جمعه أبو عبد الرحمن العتبي الشاعر البصري المتوفى سنة 228هـ من أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، وكلهن من العرب، وأشعار النساء للمرزباني، وهذا الكتاب لا يزال موجودًا؛ ثم ما ألف في طبقاتهن، كالإماء الشواعر للأصبهاني المتوفى سنة 350هـ، والنساء الشاعرات لعدة أدباء.(3/49)
والعجب أن الذين ألفوا في طبقات الشعراء لم يذكروا الشاعرات معهن، لا في الحجاز ولا في الشام ولا في العراق، ولا في مصر ولا في المغرب ولا في الأندلس؛ وضربوا الحجاب عليهن؛ إذ كان شعر النساء تظرفًا، وإذ لا يكاد يعرف في التاريخ كله من تستحق اسم الشاعرة غير بضع نساء معدودات أشهرهن من عددنا؛ وإذا عرفت امرأة واحدة في عصر؛ غطى عليها مائة رجل في حجاب من لحى الرجال فلا تكاد تظهر؛ فيا رحمتا لهؤلاء الضعيفات!(3/50)
تنوع الشعر العربي وفنونه:
الشاعر إنسان منفرد في الناس، وهو في نفسه عالم مجتمع من حيث تشتبك في نفسه علائق الموجودات وترتبط أسباب الحوادث وتتألف من ذلك كله صور مرتبة تلقيها إليه حقائق هذا العالم التي يستمد منها الشعر؛ غير أن تلك الصور يدخل عليها ما يعتري الصور الحسية من الجمال والقبح على اختلاف أنواعها من الرقة والمناسبة والغلظة واختلال التركيب ونحوها؛ وذلك تابع لتأثير العصور على الشاعر ومقدار ما يكون قد تخلف في عصره من أسباب الرقي الإنساني، فإن جهد الشاعر أن يكتنه حكمة الخالق في خلقه -وليس العالم كله إلا تفسيرًا مرتبًا على أجزاء هذه الحكمة البالغة- فالعصرالطويل بحوادثه التي تغير وجه الأرض إنما هو صفحة تطوى لتترك من المعاني ما تبنى عليه صفحة أخرى، وما هذا التشابه في حوادث العالم إلا نوع من التئامها كلها على حسب ما يقدر له في كماله. وعلى ذلك يمكن تقسيم الشعر مطلقًا إلى ثلاثة أقسام باعتبار علاقة روح الإنسان بالقوى الغيبية؛ وعلاقتها بأحوال الناس؛ وعلاقتها بسائر الموجودات الأخرى؛ لأن الشعر ليس أكثر من أن يكون لغة الروح؛ فجميع أنواعه إلى هذه الأقسام الثلاثة؛ وعلى مقدار ارتقاء كل أمة يكون مبلغ شعرها منها؛ فالعرب في جاهليتهم كانوا منصرفين عن الفكر في حقائق القوى الغيبية، مستسلمين للأوهام بحكم العادة ولذلك فقدت من شعرهم مادة الجمال الروحاني التي يتألق فيها نور السماء، فكان شعرًا ماديا لا يصف المحسوس بأكثر من كونه محسوسًا وإن تنوعت العبارات واختلفت الأساليب، وكذلك كانت علائقهم الاجتماعية بسيطة في أكثر أحوالها؛ لأنهم أهل بادية لا يختلطون بغيرهم ولا يعرفون من تاريخ العصور أكثر من عوائد أسلافهم الأقربين، فكأنهم في أوائل من عمروا الأرض، وكأنهم عند أنفسهم من آباء التاريخ؛ ولذلك جاءت فنون شعرهم غير مرتبة ولا مستقصاة، بل تنحصر في أنواع لا تكافئ ما يكون من العلائق في أمة راقية، وكانوا يعرفون ذلك النقص في مادة أشعارهم فوجهوا جهدهم وصرفوا قواهم إلى الفصاحة وتشقيق الكلام وتصريف اللغة؛ فبلغوا في ذلك منزعًا بعيدًا؛ لأنها من الصناعات التي تلائم الظواهر النفسية، وكانت أحوالهم الاجتماعية كلها بعيدة عن أن يغاص عليها في قرارة النفس، فلما صادف ذلك الاتفاق منهم المشابهة التامة والمطابقة الصحيحة، نهضت به طباعهم الراقية إلى ما قصرت فيه عنهم سائر الأمم، لانصراف طباعها إلى غير ذلك وتوزع قوى الابتكار في أفرادها ونوابغها المعدودين.
وبهذا يتضح لك خطأ ما حكاه ابن خلدون وأقره من اعتقاد أئمة الصناعة الأدبية أن ما لم يجر على أساليب العرب كشعر المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ وهو يريد بأساليب العرب ما صرفوا إليه جهدهم مما وافق ظواهر أحوالهم على نقصه؛ وقد سقط في ذلك جمهور الأدباء حتى كبارهم كالجاحظ وغيره؛ فكان من هذا علة أصل الجمود الذي جعل الشعر العربي يضطرب في دورة(3/51)
الأزمنة؛ لأنه لا يدور معها إلا قليلًا عندما يدفعه أهل القرائح المستقلة، ومدار الاستقلال في القريحة على نوع من الإبداع خاص بها هو الذي يقال فيه نفس فلان وروح فلان، فإذا اقتدت القرائح بعضها ببعض فقد استعبدت وذلت؛ لأنها تتبع آثارًا في طريق مصنوعة؛ ولكن طريق الإلهام لا أثر فيها إلا حسن الأرواح بعضها ببعض، وليس يمحق هذا الحس إلا خذلان من الله، فالقريحة المستقلة لا تتبع صفة قريحة أخرى؛ ولكنها تتبع الروح الملهم وتتبين آثاره في الصنعة وتبالغ في تمييزها حتى تتجه إلى مصدر الإلهام؛ وذلك سر النبوغ العبقري.
وقد يتفق للجاحظ أن يحوم بخاطره حول المعنى المقصود من الشعر ولكنه لا يسقط إلا على أطرافه وأعالي فروعه، وإنما يعمي عليه أن ينظر إلى أن الشعر عمل فردي مبدؤه الشخص وغايته الشخص؛ وكان ذلك صحيحًا في العرب؛ لأنه ينطبق على حالتهم الاجتماعية؛ إذ كانوا أفرادًا أو في حكم الأفراد؛ وكانت كل أعمالهم تجري هذا المجرى، فهم لا يغزون مثلًا مدافعة عن الحياة العامة للقبيلة؛ أي: من أجل باعث سياسي؛ ولكنهم يغزون للحياة الفردية؛ أي: مدافعة عن العيش أو التماسًا له أو مغالبة عليه؛ وكذلك هم في كل شأنهم ما دام قوام الاجتماع عندهم بالعصبية، وقد ظهر أثر ذلك في شعرهم فهو شخصي في معانيه، ممتاز بهذه الشخصية، حتى لا تجد فيه الحوادث المركبة التي يرمي بها إلى غرض عام، كتاريخ قبيلة من القبائل؛ وكالشعر التمثيلي الذي يتحيل فيه على تصريف المعاني وسياسة الحوادث؛ وكان ذلك سهلًا عليهم لو أنه في طبيعة معيشتهم ومن مقتضى نظامهم الاجتماعي، أما فيما عدا ذلك، أي: في المعاني الشخصية، فقد بلغوا في إجادتها مبلغًا يناسب إحكام اللغة وإتقانها؛ وهو الذي خدع به الرواة حتى ظنوه كمالًا إنسانيا كان مقسومًا للعرب فخصوا به وذهب في مآثر زمنهم؛ لأن على أسلوبهم وشي الغريزة، وفيه حوك الطبيعة، وذلك معدوم في طبع من بعدهم بالضرورة، ولما سئل أبو عمرو بن العاء عن المولدين قال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه وما كان من قبيح فمن عندهم، ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج وقطعة [نسيج] وقطعة نطع ...
قال الجاحظ: عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة, وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه؛ وقد رأيت ناسًا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها؛ ولم أر ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان كان.... إلى أن قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي؛ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك؛ فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير ...
ونقول إن الفرق بين المولد والأعرابي أن المولد يقول بنشاطه وجمع باله الأبيات اللاحقة بأشعار أهل البدو، فإذا أمعن انحلت قوته واضطرب كلامه. ا. هـ "ج3 ص40: الحيوان".
قلت: وإذا كان الشعر ضربًا من الصبغ وجنسًا من التصوير فلا ينبغي أن يكون كله ماء ورونقًا، وهو اللون اللبليغ الذي يريدونه؛ لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة؛ وربما دخل فيها(3/52)
أقبح الألوان فكان أحسن شيء، لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى.
على أن المحدثين قد خالفوا العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق وأمس بأزمانهم، ولكن ذلك إنما كان من تأثير العصور عليهم ضرورة ولم يتجاوزوا به التشبيه والأوصاف، أما فنون الشعر فبقيت على ما تركها العرب، إلا ما كان من التصرف القليل في بعضها -كما ستعرفه- وأول من عد هذه الفنون وميز الشعر بها تمييزًا أخذ عنه، أبو تمام؛ فإنه رتب كتاب الحماسة في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء، ثم جاء عبد العزيز بن أبي الأصبغ فجعلها بعد التتبع والاستقصاء ثمانية عشر: وهي الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب.
وقد ذكر الثعالبي في ترجمة ابن حجاج الشاعر الهذلي الكبير وكان في القرن الرابع، أن البديع الأسطرلابي رتب ديوانه على مائة وأربعين بابًا وواحد؛ ثم قفى كل باب وجعله في فن من فنون شعر الزجل، ولكن هذه الفنون غير متباينة في تنوعها، بل ربما كان منها مائة نوع من الهجاء والسباب وحده، والباقي في المديح وغيره.
فأنت ترى أن تلك الفنون جميعها متداخل بعضها في بعض من حيث الوصف الشعري، وإنما هي أسماء نوعية تتباين مسمياتها بالحالة إلا بالذات، فإن الشعر في الأعم الأغلب واحد في جميع تلك المتناقضات والمتشابهات من حيث روحه وأسلوبه والمبدأ الذي يأخذ منه والغرض الذي ينتهي إليه، ولكن أحواله متعددة بحسب اختلاف تلك الأنواع، فإن حالة الرثاء وصفة الفجيعة مثلًا غير حالة الشعر الخمري وصفة الطرب والانشراح.
ولكن تنوع الشعر في الحقيقة إنما يكون ذاتيا، أي: في الروح والأسلوب والمبدأ والغرض، فروح الشعر هو نوع التأثير الذي يخلقه الشاعر فيه، والأسلوب هو الطريقة التي يخصص بها نوع هذا التأثير، والمبدأ هو المعنى النفسي الخاص الذي يكيف به الشعر المؤثر، والغرض هو المعنى العام النفسي الذي يقصده من التأثير.
وبذلك يكون الشعر تمثيلًا حقيقيا للحياة؛ لأن الحياة مجموع من العادات العملية والانفعالية والذهنية مرتبة ترتيبًا منظمًا يؤدي إلى سعادة أو شقاء، ويسوق إلى الأقدار أيها كان؛ والناس كذلك مختلفون في قيمة التأثر بأحوال هذه الحياة، ونوع هذا التأثر، وفي المبادئ الخاصة التي تبنى عليها تلك الأحوال، والأغراض العامة التي تساق إليها، فالشاعر ينبغي أن يكون قوة من قوى الطبيعة التي تساعد في تكوين هذا الاجتماع على حالة من أحواله المختلفة، والقوى الطبيعية كلها متغايرة متباينة، ولكن هذا التغاير فيها إنما هو شكل الانتظام الذي قامت به الحياة. والذي يحتاج إلى المطر لا يشترط في السحاب أن يجيء من هنا أو من هناك، ولا أن يكون قد تصاعد من بحر كذا أو غيره، ولا أن يساق بريح شديدة أو لينة؛ وكذلك الشاعر لا يقيد في شعره بنوع أو حالة؛ لأن الشعر قوة مؤلفة من(3/53)
عناصر دقيقة تنتظم بطبيعتها على النحو الذي يصورها في شكلها الملائم لتصريف مادة القوة فيها وعلى حسب ما يصرف الشاعر من هذه القوة.
فإذا اتفق الشعراء على شكل واحد وعلى أنواع معروفة لا تكافئ أغراض الحياة، فقد سقطوا من منزلتهم الطبيعية المبنية على تنوع القوى، وعند ذلك تظهر في مجموعة شعرهم الزيادة عن الحاجة الخاصة بأكثر مما يظهر فيه النقص عن الحاجة العامة اللازمة للاجتماع، وتكون النتيجة من ذلك أن يضج أكثرهم [من وقت الحرفة] لأن المتفردين منهم بظهور القوة هم الذين يكونون شعراء الناس فيجتازون، والباقين يكونون شعراء أنفسهم فيغيبون في شعراء الناس.
وليس يؤخذ مما ذكرناه أن شعراء العرب لم يكونوا على بينة من حقيقة الشعر، بل هم قد تبينوها ولكن لم تمكنهم حالة عصرهم التفنن في أقسام الشعر وتنويعه على معاني الحياة الراقية؛ إذ كانت هذه الحياة غير متيسرة لهم، وكان حقا على من جاءوا بعدهم، ولكنهم إنما درسوا الشعر في الغالب لينوعوا به الحياة، وكان الصحيح لو أثبتوا سنة العرب أنفسهم ودرسوا الحياة لينوعوا بها الشعر.
وسنأخذ في تاريخ أهم الأبواب التي فيها يدخل النظم العربي وهي: الهجاء، والمديح، والحماسة، والرثاء، والتشبيب، والوصف، والسياسة، والحكمة، والهزل، وشعر الحكاية، وشعر الترقيص. ونتبعها بفصل في الشعر العلمي، وهو الذي تنظم فيه المتون والضوابط والكتب، مقتصرين على تاريخ كل باب دون البحث في وجه المعنى وطريق صنعته، فذلك من موضوع البلاغة ونقد الشعر.(3/54)
الهجاء
مدخل
...
الهجاء:
نحن في تأريخ هذه الأبواب لا نبسط فلسفة الأخلاق، ولا نكتنه أسرار تركيبها نريد أن نلون أجزاء الصورة الإنسانية بالأصباغ حتى نعين منها ما يكون صباغة بالشعر وما لا يكون؛ لأننا لو ذهبنا نعد لذلك لأدخلنا في هذا الكتاب كتابًا آخر، وأحدهما لا محالة مخرج الثاني من غرضه الذي وضع له؛ فالكلام في الهجاء يحتمل كثيرًا من فلسفة النفس، كتعريف العيوب والرذائل وما يتأثر بها من الأخلاق والأحوال التي يكون فيها هذا التأثير على اختلافه لينًا وشدة، إلى ما يتصل بهذه المعاني أو يقاربها. فنحن نتجاوز ذلك كله إلى التاريخ. وإنما نلم فيه بما لا يحسن بنا أن نتخطاه وإن ترامت أطراف الكلام، وكان الإسراع وسيلة السائر فيه إلى الأمام.
العرب أمة أخلاق، لم تصفها الحضارة، ولم يذهب بخشونتها النعيم والترف، فهي جارية طبيعية في مجرى العادات الوراثية الذي تخطه العصور ويتحيف جوانبه تيار الاجتماع؛ وبديهي أن ذلك المجرى لا يكون مطردًا على اتساق، بل هو يستقيم وينحرف، وتلتئم جوانبه وتتمزق على مقتضى سنة التكون الطبيعي الذي يرجع في كل ظواهره إلى الاتفاق [وقذفات] الأقدار. لذلك يرى العربي نفسه خلقًا محضًا، ولكن فطرة الحياة غطت على بعض جوانب منه وكشفت عن بعضها. فهذا يظهر منه جانب الكرم وإن كان شجاعًا، ويظهر من الآخر جانب الشجاعة وإن كان كريمًا، وهلم جرا، حتى إنهم لا يميزون بوصف من الأوصاف إلا من تناهى فيه، وتجد ذلك في أمثالهم، فيقولون: أكرم من فلان، وأشجع من فلان، وأحلم من فلان؛ ولكنهم لا يميزون من يستجمع الفضائل الكثيرة ويكون كلها غالبًا ظاهرًا، فلا يضربون به أمثالهم؛ لأنه عندهم دون من يستغرق الخلق الواحد ويستوفي مناقبه على ما يعرفونها؛ فلما قضى عليهم نظام الحياة بالمغالبة، كان جانب التنافس بالأخلاق أغلب فيهم على جانب المنازعة بالأعمال؛ لأن العمل مظهر الخلق، وقلما يأتون شيئًا من أعمالهم إلا ابتغاء أن يظهروا تلك الخلاق أو يكتسبوا ما يساعدهم على المبالغة في إظهارها، وذلك بين في حروبهم ومنافراتهم وكثير من عوائدهم؛ فكان من الطبيعي أن يدعو إلى ظهور الهجاء.
ولهذا لم يكن الهجاء عند العرب في اعتبار السباب والإفحاش؛ ولكنه سلب الخلق أو سلب النفس، أو فصل المرء من مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قومية الجماعة وتركه عضوًا ميتًا يتواصفون ازدراءه ويحركه جسم الأمة حركة جامدة كلما نهض أو تقدم.
لا جرم كان للهجاء عندهم ذلك الشأن؛ وعدوا بكاء الأشراف منه أول مكارمهم كما ستعرف؛ وكان السباب والإفحاش فيه مما يحيله عن أن يكون هجوًا ولا يضر المهجو شيئًا؛ فالهجاء عندهم قسمان: قسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابًا مقذعًا، بل هو [التضريب] بين الأحساب، وتعليق الكلام على الأخلاق يمتص منها مادة الحياة؛ وقسم هو السباب، ولا يعبئون به؛ لأنه هجو المهجوين بطبيعتهم وهم السفلة؛ فليس يجنح إليه الشاعر إلا إذا عجز عن إصابة المغمز(3/55)
الذي يكمن فيه الألم من الموضع الصحيح. ولما قدم النابغة بعد وقعة حسي سأل بني ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم؟ فأنشدوه؛ فقال: أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك؛ ولكني سأقوله؛ ثم قال:
فإن يك عامر قد قال جهلًا ... فإن مطية الجهل السباب
الأبيات "ص139 ج2: العمدة" فلما بلغ عامرًا ما قال النابغة شق عليه وقال: ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة؛ جعلني القوم رئيسًا وجعلني النابغة سفيها جاهلًا وتهكم بي!.
ولذلك السبب كان أليق ما يسمى به الهجاء "شعر التاريخ" لأن الهجاءة مؤرخ يذكر مثالب الناس ومناقبهم، ويقص من التاريخ ما يستعين به على إحكام معنى الهجاء؛ حتى إنك لتقرأ كثيرًا من الشعر الذي أثر عنهم في ذلك وفيه ذكر العادات وأخبار من التاريخ فلا تجد فيه شعرًا، حتى إذا عرفت شرحه وتأويله وجدت فيه شعرًا لا يكون ذلك المنظوم إلا إشارة إليه، وذلك كقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه:
تحضض يابن القين قيسًا ليجعلوا ... لقومك يومًا مثل يوم الأراقم
كأنك لم تشهد لقيطًا وحاجبًا ... وعمرو بن عمرو إذا دعوا يال دارم
ولم تشهد الجونين والشعب والصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم
وقد أوردها المبرد في كتابه "الكامل" "ص134 ج1" وشرحها، وعلى هذا التأويل قال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. ومن الهجاء بالعادة قول ابن لسان الحمرة لرجل من بني أسد مر به: قد علمت العرب يا معشر بني أسد أنكم أشدها بياض جعور! فعطف عليه الأسدي فضربه بالسيف حتى برد. وتأويل ذلك أنه عيره بأنهم لا يعرفون البقل ولا يعرفون إلا اللبن؛ لأنهم يقولون إن الجعور قد تبيض إذا كان قوت صاحبها اللبن. وقال الشاعر يهجو ناسًا منهم بذلك "ص75 ج2: الحيوان":
عراجلة بيض الجعور كأنهم ... بمنعرج الغيطان شهب العناكب
وهذا وإن كان تطرفًا في الهجاء إلا أنه شائع فيهم؛ لأنهم يهجون بكل شيء حتى بأكل الكراث، كما عير به جرير عبد قيس بالبحرين "ص81 ج2: الكامل"؛ وبأكل السخينة، وعيرت بها قريش، وبأكل لحوم الكلاب، وعيرت به بنو أسد؛ وبأكل لحوم الناس أيضًا ... وهجيت به هذيل وأسد وبلعنبر وباهلة "ص139 ج1: الحيوان"؛ وبكثرة الأكل، وهجيت به تميم.
والأشعار في ذلك مأثورة تفيض بها الكتب.(3/56)
الهجاء في القبائل:
وكان هجاء الشريف عندهم مما [ينذرع] إلى هجاء قبيلته وتشعيثها؛ لأنه لا يشرف إلا إذا فخرت القبيلة به وجعلته معقد ألسنتها فيما بينها وعنوان شرفها بين القبائل، وكان له عز الأمر والنهي، وعقد المنن في أعناق الرجال وسرور الرياسة، وثمرة السيادة. قال الجاحظ في سبب ذلك: وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده، فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكر وجد من يغلط فيه ويحمله عنه. ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجي زرارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة. وإنما ذكرت لك هؤلاء؛ لأنهم من سؤددهم، وطاعة القبيلة لهم، لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة، ولا مذهب حذيفة بن بدر، ومذهب عيينة بن حصن، ولا مذهب لقيط بن زرارة -أي: في إعنات الناس بطغيانهم وبغيهم كما كان يفعل كليب إذ كان يحمي موقع السحاب فلا يرعى ونحو ذلك- "ص156 ج1: الحيوان. وص237 ج10: ابن الأثير" فإن هؤلاء وإن كانوا سادة فقد كانوا يظلمون.... وكان أولئك السادة لم يكن شأنهم أن يردوا الناس إلى أهوائهم، وإلى الانسياق لهم بعنف السوق وبالحرب في القود؛ وهم مع ذلك قد هجوا بأقبح الهجاء. ومتى أحب السيد الجامع والرئيس الكامل قومه أشد الحب، وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حب قومه "ص31 ج2: الحيوان". هذا إذا لم يتوثب إليه، ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال في اللحاق به، كخبر أوس بن حارثة بن لأم الطائي حين ألبسه النعمان الحلة التي جعلها لأكرم العرب، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة! فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلًا لا أرى في بيتي أثاثًا ولا مالًا إلا من عنده؟ ثم أخذها بشر بن أبي خازم أحد بني أسد وهجاه. والخبر بجملته ساقه المبرد في "الكامل" "ص137 ج1". ولذلك لم يكن يسلم من ضروب الهجاء إلا القبائل المغمورة والمنسية، حيث لا يكون فيها خير كثير ولا شر كثير، وحيث يكون محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، فيسلمون من أن يضرب بهم المثل في قلة ونذالة، بخلاف القبائل التي يعرفونها بالمناقب والمثالب. وقد تكون القبائل متقادمة الميلاد، ويكون في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شر وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان؛ ومثل فزارة ومرة وثعلبة؛ ومثل عبس وعبد الله بن غطفان؛ ثم غنى وباهلة واليعسوب والطفاوة؛ فالشرف والخطر في عبس وذبيان؛ وربما ذكروا القبائل الوضيعة ببعض الذكر، مثل اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء وأشجع الخنثى؛ ولكن البلاء كله لم يقع إلا بغنى وباهلة، وهم أرفع من هؤلاء وأكثر مناقب، ولكنهم لقوا من صوائب سهام الشعراء ومر الهجاء كأنهم آلة لمدارج الأقدام ينكب فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش، حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالًا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، قال الجاحظ: ومن هذا الضرب تميم بن مر وثور وعكل وتيم ومزينة، ففي عكل ومزينة من الشرف ما ليس في ثور؛ وقد سلم ثور إلا من الشيء اليسير مما لا يرويه إلا العلماء؛ ثم حلت البلية وركد الشر والتحف الهجاء على عكل وتيم، وقد شعثوا بين مزينة شيئًا؛ ولكنهم حببهم إلى المسلمين قاطبة ما تهيأ لهم من الإسلام حين قل حظ تيم فيه.
ولولا الربيع بن خثيم وسفيان الثوري لما علم العامة أن في العرب قبيلة يقال لها ثور؛ ولشريف واحد ممن قبلت تميم أكثر من ثور وما ولد؛ وكذلك بلعنبر قد ابتليت وظلمت وبخست مع ما فيها من(3/57)
الفرسان والشعراء ... ومن نوادر الرجال إسلاميين وجاهليين؛ وقد سلمت كعب بن عمرو؛ فإنه لم ينلها من الهجاء إلا الخمس والنتف.
ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، وهذا من أول كرمها، كما بكي مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علاثة، وكما بكى عبد الله بن جدعان "ص176 ج1: الحيوان"؛ أما مخارق بن شهاب فذكر في البيان أنه وفد رجل من بني مازن على النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: كيف مخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيد كريم، وحسبك من رجل يمدح نفسه ويهجو ابن عمه، ذهب إلى قوله.
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وجار ابن قيس جائع يتحوب
ولعله بكى لذلك؛ وأما علقمة بن علاثة فقد ذكر ابن بسام في "الذخيرة" أنه لما سمع قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟ وأما بعد الله بن جدعان، فئقد قال الجاحظ في "الحيوان": إنه بكى من بيت لخداش بن زهير ولم يذكره، ولم نقف عليه؛ وكان خداش قد هجاه من غير أن يكون قد رآه؛ وكذلك فعل دريد بن الصمة؛ لأنه رأى فيه شرفًا ونبلًا فأراد أن يضع شعره موضعه "ص 254: سرح العيون".
ومن أسباب الهجاء في القبائل أيضًا أن يكون القبيل متقادم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة؛ فيتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام؛ فإنه يستبين حينئذ لكل من رآهم أو سمع بهم أضعاف الذي هو عليه من القلة والضعف، وتكون البلية في شرف إخوتهم؛ وكذلك عندهم كل أخوين إذا برع أحدهما وسبق وعلا الرجال في الجود والإفضال أو في الفروسة والبيان؛ فإنهم يقصدون بمآثر الآخر في الطبقة السفلى لتبين البراعة في أخيه، وقد يكون مع ذلك وسطًا من الرجال، فصارت قرابته التي كانت مفخرة هي التي بلغت به أسفل السافلين "ص179 ج1: الحيوان".
ولما صار للهجاء في القبائل هذا الشأن واعتقدوه سياسة، صار البيت الواحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيدور بهم في الناس دوران الرحى؛ كما أهلك الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم قول الشاعر فيهم:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم
فلزمهم هذا القول؛ وكما أهلك ظليم البراجم قول الآخر:
إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظليم فقحة البراجم
وكما أهلك بني عجلان قول النجاشي:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل(3/58)
وكما أهلك نميرًا قول جرير يهجو الراعي:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا
وهذه القصيدة تسميها العرب: الفاضحة، وقيل: سماها جرير: الدماغة، وقد تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه عامر؛ هربًا من ذكر نمير، وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة "ص26 ج1: العمدة"، وكان بنو نمير من جمرات العرب الذين تجمعوا في أنفسهم ولم يداخلوا معهم غيرهم في أنسابهم بالمحالفة ونحوها؛ والجمرات هم بنو نمير؛ وبنو الحارث بن كعب؛ وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض؛ قال المبرد في "الكامل": وأبو عبيدة لم يعدد فيهم عبسًا في "كتاب الديباج" ولكنه قال: فطفئت جمرتان وهما: بنو ضبة؛ لأنها صارت إلى الرباب فحالفت؛ وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة؛ لأنها لم تحالف "ص377 ج1: الكامل" وقد أجاب شاعرهم جريرًا فلم يغن عن قومه شيئًا.
وعلى الضد من ذلك خبر بني أنف الناقة؛ فإن الواحد منهم كان إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة ابن قريع بن عوف بن مالك؛ فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
حتى صاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة "ص29 ج1: العمدة". وقد بلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبب عليهم وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق؛ وربما شدوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص حين أسرته بنو تميم يوم الكلاب، وأبياته في ذلك مشهورة "ج2: البيان" وأسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام؛ فجعل يصرخ: يا صباحاه! ويا بني تميم؛ أطلقوا من لساني "ج2: البيان".
ثم صاروا يستنجدون بالشعراء ليحضوا لهم الأشراف في رد الغارة وغيرها فيخشى الشريف إن هو لم يغثه أن يفضحه بهجائه "ص170 و171 ج1: الحيوان".
وكما سلم بعض القبائل من الهجاء بالخمول والقلة، كغسان وغيلان من قبائل عمرو بن تميم سلمت بعض القبائل بالنباهة العالية من مضرة الهجاء فكأنها لم تهج، مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الذبان بن عبد المدان، وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرة الهجاء إلا خامل جدا أو نبيه جدا "ج2: البيان".
وذكروا عن حجناء بن جرير أنه قال لأبيه: يا أبت إنك لم تهج أحدًا إلا وضعته إلا التيم. فقال جرير: إني لم أجد حسبًا فأضعه ولا بناء فأهدمه "ج2: البيان".
وقد سمر يزيد الرقاشي ذات ليلة عند السفاح فحدثه بحديث ساقه فيه أشعارًا هجيت بها ثلاث وأربعون قبيلة، وقد حكاه المسعودي في "مروج الذهب - ص2" فالتمسه هناك.
وكان الشعراء يعرفون تاريخ الهجاء في القبائل حتى ليستطيعون أن يميزوا القبائل التي انتضلت بينها تلك السلام من القبائل التي تحاجزت فلم يكن بينهما هجاء، وقد أنشد الكميت بن زيد نصيبًا الشاعر فاستمع له، فكان فيما أنشده قوله يصف غليان القدر:
كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارًا
"يشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيها بالموج الذي يرتفع". فقال لهلنصيب: ما هجت أسلم غفارًا قط، فاستحيا الكميت فسكت "ص 335 ج1: الكامل".(3/59)
الهجاء في الشعراء:
قد عرفت أن الشاعر لا يكون هجاء إلا وهو في معنى المؤرخ، فليس كل القبائل يعرف بعضها مثالب بعض، ولا كل الناس يعرف ذلك، فمتى سير الشاعر قصيدة فكأنه نشر كتابًا في أمة كلها يقرأ ويكتب، ومن أجل هذا لما استأذن حسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجو قريشًا قبل إسلامهم ويسله منهم سل الشعرة من العجين، أمره أن يستعين بأبي بكر، ولم يكن في زمنه أعلم بالأنساب منه، حتى إن أنسب العرب إنما أخذوا عنه كما ستعرفه في موضعه.
ولمكانة ذلك الشعر من التاريخ، صار الراوية للأشعار لا يكون راوية حتى يكون نسابة عالمًا بالأخبار، وقد تغلب على بعضهم رواية المثالب خاصة كعقيل بن أبي طالب، وهو أحد الأربعة من قريش الذين كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم بالأنساب والأخبار، وهم مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل هذا "ج2: البيان" وممن تخصصوا بالمثالب والعيوب في الرواة: دغفل النسابة، والنخار العذري، وابن الكيس النمري، وصحار العبدي، وابن شرية، وابن أبي الشطاح وهشام بن الكلبي.
ولم يبلغ جرير مبلغه من الهجاء إلا لمكان علمه بالنسب والمثالب من جده الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن سلم. وكان الخطفي هذا من العرفاء العلماء بالنسب وبالغريب "ج1: البيان" وكذلك الفرزدق، كان هو شاعر الناس وراوية أخبارهم، وهما يكادان لشهرتهما يكونان فكي الهجاء فيما يلاك ويمضغ من الأعراض.
ولما كان الشعراء ألسنة قبائلهم ونوابها في السياسة العامة، كان هجاء بعضهم بعضًا لا يزال عاما حتى إذا ذهبت عصبية القبائل ووهنت عقدة الجاهلية وسكنت ثائرة الأحزاب، صار الهجاء كسائر أغراض الشعر: يقال فيه للبراعة وابتكار المعاني فاتخذ لحك الحزازات وشق المرائر وتحول إلى كذب وسخف وإفحاش وإقذاع وكان من هذا شيء في الجاهلية حين يكون الشاعر منبوذًا من قبيلته، أو حين يلتمس لنفسه الذكر في القبائل وشيوع المقالة باسمه، فيقصد الأسواق والمواسم؛ كالذي نقله السكري في شرح أشعار الهذليين قال: أقبل رجل من أهل اليمن شاعر يقال له حبيب -والناس بذي المجاز- يهجو الناس، فأشار له بعضهم إلى خباء أبي ذرة الهذلي حتى وقف عليه فرجز به فخرج إليه أبو ذرة من قبل أن يعرفه فأشار له بيده ورجز به أيضًا، ثم سأله عن اسمه فعرفه، فعاد إلى الرجز به، فطرده أهل اليمن؛ ثم كان الحطيئة وهو الحسب الموضوع، فسلح بالشعر سلحًا، ثم جاء جرير وطبقته فصار(3/60)
أكثر الهجاء من يومئذ فحشًا خالصًا وكذبًا مصمتًا وسبابًا محضًا، ثم كان كل متعاصرين من الشعراء يكون بينهما مثل ذلك ويعدونه من منافسة الحرفة وطبع الصناعة، فمن نظم الشاعر قصيدة نقضها الآخر عليه، ويسمون هذه القصائد بالنقائض، وأشهرها نقائض جرير والفرزدق، وهي محفوظة متدارسة، وقد نقل المبرد في "الكامل" شيئًا منها "ج1: ص282".
وقالوا إن جنازة مرت بجرير فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنازة! قيل: فلم تقذف في المحصنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر "ج2: البيان"؛ فكذلك كان يبدو لمن في طبقته حتى صار الناس يستجيرون بقبر أبي الفرزدق من هجائه فيجيرهم "ج1 ص291: الكامل".
وقد نسب الفرزدق في آخر عمره وتعلق بأستار الكعبة وعاهد الله أن لا يكذب ولا يشتم مسلمًا، وذكر ذلك في شعره "ص70 ج1: الكامل" وكان جرير مولعًا بقذف المحصنات يعدهن شطر الهجاء ومادة الإقذاع؛ وقد دعا مرة رجلًا من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته فقال الكلابي: إن نسائي بأمتعتهن ولم تدع الشعراء في نسائك مترقعًا "ج1: البيان".
ولانطباع الشعراء على هذه الشراسة الشديدة والجرح العريض لما يدلون به من طول اللسان وإحجام الناس عن مخاشنتهم كان الأشراف يتجنبون ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحًا فتعود جدا "ج1 ص46: العمدة" كما كانوا يتقون من أنفسهم مأثور القول في المصيبة والمرزئة، خوف أن يسبق لسانهم بكلمة من التوجع فتؤخذ عليهم وتجري في الناس مثلًا مضروبًا وعيبًا منسوبًا.(3/61)
مشاهير الهجائين:
ليست الشهرة بالهجاء مما تيسر لكل شاعر يسب ويفحش، فلو كان هذا لقد كان غلب الهجاء على كل شاعر، ولكن أصحاب الهجاء كأصحاب السياسة من أهلها وغير أهلها؛ يستطيع كل امرئ أن يتأول ويتنبأ وينذر ويأتي بصنوف القول كلها، ومع ذلك لا تجد شهرة السياسة إلا لنوادر الرجال؛ لأن حوادثها أرزاق وحظوظ، فلا يتفق لكل من ينتحل السياسية أن يصرف الدول ويضع ويرفع، كما لا يتفق مثل ذلك لكل هجاء؛ قال أبو عبيدة: والذين هجوا فوضعوا من قدر من هجوه، ومدحوا فرفعوا من قدر من مدحوه وهجاهم قوم فردوا عليهم وأفحموهم وسكت عنهم بعض من هجاهم مخافة التعرض لهم، وسكتوا عن هجاهم رغبة بأنفسهم عن الرد عليهم وهم إسلاميون الحطيئة، وجرير، والفرزدق، والأخطل؛ وفي الجاهلية زهير، وطرفة، والأعشى، والنابغة "ج2: البيان".
فهؤلاء أفراد الهجائين وأقطاب السياسة اللسانية، ولم يبلغوا أن يكونوا كذلك حتى كانت فيهم السلطة والسلاطة معًا؛ وهي جماع الصفات التي ذكرهم بها أبو عبيدة، فانظر أين يقع ثمانية من جمهور شعراء الجاهلية والإسلاميين لولا أن في الشر كما في الخير أرزاقًا وأقسامًا؛ وهذا الفرزدق نفسه قد تجنب مهاجاة زياد الأعجم ووهب لمخافته عبد القيس "ج1 ص37 العمدة" وتجنب هو وجرير معًا مهاجاة الأحوص إكبارًا لشعره "ص38 منه" ومع ذلك لم يذكر معهما هذان الشاعران في قليل ولا كثير، ولو بقي الأمر بعد الدولة الأموية عربيا كما كان فيها لظهرت طبقات أخرى تستحق التاريخ، ولكن الذين ظهروا، وأولهم بشار بن برد، إنما صرفوا بأسهم بعضهم إلى بعض، وهجوا(3/61)
الكبراء لأموالهم لا لأحسابهم، حتى قيل فيهم إنهم يمدحون بثمن ويهجون مجانًا.... وقد صار الهجاء من يومئذ كما قلنا ضربًا من الصناعة ونوعًا معدودًا من الشعر، وإن لم تكن إجادته في طبع كل شاعر، كما قالوا عن ذي الرمة، فقد كان أحسن الناس نسيبًا وأجودهم تشبيهًا وأوصفهم لرمل، وهاجرة، وفلاة، وماء، وقراد، وحية، فإذا صاء إلى المديح والهجاء خانه الطبع؛ وذلك الذي أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلان ونقط عروس "ص14: طبقات".
وأشهر المحدثين بالهجاء على هذا الوصف بشار بن برد، وكان إذا غضب وأراد أن يقول هجاء صفق بيديه وتفل عن يمينه ويساره "ص210: سرح العيون" ودعبل بن علي الخزاعي، وكان هجاء الملوك جسورًا على الخليفة متحاملًا لا يبالي ما صنع حتى عرف بذلك وطار اسمه فيه، وكان لذلك يقول عن نفسه إنه يحمل خشبة منذ كذا سنة لا يجد من يصلبه عليها، وابن الرومي علي بن عباس، وكان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء، وأكثر إجادته فيه؛ لأنه كان سلك طريقة جرير من الإطالة والإفحاش، فإن جريرًا أول من أطال الهجاء، وكان يقول: إذا هجوت فأضحك "ص 140 ج2: العمدة" وابن بسام، وكان يهجو أباه وأقاربه، يستن في ذلك سنة الحطيئة الذي هجا أمه، وابن الحجاج البغدادي خبيث العراق؛ وأبو بكر المخزومي هجاء الأندلس في القرن الخامس؛ وكان أعمى شديد الشر كأنه صاعقة، وكان يهجو في كلامه من شعر وغير شعر؛ ويقول عن نفسه: لا تبديل لخلق الله. ومع سبقه في الهجاء كان إذا مدح ضعف شعره "ص89 ج1: نفح الطيب"؛ وابن القطان المتوفى سنة 498هـ كان هجاء لم يسلم منه الخليفة فمن دونه، وأبو القاسم [الشميشي] الأندلسي في القرن السادس وقد جمع هجاءه في ديوان سماه "شفاء الأمراض في أخذ الأعراض" وعلي بن حزمون هجاء المغرب في أوائل القرن السابع وكانوا يتدارسون هجاءه حتى لم تخل بلدة في المغرب من شعره "ص196 المعجب" وابن عنين هجاء مصر في القرن السابع. قال المقري في "نفح الطيب": وله ديوان سماه "مقراض الأعراض" ولكن ابن خلكان وكان معاصرًا له ورآه قال: إن المقراض قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا كثيرًا من رؤساء دمشق، وقد نفاه صلاح الدين الأيوبي إلى اليمن لإفحاشه في هجاء الناس، وتوفي سنة 630هـ.
فهؤلاء أشهر أهل الهجاء لغلبته على شعرهم وإتيانهم فيه بالأوابد وذهابهم في معاريضه كل مذهب، وهم في المحدثين كالذين عدهم أبو عبيدة في الإسلاميين والجاهليين وإن كان من عداهم كلهم يهجون؛ ومن الشعراء قوم يسمونهم المغلبين وهم الذين غلبوا بالهجاء وإن كان ممن ليسوا إليهم في الشعر ولا قريبًا منهم، ومعنى المغلب عندهم الذي لا يزال مغلوبا. قال ابن رشيق: ومنهم نابغة بني جعدة، وقد غلب عليه أوس بن مغراء القريعي وغلبت عليه ليلى الأخيلية.... وقد علم الكافة ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعًا.. ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم وغلبه المخبل السعدي وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة، ومنهم تميم بن أبي مقبل، هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، وهاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه..... ومن مغلبي المولدين على جلالته بشار بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله ولا أكفائه هجاه فأبكاه ومثل به أشد تمثيل، وعلي بن الجهم هاجى أبا السمط مروان بن أبي الجنوب فغلبه مروان،(3/62)
وهاجاه البحتري فغلب عليه أيضًا، على أن عليا أقذع منه لسانًا وأسبق إلى ما يريده من ذلك وأقدم سنا، ومنهم حبيب "الطائي" وهاجى السراج وعتبة فما أتى بشيء.... وهاجى دعبلًا فاستطال عليه دعبل أيضًا "67 و68 ج1: العمدة"، وربما هجى الشاعر من هو أكبر منه وأبعد صيتًا، لا ليغلبه، ولكن ليجيبه فيعد في طبقته، كما فعل بشار فإنه هجا جريرا بأشعار كثيرة فلم يجبه جرير أنفة واحتقارًا، فقال: لو هجاني لكنت أشعر الناس "ص70 ج1: العمدة".(3/63)
المديح:
والمديح في فطرة الإنسان؛ لأنه إحساس الكبرياء التي هي عمود الإنسانية فيه، فإن الناس متفاضلون في القوة على الأعمال، وهم كذلك متفاضلون في حسهم لهذه القوة، فالواثق بنفسه الذاهب بها مذهب الغناء والاعتداد يجد في طبعه حركة واهتزازًا متى حققت له أعماله تلك الثقة، ولم يكذب وهمه في الاعتداد باطلًا؛ فذلك الاهتزاز هو إحساس الكبرياء الكامنة، فيه، وهو الذي يقصد تصويره بالفخر والمديح.
ولا تكون الكبرياء رذيلة ممقوتة إلا إذا جاوزت مقدارها الطبيعي الذي يكون دائمًا مكافئًا لحقيقة بالنفس، فهي حينئذ تنقلب صلفًا وتدخل في حكم الطباع المتكلفة ولا تحدث من الاهتزاز إلا وهمًا وغرورًا، كالذي يحدث من نشوة الخمر؛ فإذا هي زادت كانت عند العقلاء عربدة ... والمديح الذي يصور هذه الكبرياء الكاذبة لا بد أن يكون أكذب منها حتى تعوض عليه غرابة المبالغة شيئًا من رونق الحقيقة، وهو حينئذ صنعة وتكلف، ثم هو الذي عناه المتأخرون بقولهم: أعذب الشعر أكذبه.
فهذان شطرا المديح، لا يكون إلا في أحدهما، وقد ذهب العرب بالشطر الأول قبل أن تضعف أعصاب البداوة، فكان مديحهم فخرًا كله؛ لأنه أساس الطبيعة البدوية فضيلة الاعتماد على النفس، وهي التي تحدث الكبرياء الصحيحة، فلا تكاد تجد في شعر المهلهل أو امرئ القيس وطبقتهما مدحًا مبنيا على الملق والمداهنة وتصنع الأخلاق، وإن وجد شيء من ذلك قبل النابغة وزهير فهو مصنوع لا شك في صنعته وتوليده؛ وقد زعم الأصمعي "ص188 ج2: الكامل" أن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث، وهو قوله:
أنبضوا معجس القسي وأبرقنا ... كما ترعد الفحول الفحولا
لأن فيه غلطًا لغويا، إذ لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وأرعدنا نحن وأبرقنا إذا دخلنا في الرعد والبرق، وليس الخطأ اللغوي وحده وهو الذي [يدل] * على الصنعة والتوليد، ولكن الخطأ الأخلاقي أمكن منه في باب الدلالة.
ولما وهنت أعصاب البداوة في بعض الشعراء بما وجدوا من مس الترف والنعيم، جعلوا يبتغون بالشعر المنالة والكسب، وبذلك حولوا شيئًا من مديحهم إلى الشطر الثاني، وقد ذكرنا منشأ ذلك في باب البديهة والارتجال؛ غير أن هذا التحول المرضي في المديح إنما كان يأخذ منه على التدريج في أول أمره، فبقي مديح زهير طبيعيا لم يحاول فيه صبغ الحقيقة بذلك اللون الأسود الذي يعطيها في الوهم منظر الاستعباد، ولذلك فضله عمر بن الخطاب بأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه؛ ولكن الذي سلم من أمر زهير لم يسلم من أمر النابغة؛ لأن زهيرًا كان لا يقول على الرغبة والطمع، وكان
__________
* من زيادتنا.(3/64)
يمدح رجلًا من الأشراف بصفات مثله الصحيحة، والنابغة كان يتكسب من المناذرة والغساسنة، وهم ملوك، فكان يرى النابغة أن مديحهم لا بد أن يكون طبقة في الشعر تساوي طبقتهم في الناس، ولما هرب من النعمان وجعل يعتذر إليه باعتذاراته المشهورة، عمد إلى تجويد المديح وزخرفته ينفخ به كبرياءه فيصغر في جنبها ما أتاه ويتجاوز عنه.
وقد جاء بعدهما الأعشى، فلم تكن له همة إلا في المدح والهجاء، وكان رجلًا مجدودًا في الشعر؛ ما مدح أحدًا إلا رفعه ولا هجا أحدًا إلا وضعه، والأمور يومئذ تطير للشعر طيرانًا؛ فكان الأعشى على التحقيق أول من احترف المديح وابتذله في طبقات الناس؛ ولذلك اضطر أن ينفخ معانيه بالمبالغة والإغراق، وإن تجاوز موضع الحقيقة إلى ما يقع وراءها من نواحي التصور البعيدة؛ وقد عرف العرب ذلك منه وألفوه؛ لأن حظ هذا النوع من الشعر أن يسير وإن كان كذبًا، فإن ركد في لسان الشاعر لم يبالوا به وإن كان حقيقة؛ ولذلك لما نزل الأعشى بمكة وأضافه المحلق -وهو رجل فقير خامل الذكر ذو بنات قد كسدن عليه، وأراد الأعشى إنفاقهن وأن يكفيه أمرهن- أصبح بعكاظ ينشد قصيدة وقد اجتمع الناس "25 ج1: العمدة".
يقول فيها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف. وافتنان هذا الشاعر في صنعة المديح وقصده فيه إلى تصوير الكبرياء الكاذبة، هو الذي طوع له أن يكذب في التاريخ حين نظم قصائده التي ذكر فيها منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وقد كانا تنافرا إلى هرم بن قطبة. فأقاما عنده سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، حتى قدم الأعشى، وكانت لعامر عنده يد؛ فقال شعره في ذلك فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى، والقصة مشهورة "العمدة: ج1 ص28؛ وسرح العيون ص106" وفيها أقوال ولكن الرواة مجمعون على حكم هذا الأعشى.
وكذلك كذب الحطيئة على التاريخ في مديح قومه، وكانوا من القائمين في أهل الردة، فقال:
فدى لبني نصر طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر
قال المبرد: قوله ذادوا بالرماح أبا بكر، كذب؛ إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فنفرت وفرت "ج1 ص232: الكامل" والمعاني تخضع الحقائق وتصرفها فيما شاءت ولكنها لا تخضع التاريخ؛ لأنه في نفسه حقيقة خالدة لا تمسخ ولا تموت، فإذا حاول الشاعر أن يكذب فيه فلا يكون ذلك إلا إذا اعتاد تحويل الحقائق فيمدح كذبًا، ويهجو كذبًا، وذلك من ضرورة الصنعة والاحتراف، فلا يفعله إلا وقد ابتذل الشعر واتخذه حرفة، وذلك ما ذهبنا إليه في أمر الأعشى.
وقد نقلت في فصل "الشعر في القبائل" قول الجاحظ إنه لم تمدح قبيلة في الجاهلية من قريش(3/65)
كما مدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل لمادح في أحد من العرب ما تهيأ في بني بدر.
ولما دجا الإسلام وتحضرت الدولة واستأصلت الفتن أهل الطبع الشعري من العرب، انفرد بالشعر جماعة هم الذين اتصلوا بدولة الذهب "الأمويين" فاستقلت طريقة المديح من يومئذ وأطاله الشعراء، وقد أجمعوا على أن كثيّرًا أول من فعل ذلك "ص62 ج1: العمدة" كما أن جريرًا هو أول من استن إطالة الهجاء وتقصير الممادحة، قال: فإنه ينسى أولها ولا يحفظ آخرها "ص103 ج2: العمدة".
وقد نصوا على أن أمدح الناس في طبقة الجاهلية والإسلاميين زهير والأعشى ثم الأخطل وكثير "ص104 ج2: العمدة" أما المحدثون فقل منهم من لا يحترف المديح ويجعله عمود شعره وموضع كده وإجادته، وقد جرأهم على ذلك جود الخلفاء والأمراء ورغبتهم في اصطناعهم وتسنية الجوائز لهم من أجل ذلك، ولا أعجب من أن يدخل الحيص بيص الشاعر المتوفى سنة 574هـ على خالد القسري أحد أمراء الدولة الأموية فيقول له: إني مدحتك ببيتين قيمتهما عشرة آلاف درهم فأحضرها حتى أنشدهما، فيحضر خالد الدراهم ثم ينشد الحيص بيص قوله:
قد كان آدم قبل حين وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء!
فيدفع إليه خالد الدراهم ويأمر أن يضرب أسواطًا وينادى عليه: هذا جزاء من لا يعرف قيمة شعره، ثم يقول له: إن قيمتها مائة ألف "ص204 سرح العيون"، وخالد هذا هو الذي كان يجلس للشعراء في يوم معين ويجيزهم فيه، وهو أول من فعل ذلك، وقد حذا حذوه الخليفة المهدي العباسي، ولكنه لم يقصر اتخاذ الأيام على الشعراء، بل اتخذ أيامًا لأرباب الصناعات والغايات؛ وكان الوليد بن يزيد بن خلفاء بني أمية أول من تخرق في البذل للشعراء، فعد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم "ص148 ج17: الأغاني" فلما جاء المهدي من خلفاء العباسيين وصل مروان بن أبي حفصة بمائة ألف درهم على قصيدته التي مطلعها:
طرقتك زائرة فحي خيالها
يعارض بها قصيدة للأعشى؛ وكذلك كان يعطيه الرشيد؛ وقد كثر الشعراء في أيامه فكان ببابه منهم من لم يجتمع لأحد قبله -وسنذكر فحولهم لمناسبة تأتي في بحث الأدب الأندلسي- وضاقت بهم بغداد فاضطروا إلى تقديرهم بالاختبار وترتيبهم في الجوائز؛ فعهد يحيى بن خالد بذلك إلى شاعره أبان اللاحقي "ص73 ج20: الأغاني"؛ وكان ذلك عهد البرامكة وهم من هم؛ فقد نال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة فيهم مثل ما ناله مروان من الرشيد كل عمره "ص73 ج20: الأغاني"؛ وأعطى المتوكل حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من إحدى قصائده؛ وهو أول من أعطى ذلك "ص194 ج6: الأغاني"، ولم يساو هؤلاء في ذلك غير الأندلسيين -وسنلم بشيء من خبرهم في موضعه- ولو ذهبنا نتتبع تاريخ الجوائز ونستقصي مقاديرها للزمتنا لذلك مئونة في التأليف وكلفة في الجمع؛ لأنها مع تاريخ الشعر في كل عصر؛ وقد كان من الشعراء من يتراجع(3/66)
طبعه وتنضب مادته بعد ممدوحه الذي اختص به، كأبي الحسن السلامي توفي سنة 394هـ شاعر عضد الدولة؛ وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي ووقف بين يدي! فلما توفي تراجع طبعه ورقت حاله ولم ينتفع بنفسه "ص163 ج2: يتيمة الدهر" ومثله كثيرون.
ويحسب الناس أن من نقائص شعراء المتأخرين أنهم ينقلون المديح من رجل إلى رجل؛ فيلقون بالقصيدة الواحدة جماعة من الناس، ولكن ابن رشيق يقول إن ذلك كان دأب البحتري؛ وفعله أبو تمام في قصائد معدودة؛ منها:
قدك اتئد أربيت في الغلواء
نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان "ص114 ج2: العمدة" وإن كان وجه ذلك في المتأخرين العجز عن الشعر فلا نرى له وجهًا في المتقدمين إلا أن يكون إخلاف الأمل في المثوبة والإجازة بالحرمان؛ فيقول قائلهم: هي بنياتي أنكحهن من أشاء!
شعر الكدية أو الشعر الساساني:
الكدية حرفة السائل الملح؛ وهي أيضًا شدة الدهر؛ وكان من شعراء العرب صعاليك وشطار ومتلصصون؛ وأشهرهم عروة بن الورد المعروف بعروة الصعاليك، وتأبط شرا، وسعد بن ناشب؛ ولكن لم يكن فيهم مكدون؛ والفرق بين الحالتين أن الشطارة تبسط اليد قوية عزيزة؛ والكدية بسطها بالسؤال ضارعة ذليلة؛ فلما استفحل التمدن الإسلامي وامتزج العرب بالفرس؛ أخذ خبثاؤهم فيما أخذوه منهم تلك الحرفة؛ ولذلك يسمون بني ساسان كما أخذوا عن الهنود مذهب الخناقين واستعدوا له استعدادًا عجيبًا؛ فانتحله جماعة من أصحاب المنصورية والغالية وغيرهما؛ وقد ذكر الجاحظ من ذلك طرفًا صالحًا "ص97 و98 ج2: الحيوان" وأورد شعرًا لحماد الراوية يذكر فيه القبائل المشهورة بالخنق لعهده؛ أي: في منتصف القرن الثاني؛ وهي عجل وكندة وبجيلة، فراجعه هناك، ثم نسب هذا الشعر في موضع آخر لأعشى همدان "ص19ب ج6: الحيوان".
أما الكدية فهي عند أهلها كل ما يحتال به على الشر والأذى في سبيل العيش من الشعوذة والمخرفة وما إليهما، ولهم فيها رموز لا يفهمها غيرهم، وأصحابها أهل بأس وشدة وفساد كبير، ولكن من الشعراء من كان يقبل على هذه الحرفة لا يبغي بها بدلًا من عرض الحياة ووفرة الغنى وإقبال الأمراء، ومنهم من كان يحفظ رموزها تطرفًا وتملحًا، ونظن أنهم لم يظهروا بها إلا في القرن الرابع، وأشهرهم في ذلك الأحنف العكبري، وكان فرد بني ساسان بمدينة السلام، وهو من جماعة الصاحب بن عباد "ص285 ج2: يتيمة الدهر". وكان من شعرائه فيها أيضًا أبو دلف الخزرجي الينبوعي، قال الثعالبي فيه: شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الكدية، خنق التسعين في الأطراب والاغتراب، وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالحراب.... قال: وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظًا عجيبًا، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكالنا يتجاذبان أهدابها، ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية(3/67)
الأحنف العكبري في المناكاة وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وتنادر بإدخال الخليفة المطيع لله في جملتهم، وقد فسرها تفسيرًا شافيا كافيًا اعتز ونشط لها وتبجح بها، وتحفظ كلها، وأجزل صلته عليها، وقد اختار منها الثعالبي 195 بيتًا وساقها في يتيمته مع شرحها "جزء ثالث" وأكثر مصطلحاتها فارسي، ورأينا صاحبها يقول فيها:
منا شعراء الأر ... ض أهل البدو والحضر
فإذا لم يكن منهم يومئذ طائفة كبيرة طواهم التاريخ بأجناسهم على أدناسهم، فإن أبا دلف إنما أراد صنعة المديح وتكسب الشعراء بها، وهي فن من تلك الفنون اختص به الشعراء كما اختص غيرهم بغيره من فنونها الكثيرة، ومدار جميعها على أخذ "جزية الخلق" كما يقولون، وليس للمديح عند الشعراء الذين يتكسبون به معنى أكثر من ذلك.(3/68)
الفخر والحماسة:
يقول ابن رشيق: إن الفخر هو المديح نفسه، ولكن الشاعر يخص نفسه وقومه. ونحن كذلك نراه قد يكون شطرًا من الهجاء؛ إذ يقصد به التفضيل والترجيح بين الصفات الممدوحة التي يعتز بها والصفات المهجوة التي يفتخر عليها، أما في الهجاء فهو طبيعي كما ترى؛ لأنه بعض مادته، ولكن مدح النفس مرذول، يدل على سقوط الهمة، وعلى فسولة الرأي، وعلى أن المرء يزور من نفسه لسانًا غير مخلوق، وهذا أدخل في باب المذلة والضعة منه في باب الفخر والحمية؛ والصحيح أن هذا الفخر الذي عناه ابن رشيق إنما هو الفخر الصناعي الذي تزيد فيه المتأخرون واستظهرت به طبيعتهم، فصنعته مديح صرف، وكل من قدر على أن يقول حاتم كريم، فهو قادر بديا على أن يقول أنا كريم، وقس على ذلك؛ لأن التاريخ يعتبر دائمًا ميتًا موتًا حقيقيا إذا أريد تقليد أعماله الخالدة بالأقوال، فلو كان الذي يقول: أنا كريم كرم حاتم؛ إنما هذا القول في الناس الذين شهروا حاتمًا بالكرم؛ لكان قد وجد التاريخ حيا فإما يكذبه أو يصدقه؛ على مقدار عمله الذي يساوي به عمل حاتم، ولا يكون لكلمته معنى إلا التنبيه على هذه الفضيلة فيه.
فحقيقة الفخر إذن ليست مدحًا كما قيل، ولكنها تاريخ، وسواء في معنى التاريخ فضيلة الفرد وفضيلة الجماعة؛ لأنه كما يكون ظفر الجيش في الحرب نتيجة حوادث كثيرة، كذلك تكون فضيلة الكرم عن حوادث معروفة أنتجت هذه التسمية؛ والمرء لا يكون كريمًا في العرب بلا شيء، ولا بشيء قليل.
وعلى هذا التأويل نرى الفخر فطرة في العرب، فلا يكاد السيد منهم يأتي عملًا إلا تناوله شاعر قبيلته وفخر به؛ لأنه لسان القبيلة ومؤرخ أحسابها، وإذا فخر أحدهم بفضيلة في نفسه كالشجاعة أو الكرم أو غيرهما، فإنما يكون ذلك في معرض التذكير بهذه الفضيلة واستشهاد التاريخ الحي عليها، أو يكون توطينًا لنفسه وتحميسًا لها بما يهيج من كبريائها، كما يغني الشجاع في الحرب، وكما ينبه عن نفسه عند الضربة القاضية والطعنة النافذة؛ وهذا هو باب الحماسة.
وفيما عدا ذلك فلا يكون في الفخر معنى المديح إلا لأن فيه معنى الهجاء، كالمنافرات المشهورة في العرب؛ وكانوا إذا تنازع الرجلان منهم وادعى كل واحد أنه أعز من صاحبه، تحاكما إلى عالم من حكمائهم المحيطين بالأنساب والتاريخ، فمن نفر منهما -أي: فضل نفره على الآخر- لا يفلح الثاني بعدها أبدًا؛ والأصل في هذا كما ترى الهجاء لا المدح؛ لأن الذي يقارع الآخر عن حسبه ويكاثره بالأحياء والأموات من أشراف قومه، إنما يريد الغض منه، ليظهر هو وقبيلته بهذه المقابلة، ولو أراد معنى التمدح وحده لقد كان في حسب قومه غنى.
وثم نوع آخر من الفخر عند العرب هو شبيه بالفخر المصنوع في ظاهره لا في حقيقته، وذلك أن العربي يعاف الشيء ويهجو به غيره، فإن ابتلى به ملأ ماضغيه فخرًا، ولكنه لا يفخر به لنفسه من(3/69)
جهة ما هجا به صاحبه، قال الجاحظ: فافهم هذه، فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يهجون به، وهذا باطل، فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين؛ وإذا ذموا ذكروا أقبح الوجهين "ص57 ج5: الحيوان". ويدخل في هذا النوع باب العيوب الخلقية كالبرص فإنهم يهجون به، ولكن من ابتلي به من شعرائهم ضرب له المثل الذي يستغرقه ويشغل عنه كقول ابن حبناء:
إني امرؤ حنظلي حين تنسبني ... لا من عتيك ولا أخوالي العوق
لا تحسبن بياضًا في منقصة ... إن اللهاميم في أقرانها البلق
"ص54 ج5: الحيوان".
وقس على ذلك، فهذا المدح المصنوع، ولكن عذرهم فيه أنهم اضطروا إليه فرارًا من معنى الهجاء، ومن هذه الجهة اكتسب معنى المديح.
فكيفما أدرنا القول لا نجد هذا الباب خالصًا عند العرب غير مقصود به إلا صنعة الكلام وحدها كما يفعل المولدون، ولذلك لم يغلب هذا النوع على قول الشاعر منهم كما يغلب المديح الهجاء والوصف، بل لم يكد يتميز به بعضهم على بعض؛ واعتبر ذلك بالأبيات التي يعدونها أفخر الشعر، وقد روى منها ابن رشيق طائفة، فإنك لا تجد لجاهلي بيتًا يبرعها أو يكون منها بمنزلة في الصنعة، وإنما تجد أكثر ذلك الإسلاميين والمولدين.
أما الإسلاميون فقد شاع الفخر في أيامهم، للخلافات التي كانت بين بني هشام وبني أمية، وبين هؤلاء وبني العباس، ولكنه بني على الهجاء كما مر في منافرات العرب، ولذلك استغرقته الخطب والكتب ولم تكن سهمة الشعر منه إلا القليل؛ وكان منهم من يغري بين الوجوه من الناس وبين العلماء بالأنساب، يحب أن يعرف حالات الناس وعيوب الأشراف، كعبد الله بن عامر، ومصعب بن الزبير، قال الجاحظ: فلا جرم أنهما كانا إذا سبا أوجعا "ج1: البيان" وسنلم بشيء من هذا الباب في بحث الخطابة.
وكان فيهم قوم متميزون دون سائر القبائل بالكبر، أبطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة، ولم يكن في قوى عقولهم وديانتهم فضل على قوى دواعي الحمية فيهم، وهم من قريش بنو مخزوم، وبنو أمية. ومن العرب بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس خاصة "ص21؛ 22 ج6: الحيوان" فلا جرم كان من هؤلاء ديوان مفرد لمعاني الفخر والحماسة، وقد ذهب بشهرة الفخر في الإسلاميين من الشعراء جرير والفرزدق؛ لذهابهما بشهرة الهجاء.
أما في المولدين فالذين برعوا في صنعة الفخر والحماسة كثيرون، وقد صارت الإجادة في ذلك على حسب قوة الشاعر وبمقدار ما تؤتي القريحة من التصرف؛ لأن هذا الشعر لا يصنع لرغبة ولا لرهبة وليس وراء معانيه ظل، فلا يجيده إلا مجيد، ولكن شهرته أكثر ما تعلق بالأمراء والشجعان وأهل النسب؛ كالشريف الرضي، وهم يقصدون إلى هذا النوع في شعرهم قصدًا، ويتخذون منه لسانًا للسياسة والتاريخ. ثم هو شيء في طباعهم، لا يتكلفون منه الكثير كما يفعل من دونهم، ولذلك لا(3/70)
يعدوه وشي الطبيعة ورونق الغريزة، وذلك شائع فيهم. وأول هذه الطبقة في الإسلام شعراء الخوارج، وأشهرهم قطري بن الفجاءة، ثم الأمراء والوزراء كأمراء بني حمدان، وأشهرهم أبو فراس الحمداني، وكالوزير الطغرائي، وكثيرين من وزراء الأندلس، وسنذكرهم في موضعهم، وكان آخر من أداه إلينا الزمان من هذه الفئة، المرحوم محمود سامي البارودي.
وقد استحدث المتأخرون طريقة صناعة في الحماسة؛ وهي مزجها بالغزل والافتتان في ذلك، وأخذوا هذه الطريقة عن عنترة في البيتين المنسوبين إليه:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
وكان يتفق ذلك في الأبيات من القصيدة؛ حتى صنع فيه القاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يكون مخلدا
وقسمها على الحماسة والغزل؛ وهي أشهر القصائد في هذا النوع.(3/71)
الرثاء:
الشعر في المراثي إنما يقال على الوفاء، فيقضي الشاعر بقوله حقوقًا سلفت، أو على السجية إذا كان الشاعر قد فجع ببعض أهله، أما أن يقال على الرغبة فلا؛ لأن العرب التزموا في ذلك مذهبًا واحدًا، وهو ذكر ما يدل على أن الميت قد مات؛ فيجمعون بين التفجع والحسرة والأسف والتلهف والاستعظام، ثم [يذكرون] صفات المدح مبللة بالدموع، حتى قال قدامة: إنه ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك؛ ومن أجل ذلك لم يتبسطوا في معاني الرثاء والفجيعة من [الموجودات] وما يتبع ذلك من درس العواطف المحزنة والبحث عن أماكن الألم في نفس الإنسان، كما كان ذلك عند اليونان، إذ كان من شعرائهم من تخصيص للفواجع وعرف بصفات الحزب كأوريبيذس وغيره، وكما كان عند العبرانيين، وهم أبكى الناس، حتى إن الرثاء من الصفات المميزة لأشعارهم؛ ويرجع ذلك النقص في العرب إلى أسبابه الطبيعية مما يتعلق بالبداوة والأخلاق التي تكون عنها، وقد مر ذكر ذلك في مواضع كثيرة.
ومن تلك الأخلاق كانوا لا يرثون قتلى الحروب؛ لأنهم ما خرجوا إلا ليقتلوا، فإذا بكوهم كان ذلك هجاء أو في حكمه؛ ولكن الرثاء لمن يموت حتف أنفه؛ أو يقتل في غير حرب من حروب التاريخ، كالغارة ونحوها، فحينئذ يعددون المآثر ويبالغون في الفجيعة كأن هذا الموت غير طبيعي فيمن يستحق أن يموت.
وقد مر في الكلام عن شواعر العرب شيء عن موضعهن من الرثاء؛ لأنهم أشجى الناس قلوبًا عند المصيبة وأشدهم جزعًا على هالك؛ لما ركب في طبعهم من الخور، وفي قلوبهن من سهولة الانخلاع. أما الرجال فلم يشتهر منهم بالرثاء إلا أفراد عضتهم المصيبة بما لم يبرأ من الألم فصاحوا تلك الصيحة التي ينجذب معها القلب إلى الشفتين.
قال المبرد في "الكامل" "ص390 ج2": وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبّن. وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت وفي كنفها تصلح ... ثم ذكر منها قصيدة أعشى باهلة التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي وساق خبرها. وكذلك روى قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وهذه القصائد التي يشير إليها المبرد هي عيون المراثي التي رواها محمد بن أبي الخطاب القرشي في كتابه "جمهرة أشعار العرب" وهي لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب، ومتمم بن نويرة. ولم يذكروا منها شعر النابغة في حصن بن حذيفة، ولا مراثي أوس بن حجر في فضالة بن كلدة، ولأوس هذا فيه مراث جيدة، من أحسنها القصيدة السائرة التي أولها:
أيتها النفس أجملي جزعًا ... إن الذي تحذرين قد وقعا!
وبديهي أن الرثاء لا يتعلق بالنسيب كما يتعلق به المدح والهجاء وغيرهما ولكن وردت للعرب(3/72)
في ذلك قصيدة واحدة, قال ابن الكلبي: لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة:
أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعافية وأخلفت كل موعد
وقال ابن رشيق: "وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة وحين أخذ ثأره وأدرك طلبته، وربما قال الشاعر في مقدمة الرثاء: تركت كذا أو كبرت عن كذا وشغلت عن كذا، وهو في ذلك كله يتغزل ويصف أحوال النساء، وكان الكميت ركابًا لهذه الطريقة في أكثر شعره، فأما ابن مقبل فمن جفاء أعرابيته أنه رثى عثمان بن عفان بقصيدة حسنة أتى فيها على ما في النفس ثم عطف وقال:
فدع ذا ولكن علقت حبل عاشق ... ...................... "الأبيات"
والنسيب في أول القصيدة على مذهب دريد خير مما ختم به هذا الجلف على تقدمه في الصناعة "ص121 و122 ج2: العمدة".
ومما حدث بعد الإسلام في طرق الرثاء الجمع بين التعزية والتهنئة، وهو مخصوص بالخلفاء في تعزية من يلي عهد أبيه منهم، وكان أول ذلك حين مات معاوية وقدم يزيد ولده فلم يقدم أحد على تعزيته، حتى دخل عليه عبد الله بن همام السلولي فأنشده "ج1: البيان" ففتح للناس بعده باب القول، وقد روى ابن رشيق هذه الأبيات في العمدة "ص124 ج2" ووطأ لها بسجعات نسبها للسلولي، والصحيح أن الشعر وحده، أما السجع فهو لعطاء بن أبي صيفي الثقفي، وهو من الخطباء الذين فتح لهم الكلام بذلك الشعر "ج1: البيان". ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أو يعزونه؟ فأقبل غيلان ابن مسلمة الثقفي، فسلم عليه ثم خطب معزيا ومهنئًا. وكذلك لما توفي المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدي فسلم ونحا هذا المنحى، وقد روى كلامهما الجاحظ في الجزء الأول من "البيان".
والذي ابتدأ بالإجادة في هذه الطريقة من الشعراء أبو نواس في قصيدته النونية التي يعزي بها الفضل بن الربيع عن الرشيد ويهنيه بالأمين، يقول منها:
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
ثم اتبعه أبو تمام في قصيدته التي أولها:
ما للدموع تروم كل مرام
يقولها للواثق بعد موت المعتصم، وقد صرف الكلام فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الناحية من الشعراء؛ وليس في المتأخرين من يؤم في هذه الطريقة غير جمال الدين بن نباتة المصري -من شعراء القرن السابع- فإنه جاء في قصيدته الميميمة التي عزى فيها عبد الملك المؤيد صاحب حماه وهنأ ولده الأفضل، بما يعد من عجائب الصناعة؛ لأنه استطرد في القصيدة على طولها بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها، وهي مشهورة، مطلعها:
هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء خاصة، حتى قيل فيه إنه نواحة ندابة؛ وكذلك عبد(3/73)
السلام بن زعبان المعروف بديك الجن؛ واشتهر في الرثاء بطريقة انفرد بها لا ترجع إلى الأسلوب ولا إلى الصناعة، ولكن إلى معنى الفجيعة، وذلك أنه قتل له جارية وغلامًا كان يهواها ثم جعل ينوح عليهما ويرثيهما، فاشتهر بهذه الطريقة، وليس أدل على جودة رثائه من قوله فيها:
لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه، بكى له في قبره
وكان للرثاء شأن في أول الدولة الأموية، حتى كانت المراثي يناح بها نوحًا على القتلى والأموات، وأشهر من عرف بذلك الغريض المغني، وقد ربته الثريا بنت عبد الله بن الحارث وعلمته النوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرة "ص85 ج1: الأغاني"؛ وكان المشهور قبله بالنوح ابن سريج المغني، وقد عدل بعد ظهور الغريض إلى الغناء فعدل معه الغريض إليه "ص100 ج1: الأغاني"، ثم كان بنو أمية يشترطون في تقريب الراوية منهم أن يكون لمراثي العرب [أحفظ] وكان القائم برثاء المتقدمين منهم النصيب الشاعر، كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي قومه، فإذا أنشده بكى وبكى معه "ص135 ج1: الأغاني" وكان يتقرب بذلك إلى ملوكهم وأمرائهم، حتى إنه لم دخل على عمرو بن عبد العزيز وهو أمير المدينة ابتدأه في الاستئذان أن ينشده من مراثي أبيه عبد العزيز، فقال: لا تفعل فتحزنني "ص137 ج1: الأغاني"؛ وقد عارض بني أمية في الولع بالرثاء شعراء الطالبيين ومن نبغ بعد ذلك من هذه الشيعة إلى اليوم.
ومن طرق الرثاء التي أحدثها المتأخرون، ما يرثون به الدواب والأثاث والأدوات، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع آخر، ولكن القصيدة التي احتذوها في ذلك إنما هي القصيدة الهرية الشهيرة التي نظمها ابن العلاف الشاعر المتوفى سنة 318هـ، وكان له هر يأنس به، وكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، وكثر ذلك منه فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بها؛ وقيل: إنه رثى بها عبد الله بن المعتز وخشي من الإمام المقتدر؛ لأنه هو الذي قتله، فنسبها إلى الهر وعرض به في أبيات منها، ويقال بل كنى بالهر عن الوزير أبي الحسن بن الفرات أيام محنته؛ لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وقيل: غير ذلك، وهذه القصيدة في 65 بيتًا، وهي معدودة من أحسن الشعر وأبدعه، وقد نقل زبدتها ابن خلكان في تاريخه "الجزء الأول ص137". وللعلاف قصائد أخرى في المهر أيضًا ولكن هذه أشهرها. [واستحسن] من بعده هذا المذهب، فعارض ابن العميد القصيدة الهرية صناعة، ونقل الثعالبي شيئًا من قصيدته في "اليتيمة" "الجزء الثالث ص23" ولما نفق برذون أبي عيسى المنجم بأصبهان وكان قد طالت صحبته له، أوعز الصاحب بن عباد إلى الندماء المقيمين في حلبته أن يعزوا أبا عيسى ويرثوا برذونه، فقال كل منهم قصيدة فريدة، نقل الثعالبي مختارات منها "الجزء الثالث ص55: يتيمة الدهر". ثم شاع هذا النوع بعد ذلك وتقلبوا في أغراضه.(3/74)
الغزل والنسيب:
ليست هاتان الكلمتان مترادفتين بالمعنى الأخص كما جرى في عرف الناس، ولكن بينهما فرقًا نبه عليه قدامة فقال: إن النسيب ذكر خلق النساء وأخلاقهن، وتصرف أحوال الهوى به معهن، وقد يذهب [عن] قوم موضع الفرق بين النسيب والغزل، والفرق بينهما أن الغزل هو المعنى الذي اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله، فكأن النسيب ذكر الغزل والغزل المعنى نفسه. قال: والغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء..... وإذ قد بان أن الذي قلناه على ما قلنا فيجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضاد التحافظ والعزيمة ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الغرض.
لا جرم كانت هذه الأخلاق التي يحلو بها النسيب ويعذب الغزل غير صريحة في البداوة، ولا خالصة في تلك الخشونة الفطرية التي طبع عليها العرب في جاهليتهم، فكان نسيب شعرائهم قليلًا بمقدار تلك الأخلاق التي انسلخت من الطبيعة العربية وتحولت عن صميمها بما فيها من المادة الحضرية الموروثة أو المكتسبة؛ لأن أول من تعهر في شعره من العرب وشبب بالنساء، إنما هو امرؤ القيس بإجماع الرواة، وكان أبوه من ملوك كندة فظهرت في غزله الحضارة اليمنية وأفسدتها صعلكة الرجل؛ إذ كان على أنه ابن ملك لا يستتبع إلا صعاليك العرب وذؤبانهم، وقد شبب حتى بنساء أبيه. وكان هذا سبب نفيه، لا ما زعموه من أن الملوك كانت تأنف لأبنائها من الشعر، وقد نبه على ذلك الجاحظ "في الحيوان" وسنكشف قلب هذا الشاعر متى وصلنا إلى ترجمته. وكان قبل امرئ القيس خاله مهلهل، وهو زير نساء، ولكنه كان بعين أخيه كليب فارس العرب المشهور -وقد مر وصفه- فلم يك بالمفحش ولا بالبذيء، ولما كان مهلهل أول من أرق الشعر كان كذلك أول من غنى بالتشبيب من شعره "ص61: سرح العيون".
ولم يجئ بعد هذين الشاعرين من يتهالك في غزله غير النابغة الذبياني، وقد أفحش في بعض نسيبه إفحاشًا كأنه رومي أو فارسي، لطول ما صحب المناذرة والغساسنة، أما سائر الشعراء من العرب فكانوا على سنة قومهم من الغيرة والأنفة؛ ولذلك ظهر النسيب فيهم طبيعيا [فقامت] فيه الطلول والآثار، وتشوقوا بالرياح الهابة والبروق اللامعة والحمائم الهاتفة والخيالات الطائفة وبكوا على آثار الديار العافية وأشخاص الأطلال الدائرة.
وهم إذا وصفوا محاسن النساء لم يزيدوا على الأوصاف الطبيعية التي تقع عليها الأعين؛ إذ كن غير مقصورات ولا محجوبات، وإنما تجيء طهارة الغزل من اعتبار الحسن اعتبارًا طبيعيا، كالذي تعرفه النفس من جمال الشمس والقمر، وخضرة الرياض، وأريج الأزهار، ونحو ذلك؛ وأظن أن(3/75)
إجماع الناس كافة على اختلاف أممهم في تشبيه الحسن النسائي بتلك المعاني إنما جاءهم من ذلك الاعتبار؛ لأنه فيهم إرث الطهارة الطبيعية من لدن الإنسان الأول؛ ولذلك السبب عينه لم تكن تأنف العربية أن توصف محاسنها؛ لأن الحسناء فيهم [صفة] نفسها، وإنما كان الشأن في ريبة النظر ودنس الفؤاد، وذلك الذي كان يستطير له الشر بينهم وتعقد عليه الغارات فهو غزل الأسنة لا غزل الألسنة، وهو أيضًا كان السبب في أن النسيب لم يغلب على شعر واحد من شعرائهم فيعرف به كما عرف قوم بالهجاء والمديح وغيرهما، وعلى أن هذا النسيب كان نوعًا من أنواع الوصف فهو كذلك لم يتميز به شاعر تميزه بالأوصاف الأخرى، وهذه تراجم شعراء الجاهلية وأشعارهم بين أيدينا، وهي بجملتها الدليل على ما أسلفنا بيانه.
فلما جاء الإسلام آمنت العيون المريبة، وصدق النظر في عفته، وتلجلجت الألسنة فيما كانت تنطلق به؛ فكان ذلك أبلغ في عفة النسيب، حتى صار يؤخذ من طرف اللسان، ولا يقصد به إلا إقامة السنة التي درج عليها العرب، وتحريك ما في القلوب من بقايا الشباب؛ حتى يستجيب الطبع للشاعر وتسلس له الخواطر، كما قال مالك بن زغبة الباهلي "ص98 ج2: العمدة".
وما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها
ولولا ذلك ما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده من قصيدة كعب بن زهير الشهيرة؛ ولتبين الناس منه الكراهة له؛ وهم لم يرووا من ذلك شيئًا كما رووا في غيره "هو منافرة الزبرقان؛ راجع العمدة".
ومضى الشعراء على ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب، وكان لشدته في الدين ينكر من الشعر غير معالي الأخلاق وصواب الرأي وما يرجع إلى الأنساب؛ حتى لقد مر بحسان وهو ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك؟ لا جرم أنه استبطل النسيب ورآه عبثًا، إن لم تكن فيه حرمة فقد يكون سببًا إليها، خصوصًا وقد تواصف الناس في زمنه معاني الغزل بما جلبته لهم الفتوح من السراري، فتقدم عمر إلى الشعراء أن لا يتشبب أحد بامرأة إلا جلده "ج4 ص98: الأغاني"؛ وكان يأبى أن يساكنه جميل من الرجال تهتف به العواتق في خدورهن؛ وقصة نصر بن حجاج معه مشهورة، ولكن ما جاءتهم به الفتوح كان قد أدخل عليهم رخاوة المدينة ونقض من طباعهم، ثم جعلت قلوبهم تسيب وتسيب معها أخلاق البداوة؛ فما هدأت الفتن بعد عثمان واستقر الأمر لمعاوية حتى قويت قلوب وضعفت عقول، وانصرف أكثر القرشيين إلى ما ألهاهم به معاوية من الترف والنعمة، وما جرأهم عليه من مباحات النظر واللسان، وهو كان يبذل إليهم الأموال في هذا السبيل ويعينهم عليه بما وسعه من الجهد، ليكسر من قرشيتهم التي هي قوام الخلافة. وظهر يومئذ الغناء [ممترى] فيه حتى أباحه يزيد بن معاوية "60-64هـ" ففشا في الحجاز؛ والنسيب مادة الغناء الطبيعية وبه يقوم أمره؛ فكان المغنون يتناولون في أول أمرهم نسيب الجاهليين والمخضرمين؛ كالمهلهل وامرئ القيس والنابغة وذي الإصبع العدواني وحميد بن ثور وغيرهم؛ وكان هذا منشأ الظرف الحجازي الذين ضربوه مثلًا؛ لأن أهل العراق كانوا ينكرون الغناء ولكن لا يرون بأسًا(3/76)
بالرجز، وهو ما يحدى به "ص163 ج1: الأغاني"؛ وكذلك صاروا يكرهون النسيب من أجله؛ حتى قال فيهم سعيد بن المسيب: إنهم نسكوا نسكًا أعجميا. ونبغ في ذلك العهد عمر بن أبي ربيعة الغزل المترف، وكانت أمه سبيت من حضرموت، ويقال من حمير، ومن هناك أتاه الغزل "ص32 ج1: الأغاني" كما أتى امرؤ القيس من قبله، وليس بينهما من يساويهما في هذه الطريقة، وإنما نشأ لزمنه فتيان الشعر من القرشيين، كأبي دهبل الجمحي، ومن ينزل منزلتهم بما يدل به من سابق الحرمة كعبد الرحمن بن حسان، فلم يتركوا أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه وكل من لم يجز، حتى تناولوا به بنت معاوية؛ ولكن ابن أبي ربيعة هو الذي استقلت [له] هذه الطريقة وكان أول من شهر بها، فبرع نظراءه بسهولة الشعر وشدة الأسر وحسن الوصف وإرسال شعره قصصا غزلية حتى كأنه إنما يدون فيه تاريخ قبله، ولذلك فتن به الناس، وكان أشهر أهل الحجاز يومئذ بالظرف والرقة وطباع الغزل، ابن أبي عتيق، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فكان عمر يذهب في شعره إلى أخلاقه "ص28 ج2: الحيوان" وأخبارهما مشهورة، ثم كان يغني في أشعاره ابن سريج المغني النواحة، فلو أن القلوب لا ترى ببصائرها إلا لونًا واحدًا لكان هو اللون الذي يعطيه غناء ابن سريج بشعر ابن أبي ربيعة، ولذلك طار نسيبه وصار الحسان يتعرضن في آفاق لحظه كواكب وأقمارًا ليشهرن فيرتفعن في الناس بصفته؛ وبلغ من فتنة شعره للنساء أنهن كن يتدارسنه ويكتبنه "ص37 ج1: الأغاني".
وقد خلقت تلك البيئة عمر خلقًا نسائيا، حتى كأنما كن ينجذبن إليه للمناسبة الجنسية.... فقد كان في أيام الجمع يلبس حلل الوشى ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج ويسبل لمته ويخرج يتلقى العراقيات إلى ذات عرق، ويتلقى المدنيات إلى مر ويتلقى الشاميات إلى الكديد "ص88 ج1: الأغاني" كل ذلك التماسًا للغزل وطلبًا لمأتاه، وأخباره كثيرة مثبتة في موضعها من كتاب الأغاني.
وظهرت مع عمر طبقة العشاق من شعراء العرب: كجميل، وكثير، ونصيب، وجنادة العذري وغيرهم؛ ثم الشعراء الذين صاغتهم البيئة: كالأحوص الذي كان يشبب بالنساء ذوات الأخطار من أهل المدينة، حتى نفاه سليمان بن عبد الملك "ص48 ج4: الأغاني"؛ ووضاح اليمن وكان يشبب بامرأة الوليد بن عبد الملك.
وفشا أمر الغناء فكان ابن سريج وابن محرز ومعبد والغريض ومالك وابن عائشة وغيرهم [يغنون] في النسيب من شعر تلك الطبقة كلها، وبذلك ظهر النسيب في وضع يشبه أن يكون فارسيا أو روميا ولا يلتئم مع أخلاق العرب؛ إذ تحكى فيه قصة الغزل ويفتخر فيه بنقض العفة وانحلال الطباع، إلى أمثال هذه المعاني؛ وكان ذلك أصل ما ورثه المولدون من هذه الصناعة.
وثم نوع من الهجاء استخدم فيه النسيب، واستعين على البلوغ إلى حقيقته بهذا الغزل الحديث، وأول من فعل ذلك الشاعر الملقب بالعرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد نبغ بعد موت ابن أبي ربيعة ونحا نحوه وتشبه به فأجاد، وكان جريئًا في شعره على نساء قريش ونساء(3/77)
بني أمية، قليل [المحاشاة] لأحد، وكان يهجو محمد بن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، فلما رأى أنه لم يبلغ منه ولم [يُمِضّه] جعل يشبب بأمه وامرأته "ص161 ج1: الأغاني" وينسب بهما، وخصوصًا أمه، على تلك الطريقة من حكاية الوقائع وافتراء الإفك، لا لمحبة ولا لمعنى من معاني الغزل "ص154 ج1: الأغاني"؛ ولكن ليفضح الرجل بإشاعة الشعر على ألسنة المغنيين؛ وليس يؤخذ بالنسيب هذا المأخذ إلا وقد استقامت طريقته تلك بما يمتهد لها من الأعراض ويوطأ من الأخلاق؛ ولذلك صار الأشراف والأمراء يتقون تلك الألسنة أكثر مما يتقون العيون المريبة بعد أن شددوا في الحجاب وفرقوا بين الرجال والنساء في الطواف، وذلك في إمارة خالد القسري عامل سليمان بن عبد الملك على مكة، إذ بلغه قول بعض الشعراء "ص116 ج2: المسعودي":
يا حبذا الموسم من موقف ... وحبذا الكعبة من مسجد
وحبذا اللاتي يزاحمننا ... عند استلام الحجر الأسود
فتحولت الأخلاق يومئذ في سواد الأمة بهذا النسيب، حتى كان من الأشراف من يحاول أن يعيد الأخلاق العربية، كعبد العزيز بن مروان [والي] عبد الملك على مصر، فإنه كان لا يعطي شاعرًا شيئًا حتى يذكر أمه في مدحه لشرفها، فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم "ص136 ج1: الأغاني".
ولما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز تحامى شعراء الغزل أن يشهروا بالنساء في نسيبهم، وتحولوا عن طريقة ابن أبي ربيعة، حتى إن النصيب الشاعر المقدم في ذلك لم يأخذ جائزته إلا بعد أن شهدوا له أنه عاهد الله أن لا يقول نسيبًا يشهر به النساء "ص138ج1: الأغاني" واستمر أكثرهم على ذلك لا ينسب إلا تملحًا واستجمامًا على غير ريبة ولا فاحشة، ومالوا في ذلك إلى طريقة العرب، إلا ما لا بد منه من صنعة الأخلاق التي تناسب الغزل والتشاجي، حتى ظهر أبو المحدثين بشار بن برد، فأفرط في الصنعة؛ لأنه كان أعمى، وبالغ في تصوير الإحساس ليمتاز بذلك على المبصرين "وهو والأعشى معدودان كذلك عندهم" فكان سبيله إلى هذا الغرض أن نصب في شعره حبائل الشيطان وزخرفه بتزويق اللسان وقارب في غزله الناس بما كان يجتزئ ابن أبي ربيعة بنظره عن التحدث به في النسيب، حتى [اشتهر] نساء البصرة وشبابها بشعر بشار، وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي بن المنصور العباسي، وكان أشد الناس غيرة، فنهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب "ص41 ج1: الأغاني" ثم ظهر بعد ذلك أبو فراس والعباس بن الأحنف، وهذا الأخير ليس في شعره مديح، إنما هو مصروف إلى النسيب يتوخى فيه صفة المعنى لا صفة الحكاية، وشعره عكس شعر الفرزدق؛ لأنه كان لا يقول في الغزل "ج1: البيان" والعباس لا يقول إلا فيه.
ومن ذلك العهد شاع النسيب والتحم بالشعر، ورغب فيه الخلفاء من شعرائهم حتى إن الرشيد أمر بحبس أبي العتاهية والتضييق عليه لما تزهد وآلى على نفسه أن لا يقول شعرًا في الغزل "ص160 ج3: الأغاني"؛ ثم أضاف البحتري إلى النسيب معنى تعلق به وردده في شعره واستقصاه، حتى كان الباب الذي شهر به على أنه أرق الناس نسيبًا وأملحهم طريقة، وذلك المعنى هو ذكر الطيف والخيال،(3/78)
وكان من ذلك شيء قليل في أشعار المتقدمين يركبون فيه صنعة جافية تتخون محاسنه وتعفي على معنى الغزل فيه، إذ كانوا يطردونه؛ وأشهر ما في ذلك قول جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وممن انفرد بطريقته في النسب بعد البحتري وشهر بالغزل خاصة، أبو الوليد بن زيدون، وهو الذي لقبه أهل الأندلس ببحتري المغرب، وقصائده مشهورة، وخصوصًا النونية التي يتشوق بها إلى ولادة، وكذلك أبو الوليد بن الجنان من شعراء الملك الناصر صاحب الشام في القرن السابع، قال ابن سعيد المغربي: ومقاطيعه الغرامية قلائد أهل الغرام "ص379 ج1: نفح الطيب". وكان في ذلك القرن أيضًا أبو الفضل زهير الشهير ببهاء الدين، وهو صاحب الديوان المشهور الذي يقال في غزله إنه السهل الممتنع، وقد انفرد بهذه الطريقة حتى لا يذكر معه فيها أحد من المتأخرين إلا تابعًا، ثم تتابع الشعراء بعد هؤلاء وكلهم ينسبون وأكثرهم يجيدون، ولكنا لا نعرف لواحد منهم طريقة يتبع فيها بل كلهم، إلا ما اشتهروا من السخافات، كالغزل الممقوت الذي يصفون فيه الأحداث والمخنثين، وكان منشأ ذلك في أوائل الدولة العباسية بعد اقتناء المماليك من الروم والترك وغيرهم؛ ولبعض خلفائهم ولع به واستهتار، كالمعتضد وغيره، وليس هذا موضع شرحه ولا تاريخه، وقد رأينا لبعض المتأخرين فيه كتابًا مطبوعًا، ولكننا ننزه كتابنا عن الإشارة إليه.
ويدخل في تاريخ النسيب بعض المذاهب الصناعية التي استحدثت فيه، ونخص بالذكر من ذلك مذهبين: الأول ما سلكه المتنبي من التغزل بممدوحه، وقد نبه عليه الثعالبي في "اليتيمة"، والثاني ما استنه الوزير الطغرائي من الجمع بين مدح فتيان الحي والتغزل بفتيانه، وقد شغف بهذه الطريقة من المتأخرين ابن معتوق الموسوي وأكثر غزله فيها.(3/79)
الشعر الوصفي:
الوصف جزء طبيعي من منطق الإنسان؛ لأن النفس محتاجة من أصل الفطرة إلى ما يكشف لها من الموجودات وما يكشف للموجودات منها، ولا يكون ذلك إلا بتمثيل الحقيقة وتأديتها إلى التصور في طريق من طرق السمع والبصر والفؤاد، أي: الحس المعنوي، فالأمم الطبيعية هي أصدق الأمم في الوصف طبيعة؛ لأنه سبيل الحقيقة في ألسنتها؛ ولأن حاجاتها الماسة إليه تجعل هذا الحس فيها أقرب إلى الكمال، فإذا أضفت إلى ذلك سعة العبارة ومطاوعة اللغة في التصريف -كما هو الشأن عند العرب- كان أجمع للحس وأبدع في تصوير الحقيقة بما تكثر اللغة من أصباغها ويجيد الحس في تأليف بينها وتكوين المناسبات الطبيعية التي تظهرها تلك الألوان المهيأة على حسب هذه المناسبات.
ولما كان الوصف الشعري هو أرقى ما يكون في اللغة من صناعة الأصباغ والتلوين، كان لا يقع إلا على الأشياء المركبة من ضروب المعاني، وكان أجوده لذلك ما استجمع أكثر المعاني التي يتركب منها الشيء الموصوف وأظهرها فيه وأولاها بتمثيل حقيقته، وهي الطريقة التي اتبعها العرب في أوصافها بدلالة الفطرة القوية والطبيعة الراقية، وقد كان هذا سببًا في تطبيقهم وصف الحيوان والنبات وغيرهما على علومهم ومعارفهم التي خلدوها بذلك في أشعارهم؛ لأن من أخص مزايا العلم التدقيق والاستقصاء، حتى قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب "ص83 ج3: الحيوان". فاستقصاء المعاني التي يتركب منها الموصوف طبيعة عامة في شعرائهم، ولكنهم يتفاوتون في قوة الاحتيال على إبراز هذه المعاني وابتداع الأساليب في تصويرها، وهذا هو موضع التفضيل بينهم؛ لأنه راجع إلى اختلاف القرائح خلقة واستعدادًا. وقد غفل أكثر الأدباء عن هذه الحقيقة، فتراهم يعجبون لما يرونه في بعض أشعارهم مما يكون سبيله الاحتيال على تصوير أجزاء الموصوف، ويعدونه خشونة وجفاء طبع، كالذي يذكرونه في وصف الناقة بأن هرا قد ثبت في دفها، كقول عنترة:
وكأنما ينأى بجانب دفها الـ ... ـوحشي من هزج العشي مؤوم
هر جنيب كلما عطفت له ... غضبى اتقاها باليدين وبالفم
وهم إنما أرادوا صفة الناقة بأنها رواغة شديدة التفزع لفرط نشاطها ومرحها، فجاءوا بهذا المعنى الذي تلزم عنه تلك الصفة، وخصوا الهر؛ لأنه يجمع العض بالناب والمحض بالمخالب، فيكون ذلك أبلغ فيما أرادوه.
ومنه قول أوس بن حجر؛ وقد جاء بأكثر من ذلك، يريد أنها لا تستقر:
كأن هرا جنيبًا تحت غرضتها ... والتف ديك بحقويها وخنزير
وقول الشماخ:
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا(3/80)
"والغرضة والغرض: حزام الرحل "ص74 ج2: الكامل"".
وعلى ذلك يؤول كل ما ورد في أوصافهم من أمثال تلك المعاني التي يستقصون بها أجزاء الصفة وأساليب التركيب، وهي عامة في الشعر الجاهلي والطبقة التي تليهم من الإسلاميين، ومن أعجبها قول الراعي حين أراد أن يصف لون الذئب:
متوقع الأقران فيه شهبة ... هش اليدين تخاله مشكولا
كدخان مرتجل بأعلى تلعة ... غرثان ضرم عرفجا مبلولا
المرتجل: الذي أصاب رجلًا من جراد فهو يشوبه، وجعله غرثان؛ لأنه على طول الغرث لا يختار الحطب اليابس على رطبه، فهو يشويه بما حضره. وأدار الراعي هذا الكلام ليكون لون الدخان بلون الذئب الأطحل متفقين "ص24 ج5: الحيوان".
ومن تفاوتهم في الأساليب قول الشماخ في صفة الحر:
كأن قتودي فوق جاب مطرد ... من الحقب لاحته الجداد الغوارز
"الأبيات ... ص28 ج5: الحيوان". قال الجاحظ: ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدمان الشماخ بغاية التقديم. وسجد الفرزدق مرة إذ سمع رجلًا ينشد بيتًا للبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
فقيل له: ما هذا؟ قال: موضع سجدة في الشعر أعرفه كما تعرفون مواضع السجود في القرآن! "ص275: سرح العيون".
ولما كان الوصف عند العرب أشبه بالحقيقة كما مر، كان الشاعر منهم لا يتعاطى إلا ما يحسن من ذلك ضرورة، وقد يشارك في أوصاف كثيرة ولكنه ينفرد بالشهرة في بعضها، من جهة العلم لا من جهة الصناعة، فكلما كان أعلم بأجزاء الموصوف وحالاته، وأقدر على استقصاء هذا العلم في شعره، كان أبلغ في الوصوف وأولى بالتقديم فيه؛ وإن أحسن ما يكون الوصف الصادق إذا خرج عن علم، وصرفته روعة العجب، فإن العلم يعطي مادة الحقيقة، والعجب يكسبها صورة من المبالغة الشعرية، وكل وصف لا يكون عن هذين أو أحدهما فهو تزيد من الكذب، وتكثر بالباطل؛ لأن سبيله سبيل المصنوع المتكلف، ولا يسلم متعاطيه من الخطأ، كما ترى شعراء المولدين يصنعون في صفة الإبل ونحوها من خصائص الشعر الجاهلي. وقد أخطأ أبو نواس على جلالته في وصف الأسد حين تعاطاه، وسيأتي ذلك في موضع آخر.
وعلى جهتي الوصف الصادق اللتين ذكرناهما، يجري كل شعر العرب ومن بعدهم من طبقتي المخضرمين والإسلاميين، ولا يبقى موضع للعجب في تناولهم بالوصف كل أجزاء طبيعتهم، حتى الحشرات، وحتى ما لا يستحسن مثله عادة من الوصف، كما فعل مخارق بن شهاب المازني، وهو على سيادته وكرمه، وعلى أنه من رؤساء العرب، تراه يصف تيس غنمه، ولولا روعة العجب لترك ذلك لأخلاق الرعاة ومن في طبقتهم "ص143 ج5: الحيوان".(3/81)
على أنهم في ذلك جميعه إنما كانوا يتوسعون فيما يتعلق بالهيئة الخاصة، والمعاني متعلقة بالحالة العامة؛ فإذا وصفوا الناقة مثلًا وهي ذات هيئة خاصة مميزة بأجزائها أتوا على هذه الأجزاء واستغرقوا كل ما يتعلق بالهيئة؛ وحسبك أن تقرأ قصيدة التغلبي في وصف القطاة، وقد رواها الجاحظ وقال: إنها أجود قصيدة قيلت في القطاة "ص169 ج5: الحيوان" وإنما كانت كذلك لاستغراقها كل أجزاء الصفة بحيث تصورها تصويرًا حيا، ولكنهم إذا وصفوا حربًا انصرفوا عما فيها من المعاني العامة وردوها إلى النوع الأول فجزءوها أجزاء واعتبروها هيئة، فربما وصفوا منها الخيل وفرسانها وأدوات القتال وذكروا الصفة العامة للحرب، من النقع والدماء والطير التي تتبع القتلى ونحو ذلك مما ترد جملته إلى أجزاء مفردة بأعيانها، ولكنهم لا يصفون حالة المتقاتلين مما يبنى على معاني النفس وتقام به فلسفة الإنسانية، لأن ذلك بعيد عن نظام اجتماعهم، ولو اقتضاه الاجتماع لاهتدوا إليه؛ ولهذا السبب عينه لم يؤثر عنهم شيء في الأوصاف التاريخية التي يستمد منها الشعر القصصي، وقد ذكر شعراؤهم واقعة الفيل وسيل العرم وغيرهما "انظر ج7: الحيوان" ولكنهم لم يحتالوا على أن يصفوا ذلك بمعانيه العامة في قصة أو شبه قصة، كما رأيتهم يحتالون على إبراز الصفات الطبيعية ويتكلفون لذلك نوعًا من القصص على ما سلف بيانه*. وقد تجدهم يزحمون أجزاء الهيئة ويبالغون في استقصائهم حتى تقصر الألفاظ عن بسط المعنى وتترك في التصوير مواضع للنظر والفكر، كقول الشماخ يصف أرضًا تسير النبالة فيها:
تقعقع في الآباط منها وفاضها ... خلت غير آثار الأراجيل ترتمي
قال قدامة: فقد أتى هذا البيت بذكر الرجالة وبين أفعالها بقوله: "ترتمي"، ومن الحال في مقدار سيرها بوصفه تقعقع الوفاض، إذ كان في ذلك دليل على الهرولة أو نحوها من ضروب السير، ودل أيضًا على الموضع الذي حملت فيه الرجالة الوفاض، وهي أوعية السهام، حيث قال "في الآباط" فاستوعب أكثر "هيئات" النبالة وأتى من صفاتها بأولادها وأظهرها عليها، وحكاها حتى كأن سامع قوله يراها "ص41: نقد الشعر" ولم يلتزم المولدون سنن العرب في الوصف، بل قلبوه إلى التشبيه، وبينهما فرق عند العرب، وهو أن الوصف إخبار عن حقيقة الشيء، والتشبيه مجاز وتمثيل؛ لأنه مبني على أن يوقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، إذ لا بد أن يكون بين المشبه والمشبه به اشتراك في معان تعمهما ويوصفا بها، وافتراق في أشياء ينفرد كل واحد منهما بصفتها، فهو يدخل في الوصف كما ترى وليس في الحقيقة.
ومن أجل ذلك بالغوا في أوصافهم وجاءوا بالتشبيه المفرط والبعيد، وكأن هذا شيء اقتضته حضارتهم المبنية على الترف وتمويه الأشياء بالزخرفة، وقل منهم من يصف عن علم كأبي نواس في أوصافه للكلاب واستغراقه في سنها؛ لأنه كان عالمًا راوية، وكان قد لعب بالكلاب زمانًا وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب؛ قال الجاحظ: وذلك موجود في شعره، وصفات الكلاب مستقصاة في أراجيزه؛
__________
* قلت: لعله كان يقصد أن يكون موضع هذا الفصل مبحث "الشعر القصصي" ولكنا رتبنا فصول هذا الباب على ما أشار إليه في مبحث "تنوع الشعر وفنونه" ص51 من هذا الجزء، فلم نتنبه لهذه العبارة إلا من بعد.(3/82)
هذا مع جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة؛ وإن تأملت شعره فضلته، إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء. وقال: فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبًا "ص10 ج2: الحيوان" وهذه الصفات هي التي تذكر في شعر الصيد والطرد؛ ولانصراف المولدين عن حقائق الموصوفات كانوا يسمون الأوصاف الشعرية بما يجري مجرى العويص "ص228 ج3: اليتيمية" وجعلوا لبعض التشبيهات ألفاظًا سموها بالألفاظ الملوكية "زهر الآداب ص53: على هامش العقد الفريد" وهي خاصة بوصف ما يكون عند الملوك من أدوات الترف والنعمة.
أما مشاهير الوصافين في تاريخ الأدب جاهلية وإسلامًا فهم وإن كانوا يجيدون أكثر الأوصاف لكنهم اشتهروا بأنواع غلبت عليهم الإجادة فيها، فاشتهر من نعات الخيل امرؤ القيس وأبو دؤاد وطفيل الغنوي والنابغة الجعدي، ومن نعات الإبل طرفة وأوس بن حجر وكعب بن زهير والشماخ، وإن كان أكثر القدماء يجيدون وصفها؛ لأنها مراكبهم؛ وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس لها، ولذلك سمي راعيًا؛ وأما الحمر الوحشية والقسي والنبل فأوصف الناس لها الشماخ، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئًا من شعره في الحمر فقال: ما أوصفه لها! إني أحسب أن أحد أبويه كان حمارًا.... وأما الحمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس، واشتهر أبو نواس وابن المعتز أيضًا بصفة الصيد والطرد، ولا يذكر مع امرئ القيس في منزلته من اخترع التشبيه إلا ابن المعتز، وكان ذو الرمة أوصف الناس لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية، وهو رئيس المشبهين الإسلاميين، وكان يقول: إذا قلت كأن..... ولم أجد مخلصًا منها فقطع الله لساني! وقد اشتهر بوصف الطبيعة الوحشية أيضًا عبيد بن أيوب العنبري، وكان نافرًا من الإنس جوالًا في مجهول الأرض، فاستغرق ذلك شعره "ص50 ج6: الحيوان" ومن الوصافين المتفننين في الأوصاف علي بن إسحاق المعروف بالراجحي المتوفى سنة 352هـ، وأبو طالب المأموني المتوفى سنة 383هـ وله أشياء كثيرة فيما يجري مجرى العويص، واشتهر كشاجم بآلات المنادمة، والصنوبري بالروضيات، وابن خفاجة الأندلسي بأوصاف الطبيعة الحضرية وابن حمديس الصقلي بأوصاف البرك والمياه والأنهار، وسنذكر كلمة عن أوصاف الأندلسيين متى وصلنا إلى تاريخ الأدب الأندلسي إن شاء الله.
والوصف باب من الشعر قلما تجد شاعرًا لا يحسن منه شيئًا أو أشياء، ولكن هؤلاء الذين عددناهم قد ذهب لهم بالأوصاف التي غلبت عليهم الإجادة فيها صيت بعيد وذكر، ولم يكن مثل ذلك لمن جاءوا بعدهم وإن أحسنوا في أشياء كثيرة، إما لأن الإجادة لم تغلب عليهم في نوع دون آخر، وإما لإهمال الأدباء والمؤرخين أن يعينوا لهم مثل تلك الأوصاف. والله أعلم.(3/83)
الشعر الحكمي *:
إذا استصفينا المأثور من شعر العرب ومن بعدهم، وميزنا كل نوع منه بغرضه الذي يجمع جملته كما فعلنا في هذه الأبواب التي نكتب فيها، خرج لنا من ذلك هذا النوع الذي نسميه الشعر الحكمي، وهو المقصور على الدين والفلسفة وما يرمي إلى هذه الناحية، ونحن وإن لم نكن نراه شعرًا خالصًا ولكنا نراه مذهبًا من مذاهب الشعر، ولذلك خصصناه بالتاريخ.
كانت حكمة العرب راجعة إلى وثاقة الحلوم وشدة العقول وفضل المنزلة في تجارب الأيام، فهي حكمة لا تجري على مذهب ولا تدور على نحلة ولا يبلغ بها الزمن مبلغ أحد هذين النوعين بالقياس والاستنباط، كما يكون ذلك في القضايا العلمية وعلى النحو الذي أخذت إليه شرائع الرومان وفلسفة اليونان مثلًا، وإنما كان أساس تلك الحكمة رسوخ الأخلاق فيهم بحكم العادة ونظر كل امرئ لنفسه بحكم الطبيعة، وذلك كان محور دينهم الطبيعي.
لا جرم أنهم صرفوا حكمتهم في الشعر إلى ما يتعلق بالأخلاق والسياسة ولم يبالوا بتقرير مذهب من مذاهب أديانهم ولا أقاموا لظواهر هذه الأديان في شعرهم وزنًا، وقد صرفهم عن ذلك أنهم لم يدرسوا شيئًا من كتب الأديان، وأنهم كانوا يحتقرون هذه الحمراء من الفرس والنبط والروم وغيرهم، وقد كانت النصرانية واليهودية في بعض قبائلهم، فكانت اليهودية في بني كنانة وكندة وبني الحارث، وكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة وبني تغلب وأهل نجران، غير من كانوا في الحيرة ممن يطلقون عليهم اسم العباد، ومنهم عدي بن زيد العبادي "انظر الحيوان ص66 ج7" ففيه أسماء القبائل المحلين ومن كانوا على غير دين مشركي العرب.
وقال الجاحظ في نحو هذا: والمحلون من العرب ممن كان لا يرى للحرم ولا لشهر الحرام حرمة.... إلخ.
وخرج من أهل الملتين شعراء معروفون ومع ذلك تؤثر لهم أشعار دينية على نحو ما تجد في الشعر العبراني مثلًا، إلا أن يكون لذلك سبب تستدعيه طبيعة الشاعر فيغلب على الأسباب الأخرى، والطبيعة دائمًا تقوى أسبابها وتضعف على هذا التقدير، ولم نعثر بعد جهد التفتيش وطول التنقيب إلا على [اثنين] من الشعراء اشتهروا بهذا النوع الديني من الشعر. وهما عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت؛ أما عدي فكان يسكن الحيرة ويجاور الريف، وشعره لإحكام أمثاله مثل في الحكم، ومن مشهوره أبياته في الاعتبار بذهاب القرون وهلاك الملوك، ومطلعه:
أيها الشاعر المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور؟
__________
* قلت: كان نهج المؤلف -رحمه الله- أن يسبق هذا الفصل حديث عن الشعر السياسي، ولكني لم أجد فيما خلف معقودًا لهذا الغرض، وأحسبه لم يكتبه!(3/84)
قال الجاحظ في عدي "ص65 ج4: الحيوان" وكان نصرانيا ديانًا وترجمانًا وصاحب كتب؛ وكان من دهاة أهل ذلك الدهر ... ثم أورد شعرًا له يذكر فيه شأن آدم ومعصيته وكيف أغواه إبليس وكيف دخل في الحية وأن الحية كانت في صورة جمل فمسخها الله عقوبة لها حين طاوعت عدوه على وليه، ومطلع هذا الشعر:
قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا
دعاه آدم صوتًا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا
وهذا هو المذهب الذي قلنا إننا لم نعرف به في شعراء العرب غير اثنين، عدي هذا أحدهما.
وأما أمية بن أبي الصلت فقد كان أعرابيا مدريا، قال الجاحظ: وكان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بادعاء النبوة وهو يعلم كيف الخصال التي يكون بها الرجل نبيا أو متنبيا إذا اجتمعت له. نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة ومعروفا بالحولان في البلاد وراوية "ص117 ج2: الحيوان".
قال ابن قتيبة: وكان أمية يخبر أن نبيا يخرج قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به حسدًا له، ولما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره قال: $"آمن لسانه وكفر قلبه" "ص107: طبقات"؛ وله من الشعر الديني شيء كثير، يقص فيه أحوال الثواب والعقاب وخرافات الأمم ونحو ذلك، وبعضه مذكور في المجموعة المسماة شعراء النصرانية.
وممن يذهب هذا المذهب من العرب غير هذين الاثنين وإن كان ليس مذكورًا بالشعر ولا يتعلق بهما فيه -ورقة بن نوفل، وكان يتناشد مع زيد بن عمرو بن نفيل أشعارًا في التوحيد وعبادة الله، ومنهم قيس بن ساعدة الإيادي الحكيم الخطيب، وكان مذهبه الوعظ والاعتبار، ولم يكن يقص كأمية وعدي؛ لأنه صرف ذلك إلى الخطابة، وهو بها أعرف وأشهر.
ذلك شأن الجاهلية، أما الإسلام فقد مضى الصدر الأول منه والشعراء على سنة العرب، وإنما تتفق لبعضهم الأبيات مما يذكر فيه أمر الآخرة أو تحقيق معنى من معاني الحكمة الأخلاقية ونحو ذلك، حتى نشأت الخلافات الأموية بين علي ومعاوية، وكان شاعر الشام يومئذ كعب بن جعيل، وشاعر العراق النجاشي أحد بني الحارث بن كعب "ص194 ج1: الكامل"، فاستنجد كل منهما بشاعر مصره ودفعاهما إلى التشيع، وكان هذا فيما نعلم أول ما تشيع الشعراء في الإسلام، ثم استبحرت هذه الفتن في الأعقاب واستحرت المفاخرات، فكان من المتشيعين لآل علي الفرزدق وكثير والكميت، فكانوا ينظمون في تفضيلهم ومدحهم وأنهم أحق بالأمر الذي خرج من أيديهم، وكان الكميت شيعيا من الغالية، وكان صاحبه الطرماح خارجيا من الصفرية يتعصب لأهل الشام، ومع ذلك كانت بينهما من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين "ج1: البيان" ثم فشت المقالات وتفرقت الفرق وشاعت المذاهب، فدخل أكثر الشعراء والرواة في غمار أهلها، وسنذكر في بحث الرواية شيئًا(3/85)
عن الرواة* ولكنا نقول هنا إنهم جعلوا يستخرجون من بعض شعر الجاهلية مذاهب كالتي ينتحلونها، فكان أبو عمرو بن العلاء يقول: كان لبيد مجبرًا؛ وكان الأعشى عدليا، وأنشد لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وأنشد للأعشى "ص292: سرح العيون":
استأثر الله بالوفاء والعد ... ل وولى الملامة الرجلا
أما الشعراء فكان غيلان ذو الرمة على ما يقال أول من تكلم في القدر وخلق القرآن في الإسلام، وقيل: أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي "ص201: سرح العيون"؛ وكان رؤبة الراجز من أهل الجبر؛ وقد تحاكم في ذلك مع غيلان إلى بلال بن أبي بردة صاحب القضاء؛ وكان السيد الحميري من المفرطين في التشيع، وهو يقول برأي الإمامية، وكان أبو المحدثين بشار بن برد -على جلالته في الشعر- يسخف شعره بالاعتذار عن إبليس في أن النار خير من الأرض، ونحو ذلك من آراء الزنادقة "ج1: البيان". وكذلك كان سليمان الأعمى أخو مسلم بن الوليد، ثم كان بشار ينكر على حماد عجرد وحماد الراوية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي وسائر إخوانهم في الرأي، وكانوا يتواصلون كأنهم نفس واحدة "ص3 ط1: الحيوان". وكان أبو نواس يجلس لبعض هؤلاء وينظم في سخيف ما يذهبون إليه، وذكر الجاحظ في "البيان": أنه كان لابن عقب الليثي "انظر الأغاني: ص169 ج1 وتصحيح اسم ابن أبي العقب وأنه مجهول لا يعرف ... إلخ" مذهب شعري في الملاحم والمغيبات، وأن أبا نواس والرقاشي كانا يقولان أشعارًا على مذاهب أشعار ابن عقب هذا وينحلانها أبا ياسين الحاسب الذي ذهب عقله بسبب تفكيره في مسألة، فلما جن كان يهذي أنه سيصير ملكًا، وقد ألهم ما يحدث في الدنيا من الملاحم؛ وقد روى في "البيان" "ص7 ج2" قطعة من تلك الأشعار.
وكان أبو العتاهية يتشيع على مذهب الزيدية، وكان مجبرًا، وكان كثيرًا ما يعارض ثمامة بن أشرس بين يدي المأمون، ومن شعراء النحل زرارة بن أيمن مولى بني أسعد بن همام، وهو رأس النميمية "ص39 ج7: الحيوان" وأبو السري معدان الأعمى الشميطي؛ وله قصيدة صنف فيها الرافضة ثم الغالية وشرح مذاهبهم وذكر رؤساءهم "ص98 ج2: الحيوان". ومنهم أبو سهيل بشر بن المعتمر، وكان خاصا بالفضل بن يحيى من البرامكة؛ فإن له قصيدتين ذكر فيها آيا الله في صنعه وخلقه؛ ودل على مواضع الحكمة ومغزى الاعتبار، وصنف في الأولى منهما الرافضة والإباضية
__________
* قلت: هذه العبارة مما يرجح عندي أن تأليف هذا الفصل كان قبل سنة 1911 -أي: قبل الطبعة الأولى للجزء الأول- وكنت أتوهم أن المؤلف فرغ من تأليف هذه الفصول حوالي سنة 1913 بعد الفراغ من طبع الجزء الثاني في "إعجاز القرآن" ولكن في هذه العبارة تنبيهًا إلى أنه قد يكون وضع هذه الفصول جملة ثم جعلها أجزاء من بعد، ويكون تاريخ هذا الجزء هو تاريخ الجزء الأول، ليس بينهما إلا السبق المطبعي.
"ملاحظة: بحث "الرواية والرواة" يشكل الباب الثاني من أبواب الكتاب، وقد ورد في الجزء الأول ص175".(3/86)
والنابتة، وقد رواهما الجاحظ في "الحيوان" "ج6" وشرح منهما ما يختص بالحكمة دون النحلة؛ وكان بشر أروى المعتزلة للشعر، ولكن كل أولئك ومن حذا حذوهم لم يتخذوا الفلسفة والنحلة إلا مذهبًا، وإنما كان شعرهم لسان اعتقادهم فيها ولهذا كان خيرًا لهم لو كانوا على غير ذلك، بخلاف الفلاسفة من شعراء الأندلس -وسنذكرهم في موضع الكلام عليهم- وبخلاف من استعان بالحكمة اليونانية والفارسية في الشعر، كأبي العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، وكالمتنبي والمعري وأبي علي بن الشبل الحكيم البغدادي المتوفى سنة 473هـ وغيرهم، فإنهم إنما وصلوا بالحكمة بين العقل والقلب، وجعلوا لها من الشعر منفذًا بينهما إلى الروح، ولذلك قال بعضهم: لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر.
وكان صالح بن عبد القدوس من الشعراء الفلاسفة، وجميع شعره في الحكمة والأمثال؛ ولذلك عابه الجاحظ عليه وقال إنه لو تفرق في أشعار كثيرة لزانها، وكان مذهبه مذهب السوفسطائية الذين يزعمون أن الأشياء لا حقيقة لها، وأن حال اليقظان كحال النائم؛ وله كتاب سماه كتاب الشكوك، قال فيه: كتاب وضعته من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان!
الشعر الإلهي:
وهو النوع الذي يكون إلهيا محضًا تستخدم فيه المادة الشعرية للرمز عن الحقائق كأشعار الصوفية ومن أخذ أخذهم، والعلماء يسمون طريقة ذلك النظم "طريقة التحقيق" ويقول المتصوفة فيه:
جسوم أحرفه للسر عاملة ... إن شئت تعرفه جرب معانيه
وقد كان بعض العلماء ينكر هذه الشطحات وهو يعتقد بها، صيانة لظاهر الشرع، إلا أن الأدب لا ظاهر له دون حقيقته، فيمكن أن نقول إن هذا الشعر نوع من العلم موزون، وقد سميناه علمًا؛ لأنه لا بد أن يكون مؤولًا لا يقصد ظاهره وإنما تكون له محامل يحمل عليها، كقول الشيخ محيي بن العربي "كان المغاربة يقولون ابن العربي واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام، فرقًا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي "ص404 ج1: نفح الطيب":
يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني
فلو أدرت القول في هذا سنة ما عرفت وجه تأويله، ولكن بعض إخوان الشيخ سأله: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرتجلًا:
يا من يراه مجرما ... ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا!
"ص401 ج1: نفح الطيب".
وكان أصل هذا النوع من الشعر في الأندلس في أواخر القرن الثاني أيام الحكم بن هشام الملقب بالربضي، فإنه كان طاغيًا مسرفًا له آثار سوء قبيحة، وقد كان من قبله أهل تقوى ودين، وكان أهل(3/87)
الأندلس يومئذ كأنهم من بلادهم في مسجد؛ فأوقع الحكم هذا بالفقهاء؛ لأنهم كانوا أشد الناس عليه؛ ولذلك أحدثوا في أيامه إنشاد أشعار الزهد بديا حتى شاعت وألفها الناس، ثم خلطوا على ذلك شيئًا من التعريض بالحكم على جهة الرمز والإشارة، ثقة بفهم الناس عنه؛ "ص13: المعجب" فلما طويت أيامه ولم تبق حاجة إلى التعريض بشخص معين، أطلقوا تلك الرموز وقصروها على الحقائق، حتى ظهرت الفلسفة الإلهية واستعمل أهلها في كتبهم الرموز والاصطلاحات، فاتسع الصوفية بذلك في شعرهم، خصوصًا بعد أن تلقوا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، قال الفيلسوف أبو جعفر بن طفيل في صفة تعاليمه: وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع به إلا من وقف عليها بصيرة نفسه أولًا، ثم سمعها منه ثانيًا، أومن كان معدا لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة، وقد ذكر في كتاب "الجواهر" أن له كتبًا مضنونًا بها على غير أهلها، وأنه ضمنها طريق الحق "ص6: حي بن يقظان" يريد كتبه المشتملة على علم المكاشفة، ولم نعرف قبل هذا الزمن شاعرًا من شعراء الإلهيات الذين ينظمون على "طريقة التحقيق" وإن كان للمعري المتوفى سنة 449هـ شيء من ذلك، ولكنه مكشوف ليس فيه من أسرار المكاشفة شيء، وإنما كان المعري حكيمًا متفلسفًا ولم يكن إلهيا محققًا وإن كان على قدم التجرد في طريقة الفقراء. وكان قبل المعري الحسين بن منصور الحلاج الذي أحرق سنة 322هـ، وينسبون له أبياتًا قليلة على طريق الاصطلاح والإشارة وإن كان ليس من الشعراء كقوله:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
والبيت المشهور:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء!
ولسنا نصحح مثل هذه النسبة، فإن هذا رجل اشتهرت حاله فسهل الحمل عليه، وكان أشعر شعراء القرن السادس في هذه الطريقة وما ناسبها محمد بن عبد المنعم الغساني الجلياني "جليانة: قرية من أعمال غرناطة" المتوفى بدمشق سنة 602هـ، وكان يقال له حكيم الزمان, وأكثر شعره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات والكلام على طريق القوم "ص16 ج2: نفح الطيب" وفي القرن السابع نشأ أكبر شعراء الصوفية الذين تركوا لغيرهم هذا الميراث، وهم الشيخ ابن الفارض المتوفى سنة 632هـ، والشيخ ابن العربي المتوفى سنة 640هـ، وأبو الحسن التستري المتوفى سنة 668هـ "ص410 ج1: نفح الطيب". وابن سبعين المتوفى سنة 669هـ، ولم ينشأ بعد هؤلاء من يساويهم أو يذكر معهم في طريقة التحقيق؛ على أن أشهر المتأخرين بعدهم الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ.
ولم يكن نظمهم مقصورًا على الشعر وحده، بل كانوا ينظمون في المرشح والزجل أيضًا. ولكن ذلك منهم قليل؛ لأنهم إنما يريدن بالشعر المدارسة والحفظ، وأن يكون من أشعار المذاكرة عندهم وأبيات الطرائف.(3/88)
الشعر الأخلاقي والمبادئ الاجتماعية:
قد عرفت ما نريده من الفرق بين الشعر الحكمي والأخلاقي، فهذا الأخير هو ديوان التجارب، وإن في كتاب القلب صفحتين: واحدة يحفظها التاريخ وينساها الاجتماع، وهي التي تخط عليها تفاصيل الحوادث، والأخرى يحفظها الاجتماع وينساها التاريخ، وهي صفحة الحكمة الأخلاقية التي تستخلص من جملة التاريخ، فهذه هي التي تستملي منها النفس معاني الشعر الأخلاقي دائمًا ولذلك تجد هذا النوع من الشعر كثيرًا عند العرب يصورون فيه أخلاقهم تصويرًا طبيعيا لم تخلق فيه صنعة الكلام شيئًا، ويذكرون حكمتهم المستفادة من التجارب، ويدونون نصائحهم التي هي صفوة تلك الحكمة، وذلك هو الذي سماه أبو تمام في حماسته "باب الأدب".
نرى العرب لصفاء فطرتهم وحدة أذهانهم وقوة طباعهم كأنما ينظمون في شعرهم الأخلاقي قضايا الفلسفة التي ذهب في تحقيقها شطر كبير من عمر اجتماع الإنساني، حتى لا تكاد تجد مبدأ من المبادئ الاجتماعية التي قررتها الفلسفة الحديثة إلا ولمثله ذكر في شعر هؤلاء الأعراب، وتأويل ذلك أن هذا الاجتماع الحديث مصنوع لا طبيعي، والفلسفة إنما هي حقائق الطبيعة، فهي تدعو لها أبدًا، ولكون الناس مجتمعين على صورة يجهلون حقيقة ألوانها وأصباغها اختلفوا في الدلالة على ذلك اختلافًا بينًا نشأت منه هذه المذاهب الكثيرة التي ترمي بجملتها إلى غرض واحد، وهو تلوين الصورة الاجتماعية بألوانها التي تصلح لها في الحقيقة حتي تظهر من دقة التناسب وإحكام الملاءمة وسلامة الوضع في صبغ كأنه إلهي؛ فالعرب لما كانوا من صميم البداوة وفي إقليم كأنه بموافقته لنمو العقل أقرب إلى السماء من سواه، كانوا يذكرون الصفات الأخلاقية للفرد والمجتمع فلا يعدون حقيقة الصفة؛ ولو أخذت تلك الصفات اليوم لخرجت عن موضعها إلى أن تكون في اعتبارنا مبادئ؛ لأنها قيلت في حالة طبيعية فكانت صفة تحق، ولما استدار الزمان صارت حقا يوصف؛ خذ مثلًا قول زهير:
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
فمهما أدرت مذهب الاشتراكية، ومهما قلبت آراء علمائه، لا تجد صوابه يخرج عن هذا البيت؛ فلو راعى المكثرون حق من يعتريهم ممن يعملون عندهم ومن هم مادة قوتهم -والحق كلمة جامعة لكل ما يوافق حقيقة المرء- وكذلك لو صار المقلون من أهل السماحة والبذل يتجاوزون عما لا يضر بالحق ولا يريدون من هذا الحق إلا أن يبذلوه في إصلاح أحوالهم حتى لا يأخذهم طمع الإدخار بوهم المزاحمة للمكثرين, لو راعوا ذلك حق مراعاته لبقي أهل المال مهنئين بأموالهم؛ والمقلون مغتبطين بإقلالهم؛ والاشتراكية إنما هي الموصل الذي يشرك هذين الطرفين في الامتزاج بالرضى. ولعل أديبًا أن يستقرئ هذه المعاني في الشعر العربي ويشرحها بالمبادئ الحديثة، فإنه لا يعدم من ذلك كتابًا حكيمًا.
وكان الشعراء من العرب أثبت الناس على أخلاقهم التي يصفونها، ولذلك دلت عليهم دلالة(3/89)
المطابقة، بخلاف الإسلاميين فإنهم مارسوا صفة الأخلاق ومرنوا عليها، حتى تجد للشاعر منهم في الباب الواحد أقوالًا متناقضة، وهم مع ذلك لا يدرسون تلك الأخلاق، بل يتلقون من تجارب غيرهم، ومن الحكمة التي وضحت لهم، ثم يرسلون الشعر في ذلك على أن صنعة دقيقة يستدل بها على لطف الحس وذكاء الفؤاد، ثم لا يعجب من ذلك إلا من يصيب بفطنته موضع الدقة ويقع على مكمن الخاطر، ولذلك لم يكن للشعر الأخلاقي تأثير في الاجتماع الإسلامي، ولم تستمد منه مبادئ ذلك الاجتماع شيئًا؛ لأنهم لم [يداوروا] من السياسة، ولا أرادوا به مكامن الاعتقاد، ولا أجروه مجرى النظر في طبقة من الطبقات؛ وإذا أخرج الكلام على أنه صنعة، نظر فيه الناس على أنهم متفرجون "يقال تفرج بكذا إذا جعل منه لنفسه لهوا".
أما من خالف ذلك من الشعراء بعض المخالفة؛ وحاول أن يجعل كلامه في الأخلاق للناس لا لنفسه، وأن يقرر فيه مبادئ قد درسها؛ ويعطيه من مادة التأثير الاجتماعي، كالمعري في بعض ديوانه "اللزوميات" فإنه يطرح ويجفى؛ لأنه لا يؤتى من قبل الناس وفسولة آرائهم، بل من قبل نفسه أيضًا؛ لأن أحدًا من الشعراء في التاريخ الإسلامي كله لم يترك أن يتخذ الشعر [صفة] تأدبًا أو تكسبًا، ولم يقف أحد منهم شعره أو جزءًا منه على مذهب واحد في السياسة أو الاجتماع يتفنن في شرحه والاحتجاج له والاحتيال في تصوير معانيه وإيراد أجزائها على نحو ما يقتضي "لعصره"، بل تراهم يخرجون أشعارهم مخرج الخواطر والسانحات، وهمهم أن يجمعوا فيها أبوابًا من الحكمة وفنونًا من الأخلاق، ثم يتركوا للناس شأن الاختيار، وإطلاق الاختيار وحده كاف في إضعاف كل مذهب؛ لأن من توخى الإقناع توخى به الحمل عليه.
وذلك هو شعر المواعظ والنصائح والحكم، وهو كثير، وقد اشتهر به أفراد، كصالح بن عبد القدوس، وأبي الشيص، وغيرهما؛ وتهافت به بعض العلماء حتى وضعوا فيه الكتب المستقلة، كسعد بن ليون التجيبي في القرن الثامن؛ وهو من أشياخ لسان الدين بن الخطيب، فقد نظم في ذلك ثلاثة كتب وأورد في بعضها أشياء لغيره، وقد ساق منها المقري -في "نفح الطيب"- قطعة كبيرة "ص302 ج3".
وعندنا أن شعراء الجاهلية لو قدر لهم أن يسخروا الشعر في السياسة والاجتماع الراقي "الديموقراطي" لقلدهم الإسلاميون في ذلك ولبلغوا بهذا النوع مبلغ الكمال، لكن من أين للعرب سياسة الملك ونظام الاجتماع؟ على أنهم مع ذلك لم يهملوا نوعًا من الشعر السياسي، وإن كان قليلًا بينهم لقلة البواعث عليه، كقصيدة لقيط بن يعمر الإيادي التي ينذر بها قومه غزو كسرى إياهم، وكان كاتبًا في ديوانه، ويعلمهم وجه الحزم في تدبير أمرهم وسياسة مجتمعهم واختيار من يلقون إليه المقادة في ذلك، وهي شهيرة متدارسة، وكأبيات سلمة بن خرشب التي أرسل بها إلى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس وذبيان، يذكر فيها لسبيع سياسة القضاء وتدبير الحكم، وقد رواها الجاحظ في "البيان" "ج1" ولا بد أن يكون لهم من مثل ذلك أشياء لم تقع إلينا، والله أعلم.(3/90)
الشعر الهزلي:
وهذا النوع آخر ما تبلغ إليه رقة الحضارة من فنون الأدب؛ لأنه إنما يتخصص به أناس لا يبالون أن يغمرهم سواد الحمقى وأهل المجون، وهم يعلمون أنهم شعراء العامة، وأنهم لا يلجون إلى الخاصة إلا من باب الطبع المنسجم، ومن جهة الذهن المتفكه، وإنما قوام أمرهم الحيلة الطريفة والنادرة المعجبة والكلمة المتهالكة، وهذا كله وإن كان محتاجًا إلى ظرف اللسان، وإلى شدة المعارضة، وإلى نبوغ متميز في القريحة إلا أنه لا يقوم عليه شيء من أمر اللغة، فإذا كان فيها لم يزدها، وإذا سقط منها لم ينقصها، ولذلك ترى هذا النوع أكثر ما يكون في الأمم التي هرمت لغتها، كاللاتين واليونان، ومن أشهر نوابغ اليونان فيه: الشاعر تراس، والشاعر مياندر الذي يقال إنه ألف ثمانمائة رواية كلها قصائد مضحكة، وكان قبل الميلاد بثلاثة قرون، وقد عثروا من زمن قريب في إحدى القرى المغمورة في ضفة النيل على أربع قطع له كانت ضحكًا مدفونًا في الأرض من 2200 سنة.
ولا جرم أنه لم يكن للعرب شعر هزلي في جاهليتهم، لكنهم مع ذلك لم يدعوا التنادر؛ إذ هو شيء في أصل الفطرة وفي مذاهب المعاني، فجاءوا لذلك في شعرهم بنوع من التهكم يستخف الوقور ويرمي إلى الغاية من سياسة الهزل، فيبقى حسرة ولا يذهب ضحكا، كقول بعضهم:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد من ذا، كيف أكلك للضب
وقول المكعبر الضبي في بني العنبر، وكان قومه أغير عليهم فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم "ص49 ج1: الكامل":
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء!
يتهكم بهم ويقول: هذا رجاء غير صادق ولا موقوف عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منهم.
وأكثر ما يكون ذلك عندهم في معاني الهجاء، ولهذا سماه المتأخرون التهكم، والهزل الذي يراد به الجد، وقالوا في الفرق بينهما إن التهكم ظاهرة جد وباطنه هزل، وهو ضد الثاني؛ لأن ظاهره يكون هزلًا وباطنه جد، وقد ورد منه في القرآن قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} .
وقد مر عصر الجاهلية والإسلاميين لا يعدو بهما الشعراء ذلك هزلًا، حتى إذا استبحر الترف وفسدت مرة الاجتماع، وتهالكت طبيعته، جعل الشعراء يتظرفون ويتنادرون ويفتنون في أساليب الهزل؛ لأن ذلك كان سببًا من أسباب معاشهم؛ إذ رأوا الخلفاء والأمراء قد اتخذوا لأنفسهم مقربين ممن يضحكونهم بالنوادر والمجون، شعراء وغير شعراء، كأشعب الطماع، وأبي دلامة الشاعر، وأبي الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع المتوفى سنة 250هـ، وأبي العبر، وأبي العيناء، ومزيد(3/91)
وغيرهم؛ ومن هؤلاء نوع يحكون ألفاظ الناس من الأقطار المختلفة مع مخارج حروفهم، لا يغادرون من ذلك شيئًا، ويحكون ألسنة الدواب والبهائم؛ وذكر الجاحظ من مشاهيرهم أبا ربوبة الزنجي مولى آل زياد، وقال إنه يقف بباب الكرخ لحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق ... "ج1: البيان".
وليس ذلك عجيبًا في مثل طبقة أبي ربوبة، ولكن العجيب أن يكون مثله في الشعراء الظرفاء؛ فقد ذكر الثعالبي في ترجمة أبي محمد بن زريق الكوفي الكاتب الشاعر أنه كان من عجائب الدنيا في المطايبة والمحاكاة وكان يخدم مجلس الوزير المهلبي، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والسامع ويضحك الثكلان "ص142 ج2: بتيمة الدهر"؛ وهذا نوع من التمثيل انفرد به اليوم في أوروبا قوم ربما صور الواحد منهم في نفسه العالم مناطق ولهجات وأزياء.
وقد يكون من البواعث على الشعر الهزلي والتزام هذا المذهب أن يجد الشاعر نفسه لا يقع مع فحول المعاصرين له في شيء، فيسلك هذا المسلك يتميز به بينهم، كما فعل رأس الشعراء الهزليين ابن الحجاج البغدادي المتوفى سنة 391هـ، وهو الذي جعلوه بعد ذلك مقياسًا في الشعر الهزلي؛ ويقال إنه في الشعر كامرئ القيس ولم يكن بينهما مثلهما؛ لأن كل واحد منهما مخترع طريقة وكان مع ذلك من كبار شعراء الشيعة، وعاصره أبو حامد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق المتوفى سنة 399هـ. قال الثعالبي: هو بالشام كابن حجاج بالعراق، وكما فعل أبو عبد الله محمد الوهراني الكاتب، وقد دخل البلاد المصرية في زمن صلاح الدين فرأى بها القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصبهاني، وتلك الحلبة، وعلم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، فتنفق عندهم برسائله الهزلية ومقاماته المشهورة، وسنذكرها في موضعها، وتوفي الوهراني سنة 575هـ.
ويكون من ذلك أيضًا التزام الشاعر مذهبًا واحدًا في الهجاء يريد أن يعرف به ويجعله عرضة ملحه ونوادره، كما فعل ابن سكرة الهاشمي معاصر ابن الحجاج، وكان يقال فيهما: إن زمانًا جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخي جدا، وهو من شعراء المجون والسخف كابن الحجاج، إلا أنه انفرد عنه بهجائه الهزلي في قينة له سوداء يقال لها خمرة، وقد نظم في هجائها عشرة آلاف بيت "ص189 ج2: يتيمة الدهر". وكما فعل إسماعيل بن إبراهيم البصري الحمدوني الشاعر في الطيلسان الذي أعطاه إياه أحمد بن حرب، وكان خليعًا، فسير فيه الحمدوني مائتي مقطوع، في كل مقطوع معنى بديع، حتى ذهب طيلسان ابن حرب مثلًا إلى اليوم، وكان الأصل الذي عمل عليه الحمدوني أنه وقف على أبيات عملها أبو حمران السملي في طيلسانه، وكان قد أخلق حتى بلي، فتهافت بمعارضتها وجعل ذلك له طريقة يعرف بها "ص473 ج2: ابن خلكان".
ومن ذلك أيضًا أن يهزل الشاعر في تصوير حالة من الفقر أو الضعف أو نحو ذلك من الصفات التي يتباين فيها الناس، فكأنه يرمي إلى انتقاد الخطوط والأقسام، كما فعل أبو الشمقمق في ذكر فقره وفقر بيته من الفئران ومصيبة سنوره من ذلك، وساق الجاحظ بعض أشعاره تلك في "الحيوان" "ص82 ج5".(3/92)
وكان عند الأعراب كثير من هذا النوع، وكذلك ترى منه قصائد وقطعًا في شعر المولدين والمتأخرين، وبعضهم خص أكثر شعره بالفحش والتعهر حتى ضربوه مثلًا فنحن نضرب عنه صفحًا.
وجاء بعد هؤلاء علي بن عبد الواحد صريع الدلاء وقتيل الغواني المتوفى سنة 412هـ، فسلك مسلك أبي الرقعمق، ونبز بلقب ذي الرقاعتين، وله مقصورة في الهزل يعارض بها مقصورة ابن دريد المشهورة، وابن الهبارية الملقب بنظام الدين البغدادي المتوفى سنة 540هـ، قال العماد الكاتب في "الخريدة": إنه غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك في قالب ابن الحجاج وسلك أسلوبه وفاقه في الخلاعة، قال: والنظيف من شعره.... في غاية الحسن، ثم كان بعده الشاعر المتصرف في أكثر فنون الهزل أبو الحكم الباهلي الأندلسي المتوفى بدمشق سنة 549هـ، قال المقري: وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة، وله ديوان شعر سماه "نهج الرضاعة لأولى الخلاعة"، ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري، ونصر الهيثمي وغيرهما.... ورثى فيه أنواعًا من الدواب ومن الأثاث وخلقًا من المغنين والأطراف، قال: وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة "ص17 ج2: نفح الطيب" فانظر ما عسى أن يكون هذا الشرح؟ ولأبي الحكم هذا مقصورة هزلية عارض بها مقصورة ابن دريد أيضًا، ومثل هذه المعارضة كثيرة للقصائد المعروفة يتعلق عليها أهل الظرف والملح، وقد رأيت شاعرًا من شعراء الحلبة التي سبقت وقتنا هذا وغاب عني اسمه، تناوله ألفية ابن مالك فقلبها كلها تطفلًا ونقل ما فيها من أحكام اللسان على الأضراس والأسنان، وكان يفتخر دائمًا بهذا الطبخ!
وأورد المقري أيضًا قصيدة من هزل الأندلسيين ومجونهم قال إنها منسوبة لأبي عبد الله بن الأزرق وقد ذكر فيها صوت الصفع وصوت الضحك، كما هو، على نحو ما صورت العرب أصوات الأشياء كقولهم: "جرت الخيل فقالت حبطقطق" ونحو ذلك، والقصيدة متشعبة الفنون "ص193 ج2: نفح الطيب".
ثم نبغ محمد بن دانيال الموصلي الحكيم المتوفى بمصر سنة 608هـ قال فيه الصفدي: هو ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره، وله غرائب يتناقلها المصريون عنه من النكت والنوادر؛ وتقي الدين بن العربي المتوفى سنة 684هـ وهو صاحب القصيدة الدبدبية الشهيرة التي جمعت فنونًا من الهزل، وقد ذكرها العاملي في "الكشكول".
وبالجملة فقلما تجد شاعرًا قد نضجت قريحته ونفذ خاطره في أسرار الأشياء إلا وله في مطارح نظره شيء من الضحك يخرج تهكمًا واستهزاء، فكأنما تكشف له الطبيعة عن حقيقة تركيبها على ما خلقها الله، فكلما قارن بها هذا الوضع الاجتماعي المصنوع رأى تركيبًا مضحكًا؛ ولولا ذلك لمحقت مادة الانتقاد، والانتقاد قوة إلهية في قريحة الشعراء؛ فإذا أردنا بهزل القرائح هذا المعنى الجدي فالشاعر الذي لا يكون فيه هذه القوة يشبه أن يكون على نقص تركيبه في نظر الحكيم المتأمل، كائنًا من الكائنات المضحكة أيضًا.
أما إذا أردنا المعنى العام وهو التطرف في الانتقاد بمقدار ما يتطرف المتبسم إلى القهقهة أو(3/93)
المجون، والسخف أو العمل في صناعة الضحك وتركيبه في النوادر والملح حتى تكون قابلة للانفجار ضحكًا.... فذلك الذي جئنا بمساقه، وهو عند العرب كما علمت كثير في جهتي المجون والانتقاد، قليل في جهة المطايبة والإضحاك، لاستغنائهم عنه بالنوادر، ولمخالفته فطرة الشعر فيهم.(3/94)
الشعر القصصي:
المراد بهذا النوع ما يسميه الإفرنج epic، وهو عندهم ما تروى فيه الوقائع والحوادث على طريقة الشعر، ما لا يخلو من الغلو والإطراء، حتى يتميز عن التاريخ البحت؛ والنظم فيه قديم في الأمم التي اغتذى خيالها بالدين والعادات كالمهابهاراتا عند الهنود، والأوديسا عند اليونان، والإنياذا عند الرومان، وكذلك نظمت فيه شعراء الأمم المتأخرة كالفرنسيين والألمان والطليان والإنكليز، وعندهم في ذلك الملاحم المأثورة "ذكرت هذه اللفظة في باب الشعر الحكمي، وقد استعملها الجاحظ في الحوادث والوقائع التي يتضمنها الشعر، ثم نقلها أدباء المغاربة لما يقارب في المنظوم العامي معنى الشعر القصصي".
وللفرس والترك في تاريخهم الإسلامي منظومات من هذا النوع، أشهرها شاهنامة الفردوسي، وشاهنامة الشاعر التركي الملقب بالفردوسي الطويل، قال في "كشف الظنون": إنه نظمها في مليون وستمائة ألف بيت، وكتبها في 330 مجلدًا، فلما عرضت على السلطان بايزيد العثماني أمر بانتخاب ثمانين مجلدًا وإحراق الباقي، فترك المؤلف بلاد الروم وذهب إلى خراسان فمات فيها كمدًا.
وفي كل ذلك شرح طويل لا موضع لبسطه هنا، ونحن إنما نتكلم عن العرب خاصة، ولقد حار المتأخرون الذين كتبوا في تاريخهم وآدابهم عندما ألموا بذكر هذا النوع والتمسوه في أشعارهم ثم قطع بهم دونه, كيف يعللون ذلك وكيف يتأولونه؛ فمنهم من زعم أن العرب نظموا فيه كثيرًا وضاع ما نظموه، فلم يبق لعهد التدوين والرواية إلا القليل مما ذكرت فيه أخبار الحروب؛ ومنهم من رجع إلى أبعد من ذلك وتعلق بذنب التاريخ فزعم أن سفر أيوب في التوراة ليس إلا منظومة غربية نقلت إلى العبرانية ولحق أصلها بدفائن العدم، والكلام في هذا المعنى لا يحمل على التاريخ، فإن حمل عليه خطا به إلى الخطأ؛ لأننا لا نتصور أن العرب خلقوا من فطرتهم شعراء ينحتون الأوزان ويؤلفون الكلام على هذا النحو الذي وصل إلينا، بل ذلك شيء أوجدته الحاجة إليه في عصر يعينه تأريخ الاجتماع كما أشرنا إليه من قبل، ولو ذهب عنا تاريخ الأندلس مثلًا ثم رأينا بعض الموشحات أكنا نزعم أن ذلك النمط قديم في عرب الجاهلية ونغفل دلالة اللغة التي نظمت بها الموشحات وحالة الاجتماع التي تشير إليها؟
ثم إن الرواة الموثوق بهم والعلماء "المفتشين" كالجاحظ وغيره يقطعون على الجزم بأنه لم يضع من شعر الجاهلية منذ جودوه على كثرة القبائل، ولا من أرجازهم، شيء كثير؛ والجاحظ يكرر هذا المعنى في مواضع من كتاب "الحيوان"، والتكرار أبلغ في التوكيد، فلو كان في طبيعة اللغة وحالة الاجتماع ما يدعو إلى نظم الوقائع الكبرى لما أغفلوه ولا ذهب عن الرواة خبره؛ وفي أيدينا أثر مما يشبه ذلك وهو قاطع في الدلالة التاريخية التي تؤخذ منه على أنه قائم بنفسه وأنه نوع صحيح الكفاية لا تدعو الحاجة لأكثر منه، والحاجة دائمًا أم الاختراع، وهذا هو الذي خصصناه بالكلام.(3/95)
إذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يجمع من التاريخ ويحفظ من الأخبار، فذلك موجود في أشعارهم، ولكنهم لم يطيلوها إطالة الإلياذة وغيرها؛ لأن ذلك يقتضي له عمل من النظم وضرب من التأليف المقصود لا يتم حسنه لا بالتنسيق وسياسة الألفاظ واستكراه المعاني واقتسارها، ثم إحكام اللحمة بين فصل وفصل بين قطعة وقطعة، ثم تحكيك الألفاظ وتصفية الأسلوب واستيفاء صنعة التأليف، ولا يكون ذلك جميعه إلا بالصبر والمطاولة ورصد الأوقات التي تكون أجم للنشاط وأصفى للخواطر؛ ولو أن في العرب من انقطع لهذا العمل لهجنوا صنيعه ورموه بالعي ولتركوه مثلًا وآية؛ لأن الشعر فيهم عند أسبابه التي ذكرناها فيما تقدم، وتأريخ البديهة والروية معروف أجمع عليه الرواة، ولم يسقط بعد طبقة المصنعين -كزهير والنابغة- شيء من الشعر، وهذا النوع لا يتفق على الارتجال أبدًا ولا بد فيه من الصنعة، فلو كان مما تدعو إليه الحاجة لقاله مثل زهير والنابغة، ولكنهم لم يقولوه بإجماع الرواة، فدل ذلك على أنه ليس من حاجة اجتماعهم.
ووجه آخر، وهو أن العرب لا يطيلون أشعارهم إلا في المواقف وفي أيام الحفل، كما فعل الحارث بن حلزة في طويلته، وهي أقرب دليل على الشعر القصصي ومنزلته وأسبابه عندهم، وسيأتي الكلام عن سببها في موضعه؛ ثم إن طبيعة لغتهم تأبى الإطالة إلى أكثر مما تبعث عليه حاجة المفاخرة والمقارعة؛ [لأن] البلاغة فيها مبنية على الحذف أو الإشارة والإيجاز والاكتفاء من المعنى باللمحة الدالة ومن القصة بالمثل المعروف، ثقة بفهم بعضهم عن بعض، ثم هم إنما يتفاخرون [على هذه السنة] وبهذه البلاغة، فلو أنهم ابتلوا بمفاخرة اليونان أو الرومان مثلًا لاحتالوا في نوع آخر من الشعر يبسطون فيه اللغة ويمدون معاني الخطاب؛ لأن مفاخرة القبيلة للقبيلة إنما تكون بمعاني من تاريخ الاثنتين، ولكن مفاخرة أمة لأمة لا تكون إلا بتاريخ كلتيهما دون بعض معانيه، كما فعل الشعوبية والعرب، ومن تدبر طرق الخطاب التي جاء بها القرآن وهو أبلغ ما يمكن أن تصل إليه العربية، وجده يوجز في مخاطبة العرب ويكتفي بأيسر إشارة وأدنى لمحة، فإذا خاطب اليهود بسط الكلام وفرع منه وكرر بعض المعاني بزيادة في بعضها عن بعض، فكذلك كان يفعل العرب.
وإذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يحمله من الخرافات أو القصص الموضوعة، فهذا أيضًا قد نظم فيه العرب، ولكنهم لم يفردوه بالقصائد ولم يطيلوه إطالة بالغة، لذهاب معنى التقديس من عقائدهم وعاداتهم، فليس لهم آلهة ولا أنصاف آلهة ولا أساطير من هذا القبيل على نحو ما كان عند الهنود واليونان والرومان، وإنما كانوا يتناقلون من ذلك أشياء تناسب طبيعتهم ومذهبهم الاجتماعي، كالقصص الموضوعة على ألسنة الحيونات والجمادات وبعض الخرافات المادية، فهذه كلها نظموها في شعرهم على طريقة المثل كما فعل اليونان، لا على طريقة التاريخ كما سنبينه.
يخرج من ذلك أن الشعر القصصي -بالمعنى المصطلح عليه- لم يكن في طبيعة العرب ولا هو من مقتضيات اجتماعهم، فهم لم ينظموه في جاهليتهم قطعًا، ولم ينظمه من بعدهم لوقوفهم عند حد التقليد كما أشرنا إليه مرارًا فيما سبق، أما ما كان من ذلك عند الجاهليين والإسلاميين فنحن ذاكروه فيما يلي:(3/96)
قد تتبعنا أشعارهم وتقصصناها في دواوينهم ودرسنا أكثر ما استخرجه العلماء، ومنها شواهد وأمثلة على الأخبار والعلوم، ثم اعتبرنا ذلك وتدبرناه فلم نرهم يقصون في شعرهم إلا في مواضع معدودة.
أولًا: إذا كانت القصة ترمي إلى خلق من الأخلاق، كالوفاء والغدر والحفيظة ونحوها، فتكون صبغًا من أصباغ الشعر يعطيه لونًا ثابتًا من ألوان الحفيظة التي يرمى الشاعر إلى تأييدها، ولا أثبت في ذلك من لون التاريخ؛ ومن هذا النوع قصص الحارث بن حلزة في طويلته. وقد يكون في القصة من هذا النوع مواضع تصلح أن تبنى عليها المعاني الكثيرة في الأخلاق فيتجاوزونها ويختصرون القصة بضرب من الإشارة إليها، ثقة بالفهم عنهم، كأنهم يريدون أن يجعلوا القصة كلها معنى واحدًا من معاني الشعر، كقول جابر بن حني التغلبي: "ص42 ج3: الحيوان".
ولسنا كأقوام قريب محلهم ... ولسنا كمن يرضيكم بالتملق
فسائل شرحبيلًا بنا ومحلما ... غداة نكر الخيل في كل خندق
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مغضبًا ... فأمسك من ندمانه بالمخنق
وعممه عمدًا على السيف ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة مخفق
والقصة مشهورة وهي من مفاخر العرب*؛ فكأن جابرًا يقول: أنا وإياك فيما تريده من التملق كابن كلثوم فيما أراده عمرو بن هند، فجعل القصة معنى من معاني شعره واقتصر منها على ما يؤدي غرضه، فذكر الباغي والمبغي عليه وعاقبة البغي؛ وترك ما وراء ذلك للأسماء التي تنبه إليه الذاكرة.
ثانيًا: إذا كانت القصة ذريعة لجلاء صفة من الصفات التي يريدون تحقيقها، فإنها حينئذ تكون ضربًا من التمثيل الذي يقرب الحقيقة ويكشفها للعقل، كأبيات النابغة في بعض اعتذاره للنعمان "ص 67 جد3: الحيوان":
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
يحفه جانبا نيق ويتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فإن ظاهرها يؤدي معنى من القصص، ولكن باطنها يؤدي إلى غرض لا حيلة في إبرازه بغير هذا الوضع، فإنه أراد أن يصور للنعمان اضطراب أمره، وأن ذنبه مظنة الخطأ في الحكم لما فيه مما يثير الحمية ويهيج الكبرياء، ثم يستنزله إلى العفو والصفح والنظر فيما أتاه بالعقل لا بالقلب، وأن ذلك أحمد له وأليق بموضعه من الفضل والتمكن، فصور له هذه الفتاة تحزر طيرًا، والطير أخف من غيره،
__________
* قلت: انظر الأغاني ج9 ص176.(3/97)
ثم جعله حمامًا، والحمام أسرع الطير، ثم جعله كثيرًا؛ لأنه يكون أكثر اجتهادًا في السرعة إذا كثر عدده، وذلك أنه يشتد طيرانه عند المسابقة والمنافسة، ثم لم يرض بذلك حتى جاء بما يدعو إلى منتهى السرعة الممكنة فقال:
"يحفه جانبًا نيق ويتبعه"
، وذلك أن الحمام إذا كان في مضيق من الهواء كان أسرع منه إذا اتسع عليه الفضاء، فشدد الأمر وضيقه على الفتاة كما ترى، بما يقيم لها ألف عذر إن اخطأت في الحساب، ثم لم يكفه أن يذكر مع ذلك أنها أصابت، بل جعل إصابتها مثلًا في الفطنة، إذ عبرت في تلك الحالة عن تسع وتسعين بمجموع ونصفه أي: 66 و33 فهذه غاية البيان، وإذا لم تكن القصة من وضع النابغة وكانت صحيحة النسبة إلى زرقاء اليمامة، فلا شك عندنا في أن النابغة قصد منها هذا التصوير بعينه، لا عجب مع هذا أن يكون من أهل الصنعة والتنقيح. ولا يشترط أن تكون القصة في هذا النوع تاريخية، بل ربما وضعها الشاعر كقول بعضهم في صفة صائد يعنيه بقصة معيشته وحياته، والضمير في البيت الأول راجع للصيد:
أتيح له طلح أذاه بكفه ... خنوف وأشباه تخيرن من حجر
أبو صبية لا يستدر إذا شتا ... لقوحًا ولا عنزًا، وليس بذي وفر
له زوجة شمطاء يدرج حولها ... فطيم تناجيه، وآخر في الحجر
"الأبيات ص140 ج4: الحيوان"
فقد بالغ في صفة هذا الصائد بالتوحش والقوة وحسن الإصابة، وذكر كل ما يدل على انفراده بالكدح، ليكون أقوى له وأبلغ في الاعتماد؛ إذ زوجته شمطاء، وأولاده فطيم وآخر في الحجر، ثم وصف انفراد قلبه كذلك بما شوه من عجوزه، حتى لا يكون فيه موضع للرقة على الحيوان، وليس يتعين أن يكون هذا الصائد كذلك، ولكن صفة الرمية النافذة اقتضت هذه القصة.
ثالثًا: إذا كانت القصة خرافة من الخرافات، فيضربونها مثلًا لتوكيد الحقيقة، وأكثر ما يكون ذلك في الخرافات الموضوعة على ألسنة الحيوان، وهي شائعة في الأعراب، ومثلها في كل أمة، ولها في أكثر الأمم شعراء يتفردون بها، وأشهرهم في المتأخرين لافونتين الشاعر الفرنسي، ومن هذا النوع قول النابغة في هذا المثل البديع:
أليس لنا مولى يحب سراحنا ... فيعذرنا من مرة المتناصره
"الأبيات في خرافة الحية وحليفها ص68 ج4: الحيوان، وص11: حسن التوسل".
وقول الهذلي:
وإخال إن أخاكم رعنانة ... إذ جاءكم بتعطف وسكون
"الأبيات في خرافة النعامة التي ذهبت تطلب أذنين فعادت صلماء، ص107 ج4: الحيوان".
وقوله ابن هرمة في خرافة الضب والضفدع:
ألم تأرق لضوء البر ... ق في أسحم لماح
"الأبيات ص38 ج6: الحيوان"(3/98)
ومن أراد أن يقف على بعض خرافات الأعراب فعليه بقصيدة الحكم بن عمرو البهراني، وكان أتى بني العنبر بالبادية فنفوه إلى الحاضرة، فجعل يتفقه ويفتي فتيا الأعراب، وكان مكفوفًا دهريا، وقصيدته كلها ظريف غريب، وكلها باطل، والأعراب تؤمن بها أجمع، وقد رواها الجاحظ في "الحيوان" "ص24 ج6" وشرحها شرحًا مطولًا.
وقد وقفنا على نوع غريب من الشعر القصصي كنا نظن أن العرب لم يقولوا فيه، وذلك محاورة الحيوان ومساءلته، في نظم قائم بنفسه وعلى نمط فات المتأخرين الذين عربوا مثل هذا الشعر عن اليونان والفرنسيين وغيرهم، فإنهم ينظمون ذلك شعرًا مزاوجًا من الرجز، يستقل كل بيت منه بقافيتين، ولكن هذا الشاعر أطلق القوافي في رجزه، فهو يغيرها عند انتقاله من معنى لمعنى مباين؛ ولا جرم أن الشعر القصصي لو نظم على هذا النحو لأمكن منه ما ظنه الأدباء غير ممكن، أما الأرجوزة فهي عن أبي زياد الكلابي، قال: أكلت الضبع شاة رجل من الأعراب، فجعل يخاطبها ويقول:
ما أنا يا جعار من خطابك ... علي دق العصل من أنيابك
"الأبيات ص151 ج6: الحيوان"
أما الأساطير الدينية فليس في العرب من يتعمل لنظمها غير أمية بن أبي الصلت، لما مر من شأنه في باب الشعر الحكمي، وله من ذلك أشياء مروية، كقصة سفينة نوح، وقصة الحمامة التي بعثها ترتاد في الأرض موضعًا يكون مرفأ للسفينة بعد أن بعث الغراب فوقع على جيفة ونحو ذلك؛ ومما نظم أمية من خرافات الأعراب خرافة الغراب والديك التي يقولون فيها إن الديك كان نديمًا للغراب، وإنهما شربا الخمر عند حمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن ورهن الديك، فخاس به ولم يرجع، ولذلك ذهب الغراب مطلقًا في الأرض وبقي الديك محبوسًا عند الناس؛ ولكن نظم أمية في هذه المعاني لا يرمي إلى شيء غير معنى القصص، كأنه لا يريد من الشعر إلا أن يكون دليلًا على علمه وترشحه للأمر الذي يحدث به نفسه كما سبق.
وقد نظم بعض المولدين في الشعر القصصي بما يقارب المعنى المصطلح عليه. من ذلك قصيدة محمد بن عبد العزيز السوسي من شعراء "اليتيمة"؛ قال الثعالبي فيه إنه أحد شياطين الأنس، يقول قصيدة تربي على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، وقد أورد منها قطعة "ص237 ج3: يتيمة الدهر" ونظم المتأخرون في السيرة النبوية خاصة، وأشهرهم في ذلك حكمة وإحكامًا، الإمام شرف الدين البوصيري، وشهرة قصيدتيه البردة والهمزية قد ملأت الدنيا.(3/99)
الشعر العلمي *:
قد علمت أن الشعر كان مستودع علوم العرب وكتاب تجاربهم وحكمهم، فليس هذا الذي نريده بالشعر العلمي، ولكنا نريد القصائد التاريخية أو العلمية التي جاءت في حكم الكتب، وكذلك الكتب التي نظموها فجاءت في حكم القصائد، وهو ما يعبر عنه المتأخرون بالمتون المنظومة، كألفية ابن مالك وغيرها مما يجمع مسائل الفنون وضوابطها، وليس من عالم في هؤلاء إلا وله شيء قل أو كثر نصيبًا مفروضًا.
ونحن نريد أن نتكلم هنا عن أصل هذا النوع وأقدم ما وقفنا عليه من أمثلته التي احتذاها المتأخرون، وهم مجمعون على استعمال هذا النمط من الرجز الذي يستقل فيه كل مصراعين بقافية، حتى لقبوه بحمار الشعر لسهولة الحمل عليه، ثم هم مع ذلك التهافت لا تكاد تجد فيهم من يعرف اسمه عند المتقدمين؛ والعرب أنفسهم لم يضعوا له اسمًا لم يأت في مشهور أراجيزهم منه شيء، ولم نقف منه عندهم إلا على مثال واحد، وهو ما ذكره الخطيب التبريزي في شرحه على تهذيب الألفاظ "ص332" من أن رجلًا من هذيل أقبل إلى عمر بن الخطاب وهو جالس فأنشده شعرًا يتجرم فيه على أبيه ويستظهره عليه، فبعث عمر إلى أبيه فدعاه، فقال: ماذا يقول ابنك؟ زعم أنك نفيته. فقال: يا أمير المؤمنين، غذوته صغيرًا وعقني كبيرًا، أنكحته الحرائر، وكفيته الجرائر، فأخذ بلحيتي وأظهر مشتمتي:
شاهد ذاك من هذيل أربعة ... مسافع وعمه ومشجعه
وسيد الحي جميعًا مالك ... ومالك محض العروق ناسك
وهذا الرجز كما تراه إنما انساق مع الكلام واستجر للحكاية، فإما أن يكون بعض ما يتفق من أحاديثهم العامة وأهملوا حفظه وروايته؛ لأنه في سبيلها، وإما أن يكون شيئًا جرى على لسان ذلك العربي؛ وعلى أي الوجهين فما كان ليروى لولا أنه جاء تابعًا للشعر الذي قبله؛ وفيه شاهد من شواهد اللغة فحفظوه ليساق مع الحديث.
ثم جاء بشر بن المعتمر الذي مر ذكره في الشعر الحكمي، وكان من أروى المعتزلة للشعر، فبنى على هذا الأصل أرجوزة طويلة ذكر فيها المل والنحل وضرب الأمثال وأخذ في قواعد مذهبه. ويظهر من كلام الجاحظ أن هذه الأرجوزة قد رفعت إلى الناس وذهب لها صيت، وقد ذكرها مرتين في كتاب "الحيوان" ونقل قطعة من أمثالها "ص80 ج4: الحيوان" وقطعة أخرى في ذكر فضل علي على الخوارج "ص155 ج6" وهو في كل مرة يقول: قال بشر بن المعتمر في شعره المزاوج. وهذه التسمية أليق ما يسمى به هذا النوع من الأراجيز، ولا بد أن تكون هذه الأرجوزة الأولى من نوعها،
__________
* قلت: كان الترتيب أن يكون قبل هذا الفصل مبحث عن "شعر الترقيص" ولكنا لم نعثر به.(3/100)
لأن الجاحظ نسب هذا النوع إليه وعينه به وكان يكفي أن يقول: قال بشر فقط، ولأنه قد ظهر قبل بشر شعراء نظموا في أمثال هذه المعاني، ولكن على طريقة الشعر المقفى، ولم يرد لواحد منهم شيء من المزاوج، وكان أسهل عليهم لو عرفوه؛ وقد اشتهر هذا النمط بعد بشر، ونظم فيه ابن المعتز في أواخر القرن الثالث كتابه "بشر الإمام" في أرجوزة طويلة مثبتة في ديوانه، ثم كان حذو المتأخرين في المتون بعد ذلك على منظومة الإمام محمد بن عبد الله بن مالك المتوفى سنة 672هـ علامة النحو واللغات الغريبة والآية في حفظ أشعار العرب، وهذه المنظومة هي الألفية الشهيرة في علم النحو، تبع فيها ابن معطي، قالوا: ونظمه أجمع وأوعب، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب "ص432 ج1: نفح الطيب". ولابن مالك منظومات أخرى غير الألفية، ولكن هذه هي أشهر المتون المنظومة، يكاد ذلك يكن إجماعًا.
أما الشعر الذي تنظم فيه الضوابط العلمية لسهولة حفظها، فأكثر ما يكون قطعًا وأبياتًا قليلة، والأغلب فيه أن لا يكون مزاوجًا، وقد وقفنا على مثال منه عند العرب، وهو قول طفيل الغنوي "يصف كيف تزجر الخيل فجمعه في بيت واحد" هكذا قال المبرد في "الكامل"، وقوله دليل على أن نظم الضوابط لم يكن معروفًا إلى زمنه، وإنما هو مما أحدثه المتأخرون:
وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها وهلا واضبر وقادعها هبي
وهذه كلها كلمات تزجر بها الخيل، ولم يتسع البيت للفظتين من هذا القبيل؛ هما هقب وهقط "ص161 ج1: الكامل".
والمتأخرون من العلماء الذين يأبون أن يتركوا شيئًا غير متروك إلى أصله يزعمون أن أول من نظم المتون العلمية هو هرمس الحكيم الذي يزعم قوم من الصابئة أنه إدريس عليه السلام؛ ويقولون إنه أول من نظر في الطب وتكلم فيه وصنف لأهل زمانه "كتبًا بأشعار موزونة" بلغتهم في معرفة الأشياء العلوية والأرضية "ص138: سرح العيون".
هذا في نظم المتون والضوابط، أما الشعر الذي يحمل معاني التاريخ وأنواع الفنون على غير تلك الطريقة فإنما يجيء به المولدون على جهة الفخر بما يضمنونه، كقصيدة رياح بن سنيح الزنجي مولى بني ناجية، وكان فصيحًا، فلما قال جرير:
لا تطلبن خئولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالًا
تحرك رياح فذكر أكثر من ولدته من أشراف العرب في قصيدة مشهورة معروفة ومنها البيت السائر:
إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأجبالا
يريد طالت الأجبال فليس تنالها "ص8 ج2: الكامل". ومن هذا النوع القصيدة الحميرية التي نظمها نشوان الحميري صاحب "كتاب شمس العلوم"، وقد نشرها بعض المستشرقين "تاريخ العرب" وقد عد فيها من ملكوا من الحميريين وافتخر بقومه هؤلاء وصارت هذه القصيدة اليوم عند الباحثين في التاريخ العربي القديم لا يقاس بها شعر شاعر، لما فيها من الأسماء التاريخية.(3/101)
وقد ينظمون ذلك الشعر على جهة الفخر بالنظم نفسه وقوة التصرف كما فعل أبو العباس الناشئ المعروف بابن شرشير، وهو الناشئ الأكبر وكان متبحرًا في عدة علوم، وهو في الشعر من طبقة البحتري وابن الرومي وأضرابهما، قال ابن خلكان: وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وتوفي سنة 293هـ؛ فلو أنه جعل هذه القصيدة في فنون من التاريخ والقصص ونحوها، لما خلا الشعر العربي إلى اليوم من النمط القصصي الذي نفاخر به الإلياذة وأمثالها في كل شعر غير عربي.
وكذلك فعل أبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة 593هـ في نظم كتابه "شذور الذهب في صناعة الكيمياء"؛ وقد قالوا فيه: إن لم يعلمك صنعة الذهب علمك صنعة الأدب؛ وقيل في الجياني: شاعر الحكماء وحكيم الشعراء.
ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، توفية للفائدة، كتب الحكمة والأمثال التي نظمها المولدون لتسهيل حفظها ومدارستها؛ وأهم هذه الكتب كليلة ودمنة الذي عربه ابن المقفع؛ فقد نظمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، ونظمه أيضًا ابن الهبارية البغدادي، وسمى كتابه "نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة"، وكلا الشاعرين مر ذكرهما؛ وكذلك نظمه الأسعد بن مماتي المصري ناظر الدواوين بالديار المصرية المتوفى سنة 606هـ؛ ولابن الهبارية أيضًا كتاب "الصادح والباغم"؛ نظمه على أسلوب كليلة ودمنة؛ وهو أراجيز في ألفي بيت نظمها في عشر سنين؛ ولم نذكره في الشعر القصصي؛ لأن هذا الموضع أليق به؛ ومن منظومة السير أرجوزة ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، في أخبار الملك الناصر صاحب الأندلس؛ وسيرة صلاح الدين التي نظمها الأسعد بن مماتي المذكور؛ وذلك في الجملة ليس من الشعر، ولكنه نوع مما أخذنا في تاريخه، فكان لا بد من الإشارة إلى بعض أمثلته في التاريخ.(3/102)
الفنون المحدثة من الشعر:
ذكرنا تاريخ الشعر وأفضنا في مناحيه، وبقي علينا تاريخ هذه الفنون التي أحدثها البلديون، وهي الموشح، والزجل، والدوبيت، والمواليا، والكان وكان، والقوما، وهذا الكتاب وإن كان ليس فيه متسع للفنون التي خرجت بها آداب اللغة الملحونة، ولكنا سنلم بها إلمامًا، ونتجوز في ذلك بعد أن نتكلم على الموشح مقتصرين على مبتدأ خبرها، فإن لها طرقًا ورجالًا؛ إذ هي آداب لغة منفردة يتكلم بها شعراء الناس، واستيفاء ذلك هنا يعد من تداخل التواريخ، وهو في رأينا دليل على فساد النظر وسوء الاحتمال لهذه العلوم؛ فلو أن مؤلفًا كتب في تاريخ لغة العامة وآدابها، ثم بسط في كتابه الكلام بأن يدل فضل اطلاعه على فساد صنعته في تأليف الكتاب، وكذلك ليس خلط الأعداد وهي مادة الحساب، مما يعد في شيء من صحة الحساب.(3/103)
الموشح
اختراعه
...
الموشح:
ويقال له التوشيح أيضًا، والذي نراه في أصل هذه اللفظة أنها منقولة عن قولهم: ثوب موشح، وذلك لوشي يكون فيه، فكأن هذه الأسماط والأغصان التي يزينونه بها من الكلام في سبيل الوشي من الثوب، ثم صارت اللفظة بعد ذلك علمًا؛ إلا أن يكون الأندلسيون قد أخذوا هذه التسمية عن المشارقة، فتكون منقولة عن التوشيح الذي عده قدامة بن جعفر في نقد الشعر من أنواع ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وجرى عليه أهل البديع، فيكون اشتقاقها من معنى الوشاح كما نصبوا عليه؛ لأنهم عرفوا هذا النوع بأن يكون معنى أول البيت دالا على قافيته، فينزل فيه هذا المعنى منزلة الوشاح، وينزل أول الكلام وآخره محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما.
اختراعه:
قال ابن خلدون في أصل استحداث هذا الفن: "أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا سموه بالموشح ينظمونه أسماطًا أسماطًا وأغصانًا أغصانًا.... واستظرفه الناس جملة، الخاصة والكافة؛ لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم من معافر الفربري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب "العقد"، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية..... إلخ".
وعبادة هذا توفي سنة 422هـ، فالذي يفهم من كلام ابن خلدون أحد معنيين: إما أن يكون مقدم بن معافر شاعر الأمير عبد الله [في القرن الثالث] هو الذي سمى هذا النوع بالموشح حين اخترعه، فيكون قد بقي إلى زمن عبادة لم ينبغ فيه أحد، ويكون الأندلسيون في القرن الثالث "قد كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية" وإما أن تكون هذه التسمية قد أحدثها المتأخرون من زمن عبادة، وزمنه أرقى عصور الشعر في الأندلس، وكلاهما خطأ، وذلك مما وهم فيه ابن خلدون؛ لأنه إنما ذهب كعادته إلى التعليل، فظن أن استحداث هذا الفن من فضل القوة وإتقان الصناعة، وذلك لا يكون إلا على ما وصف، ولكن الشعر لم يكن قد بلغ في الأندلس ذلك المبلغ في القرن الثالث كما سنفصله متى انتهينا إلى الكلام على الأدب الأندلسي، ولو كان كما زعم ابن خلدون لحفظوا اسم مقدم بن معافر، وإننا على طول ما عنينا من نصب البحث ومطاولة التعب في التنقيب، وقد قرأنا لتهيئة مواد هذا الكتاب حتى لم نغادر كتابا في الأدب والتاريخ بأنواعه لم نظفر بكلام عن مقدم هذا ولا تكشف لنا من تاريخه شيء. ومما يدل على فساد المعنى الثاني، أن ابن بسام -وهو أعلم بهذا من ابن خلدون وغيره من المتأخرين- ذكر في كتابه "الذخيرة" أنه نشأ بين مخترع الموشح وبين عبادة، يوسف بن هارون الرمادي، وهو الشاعر الأندلسي في القرن الرابع "توفي سنة 403هـ".(3/104)
فلا بد أن يكون عبادة قد أخذ عنه مثال الإتقان في هذه الصنعة، وحينئذ يتعين أن لاختراع الموشح سببًا آخر غير كثرة الشعر وبلوغ الغاية في تنميقه، ونحن ذاكروه بعد، ولكنا ننقل هنا عبارة "الذخيرة" فإن فيها قولًا آخر في اختراع هذه الأوزان؛ قال ابن بسام في ترجمة عبادة: "كان في ذلك العصر شيخ الصناعة وأحكم الجماعة..... وكانت صنعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقتها ووصفوا حقيقتها غير مرقومة البرود، ولا منظومة العقود، فأقام عبادة هذا عمادها، وقوم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهارًا غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته؛ وأول من صنع أوزان هذه الموشحات: محمد بن محمود المقبري الضرير، وقيل: إن ابن عبد ربه صاحب "العقد" أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات؛ ثم نشأ يوسف بن الرمادي؛ ثم نشأ عبادة هذا فأحدث التصفير، وذلك أنه اعتمد على مواضع الوقف في المراكز "ص199: فوات الوفيات".(3/105)
سبب اختراعه:
وعندنا أن الذي نبههم إلى اختراع أوزان التوشيح إنما هو الغناء لا غيره، فإن تلحين البيت من الشعر قد يجيء على بعض الوجوه كالموشح؛ إذ يخرج جملًا مقطعة [تتساوق] مع النغم، فلو تنبه إلى ذلك أديب موسيقي لأمكن أن يضع أوزانًا على هذه التقاطيع، وهم لا يختارون للغناء من الشعر إلا ما احتمل في حركاته حسن التجزئة وصحة التقسيم وإجادة المقاطع والمبادئ.
والذي يدل على أن الغناء هو الأصل في التوشيح، أن الأندلس فتحت في أواخر القرن الأول، ولم يخترع التوشيح إلا في الربع الأخير من القرن الثالث، فكانت الفترة قريبة من مائتي سنة، والسبب الطبيعي في ذلك أن أمر الأندلس كان في مبدئه دينيا محضا -كما تراه في موضعه- وبقي الشعر عندهم متعلقًا بنوابغ مميزين بالضعف والقلة إلى زمن الأمير عبد الرحمن بن الحكم في أوائل القرن الثالث، حتى نبغ يحيى الغزال شاعر الأندلس وفيلسوفها؛ ثم قدم زرياب المغني من العراق على هذا الأمير سنة 206هـ وكان الأمير مفتونًا بالغناء، فلم يمض على ذلك زمن حتى شاع الغناء وانحرف إليه الأندلسيون، وكان ذلك أول تاريخه عندهم، فلعل المدة بين شيوع الغناء واستحداث التوشيح لا تزيد عن نصف قرن.
وقد أقبل أدباء الأندلس في أواخر القرن الرابع على الموسيقى، ومن ههنا دعت الحاجة إلى التفتن في تلك الأوزان، فاستقل بذلك عبادة الذي أومأنا إليه، وليس هذا فيه بعجيب إذا عرفت أن ابن الحداد وهو معاصر عبادة، وكلاهما من شعراء المعتصم بن صمادح، قد وضع كتابًا في العروض مزج فيه بين الموسيقى وبين آراء الخليل وكل ذلك سيأتيك في موضعه مفصلًا إن شاء الله.
والأندلسيون لم يلحقوا المشارقة في الغناء، ولم يكاثروا فحولهم فيه؛ ولذلك انصرفوا عن الغناء في الشعر إلى تحميله أوزان التوشيح، فأغربوا بذلك كما قال ابن دحية على أهل المشرق؛ لأنهم جمعوا فيه جملة التطريب؛ وقد نبه على ذلك ابن رشد فيلسوف الأندلس في تلخيصه كتاب أرسطاطاليس في الشعر حيث قال كلامه على المحاكاة: "والمحكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل(3/105)
ثلاثة أشياء: من قبل النغم المتفقة، ومن قبل الوزن، ومن قبل التشبيه نفسه، وهذه قد يوجد كل واحد منها منفردًا عن صاحبه، مثل وجود النغم في المزامير، والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ، أعني الأقاويل المخيلة "غير الموزونة" وقد تجتمع هذه الثلاثة بأسرها, مثل ما يوجد عندنا في النوع الذي يسمى الموشحات والأزجال، وهي الأشعار التي استنبطها في هذا اللسان أهل هذه الجزيرة ا. هـ "العذارى المائسات".
وهذا هو السبب في اختلاف أوزانه وأوضاعه؛ لأن الغرض منه تطبيق ألفاظه على مؤلفات من الأصوات [بمقتضى] صناعة الموسيقى، فكانوا يؤلفون من الأصوات التي تخرجها الضربات على الأوتار المختلفة كلامًا يناسب أن يقابل في وزنه تلك الأصوات بحروف متحركة أو ساكنة وعلى ذلك يكون مؤلف التوشيح تابعًا لما تقتضيه أصوات الموسيقى وأوزانها، وذلك قد يوافق الأوزان العربية التي يلحن فيها الشعر وقد يخالفها وعليه أكثر عملهم، ولم يلتفت أكثر أدباء المتأخرين إلى هذه الحقيقة فحسبوا التوشيح كغيره من الأوزان، ولذلك اقتصر شعراؤهم على النظم في مذهب العروض منه وتركوا ما عداه؛ لأنهم لا يعرفون له وزنًا، إلا أهل الموسيقى منهم؛ فإنهم ذهبوا فيه كل مذهب، وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في سفينته المشهورة أن موشحات المتقدمين قد بطل العمل في تلحينها، ولذلك اقتصر في السفينة على إيراد موشحات المتأخرين، واثبت من ذلك 300 موشح فيها 350 لحنًا.
وعلى الأصل في أوزان التوشيح اختراع المتأخرون نوعين آخرين هما المستجاد والبنود، وسنذكرهما في بحث الصناعات؛ لأن موضعهما هناك أليق بهما.(3/106)
الموشح الملحون:
ومن التوشيح ما لا يكون معربًا، وهو من اختراع أدباء اليمن؛ قال صاحب "سلافة العصر": ولأهل اليمن نظم يسمونه الموشح، غير موشح أهل المغرب، والفرق بينهما أن موشح أهل المغرب يراعى فيه الإعراب بخلاف موشح أهل اليمن فإنه لا يراعى فيه شيء من الإعراب، بل اللحن فيه أعذب؛ وحكمه في ذلك حكم الزجل ا. هـ "ص243".
ولم نزل نبحث عن أصل هذا النوع حتى وقفنا في كتاب "نفحة اليمن" لأحد الأنصاري اليمني الشرواني1، وهو مطبوع في مصر، على نوع سماه الشعر الحميني لا يكون إلا ملحونًا، وقال إنه منسوب إلى الفضل الأديب محمد بن حسين الكوكباني اليمني، وهو توشيح أوله:
ما لقلبي لم يزل عشقو فنون ... في هوى حال التثني والمجون
زي الغصون قد فنى صبري وقل الاحتيال
قد قسم قلبي بأسياف الجفون ... وقسم لي الهوى تلك العيون
ريب المنون ما حياتي بعد ذا إلا محال
وقال: إن شعراء اليمن هم فرسان هذا الميدان، وحاملوا لواء هذا الشأن؛ وعلى هذه الطريقة نظم بعض علماء المتأخرين على نمط الشعر، كقصيدة الشيخ عليش الشهيرة التي مطلعها:
الزم باب ربك ... واترك كل دون
وأورد في النفحة قصيدة في هذا النمط قال إنها للفاضل البكري؛ فهذا هو الشعر الحميني على ما عرفت، وهي تسمية أهل اليمن؛ أما المغاربة فقد استحدثت عامتهم من هذا النمط أنواعًا بأسماء أخرى، وسنشير إليها بعد.
__________
1 ذكر في موضع من كتابه هذا أنه كان بكلكوتا سنة 1222.(3/106)
بعض أنواع الموشح:
لم يوضع في صناعة الموشح ووجه نظمه وأسماء أوزانه فيما نعلم، غير كتاب واحد وضعه صفي الدين الحلي الشاعر المتوفى سنة 750هـ، وهذا الكتاب لم ينته إلينا إلا خبره، وسنذكر اسمه في كتب التوشيح، ثم إن هذه الصناعة لا ضابط لأوزانها إلا الألحان كما سلف، فهي موطأة للاختراع بمقدار ما تجرؤ عليه القرائح؛ ولذلك تعددت فيها الأوزان واختلفت طرق الصنعة. فلا سبيل إلى حصرها إلا بالتلقي واتصال السند عن أهلها، ولا ندري إن كانوا قد وضعوا لكل وزن اسمًا يعرف به أم كان اسم التوشيح عاما لجميعها فلا تخصص الأوزان إلا بأسماء ألحانها فقط كما هو الشأن في أدوار الغناء؛ وقد بحثنا في ذلك كثيرًا فلم نرجع بطائل، وكنا نظن أننا نصل إلى تسمية كل وزن وتعيين مخترعه، ولكنا لم نقف من ذلك إلا على النذر القليل الذي لا يعتد به في استنباط التاريخ، وقد رجح عندنا أنهم لم يسموا الموشحات بأسماء معينة كما فعلوا بالصناعات الشعرية، كالتخميس والتشطير وغيرهما، إلا ما دخل فيه الشعر من ذلك، كهذا النوع الذي اخترعه الصفي الحلي وسماه الموشح المضمن، ومثل له بتضمين الأبيات المنسوبة لأبي نواس، وقيل: إنها للحريري، ومطلع موشحه "ص298: ديوان صفي الدين الحلي":
وهو الهوى، ما حلت يومًا عن الهوى ... ولكن نجمي في المحبة قد هوى
وما كنت أرجو وصل من قتلتي نوى ... وأضنى فؤادي بالقطيعة والنوى
ليس في الهوى عجب ... إن أصابني العطب
"حامل الهوى تعب ... يستفزه الطرب"
فالبيت الأخير "حامل الهوى ... إلخ" هو المضمن، وما قبله توطئة له من نظم الصفي؛ وكالموشح المجنح، ويسمونه أيضا الشعري؛ لأنه قصيدة على وزن وروي واحد من الشعر يفصل بين كل بيتين منها بيت من الموشح يناسب وزنه لحن القصيدة، ويشترط فيه أن تكون كل أبيات التوشيح مصرعة على قافية واحدة "انظر ص299: ديوان الحلي".
وكما خلطوا بين أوزان الشعر وبين أوزان التوشيح، يخلطون بين وزن الدوبيت والزجل وبينه، وكل ذلك لأن التوشيح لا ضابط لوزنه إلا المناسبة كيفما اتفقت.
ومن الأوزان التي عينوا مخترعها، هذا الوزن الذي قال الصفي إن مخترعه السلطان المؤيد صاحب حماة المتوفى سنة 732هـ "انظر ص391: ديوان صفي الدين الحلي".
وهو -كما ترى- يكد لسان الناطق، ولكنه إذا قطع ألحانًا وصححت تجزئته وأحكمت مخارج ألفاظه وجرى فيه الغناء كان طربًا عجيبًا، وعلى ذلك وضع؛ ومن أراد أن يقف على كثير من أوزان الموشحات فليقرأ ما ورد من ذلك في "نفح الطيب" و"فوات الوفيات" و"كتاب العذارى المائسات" و"سفينة" للشيخ شهاب الدين، وكلها مطبوعة؛ وكنا هممنا أن نحصي ما وقفنا عليه من ذلك، لولا إننا [رأينا] أن الفائدة لا تتم إلا إذا أثبتنا مطلع كل وزن ليتصفح القارئ وجوه الأنواع ويستثبت مواضع الاختلاف في أوزانها، وذلك يستغرق قطعة كبيرة من هذا الكتاب، ثم هو عمل تعليمي فليتتبعه من مست إليه حاجته.(3/107)
نوابغ الوشاحين:
يبتدئ تاريخ النبوغ في التوشيح من القرن الخامس، ورأس أدبائه عبادة، وشاح المعتصم الذي أومأنا إليه من قبل، ثم جاء بعده ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طيطلة، وبعدهما الحلبة التي كانت في دولة الملثمين إلى القرن السادس، وسابق فرسانها التطيلي الأعمى "كذلك يذكره صاحب نفح الطيب، وقد ورد اسمه في مواضع، وفي مقدمة ابن خلدون: الطيطلي" ثم يحيى بن بقي، ومحمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض، والحكيم أبو بكر بن باجه صاحب التلاحين المعروفة "وسيأتي بيان ذلك في الأدب الأندلسي"؛ ثم اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل بن شرف، وأبو إسحاق الرويني؛ ثم كان حسنة هذه المائة السادسة الفيلسوف أبا بكر بن زهر المتوفى سنة 595هـ، والوشاحون عيال على إحسانه فيما اتفق له من بدائع الموشحات التي شرقت وغربت؛ واشتهر بعده ابن حيون، والمهر بن الفرس، ثم نبغ ابن جرمون بمرسية، وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة، وأبو بكر بن الصابوني، واشتهر بين أهل العدوة ابن خلف الجزائري، وابن هزر البجائي، ولكن الذي انفرد بشهرة هذه المائة إبراهيم بن سهل الإسرائيلي وشاح إشبيلية وشاعرها؛ وقد طبعت له قطع صغيرة في مصر على أنها ديوانه؛ ولكن الذي يقول في "نفح الطيب"إن ديوانه كبير مشهور بالمغرب حاز به قصب السبق في النظم والتواشيح، ومات ابن سهل غريقًا سنة 649هـ؛ وظهر بعده أحمد المقريتي المعروف بالكساء، وهو شاعر وشاح زجال "ص303 ج2: نفح الطيب".
ثم كان نابغة المائة الثامنة في الأندلس لسان العربية ابن الخطيب، وله في التوشيح بدائع كثيرة، وكان من أبرع تلامذته في ذلك ابن زمرك وزير الغني بالله، ثم اشتهر بعده العربي العقيلي الوشاح، ثم ظهر في المائة التاسعة في النصف الأول أبو يحيى بن عاصم الذي يقول عنه الأندلسيون إنه ابن الخطيب الثاني؛ ثم استعجمت الأندلس وظهر في المغرب في أواخر القرن العاشر عبد العزيز بن محمد القشتالي وزير أبي العباس أحمد الشريف الحسيني، وسنذكره بعد؛ أما المشارقة قد تكلفوا التوشيح وبقي للأندلسيين فضل الطبع لم ينازعهم فيه إلا ابن سناء الملك المصري المتوفى سنة 608هـ فقد طارت موشحاته خصوصًا موشحته التي اشتهرت شرقًا وغربًا وأولها:
يا حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
ننظر المسك على الكافور ... في جلنار
كللي، يا سحب تيجان الربى، بالحلي ... واجعلي، سوارها منعطف الجدول
ولا تزال في أفواه المغنيين إلى اليوم.(3/108)
كتب التوشيح:
وضع صفي الدين الحلي ديوانًا سماه "العاطل الحالي والمرخص الغالي" "وذكر في "كشف الظنون" العاطل الحادي خطأ" وقد أوضح فيه قاعدة الفنون الشعرية جميعها، وهي الموشح، والدوبيت، والزجل، والمواليا، والكان وكان، والقوما، وأورد أمثلة ذلك من نظمه، وذكر ابن خلكان في ترجمة ابن سناء الملك أنه جمع موشحاته التي نظمها في ديوان سماه "دار الطراز". وفي "نفح الطيب" أن لسان الدين بن الخطيب ألف في هذا الفن كتابه المسمى بجيش التوشيح وأتى فيه بالغرائب. قال: وذيل عليه صاحبنا وزير القلم بالمغرب عبد العزيز بن محمد القشتالي بكتاب سماه: "مدد الجيش ... " وأتى فيه بكثير من موشحات أهل عصرنا من المغاربة، وضمنه من كلام أمير المؤمنين مولانا المنصور أبي العباس أحمد الشريف الحسيني ما زاده زينًا، وأخبرني أنه ذكر فيه لأهل العصر في أمير المؤمنين، ولأمير المؤمنين المذكور أزيد من 300 موشح "ص227 ج4: نفح الطيب".
وقد طبع بعض الأدباء مجموعة صغيرة قال إنه انتخبها من كتاب وجده في بعض مكاتب رومة اسمه "العذارى المائسات في الأزجال والموشحات" هذا غير ما تجده في كتاب "نفح الطيب" و"سفينة" للشهاب وبعض الدواوين.(3/109)
الدوبيت:
وهذا الاسم من كلمتين، إحداهما فارسية وهي "دو" بمعنى اثنين، والأخرى "بيت" العربية؛ وسموه كذلك؛ لأنه لا يكون أكثر من بيتين، وقد أخذه أدباء العرب عن الفرس، ويعرف عندهم بالرباعي، واختص بالإجادة فيه بعض شعرائهم، كعمر الخيام، ورباعياته مشهورة مترجمة باللغات الأجنبية، وهي 500 بيت. ولا نعرف أول من استعمل هذا النوع في العربية، ولكن نشأته كانت في بغداد؛ ولا ندري كيف يعده ابن خلدون من شعر عامتها، وهو كالموشح والشعر: لا تكون ثلاثتها إلا معربة، فإذا دخلها اللحن خرجت عن هذه الأسماء إلى أسماء أخرى، كالشعر الحميني في الموشح عند أهل اليمن، "وعروض البلد" فيه نفسه عند أهل الأمصار بالمغرب.
ونحن نرجح أن هذا النوع لم يكن في العربية قبل القرن السابع؛ لأننا لم نجده في شعر أحد قبل ذلك الزمن ولا وجدنا إشارة إليه، ولم نجد للشعراء ولعًا به إلا في أواخر تلك المائة وما بعدها؛ والرباعي يعد من المخترعات الحديثة في اللغة الفارسية؛ لأن أول من وضعه أبو سعيد بن الخير المتوفى سنة 465هـ، وبعضهم يقول إنه كان موجودًا قبل ذلك ولا يرجع اختراعه إلى تاريخ معين؛ غير أن ممن عرفوا بنظمه أبا جعفر رودكي الشاعر المتوفى سنة 302هـ حتى افتن فيه الخيام وأجاده فاشتهر بما نظمه فيه شهرة بعيدة؛ لأنه ضمنه أفكارًا سامية وانتقادات مرة، ثم أقبل الأدباء عليه من بعده ... وقد عارضها في العربية سديد الدين الأنباري كما ذكر صاحب "خلاصة الأثر" "ص390 ج4" ولم يقع لنا شيء من رباعياته.
وللدوبيت وزن واحد، وهو فعْلن "بسكون العين" متفاعلن "وتارة يغير إلى متفاعيلن"، فعولن، فعلن "بتحريك العين وسكونها" وأمثلته كثيرة؛ وقد يضمنونه أنواعًا من البديع، ومن أكثر الشعراء ولوعًا بذلك، الصفي الحلي، وله في ديوانه منه مقاطيع كثيرة، وللدوبيت باعتبار القوافي خمسة أنواع: الأول يسمونه الرباعي المعرج ويشترط في قوافيه أن يكون بين الثلاثة منهما أو [بين] أربعتها الجناس التام، كقول بعضهم:
يا من بسنان رمحه قد طعنا ... والصارم من لحظه قطعنا
أرحم دنفا في سنه قد طعنا ... في حبك لا يصيبه قط عنا
والرباعي الخاص، ويشترط فيه أن تكون كل قافيتين متقابلتين بينهما جناس تام؛ ويقولون إن مثاله:
أهوى رشا بحظه كلمنا ... رمزا وبسيف لحظه كلمنا
لو كان من الغرام قد سلمنا ... ما كان له بيده سلمنا
والرباعي الممنطق ومثاله:(3/110)
قد قد لمهجتي غرام ونشر ... والقلب ملك
من كان يراك قال ما أنت بشر ... بل أنت ملك
والرباعي المرفل كقوله:
بدر إذا رأته شمس الأفق ... كسفت ورقى في يوم أحد
عوذت جماله برب الفلق ... وبما خلقا من كل أحد
وهذان نوعان لا يشترط في قوافيهما الجناس.
والخامس الرباعي المردوف، ويحسن فيه التزام الجناس، ومثاله:
يا مرسلًا للأنام جاهًا وحمى ... ها أنت لنا عزا وهدى
في أي مدد
يا أفضل من مشى بأرض وسما ... يا شافعنا في الحشر غدا
غوثًا ومدد(3/111)
الشعر العامي والمواليا:
لا نعرف بالتحقيق أصل الشعر العامي ولا منشأه؛ ولكنا لا نشك أنه قديم، وأن ظهوره كان في أواخر القرن الأول للهجرة، بعد ظهور الغناء وانتشاره؛ لأن طبقات كثيرة من العامة -ومن حكمهم ممن لا أدب لهم- لا يطربون للغناء في الشعر الفصيح؛ وخاصة عامة أهل الشام، ولعلهم أصل الشعر العامي في العربية؛ لأن الفصيح استبحر في بلادهم، وهم مع ذلك أسقم الناس ألسنة، فكان لا بد لعامتهم من هذا الشعر، وقد وقفنا على شيء من شعرهم الذي يطربون له؛ من ذلك ما رواه صاحب الأغاني في أخبار معبد أنه أشخص إلى الوليد بن يزيد، ثم كان في منزل بعض أهل الشام من ذوي الحال الرفيعة وقال في وصف غنائه عنده: فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه، وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني فلما طال عليه أمري، قال: يا غلام، شيخنا شيخنا! فأتى بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سلور في القدر، ويلي علوه ... جاء القط أكله، ويلي علوه!
والسلور: السمك بلغة أهل الشام، قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طربًا وسرورًا. ا. هـ. "ص28 ج1: الأغاني". وذكر في أخبار حنين الحيري، وكان في أيام عبد الملك بن مروان، أنه خرج إلى حمص يلتمس الكسب بها ويرتاد من يستفيد منه شيئًا، فاجتمع بفتيانها ثم غناهم في هنيات معبد، وغناء الغريض، وخفائف ابن سريج، وأهزاج حكم، وفي غنائه هو، فلم يتحرك منهم أحد ولا فكهوا لذلك، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا، حتى جاء أبو منبه، فخنس حنين وصار كلا شيء، خوفًا منه ورهبة أن يفتضح بإحسانه، قال: فأخذ العود ثم اندفع يغني:
طرب البحر فاعتبري يا سفينه ... لا تشقي على رجال المدينه
فأقبل القوم يصفقون ويطربون ويشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء "ص123 ج2: الأغاني".
ولا بد أن تكون مثل هذه الأشعار قد شاعت في العامة يومئذ وجعلوها فنهم، ولكن الأدباء لم يحفلوا بها فلم يصل إلينا من خبرها شيء، ويدل على ذلك ما نقله صاحب الأغاني [من مثل ذلك] في أخبار إسحاق الموصلي.
ثم ظهر بعد ذلك هذا النوع الذي يسمونه المواليا، وقالوا في أصله أقوالًا أشهرها عند الأدباء أن الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، وتنكر لمن يفعل ذلك، فرثت إحدى جواريهم جعفرًا بهذا النوع الذي يدخله اللحن ولا يجري على أوزان الشعر، لتتقي بذلك نقمة الرشيد، وجعلت تقول بعد كل شطر: يا مواليا! فعرف هذا النوع به وتناقله الناس؛ والذي قالته في ذلك هو:
يا دار، أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت: نراهم رمم تحت الأراضي الدرس ... سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس!(3/112)
وليس هذا النوع ملحونًا أبدًا كالزجل والكان وكان والقوما، ولكنه يحتمل الإعراب واللحن، ولا يجيزون فيه مع ذلك أن يختلط الاثنان في قول واحد فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، فهذا من أقبح العيوب التي لا تجوز؛ وإنما يكون المعرب منه نوعًا بمفرده؛ والملحون منه ملحونًا لا يدخله الإعراب "المستطرف عن كتاب العاطل والحالي".
وللمواليا وزن واحد وأربع قواف؛ منها واحدة اخترعها صفي الدين الحلي "المستطرف" وقد حمله المتأخرون محاسن البديع كما فعلوا بالدوبيت؛ وحرف المصريون هذه الكلمة بكلمة "موال" وأهل الصعيد منهم أشهر الناس بهذه المواويل؛ وخاصة أهل مديريتي قنا وجرجا، ويقسمون الموال إلى نوعين: أحمر، وهو الذي ينظم في الحماسة والحرب والحكمة، وأخضر وهو ما دخل في الغزل والنسيب وما إليهما من الأنواع الرقيقة؛ وقد يجعلونه مخمسا ومسبعا، ويسمى النعماني، وذلك كله مأثور بينهم مستفيض في مناقلاتهم وقريب منه نوع آخر يسمونه "فن الواو" ووزنه كوزن بحر المجتث في الشعر: مستفعلن فاعلاتن، ويكون في أربع شطرات، كل شطرة تسمى في اصطلاحهم فردة -ومنه أحمر وأخضر كما مر في الموال- ولكنهم يسمون المحتوى منه على الجناسات مغلوقًا، والأمثلة في ذلك كله كثيرة ولها رسائل متداولة معروفة.(3/113)
الزجل:
قال ابن خلدون: ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيها إعرابًا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية، أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، ولكن لم تظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين "أول القرن الثامن" وهو إمام الزجالين على الإطلاق ا. هـ.
ورأيت في بعض الكتب أن ابن قزمان هذا أول من تكلم بالزجل، وسبب ذلك أنه وهو في المكتب عشق بعض الصبيان، فرفع أمره للمؤدب فزجره ومنعه من مجالسة الصبي، فكتب في لوحه:
الملاح ولاد أماره ... [ولاوحاش] ولا نصاره
وابن قزمان جا يغفر ... ما قبلوا الشيخ غفاره
فاطلع عليه المؤدب [فقال] : قد هجوتنا بكلام مزجول، فيقال إنه سمي زجلًا من هذه الكلمة.
ولست أثبت هذه الرواية ولا أنفيها؛ أما ابن قزمان فهو الوزير الكاتب أبو بكر بن قزمان، اشتمل عليه المتوكل على الله صاحب بطليوس في أواخر القرن الخامس، فاقتطع في دولته أسمى الرتب، وهو شاعر بليغ وصفه الفتح ابن خاقان في القلائد بأنه "مبرز في البيان، ومحرز للسبق عند تسابق الأعيان" وقال لسان الدين بن الخطيب: كان ابن قزمان نسيج وحده أدبًا وظرفًا ولوذعية.... وكان أديبًا بارعًا حلو الكلام مليح النثر مبرزًا في نظم الزجل، قال: وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه، وبلغ فيها أبو بكر رحمه الله مبلغًا حجره الله عمن سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها المعلم "والمبتدي فيها والمتمم" ص356 ج2: نفح الطيب.
وقد شاعت أزجال ابن قزمان وأولع بها الناس خصوصًا المشارقة، حتى كانت في القرن السابع كما قال ابن سعيد العربي، مروية في بغداد أكثر مما هي في حواضر المغرب. واشتهر مع ابن قزمان من معاصريه بهذه الطريقة عيسى البليدي، وأبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي، وأبو الحسن المقري [الداني] وأبو بكر بن [مدين] ، وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، إلا أن إمامهم المجمع عليه إنما هو ابن قزمان. ثم جاءت بعد هؤلاء حلبة كان سابقها عبد الله بن الحاج المعروف بمدغليس، وهو خليفة ابن قزمان في زمانه وقد وقعت له العجائب في هذه الطريقة، وامتاز عن ابن قزمان بصنعة ألفاظه حتى طارت شهرته بذلك، وكان أهل الأندلس يقولون: ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبي تمام، بالنظر إلى الانطباع والصناعة، فابن قزمان(3/114)
ملتفت إلى المعنى، ومدغليس ملتفت إلى اللفظ، وكان أديبًا معربًا لكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب، اقتصر عليه "ص237 ج2: نفح الطيب"، وقد ذهب مدغليس بشهرة القرن السادس، حتى ظهر ابن جحدر الأشبيلي في النصف الأول من القرن السابع، وكان إمام الزجالين في عصره، ثم كانت الإمامة بعده لإمام الأدب أبي الحسن سهل بن مالك، ثم استقل بها في أول المائة الثامنة أبو عبد الله الألوسي، ثم محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، ومعاصره لسان الدين بن الخطيب الشهير، وفي هذه المائة صارت الطريقة الزجلية فن العامة بالأندلس، واستحدثوا منها نوعًا سموه الشعر الزجلي، وذلك أنهم ينظمون بها في بحور الشعر، لكن بلغتهم العامية، فتجمع وزن الشعر ولحن الزجل على المبالغة المألوفة.
أما المشارقة فقد أولعوا بالزجل وأكثروا في أوزانه، حتى قالوا: صاحب ألف وزن ليس برجال، والمتأخرون من أهل هذا الفن يقولون إنه لم يتصل بهم أكثر من خمسين وزنًا. وتفننوا في إيداعه أنواع البديع، ومن أشهرهم في ذلك علاء الدين بن مقاتل الحموي من أدباء الملك المؤيد صاحب حماة، وقد استشهد ببعض أزجاله ابن حجة في كتابه "خزانة الأدب" في باب الجناس المقلوب وفي باب التوجيه وغيرهما "ص50، 170" متابعًا في ذلك الشيخ شمس الدين بن الصائغ، فقد ذكر أنه استشهد في شرحه المسمى "رقم البردة" بشيء من أزجال أهل عصره على بعض أنواع البديع "176 خزانة الأدب"، وقلده هو في ذلك ولكنه لم يورد لغير علاء الدين بن مقاتل، لذهاب شهرته شرقًا وغربًا، وإبداعه في إيداعه، وافتراعه في اختراعه.
وللمصريين تاريخ خاص في الزجل؛ لأن هذه الطريقة توافق ما في طباعهم من اللين ومشايعة الكلام بشيء من التهكم الذي تبعث عليه صفة [الفتور] الطبيعية فيهم، وهي التي يقال فيها إنها ذوق حلاوة النيل. وقد اخترع المصريون في الزجل نوعين سموهما البليقة والقرقية. قال صاحب كتاب "الأقصى القريب"، وهو أبو عبد الله محمد التنوخي، في كلامه على الموشحات والأزجال: ومنها قرقيات المصريين وبليقاتهم، والفرق بينهما وبين الزجل أن الزجل متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيبًا، والبليقة ليست كذلك، فيجيء فيها المعرب وغير المعرب، ولذلك سميت بليقة؛ من البلق، وهو اختلاف الألوان، وتفارق البليقة القرقية في أن البليقة لا تزيد على خمس حشوات غالبًا، وقد تنتهي إلى السبع قليلًا، والقرقية تزيد كثيرًا على حكم الزجل في ذلك، وسميت القرقية كذلك من القرقة وهي لعبة يلعب بها صبيان الأعراب، وهذه اللعبة سماها صاحب "القاموس": القرِق، ووصفها ورسمت خطوطها في "تاج العروس"، فانظرها هناك.
وقد كان اختراع البليقة في القرن السابع، ثم تبسطوا فيها بعد ذلك فكانت القرقيات، ولا تحقق تاريخها، ولكنها متأخرة عن المائة السابعة حتمًا، وقد استدللنا على ذلك بما ذكره صاحب "فوات الوفيات" إذ قال في ترجمة صدر الدين بن المرحل المتوفى سنة 716هـ بالقاهرة، وهو المعروف في كتب الشاميين بابن الوكيل المصري: "وشعره مليح إلى الغاية، وكان ينظم الشعر والموشح والدوبيت والمخمس والزجل والبليق". فلو كانت القرقيات يومئذ معروفة لذكرها وإن كانت من الزجل، فقد ذكر(3/115)
المخمس وهو من الشعر "ص254 ج2: فوات الوفيات".
وأشهر نوابغ المصريين في الأزجال من المتقدمين، الغباري الذي نبغ في عهد السلطان حسن، فإن له أزجالًا بعيدة الشهرة بما فيها من دقة الصنعة وإبداع المعاني وكثرة [التفنن] . وقد رأينا في مجموعة من مدائحه حملًا زجليا "أهل هذا الفن يسمون ما يعادل القصيدة في الشعر منه: حملًا" لرئيس العامة في هذا الفن على عهد محمد على باشا، وهو محمد الحباك القشاشي، يزاهي 560 بيتًا، مدح فيه أهل مصر على طريقة عامية، وذكر علماءها وأشرافها ومتنزهاتها وعد أكثر أسواقها -لأنه من سوق كان يسمى القشاشين ذكره في الزجل- وقال في آخره ما يستدل منه أنه يعارض الغباري في حمل له بهذا المعنى، وقال: إن الغباري ما استطاع أن يضبط محاسن مصر فيما وصف. ومما استفدناه من هذه المجموعة، أن للزجل أوزانًا كانت مشهورة، منها وزن: "أصبحت مصر نزهة للناظرين"، ووزن "على داري"، ووزن "في الهند مكتوب" وللمتأخرين من عوام العصر مثل هذه الأوزان أيضًا، ويعدون منها "بفته هندي يا بنات".
ولم يزل فن الزجل مشهورًا بمصر إلى عهدنا، ولأهله فيه إحسان كثير وهم يرتجلونه ويحاضرون به، وقد ذكر الأديب عبد الله نديم المصري الشهير في مجلة الأستاذ واقعة في المساجلة بالزجل مع بعض رؤساء الفن من العامة، وكان الشرط أن من تلعثم أو استبلع الآخر ريقه يبتغي بذلك مهل البديهة وخلسه الفكر فهو المغلب، وذكر هناك بعض الأوزان التي أخذوا فيها؛ فارجع إليها فإنها عجيبة.
والزجل اليوم أحد أنواع الشعر العامي الباقية لعهدنا، وقد اختص به المصريون، فيقال: الزجل المصري، كما يقال: المعنَّى السوري، والزهيري البغدادي.
ومما نوفي به فائدة هذا الفصل، أن ظرفاء المصريين يقولون في الفنون السبعة التي نكتب تاريخها: "السبعة وتمّتها" ويريدون هذه "التمة" فن الواو الذي ذكرناه وأبحرا أخرى ينظمون عليها العامية في أوزان خاصة، يعارضون بها أسماء البحور الشعرية، ومنها المستطيل في معارضة الطويل، والممتد في معارضة المديد، والمتوفر في معارضة الوافر، وغير ذلك مما يبعث عليه الظرف المصري، وهو بجملته معدود من الزجل فلا حاجة إلى إيراد أنواعه وأمثلته.
فنون أخرى:
قال ابن خلدون بعد كلامه على الأزجال: ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضًا وسموه عروض البلد، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب، مطلعها:
أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح
فاستحسنه أهل فاس وأولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر(3/116)
سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم وفرعوه أصنافًا إلى المزدوج الكاري والملعبة والغزل، واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها ... إلخ "انظر: ص348 وما بعدها: مقدمة ابن خلدون".
ونقل قطعة كبيرة من هذه الملعبة تشبه الشعر التاريخي المعروف بالقصصي، حتى ذهب بعض المتأخرين إلى أن أمثال هذه الملاعب تعتبر نوعًا من الشعر القصصي وإن كانت عامية.
الأصمعيات والبدوي:
وذكر ابن خلدون أيضًا أن العرب المستعجمين عن لغة سلفهم من مضر يقرضون لعهده الشعر في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات..... إلخ "ص333: مقدمة ابن خلدون" وقد أورد في مقدمته بعض قصائد أمثلة على ما ذكر.
كان وكان والقوما:
وهما كما قال أصحاب الفنون فرعان من الزجل، وإنما أفردوهما نوعين لتغيرات فيهما لا تكون في الزجل، أما الأول فلا نعرف من تاريخه شيئًا، وله وزن واحد وقافية واحدة، ويستعملونه كثيرًا في الوعظ ونحوه من المعاني التي تدخل فيها الحرقة والحدة ونحو ذلك، كقول بعضهم:
ما ذقت عمري جرعة ... أمر من طعم الهوى
الله يصبر قلبي ... على الذي يهواه
وأما القوما فقيل إن أول من اخترعه ابن نقطة برسم الخليفة الناصر، والصحيح أنه مخترع من قبله، وإنما كان الناصر يطرب له فاشتهر في زمنه، وهو من اختراع البغداديين، قيل: كانوا ينشدونه عند السحور في رمضان كما يفعل المسحرون بالقصص والأدعية لعهدنا، وسمي بذلك من قول المغنيين "قومًا نسحر قومًا" وجعلوه على وزن هذه الكلمات الثلاث، ثم فرعوا منه فروعًا دعوها الزهري والخمري وغيرهما على حسب المعاني التي ينظمون فيها، ومن هذا النوع ما نظمه الصفي الحلي يسحر به بعض الخلفاء:
لا زال سعدك جديد ... دائم وجدك سعيد
"ص254 ج2: المستطرف"
الحمق:
وهو نوع قد يدخلونه في الزجل، ولكن أكثرهم على أنه منفرد، وهم ينظمونه قطعًا، كل بيتين من القطعة في قافية "انظر: ص255 ج2: المستطرف".
العامي:
وهو نوع من النظم نشير إليه استطرادًا ونلم به تفكهة وتملحًا، وذلك أن "اللغويين" من أدباء العامة يخترعون ألفاظًا غريبة لا تجري على وزن ولا تدخل في لغة، ثم ينظمونها معاياة بها في(3/117)
الحفظ، أو إغرابًا في التفكهة، أو مبالغة في التشدق والتقعير، كالقصيدة التي أوردها صاحب كتاب "إعلام الناس" ونسبها للأصمعي، وقصتها هناك فارجع إليها، وهي من تكاذيب الظرفاء وباطل المنحول.
ورأينا في كتاب "نفحة اليمن" للأنصاري أنه اجتمع في بلدة كلكتة سنة 1222هـ برجل من العرب اسمه جواد ساباط وقد ارتد عن الإسلام وسمي ناثانائيل ساباط، وهو واحد فيما يرويه من المضحكات والعجائب، قال: وله نظم على أسلوب أبي الهميسع المنسوب إليه لفظ "حَجْلَنْجَع" وذكر هناك بعض شعره، ومنه قصيدة شينية يقول فيها:
بهشوا الخرباش عنه برخشوا ... طسعوا عن دارمي حين تشوا
وذلك يدل على أن أبا الهميسع كان متميزًا بهذه الطريقة، وقد أولع بها أهل التقعير من المتأخرين، ومنها قول بعضهم وقد ضبطناه بإملائه:
يا سائلي عن حبلطنج عجرفت ... عجرفتاه تمر كالعنبعلص
ولا نشك في أن هذه القافية في معارضة كلمة أبي الهميسع التي ذكرها الأنصاري وأول من ابتدأ هذه الطريقة من الفصحاء بشار بن برد أبو المحدثين كان يجيء بالكلمات اليسيرة التي لا حقيقة لها فيحشوا بها شعره ليتنادر بذلك، ومنه ما حكاه قال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم مت؟ ألم أكن أحسن إليك؟ فقال:
سيدي خذ بي أتانا ... عند باب الأصبهاني
تيمتني ببنان ... وبدل قد شجاني
ولها خد أسيل ... مثل خد الشيفران
فقال له بعضهم: ما الشيفران؟ قال: ما يدريني؟ هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله! "ص64 ج3: الأغاني"، ثم استظرف الناس منه ذلك فمروا فيه حتى بلغ مبلغه في المتأخرين. والله أعلم.(3/118)
الباب السادس: في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها
السبع الطوال
...
السبع الطوال:
هي المعروفة بالمعلقات المروية لامرئ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، وكلهم جاهليون إلا لبيدًا فإنه من المخضرمين؛ وإنما سميت المعلقات؛ لأن العرب اختارتها بين أشعارها فكتبوها بالذهب على الحرير، وقيل: بماء الذهب في القباطي "جمع قبطية - بالكسر والضم، وهي ثياب إلى الرقة والدقة والبياض، كانت تتخذ بمصر من الكتان" ثم علقوها على أركان الكعبة، وقيل: في أستارها، وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم.
أما أن هذه القصائد من مختارات الشعر فأمر لا ندفعه؛ لأن العرب في الجاهلية، كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب؛ قال أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154هـ "وقيل: 159هـ": وكانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش.
وأما خبر الكتابة بالذهب أو بمائه والتعليق على الكعبة ففي روايته نظر، وعندي أنه من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتى وثق بها المتأخرون، وإنما استدرجهم إلى ذلك أن هذه القصائد تكاد تكون الصفحة المذهبة في ديوان الجاهلية، وأن العرب قوم لم يصح من أديانهم إلا دين الفصاحة وهو الذي دانوا به أجمعين، فلو أنهم فعلوا ذلك لكانوا قد أتوا بشيء غير نكير، وسنقص في أخبارهم وكتبهم أثر تلك الرواية ونورد ما رجح عندنا أنها موضوعة:
نقل ابن خلكان عن ابن جعفر النحاس المتوفى سنة 337هـ "وقيل: 338هـ" أن حمادًا الراوية هو الذي جمع السبع الطوال، وحماد هذا توفي سنة 155هـ، وفي "المزهر" أنه أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، وقال البغدادي في "خزانة الأدب" "ص61 ج1" بعد أن ذكر أصحاب المعلقات: وقد طرح عبد الملك بن مروان شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة، وعبد الملك توفي سنة 86هـ, فبين وفاته ووفاة حماد 69سنة، ثم قال البغدادي: وروي أن بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعار فسماها المعلقات، وفي رواية أخرى -في غير "الخزانة": فماسها المعلقات الثواني.
وقال ابن الكلبي المتوفى 204هـ "وقيل: سنة 206هـ": أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحْدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة.
وبمعارضة هذه الرواية بما ذكره أبو جعفر النحاس يتضح لك أن أبا جعفر لم يثق بها، فيكون(3/121)
خبر طرح عبد الملك وإثباته موضوعًا أيضًا، خصوصًا وقد أغفله أبو زيد بن أبي الخطاب القرشي صاحب الجمهرة المتوفى سنة 170هـ، وابن الكلبي هذا هو الذي نقل عنه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في شرحه ديوان امرئ القيس عند ذكر قصيدته المختارة أنه قال: إن أعراب كلب ينشدون هذه القصيدة لابن حذام "هو امرؤ القيس بن حذام" وذكره امرؤ القيس بن حجر في بعض شعره حيث يقول:
عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكي ابن حذام
ويروي خذام بالخاء، وحزام بالزاي، وحمام. ويقال إن "لأننا" لغة في "لعلنا"؛ حكى الخليل أن بعض العرب يقول: ائت السوق أنك تشتري لنا سويقًا، أي: لعلك. وكان ابن حذام بكى الديار قبل امرئ القيس.
وقد أغفل ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ رواية ابن الكلبي بجملتها في كتابه "طبقات الشعراء"، ولم نر أحدًا ممن يوثق بروايتهم وعلمهم أشار إلى هذا التعليق ولا سمى تلك القصائد بهذا الاسم، كالجاحظ والمبرد وصاحب الجمهرة وصاحب الأغاني، مع أن جميعهم أوردوا في كتبهم نتفًا وأبياتًا منها، وقد ذكر أبو الفرج صاحب الأغاني المتوفى سنة 356هـ أن عمرو بن كلثوم قام بقصيدته خطيبًا بسوق عكاظ، وقام بها في موسم مكة، فلو كان خبر التعليق صحيحًا لما ضره أن يقول، فكتبتها العرب وعلقتها على ركن من أركان الكعبة.
وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة، يعني مختارته. وفي ترجمة عنترة، وكانت العرب تسميها الذهبية، ولكنه قال في ترجمة الحارث بن حلزة عند ذكر قصيدته: وهي من جيد شعر العرب، وإحدى السبع المعلقات؛ ولم ترد هذه اللفظة إلا في هذا الموضع، غير أن البغدادي نقل كلمة في "الخزانة" معزوة إليه وأسقط منها لفظة المعلقات "ص119 ج1" فيكون ذكرها في طبقات ابن قتيبة زيادة من النساخ، لشهرة الكلمة في المتأخرين وارتباطها بهذا النعت.
والأسماء التي وردت بها تلك القصائد فيما لدينا من كتب الأدب والبيان واللغة إلى آخر القرن الثالث، هي: السبع الطوال، والسموط، والسبعيات؛ أما الأولى فهي تسمية حماد، وقد نقلها من الحديث $"أعطيت مكان التوراة السبع الطوال" وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف؛ واختلفوا في السابعة أنها يونس، أو يوسف، أو الكهف, وأما الثانية ففي "الجمهرة" عن المفضل أن امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى ولبيدًا وعمرًا وطرفة، أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط "ونقلها صاحب "العمدة": السمط، ونقلها عنه السيوطي في "المزهر""، فمن قال إن السبع لغيرهم فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة؛ فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة، وأثبت الأعشى والنابغة؛ وهذا مما يدل على أن بين الرواة اختلافًا فيهم، فلو كان خبر التعليق صحيحًا لكان نصا في تعيين الأسماء.
وأصل التسمية بالسمط أو السموط، عن حماد أيضًا، ففي بعض أخباره قال: كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منها كان مقبولًا، وما ردوا منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن(3/122)
عبدة فأنشدهم:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
فقالوا: هذه سمط الدهر؛ ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم:
طحا بك قلب في الحسان طروب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر؛ وهي رواية لا توافق ما قالوه من أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها إلا في الشعر.
وأما السبعيات فهي تسمية وقفنا عليها في "إعجاز القرآن" للباقلاني المتوفى سنة 403هـ؛ وقد ذكر هناك ما تؤخذ منه حقيقة هذه القصائد؛ قال: أنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس؛ ولا ترتاب في براعته؛ وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعره فلانًا وفلانًا؛ ويضمون أشعارهم إلى شعره؛ حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة؛ وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه؛ أو قربوا موضع تقدمهم عليه وبرزوه بين أيديهم؛ ولما اختاروا -أي: الأدباء- قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها؛ ثم نراهم يقولون: لفلان لامية مثلها ... إلخ، وقد أورد ذلك وبالغ في مدح القصيدة، ثم بين عوارها، وزيف كثيرًا من جيدها، ليظهر الفرق بين أجود الشعر وبين القرآن في أسباب الإعجاز، ويبرهن على أن القرآن جنس مميز وأسلوب متخصص، فلو صح عنده خبر التعليق وأن العرب هي التي اختارتها وقدمتها على سائر الشعر لكان في ذلك دليل يشد عليه يده شد الحريص.
وفي "الجمهرة" عن المفضل "هو المفضل بن محمد الضبي، كان عالمًا بالشعر وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين، وهو معاصر لحماد الراوية، وقد غلبه عليه بصدق الرواية عند المهدي كما سيمر بك في بحث الرواة*" بعد أن ذكر أصحاب السموط قال: وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون إن بعدهن سبعًا ما هن بدونهن، ولقد تلا أصحابهن أصحاب الأوائل فما قصروا، وهن "المجمهرات" لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب.
وأما منتقيات العرب فهن للمسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمنتخل بن عويمر.
وأما المذهبات فللأوس والخزرج خاصة، وهن لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئ القيس.
وعيون المراثي سبع، لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري؛ ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب النهشلي، ومتمم بن نويرة اليربوعي.
__________
* قلت: انظر التعليق في ص86.(3/123)
وأما مشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام، فلنابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، وعمرو بن أحمر، وابن مقبل.
وأما الملحمات السبع فهي للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكميت بن زيد، والطرماح بن حكيم.
قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة هي عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام "ص35" وبعد أن ساق صاحب الجمهرة أخبارًا أخرى قال: هذا ما صحت به الرواية عن الشعراء وأخبارهم.
فقد خلص لنا مما تقدم أن حمادًا هو أول من اختار السبع الطوال وشهرها في الناس، وأن ابن الكلبي هو الذي ذكر خبر تعليقها على الكعبة، وهو قد علل ذلك بأن العرب ينظرونها في الموسم، ثم ينزلونها أو يبقونها، وأن من عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئًا، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي، وأن العرب بقيت تسجد لها 150 سنة حتى ظهر الإسلام، مع أن امرأ القيس لم يفته الإسلام بأكثر من مائة سنة، [وتسميتهم] لذلك المعلقات بالمذهبات، مع أنك رأيت في رواية المفضل أن المذهبات قصائد أخرى للأوس والخزرج، وذكر ابن رشيق في "العمدة" رواية أخرى في تسمية الطوال بالمعلقات، وهي أن الملك كان يقول إذا استجيدت قصيدة الشاعر: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
[*وليس ببعيد أن يكون ابن الكلبي، وهو من متأخري الرواة، قد رأى انصراف الناس عن شعر الجاهلية والتأدب به إلا فيما احتاجوا إليه من الشاهد والمثل، ولا يكاد ذلك يعدو أشعارًا معروفة متداولة في أيدي العلماء لمكانة الشعر الإسلامي يومئذ، وقد كثر فحوله وافتنوا فيه أيما افتتان، وذهبوا في البديع كل مذهب، فاختلق ابن الكلبي -أو غيره- خبر التعليق، ليصرف وجوه الناس إلى هذه القصائد، وهم يومئذ أكثر ممن قبلهم ولعا بمآثر الجاهلية، لعفاء الصبغة العربية من سياسة عصرهم كما يعرف الواقف على التاريخ. وليس يشك أحد أنه لولا هذا الخبر لما بقيت هذه القصائد متدارسة إلى اليوم، لا لشاهد منها ولا لمثل فيها، ولكن لوقوع اختيار العرب عليها] .
وعندنا أن الذي روى التعليق إنما أخذه من تعليق قريش للصحيفة، وذلك أنه لما فشا الإسلام وقوي المسلمون بحمزة وعمر، ائتمرت قريش في أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا؛ فكتبوا بذلك صحيفة بخط منصور بن عكرمة، ثم علقوها في جوف الكعبة توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم.
__________
* قلت: هذه الفقرة المحصورة بين العلامتين [] كانت في ورقة منفصلة. وليس بها إشارة تدل على موضعها في البحث، فآثرت إثباتها في هذا المكان.(3/124)
وأعجب شيء أنك لا ترى في كلام أحد من الصدر الأول من لدن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك الخبر، مع أنهم تكلموا في الشعر والشعراء وفاضلوا بينهم، وورد في الحديث كلام عن امرئ القيس وعنترة، وكل ذلك مما يدل على أن ذلك التعليق إنما كان بحبل التلفيق!
وقد شرح هذه القصائد ذكر منهم صاحب "كشف الظنون" أبا جعفر بن النحاس المتوفى سنة 338هـ، وأبا علي الثعالبي المتوفى سنة 356هـ، وأبا بكر البطليوسي المتوفى سنة 394هـ، وأبا زكريا ابن الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502هـ؛ والدميري صاحب "حياة الحيوان"، والزوزني المتوفى سنة 486هـ وشرحه مطبوع متداول، وهي مشروحة أيضًا في كتاب "الجمهرة"، ولابن الأنباري عليها شرح مفرد.
وقد رأينا من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحًا أنها منحولة وضعها مثل حماد الراوية، أو خلف الأحمر، وهو رأي فائل؛ لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في كلام الصدر الأول؛ وإنما تصحح الروايات بالمعارضة بينها؛ فإذا اتفقت فلا سبيل إلى ذلك، غير أنه مما لا شك فيه عندنا أن تلك القصائد لا تخلو من الزيادة وتعارض الألسنة، قل ذلك أو كثر؛ أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التاريخ.(3/125)
امرؤ القيس
مدخل
...
امرؤ القيس:
هو حندج بن حجر، الحندج الرملة الطيبة تنبت نباتًا حسنًا، وليس في العرب حجر -بضم الحاء- غير هذا؛ ومعنى امرئ القيس: رجل الشدة، والمسمون بهذا الاسم في العرب جماعة ذكر منهم السيوطي ستة عشر في كتابه "المزهر"؛ ومؤرخو الروم يذكرونه في كتبهم باسم قيس.
يكنى أبا الحارث؛ وأبا وهب، ويلقب بالملك الضليل؛ وذي القروح، كان أبوه وأعمامه ملوكًا على قبائل من العرب، وكانت لأبيه على بني أسد إتاوة في كل سنة؛ فغبروا على ذلك دهرًا؛ ثم إنه بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم فمنعوه ذلك؛ وحجر يومئذ بتهامة؛ وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا؛ فسار إليهم وأخذ سراتهم فجعل يقتلهم بالعصا؛ فسموا عبيد العصا؛ وآلى أن لا يساكنهم في بلد أبدًا؛ وحبس منهم عمرو بن مسعود؛ وكان سيدًا؛ وعبيد بن الأبرص الشاعر؛ ثم إن عبيدًا استعطفه بأبيات منها:
برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامه
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه
إما تركت تركت عفوًا ... أو قتلت فلا ملامه
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامه
فرق لهم حجر وبعث في أثرهم؛ فأقبلوا؛ حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة يحضهم على قتله، فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر، فهجموا على قبته وخيم عليه حجابه ليمنعوه ويجيروه، فأقبل عليهم علباء بن الحارث الكاهلي، وكان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم، فأصاب نساه فقتله، وقيل غير ذلك، وأنهم أخذوه أسيرًا في حرب بينهم وبينه، فوثب عليه ابن أخت علباء فطعنه ولم يجهز عليه، فأوصى ودفع كتابه إلى رجل وأمره أن ينطلق إلى أولاده ويستقرئهم واحدًا واحدًا حتى يأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع دفع إليه سلاحه وخيله ووصيته، وكان بين فيها من قتله وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقرأهم واحدًا واحدًا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس فوجده مع ندين له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر! فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك! ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال: "الخمر علي والنساء
حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة"!
وفي خبر آخر أن حجرًا كان طرد امرأ القيس وآلى أن لا يقيم معه، أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر بن وائل فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى(3/126)
الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن فقال: ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر! ثم شرب سبعًا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره، وفي "الأغاني" رواية أخرى عن سيبويه عن الخليل بن أحمد "ص75 ج8".
ثم إنه نهد إلى بني أسد فقاتلهم، وكان أدركهم ظهرًا وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب -وهم الذين كانوا معه- أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: لقد أصبت ثأرك، قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشئوم، وانصرفوا عنه، فمضى هاربًا لوجهه، حتى أمده مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالًا من القبائل ثم خرج فظفر ببني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه إليه الجيوش فتفرق من كان معه ونجا في عصبته، فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على السموأل فعرف له حقه، فكان عنده ما شاء الله، ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر، فاستنجد له رجلًا فلما انتهى إلى قيصر -ذكر مؤرخو الروم أنه القيصر يوستينيانس, وقال بعضهم إن امرأ القيس قدم عليه في القسطنطينية فقلده إمرة فلسطين، إلا أنه لم يسع في إصلاح أمره وإعادة ملكه، فضجر وقفل راجعًا، ثم أصابه مرضى كالجدري في طريقه كان سبب موته- قبله وأكرمه وضم إليه جيشًا كثيفًا فيهم جماعة من أبناء الملوك، فلما فصل من عنده [وشى به] الطماح، وهو رجل من بني أسد كان امرؤ القيس قد قتل أخًا له. "ص73 ج8: الأغاني".
ثم دفن في سفح جبل يقال له عسيب ببلدة تدعى أنقرة، وقيل: إن ذلك سنة 538 للميلاد، أي: سنة 84 قبل الهجرة، وقيل: سنة 565م، ووفيات الجاهلية لا يعتمد فيها على نصوص التاريخ إلا الذين تكون أدمغتهم مجلدات من التاريخ القديم.(3/127)
طويلة امرئ القيس:
ذلك نبذ من تاريخ أمير الشعراء بسطنا منه بعض ما يكشف لك وجه نشأته، لتعرف الأخلاق التي كان لا بد لشعره أن يظهر بها مظهر المتميز والمتخصص، ثم نحن نسوق إليك طرفًا من الحديث عن طويلته، ثم نقذف بجملة الكلام عن شعره في فصل انتقادي؛ لأن امرأ القيس ليس بالشاعر الذي يقال فيه ولد ومات، فيترجم بألفاظ لا تفوت حتى تموت، ولكنه الرجل الذي افتتح به ديوان التاريخ الأدبي، وما زال فيه كأنه قطعة من الزمن، لا يغيره الموت ولا يغيبه الكفن!
كان من حديث تلك القصيدة أن امرأ القيس كان مولعًا ببنت عم له يقال لها فاطمة، وأنه طلبها زمانًا فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير* [حين مرت به فتيات وفيهن ابنة عمه يردن الغدير
__________
* قلت ما بين العلامتين [] زيادة على الأصل.(3/127)
ليبتردن، فتبعهم مختفيًا، فلما تجردن ودخلن الغدير وثب على ثيابهن فأخذها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطي واحدة منكن ثوبها حتى تخرج كما هي فتأخذه بيدها. فأبين ذلك عليه، حتى ارتفع النهار؛ فلما خشين فوات الوقت خرجت إحداهن فوضع لها ثيابها ناحية فلبستها....] ، ثم تتابعن على ذلك حتى فضحهن جميعًا، وذلك العهر الذي ليس بعده خلق ذميم ولا عهد أثيم، ثم حملن متاع راحلته بعد أن نحرها لهن، وحملته ابنة عمه على غارب بعيرها، فلما راح إلى أهله نفث الخبيث على لسانه، فقال هذه القصيدة وقص فيها ما كان وجعلها حديثًا باقيًا على الدهر.
وقد قابلنا بين أربع نسخ منها بروايات مختلفة، فما وجدنا نسخة تساوي الأخرى في عدد أبياتها، فهي في الجمهرة سبعون بيتًا، وفي الديوان الذي شرحه الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب 77 بيتًا، وهو ينقل في مواضع من شرحه عن ابن النحاس، فلعله قابل على نسخته؛ وفي شرح الزوزني 79، وفي نسخة أخرى من ديوانه 75 بيتًا؛ وهذه النسخ تختلف مع ذلك في كثير من الأبيات تقديمًا وتأخيرًا، وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة.
أما القصيدة فقد وقف فيها واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الديار والآثار، ثم استشعر العزاء وتجلد، ثم التاع وتنهد، ثم كأنه عفا وتجدد، وذكر يوم الغدير، ووصف عقر ناقته للعذارى، وتبذله لهن تبذل الجآذر، وارتماءهن بلحمها وشحمها، ثم ألم بأطراف العفاف من ابنة عمه، وتعهر في ذلك حتى كأن الكلام لا يمر بقلبه به يخلقه لسانه خلقًا، إلا في أبيات قليلة، ووصف الجمال وصفًا ظاهرًا يبلغ شهوة النظر، ثم وصف طول الليل وخرج من الفخر إلى صفة الخيل، واستتبع ذلك بالصيد والقنص والطعام، ثم رفع عينيه إلى البرق والسحاب، وخفضها إلى الجبل فزمله من المطر في ثياب، ثم أغمضها وسكت كما يسكت على خير جواب.
المختار في ذلك كله قوله:
أفاطم مهلًا بعض هذا التذلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطي بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل(3/128)
شاعرية امرئ القيس وأسباب شهرته:
كان امرؤ القيس يماني النسب ولكنه كان نزاري الدار والمنشأ، فإن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد، ومن ثم كانت له الفصاحة؛ وقد رأيت أن أباه وأعمامه كانوا ملوكًا، ولملكهم قصة رواها صاحب "الأغاني"؛ فلم يألفوا ما ألفته العرب من خشونة العيش وجفاء البداوة، بل كان أبوه حين يرتحل يقدم بعض ثقله أمامه ويهيئ نزله، ثم يجيء وقد هيئ له من ذلك ما يعجبه، فضربت القباب، واجتمعت القيان، فينزل، ويقدم مثل ذلك إلى ما بين يديه من المنازل "ص67 ج8: الأغاني".
فلا جرم كان ميراث امرئ القيس منه هذه الكبرياء التي تمسح شعره، وتلك النعمة التي يرف بها رفيفًا؛ وقد كان المهلهل الشاعر خاله، فنزع إليه بالعرق، واجتمع له الشعر والنعمة والكبرياء، على فراغ وشباب، فأفسدته، فشب خليعًا ماجنًا يتعهر في شعره، ولم يطرده أبوه أنفة من الشعر؛ لأن الملوك كانت تأنف منه كما يروى، ولكن حياء مما فيه؛ إذ كان شعره قد تغالبت عليه الشهوات حتى كأنه صورة قلبه ثم كانت العرب تروي ذلك منسوبًا إلى ابن ملك من ملوكها، وقد كان أبوه أراد أن يشغله عن الشعر فجعله في رعاء إبله حتى يكون في أتعب عمل، فلما كان الليل بات يدور إلى متحدثه حيث كان يتحدث، فقال أبوه: ما شغبته بشيء؛ ثم أرسله في خيله، فكذلك؛ ثم جعله في الضأن، فمكث يومه فيها، حتى إذا أمسى أراحها، فلما بلغت المراح دنا أبوه يسمع فإذا هو يقول: أخزاها الله وقد أخزاها، من باعها خير ممن اشتراها! ثم سقط ليلته لا يتحرك، لما أصبح قال أبوه: اخرج بها؛ فمضى حتى بعد عن الحي وأشرف على الوادي، فحثا في وجهها التراب فارتدت. وخرج مراغمًا لأبيه، فكان يسير في العرب يستتبع صعاليكهم وذؤبانهم، ويطلب الصيد والغزل وما إلى ذلك فلم يبق في شعره فضل لشرف النفس والعفة والحفاظ، ولولا تصعلكه ومخالطته الرعاء لما جنح في التشبيه إلى مساويك الإسحل، وحب الفلفل، ونقف الحنظل، وغيرها مما هو في شعره؛ ولما جاء في ذلك بالساقط والسفساف، وقد عابه عليه المتأخرون وما أنصفوه؛ لأنه لا يكون كابن المعتز الذي إليه انتهى التشبيه في صناعة الشعر، فهو يصف ماعون بيته إذ يقول في الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فانتقاد الشاعر من هذه الجهة خطأ بيّن؛ لأن ذلك سبب طبيعي لا قبل للانتقاد به وهو أشبه شيء بعيب الطويل لطوله، والقصير لقصره، والحبل لنسعته، ونحو ذلك، مع أن في تلك مناسبات أخرى تستدعي الإعجاب وتعد في محاسن الخلق.
ولا يذهبن عنك أن الذين ينتقدون امرأ القيس وغيره بما هو من خصائص الجاهلية، إنما نشأ عندهم ذلك بعد مقابلته بنعمة الحضارة وترف العمران، ولو كانوا في الجاهلية لكانوا أجهل منه؛ ولكن في شعر كل شاعر ما يمكن أن ينتقد في كل زمن، وذلك مما يكون سبيله سبيل المعاني الطبيعية، ولا يتفاوت في الناس إلا بمميزات أخرى ترجع إلى النشأة وسلامة الذوق وخلوص الفطرة ونحوها من الصفات التي هي تأويل معن التفاوت.
ومن تدبر ما نقلوه من شعر امرئ القيس يخيل له أول وهلة أن هذه الشهرة التي رزقها ليست(3/129)
على مقدار شعره، ولا هي في وزن براعته، ولكنها جاءته من ذكره في الحديث الشريف، وما زين به الرواة أخباره وشعره حتى كأنما عوضه الدهر من ملك النسب ملك الأدب، ولكن ذلك إنما يعتريه إذا قرأ بعض ما نسب إليه لا جميعه؛ لأن في شعره منحولًا كثيرًا، وبعضه يلائم ديباجته فيكاد يلتحم به حتى لا يميزه إلا دقيق النظر، ولا برهان لدينا على النفي والإثبات في شعر مثل امرئ القيس ومنزلته ما هي؛ وليس من شاعر أو راوية إلا وقد أحب أن يكون له في كلامه لفظ أو معنى، ولذلك تعاوروا ألفاظه بالتغيير والتبديل، وأدخلوا في شعره ما ليس منه، وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرًا بين طويل وقطعة "ص67 ج1: العمدة" ولذا نفى الأصمعي الأبيات المروية التي يقول فيها:
ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وقال إن امرأ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. فما استطاع أن يستدل على ذلك إلا بقوله فيها:
فتوسع أهلها أقطًا وسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وري
لأن مثل هذا لا يقوله من يذكر عن نفسه أنه لا يقتصر إلا على الحصول على الملك "ص175: شرح ديوانه". وإنما يناسب مثل الحطيئة لما في شعره من الجشع والضراعة.
وقد بالغوا في الحمل عليه حتى كأنه دابة الشعر، فنسبوا له سخف القول وساقط الكلام وما يجري مجرى الهذيان؛ ورأيت في بعض نسخ ديوانه قصيدة لامية أشبه شيء بالجلجلوتية وشعر الطلاسم، منها:
فكم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم ... قطعت الفيافي والمهامه لم أملّ
وكاف وكفكاف وكفي بكفها ... وكاف كقوف الودق من كفها انهمل
وهذا المغفل الذي نحله هذه القصيدة جرى في بعضها على قياس قوله في القصيدة التي تروى له "ص119: من ديوانه":
وسن كسنيق سناء وسنم ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
ولعل هذه "الكمكمة" من قول محمد بن مناذر البصيري في معنى التكثير "ص60 ج2: العمدة". غير أن الناقد البصير يستطيع أن يتبين أسلوب امرئ القيس من قراءة قصيدتين أو ثلاث مما صح له، فيستخلص منها صفات شعره التي ميزته بالتقديم وجعلته أمير الشعراء وصاحب لوائهم؛ إذ كان أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وقبل أن نأتي على شيء من ذلك نذكر نشأته الشعرية وما استخلصناه من الأسباب الطبيعية في شهرته:
كان امرؤ القيس يروي شعر أبو دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه "ص61 ج1: العمدة" وهو فحل قديم كان أحد نعات الخيل المجيدين. قال الأصمعي: هم ثلاثة: أبو داؤد في الجاهلية، وطفيل، والجعدي. قال: والعرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وذلك أن ألفاظهما ليست بنجدية "ص38: الطبقات".(3/130)
فلو أن امرأ القيس لم يكن من أهل نجد لكانوا قد أهملوا رواية شعره ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول؛ فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك؛ حتى لا يخلو أكثر شعره من هذا الوصف.
وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص؛ والشنفرى، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والتوأم اليشكري؛ وكان من حشم أبيه شاعر اسمه عمرو بن قصبة، وهو الذي ذكره في قصيدته التي قالها حين توجه إلى قيصر، وذلك في قوله:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
وكل هؤلاء لم يقع للرواة من شعرهم مقدار ما وقع في أيديهم لامرئ القيس؛ فكان ذلك سببًا من أسباب تميزه وانفراده.
وثم سبب آخر، وهو أن الذي في يد العلماء من أهل الغريب والعربية وعلماء البيان لا يجتمع منه لشاعر واحد جاهلي ما اجتمع لامرئ القيس؛ وهو عندهم طبقة متميزة لفصاحته وقدمه؛ فشعره أشبه شيء بأقدم كتاب في اللغة عند من يظفر به من المتأخرين، وكأنما كان بعضهم يجله عن الانتقاد في ألفاظه؛ فكل ما استعمله فصيح من حيثما تلقفه وكيفما جاء به، وإن كان ذلك لا شك في صحته دون فصاحته؛ فإن أهل النظر من علماء البصرة يقولون في تأويل بيته:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
إنه لما جاور في طيء علق من لغتهم، وهم يقلبون الياء ألفًا؛ يقولون في رضينا: رضانا؛ وكذلك خظاتا أصله خظيتا؛ فقلب الياء الفًا؛ وهي لغة لم يلتزمها الشاعر، ولا وجه لها إلا أن يكون ميزان لسانه قد تعطل في هذه الكلمة كما تعطل في غيرها؛ فانحدرت منه ثقيلة غثة باردة؛ والعجيب أن علماء المعاني والنحو والعروض انتقدوه جميعًا وأخذوا عليه أشياء كثيرة؛ ولكن مات الانتقاد وبقيت الألفاظ حية، حتى إن أكثر ما قالواه لا يعرف اليوم ولم يورد منه شراح ديوانه إلا القليل؛ ولعلهم فعلوا ذلك ليتكافأ الانتقاد مع شهرة الرجل، وهؤلاء أصحاب البيان ما زالوا يطأطئون من الغدائر المستشزرات في كلامه ويضربونها مثلًا في التنافر والثقل، ولكن "مستشزرات" هذه كانت قد رسخت قبلهم حتى لم يستطيعوا أن يحدروها عن منزلتها من الشهرة، وذلك من عجائب امرئ القيس، فإن له ألفاظًا وإن كانت أحجارًا، إلا أنها ثابتة من شهرته في جبل.
والعلماء بالشعر يقولون إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء؛ لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه؛ وقلما يخلو كتاب في الأدب من هذه الكلمة، وهي مع ذلك مقبولة كأنها ناموس من نواميس الطبيعة في شهرة هذا الشاعر، على أنها -كما ترى- لم تعزز ببرهان، ولم يمسكها دليل، فليس ما يمنعنا أن نمسها بالمحك فنخلص إلى حقيقتها.(3/131)
أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول إلخ، فلا يكون دليله إلا تتبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه، وهو شيء لا يصدق مدعيه كائنًا من كان؛ لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي دؤاد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلًا عمن أهملهم الزمن وجلدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل: "وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة" فإن هي إلا كلمة مولد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسيب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد؛ ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيب.
وأما أن هذا الشاعر أول من قرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، أجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أن أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع فيه، وجملة ما حفظ له منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعًا.
بقي سبب آخر من أسباب شهرة امرئ القيس في العرب وبقاء شعره على ألسنتهم وهو أنهم يجدون في بعض كلامه رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم يرونه إذا أخذ في غير هذه المعاني يطبع ألفاظه على قالبها من الاستعارة والتشبيه، فإذا قابلوا ذلك بخشونة غيره وانصرافه إلى أوصاف البداوة، وجدوا في شعره كالظل الذي يفيء، والماء الذي يجري والحسن الذي يتميح، والنسيم الذي يترنح؛ فكان ولا جرم كأنما يستهويهم استهواء، وكان مجموع شعره في البدو حضارة وفي الحضر بداوة؛ وهذا مروان بن أبي حفصة الشاعر أنشده العتبي لزهير، فقال: هذا أشعر الناس، ثم أنشده للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشده لامرئ القيس فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس "ص9: الطبقات" ومروان شاعر [في صميم] الحضارة، فكيف بالعرب؟ وعندي أن هذا أعظم ما تتميز به شاعرية امرئ القيس؛ لأنه دليل الصنعة [تبرز على] الطبع، والطبع الذي يبلغ في سموه مبلغه بالصنعة؛ وهو الدليل الذي لو سقط من شعره لسقط بشعره لا محالة.(3/132)
شعر امرئ القيس:
لم نعد ما عددناه من أسباب شهرة هذا الشاعر وهو قليل مجمل، إلا توطئة لما يأتي من انتقاد كلامه، فإنه عند المتأخرين أفق لا يحس إلا بالنظر، ورجل كأنما كانت شهرته قدرًا من القدر، يأخذون ذلك بالتسليم، ويقولون هو أمر كان من قديم؛ مع أن أدباء الصدر الأول قد تكلموا في خطئه في العروض والنحو والمعاني، وعابوا عليه كثيرا من شعره وخطئوه في وجوه من التصرف، ولا يزال ديوانه يدعو إلى ذلك؛ لأنه هو هو اليوم وقبل اليوم، غير أن أولئك المتأخرين أصبحوا يرون هذا الديوان كدار الآثار: لا يطمع الحي ببعض الإجلال لميت من أمواتها.
كل ما يتناوله امرؤ القيس في شعره من المعاني، لا يتجاوز الغزل، والاستهتار بالنساء، ووصف الصيد والخمر والطيب والخيل والنوق وحمر الوحش والطلول والجبال والبرق والمطر؛ أما افتخاره(3/132)
في شعره فقليل جيد، والحكمة فيه أقل وأكثر جودة، ومن عيونها قوله:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
وهو يخرج بعض ذلك مخارج نافرة، فلا يتناسب شعره في الجودة، ولا يطرد في سلامة اللفظ، ولا يتشابه في صحة المعنى، بل يجيء بالشريف والسخيف، والمبتذل والضعيف؛ حتى كأن شعره صور على اضطراب أخلاقه، ولا يعلل ذلك إلا بتفاوت الأحوال التي يقول فيها، وأنه لم يكن يقصد إلى الشعر قصدًا إلا في القليل الذي أجاده وبرع فيه، أما فيما عدا ذلك فقد منعته الثقة بنفسه أن يتتبع عليها ويقابل بين وجوه الكلام، وذلك بديهي: وإلا فلا معنى لأن يكون مرة نجمًا في السحاب ومرة حجرًا في التراب؛ والشاعر الذي يسف إنما يسقط في طبقات الهواء لا في طبقات التراب؛ ولذلك كان جيد امرئ القيس أجود شيء، ورديئه أردأ شيء.
وغزل هذا الشاعر ساقط كله؛ لأن استهتاره وتبذله معناه أن يتلطف في المعاني بما يستلزمه الإبداع في التعريض والكتابة، والاكتفاء باللمحة الدالة، فبردت حرارته بذلك التصريح، وثقل على القلوب إلا قليلًا مما يفتن فيه، فيجيء حسنه من صنعة المعنى لا من المعنى نفسه، كقوله:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فإنه نزع فيه إلى الحماسة، وهو بيت لو دار في كل أمة لوجد له في شعرها موضعًا؛ وكذلك قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
وهذا البيت من مخترعاته، فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، قال صاحب "العمدة": وهو أول الناس اختراعًا وأكثرهم توليدًا "ص175 ج1: العمدة" فلا يبغي من شعره إلا الوصف. ومداره على الاستعارة والتشبيه، وسنأخذ بطرف من الكلام فيهما، ثم نفصل به إلى القول في معانيه ومبلغ انطباق ألفاظه عليها، لنتبين موقع نظره في مطارح الكلام، ومذهب فؤاده من أسرار الصناعة؛ ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن الأدباء قد وضعوا أشعارًا من البديع ونحلوها امرأ القيس، يقصدون من ذلك إلى الغض من شأن الذين اخترعوا تلك الأنواع؛ حتى يوهموا أنهم سبقوا إليها؛ أو إقامة الشاهد على بعض ما يتباغضون فيه من مبتذل الشعر.
ومن النوع الأول ما أورده ابن رشيق "ص55 ج2: العمدة" بعد أن أورد بيتين لأبي نواس فقال: وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:
لمن طلل دارس آية ... أضر به سالف الأحرس
تنكره العين من جانب ... ويعرفه شغف الأنفس
وليس فيما دونوه لامرئ القيس؛ والتوليد فيه بين.
ومن الثاني ما أورده ابن رشيق أيضًا "ص25 ج2: العمدة" عند الكلام على التقطيع والتقسيم من باب الترصيع، كقول المتنبي:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
فإنه قال: وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاذ فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل
ومهما تهافت امرؤ القيس فلا أراه يسقط على مثل هذا.(3/133)
استعاراته:
قالوا إن الاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتدارًا ودالة، وليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم؛ وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فهم إنما استعاروا مجازًا واتساعًا، ومرجع ذلك إلى شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو بحسن المعرض الذي يبرز فيه، تبسطًا في اللغة، واسترسالًا في طرق التعبير، فعلى هذا تكاد تكون الاستعارة البيان كله، وليس من غرضنا أن نشرح أقسامها، أو نلم بما قالوه في تحقيقها، وإنما نتكلم عليها في شعر امرئ القيس خاصة، فهي التي ميزت شعره، وقلدت في جيد الزمان دره، وأكسبته شهرة أنه أول من أفلح في شق هذه الصدفة حتى زعم ابن وكيع "ص106 ج1: العمدة" أن أول استعارة وقعت في الكلام قوله:
ويل كموج البحر أخرى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وليس يخفى أن العربي الذي يجيء بالاستعارة المتمكنة إنما كان ينظر فيها ويديرها إدارة، بحيث لا تتفق اتفاقًا ولا تجيء عفوًا إلا في النادر، ولذلك قل الجيد منها في كلامهم حتى نزل القرآن، فتكون من هذه الجهة اختراعًا يدل على قوة غير قوة الفطرة، وهي في شعر امرئ القيس أكثر منها في المأثور من شعر غيره من الجاهلية، وأصفى ماء، وأعذب رواء، وحسب ذلك أن يكون دليلًا على تفضيله، وأشهر الاستعارات التي اتفقت له هذان البيتان.
فاستعار لليل سدولًا يرخيها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها وكلكلا ينوء به. وقد تنازعهما الأدباء، حتى جريا مجرى المثل، وقلما تجد كتابًا في البيان خاليًا منهما، وقد ذكر الآمدي في "الموازنة" البيت الثاني، ورد عليه ابن سنان وجعله من الاستعارة المتوسطة، وفرق بينهما صاحب المثل السائر، ولكنه على كل حال بمنزلة من الحسن.
وسنخط في البيتين كلمة موجزة: أما الأول فإن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه لا أحسن منه، لما يجيش فيه من الظنون ويتقلب من الخواطر، ثم هو مرمى البصر من سريرة الكون؛ فذلك شبه اتساع البحر وغوره بالنسبة لما يدرك النظر منه، غير أن قوله: أرخى سدوله، ذهب بذلك الحسن كله، إذ أفاد أن الغرض من التشبيه غرض محسوس، وهو أدنى أنواعه؛ لأن إرخاء السدول إنما يدل على السكون والحجاب، لا أكثر من ذلك، والكلمة استعارة لظلام الليل، فصارت لفظة الموج لا معنى لها إلا إقامة الوزن، وهي التي كانت عمود الحسن في التشبيه.(3/134)
وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل، ولست أراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يردف أعجازه ثم ينوء بكلكله. فالوصف حقيقة ممثلة وتصوير ناطق، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعار أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عده من التشبيه المضمر الأداة؛ لأنه به أليق.
ومن تصرفه بالاستعارة في شعره قوله:
وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر
هر: هي المعروفة بابنة العامري وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، والرباب، وهند، وفرتنا، ولميس؛ وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصادته فيما تصيد، قالوا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف!.
فقد ألزموه الاستعارة كما ترى حتى قارنوا بينها وبين استعارة زهير في قوله: "ص183 ج1: العمدة".
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
ولكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من مثله؟ والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى الذي قصد إليه؛ فإن هرا كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيئ أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتنادر عليه، وإذا خرج البيت على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سببًا لكناية من أبلغ الكنايات.
ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته في هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد؛ ولقد حاول المولدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة، وذلك كقول ابن الرومي في الحديث:
شرك العقول وعقلة المستوفز
وقول المتنبي في صفة الجواد:
أجل الظليم وربقة السرحان
ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:
يا فارسًا، ما أبو أوفى إذا اشتغلت ... كلتا اليدين كرورًا غير وقاف
"عبر الفوارس" معروف بشكته ... كاف إذا لم يكن من كربة كاف
فالكلمة هي "عبر الفوارس" يريد بها أن الفوارس ترى منه ما يبكي أعينهم ويستعبرها "ص255: سرح العيون".
وهذا وأمثاله مما يدل على فطنة الشاعر وحدة فؤاده، وأن له من قوة الفطرة ما يقوم مقام الصنعة؛ وتلك صفات يدل عليها كثير من كلامه، غير أن امرأ القيس إنما كان مبتدئًا فيما ابتدع، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ البديع كله من شعره، وليس هذا بضائره ونحن الآن في الكلام عن استعاراته؛ ومن الاستعارة نوع اتفق علماء البديع أنها المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في(3/135)
البلاغة رتبة، وهي الاستعارة المرشحة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء، رشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة؛ وهذا النوع لا تصيب منه في شعر امرئ القيس مثالًا واحدًا؛ والذي بقي من استعاراته إنما هو في سبيل ما قدمناه، وهو قليل تدل جملته على قلب يعي وفؤاد يصنع، وشعر في زمنه شاعر؛ ولا نستطيع أن نوازن بين مذاهبه في الاستعارة ومذاهب المولدين، فلو سمع هذا الشاعر القرآن وكان أمويا أو عباسيا لكان ابن المعتز ثان اثنين في الاستعارة والتشبيه.
وقد أخرجوا من كلامه كلمات جرت أمثالًا، ورواها الميداني والضبي وغيرهما "انظر شعراء النصرانية ج1 ص68".(3/136)
تشبيهاته:
قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمنا آثاره في ذلك المذهب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل؛ ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، ربما أغني في بعضه المثال الواحد؛ إذ كان امرؤ القيس مبتدئًا في شيء ومبتدعًا في شيء وجهده في جميع ذلك أن تحصي له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض. ثم هو إنما كان شاعرًا من شعراء الفطرة، يعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش؛ فينطلق كلاهما على نفس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة، فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي [يعرق] فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكان للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتًا واحدًا لو جمع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس.
أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويرًا غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فقد جاء به -كما ترى- حتى جعله تحقيقًا، وفيه أيضًا تشبيهه أربعة بأربعة، وقد زعم الفرزدق أنه أكمل بيت قالته العرب، أو قال: أجمع بيت "ص21 ج2: العمدة" وهو أول من فتح هذا الباب "ص199 ج1: العمدة".
وقد يجيء بعضها مخدجًا غير تام الأجزاء، وتبلغ ببعضها المبالغة إلى الاعتساف والشطط، كقوله في صفة الفرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
الخيفانة: الجرادة التي انسلخت من لونها الأول الأسود أو الأصفر وصارت إلى الحمرة، فشبه فرسه بها لخفتها، وشبه ناصيتها بسعف النخلة، قالوا: وهذا الوصف غير مصيب؛ لأن الشعر إذا غطى(3/136)
العين كان عيبًا، وهو الغمم، والحسن منها أن تكون الناصية كأنها حبشة، أي: قصيرة مجتمعة "ص13 ديوان امرئ القيس" وفي هذه القصيدة وهو مما نحن فيه:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
يريد أن لها متنين كساعدي النمر البارك، في الغلظ واكتناز اللحم؛ والمستحب عندهم تعريق المتن وتعريق الوجه، كما قال طفيل وهو أحد نعات الخيل المجيدين:
معرقة الألحى تلوح متونها
أي: معرقة الوجوه ويكاد يستبين العصب من قلة اللحم، وكذلك المتون؛ وقد وصف امرؤ القيس الخيل في هذه القصيدة وصف سمسار يزين فرسًا في السوق لا وصف فارس، ولولا تصعلكه لجاء من ذلك بما لا يلحق له الشعراء غبارًا، وهذا شيء تعرفه بمقارنة معانيه في الخيل بمعاني غيره من فرسانها. ومن قبل ما نحن فيه قوله في الغزل:
وإذا هي تمشي كمشي النزيـ ... ـف يصرعه بالكثيب البهر
يصف تفتر الحسناء في مشيتها بمشية المنزوف دمه أو عقله بالسكر إذا صعد كثيبًا فانقطع نفسه من الإعياء والكلال، فانظر هذه المبالغة الباردة وهذا التشبيه القبيح، وما عسى أن تكون تلك الحسناء إلا في الدرجة الثالثة من السل.
ولهذا الشاعر طريقة في التشبيه جاء منها بأبيات معدودة، وهي تناسب التتبيع الذي سنتكلم عنه؛ لأنه كان أول من اخترعه، وهذه الطريقة هي أن يريد من الوصف ما يلزم من حقيقته الممثلة في الذهن، وقد اتفق له من ذلك ما يعد غاية في الحسن، كقوله في وصف سالفة الفرس:
وسالفة كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوي السعر
فلقد أراد من وصف عنق الفرس بأنها شجرة متوقدة من شجر الكندر ما يستتبعه هذا الوصف من لون النار، وهي الشقرة، فكأنه أراد أن يقول إن فرسه شقراء، فاحتال لذلك بهذا التشبيه البديع، وقد أخذ هذا التشبيه أوس بن حجر فقال:
حتى يلف نخيلهم وبيوتهم ... لهب كناصية الحصان الأشقر
وبيته معدود عند أهل البديع من عجيب ما وقع في باب التتبيع "ص217 ج1: العمدة"؛ لأنهم يقولون إنه أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة.
وبمقدار ما أحسن [امرؤ القيس] في هذا القول أساء في قوله:
كأن على لباتها جمر مصطل ... أصاف غضا جزلًا وكف بأجزال
وهبت له ريح بمختلف الصوى ... ضبا وشمال في منازل قفال
وهي على طريقته تلك؛ فإنه أراد أن يصف توقد الحلى وصفاءه على لبات تلك الحسناء، فخلص إلى ذلك من طريق الشياطين والزبانية.... إذ لم يكفه أن جعله على صدرها كالجمر، بل خصه بجمر المصطلى؛ لأنه لا يزال يذكيه ويقلبه فهو يتوقد ويظهر جمرة جمرة، ثم كأنه استقل هذا(3/137)
كله على صدرها فجعل الجمر من الغضا، وهو شجر معروف يقال إن جمره أبقى الحمر وأحسنه، ثم جعل لهذا الجمر كفافًا من أصول الشجر، وهي الأجزال، حتى تزيد في وهجه وتوقده، ثم لما كان قد تلك الحسناء لا بد أن يكون ممشوقًا فقد جعل هذه النار من صدرها على مثل اليفاع من الأرض، لتكون الريح أشد تمكنًا منها، ثم جعلها في منازل راجعين من الأسفار فهي توقد لهم ويحتفل فيها على ما هو معروف من عوائدهم. فليت شعري هل يبقى بعد هذا الحريق من لبات الحسناء ما يناط به الحلى، فضلًا عما يظهر حسنه وتوقده؟.
وأعجب شيء في أوصاف امرئ القيس وهو ابن ملك، أنه يصف الجميلة بحسن الغذاء، يصف سنا البرق بمصابيح راهب أهان في ذبالها السليط، وهو الزيت، فلم يعزه لكثرته عنده ... وهكذا مما لا يؤخذ منه إلا أنه كان صعلوكًا يصف للصعاليك، وهو دليل أيضًا على ما قدمناه من أن شعره صورة غير مرتبة من حياته.
ومن بدائع التشبيه التي اتفقت له قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
المراد بحباب الماء: إما طرائقه، أو فقاقيعه؛ فمن ذهب إن الحباب الطرائق فإنما أراد: أني جئت أتدفع إليها كما يتدفع الماء شيئًا بعد شيء حتى صرت إلى ما أريد، ومن ذهب إلى أن الحباب الفقاقيع، فإنه أراد خفة الوطء وإخفاء الحركة؛ وكلا المعنيين غاية في تصوير تلك الحال، مع اللطف والرقة وبراعة التشبيه؛ وقد تقدم أنه من مخترعاته التي سلمها له الشعراء، وهو أحد المعاني التي تلم بها خواطرهم فتختلس منه ما تختلس الألحاظ، وكثيرون قد ألموا به، ولكن الغاية في ذلك قول ابن شهيد الأندلسي "ص143 ج2: نفح الطيب":
ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس
دنوت إليه على قربه ... دنو رفيق درى ما التمس
أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس
ومن هذه القصيدة قوله يذكر العقاب حين شبه فرسه بها، وهو من المخترعات أيضًا في معناه، وأسلوبه طريقة من طرائقه المبتكرة:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
العناب ثمر أحمر، والحشف ما يبس من الثمر ولم يكن له طعم ولا نوى. وقد أجمع الرواة على أن هذا أحسن بيت جاء في تشبيه شيئين بشيئين في حالتين مختلفين. وقتديره: كأن قلوب الطير رطبًا العناب ويابسًا الحشف البالي؛ فشبه الطريء من القلوب بالعناب، والعتيق بالحشف؛ وخص قلوب الطير؛ لأن فرخ العقاب فيما يأكل لحم الطائر ما خلا قلبه، فلذلك كثرت قلوب الطير عندها، وقيل: غير ذلك. والتشبيه كما ترى ليس بشيء، غير أن الطريقة التي بها هي دليل من الأدلة على فضل صاحبها، ولم يحفظ قبل امرئ [القيس] بيت على هذا النمط، فهو أول من جاء بذلك من(3/138)
الشعراء، وقد رووا أن بشار بن برد قال: ما قر بي قرار بعد أن سمعت بيت امرئ القيس حتى صنعت:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه
فقد اتبع الطريقة نفسها؛ وقالوا في بيته إنه لم يقع بعد بيت امرئ القيس في الترتيب أحسن منه؛ ولكن البيت الأول يفضله بأنه أورد التشبيه في حالتين مختلفتين، إذ قلوب الطير واحدة، ولكن التشبيه إنما وقع على حالتيها من الطراءة واليبوسة، وقد غفل عن ذلك بشار؛ وبالجملة فإن امرأ القيس وسط بين شعراء التشبيه؛ وإن كان قد أكثر منه واحتذى فيه فعل أبي دؤاد والمهلهل وغيرهما، إلا أن له طرقًا في هذا التشبيه هي من مبتكراته، وهي كل ما في يدنا من الأدلة على براعته وحسن تصرفه ورجحانه على غيره من متميزي الشعراء. وقد عدل المولدون عن تشبيهات الجاهلية إلى ما هو أليق بأزمانهم وأدنى شبهًا منها، ولكنهم مع ذلك لا يزال في مجموع أشعارهم موضع لبعض أبيات امرئ القيس، كقوله: سموت إليها..... وغيره، على أن أكثر شعراء الجاهلية قد خرجوا من هذا الباب، ولم يرض المولدون أن يقفوا عليه ولا وقفة الحجاب!(3/139)
تتمة الانتقاد:
بقي علينا -بعد أن تكلمنا في استعارات امرئ القيس وتشبيهاته- أن نأتي على بقية هذا الكلام مما يصف معانيه وألفاظه وما يقع عليه الناقد في سائر كلامه ويصيبه من حسناته المتفرقة في كتب البيان، وقد أشرنا إلى بعض مبتكراته تلك ونحن مستوفون سائرها هنا, قالوا: إنه أول من فتح باب الاحتراس، وذلك في نحو قوله "ص6: الديوان":
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
أي: واليوم بارد، فاحترس وكان الاحتراس بالقافية التي هي تمام البيت وهذا من أبدع ما يجيء؛ لأنه يزيد في تمكين القافية ويكسبها عزة لا تكون لكلمة غيرها في البيت بجملته.
وقد رأينا هذا الشاعر يبالغ في استقصاء جزئيات المعاني مبالغة هي طبع فيه، وهي عند التي هيأت له مثل هذا الاحتراس، وقد مر في ذلك ما وصف توقد الحلى، ومثله في كلامه كثير وسيمر بك شيء من بديعه، وكذلك قالوا في التتبيع، وهو من أنواع الإشارة وذلك أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه. قال ابن رشيق "ص215 ج1: العمدة": وأول من أشار إلى شيء من ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله "يضحى فتيت المسك" تتبيع، وقوله: "نئوم الضحى" تتبيع ثان، وقوله: "لم تنتطق عن تفضل" تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المئونة، فجاءها بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.
وقال [ابن رشيق] أيضًا في باب التمثيل الذي هو من ضروب الاستعارة -وذلك أن تمثل شيئًا(3/139)
بشيء فيه إشارة إليه- إن امرأ القيس أول من ابتكره ولم يأت أملح من قوله فيه:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر، يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه لسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له الاستعارة والتمثيل1.
وقال في الإيغال: وهو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها: وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالًا في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه خفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقوله: "لم يثقب" إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به، حب الفنا لم يحطم
فأوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر في فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن؛ فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة وكان خالص الحمرة؛ وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل
فأوغل بقوله: "الوجل" بعد أن قال الوحي؛ وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين؛ وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره، وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيها مطمعًا بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده.
أما ما جاء في شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتبهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلو، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره
أي: لا منار له فيهتدي به؛ والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع
__________
1 كانت الجزور تقسم على عشرة أعشار، والمراد أنها ضربت على قلبه بالسهمين فاختارته كما تختار بهما أعشار الجزور.(3/140)
المؤتلف والمختلف، وغيرها, فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء به، على أنهم في أكثر ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معروف قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع في ذلك شيء فهو مبتكره، ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن؛ وبعضه لا يعدلون به شيئًا، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب، أنه لم يتخلص أحد تخلص امرئ القيس، ولا سلم سلامه في هذا الباب إذ يقول:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بوادي الخزامى أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
ليالي سليمى إذ تريك منضدًا ... وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
ولكن بعض تلك الأنواع اتبع فيها امرؤ القيس غيره، كما احتذى في الغلو على قول مهلهل:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيت قالته العرب؛ لأن بين حجر -وهي قصبة اليمامة- وبين مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وفاضلوا بين البيتين فقالوا إن مهلهلًا أشد غلوا من امرئ القيس؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقدن بالصفاح نار الحباحب
قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنور صاحبة النار إفراطًا، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضًا:
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
إذ ليس خارجًا عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض؛ فالغلو فيه ضعيف؛ وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه؛ والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصير بصنعة الكلام؛ [وأن] فضله إنما هو في طريقة إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ وتصريف الأسلوب؛ وانظر إلى قوله:
كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقد اعترض في هذين البيتين وقيل: خالف وأفسد ولو جمع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكر في بيت، والنساء والخمر في بيت، لكان أصوب، وإنما غفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع المعنيين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان،(3/141)
وكذلك لو فعل في البيت الثاني لكان ذكره اللذة زائدًا في المعنى؛ لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، وإنما وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهية، وقد أتبعه المتنبي في قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
وذكر الواحدي في شرحهما اعتراض سيف الدولة عليه وعلى امرئ القيس وتخلص المتنبي لنفسه وله، غير أن ترتيب امرئ القيس أبدع وفيه من الفائدة ما ليس في بيتي أبي الطيب.
بقي أن نذكر بعض المآخذ التي أصبناها في شعر هذا الشاعر، فمن ذلك أنه له استعانة ضعيفة بالحروف والكلمات، كقوله:
ألا رب يوم منهن صالح
وأن له تكرارًا قبيحًا في الألفاظ والمعاني يجيء بها على وجه واحد في مواضع مختلفة من غير أن يتصرف في ذلك بما يخفي قبح هذا التكرار وينفي عنه الظنة.
ومنها دخوله في وجوه المناقضة والإحالة في بعض الكلام، وذلك مما يدل على أنه يرسله إرسالًا كما اتفق، لا يبتغي به إلا لذة المنطق، وإلا مواتاة ما في نفسه من الميل إلى القول؛ وبهذا كان ختام قصائده مقتضبًا، وقلما قطع الشعر على كلمة بديعة إلا في القليل كختام قصيدته السينية:
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وعبد المشيب طول عمر ملبسا
فكأن الشعر يقترح عليه اقتراحًا متى فرغ من المعنى الذي يريده سكت دون أن ينظر إلى موضع السكوت وأن الإصابة فيه كأحسن الكلام.
ومنها استعمال الكلام المؤنث في شعره، كقوله: لك الويلات إنك مرجلي، ونحوه، دون أن يوطئ لذلك بما يحسن التضمين ويخرج الكلمة المؤنثة مخرجًا لا يكفي فيه أن يكون حلقيا فقط.
أما ما وقع له غير ذلك من اضطراب بعض القوافي وثقل الألفاظ مما يكد لسان الناطق المتحفظ، فذلك متجاوز عنه بعذر البداوة، والغريب عندنا مألوف عند أهله.(3/142)
المنازعة بين امرئ القيس وعلقمة:
لما نزل امرؤ القيس في طيئ تزوج امرأة منهم تسمى أم جندب، وكان مفركًا وكانت تكرهه، فنزل به علقمة بن عبدة فتذاكر الشعر وادعاه كل واحد منهما على صاحبه، فقال علقمة: فقل شعرًا تمدح فيه فرسك والصيد، وأقول في مثل ذلك، وهذا الحكم بيني وبينك -يعني تلك المرأة- فبدأ امرؤ القيس يقول:
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب(3/142)
فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وكان في قول امرئ القيس:
فللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب
وفي قول علقمة:
فأقبل يهوي ثانيًا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب
فتحاكما إليها، فقالت: هو أشعر منك؛ لأنك ضربت فرسك بسوطك وامتريته بساقك وزجرته بصوتك وأدرك فرس علقمة ثانيًا من عنانه. "ص77: ديوان امرئ القيس".
وفي رواية أخرى أنهما احتكما إلى أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها جميعًا، فلما حكمت لعلقمة قال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني ولكنك له وامقة؛ فطلقها فخلفه عليها علقمة. "ابن قتيبة".
وما رأيت أحدًا من أهل النقد وازن بين القصيدتين، بل كلهم متبعون كلمة هذه المرأة، وبعضهم لا يعرف ما كان بينها وبين امرئ القيس فيقول إنهما تحاكما إليها في المفاضلة بينهما؛ لأنها من ذوات العقل والمعرفة. مع أن علقمة معدود من الشعراء المغلبين وامرؤ القيس يقول في قصيدته:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مشل مغلب
وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من بعلها، فقرعت أنفه على حمية ونخوة وهي تعلم أنها لا بد مسرحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل؛ لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة، وهو قوله:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
وقد مر شرحه وبيان وجه البلاغة فيه، ولكن من التمس عيبًا وجده، ومن تدبر صنعة امرئ القيس للخيل في شعره وجد السوط لا يفارقه، فلعلها كانت عادته.
وقصيدة علقمة بجملتها ليست بشيء؛ لأنه كل ما فيها من الألفاظ البارعة والمعاني الحسنة مأخوذ من قصيدة امرئ القيس، حتى ليأخذ البيت برمته والشطر بحاله، ومع ذلك فقد أبر عليه امرؤ القيس، في الصنعة، وما أدري كيف هذا، فلولا أن الرواة مجمعون على أن قصيدة علقمة مما صح له لقلت إنها مصنوعة، ثم إن الذين رووا خبر هذه المنازعة منهم، وهم عمرو بن العلاء؛ وأبو عبيدة، والأصمعي، لم يزيدوا شيئًا على ما سبق، وكان طبيعيا أن يتكلم امرؤ القيس في ذلك كلمة؛ لأن علقمة إنما رد إليه بضاعته، ولن يبلغ التوارد بين الشاعرين هذا المبلغ وأحدهما يسمع من الآخر، إلا أن يكون الاثنان قد اتفقا في الأخذ عن ثالث، وهو أغرب؛ وإن صح خبر هذه المنازعة فيكون ذلك هو السبب في تعفف امرئ القيس على الشعراء وإدلاله بشعره وذهابه إلى الظنة فيه؛ لأنه رأى من استحذاء علقمة واستجدائه ما ينفخ مثله إلى حد الروم، وما زال على ضلالة حتى لقي التوأم اليشكري فقال له: إن كنت شاعرًا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم، فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقًا هب وهنًا(3/143)
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا
وهي أبيات ستجيء في بحث الصناعات، فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك العصر من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر. كذا رواه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء "ص135 ج1: العمدة" وعلى ذلك يكون علقمة إنما غلب امرأ القيس بكلمة امرأته لا بقصيدته.
وقد رأينا أن نروي القصيدتين هنا ليكون وجه المقابلة فيهما بيتًا، ولا بد أن ننبه على أن أكثر ما في قصيدة امرئ القيس مفرق بألفاظه ومعانيه في قصائد أخرى له، ومنها أبيات لم يغير منها إلا القافية، وذلك بعض ما أخذناه على شعره "انظر الوسيلة الأدبية ص504، والجزء الأول من شعراء النصرانية ص23، وديوان امرئ القيس".
وقد رأينا أن نقف من الكلام على امرئ القيس عند هذا الحد؛ ففي بعض الكفاية كفاية؛ وما يكون دون غاية من الغايات فربما كان في نفسه غاية.(3/144)
قصيدة امرئ القيس *:
خليلي مرا بي على أم جندب ... لتقضى لبانات الفؤاد المعذب
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
عقيلة أتراب لها لا دميمة ... ولا ذات خلق إن تأملت جانب
ألا ليت شعري كيف حادث وصلها ... وكيف تراعى وصلة المتغيب
أقامت على ما بيننا من مودة ... أميمة أم صارت لقول المخبب
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقبًا بين حزمي شعبعب
علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب
فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب
عيناك غربا جدول في مفاضة ... كمر الخليج في صفيح المصوب
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
ومرقبة لا يرفع الصوت عندها ... مضم جيوش غانمين وخيب
غزرت على أهوال أرض أحافها ... بجانب منفوح من الحشو شرحب
ودوية لا يهتدى لفلاتها ... بعرفان أعلام ولا ضوء كوكب
تلافيتها والبوم يدعو بها الصدى ... وقد ألبست أقراطها ثني غيهب
بمجفرة حرف كأن قتودها ... على أبلق الكشحين ليس بمغرب
يغرد بالأسحار في كل سدفة ... تغرد مياح الندامى المطرب
أقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش غانمين وخيب
وقد أغتدي قبل الشروع بسابح ... أقب كيعفور الفلاة مجنب
بذي ميعة كأن أدنى سقاطه ... وتقريبه هونًا دآليل ثعلب
عظيم طويل مطمئن كأنه ... بأسفل ذي ماوان سرحة مرقب
__________
__________
* قلت: لم تكن هاتان القصيدتان مكتوبتين فيما تحت يدنا من "الأصل" ولكنا أثبتناهما على ما أشار المؤلف رحمه الله. وتروى هاتان القصيدتان على أوجه أخرى.(3/145)
يباري الخنوف المستقل زماعه ... ترى شخصه كأنه عود مشجب
له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وصهوة عير قائم فوق مرقب
كثير سواد اللحم ما دام بادنًا ... وفي الضمر ممشوق القوائم شوذب
له جؤجؤ حشر كأن لجامه ... يعالى به في رأس جذع مشذب
وعينان كالماويتين ومحجر ... إلى سند مثل الصفيح المنصب
ويخطو على صم صلاب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب
له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذأب
ومستفلك الذفرى كأن عنانه ... ومثناته في رأس جذع مشذب
وأسحم ريان العسيب كأنه ... عثاقيل قنو من سميحة مرطب
وبهو هواء تحت صلب كأنه ... من الهضبة الخلقاء زحلوق ملعب
يدير قطاة كالمحالة أشرفت ... إلى سند مثل الغبيط المذأب
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب
فيومًا على سرب نقي جلودها ... ويومًا على بيدانة أم تولب
ويخضد في الآريّ حتى كأنما ... به عرة أو طائف غير معقب
خرجنا نريغ الوحش حول ثعالة ... وبين رحيات إلى فج أخرب
فآنست سربًا من بعيد كأنه ... رواهب عيد في ملاء مهدب
فكان تنادينا وعقد عذاره ... وقال صحابي قد شأونك فاطلب
فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنب
فقفى على آثارهن بحاصب ... وغيبة شؤبوب من الشد ملهب
وولى كشؤبوب العشي بوابل ... ويخرجن من جعد ثراه منصب
فللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب
فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب
ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبًا ... على جدد الصحراء من شد ملهب
خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب
وظل لصيران الصريم غماغم ... يداعسها بالسمهري المعلب
فكاب على حر الجبين ومتق ... بمدرية كأنها ذلق مشعب
ففئنا إلى بيت بعلياء مردح ... سماوته من أتحمي معصب
وقلنا لفتيان كرام ألا انزلوا ... فعالوا علينا فضل ثوب مطنب
وأطنابه أشطان خوص نجائب ... وصهوته من أتحمي مشرعب(3/146)
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطب
فظل لنا يوم لذيذ بنعمة ... فقل في ميل نحسه متغيب
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
ورحنا كأنا من جواثي عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب
نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
إلى أن تروحنا بلا متعتب ... عليه كسيد الردهة المتأوب
وراح كتيس الربل ينغض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب
حبيب إلى الأصحاب غير ملعن ... يفدونه بالأمهات وبالأب
فيوما على بقع دقاق صدوره ... ويومًا على سفع المدافع ربرب
كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مخضب
وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأصهب(3/147)
قصيدة علقمة بن عبدة:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب
ليالي لا تبلى نصيحة بيننا ... ليالي حلوا بالستار فعرب
مبتلة كأن أنضاء حليها ... على شادن من صاحة متربب
محال كأجواز الجراد ولؤلؤ ... من القلعي والكبيس الملوب
إذا ألحم الواشون بالشر بيننا ... تبلغ راسي الحب غير المكذب
وما أنت أم ما ذكرها ربعية ... تحل بإير أو بأكناف شربب
أطعلت الوشاة والمشاة بصرمها ... فقد أنهجت حبالها للتقضب
وقد وعدتك موعدًا لو وفت به ... كموعود عرقوب أخاه بيثرب
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... تشك وإن يكشف غرامك تدرب
فقلت لها فيئي فما تستفزني ... ذوات العيون والبنان المخضب
ففاءت كما فاءت من الأدم مغزل ... ببيشة ترعى في أراك وحلب
فعشنا بها من الشباب ملاوة ... فأنجح آيات الرسول المحبب
فإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل بكور أو رواح مؤوب
بمجفرة الجنبين حرف شملة ... كهمك مرقال على الأين ذعلب
إذا ما ضربت الدف أو صلت صولة ... ترقب مني غير أدنى ترقب
بعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المثقب
كأن بحاذيها إذا ما تشذرت ... عثاكيل قنو من سميحة مرطب(3/147)
تذب به طورًا وطورًا تمره ... كذب البشير بالرداء المهدب
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب
بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأو مغرب
بعوج لبانه يتم بريمه ... على نفت راق خشية العين مجلب
كميت كلون الأرجوان نشرته ... لبيع الرواء في الصوان المكعب
ممر كعقد الأندري يزينه ... مع العتق خلق مفعم غير جانب
له حرتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وجوف هواء تحت متن كأنه ... من الهضبة الخلقاء زحلوق ملعب
قطاة ككردوس المحالة أشرفت ... إلى كاهل مثل الغبيط المذأب
وغلب كأعناق الضباع مضيفها ... سلام الشظى يغشى بها كل مركب
وسمر يفلقن الظراب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب
إذا ما اقتنصنا لم نخاتل بجنة ... ولكن ننادي من بعيد ألا اركب
أخذ ثقة لا يلعن الحي شخصه ... صبورًا على العلات غير مسبب
إذا أنفدوا زادًا فإن عنانه ... وأكرعه مستعملًا خير مكسب
رأينا شياهًا يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملاء المهدب
فبينا تمارينا وعقد عذاره ... حثيث كغيث الرايح المتحلب
ترى الفأر عن مسترغب القدر لائحًا ... على جدد الصحراء من شد ملهب
خفا الفأر من أنفاقه فكأنما ... تجلله شؤبوب غيث مثقب
فظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسهن بالنضي المعلب
فهاو على حر الجبين ومتق ... بمدراته كأنها ذلق مشعب(3/148)
طرفة بن العبد
مدخل
...
طرفة بن العبد 1:
هو طرفة بن العبد بن سفيان، نسبه المفضل إلى معد بن عدنان، ويقولون إنه أشعر الشعراء بعد امرئ القيس، وإنما نظروا إلى مرتبة قصيدته في الطوال على الترتيب المشهور؛ وإلا فامرؤ القيس مختلف في تقديمه عندهم، وقد أورد صاحب "الجمهرة" قصيدة طرفة آخر السبع، فقدمهم عليه جميعًا، وهو على رأي المفضل من أن أصحاب السبع هم: امرؤ القيس، وزهير والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة؛ ولما كانت مثل هذه الأقوال المتضاربة لا تعدو الآراء المرتجلة التي لا ثبت لها، فقد اخترنا إهمالها؛ لأن الرأي لا يزال يعارضه مثله إلى أن ينقطع عند البرهان.
كان طرفة ابن أخت الشاعر المتلمس، وابن أخي الشاعر المعروف بالمرقش الأصغر، فالتقى إليه الشعر من طرفيه؛ وكان في حسب من قومه، جريئًا على هجائهم وهجاء غيرهم، ولا يعرف من تاريخ نشأته إلا القليل مما لا يتهيأ به الحكم على مبلغ تأثير نشأته في شعره، غير أن جملة ما يؤخذ من ذلك أنه كان أبيا معتدا بنفسه، مدلا على قومه، واثقًا بمنزلته منهم، جريئًا بمقدار ما تدفع هذه الثقة، مترفعًا إلا عن الملوك، يرجوهم ويهجوهم؛ فهو يذهب إليهم بنفسه ولكنه يمثل لديهم وكأن في برديه حاشيتي قومه. ولا يعلل ذلك إلا بأنه كان غرا لم تسلم به السن بعد إلى مذهب عن نزق الحداثة وسكرة الشباب؛ لأنه مات وله خمس وعشرون سنة بدليل قول أخته الخرنق في رثائه:
عددنا له خمسًا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدًا ضخما
فجعنا به لما استتم تمامه ... على خير حال ولا وليدًا ولا قحما
القحم: المتناهي في السن. ويروى: ستا وعشرين حجة. وقال بعضهم: إنما بلغ عمره نيفًا وعشرين سنة، فلا يبعد أن تكون ثم رواية: إحدى وعشرين حجة، وعلى أي هذه الأقوال فقد خب هذا الشاعر وركض بسنيه القليلة في مثل الأعمار الطوال، وكان منصبا على اللهو، يعاقر الخمر ويتلف بها ماله, فأورثته جنون الكبرياء وقتلته بلسانه الذي انتضى منه سيف الهجاء, روى الجاحظ "البيان: الجزء الأول": قيل لامرئ القيس بن حجر: ما أطيب عيش الدنيا؟ قال: بيضاء رعبوبة، بالطيب مشبوبة، بالشحم مكروبة! وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية تمزجها ساقية؛ من صوب غادية! وقيل مثل ذلك لطرفة فقال: مطعم شهي. ومركب وطي!.
__________
1 ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف: من اسمه طرفة من الشعراء أربعة: أولهم هذا. والثاني طرفة بن ألاءة بن نضلة. والثالث طرفة الجذمي أحد بني جذيمة العبسي. والرابع طرفة أخو بني عامر بن ربيعة "ص417 ج1: الخزانة".
قلت: وهذا الثالث ذكره صاحب القاموس في مادة "طرف" وسماه طرفة الخزيمي من بني خزيمة بن رواحة ... وأحسبه خطأ والصواب ما نقل الرافعي.(3/149)
وفي سبب قتله أقوال متقاربة؛ أمثلها ما رواه يعقوب بن السكيت في شرح ديوانه؛ قال1: إن طرفة هجا عمرو بن هند "ص415 ج1: خزانة الأدب" بأبياته التي أولها:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور2
لم يسمعها عمرو بن هند؛ حتى خرج يومًا إلى الصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه حتى أصاب طريدته؛ فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبًا، وفيهم ابن عم طرفة، فقال لهم: أوقدوا، فأوقدوا نارًا وشوى، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه، إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقا فأبصر كشحه وكان من أحسن أهل زمانه جسمًا، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر فهجاه طرفة بأبيات فقال له عمرو بن هند، وكان سمع تلك الأبيات: يا عبد عمرو، لقد أبصر طرفة حسن كشحك، ثم تمثل فقال:
ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحًا إذا قام أهضما
فغضب عبد عمرو مما قاله وأنف فقال: لقد قال للملك أقبح من هذا! قال عمرو: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو وأبى أن يسمعه، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن، فأسمعه القصيدة التي هجاه بها ... فسكت عمرو بن هند على ما قرر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه فأضرب عنه -وبلغ ذلك طرفة- وطلب غرته والاستمكان منه، حتى أمن طرفة ولم يخفه على نفسه، فظن أنه قد رضي عنه، وقد كان المتلمس -وهو جرير بن عبد المسيح- هجا عمرو بن هند، وكان قد غضب عليه، فقدم المتلمس وطرفة على عمرو بن هند يتعرضان لفضله، فكتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر.... وقال لهما انطلقا إليه فاقبضا جوائزكما، فخرجا، فزعموا أنهما لما هبطا النجف قال المتلمس: يا طرفة، إنك غلام غر حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمنًا أن يكون قد أمر فينا بشر، فهلم ننظر في كتابنا، فإن يكن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن يكن أمر فينا بغير ذلك لم نهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وحرص المتلمس على طرفة فأبى [ثم كان من أمرهما أن قتل طرفة، قتله عامل عمرو بن هند على البحرين*] ويقال إنه لما قرأ العامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها. فقال: اسقني خمرًا، فإذا ثملت فافصد أكحلي، ففعل حتى مات، وذكر ذلك البحتري بقوله:
وكذاك طرفة حين أوجس خيفة ... في الرأس، هان عليه فصد الأكحل
قال المرتضى في أماليه "ص131 ج1": ويقال إن صاحب هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة:
أبا منذر كانت غرورًا صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك، بعض الشر أهون من بعض
وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة المتلمس في النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان.
وقالوا: إن طرفة نطق بهذين البيتين "أبا منذر...." لما أيقن بالموت، وقد عدوه بهما فيمن شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف، لقدرته وسكون جأشه وقوة غريزته، كهدبة بن الخشرم ومرة بن محكان السعدي "ص129 ج1: العمدة".
ويقال إن ذلك كان سنة 552 بعد الميلاد، وقيل: سنة 564.
__________
1 ذكر البغدادي في خزانة الأدب أن لديوان طرفة شرحًا آخر للأعلم الشنتمري.
2 الرغوث: النعجة المرضع.
* زيادة على الأصل.(3/150)
شعره:
لم ينص أحد على مقدار ما صحت به الرواية عن طرفة، إلا أن بعضهم ذكر أن ما يصح من ذلك أحد عشر شعرًا؛ فلا يميز من المنحول في شعره إلا القليل، وإلا ما جاءت بسببه رواية من الروايات؛ كبعض القصائد التي نسبها له حماد، وستعرف شيئًا منها في بحث الرواية والرواة*، غير أن طويلته من شعره الذي لا خلاف في نسبته، وإن كانت لا تخلو من تهذيب الرواة وزيادتهم فيها، وهي التي [فضله] الناس بها وجعلوها واحدته وقالوا فيه من أجلها إنه أجودهم طويلة؛ وتكاد هذه القصيدة تكون ديوانه؛ لأنها جمعت محاسن صنعته وضمت أطراف معانيه واطردت اطراد الماء، وهي التي جعلت صاحبها أضرب شعراء الجاهلية مثلًا عند قتيبة فيما أجاب به الحجاج حين كتب إليه يسأله عن أشعر الجاهلية واشعر أهل زمنه، وقد عد العلماء أكثر مخترعات طرفة منها. كقوله فيها "ص176 ج1: العمدة".
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدّك، لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشرية ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنبًا ... كسيد الغضا ذي الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد
ولم يجدوا له مخترعًا في غيرها إلا قليلًا.
وروى بعضهم في سبب قولها، أنه كان لطرفة أخ اسمه معبد، وكان لهما إبل يرعيانها يومًا ويومًا، فلما أغبها طرفة قال أخوه معبد: لم [لا تسرح] في إبلك؟ ترى أنها إن أخذت تردها بشعرك هذا؟ قال: فإني لا أخرج فيها أبدًا، حتى تعلم أن شعري سيردها إن أخذت! فتركها وأخذها ناس من مضر.
وقيل: بل إن الإبل التي ضلت هي إبل معبد فسأل طرفة ابن عمه مالكًا أن يعينه في طلبها فلامه
__________
* قلت: انظر التعليق في ص86.
"ملاحظة: بحث "الرواية والرواة" يشكل الباب الثاني من أبواب الكتاب، وقد ورد في الجزء الأول ص175".(3/151)
وقال: فرطت فيها ثم أقبلت تتعب في طلبها! فقال قصيدته؛ وهي تربى على مائة بيت، وتختلف بعد المائة باختلاف الروايات، ذكر فيها الأطلال واستوقف بها ثم شبه قباب النساء بسفين الماء، ووصف ذات هواه في الحي فبسط من ذلك صورة رائعة من صور الطبيعة، ثم التفت إلى ناقته فأمضى بها الهم عند احتضاره، واستأمن بها على وضح الطريق من عثاره، ووصف من توثيق خلقها وطيب مرعاها وكرم العتق فيها وتراصف عظامها وتداخل أعضائها؛ فبنى على ذلك بناء يحسن أن يكون بابًا من علم التشريح البيطري في الجاهلية.... ثم ذكر نشاطها وإسراعها وسهولتها، ونقل من ذلك إلى نفسه فوصف نفاذه ومضيه على الهول وأنه يتقلب على جنبي السيادة واللهو، ونسج من ذلك حاشيته، ثم كأنما سكر كلامه فوصف من سفهه ما تحامته من أجله العشيرة حتى أفرد إفراد البعير الأجرب المذلل.. وبعد أن انتهى إلى المذلة صحا على لائمه وأخذ يعد لذاته مما يصفه بالمخيلة والفتوة ونضرة العيش، ثم خرج من ذلك بالسوداء، فذكر الموت ووازن بينه وبين الحياة، ليدل على أن ربح الحياة هو الربح وصار كلامه من ذكر الموت إلى النزع، غير أنه هجم بهذا الموت يعاتب ابن عمه مالكًا الذي ضيع إبله، فكأنه يذكره أن ضياع إبله خطب يسير، إذ يحم القضاء فتضيع روحه في الوادي الذي لا يتقدم فيه يطلبها ولا تنشد فيه عند ربها، ثم جعل يذكره بالقربى ورعايتها كأنه يستعطف، ولكنه اتخذ من ذلك وسيلة تخلص بها إلى عمرو بن مرثد أحد سادات العرب، فقال:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وكان عمرو هذا كثير الولد، فقالوا إنه لما بلغه قول طرفة وجه إليه وقال: أما الولد فالله يرزقك، وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا، فأمر سبعة من ولده فدفع إليه كل واحد عشرًا من الإبل، وأمر ثلاثة من بني بنيه فدفع إليه كل واحد عشرًا.
ثم عاد طرفة فنفض غبار الذلة، واستكثر بعد القلة، وتميح في شعره وهدرت هذه الكلمات في أشداقه، حتى قطع القصيدة على حكمة بالغة لا تزال تدور في الناس فهو بها على الفناء يتجدد، وكأنها كانت نفسًا من إنفاس المخلود فقرنت باسمه من هذه القوافي الدالية قافية "المخلد".
ومن مختار تلك القصيدة قوله:
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني ... عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
وإن يلتق القوم الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد
وقوله مفتخرًا فيها:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد
فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين مهند
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعًا إذا بلت بقائمه يدي
وختامها:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له حين موعد(3/152)
مذاهبه في الشعر:
ليس فيما وقع إلينا من شعر الجاهلية ما ينطق بأن صاحبه شاعر قبيلة بمجموع هذا المعنى، غير شعر طرفة؛ فهو إذا فخر رأيته يتكلم بلسان ملك قد ضمن طاعة قومه واستمسك بميثاقهم؛ وما [كان] أحق امرئ القيس بمثل هذا الفخر فيقيم به جهة من شعره قد تركها وهي تريد أن تنقض.
وقد وصف طرفة النوق وصفًا شعريا، ولكنه قصر في صفة الخيل وجاءت في كلمه متفرقات من الحكم والأمثال، وهي أبدع ما في شعره، ثم هو قد ضرب في الهجاء بالسهم الصائب ورجم فيه بالشهاب الثاقب، ولكنه قليل المديح نازل الطبقة فيه؛ ولم يؤثر له من ذلك إلا ما يرد على قومه، وهو مدحه لقتادة بن سلمة الحنفي حين أصاب قومه سنة فأتوه فبذل لهم؛ وثم أبيات قالوا إنه مدح فيها سعد بن مالك حين أطرد فصار في غير قومه وقد ذكرهم فيها بقوله:
وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورًا ... سوى حيه إلا كآخر هالك
ولعل مديحها منحول إذ يقول فيه:
رأيت "سعودًا" من شعوب كثيرة ... فلم ترعيني مثل سعد بن مالك
وليس مثل هذا مما يقوله طرفة:
ويمتاز هذا الرجل بالمبالغة والإغراق، فكأنه ينظر إلى دقائق الوصف بعين من البلور ... وذلك كقوله في وصف الناقة:
كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العسيب بمسرد1
فطورًا به خلف الزميل وتارة ... على حشف كالشن ذاو مجدد2
لها فخذان عولي النحض فيهما ... كأنهما بابا منيف ممرد3
كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد4
__________
1 المضرحي: النسر، وتكنفا: أحاط. وحفافاه: جانباه. والعسيب: عظم الذنب. والمسرد: [المخصف] الإشفى.
2 الزميل: الرديف، والحشف: الضرع الذي لا لبن فيه. والشن: القربة الخلقة. والذاوي: اليابس. ومجدد: أي: لا لين فيه ولا لبن.
3 عولي: رفع بعضه على بعض. والنحض: اللحم. والمنيف: المشرف، والممرد: المملس.
4 الكناس بيت الظباء. والضال: السدر البري. وأطر القسي: عطفها وانحناؤها. والمؤيد: الموثق، من الأيد، أي: القوة.(3/153)
لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد1
كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد2
فقد أراد أن يصف ذنب الناقة بكثرة الهلب، وهو الشعر الكثير، فشبهه بجناحي النسر، وجعل فخذيها كبابي الصرع الممرد، وشبه تباعد ما بين مرفقيها وزورها بكناس الظبي حول الشجر، ثم شبه الناقة في ارتفاعها بقنطرة الرومي الذي جعله يقسم على قنطرته لتحاطن بالبناء ولتشادن بالقرمد، ولعمري ليس هذا القسم بأكثر من اللغو. وقد مر في مثل هذه التشبيهات حتى وصل إلى عيني الناقة فجعلهما، من حجاجيهما في مثل غارين من الجبل، ولوأنه مد في عنق هذه الناقة فشبهه بأطول من خراطيم السحاب.
وإنما تحسن المبالغة إذا لم يكن التشبيه منكشفًا هذا الانكشاف فيكون في إحدى جهاته سبب الأسباب التي يصح أن تتعلق عليه المبالغة، وسيأتيك هذا في موضعه مفصلًا.
ومن نوع قسم الرومي في شعر طرفة قوله متغزلًا يصف الأقحوان:
وتبسم عن ألمى كأن منورًا ... تخلل حر الرمل دعص له ندي3
سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد4
فحاصل البيتين أنه يشبه ثغر التي يتغزل فيها بالأقحوان الندي، ويقول إنها قد ذرت الإثمد على لثاتها "وسائر العرب يفعلن ذلك في الشفاه واللثات ليكون أشد للمعان الأسنان" غير أن تخلل الدعص الندى من الأقحوان المنور لحر الرمل، والوصول من ذلك كله إلى تشبيه الثغر بالرفيف واللمعان لا يعد فلاحًا في الغزل وأولى به أن يكون فلاحة.
والصنعة في شعر طرفة قليلة إلا أنها جيدة، وأرى شعر هذا الرجل كالشباب: حقيقة جماله في القوة والمتانة؛ فإن اتفق معه شيء من ظواهر الجمال كان ذلك بمجموعه كمالًا، فمن مشهور استعاراته قوله:
فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
وهي غاية من غايات هذا الجواد: فإن البيت يصور الجمال والقوة والكبرياء، ويكاد يريك الناس مطرقين قد تعلقت أعينهم بهداب تلك الأزر. ومن هذه القصيدة بيت دائر في كتب اللغة والأدب،
__________
1 أمرًا: أي: فتلا. والسلم: الدلو لها عروة. والدلج: الذي يمسي بالدلو من البئر إلى الحوض. والمتشدد: المتكلف الشدة.
2 القنطرة: الجسر. وتشاد بقرمد: أي: ترفع بجص "ص85: الجمهرة".
3 اللمى: سواد في الشفة، والمنور: الأقحوان، وحر الرمل: النقي منه، والدعص: الكثيب الصغير من الرمل.
4 الإيادة: ضوء الشمس. واللثة: مغرز الأسنان. يقول: أسنانها بيض، ولثاتها زرق. وأسف: أي: ذر عليه. ولم تكد: أي: لم تعض فتختلف نبتته وأصوله، والإثمد: الكحل(3/154)
وهو قوله:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا نرى الآدب فينا ينتقر
غير أن حياة هذا البيت تاريخية لا شعرية؛ لأنه إنما سار وبقي للاستشهاد بألفاظه؛ ومن كلماته الجميلة قوله: "وعامت بضبعيها". إذ يصف الناقة بأنها تمد يديها كهيئة السابح، وقوله: "طراد الغرام" في صفة قومه بالبذل والسفه، وقوله في صفة الحرب يذكر قومه:
لا ترى إلا أخا رجل ... آخذًا قرنا فملتزمه
فهذه الكلمة "أخا رجل" في موضعها من أبلغ الكلم، بل هي من جوامعها؛ لأنها تدل على كثرة قومه وإقدامهم، وتوزعهم في الحرب توزع الآجال واستغراقهم أعداءهم، إلى نحو ذلك؛ ومن هذه القصيدة الحكمة السائرة:
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
ومما أختاره له في الحماسة قوله:
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
وأن لسان المرء ما لم يكن له ... حصاة على عوراته لدليل
ولا يزال الكتاب لعهدنا يكتبون "علم ليس بالظن" وهم يظنون أنها معربة ... وقد جاءت في شعر إسلامي من شعر المائة الأولى: وأعلم غير الظن، وهي أبلغ وأوجز.(3/155)
زهير بن أبي سلمى
مدخل
...
زهير بن أبي سلمى:
هو زهير بن أبي سلمى -قال فيه الصحاح: ليس في العرب سلمى "بالضم" غيره- ابن رباح، يرتفع نسبه إلى نزار، وكان ورعًا حكيمًا يعدونه من مترهبة العرب، قالوا: وهو أحد الثلاثة المتقدمين على سائر الشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحدهم على صاحبه، فأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني، وما أرى ذلك عن جماعة، فإن الأقوال مختلفة في التفضيل بين الشعراء، وقد جاءت روايات بتقديم أوس بن حجر، وعلقمة بن عقدة، وغيرهما، ولكن أصل ذلك الخبر فيما أراه ما أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرًا والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحدًا، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدًا "ص62 ج1: العمدة".
وإلى هذه الرواية يرجع كلما ورد عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وغيرهما من الحجازيين في تقديم زهير وأنه أشعر الشعراء.
وقد ورث زهير الشعر عن أبيه وخاله، وورثه ولده، قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره؛ كان أبوه شاعرًا، وخاله شاعرًا وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة، وابن ابنه المضرب بن كعب شاعرًا.
وفي رواية حماد وابن الكلبي عن أبيه قال: كان بسامة بن الغدير خال أبي سلمى، وكان منقطعًا إليه معجبًا بشعره.. وكان بسامة أحزم الناس رأيًا، فكانت غطفان إذا أرادوا أن يغزوا أتوه فاستشاروه وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، فمن أجل ذلك كثر ماله، فلما حضره الموت جعل يقسم ماله في أهل بيته وبين بني إخوته فأتاه زهير فقال: يا خالاه، لو قسمت لي من مالك! فقال: والله يابن أختي لقد قسمت لك أفضل ذلك وأجزله. قال: وما هو؟ قال: شعري ورثتنيه، وقد كان زهير قبل ذلك قال الشعر. وكان أول ما قاله، فقال له زهير: الشعر شيء ما قلته فكيف تعتد به علي؟ فقال له بسامة: ومن أين جئت بهذا الشعر؟ لعلك ترى أنك جئت به من مزينة؟ -من قبيلة من مضر ينسبونه إليها، قال ابن قتيبة: وإنما نسبه في غطفان، ورده ابن عبد البر في "الاستيعاب"- وقد علمت العرب أن حصاتها وعين مائها في الشعر لهذا الحي من غطفان، ثم لي منهم، وقد رويته عني.
غير أن الثابت الذي يدفع، أن زهيرًا كان راوية أوس بن حجر، وطفيل الغنوي جميعًا "ص132 ج1: العمدة" وكان أوس زوج أم زهير "ص55 ج1: العمدة" فإذا صح أنه روى شعر بسامة أيضًا، وأن بسامة كان بالمنزلة التي وصفوا من أصالة الرأي، فيكون زهير قد احتذاه في حكمه وأمثاله؛ لأنه(3/156)
لا يعرف لشاعر جاهلي ما عرف من ذلك لزهير.
وكان زهير يمدح هرم بن سنان سيد غطفان وأحد أجواد العرب المشهورين، وهو الذي وقع به إلى صميم المديح وأراه من جوده موضع الاختراع، حتى قالوا إنه حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه: عبدًا أو ليدة أو فرسًا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحًا غير هرم وخيركم استثنيت؛ وقد سلف لنا الكلام في الارتجال والبديهة عن حوليات هذا الشاعر والأسباب التي بعثته على الصنعة والتنقيح حتى صار مثلًا في ذلك للمتأخرين، وخرج شعره مصفى مستويًا؛ إذ كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع الوحشي منه1.
حتى قال أبو عبيدة: إن لشعره ديباجة إن شئت قلت شهد إن مسسته ذاب، وإن شئت قلت صخر لو رديت به الجبال لأزالها.
وعمر زهير طويلًا، وتوفي قبل البعثة بسنة، وديوان شعره معروف وعليه شروح طبع منها في "ليدن" شرحه للأعلم الشنتمري سنة 1889 للميلاد.
__________
1 قالوا: المعاظلة ترديد الكلام في قافية بمعنى واحد، وقال صاحب المثل السائر: هي مأخوذة من قولهم تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى، فسمي الكلام المتراكب في ألفاظه وفي معانيه بالمعاظلة، وله في تقسيمها كلام حسن فالتمسه هناك.(3/157)
مختاراتها وسببها:
كان ورد بن حابس العبسي قتل هرم بن ضمضم المري الذي يقول فيه عنترة وفي أخيه:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
فتشاجر عبس وذبيان قبل الصلح، وحلف حصين بن ضمضم أن لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلًا من بني عبس؛ ثم من بني غالب [ولم يطلع على ذلك أحد؛ وقد حمل الحمالة الحارث بن عوف بن أبي حارثة، فأقبل ... حتى نزل بحصين بن ضمضم، فقال له حصين: من أنت أيها الرجل؟ قال: عبسي، قال: من أي عبس؟ فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى بني غالب، فقتله حصين، وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان فاشتد عليهما؛ وبلغ بني عبس فركبوا نحو الحارث، فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث، بعث إليهم بمائة من الإبل معها ابنه، وقال للرسول: آلإبل أحب إليكم أم أنفسكم؟ فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك، فقال لهم الربيع بن زياد: يا قوم إن أخاكم قد أرسل إليكم: آلإبل أحب إليكم أم ابني تقتلونه مكان قتيلكم؟ فقالوا: نأخذ الإبل ونصالح قومنا ونتم الصلح*] .
فقال زهير هذه القصيدة يمدح الحارث وهرما، وتلك منقبة ليس لها إلا المديح من شاعر ورع كزهير، وقد ذكرهما بها في قصيدته الأخرى التي مطلعها:
__________
* ما بين العلامتين [] زيادة على الأصل.(3/157)
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
وكانت تلك أول قصيدة مدح بها هرمًا، ثم تابع بعد ذلك. والرواة يختلفون في عدد أبياتها؛ ولكنهم لا يزيدون [منها] على أربعة وستين بيتًا، ولا ينقصون عن تسعة وخمسين؛ وقد استهلها بكلام عن الديار والآثار كان شائعًا في العرب، ولم يحسن فيه إحسان غيره، ثم وصف الظعائن في الهوادج وما طرحن عليها من الأنماط العتاق والكلل التي تشبه حواشيها لون الدم، وذكر بكورهن وأنهن لا يخطئن الوادي كما لا تخطئ اليد الفم.... واستمر يصف رحيلهن، ثم اقتضب المديح في الحارث وهرم، فذكر ماسعيهما ومداركتهما عبسًا وذبيان، وما احتملا من غرامة لم يجرما لها، ثم أقبل على الأحلاف: أسد وغطفان وطيئ، ينذرهم أن يحنثوا فيما تحالفوا عليه من السلم أو يكتموا الله ما في صدورهم ويذكرهم بالحرب ما علموا وذاقوا، ويصفها لهم وقد لقحت وأنتجت كل غلام أشأم، وأغلت ما لا تغل قرى العراق من قفيز ودرهم، ثم ذكر ما جره عليهم حصين؛ وتخلص من ذلك إلى الذين تحملوا الديات ووطئوا أكناف المكارم لهذه المغارم، فوصف كرمهم وعزهم، ثم خرج إلى ما يشبه كلام الأنبياء؛ فاستخلص مما قصه حكمًا يصف بها الحياة السياسية والاجتماعية؛ ولقد أبرزها في موضعها سياسة في الشعر وفلسفة في السياسة؛ وهي جملة المختار من هذه القصيدة؛ ومنها:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
إلى أن يقول:
ومهما تكن عند امرئ من خليفة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
وهذان البيتان من الروحانيات التي لا تزال تطير بين السماء والأرض.(3/158)
شعره:
قد تقدم أن زهيرًا أشهر من عرف من العرب باستثبات اللفظ وتخير الكلمة وتنقيح العبارة؛ فلا جرم كان أحصفهم شعرًا، وأفصحهم لفظًا؛ ولا يزال قد رمي في شعره بالحكمة الرائعة، والمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المنسق النبيل، وقد سلس له النظام، وأطاعه عصي الكلام، فلا تتبين في ألفاظه ذلة الاستكراه، ولا هوان الاعتساف، بل تراه من الروعة والفخامة وحسن الاستواء كأنما كانت تهدر في قلبه لا في شدقه، ولكأني أرى أبياته موازين، فلا تكاد اللفظة تميل في الكفة حتى تقع أختها في الكفة الأخرى فتساويا، ومن أجل ذلك قل المنحول في شعره؛ لأنه ديباجة غير ممزقة، ونسيج غير مخرق، ولا يأخذه نظر الناقد حتى بنفيه، وقد نحلوه أبياتًا يقال إنها لصرمة الأنصاري يقول في أولها:(3/158)
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
"ص582: شعراء النصرانية"
فنفاها الأصمعي؛ لأنها لا تشبه كلامه؛ إذ كانت ألفاظ زهير طريقة بينة، وكان شعره نفسًا لا فتور فيه ولا تلبث، وحسبه بمثل هذا الدليل, إذا كان الدخيل في القوم لا يستدل بغير انقطاع نسبه على أنه دخيل.
ويظهر لمن تدبر شعر زهير أنه ضعيف الابتكار والاختراع، لا يعارض في ذلك الفحول المعدودين كامرئ القيس وغيره، ولكن ألفاظه وصنعته غطت على هذا النقص؛ فقلما ينكشف إلا لمن عارض وتتبع؛ وقد تراه يأخذ في صفة من الصفات كنعت الناقة أو حمر الوحش أو طراد الصيد، فلا يزال ينحتها من ألفاظه حتى تتمثل كأنها دمية مصور [إن لم تكن فيها حياة فإن الحسن في تمثالها حي] .
وترى الرأي يغلب شعر هذا الرجل، فكأنه شعر سيد لا شعر شاعر، وأكثر ما يظهر ذلك من أبياته الهمزية التي يقال إنه هجا بها آل بيت من كلب من بني عليم بن حبان وذلك حيث يقول فيها "ص552: شعراء النصرانية":
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فإن قالوا النساء مخبآت ... فحق لكل محصنة هداء
وإما أن يقول بنو مصاد ... إليكم، إننا قوم براء
وإما أن يقولوا قد وفينا ... بذمتنا فعادتنا الوفاء
وإما أن يقولوا قد أبينا ... فشر مواطن الحسب الإباء
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
وبهذا البيت الأخير سمي زهير قاضي الشعر. أما قوله: وما أدري ... إلخ فهو الذي اختاره علماء البلاغة مثالًا في باب التشكك، وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وله في النفس حلاوة وحسن موقع، بخلاف ما للغلو والإغراق؛ لأنه يدل على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما؛ فقد أظهر زهير أنه لم يعلم أهم رجال أم نساء؛ وهذا أملح من أن يقول هم نساء؛ وأقرب إلى التصديق، وأبلغ في التهكم والازدراء والتنقص "ص53 ج2: العمدة" ومن هذه القصيدة:
ولولا أن ينال أبا طريف ... إسار من مليك أو لحاء1
لقد زارت بيوت بني عليم ... من الكلمات آنية ملاء
ولعمري إن هذه الآنية الملاء لطرفة من طرف الاستعارة، وإن حسنها إنما تم بذكر البيوت في صدر الشعر. وفيها أيضًا:
__________
1 أبو طريف: كان مأسورًا عندهم، والإسار: سوء الأسر وشدته، والمليك: الأمير لأنه يملكهم، واللحاء: الملاحاة واللوم.(3/159)
وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء
ويروى: لكل منكرة كفاء، وهي لمحة دالة أشار بها لقبح ما كان يصنع له لو لقيه، وهذا البيت عند قدامة أفضل بيت في الإشارة التي لا يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر.
ولا بأس أن ننسحب على هذا الأثر من البديع، فإن ذلك من متممات زهير، ولولاه لما كان لصنعته شأن، وقد كان يتوكأ في هذه الطريقة على من تقدمه من الفحول ويلوذ بهم، كامرئ القيس وأوس بن حجر وابي دؤاد الإيادي، كما اتبع في صفته امرأ القيس قوله:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فإنه أوغل في التشبيه إيغالًا؛ بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة، وكان خالص الحمرة، وقد اتبع بيت امرئ القيس:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي مل يثقب
وكذلك اتبع في نفي الشيء بإيجابه حيث يقول:
بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
فأثبت لها في اللفظ وصيدًا، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسد، وله في المبالغة والتتميم العجيب قوله:
من يلق يومًا على علاته هرمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقا
فإنه يريد بقوله: "على علاته" ما يكون من قلة المال والعدم، أي: فكيف به وهو على خير تلك الحال، وقد جاء له في هذه القصيدة:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
قالوا إنه أتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج وزاد ممدوحه رتبة وتقدم به خطوة على أقرانه، وهو نوع من التقسيم تأتي فيه الزيادة تدريجًا وترتيبًا، ولذلك يصعب على متعاطيه ويقل جدا حتى إنهم لم يجدوا من الشعر عديل هذا البيت "ص20 ج2: العمدة".
ذلك بعض صنعته، أما معانيه فإن أكثر ما قدم به زهير المديح، وهو الذي ألقى عن المادحين فضول الكلام، وله في ذلك أبيات لم يسبق إليها، كأبياته القافية التى يقول فيها:
من يلق يومًا على علاته هرما
ونحو ذلك:
من ضريبته التقوى، ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والرحم1
مورث المجد لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم
__________
1 الضريبة: الخليقة.(3/160)
وقصيدته اللامية التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
وفيها يقول:
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل
كذلك أبياته التي استجمع فيها ضروب المديح من العقل والعفة والعدل والشجاعة، وهي التي يقول فيها، وهي من المديح المنصوص عليه، وقد عدوها شرفًا لمن قيلت فيهم:
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللًا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقد اختارها قدامة في نقد الشعر وشرحها على ذلك التقسيم.
ونحن لسنا في سبيل الاختيار، وإنما نسوق ما لا يزيلنا عن طريق البحث؛ ولزهير طريقة في تقريب المبالغة والبلوغ إلى الإفراط والإغراق من طريق الحقيقة، كراهية للكذب الثقيل، وبغضة لسوء التأليف الذي يجيء من ناحية الإغراب، فتراه يداور المعاني حتى يبصر لها طريقًا إلى الحقيقة، ويجد لها مخلصًا إلى الواقع كقوله:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر
وقوله أيضًا:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وعلى هذه الطريقة يحمل قول عمر: إنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، ولا ترى زهيرًا يشذ عنها في شيء، حتى لقد بلغ من معرفتهم ذلك له أنهم حملوا عليه الجواب المروي عن أوس بن حجر حين سأله رجل وقد سمعه يقول:
ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
فقال له: أنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال أوس: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسدًا فتحها قط, وذلك لتخصص زهير بتلك الطريقة والتزامه إياها.
على أن سبب هذا الالتزام قد يكون من ضعف الخيال؛ لأنه لم تستقل له طريقة فيه، ولا هو كان من المتبسطين في فنون المجاز، كما قد يكون أنفة ونزوعًا إلى مذاهب السيادة، وتورعًا عن أمثال تلك التكاذيب، وهو الأرجح عندنا لما قدمنا من أن هذا الرجل خلق سيدًا قبل أن يخلق شاعرًا؛ ولذلك قصر مديحه ولم يجعله تجارة كما جعله الأعشى، ولا انحط فيه إلى تساقط الهمة كما فعل النابغة، ولا زين باطلًا، ولا اختلق موضوعًا، بل كان مديحه تاريخًا صحيحًا.
ومن أجل هذا كان لا يحتال إلى التخلص في قصائده، بل يقتضب المديح، أو يتخلص بمثل(3/161)
قوله:
دع ذا وعد القول في هرم
ولو شاء ذلك تفتقت له الحيلة؛ ثم كان يتناول البسيط من معاني المديح وما لا يمدح به عادة؛ فتدفعه سلامة النية إلى إقحامه في شعر كقوله:
لعمر أبيك ما هرم بن سلمى ... بملحي إذا اللؤماء ليموا
فهذا البيت لا يرضى أحمق العرب أن يمدح به، ولكن زهيرًا يعرف أن هرمًا يرضاه، بل يعرف كيف يرضيه به، ومثله قوله في معناه:
إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
وكلمة "على علاته" هذه لا تزال تدور في الناس إلى اليوم، وكذلك كلمته في قوله:
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
يعني المنية، فقد أجراها الظرفاء على الحذف، فيقولون إلى حيث ألقت ... لمن يودعون وجهه ويستقبلون قفاه....(3/162)
خشونة الشعر الجاهلي:
ليس الذي نجده نحن في شعر الجاهلية من جفاء المعنى وخشونة اللفظ [وعثرة] بعض الأساليب, مما كانوا يجدونه هم أو يأخذونه على أنفسهم، فإن الألفاظ صورة معنوية من الاجتماع، وإن الزمن يفعل في إحالة هذه الألفاظ عن مدلولاتها ما تفعل أطوار العمر في معاني النشأة فالشباب فالكهولة؛ إذ لا يكون ما يسرك وأنت طفل مثلًا بالذي يسرك وأنت شاب نفس ذلك السرور الأول في معناه وموقعه.
ولما كانت ألفاظ اللغة لا تؤدي أكثر من الصور، ومعان منتزعة من حياة أهل تلك اللغة المبنية على مصطلحات ومواصفات مألوفة بينهم، كان تبدل هذه الحياة بما يصور الاجتماع من الأسباب الكثيرة ذاهبًا بحقائق تلك الألفاظ، إذ يعطيها صورًا ومعاني معدومة أو معلومة علمًا تاريخيا لا سبيل معه إلى تحقيق الوصف بالمشاهدة أو بالعادة والألفة ونحو ذلك؛ فمن ثم تتنزل الألفاظ منزلة الغريب، ويغرق بعضها في الغرابة إذا انعدمت صورته الذهنية من الاجتماع، فيجري مجرى الألفاظ المماتة.
والعرب يذكرون في أشعارهم أسماء كثير من الحشرات ومن صفات الدواب وأشهرها الخيل والإبل على جهتي المدح والذم، وكثير مما يعد من مألوف اجتماعهم، وكل ذلك عندنا منكر قد لا يعرفه منا علماء الحيوان وأهل البيطرة، ثم هم لا يرون فيه ما نراه نحن وما رآه أهل الدول من بعدهم، وذلك شأن كل الأمم على السواء فيما يختلفون فيه جميعًا وما تختلف فيه أطوار الأمة الواحدة من الاجتماع، فتلك الخشونة في شعر الجاهلية بأسبابها هي جماع خصائصه المميزة له عن سائر أطوار الشعر العربي، وقد مر شيء من تفصيل ذلك في تاريخ الأنواع التي بوبنا لها.
وقد يتعاطى الشعراء من البلدتين وأهل الحضارة تقليد أهل البادية في بعض خصائص شعرهم فيخطئون، قال العجاج في الكميت والطرماح......... "ج4 ص18: الأغاني".
وضحك أبو كلدة الأعرابي حين أنشد شعر ابن النطاح الذي يقول فيه:
والذئب يلعب بالنعام الشارد
قال: وكيف يلعب بالنعام.... إلخ "ج2 ص109: الحيوان"؛ وكذلك عابوا على أبي نواس وهو المقدم في المحدثين صفته لعين الأسد بالجحوظ في قوله:
كأن عينه إذا التهبت ... بارزة الجفن عين مخنوق
ولعله لم يكن رآه فقام عنده أن هذا أشنع وأشبه [بشناعة] وجه الأسد وهم يصفون عنه بالغئور كقول أبي زهير:
وعينان كالوقبين في ملء صخرة ... ترى فيهما كالجمرتين تسعر
وكان الأصمعي يخطئ قومًا من المخضرمين والمحدثين في تعسفهم مثل هذه الطرقات(3/163)
المجهولة مما لا يعرفونه عيانًا ولا يخالطون صفته بالحقيقة التي تعرفها المشاهدة. وقد أسلفنا أن العرب كانوا علماء في أشعارهم، فسبيل هذه الأشعار عندنا سبيل كل علم يحتاج إلى درس وتلقين، وإلى الأخذ عن أهله أو القوام عليه. قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب.
وعلى ما رواه من تلك الأشعار بنى أكثر ما في كتابه "الحيوان" وإن كان قد ترك فيه تفسير شواهد كثيرة مما لا يعرفه إلا الرواة، للتحرز من خوف التطويل كما قال1:
وحتى ذكر في الجزء السادس من هذا الكتاب أنه لم يجعل لما تسكن الملح والعذوبة والأنهار والأودية والمناقع من السمك وما يعيش معه بابًا مجردًا؛ لأنه لم يجد في أكثره شعرًا يجمع الشاهد ويوثق منه بحسن الوصف "ص6 ج6". ومما نبه عليه في ذلك الكتاب مما يعد فيما نحن بسبيله، أن شعراء العرب قد تواضعوا في صفتهم قتال الكلاب وبقر الوحش على أنه إذا كان الشعر مرثية وموعظة، جعلوا الكلاب هي التي تقتل البقر، وإذا كان الشعر مديحًا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا، أن تكون الكلاب هي المقتولة، ليس على أن ذلك حكاية عن قصته بعينها، ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها؛ وأما في أكثر من ذلك فإنها تكون هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة. نبه على ذلك الجاحظ "ص8 ج2: الحيوان".
ثم إن شعر العرب إنما بقي من بعدهم للحاجة إلى ألفاظه لا إلى معانيه، إذ هو مادة الشاهد والمثل في العلوم الدينية واللسانية، وكان الرواة لا يطلبون منه أكثر من ذلك، كما لا يطلبون من الخبر إلا الأيام والمقامات، فهم من أجل هذا يروونه على ما هو لا يبالون وافقت ألفاظه المعاني المألوفة في عصورهم أو خالفت، فتلك في جانب بعيد من الغرض الذي يستهدفونه؛ وهذا معنى قول ابن فارس: قد يكون شاعر أشعر وشعر أحلى وأظرف، فأما أن تتفاوت الأشعار القديمة حتى يتباعد ما بينها في الجودة فلا، وبكل يحتج وإلى كل يحتاج "ص235 ج2: المزهر".
هذا سبب ما تجده من خشونة الشعر الجاهلي.
أما السبب في أن العرب لم ينظروا في تصفية معانيهم ونحت ألفاظهم الشعرية حتى تخرج رقيقة تتهالك ونحيفة لا تتمالك، فذلك راجع إلى فطرة الاستقلال وحالة البداوة، فإن شئت قلت إن ألفاظهم إنما تقطر من سيوفهم أو تسيل من رماحهم أو تجدب في رمالهم أو تخصب في أوديتهم أو تدب في حشراتهم أو تسعى مع دوابهم أو تعذب في أمطارهم أو تأنس في غدرانهم، ولكنك لا تستطيع أن
__________
1 قرأنا في شرح بغية الوعاة للسيوطي في ترجمة أبي بكر الخياط الأصبهاني النحوي أوحد أهل زمانه في النحو ورواية الشعر: أن أبا الفضل ابن العميد قدم له يومًا نعله فاستشرف منه ذلك فقال أبو الفضل: ألام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئًا من الطبائع للجاحظ إلا عرف ديوان قائله وقرأ القصيدة من أولها إلى آخرها حتى ينتهي إليه "ص321: بغية الوعاة".(3/164)
تقول إنها تتردد ألحاظًا مذعورة أو تتمثل وهي معبودة، أو تتهالك رقة دينية ونحو ذلك مما لا يلائم نشاط البداوة ولا يكون إلا وهنًا من هرم الحضارة وتماوت الحياة الاستقلالية بما يفشو في أطرافها من جراثيم الانقراض، وأظهر ما تجد ذلك في الشعر العبراني؛ فإن الذلة والمسكنة والرعدة الدينية أخص مميزاته.(3/165)
الباب السابع: أدب الأندلس إلى سقوطها ومصرع العربية فيها
الأدب الأندلسي:
هنا مشرع القلم ومصرعه، والمورد الذي يرويه ماؤه تظمئه أدمغه، فلو كان القلم سحابًا لاحترق من أسى البكاء بما فيه من البرق، ولو كانت الصحيفة صحيفة الشمس وهي تندب مجد المغرب لأظلم بها الشرق, أيام أدب مرت كنور النهار أصبح به حينًا وبات، بل كانت خفقات قلب الزمان عاش بها دهرًا ومات؛ فنضر الله سعدًا لا عيب له إلا أنه من الزمن وآخر الزمن شقي، ورحمه الله عهدًا لا نقص فيه إلا قول المؤرخ بعده: لو بقي!
الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي:
لما قرأنا تاريخ الأندلس وأخذنا في درس أدبها واستخلاصه من جملة التاريخ، رأينا ما أذهلنا من إغفال المؤلفين في الأدب والعلوم وتراجم رجالها لهذا الفرع الفينان من الحضارة العربية، فإنك إن جهدت أن تتمثل صورة مجملة لآداب الأندلسيين، فكأنما تجهد أن ترجع إلى خيالك شبابًا أخلقت عهده، وكأنك خلقت بعده؛ فمهما تأت من ذلك لا تزيد على الذكرى التي يبلغ من ضعفها أن لا يكون فيها إلا بعض أنقاض التاريخ، وأنت تريد الأنقاض كلها، بل صورة البناء قبل أن ينقض.
لذلك رأينا أن نضع هذه الصفحة جديدة في تاريخ الأدب العربيح ولما شرعنا في ذلك رأينا أن لا بد من أن يأخذ الكلام في طريقه: فالأول في ظاهر الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي، والثاني في حقيقته وتأثر التاريخ السياسي به؛ وهذا مما انفرد به الأدب الأندلسي؛ لأنه بدأ عربيا وانتهى أعجميا -كما سترى- ومن أجل ذلك قسمنا الكلام إلى قسمين.
القسم الأول: الأندلس من العراق
إن الأدب الأندلسي لا يبزه في التاريخ إلا الأدب العراقي، ولقد يكون في الأندلس ما ليس في العراق من بعض فروع الحضارة والصناعة، غير الفرق ما بين الموطنين في زينة الطبيعة ونضارة الإقليم، إلا أن الأدب العراقي ممتاز بمتانة اللغة، لقربه من البادية، ولاستفحال الرواية هناك، وبكونه أصلًا؛ حتى إن الأندلسيين أنفسهم كانوا يلقبون نابغيهم بأسماء المشارقة، فيقولون في الرصافي: إنه ابن رومي الأندلس، ومروان بن عبد الرحمن: ابن معتز الأندلس، وابن خفاجة: صنوبري الأندلس، وابن زيدون: بحتري الأندلس، وابن دراج: متنبي الأندلس، ومحمد بن سعيد الزجالي الأديب الحافظ: أصمعي الأندلس، لحفظه وذكائه؛ وأبي بكر الزبيدي الشاعر اللغوي: ابن دريد الأندلس؛ كما يقولون في الفيلسوف ابن باجه الشاعر الموسيقي: إنه فارابي المغرب1، وحمدة بنت زياد
__________
1 هو أبو بكر بن الصائغ يعرف بابن باجه، وإليه تنسب الألحان المطربة التي كان عليها الاعتماد في الأندلس توفي سنة 533هـ.(3/169)
الشاعرة الأديبة: خنساء المغرب؛ وكان منشأ ذلك أن العلماء والأدباء من أهل ذلك الصقع كانوا يرحلون إلى المشرق فيلقون الأئمة ويأخذون عنهم، ثم ينقلبون إلى الأندلس برواية ما أخذوه فيبثونه في أهلها مسندًا إلى أدباء العراق، كسوار بن طارق القرطبي مولى عبد الرحمن بن معاوية، فإنه حج ودخل البصرة ولقي الأصمعي ونظر أمره، ثم انقلب إلى الأندلس وأدب الحكم؛ ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار، حج أيضًا ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياضي وغيرهما، وأدخل الأندلس علمًا كثيرًا، وقاسم بن أصبغ البياني "نسبة إلى بيانة من أعمال قرطبة" فقد سمع بالأندلس ممن كان بها، ثم رحل إلى المشرق سنة 274هـ فسمع بمكة والكوفة وبغداد من أئمة الفقه والحديث، وكتب عن ابن أبي خيثمة تاريخه، وسمع من ابن قتيبة كثيرًا من كتبه، ومن المبرد وثعلب وابن الجهم، في آخرين، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري، ومطلب بن شعيب، وبالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد بن زهير وكتب ابن قتيبة وأخذوا ذلك عنه "ص345 ج1: نفح الطيب"، ومحمد بن عبد الله بن يحيى من قضاة الناصر "توفي سنة 337هـ" وكان شاعرًا مطبوعًا، فقد رحل إلى المشرق وسمع من ابن الأعرابي وغيره، ثم حدث عنه بالأندلس؛ وسيأتي ذكر آخرين في الكلام على علماء الأندلس.
وكانت أمهات كتب الأدب التي تؤلف بالعراق تروى في الأندلس بالسند إلى مؤلفيها، على تفاوت بين الأسانيد قوة وضعفًا، ومن ذلك قول الأمير الحكم المستنصر: لم يصح كتاب "الكامل" عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي قلاعة1، وكان ابن جابر الأشبيلي قد رواه قبل بمصر، وما علمت أحدًا رواه غيرهما، وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه، وكان صدوقًا، ولكن كتابه ضاع، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين ا. هـ "ص392 ج1: نفح الطيب".
وقد يكون دخول العراق عند بعض العلماء من قبيل قولهم "من حفظ حجة على من لم يحفظ" لأنه عندهم زيادة في الاطلاع وتحقق بالثقة في الرواية، ولما قدم عليهم أبو علي القالي سنة 330هـ في زمن الناصر، أمر ابنه الحكم وكان يتصرف عن أمر أبيه، أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة له، وباسم الحكم طرز أبو علي كتاب "الأمالي" المشهورة، وكان قبل ولاية الأمر وبعدها ينشطه ويعينه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وقد اعتنى الأندلسيون بكتاب "الأمالي" فشرحوه وألفوا على منزعه، كما فعل الشقوري رئيس كتاب الأندلس في كتابه "سراج الأدب"، وحفظه كثير منهم حتى في النساء -كما سيمر بك- ومن أجله جعلوا أبا علي أندلسيا بالموطن دون المنشأ، ليصح لهم الاختصاص به، مع أن القالي لم يكن في قرطبة أعرابيا في أعاجم، ولا كان وحده فيهم كالذهب في تراب المناجم، بل كان في قرطبة كثير منهم، وحسبك بمحمد بن القوطية، وهو الذي كان يبالغ القالي في تعظيمه، وشهد له بأنه أنبل أهل الأندلس في اللغة، وكان إمام الأدب في ذلك الزمن أبا بكر الزبيدي.
__________
1 هو محمد بن أبي قلاعة البواب، سمع من أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش عن المبرد كتابه الكامل المشهور، وأخذ أيضًا عن أبي إسحاق الزجاجي، وأبي بكر الأنباري، وتفطويه وغيرهم.(3/170)
غير أن التاريخ قد فسر هذا التفاوت؛ فإنه عدّ أبا علي حسنة من حسنات الدولة الأموية في الأندلس، حتى وقع ذلك موقع المنافسة من المنصور بن أبي عامر المتوفى سنة 393هـ، فإنه لما قدم عليه أبو العلاء صاعد بن الحسين البغدادي اللغوي عزم على أن يعفّي به آثار أبي علي الوافد على بني أمية، ليفوز بإحدى الحسنيين، ولكنه لم يجد عنده ما يرتضيه، وكان الرجل يتنفق بالكذب -وقد مر من ذلك شيء في بحث الرواية- فأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في روايته وحفظه، ولم يأخذوا عنه شيئًا لقلة الثقة.
ولم يكن الشغف بالأسماء والألقاب العراقية مقصورًا على العلماء والأدباء وحدهم، بل تجاوزهم إلى الخلفاء، فإن ألقاب الأول منهم كانت: الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء وأمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي ترتبت عليه، فتوثب ملوك الطوائف على الألقاب العباسية، وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والفخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة، وفي هذه الألقاب يقول ابن رشيق:
كالهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد
وكان بنو حمود الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، فكانوا إذا حضرهم منشد يمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم، تكلم من وراء حجاب والحاجب1 واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة؛ ولما حضر أبو يزيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني الشاعر أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة وأنشده قصيدته النونية المشهورة التي مطلعها:
ألبرق لائح من أندوين ... ذرفت عيناك بالماء المعين
وبلغ فيها إلى قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين
فرفع الخليفة الستر بنفسه وقال: انظر كيف شئت؛ وكذلك انتحل وزراء الأندلس لقب ذي الوزارتين امتثالًا لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد، وأول من تسمى به منهم وزير الناصر, أبو عامر ابن شهيد الكاتب الشاعر الكبير، أول وزير في الإسلام "ص119 ج1: التمدن الإسلامي".
ولما احتفل المأمون بن ذي النون، من أعظم ملوك الطوائف في إعذاره المشهور الذي عمله
__________
1 لم يكن الحاجب على المعنى المصطلح عليه اليوم، بل كان هذا اللقب خاصا بكبار الوزراء، فإن قاعدة الوزارة بالأندلس كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصًا ينوب عنه فيسميه بالحاجب، وقد عظمت هذه السمة حتى كانت أعظم ما تنوفس فيه.(3/171)
بطليطلة وبالغ في ذلك بما يناسب ما بلغت إليه دولتهم من البذخ والترف، وهو الإعذار الذنوني, ضرب أهل المغرب به المثل وفاخروا به المشارقة في عرس بوران بنت الحسن بن سهل التي بنى بها المأمون العباسي، وهو من أكبر الاحتفالات التي حفظها التاريخ.
ذلك طرف من تهافت الأندلسيين في تقليد مشاهير العراقيين، وقد بلغوا من ذلك أنهم لما وفد زرياب المغني تلميذ إسحاق الموصلي على عبد الرحمن بن الحكم ورأوا من ظرفه وفنون أدبه ما رأوا، اتخذه خواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه في اللباس والفرش والطيب والطعام، ثم امتثلهم عامة الناس. وقد ذكر من ذلك صاحب "نفح الطيب" أشياء قال إنها صارت إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبة إليه معلومة به، فكأن عربية الأندلسيين كانت صغيرة في أنفسهم لنزولها عن العربية العراقية بالمنشأ فهم يحققونها دائمًا بالتقليد؛ ويتثبتون من بقاء قدمها بهذا الجديد، ولا جرم فقد كان أصل حضارتهم أمويا؛ لأن أول من سن سنن الآداب وأقام حالة الملك بالأندلس هو عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172هـ فلء بني أمية بالشام، وكان يسميه عدوه أبو جعفر المنصور العباسي: صقر قريش؛ لرقي همته وبعد مطمحه، وقد طرز ثوب ملكه حفيده الحكم بن هشام فحل بني أمية المتوفى سنة 206هـ، فكان أول من جند الأجناد واتخذ العدة، وأول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف، منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
عربية الأندلس:
كان أول احتلال طارق بن زياد لأرض أندلسية في سنة 92هـ، وبعد أن ضرب فيها قليلًا رحل إليها مولاه موسى بن نصير فدخلها في سنة 93هـ وافتتح جانبا منها ثم قفل عنها سنة 95هـ، وتتابعت الولاة والفتوح بعد ذلك مما ليس في هذا الكتاب موضع بسطه؛ غير أنه لما استتم الفتح وعصفت ريح الإسلام، صرف أهل الشام وغيرهم من العرب همهم إلى الحلول بها، فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، وهم بدء تاريخ الأدب فيها، فكان منهم القبائل المختلفة من العدنانية والقحطانية1 ولم يتركوا في الأندلس عاداتهم المشرقية من الغزو والحروب، فطرأت بذلك الفتن بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب من المضرية واليمانية، حتى كان زمن الداخل في سنة 138هـ، ولم يزل أولئك العرب يتميزون بالعمائر والقبائل والبطون والأفخاذ إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الأندلس سنة 366هـ وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء، وقدم القواد على الأجناد، فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل، فانحسمت بما فعل مادة الفتن بالأندلس التي كانت تثيرها تلك الجاهلية الرقيقة.
وقلما تجد في الأندلسيين شاعرًا مفلقًا أو كاتبًا بليغًا أو عالمًا ضليعًا ونسبه في قبيلة من تلك القبائل العربية، فكان يحيى الغزال أول شعراء الأندلس الفلاسفة من بني بكر بن وائل، وكان يوسف بن هارون الرمادي معاصر المتنبي من كندة، وأبو بكر المخزومي هجاء الأندلس من بني مخزوم، وكذلك
__________
1 قد مر الكلام عن معنى هذين اللفظين وما يرادفهما في الجزء الأول.(3/172)
أبو بكر بن زيدون، وابنه أبو الوليد بن زيدون الشهير، وكان أبو بكر بن عمار ينتسب إلى مهرة من قضاعة، وغير هؤلاء كثيرون، فضلًا عمن لم يعرف سبيل اعتزائهم من الأدباء؛ لأن الانتساب إلى العرب كان محفوظًا بالأكثر في العلماء والفقهاء والأعيان، متميزًا فيهم، كبني سراج الأعيان من أهل قرطبة، ينسبون إلى مذحج، وبنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة، إلى مرة بن أود بن زيد بن كهلان، وبنو أسماك القضاة من أهل غرناطة أيضًا إلى عاملة، وقيل: هم من قضاعة، وبنو عباد أصحاب إشبيلية، إلى لخم بن عدي، وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة، إلى غير هؤلاء ممن أفردت لهم كتب الأنساب الأندلسية؛ وكان يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة: العربيات، لمحافظتهن على المعاني العربية "ص492 ج2: نفح الطيب" فكأن الطبيعة بتلك الوراثة العربية قد تعاون باطنها وظاهرها على إيجاد الأدب الأندلسي وإجادته.
أولية الأدب والعلوم:
فمن لدن فتح الأندلس إلى زمن الداخل -أي: نحو 46 سنة- لم يكن في الأندلس ضرورة شعراء ولا كتاب من أهلها، بل كانوا من الطارئين، وهم مع ذلك لم يتميزوا ولم يبلغوا مبلغ أدباء العراق والشام، ومن هؤلاء أبو الحظار صاحب اليمانية، والصميل بن حاتم شيخ المضرية، وهما كبشا الفتنة العمياء؛ غير أنه كان في تلك المدة أبو الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي، وكان معاصرًا لجرير والفرزدق وشعره على مذهب الأوائل من جاهلية العرب لا على طريقة المحدثين، وكذلك بكر الكناني، وهذان وحدهما هما اللذان عرفا بالشعر في ذلك الزمن؛ ولما توجه عباس بن ناصح الشاعر من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس استنشده من شعرهما "ص156 ج2: نفح الطيب" وهذا يدل على أن شهرتهما ترامت إلى العراق. واستمرت تلك الحال إلى منتصف القرن الثاني، فعرف بالشعر حبيب بن الوليد الذي ينتهي نسبه إلى عبد الملك بن مروان، وقد توفي بعد المائتين "ص574 ج1: نفح الطيب" وحوالي ذلك الزمن كان من قضاة الداخل معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، وكان به أدب وشعر، وكان عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء في أواخر هذا القرن يفد على قرطبة فيأخذ عنه أدباؤها، ومنهم يحيى الغزال أول المشاهير من شعراء الأندلس المفلقين، وكان يومئذ حدثًا "ص445 ج1" وفي تلك الأيام عرف شاعر اسمه بكر بن عيسى.
هذه أولية الشعر في الأندلس؛ أما الكتابة فلعل أول من اشتهر بها أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان؛ وذلك لأنه لزم الكتابة لعبد الرحمن الداخل، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري، وقد جعله الأمير عبد الرحمن في عديد من يشاوره ويفضل آراءه "ص72 ج2: نفح الطيب" ولم يكتب أحد قبله لهذا الأمير إلا أبو عثمان النقيب وصاحبه عبد الله بن خالد، إلا أن فضل الخصوصية والمشاورة كان لأمية دونهما.
أما أولية العلوم فإن أقدم ما اشتغلوا بمدارسته من العلوم إنما هو الفقه، حتى كان الأمراء الذين ولوا الحكم في القرن الثاني، وهم: الداخل، وهشام ابنه، والحكم بن هشام -لا يعنون إلا بالقضاة،(3/173)
ويقربونهم، ولا يألون الناس جهدًا في إقامتهم على الحق وحملهم بالسنة الواضحة، ولهم في ذلك الأخبار العريضة.
وقد كانت حركة الحياة الأندلسية حركة غزو وحرب واضطراب فتن سياسية عليها صفة الدين إلى آخر تاريخها العربي -كما ستعرفه- فكان طبيعيا أن يكون من مقتضيات فطرة ذلك الشعب، الحماسة الدينية، ولا يدل عليها كالإحساس الشديد باحترام الفقهاء، ولذلك كانت سمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن المسلمين كانوا يسمون الأمير المعظم منهم الذي يريدون التنويه به: فقيهًا، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي: فقيه، لأنها عندهم أرفع السمات "ص103 ج1: نفح الطيب" وفي تاريخ وزرائهم وشعرائهم وأدبائهم ما يدل على ذلك، وسنأخذ في هذا المعنى في موضع آخر. وقد كان الأندلسيون يتفقهون على مذهب الأوزاعي حتى رحل زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشيطون المتوفى سنة 204هـ إلى الحجاز فسمع من الإمام مالك بن أنس كتاب "الموطأ"، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس، وكان ذلك زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة 180هـ في فجر تلك الحضارة، وذلك طبيعي؛ لأن الناس في أدوار التاريخ الإسلامي لم يتفرغوا لعلم الأدب إلا إذا استكملوا علوم الدين أو أهملوها والعياذ بالله؛ وقد أجمع الأندلسيون قاطبة على مذهب مالك، ولا يزال ذلك في أهل المغرب لعهدنا؛ قال الحافظ بن حزم: "مذهبان انتشرا في بدي أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى -يعني يحيى بن يحيى الليثي، وقد روى "الموطأ" عن زياد المذكور آنفًا قبل أن يدرك مالكًا، ثم أدركه فروى عنه- كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون أغراضهم به، على أن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم".
وابن حزم هذا هو أول من خالف مذهب مالك بالمغرب واستبد بعلم الظاهر، ولم يشتهر به مثله أحد "ص32: المعجب".
وليس اشتغال الأندلسيين بالفقه ورسائله بمانعهم أن يتدارسوا علوم اللغة والإعراب؛ إلا أنهم لم يستقصوا هذه العلوم ولم يستغرقوها؛ لأن ذلك إنما كان في الطارئين على الجزيرة وفي قليل من أهل البلاء كما مر بك بعضه؛ وقد كان الأمير عبد الرحمن الداخل شاعرًا محسنًا ولسنًا فصيحًا، وكان ابنه الأمير هشام إذا حضر في مجلسه امتلأ أدبًا وتاريخًا؛ وفي زمن هشام هذا وقد تقدمت سنه [ودنت] وفاته؛ كان بالجزيرة الخضراء منجم يعرف بالضبي؛ قال صاحب "نفح الطيب" عندما ذكر أن هشامًا أشخصه من وطنه إلى قرطبة: "وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقًا وإصابة" "ص157 ج1".
وكان في زمن الحكم بن هشام، الذي ولي سنة 180هـ، شاعر اسمه العباس معروف بالشعر؛(3/174)
أورد له صاحب "نفح الطيب" بعض أبيات غير جيدة "ص160 ج1".
فتلك جملة تاريخ الأدب الأندلسي في القرن الثاني وما أدركه الفتح من بقية القرن الأول، وهي لا تعد شيئًا في جنب ما كان يومئذ بالشام والعراق في الدولتين الأموية والعباسية، حيث انتهى القرن الثاني بقيام المأمون العباسي الذي بويع سنة 198هـ؛ ولكنها كالجاهلية للأدب الإسلامي؛ ولم تزل سنة أن لا يتم آخر شيء إلا إذا كان النقص في أوله!(3/175)
الأدب في القرن الثالث:
استهل القرن الثالث وحضارة العباسيين في أوجها، وقد نفح الأدب العربي بأنفاس الخلود الباقية من عصر المأمون إلى ما شاء الله أن تبقى، ولكن هذا القرن كان في الأندلس نطاحا ومغالبة في أكثر سنيه، وليس فيه من أمراء الأدب المعدودين إلا الأمير عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالأوسط معاصر المأمون العباسي, وكان أندى الناس كفا، وأكرمهم عطفًا، وأوسعهم فضلًا، ملك من سنة 206هـ إلى سنة 238هـ، وكانت أيامه أيام هدوء وسكون، واتخذ القصور والمتنزهات، ولكن سواد الناس لم يهتموا إلا ببناء الجوامع بكور الأندلس ولم تبن إلا في أيامه، وقد جاراهم هو في ذلك فزاد في جامع قرطبة رواقين، ويقول بعضهم إنه فعل ذلك لما اتهم بميله إلى الفلسفة. ولما كان هذا الأمير مع علمه بعلوم الشريعة عالمًا بالفلسفة "ص162 ج1: نفح الطيب" وكان محبا للسماع، كثير الميل للنساء، احتجب عن العامة، وهو أول من فعل ذلك من أمراء الأندلس ليتنفس في الهواء الرقيق..... المعروف بالغزال الشاعر المفلق الفيلسوف، وكان شاعره، وهو من شعراء الأندلس كامرئ القيس من شعراء الجاهلية، وبشار من شعراء المحدثين، وله الأرجوزة المطولة التي نظمها في فتح الأندلس وذكر فيها السبب في غزوها وفصل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها، وأسماءهم، فأجاد وتقصى، وكان للأندلسيين بها شغف إلى آخر عصورهم، وقد قلده في ذلك أبو طالب المتنبي الشاعر من أهالي جزيرة شقر فنظم كتابًا في تاريخ الأندلس وأورد منه ابن بسام في كتابه "الذخيرة".
وكان الغزال من كبار أهل الدولة حتى أرسله عبد الرحمن سفيرًا إلى ملك القسطنطينية -حين بعث إليه هدية في سنة 225هـ يطلب مواصلته ويرغبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم- فأحكم الغزال بينهما الواصلة، وتوفي هذا الشاعر سنة 250هـ.
وكان من شعراء الأمير عبد الرحمن وندمائه عبد الله بن الشمر "ص345 ج2: نفح الطيب"، وكان يكتب له محمد بن سعيد الزجالي، أصمعي الأندلس، وقد استوزره لشطرة من الشعر، وذلك أنه صنع في بعض غزواته قسيمًا، وهو:
نرى الشيء مما يتقى فنهابه
ثم ارتج عليه وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائبًا عن حضرته. فأراد من يجيزه، فأحضر له بعض قواده محمد بن سعيد هذا، فأنشده القسيم، فقال:
وما لا نرى مما يقي الله أكثر
فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.
وامتاز عصر هذا الأمير بشيوع الغناء في الأندلس، بعد أن قدم عليه زرياب المغني تلميذ إسحاق الموصلي سنة 206هـ، وهو الذي أورث هذه الصناعة الأندلس -وسنذكر أمره في تاريخ هذا الفن-(3/176)
وكان عبد الرحمن مولعًا بالسماع، مؤثرًا له على جميع لذاته، حتى إنه كان يبتاع المحسنات من الآفاق، فاشتريت له من المدينة فضل المدنية التي كانت لإحدى بنات هارون الرشيد، مع صاحبتها علم؛ وصواحب غيرهما، فأنشأ لهن دارا بقصره سماها دار المدنيات، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن وأدبهن، وكان من جواريه أيضًا قلم، وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عنده، وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الآداب، وهي أندلسية الأصل حملت صبية إلى المشرق وتعلمت بالمدينة "ص118 ج2: نفح الطيب" ومن الجواري اللاتي كن يتصرفن بين يديه منفعة، جارية زرياب التي علمها أحسن أغانيه ثم أهداها له؛ وكان في زمنه أيضًا من الحاذقات بالغناء حمدونة وعلية ابنتا زرياب، ومصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن فلهيل "ص114 ج2: نفح الطيب" وغيرهن؛ حتى ليكاد يكون زمن هذا الأمير نسائيا. وممن استهتر بهن من جواريه: مدثرة، والشفاء، وطروب، وقد بنى الباب على هذه الأخيرة مرة ببدر الأموال، وكانت غاضبة ثم استرضاها على أن لها جميع ما سد به الباب "ص163 ج1: نفح الطيب".
وتولى بعد الأمير عبد الرحمن محمد ابنه من سنة 238هـ إلى سنة 273هـ، وكان كثير الغزوات فلم يعرف في عهده تاريخ الأدب على حقيقة بينة، بل استمر أهل الأندلس على ما اعتادوا زمن أبيه، ولكن كان من أخص شعرائه مؤمن بن سعيد؛ وكان من أعظم الفلاسفة لعهده عباس بن فرناس الحكيم -وسنذكره في موضع آخر- وله فيه شعر أورده صاحب "العقد الفريد"؛ ثم اهتز حبل الفتن بعده في ولاية ابنة المنذر، وكانت سنتين إلا نصف شهر سنة 275هـ؛ وفي زمن عبد الله أخي المنذر اضطربت نواحي الأندلس بالثوار والمتغلبين في تلك السنين، وكان عبد الله شاعرا محسنًا إلا أنه زاهد تقي صحيح الإيمان، وفي زمنه نشأ الفقيه الأديب ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، وهو ويحيى الغزال طرفا الأدب في القرن الثالث، وتوفي عبد الله سنة 300هـ، وكان وزيره النضر بن سلمة الكاتب المحسن.
ومما امتاز به هذا القرن دخول رسائل المحدثين وأشعارهم في أواخره إلى أفريقية ثم الأندلس على يد أبي اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني المعروف بالرياضي من أهل بغداد وسكن القيروان وكتب لأمير أفريقية إبراهيم بن أحمد الأغلب، ثم لابنه أبي العباس عبد الله، وقد لقي الجاحظ والمبرد وثعلب وابن قتيبة الأدباء، وأبا تمام والبحتري ودعبلًا وابن الجهم الشعراء، وسعيد بن حميد وسليمان بن وهب، وأحمد بن أبي طاهر الكتاب، وغيرهم. وتوفي بالقيروان سنة 298هـ.
وكذلك دخول كثير من كتب اللغة ودواوين شعر الجاهلية على يد محمد بن عبد السلام بن ثعلبة المتوفى سنة 286هـ فقد دخل البصرة ولقي بها أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج والرياشي وأبا إسحاق الزيادي، فأخذ عنهم رواية عن الأصمعي وغيره، ودخل بغداد وسمع من أئمتها، ثم انقلب إلى قرطبة. "ص67: بغية الوعاة".
ثم اختراع التوشيح وقد استوفينا الكلام عنه في موضعه.(3/177)
الحضارة الأندلسية
مدخل
...
الحضارة الأندلسية:
الأندلس إقليم في جنوب إسبانيا، وقد أطلق اسمه على البلاد كلها مجازًا، ولهذه البلاد "إسبانيا" في تاريخ الحضارة أربعة أعصر: الأول عصر الفينيقيين الذين اكتشفوها، والثاني عصر الرومانيين، والثالث عصر القوطيين ... والرابع العصر الإسلامي. وكانت إسبانيا قبل أن يكتشفها الفينيقيون ما بين القرن الرابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد، معمورة بقبائل يسمونهم "الأيبيريين" وقد وقع الخلاف في أصلهم، قالوا: ومن هذا الاسم اشتق اسم "هباريا" الذي كان الاسم الأول لتلك البلاد، ثم صار إسبانيا بعد ذلك.
فلم تكن حضارة العرب في الأندلس ابتداء، وإنما كانت تتميمًا، ولولا ذلك لتبين النقص الطبيعي في أدب تلك البلاد، ولبلغ الكبر قبل أن يشب شبابه الذي بهر التاريخ؛ لأن الأدب لا يتبع الحضارة لنفسها، ولكن لفلسفتها وحواشيها الرقيقة، فليس الشأن في بناء يقام وبلد يعمر ونهر يبثق وأرض تفلح، ولكن الشأن في فلسفة ذلك جميعه، من جمال الشكل وإحكام الهندسة وجلاء الطبيعة وحسن التنسيق؛ وأنت مع استفحال الحضارة الإسلامية واستبحار عمرانها وسموق مبانيها ودقة فنونها، خصوصًا في الأندلس، لا تكاد تجد لأفراد الشعراء المعدودين في وصف المباني إلا ما كان للبحتري في وصف قصور كالجعفري وغيره، وللشريف الرضي في وصف ما كان في الحيرة من منازل النعمان، والصابي في وصف قصر روح بالبصرة، وشعراء الداريات، وهم الذين نظموا في وصف دار الصاحب ابن عباد كأبي سعيد الرستمي والخوارزمي وغيرهما، وقد ذكرهم صاحب "اليتيمة" وأورد قصائدهم، وابن حمديس في مباني المعتمد على الله وما شاده المنصور بن أعلى الناس وهو أشهر الشعراء في ذلك، وأبي الصلت أمية الأندلسي في مباني علي بن تميم بن المعز العبيدي بمصر، وأبي محمد المصري في وصف قصر المأمون بن ذي النون بطليطلة، وقطع متفرقة لغير هؤلاء، وهم مع ذلك يذكرون مادة البناء ولا يصورون هندسته؛ لأن الشعر ليس مادة جامدة يأتلف مع الجوامد، وإنما هو يتبع زخرف الحضارة وفلسفتها.
وقد وجند العرب في الأندلس حضارة ممهدة وسبيلًا مطروقة إلى الفنون الدقيقة والجمال الطبيعي، وجاءهم بعد ذلك من بني أمية أمراء الحضارة المشرقية ومنافسو العباسيين فيها, فجلوا شبابًا كاد يوفي على الهرم؛ وكان رأسهم في ذلك عبد الرحمن الداخل الذي بدأ في بناء جامع قرطبة الأعظم والقصر الكبير الذي كان في الأبنية كأنه قصيدة في الشعر، إذ كان من قصوره التي يحتويها: الكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرستق، وقصر السرور، والتاج، والبديع، وغيرها، وهي المعاهد التي كانت مذكورة في ألسن الشعراء وفرسان الأدب؛ وكان عبد الرحمن بن معاوية صاحب قصر الرصافة ينقل لجنابه غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأرسل إلى الشام رسوليه: يزيد وسفر، في جلب النوى المختارة والحبوب الغريبة، ولسنا الآن في(3/178)
شرح مواد هذه الحضارة من أنواع النقش والحيل الصناعية ووصف القصور والمتنزهات وسرد أسمائها، ومجالس الخلفاء وأنواع زينتهم ولهوهم وما سفهوا فيه من السرف والبذخ ونحوها، فليس في كتابنا موضع يسع مثل هذا، وقد تكفل بذلك الشرح جميعه كتاب "نفح الطيب" للمقري، فضلًا عن أن فيه أشياء أمسكناها لبحث الصناعة العربية تجيء في موضعها من هذا الكتاب؛ وإنما غرضنا هنا أن نضع أساس البحث في الحضارة الأدبية؛ لأنها تابعة للحضارة الفنية، تغتذي بمادتها وتشرق بجمالها؛ وإنما الأدباء أقلام التاريخ التي تخلد حضارة الدول وتصف زينة الملك وتراسل عن الملوك بالثناء وحسن الذكر وطيب الأحدوثة؛ فيد الدولة التي لا تكون لها هذه الأقلام يد شلاء يبترها التاريخ ولا يصفها إلا بالعجز وسوء التعلق والمغالبة على الوجود بغير حق.
وأساس الحضارة الأدبية في الأندلس تلك الطبيعة التي كانت ترسل النسمات أنفاسًا موسيقية تؤخذ شعرًا وتلفظ ألحانًا، وبذلك حبب إلى أهلها الأدب وطبعوا على هذه الشيمة، حتى كان ذلك ظاهرًا في مثل وادي الأشات من أعمال غرناطة، وهي مدينة خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، لما أحدق بها من المواضع الفرجة والبساتين الغناء؛ وما زالوا يضربون المثل بأهل إشبيلية بلد المتنزهات في الخلاعة والمجون والتهالك على الشعر والغناء، وإنما كان يعينهم على ذلك واديها البهيج؛ وبنت إشبيلية هذه مدينة شريش، وواديها ابن واديها، وقد قالوا فيها: ما أشبه سعدى بسعيد! وهي مدينة وصفوها بأنه لا يكاد يرى فيها إلا عاشق أو معشوق.
ومما خصت به غرناطة التي تسمى دمشق الأندلس، نبوغ النساء الشواعر منها، كنزهون القلعية و [حفصة] الركونية وغيرهما، وناهيك [بهما] من شاعرتين ظرفًا وأدبًا، فإذا كانت أنوثة تلك الطبيعة قد أنطقت النساء فكيف بالرجال؟(3/179)
أدباء ملوك الأندلس:
قال الجاحظ في موضع من كتابه "البيان": زعم رجال من مشايخنا أنه لم يقم أحد من بني العباس بالملك -أي: إلى زمنه- إلا وهو جامع لأسباب الفروسية, فلو زعم أحد أنه لم يقم أحد من أمراء الأندلس وخلفائها إلى آخر القرن الخامس إلا وهو جامع أسباب الأدب لكان حقيقًا في زعمه بالتصديق، ولولا أدبهم لما نفق الأدب عندهم ولا بلغ مبلغه ذلك، فإن نفاق السوق جلاب، ولم يعرف فيهم من أهل الركاكة والسخف إلى ذلك إلا القليل، كمحمد بن عبد الرحمن المستكفي بالله الذي وزر له حائك يعرف بأحمد بن خالد، وكان صاحب رأيه وتدبيره، وقد رأينا أن نذكر أسماء الشعراء وأهل الأدب من أولئك الأمراء والخلفاء؛ فمنهم: عبد الرحمن الداخل، وابنه هشام، وعبد الرحمن بن هشام، وعبد الله بن محمد المتوفى سنة 300هـ؛ وله شعر جيد، والمنصور، والمستعين، وعبد الرحمن بن هشام من خلفاء دولة بني أمية الثانية، والمستظهر الشاعر الشاب المجيد، وأولاد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وهم المنذر، والمطرف، وهشام، ويعقوب، ومحمد، وأبان، كلهم شعراء، ولمحمد هذا ثلاثة أولاد شعراء أيضًا، وهم: القاسم، والمطرف -المعروف بابن غزلان، وهي أمه، كانت قينة مغنية عوادة أديبة- ومسلم، ومن أولاد الناصر عبد الله بن الناصر، وأخوه أبو(3/179)
الأصبغ عبد العزيز، ومحمد بن الناصر، ومحمد بن عبد الملك بن الناصر، أما أخوهم الحكم المستنصر فهو للعلم والأدب، ولم يكن في ولد الناصر أشعر من محمد بن عبد الملك ومن ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر، وهو في بني أمية شبيه عبد الله بن المعتز في بني العباس، لنفاسة شعره وحسن تشبيهه، وقد خرج منهم بعد القرن الرابع شعراء كثيرون يتفاوتون في الإحسان، وهي ذرية بعضها من بعض؛ ومن حسناتهم عبيد الله بن محمد المهدي المعروف بالأقرع، والأصم المرواني الذي مدح أمير المؤمنين عبد المؤمن؛ وقد ألف القاضي يونس بن عبد الله بن مغيب بطلب الحكم المستنصر كتابًا في أشعار خلفاء بني مروان بالمشرق والأندلس، معارضًا للصولي في تأليفه كتاب "أشعار بني العباس بالعراق"، وكتاب الصولي محفوظ بالمكتبة الخديوية.
أما ملوك الطوائف فحسبك بالمعتصم بن صمادح ملك المرية وأولاده الواثق عز الدولة، ورفيع الدولة أبو زكريا يحيى بن المعتصم، وأبو جعفر، وأم الكرام، وكذلك المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية ملك الشعراء، وأولاده: الرشيد، والراضي، وبثينة؛ ثم ملوك بني الأفطس أصحاب بطليموس وما إليها، ومنهم المظفر صاحب الكتاب المظفري في التاريخ والأدب، -وسيأتي ذكره- وبنو هود أصحاب سرقسطة، وكان منهم القائمون على الرياضيات والفلسفة، وأشهرهم المقتدر بن هود الذي كان آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة، فقل في زمن كان يقوم بأمره أمثال هؤلاء وإنما الأمر بالأمير.(3/180)
مبلغ عنايتهم بالعلم والأدب:
يخلص مما استوفيناه إلى الآن أن أمراء الأندلس وخلفاءها كانوا فيها كعواطف القلب التي تتحرك إلى المنافسة، فهم من جهة بإزاء العباسيين وأمرائهم في المشرق، ومن جهة أخرى بإزاء الطبيعة التي أنشأت الأندلسيين نشأة عقلية غير النشأة الأولى التي يساهم فيها كل أفراد النوع، وهي النشأة القلبية، فلم يكن بد لأولئك الأمراء من أن يكونوا على الحقيقة رءوس هذا الشعب الطروب، وهي لا توفق بين اندفاعه وكبحه إلا إذا كان منها حيز للسياسة الحكمية والعزمة الرحيمة، وهذا لا يتأتى مع جهل ولا جاهلية، وكذلك، ليس العلم المحض بنافع فيه على الإطلاق، وإنما لا بد من علم منوع وافتنان يوافق به الأمير أو الخليفة معظم السواد من حاشيته وقومه، فالأمير الفيلسوف لا يصلح للرعية الفقهاء، وحينئذ لا بد أن يكون الفقه في الكفة الراجحة من ميزان سياسته، فتكون له الفلسفة في خاصة نفسه؛ والفقه وما يستعان به على تجميل الملك وسياسته كالكتابة والشعر وغيرهما فيما ظهر منه للناس.
ولما كانت السيادة لعلم الفقه في أول أمر الأندلس كان الأمراء من بني أمية يعنون بشأن الفقهاء والتودد إليهم والانصياع لمشورتهم، ليتألفوا الناس بذلك ويديروا بهم الرحى الطاحنة التي هي الحرب؛ حتى إن الحكم بن هشام بات يتململ على فراشه وبعد عنه نومه حين مرض قاضيه وسمع النائحة عليه؛ لأن هذا القاضي كان يكفيه أمور رعيته بعدله وورعه وزهده.
ثم أقبل الأمراء على أهل الأدب واشتغلوا بالفلسفة، ولكنهم لم يظهروا في ذلك إلا في القرن(3/180)
الرابع، بعد زمن عبد الرحمن الناصر "300-350هـ" وهو الذي تجرأ على لقب الخلافة فكان أول من انتحله بالأندلس، وذلك عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس. وقد تعاور الدولة العباسية في زمن هذا الخليفة المقتدر والقاهر بالله والراضي بالله، وهو الخليفة الشاعر، والمتقي لله والمستكفي والمطيع الذي غلب على أمره معز الدولة بن بويه ولم يكن له أمر ولا نهي ولا خلافة تعرف، فكان هذا الاضطراب في المشرق علة في تحريك المدنية والحضارة إلى المغرب، حتى استفحل أمرهما هناك؛ لأن الخلافة التي تقوم بعد أن بلغت الحضارة العباسية إلى منقطعها لا تكون خلافة بلا شيء، بل لا يكفي فيها أن تضاهي الحضارة العباسية، وقد كان اندفاع هذا التيار سببًا في ظهور الفلسفة من مغاصتها وجريانها على أعين الناس، وقد أرسل الخليفة عبد الرحمن إلى القسطنطينية، وكان عاهلها القيصر رومانوس؛ وإلى العراق والحجاز والشام ومصر وأفريقية من يشتري له الكتب ويحصل له من ذخائرها وأصولها المهمة، حتى قيل إن عاهل القسطنطينية وجد من أسباب الحظوة لدى هذا الخليفة أن يهدي إليه نسخة بديعة من كتاب الحشائش الذي ألفه ديسفوريدس العالم النباتي المشهور، وقد كانت مكتوبة بالخط الإغريقي مصورة فيها الحشائس كلها بالذهب، وأهداه كتابًا آخر لهرشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم في أخبار الدهور وقصص الملوك وطبقات الأطباء في كتب أخرى، وكان ذلك سنة 337هـ.
ولكتاب ديسفوريدس هذا شأن عند العرب، وقد نقله عن اليونانية اسطفان بن باسيل أيام المتوكل العباسي وترك أسماء كثير من العقاقير على لفظها اليوناني، إذ لم يحسن تعريبها، ووقعت هذه النسخة العربية إلى الأندلس، فلخما أهدي الكتاب إلى الناصر أرسل إلى ملك القسطنطينية في أن يبعث إليه براهب يعرف اليونانية واللاتينية، وكان في الأندلس من يحسن هذه اللغة، فبعث إليه راهبا اسمه نقولا وصل إلى قرطبة سنة 340هـ فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل, ثم جاء ابن جلجل الطبيب الأندلسي في آخر القرن الرابع فألف كتابا فيما فات ديسفوريدس من أسماء العقاقير والأدوية، جعله ذيلًا على ذلك الكتاب.
وبذلك صار من مفاخر الأندلسيين يومئذ اتخاذ المكاتب للمنفعة والزينة معًا، حتى إن الكتاب ربما غولي فيه لجلده ونقشه وحسن خطه؛ لأنها مظاهر الزينة، وقد كان الناصر أندى الناس كفا على الشعراء والكتاب وأهل الموسيقى وغيرهم، وتولى حماية من يشتغل بعلوم الفلسفة، حتى طارت شهرة قرطبة في أوروبا فأمها الناس أفواجًا في زمنه وزمن ابنه الحكم، واختلطوا بالأندلسيين في حلقات العلم، ولا يتم ذلك إلا في عصر تكون شجرة الفلسفة قد مدت عليه ظلها الوارف، ومن أشهر أولئك الراهب جوبرت "930-1004م" الذي ارتقى بعد ذلك إلى العرش البابوري باسم البابا سليفسترس الثاني وقد وفد في زمن الحكم "98 ج1: تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب".
ولسنا نفيض في وصف زمن الناصر وإقبال الوفود عليه من ملوك أوروبا والملوك المتاخمين له ومخاطبته في أمر الهدنة والسلم والتماس رضاه وتقبيل يده، ولا في وصف المجلس التاريخي العظيم الذي أعده لاستقبال تلك الوفود، فإن حواشي التاريخ ليست من شرطنا في هذا الكتاب، وإنما نقول(3/181)
إن زمن هذا الخليفة كان شباب الأدب، ولغلبة العلوم عليه من اللغة والنحو والحديث والفلسفة لم يكثر شعراؤه كثرتهم في أواخر هذا القرن وفي القرنين الخامس والسادس. وقد كان من تأثير ذلك أن صار أكثر الفقهاء وسائر أصناف العلماء رواة للشعر والأخبار، واستفاض ذلك إلى آخر عصور الأندلس، فنشأ من مشاهيرهم مثل أبي مروان عبد الملك الطبي، وأبي الوليد الباجي، وأبي أمية إبراهيم بن عصام، وأبي حزم الظاهري، وأبي بكر الطرطوشي، والحافظ الحميدي، وابن الفرضي، وغيرهم؛ حتى إن من لم يكن فيه هذا الأدب من العلماء كانوا يعدونه غفلًا مستثقلًا. ولم يكن يشتهر بذلك قبلهم إلا القليل من الفقهاء، كعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة 238هـ والقاضي منذر بن سعيد المتوفى سنة 335هـ وكانوا يقولون في عبد الملك إنه عالم الأندلس وإن عيسى بن دينار فقيهها؛ وأشهر شعراء الناصر: ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد" المتوفى سنة 328هـ، وهو الذي نظم بعض غزواته في أرجوزته المشهورة، وحاجبه أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، وآخرون.
ولما ولي بعد الناصر ابنه الحكم المستنصر "350-366" جرى في طريق أبيه وأربى على الغاية، فكان جماعًا للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد قبله من الملوك، حتى بلغ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعين، في كل واحدة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين، وكان يبعث إلى الأقطار في شراء الكتب أناسًا من التجار، وبعث في كتاب "الأغاني" إلى مصنفه أبي الفرج، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار ذهبًا، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وله من أمثالها أشياء؛ وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، وقد حققوا أنها بلغت سبعين مكتبة إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. قال ابن خلدون: ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البرير، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، وقد آثر ذلك الحكم على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيا نسيج وحده؛ وكان ثقة فيما ينقله، وقلما يوجد كتاب من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وغرائب أخرى لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن. وإذا كان الحكم قد امتاز بشدة النظر في علم الحدثان: التنجيم "ص93 ج2: نفح الطيب" وهو من اللهو الشبيه بالباطل، فما ظنك به في غيره من علوم القوم؟ وإن مبلغ العلم لا يكون دائمًا إلا مبدأ العناية بالعلم، فعلى قدر ما يستوفي العالم يكون شرهه إلى الزيادة، وعلى مقدار هذا الشره تكون العناية بمن عنده شيء مما يوفي حق الرغيبة ويغني من حاجة الطلب؛ فإذا كانت خزائن الحكم تحفل بأربعمائة ألف مجلد، كما قيل، "ص184 ج1: نفح الطيب" حتى إنهم لما نقلوها أقاموا في ذلك ستة أشهر؛ فهل يكون عصره إلا عصر العلماء والأدباء الذين هم مصانع الكتب على الحقيقة؟
أما الشعر في زمنه فإنا إذا ذهبنا نقلب كتب التاريخ التي بين أيدينا لم نكد نعرف من مشاهير(3/182)
عصره [غير] حاجبه جعفر بن محمد المصحفي رب القلم والبيان؛ وهو في الطبقة الثانية من شعراء الأندلس، وغير الرمادي الشاعر المتوفى سنة 403هـ ويعدونه في الطبقة الثالثة "ص16: المعجب في تلخيص أخبار المغرب".
وإذا كان التاريخ قد ذهب بكثير من أسمائهم، فقد رأينا في بعض أنبائه أن من الكتب التي ألفت للحكم المستنصر كتبا في شعراء الأندلس، منها أخبار شعراء ألبيرة في عشرة أجزاء؛ وقد وقف عليه الوزير أبو محمد بن حزم؛ وهو الذي ذكره في بعض رسائله ولم يذكر اسم مؤلفه "ص123 ج2"، ولكنا وقفنا في "طبقات اللغويين والنحاة" للسيوطي على اسم هذا الكتاب في ترجمة مطرف بن عيسى الألبيري المتوفى سنة 357هـ؛ وقال إن له كتابًا آخر في فقهائها، وكتابًا في أنساب العرب النازلين بها وأخبارهم "ص392".
ورأينا أيضًا في هذه الطبقات في ترجمة محمد بن عبد الرءوف القرطبي المعروف بابن خنيس المتوفى 343هـ أنه ألف كتابًا في شعراء الأندلس بلغ فيه الغاية؛ فيكون من ذكرهم فيه إلى ما قبل انتهاء زمن الناصر؛ وألبيرة لم تكن إلا مدينة من مدن الأندلس فكيف بسائرها؟ إلا أن الشعر كان كثيرًا في علماء اللغة والنحو وغيرهما -كما سيجيء في موضعه- وفي أيام هذا الأمير نبغ محمد بن هاني الشاعر الشهير بإشبيلية، ولكنه انفصل عنها إلى أفريقية ومدح المعز صاحب مصر وغيره، وتوفي سنة 368هـ؛ وقد توفي الحكم سنة 366هـ وولي بعده ابنه هشام فغلب على أمره ابن أبي عامر المنصور وتولى حجابته، وجرت أحوال علت قدمه فيها حتى صار صاحب التدبير، فدانت له الأندلس لكها ولم يضطرب عليه شيء من نواحيها، وكان محبا للعلوم مؤثرًا للأدب، مفرطًا في إكرام من ينسب إلى شيء من ذلك ويفد عليه متوسلًا به بحسب حظه منه وطلبه له ومشاركته فيه، وقد أفرط في الإحسان على أبي العلاء صاعد اللغوي البغدادي حين قدم عليه سنة 380هـ حتى اتخذ له مرة قميصًا من رقاع الخرائط التي كانت تصل إليه فيها الأموال منه، وجعل ذلك حيلة إلى بلوغ الغاية من كرمه، وقد ألف له كتبًا غريبة، منها كتاب "الهجفجف بن غيدقان بن يثربي مع الخنوت بنت مخرمة"، وكتابًا آخر في معناه سماه كتاب "الجواس بن قطعل المذحجي مع ابنة عمه عفراء". قال صاحب "المعجب": وهو كتاب مليح جدا انخرم أيام الفتن بالأندلس فنقصت منه أوراق لم توجد بعد، وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب -أعني الجواس- حتى رتب له من يخرجه أمامه كل ليلة "ص20: المعجب".
ولعل هذه الكتب مما يساق فيه القصص الموضوع على غرض من أغراض السياسة والأدب؛ ويقول صاحب "المعجب": إن كتاب "الهجفجف" وضعه على نحو كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب، فيا أسفا على كتب أصبحت أسماؤها تحتاج إلى تفسير.... وقد ذكر الفتح بن خاقان في المطمح في ترجمة الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة أنه دخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف، فخرج وعمل على مثاله كتابًا سماه "ربية وعقيل"، وأتى به منتسخًا مصورًا في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى "ص314 ج2" فهذا يفيد أن هذه الكتب جميعها على مثال "كليلة ودمنة" المشهور.(3/183)
وكان للمنصور مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم والمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة؛ لأنه كان مواصلًا لغزو الروم مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء، حتى إنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولًا؛ وقد غزا في أيام ملكه التي دامت إلى سنة 393هـ نيفًا وخمسين غزوة.
ورأس الشعراء في أيامه عبادة بن ماء السماء المتوفى سنة 422هـ وقيل: سنة 419هـ، وهو أول من أتقن الموشحات بالأندلس حتى كأنها لم تسمع إلا منه، وللرمادي في ذلك يد أيضًا.
ومن مشاهيرهم الرمادي وابن دراج والقسطلي ومحمد بن مسعود الغساني البجالي "ص238 ج2: نفح الطيب" وكان يكتب له هو ومحمد بن إسماعيل................................................
وله لطائف في الشعر فكان يخاطب المنصور بلسان النبات الذي يوافق أسماء عقائله ومحاظيه، كاسم بهار ونرجس وغيرهما، والوزير محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وغيرهم. وكان المنصور معروفًا بالمحاماة عن أهل الشعر والأدب حتى لا ينتقصهم في مجلسه أحد إلا رد عليه وسفهه؛ وقد وقع بعضهم في الرمادي عنده فكلمه كلامًا كان يغوص دونه في الأرض لو وجد لشدة ما حل به منه؛ غير أنه لما كان المنصور غزاء مواليًا للجهاد، فقد كان غبار حروبه يثور بين العلماء تشددًا في الدين، حتى فشا في العامة اتهام كل من يشتغل بالفلسفة أو يعرف بمذهب من مذاهبها حتى في الشعراء أنفسهم، وكان قليل من ذلك في زمن الحكم وأبيه، فاتهموا ابن هانئ في إشبيلية، وأساءوا المقالة فيه حتى انفصل عنها، ولما وفد الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجالي على المنصور، اتهم كذلك برهق في دينه، فسجنه المنصور في المطبق زمنًا. وقد بقيت الفلسفة مضطهدة في الأندلس بعد ذلك من عامتها، حتى ظهرت في بر العدوة -كما سيجيء- وفشا الأدب في زمن المنصور حتى صار حلية الشباب وزينة النشأة الأندلسية، ومثل ذلك يكون مبدأ عصر عظيم، وقيل إن المخانيث بقرطبة يومئذ كانوا يشتغلون به، فكان منهم فتيان أخذوا بنصيب وافر منه، ومن هؤلاء غلام للمنصور اسمه فاتن توفي سنة 402هـ، قالوا: كان لا نظير له في علم العرب "ص90 ج2: نفح الطيب".
وسار الأدب في وجهته غير مبال بقيام الملوك وسقوطهم؛ لأنه لا يقوم بهم ولا يسقط معهم إلا في أوائل نشأته، إذ يحوطونه ويكفلون نموه، وإلى أن انفرطت دولة بني أمية وانتشر سلك الخلافة في المغرب كان الأمراء لا ينفكون يتعاهدونه؛ فكان الناصر علي بن حمود من البربر -وهو الذي ملك ملك قرطبة بعد الأربعمائة وقيل: سنة 408هـ- على عجمته وبعده من فضائل اللسان، يصغي إلى الأمداح ويثيب عليها، ومظهرًا في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي؛ ومن مشاهير الذين امتدحوه ابن الخياط القرطبي، وعبادة بن ماء السماء "ص225 ج1: نفح الطيب". ولما ولي المستظهر سنة 414هـ "من خلفاء الدولة الأموية الثانية" عكف على الأدب، وكان شاعرًا مصنعًا بديع الشعر، فاشتغل عن تدبير المملكة بالمباحثة مع أبي عامر بن شهيد الشاعر الكبير؛ وأبي محمد بن حزم(3/184)
العالم الشهير؛ وعبد الوهاب بن حزم الغزل المترف؛ فكانوا يتباحثون في الآداب ويتجاذبون أهداب الشعر؛ حتى أحقد بذلك مشايخ الوزراء والكبراء؛ فأثاروا عليه العامة وهم يومئذ أجهل ما يكون؛ فقتلوه لأدبه وشعره؛ وهذا وحده دليل على أن العامة لا يكرهون الفلسفة ولا يضطهدون القائمين عليها لذاتها؛ ولكنهم مع كل ريح؛ وأتباع كل ناعق؛ وكما تابعوا في إحراق كتب الفلسفة، تابعوا كذلك في إحراق كتب المذهب المالكي في المغرب, كما سنشير إليه فيما يأتي.(3/185)
القرن الخامس وملوك الطوائف:
بعد أن انقطعت خلافة بني أمية ولم يبق من عقبهم من يصلح للملك، استبد بالأندلس أفراد غلب كل واحد منهم على ما يليه، وهم المسمون بملوك الطوائف، فضبطوا نواحيها، وجعلوها عواصم الحضارة، وتنافسوا في أبهة الملك وفخامة الشأن، فكان منهم بنو ذي النون ملوك طليطلة، وبنو هود ملوك طرطوشة وسرقسطة وغيرهما، وملوك بني الأفطس أصحاب بطليموس وجهاتها، وبنو صمادخ أصحاب المرية، والفتيان العامرية: مجاهد ومنذر وخيران ملوك دانية "ص139 ج2: نفح الطيب" وما منهم إلا أديب أو عالم، فنفقت بهم سوق الأدب، وصار الأديب أينما دار استند إلى ركن وتوجه إلى قبلة، حتى صارت الأندلس كعبة، لهذه العادة، لا للعبادة؛ لا جرم كان هذا العهد حافلًا بالشعراء والأدباء والقائمين على أنواع العلوم من كل من أغلت قيمته المنافسة، وقد وجدوا الزمن رخاء والعصر حضارة والنفوس متهيئة، فلم يبق لهم وراء ذلك مقترح لقريحة، ثم إن أولئك الملوك لم يخوضوا في أول أمرهم [الفتن] ، ولم تعصف بهم ريح السياسة، فانصرفوا جهدهم إلى استجماع لذة الملك، وأخذوا بأحلام المباهاة التي يهذي بها مرضى الترف اللين وضعفاء العصب السياسي، إلا قليلًا منهم، فصار المدح لغذاء أرواحهم كالملح لطعام أجسامهم؛ وثبتت العادة بذلك، حتى إن يوسف بن تاشفين لما دخل الأندلس توسط له المعتمد بن عباد عند الشعراء ليمدحوه حتى لا يصغر شأنه مع أنه دخل في نجدة لهم على الإفرنج وكان على يده النصر المبين.
وتبع ذلك من فنون الآداب ما يخلق لهم اللذة في كل صورة ويبدلها في كل حلقة، حتى يتداووا بهذه الجدة من سأم القديم وضجر التكرار، فكانت لهم المجالس العجيبة، والأوصاف البارعة، والفنون المستظرفة من صور التشبيهات، إلا أن ذلك جميعه قد كان أعوذ على الأدب بالفائدة وأرد عليه بالمنفعة، فنبغ في أيامهم من لو خلا الأدب الأندلسي إلا منهم لكانوا زينته ورواءه، وقد كاد يكون بهم القرن الخامس تاريخًا على حدة.
كان من أعظم مباهاة الطوائف أن فلانًا العالم عند فلان الملك، وفلانًا الشاعر مختص بفلان الملك "ص139 ج2: نفح الطيب"؛ وقد بذل مجاهد العامري ملك دانية لأبي غالب اللغوي ألف دينار ومركوبًا وكساء على أن يضع اسمه في صدر [كتاب ألفه] فأبى ذلك أبو غالب وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري؟ فلما بلغ هذا مجاهدًا استحسن أنفته وأضعف له العطاء. وكان من ملوك بني هود: المقتدر بن هود، وهو آية في علوم النجوم والهندسة والفلسفة، وكان يباهي بالفقيه الأديب العالم الشاعر أبي الوليد الباجي وانحياشه إلى سلطانه؛ ومن ملوك بن الأفطس: المظفر، وكان أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصة من النحو واللغة والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ؛ وقد [انتخب] مما جمع من ذلك كتابه المشهور بالمظفري في خمسين جزءًا على نحو كتاب "الاختيارات" للروحي و"عيون الأخبار" لابن قتيبة "ص49:(3/186)
المعجب". توفي سنة 460هـ، وكان أديب ملوك عصره، أما ملوك بني عباد فقد كانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدورًا في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم؛ وكانت دولتهم العبادية بالمغرب كالدولة العباسية بالمشرق، وكان المعتمد منهم لا يستوزر وزيرا إلا أن يكون أديبًا شاعرًا حسن الأدوات؛ وكان من شعراء أبيه المعتضد، أبو جعفر بن الأبار.... وأبقو الوليد وابنه الوزير ابن زيدون واليماني، وابن جاخ البطليوسي الذي يعد من أعاجيب الدنيا؛ لأنه كان أميا، وقد بلغ من حسن شعره أن ولاه المعتضد رياسة الشعراء؛ إذ كانت له دار مخصوصة بهم وديوان تقيد فيه أسماؤهم، وقد جعل لهم يومًا يفرغ لهم فيه فلا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين "ص468 ج2: نفح الطيب".
فتأمل ما عسى أن يبلغ عدد قوم يفرد لأسمائهم ديوان وتخصص بهم دار؟ وكان المعتضد داهية يشبه أبا جعفر المنصور، وقد اتخذ خشبًا في ساحة قصره جللها برءوس الملوك والرؤساء عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه! "ص59: المعجب".
وهذا الخبر ينقله كتبة الأوروبيين إلى الشعر المحض فيقولون إنه كان يزرع الورد في جماجم أعدائه، ولابنه المعتمد شيء من مثل هذا، فقد اتخذ في بعض وقائعه..... من جماجم أعدائه مئذنة ثوب عليها المؤذنون؛ ولم يجتمع من فحول الشعراء وأمراء الكلام باب أحد من ملوك الإسلام ما اجتمع بباب الرشيد والصاحب بن عباد والمعتمد هذا، فكان بباب الرشيد مثل أبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري وأشجع السلمي ومسلم بن الوليد وأبي الشيص ومروان بن أبي حفصة ومحمد بن مناذر وغيرهم؛ وكان بباب الصاحب بأصبهان وجرجان والري مثل أبي الحسين السلامي وأبي بكر الخوارزمي وأبي طالب المأمون وأبي الحسن البديهي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي وأبي محمد الخازن وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني وبديع الزمان والشاشي وكثيرين غيرهم "ص32 ج3: يتيمة الدهر". وكان بحضرة المعتمد مثل ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار وعبد الجليل بن وهبون وأبي تمام غالب بن رباح الحجام وابن جامع الصباغ، وغيرهم؛ ولا أحدث بالمعتمد وأولاده وأمه العبادية، فكلهم شعراء، وكان يناظر المعتمد المتوكل بن الأفطس، وكان من حضرة بطليموس كالمعتمد بإشبيلية، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر والمتوكل أكتب "ص583 ج2: نفح الطيب" وكان وزيره ووزير أبيه ابن عبدون الكاتب الشاعر الشهير، وهو الذي سير فيهم القصيدة الخالدة التي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر
وذكر فيها مصارع الملوك إلى زمنهم، وتوفي سنة 520هـ.
وكذلك كان بالمرية يومئذ المعتصم بن صمادح، ومن شعرائه ابن الحداد شاعر الأندلس وعمر بن الشهيد وأبو جعفر الخراز البطرني وأبو الوليد النحلي ومحمد بن عبادة الوشاح والأسعد بن بليطة والحكيم الفيلسوف أبو الفضل بن شرف القائل في دولته:(3/187)
لم يبق للجور في أيامهم أثر ... إلا الذي في عيوب الغيد من حور
وقد قصر إمداحه عليه بعد أن مدح المتوكل بن المظفر وأقطعه المعتصم قرية بأحوازها لهذا البيت، وسنتكلم عن الشعراء الفلاسفة في موضع آخر.
ومما امتاز [به] القرن الخامس شيوع الأدب في النساء، حتى كانت مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري التي اشتهرت بإشبيلية بعد الأربعمائة تدارس النساء الأدب "ص493 ج2:نفح الطيب".
وامتاز أيضًا باختراع الزجل كما امتاز القرن الرابع باختراع التوشيح، والذي اخترع الزجل هو الوزير أبو بكر بن قزمان، وكان ممن اشتمل عليهم المتوكل بن المظفر.
وفي آخر هذا القرن نكب ملوك الطوائف وانقرض ملكهم على يد يوسف بن تاشفين الملقب أمير المسلمين ولم يكن على شيء من الأدب العربي؛ ولذلك كان أكثر الشعراء في بر العدوة أيام نكبة ملوك الطوائف من الزعانفة وملحفي أهل الكدية، حتى إنه لما أخذ المعتمد إلى طنجة تعرض له أولئك الصعاليك وألحفوا في استجدائه، وكان هو أولى منهم بالكدية لولا أنه المعتمد الذي يقول في ذلك:
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا ساواهم في المطلب
ومن مشاهيرهم الحصري الأعمى، وكانت له عادة سيئة من قبح الكدية وإفراط الإلحاف "ص90: المعجب".
عصر الوزراء:
غير أن ملوك الطوائف قد تركوا له إرثًا من الأدب اتصل به بعضه بعد أن استوسق له الأمر، إذ خلفوا من الشعراء والكتاب كالوزراء بني القبطرنة من أهل بطليموس أبي كبر وأبي محمد وأبي الحسن، وذي الوزارتين أبي بكر محمد بن رحيم الشاعر، وأخيه الوزير أبي الحسين بن رحيم، والوزراء أبي بكر الطائي، وأبي الحسن جعفر بن الحاج، وأبي محمد بن القاسم، وأبي عامر بن أرقم، وأبي جعفر بن مسعدة، وأبي محمد بن [ ... ] ، وأبي القاسم بن السقاط، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسين بن سراج، وأبي القاسم بن الجد، وأبي محمد بن مالك، وعبد الله بن سماك، وعبد الحق بن عطية، وعبد الحسن بن أضحى، والكاتب أبي عبد الله اللوشي؛ [....] وأبي الحسن بن زنباع، وأبي محمد بن سارة، ويحيى بن تقي، وأبي الحسن غلام البكري، وأبي القاسم المتنبي، وأبي الحسن بن [....] وأبي عبد الله محمد بن عائشة، وأبي عامر بن عقال، وعبد المعطي بن مجد، وغيرهم، وما منهم إلا علم في دولة القلم.
وهذا القرن الخامس يصح أن [يلقب] بزمن الوزراء؛ لأنهم كثروا فيه كثرة لم تكن فيما قبله ولم تعهد فيما بعده، وإنما كانوا يستوزرون لأدبهم من الكتابة والشعر -وبذلك عرفوا- فكأن الوزارة كانت كالشعر منافسة، ثم كانوا يوزعون عليهم الخطط كالمظالم والأحكام [والإنشاء] وغيرها.
وربما يتهادى الوزير الواحد ملوك عدة؛ ولذهاب هؤلاء الوزراء بجيد الشعر قل في زمنهم من(3/188)
عرف بالشعر وحده؛ لأنه لا يتميز به إلا من ميزته مواهبه وتخطت به جلالة الوزارة، وقد مر بك أسماء بعضهم، أما الوزراء ممن لم نذكرهم فمنهم أحمد بن عباس وزير زهير الصقلي ملك المرية، وكانت له عناية خاصة بجمع الكتب حتى بغلت دفاتره 400 ألف مجلد غير الدفاتر المخرومة، وأبو مروان بن سراج جاحظ الأندلس، وأبو محمد بن عبد البر، وأحمد بن عبد الملك بن شهيد، وأبو مغيرة بن حزم، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وأبو المطرف بن الدباغ، وأبو حفص بن برد، وأبو عبد الله البكري، وأبو بكر بن عبد العزيز، وأبو عبد الملك بن عبد العزيز, وأبو جعفر البتي، وأبو جعفر بن سعدون، والحاجب أبو مروان عبد الملك بن رزين، و.... محمد بن طاهر، وأبو عامر بن سنون، وأبو بكر بن القصيرة، وأبو الحسن بن اليسع، وأبو الفضل بن حداي، وذو الوزارتين أبو عيسى بن لبون، وأبو محمد بن سفيان، وأبو محمد بن القاسم، وأبو الحسن بن الحاج، وأبو الأصبغ بن الأرقم، وابن الحضرمي، وأبو طالب بن غانم، وأبو بكر بن قزمان؛ وربما كان لكل واحد جمع هؤلاء، كتاب وشعراء، يتجمل بهم موكب الوزارة، وينطق بهم لسان المجلس؛ فتأمل عظمة هذا العصر، وتدبر مقدار ما فيه مع ذلك من الأدب وفنونه.
ونحن نستوفي هذه الكلمة بذكر من اشتهروا قبل من ذكرناهم من وزراء الأندلس، ومنهم حاجب الناصر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، ثم حاجب ابنه الحكم جعفر بن محمد المصحفي؛ وكان في زمنه وزمن أبيه من بيوت الوزراء آل أبي عبيدة وينتهي بيتهم في الوزارة إلى زمن الداخل، وآل شهيد، وآل فطيس؛ وفي زمن المنصور بن أبي عامر: محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وأبو عبيدة حسن بن مالك صاحب كتاب "ربيعة وعقيل" الذي سلفت الإشارة إليه.(3/189)
القرن السادس وما بعده
مدخل
...
القرن السادس وما بعده:
بعد أن انقرض ملك الطوائف واستوسق أمرها لابن تاشفين بما أظهر من النكاية في العدو والدفاع عن المسلمين وحماية ثغورهم، بلف الجيوش إلى الجيوش، وصدم الخيل بالخيل، عد من يومئذ في جملة الملوك وسمي هو وأصحابه بالمرابطين. ولم يختلف عليه شيء من الأندلس، فانقطع إليه من أهل كل علم فحوله حتى ماجت [بهم] حضرته، ولم يجد بدا من أن يتبع سنن من قبله في تجميل الملك بهم؛ وبذلك اجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر الأندلس، فكان من كتابه كاتب المعتمد على الله الوزير أبو بكر بن القصير، وكان على طريقة القدماء من إيثار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى السجع، إلا ما جاء من ذلك عفوا، وكتب له أيضا الوزير عبد المجيد بن عبدون، وهو من أبلغ الكتاب قاطبة إلى غيرهما من الفحول الذين لم يجدوا لهم ركنًا بالأندلس، وقد ذكرنا بعضهم، فإنه لم يشتهر بها بعد نكبة ملوك الطوائف ممن تفضل على أهل الأدب، غير الوزير أبي محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري، وكان شاعرًا بليغًا -فإنه جرى على سنن عظماء الملوك في ذلك حتى لم ير بعده مثله، وتوفي سنة 518هـ- وكان إبراهيم ابن الأمير يوسف المذكور قد عقد في هذه الدرة سماء، ولما قام بالأمر علي بن يوسف بن تاشفين سنة 493هـ -وكان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمغلبين- اشتد إيثاره لأهل الفقه، فكان لا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء "ص110: المعجب" فبلغوا في أيامه ما لم يبلغوه في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يكن يقرب منه ويحظى عنده إلا من أتقن علم الفروع، أي: فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتي نسي النظر في الكتاب والسنة, ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح هذا العلم وكراهة السلف له وأنه بدعة في الدين، في أشباه لهذه الأقوال حتى استحكم في نفسه بغض الفلسفة وأهلها، فكان يكتب في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء من علم الكلام وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه؛ ولما دخلت كتب الغزالي إلى المغرب أمر هذا الأمير بإحراقها، وتقدم بالوعيد الشديد، من سفك الدم واستئصال المال، إلى من وجد عنده شيء منها؛ واشتد الأمر في ذلك؛ فهذه أعظم نكبات الفلسفة، وهذا هو سببها: مغالبة على الرزق وتهالك على السلطة، وإذا كانوا قد نسوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد هان بعد ذلك أن تحرق كتب الفلسفة وأن يمثل بها كل تمثيل بين يدي هذا الأمير وجمع له الفقهاء للمناظرة، فلم يكن(3/190)
فيهم من يعرف ما يقول، إلا رجلًا أندلسيا اسمه مالك بن وهيب، وكان متحققًا بأجزاء الفلسفة؛ وقد شارك في جميع العلوم، غير أنه لم يكن يظهر إلا ما ينفق في ذلك الزمان.
وقد كان من وراء ذلك وتشعب هذه الفروع [واستبحار] هذا العلم أن الأمير يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن المتوفى سنة 595هـ من أمراء الموحدين, لما نظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله ووجد في المسألة الواحدة أربعة أقوال وأكثر لا يعرف في أيها يكون الحق حمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث, [وأراد] نحو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، فأمر بإحراق كتبه بعد أن يجرد ما فيها من الحديث والقرآن؛ حتى لقد كان يؤتى منها بالأحمال فتوضع وتطلق فيها النار، وتقدم كذلك إلى الناس بترك الاشتغال في علم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة؛ وأمر من عنده من المحدثين باستخراج مجموع من مصنفات الحديث العشرة، كالصحيحين والترمذي والموطأ وغيرها، فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه، وجعل لمن حفظه الجعل السني من الكساء والمال؛ فحفظه الخواص والعوام "ص184: المعجب" وكان ذلك في سنة 584هـ.
غير أن الأمير علي بن يوسف لم يكن منصرفًا عن الأدب، إذ لا عداوة بينه وبين الفقه، فكان يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وكان عنده من مشاهيرهم أبو القاسم المعروف بالأحدب، وأبو بكر محمد المعروف بابن القبطرنة، وأبو عبد الله محمد بن أبي الحضال وكان صاحب المكانة لديه، لمشاركته في علوم الفقه، وأخوه أبو مروان، وعبد المجيد بن عبدون وغيرهم.
وكذلك كان أخوه إبراهيم بن يوسف بن تاشفين قد عقد للأدب في ذلك الجو سماء أدار فلكها واستوى على عرشها فكان ملكها، وهو الذي ألف له الفتح بن خاقان كتابه الشهير الموسوم بـ"قلائد العقيان"، وكان يتودد في أوائل القرن السادس من خلفتهم ملوك الطوائف ومن تركهم أبوه من العلماء والشعراء والكتاب، وقد ذكر كثير منهم.
ولم يزل [أمر] الأدب [يتردد] بين الأندلس وبر العدوة، حتى أعاد أمراء الموحدين مجده وعزه، وكان أولهم بعد المؤمن الذي ولي سنة 534هـ؛ وكان من أشهر شعراء الأندلس في هذا الزمن: ابن حمديس، وابن الزقاق، وابن خفاجة، وابن بقي، والفيلسوف أبو بكر بن الصائغ، وأبو الحسن جعفر بن الحاج الميورقي الشاعر الشهير، وابن الصفار القرطبي، وغيرهم.(3/191)
الأدب ودولة الموحدين:
لما تفرق أهل الأندلس بعد الفتن التي [كانت] في أواخر القرن الخامس، كان منهم الكتاب الوزراء والشعراء والأدباء، فكان لا يستعمل في بر العدوة بلدي ما وجد أندلسي "ص124 ج2: نفح الطيب"؛ ومن أجل ذلك كان الأمراء يبعثون في طلبهم ويرغبون فيهم أشد الرغبة، إن لم يكن إحياء لملك الأدب، فزينة لأدب الملك، وقد مر شيء من ذلك في دولة المرابطين، ولما ولي عبد المؤمن -من الموحدين- جرى على هذه السنة، فبعث يستدعي أهل العلم من البلاد إلى السكون عنده والجوار بحضرته؛ وأجرى عليهم الأرزاق الواسعة، وأظهر التنويه بهم والإعظام لهم إلا أنه لم يكن من شعرائه الخواص به من تلقى له أزمة القول، حتى إنه لما تغير على وزيره الكاتب البليغ أبي جعفر بن عطية، امتحن من عنده من الشعراء بهجوه، فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال: ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه! "ص101 ج3: نفح الطيب".
ولما خرج بمجموعه يقصد الأندلس، وكانت قد اختلت أحوالها، نزل مدينة سبتة فعبر البحر ونزل الجبل المعروف بجبل طارق، وسماه هو جبل الفتح, وفد عليه في هذا الموضع وجوه الأندلس للبيعة، فكان له هناك يوم عظيم، استدعى فيه الشعراء ابتداء ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك؛ إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم، وعلى بابه منهم طائفة أكثرهم مجيدون "ص137: المعجب" فأنشده أبو عبد الله محمد بن حبوس من مدينة فاس، وهو الذي كان في دولة لمتونة مقدمًا في الشعراء، والطليق المرواني؛ وابن سيد اللص؛ وهو نحوي كان يغير على أشعار الناس فنبز بهذا الملقب "انظر بغية الوعاة: ص150"، والرصافي، وكان يومئذ حدثًا، وغيرهم؛ وقد ولي عبد المؤمن بعض أولاده على جهات الأندلس، فولى غرناطة وأعمالها ابنه عثمان؛ ويكنى أبا سعيد، وكان محبا للآداب مؤثرًا لأهلها، يهتز للشعر ويثيب عليه، فاجتمع له من وجوه الشعراء وأعيان الكتاب عصابة كانت البقية الباقية من ضوء ذلك النهار؛ ثم صارت الدولة إلى يوسف بن عبد المؤمن في سنة 558هـ وكان في حياة أبيه قد ولي إشبيلية وأعمالها، نزل منها محل المعتمد ووقف على آثار دولته، فاختلط هناك بعلمائها، كالأستاذ اللغوي ابن ملكون وغيره، وجعل يأخذ عنهم، وصرف عنايته إلى كلام العرب وحفظ أيامهم ومآثرهم وأخبارهم في الجاهلية والإسلام، حتى صار أسرع الناس نفوذ خاطر في غوامض النحو ومسائل العربية، مع مشاركة في علم الأدب واتساع في حفظ اللغة، ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة؛ فجمع كثيرًا من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، ثم تخطاه إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر، وما كان ينتهي إليه خبر كتاب منها عند أحد إلا أخذه وعوض عليه ما هو خير له؛ ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل العلوم النظرية، إلى أن صارت حاضرته بذلك أشبه بحاضرة خلافة علمية؛ وكان ممن صحبه من فلاسفة الإسلام، أبو بكر محمد بن طفيل، تلميذ أبي بكر بن الصائغ، وقد كان أمير المؤمنين أبو يعقوب هذا شديد الشغف به والحب له حتى كان يقيم عنده في القصر أيامًا ليلًا ونهارًا لا يظهر، وهو الذي تولى جلب العلماء إليه من جميع الأقطار، ونبه على أقدارهم، ولولاه ما كان ابن رشد أعظم فلاسفة الأندلس شيئًا مذكورًا؛ إذ هو الذي نوه به حتى عظم قدره، وتقدم إليه في تلخيص كتب أرسطوطاليس وتقريب أغراضها. وكان من كتاب أبي يعقوب أبو [عبد الله] محمد [بن] عياش بن عبد الملك، وهو الذي جرى على طريقة خاصة في الإنشاء توافق طريقة هؤلاء الأمراء وتصيب ما في أنفسهم، ثم جرى الكتاب من أهل ذلك المصر بعده على أسلوبه وسلكوا مسلكه، لما رأوا من استحسانهم لتلك الطريقة "ص174: المعجب" وكان أشهر شعرائه وشاعر المغرب في وقته أبو بكر بن مجير الأندلسي المتوفى سنة 587هـ؛ ومن شعراء زمنه وزمن أبيه الرصافي، والكندي، وأبو جعفر بن سعيد، وابن الصابوني شاعر إشبيلية ووشاحها، وابن إدريس الرندي.(3/192)
وتوفي أبو يعقوب سنة 580هـ فقام بعده يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وكان قد وزر لأبيه [فبلغ غاية] بعيدة من مطالعة الأمور وتقدير الرجال، فكأنما استوفى حظه من إكرام الفلسفة ووفاها قسطها في ذلك الزمن؛ لأنه ما كاد يتصل به الأمر حتى أراد أن يرجعها بدوية ساذجة يجري فيها على سنن الخلفاء الراشدين، فكان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس ثم كان يقعد للناس عامة لا يحجب عنه أحد، حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم! "ص189: المعجب"، وقد سلف ما كان من نظره في كتب الرأي وتقدمه بإحراقها، وحكوا عنه أنه لما أزمع الخروج إلى بعض غزواته سنة 592هـ كتب إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه، فحصل على جماعة كبيرة منهم كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند لا هؤلاء! مشيرًا إلى العسكر؛ ولعله يحكي في ذلك قتيبة بن مسلم الفاتح الشهير، فإنه حين لقي الترك وكان في جيشه أبو عبد الله محمد بن واسع، جعل يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئًا على سية قوسه رافعًا إصبعه إلى السماء ينضنض بها، فقال قتيبة: لتلك الإصبع..... أحب إلي من عشرة آلا سيف.(3/193)
نكبة الفيلسوف ابن رشد:
وفي أيام يعقوب هذا نالت أبا الوليد ابن رشد فيلسوف الأندلس المحنة الشديدة التي أظلمت أسبابها على الأقلام ظلمة المداد، وأقام لها الكتاب من كلامهم مناحة وألبسوها من صحفهم ثياب الحداد؛ وقد تكلم عنها [الكتبة] من العرب، كالذهبي والأنصاري وابن أبي أصبيعة وعبد الواحد بن علي التميمي صاحب كتاب "المعجب"، وكان يومئذ حيا، ثم تناولها كذلك المؤرخون من الإفرنج وبسطوا فيها العبارة، كالفيلسوف رينان وغيره، وهم إنما حاروا في أسبابها؛ لأن ابن رشد كان قاضي القضاة، وكان مقربًا عند يعقوب وأبيه حتى [إن يعقوب] جاوز به مجلس أخصائه وأدناه فوق ما يؤمل، ولكن أكثر أولئك لم يرجعوا في سبب هذه المحنة إلى سيرة يعقوب هذا؛ لأنها لا تخرج عن أن تكون خلقًا من أخلاقه أو نزوة لبعض هذه الأخلاق، وإنما أعمال المرء بخيرها وشرها ميزان، وسيرته اللسان منه، فهي تنطق بصواب التمييل بين الكفتين وتدل [على] حقيقة الترجيح، وقد أسلفنا من أمر هذه السيرة ما يتعين معه الحكم بأن الأمير يعقوب لا يبغض الفلسفة مستقيمة في كتبها، ولكنه يبغضها معوجة في الألسنة، إذ تزيغ بها القلوب الخفيفة، وتضل العقول الطائشة؛ فلما نتأ رأس الفتنة، وأصبح الكلام على أن يشيع في العامة ويتقلب على الألسن ويختلط بالأهواء ووجوه التأويل، لم يكن بد من أن يحسم الأمير مادة الفتنة ويتقي الله في عامته، وهو الرجل الذي يحكمهم بالقلب المطمئن، ويحوطهم بالنظرات المحككة، فلا يزال يتحرى العدل بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، ولذلك نستبعد نحن أن يكون سبب هذه المحنة غضبًا من المنصور لمن يناوئ الفيلسوف، أو موجدة عليه؛ لأنه ذكر في شرح كتاب "الحيوان" لأرسطاطاليس أنه رأى الزرافة عند ملك البربر -يعني المنصور- فغفل عما يتعاطاه خدمة الملوك ومتحيلو الكتاب من الإطراء والتقريظ، ولا أن ابن رشد كان يؤثر أبا يحيى على أخيه يعقوب ولا ما أشبه ذلك مما لا يلتئم مع سيرة المنصور بتة، إذ هو لا يخرج من جلده(3/193)
ويترك فضلات روحه ويخلق رجلًا جديدًا يحب التمليق والمداهنة ويؤثر الكبرياء ويفسح من صدره للغيبة والنميمة من أجل ابن رشد ولكي يشد عليه هذه الشدة؛ ولولا ذلك ما جمع فقهاء قرطبة وأخذهم بأن ينظروا في كتب الفيلسوف فإما التحريم وإما التحليل.
وقد كان الأمير أتقى الله من [أن يهين شيبة مسلم] ويلعن رجلًا يقول ربي الله، أو يغمض في رأي من يشير بذلك؛ ولكنه أراد أن يبرأ من هذه التبعة، ويتحلل من عهدة ما عسى أن يكون خطأ، فجمع الفقهاء لتكون كلمتهم الحكم على العامة بالسكوت، فإنهم إذا خاضوا في ذلك وترك الأمر على ما هو فشت لهم فاشية من الضلال، ووجند الناس السبيل إلى خذلان هذا الأمير في غزواته، وهو الذي كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكير والبدع ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها! ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات "ص188: المعجب".
هذا ما نراه من سبب المحنة، وهو الحق لا ريب فيه، أما تفصيلها فهو قار في موضعه من كتب من ذكرناهم في صدر هذا الفصل فلا يفوت من يلتمسه؛ وقد أبعد الفيلسوف بعد ذلك إلى [.....] بلدة قريبة من قرطبة يسكنها اليهود، وأبعد من يقول بقوله أو يتكلم في علوم الفلسفة، ومنهم القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي الذي يقال إنه خرج كلمة "ملك البربر" ونبه على أنها محرفة عن "ملك البرين"، وأبو جعفر الذهبي، ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الشاعر؛ ثم كتبت الكتب عن المنصور إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان من الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فأشبع الناس من كتب الفلسفة هذه النار التي بقيت في الأندلس إلى زمن ديوان التفتيش تقول: هل من مزيد؟ ولكن المنصور لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ولكنه مرض بها مرضه الذي مات فيه سنة 594هـ، وتوفي بعده يعقوب صدر سنة 595هـ.
وكان في زمنه من أمراء الكتاب والشعر: أبو عبد الله بن وزير الشلبي المشهور من أمراء كتاب إشبيلية، وشعره يشبه شعر أبي فراس الحمداني، وكان أحد فرسان الأندلس، وابنه أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وأدبًا وشعرًا "ص582 ج2: نفح الطيب"، وقد كثر الشعر في زمنه وجم أهله ولكنه شعر اتباع لا شعر ابتداع؛ إذ لم ينشأ في الأندلس بعد القرن الخامس من يعد في أوائل شعرائها؛ ومن كثرة الشعر يومئذ أن المنصور لما قفل من غزوة الأراكة الشهيرة سنة 591هـ ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنئونه فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين والثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده.
ما أنت في أمراء الناس كلهم ... إلا كصاحب هذا الدين في الرسل
أحييت بالسيف دين الهاشمي كما ... أحياه جدك عبد المؤمن بن علي
فأمر به بألفي دينار ولم يصل أحدًا غيره، لكثرة الشعراء، وأخذًا بالمثل: "منع الجميع إرضاء(3/194)
للجميع" وقد انتهت رقاع القصائد إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه "ص430 ج2: نفح الطيب" وهذه وحده ينهض دليلًا على أن الشعر يومئذ كان متجرًا حقيقًا لا يتأدب به، فلا يخرج من روح الشاعر إلى قلبه حتى يبقى أدبًا، ولكنه يخرج من لسانه إلى يده فينقلب مادة. وقد كان ذلك قبل زمن عبد المؤمن؛ لأنه لما مدحه الحسيب أبو القاسم بن سعدة الأوسي، وكان جده ملك وادي الحجارة، كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء، فلما وقف الأمير على ذلك ضرب على اسمه وقال: إنما يكتب اسم هذا في جملة الحساب "أصحاب الحسب" لا تدنسوه بهذه النسبة؛ فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه "ص253 ج2: نفح الطيب" إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون بينهم نفر قليلون يقومون على الأدب.
وممن ختم بهم القرن السادس من أولئك: محمد بن سفر الشاعر الكبير، وأبو بحر صفوان بن إدريس المتوفى سنة 598هـ، وأبو جعفر الحميري الحافظ أديب الأندلس المتوفى سنة 610هـ، وغيرهم وإن كانوا قليلين.(3/195)
بعد القرن السادس:
ابتدأت الفتن بعد هذا القرن تتقلب حتى ذل الأندلسيون سنة 741هـ حيث اتحد ملوك الأسبانيول وملك البرتغال على العرب فهزموهم، ثم عادوا ثانية مع ملوك إيطاليا واستولوا على الجزيرة الخضراء سنة 743هـ ولم يبق في حوزة الأندلسيين إلا غرناطة؛ وكان بعد ذلك الزمن الذي انتهى بجلاء الأندلسيين في أوائل القرن العاشر؛ وفي كل هذه المدة كان ينبغ الشعراء والكتاب وأهل العلوم، إلا أن المشاهير منهم كانوا يعدون بالنسبة إلى ضعف الزمن وسفاهة التصرف، في إرث تلك الحضارة القديمة على قاعدة المثل السائر: واحد بالمائة، ورجل يفي بالفئة، وكانوا مع ذلك في الأغلب إنما يقلدون المعاصرين من أدباء المشرق، كالصفدي وغيره، فيتبعونهم في الصناعات اللفظية ونحوها، وكان لأكثرهم رحلة إلى هؤلاء، يجتمعون بهم ويأخذون عنهم، كما فعل ابن جابر صاحب "بديعية العميان"، ورفيقه الألبيري؛ وابن سعيد المغربي، وغيرهم، خصوصًا وقد كانت دولة الشعر قائمة يومئذ -في القرن السابع- بحضرة الناصر ملك الشام الذي ألبسها من عزه تاجًا، وأحلها من سمائه أبراجًا.
وممن نبغ في القرن السابع أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب الذي كتب عن ولاة من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه السلطان بن هود وقتل سنة 631هـ وهو مبدع في نثره وشعره معًا، وكان يرى نفسه فوق أبي تمام والبحتري والمتنبي؛ لأن أكثر مدارسة الشعر يومئذ كانت منصرفة إلى دواوين هؤلاء الثلاثة كما هي إلى اليوم، وكما تكون بعد اليوم إلى ما شاء الله؛ وابن سهل الإسرائيلي الشاعر الشهير المتوفى سنة 649هـ، وابو المطرف بن عميرة الإمام الكاتب المتوفى سنة 658هـ، وابن مرج الكحل الشاعر المتوفى سنة 634هـ.
وكان من نابغي القرن الثامن ابن الجياب المتوفى 749هـ. وأبو يحيى بن هذيل المتوفى سنة 753هـ وسيأتي ذكره في فلاسفة الشعراء، [وأبو القاسم] ابن جزي المتوفى سنة 750هـ وكلهم من(3/195)
أشياخ لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر، وهو أشهر أدباء هذا القرن شعرًا وكتابة وتفننًا في العلوم, وقد وضع في شعراء هذا القرن كتابًا سماه "الكتبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة"، إلا أنه على ما أرجح عد في طبقات العلماء، إذ كان لا يخلو أحدهم من أن يكون على شيء من الأدب يحمله [على شيء] من الشعر، وكذلك فعل في "الإحاطة"، ثم كان شاعر ما بقي من الأندلس بعد لسان الدين، هو العربي العقيلي الشاعر الوشاح، واشتهر بعده أيضًا تلميذه ابن زمرك وزير الغني بالله.
أما القرن التاسع وهو الذي مر على أطلال الأندلس، فكان في نصفه الأول الوزير الكاتب القاضي أبو يحيى بن عاصم الذي يقول عنه الأندلسيون إنه ابن الخطيب الثاني، وكان في نصفه الأخير قاضي الجاعة ابن الأزرق الشاعر المنشئ الفقيه المتوفى سنة 895هـ، وصارت الأندلس بعد ذلك أرضًا صماء لا ترجع الصدى، واستعجم تاريخها فكأنما بدأ غريبًا وعاد كما بدأ.(3/196)
الشعر الأندلسي والتلحين:
لقد يخطئ من يزعم أن شعر الأندلسيين يغيب في سواد غيره من شعر الأقاليم الأخرى كالعراق والشام والحجاز، بحيث يشتبه النسيج وتلتحم الديباجة، وذلك من لا يعرف الشعر إلا بأوزانه ولا يميز غير ظاهره؛ ولكن للشعور روحًا كروح الإنسان: تستوي مع الجنس كله في جملة الأخلاق وتختلف في مفرداتها، حتى لقد يجد اللبيب الحاذق من التفاوت بين أنواع الأشعار إذا هو استقرأها وتقصص تواريخ أصحابها ما يصح أن يخرج منه علم يسمى علم الفراسة الشعرية.
ومن هذا القبيل يمتاز شعر فحول الأندلس بتجسيم الخيال النحيف وإحاطته بالمعاني المبتكرة التي توحي بها الحضارة، والتصرف في أرق فنون القول واختيار الألفاظ التي تكون مادة لتصوير الطبيعة وإبداعها في جمل وعبارات تتخرج بطبيعتها كأنها التوقيع الموسيقي، بل هي تحمل على التحلين بما فيها من الرقة والرنين، ولا يشاركهم في ذلك إلا من ينزع هذا المنزع ويتكلف ذلك الأسلوب؛ لأن جزالة اللفظ في شعرهم إنما هي روعة موقعه وحلاوة ارتباطه بسائر أجزاء الجملة؛ وتلك فلسفة الجزالة، ومن أجل ذلك أحكموا التشبيه، وبرعوا في الوصف،؛ لأنهما عنصران لازمان في تركيب هذه الفلسفة الروحية التي هي الشعر الطبيعي.
وقد يشاركهم في كثير من ذلك شعراء الشام، ولكن رقة هؤلاء عربية مصفاة؛ وبذلك امتازوا على عرب الحجاز والعراق؛ لا يهولون بالألفاظ المقعقعة؛ ولا يغالون في فخامة التركيب؛ ولكن لا يستقبلك في شعرهم ما يستقبلك في شعر الأندلسيين من الشعور الروحي الذي لا سبيل إلى [تصويره] بالألفاظ؛ والذي تتبين معه أن الفرق بين الخيالين كأنه الفرق بين البلادين في التبعية والاستقلال, وليس يدل ما قدمناه على أن شعر فحول الأندلسيين ممتاز على إطلاقه وأن غيره لا يمتاز عليه؛ بل الأمر في ذلك كالجمال: كل أنواعه حسن رائع؛ ولكن النحافة اللينة منه تستدعي مع الإعجاب رقة هي بعينها التي يجدها من يتدبر ذلك الشعر.
وقد كان التلحين ضروريا عند شعراء الأندلس؛ وما اخترعوا الموشحات إلا لأن أوزانها أحفل به من أوزان الشعر؛ ولذلك لا يقع التوشيح موقعه من السمع إلا إذا خرج ألحانًا؛ وقد كان منهم من ينظم ويغني ويلحن؛ وأكثر ما يكون ذلك في فلاسفتهم؛ كابي الصلت أمية بن عبد العزيز الإشبيلي المتوفى سنة 523هـ، وكانوا يكنونه بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن الأغاني الأفريقية "ص372 ج1: نفح الطيب"، وكالفيلسوف أبي بكر بن باجة الغرناطي؛ وله عندهم الألحان التي عليها الاعتماد، وهو صاحب كتاب "الموسيقى" الذي يعدونه الكفاية من هذا العلم، وأعجب شيء في ذلك أن لأبي عبد الله بن الحداد الذي مر ذكره في شعراء المعتصم بن صمادح، مؤلفًا في العروض مزج فيه بين الموسيقى وآراء الخليل، وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على التوشيح "ص293 ج2: نفح الطيب" فهذه كانت عنايتهم بالألحان، وهي التي جعلت شعرهم كأنه نفوس تقطر أو تسيل.(3/197)
الشعراء الفلاسفة:
ولم ينشأ من الفلاسفة شعراء مجيدون قدر من نشأ منهم بالأندلس وحدها، ولم يكن للفلسفة تأثير على شعرهم إلا من جهة معانيه الشعرية، فإنها صارت من سمو الخيال وقوة التصور وبراعة الابتكار بحيث تدل على عقل صاحبها دلالة المطابقة، وبذلك زادوا في محاسن الشعر، ولكن غيرهم يخلط بين معاني الفلسفة الفنية وبين معاني الشعر، فيجيء به فلسفة ركيكة ساقطة، أو يجعل فلسفته التزام نوع واحد من مذاهب الشعر، كالحكمة مثلًا، وبذلك يبرد شعره ويقل، ولا تكاد تجد في غير الأندلسيين من يتحقق بأجزاء الفلسفة فيكون فيلسوفًا، ويبرز في الشعر فيكون شاعرًا، ويجمع في شعره الجمال الروحي في المعنيين فيكون شاعرا وفيلسوفًا معًا، ومن هؤلاء يحيى الغزال، وأبو الأفضل بن شرف -وكان عند المعتصم وابنه- وابن باجة، ومالك بن وهب، وكان عند يوسف بن تاشفين، وأبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة 593هـ المعدود من مفاخر الأندلسيين، ويلقبونه بشاعر الحكماء وحكيم الشعراء، وله كتاب "شذور الذهب"، منظوم في الكيمياء، وقيل: في بلاغته التي خضعت لها مادة الفن: إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب "ص342 ج2: نفح الطيب" وأبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأشبيلي المتوفى سنة 523هـ وجهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فحبس بها عشرين سنة في خزانة الكتب، فخرج إمامًا في العلوم وأتقن علوم الفلسفة والطب والتلحين وقد مر آنفًا، وأبو الحكم العربي المتبحر في الفلسفة والأدب، وهو الشاعر الهزلي، سنة 549هـ، وأبو بكر بن زهير المتوفى سنة 596هـ صاحب الموشحات التي امتاز بها، وأبو زكريا يحيى بن هذيل المتوفى سنة 753هـ، وكان أعجوبة في الاطلاع على علوم الأوائل، وأبو الحسين علي بن الحمارة الغرناطي، وقد برع خاصة في التلحين ويقولون فيه إنه آخر فلاسفة الأندلس "ص414 ج2: نفح الطيب".
ولكل واحد من هؤلاء وأمثالهم النظم المرقص المطرب الذي يقلب النفس على جانبي الطرب من الفلسفة والشعر، ولو اتسع لنا المقام لجئنا بالكثير منه، ولكن الاختيار ليس من شرطنا في هذا الكتاب، وقد اختار الأندلسيون أنفسهم من شعر شعرائهم كتبا ممتعة، منها كتاب "الحدائق" لأبي عمر أحمد بن فرج، عارض به كتاب "الزهرة" لأبي بكر بن داود، إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئًا، وأحسن الاختيار ما شاء، وأجاد فبلغ الغاية وأتى الكتاب فردًا في معناه، وهذه الأبواب جميعها إنما هي في الرقائق وأنواع الوصف، كما يدل على ذلك كتاب "الزهرة" الموجود قسم منه في المكتبة الخديوية بمصر.
ولأبي الحسن علي بن محمد الكاتب من أهل القرن الخامس كتاب "التشبيهات" من أشعار أهل الأندلس، ولم تسم همة أحد إلى جمع مثله من شعر قوم بعينهم وإنما يجمعون من كل شعر وقع إليهم، كما فعل أبو سعيد نصر بن يعقوب في كتابه "روائع التوجيهات في بدائع التشبيهات" "ص123(3/198)
ج2: يتيمة الدهر" فقد ضمنه ما اتفق من ذلك لشعراء الشام والعراق والري وأصبهان وغيرها.
وقد جاء كتاب "الذخيرة" لابن بسام كالذيل على كتاب "الحدائق" لابن فرج، وهي موجودة؛ وفي عصرها صنف الفتح بن خاقان كتاب "القلائد"، ذكر فيه المعاصرين من الوزراء والكتاب والشعراء، ثم ألف "المطمح"، وهو نسختان: كبير وصغير، وهذا الأخير هو المطبوع في الآستانة ومصر، وقلما تنبه قارئوه إلى ذلك فلا يزالون يرمونه بالتقصير عن القلائد. ولم يلتزم الفتح في "المطمح" ما التزم في "القلائد"، بل أورد فيه مشاهير الأندلس من كل طبقة في كل عصر؛ ثم جاء أبو عمر بن الإمام من أهل المائة السادسة، فوضع كتابه "سمط الجمان وسفط المرجان"، ذكر فيه من أخلت "القلائد" و"الذخيرة" بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة، ثم ذيل عليه أبو بحر بن صفوان البرسي بكتاب "زاد المسافر"، ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة؛ ولابن هانئ اللخمي المتوفى سنة 733هـ كتاب "الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة"، وقد مر بنا ذكر كتاب ابن خنيس، وكتاب شعراء ألبيرة الذي ألف للحكم المستنصر، وكتاب "الكتيبة الكامنة في أهل المائة الثامنة" للسان الدين بن الخطيب، وقد رأينا في "طبقات اللغويين والنحاة" للسيوطي في ترجمة ابن خنيس القرطبي المتوفى سنة 343هـ أنه ألف كتابًا في شعراء الأندلس -إلى عهده- بلغ فيه الغاية "ص67"؛ هذا إلى كتب أخرى لم تقيد بالتراجم ولا بالاختيار، وإنما استوعبت فنونًا كثيرة مما يحاضر به من الأدب والتاريخ ككتاب "المسهب1 في فضائل المغرب"، ألفه ستة أشخاص في 115 سنة، آخرها سنة 645هـ، وكتاب "فلك الأدب" لابن سعيد، من شعراء القرن السابع، وكان رحالة إلى المشرق، وهو صاحب كتاب "عنوان المرقصات" المطبوع في مصر؛ وقد ألف يحيى الخدج المرسي، وقد أدرك المائة السابعة، كتاب "الأغاني الأندلسية" على منزع كتاب أغاني أبي الفرج الأصبهاني؛ فلا بد أن يكون قد ألم فيه بتراجم طائفة كبيرة من مشهوري أدبائهم؛ ولمحمد بن عاصم النحوي، من علماء القرن الرابع، كتاب في طبقات الكتاب بالأندلس. ولو بقيت هذه الكتب جميعها لأمكن استخراج تاريخ واسع للأدب الأندلسي يشرق على الدنيا بذلك النور الذي أسدلت عليه حجب الغيب وترك مكانه في التاريخ فراغًا مظلمًا.
والأندلسيون يختارون من شعرائهم من يقابلون بهم طبقة بشار وحبيب والمتنبي، أي: الطبقة العالية من شعر الشام والعراق، ويعدون من هؤلاء الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، وأحمد بن عبد الملك بن مروان, وابن دراج القسطلي، وأغلب بن شعيب، ومحمد بن شخيص، وأحمد بن فرج، وعبد الملك بن سعيد المرادي "ص 135 ج2: نفح الطيب" فهذه هي الطبقة الثانية عندهم، والطبقة الأولى يقابلون بها جريرًا والفرزدق والأخطل ومن معهم، ويعدون منها أبا الأجرب جعونة بن الصمة، ويحيى الغزال وغيرهما، والطبقة الثالثة يقابلون بها سائر المولدين ممن لم يبلغ مبلغ أولئك في الاشتهار وبعد الصيت، وقد ذكرنا أسماء الكثيرين من فحولهم.
__________
1 قالوا في صحة هذا الضبط إنه خاص بحالة الإكثار في صواب، وأما المسهب "بالفتح" على ما يقتضيه نصهم فهو على المكثر إطلاقه في لغو أو صواب.(3/199)
أدبيات الأندلس
...
أديبات الأندلس:
سبقت لنا كلمات خفيفة عن الأدب النسائي في الأندلس، وعددنا أسماء بعض جواري عبد الرحمن الأوسط, وسنعد الآن المشهورات من سائر أولئك الأديبات، فأولاهن وأولاهن بالتقديم لبنى كاتبة الخليفة الحكم المستنصر بالله -أي: ناسخة- كانت تكتب الخط الجيد، نحوية شاعرة عروضية بصيرة بالحساب مشاركة في العلم لم يكن في [مصرهم] أنبل منها، وتوفيت سنة 374هـ، وقد عدها السيوطي في طبقات اللغويين والنحاة، وكانت تعاصرها حسانة التميمية بنت أبي الحسين الشاعر، والشاعرة الغسانية، وحفصة بنت حمدون، واشتهرت بعدهن عائشة القرطبية المتوفاة سنة 400هـ لم يكن في زمانها من [حرائر] الأندلس من يعدلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، ثم اشتهرت في آخر القرن الخامس مرين بنت أبي يعقوب الأنصاري الشاعرة المشهورة، وهي التي كانت تعلم النساء الأدب، وقد كثر.... الأديبات في هذه المائة فكان فيها أم العلاء بنت يوسف الحجارية، والعروضية مولاة أبي المطرف بن غلبون اللغوي، وقد أخذت عن مولاها النحو واللغة وفاقته في ذلك وبرعت في العروض، وكانت تحفظ "الكامل" للمبرد و"النوادر" للقالي وشرحهما "ص430 ج2: نفح الطيب" ويؤخذ عنها الأدب، وتوفيت سنة 450هـ، وولادة الأديبة الشهيرة المتوفاة سنة 484هـ، ومهجة القرطبية صاحبتها وتلميذتها، ونزهون الغرناطية البارعة، وحمدونة بنت زياد المؤدب التي يلقبونها بخنساء المغرب لقوة شعرها وسمو إبداعها، ولها شعر مطرب "ص491 ج2: نفح الطيب"، والعبادية والدة المعتمد, واعتماد حظيته، وبثينة بنته، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وغاية المنى جاريته، وغيرهن؛ ثم اشتهر في أوائل القرن السادس الأديبة الشلبية، وأسماء العامرية، وحفصة الركونية وهي أديبة الأندلس في هذه المائة.
وانقطاع النساء عن آداب اللغة بعد القرن السادس على ما نرجح يكفي وحده دليلًا على أنهن إنما يشتهرن بذلك ويظهرن به حيث يكون الزمن ترفًا ونعمة؛ لأنهن بعض الترف والنعمة، فمتى خشنت الأيام واضطرب حبل الفتن كان الأدب أول ما ينصرف عن تلك الخدور، كما أن أول ما يجف من أنواع الشجر الزهر!(3/200)
علوم الأندلسيين
مدخل
...
علوم الأندلسيين:
ليس من الممكن أن يقلب العلم الواحد على أنواع متغايرة إلا ما يكون متسعًا بطبيعته لمسابقة الخواطر واستنان القرائح، وهذا شأن أكثر العلوم قبل أن تقرر قواعدها وتمهد طرقها؛ إذ ليس العلم بخصوصه إلا نوعًا من التاريخ يضبط أعمال القرائح ويرتب نتائجها؛ فإذا بلغ أن يكون في حكم المفروغ منه لبعض الاعتبارات، كمفردات اللغة مثلًا متى ذهب أهلها المأخوذة عنهم، فذلك هو العلم الذي لا فضل فيه لأحد إلا بإتقانه وحسن القيام عليه والاستنباط منه إذا قبل الاشتقاق والتفريغ؛ ولكن من أنواع العلوم ما يتصل بأجزاء الطبيعة؛ فهو أبدًا مادة الاكتشاف، وقد يكون هذا الاتصال عامة كالشعر ونحوه مما يقيد بموضوع محدود، وقد يكون خاصا كعلم النبات مثلًا، وهذه الأنواع هي التي يتفاضل فيها الأقوام وتمتاز القرائح والأفهام؛ فالعلم منها أشبه بالتاريخ السنوي لأمة لا تزال باقية ممدودًا لها في أجل العمران والحضارة.
وقد برز الأندلسيون في جميع الأنواع التي تناولها وأحسنوا القيام عليها واضطلعوا بها؛ غير أن أكثر تلك العلوم إنما وقع إليهم تاما أو هو في حكم الذي تم؛ لأن العراقيين سبقوهم إلى الاشتغال به، كعلوم اللغة والفلسفة بأنواعها، فلم يتركوا لهم إلا فضل التحقيق وما كانت تساعد عليه أحوال تلك الأزمنة من الاكتشافات وما اقتضته طبيعة أرضهم من الاختراعات الهندسية، وكأن هذا الشعب كان من فطرته وحكم الطبيعة له أن يكون متفضلًا، فعوضه التاريخ من الفضل على المشرق فضله على على أوروبا، وعلى ذلك فلا يكون بحثنا في علوم الأندلسيين علميا، إذ هم لم يبتدئوها ولم يتمموها، ولكنه تاريخي يبسط حقيقة التارخ لا حقيقة العلم ذاته، ولقد يصح أن يكون الأندلس بحث فني يذهب برأسه في تاريخ الفنون والصناعات عامة، وسنلم بشيء منه في موضع آخر من هذا الكتاب.
اشتغل الأندلسيون بعلوم الفلسفة جميعها المعروفة في التمدن العربي، وهو علم النجوم والأفلاك، والمقادير -الهندسة- والرياضيات، وآثار الطبيعة، والطب، والموسيقى، والمنطق، والفلسفة الإلهية، والسياسات المنزلية والمدنية، وبعلوم اللغة والأدب، من النحو والتصريف والتاريخ والرواية والمحاضرة، وبسائر العلوم الدينية، وسنقسم الكلام في ذلك إلى قسمين: العلوم الفلسفية، والأدبية:(3/201)
العلوم الفلسفية:
سبق لنا فيما أسلفناه من هذا البحث كلام متفرق عن التنجيم وبعض من عرفوا به وعناية الملوك بعلوم الفلسفة وذكر الفلاسفة والشعراء؛ فلا نعيد شيئًا من ذلك هنا، وإنما نستوفي ما يتم به هذا الموضع، تفاديًا من الملل والسآمة.
نقل صاحب "نفح الطيب" عن ابن سعيد المغربي، أن كل العلوم لها حظ عند الأندلسيين واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظا عظيمًا عند خواصهم ولا يتظاهر [بهما] خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة؛ وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت؛ وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري "ص102 ج1: نفح الطيب".
قلنا: وهذا هو السبب في أن أولية الفلسفة تكاد تكون مجهولة في الأندلس لا يعرف منها إلا القليل، وقد ذكر صاحب "نفح الطيب" في موضع آخر أن أول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم، أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة -توفي في آخر القرن الثالث- لأنه كان يشرق في صلاته، وكان عالمًا بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث -زمن المزني- "ص232 ج2: نفح الطيب".
وقال في ترجمة يحيى الغزال الشاعر المتوفى سنة 250هـ: إنه حكيم المغرب وشاعرها وعرافها، لحق أعصار خمسة من الخلفاء "ص441 ج1: نفح الطيب". وفي موضع آخر أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك بها كتاب "العروض" للخليل، وأول من فك الموسيقى؛ وصنع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة؛ ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبًا.... وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود "ص231 ج2: نفح الطيب" وكان عباس هذا زمن الأمير محمد المتوفى سنة 273هـ.
غير أن كل أولئك على ما نرجح لم يشتغلوا بالفلسفة الإلهية ولم ينتحلوا مذهبًا من المذاهب اليونانية، ولعل أول من عرف بذلك في الأندلس محمد بن عبد الله بن مسرة الباطني من أهل قرطبة "269-319" فإنه أكثر من النظر في فلسفة انبدقليس الذي يعده العرب أحد حكماء اليونان الخمسة الذين هم أساطين الحكمة "ص12: القفطي".
وشاع مذهب ابن مسرة بعده بالأندلس واشتهر به محمد بن أحمد الخولاني المعروف بابن الإمام، توفي سنة 380هـ وهو أديب بليغ، والظاهر أنه كان يلاحي به ويعمل على نشره، حتى حمل ذلك أبا بكر الزبيدي واحد عصره في النحو المتوفى سنة 379هـ على وضع كتاب في الرد عليه "ص34: بغية الوعاة".
وذكر ابن القفطي في ترجمة يحيى بن إسحاق الطبيب الأندلسي، أن أباه إسحاق كان طبيبًا صانعًا بيده مشهورًا في أيام الأمير عبد الله، وكان يحيى هذا بصيرا ذكيا في العلاج صانعا بيده، واستوزره عبد الرحمن الناصر وولاه الولاية الجلية بعد إسلامه، ونال عنده حظوة؛ وألف في الطب كناشًا في خمسة أسفار ذهب فيه مذهب الروم بحكم أن هذا النوع لم يكن استقر بالأندلس ولا اشتهر شهرته(3/202)
الآن -أي: في القرن السابع- "ص236: القفطي" فإذا كان ذلك شأن الطب في أوائل القرن الرابع وما هو بموضع الظنة ولا بالذي يستغنى عنه، فغيره من أنواع الفلسفة أولى بأن لا يكون مستقرا ولا مشتهرًا.
وقبل هذين الطبيبين رحل من المشرق إلى الأندلس يونس الحراني الطبيب في أيام الأمير محمد، واشتهر هناك؛ ثم انقلب ولداه أحمد وعمر الأندلسيان إلى المشرق وأخذا عن ثابت بن سنان وأمثاله، وابن وصيف الكحال "ص259: القفطي".
ولكن الأندلس كانت مشهورة في زمن الحكم المستنصر، أي: في أواخر القرن الرابع، بالرياضيات، حتى كان يتقاطر إليها طالبو هذا العلم من أوروبا، وفي ذلك العهد نبغ مسلمة بن أحمد المجريطي المتوفى سنة 398هـ وهو إمام الرياضيين بتلك البلاد، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب وشغف بتفهيم كتاب المجسطي، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي ونقل تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة وزاد فيه جداول حسنة "ص214: القفطي" وقد تخرج عليه أجلة من علماء هذا الشأن، أشهرهم أصبغ بن السمح البارع في النجوم والهندسة، وأبو القاسم ابن الصفار أستاذ الرياضيات في قرطبة، وأبو الحسن الزهراوي، وكان للحكم نفسه منجم مختص به، وهو ابن زيد الأسقف القرطبي، وألف في ذلك كتب "تفضيل الأزمان ومصالح الأبدان" "ص138 ج2: نفح الطيب".
ومن أشهر أئمة الفلك بالأندلس إبراهيم بن يحيى النفاش المعروف بولد الزرقيال. قال ابن القفطي إنه أبصر أهل زمانه بأرصاد الكواكب وهيئة الأفلاك واستنباط الآلات النجومية، وله صحيفة الزرقيال المشهورة في أيدي أهل هذا الفرع التي جمعت من علم الحركات الفلكية كل بديع مع اختصارها، ولما وردت على علماء هذا الشأن بأرض المشرق حاروا لها وعجزوا عن فهمها إلا بعد التوقيف، وله أرصاد قد رصدها ونقلت عنه.
واشتهرت علوم الحكمة بعد زمن الحكم، وكان من أشهر الأطباء في زمنه محمد بن عبدون العذري القرطبي الذي اتصل به وبابنه المؤيد، وهو من علماء العدد والهندسة، ولم يكن بقرطبة من يلحقه في صناعة الطب ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها "ص437 ج1: نفح الطيب" وكثر نبوغ الأندلسيين في القرن الخامس؛ وفي هذا القرن نبغ الكرماني القرطبي المتوفى سنة 458هـ وكان فردًا في الهندسة والعدد، وهو الذي أدخل "رسائل إخوان الصفا" إلى تلك البلاد ولم يعلم أن أحدًا أدخلها الأندلس قبله "ص163: القفطي" وكان لها شأن مهم في تنويع الفلسفة الأندلسية.
وكما كان القرن الخامس أشهر عصور الأدب في الأندلس، كان القرن السادس أشهر عصور الفلسفة فيها، ظهر فيه الحكيم أبو بكر بن الصائغ الذي كان يحدث عن نفسه أنه يحسن اثني عشر علمًا أيسرها النحو الذي هو أشهر علوم الأندلسيين، وابن طفيل، وابن رشد، وأبو العلاء بن زهر فيلسوف(3/203)
عصره وحكيمه المتوفى سنة 535هـ وأمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، وقد مر ذكره، وأبو بكر بن زهر الطبيب المتوفى سنة 595هـ، وقد كاد هذا الرجل يكون تاريخ القرن السادس كله؛ لأنه ولد سنة 507هـ؛ وهو مع طبه اللغوي الأديب الذي امتاز بالموشحات الطائرة بين المغرب والمشرق، وله أخت كانت هي وبنتها نابغتين في الطب، وأبو الحكم المغربي المتبحر في الفلسفة والأدب، وقد مر ذكره في الشعراء الفلاسفة، وتوفي سنة 549هـ، وإن الواحد من هؤلاء ليكفي أن يكون فخر أمة، فكيف بهم مجتمعين في قرن من الزمن؟
وقد كان لكل منهم تلامذة جلة، ولم تنجب الأندلس بعدهم من يضاهيهم إلا أفرادًا قليلين، كمحمد بن الحسن المذحجي، وابن عياش الزهراوي ومطرف الأشبيلي في القرن السابع.
على أن من الأندلسيين أفرادًا آخرين اشتهروا بفنون أخرى كالنبات والفلاحة وخواص العقاقير والسموم وعلم الحيوان وغيرها فضلًا عمن نبغوا من أصحاب المنطق والموسيقى، ومن كانوا هناك من أئمة الفنون ومهرة الصناعات، فلم نر أن نصلهم بهذا الفصل؛ إذ استقصاء ذلك كله مما [يقتضي كتبًا] برأسه، وهو فرع إن كان مهما في بسط تاريخ الحضارة فليس كذلك في تاريخ الأدب.(3/204)
مقاومة الفلسفة العربية الطبيعية في أوروبا وانتشارها:
وهنا موضع هذه الكلمة؛ لأن الأوروبيين لم يعرفوا الفلسفة العربية إلا من طريق الأندلس أولًا، وسنأتي على أمر النقل والترجمة إليهم من فصل آخر من هذا البحث.
أول ما دخل إلى أوروبا من الفلسفة العربية كتب ابن سينا وبعض كتب الفارابي والكندي ثم دخلت كتب الغزالي وابن رشد، وكانت فلسفة أوروبا يومئذ بعض تعاليم لاهوتية مستخرجة من كتب مختلفة لأصحاب المذاهب اللاتينية؛ فلما دخلت إليها فلسفة العرب في القرن الثاني عشر وما بعده لم تلبث أن انتشرت في المدارس والمجتمعات وأقبل عليها الناس، فرأى المجمع الأكليريكي الذي عقد في باريس سنة 1209م أنها ستذهب بالتقاليد الدينية المعروفة التي لا قرار لها على مذاهب العلم الطبيعي فحكم على المشتغلين بها يومئذ من الأوروبيين وهم أموري ودفيدوي دينان وتلامذتهما، وفي سنة 1215م حرم الأكليروس تعالم أرسطو وخصوصًا تلاخيص ابن سينا، وفي سنة 1231م حرم البابا غريغوريوس التاسع كل من يشتغل بفلسفة العرب.
كانوا يرمون بذلك إلى محو هذه الفلسفة ولكنهم لفتوا إليها الغافلين ونبهوا إلى هذه الشكوك من يسمونهم أهل اليقين، فاضطر علماء اللاهوت بعد ذلك إلى درسها، ليتخذوا من الداء دواء وليضربوا العلم في أرق مقاتله؛ فقام منهم غيليوم دوفرن وحمل على فلسفة ابن سينا ثم خفف من حملته قليلًا وانعطف برفق ظنه قاتلًا إلى فلسفة ابن رشد، وقد كان يثني عليه بعض الثناء؛ وبعده قام اللاهوتي ألبير الكبير، وهو من المعجبين بابن سينا والمزدرين لابن رشد، وله ردود كثيرة على الفلسفة العربية، ثم قام بعدهما ألد أولئك الأعداء، وهو القديس توما الشهير أعظم حكماء الكنيسة الغربية وأكبر فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة, ولكن كل أولئك لم يقووا على نقض الفلسفة العربية، فإنهم إنما كانوا يروون بالألسنة على القلوب، والحجج اللسانية قد تحرج القلب في مبادئه التي يصبو إليها ولكنها(3/204)
لا تصرفه عن هذه المبادئ ما دامت قوتها لفظية؛ ومن أجل ذلك حاول بعد هؤلاء ريمون مارتيني أن يضرب اليقين بالشك ويدخل إلى تلك القلوب من بعض جوانبها، فجعل ينشر كتب الغزالي للرد على فلسفة ابن سينا وابن رشد، ثم تتابع جيل دي ليسين وبرنار دي تريليا وهرفه نديليك ودانت الشاعر الإيطالي المشهور صاحب "رواية الجحيم" وجبل دي روم، وهو الذي بلغ في ذلك قريبًا من القديس توما، وجاء بعدهم الأرعن الأخرق ريمون لول الذي صرف عمره خصوصًا من سنة 1310م إلى سنة 1312م في التجوال بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوى ونابولي وبيزه، محرضًا الناس على ازدراء العرب ونبذ فلسفتهم، حتى إنه لما اجتمع مجمع فيينا سنة 1311م رفع إلى الباب اكليمنضس الخامس كتابة يقترح فيها إنشاء مجتمع يخول من السلطة ما يساعد على إسقاط الإسلام وإقامة كليات لدرس اللغة العربية وحرم المسيحيين الذي ينتصرون لفلسفة ابن رشد وطرح كتبه من المدارس الأوروبية!
وفي هذا القرن الرابع عشر كانت كتب ابن رشد قد انتشرت في أوروبا، خصوصًا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، حتى غطت عندهم عى ابن سينا وأخملت من شهرته بعد أن كان هو المتميز في القرن الثالث عشر، ثم أصبحت تلك الفلسفة في القرن الخامس عشر وهي روح العلم الطبيعي في أوروبا، وذلك بعد أن صارت من الدروس الحافلة في كلية بادو المشهورة بإيطاليا التي استتبعت حركة الفلسفة الأوروبية يومئذ، وأول ناشري تعاليم ابن رشد فيها بطرس دانوا الذي لم يجد ديوان التفتيش سبيلًا إلى عقابه إلا بحرق عظامه من بعده.
وقد شرح أساتذة هذه الكلية فلسفة الحكيم القرطبي، ونبغ فيها منهم كثيرون أكسبوها الاحترام وعلو الرأي؛ ولا جرم أنهم بذلك قد رفعوا أنفسهم أيضًا.
ولما أراد ليوس الحادي عشر ملك فرنسا، إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473م، طلب من أساتذة المدارس تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه استثبت فائدة هذا الشرح وأيقن بصحته.(3/205)
آخرة الفلسفة العربية:
ثم حدثت مسألة خلود النفس في أواخر القرن الخامس عشر وخاض فيها علماء إيطاليا، وكانوا يجدون في شروح ابن رشد لفلسفة أرسطو أن النفس خالدة بعد الموت، ولكن "بومبوتا" العالم المشهور أثبت من كتب "اسكندر دفروريزياس" الفيلسوف اليوناني الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد، أنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي في الأرض؛ فانشق العلماء وطار الجدال في هذه النازلة حتى انعقد مجمع لاتران في سنة 1512م وحرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبعد هذا الانتصار للفلسفة العربية طبعت كتب ابن رشد وطارت إلى أيدي طلابها والمعجبين بها من كل جهة؛ غير أن ذلك كان مبدأ للرجوع إلى النص اليوناني في فلسفة أرسطو، ثم انتبه العلماء إلى فائدة ذلك، ففي إبريل "نيسان" من سنة 1497م صعد الأستاذ "نقولا ليونيكوس توموس" منبر التعليم في كلية بادو، وألقى أول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية؛ وما كاد أمره يذيع حتى أخذوا ينهضون في ذلك، ثم عادت بادو والبندقية وشمال إيطاليا إلى نص أرسطو، وعادت فلورنسا إلى نص أفلاطون؛ واستمر ذلك إلى أن ظهرت الفلسفة الطبيعية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، فأتت على الفلسفة العربية، حتى لم تجئ سنة 1631م حتى انقلبت تاريخًا يذكر بعد أن كانت علمًا ينشر، وذلك بوفاة آخر القائمين عليها في أوروبا وهو "قيصر كريمونيتي" المتوفى في تلك السنة.(3/206)
العلوم الأدبية:
رأس هذه العلوم عند الأندلسيين النحو والشعر، ولا بد في كليهما من الحظ الصالح من اللغة والرواية؛ قال ابن سعد المغربي، وقد نقل كلامه صاحب "نفح الطيب": النحو عندهم في نهاية من علو الطبقة؛ حتى إنهم في هذا العصر "القرن السابع" فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنًا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء.... وعلم الأدب المنثور -من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات- أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.... وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرًا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها "ص103 ج1: نفح الطيب".
وقد سلف لنا كلام [في] أسباب براعتهم في الشعر، أما سبب ما ذكره ابن سعيد من حالهم في النحو وتميزهم به مع انحرافهم في اللغة العامة عن الأوضاع العربية، فهو على ما نرى أن أولئك القوم كانت لهم فطرة عجيبة في قوة الذاكرة والحفظ، ولو كانت الأندلس مكان العراق وفي جهة من البادية ما ضاع حرف من اللغة ولحفلت الكتب بفنون الأدب العربي، وذلك دأبهم قديمًا وحديثًا، مما يرجح معه أن تلك الذاكرة أثر من جمال الطبيعة في أنفسهم، ومن أجل ذلك قل أن تجد في علمائهم صاحب علم واحد أو علمين، بل فيهم من يعد في الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والشعراء والكتاب والمؤرخين واللغويين والنحاة والأدباء، وقد يتميز في ذلك كله على اختلاف الفنون أو في أكثره، وقد ذكرنا بعضهم فيما سلف، وسنشير إلى آخرين. وإذا كان من مفاخر العراقيين أن الأصمعي يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، وهم يعدونه أذكى العرب وأجمعهم، فقد كان من الأندلسيين في المائة الثالثة سعيد بن الفرج مولى بني أمية المعروف بالرشاشي يحفظ مثل هذا العدد للعرب خاصة، وكان يضرب به المثل في الفصاحة على كثرة ما يتقعر في كلامه "ص256: بغية الوعاة"، وأعجب من إنشاد حماد الراوية بين يدي الوليد ليلة كاملة "وقد مر ذلك في بحث الرواية والرواة" ما ذكروا من أن أبا المتوكل الهيثم الأشبيلي حافظ الأندلسي في عصره، وكان في المائة السادسة، حضر ليلة عند أحد رؤساء أشبيلية فجرى ذكر حفظ، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم أن تختبروني أجبتكم، فقالوا له:
بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق. فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن "أرق على أرق ومثلي يأرق" وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما خرج عن قافية القاف "ص233 ج2: نفح الطيب".
وكان من حفاظهم أبو الخطاب بن دحية المتوفى سنة 633هـ، بلغ من حفظه للغة أن صار حوشيها مستعملًا عنده غالبًا، ولا يحفظ الإنسان حوشي اللغة إلا وذلك زكاة محفوظ من مستعملها؛(3/207)
ولأبي الخطاب هذا رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات، على أنه يرسلها عفو الساعة وفيض البديهة، ولما ارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، جمعوا له علماء الحديث فذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها، فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية "ص369 ج1: نفح الطيب".
ولو شئنا أن نطيل في حفظ الأندلسيين لأتينا بالكثير من الأدباء واللغويين والنحاة، ولكنا نذكر من ذلك شيئًا مما نحن بسبيله ولا نظير له في غير الأندلس، وذلك عنايتهم بكتاب سيبويه في النحو البصري، وهو أحد الكتب الثلاثة التي يقال إنه لا يعرف كتاب ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غيرها، وهي: كتاب سيبويه في علم النحو العربي، وكتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، وكتاب أرسطاطاليس في علم صناعة المنطق. "ص69: القفطي".
كتاب سيبويه عندهم:
لا نعرف أول من أدخل هذا الكتاب الأندلس، وقد عرفت أول من أدخل كتاب الكسائي، وهو جودي بن عثمان العبسي الذي كان يؤدب أولاد الخلفاء بالعربية، وقد رحل إلى المشرق وأخذ عن الرياشي والفراء والكسائي وأدخل كتابه إلى الأندلس "توفي سنة 198هـ"؛ ولكن أقدم من وقفنا عليه ممن حفظوا كتاب سيبويه، هو حمدون النحوي المتوفى بعد المائتين، ولعله أول من عرف به ثم كان من أشهر حفاظه في القرن الثالث الأفشين القرطبي المتوفى سنة 309هـ، وقد أخذه بمصر عن أبي جعفر الدينوري رواية، ولكن الهمم لم تنصرف إلى استظهاره إلا في القرن الخامس كأنهم جعلوا ذلك منافسة، وقد ذكروا أن عبد الملك بن سراج إمام أهل قرطبة المتوفى سنة 489هـ عكف عليه ثمانية عشر عامًا لا يعرف سواه "ص312: بغية الوعاة" ومن ذلك العهد ابتدءوا يقررونه ويشرحونه ويملون عليه التعاليق، ومن شراحه أبو بكر الخشني الجياني المتوفى سنة 544هـ، وكان الناس يرحلون إليه لتقدمه في الكتاب، وهو من مفاخر الأندلسيين "ص105: البغية"؛ ولابن الطراوة النحوي الذي سيأتي ذكره في علماء القرن السادس كتاب سماه "المقدمات على كتاب سيبويه"، وشرحه ابن خروف المتوفى سنة 609هـ وقد أملى إبراهيم بن عيسى المعروف بابن المناصف المتوفى سنة 627هـ على قول سيبويه هذا باب علم الكلم من العربية، وهو في بضعة أسطر عشرين كراسًا "ص184: البغية" وكذلك كان لابن الحاج إملاء عليه، وكان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء، وابن عصفور توفي سنة 669هـ، وكثر حفاظ هذا الكتاب في القرن السادس، فكان فيه غير من ذكرناهم: محمد بن عبد المنعم، يسرده بلفظه، وهو أحفظ أهل زمانه؛ وجابر بن محمد الحضرمي الذي كان زعيم وقته بإقرائه والتقدم فيه؛ وخلف بن يوسف الذي كان يحفظ مع هذا الكتاب كتبًا أخرى كـ"أدب الكاتب" و"المقتضب" و"الكامل" للمبرد وغيرها؛ وأبو عامل بن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن الجد الذي قال فيه ابن ملكون: من قرأ كتاب سيبويه على ابن الجد فما عليه أن لا يقرأه على سيبويه؛ وفي هذا العصر كان أحمد بن عبد النور النحوي المتوفى سنة 702هـ لا يقرأ الكتاب(3/208)
فكانوا يقولون لا يعرف شيئًا! "ص142: البغية" وزادوا على ذلك في القرن السابع حتى انتهت الرياسة إلى أبي الحسن الأشبيلي المعروف بابن الصائغ المتوفى سنة 680هـ وقد شرحه وكان له في مشكلاته عجائب. قال في "بغية الوعاة": وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه فما أراه سبقه إلى ذلك أحد. وكان يعاصره إمام الأدب الأصبحي المتوفى سنة 776هـ، وله شرح على هذا الكتاب؛ ثم كان في القرن الثامن جماعة أشهرهم أبو حيان، -وسيأتي ذكره- وله تعاليق مهمة على هذا الكتاب وتجريد لأحكامه واختصار فيه للطلبة المبتدئين.
علماء العربية والأدب:
بقي أن نذكر أسماء المشاهير من علماء العربية بالأندلس غير من ذكرناهم وقد أبقينا لهذا الموضع أسماء الشعراء وأئمة الأدب؛ لأننا إنما نتفادى من الإطالة بسرد الطائفة الواحدة، ولا نعتمد إلا أن يكون وفاء البحث في جملة أجزائه لا في بعضها، وهي طريقتنا التي نجري عليها في هذا الكتاب:
كان في القرن الثاني حمدون النحوي بعد المائتين -وقد سبق ذكره- وكان هو والمهدي متعاصرين ولهما زعامة النحو واللغة، إلا أن المهدي امتاز باللغة وامتاز حمدون بالنحو ... فكان [فيه] الغاية التي لا بعدها، وقد أخذ عن علماء ذلك العصر ابن وضاح والخشني ومطرف بن قيس.
واشتهر في القرن الخشني القرطبي، وهو نحوي لغوي شاعر لقي بالمشرق السجستاني والرياشي والزيادي، وأدخل الأندلس كثيرًا من اللغة والشعر الجاهلي، وتوفي سنة 286هـ عن ثمانين سنة.
وكان يعاصره محمد بن عبد الله القرطبي وهو الذي أخذ عنه أهل الأندلس الأشعار المشروحة.
ومحمد بن عبد السلام بن ثعلبة؛ وقد أدخل الأندلس أيضًا كثيرًا من كتب اللغة والشعر الجاهلي.
وجابر بن غيث اللبلي النحوي الشاعر الأديب المتوفى سنة 299هـ.
ومحمد بن أصبغ المتوفى سنة 306هـ وهو مولى الوليد بن عبد الملك.
وهشام بن الوليد النحوي العروضي الأديب، وهو مؤدب أولاد الناصر توفي سنة 317هـ.
ومحمد بن يحيى المعروف بالرياحي مؤدب المغيرة بن الناصر، وهو إمام في العربية والأدب، فقيه شاعر.
وأحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم، حافظ للعربية والغريب، متقدم في النقد، شاعر منفرد، شرح أكثر دواوين العرب، توفي سنة 318هـ.
وقاسم بن أصبغ "247-340هـ" وهو فرد في النحو والغريب والشعر، وكانت إليه الرحلة بالأندلس كما كانت بالمشرق يومئذ لأبي سعيد بن الأعرابي.
[ثم] أبو عبد الله المعروف بابن خنيس، وكان كاتبًا بليغًا عالمًا باللغة والغريب والأخبار والتاريخ توفي سنة 343هـ.(3/209)
ومحمد بن أصبغ المتفنن في العلو من النحو واللغة والحساب والفرائض والشعر وغيرها، وتوفي سنة344هـ.
[وممن] نبغ في القرن الرابع محمد بن أبان المتوفى سنة 354هـ، وكان فردًا في اللغة والعربية والأخبار والتواريخ؛ فكان مكينًا عند المستنصر.
وابن القوطية القرطبي إمام اللغة والعربية في زمنه، [توفي] سنة 367هـ.
وأبو بكر القرطبي المعروف بابن العريف النحوي، قيل إنه صنع لولد المنصور بن أبي عامر مسألة فيها من العربية 27209 أوجه، وتوفي سنة 367هـ.
والحسين بن الوليد من مؤدبي أولاد المنصور أيضًا، وهو شاعر أستاذ في الأدب إمام في العربية.
وأبو بكر الزبيدي الأشبيلي واحد عصره في النحو واللغة، وقد أدب ولد المستنصر، توفي سنة 379هـ.
وأحمد بن أبان بن سعيد صاحب شرطة قرطبة، الإمام في العربية واللغة صنف كتاب "السماء والعالم" في اللغة، مائة مجلد، وقد رأينا هذا الاسم في كتب أرسطاطاليس التي ذكرها ابن القفطي، وقال: هو أربع مقالات في الطبيعة نقله ابن البطريق "ص30" وتوفي ابن أبان سنة 382هـ.
ومحمد بن عاصم النحوي من كبار الأدباء، توفي سنة 382هـ.
وقد أوردنا فيما سبق أسماء أكثر علماء القرن الخامس، ولكنا نذكر منهم هنا محمد بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وهو من أحفظ أهل زمانه للنحو واللغة، لا سيما كتب أبي زيد والأصمعي وتمام بن غالب بقية شيوح اللغة الضابطين لحروفها الحاذقين بمقاييسها، وكان إمامًا فيها ثقة في إيرادها توفي سنة 433هـ.
وابن سيده صاحب كتاب "المخصص" وغيره، وهو فرد في اللغة والنحو متوفر على علوم الحكمة، توفي سنة 459هـ.
وغانم بن وليد المالقي المتوفى سنة 470هـ وكان أهل الأندلس يعدون أئمة الأدب في ذلك الوقت ثلاثة: أبو مروان بن سراج بقرطبة، والأعلم الشنتمري بأشبيلية، وغانم هذا بمالقة، لكن زاد غانم عليهما بالفقه والحديث والطب والكلام، أما أبو مروان فهو الشاعر النحو الإمام في الأدب، توفي سنة 489هـ، وكان الأعلم عالم اللغة والعربية والشعر، وقد توفي سنة 476هـ.
وممن ختمت بهم هذه المائة سراج بن عبد الملك بن سراج النحوي، وكان يجتمع إليه أربعون وخمسون من مهرة النحاة، كابن أبي فرس، وابن الأبرش، وكلهم إليه مفتقرون، لوقوفه على مواد النحو وأشعار العرب ولغاتها وأخبارها، وقد توفي سنة 508هـ.
المائة السادسة:
ثم كان [من] مشاهير القرن السادس محمد بن عبد المنعم أبو عبد الله السبتي من صدور الحفاظ(3/210)
لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، آية تتلى ومثالًا يضرب، وقد امتاز عن سائرهم بأنه كان يعرب أبدًا كلامه.
وأبو محمد اللوشي البارع في الأدب والنحو واللغة والكتابة والشعر والخطابة، وقد أخذ أدباء عصرهم عن الثلاثة الذين مر ذكرهم، وتوفي سنة 518هـ.
وأبو محمد البطليوسي المتبحر في اللغات والآداب، وله يد في العلوم القديمة، وهو شارح "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وكتابه "الاقتضاب" مشهور، توفي سنة 531هـ، وقد رأينا في "بغية الوعاة" للسيوطي في ترجمة أبي العباس ابن بلال اللغوي المتوفى سنة 460هـ أن ابن خلصة النحوي نسب إليه شرح "أدب الكاتب" المسمى "الاقتضاب"، وذكر أن ابن السيد البطليوسي أغار عليه وانتحله "ص175" وهذا عجيب، والله أعلم بحقيقته.
وجعفر بن محمد بن مكي، وكان عالمًا باللغات والآداب، ذاكرًا لهما، معتنيًا بما قبله منهما، ضابطًا لذلك، وعني بهما العناية التامة، وجمع من ذلك كتبًا كثيرة كان له بها اليد الطولى الباسطة في علم اللسان.
وأبو الحسين بن الطراوة، نحوي ماهر وأديب بارع، يقرض الشعر وينشئ الرسائل البليغة، وله آراء في النحو تفرد بها وخالف فيها جمهور النحاة، وعلى الجملة كان مبرزًا في علوم اللسان كلها، وتوفي سنة 528هـ عن سن عالية.
ومحمد بن يوسف المعروف بابن الاشتراكواني، المتوفى سنة 538هـ، كان لغويا أديبًا شاعرًا معتمدًا في الأدب فردًا في وقته، وهو صاحب "المقامات اللزومية" الشهيرة -وسيأتي ذكرها في موضعها- وقد اعتمد عليه أبو العباس بن مضاء في تفسير "كامل" المبرد لرسوخه في اللغة العربية.
والوزير ابن أبي الخصال "سنة 465-540هـ" وكان على براعته في الفقه وصناعة الحديث والمعرفة برجاله والتقييد لغريبه، فردًا في اللغة والأدب والنسب والتاريخ، إمامًا متفقًا عليه، متحاكمًا إليه في الكتابة والشعر، لم يكن في عصره مثله، حتى قال بعضهم إنه كان آخر رجال الأندلس علمًا وفهمًا وذكاء وتفننًا في العلوم.
ومحمد بن أحمد أبو عامر الوزير الكاتب، كان لغويا أديبا شاعرًا عارفًا بالتاريخ والأخبار، وهو من المؤلفين في ذلك كله، وكان موجودا بعد سنة 550هـ.
وأبو العباس الجراوي المالقي المتوفى سنة 561هـ، وكان على بلاغته في الشعر والكتابة من كبار النحاة والأدباء بالأندلس، درس هذين الفنين كثيرًا وأدب في آخر أيامه لبني عبد المؤمن بمراكش.
وأبو بكر بن قبلال الأديب اللغوي الكاتب الشاعر النحوي الطبيب توفي سنة 573هـ.
وأبو بكر الأشبيلي المعروف بالخدب أستاذ ابن خروف قريبًا من سنة 580هـ، وكان من حذاق النحويين وأئمة المتأخرين، يرحل إليه في العربية، واشتهر بكتاب سيبويه وطرره المدونة عليه. والخدب: الرجل الطويل.(3/211)
ومحمد بن جعفر المرسي الأديب الكاتب النحوي الذي كان إليه المرجع في إيضاح مبهم الكتب وفتح أقفالها، توفي سنة 587هـ.
وداود بن يزيد الغرناطي المتوفى سنة 573هـ، كان يقرئ العربية واللغة والأدب، وهو عالي المرتبة في ذلك رفع الطبقة، قيل: فيه إنه كان آخر النحاة بغرناطة.
وعبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي، المتفنن في ضروب الآداب واللغات، الحافظ لأيام العرب وفرسانها، الكاتب البارع الشاعر البليغ، واشتهر بعمل المقامات خصوصًا اللزومية منها -وسيأتي ذكره في بحث الصناعات اللفظية- توفي سنة 591.
وقاضي الجماعة أبو العباس الجياني القرطبي، كان من أصحاب الآراء في العربية وخالف فيها جمهور أهلها، وكان رحلة في الرواية وعقلًا في الدراية، عارفًا بالأصول والكلام والطب والحساب والهندسة، شاعر بارع كاتب بليغ، وتوفي سنة 592هـ.
وأحمد القرطبي المشهور بالوزغي، المبرز في العربية والأدب، شاعر راوية مكثر، وتوفي سنة 610هـ.
وأبو الحسن بن خروف، إمام العربية في زمنه، وهو أحد [الذين] ملئت كتب العربية بأسمائهم، وتوفي سنة 609هـ وهو على التحقيق خاتمة هذا العصر.
المائة السابعة:
كان في أول هذه المائة، أبو بكر الإشبيلي المعروف بابن طلحة، وهو شاعر أديب إمام في العربية والكلام، توفي سنة 618هـ.
وأبو العباس الشريشي صاحب الشروح الثلاثة على مقامات الحريري، وقد طبع منها الشرح الكبير، وهو أديب مبرز في العربية ذاكر للآداب، كاتب بليغ فاضل ثقة، توفي سنة 619هـ.
وأبو العباس الأشبيلي المعروف بابن الحاج، وكان متحققًا بالعربية حافظًا للغات مقدمًا في العروض، وقد برع في لسان العرب حتى لم يبق فيه من يفوقه أو يدانيه، وهو الذي كان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتابه سيبويه ما شاء! كأنه يرى نفسه خلفًا من سيبويه، وقد مات سنة 647هـ.
وأبو يحيى محمد بن رضوان الوادي آشي، وكان مضطلعًا بالعربية والفقه والنسب، إمامًا في ذلك، مشاركًا في علوم أخرى من الحساب والهيئة والهندسة وغيرها، توفي سنة 657هـ.
وأبو علي الإشبيلي المعروف بالشلوبين -ويخطئ النحاة المتأخرون كثيرًا في ضبط هذا اللقب إذ يلفظونه بضم اللام- وقد ضبطه السيوطي وقال إن معناه "بلغة الأندلس: الأبيض الأشقر" وإلى أبي علي هذا انتهت إمامة العربية بالمشرق والمغرب، فكان آخر أئمة هذا الشأن، وكان مع ذلك نقادًا للشعر بصيرًا بمعانيه، وقد أقرأ نحو ستين سنة، حتى لم يتأدب بالأندلس أحد في وقته إلا وأسند إليه مباشرة أو بواسطة، وتوفي سنة 645هـ وكان مولده سنة 562هـ.(3/212)
وأبو المطرف المخزومي البلنسي وهو خزانة من خزائن العلوم، كان إمامًا في الفقه عالمًا بالمعقولات والنحو واللغة والأدب والطب، متبحرًا في التاريخ والأخبار، بصيرًا بالحديث، راوية مكثرًا حجة، ناظمًا ناثرًا، يعدونه ثاني بديع الزمان في الكتابة، وتوفي سنة 659هـ.
وعبد الله بن أبي عامر الكاتب الشاعر الأديب النحوي اللغوي الفقيه المشارك في العلوم، وقد توفي سنة 666هـ.
وابن الدباغ الأشبيلي؛ وهو على انفراده في ذلك العصر يحفظ مذهب مالك؛ كان عالمًا بالنحو واللغة كاتبًا شاعرًا مؤرخًا، توفي سنة 668هـ.
وأبو الحسن بن عصفور، وهو وإن كان لم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو إلا أنه كان فيه كوكب سمائه وحامل لوائه، ولا يزال اسمه خالدًا في كتب هذا الفن، توفي سنة 669هـ.
وكان خاتمة أدباء هذا العصر حازم بن محمد القرطبي، شيخ البلاغة والأدب، وأوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض والبيان، لم يجمع أحد من علم اللسان ما جمع، ولا أحكم من معاقد البيان ما أحكم، وكانت له يد في العقليات؛ وذكروا أنه روى عن جماعة يقاربون ألفًا، بين أديب وعالم وحكيم، وقد حوى جملة التاريخ في هذه المائة؛ لأنه ولد سنة 608هـ وتوفي سنة 684هـ.
نكت الأندلسيين:
وكان في هذه المائة الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الشاعر الأديب، ولم نقف على سنة وفاته، وقد عني أتم العناية بفرع لطيف من العلم هو أدب التاريخ؛ فكان يحفظ نكت الأندلسيين قديمًا وحديثًا إلى زمنه، ذاكرا لفكاهاتهم؛ وهم أكثر الناس دعابة وأملحهم نادرة، خرجوا في ذلك صنائع إقليمهم فكأنهم أزهار طبيعتها الحساسة، تقابل أزهار الطبيعة الساكنة.
المائة الثامنة:
وهي بقية مجد الأندلس؛ لأن القرن التساع كان حشرجة ونزعًا، وهذه المائة شحيحة بالأئمة عقيمة بالأفراد، وقد أخذنا من فحولها ثلاثة غير من ذكرناهم من قبل في أدبائها، وهم:
محمد بن علي بن هانئ اللخمي، كان أديبًا إمامًا في العربية لا يشق غباره في استحضار الحجج، وهو صاحب كتاب "الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة"، وتوفي سنة 733هـ.
وأثير الدين أبو حيان الأندلسي الغرناطي نحوي عصره، ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه ومؤرخه وأديبه، وكان الإمام المطلق في النحو والتصريف، خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد في أقطار الأرض، وتوفي سنة 745هـ.
ومحمد بن علي المعروف بابن الفخار كان سيبويه عصره، وعده لسان الدين في "الإحاطة" آخر الطبقة من أهل هذا الفن، وقال فيه: إنه متبحر الحفظ يتفجر بالعربية تفجر البحر، قد خالطت لحمه ودمه، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذ عنه حجة ... وقل في الأندلس من(3/213)
لم يأخذ عنه من الطلبة، وتوفي سنة 754هـ.
كلمة في تراجم هذا البحث:
وبعد؛ فإنا لم نورد هذه الأسماء؛ لأنها أسماء فقط؛ إذ ليس كتابنا هذا من سجلات الإحصاء، وإنما أوردناها على أنها معاني ذلك التاريخ، يظهر منها سير الفنون والعلوم إلى كمالها، فإن قيمة العصر بمن يمتازون من أهله، وعلى حسب كثرتهم وقلتهم يكون وزن اعتباره ومنزلته في المقارنة بينه وبين سائر العصور، وإنما الدولة أمة، والأمة على مقدار الرءوس التي تعمل لها، وهذه الرءوس على مقدار العقول التي تضبطها، وتلك العقول على مقدار الأرواح التي تتميز بالاستئثار والزعامة في أصول الحضارة وفروعها، وما هذه الأرواح الكبيرة إلا أرواح النابغين.
من أجل ذلك أسقطنا من هذه الترجمة التي سقناها في هذا البحث كثيرين ممن لم يتحققوا بالفنون، واقتصرنا على الأئمة والأقطاب، وما منهم إلا من تكتب في ترجمته الأسطر الكثيرة على تحري الإيجاز ومعاناة الاختصار، هذا إذا لم تبسط تلك الترجمة بسطًا يتناول حالة النشأة العلمية وكهولتها في كل مترجم، وذلك بدرس المذاهب والآراء، وإيراد الشواهد عليها من مواد العلوم المختلفة، وهو منزع بعيد الشقة يحتاج إلى مصابرة ومطاولة، ويخرج إلى أن يكون كتابًا برأسه.
ونحن إنما عنينا بما جئنا به هذا البحث خاصة؛ لأن أكثر العلماء والأدباء أهملوا الأندلسيين وخلطوا مشاهيرهم بغيرهم، غير مميزين بين عصر وعصر، ولا مفرقين بين طبقة وطبقة؛ واقتصروا مع ذلك على أفراد منهم لا تكافئ جملتهم حضارة تلك الأمة، ولا يستدل بها على شيء من ذلك المجد فأردنا أن نثير تلك الدفائن؛ ونفتح من كنوز التاريخ تلك الخزائن؛ وجملة من ذكرناهم تكشف أشعتهم عن ذلك النور الذي غطته ظلمات التاريخ من الجو العربي فألقت عليه سحابة من النسيان، وتركته قطعة مظلمة كأنه من مهملات الزمان.(3/214)
مصرع العربية في الأندلس
مدخل
...
مصرع العربية في الأندلس:
من قواعد الاجتماع أن الأفراد يموتون ولكن الأمة تبقى، فكأنهم بموتهم يفسحون مكانًا للسمو الذي يكون مظهره تجدد الحوادث وتبدل العقول، ولكن ذلك شأن الأمة حين تكون أمة بالمعنى الاجتماعي أيضًا، فتكون بمنجاة من أسباب الانقراض، بعيدة عن عفونة التاريخ القديم وجراثيمه التي تهب بها الفتن والنكبات؛ وما أصيبت أمة بها إلا اضطربت أحوالها الاجتماعية وعن أجزائها الخلل والفساد، فلا تزال تتقلب حتى تصيب مصرع الخبب، وتعرف العقوبة من قبل أن تعرف الذنب!.
وكذلك كان شأن الأندلسيين: أخذتهم الفتن الأخيرة حتى كاد الفرد منهم يموت فيموت به جزء من الأمة، حتى صاروا في آخرة أمرهم نسلا شاذا وحثالة رديئة، فلفظتهم تلك الأرض كما يلفظ القيء، وذهبوا بعد ذلك كما يذهب كل شيء.
ونحن نريد الآن أن نبين كيف صرعت العربية بعد أن صارعت طويلًا، فنأتي على تاريخها في تلك البلاد في الطفولة والكهولة؛ لأننا لم نذكر في كل ما سبق إلا ظاهرًا من حياتها، وبقي تشريح باطنها لتعرف الأسباب والعلل في الحياة والموت:
دخلت العربية الأندلس، وكانت هذه البلاد يومئذ زاهرة بآداب اللغة اللاتينية التي كان يقوم عليها رجال الدين، حتى كانت أشبيلية يومئذ مركزًا علميا ثابت الدعائم بعناية أسقفها القديس إيزيدورس، فصدمتها العربية صدمة فزع لها أولئك الأساقفة؛ فكانوا يعملون على تقوية مادتها والاحتفاظ بها، فصارت بغيرتهم كأنها من الدين، حتى أصبحت البيع والأديار مدارس تلك الآداب، ولا سيما طليطلة وقرطبة وأشبيلية؛ فكانت تدرس فيها الآداب اللاتينية مع علم اللاهوت.
غير أن ذلك كله إنما كان عمل أفراد لا عمل أمة؛ وقد غفل أولئك المتنطعون عن هذه الحقيقة، وتناسوا ما كانت تغلي به قلوب الشعب الإسباني من النقمة على حكومته والخروج عليها؛ وقد كان اليهود يومئذ -وهم خزائن الذهب وأقطاب التجارة- في أشد الظمأ إلى بريق سيوف العرب، حيث كان الملك ورجال الدين الكاثوليكي يسومونهم سوء العذاب ويبلونهم بالعنت الشديد، إذ خشوا امتداد سلطانهم وشوكة أموالهم، خصوصًا بعد أن دبر الإسرائيليون مكيدة ظاهرهم عليها قبائل البربر واليهود من أهل أفريقية، فكادوا بها يضبطون زمام المملكة الإسبانية، وذلك قبل فتح طارق بسبع عشرة سنة "694 للميلاد". غير أن أمرهم انكشف وانكشفت معه رقابهم للسيوف، حتى كادوا ينقرضون، لو لم يستخلصوا أرواح بقيتهم بسيوف العرب؛ ولذلك مالئوهم واطمأنوا إليهم ونصبوا أنفسهم لحماية المدن التي يفتحها الغزاة؛ وكذلك شأن العبيد في النقمة على الإسبانيين، حتى إن قرطبة سلمها للعرب راهب منهم، وقد غمسوا أيديهم في دماء وفتن كثيرة، فكان كل ذلك مما حملهم على تلقف العربية وبثها في سواد الأمة وتهيئتهم للاستعراب.
ولما رأى المسيحيون الأحرار أناة العرب وتسامح الإسلام، وأن أعناقهم لا تحملها الأكتاف إلا(3/215)
بفضل هؤلاء القوم، دخل أكثرهم فيما دخل فيه العبيد واليهود استسلامًا وإسلامًا، وحببت إليهم الأخلاق العربية حتى صار أشرافهم ممن أمسكوا عليهم دينهم يحجبون النساء ويقلدون المسلمين في الزي وكثير من العادات؛ ثم اندفعوا في ذلك بعد أن صارت الدولة للعرب، فلم تمض على الفتح ثلاثون سنة حتى أصبح الناس يخطون الكتب اللاتينية بأحرف عربية، كما كان يفعل اليهود بكتبهم العبرية، وما انقضى عمر رجل واحد حتى ألجأتهم الحاجة إلى ترجمة التوراة وقوانين الكنيسة إلى العربية، ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.
وبعد أن ظهرت أبهة الملك في زمن الأمويين وسما فرع الحضارة العربية في تلك البلاد؛ تحول أهلها فيما تحول من طبيعتها، حتى كانت الغيرة يومئذ على الآداب اللاتينية أسخف ما يرمى به أهل السخف؛ وقد نقل روزي في كتابه "تاريخ المسلمين في إسبانيا" أن بعض رؤساء الدين المسيحي كان يضطرم سخطًا على أدباء المسيحيين أنفسهم؛ لأنهم بالغوا في تعصبهم للعربية حتى تناولوا الشعر والأدب والفلسفة تقويمًا لألسنتهم وتهذيبًا لملكاتهم بدلًا من أن يتذرعوا بذلك إلى تسفيه الأدب العربي ونقض المدينة الإسلامية، قال: "وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة، ومما يؤسف له أن نشء المسيحيين الذين نبغت قرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يتداولون الكتب العربية ويجمعونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها الخزائن الممتعة، وإذا حدثتهم بكتب دينهم وآداب لغتهم أعرضوا عنك أزورارًا وأنغضوا رءوسهم استهزاء؛ وهي أشد وأعظم من أن ينسى المسيحيون لغتهم وهي بقية الجنسية حتى لا تجد في الألف منهم واحدًا يحسن أن يكتب كتابًا إلى صديق له بأبسط عبارات اللغة اللاتينية؟ ".
وما جاء القرن الخامس حتى كان المجاورون للعرب من أهالي فرنسا وشمال إسبانيا ينكبون عن تناول الشعر اللاتيني ويكبون على التأديب بالشعر العربي، حتى صار فقراؤهم بعد ذلك وأهل الكدية منهم يمدحون بالقصائد والموشحات العربية على الأبواب ويستعطون بها في الطرق، فاعتبر كيف يكون وسط الأندلس إذا كانت هذه حال أقاصيها الأعجمية؟ ومنذ سقطت طليطلة سنة 478هـ وكانت في يد يحيى بن ذي النون ودخلها ألفونس السادس الذي كانوا يلقبونه بملك الدينيين، أراد أن يستبقي ماء الحياة العربية في روح مملكته، وساعدته الفتن والنكبات فقذفت إليه من مضطهدي الفلاسفة وغيرهم، وبهم نبغ رجاله، كالسيد كامبدور الذي كان يجيد المنطق العربي كأنه عريق فيه؛ وكان يومئذ في طليطلة مدرسة عربية كان من أساتذتها محمد بن عيسى المقامي وأحمد بن عبد الرحمن الأنصاري وغيرهما، وبهذه المدرسة تماسكت العربية حتى أنشأ ريمون رئيس الأساقفة التراجمة بطليطلة، وبها رجعت العربية إلى الحياة.(3/216)
اليهود بالأندلس وترجمة كتب الفلسفة:
ليهود الأندلس شأن مهم في تاريخ الفلسفة؛ لأنهم حفظوها لأوروبا -كما ستعرف- وقد كان منهم في القرن السادس موسى بن ميمون الإسرائيلي الحكيم، وهو رجل يتحقق بالفلسفة والرياضيات والهيئة والطب، ويسميه اليهود موسى الثاني؛ لأنه من كبار أحبارهم؛ وقد نزح عن الأندلس بأهله فرارًا من
الاضطهاد بعد أن أظهر فيها الإسلام زمنًا، والتجأ إلى مصر، فاشتمل عليه القاضي الفاضيل المتوفى سنة 590هـ ونظر إليه وقرر له رزقًا؛ فتناول هذا الحكيم فلسفة ابن رشد وقابلها بلغة أرسطو اليونانية، ثم استخلص من مزيجهما فلسفة صنع بها الشريعة لقومه، ولذلك أنكرها عليه مقدمو اليهود، وأشار المقريزي إلى ذلك بأن يعلم قومه الكفر والتعطيل.
ولا محل هنا لبسط هذه الآراء، ولكننا نقول إن هذا الرجل هو أول من أذاع فلسفة ابن رشد بين اليهود بما بثه منها في كتبه, وأخذ عنه في قراءته، ولما بالغوا في اضطهاد اليهود التجأ أكثرهم إلى طليطلة وما وراءها، ومنهم تلامذة الفلاسفة، ومن بقي منهم كان يظهر الإسلام ويصلي في المساجد ويقرئ أولاده القرآن، وما كان ذلك كان لينفعهم، فأمر أبو يوسف المتوفى سنة 595هـ من ملوك الموحدين أن يتميزوا بلباس يختصون به, فظهروا فيه بأشنع صورة إذ كانوا يتخذون بدلًا من العمائم كلوتات كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم "ص203: المعجب"، وذلك لأن أبا يوسف كان يشك في إسلامهم، ولو صح عنده لتركهم، ثم تناسي أكثرهم العربية فشعروا بالحاجة إلى نقل كتب الفلسفة إلى لغتهم العبرانية، وقد أخذوا في ذلك، وأول من شرع منهم فيه أسرة تدعى أسرة طيبون، كان أصلها من الأندلس ثم هاجرت إلى لونل في فرسنا، فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو، وهما أول من نقل فلسفة حكيم قرطبة إلى غير العربية.
ووافق ذلك عهد الإمبراطور فردريك الثاني عاهل ألمانيا، وكان يعرف العربية، تلقاها من بعض أهلها في صقلية، والعرب يومئذ منتشرون فيها وفي نابولي.
وقد احتذى فردريك هذا مثال الإمبراطور شارلمان الذي كان معاصرًا لهارون الرشيد في بث المعارف وإنشاء المدارس ومحبة العلم وحماية أهله فكانت حضرته غاصة بالمترجمين والعلماء الوافدين حتى من بغداد. وهو الذي عهد إلى اليهود في ترجمة الفلسفة العربية إلى العبرانية واللاتينية، وقد ألف له يهوذا بن سليمان الطليطلي في سنة 1247م كتاب "طلب الحكمة" واعتمد فيه على فلسفة ابن رشد، وأخرج له يعقوب بن أبي مريم حوالي سنة 1232م عدة كتب من تأليف حكيم قرطبة، وتقدم إلى ميخائيل سكوت بترجمة فلسفة أرسطو عن العرب، فنقلها عن ابن رشد، ولذلك اعتبروه أول من أدخل فلسفته إلى أوروبا، وكذلك فعل هرمان الألماني في عهد هذا الإمبراطور، إلا أنه على ما يقال، اعتمد في ترجمة كتبه على بعض عرب الأندلس ممن يعرفون مصطلحات تلك الفنون.
ثم أخذ اليهود في إخراج هذه الكتب وغيرها إلى العبرانية واللاتينية، كما فعل كالوتيم في أوائل القرن الرابع عشر للميلاد، فقد ترجم كتبًا لابن رشد إلى العبرانية، وترجم كتابه "تهافت التهافت" إلى اللاتينية سنة 1328م، وفي هذا القرن ظهر الفيلسوف اليهودي لاوي بن جرسون المعروف عند الإفرنج بلاون الأفريقي، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو، فأخرجها شرحًا وتلخيصًا ثم كان آخر فلاسفتهم في القرن الخامس عشر إلياس دل مديجو الذي كان أستاذًا في كلية بادو -التي أومأنا إليها في بعض ما سلف- وضعفت بعد ذلك فلسفة اليهود المستخرجة من فلسفة ابن رشد العربية، إذ قام أعداؤها في أوائل القرن السادس عشر يزيفونها، ومن أجل ذلك نشر موسى المتسينو كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي سنة 1538م.(3/217)
ترجمة الفلسفة العربية في أوروبا:
كان مبدأ ذلك في طليطلة في القرن الثاني عشر للميلاد، حتى أنشأ دريموند رئيس الأساقفة مدرسة للترجمة، وهي المدرسة الأولى من نوعها، وذلك من سنة 1130 إلى 1150م، وقد جعل رئيس التراجمة فيها الأرشيدوق باكر دومينيك لتحقيق الألفاظ اللاتينية المترجم بها.
وكان أشهر تراجمة اليهود في هذه المدرسة يوحنا الأشبيلي، فأخرجوا إلى اللاتينية كتبًا كثيرة من مؤلفات ابن سينا، ثم نقلوا بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي؛ وقيل هذه المدرسة كان بعض الأفراد قد نقلوا كتبًا من الرياضيات والطب والفلك، مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريفولي وغيرهم.
وفي القرن الثالث عشر للميلاد كان اليهود في الأندلس أقدر التراجمة وذلك في عهد ألفونس العاشر 1252م-1284م خليفة القديس فرديناند الثالث، إذ كان هذا الألفونس من أوفر الملوك عقلًا، فأراد أن يصنع بإسبانيا مثل ما صنعه العرب، فأسس بأشبيلية مدرسة عربية لاتينية، وترك مدينة مرسيه على ما كانت عليه من الرونق العربي، واستدعى إلى عاصمته العلماء والأدباء من العرب واليهود وغيرهم، وأسس بهم مدرسة طليطلة الثانية التي كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية فنون الحضارة العربية والعلم العبراني؛ وظل اليهود يترجمون كتب الفلسفة والتاريخ والفلك العربية بما عليها من الشروح، وكان زان بن زاكب، ويهوذا هاكون والربان زاك، هم الذين نقلوا لألفونس جمهرة تلك الكتب العربية.
وقد نشأ من علماء المسلمين من يعلم بتلك الألسن المختلفة؛ كمحد بن أحمد القرموطي المرسي وكان من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: المنطق، والهندسة والعدد والموسيقى والطب وغيرها، آية الله في المعرفة بالأندلس، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، وقد بنى له ألفونس في مرسيه مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود. "ص409 ج2: نفح الطيب" ولم نذكره في الفلاسفة؛ لأن هذا الموضع أليق به.
وقد نشأ من اليهود بالأندلس شعراء وأدباء، من أشهرهم نسيم الإسرائيلي، وابن سري، وابن الفخاري اليهودي "ص304 ج2: نفح الطيب"، وإلياس بن المدور الطبيب الرندي "ص305 ج2"، وإسماعيل اليهودي وابنته قسمونة "ص305 ج2" وغيرهم، وكانوا يكتبون، ولكن لم ينبغ منهم أحد في الكتابة على ما نعلم، إلا أن يكون ممن ذكرناهم، وما كانت براعتهم في الترجمة إلا من معرفتهم للسانين اللاتيني والعبراني، وهو أمر انصرف عنه المسلمون حتى لم نكد نقف على اسم واحد منهم غير القرموطي.(3/218)
تنصر العربية:
ليس يتم الغلب على أمة من الأمم بتسخير أفرادها واسترقاقهم، ولا بقلب حكومتها من جنس إلى جنس؛ فإن الأشخاص لا يتغيرون وهم هم بما فيهم من الطبائع والأخلاق الوراثية، ولكن الغلب إنما يكون باندماج المغلوب في جنسية الغالب أو مذهبه استدراجًا لجنسيته، ومن أجل ذلك تجهد الأمم الفاتحة والمستعمرة في نشر لغتها وآدابها، فإن لم يكن لها من ذلك ما يوازن آداب المغلوبين عملت على تحويل قلوبهم بالدين، وذلك ما فعله الإسبانيون في أواخر القرن السابع، حيث عملوا على تنصير المسلمين، ولكن بقيتهم يومئذ كانت إلى التماسك والشدة؛ لأن الإسلام والملك لم يزل في جانب من الأندلس وعلى أبوابها، فعمدوا إلى أخذهم بالإقناع والمجادلة، ووكلوا هذا الأمر إلى رهبانهم، فأكب هؤلاء على العربية، ووضع رامون مارتي أحد الرهبان الدومانيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230م، وفي أواخر القرن الثامن كان في سلامنكة مدرسة تضم خمسًا وعشرين حلقة للدروس، منها واحدة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية؛ أقاموها لتلك الغاية؛ ولم ينجل المسلمون عن أرض إسبانيا في القرن الحادي عشر حتى كان في هذه المدرسة سبعون حلقة للدرس، وطارت شهرتها في أوروبا، وكانت شهرة عربية؛ لأنها بفضل علوم العرب استطاعت أن تقرر العلوم الطبيعية والطبية على القاعدة العملية التي كان العرب أول من جرى عليها، وبينما كانت تلك العلوم في أوروبا لذلك العهد مبنية على التجارب البسيطة مستندة إلى أنواع من الشعوذة والحيل المضحكة. ثم تتابع إنشاء المدارس في القرن الثامن لتعليم الرهبان من الدومينيكيين والفرنسسكيين في جهات من إسبانيا للغاية عينها، ولكن هذه اللغة العربية التي تشبه السحر أخذت أولئك الرهبان بآدابها حتى كانوا هم أنفسهم سبب حياتها والقائمين بالدعوة إليها إلى القرن الثاني عشر للهجرة.
وفي أوائل القرن العاشر "سنة 904هـ" بعد أن سقط ما بقي من الملك الإسلامي في الأندلس ووهنت تلك الجامعة بين المسلمين، أخذ الإسبانيون يحملونهم على التنصر كرهًا، فمن خافهم عمدوه ومن خالفهم طردوه، ثم تكفل ديوان التفتيش بالمراقبة على عقائد المتنصرين وتطهير مسيحيتهم الحديثة ... وبذلك بطلت حاجة الرهبان إلى البرهان فسقطت الغاية الأولى الباعثة على تعلم العربية وبقيت العربية بلا غاية عند بعضهم إلا نفسها، وبذلك انصرف عنها الطلبة، حتى إن الكردينال اكسيمنس عندما أسس كلية "الكالادي هنار سنة 1499م" استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية، مع أنه احتذى في تأسيسها مثال مدرسة سالامنكة، وجعل فيها حلقتين للعبرية واليونانية، وبعد ذلك كان الأستاذ الأعظم في سالامنكة في القرن السادس عشر للميلاد، وهو فري لويس دي ليون شاعرًا لاهوتيا وفيلسوفًا يحسن اللغة العبرانية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية كل الجهل.
ديوان التفتيش:
أنشئ هذا الديوان سنة 1418م بطلب الراهب توركماندا، للتفتيش بين الناس عن أهل العلم(3/219)
والفلسفة، فإن لم يعثر على أحد منهم فالتفتيش بين الظنون والأوهام؛ لأنهم اتقوا صولة العلوم العربية على المذهب الكاثوليكي.
وقد اتخذوا فيه من أنواع التعذيب والاتهام المريب ما ترك في الكتب من بعدهم صفحة من تاريخ جهنم.... وليس من حق كتابنا تفصيل ولا إجمال لتلك الفظائع والمنكرات التي اقترفها رجال محكمة التفتيش وملوك الكثلكة لذلك العهد، مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث، ونالوا بها المسلمين واليهود والمستأمنين؛ فذلك مما خلد لهم الخزي في تاريخ قومهم أنفسهم؛ ولكنا نجتزئ بذكر ما نال العربية من أولئك المتنطعين، فإنهم بعد أن طردوا اليهود من الموت إلى الجوع والفقر سنة 1492م وأباحوا أموالهم، وطردوا المسلمين من الموت إلى الموت سنة 1502م؛ إذ حرم عليهم أن يأخذوا في طريق تفضي إلى بلد إسلامي قرر مجمع لاتران في هذه السنة "1502م" أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشيد -وهم يريدون بهذه التسمية كل ما لديهم من علوم الفلسفة العربية- وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه صفة من صفات الزلفى والعبادة؛ وبعد ذلك أحرق الكردينال إكسيملس في غرناطة ثمانية آلاف كتاب [خطي] ، ثم صدر أمره سنة 1511م أن تباد كتب العرب من عامة البلاد الإسبانية، فتم ذلك في زهاء نصف قرن، وكأنما كانت حرارة تلك القلوب هي التي تحرق الكتب.... ولولا المنقولات منها إلى العبرية واللاتينية لما بقي من أثر العلوم العربية مشيد ولا طلل.
وبقيت بعد ذلك كتب عربية فيخزانة دير الأسكوريال فأراد ديوان التفتيش أن يزيد بها شعلة من شعل نقمته، لولا أن تلطف الماركيز فيلادا فحال دون إحراقها، ولا يزال أكثرها باقيًا إلى اليوم.
وكان المتنصرون من المغاربة في ذلك العهد يكتبون العربية بأحرف إسبانية، وهم أذلاء محتقرون من أنفسهم ومن المسيحيين، فحظر عليهم فيليب الثاني سنة 1556م استعمال العربية، وأرادهم على أن ينزعوا من أسمائهم التراكيب العربية, وأن يقلدوا المسيحيين في زيهم حتى لا يعلم بهم إلا أنفسهم؛ ولبثوا يسومون المغاربة عذاب الهون حتى طردت آخر فئة منهم سنة 1017هـ وقد وصل ذلك المقري في "نفح الطيب" ص617 ج2.
آخرة العربية:
وبعد ذلك زهاء قرن من الزمن صار فيه تعلم العربية مظنة الإلحاد ولم تبق مدرسة فريلنك لطغمة الفرنسيسكان في أشبيلية من أساليب تعلمها إلا أثرًا ضئيلًا وكثر أن يكون قليلًا؛ فكان حسب الطالب منها أن يحسن لفظ بعض الأسماء العربية حتى يخرج بذلك إلى أفريقية داعية للنصرانية، وإن كان قد بقي من الإسبانيين من يشتغل من ذلك فهو يضيفه إلى الأعمال التي بينه وبين الله ولا يأخذ في ذلك إلا سرا.
جاء عصر شارل الثالث "1759-1788م" ويلقبونه ملك الفلاسفة؛ فأراد أن يصل آخرة العربية بأولها ويعيد زمنًا رآه مريضًا لم يمت، فاستدعى لذلك رهبانًا موارنة من سورية وبسط لهم يده في البذل والعطاء، وتقدم إليهم في تعليم الإسبانيين لغتهم الدارسة، ولكن ما عسى أن تكون تسع(3/220)
وعشرون سنة في تغيير الأفكار وتبديل الألسنة؟ ولذلك لم يكد شارل يمضي لسبيله حتى انقطع ذلك العمل، غير أن بث حياة وخصبًا في تلك الأرض الميتة فلم يمض عمر كهل حتى كان في إسبانيا من يجيدون العربية، أمثال القصير وكامبومان والأب بلانكري وغيرهم من الأساتذة المعدودين، ثم انقطع حبل العربية إلى أن اتصل بالمدارس القديمة منتكثًا على عهد إيزابيلا الثانية. فكان على ضعفه ذلك حتى سنة 1845م، إذ شرعوا في إصلاح التعليم على يد المسيو جيل دي زارات، وبإخلاص هذا الرجل عادت العربية تدرس في الكليات درسًا مقررًا.
ثم تسلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857م زمام التعليم وتولت إصلاحه فزهت العربية وكثر طلبتها والمقبلون عليها، خصوصًا بعد أن فقدت إسبانيا مستعمراتها في أمريكا وآسيا وعلقت آمالها بمراكش في عصرنا هذا، فنبغ فيها المستشرقون واحتفظوا بما خلفه التاريخ من كتب العرب، ولا يزال ذلك في مكتبة الأسكوريال، ومكتبة الأمة، ومكتبة المجمع العلمي التاريخي، غير المكاتب الخاصة التي جمعها أهل العلم منهم، وقد برز من متأخريهم أفراد مشهورون في فرع اللغة العربية، وامتاز بعضهم بالبراعة في قراءة الخطوط وتاريخها، ونبغوا كذلك في درس الحضارة الإسلامية والنظر في أصول الآداب العربية، واعتنت فئة منهم بدرس اللغات العامية التي تفرعت من العربية الفصحى، وهم بعد في حد التزايد إلى يومنا هذا، وقد صار كثير من البلاد الإسبانية كمجريط الإسبانية "العاصمة" وغرناطة وبرشلونة وبلنسية وغيرها زاهيًا [فيهم] بهذه الآداب، مذكرًا لهم بالمجد العربي القديم, وإنما يتذكر أولو الألباب*!
__________
* قلت: قرأت بخط المؤلف العبارة اللآتية ولم أعرف أين موضعها من هذا الفصل، فرأيت إثباتها في هذا المكان، وهي:
"ولكن ذهبت آثارهم فلا تعرف أقدارهم، وخلت سماؤهم ولم تبق إلا أسماؤهم؛ ومن الأدباء من ينكر مزية الشعر الأندلسي؛ لأنه لا يرى إلا أسماء لا آثار لها ... ".(3/221)
الباب الثامن *: التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية
كتب الشعر:
من هذه الكتب ما يخصون فيه الكلام بالشعر نفسه، فيبينون عن وجه المعنى ويكشفون عن طريقة الصنعة؛ ككتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر الكاتب المتوفى سنة 337هـ، وكتاب "العمدة" لابن رشيق القيرواني، المتوفى سنة 463هـ، وهو أحسن ما وضع في صناعة الشعر ونقده وعيوبه؛ وقد ذكر صاحب "نفح الطيب" أن للأعلم الشنتمري المتوفى سنة 549هـ كتابًا في مختصر العمدة والتنبيه على أغلاطه "ص435 ج1: نفح الطيب".
ومن هذا القبيل كتب البلاغة: كـ"الصناعتين" للعسكري وما كان قبله وما وضع من بعده -كما سنذكره عند الكلام على البديع- ومن كتب الشعر ما هو مخصوص بالطبقات والتراجم، ومنها كتب المختارات والدواوين.
الطبقات والتراجم:
وهذه هي الكتب التي يخبرون فيها عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم وأسماء آبائهم ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، ويذكرون فيها ما يستحسن من أخبار الشاعر وما يستجاد من شعره، وما [أخذ عليه] من الغلط والخطأ [في ألفاظه] وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون.
وعلى أن هذه هي أركان النقد فهم لا يفيضون فيها ولا يبسطون الكلام عنها، وقليلًا ما يؤمنون إلى المهم منها وخصوصًا المتأخرين؛ لأنهم لا يريدون إلا جهة التاريخ فلا ينظرون إلى الموازنة والترجيح؛ لأن هذا تاريخ عملي لا يكون إلا بين النظراء من طبقة واحدة في العصر، أو استقراء الإجادة الغالبة على شعرهم، وهم إنما يريدون مجموع العصور المختلفة، وكل ما جاء من أقوالهم وكتبهم في الموازنة والتنظير لم يعد أفرادًا معدودين، هم جرير والفرزدق وبشار ومروان بن أبي حفصة ومسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو تمام والبحتري ثم المتنبي.
ومما ننبه عليه أن الرواة لم يكونوا يتكلمون في الشعراء إلا بعد موتهم، اتقاء لمعرة اللسان والوقوع فيه؛ وقد جهدوا بأبي عبيدة أن يفضل بين مسلم والنواسي فكان يقول: أنا لا أحكم بين الأحياء. وهذا الأخفش قد طعن على بشار في كلمة [لم يسمع وزنها] عن العرب، فهجاه [بشار] حتى استوهبوا منه عرضه، فكان الأخفش بعد ذلك يحتج بشعره في كتبه ليبلغه "ص54 ج3: الأغاني"، وكذلك فعل بسيبويه حتى توقاه واستكف شره.
ولم يدون من ذلك شيء مقصود بالتأليف إلا كتاب "الموازنة بين الطائيين" للآمدى المتوفى سنة 608هـ، وما كتب عن المتنبي كـ"الرسالة الحاتمية" للحاتمي، وذكر مقدمتها ابن خلكان في تاريخه؛ ورسالة الصاحب بن عباد في إظهار مساوئ المتنبي، وقد عمل بعدها القاضي أبو الحسن علي بن عبد
__________
* قلت: كنت أحسب هذا الفصل والذي يليه بعض الباب العاشر من الكتاب، "موضوعه التأليف، وتاريخه عند العرب، ونوادر الكتب العربية".
وعلى هذا الظن تأخرت بنشر هذين الفصلين إلى هذا الموضع، ثم بدا لي من بعد أن المؤلف لم يستوف البحث في شيء من موضوعات هذا الباب، وأنه أعد هذين الفصلين ليكونا تمامًا لباب الشعر، تنبهت لذلك من عبارة وردت في بعض حديثه عن "كتب الشعر"، ولم أستطع أن أتدارك ما فات بنشر هذين الفصلين في موضعهما حيث أراد، فرأيت إثباتهما هنا.(3/225)
العزيز الجرجاني كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" في شعره، قال الثعالبي: إنه استولى بها على الأمد في فصل الخطاب "ص239 ج2: يتيمة الدهر" وسنستوفي ذلك في ترجمة المتنبي.
أما كتب الطبقات فأشهرها طبقات أبي عبيدة الراوية المتوفى سنة 209هـ، ومحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231هـ، ومحمد بن حبيب النحوي المتوفى سنة 245هـ، وطبقات ابن قتيبة المتوفى سنة 296هـ "أو 276هـ" وهي المعتمد عليها في هذا الباب، قصد فيها إلى المشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو، وعد من هؤلاء 180 شاعرًا، وقد جرى في ناحيته السيوطي المتوفى سنة 911هـ، فوضع كتابًا جمع فيه الذين يحتج بكلامهم من شعراء العرب.
وأما كتب الأخبار فكتاب "الباهر" لابن المنجم نديم المكتفي بالله المتوفى سنة 300هـ، وهو في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين، ابتدأ فيه ببشار بن برد؛ وآخر من أثبت فيه مروان بن أبي حفصة؛ ولم يتمه، وتممه ولده أبو الحسن أحمد بن يحيى، وعزم على أن يضيف إلى كتاب أبيه سائر الشعراء المحدثين، فذكر منهم أبا دلامة ووالبة بن الحباب ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وأبا علي البصير "ص311 ج2: فوات الوفيات". وكتاب "الأغاني" الشهير لأبي الفرح الأصبهاني المتوفى سنة 356هـ، وهو نادرة الكتب جمع فيه أخبار 395 شاعرًا بين جاهلي ومخضرم وإسلامي ومحدث؛ وهو منقول عن كتب كثيرة وضعت قبله.
وأما كتب التراجم التي تجمع من التاريخ والخبر وبعض المختارات، فهي ما زالت تتصل مع الزمان، لم تنقطع إلا في القرن الثالث عشر، وأول ما وضع منها كتاب "البارع" في أخبار الشعراء المولدين، لهارون بن علي المنجم البغداي المتوفى سنة 288هـ جمع فيه 161 شاعرًا، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، وسنشير إليه في كتب المختارات؛ وهذا الكتاب هو الأصل الذي احتذاه من جاء بعده، فذيل عليه أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429 بكتابه "يتيمة الدهر" الشهير، وترجم فيه شعراء عصره من بلاد كثيرة وأورد من محاسنهم؛ ثم ذيل على اليتيمة أبو الحسن الباخزري المتوفى سنة 467هـ بكتابه "دمية القصر وعصرة أهل العصر". ووضع عليه أبو الحسن بن زيد البهي كتابه "وشاح الدمية"، ثم ذيل عليه أيضًا الوراق الخضيري المتوفى سنة 568هـ بكتابه "زينة الدهر في لطائف شعراء العصر"، قال ابن خلكان: جمع فيه كثيرًا من أهل عصره ومن تقدمهم، وأورد لكل واحد طرفًا من أحواله وشيئًا من شعره "ص452". ووضع معه أيضًا عماد الدين الكاتب الأصفهاني المتوفى سنة 597هـ كتاب "خريدة القصر وجريدة العصر"؛ وترجم فيه الشعراء من سنة 500هـ إلى سنة 572هـ؛ ثم صنع بعده كتاب "السيل على الذيل"، جعله ذيلًا للخريدة، ثم جاء ياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ؛ فوضع كتابه "معجم الشعراء"، وله أيضًا كتاب آخر هو "إرشاد الألباء في معرفة الأدباء" وهو المعروف بمعجم الأدباء، وقد طبعت منه بعض أجزاء، ثم وضع ابن خلكان كتابه "وفيات الأعيان" الشهير، وعد فيه طائفة من الشعراء في كل عصر، وذيل عليه أقوام، حتى وضع الكتبي "فوات الوفيات"؛ ثم وضع صلاح الدين الصفدي كتابه "الوافي بالوفيات"، ا. هـ.(3/226)
فيه إلى آخر سنة 760هـ وذكره صاحب "كشف الظنون" وقال: إنه جمع فيه أعيان كل فن. ولا نعرف للمائة التاسعة كتبًا مفردة إلى أن وضع كتاب "سلافة العصر"؛ ووضع الخفاجي كتابه "ريحانة الألبّاء"؛ ووضع المحبي "نفحة الريحانة وخلاصة الأثر"، وكلها تترجم أدباء القرنين العاشر والحادي عشر؛ ثم وضع المرادي "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر"، وهو ذيل على الخلاصة, وقد وضعت كتب أخرى مقصورة على بعض الأمصار، ككتاب "الأنموذج" لابن رشيق جمع فيه شعراء القيروان والكتب التي صنفها الأندلسيون وهي أبلغ ما كتب من نوعها، وسنذكرها في بحث الأدب الأندلسي إن شاء الله؛ لأنها مقصورة عليهم لم تتناول غيرهم؛ وكذلك صنفوا كتبًا على الأسماء كـ"كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء" لأبي هاشم السجستاني؛ وكتاب "الموشح في أسماء الشعراء" لغلام ثعلب المتوفى سنة 345هـ؛ وكتاب "المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء" لحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 731هـ.
ومما يذكر في هذا الموضع ما يستوفيه المؤرخون في الكتب الخاصة ببعض البلاد، إذ يستوعبون شعراء البلد الذي يؤرخونه بما لا يوجد في غير تلك الكتب، كـ"كتاب بغداد" لابن أبي طاهر، وقد وجد منه جزء واحد، وهو غير "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ، و"كتاب أصبهان" لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الأصبهاني، فقد ذكر فيه شعراء أصبهان والكرخ وساق عيون أشعارهم وملح أخبارهم "ص125 ج3: يتيمة الدهر".
وغير ذلك مما يكون في المعجمات المطولة، وهي كثيرة، أعجب ما وقفنا عليه من أسمائها كتاب "مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب" لابن القوطي البغدادي المتوفى سنة 723هـ ذكروا أنه في خمسين مجلدًا "ص381 ج 2: كشف الظنون".
كتب المختارات:
وهي الكتب التي وضعت لانتقاء عيون الشعر أولًا، ثم دخلتها صناعة التبويب بعد ذلك، وقد أطنبوا في صعوبة الاختيار [المرضي] الذي يؤاتي الأذواق على رغائبها، ويتابع النفوس بمطالبها، حتى قالوا: دل على عاقل اختياره، واختيار الرجل من وفور عقله. وقالوا: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنة قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله؛ وحتى أنكروا فيه معارضة المختارات المجمع عليها والأخذ في سبيلها، كما أنكر محمد بن سعيد الكاتب في القرن الرابع على محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة وأعظم ذلك حتى رد عليه أبو الحسين بن فارس علامة همذان وأستاذ بديع الزمان برسالة أورد الثعالبي منها فصلًا "ص215 ج3: يتيمة الدهر".
ليس ذلك على أن الاختيار في نفسه محظور على أكثر الناس، ولا هو صناعة من الصناعات القائمة بنفسها فيكون للعقل فيه عمل يلزمه التبعة ويأخذه بالعهد، ولكن الشعر من عمل القرائح، وهي متفاوتة، فالاختيار منه لا يحسن إلا من ذي قريحة تشعر، ثم يكون له من البصر بالنقد ما يكشف له مواضع هذا التفاوت، حتى تكون قريحته التي تختار كأنها مجموع القرائح التي نظمت؛ وليس من شاعر سمت به طبيعته إلا وهو يتوهم في نفسه أنواعًا من القول قد لا يسمح بها الطبع إلا الفينة بعد(3/227)
الفينة، فهو إذا أصاب صفتها في أقوال الشعراء استدل عليها بطبعه وأمضى فيها اختياره ومن ههنا كان الاختيار على التحقيق من وفور العقل.
وأول اختيار مدون عند العرب القصائد المعروفة "بالمعلقات" اختارها حماد الراوية المتوفى سنة 155هـ، ثم "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي المتوفى سنة 170هـ.
ثم "المفضليات" للمفضل الضبي وهي مشهورة، قال أبو علي القالي في "أماليه": إن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، ثم قرئت على الأصمعي فصارت مائة وعشرين؛ وقال في أصحاب الأصمعي إنهم قرءوا عليه "المفضليات" ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره وضموه إلى "المفضليات" وسألوه عما فيه مما أشكل عليه من معانيه وغريبه، فكثرت جدا. "ص131 ج3: الأمالي". وكان المفضل يؤدب المهدي فتقدم إليه أبو جعفر المنصور أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين ويختاره لفتاه لكل شاعر أجود ما قال، فاختار هذه القصائد، وهي مشهورة، وقد طبع منها [كذا] قصيدة.
ثم اختار الأصمعي القصائد المعروفة بالأصمعيات، وكل هؤلاء لم يختاروا في كتبهم شيئًا للمولدين، حتى جاء هارون بن علي المنجم الذي أومأنا إليه في الفصل السابق ووضع كتاب "البارع في أخبار الشعراء المولدين"، وهو الذي ينقل عنه صاحب "الأغاني" كثيرًا ويشير إلى ذلك بقوله: نقلت من كتاب هارون بن علي، ونحو هذا اللفظ؛ قال ابن خلكان: وذكروا في أوله أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبله في هذا الفن، وأنه كان طويلًا فحذف منه أشياء فاقتصر على هذا القدر، ثم قال: إنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها. ا. هـ. وقد تابعه على ذلك من جاء بعده ممن صنفوا في الأخبار والمختارات كما مر في موضعه.
ومما ننبه عليه أن الرواة إذا توافى اثنان منهم على اختيار قصيدة واحدة، ذهبت مثلًا في الجودة كقصيدة.
...
بكرت سمية غدوة فتمنعي
فإن أبا عبيدة لم يجد في وصفها أبلغ من قوله: إنها من مختار الشعر. أصمعية مفضلية"ص82 ج3: الأغاني".
الحماسة:
ولكن الذي رزق حظ الشهرة في اختياره وجاء بما غطى على من سبقه، أبو تمام الطائي المتوفى سنة 231هـ فيما جمعه من كتاب "الحماسة" الشهير الذي قالوا إنه في اختياره أشعر منه في شعره، وتأويل ذلك ما قدمناه من معنى إصابة الاختيار؛ قالوا: وسبب جمعه أنه قصد عبد الله بن طاهر وهو بخراسان فمدحه فأجازه، وعاد يريد العراق، فلما دخل همذان اغتم أبو الوفاء بن سلم فأنزله وأكرمه، وأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم قطع الطريق، فغم ذلك أبا تمام وسر أبا الوفاء، فأحضره خزانة(3/228)
كتبه فطالعها واشتغل بها, وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب "الحماسة"، و"الوحشيات"، و"فحول الشعراء"، و"مختار شعراء القبائل" "الخزانة" فبقي "الحماسة" في خزائن آل سلم يضنون به، حتى تغيرت أحوالهم وورد أبو العواذل همذان من دينور فظفر به وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها عليه ورفضوا ما عداه مما هو في معناه من الكتب، ثم شاع حتى ملأ الدنيا.
وقد رتبه أبو تمام في عشرة أبواب هي فنون الشعر التي عددناها، واقتصر فيه على شعر العظماء مما يخلص على السبك، واحتال في تخليده بما جود فيه من اختيار القطع والأبيات القليلة التي لا تكد المتحفظ ولا يداخلها سقط، على غير ما ذهب إليه الذين سبقوه، فإنهم لم يختاروا إلا القصائد الطويلة، ولم يقصروا اختيارهم على المأنوس دون الغريب؛ ولهذا السبب عينه سقط الوحشيات ولم يكتب له البقاء مع "الحماسة"، وإن كان كلامها اختيارًا واحدًا، وكن الوحشيات مبنية على اختيار القصائد والقطع الطويلة، وهي باقية إلى يومنا هذا، وقد وجد منها بعض الفضلاء نسخة في إحدى مكاتب الآستانة ورأى عليها أنها الحماسة الصغرى، وهو اسم موضوع لم يذكره أحد ممن دلوا عليه، كالتبريزي في شرح الحماسة وغيره.
وقد انتقد كتاب "الحماسة" حمزة بن الحسين، فزعم أن فيه تكريرًا وتصحيفًا وإبطاء وإقواء ونقلًا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها، إلى ما سوى ذلك من رايات مدخولة وأمور عليلة "ص416 ج3: يتيمة الدهر" ولكن هذا ومثله لم يغض من الكتاب ولم يصرف المتأدبين عنه، فقد ذهبت حسناته بما دونها حتى اتخذوا أصلًا يحتذون عليه، وجعلوا من شهرة اسمه وسيلة لشهرة كتبهم، فلما اختار الخالديان كتابهما المعروف بـ"الأشباه والنظائر"، سمياه "حماسة الخالديين"، وألف البحتري قبلهما "الحماسة الثانية" "وقد مر ذكر حماسة العجلي" وفي تاريخ ابن خلكان أن ابن الشجري اللغوي المتوفى سنة 542هـ ضاهى "الحماسة" بكتاب غريب أحسن فيه.
ولعلي بن الحسن المعروف بشميم الحلي المتوفى سنة 601هـ حماسة رتبها على أربعة عشر بابًا؛ وللبياسي الأندلسي المتوفى سنة 653هـ حماسة عارض بها أبا تمام ولكنه اختار فيها لكل الطبقات إلى زمنه ورتب كترتيب أبي تمام، وهي عند المغاربة في شهرة "الحماسة" عند المشارقة؛ وألف قبله من الأندلسيين الأعلم الشنتمري وذكر حماسته البغدادي في "خزانة الأدب"؛ وآخر ما عرف من هذه الكتب، الحماسة البصرية التي ألفها على بن أبي الفرج سنة 647هـ برسم الملك الناصر صلاح الدين، وفي المكتبة الخديوية الجزء الأول منها.
ولكن كل هذه الحماسات لم تنازع حماسة أبي تمام قليلًا ولا كثيرًا؛ فلا يعرف لإحداها شرح واحد وقد وضع لتلك عشرون كتابا سمي أصحابها ملا جلبي في "كشف الظنون"، فبعضهم عني بذكر إعرابها، ومنهم من عني بالمعاني وشرح المعلقات، وبعضهم تناول ذلك وأضاف إليه تراجم شعرائها وأخبارهم في أشعارهم، وأشهر هذه الكتب "شرح الخطيب التبريزي"، وهو متداول مشهور.
وكان الكتاب يتصنعون في نثر أبياتها، وربما جعلوا ذلك مرانًا على الكتابة، ولكن علي بن محمد الكاتب المتوفى سنة 414هـ نثرها في كتاب سماه "منثور البهائي"؛ لأنه نثره لبهاء الدولة بن(3/229)
بويه، وذلك لم يتهيأ لكتاب في الشعر غير الحماسة.
مختارات أخرى:
ولا سبيل إلى حصر المختارات؛ لأن التاريخ العربي ترك إلى اليوم شعرًا كثيرًا جدا، لا يقل المأثور عنه في الدواوين وغيرها عن بضعة ملايين من الأبيات، وقد أتت روايات كثيرة بما لا يصدق عن استطالة الشعر الجاهلي وحده، فكيف بغيره مما نظم ليدون واستغرق نظمه ثلاثة عشر قرنًا؟ ولكنا نعين أشهر كتب المختارات، ثم لا نعدو في ذلك كتب المتقدمين من أئمة الأدب؛ لأن المتأخرين قد ابتذلوا هذا النوع وقصروه على حظ أنفسهم من الحفظ، ويسمون ما يجمعونه من ذلك بالتذكرة أو المجموع، ومن أشهرها "تذكرة الصفدي"؛ وهي في عدة مجلدات لا يزال بعضها في مكاتب الآستانة، ويقال إن فيها دواوين برمتها.
فمن أشهر تلك الكتب، "منتهى الطلب من أشعار العرب"، لمحمد بن المبارك بن الميمون البغدادي. وهو كتاب يشتمل على أكثر من ألف قصيدة خلا المقاطيع، قال صاحب "كشف الظنون": وعدة ما فيه أربعون ألف بيت. وديوان المعاني للعسكري، وهو ديوان ضخم رتبه على اثني عشر بابًا وجمعه من شعر الشعراء إلى زمنه، وقد أحسن الاختيار في كثير منه، ولا يقل فيه عن عشرة آلاف بيت. وكتاب "مختارات شعراء العرب" لابن الشجري المتوفى سنة 542هـ جمع فيه خمسين قصيدة وقسمه ثلاثة أقسام: جعل في القسم الأول 12 قصيدة لشعراء مختلفين، وفي الثاني 25، منها 7 لزهير، و6 لبشر بن أبي خازم، و12 لعبيد بن الأبرص، قال: وهي مختار شعره ومعظمه ... ولا يذهبن عنك ذكرناه عن شعر عبيد في الكلام عن المقلين؛ والقسم الثالث مختار أشعار الحطيئة وأخباره، وهو 13 قصيدة غير المقاطيع، وكل هذه الكتب موجودة في المكتبة الخديوية، ولابن الشجري هذا كتاب الأمالي على نحو "الأمالي" المعروفة ذكر ابن خلكان أنه في 84 مجلدًا.
وكان للصاحب بن عباد كتاب سماه "سفينة الملح"، فكلما أنشد شعرًا جيدًا وقرأ أبياتًا رائعة أثبتها فيه، على كثرة ما يتهيأ له من ذلك "ص207 ج3: يتيمة الدهر" وأعجب من هذا الكتاب المرزمة لابن سعيد المغربي في القرن السابع؛ قال صاحب "نفح الطيب": إنه وقر بعير من الرزم والكراريس وفيه شعر وأدب كثير. ومن هذا النوع كتاب "زاملة النتف" لأحمد بن محمد البغوي الكاتب، من رجال "اليتيمة"؛ قال الثعالبي: إنه يشتمل على محاسن الأخبار والأشعار، ولطائف الآداب، ويقع في ثلاثين مجلدة بخطه "ص69 ج3: اليتيمة"؛ هذا إلى كثير من أمثاله مما لا فائدة في استقصائه؛ لأن أكثره عندنا كأسماء الأموات لا حقيقة لها، وإنما ذكرنا بعضه دلالة على سائره، وتوفية لفائدة هذا البحث.(3/230)
الباب التاسع: الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها
الصناعات
...
الباب التاسع: الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواها
الصناعات:
مر بك من أمر الصناعتين في النظم والنثر ما تستخرج منه تاريخ الارتقاء في الكلام وتعرف به مدلوله؛ إذ يعطيك من حوادثه الأدبية ما تعطيك الحوادث المادية من القياس الذي تضبط به النتائج وتجتمع الحدود؛ ولا بد من أراد أن يستقرئ حوادث الانحطاط من معرفة تاريخ الارتقاء؛ لأنه ضد معلق على ضده، فلا تنحط الأمة حتى تكون قد ارتقت.
والارتقاء في كل شيء إنما هو تغير في مادته على مقادير تعطيه من القوة بنسبة الزيادة في ذلك التغير في مجموعه؛ فالطفل يرتقي بتغير مادة جسمه إلى مقادير القوة حتى يصير رجلًا، ولكن إذا أخذ جسمه في النماء والزيادة وأخذت حاسة من حواسه في النقص والانحطاط، لم يكن ذلك النماء في مجموعه ارتقاء مطلقًا، بل احتاج أن يفصل فيه.
وكذلك الشأن في هذه الصناعات الأدبية؛ فإنها ليست في مجموع اللغة ارتقاء ولا انحطاطًا، وإنما يوصف كل جنس منها بأثره؛ فإنك إذا نظرت إلى أن من أنواع البديع ما يورث اللغة حسنًا في الألفاظ، وحلاوة في مخارج الكلام، حتى تحول في العيون عن مقادير صورها، وتربى على حقائق أقدارها بمقدار ما زينت وعلى حسب ما زخرفت، وحتى تكون هذه الزيادة بعينها فيما لها من قوة الهوى والتعشق، وأن تلك الأنواع تقتضي الكاتب أو الشاعر لطافة الحيلة وحسن التأتي وتمكين الأسباب ونحو ذلك مما هو أدخل في باب التكلف, لم يجز لك أن تعدها في اللغة إلا من أسباب الارتقاء؛ لأن اللغة لم تقع لأهلها على الكفاية في كل شيء، وإنما سبيلها تحول المادة وتغير القوة في كل عصر.
وإذا نظرت إلى أن من أنواع البديع أيضًا ما يكسب اللغة هجنة ويلحقها بضروب الصناعات والحرف، ويصير بها إلى حال مضيعة وكلال، وهو على ما يقتضيه من الكد والاستكراه وكثرة التكلف زينة عاطلة وفتنة باطلة، وأن هذه الأنواع مصائد للأقلام وحصائد للألسنة، لم يجز لك أن تحتسبها في اللغة إلا من أسباب الانحطاط؛ لأنها وإن كانت زيادة في المادة إلا أنها نقص في القوة؛ فمثلها مثل ما يزيد في الجسم من الأمراض كالسرطان وغيره.
ومن تدبر تاريخ العلوم رأى أن لكل علم ثلاثة أدوار: فهو يبدأ بدرس حقائقه التي أفردته فاعتبر بها علمًا، ثم يؤدي هذا الدرس إلى الاكتساب والاستنباط وما يتبعهما من تمحيص الحقائق الأولى، ثم ينتهي الاكتساب إلى الدور الذي يبلغ فيه العلم أن يكون جزءًا من أجزاء الوحدة العلمية؛ فإن العلوم كلها دعامة للعمران يشد بعضها بعضًا، وليس ينزل فيها إلا ما يشترك في هذه الغاية، وعلى هذا لا تكون الصناعات قد نشأت في علم الأدب إلا في الدور الثاني، وهو دور الاكتساب والتزيد، غير أنها نشأت على قدر الحاجة إليها، وكان يتولاها النقد ويحاسب عليها البيان، فخرج أكثرها مهذبًا غير ملتبس ولا معقد؛ حتى جاء القرن الرابع فأخذوا يتوسعون في ذلك لا يعدون مقدار التلمح والظرف(3/233)
وما يجري مجراهما؛ لأن معدة اللغة يومئذ كانت تسيغ ذلك وتمثله، حتى إن أبا الفتح البستي لما شغف قريبًا من ذلك العهد بالتجنيس، قالوا إنها الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس، واستظرفوها ولم ينكروا عليه ما ننكر نحن على أهل هذه الطريقة في المتأخرين، فلما أخذت اللغة تضعف بعد ذلك فشت الصناعات فيها وضربت لها عروق الحياة، ووجد الأدباء من جهل الخاصة وانصرافهم عن الأدب الصحيح ما صرفهم إلى أنفسهم وجعل بأسهم بينهم، فتنافسوا في الاكتساب والإغراب، وصارت الصناعات مقصودة لذاتها، فتبعتها اللغة بعد أن كانت متبوعة، وصار أول ما يجيد الشاعر أن يطرح معمى أو ينظم لغزًا أو يبرع في بعض أنواع الجناسات وغيرها مما يسمونه بالمعجز والعويص؛ وكذلك كان شأن الكاتب؛ وصار ذلك من حظ الأدباء وأهل البلاغة عند الخاصة والأمراء، وقد ذكر ابن الطقطقي في كتاب "الغزي" "ص15" أن عز الدين بن عبد العزيز بن جعفر النيسابوري -لمجالسة أهل الفضل ولكثرة معاشرتهم له- صار يتنبه على معان حسنة "ويحل الألغاز المشكلة" أسرع منهم، ولم يكن له حظ من علم. وكذلك قال في بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إنه لمثل ذلك كان يستنبط المعاني الحسنة ويتنبه على النكت اللطيفة مع أنه كان أميا لا يكتب ولا يقرأ.
وكان انتشار الصناعات من ابتداء القرن السادس، وظلت إلى أواخر القرن التاسع -وهو زمن سقوط الأندلس- لا تستبد بالأدب وإن كان لها عليه في بعض ذلك سلطان؛ لأن أفراد الكتاب والشعراء الذين نبغوا في تلك الأيام لم يكونوا يتناولون منها إلا على سنة التملح والظرف، كأهل القرن الرابع، فكانت فضلًا من القوة، ولا حساب على الفضل، حتى إن صفي الدين الحلي لما دخل إلى مصر في سنة 726هـ أنشده الصاحب شمس الدين بن السندي أبيات سليم الهوى المصغرة ألفاظها التي أولها:
بريق بالأبيرق في الفجير
وذكر له أن ناظمها لصاحب الديوان علاء الدين الجوشني ولم يمكنه نظم بيت واحد مديحًا؛ إذ شأن المديح التعظيم، فنظم الصفي قصيدته1 التي أولها:
نقيط من مسيك في وريد ... خويلك أو وسيم في خديد
واحتال للمدح احتيالًا لطيفًا، فلم يذكر صفات الممدوح ولكنه ذكر عطفه عليه وصغر نفسه ووصف حساده وصغرهم، فكان هذا التصغير مضمنًا معنى التعظيم، وخلص بذلك إلى ما أراد؛ والقصيدة على عقدها لا تغض من قدر الصفي؛ لأنها في سبيل ما وصفنا، والرجل مع ذلك أنبغ المتأخرين في جملة الصناعات بعد الحريري.
ولكنهم ورثوها للخلف العاق فتجاوزوا إليها حقائق المعاني وتعبدوا للألفاظ؛ وساعدتهم أحوال الزمان، فكان الواحد منهم إذا نظم قصيدة أو كتب رسالة فتح بقلمه قبرًا من قبور اللغة، ولم تزل تلك حالهم حتى انتصف القرن الثالث عشر، فأخذت تلك الجراثيم تضعف ثم تقل ثم تتلاشى، إلى النهضة
__________
1 وقد تابعوه عليها وسموا هذه القصائد بالمصغرة، ومنها قصيدة لابن حجة ص197: الخزانة.(3/234)
الحديثة، فماتت إلا في بعض زوايا المساجد وبقيت في الزوايا خبابًا.
[وإنما حملنا على الاهتمام بهذا البحث والصبر على مطاولة التعب في جمعه والتفتيش عنه، أن هذه الصناعات قد طوي زمنها ومات شأنها أو دنف بعد هذه الآونة الأخيرة التي نهضت بها اللغة وآدابها، وانصرف أهلها إلى غير هذا التسخير في القرائح، فلا تكاد تجد في أدباء اليوم من يعرف تاريخ نوع واحد منها؛ وإذا ابتعد الزمن بعصرنا هذا أصبحت في الأدب كالآثار المستعجمة، إلا قليلًا مما استوعبت الكتب بعض تاريخه*] .
وقد برع أدباء اللسانين [الفارسي والتركي] في هذه الأنواع وفاقوا العرب في أشياء منها؛ ومن أعجب ما قرأته أن علاء الدين بن شمس الدين الفقازي من علماء الروم المتوفى سنة 903هـ كان يقرئ تلامذته شرح "المطول في علوم البلاغة"، فلما انتهوا إلى فن البديع صار يورد لكل صنعة عدة أبيات من الفارسية، قالوا: وكانوا يقرءون كل يوم من الضحوة إلى العصر سطرًا أو سطرين، فلما طال عليهم ذلك قال لهم: هذه قراءة الكتاب فاقرءوا الفن، وصار يقرئهم كل يوم ورقتين. وذلك علم كثير.
وسنأتي على شرح ما عثرنا عليه من الصناعات وتاريخه على مقدار ما وسعه الجهد وبلغ إليه الاطلاع ومكنت منه الفرصة؛ وإن هذا المبحث لحقيق أن يكون كتابًا برأسه، ولكنه فضلًا عن ذلك لم يجتمع إلى الآن في كتاب.
وقد كان يقع في هذا الفصل كلام في مقارنة هذه الصناعات بعضها ببعض ونسبة أثرها في اللغة وأشياء نحو ذلك، ولكنا سنفرقه على مواضعه ونجيء به عند مقاطعه.
__________
* قلت: هذه العبارة التي بين العلامتين [] لم تكن في هذا الموضع مما تحت يدي من الأصل، ولكنها كالحاشية في ورقة منفصلة فرأيت إثباتها هنا.(3/235)
لزوم ما لا يلزم:
هذا نوع في الصناعة يعدونه من البديع، وقد سمي الالتزام والإعنات والتضييق والتشديد، وبهذه الأسماء يدور في كتبهم، والمراد بذلك عندهم أن يعنت الناظم أو الناثر نفسه في التزام حرف أو أكثر قبل حرف الروي، وهو إنما يفعله صاحب الكلام لقوته ولو تركه لم يدخل عليه ضعف؛ غير أني أرى أن الحروف تتساوق وأن اللسان ميزان، فربما كان موضع لا يجد فيه البليغ المطبوع بدا من الالتزام فيفعل ذلك طبعًا لا صناعة؛ لأنه يرى اللسان يثبت في الكلمات، فإذا لم يقع من كل كلمة على الحرف الملتزم أخلى فلم يصب الرنة، وكان ذلك في الكلام شبيهًا بالعواثير التي تكون في الطرق، ومن أجل ذلك لا يتم حسن هذا النوع إلا في الكلمات المتوازنة بالألفاظ، كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وهو أكثر ما يتفق، أو بالمقاطع؛ لأن كلتا الكلمتين التي يلتزم فيها قد لا تكون وزان الأخرى بنفسها ولكنها توازنها مع بعض مقاطع الكلمة التي قبلها، أو هما يتوازنان في بعض مقاطعهما لا في جملتها، كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} و"إذا اتسق" أو قلت "وسق وتسق"؛ فإذا لم يتفق هذا التوازن، كما ترى في مجنون ومفتونون مثلًا، فهو حينئذ الإعنات والتضييق والتشديد إذا كان يحتسب التزامًا؛ لأنه غير طبيعي في الكلام، بل لو اطرد لكان ثقيلًا وخمًا تثب له السليقة وثبة أحشاء المتقيئ، ولذلك السبب عينه كان الالتزام طبيعيا في الشعر؛ لأنه أعاريض متوازنة، وكان من كماله ذلك النوع الدقيق منه، وهو التزام الحركة قبل الروي، إلا أن هذه الحركة قد ينكر السمع تغيرها، وذلك فيما يقع بعد ألفات التأسيس، كسالم وظالم، فإذا جاء فيها عالم "بالفتح" فذلك هو السناد، وهو معيب لما بيناه، وقد لا ينكر السمع تغير الحركة، كما تقول: يرعد وأرعد، وهو كثير في الشعر؛ ولا يلتزم هذه الحركة إلا الفحول المبرزون، كابن الرومي، وهو أولع الناس بها، حتى إن قصيدته التي يقول فيها:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
قد التزمه فيها ففتحه ما قبل الروي، على طولها وامتداد النفس فيها، وشبيه بذلك ما فضلوا به العجاج؛ إذ زعم بعضهم أنه أشعر أهل الرجز والقصيد. وذكر أنه صنع أرجوزته:
قد جبر الدين الإله فجبر
فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها "ص56 ج1: العمدة".
ولا نعرف أول من نبه على الالتزام، ولكن قدامة وابن المعتز والعسكري -وهذا توفي سنة 395هـ- لم يشيروا إليه في كتبهم ولا ورد ذلك في كلام من نبه على البديع ممن قبلهم من الرواة؛ لأن الالتزام في أكثر مواضعه المستحسنة طبيعي -كما قدمنا- ولكن أبا العلاء المعري المتوفى سنة 449هـ نظم على هذا النوع ديوانه المشهور باللزوميات، وقال في مقدمته: "وجمعت ذلك كله في(3/236)
كتاب لقبته لزوم ما لا يلزم، ومعنى هذا اللقب أن القافية تلتزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت، ولها أسماء تعرف، وسأذكر منها شيئًا مخافة أن يقع هذا الكتاب إلى قليل المعرفة بتلك الأسماء...... ا. هـ". ففي كلامه رائحة ضعيفة من الاختراع؛ ولعله أول من نبه عليه، فإن كان ذلك فهو لم يدعه؛ لأنه نهج مطروق وشرعة مورودة، والاختراع لا يكون فيما هذه سبيله بين أهله؛ غير أنه لا مراء في أن المعري أول من اتخذ هذا النوع صناعة احترفها شطرًا من عمره، فتكلف في تأليفه "كما قال" ثلاث كلف: الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو تاء أو غير ذلك من الحروف.
ولم نعرف بعد المعري من تكلف تأليفًا مستقلا في لزوم ما لا يلزم، إلا ما وقفنا عليه في ترجمة عبد العزيز بن قاضي حماة، من "فوات الوفيات"، وقد توفي سنة 662هـ، فقد قال فيه الشيخ صلاح الدين الصفدي:
"لا أعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة من نظم أحسن منه ولا أجزل ولا أفصح ولا "أصنع" ولا أكثر "فإن له في لزوم ما لا يلزم مجلدًا كبيرًا".
وقيل عبد العزيز هذا تكلف الوزير جمال الدين أبو الطاهر محمد بن يوسف التميمي السرقسطي المعروف بابن الاشتراكواني المتوفى سنة 538هـ -في مقاماته التي عارض بها الحريري- أن يلتزم في نظمها ونثرها هذا النوع، ولذلك تعرف بالمقامات اللزومية، وقد اشتهر بأسلوبه هذا في الأندلس حتى احتذاه من مشاهيرهم عبد الرحمن بن محمد المعروف بالمكناسي المتوفى سنة 591هـ، فقد كان رأسًا في الكتابة، وكان ينشئ الرسائل اللزومية، وبلغ في اللزوم مبلغًا أعجز فيه غيره "ص303: بغية الوعاة".
الشينية والسينية:
أما الحريري فقد طبخ أحمض أصناف الإعنات والتضييق في رسالتين له، وهما المعروفتان بالشينية والسينية، كتب بالأولى منهما إلى الشيخ الإمام شمس الشعراء طلحة بن أحمد بن طلحة النعماني، والثانية وهي السينية على لسان الأمير أمين الملك أبي الحسن بن فطير المرادي، وكان يتولى ديوان الاستيفاء بالبصرة، إلى الأمير الأجل الحسام، وكان قد دعاه الأسفهسالار1 الأجل النفيس سيد الرؤساء سيف السلاطين، وشربا جميعًا في دار بالبصرة في المحلة المعروفة ببني حرام، وهي محلة الشيخ الحريري، وكان أمين الملك جاره وصديق الأسفهسالار النفيس، فلم يدعه، فكتبها إليه يداعبه على لسانه.
وقد التزم أن لا يخلي كلمة من الشين في الأولى ومن السين في الثانية؛ وأشار صاحب المثل السائر إلى هاتين الرسالتين في باب المعاظلة من كتابه ووصفهما؛ ثم قال: فجاءنا كأنهما رقى
__________
1 الأسفهسالار: لفظ فارسي معناه رئيس الجيش. والنفيس: اسمه.(3/237)
العقارب! وهو من تحامله على الحريري؛ لأن الصناعات كانت مشهورة لذلك العهد مرغوبًا فيها، ولأن مقام الرسالتين استدعى هذا الالتزام، وليس ما ترسل فيه السجية ويستجم له الطبع كالذي يكون من الشاذ والنادر، ولم يأخذ الحريري في ذلك النمط إلا قصدًا وهو لا يجهل ما فيه، وإنما نبهه إلى ذلك مراعاة النظير؛ فإن الشينية مكتوبة بها "للشيخ الإمام شمس الشعراء" والأخرى "للأسفهسالار الأجل النفيس سيد الرؤساء إلخ" فكان أولى بذلك أن يعجب به لا أن يعجب منه؛ لأن الكتابة لم تكن إلا على جهة التطرف والتملح؛ ومثل هذا لا يعاب إلا إذا بولغ في استكراهه والإلحاح بالكثير منه "انظر المجلد السابع من مجلة الضياء ص496، 527".(3/238)
القوافي المشتركة:
من الكلام ألفاظ تشترك في معان كثيرة، وهي هي في الدلالة على كل تلك المعاني المختلفة، وقد اختلف أهل اللغة في سبب ذلك، ولكنهم اتفقوا على أنه "لا خلاف أن الاشتراك على خلاف الأصل" وهذا الموضوع مما لا سبيل إلى تحقيقه وبيان وجه الصواب فيه؛ لأن الألفاظ المشتركة سماعية إلا ما استخرج منها بالقياس، كالخال مصدر خال مثلًا، وقليل ما هو، فلا يمكن ردها إلى لغة واحدة ولا إلى لغات مختلفة من لغات العرب، لذهاب أصولها.
وقد تناول المتأخرون تلك الألفاظ واستعملوها قوافي للشعر على طريقة الجناس التام، وأشهرها الذي تخرج منه القصائد، ألفاظ معدودة، وهي العين، والخال، والغرب، والهلال، والعجوز؛ ولم يرد للمتأخرين قصائد على غيرها، وقد زاد بعضهم في معانيها ما لم يسمع ولم يجئ به نص في اللغة ليبلغ من ذلك مبلغ الكثرة، ولكن الشأن إنما هو في سهولة انقياد القافية وتمكينها على غير تكلف.
وأول ما جاء من الشعر في ذلك ثلاثة أبيات للخليل، وهي:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إن رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا ... ودمع عيني كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلة حرة ... تفتر عن مثل أقاحي الغروب
فلفظ "الغروب" الأولى غروب الشمس، والثاني جمع غرب، وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثاني جمع غرب، وهو الوهاد المنخفضة.
ثم نظم الحريري في إحدى مقاماته خمسة أبيات أولها:
سل الزمان علي عضبه ... ليروعني وأحد غربه
ولكن النظم على هذا النوع لم يشتهر إلا في القرن الحادي عشر؛ قال الزبيدي في "تاج العروس" وقد أورد أبيات الخليل: ثم إني وجدت في شرح البديعية لبديع زمانه على بن تاج الدين القلعي المكي ما نصه: في سانحات "دمى القصر" للعلامة درويش أفندي الطالوي رحمه الله: كتب إلي الأخ الفاضل داود بن عبيد خليفة نزيل دمشق عن بعض المدارسة في لفظ مشترك الغرب طالبًا مني أن أنسج على منوالها وأحذوا على مثالها، وهي "أربعة أبيات" قال:
فكتبت إليه هذه الأبيات التي هي لا شرقية ولا غربية.... ونقل الزبيدي 27 بيتًا أولها:
أمن رسم دار كاد يشجيك غربه ... نزحت ركي الدمع إذ فاض غربه
ولكن الشهاب الخفاجي أورد هذه القصيدة في آخر ريحانته -وهي هناك 29 بيتًا- وقال هناك: إن الطالوي عارض بها أبيات الحريري، والطالوي هذا من أدباء القرن الحادي عشر؛ وكذلك نقل الزبيدي أيضًا في شرح مادة "عجز" عن شيخه أن الأدباء أكثروا في جمع معاني العجوز في قصائد(3/239)
كثرة لم يحضره منها وقت تقييد كلماته إلا قصيدة واحدة للشيخ يوسف بن عمران الحلبي وساقها هناك، ومطلعها:
لحاظ دونها غول العجوز ... وشكت ضعف أضعاف العجوز
[العجوز في الأولى] : المنية، [وفي الثانية] : الإبرة. وهي ستون بيتًا فيها تكلف كثير، والشيخ يوسف هذا من المترجمين في الريحانة، ولكن الشهاب لم يشر في ترجمته لهذه القصيدة. ثم قال الزبيدي بعد أن أورد هذه القصيدة: قال شيخنا: وكنت رأيت أولًا قصيدة أخرى كهذه للعلامة جمال الدين محمد بن عيسى بن أصبغ الأزدي اللغوي.... وهي طويلة وأعظم انسجامًا وأكثر فوائد من هذه ... وهناك قصائد غيرها لم تبلغ مبلغها. ا. هـ.
وقال الشهاب الخفاجي في ترجمته السيد عبد الله الوفائي المصري: وقصيدته التي التزم فيها تجنيس قوافي الخال، مشهورة. وأولها:
يا سلسلة الصدغ من لواك على الخال "كذا"
ولم يذكر منها غير هذا الشطر؛ فلعله أول من نظم في الخاليات.
ثم نظم نفر من أدباء القرن الثالث عشر في العينيات والهلاليات وتابعوا من قبلهم في الخاليات والغربيات وأهملوا العجوزيات، ولعل العجوز ماتت قبل أن تلد قرائحهم.
ومهما يكن فالنظم في هذه الأنواع مما يجوز أن يحاضر به في اللغة على وجه المعاياة؛ وكان هذا من فائدته قبل أن يشيع، أما بعد ذلك فهو لغة يحسبونه لهوًا، وعناء يظنونه غناء؛ وصناعة من الباطل يرون فيها صياغة لتحلية العاطل؛ وإنما الفرق بين ذلك فرق بين الأضداد.(3/240)
القصائد المعراة:
يراد بهذا النوع من المنظوم أن تكون القصيدة بجملتها خالية من أحد حروف الهجاء، فحيث التمسته كنت كطالب ما لا يوجد، أو كملتمس حرف أجنبي في الحروف العربية.
والأصل في هذا على ما أعلم ما يروى من خبر واصل بن عطاء المتوفى سنة 181هـ قال الجاحظ: إنه لما علم أنه ألثغ فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن؛ وأن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة كحاجته إلى الجلالة والفخامة، وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني، وعلم واصل أنه ليس معه ما ينوب عن البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة..... رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لسره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما آمل، حتى صار لغرابته مثلًا، ولظرافته معلمًا. قال: ولولا استفاضة هذا الخبر وظهور هذه الحال، لما استجزنا الإقرار به والتأكيد له.... إلى آخر ما يتعلق بخبر واصل مما ليس هذا موضعه.
وكان هذا الأمر مقصورًا على المنثور ولا يتعدى مع ذلك ما ينسب إلى أبي حذيفة، حتى جاء الصاحب بن عباد المتوفى سنة 335هـ فجعله في المنظوم. قال الثعالبي في ترجمة أبي الحسين علي بن الحسين الحسني الهمذاني: وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته.... ولما قال الصاحب قصيدته المعراة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولًا في المنظوم والمنثور، وأولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري
وهي في مدح أهل البيت "لأن الصاحب كان علويا" تبلغ سبعين بيتًا، تعجب الناس منها وتداولتها الرواة:
فسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حرف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها، وقال قصيدة فريدة ليس فيها واو، مدح الصاحب في عرضها، وأولها:
برق ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع ساكب
أمدامعي منهلة ... هاتيك أم غزر السحائب
نثرت لآلئ أدمع ... لم تفترعها كف ثاقب(3/241)
وكلها من هذا النمط يتحامل بعضها على بعض، ولعل قصائد الصاحب لا تعدوه في التقدير؛ لأنه لم يقع لنا منها شيء، حتى إن الثعالبي نفسه لم يذكرها في ترجمته.
ولم نعلم أن أحدًا بعد الصاحب تعاطى هذا الشأو، مع غلبة هذه الصناعات على شعر المتأخرين وتكلفهم لما هو أكثر استغلاقًا وأصعب مراسًا من النظم المعرّى، ولعل شيئًا من ذلك اتفق لبعضهم ثم درست به آثاره، أو لعل الاطلاع قصر بنا: ومهما يكن فقد بحثنا في الأصل، وما بقي فهو مما يرد إليه، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله.(3/242)
محبوك الطرفين:
ويريدون أيضًا بهذا النوع من المنظوم أن تكون كل أبيات القصيدة أو القطعة مبتدأة ومختتمة بحرف واحد من حروف المعجم، وأول من جاء بشيء من ذلك أبو بكر محمد بن دريد المتوفى سنة 321هـ، وقد ذكر المسعودي أنه كان شاعرًا كثير الشعر يذهب في كل مذهب، غير أنه لم يشتهر من شعره إلا مقصورته التي مدح بها ابن ميكال، وهي مشهورة، وقد نظم ابن دريد المذكور قطعًا مربعة على عدد الحروف لم يلتزم فيها بحرًا واحدًا بل جعل كل قطعة منها مستقلة عن سائرها في الوزن كما هي مستقلة في الروي، وأولها قوله في حرف الألف:
أبقيت لي سقما يمازج عبرتي ... من ذا يلذ مع السقام بقاء
أشمت بي الأعداء حين هجرتني ... حاشاك مما يشمت الأعداء
أبكيتني حتى ظننت بأنني ... سيصير عمري ما حييت بكاء
أخفي وأعلن باضطرار إنني ... لا أستطيع لما أجن خفاء
وفيها أبيات جيدة؛ لأن الشعر مع هذا القيد ولا جرم قريب من الانطلاق، إلا حيث تكون الألفاظ المستكرهة في بعض الأحرف المعدودة كالخاء والظاء.
ثم جاء بعد ابن دريد وأبو الحسن علي بن محمد الأندلسي البرزي فانسحب على آثاره ونسج على منواله، ولكنه أبلغ أبيات كل قطعة إلى العشرة، ولذلك تعرف منظومته بالقصائد المعشرة.
وتلاهما صفي الدين الحلي الشاعر الشهير المتوفى سنة 750هـ فنظم من هذا النوع تسعًا وعشرين قصيدة على عدد الأحرف الهجائية، والتزم هذا العدد بعينه في نسق كل قصيدة، فجاء من ذلك بالشيء العجيب، ولو كان ابن دريد من المصنعين ولم يكن حيث هو من العربية وفنون الأدب لأخمله الصفي.
وقد مدح الحلي بقصائده تلك السلطان الأرتق المنصور نجم الدين أبا الفتح ولذلك تعرف بالأرتقيات ومطلع القصيدة الأولى منها:
أبت الوصال مخافة الرقباء ... وأتتك تحت مدارع الظلماء
أصفتك من بعد الصدود مودة ... وكذا الدواء يكون بعد الداء
وهي مشهورة في ديوانه، ثم ختمت به الإجادة في هذا النوع على ما أظن، إذ لم يتفق لغيره من ذلك إلا القليل، كأبيات أبي جعفر الألبيري الأندلسي -وكان معاصرًا للصفي- فيما التزم في أوله حرف الدال، وقد أوردها صاحب "نفح الطيب" "ص42 ج2" وكذلك جرى بعضهم على نمط ابن دريد في قصائد مسدسة في المديح النبوي، وذكر المقري من ذلك قصيدتين في آخر كتابه، وساق هناك قصيدة أخرى للشيخ أبي عبد الله بن عمران في المديح، وهو يذكر في أول كل بيت حرفًا من حروف(3/243)
المعجم منطوقًا به على أن يكون جزءًا من عروضه، ومطلعها:
ألف يا خير البرية هذي ... مدحي وما أنا في مقامي هاذي
باء بها أظهرت صدق محبتي ... وبذلك الجاه الكريم لياذي
ومن هذا النوع أخذ المتأخرون ما يسمونه التطريز، وذلك أنهم إذا أرادوا أن ينظموا في مدح أحمد مثلًا جعلوا أوائل الأبيات على حسب حروف هذا الاسم فيبتدئون بالألف، ثم بالحاء، ثم بالميم، إلخ.
وهو نوع كان يعرف في القرن الحادي عشر بالمشجر وأورد منه ابن معصوم في السلافة بعض مقاطيع، وربما جاءوا بالتشجير في المصراعين فتكون أوائل الشطور الأولى على حروف الاسم المشجر به، وكذلك أوائل الشطور الثانية؛ وليس في ذلك كله من البراعة إلا ما اصطلحوا عليه من أنه صناعة.
وللصفي أيضًا أبيات تقرأ طولًا وعرضًا فلا يتغير وضعها، ولم أر غيرها لغيره إلا ما سيجيء في القصائد التي تقلب على وجوه كثيرة؛ لأن ذلك يكون من قراءتها طولًا وعرضًا وطردًا وعكسًا، والأبيات هي:
ليت شعري لك علم ... من سقامي يا شفائي
لك علم من زفيري ... ونحولي وضنائي
من سقامي ونحولي ... دواني إذ أنت دائي
يا شفائي وضنائي ... أنت دائي ودوائي(3/244)
ذوات القوافي:
هذا نوع من النظم يعطيك أنواعًا من البحور والقوافي كلما قلبته على جهة من جهات الاستخراج نظم عليها. والأصل فيه النوع البديعي الذي سموه التشريع وسماه ابن أبي الإصبع في كتابه بالتوأم؛ لأن شرطه عندهم أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين. فإذا أسقط من أجزاء البيت جزءًا أو جزأين صار من وزن آخر غير وزنه الأول، وعلى هذا النوع بنى الحريري قصيدته في المقامة الثالثة والعشرين، وهي من ثاني الكامل، وأولها:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى أضحكت في يومها ... أبكت غدًا بعدًا لها من دار
وهي تنتقل بالأسقاط إلى ثامن الكامل فتصير:
يا خاطب الدنيا الدنيـ ... ـة إنها شرك الردى
دار متى ما أضحكت ... في بومها أبكت غدا
وقد تنبه الحريري إلى استخراج هذا النوع من قول بعض العرب:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرماح بكثبهن شمالا
ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا
فإن هذا الشعر بعد الإسقاط يخرج منه:
وإذا الرياح مع العشي ... تناوحت هوج الرماح
ألفيتنا نفري الغبيط ... لضيفنا قبل القتال
فالحريري هو أول من قصد له، ثم وطئ عقبه فيه أصحاب البديع والمتكلفون لمثل ذلك، وقد وجدوا الرجز أوسع البحور فيه، فإنه يقع مستعملًا تاما، ومجزوءًا، ومشطورًا، ومنهوكًا. فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف، فإذا أسقطت ما بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكًا، وإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي مشطورًا، ويبقى إذا أسقطت ما بعد الثالثة مجزوءًا، ثم هو تام إذا كان على حاله من غير إسقاط، وعلى ذلك قول أبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي "صاحب البديعية".
يرنو بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه
يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنى لا صبر لي عن قربه
وهو أربعة أبيات، والأوجه الثلاثة التي تستخرج منها غير التام هي:
يرنوا بطرف فاتر ... مهما رنا فهو المنى
"وهو المجزوء"
ويرنو بطرف فاتر ... مهما رنا
"وهو المشطور"(3/245)
ويرنو بطرف فاتر ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه
"وهو المنهوك"
قالوا: ولكن القوة في ذلك والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع في بيت واحد، والإعجاز فيه أن يخرج من البيت بيتان كقول ابن حجة الحموي في بديعيته موريًا بتسمية النوع:
طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم
فإنه يستخرج منه:
طاب اللقا ... على النقا
وهو من منهوك الرجز، ويكون الباقي من البيت:
لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم
وهو من المديد، والبيت كله من البسيط، ثم تنبه المتأخرون حين بالغوا في الصناعات وفتقت لهم منها حيلة المنافسة إلى أن يجيئوا بأبيات أو قصيدة من هذا النوع الذي قلد فيه ابن حجة الشيخ عز الدين صاحب البديعية المشهورة، ويقصدوا في قوافيها المقصورة إلى نوع من الترتيب، وبذلك تخرج القطعة أو القصيدة وهي تقرأ طولًا وعرضًا وطردًا وعكسًا، ثم تقرأ بالشطرة الواحدة من القوافي الثلاث على وجوه كثيرة لا تحصر إذ لا فائدة في حصرها ... وأقدم ما وقفنا عليه من هذا النوع قطعة للشاعر الملقب بابن معتوق يمدح بها، وهي مثبتة في ديوانه "ص56" وأولها:
فخر الورى حيدري عم نائله ... فجر الهدى ذو المعالي الباهرات علي
نجم السها فلكيات مراتبه ... بادي السنا نير يسمو على زحل
ليث الشرى قبس تهمي أنامله ... غيث الندى مورد أشهى من العسل
بدر البها أفق تبدو كواكبه ... شمس الدنا صبح ليل الحادث الجلل
وهكذا زواج في ترتيب القوافي كما ترى، وليس يخفى أن هذا التفكيك في أجزاء القصيدة هو علة تركب القصائد الكثيرة من القصيدة الواحدة، حتى إن بعضهم عمل قصيدة واشتغل بإحصاء الوجوه التي تنظر بها فبلغت في عينه مليون وجه، وذلك عالم من الأرقام في قفر من الكلام.
وهذا التجزيء في الشعر ليس حديثًا، بل يرجع عهده إلى عصر سلم الخاسر، فإنه أول من ابتدعه، وذلك أنه رأى أن أقصر ما خصه القدماء من الرجز ما كان على جزأين، كقول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
فعمل قصيدة على جزء واحد مدح بها موسى الهادي، وسمى الجوهري هذا النوع من النظم بالمقطع "ص123 ج1: العمدة" ومن قصيدة سلم:
مرسى المطر ... غيث بكر
ثم انهمر ... ألوى المرر
كم اعتسر ... ثم ايتسر(3/246)
وكم قدر ... ثم غفر
ومن ذوات القوافي في نوع من النظم سماه أهل البديع التخيير، وقالوا هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف مختلفة فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها ويرسل بها البيت، فيكون ذلك دليلًا على حسن اختياره، وهو تعليل لا معنى له؛ لأن تمكن القافية شرط في الشعر، وسواء بعد ذلك ساغ أن يقفي بقواف أخرى أو كان أمره مقصورًا على القافية الواحدة.
وإذا تفقدت الشعر في أي عصوره لم تعدم أن تجد البيت أو الأبيات مما يقلب على القوافي، ولكن الحسن من ذلك قول ديك الجن، وأكثر من يرويه يسنده إلى أبي نواس، وهو:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي عند المنام
فعسى أنام فتنطفي ... نار تأجج في العظام
جسد تقلبه الأكـ ... ـف على فراش من دوام
فالقوافي التي يمكن أن ينشد بها هذا الشعر هي:
عند المنام الرقاد ... الهجوع الهجود الوسن
في العظام الفؤاد ... الضلوع الكبود البدن
من سقام قتاد ... دموع وقود حزن
من دوام معاد ... رجوع وجود ثمن
ولست أشك في أن البيت الأخير مقحم وليس من نظم صاحب الأبيات، وإنما ألحقوه بها توسعًا في الاحتمال، وزيادة من البيان في المثال؛ وقد وصلوا في هذا النوع إلى جعل البيت على سبع قواف، واطراد ذلك في قطعة واحدة، وإنما يحسن هذا متى اتفق استخراجه في شعر لا ما قصد إليه، فإن القصد هنا محمل التكلف، وهو يخرج الشعر إلى الصنعة فيسقط بها عن درجته قليلًا أو كثيرًا كما مر بك في الصناعات.(3/247)
القوافي الحسية:
هذا نوع عجيب، تنوب فيه الحركة أو الإشارة عن اللفظ في موضع القافية موقعة على عروضها، وهو نهاية في الظرف والملاحة؛ لأن من المعاني ما قد تكون الحركة أو الإشارة فيه أبلغ من اللفظ دلالة وأبدع موقعًا وأحسن إطرابًا، وإنما يكون لها ذلك إذا كان فيها معنى من معاني القلب، فكأن القلب هو الذي ينطق؛ ولذلك لا يعدو أن يصيب مواقع الهوى ويحرك في النفوس العجب والاستحسان؛ وذلك كقول بعضهم:
ظفرت بمعشوق له الحسن حلة ... فقبلته شفعًا وقلت له.....
فقال أتهواني فقلت له نعم ... فقال ومن غيري فقلت له.....
البيتان من الطويل، وقد جعل قافية الأول صوت القبلة مكررًا مرتين كما يدل عليه قوله: "شفعا" وقافية الثاني الصوت الدال على النفي مكررًا أيضًا، وهو ينشأ عن القرع بطرف اللسان على أطراف الثنيتين المتقدمتين من أعلى الثغر، وليس في البيتين من الحسن أكثر من هذه الحركة كما ترى، ولما كانت مما لا سبيل إلى تصوير حروفه بالخط كانت إلى الطبيعة أقرب وكانت لذلك أملح.
وللعرب في بعض ذلك تعبير يؤدي معنى الإشارة اصطلاحًا، كتعبيرهم عن صوت النفي في البيت الثاني بقولهم مض، قال في لسان العرب: هو أن يقول الإنسان بطرف لسانه شبه لا، وأنشد:
سألتها الوصل فقالت مض ... وحركت لي رأسها بالنغض
ومن هذه القوافي قول الآخر:
ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك
فأشارت بمعصم وبنان ... أيها العاشق المتيم.....
والبيتان من الخفيف، وعجز كل منهما ينقص سببين خفيفين، فجعل تمام الأول حركة اليد التي يشار بها بمعنى "أقبل" مكررة، وهي توازن السببين في امتداد الزمن، وجعل تمام الثاني الحركة التي يشار بها بمعنى "اذهب" مكررة كذلك، والقافيتان مما يتناول بالبصر ومما لا سبيل إلى تصويره بغير أداته الطبيعية، وقد روى البيتين وزاد فيهما ثالثًا الحسن بن رشيق صاحب "العمدة"، قال: وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين ابن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعرًا لا قافية له؟ قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالًا:
ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك....
"إشارة قبلة"
فأشارت بمعصم ثم قالت ... من بعيد خلاف قولي....
"إشارة لالا"
فتنفست ساعة ثم إني ... قلت للبغل عند ذلك....
"إشارة امش"
والإشارات في هذه الأبيات إما أن تكون باليد أو بحركات الشفة على نحو ما سبق، وعلى ذلك(3/248)
تكون الإشارة للبغل كما يفعل [المُكارون] عندنا حين يستحثون الدابة فيطبقون الفكين ويقرعون بطرف اللسان على الثنايا السفلى.
ولا بد لتمام الحسن في هذا النوع أن يكون البيت موقوفًا بمعناه على الحركة أو الإشارة في القافية، وإلا انصرف عنه الذهن وجاءت الطبيعة فيه تابعة فكان ذلك مما يكسبه معنى سخيفًا ويحيله عن وجه الإبداع فيه، إذ تكون الإشارة في مثل ذلك عيا لا بيانًا.
ولا تبلغ مثل هذه القوافي أن تكون اختراعًا في الصناعة؛ لأنها لا يحسن في كل حال، وإنما يقضي بها سبب من الأسباب أيها كان، وما لا يحسن أن يجيء إلا بسبب يقبح إذا جاء من غير سبب، على أنه شيء طبيعي مبذول يتناوله كل من بعث عليه فلا معنى فيه لحقيقة الاختراع، ولعلك إذا تتبعت مواقع ذلك في الشعر رأيت كثيرًا منه يصلح أن تكون قوافيه حسية، ولكن الصعوبة في أن تكون هذه القوافي الحسية موزونة حركاتها على الأوزان التي تقابلها من العروض، وهذا هو وجه الصنعة الغريبة فيما تقدم.
ههنا بديعة أخرى، وهي ما يروى من أن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل كان إذا مدح لا ينظر إلى وجه مادحه، فتلطف ابن مطروح الصاحب جمال الدين الشاعر المتوفى سنة 649هـ وعمل قصيدة بنى قافيتها على الإشارة فكان كلما انتهى إلى قافيته أشار بما يدل عليها فنظر إليه الملك، ومن هذه القصيدة قوله:
تعشقت ظبيًا وجهه مشرق كذا ... إذا ماس خلت الغصن من قده كذا
له مقلة كحلاء نجلاء إن رنت ... رمت اسمها في قلب عاشقه كذا
وهذا النوع من الإشارة وارد بعضه في الحديث الشريف كقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت والساعة كهذين" وهو كذلك شائع في كثير من الكلام؛ ومن أعجبه أنه لما اجتمع الناس عند معاوية بن أبي سفيان وقامت الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة، قام رجل يقال له يزيد بن المقنع، فاخترط من سيفه شبرًا ثم قال: هذا أمير المؤمنين "وأشار بيده إلى معاوية" فإن مات فهذا "وأشار بيده إلى يزيد" فمن أبى فهذا "وأشار بيده إلى سيفه" فقال معاوية: أنت سيد الخطباء!(3/249)
التاريخ الشعري:
ويسمونه التاريخ الحرفي أيضًا؛ لأن المرجع فيه إلى حساب الأحرف الأبجدية، ولا يعرف بالتعيين أول من استعمله في الشعر، وقد ذكر بعضهم أن كان مستعملًا في الجاهلية الأولى عند شعرائها، وهو وهم، ولكن أقدم ما وقفت عليه من ذلك قول بعضهم في تاريخه لسنة 822هـ:
تاريخه خير بدا ... مع كمال العفة
ويريد بقوله: "مع كمال العفة" حرف التاء الذي هو تمام لفظ العفة، وحسابه في الجمل هاء، وهذا النوع يسمونه المذيل، وهو أن يكون جمله ناقصًا فيكمل بحرف أو أكثر مع التنبيه على ذلك، وهذا شبيه ببعض أنواع المعمى.
وأقدم من ذلك -ولكنه ليس على طريقة التاريخ، بل على طريقة الإشارة والرمز- قول ابن الشبيب من أهل القرن السادس في الإمام المستنجد بالله وهو الخليفة الثاني والثلاثون من خلفاء العباسيين:
أنت الإمام الذي يحكى بسيرته ... من ناب بعد رسول الله أو خلفا
أصبحت "لب" بني العباس كلهم ... إن عددت بحروف الجمّل الخُلفا
وجمل حروف "لب"32؛ ولصلاح الدين الصفدي من أدباء القرن الثامن في قلم ممدوحه بدر الدين:
لصفات بدر الدين فضل شائع ... تصبو له الأفكار والأسماع
انظر إلى "القلم" الذي يحوي فقد ... صح الحساب بأنه "نفّاع"
وذلك أن جمل "القلم" 201 و"نفاع" كذلك، ومنتهى التنطع قول بعضهم وهو من هذا القبيل:
من كان "آدم" جملًا في سنه ... هجرته "حواء" السنين من الدمى
وهو يعني أن من كان عمره كجمل "آدم" أي: 45 سنة، هجرته من كان عمرها كجمل "حواء" وهو 15.
وقد ذكر القرماني في تاريخه عند الكلام على فتح القسطنطينية سنة 857هـ وأن السلطان محمدًا فاتحها حباه الله هذا الفتح لكونه أعلم الملوك أعدلهم وأحسنهم سيرة وأخلصهم نية وطوية, قال: وضمن بعضهم هذا المعنى في تاريخ الفتح فقال:
رام أمر الفتح قوم أولون ... حازه بالنصر قوم آخرون
[وقعت] لفظة "آخرون" تاريخ فتح المدينة، وقيل في تاريخها أيضًا "بلدة طيبة" ا. هـ.
وعندي أن هذا كان منشأ التاريخ في الشعر، وأن البيت الذي سبق ذكر تاريخه لسنة 822هـ مصنوع للمثال لا غير، ويرجح ذلك أننا لم نجد كتابًا ذكرت فيه التواريخ الشعرية القديمة في الوفيات(3/250)
وأمثالها إلا كتاب "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" وأقدم تاريخ ذكر في هذا الكتاب هو ما أرخوا به وفاة الشيخ تاج الدين بن إبراهيم المتوفى سنة 782هـ وقد ذكر صاحب "الشقائق" هذه العبارة: وقال المؤرخ في تاريخ وفاته:
انتقل الشيخ وتاريخه ... "قدسك الله بسر رفيع"
وهو يذكر تراجم العلماء من سنة 699هـ؛ فلو كان التاريخ شائعًا قبل ذلك لكان فيهم من لا تسقط به قيمته عن أن يستحق تاريخًا شعريا وقد مرت عليهم 73 سنة وهو الفرق ما بين العهدين.
وقد أخذ العرب اصطلاح الدلالة بالأحرف على الأعداد قديمًا عن السريان، فإنهم كانوا يعبرون عن الأعداد بالحروف، كالعبرانيين واليونانيين؛ والحروف عند السريانيين مرتبة ترتيب حروف "أبجد ... " غير أن العرب زادوا عليها كلمتي "ثخذ وضظغ" وهي التي سموها الروادف، وأعدادها من 500 إلى 1000؛ لأن هذه الأحرف الستة لا توجد في لغة السريان ولا في لغة العبرانيين؛ ولكن يوجد فيها ما يقابلها، وهي ستة أحرف فرعية نوعوا بها الأحرف الأصلية التي هي: الباء والجيم والدال والكاف والفاء والثاء، فهذه الأحرف عندهم إما جاسية جافية وإما مخففة لينة، وتعرف باصطلاح السريانيين بالمقساة والمركخة، فإذا كانت جاسية تلفظ كما تلفظ في العربية وتعلم بنقطة فوقها عند السريانيين وفي وسطها عند العبرانيين، وإذا كانت مخففة فإن الباء تلفظ كالفاء الفارسية والجيم كالغين العربية، وتلفظ الدال ذالًا، والكاف خاء، والفاء باء فارسية، والثاء تاء.
وزعموا أن أبجد هوز إلخ أسماء لبعض ملوك مدين، وقيل غير ذلك، وهو خلاف لا فائدة في إيراده؛ لأنه مما لا ثبت له من التاريخ ولا من أقوال المحققين، غير أن بعض المتأخرين يرجح أن هذه الأحرف جمعت كذلك بقصد حصرها في ألفاظ يسهل استظهارها ولو لم تكن ذات معان، كما حصروا بعض أنواع الحروف مثل أحرف القلقلة في قولهم "قطب جد" ونحوها.
وهو اصطلاح فاش في أكثر الفنون، كالنحو والفقه والعروض وغيرها.
والأنواع التي اصطلح عليها في هذا التاريخ هي:
المستوفى وهو ما لا تحتاج كلماته ضميمة غيرها، كأثر التواريخ المتداولة.
والمذيل، وقد مر مثاله؛ وعكسه أن يكون التاريخ زائدًا فينبه فيه على حرف إذا أسقط جمله من المجموع كان الباقي هو التاريخ، كقول جمال الدين العصامي في تاريخ وصول قاضي مكة وكان اسمه حسنًا، وذلك سنة 1074هـ وهو: "حسن قاضينا حسن بلا كلام"، فإذا أسقطت جمل "بلا كلام" من جمل "حسن قاضينا حسن" كان التاريخ ما بقي.
والمتوج وهو ما تحسب أوائل كلماته دون باقيها، كقول بعضهم لسنة 1102هـ:
قد جاء عام جديد ... لكل خير يحوز
أرخ أوائل "قولي ... بكل خير تفوز"
والممثل وهو ما كان بالتمثيل، كقولهم لتاريخ 989 "إنه محمل بين علمين" لأن صورة هذه(3/251)
الأرقام تماثل صورة المحمل بين العلمين؛ ومثله "علم بين محملين" لسنة 898هـ.
ومن عجيب هذا النوع قول بعضهم يؤرخ وفاة بعض العلماء سنة 888 وهو "انقلب محراب الديانة والدين والزهد" والمراد حروف الدال في هذه الكلمات، والدال كما لا يخفى ترسم هكذا "د" فإذا انقلبت الدالات الثلاث، صارت هكذا "888" وهو عدد السنة المؤرخ بها، وهذا النوع قل أن يتفق في المنظوم إلا بتكلف سمج.
ومن أنواع التاريخ المقابلة، وهو أن يقابل حساب جمل الشيء المؤرخ اسمًا أو نعتًا أو نحوهما بجمل جملة مناسبة للحال مع التصريح بالمقابلة، كما يقال في تاريخ مولود اسمه ضياء "تاريخه مقابل لاسمه" أي: سنة 812هـ.
وبقيت أنواع أخرى قليلة لا طائل تحتها بل هي من التفنن المرذول، وقد استعمل التاريخ في بديعية الشيخ عبد الغني النابلسي؛ ثم جاء تلميذه الشيخ شاكر النحلاوي ويقولون إنه ابتكر في التاريخ طريقة جديدة، وهي جعل كل شطرة من القصيدة تاريخًا، وأنه نظم في ذلك قصيدة في مدح أستاذه تواريخها لسنة 1136هـ.
ولكن صاحب "الشقائق النعمانية" ذكر في ترجمة المولى الشهير بابن الشيخ الشبستري "ص60 ج2" وقد اشتهر بهذه الكنية ولم يعرف اسمه، أنه نظم قصيدة فارسية في ستين بيتًا مصراع كل بيت تاريخ لسنة 926، والقصيدة تهنئة بجلوس السلطان سليمان بن السلطان سليم، وكان المصراع الأخير تاريخًا لفتح قلعة رودس؛ وهذا الأديب نفسه صنف أيضًا بالفارسية رسالة في المعمى وجعل أمثلة قواعده كلها على اسم السلطان سليم خان ا. هـ.
فيكون النحلاوي ناقلًا لا مخترعًا وإن كان أول من أدخل ذلك في النظم العربي.
ثم اخترع بعده الشيخ أحمد البدير الشاعر طريقة المعجم والمهمل، فأرخ وفاة الأمير منصور الشهابي سنة 1188هـ في بيت حروفه المهملة تاريخ وحروفه المعجمة كذلك.
وتفنن المتأخرون بعد ذلك فجمعوا في البيت الواحد تاريخين متفقين أو مختلفين من الهجري والميلادي، وثلاثة وأربعة أيضًا، ووضعوا طريقة يجتمع بها في بيتين ثمانية وعشرون تاريخًا، وذلك أن تنصف السنة المؤرخ بها، ولا بد أن تكون زوجًا ليكون لها نصف صحيح، ويجعل كل شطر من الأبيات نصفين يكون مجموع جمل معجمه نصفًا ومجموع المهمل نصفًا آخر، فيكون [في] كل شطر من البيتين تاريخ، ويضم معجمه أو مهمله إلى معجم أي شطر أو مهمله، يخرج بقية العدد.
وقد زاد أدباء الترك في هذه الطريقة أن يكون كل شطر مهمله في الحساب على آحاد وعشرات ومئين، وكذلك معجمه، فيؤخذ أي عدد من هذه الأعداد ويضم له ما عدا مماثله من أي شطر بعده، فيكون المجموع تاريخًا، وبهذه الطريقة تضمن الأبيات القليلة كثيرًا من التواريخ، وذلك لعمري هو العناء الناصب والعلم الكاذب، وما لا ينبغي أن يكون له طائل ولا طالب.
وههنا غريبة في التاريخ، وهي القصيدة التي نظمها الشيخ محمد قيادو التونسي، وهي مؤرخة(3/252)
لسنة 1276هـ، ويستخرج منها تواريخ كثيرة جدا لتلك السنة، ويتولد منها قصيدة ثانية يستخرج منها نفس التاريخ، في عدد كثير، وعدة أبيات القصيدة "الأم" ستة وثلاثون بيتًا، والمولدة منها ثمانية عشر، فيخرج من كل بيتين من الأولى بيت من الثانية، ومطلع الأولى:
خير حام مجد مجير العبيد ... حاط خير الجرى لعبد المجيد
حاطه عن عثار جعد برجف ... منتج جحد عرف ربق العهود
ومن هذين يستخرج مطلع المولدة وهو:
خير حام مجير عبد المجيد ... عن عثار برجف جحد عهود
فكل شطر برمته تاريخ، ومهمل كل شطر مع مهمل غيره أو معجمه تاريخ، وكذا معجم كل شطر مع معجم غيره أو مهمله تاريخ، وقس على ذلك اعتبار القصيدة بعضها ببعض مما يكون خيرًا منه للشاعر أن يشتغل في "مصلحة الإحصاء".
فإن هذا كما يقول الصاحب في قول المتنبي:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
إنه من عنوان قصائده التي تحير الأفهام وتفوت الأوهام وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرتيماطيقي.
وقد يظن أن المتأخرين هم الذين انفردوا بالتفنن في التاريخ الشعري على النحو الذي سلف، وهم أهل لذلك في كثير، ولكن هناك عجيبة أخرى، وهي قصيدة لعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري من أدباء الجيلين العاشر والحادي عشر، وهي تسعة عشر بيتًا يستخرج منها سبعة أبيات تكون تواريخ لسنة 998هـ بطريقة لم أر مثلها للمتأخرين على كثرة ما تكلفوا من ذلك؛ أما القصيدة فهي مدح الحسن بن أبي نمي بن بركات. قال ناظمها -بعد أن أوردها في كتابه المسمى "عيون المسائل من أعيان الرسائل" "ص38" المطبوع بمصر: وطريقة استخراج تلك التواريخ بضم الأحرف التي هي أوائل الأبيات مرة، وبضم الأحرف التي هي أوائل بعض الأجزاء "أي: التفاعيل" مرة أخرى، وقد شرحها صاحبها في كتابه فتلتمس هناك.
ثم نظم على هذه الطريقة شهاب الدين أحمد بن الفضل بن محمد المكي من أدباء القرن الحادي عشر، ولكن قصيدته تستخرج منها تسعة تواريخ، وقد ذكرها ابن معصوم في "السلافة" "ص204" وذكر أبيات التواريخ التي تستخرج منها، وقال هناك: إنه مني بعد نظمها لشدة الفكر بعملها وبقي مرتهنًا بها أربعة أهلة، وأن علماء عصره قد قرظوا عليها؛ ثم ذكر منهم عبد القادر الطبري صاحب القصيدة الأولى "وانظر السلافة أيضًا ص187".(3/253)
التخميس والتشطير وما إليهما:
سلف لنا كلام في باب الأوزان العربية ومقدار وفائها بالحاجة الشعرية ومبلغ معونتها في ذلك، وأن القوافي نقرات ونغمات ليس الغرض منها إلا استقامة اللحن واتفاقه مع اهتزازات الطرب، وأن الشأن في ذلك أن لا يشذ بها اللحن عن قاعدة الذوق التي لا قيد لها إلا ما يشعر به الإنسان في خاصة نفسه، فهي لذلك تابعة لا متبوعة، ثم هي على ما يشاء الشاعر في تقليبها، والشاعر قيم الصناعة، فحظ القافية منه على مقدار حظ الغرض الشعري منها، وقد بسطنا ذلك هناك وأمسكنا لهذا الموضع كلامًا نجريه الآن، وذلك في أصل التخميس والتشطير وما إليهما مما صرفه المتأخرون عن وجهه في الإمتاع، وأحالوه عن حظه من الفائدة، فجاءوا بالمشطر والمربع والمخمس والمسدس والمسبع والمثمن، ولم ينل حقيقة الشعر من كل ذلك إلا هذا المسخ من صورة إلى صورة، وهي جناية الصناعة وكم لها من جنايات.
أصل ذلك في الشعر العربي النوع الذي سموه قديمًا بالمسمط وقالوا فيه هو أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع -ذي قافيتين- ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيمًا واحدًا من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة، والقافية اللازمة في القصيدة التي تكرر في التسميط تسمى عمود القصيدة، ويقال للقصيدة من ذلك النوع مسمطة وسمطية، وهو نوع محدث لم يصح وروده عن أحد من العرب، ولذلك يورد الرواة ما يسوقونه منه غير معزو، إلا ما نحلوا امرأ القيس من ذلك، ولعلهم أرادوا به التمهيد والتوطئة للثقة، وذلك سبب من أسباب الوضع كما بسطنا في بحث الرواية والرواة.
قال الجوهري: لامرئ القيس بن حجر قصيدتان سمطيتان، وقد ذكر إحداهما -وهي التي سنأتي ببعضها- ولم يذكر الأخرى، وقال الصاغاني ليس هذا المسمط في شعر امرئ القيس بن حجر، ولا في شعر من يقال له امرئ القيس سواه، وأول هذا المسمط "118 ج1: العمدة".
توهمت من هند معالم أطلال ... عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصائف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر رادف
بأسحم من نوء السماكين هطال
وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيمًا على قافية اللام؛ وكأن التزام اللام في هذا المسمط استدراج للتصديق بأنه لامرئ القيس حقيقة؛ إذ يذكر بقصيدته الشهيرة التي أولها:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي(3/254)
وبين النفس في الشعرين ما بين ستين سنة قبل الهجرة ومائة وتسعين بعدها.
ولا يلتزم في التسميط هذا النوع المخمس، بل قد يجاء به على ثلاثة أقسمة، كهذا الذي يروونه لغير مسمى:
خيال هاج لي شجنا ... فبت مكابدًا حزنًا
عميد القلب مرتهنا ... بذكر اللهو والطرب
سبتني ظبية عطل ... كأن رضابها عسل
ينوه بخصرها كفل ... ثقيل روادف الحقب
وهي أربعة قطع أوردها في "تاج العروس". وربما جاءوا في مطلع القصيدة بخمسة أبيات أو أربعة على قافية واحدة، ثم يأتون بالأقسمة الأربعة بعد ذلك ويتبعونها بالقسيم الذي فيه عمود القصيدة، كنحو الذي ينسب لامرئ القيس، ولا فائدة من التمثيل لذلك؛ إذ هي قطع معدودة تتنفس قوافيها بشيء من الضعف ومرض الذوق، ولم ينسحب على أذيالها إلا المتأخرون؛ ولكنهم خصوا التخميس بما كان على خمسة أجزاء، وسموا ما كان على أربعة مربعًا، وما كان على ستة مسدسًا، وهكذا إلى الثمانية.
وقد نقل الزبيدي في "تاجه" عن أبي إسحاق أن كل ما اختلطت قوافيه فهو المخمس، فالمتأخرون إنما رتبوا الأسماء، وكان ذلك لإكثارهم من هذه الأنواع، حتى يكون كل نوع مميزًا باسمه؛ ولكنهم هجموا من ذلك على شنعة مرذولة، وهي تناولهم أشعار الناس وتخصيصها بالتشطير والتخميس؛ وما لذلك قصد الذين وضعوا هذه الأنواع، ولا هو شيء في أصل الفطرة الشعرية، ولكنها المنافسة في الصناعة جعلت النابغين منهم ينهجون هذا المنهج، ليظهروا أن فيهم فضلًا وبقية من المتقدمين، بما يزيدون في معانيهم التي ربما يكون صاحبها قد أماتها ولم يترك فيها مطمعًا، ويلمون ويشدون في ألفاظهم وتراكيبهم، من أجل ذلك كانوا لا يقصدون إلا القصائد الشهيرة المجمع على بلاغتها، والأبيات النادرة، كما فعل الصفي الحلي وغيره.
ولكن الزمن طمس على هذا الأصل، وصارت تلك الأنواع في الشعر الجيد أشبه بالزيادة في تراب الميت: لا يجدد موته ولكنه وسواس وعيث.
أما أصل التشطير فلم نقف على كمه فيه للمتقدمين، ولا نظنهم تكلموا في ذلك، إذ هو مقصور على تعلق الشاعر بكلام غيره، وذلك من صنع المتأخرين، أما المتقدمون فكانت لهم المعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قوي جريء، وهو أدل على حقيقة المقارنة والتنظير بين الكلامين -ولكنا نظن أن أصله ما يسميه العرب بالتمليط والممالطة، وذلك كالذي رواه أبو عمرو بن العلاء من أمر امرئ القيس، وكان يدل بشعره ويتعنت به على الشعراء، فلا يزال ينازع من قيل له إنه يقول الشعر، حتى نازع التوأم جد قتادة بن الحارث بن التوأم1. فقال له: إن كنت شاعرًا فملط لي أنصاف ما أقول
__________
1 في رواية العمدة لابن الرشيق "ص135 ج1" أنه التوأم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، والرواية التي أوردناها لصاحب تاج العروس، نقلها عن أبي عمرو، ونقل صاحب العمدة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو. والاختلاف بينهما عجيب كما ترى!(3/255)
فأجزها, فقال: نعم.
فقال امرؤ القيس:
أخار ترى بريقًا هبّ وهنا
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعارا
ولم يرد التشطير في شيء من المأثور عن الأدباء الذين نبغوا في الصناعات، كالصفي ومن في وزنه إلى أواخر القرن [الثاني عشر] .
والعجيب أن أصحاب البديع يعرفون التشطير البديعي، وهو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ثم يصدع كل شطر منهما، كقول أبي تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب وفي الله مرتغب
ثم لا نجد أحدًا من أصحاب الشروح والحواشي إلى الغباني الذي فرغ من حاشيته سنة 1211هـ يشير إلى هذا النوع، مع أنهم ابتدءوا يبسطون التأليف في أنواع البديع من القرن الثامن، ومع رغبة المتأخرين في الخلوص إلى المناسبات والإفاضة فيما يكتبون، وهذا قطع في أن تسمية الطريقة المعروفة في النظم بالتشطير لم تعرف إلا في القرن الثالث عشر، أما الطريقة نفسها فكانت معروفة في أواخر القرن العاشر وما بعده، ولكنهم كانوا يسمونها "التصدير والتعجيز" وأورد ابن معصوم في السلافة أشياء من ذلك، وذكر في ترجمة القاضي تاج الدين بن إبراهيم المالكي "ص133 ج2" أنه كتب تقريظًا على تصدير وتعجيز الشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة المتنبي التي مطلعها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
ومن هذا التقريظ قوله: لعمري لقد نسق ذلك التصدير، نسق التسطير، وسبك ذلك التعجيز، سبك الإبريز؛ فتراه إذا أخرج بيتًا عن معناه، تلاعب به فيما اخترعه من مبناه، وإذا طبق المعنى بالمعنى وأبقاه على أصله، أوصله إلى غاية الإعجاب بفضله ا. هـ.
فإما أن يكون المتأخرون أخذوا لفظة التشطير من النوع البديعي، أو يحتمل أن يكون بعضهم وقف على هذا التقريظ وتحرفت عليه كلمة التسطير بالتشطير، أو نبهته الأولى إلى الثانية. والله أعلم.(3/256)
ما يقرأ نظمًا ونثرًا:
ليس يخلو طبع أحد من أوزان القريض، ولا ينفك متكلم من أن يعرض له ما قد يتزن بها في الكلمة الطويلة أو الفقرة القصيرة على غير اجتلاب ولا استكراه؛ قال الجاحظ في نحو هذا ردا على من زعم أن قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} شعر لأنه في تقدير مستفعلين مفاعلين: إنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل مستفعلن مفاعلن كثيرًا، وليس أحد من الأرض يجعل ذلك المقدار شعرًا، ولو أن رجلًا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان! لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولان، فكيف يكون هذا شعرًا وصاحبه لم يقصد إلى الشعر؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام؛ وإذا جاء المقدار الذي يعلم أنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها كان ذلك شعرًا. وسمعت غلامًا لصديق لي وكان قد سقى بطنه يقول لغلمان مولاه:
"اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى! ".
وهذا الكلام يخرج وزنه فاعلاتن مفاعلن مرتين، وقد علمت أن هذا الكلام لم يخطر بباله قط أن يقول بيت شعر أبدًا.
فإذا تعمل الكاتب لمثل ذلك في بعض كلامه فأخرجه على الصناعتين، كان قد حذا على ما تقدم وقصد غير مقصود، وليس يعسر ذلك فيما يخرج منه البيت والبيتان، أما ما يكتب على أن يكون قصيدة في رسالة ورسالة في قصيدة، فهو ما لم يتفق لأحد أن يجيده على حقيقته ولا يتفق؛ لأن شرط هذا النوع أن لا يحذف من الرسالة حرف واحد، بل تقرأ كما هي على الإرسال والتقييد.
وشرط آخر: أن لا تتبين فيها ما يظهر على القصيد من إيقاع الوزن ونغم القافية وما يكون من شأنه أن يخصصها بالشعر؛ لأن هنا مقصود من حيث تنويع الصناعة لا من حيث استقلالها فهو وجه آخر للكلام، وأنت لو تناولت إحدى القصائد وجهدت أن تقلبها منثورًا على أن لا تحذف منها حرفًا ولا تقدم ولا تؤخر؛ وكانت هي في سردها ومعانيها مواتية مطاوعة؛ وهو مما يندر في الشعر، لكنت مع ذلك مغلوبًا لطبعك، ولظهر في منطقك الوزن والتقطيع، فكيفما قلبت القصيدة جاءت شعرًا خالصًا لا مظهر للنثر في جملته، ولا موضع فيها لاحتمال أن تكون من الصناعتين، ولهذا السبب كان ما ورد مما يقرأ منظومًا ومنثورًا على ما ستعرف الوجه فيه.
أقدم ما عرف من هذا النوع ما أورده ابن خلكان في ترجمة الشاعر المصري مظفر -الملقب بموفق الدين المتوفى سنة 544هـ- قال: أخبرني أحد أصحابه أن شخصًا قال له رأيت في بعض تآليف أبي العلاء المعري ما صورته "أصلحك الله وأبقاك".
وليس بعجيب أن تصح نسبة تلك الجملة إلى المعري، فإن له من هذه الغرائب أشياء، ولم نعثر على غير جملته حتى تناول هذا النوع شيخ الإسلام إسماعيل المقري فكتب رسالة إلى الملك(3/257)
الأفضل. قال عبد القادر بن محمد الحسيني الطبري من علماء القرن العاشر وممن استقبلوا القرن الحادي عشر أيضًا: اتفق لنا في بعض المجالس أن الوزير جمال الدين الحريري قرأها علينا "أي: رسالة المقري" مستعظمًا صنع الشيخ وصنيعه، مادحًا معانيه وبديعه، متحديًا الفقير وصاحبه الشيخ وجيه الدين عبد الرحمن بن عيسى بن مرشد بالإنشاء على منوالها والإتيان بمثالها.
وقد عارض الشيخان رسالة المقري مترادفين في الإنشاء [مترادفين] في العمل، والتزما في معارضتهما "السجع في النثر والكثرة في النظم؛ ولندرة هذا النوع من الكلام رأينا إثبات الرسالتين على هيئتي النثر والنظم فيهما*.
وقد ذكر الثعالبي في ترجمة بديع الزمان من "اليتيمة" أنه "يوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه؛ فيقرأ من النظم النثر ومن النثر النظم" وهو يذهب إلى أن البديع كان شعره في سهولة نثره، ونثره في جزالة شعره ومعانيه؛ فلعل المقري أو سواه ممن يكون اخترع هذا النوع قد تنبه له من هنا؛ لأن ذلك ممكن التحقيق.
ولم نعثر على شيء من بعد [هاتين الرسالتين] إلى اليوم.
__________
* قلت: ليس نص هاتين الرسالتين فيما تحت يدي من "الأصل". وكان التدبير أن أنقلهما من حيث أشار المؤلف إلى مصدرهما "ص45 عيون المسائل من أعيان الرسائل" كما فعلت في فصول سلفت ولكن لم يتهيأ لي الحصول على ذلك المصدر، فرأيت الاكتفاء بهذه الإشارة هنا.(3/258)
نوع من حل المنظوم:
حل المنظوم نوع من الإنشاء يلتزمون فيه المعنى الشعري لا يزيدون عليه شيئًا إلا ما هو من قبيله وفي سبيله، وقد يحلون الشعر بألفاظه وببعض ألفاظه وبغير ألفاظه؛ ولكن الصفي ذلك من ذلك نوعًا غريبًا لسنا نستطيع أن نزيد في شرحه وتاريخه شيئًا على هذا الذي سننقله عنه، فهو بيان له؛ وأما بعد الصفي فلم نجد الأدباء يذكرون هذا النوع ولا يستعملونه.
قال:* مما اقترحه علي الشيخ الإمام العالم القدوة المحقق الفاضل الكامل زين الدين فتى شيخ العينية الموصلي حتى وقف على بعض مقامات أنشأتها كالتوأمية.... فقال أيده الله: إن من أصنع ما أنشأه الشيخ شمس الدين معد بن نصر الجذري في مقاماته الزينية حل المنظوم الذي في المقامة الثانية، وهو أنه عمد إلى ثمانية أبيات من الحماسة فجمع حروفها وبسطها رسالته ثم أعادها وجمعها أبياتًا على الوزن والروي من غير زيادة حرف ولا نقصان حرف. فاعتذرت له بأن الوقت يضيق عن المقام إلى حين إنشائها؛ فلما رحلت من فنائه وحضرت بعض أندية الأدب جرى ذكر الإنشاء فشرحت لهم الحكاية وما اقترحه الشيخ العلامة الفاضل زين الدين المذكور رحمه الله تعالى، فقالوا جميعًا هذه صنعة كبيرة، وهي غاية في الإنشاء تحتاج إلى معرفة علم السياقة، لضبط الحروف والتصرف في إبدالها، ونحن جميعًا نقترح عليك ذلك، فإنه الغاية التي إن بلغتها لا يعجزك شيء من إنشاء المقامات، حيث قد سمعنا لك أشياء من ذلك؛ ولم أجد بدا من إجابة دعوتهم لارتفاع موانع الاعتذار؛ فقلت: قد ملكتم زمام التخير فاختاروا من الشعر ما تأمرون نثره؛ فقالوا: إن حد القصيدة سبعة أبيات؛ ولذلك سومح بعدها في الإيطاء وعد ما دونها من الأخطاء، ونحن مقتصرون على السبعة من فاتحة السبع الطوال، فقلت اسطروها ليسهل اعتبارها إذ تسبرونها، فسطروا هكذا:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنها حب فلفل
كأني غداة البين لما تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وفوفًا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتحمل
وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
قال الشيخ: فقلت لهم: هذه الأبيات قد تبين تخييرها ولا يمكن تغييرها، فاختاروا الرسالة في
__________
* قلت: نقلنا العبارة من هنا إلى آخر الفصل، من ديوان صفي الدين الحلي "ص484"، إذ لم تكن فيما تحت يدنا من الأصل.(3/259)
أي معنى وعلي أي المقاصد تبنى، فقال أحدهم: تكون في مخدوم له، آثر بعدي ومطل وعدي. والمعنى تعتب وأذكرني سالف ذنب، وأوثر أن تخطب وده وتستنجز وعده، فكتبت:
"الكريم مرتجى؛ وإن كان بابه مرتجا؛ والندب يلتقى وإن كان بأسه يتقى؛ والسحب تؤمل بوارقها وإن رهبت صواعقها. ولحلم سيدنا أعظم من العتب بسالف ذنب، فماحي شرف الله بلثم كفوفها أفواه العباد، يغفر الخصية، ويوفر العطية. والمملوك مقر عرف أنه رب حق، بل مالك رق؛ ومقتضى من جوده العميم، نجاز وعده الكريم، بسالف كرمه المقيم؛ لا برح إحسانه شاملًا مدى السنين, إن الله يحب المحسنين".
فلما سطروها ونظروها، وعدوا حروفها واعتبروها، فرأوها وما قبلها كفّتي ميزان، عرية من الزيادة والنقصان، سألوا أن أجعل ربعها مأهولًا، وأعيدها سيرتها الأولى، فأجبت إلى ما طلبوا، وأمليت وكتبوا:
قفا نبك من أطلال ليلى فنسأل ... دوارسها عن ركبها المتحمل
وننشد من أدراسها كل معلم ... محاه هبوب الراسيات ومجهل
ونأخذ عن أترابها من ترابها ... صحيح مقال كالجمان المفصل
معاني هوى أقوى بها دأب بينهم ... كدأبي من تبريح قلب مقلقل
عفت غير سبع من رواكد جثم ... تحف بشفع من رواكض جفل
ورسم أواري بحبل مديدها ... لملي سقاه حول نؤدي معطل
فرفقًا بها رفقًا وإن هي لم تبح ... بلفظ ولا تأوي لسائل منزل(3/260)
ما لا يستحيل بالانعكاس:
هذه تسمية الحريري لهذا النوع، ويسميه غيره المقلوب، والمستوي؛ وهو ما يقرأ طردًا وعكسًا على وجه واحد، وقد ورد منه في القرآن الكريم {كُلٌّ فِي فَلَك} {وَرَبَّكَ فَكَبِّر} ولكن الحريري تصنع له في المقامة السادسة عشرة حتى أوصله إلى السمط السباعي، فجاء به معقدًا وأخرجه عن شرط الأدب إلى شرط الصنعة، وذلك قوله: "لذ بكل مؤمن إذا لم وملك بذل".
قال ابن حجة الحموي -وقد أورد هذه الكلمات ونفث في عقدها: "وذكروا أن العلامة القاضي فتح الدين بن الشهيد صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس وصل في تركيب هذا النوع إلى أكثر من هذه العدة، وأن المولى محمد بن البارزي الجهني صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك المحروسة الإسلامية وقف على ما نثره القاضي فتح الدين المشار إليه في هذا النوع قبل تيمورلنك وذكر أنه في غاية العقادة" وأبلغ ما جاء من هذا النوع في الشعر قول القاضي الأرجاني:
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟
ومن المستملح قول العماد الكاتب وقد مر على القاضي الفاضل راكبًا: "سر فلا كبا بك الفرس" فأجابه الفاضل على الفور وقد فطن لقصده: "دام علا العماد" وهي بديهة عجيبة إذ لم يكونا قد فكرا فيها قبل ذلك. وقد نظم الحريري في مقامته تلك أبياتًا خمسة يقول في أولها:
أسى أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
فغاية أهل هذه الصناعة بأنه "هرب إلى أبو القصير من العروض" ولذلك نظم الصفي أبياته التي أولها:
أنث ثناء ناضرًا لك إنه ... هنا كل أرض أن أنث ثناء
وكأن الشعر كله خلا إلا من بيت الأرجاني، فهو في هذه الصناعة الشعر كله.
وطبيعة اللغة قابلة لهذا النوع ولكن بمقدار، فإنك تجد في مفرداتها منه أشياء، كلفظ: باب وسلس وتحت، وأمثالها؛ ثم تراه يتألف غير مقصود إليه بمقدار أيضًا، كقولك: أرض خضرا، وهزم حمزة، ويلعب علي، وحمار رامح؛ وأمثال ذلك مما لا يكبر على العامة أن يجيئوا به، ولكن الفرق بينهم وبين الخاصة أنه في كرمهم صواب موجود غير مقصود، وفي أكثر ما يتكلف له الخاصة صواب مقصود غير موجود!(3/261)
الملاحن:
هي من اللحن الذي هو التعريض والإيماء، تقول: لحنت له لحنًا إذا قلت له قولًا يفهمه ويخفى على غيره؛ لأنك تميله بالتورية أو التعمية عن الواضح المفهوم، وملاحنة الرجلين مفاطنة أحدهما للآخر باستخراج فحوى قوله وما في نيته وضميره، وهو يشبه في اللغات الأوروبية ما يسمونه بالكتابة الخفية أو الكتابة السرية، وهو فن عندهم قديم، غير أن العرب لم يعرفوه إلا في القول والإشارة، فكانوا يتكلمون في ذلك بما يؤخذ على الرمز كما سيجيء فضلًا عن أن في لغتهم ألفاظًا تحتمل هذا النوع لدلالة اللفظ على معنيين، كأن تقول ما رأيته، أي: ما ضربت رئته، وما كلمته أي: ما جرحته، وهكذا؛ وقد ورد بعضها في القرآن، كالضحك بمعنى الحيض؛ وألف ابن دريد في هذه الألفاظ كتابًا سماه "الملاحن"، قال فيه: هذا كتاب ألفناه ليفزع إليه المجبر المضطهد على اليمين المكره عليها، فيعارض بما رسمناه ويضمر خلاف ما يظهر ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم.
وللفقهاء كلف بهذه الألفاظ، إذ تفتح لهم أبوابًا كثيرة مما يعرفونه بالحيل الشرعية، ولهم فيها ألغاز ومطارحات لا محل لبسطها هنا، وأهل اللغة يسمونها: فتيا فنية العرب، أو طبيب العرب، أو مساجع العرب، وعليها بنى الحريري المقامة الثانية والثلاثين.
ومما ورد عن العرب من لحن القول ما رواه القالي في "أماليه" عن ابن الأعرابي قال: أسرت طيئ رجلًا شابا من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا به عطية لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيئ لا أزيدكم على ما أعطيكم! ثم انصرف. فقال الأب للعم: لقد ألقيت إلى ابني كليمة لئن كان فيه خير لينجون، فما لبث أن نجا واضطرد قطعة من إبلهم فكان أباه قال له: الزم الفرقدين على جبلي طيئ فإنهما طالعان عليهما، وهما -أي: هو وعمه- لا يغيبان عنه.
ويروون من مثل هذا أخبارًا معدودة لا تدل على شيوعه فيهم ولا تواطؤهم عليه مما يقرب أن يكون به شبه علم عندهم كما فعل المتأخرون في اشتقاق المعمى منه, على ما ستعرفه.
وأما مثل الإشارة من ذلك فما حكاه المدائني من أن رجلًا مر بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطبًا من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها وذهب.
فنظر الأحوص والقوم في أمره فعي به، فقال: أرسلوا في قيس بن زهير1، فجاء، فقال له الأحوص: ألم تخبرني أنه لا يرد عليك أمر إلا عرفت مأتاه ما لم تر نواصي الخيل؟ قال: فما الخبر؟
__________
1 هو قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين داحس والغبراء. كان فارسًا شاعرًا داهيًا، يضرب به المثل فيقال: أدعى من قيس.(3/262)
فأعملوه، فقال: وضح الصبح لذي عينين، "فصار مثلًا يضرب في وضوح الشيء" ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا ينذركم فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنه قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فإنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فإنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوًا أو حامضًا، فاستعد الأحوص. وورد الجيش كما ذكر قيس!
هذا عند العرب في جاهليتها، وأما بعد الإسلام فكان مثل هذا قليلًا، كالذي روي من أن معاوية بن أبي سفيان مازح الأحنف بن قيس، فما رؤي مازحان أوقر منهما، فقال له: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر1:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
"انظر ص100 ج1: الكامل للمبرد؛ في حب بني تميم للطعام" والملفف في البجاد وطب اللبن؛ وأراد الأحنف أن قريشًا كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان. وكان معاوية قرشيا والأحنف تميميا.
ومثل هذا ما أورده الجاحظ في كتاب "البيان" "ص214 ج1": دخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن زيد الهلالي وهو عامل على أرمينية وقد بات في موضع غدير قريب منه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها! قال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلت برقعًا لها فهي في ابتغائه! أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
[ثم] فشت صنعة المعمى فتلاحنوا بالإشارة والتصحيف وغيرهما, كما ذكر.
ودخل أبو القاسم القطان على الوزير الزينبي يهنيه بالوزارة، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص؛ فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ، إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته.
__________
1 تروى هذه الأبيات ليزيد بن عمرو بن الصعق، وذكر الجاحظ أنها لأبي الجاحظ المهوش الأسدي، وفي شرح الكامل: ذكر ابن حبيب أنها لأبي المهوش الفقعسي، وذكر دعبل أنها لأبي الهوس الأسدي. ولتعيير قريش بالسخينة وتميم بحب الطعام وشدة الشره, لكل ذلك أسباب ليس هذا موضع إيرادها "ص141ج2: الخزانة الكبرى".(3/263)
ولما فشت صنعة المعمى تلاحنوا ببعض أنواعها، ومن ذلك ما ذكره المقري صاحب "نفح الطيب" في الملاحنة بالتصحيف، من أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها وتكلمت بغير حياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس، والجيارين الذين يصنعون الجير بأشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال: يابن عمار، الجيارين! ففطن إلى مراده وقال في الحال: يا مولاي، والجباسين! فتحير الحاضرون في ذلك، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية! وذلك أن المعتمد صحف "الحيا: زين" بقوله الجيارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان عندها حياء لازدانت؛ فقال له: والجباسين، يريد به على التصحيف "والخنا: شين" أي: هي وإن كانت جميلة لكن الخنا شانها.
والغاية التي لا يلحق شأوها ما حكاه بعض أهل البديع في مبحث التصحيف عن بعض ملوك المغرب أنه طلب بنت أحد وزرائه فأبى ذلك، فأحضره الملك في ديوانه فقال له: أندلسي، يعني "أبذل شيء" فقال الوزير: أندلسي! يعني "أبذل بيتي"، فقال الملك: أندلسي، يعني "أبذل شيء" أي: إن البيت أحقر شيء. فقال الوزير: أندلسي، يعني "أبذل بنتي" فقال الملك: أندلسي، يعني "أبدل نيتي" أي: أرجع عن نيتي لعزلك وظلمك!.
ويقال إنها حكاية مخترعة. ذكر ذلك الصفي في ديوانه. ولكن اللحن الكتابي قليل في المروي عنهم، وهو على غير قاعدة ولا تواطؤ بين المتلاحنين، ولذلك لم يعد أن يكون كالملفوظ به، [ومنه] ما روي عن الصاحب أن أديبًا رفع إليه كتابًا يطلب عملًا وفي آخره: إن رأى مولانا فعل إن شاء الله!
فرد إليه الكتاب، وتواتر الخبر بحصول التوقيع فيه، ولكن الرجل أقبل عليه يراجعه فلم ير فيه توقيعًا حتى عرضه على أبي العباس الضبي فتفقد أحرفه حتى ظفر بألف وقع بها الصاحب عند قوله: "فعل إن شاء الله" فكانت بعد التوقيع "أفعل ... " ونحو ذلك: إن الملأ يأتمرون بك.
وقد بسطنا جانبًا من الكلام في هذا توطئة للبحث في الألغاز والمعمى؛ لأنهما بسبيله؛ ولأن الملاحن في هذه اللغة قليلة حتى إن ما لم نذكره منها لا يزيد على ما ذكرنا فيما نعلم، وبعضه يكاد يظهر أنه مصنوع، كهذا الخبر الذي يقولون فيه إن بعض الملوك عزم على قصد عدو له، فقدم ربيئة يتجسس أحواله، فلما صار إلى أرض العدو، شعروا به فقبضوا عليه وأمروه أن يكتب لصاحبه كتابًا يذكر له أن وجد القوم ضعفاء ويطمعه فيهم ويزين له غزوهم، فكتب:
"أما بعد فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف أحوالهم وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم، وقد كنت أعهد من أخلاق الملك المهلة في الأمور والنظر في العاقبة، ولكن ليس هذا وقت النظر في العاقبة، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، وقد رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك: نصحت فدع ريبك ودع مهلك والسلام".
فلما انتهى الكتاب إلى الملك قرأه على رجاله فقويت قلوبهم وصحت عزائمهم على الخروج، ثم إن الملك خلا بخاصته من الكبراء وأهل الرأي، وقال: أريد أن تتأملوا هذا الكتاب، فإني شعرت منه بأمر، وإني غير سائر حتى أنظر في أمري. فقال بعضهم: ما الذي لحظ الملك في الكتاب؟ قال: إن(3/264)
فلانًا من الرجال ذوي الحصافة والرأي، وقد أنكرت ظاهر لفظه فتأملت فحواه فوجدت في باطنه خلاف ما يوهم الظاهر، وذلك في قوله: "أصبحت مستريحًا من السعي" فيريد أنه محبوس، وقوله: "استضعفتهم بالنسبة إليكم" يريد أنهم ضعفنا لكثرتهم، وقوله: "إنكم الفئة الغالبة بإذن الله" يشير إلى قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وقوله: "رأيت من أحوال القوم ما يطيب به "قلب" الملك" فإني تأملت ما بعده فوجدت أنه يريد بالقلب: العكس؛ لأن الجملة الآتية مما يوهم ذلك، فقلبت الجملة وهي قوله: "نصحت فدع ريبك ودع مهلك" فإذا مقلوبها "كلهم عدو كبير. عد فتحصن" ا. هـ.(3/265)
الألغاز والأحاجي والمعميات وغيرها:
الألغاز:
هي جمع لغز، وأصله الحفرة الملتوية يحفرها اليربوع والضب والفأر؛ لأن هذه الدواب تحفر جحرها مستقيمًا إلى أسفل ثم تحفر في جانب منه طريقًا وفي الجانب الآخر طريقًا، وكذلك في الجانب الثالث والرابع، فإذا طلب بعضها البدوي بعصاه من جانب نفق من الجانب الآخر؛ ثم استعملوه في الإتيان بالعبارة يدل ظاهرها على غير الموصوف بها ويدل باطنها عليه، وهي من قبيل الملاحن، وتشارك المعمى والأحاجي أيضًا من حيث التعمية في جميعها وإيرادها على ذلك الوجه المقصود؛ إلا أن بينها فروقًا في الاعتبار والاصطلاح عند المتأخرين، كما تعرف ذلك فيما نسوقه منها وما نذكره من تاريخها.
أما الألغاز فقد قال فيها السيوطي: هي أنواع؛ ألغاز قصدتها العرب، وألغاز قصدتها أئمة اللغة، وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازًا. وهي نوعان: فإنها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع، وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا، وكذلك ألف غيره؛ وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني؛ لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وهلة؛ وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب.
ثم أورد أمثلة من ذلك، كالذي أنشده ابن سلام في كتاب "الأضداد" لأبي دؤاد الإيادي:
رب كلب رأيته في وثاق ... جعل الكلب للأمر جمالا
رب ثور رأيت في جحر نمل ... وقطاة تحمل الأثقالا
والكلب: الحلقة التي تكون في السيف، والثور: ذكر النمل، والقطاة [....] .
وكالذي أنشده الخليل لأبي مقدام الخزاعي:
وعجوز أتت تبيع دجاجا ... لم يفرخن قد رأيت عضالا
ثم عاد الدجاج من عجب الدهـ ... ـر فراريج صبية أطفالا
وقال: يعني دجاجة الغزل، وهي الكبة أو ما يخرج عن المغزل، ويعني بالفراريج: الأقبية.
وكقول بعضهم من أبيات المعاني يصف نار القِرى:
وشعثاء غبراء الفروع منيفة ... بها توصف الحسناء أو هي أجمل
دعوت بها أبناء ليل كأنهم ... وقد أبصروها معطشون قد أنهلوا1
__________
1 من أبلغ ما قيل في وصف هذه النار وهو قريب مما نحن فيه، قول الفرزدق:
ومستمنح طاوي المصير كأنما ... يساوره من شدة الجوع أولق
دعوت بحمراء الفروع كأنها ... ذرا راية في جانب الجو تخفق
وإني سفيه النار للمبتغي القرى ... وإني حليم الكلب للضيف يطرق
وكان الجاحظ يكثر التعجب والاستحسان من قوله: سفيه النار وحليم الكلب.(3/266)
أنشدهما أبو عثمان الأشنانداني وقال: يصف نارًا جعلها شعثاء لتفرق أعاليها، كأنها شعثاء الرأس، وغبراء يعني غبرة الدخان، وقوله: بها توصف الحسناء، فإن العرب تصف الجارية فتقول: كأنها شعلة نار! وقوله: دعوت بها أبناء ليل، يعني أضيافًا دعاهم بضوئها فلما رأوها كأنهم من السرور بها معطشون قد أوردوا إبلهم.
وكذلك أورد [السيوطي] مما وقع به الإلغاز من حيث اللفظ والتركيب والإعراب كقول بعضهم:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
ومعناه: أقول لعبد الله لما سقاؤنا وهى، أي: ضعف، ونحن بهذا الوادي: شِمْ، أي: شم البرق عسى يعقبه المطر، وقرينة هاشم لعبد شمس أبعدت فهم المرد، وكتب "وها" بالألف للإلغاز.
ثم قال: وأما إلغاز أئمة اللغة فالأصل فيه ما قال أبو الطيب في كتاب "مراتب النحويين" عن الخيل، قال: رأيت أعرابيا يسأل أعرابيا عن البلصوص ما هو؟ فقال: طائر، قال: فكيف تجمع؟ قال: البلنصى، قال الخليل: فلو ألغز رجل فقال: ما البلصوص يتبع البلنصى كان لغزًا.
وأورد السيوطي من هذا النوع قصيدة ضمنها أبو منصور بن الربيع ألفاظًا من غريب اللغة وأحضرها أبا أسامة اللغوي حين نزل بمدينة واسط على جهة الامتحان لمعرفته، فكتب المسئول جوابها لوقته مقتضبًا، وهو جواب مطول يدل على اتساع في الحفظ والرواية. وقد وقفت على قصيدة مثلها أوردها الصلاح الكتبي في "فوات الوفيات" لضياء الدين القوصي المتوفى سنة 599هـ وقال إنه وسمها باللؤلؤة المكنونة واليتيمة المصونة في الأسماء المنكرة، ثم ذكر أن شهاب الدين القوصي سرد شرحها في معجمه عقب كل بيت، وهي قصيدة منكرة بما تحوي من اللفظ المنكر.
وقد ورد عن العرب الإلغاز بطريقة السؤال والجواب على النحو الذي ذهب إليه المتأخرون، مثل ما ذكره علي بن ظافر في كتابه "بدائع البدائه"، وهو أن عبيد بن الأبصر لقي امرؤ القيس فقال له: كيف معرفتك بالأوابد؟ قال: ألق ما أحببت، فقال عبيد:
ما حبة ميتة أحيت بميتتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فأجابه:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
إلى آخر المحاورة في كتاب البدائع، وصفحة 58 من كتاب "المعمى".
وقد ابتدأ ولع المتأخرين بهذه الألغاز من القرن السابع -وكانت المحاجة بها قبل ذلك قليلة- وذهبوا فيها كل مذهب، حتى إن أبا الحسن بن الجياب المتوفى سنة 749هـ رئيس كتاب الأندلس وأستاذ لسان الدين بن الخطيب قد أفرد لها في ديوان شعره بابًا جاء فيه بأشياء بديعة؛ ولعل هذا الباب(3/267)
من الشعر الذي سماه ابن أبي الأصبغ في كتابه "تحرير التحبير" عندما عد المناحي التي يقول فيها الشعراء، باب السؤال والجواب؛ وبلغ من ولعهم بها أنها كانت ترد على دواوين الإنشاء من الأقطار؛ وكانوا يجرون فيها على طريقة العرب، ويزيدون على ذلك الإشارة إلى الملغز به بالتصحيف والقلب والحذف والتبديل وما أشبهها مما هو من صناعة المعمى، وجملوها بالتورية فزادوها إبداعًا حتى صارت من زينة الشعر، كقول بعضهم في القلم:
وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جاري
مواظب "الخمس" لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري
وقول القاضي صدر الدين بن الآدمي في كشتوان "كستبان":
ما رفيق وصاحب لك تلقا ... هـ معينًا على بلوغ المرام
هو للعين واضح وجلي ... وتراه في غاية "الإبهام"
والأمثلة من أنواع الألغاز كثيرة في كتب الأدب، ولكن من أبعدها غاية وأبدعها آية لغز الشيخ زين بن العجمي وقد كتبه نثرًا، وهو قوله:
سألتك أعزك الله عن سائل لاحظ له في الصدقة..
إلخ "صفحة 485 خزانة الأدب".
ومن الألغاز نوع عجيب، وهو أن تلغز في اسم ويأتي في اللغز بما يطابق صورة أحرفه في الرسم من الأشياء، وهو نادر جدا في المأثور عنهم؛ ومنه أن الوليد الوقشي وأبا مروان بن عبد الملك بن سراج القرطبي اجتمعا، وكانا فريدي عصرهما.... إلخ "ص120: المعمى والألغاز".
أما ألغاز النحاة والفقهاء وأهل الفرائض ومن ينتحلون الحكم والفلسفة فأكثرها مشهور ولا حاجة إلى البحث فيها؛ لأن الفن أغلب عليها، ولسنا في ذلك؛ غير أنا نذكر عجيبة منه لم يتفق مثلها فيما وقفنا عليه من ذلك عينًا أو أثرًا، وتلك أن المولى شمس الدين الغفاري من علماء دولة السلطان بايزيد في القرن الثامن وقفوا له على رسالة ضمنها عشرين قطعة منظومة، كل قطعة منها مسألة من فن مستقل، وقد غير فيها أسماء تلك الفنون بطريق الإلغاز امتحانًا لفضلاء دهره، ولم يقدروا على تعيين فنونها فضلًا عن حل مسائلها. قال صاحب "الشقائق النعمانية": وشرح هذه الرسالة ابنه محمد شاه وعين أسماء الفنون وبين المناسبة فيما ذكره من الألغاز وحل مشكلات مسائلها. ووجه العجب في ذلك مسفر فانظروا فيه.....(3/268)
الأحاجي:
هي جمع أحجية، وهي اسم من المحاجاة، ويقال لها أدعية من المداعاة.
قال في "الصحاح" ويقال: حجيك ما كذا وكذا؟ وهي لعبة وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم، قال أبو عبيد: هو نحو قولهم: أخرج ما في يدي ولك كذا؛ وتقول أيضًا: أنا حجيك في هذا الأمر، أي: من يحاجيك. وقال في "تاج العروس": واحتجى: أصاب ما حوجي به، وقال:
فناصيتي وراحلتي ورحلي ... ونسعا ناقتي لمن احتجاها
فالأحاجي على ذلك تشبه الأغاليط التي يسميها عامة مصر "بالفوازير" وهي بهذا المعنى أعم من الألغاز، وإن كان الأصل في كلها واحدا.
وهذه الأحاجي غريزية في الفطرة على ما يظهر لي، فإن الطفل الذي هو دليل الطبيعة الأولى في الإنسان يسأل عن أشياء كثيرة بوصفها والإشارة إليها، فإذا سئل هو بمثل ذلك كانت عنده أحاجي، ومما يؤيد ذلك ورود بعض الأحاجي في أسفار العهد [القديم] كسفر القضاة، وشيء مما يماثلها في الخرافات القديمة أيضًا "الميثولوجيا" ويكون تقرير هذه المعاني وإخراجها مخرج الموضوعات النفسية مما عمله الحكماء ملحقًا بالنرد والشطرنج وأمثالهما.
وأقدم ما وصل إلينا من أحاجي العرب نوع كان يستعمل في اختبار البداهة وقوة العارضة، فيلقي السائل الكلمة المفردة والمسئول يتمها في كل مرة حتى يحتبس لسانه أو يكل بيانه، كهذا الذي نقلوه عن هند بنت الخس وهي قديمة في الجاهلية أدركت المتلمس أحد حكام العرب الذي يقال إنه أول من وصل الوصيلة وسيب السائبة, وهي امرأة ساجعة متبذلة كانت تحاجي الرجال، إلى أن مر بها رجل فسألته المحاجاة؛ فقال: كاد.... فقالت: كاد العروس يكون الأمير، فقال: كاد.... قالت: كاد المنتعل يكون راكبًا، فقال: كاد ... قالت: كاد البخيل يكون كلبًا، وانصرف، فقالت له: أحاجيك، فقال: قولي، قالت: عجبت ... قال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت ... قال: عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها ... ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة.
ولكن الحريري المتوفى سنة 516هـ وضع نوعًا من المعمى استعار له اسم الأحجية، وهو أول من اخترعه وسماه كذلك، وقد نظم منه في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية، وقال: وضع الأحجية لامتحان الألمعية، واستخراج الخبية الخفية، وشرطها أن تون ذات مماثلة حقيقية وألفاظ معنوية ولطيفة أدبية فمتى نافت هذا النمط ضاهت السقط ولم تدخل السفط ا. هـ.
وذلك النوع كلام مركب يستخرج منه لفظ بسيط لو جزئ انقسم إلى ما يعادل ذلك المركب في أجزائه ويرادفها في المعنى، كقوله في أسكوب1:
يا من تبوأ ذروة ... في الفضل فاقت كل ذروه
ما مثل قولك أعط إبريـ ... ـقًا يلوح بغير عروه
لأن "أعط" يرادفها "أس" من الأوس [وهو الإعطاء] والإبريق بغير عروة يرادفه الكوب.
وقوله أبي الوفاء العرضي في صهباء:
يا مفردًا فيما جمع ... وكاملًا فيما ابتدع
بين لنا أحجية ... حاصلها أسكت رجع
وقد فلا المتأخرون مركبات اللغة التي يستخرج منها مثل هذه الألفاظ وجمعوا من ذلك كلمات
__________
1 قلت: الأسكوب: الإسكاف، أو القين.(3/269)
كثيرة، كقولهم: اطلب طريقًا، في "سلسبيل"؛ وتراب مطر، في "البراغيث" لأن البرى هو التراب، وقد أخذ بعض المعاصرين هذه الكلمة وجعلها هكذا "ابن عاجب أمطرا" يريد: البراء ابن عاجب، وهو صحابي.
[واقتفار] الأحاجي ما عرفت من هذا النمط خروج بها عما ليس له حد إلى ما يحد، وبذلك تعسفوا بها في هذه [البواد] وركبوا من أمرها كما رأيت القور بعد الجواد.
وقد ذكر عبد القادر البغدادي صاحب "خزانة الأدب" أن أجل التصانيف المؤلفة في الألغاز والأحاجي كتاب "الإعجاز في الأحاجي والألغاز"، تأليف أبي المعالي سعد الوراق الخطيري، قال: وهو كتاب تكل عن وصفه الألسن، جمع فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ا. هـ.(3/270)
المعمى:
قدمنا أن هذا الفن هو الأصل من حيث الصنعة، وأن الملاحن والألغاز والأحاجي هي منه، بعضها أعان عليه، وبعضه أعان عليها؛ ونحن موردون هنا قولًا يشمل الجميع توفية للفائدة، وإنما الاتساع مادة الإشباع.
نقل البغدادي في "خزانة الأدب" عن صاحب "الإعجاز في الأحاجي والألغاز" في ذكر أسماء هذا الفن وعودها إلى معنى واحد، أن هذا الفن وأشباهه يسمى المعاياة، والعويص، واللغز، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعاني، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية، والتعريض، والإشارة، والتوجيه، والمعمى، والممثل, والمعنى في الجميع واحد، وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته؛ فإنك إذا اعتبرته من حيث هو مغطى عنك سميته معمى، مأخوذ من لفظ العمى، وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول، وكل شيء تغطى عنك فهو عمي عليك، وإذا اعتبرته من حيث إنه ستر عنك ورمس سميته مرموسًا، مأخوذ من الرمس، وهو القبر، كأنه قبر ودفن ليخفى مكانه على ملتمسه؛ وقد صنف بعض الناس في هذا كتابًا وسماه "المرموس"، وأكثره ركيك عامي، وإذا اعتبرته من حيث إن معناه يؤول إليك سميته التأويل ... إلخ "ص116 ج3: خزانة الأدب الكبرى".
وقد ذكر جمال الدين بن نباتة في "سرح العيون"، المتوفى سنة 768هـ أن المعمى سمي في عصره: المترجم، وأن الخليل واضع العروض هو أول من استخرجه ونظر فيه، قال: وذلك أن بعض اليونان كتب بلغتهم كتابًا إلى الخليل فخلا به شهرًا حتى فهمه، فقيل له في ذلك فقال: علمت أنه لا بد وأن يفتتح باسم الله تعالى، فبنيت على ذلك وقست وجعلته أصلًا ففتحته، ثم وضعت كتاب "المعمى" ا. هـ.
وهو خبر لا نراه محتملًا إلا أن يكون ذلك اليوناني مستعربًا وافتتح كتابه حقيقة باسم الله على الطريقة العربية، فلا يبقى ثمت إلا أن نؤاتي الفطنة ويسعف الإلهام. ونظير ذلك ما فعله شامبليون في قراءة الخط الهيروغليفي الذي كان على حجر رشيد بعد أن اعتمد ترجمة اليوناني في المقابلة، وكان ذلك مبدأ لما بعده إلى اليوم.(3/270)
واستمر فن المعمى بعد الخليل أمثلة متفرقة لا تفرد بالتدوين، ولا تتشعب في المعالجة؛ حتى كان الجاحظ يقول: ليس المعمى بشيء؛ قد كان كيسان مستملي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع ويقرأ خلاف ما يكتب، وكان أعلم الناس باستخراج المعمى؛ وكان النظام على قدرته على أصناف العلوم لا يقدر على استخراج أخف ما يكون من المعمى.
وفي كلمة الجاحظ تحامل بيّن علي الخليل، وما كان النظام وهو ما هو ليتفرغ لشيء كالمعمى حتى يكون عجزه حطا من الفن؛ ولا شك أن النظام كان عن سائر الفنون التي لم يزاولها أعجز منه عن المعمى.
وتجد شيئًا من تلك الأمثلة المتفرقة في "يتيمة الدهر" للثعالبي، وقد ذكر في ترجمة أبي أحمد بن أبي بكر الكاتب، أن أبا طلحة قسورة بن محمد كان من أولع الناس بالتصحيفات، فقال له أبو أحمد يومًا: إن أخرجت مصحفًا أسألك عنه وصلتك بمائة دينار، قال: أرجو أن لا أقصر عن إخراجه، فقال أبو أحمد "في قشور هينم جمد" فوقف حمار قسورة وتبلد طبعه، فقال: إن رأى الشيخ أن يمهلني يومًا فعل؛ فقال: أمهلتك سنة؛ فحال الحول ولم يقطع شعرة؛ فقال له أبو أحمد: هو اسمك: قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه.....
وبهذا تتبين أن المعمى لم يكن قد بلغ شيئًا مما انتهى إليه عند المتأخرين، وأن المعروفين به كانوا على قلتهم إنما يعرفون بفرط الرغبة وشدة الولوع، لا كما يعرف المتميز بالفن على وجه الإحاطة به والاختصاص فيه.
وما زال ذلك أمره حتى وقع إلى الأعاجم فدونوه واستنبطوا قواعده، وأنزلوه في رتبة بين الفنون والعلوم؛ وأول من فعل ذلك منهم شرف الدين علي اليزدي الفارسي صاحب "تاريخ ظفر نامه" في الفتوحات التيمورية، وقد أطلقوا عليه لقب الواضع له، وتوفي سنة 830هـ -قال قطب الدين المكي: وما زال فضلاء العجم يقتفون أثره ويوسعون دائرة الفن ويتعمقون فيه إلى أن ألف فيه المولى نور الدين عبد الرحمن الجامي المتوفى سنة 897هـ صاحب "شرح الكافية" عشر مسائل؛ فدونت وشرحت، وكثر فيها التصنيف إلى أن نبغ في عصره المولى مير حسين النيسابوري المتوفى سنة 912هـ فأتى فيه بالسحر الحلال وفاق في تعمقه ودقة نظره سائر الأقران والأمثال؛ كتب فيه رسالة تكاد تبلغ حد الإعجاز..... وارتفع شأن مير حسين بسبب علم المعمى مع تعمقه في سائر العقليات، فصار ملوك خراسان وأعيانهم يرسلون أولادهم إليه ليقرءوا رسالته عليه..... وظهر بعدهما فائقون في المعمى في كل قطر بحيث لو جمعت تراجمهم لزادت على مجلد كبير.
وقطب الدين المومأ إليه هو أول من ترجم طريقة المعمى عن الفارسية إلى العربية في رسالة سماها "كنز الأسما في كشف المعمى"؛ وتلاه تلميذه عبد المعين بن أحمد الشهير بابن البكاء البلخي، فألف رسالة سماها "الطراز الأسمى على كنز الأسما".
وحد المعمى أنه قول يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء بحيث يقبله الذوق السليم، ويشترط فيه أن يكون له في نفسه معنى وراء المعنى المقصود بالتعمية، وقال القطب في الفرق بينه(3/271)
وبين اللغز: إن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفات له تميزه عما عداه كان ذلك لغزًا، وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظًا بدلالة مرموزه سمي ذلك معمى؛ فالكلام الدال على بعض الأسماء يكون معنى من حيث إن مدلوله اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه، ولغزًا من حيث إن مدلوله ذات من الذوات بملاحظة أوصافها؛ فعلى هذا يكون قول القائل في كمون:
يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومكا
تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومكا
يصلح أن يكون لغزًا بملاحظة دلالته على صفات الكمون، ويصلح أن يكون في اصطلاحهم معمى باعتبار دلالته على اسمه بطريق الرمز ا. هـ.
ولاستخراج المعمى أعمال مدونة لا تتعلق بالجهة التاريخية منه ولا بالجهة العلمية، ولكنها تتعلق بالجهة العملية، وإذا أخذنا في بسطها احتجنا أن نأتي بتأليف جديد في هذا الفن؛ وهو ما لا يتسع له الغرض إلا إذا أحفينا في الطلب، ولسنا نستطيع أن نحمل القلم على هذه السنة في سائر الفنون من علم الأدب.(3/272)
وبين اللغز: إن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفات له تميزه عما عداه كان ذلك لغزًا، وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظًا بدلالة مرموزه سمي ذلك معمى؛ فالكلام الدال على بعض الأسماء يكون معنى من حيث إن مدلوله اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه، ولغزًا من حيث إن مدلوله ذات من الذوات بملاحظة أوصافها؛ فعلى هذا يكون قول القائل في كمون:
يا أيها العطار أعرب لنا
عن اسم شيء قل في سومكا
البنود والمستزاد:
هي جمع "بند" فارسية معربة، وقد ذكر في التاج أنها تطلق على الألغاز والمعميات، على أن المراد بها هنا هذا النوع من السجع الذي بنيت جمله على التوقيع وقسمت إلى أجزاء قصيرة من العروض تنتظم أوزانًا مختلفة فتكسبها شبهًا من الشعر وهي ليست منه.
وتلك صناعة في النثر لا يعرف مخترعها، وكأن الكلام كله لا يخلو من بعض جمل تتفق مع هذا النوع اتفاقًا قريبًا أو بعيدًا، ولا سيما بعض أسجاع العرب، وأنت تعرف ذلك إذا تتبعت واستقصيت.
ولا جرم أن كلمة البند المطلقة على هذه الصناعة تدل على واحد من أمرين: إما أنها ملحقة في أصلها بالألغاز والمعميات، وإما أنها من صنعة أحد أدباء العجم، سواء احتذاها على مثال أو ابتدأها؛ وهذا أرجح الرأيين؛ لأنه لم يعرف من هذه الطريقة شيء قبل البنود الخمسة التي رصفها الشاعر المعروف بابن معتوق المتوفى سنة 1087هـ وهي ملحقة بديوانه، وقد جعل الأول في وصف الآيات السماوية، والثاني في وصف الآيات الأرضية، والثالث يتخلص فيه إلى ذكر نعمة إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ثم ينتهي في الرابع والخامس إلى مدح شخص مسمى، وهذه المعاني كما ترى من أغراض الشعر؛ فهي دليل على حقيقة الصنعة. ومن البند الأول قوله:
أيها الراقد في الظلمة، نبه طرف الفكرة، من رقدة الغفلة، وانظر أثر القدرة، وأجل غلس الحيرة، في فجر سنى الخبرة، وارن إلى الفلك الأطلس والعرش، وما فيه من النقش، وهذا الأفق الأدكن، في ذا الصنع المتقن، والسبع السموات؛ ففي ذلك آيات، هدى تكشف عن صحة إثبات إله، كشفت قدرته عن غرر الصبح، وأرخت طرر النجح على نحر ضياه، فغدا يغسل من مبسمه الأشنب، في مضمضمتي نور سناه، لعس الغيهب، واستبدلت الظلمة من عنبرها الأسود بالأشهب،(3/272)
واعتاضت من مفرقها الحالك بالأشيب.
ومما يعجب له أن ابن معتوق ختم جميع بنوده الخمسة بالراء المفتوحة، ولم يلتزم فيها غير ذلك مما يطرد في الجميع، فكان ختام الأول "سرا وجهارًا" والثاني "مساء ونهارًا" والثالث "بهارًا ونضارًا" والرابع "عذارًا" والخامس "مزارًا" وقد خفي علينا وجه الحكمة في ذلك، إلا أن يكون من مقتضيات التوقيع، فتكون تلك القوافي قرارات للنغم.
ولم يضرب على قالب ابن معتوق إلا القليل، كالأديب المسمى ابن خلفة البغدادي، وهو من أدباء القرن الثاني عشر، فقد عثر له بعضهم على بند من مثل ذلك أوله:
أيها اللائم في الحب، دع اللوم عن الصب، فلو كنت ترى الحواجب الزج، فوق الأعين الدعج.... إلى أن يقول في ختامه: لو ترانا كل يبدي لدى صاحبه العتب، ويسدي فرط شوق كامن أضمره القلب سحيرًا، والتقى قمصنا ثوب عفاف قط ما دنس بالإثم سوى اللثم، لأصبحت من الغيرة في حيرة، وأعلنت بحب الشادن الأهيف سرا وجهارًا....
قلت: وهذا عجيب أيضًا، فإن لم يكن ابن خلفة من ضعفاء المقلدين الذين يسقطون بكلمة ويطيرون بكلمة، فإن الراء المفتوحة أو أي قافية مطلقة، تكون شرطًا في ختام هذه البنود، وهو غريب.
ولا بد هنا أن نذكر نوعًا قريبًا من البنود إلا أنه مستقل باسمه وصفاته، وهو النوع المعروف بالمستزاد، وأظن أن مأخذ البند منه؛ إلا أن الذي أخذه أطلق الوزن وهو في المستزاد مقيد.
ولم يقع إلينا سبب هذه التسمية ولا أصلها، غير أني وقفت في "الشقائق النعمانية" في ترجمة المولى حضربيك بن جلال الدين، وكان يلقب بجراب العلم، وهو من علماء السلطان محمد الفاتح، على منظومة منه، وهي:
يا من ملك الإنس بلطف الملكات، في حسن صفات.... إلخ "ص154 هامش الجزء الأول من ابن خلكان".
وكذلك أورد لأحمد باشا ابن المولى ولي الدين الحسيني المتوفى سنة 902هـ قطعة أخرى من معارضة هذه، وليس من عادة صاحب الشقائق أن يورد لمن يترجمهم شيئًا من مثل هذه المختارات؛ فحرصه على إيراد القطعة الأولى ومعارضتها، يدل على أن النوع غريب عندهم.(3/273)
المعجم والمهمل:
تقدم في مبحث الخط معنى الإعجام واشتقاقه وتاريخه، والمراد بالمعجم والمهمل فيما سنأتي عليه الآن، هذا النوع من النثر والنظم الذي يلتزمون فيه إهمال بعض الأحرف وإعجام الأخرى؛ وأول من وضعه وبرز فيه الحريري صاحب "المقامات"، ولم يتكلفه أحد قبله فيما نعلم، وإن كان كثيرًا ما يتفق في منظوم الكلام ومنثوره، لكن على غير اطراد ولغير قصد، فالاطراد والقصد إذن هما معنى الاختراع فيه؛ وليس يخلو الكلام بتة من أحرف مهملة وأخرى معجمة؛ لأن بالقسمين جماع مادته وقوام تركيبه.
والذي يدل على أن الحريري هو أول [من] قصد إلى هذا النمط، ما وطأ له به في المقامة السادسة، إذ يقول عن لسان أبي زيد بعد أن تنقص القدماء؛ لأنهم لم يؤثر عنهم إلا لتقادم الموالد، لا لتقادم الصادر على الوارد: "وإني لأعرف الآن من إذا أنشأ وشّى، وإذا عبّر حبّر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى "اخترع خرع".
ثم ذكر أن إنشاء رسالة حروف إحدى كلمتيها يعمها النقط، وحروف الأخرى غير معجمة "عضلة العقد، ومحك المنتقد" وأول هذه الرسالة: "الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين".
ثم عاد إلى ذلك في المقامة السادسة والعشرين، فساق رسالة سماها الرقطاء؛ لأن أحد حروفها مهمال والآخر معجم، وأولها: "أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب" إلا أنه اعتبر المد في "لا" حركة، كما اعتبر التاء المربوطة في الرسالة الأولى وما بعدها هاء.
وكذلك ذكر في المقامتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين خطبتين عريتين عن الإعجام؛ ثم عاود الكرة في المقامة السادسة والأربعين، فجاء بأبيات مهملة الأحرف سماها العواطل، وأبيات معجمة سماها العرائس، وأبيات كلمة منها مهملة وأخرى معجمة وسماها الأخياف.
فهذه المصطلحات التي أطلقها أسماء، وتقليبه هذا النوع على الأوجه المختلفة، والتوطئة التي استخرجناها من المقامة السادسة كلها أدلة على أن الرجل واضع هذه الطريقة؛ لأنك لا تصيب هذه العناية في مقاماته لغير هذا النوع مما عرف لمن قبله وإن كان له فيه زيادة، كالنوع الذي لا يستحيل بالانعكاس.
وقد زاد الصفي الحلي في تقسيم نوع المعجم والمهمل فأتى بأبيات صدورها معجمة وأعجازها مهملة، ولم يأت به الحريري في تقسيمه؛ ووضع بعض المتأخرين نوعًا جديدًا سماه عاطل العاطل، واستخرج ذلك من أن بعض الحروف تكون مهملة ولكن أسماءها في المنطق ليست كذلك، كالعين والميم؛ وبعضها تكون مهملة الاسم والمسمى، وهي ثمانية أحرف: الحاء، والدال، والراء، والصاد، والطاء، واللام، والواو، والهاء، فنظم منها أبياتًا كأذناب الضباب. وإنما مدار هذه الصناعة على أن تكون في نسق الكلام لا في نسق العقد، ولولا ذلك لجاء الناس منها بالطم والرم، أما أن يخرج إلى التعقيد ويؤخذ بها مأخذ الرقى والطلاسم، فلذلك اسم آخر؛ والخمر إذا فسدت صار اسمها خلا.
ومما أذكره بالإعجاب والاستحسان أن بعض علماء القرن الماضي، وهو العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي صادف من بعض الرؤساء فتورًا، ثم انقلب إغفالًا فإهمالًا، فعاتبه برسالة مهملة الأحرف ضمنها نظمًا ونثرًا، ووقع عليها بهذا التوقيع "داع محروم".
فكان إهمال أحرفها عتابًا فوق العتاب، وحظا من البلاغة لا يعد في سحر الألسنة ولكن في سحر الألباب.
وقد وصل بعضهم بنوع المهمل إلى أن جعلوه كتبًا فمنهم من فسر به قصيدة في التصوف، ومنهم من فسر به القرآن الكريم؛ وما أقبح الفكاهة أن تكون جدا. والفاكهة في بعض الطعام أن تكون كل الطعام، وكذلك فعلوا، ومثلهم في هذه المضيعة كثير.(3/274)
المتائيم:
هذا نوع من الجناس اخترعه الحريري وذكر منه أبياتًا في المقامة السادسة والأربعين سماها الأبيات المتائيم؛ لأنها مبنية على الألفاظ المزدوجة، فكأنها جمع متئم، وهي من النساء التي من عادتها أن تلد توءمين، وهي خمسة أبيات، أولها:
زينت زينت بقد يقد ... وتلاه ويلاه نهد يهد
جندها جيدها وظرف وطرف ... ناعس تاعس بحد يحد
وأخص صفات هذا النوع أنك إذا أصبته عاطلًا من النقط مغفلًا من الضبط غمي عليك وجه قراءته فلا تتبين من ذلك شيئًا؛ وهو نفس الجناس الذي يسميه أهل البديع بالمصحف ويقولون في حده: إنه ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظًا كقوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} إلا أن هذا النوع قد أضيف على التصحيف فيه التحريف باختلاف الحركة، فهو مصحف محرف؛ ولم يمثلوا له بغير قول الحريري.
وكنت وقفت على كلمات من هذا النوع لبعض الكتاب ولا أدري إذا كان متقدمًا على الحريري أو هو متأخر عنه، فلا بد أن يكون أحدهما أخذ عن الآخر، وهذه عبارة ذلك الكاتب: "غرك عزك فصار قصار ذلّك ذلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا". ولكن ما لا شك فيه أن الحريري أول من نظم في هذا النوع ثم وطئوا عقبه فيه، وقد ذكر في كتاب "الكنز المدفون" المنسوب للسيوطي بعض أبيات ركيكة على تلك الطريقة أفسدها التحريف ولم تنسب هناك لأحد، ومنها:
دلها دلها فضنت قضيب ... واعتدت واغتدت بعتب تعيب
ولم يذلل هذه الطريقة كالصفي الحلي، فإنه جاء منها بأربعمائة فقرة نثرًا وثمانين نظمًا في عشرة أبيات، وضمن ذلك جميعه رسالته التي سماها التوأمية: "وذكرت في ديوانه التوأمية خطأ" وقد أنشأها سنة 700هـ، وقال في سبب ذلك: إنه أنشأها حين جرى -بحضرة المولى السلطان الملك المنصور نجم الدين أبي الفتح بن أرتق- ذكر أبيات الحريري وعجز المتأخرين عن هذه الصناعة نظمًا ونثرًا، قال: وكنت أوثر من قبل أن أعرفه طرفًا من صورة واقعتنا بالعراق التي أوجبت انتزاحي، وأعرض بطلب خدمة ببلده مدة مقامي عندهم في "إنشاء بعض الرسائل المعجزة" فعندها أنشأت هذه الرسالة في تلك الصناعة وضمنتها ذكر ذلك كله ولقب السلطان لزوال الشبهة عنها.... ا. هـ.
وأول هذه الرسالة:
قبل قبل يراك ثراك ... عبد عند رخاك رجاك
ولا ينظر في هذا النوع إلا إلى محض الصنعة، فهو بعيد من التصفح والانتقاد فيما سوى ذلك؛(3/275)
وما أرى الكاتب يحمل منه إلا على مثل مشتبك الأسنة في ساحة الأوراق، وهو إذا ظفر بعد ذلك كان الفتح الذي أقل ما يقال فيه إنه استغلاق.
وما دمنا في ذلك الصفي ومخترعاته، فإن لهذا الأديب كتابًا سماه "الدر النفيس في أجناس التجنيس"، اخترع فيه نوعًا مشكلًا، وذلك أن يجعل أركان التجنيس ثلاثة في صدر البيت وثلاثة في عجزه، وهو نوع لم يأت به غيره، لأنه ألفاظ معدودة، وقد نظم في ذلك أبياتًا مطلعها "ص399: ديوان الحلي":
سل سلسل الريق لم لم يرو حر ظما ... بل بلبل القلب لما زاده ألما(3/276)
صناعات مختلفة:
لسنا نزعم أننا بما أتينا على بيانه من هذه الصناعات قد استوفينا هذا البحث وتركناه في حكم المفروغ منه، ولكنا إنما جئنا بأشياء استخرجناها من زوايا النسيان، ونفضنا عنها غبار القدم، وأحصيناها من صحف التاريخ إحصاء الحسنات والسيئات؛ وزوايا النسيان مظلمة، وغبار القدم متحجر، وصحف التاريخ لا تعد؛ وما عسى أن يسمى هذا العناء الناصب إلا بحثًا؛ بل ما عسى أن يكون البحث غير ذلك؛ فإذا كانت الأيام قد طوت بعض الصناعات في صدور أصحابها، أو ذهبت النكبات بآثارهم، أو قطع الإهمال عرق التاريخ في بعض هذه الآثار حتى أصبح لا يعرف أصله، ولا كيف نشأ وتقلب فليس ذلك مما يلحق المؤرخ تبعة التقصير فيه؛ إذ هو إنما يستنطق الآثار، ويتعلق بالأخبار؛ فأما أن ينقلب السماء ويدخل منها إلى الماضي ويبحث فيه عن الغيب ويحدس [ويتكهن] ، فذلك شيء غير التاريخ.
ومن أجل هذا رأيت قلمي أصبح يطلب الوقوف بعد أن وصل إلى الصحيفة التي لا يجري فيها إلا قلم الغيب. وسنشير فيما يلي إلى ما بقي من الصناعات التي انقطع دونها التاريخ وكانت دليلًا على غيرها مما انقطع عنا بتاريخه، إن كان ثمت من هذا شيء أو أشياء.
المشجر:
هو نوع من النظم يجعل في تفرعه على أمثال الشجرة -وسمى مشجرًا لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي: تداخلها، وكل ما تداخل بعض أجزائه في بعض فقد تشاجر- وذلك أن ينظم البيت الذي هو جذع القصيدة، ثم يفرع على كل كلمة منه تتمة له من نفس القافية التي نظم بها، وهكذا من جهتيه اليمنى واليسرى، حتى يخرج منه مثل الشجرة، وإنما يشترط فيه أن تكون القطع المكملة كلها من بحر البيت الذي هو جذع القصيدة، وأن تكون القوافي على روي قافيته أيضًا؛ وهو متأخر عن القرن الحادي عشر، إذ مر بك في مبحث التشطير أن أدباء ذلك القرن كانوا يسمونه بالمشجر هذا النوع المعروف اليوم بالمطرز، ولا تحضرنا في ذلك أمثلة جيدة نرضاها للتمثيل.
ولعل أخذ هذه التسمية مما يسمونه بشجرة النسب؛ إذ هما متشابهان في الوضع متفقان على الجملة في الترتيب، وهذه الكلمة "شجرة النسب" كانت مستعملة في القرن الرابع وما بعده، بدليل وجود بعض كتب في الأنساب مسماة بهذا الاسم "راجع فهرست المكتبة الخديوية".
غير أن لهذا النوع من الصناعة أصلًا قديمًا؛ إذ عثر بعض أدباء البغداديين في كتاب "نيل السعود في ترجمة الوزير داود"، وهو مجموع خطي لم يذكر فيه اسم جامعه كتب سنة 1232هـ ويحتوي بعض قصائد في مدح هذا الوزير، ثم منتخبات أخرى لشعراء مختلفين، ومنها بيت شعر منسوب لبديع الزمان الهمذاني، وهو من نوع المشجر بعينه، إلا أنه يتفرع من جهة واحدة لا من جهتين كما اصطلح(3/277)
عليه المتأخرون.... "ص386 ج7: المجلد الثاني من المقتبس".
المقطع والموصل:
ومعنى الأول أن تكون كلمات المنظومة كلها منفصلة الأحرف رسمًا، وهو بخلاف الثاني، فإن جميع أحرفه ينبغي أن تكون متصلة بعضها [ببعض] في كل كلمة؛ ولم نر من ذلك شيئًا لغير الصفي الحلي، فربما كان أول من خصصه بالنظم وربما كان متابعًا، وعلى أيهما فذلك من عبث الصناعة؛ ومثال الموصل قول الصفي:
إذا زار داري زور ودود ... أود وأورده ورد ودي
وهي ثلاثة أبيات تدور في جملتها على هذه الأحرف؛ لأن الحروف التي ترسم منفصلة معدودة؛ ومثال الثاني قوله:
سل متلفي عطفًا عسى يتعطف ... فلقد قسا قلبًا فما يتلطف
وجميعها سبعة أبيات، وكل ذلك في ديوانه.
المصحفات:
هذا نوع يلحق بالصناعات؛ لأن المدار فيه على القصد والتعمل، فتجيء بالألفاظ توهم المدح، فإذا صحفت خرجت ذما وقدحًا، كما تقول: هو كاتب أمين فإذا صحفته قلت هو كاذب أفين، مثلًا؛ فذلك كالهجو في معرض المدح الذي يعرفه البديعيون، وهو من مستخرجات ابن أبي الأصبع، ولكن ذلك في الألفاظ بما يدل ظاهرها وباطنها باعتبار مواقعها في الكلام لا غير.
وقد ذكر صاحب "الشقائق" "ص328" في ترجمة المولى شمس الدين المتوفى في حدود التسعمائة، وهو من أفراد علماء الموسيقى، أنه كان ينظم القصائد العربية والفارسية والتركية ويمدح بها الأكابر ويرسلها إليهم، وكل قصيدة إذا صحفت من أولها إلى آخرها يحصل منها هجو.
وقد ينظمون الأبيات إذا قرئت صدورها وأعجازها كانت مدحًا، فإذا أفردت الصدور خرجت منها أبيات في الذم؛ [وأبياتًا] أخرى إذا قرئت معكوسة الألفاظ كانت هجاء وهي في طردها مديح.
ولم نعثر من نوع المصحفات على شيء من النظم، بل لم نهتد إلى أنه من الصناعات إلا بكلمة صاحب "الشقائق" التي أوردناها، وهو رجل كان لا يحفل بحياة التاريخ فأماته في كتابه؛ لأنه قلما ترجم إلا الأسماء والصفات الجامدة، فكأنما كتابه بعد عصره إنما يترجم الموتى للموتى، فإنه لم يذكر في ترجمة شمس الدين -على أنه من أفراد الموسيقى ومن عجائب المصنعين- إلا أسطرًا، وكذلك شأنه في غيره، وأين من ذلك حقيقة التاريخ؟(3/278)
تذييل:
إلى هنا انتهيت من ترتيب ما وجدت بخط المؤلف رحمه الله من كتاب "تاريخ آداب العرب" وكان التدبير أن يكون بعد هذا الفصل فصول وأبواب، ولكني لم أعثر بين ما خلف من أوراقه على غير ما قدمت؛ فلعله وقف من تأليفه عند هذا الحد، أو لعل ورقات منه قد أبلاها القدم وبعثرها الإهمال؛ وقد انتهى تحقيقي إلى أن المؤلف -رحمه الله- قد نفض يده من هذا البحث قبل وفاته بأكثر من ربع قرن، ثم لم يرجع إليه ولم ينظر فيه بعد ذلك.
وكان الفراغ منه في مساء السبت 18 ربيع الآخر سنة 1359 - 25 من مايو "أيار" سنة 1940 بعد انتقال مؤلفه إلى جوار ربه بثلاث سنين وخمسة عشر يومًا. رحمه الله وأجزل ثوابه.
محمد سعيد العريان(3/279)
المحتويات:
3 صفحة من الكتاب بخط المؤلف
5 مقدمة الطبعة الأولى
11 الباب الخامس: تاريخ الشعر العربي ومذاهبه
13 الأقوال في أولية الشعر العربي, تحقيق هذه الأولية
16 نشأة الشعر, الباعث على اختراع الشعر -أول من قصد القصائد- الرجز والقصيد.
21 الشعر في القبائل, بيوتات الشعر والمعرقون فيه جاهلية وإسلامًا.
23 سيما الشعراء
25 حالة الإنشاد
27 ألقاب الشعراء
29 المقلون والمكثرون
32 الارتجال والبديهة والروية
36 النبوغ وألقابه في الشعراء
38 الاختراع والاتباع
الاتباع وأنواعه.
41 شياطين الشعراء
43 طبقات الشعراء
44 الشاعرات
51 تنوع الشعر العربي وفنونه
55 الهجاء
, الهجاء في القبائل, الهجاء في الشعراء, مشاهير الهجائين.
64 المديح, شعر الكدية أو الشعر الساساني.
69 الفخر والحماسة
72 الرثاء
75 الغزل والنسيب
81 الشعر الوصفي
84 الشعر الحكمي, الشعر الإلهي
89 الشعر الأخلاقي والمبادئ الاجتماعية
91 الشعر الهزلي(3/280)
95 الشعر القصصي
100 الشعر العلمي
103 الفنون المحدثة من الشعر
104 الموشح
, اختراعه, سبب اختراعه, الموشح الملحون، بعض أنواع الموشح، نوابغ الوشاحين، كتب التوشيح.
110 الدوبيت
112 الشعر العامي والمواليا
114 الزجل, فنون أخرى، الأصمعيات والبدوي، كان وكان والقوما، الحماق، العامي والغريب
119 الباب السادس: في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها
121 السبع الطوال
126 امرؤ القيس, طويلة امرئ القيس، شاعرية امرئ القيس وأسباب شهرته، شعر امرئ القيس، استعاراته، تشبيهاته، تتمة الانتقاد، المنازعة بين امرئ القيس وعلقمة، قصيدة امرئ القيس، قصيدة علقمة بن عبدة
149 طرفة بن العبد, مذهبه في الشعر
156 زهير بن أبي سلمى
, مختاراتها وسببها, شعره
163 خشونة الشعر الجاهلي
167 الباب السابع: أدب الأندلس
169 الأدب الأندلسي
الأدب وتأثره بالتاريخ السياسي, القسم الأول: الأندلس من العراق، عربية الأندلس، أولية الأدب والعلوم
176 الأدب في القرن الثالث
178 الحضارة الأندلسية, أدباء ملوك الأندلس، مبلغ عنايتهم بالعلم والأدب.
186 القرن الخامس وملوك الطوائف
, عصر الوزراء
190 القرن السادس وما بعده, الأدب ودولة الموحدين، نكبة الفيلسوف ابن رشد، بعد القرن السادس
197 الشعر الأندلسي والتلحين
198 الشعراء الفلاسفة
200 أديبات الأندلس(3/281)
201 علوم الأندلسيين، العلوم الفلسفية، مقاومة الفلسفة العربية الطبيعية في أوروبا وانتشارها، آخرة الفلسفة العربية
207 العلوم الأدبية, كتاب سيبويه عندهم، علماء العربية والأدب، المائة السادسة، المائة السابعة، نكت الأندلسيين، المائة الثامنة، كلمة في تراجم هذا البحث
215 مصرع العربية في الأندلس، اليهود بالأندلس وترجمة كتب الفلسفة، ترجمة الفلسفة العربية في أوروبا
219 تنصر العربية, ديوان التفتيش، آخرة العربية
223 الباب العاشر: التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية
225 كتب الشعر, كتب المختارات، الحماسة، مختارات أخرى
231 الباب الحادي عشر: الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون
233 الصناعات
236 لزوم ما لا يلزم, الشينية والسينية.
239 القوافي المشتركة
241 القصائد المعراة
243 محبوك الطرفين
245 ذوات القوافي
248 القوافي الحسية
250 التاريخ الشعري
254 التخميس والتشطير وما إليهما
257 ما يقرأ نظمًا وشعرًا
259 نوع من حل المنظوم
261 ما لا يستحيل بالانعكاس
262 الملاحن
266 الألغاز والأحاجي والمعميات وغيرها, الألغاز، الأحاجي، المعمى، البنود والمستزاد، المعجم والمهمل، المتائيم
277 صناعات مختلفة
, المشجر، المقطع والموصل، المصحفات
279 تذييل(3/282)