المجلد الأول
مقدمات
تصدير
...
باب المقدمات:
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير: بقلم محمد سعدي العرنان*
ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في سنة 1329هـ-1911م، أي: منذ ثلاثين سنة تقريبًا؛ ولم يطبع بعدها إلا اليوم، على كثرة طلابه وشدة الحاجة إليه.
ولقد يكون مما يشوق القارئ أن يعلم أن مؤلفه قد ألفه وسنه ثلاثون سنة، وهي سن قلما يتهيأ فيها لشاب أن يحصل من أبواب العلم باللغة ما اجتمع للرافعي في هذا الكتاب؛ فضلًا عن أن يكون له فيما حصل من ذلك رأي وموازنة واستنباط تهيئ له أن يؤلف ويخرج برأيه للناس في كتاب!
على أنه كتاب أول كتاب في فنه؛ فما رأى قراء العربية كتابًا علميا في "تاريخ آداب العرب" قبل هذا الكتاب وكتاب جورج زيدان؛ وإنما كان يكتب الكاتبون من معلمي المدارس في هذا الفن -قبل هذين الكتابين- مذكرات لتلاميذهم على نسق خاص يحدده منهج التعليم؛ ليحفظوها فيجوزوا بها الامتحان؛ ولم تكن أبواب هذا الفن محدودة الأصول والفروع على ما يعرف القراء في هذا الكتاب والكتب من بعده، ولكنها كانت تأريخ وفيات وبعض مختارات من شعر الشعراء، ونثر الكاتبين والخطباء، مقسمة على التاريخ الزمني كما لا يزال إلى اليوم في بعض دور التعليم.
ولم يكن للرافعي في الأدب قبل هذا الكتاب رأي ذو خطر أو دراسة ذات أثر أو جولان في باب من أبواب الكتابة، وإنما كان مقصورًا على الشعر معنيا به مؤملًا أن يكون له فيه منزلة تخمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره؛ وقد بلغ في ذلك مبلغًا، لذلك كان عجيبًا أن يحيد الرافعي عن مذهبه في الشعر إلى الكتابة والتأليف، وكان أعجب أن يبلغ وهو في أول الطريق ما بلغ بهذا الكتاب!
وإنما لكل شيء سبب، والسبب الذي عاج بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى هذا المذهب في التأليف؛ هو إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907م.
ويعرف القراء مما ذكرت في "حياة الرافعي" أنه لم يحصل من الشهادات العلمية غير "الابتدائية"، إذ قطعته بوادر العلة التي وقرت أذنيه عن المدارس، فلزم داره يدرس نفسه ويعلم نفسه حتى حصل ما حصل وظل يطلب المزيد، فلما أنشئت الجامعة المصرية تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوف إليه ويطلبه.
ومضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئًا في الأدب يفتقر إليه الرافعي وما تحدث
__________
* هذا التصدير كان للطبعة الثانية.(1/5)
أساتذتها حديثًا في الأدب لا يعرفه الرافعي ... وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء ... فلبث يتربص.
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروسًا للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالًا في "الجريدة" يحمل فيه على الجامعة وعلى أساتذة الجامعة وعلى منهج الأدب في الجامعة. ورن المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة وسبقت بين الأدباء جائزة -مائة جنيه- لتأليف كتاب في "أدبيات اللغة العربية" وكذلك كانوا يسمونها- وضربت أجلًا لتأليف الكتاب سبعة أشهر.
وقرأ الرافعي دعوة الجامعة فلم يرض ولم تهدأ نفسه، فكتب مقالًا ثانيًا في الجريدة، ينعت فيه الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة، إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة.
"إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة؛ لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا ما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الكبير" ... !
"لم تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم رؤساء الصناعة وظهور مناصبها العالية وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب"1.
ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر؛ ثم أعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت الجائزة إلى مائتين والمدة إلى سنتين وتعهدت بطبع الكتاب المختار، وتأهب الرافعي لتأليف كتابه.
انقطع الرافعي لتأليف هذا الكتاب في منتصف 1909، وفرغ منه وأتم طبعه في سنة 1911 قبل أن يحل الأجل الذي فرضته الجامعة، ولم يكن الرافعي طامعًا في جائزة الجامعة، ولذلك لم يتقدم لها بكتابه، ترفعًا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصر منه بالمحكوم فيه! ولعله كان يؤمل يومئذ أملًا أكبر من الحصول على جائزة الجامعة.
وكان أسبق المؤلفات ظهورًا لدعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب جورج زيدان، ثم هذا الكتاب الذي بين أيدينا، سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقًا مطبعيا2.
__________
1 ما بين الأقواس "" هو من المقال الثاني للرافعي في الجريدة، والمقالان منشوران في كتاب "المعركة تحت راية القرآن" للرافعي، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، فليرجع إليهما من شاء.
2 حكاه الرافعي.(1/6)
هممت أن أتحدث عن هذا الكتاب من حيث آراه وكيف اجتمع لمؤلفه الرأي فيه, وأي نهج سلك، ولكني آثرت أن أدع لقارئه أن يقول قوله مجردًا، غير متأثر بثناء صديق أو مذمة ناقد، وحسبي ما ذكرت من ذلك في كتاب "حياة الرافعي".
ويجد القارئ في ص19, 20 من هذا الجزء ثبتًا لأبواب الكتاب في أجزائه الثلاثة، وقد رتبها على اثني عشرة بابًا، أما الأبواب الثلاثة الأولى منها فقد صدر بها الجزءان الأول والثاني، وقد سبق طبعهما في حياة المؤلف، وأما سائر الأبواب فلي حديث عنها في صدر الجزء الثالث؛ إذ خلفه المؤلف على مكتبه ورقات مخطوطة، على أنه قد فرغ من تأليفه -فيما أحسب- منذ بضع وعشرين سنة، ثم صرفته بعض شئون الحياة حتى أعجله الموت عن تمام أمره. يرحمه الله.
السبت: 12 من ربيع الأول سنة 1359هـ
2 إبريل نسة 1940م
محمد سعيد العريان(1/7)
صفحة فارغة(1/8)
مقدمة الطبعة الأولى:
باسمك اللهم أقدم بين يدي فاتحة الكتاب، وبحمدك أتقدم بين يديك إلى ما تفتح من الصواب، وبالصلاة والسلام على نبيك الحكيم أستفتح من حكمة الألباب هذا الباب؛ اللهم فاجعل لكتابي من اسمك فائدة الذكر والبقاء، واكتب له من حمدك معنى القبول والثناء، وألق عليه من أثر الحكمة بركة المنفعة والنماء.
أما بعد: فإن هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت في واديه كل جرباء1؛ وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء؛ على أنهم تجاذبوه انتهابًا فجاء واهيًا في وثيقته2، وتناكروه اهتيابًا فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره حيقيقته3؛ وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده مرخى العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان؛ وإن للقلم لو أطلقوه لنفرة أيسر خطبها الجماح، ولكنه مذلل والطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح4.
كثرت الكتب، وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب5، يلتفت فيها الكلام التفاته السارق إلى كل ناحية6، ويسرع في مرة إسراع السابق على كل ناجية7؛ فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر8 ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر؛ وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور9؛ ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسم "المؤلف" يسعل به كما يسعل المصدور، وهم لو علموا منطق المعاني لرأوا كلامًا كثيرًا يدعوهم أن يدعوه، وكان يرفعهم، لو أنصفوه ولم يضعوه؛ ولكنهم يأخذون في كل جانب، ويضم ما ضم حبل الحاطب10؛ وإنما كان العلم كالروض؛ يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل
__________
1 يقال في الكناية عن الخصب: نفشت العنز لأختها؛ لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذلك من الأشر. ويقولون في أوصافهم: خلفت أرضًا تظالم معزاها أي: تتظالم.
2 ضعيف العقدة: كناية عن تراخي التأليف واضطرابه.
3 الاهتياب، والهيبة: بمعنى، وتناكر الشيء: تجاهله.
4 الاطراد: جري الشيء، والمهيض: المكسور.
5 الهجين: عربي ولد من أمة؛ والمراد استعجام نسق التأليف، كما ستعرفه في الفصل التالي.
6 كناية عن الإضطراب والأخذ من كل جهة.
7 الناجية: السريعة، وهي من صفات النوق.
8 سانح الخاطر: ما يعرض لأول وهلة وأكثر ما يكون خطأ؛ وأخلد: مال إليه، أو لزمه.
9 لا يكتب على هذه الألواح إلا الاسم والتاريخ وشيء من النسب وبعض الأشعار ...
10 من المجاز: هو حاطب ليل، للمخلط في كلامه؛ وحبل الحاطب إنما يضم التخليط.(1/9)
متناول، ويطول بعض فروعه فيكد يد الفارع المتطاول، وهذا التاريخ قد طوي في رءوس أهله فكانت جماجمهم غلاف كتابه، وغابت حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه؛ فلم يبق إلا إنفاق الأعمار وسيلة لاستدراك ما فات؛ وليكون ما يموت من عمر الأحياء فداء لآثار الحياة بعد من الموت؛ وفي ذلك هم من الكد يلحف القلوب والأكباد1، وحرية تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد، وضيق يخيل للباحث أن بين الأوراق، بحارًا ذات أعماق؛ وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور، بحروف الصخور؛ وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثبت من جسده، إلى يده؛ فيجد للقلم خزًا كالحز في الوريد، ومسا من نفسه كمس المبرد للحديد؛ بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قدرها، وأوقد من فكره جمرها؛ فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها2 ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها!
وأنا أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئًا إذا الأشياء حصلت الرجال3، ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها، وبياض الصحف وسوادها؛ فإني لست في هذا "العصر" ممن تخدعه الشمس بطول ظله4، أو تغره النفس بكثرة وقلة5؛ ولكني رأيت من كتب في هذا التاريخ يريد أن يستولي على الأمد وادعًا في مكانه، ويلحق الطريدة ثانيًا من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف، والرأي -كما قيل- ميزان ولا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف؛ ولا أكذب الله؛ فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية: كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية6؛ اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض7؛ واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمر ماض؛ وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفًا، والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفًا.
لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف، وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع8؛ ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع؛ فإنما هي حقائق بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال حملًا في بطون المؤلفات؛ فليس الصبر على نقض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.
__________
1 أي: يلحسها فيشتد عليها.
2 التنسم: التنفس.
3 إذا ميزت الأشياء الرجال وأظهرت صفاتهم؛ والجملة شطر بيت لذي الرمة.
4 وقت "العصر" يبلغ ظل كل شيء مثليه، والتورية في هذه اللفظة.
5 بكثيره وقليله.
6 الخوص، والحياصة: الخياطة؛ ومنه المثل: إن دواء الشق أن تحوصه.
7 يسمي ظرفاء "الصحافيين" هذا النوع من النقل: "التحرير بالمقص"!
8 تخلع الصبي: تفككه في مشيه حين يدرج.(1/10)
بيد أني وإن طاولت التعب فيما استطعت من الإتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر ليس فيه يوم جديد, لا أقول إني أتيت منه على آخر الإرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية من الإفادة، فلذلك أمر تنصرم دونه أعمار، وللكمال عمر لا يحسب بالسنين، ولكن بالأعصار. وجهد ما بلغت من همة النفس أن أكون بنجوة من التقصير، وأن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير قصير، ولقد رميت في ذلك المرمى القصير، وعالجت منه الطبع والعصي؛ ولو أن لي قلمًا ينفض مداده شبابًا على الأفهام، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم الأقلام، لخرج منها وليس عليه من حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من "ورق" الجنة في قلته.
بيد أن الورقة من أحدهما: تعد في بركتها بأشجار، ومن الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذرًا إن جريت على العادة في تقديم الأعذار.
المؤلف(1/11)
صفحة فارغة(1/12)
كلمة في هذا التأليف:
لست أريد بما أثبته من هذه الكلمة أن أظهر الاستبصار فيما ألفت من هذا الكتاب، أو استطيل بما تهيأ لي من طريقته؛ فذلك مني جهد المقل، وقوة الضعيف الذي لا يمضي حتى يكل، وبعد فما أنا وهذا الأمر؟ وأين أقع منه؟ هل ولدت مع التاريخ فأكون شاهد نشأته، والقاضي في خصومة أهله، ومن إليه الكلمة في الجرح والتعديل، والطرح والتبديل؟ وهل أنا إلا رجل يقرأ ليكتب، ويكتب ليقرأ الناس؛ فإن أصاب فلهم ولا هم، وإن أخطأ فعليه وخلاهم ذم.
ولكني أريد أن أصف الطريقة التي انتهجتها، وأبين لم خالفت القوم في نمط التأليف إلى ما ابتدعته، وما هو مبلغهم من العلم فيما يقتحمون من تلك الخطة؛ وأن أنزع في ذلك بالدليل وأدعي بالبينة، مستعيذًا
بالله من فتنة القول وزوره، وخطل الرأي وغروره:
اجتمع المتأخرون على جعل التدبير في وضع "تاريخ أدبيات اللغة العربية"1 أن يقسموا هذا التاريخ إلى خمسة عصور: الجاهلية، فصدر الإسلام، فالدولة الأموية، فالعباسية إلى سقوطها سنة 856 للهجرة، ثم ما تعاقب من العصور بعد ذلك إلى قريب من هذه الغاية، حيث ابتدأت النهضة الحديثة.
وأول ما ابتدع هذا التقسيم، المستشرقون من علماء أوروبا؛ قياسًا على أوضاع آدابهم مما يسمونه Litterature فهم الذين تنبهوا لهذا الوضع في العربية، فجاءوا به كالمنبهة على فرط عنايتهم بفنونها وآدابها؛ وحسبهم من ذلك صنيعًا2!
بيد أن تلك العصور إذا صلحت أن تكون أجزاء للحضارة العربية التي هي مجموعة الصور الزمنية لضروب الاجتماع وأشكاله؛ فلا تصلح أن تكون أبوابًا لتاريخ آداب اللغة التي بلغت بالقرآن الكريم مبلغ الإعجاز على الدهر، ولم تكد تطوي عصرها الأول حتى كان أول سطر كتب لها في صفحة العصر الثاني شهادة الخلود وما بعد أسباب الخلود من كمال
__________
1 هذا هو الاسم الذي ضربت به الذلة على كل كتاب عربي، وقلما يغيرون منه إلا لفظة "أدبيات" يبدلونها بآداب، وإني لو لم أكن أعرف أن هذا العلم ينقله الضعفة عن موضوعات اللغات الأعجمية ويحتذون مثالها فيه، لعرفت ذلك من ركاكة هذه التسمية واختبالها، فلا أدري كيف يجعلونها مع فرط ثقلها عنوانًا لآدب اللغة التي توزن حروفها بالألسنة!
2 أول من ميز الأدب والفنون بالتاريخ هو "باكون" مؤسس الفلسفة الحديثة -توفي سنة 1626 للميلاد- فإنه جعل أقسام التاريخ ثلاثة: التاريخ الديني، وتاريخ الاجتماع، وتاريخ الأدب والفنون.(1/13)
ثم إن تاريخ الآداب فنا من الفنون العملية التي يحذو فيها الناس بعضهم حذو بعض، ويأخذ الآخر منها مأخذ الأول، وتتساوق فيها الأمم على وضع واحد؛ لأنها لا تتغير على الجملة في تعرف مادتها وتصرف أداتها حتى يتعين علينا أن نجعل آداب لغتنا حميلة على آداب اللغات الأعجمية، يفصل على أزيائها، وإن ضاقت به وخرج فيها باذ الهيئة مجموع الأطراف متداخل الأعضاء، وكأنه مشدود الوثاق، أو مأخوذ بالخناق. إنما التاريخ حوادث قوم بعينهم، والآداب اللسانية ليست أكثر من مواضعات يتواطأ عليها أولئك القوم، تخرج منها الحوادث المعنوية التي هي ميراث التاريخ كله في أيديهم من العادات والأخلاق على أنواعها، فتاريخ الآداب في كل أمة ينبغي أن يكون مفصلًا على حوادثها الأدبية؛ لأنها مفاصل عصوره المعنوية، والشأن في هذه الحوادث التي يقسم عليها التاريخ أن تكون مما يحدث تغييرًا محسوسًا في شكله، وأن تلحق بمادته تنوعًا خاصا بنوع كل حادثة منها؛ فإذا لم تكن كذلك لم يكن التاريخ متجددًا إلا باعتبار الزمني فقط؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن تغير الزمن طبيعة الوجود؛ من أجل ذلك تجد الأمة التي لا حوادث لها ليس لها تاريخ.
على أن مثل تلك الحوادث التي وصفناها قد تعقم به الأزمنة المتطاولة في تاريخ بعض الأمم، وقد تتساوق في بعض عصورها الراقية: كآداب اللغات الأوروبية؛ وقد تكون منقطعة كما هي في تاريخ الأدب العربي.
وهذا التاريخ فضلًا عن تداخل أدواره بعضها في بعض حتى لا حد بينها ولا يتعين لأحدها مفصل يبتدئ منه، أو ينتهي إليه، فإنما يمتاز عن كل ما سواه بذهاب الكثير من أصول حوادثه، لانقطاع متن التأليف من أول عهده، واضطراب النسق التاريخي فيما ألف بعد ذلك بحيث يستحيل أن تنضد كل حوادثه في متعاقب أزمانه، أو تنزل على مراتب عصوره.
وهذا الجاحظ إمام الكتاب، ورأس الآداب، والذي لا يستعصي عليه من داء القلم إلا ما يعيي طب أساته، ويمتنع أن يكون من قدرة كاتب متأخر وضع دوائه في دوانه, قد حاول بعض ذلك مرة في باب من كتابه "البيان والتبيين"؛ فلم يصنع شيئًا، ورهقه من العجز ما سوغ له أن يجعل عجزه في معنى استطاعته، فاكتفى به عذرًا.
قال في باب أسماء الخطباء: "كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم، أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء، ونقسم أمورهم بابًا بابًا على حدته، ونقدم من قدمه الله عز وجل, ورسوله صلى الله عليه وسلم في النسب، وفضله في الحسب؛ ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة" ا. هـ1.
هذا على أنه في شباب اللغة وريعان الأدب، والرواة يومئذ متوافرون، ومادة العرب لا تزال باقية؛ فكيف بنا وقد بعد العهد، وانقطعت الأسانيد، وبليت الصحف؛ وليس التدبير في أسماء
__________
1 عجز الجاحظ أيضًا عن ترتيب شواهد كتاب الحيوان، كما صرح بذلك في باب الضب في المصحف السادس من كتابه، وإن كان هذا العجز من معاني الفوضى التي اقتضتها طبيعة الأدب يومئذ.(1/14)
الخطباء الذي أعجز الجاحظ وهو ما هو، إلا جزءًا مما يجب من التدبير في أصول التاريخ كله إذا وسعنا في الكثير ما ضاق عنه في القليل؛ ولكن الذي ينظر أمامه إلى حد، فلما ينتبه إلى مقدار ما وراءه مما لا يحد.
وعلى هذه السبيل وضعت الكتب في "تاريخ أدبيات اللغة العربية"؛ فقد تصوروا حدودًا معينة من الزمن، لا يلبث أحدهم أن يمد إليها قلمه حتى يتجاوزها ويكاد يؤرخ ما في الغيب أيضًا.
وقد رأينا لتاريخ لحضارة في كل أمة راقية أربعة أبواب متفرقة على أركانه: وهي الأدب، والسياسة، والدين، والعلم فتلج الأمة في باب الأدب إلى نوع الكمال في عواطفها، ومن باب السياسة إلى مبلغ القوة في كيانها، ومن باب الدين إلى درجة السعادة في أنفسها، ومن باب العلم إلى ما تعز به في مجتمعها من هذه الثلاث. بيد أن تلك الأركان لا تستوي في جميعها ضعفًا وقوة، ولا في اعتماد أصل التاريخ على بعضها دون بعض؛ فقد كانت دعامة التاريخ العربي في قيامه أدبية محضة، ثم جاء الدين فاستتبع السياسة والعلم، لا جرم كان للأدب عندهم تاريخ خاص لا يمتزج بالدين ولا بالسياسة ولا بالعلوم، إلا من جهات معلومة تعرف بها وجوه الاتصال بين أجزاء تاريخهم في جملته وإفضاء بعضها إلى بعض في المخالطة والارتباط.
وبديهي أن تعاقب ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الأدب الإسلامي لم ينشىء لغة أفصح مما نطقت به العرب قبل ذلك، ولا جاء بشعر يباين أشعارهم في الجملة، ولا جعل لأدبائنا مذاهب متميزة في تكوين الدين والسياسة والعلم، بل ليس في تعاقب تلك العصور الأدبية على الأغلب إلا موت رجال وقيام رجال، وإلا أمور عرضية مما يترك في مادة الأدب آثارا قليلة تدلل على اختلاف القرائح وتباين الغرائز في أولئك الرجال قاموا عليه، وتاريخها متعلق بمواقع رجالها من طبقات الزمن؛ ثم هي من قلتها بحيث لا تبلغ إلا أن تلوي عليها بعض عرى التاريخ ويبقى سائره على تفصيله الذي أشرنا إليه آنفًا.
إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله، علمت السبب في حشو ما تراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم1 من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية، وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات، ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفو هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد؛ إذ ليس في تفتيش القبور عن بقايا الحياة إلا العظام، ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئًا إلى الأمام!
ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجًا معنويا تتعلق به حوادثها، كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري؛ ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلًا؟ فأيما امرؤ أجرى على الاثنين حكمًا واحدًا ظلمهما
__________
1 كل ما لا يراد منه إلا الكثرة.(1/15)
كليهما، وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ.
وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها؛ لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعًا جديدة، فكل رجل منهم في طريقته ومذهب فن علم "؟ "، أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي؛ ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية؛ إلا ما ندر، ولا حكم للنادر؛ وذلك لأن في لغتنا معنى دينيا سرها وحقيقتها، فلا تجد من رجل روى أو صنف أو أملى في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك، إلا خدمة للقرآن الكريم؛ ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقي أثر هذا المعنى في فواتح الكتب؛ والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها، وإن لم يفهم سر ذلك "من لا يفهمونه".
أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنيا على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم، كما هو الشأن في سواه؟
على أن المستشرقين فيما أرى لم يختاروا ذلك الوضع إلا لمكان العجمة منهم، إذ لا سليقة لهم في العربية وآدابها، وإن كان منهم رءوس في بعض فنون التاريخ العربي، ثم لأنهم يتعجلون الفائدة كيف أصابوها، فأيا ما يضعوا من ذلك فلهم به فضل؛ ثم هم يكتبون لأنفسهم ولأقوامهم، فلا يبالون بما تفتق عليهم هذه الطريقة التي يستمرون عليها. ولكن ما بال أدبائنا "أصلحهم الله" قد أضلوا الحجة وجهلوا بموضع الشبهة، فتابعوا على غير نظر وكانوا جميعًا في ذلك كإن وأخواتها فيما يعمل وما يكف؟ وما بالهم وهم بقية العرب وأهل اللسان وحفظة الكتاب، لا يأنفون أن يعدوا من "أدبيات اللغة" تاريخ علم الفلك مثلًا، وإن كانت روائع الألفاظ تشبه بالنجوم، ولا أن يقرنوا علم الصرف بعلم الكيمياء. وإن كان لكل منهما "وزن" معلوم1.
إن صنيع أولئك "المستشرقين" وهؤلاء "المستغربين" لا يعتبر في حقيقة التأليف إلا توسعًا من ضيق, وتوفيرًا من فلة، وإغراقًا في الحشد والاجتلاب؛ والفرق بعيد بين علم يورد منه المؤلف إشباعًا لكتاب، وبين كتاب يفرده إشباعًا للعلم نفسه؛ ولهذا بقي تاريخ آداب العرب محتاجًا إلى طريقة أخرى، لا يختصر فيها الزمن بسرعة النقل، ولا يرفه على الفكر بهذا "الاضطراب الرياضي" في وثوبه بين الكتب، ولا يستر فيها قبح التأليف بحسن التقسيم، ولا يقوى ضعف المعنى بما يكون من العناية، ولا تنفق الفصول الهزيلة سمنًا بما تلبس من الأوراق الكثيرة!
ولم تسقط دولة العقول في هذه الأمة إلا منذ ابتدأ العلماء يعتبرون العلم فهم العلم كما هو؛ فتهافتوا على ذلك باختصار الكتب وشرحها وتفتيقها بالحواشي والتعاليق "الهوامش"، وتلخيص
__________
1 كان العرب في صدر الإسلام يسمون ما عرف يومئذ من العلوم -كالنحو والفرائض- بعلوم الموالي، ويأنفون منها لأنها غميزة في سلائقهم، ثم لما استبحر العلم بعد شباب الدولة العباسية كان العلماء يفرقون بين "أنواع العلوم وأصناف الآداب" كما يؤخذ من طبقات الأدباء لابن الأنباري، وكل ذلك لأن المذاهب العلمية "اختصاص لا اختصار".(1/16)
المتون؛ ونحو ذلك مما يورث الاضمحلال، ويفقد العقل معنى الاستقلال، ويجعل القرائح كالظل المتنقل: كل آونة يقرب إلى الزوال.
وقد بلغ من أثر ذلك أن صار العلماء يجهلون حتى أسماء العلوم التي لم تمسخ على أيديهم، وخاصة في مصر؛ فهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد البر السبكي المتوفى بدمشق سنة 777هـ يقول: إنه يعرف عشرين علمًا لم يسأله عنها بالقاهرة أحد.
ونقلوا عن القاضي عز الدين بن جماعة المتوفى سنة 819هـ -وهو الذي كان يفاخر به المصريون علماء العجم في كل فن، ويشيرون إليه في أنواع المعقول- أنه كان يقول: أعرف ثلاثين علمًا لا يعرف أهل عصري أسماءها!
وكل ذلك من وناء الهمم، واجتماع العلماء من هذه الشروح على ما يشبه تشريح الرمم، حتى ليس إلا "قال وقيل، وإن قلت قلت، وفيها قولان......" ولعمري ما جبل "قاف" إلا جزء من هذه السلسلة ... 1.
وإذا كان عمود التاريخ سياقة الحوادث كما أسلفنا، فلا تزغم هذه الحوادث على أن تقع في غير وقتها، وتنفصل عن طبيعتها، وتتصل بغير طبقتها في التاريخ؛ ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق، وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور؛ فنخصص الآداب بالتاريخ، لا التاريخ بالآداب كما يفعلون؛ وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه، متقلبًا على كل عصوره، سواء أتسقت أم افترقت؛ فلا تسقط مادة من موضعها، ولا تقتصر على غير حقيقتها، ولا تلجأ إلى غير مكانها، ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه، لا ما يزين به من العبارة المونقة، ولا ما توصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التآليف، إلى أمثال ذلك في مواضع الاستكراه وضيق المضطرب؛ وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع، وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع.
وإذا تدبرت طريقتنا هذه، وقابلت آثارها بما شئت من آثار الطريقة الأخرى، وأحكمت ذلك بعقل راجح؛ وأنعمت فيه بنظر غير مدخول رأيت أي: هذه الكتب أحسن قيامًا على تاريخ الأدب، وأوفى بالحاجة منه، وأرد بالفائدة على طالبه، وتبينت أيها أضعف منزعة من الرأي والتدبير في طريقته، بما يكشف لك خلو باطنه من ورم ظاهره، وما تجده من سرعة الاتصال في هذا "الفراغ المعنوي" بين أوله وآخره.
المؤلف
__________
1 مما نورده تفكهة، أن بعض العلماء كان لا يقرأ دروسه إلا في كتب مخطوطة -تحققًا بالعلم- ومن عادتهم في المخطوطات أن يكتبوا أوائل الكلمات في الشروح والحواشي بالحمرة؛ فكان صاحبنا يدفع نسخته لأنبغ طلبته، يقرأ فيها ثم يشرح هو بعده، وكان إذا فرغ القارئ من جملة في المتن، أعادها الشيخ ومطل بها صوته وفخم كلماتها حتى يفرغ منها على هذا الوجه، ثم يبتدئ الشرح بقول للقارئ: قال أيه، قال: "شوف عندك الحمرا يا سيدي شوف".(1/17)
صفحة فارغة(1/18)
نمط الكتاب وأبوابه:
قد قلنا في طريقة الكتاب؛ أما تأليفه وأسلوبه ونمطه فإننا لم نأل جهدًا في البحث والتنقيب، ولم نأخذ في أمرنا بالرسلة، ولا استوطأنا منه الهين الهين؛ بل طاولنا ما طال من التعب، وصابرنا ما يعز عليه الصبر من الضجر، وما زلنا نرد النفس على مكروهها حتى استقرت، فلم نترك كتابا يمكن أن يستفاد منه حرف مما نحن بسبيله إلا قرأناه في طلبه1، وحملنا على النفس ما يكون من نصبه، وهذا أمر كما ترى متطاول، ومنال ولكن لم نجد له لبعده من متناول، ثم إن مواد هذا التاريخ إذ لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف، ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون لغيبها كالعراف، فقلما تجتمع إلا متفرقة في طلب مواضعها، منازعة إلى منازعها؛ لأنها في أصلها غير كاملة النسق، ولا قريبة المتسق؛ ومن تحرى ما تحريناه من ذلك يقف من تاريخ الأدب على غور بعيد.
ولم نبالغ في تهذيب العبارة، ولا تدقيق المعاني، ولا تنقيح الألفاظ؛ إذ كان سبيل التاريخ أن لا يجيء عن طبقة واحدة من الناس، فبالحري لا يوضع لطبقة واحدة منهم، وحسبنا من البلاغة أن يكون كتبانا لمقتضى الحال.
ولم نستكثر من الأمثلة "والمختارات"؛ رغبة منا عن حشو الكتاب بما لا فائدة فيه إلا تعذيب حجمه، وتذنيب نجمه؛ إذ كان ذلك لا يغني شيئًا في مادة التاريخ إلا قليلًا منه يستوفى به حق النقد، ويدل ببعضه على أثر من آثار ما نحن فيه، والأمثلة مطروحة في طرق النظر من كل كتاب، وقد ابتذلها المتأخرون حتى لم يعد من دونها حجاب2.
وكذلك ضربنا صفحًا عن الروايات الضعيفة، والمبالغات السخيفة، وما اعترضنا من التكاذيب والتهاويل إلى ما يدل في تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وبالغنا في التثبت والتحقيق وتصفح الآراء وتجريح النقلة والرواة، مقتصدين في الثقة بهم، معتدلين في التهمة لهم، لا نتجاوز مقدار
__________
1 اصطلح بعض المتأخرين على أن يذكروا في مؤلفاتهم أسماء الكتب التي ينقلون عنها؛ ويعينون مواضع النقل ليخرجوا من تبعة ما ينقلون إذا كان خطأ، فيلقون ذلك على الكتاب زيادة في حسنات مؤلفه1.
وقد كان سبيل الرواية عند محققي المتقدمين أن يذكر الرواية سنده في كل ما يرويه للقطع بصحته أو فساده، إذ العدالة شرط في الصحة؛ فإن لم يذكر أنه روي عن فلان عن فلان إلخ يسميهم، لم تعرف عدالة المروي عنهم، ولا يوثق بصحة ما يرويه؛ وبذلك لا يكون ذكر السند إلا لإثبات الصحة، وسيأتيك هذا البحث مستفيضًا. أما نحن فلما لم يكن لنا سند. وكنا نستهجن أن نثبت شيئًا لا نمخض الرأي فيه ولا نثق بصحته بعد تقدم النظر، دون أن ننبه عليه إذا مست الضرورة إلى إثباته فقد أهملنا ذكر الكتب؛ لأن ذلك تطويل من غير طائل؛ ولأننا نبسط كل معنى نأخذ فيه، ولم نعين مواضع ما ننقله لأن علينا تبعته.
2 لعلنا نتبع هذا التاريخ بكتاب "القرائح العربية" الذي انتقينا فيه عيون الكلام نظمه ونثره إن شاء الله!.
قلت: وكم كان للمؤلف -رحمه الله- من آمال أعجله الموت دون تمامها؛ ومن بينها هذا الكتاب!(1/19)
الصواب حتى نقبل ما لا يعقل، ولا مقدار الوهن حتى نلحق ما يقبل بما لا يقبل.
وقد جعلنا أبوابه اثني عشر بابًا تنطوي على جملة المأثور، ويدور عليها التاريخ كما تدور السنة على عدة الشهور، وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تأريخ الأدب، وأصل العرب:
"الباب الأول": في تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك.
"الباب الثاني": في تاريخ الرواية ومشاهير الرواة وما تقلب من ذلك على الشعر واللغة.
"الباب الثالث": في منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه، وفي البلاغة النبوية ونسق الإعجاز فيها.
"الباب الرابع": في تاريخ الخطابة والأمثال: جاهلية وإسلامًا.
"الباب الخامس": في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلتحق بذلك.
"الباب السادس": في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها.
"الباب السابع": في أطوار الأدب العربي وتقلب العصور به وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها، ومصرع العربية فيها.
"الباب الثامن": في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب وما يجري هذا المجرى.
"الباب التاسع": في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهلية وإسلامًا "بالإيجاز" التاريخي.
"الباب العاشر": في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية.
"الباب الحادي عشر": في الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها.
"الباب الثاني عشر": في الطبقات وشيء من الموازنات1.
هذه هي حوادث التاريخ وأبوابه، ومنها كما ترى فصوله وكتابه، وأنا أسأل الله أن يكون قد كتب فيه من السلامة ما يحقق به الفائدة للقراء، وأن يهب له من حسنات أهل الإنصاف ما يكفر عن سيئات أهل المراء. والحمد لله على ما أنعم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1وزعت هذه الأبواب على أجزاء الكتاب كما يلي: حوى الجزء الأول البابين، الأول والثاني، وحوى الجزء الثاني الباب الثالث، وكان يفرض -حسب هذا التقسيم- أن يحوي الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب" الأبواب الباقية، أي: من الباب الرابع إلى آخر الباب الثاني عشر، ولكن المشرف على الطبعة الأولى للجزء الثالث، المذكور، بين في المقدمة التي صدر بها ذلك الجزء، أنه لم يجد بين أوراق المخطوطة، أوراقًا تتضمن الأبحاث التي تؤلف الأبواب الرابع والثامن والتاسع والثاني عشر، حسبما أشار المؤلف. ولعله -أي: المؤلف- كان ينوي الكتابة فيها ولم يفعل.
لمزيد من المعلومات عن تكوين الجزء الثالث تراجع مقدمة المشرف المشار إليها. "الناشر".(1/20)
تمهيد
الفصل الأول: الأدب- تأريخ الكلمة
...
تمهيد:
الفصل الأول: الأدب.
الأدب: تاريخ الكلمة.
تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب؛ ومنه الحديث الشريف: $"أدبني ربي فأحسن تأديبي". ولعل ذلك كان توسعًا منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض؛ فإنهم يقولون: أدب القوم يأدبهم أدبًا، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمها وطلها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله؛ ولذلك تمدحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يؤثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات.
فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني الإنسانية عندهم؛ لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحي غاية، توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفًا نفسيا كما مر؛ ولا بد أن يكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم، واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سببًا في انتباههم في هذا الوضع؛ لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحًا وراثيا.
ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعًا ثانيًا في مدلول "الأدب" لأنه اكتسب معنى علميا إذ صار أثرًا من آثار التعليم.
ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة(1/21)
ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها.
وقال ابن خلدون في حد الأدب: "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه ... ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف. ا. هـ.
فهذا كما ترى ثبت لما قررناه؛ لأن كل ما عدوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهليا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول؛ لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرمين ولا المحدثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها اتصلت بهم أو كانت منهم بسبب. والعجب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب ومشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره.
بلى، قد روى صاحب "العقد الفريد" في باب الأدب من كتابه كلمة أسندها لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهي قوله: "كفاك من علم الدين "أن تعلم"1 ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"، ومقتضى ذلك أن "علم الأدب" كان بالغًا من الإتساع في عهد ابن عباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه رواية الشاهد والمثل للقرآن والعربية، وهو نهاية الغرابة والشذوذ؛ لأن ابن عباس توفي فيما بين سنة 68 و74هـ، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب.
وقد تناقل المتأخرون هذه الرواية عن العقد الفريد دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان. ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين، وتوفي سنة 125 وقيل 126هـ، ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلسًا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر. ولو كان لفظ الأدب معروفًا يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث؛ فالكلمة إذن من موضوعات القرن الثاني، أي: بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي.
__________
1 سقطت هذه الكلمة من نسخ العقد الفريد.(1/22)
أما في القرن الأول فقد كانوا يسمون ما يقرب من ذلك بـ"علم العرب" كما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" إذ نقل عن المدائني حديثًا تصادر عليه ابن عباس وصعصعة بن صوحان، وفيه أن ابن عباس بعد أن سأل الرجل عن قومه وعن الفارس فيهم ونحو ذلك مما يتعلق بالأيام والمقامات قال: أنت يابن صوحان باقر علم العرب1. وما كان الأدب الاصطلاحي بأكثر من هذا العلم يومئذ.
وبعد أن عرفت حدود الأدب في القرن الثاني واشتهرت الكلمة، بقيت لفظة "الأدباء" خاصة بالمؤدبين، لا تطلق على الكتاب والشعراء، واستمرت لقبًا على أولئك إلى منتصف القرن الثالث، ومن ذلك كان منشأ الكلمة المشهورة "حرفة الأدب" وأول من قالها الخليل بن أحمد صاحب العروض المتوفى سنة 175هـ، وذلك قوله كما جاء في "المضاف والمنسوب" للثعالبي: "حرفة الأدب آفة الأدباء"؛ لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم ولا يؤدبون إلا ابتغاء المنالة، وذلك حقيقة معنى الحرفة على إطلاقها2.
فلما فشت أسباب التكسب بين الشعراء في القرن الثالث، وبطلت العصبية التي كانت تجعل للشعر معنى سياسيا فاتخذوه حرفة يكدحون بها، وجعلوه مما يتدرع به إلى أسباب العيش، جائزة خليفة أو منادمة أمير أو ما دون ذلك من الأسباب أيها كان انتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة، ولم يلبثوا أن استأثروا به لتوسعهم في تلك الأسباب.
ثم جاء ابن بسام الشاعر المتوفى سنة 303هـ فجعل "الحرفة" نبزًا، وأخرجها عن وضعها اللغوي إلى معنى مجازي غلب على حقيقتها واستبد بها فأرسلها مثلًا. وذلك فيما رثى به عبد الله بن المعتز حين قتل في سنة 296هـ ودفن في خربة بإزاء داره بعد جلال الإمارة وعزة الملك إذ يقول:
لله درك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لو ولا ليت فتنقصه ... لكنما أدركته "حرفة الأدب"
وهذا هو أصل الكلمة التي تعاورها الأدباء، واعتبرها الشعراء ميراثًا دهريا إلى اليوم، وإنما يتناولها ابن بسام من لغة العامة، وطبعها على شيء من عبث أخلاقه التي بلغت من هجاء الأمراء والوزراء وذوي المكانة من الناس إلى هجاء أبيه وإخوته وسائر أهل بيته حتى سنها طريقة، فيقال لمن يقفو أثره في عبث اللسان: "إنه يجري في طريق ابن بسام".
ثم صارت الآداب من يومئذ تطلق أيضًا على فنون المنادمة وأصولها، وأحسب ذلك جاءها من
__________
1 الباقر: المتبحر في العلم، وبه سمي محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم لتبحره.
2 يقال: أحرف الرجل إحرافًا، إذا نما ماله وكثر، والاسم الحرفة من هذا المعنى. قال قطرب: والحرفة عند الناس: الفقر وقلة الكسب، وليست من كلام العرب، إنما تقولها العامة.(1/23)
طريق الغناء؛ إذ كانت تطلق عليه في القرن الثالث؛ لأنه بلغ الغاية من إحكامه وجردت فيه الكتب، وأفردت له الدواوين من مختارات الشعر، كما سنفصله في موضعه، وكانوا يعتبرون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى الآداب، وفيها وضع عبيد الله بن طاهر من ندماء الخليفة المعتضد بالله المتوفى 289هـ كتابه "الآداب الرفيعة"1. لذلك قال ابن خلدون: إن الغناء في الصدر الأول كان من أجزاء هذا الفن "الأدب" وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه.
وقد ألف كشاجم الشاعر الرقيق الذي كان طباخ سيف الدولة بن حمدان كتابه "أدب النديم" أودعه ما لا يستغني عن شريف، ولا يجوز أن يخل به ظريف؛ وهو مطبوع مشهور. وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري من شعراء القرن الرابع أيضًا، وقد جمع "حرف" الآداب:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العز والنعم
فالطرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم2
وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلدين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على إصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب3
ولم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظ "الأدباء" قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيته الشعراء والكتاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذ وتخصص الطبقات بها، على ما كان من ضعف الرواية ونضوب مادتها حتى قالوا: "ختم تاريخ الأدباء بثعلب والمبرد". وكانت وفاة المبرد سنة 258هـ، وثعلب سنة 291هـ؛ فيكون ختام تاريخ الأدباء "أي: المعلمين" في أواخر القرن الثالث، ومن يومئذ أخذ الأدب يتميز عن علم العربية، بعد أن كانوا يعدون "الأدباء" أصحاب النحو والشعر، وإن كان ذلك بقي موضوع علم الأدب؛ ومن هذا أنه لما وضع علي بن الحسين المعروف بالباخرزي4 كتابه "دمية القصر" الذي جعله ذيلًا على "اليتيمة" للثعالبي، عقد فيه فصلًا "لأئمة الأدب" قال في أوله: "هؤلاء قوم ليس لهم في دواوين الشعر رسم، ولا في قوانين الشعراء اسم" ثم ترجم طائفة من علماء اللغة: كأبي الحسين بن فارس صاحب "فقه اللغة"، وابن جني النحوي، وأسد
__________
1 تصلح هذه الكلمة أن تكون تعريبًا لما ترجمه المتأخرون "بالفنون الجميلة" Beaux arts وعبيد الله هذا كان نادرة في الغناء، قال صاحب الأغاني: إنه توصل إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به.
2 الطرف: الكريم من الخيل، والأوهاق: جمع وهق، قال الليث: هو الحبل المغار يرمي في أنشوطه فتؤخذ به الدابة والإنسان، وغرض الشاعر أن يجمع حرف الكدية التي ينال بها، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث الشعر.
3 العنجهية: الحمق والجهل، واللوثة: الهيج والحمق أيضًا، والمراد بكل ذلك جفاء الأخلاق.
4 نسبة إلى باخرز: ناحية من نواحي نيسابور، وقتل علي هذا في بعض مجالس الأنس 467.(1/24)
العامري، والجوهري صاحب "الصحاح"، وتلميذه أبي صالح الوراق1، فدل صنيعه على أن الشعراء، يومئذ كانوا هم المستبدين بلقب الأدباء، ولا يزالون على ذلك إلى اليوم وإلى ما شاء الله؛ لأن معنى الأدب قد استحجر فعاد لغويا كأنه كذلك في أصل الوضع، من جهة الدلالة به على الشعراء والكتاب.
__________
1 وكذلك ألف الفرزدقي القيرواني المتوفى سنة 479هـ في تراجم اللغويين والنحاة كتابًا سماه "شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب"، دع عنك كتب طبقات "الأدباء" في تراجم القوم، وهي مشهورة.(1/25)
المؤدبون:
وقد أشرنا إلى المؤدبين فيما سبق، ونحن ذاكرون طائفة منهم تتبعنا أسماءهم فيما بين أيدينا من كتب الأدب والتاريخ؛ لأنهم كانوا مادة هذه الكلمة، وإنما قيل لهم المؤدبون تمييزًا لهم من المعلمين الذي اختصوا بإقراء صبيان العامة في الكتاتيب، فإن هؤلاء لم يكن يطلق على أحدهم إلا لقب المعلم، وقد جعلوهم مثلًا في الحمق حتى قالوا: "الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين" ثم جعلوا الحاكة والغزالين أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى؛ لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، وليس عند هؤلاء صواب جيد في مقال ولا فعال، فبقي الحمق في عرفهم خاصا بالمعلمين.
أما المؤدبون فهم الذين ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى تعليم أولاد الخاصة أو أولاد الملوك المرشحين للخلافة، وأخذهم بفنون الآداب: كالخبر والشعر والعربية ونحوها، ولذا كانوا يسمونها "علوم المؤدبين".
قال الجاحظ: مر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أف لكم! علم المؤدبين وهمة المحتاجين1.
على أن المؤدبين كانوا عندهم على ضربين: أصحاب العلوم، وأصحاب البيان وكانوا يخصون هؤلاء بالأثرة، قال ابن عتاب: "يكون الرجل نحويا عروضيا، وقسامًا فرضيًا2، وحسن الكتابة جيد الحساب، حافظًا للقرآن راوية للشعر، وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهمًا، ولو أن رجلًا كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم". ومن ثم اختص مشاهير العلماء والرواة بتأديب أولاد الخلفاء والأمراء.
فمن المؤدبين أبو معبد الجهني، وعامر الشعبي، كانا يعلمان أولاد عبد الملك بن مروان، وهما أقدم المؤدبين فيما وقفنا عليه3؛ ويزيد بن مساحق، أدب الوليد بن عبد الملك أيضا؛ وعبد الصمد بن الأعلى، أدب الوليد بن عبد العزيز؛ والجعد بن درهم، كان يعلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ والشرقي بن القطامي، كان يؤدب المهدي بن المنصور؛ وأبو سعيد المؤدب، كان يؤدب موسى الهادي؛ ومحمد بن المستنير المعروف بقطرب، كان يؤدب المهدي؛ وأبو عبيدة كان يؤدب الرشيد؛ والأحمر النحوي كان يعلم الأمين، ثم أدبه الكسائي؛ وفي "طبقات الأدباء" أن الكسائي كان يؤدب
__________
1 وكانوا يقولون: لا ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار أما غير ذلك فالنتف والشذور.
2 عالمًا بالمواريث.
3 وأقدم من عرف من المعلمين قبل ظهور لقب المؤدب، أبو الأسود الدؤلي: كان تجتمع له الناس فيعلمهم النحو تعليمًا.(1/26)
الرشيد أيضًا. واليزيدي النحوي، كان يؤدب المأمون؛ والفراء كان يؤدب ولدى المأمون، وقيل إنه نهض يومًا لبعض حوائجه فابتدرا إلى نعله ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها, ثم اصطلحا على أن يقدم كل منهما واحدة، ورفع ذلك إلى المأمون فاستدعاه، فلما دخل عليه قال له: من أعز الناس؟ قال: لا أعرف أحدًا أعز من أمير المؤمنين! فقال المأمون: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فردًا! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، أو أكسر نفسيهما عن شريفة حرصا عليها إلخ.
وكان المفضل الضبي يؤدب الواثق؛ وألزم المتوكل يعقوب بن السكيت، المتوفى سنة 244هـ تأديب ابنه المعتز، قالوا: فلما جلس عنده قال له: يا بني، بأي شيء يحب الأمير أن يبدأ من العلوم؟ قال: بالانصراف. ثم اختار المتوكل لتأديب المعتزل وأخيه المنتصر أبا جعفر بن ناصح، وأبا جعفر بن قادم، ومن ذلك العهد بدأ لقب المؤدب ينزل عن رتبته، إذ كانت العجمة قد فشت وضعفت النزعة العربية في الدولة، فجاء تاريخ الأدباء -كما قيل- بثعلب والمبرد الذين تخرج عليهما عبد الله بن المعتز، أما مؤدبه فكان أبا جعفر بن عمران الكوفي.
وقد ضربنا صفحًا عن أدباء المعلمين ممن دارسوا أولاد الخاصة والأمراء؛ لأن فيما قدمناه كفاية على برهان ما ذهبنا إليه.(1/27)
علوم الأدب وكتبه:
كان الأدب -كما أسلفنا- مجموع علوم المؤدبين، فلا جرم حدوه كما رأيت فيما نقلناه عن ابن خلدون، وهو حد يطابق أمرهم كل المطابقة، فلما أرادوا تعيين هذه العلوم، نظروا في غرض الأدب فجعلوا له غرضين: أحدهما يقال لها لغرض الأدنى، والثاني الغرض الأعلى، فالأول أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوة يقدر بها على النظم والنثر، والغرض الأعلى أن يحصل للمتأدب قوة على فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويعلم كيف تبنى الألفاظ الواردة في القرآن والحديث بعضها على بعض حتى تستنبط منها الأحكام وتفرع الفروع وتنتج النتائج وتقرن القرائن على ما تقتضيه معاني كلام العرب ومجازاتها.
قال البطليوسي -وهو الذي ننقل عنه هذه الكلمات من "شرح أدب الكاتب": والشعر عند العلماء أدنى مراتب الأدب، ثم نظروا في تعيين العلوم التي تفضي إلى هذه المقاصد، فاختلفوا فيها، ولكنها في الجملة كانت علوم العربية، ولم يعينها أحد إلى أواخر القرن الخامس. فلما أنشئت المدرسة النظامية ببغداد، أنشأها نظام الملك -وزير ملك شاه السلجوقي- المتوفى سنة 485هـ، اختير لتدريس الأدب فيها أبو زكرياء الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502هـ وهو من أئمة اللغة والنحو، ثم درسه بعده علي بن أبي زيد الفصيحي، وكان نحويا، ثم عزل "لتهمة التشيع" بأبي منصور الجواليقي، وتعاقب هؤلاء المدرسين جعل للأدب موضعًا معينًا كان لا يزال مقررًا عند العلماء إلى آخر القرن السادس، على ما ذكره ابن الأنباري المتوفى سنة 577هـ في "طبقاته" فإنه لما ترجم هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: "إنه كان عالمًا بالنسب، وهو أحد علوم الأدب؛ فلذلك ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر وأخبار العرب، وأنسابهم ... " ثم قال: "وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما: علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو"1.
إلا إن الزمخشري المتوفى سنة 538هـ. أراد أن يجعل للأدب حدا علميا من الحدود -الجامعة المانعة- على طريقة المتكلمين، فعرف علوم الأدب بأنها علوم يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظًا وكتابة، وجعلها اثني عشر، منها أصول لأنها العمدة في ذلك الاحتراز، وهي: اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع "وجعلوه ذيلًا لعلمي المعاني والبياثن داخلًا تحتهما" والعروض، والقوافي.
ومنها فروع، وهي: الخط -أي: الإملاء- وقرض الشعر، والإنشاء، والمحاضرات، ومنه التواريخ.
__________
1 لذلك تفصيل سيأتي في موضعه عند الكلام على النحو.(1/28)
وهذا التقسيم هو المعروف عند العلماء إلى اليوم.
وقال صاحب "نفح الطيب": "إن علم الأدب في الأندلس كان مقصورًا على ما يحفظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات، قال: وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو عقل مستثقل".
أما كتب الأدب فهي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت، بيد أن أهل اللغة كانوا ينتحلون لفظة الأدب في تسمية كتبهم الخاصة بأوضاع اللغة وشواهدها؛ لأن اللغة أصل المادة، فمن ذلك: ديوان الأدب، وكتاب ديوان العرب وميدان الأدب، وروض الآداب، ومفتاح الأدب، وسر الأدب، ومقدمة الأدب، وعنوان الأدب، وكلها في اللغة، ذكر صاحب "كشف الظنون" وغيره، وبعضها موجود، كديوان الأدب للفارابي، ومقدمة الأدب للزمخشري، ومن هذا القبيل "أدب الكاتب" لابن قتيبة ولابن دريد ولابن النحاس وغيرهم.
أما الكتب التي هي من شرط الأدب فكثيرة، وأصولها كما قال ابن خلدون: أربعة دواوين، وهي: "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وكتاب "الكامل" للمبرد، وكتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، وكتاب "النوادر" لأبي على القالي البغدادي1 وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفرغ عنها.
وإنما عدت هذه الأربعة أصولًا؛ لأنها تدور على فنون الرواية. وقد وضعت كتب كثيرة، وأشهرها كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي، وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، وهو الكتاب الذي استوعب فيه أخبار العرب وأنسابهم وأشعارهم وأيامهم ودولهم، فكان أفضل ما يتأدب به في العربية، وكثرت كذلك كتب الأمالي والتذاكر، وأعظمها "أمالي" ابن الشجري، وتذكرة الصلاح الصفدي، وللكلام في ذلك موضع نتولى فيه بسطه، وتوفيه قسطه إن شاء الله.
__________
1 كل هذه الكتب مطبوع مشهور، وقد شرحت كلها شروحًا مختلفة، ما عدا البيان والتبيين؛ ولولا التفادي من الملل لأتينا على تاريخ كل كتاب منها.(1/29)
الفصل الثاني: العرب.
هم جيل من الناس تدلت عليه الشمس منذ القدم في هذه الجزيرة, التي كأنها قطعة انخزلت من السماء مع الإنسان الأول، فلا يزال أهلها أبعد الناس منزعًا في الحرية الطبيعية، وأشدهم منافسة في مغالبة الهمم، كأنما ذلك فيهم ميراث الطبيعة الأولى، فهم منه ينبتون وعليه يموتون.
سكان الفيافي وتربية العراء، ينبسطون مع الشمس ويفيئون مع الظل ويطيرون في مهب الهواء، بل أولاد السماء، ما شئت من أنوف حمية، وقلوب أبية، وطباع سيالة، وأذهان حداد، ونفوس منكرة؛ وقد أصبحت بقاياهم الضاربة في بوادي العربية ومصر وسورية لهذا العهد، موضع العجب لأهل البحث من علماء الطبائع، حتى أجمعوا على أنه لا ند لهذا الجنس في جميع السلائل البشرية، من حيث الصفات التي تتباين فيها أجناس البشر خلقًا وخلقًا، وحتى صرح بعضهم بأن هذه السلالة تسمو على سائر الأجيال، بالنظر إلى هيئة القحف وسعة الدماغ وكثرة تلافيفه وبناء الأعصاب وشكل الألياف العضلية والنسيج العظمى وقوام القلب ونظام نبضاته. فضلًا عما هي عليه من ملاحة السحنة وتناسب الأعضاء وحسن التقاطيع ووضوح الملامح، وفضلًا عما في طباعها من الكلام والأنفة والأريحية وعزة النفس والشجاعة.
لا جرم كانوا أهل هذه اللغة المعجزة التي ناسبتهم بأوضاعها في معاني التركيب، حتى كأنما كتب لها أن تكون دين الألسنة الفطري، لتصلح بعد ذلك أن تكون لسان دين الفطرة.(1/30)
بلاد العرب:
العربية شبه جزيرة موقعها إلى طرف الجنوب الغربي من قارة آسيا، ويحدها من الشمال سورية، ومن الشرق الفرات حتى مصبه في خليج العجم وجهة من بحر الهند، ومن الجنوب بحر الهند أيضًا، ومن الغرب البحر الأحمر، وكانوا يحدونها قديمًا بأنها من بحر القلزم "الأحمر" إلى بحر البصرة ومن أقصى الحجر1 باليمن إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام؛ ثم يقسمونها معتبرين الأصل في ذلك جبل السراة الذي تبتدئ سلسلته في اليمن وتمتد شمالًا إلى أطراف بادية الشام، فتجعل العربية شطرين: عربيا وشرقيا، ينحدر هابطًا، فيسمونه لذلك: الغور وتهامة، ويرتفع الشرقي إلى أطراف العراق والسماوة، فيسمونه نجدًا -ومن هذا قولهم: أغار وأنجد- ويسمون ما فصل بين تهامة ونجد، بالحجاز؛ لأنه يحجز بينهما، ثم يسمون ما ينتهي به نجد في الشرق حتى يصل إلى خليج فارس من بلاد اليمامة والبحرين وعمان وما إليها بالعروض، لاعتراضها بين اليمن ونجد؛ ويسمون القسم الجنوبي مما وراء الحجاز، باليمن، لوقوعه عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق.
فالعربية عندهم خمسة أقسام كبيرة؛ اليمن: وهو إلى الجنوب، يحده البحر من ثلاث جهات، ويحد من الجهة الرابعة بتهامة واليمامة والبحرين. ومن هذا القسم حضرموت وعمان والشحر ونجران.
وتهامة: وهي شمال اليمن وإلى شرق البحر الأحمر وغرب الحجاز.
والحجاز: وهو جبال انتثرت فيها المدن والقرى، وأشهر مدنه مكة والمدينة.
ونجد: وهو بين الحجاز والعراق العربي غربًا وشرقًا، وبين اليمامة والشام جنوبًا وشمالًا، وهذا القسم أطيب أرض في بلاد العرب، ولذا كانت بواديه من معادن الفصاحة.
واليمامة، وهي بين اليمن ونجد جنوبًا وشمالًا، وبين الحجاز والبحرين غربًا وشرقًا.
وأحسن ما انتهى إلينا مما هو خاص بوصف البلاد العربية على نحو عهدها الجاهلي، هو كتاب "صفة جزيرة العرب" للهمداني المعروف بابن الحائك المتوفى سنة 334هـ، فقد رحل إليها ووصفها كما رآها واستقصى في ذلك وبالغ إلى حد التحقيق.
__________
1 والحجر: في شمال الجزيرة، وهي ديار ثمود.(1/31)
أصل العرب:
ليس من شأننا في هذا الكتاب أن نستغرق ما قيل عن العرب وأصلهم ومنشئهم، وما حققه من ذلك علماء البحث من المتأخرين الذين استثاروا الدفائن واستنطقوا الآثار واستخرجوا تاريخ الحياة من القبور، ولا أن نستوفي معاني الاجتماع العربي مما يدخل في العادات والأديان ونحوها، فذلك مما يحتمل المجلدات الكثيرة، وهو منحى تبعد الصلة بينه وبين ما نحن بسبيله من آداب اللسان، ولذلك نلم بهذا المعنى مكتفين منه بما تمس إليه حاجة التحديد وما توفى به فائدة هذا التمهيد.
العرب أحد الشعوب السامية، نسبة إلى سام بن نوح، وهي الأمم التي ذكرت التوراة أنها من نسله، وتسمى لغاتها باللغات السامية أيضًا، كالعربية والعبرانية، والسريانية، والحبشية، والآرامية، وغيرها، وهي تسمية استحدثها بعض المتأخرين من علماء اللغات.
وقد اختلف الباحثون في منشأ تلك الشعوب الذي امتهدته وتفرقت منه، فذهب بعضهم إلى أن مهد الساميين الحبشة في أفريقيا، وقال آخرون: بأن مهدهم جزيرة العرب. والقائلون بهذا الرأي أكثر نفرًا وأعز أنصارًا، ولهم في ذلك آراء أخرى متنوعة الأدلة، ولكن مما لا يمترون فيه أن العربية كانت أبعد آفاق التاريخ التي أضاء فيها كوكب الحضارة المشرق، وقد تحققوا ذلك بما اكتشفوه سنة 1901 للميلاد في بلاد السوس من آثار دولة حمورابي وهي المسلة التي دونت عليها الشريعة البابلية في 282 نصا، وما ثبت لهم من أن هذه الدولة عربية، وهي تبتدئ سنة 2460 ق. م. وبهذا الاكتشاف قضي للجنس العربي أنه أسبق الأمم إلى وضع الشرائع، وأنه بلغ طبقة عالية في الحضارة سقطت دونها الشعوب القديمة؛ بل يذهب الأستاذ صموئيل لاينج في كتابه "أصل الأمم" إلى أن الساميين استوطنوا بلاد العرب، وأنهم حيثما وجدوا في غيرها فهم غرباء، وأن تقدمهم في الحضارة معرق في القدم ربما كان زمن تحول العصر الحجري، فتحولوا يومئذ عن الصيد والقنص إلى الزراعة والصناعة، وهو يشير بذلك إلى "الدولة المعينية" التي جاء ذكرها في سفر الأخبار الثاني الإصحاح 26 عدد 7؛ وقد عثر الباحثون على أمة بهذا الاسم ذكرت في أقدم آثار بابل سنة 3750 ق. م. على نصب من أنصاب النقوش المسمارية.
وبالجملة فإن أصل العرب من أصول التاريخ الإنساني التي ألحقها الله بغيبه، فلا يجليها لوقتها إلا هو، وفوق كل ذي علم عليم.(1/32)
طبقات العرب:
المؤرخون على أن العرب قسمان: بائدة، وباقية؛ ويسمون البائدة بالعرب العاربة، على التأكيد للمبالغة -كما يقال: ليل لائل، وصوم صائم، وشعر شاعر: يؤخذ من لفظه فيؤكد به- وذلك لرسوخهم في العربية كما يقولون.
ويقسمون الباقية إلى قسمين: يسمون الأول بالعرب المستعربة؛ لأنهم ليسوا بصرحاء في العروبة، ولا خلصًا، بل هم استعربوا بانتقال الصفات العربية إليهم ممن قبلهم، وهم من بني حمير بن سبأ؛ ويسمون القسم الثاني بالعرب التابعة للعرب، وهم من قضاعة وقحطان وعدنان وشعبيها العظيمين: ربيعة ومضر.
وقد يقسمون العرب إلى ثلاث طبقات: بائدة، وعاربة، ومستعربة1. ويريدون بالبائدة القبائل الهالكة، وبالعاربة عرب اليمن ومن ولد قحطان، وبالمستعربة أولاد إسماعيل عليه السلام؛ لأنه كان عبرانيا فاستعرب بعد أن اتصل بجرهم الثانية من ولد قحطان وأصهر إليهم.
وقد يطلقون على القسم الأول من قسمي العرب الباقية: القحطانية، والسبئية، والحميرية، والكهلانية، واليمنية، والكلبية. وعلى القسم الثاني: الإسماعيلية، والعدنانية، والمعدية، والمضرية، والقيسية.
العرب البائدة:
وهذه يريدون بها القبائل التي بادت واندثرت أخبارها فلم يقع إلى التاريخ شيء منها، وهي: عاد، ومسكنهم الأحقاف.، وثمود في الحجر، وأميم في بادية أبار بين عمان والأحقاف، وعبيل: في يثرب. وطسم وجديس: ومسكنهم اليمامة. والعمالقة: وهم قبائل عدة مساكنهم عمان، والحجاز وتهامة ونجد وتيماء وبطره -وهي التي سماها اليونان بالعربية الصخرية، غير البتراء المذكورة في سيرة ابن هشام2- وفلسطين، وجاسم: وهي قبيلة تفرعت من العماليق. وجرهم الأولى: ومسكنهم باليمن -ومن بقايا جرهم الثانية الذين هاجروا إلى مكة وتزوج منهم إسماعيل عليه السلام ثم ألحدوا في الحرم فنزل بهم العذاب- ووبار: ومسكنهم أرض وبار باليمن3.
__________
1 يسمي بعضهم البائدة بالعاربة، والقحطانية بالمتعربة، والإسماعيلية بالمستعربة: وبعضهم يجعل المتعربة والمستعربة مترادفتين، ويراد بهما الإسماعيلية؛ واختلاف المؤرخين في ذلك إنما جاء في تطبيقهم أقوال علماء اللغة على التاريخ؛ فإنهم يريدون في اللغة بالعاربة والعرباء: الخلص، وبالمتعربة والمستعربة: الدخلاء.
2 ذكرت في سياق غزوة النبي صلى الله عليه وسلم لبني لحيان. وأين بنو لحيان من أرض الأنباط.
3 عد ابن دريد في الجمهرة، العرب العاربة سبع قبائل، وقال: هي عاد، وثمود، وعمليق، وطسم، وجديس، وأميم، وجاسم. وعدهم ابن قتيبة تسعًا كما سيأتي.(1/33)
ومما نذكره للدلالة على بعض مزاعم العرب في آثار القبائل البائدة، ما حكاه الجاحظ في "الحيوان" قال: "زعم أناس أن من الإبل وحشيا. فزعموا أن تلك الإبل تسكن أرض وبار؛ لأنها غير مسكونة، ولأن الحيوان كلما اشتدت وحشيته، كان للخلاء أطلب، قالوا: وربما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض فيضرب في أدنى هجمة من الإبل الأهلية، فالمهرية1 من ذلك النتاج. وقال آخرون: هذه الإبل الوحشية.... من بقايا إبل وبار، فلما أهلكهم الله تعالى..... بقيت إبلهم في أماكنهم التي لا يطرقها أحد، فإن سقط إلى تلك الجزيرة بعض الخلعاء أو من أضل الطريق، حثا الجن في وجهه، فإن ألح خبلته".
وقد حقق أهل البحث من المتأخرين شيئًا من تاريخ بعض القبائل البائدة، وعينوا أزمنتها، مستندين في ذلك إلى التوراة، وما ذكره قدماء الجغرافيين، ثم إلى ما اكتشفوه آخرًا من الآثار في طرفي الجزيرة؛ وليس ذلك من غرضنا فنكتفي بالإيماء إليه.
القحطانية:
وهم عرب اليمن، ينسبونهم إلى يعرب من قحطان، وهو المذكور في التوراة باسم "يارح بن يقظان" وقحطان عند نسابة العرب ابن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
ويعرب هذا هو الذي يزعم العرب أنه أصل اللغة الفصحى، قال حسان بن ثابت:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا، فصرتم معربين دوي نفر
وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام، وكنتم كالبهائم في القفر2
وفي تاريخ هذه الطبقة القحطانية عند العرب تخليط كثير لا سبيل إلى تخليص الحقيقة منه، وقد عرف أهل البحث من علماء المتأخرين -بما أصابوه من الآثار في أطلال اليمن وبعض أطلال أشور وغيرها- أنه قامت في اليمن ثلاث دول كبرى كلها ذات شأن: وهي المعينية، والسبئية، والحميرية. والمعينيون أبعد في القدم من قحطان، ولم يعرفهم مؤرخو العرب ولا عرفوا الدولة السبئية؛ وهم
__________
1 الهجمة من الإبل: الجماعة منها، وقد اختلفوا في عددها، والمهرية إبل منسوبة لمهرة بن حيدان "بفتح الميم والحاء" وهو حي من أحيائهم.
2 في كتاب العرب لابن قتيبة: أن أصل العربية لليمن؛ لأنهم من ولد يعرب بن قحطان قال: وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل، وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن اتبعه من أهل بيته، ثم نطق بعده ثمود بلسانه، وشخص حتى نزل الحجر..... إلى أن يقول: حين بوأ الله إسماعيل عليه السلام الحرم وهو طفل، وأنبط له زمزم، ومرت به من جرهم رفقة فتبركوا بالمكان ونزلوا وضموه إليهم، فنشأ معهم ومع ولدانهم، فتكلم بلسانهم، فقيل نطق باليعربية "أي: العربية" قال: إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب، كما تحذف أشياء من الزوائد، وغير كما تغير أشياء عن أصولها. ا. هـ.
وابن قتيبة يعد العرب العاربة هم اليمن، ويسمى غيرهم المتعربة أي: الداخلة فيهم والمتعلمة منهم، ويقول أيضًا: إن القبائل القديمة، تسع: طسم، وجديس، وعهينة، وضجم "بالجيم والحاء" وجعم، والعماليق، وقحطان، وجرهم، وثمود.(1/34)
يرمون مع ذلك تاريخ الحميرية بالسقم والتفكيك؛ لأنهم كانوا في عصور متعاقبة وأحقاب متطاولة.
الإسماعيلية:
ويبدأ تاريخهم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ولكن العرب لم يفيضوا في أخبارهم إلا حوالي التاريخ المسيحي، أي: من نحو سبعة قرون قبل الهجرة؛ ومنازلهم شمالي بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجد وما وراء ذلك شمالًا إلى مشارف الشام وإلى العراق، وهم ينسبون إلى إسماعيل عليه السلام وخبر نزوله بالحجاز مذكور في التوراة، وقد تزوج هناك برعلة بنت مضاض أحد ملوك جرهم، وهي القبيلة التي ذكر جدها في التوراة باسم "ألموداد".
وأشهر من يعرفه العرب من أعقاب إسماعيل: "عدنان" وهم مختلفون في عدد الآباء بينهما، فيعدون من خمسة عشر إلى أربعين أبًا؛ وإلى عدنان ينتهي النسب الصحيح المجمع عليه الذي لا يتجاوزونه في عمود النسب النبوي.
وكان عدنان في القرن السادس قبل الميلاد، إذا صحت رواية ابن خلدون من أنه لقي بختنصر في غزواته للعربية بذات عرق، وقد خرج منه عك ومعد، وهما فرع العدنانية، ونزلت عك نواحي زبيد إلى جنوبي تهامة، وبقيت منها بقية إلى الإسلام.
أما معد فهو البطن العظيم الذي تناسل منه عقب عدنان على ما هو مفصل في مواضعه من كتب الأنساب، فارجع إليها إن شئت الاستيعاب.(1/35)
العرب والأعراب:
لعلماء اللغة كلام مسهب في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، وقد استوفى الزبيدي قسمًا منه في شرحه على القاموس، ولا فائدة في جميعه؛ لأن مداره على اشتقاق اللفظة من "عربة" التي قالوا إنها باحة العرب -واختلفوا بين أن تكون مكة أو تهامة- أو ارتجالها كغيرها من أسماء الأجناس؛ أو هم سموا كذلك لإعراب لسانهم، أي: إيضاحه وبيانه؛ لأنه أوضح الألسنة وأعربها عن المراد بوجوه من الاختصار.
والصحيح أن اللفظة قديمة يرادبها في اللغات السامية معنى البدو والبادية، وتلك خصيصة العرب في التاريخ القديم. وقال بعض الباحثين: إنهم سموا بذلك حين نزحوا عن أرضهم الأولى -جهة العراق- إلى الجزيرة؛ لأن نزوحهم كان إلى الغرب؛ واللغة السامية الأصلية ليس من حروفها العين، فأصل اللفظة على ذلك "غرب" وهو تخريج على النسبة كالذي خبط فيه علماء اللغة.
ثم حدثت من هذه اللفظة لفظة الأعراب، وذلك حين تحضرت القبائل, فخصوا الكلمة بأهل البادية.
وقال الأزهري: رجل عربي، إذا كان نسبه في العرب ثابتًا وإن لم يكن فصيحًا، وجمعه العرب. ورجل أعرابي، إذا كان بدويا صاحب نجعة وانتواء وارتياد الكلأ وتتع مساقط الغيث1، وسواء كان من العرب أو من مواليهم، قال: والأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهش، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب؛ فمن نزل البادية أو جاوز البادين فظعن بظعنهم وانتوى بانتوائهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف، واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء.
وقد صار لفظ الأعرابي بعد الإسلام مما يراد به، الجفاء وغلظ الطبع، وكانوا يسمون ذلك في الرجل أعرابية، فيقولون للجافي منهم: ألم تترك أعرابيتك بعد؟ وبذلك خرجت الكلمة عن مطلق معنى البادية إلى معنى خاص يلازمها.
والأعراب يومئذ هم أهل الفصاحة، يلتمسهم الرواة، ويحملون عنهم ويرون فيهم بقية اللغة ومادة العرب كما ستقف على تفصيله؛ وبهذا نزلوا من تاريخ الإسلام منزلة العرب من تاريخ الجاهلية في المعنى اللغوي.
__________
1 المراد بذلك أنه يقيم حيث يجد المرعى، فإذا أجدب انتجع وذهب في طلبه، وهذا التعريف الذي جاء به الأزهري إنما هو من أمرهم بعد الإسلام.(1/36)
الباب الأول: اللغات واللغة العربية
أصل اللغات:
اللغة بنت الاجتماع، وليس من السهل أن تحدد الطفولة التاريخية للإنسان، ولكن العلماء وأهل البحث ممن تقدم نظرهم يهجمون من ذلك على المتشابهات، ويعقدون من النسب المختلفة سلسلة طويلة يسلكون فيها العصور التي جمعها التاريخ، وينتهون من ذلك إلى طرف دقيق يتملسه التصور؛ لأن مادته من الوهم المصمت، وهذا الطرف هو عندهم أصل الإنسان أو طفولة تاريخه الهَرِم.
منذ خلق اللسان خلقت الأصوات، وهي مادة اللغة؛ ولكن الطفولة الفردية تدلنا على أن الطفل يبتدئ من أبسط درجات النطق الطبيعي الذي هو محض أصوات مصبوغة بصبغة من الشعور تكون هي حقيقة الدلالة المعنوية فيها، فيكون كأنما يلهم المنطق بهذه الأصوات التي هي لغة روحه، ثم يدرك معاني تلك الدلالة ويميز بين وجوهها المختلفة، ثم ينتهي إلى الفهم فيقلد من حوله في طريقة البيان عنها بالألفاظ، متوسعًا في ذلك على حسب ما يتسع له من معاني الحياة، إلى أن تنقاد له اللغة التي يحكيها؛ ولولا التقليد الذي فطر عليه ما بلغ من ذلك شيئًا.
وعلى هذا القياس رجع العلماء إلى طفولة التاريخ، فمنهم من رأى أن الإنسان كان محاطًا بالسكوت المطلق، فذهب إلى أن اللغة وحيٌ وتوقيفٌ من الله في الوضع أو في الموضوع، وهو مذهب أفلاطون من القدماء، وبه أخذ ابن فارس والأشعري وأتباعه من علماء العرب.
وفريق آخر ذهب إلى أن الإنسان طفل تاريخي، فاللغة درس تقليدي طويل مداره على التواطؤ والاصطلاح؛ وهذا هو المذهب الوضعيُّ، وبه قال ديودورس وشيشرون، وإليه ذهب أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني وطائفة من المعتزلة1.
وبالجملة فإنه لم يبق من أصول الاستدلال على تحقق هذا الرأي إلا تتبع منطق الحيوان الذي يسرح في حضيص الإنسانية، وتبين وجوه الدلالة في أموره، واستقراء مثل ذلك في الأمم المتوحشة التي لا تزال من نوع الإنسان الأدنى؛ وقد رأوا أن الحيوان يفهم بضروب الحركات والإشارات والشمائل وتباين الأصوات باختلاف معاني الدلالة، وهذا أمر تحققه رواض الدواب وسواسها وأصحاب القنص بالكلاب والفهود ونحوها، فإنهم يدركون ما في أنفسها الحيوانية باختلاف الأصوات، والهيئات والتشوف واستحالة البصر والاضطراب وأشباه ذلك؛ ومن ثم قيل إن أول النطق المعقول في الإنسان كان بدلالة الإشارة كما يصنع الخرس؛ فكأن معاني الحياة لما لم تجد منصرفًا من
__________
1 لما ألف ابن جني كتاب "الخصائص" تناول في بعض مواضعه الكلام عن أصل اللغة فأظهر ميله إلى المذهب الوضعي، إلا أنه لم يقطع به، بل وازن بين أدلة المذهبين ثم قال: "وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به" ثم جزم بهذا الرأي بعد ذلك. وقد أورد السيوطي في "المزهر" كلامًا طويلًا جمع فيه آراء المتكلمين في أصل اللغة واستوعب ذلك أتم استيعاب، ولكن الفصل برمته "من صناعة الكلام".(1/39)
اللسان فاضت على أعضاء البدن؛ وترى أثر ذلك لا يزال باقيًا في الدلالة على المعاني الطبيعية الموروثة من أول الدهر: كالتقطيب وتزوية بعض عضلات الوجه واستحالة البصر، في الغضب؛ ثم انبساط الأسارير واستقرار النظر، في الرضا والسرور؛ ونحو ذلك مما تراه لغة طبيعية في الخليقة الإنسانية.
ورأوا أيضصا أن لبعض القبائل المتوحشة من سكان أوستراليا وأواسط أمريكا الجنوبية ألفاظًا، ولكنها محض أصوات لا تدل على المعاني المقصودة منها إلا إذا صحبتها الإشارة والحركة والاضطراب، بحيث إن العين هي التي تفهمها لا الأذن؛ وهم إذا انسدل الليل وأغمدت الألحاظ في أجفانها حبسوا ألسنتهم وباتوا بحياة نائمة؛ ومن ثم قيل إن الإنسان استعمل الصوت للدلالة بعد أن استكمل علم الإشارة؛ ولذلك بقي الصوت محتاجًا إليها احتياجًا وراثيا ثم ارتقى الإنسان في استعمال الأصوات بارتقاء حاجاته، وساعده على ذلك مرونة أوتار الصوت فيه؛ وبتجدد هذه الحاجات كثرت مخارج الأصوات، واتسع الإنسان في تصريف ألفاظه، فتهيأ له من المخارج ما لم يتهيأ لسائر الحيوان؛ فإن منطق الكلب مثلًا قد لا يخرج عن العين والواو، في "عو" و"وو" وقس عليه ما يسمع من منطق الغراب والنسور وسائر أنواع "الحيوان"؛ ومن ذلك كان منشأ اللغة.(1/40)
المواضعة على الألفاظ:
إذا تدبرت ما تقدم ورأيت القول بأن اللغة وحي وتوقيف إنما هو من باب التقوى التاريخية لا أكثر؛ لأن الإنسان خلق مستعدا منفردًا ليصير بعد ذلك عالمًا مجتمعًا، وليجري في كماله المقسوم له على سنة الله التي لم تتبدل ولن تجد لها تبديلًا؛ وهذه السنة هي أن المتغير لا يوجد كاملًا، بل لا بد له من نشأة يمر في أدوارها حتى يتحقق معنى التغيير فيه؛ ولعل أصل هذا المذهب كان مبالغة في تصور الاستعداد الإنساني؛ لأنه إلهام لا مرية فيه لذلك ترى أهله منقسمين: فمنهم من يقول بأن الإنسان ألهم أصول المواضعة، ومنهم من يقول بأنه ألهم اللغة نفسها.
والحقيقة أن الإنسان ملهم بفطرته أصول الحياة، وليست اللغة بأكثر من أن تكون بعض أدواتها التي تعين عليها؛ ولذا تراها في كل أمة على مقدار ما تبلغ من الحياة الاجتماعية قوة وضعفًا، وإذا كان من أصول الحياة: الاجتماع، فمن أصول الاجتماع: اللغة، وهذه من أصولها المواضعة.
وأقرب ما يصح في الظن مما لا يبعد أن يكون الوجه المتقبل -وإن كان الظن لا يغني من الحق شيئًا- أن الأصوات الحيوانية هي المثال المحتذى في لغة الإنسان؛ لأنها محيطة به تتقلب على سمعه كلما سمع، خصوصًا والإنسان في أول اجتماعه مضطر لمغالبة الحيوان، فهو بهذا الاضطرار يتدبر اختلاف هيئات الصوت الواحد ومعاني ما فيه من النبر، ودليله في ذلك أفعال الحيوان الذي تؤدي معاني هذا الاختلاف، من نحو الغضب والألم والذعر وغيرها.
ومن هنا يتعين أن تكون أوائل الألفاظ التي نطق بها الإنسان وأدارها على معان متنوعة، هي ألفاظ الإحسان وما يصرح به على الوجدان، على الصور البسيطة التي لا يزال أكثرها ميراثًا في الجنس كله على تباين اللغات وهي التي تشبه في تركيبها مقاطع الصوت الحيواني؛ إذ يكثر فيها الحرف الهاوي الذي هو أخف الحروف، بل هو الصوت الطبيعي في الحياة، وهو حرف اللين بأنواعه: الألف، والواو، والياء؛ وما عدا هذا الحرف فقلما يكون فيها، إلا أحرف الحلق: كالعين والغين والهاء والحاء؛ لأنها قريبة من الحنجرة، وذلك في الإنسان نحو: آه، وأخ، وأمثالهما من المقاطع الصوتية التي لا يزال يعبر بها عن أنواع من الإحساس إلى اليوم.
ولما أدرك الإنسان حقيقة هذا الاستعمال وتقلب فيه واصطلحت عليه الجماعات منه، وفتق له استعداده للإلهام أن يتأمل في الأصوات الطبيعية الأخرى، ومن قصف الرعد، وانقضاض الصواعق، وخرير الماء، وهزيز الريح، وحفيف الشجر، واصطكاك الأجسام، وما إليها من أصوات هذه اللغة الجامدة وهي ربما تبلغ المائة عدا، فقلدها واهتدى بها إلى مخارج حروف أخرى غير التي تتهيأ في الأصوات الحيوانية، فدار بها لسانه، وابتدأ يجمع بينها على طريق المحكاة، دالا بالصوت على محدثه. ولا يزال ذلك طبيعة في لغة الأطفال، فهم يسمون الدجاجة: كاكا، والشاة: ماما، والسنور: نو.. نو؛ وذكر الجاحظ في "الحيوان": أن طفلًا سئل عن اسم أبيه فقال: وَوْ.... وَوْ، وكان أبوه يسمى كلبًا!
وهذه الحالة كانت بدء اختراع اللغة، أي: حين كانت حاجات الاجتماع قليلة لا تتجاوز الإشارة إلى أمهات المعاني الطبيعية بالمقاطع الثنائية، كانهمال اللمطر، وانفلاق الحجر، وانكسار الشجر، وأمثالها؛ فلما بدأ الاجتماع يرتقي بنسبة أحوال الإنسان يومئذ، بدأ الاختراع الحقيقي في اللغة؛ وأمثل ما يظن في ذلك أن الإنسان جعل يقلب المقاطع الثنائية التي عرفها على كل الوجوه التي تحدثها آلات الصوت، فلما استتم صورها ارتجل المقاطع الثلاثية، فدارت بها الحروف دورة جديدة، وفشت ألفاظ أخرى غير التي عهده، وكان ذلك ابتداء تسلسل اللغة، فتواضعوا على اعتبار المقطع الثنائي أصلًا في مدلوله: كقط مثلًا، حكاية صوت القطع، ثم جعلوا كل صورة تتحصل من زيادة حرف عليه فرعا من هذه الدلالة، ثم استفاضوا في الاستعمال على هذا التركيب بالقلب والإبدال؛ وبذلك اهتدى الإنسان إلى سر الوضع.
لا جرم أن هذا أبين وجوه الطريقة التي يمكن أن توحي بها الفطرة في تاريخ المواضعة على اللغات، وهي السنة التي لا تزال تجري عليها أحكام الخلق في كل ما يتكون وينشأ، ثم هي متحققة بما يقطع الريب في هذا الخلق السوي الذي يعقل ويفكر، وهو الإنسان معجزة المخلوقات الذي يتكون جنينًا كسائر الأجنة الحيوانية لا فرق بينه وبينها في التركيب.
ولكن هذا الذي أتى على اللغة إنما تم في دهور متطاولة، وعلى طريقة وراثية بطيئة؛ لأن جماعات الإنسان يومئذ لم تكن "أكاديميات" أو مجالس علماء يبت فيها الرأس وتقطع الكلمة، ولكنها كانت طبيعية، وأعمال الطبيعة لا حساب لها في عرف الإنسان {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
ومما نستوفي به "الفائدة الظنية" في هذا الفصل، أن علماء طبقات الأرض حققوا بعد ما عانوه من البحث وما تهيأ لهم من أنواع الاكتشاف أن الحيوانات التي كانت تكتنف الإنسان في أول نشأته(1/41)
الأرضية ليست من الأنواع التي نعهدها اليوم، بل كانت في غياة من العظم والهول وشدة المراس. لا جرم كانت هذه الحالة مضطرة للإنسان إلى الاصطلاح في مخاطبة نوعه كلما نذر بها، كما كانت هي الباعثة له على انتقاله من أول أطواره إلى الطور الثاني الذي هو بداية تاريخ العقل الاجتماعي الساذج؛ وذلك أن العلماء يجعلون الزمن من نشأة الإنسان الأرضية إلى بداءة التاريخ ثلاثة عصور: عصر التوحش المطلق، وعصر الحجر، وعصر البرنز؛ ويليها عصر الحديد الذي يبتدئ مع إنسان التاريخ، وهذا التقسيم عنه يصح أن يطلق على اللغة أيضًا، فعصر التوحش فيها هو الذي خرجت فيه الأصوات الوجدانية مصحوبة بالإشارات أولًا ثم استقلت هذه عنها، وعصرها الحجري هو الذي ابتدأ فيه الإنسان ينحت من المقاطع الحيوانية والطبيعية لغته الأولى، وعصرها البرونزي الذي يدخل فيه شيء من الصناعة؛ هو العصر الذي اهتدى فيه الإنسان إلى الزيادة على المقاطع الثنائية وصنعة الألفاظ على هذا الوجه؛ ثم انقادت له اللغة وتماسكت، وذلك عصرها الحديدي الذي ابتدأ مع التاريخ.
ومما يستأنس به أن تلك المخلوقات الهائلة التي كانت لعهد النشأة الأولى وانقرضت، ربما كان في أصواتها بعض مقاطع متنوعة يتألف من مجموعها "أبجدية" صالحة، وهي التي ورثها الإنسان وركب منها أصول لغته، وذلك فضلًا عن جهاز الصوت وشدته التي تترك له أثرًا في النفس هنيهة يتمكن فيها الإنسان من استيفاء صنعة التقليد الصوتي على أتم وجوهها. والله أعلم بغيبه.
فاللغات قبل التاريخ بزمن لا يذكر التاريخ في حسابه، وقد تمشت على سنن الاجتماع وجرت معه في طريق واحدة؛ ولا يزال ذلك من أمرها إلى اليوم في الشعوب المنحطة، فإن من أهل أوستراليا من ليس في لغتهم من العدد إلا واحد واثنان "نتات، نايس" ويكررونه مع لفظ الواحد إذا عدوا خمسة، فإذا بلغوا الستة كرروه ثلاث مرات، ثم يقرنون بها لفظ الواحد للسبعة، وذلك منتهى ما يعدون؛ أما ما وراءه السبعة فيشيرون إليه بلفظ "كثير". وما كانت لفظة الكثرة لتطلق على الثمانية كما تطلق على الثمانين مثلًا إلا لأن ما بين المعنيين من الجزئيات غير مضبوط في نظام الاجتماع بل هو مطلق فيه، وكذلك يطلق الاسم عليه.
وقد وجد علماء اللغات أيضًا أن من أولئك من يعبرون عن معنى الصلابة، بلفظ الحجر؛ وعن معنى الاستدارة، بلفظ القمر؛ وهكذا من المترادفات التي هي أصول طبيعية ثابتة لتلك المعاني المتفرعة.
وذكروا أن أهالي "المكسيك" القدماء لما رأوا السفينة أول مرة سموها "بيت الماء"، وأن أهل "ميسوري" لم يكن عندهم غير الأدوات المتخذة من الصوان، فلما جيء إليهم بالحديد والنحاس سموا الأول حجرًا أسود والثاني حجرا أحمر؛ وأن بعض أهالي أمريكا لما رأوا الخيل أول مرة، ولم تكن في أرضهم اختلفوا في تسميتها، فبعضهم سمى الجواد "الكلب المسحور" وآخرون سموه "الخنزير الحامل للإنسان"؛ وكذلك لما رأى أهل "المكسيك" المعزى ولم يكونوا عرفوها من قبل سموها "رأس شجرة وشفة شعر". ومثل هذا كثير أحصاه علماء اللغات، ودلوا عليه بألفاظه في منطق أهله، فلا بد أن تكون كل اللغات قد جرت في ارتقائها على هذا النحو حفظه التاريخ في جملة أدلته، والذي هو(1/42)
بسبيل ما تخلده الطبيعة مما يعتبر به الآخرون من أمر الأولين.
ولما كانت اللغة كما أسلفنا تابعة لأحوال الاجتماع في البسط والقبض وما يتقلب عليه ويحدث فيه، بحيث لا تخرج عن أن تكون مرآة تظهره كما هو في نفسه مهما تنوعت أشكاله واختلفت أزياؤه, كان لا بد أن تتغير بحسبه ما دامت مستعملة فيه، وهذا التغير هو حقيقة الاصطلاح والمواضعة؛ فالإنسان لما ارتجل المقاطع الثلاثية دل بها على معان محصورة في حدود نظامه الاجتماعي، ثم ضرب في الكلام بمقدار ما يحد من أمره وما يتنبه إليه من حقائق الموجودات التي تكاشفه بنفسها، وما يقتضيه التبسط في مناحي المجتمعات شيئًا فشيئًا؛ وذلك على طريقة تكرار الألفاظ وتنويعها للمعاني المختلفة بدلالة القرينة. وهذا النحو لا يزال باقيًا في اللغة الأكادية، فإنهم يدلون بلفظه لا تعدو هجاء واحدًا على خمسة عشر معنى، وهي لفظة "GA" أو "CA" يدلون بها على الفم والوجه والعين والأذن والشكل والقدم والرجل والنظر والتكلم والمدينة، وهذا أكثر معانيها.
ثم يعبر الإنسان عن المعاني بما يرادفها من ألفاظ المحسوسات، كما يعبر أهل المكسيك عن معنى الصلابة بلفظ الحجر، وكما وجدوا في الكتابة الهيروغليفية بمصر والصين والمكسيك أيضًا، وهي الكتابة الصورية؛ فإنهم يرسمون الشمس ويريدون بها التعبير عن الضوء، ويرسمون القمر ويعبرون به عن الليل، وإذا أرادوا أن يدلوا على المشي مثلًا رسموا ساقي رجل في حال الحركة، وهلم على هذا القياس، مع أن هؤلاء، وإن كانوا في أقدم عهد الكتابة إلا أنهم في أول عهد التاريخ، فأحر بالمتكلمين أن يكونوا كذلك في أول عهدهم بالدلالة المعنوية؛ ومن هذا القبيل أن زنوج "غريبو" يدلون على معنى الغضب بما ترجمته: "قد نتأ عظم في صدري"!
ويرتقي الإنسان من ذلك التعبير عن غرائب الاجتماع في عهده على نحو ما رأيت من تسمية الخيل والمعزى، وكما فعل سكان جزيرة "فاكومز" فإنهم لما رأوا أول رجل أوروبي دخل بلادهم سموه بما ترجمته "طويل وجه شعر رجل" ولفظها في لغتهم "يكبيكو كسالكوس" ثم استمروا يصقلونها ويخففون من ثقلها بمقدار ما تخف هذه الدهشة الأولى، حتى صارت الكلمة في لغتهم بعد أن ألفوا الأوروبيين "يكبوس".
ومتى بلغ الإنسان إلى هذه الدرجة فقد صار في أعلى سلم الاجتماع الطبيعي، وحينئذ تدخل اللغة في الطور الصناعي وتجري عليها أحكام الاشتقاق والنحت والقلب والإبدال، ويفعل الزمن فعله فيها كما يفعل في تكوين الجماعات، وبذلك تتنوع وتنشأ منها اللغات الكثيرة.(1/43)
تفرع اللغات:
الأصل في تشعب اللغات تشعب الجماعات؛ فإن اللغة كما أسلفنا بنت الاجتماع، وهي ألفاظ ملك السامع في الحقيقة لا ملك المتكلم؛ لأنها لا يلغى بها لغو الطائر, ولكنها تلقى لدلالة خاصة يعينها الاصطلاح العرفي بين المتكلم والسامع، وهذا الاصطلاح عمل اجتماعي محض لا يتهيأ لفرد فيما بينه وبين ذات نفسه؛ وليس ما بسطنا فيما تقدم مما يدل على كيفية نشء اللغات في القدم وتدرج الإنسان في استعمال المنطق والتوفيق في الدلالة بين الصوت وحركة النفس التي هي المعاني القائمة بالفكر, ليس كل ذلك مما تتعين معه دلالة خاصة على كيفية اختلاف اللغات، فإن هذا الاختلاف اللغات، فإن هذا الاختلاف لا يتعلق بسر الوضع اللغوي؛ إذ هو إلهام مخلوق في فطرة الإنسان، ولكن اختلاف اللغات عمل صناعي تكيفه حالة الاجتماع كما تكيف سائر الأحوال من العادات وأمثالها؛ ولهذا كانت حقيقة معنى اللغة أنها مجموع العادات الخاصة بطائفة من طوائف الاجتماع1.
فلا يمكن القطع إذن بأن أصل اللغات كلها لغة واحدة، إلا إذا نهض الدليل على أن النوع الإنساني في أول وجوده لم يكن إلا جماعة واحدة، أو كان جماعات مختلفة ولكنها تتفق في حالة جامدة من أحوال الحياة الاجتماعية، كالحيوان السائم الذي لا يتعدى درجة معينة من الإلهام على تفاضل أنواعه فيما دون ذلك؛ وهذا -أي: نهوض الدليل- بعيد عن اليقين، بل هو بعيد عن الظن أيضًا؛ لأن "الظن العلمي" أضعف مراتب اليقين.
نقول هذا لنقطع بأنه لا يمكن تعيين الأمهات التي ينتهي إليها التسلسل اللفظي، ولا الحكم بأصالة لغة دون غيرها كالذين يقولون إن آدم الألسنة أو لسان آدم كان سريانيا أو عبرانيا أو نحو ذلك؛ فإن الإنسان الأول أمر من الأمور الغيبية، والزمان نفسه لا يهتدي الآن إلى مواطئ قدمه من الأرض؛ ولا يعلم الغيب إلا الله.
وإن ما حصره علماء اللغات من ذلك وعدوه أمهات إنما هو خاص بالأزمنة المتأخرة التي أحصاها التاريخ مما يرجع إلى حد من الزمن يختلفون في تقديره من 3000 إلى 6000 سنة، على أنهم يقولون إن الإنسان الأول نشأ على ضفاف الفرات ودجلة بين العراق وأرمينيا، فتناسل هناك وكانت ذريته بعضها من بعض، ثم انساحت الجماعات وتفرقت، بما يلجئها من الأسباب الطبيعية: كضيق الوطن وبغي بعضهم على بعض؛ فضربوا في الأرض؛ وبهذا تنوعت الجماعات أو دخلت في أسباب التنوع الذي هو الأصل في تفرع اللغات.
ومن ذلك ما أشارت إليه التوراة "أقدم كتاب تاريخي" مما يعرف بحكاية تبلبل الألسنة "سفر التكوين - الإصحاح الحادي عشر" وذكر تفرق الأمم التي انشعبت من نسل نوح عليه السلام بعد
__________
1 هذا هو التعريف المعنوي، أما تعريف اللغة باللفظ فهو كما يقولون: "ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".(1/44)
الطوفان، فكانت لغته كل فئة تنفصل عن أمها ثم تنمو وتتغير بالاستعمال فتصير أما لفروع أخرى، وهلم جرا.
وقد استدلوا على تحقق هذا التسلسل بتشابه الأسماء الخالدة في الإنسانية، وهي التي لا يمكن أن تتغير، لثبوت مدلولها على حالة واحدة في تاريخ النوع كله: كاسم الأم، فقد وجدوا أن هذه الميم أصلية في كل عرف من لغات العالم؛ وكذلك وجدوا أن الباء أصلية أيضا في لفظ الأب، ومهما يكن من الأمر فإن هذا وأمثاله مما يستأنس به ليس غير.
وعلى الاعتبار الذي أومأنا إليه، ردوا اللغات إلى ثلاثة أصول: الأصل الآري، والسامي، والطوراني؛ وهم يريدون بهذه الأصول، الأمم التي تتكلم باللغات الراجعة إليها، فيقولون إن الامم التي تنطق اللغات الآرية ترجع إلى أصل واحد في تاريخ الاجتماع، كذلك السامية والطورانية، ثم انشعب كل أصل وانشعبت معه اللغة، ولكن بقيت المشابهة في لغاتهم المتفرعة دليلًا تاريخيا على وحدة الأصل.
ويعدون من اللغات الآرية: السنسكريتية وما خرج منها: كالهندية، والفارسية، والأفغانية، والكردية، والبخارية، وغيرها، وهي اللغات الجنوبية؛ ثم اللغات الشمالية: ومنها اللاتينية؛ وكذلك الهيلينية: ومنها اليوناني القديم والحديث، والوندية، ومنها لغات روسيا، وبلغاريا، وبوهيميا؛ والتيوتونية، ومنها لغات انجلترا، وجرمانيا، وهولاندا، والدانمارك، وإسلاندا.
وسنفرد للغات السامية كلامًا؛ لأنها أصل ما نحن بسبيله من هذا التأليف؛ أما الطورانية فيعدون منها الفروع التركية التي يتكلم بها ما بين آخر حدود النمسا الشرقية وآسيا الصغرى فالتتر إلى ما وراء أواسط آسيا وشمالًا إلى حدود سيبريا، وهي لغات كثيرة.
وهذا كله وإن كان ليس من حاجتنا ولا نريد التكثر به، إلا أننا سقناه كما قالوه بيانًا لما ذهبوا إليه من الرأي في تنوع الجماعات؛ وأصل انشعاب اللغات؛ والله يقول في محكم تنزيله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} .(1/45)
علوم اللغات:
عني أهل العلم في أوروبا منذ القرن التاسع عشر للميلاد بالبحث في مظاهر العقل الإنساني بحثًا علميا مبنيا على قواعد وأصول مقررة كسائر العلوم الأخرى، فدرسوا الأديان والعادات، ولما أرادوا مقابلة ذلك بعضه ببعض لتعيين المواضع المتداخلة منه، اضطروا إلى مراجعة اللغات والبحث فيها؛ فنشأ من ذلك علمان: أحدهما سموه علم اللغات "La philologie" والثاني علم الأساطير ومعارضتها "La Mythologie Comparee"" وبذلك وضع الأستاذان "كريم" و"بوب" علمًا يبين أصل اللغات وتحولها.
ثم لما وقفوا على لغات الشعوب الصينية وقابلوها بلغات الأمم الفطرية التي درسها "المرسلون" المنبثون في كل قاصية، وضع الأستاذ "همبولدت" علمًا عاما سماه دراسة اللغات "Linguistique" وأول المشتغلين بهذه العلوم وأشهرهم من الألمان، وإن كان قد فكر فيها قبلهم بعض العلماء من الفرنساويين.
وقد أمكنهم بعد ذلك حين بالغوا في الاستقراء والتقصص، أن يردوا اللغات إلى أصول وأنواع، حتى أوقعوا عليها أحكام "المذهب الدارويني في النشوء والارتقاء، بالتغير والانتخاب الطبيعي" فبحثوا في سلسلة التحول لكل لغة ودأبوا على تحصيل الصورة المتوسطة بين الصورتين المتشابهتين، وهم لا يزالون في جد ذلك وهزله، ليردوا ما عرف من لغات البشر كلها إلى أصول قليلة، ثم ينبشون بعد ذلك "الجد اللغوي" من قبره القديم في مغارة التاريخ.
ولم نجد لأحد من علماء العربية في التاريخ الإسلامي كله بحثًا يشبه ما وضع من تلك العلوم، حتى ولا في لهجات العرب أنفسهم ومعارضة بعضها ببعض؛ لأنهم لم ينظروا إلى اللغة بالعين الزمنية "التاريخ" التي تطمح إلى كل أفق، بل أخذوها على المعنى الديني الثابت الذي لا يتغير. وجعلوا عاليها سافلها، فاعتبروا أصل الفصاحة إسماعيل عليه السلام، وإن لغته درست من بعده، ثم كانت في القرآن الكريم والبلاغة النبوية وهما أفصح ما عرف من الكلام1، إلا أن قليلًا منهم؛ كأبي علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، والزمخشري؛ قد أصابوا من ذلك محزا جرت فيه أقلامهم؛ وكان أسبقهم إلى الغاية ابن جني؛ فإنه بحث في وضع اللغة ونشأتها وحكم اشتقاقها ومقابلة موادها بعضها ببعض، وستمر بك أشياء من ذلك في مواضعها إن شاء الله. على أن هذا القليل الذي جاءوا به، إنما كان بعد أن استفاضت المقالات واستحر الجدال بين أهل "الألسنة العريضة" من علماء الكلام، فتحرك المعنى الديني الثابت الذي سبق الإيماء إليه، وكأن أثر ذلك في اللغة ما عرفته، ثم عاد الأمر كما بدأ.
وقد اختلف العلماء في عدد اللهجات التي يتكلم بها أنواع الإنسان، فهي عندهم بين 4000
__________
1 سنستوفي القول في هذا النقص عند البحث في لهجات العرب.(1/46)
و6000، وأحصاها بعضهم في قارات الأرض، فعد في أوروبا 587 وفي آسيا 937 وفي أفريقيا 276 وفي أمريكا 1624 فذلك 3424 لهجة.
يريدون باللهجات الأنواع التي نشأت من لغة واحدة بالأسباب الاجتماعية، كأنواع العربية المتحضرة مثلا، ومنها عامية مصر والشام والمغرب إلخ. وكذلك أحصى بعضهم عدد الكلمات في بعض اللغات المعروفة، فذكروا أن كلمات اللغة الإنجليزية لا تقل في عهدها الحديث عن "250 ألف" كلمة، وتليها الألمانية "80 ألفًا" فالإيطالية "45 ألفًا" فالفرنساوية "30 ألفًا" ثم الإسبانية "20 ألفًا"؛ أما اللغات الشرقية فأوسعها العربية، وهي تتألف من "80 ألف" كلمة، ثم الصينية ويستعمل فيها عشرة آلاف علامة يتألف منها "49 ألف" كلمة مركبة، ثم التركية وهي تحتوي نحو: "23 ألف" كلمة، ثم لغة هاواي وفيها زهاء "16 ألف" كلمة، ثم لغة الكَفْر وذكروا أنه ليس فيها إلا "8 آلاف" كلمة، ثم لغة غالا الجديدة، وقالوا إنها تتألف من ألفي كلمة لا غير. على أن ذلك كله إنما يقال وينقل تشقيقًا للبيان، لا تحقيقًا للبرهان.(1/47)
اللغة العامة:
أصلها العربي فيما يقال.
لا يفكر عاقل في اختلاف اللغات وتعددها -مع وحدة الإنسان في أصله، وفي تركيب هذه الجارحة اللسانية، التي تختلف ألوان المنطق فيها كما يختلف الشجر الذي يسقى بماء واحد- إلا خطر له أمر التوحيد واجتماع الناس على لغة عامة؛ لأن هذا هو الأصل في حكمة النطق، ولكن الفكر في الشيء غير معاناته، فلم ينقل إلينا تاريخ الأمم التي سلفت أن أحدًا عمل لهذه الغاية البعيدة. ولا جرم أن هذا إنما يكون عند اشتباك العلائق بين الأمم، واختصار المسافات التي تفصل فصلًا طبيعيا بين الآفاق، على نحو ما هو في العصور الحديثة؛ فإن الإنسان في هذه الحالة يحتاج إلى اختصار المسافات بين الألسنة أيضًا، فلا يفصل بين كل لسانين لسان ثالث للنقل والترجمة؛ ولما كانت الحاجة أم الاختراع، فقد ولدت تلك الحاجة هذه اللغة العامة.
ويقال إن أول من عانى هذا الضرب من الوضع، الإمام محيي الدين بن عربي الأندلسي من أهل القرن السادس للهجرة، وكان من أعلام الحقيقة وأئمة المتصوفة، فذكر بعض علماء المشرقيات من الفرنسيس أنه عثر على أن الشيخ وضع لغة خاصة باستعمال المتصوفة، أخذ ألفاظها من العربية والفارسية والعبرانية وسماها "بليبلان" قال: وهذا الاسم من أوضاع اللغة نفسها، ومعناه "لغة المحيي".
وقيل: "إن تيمورلنك" الفاتح التتري الشهير الذي كان في القرن الثامن، لما رأى جيشه طوائف من أجناس مختلفة متناكري الألسنة واللغات، تقدم إلى قوم من خاصته بإنشاء لغة عامة تقتبس من لهجاتهم جميعًا، فأنشئوا لغة "أوردو" أي: الجيش، وهي التي يتكلم بها الهنود اليوم على اختلاف جهاتهم، وقد ذكروا أن هذا الخبر التاريخي كان من جملة البواعث التي حملت على وضع اللغة العامة المعروفة في هذه الأيام "بالاسبرانتو".
على أنه قبل أن توضع هذه اللغة، عني بأمرها عدة من العلماء، حتى بلغ ما وضعوه من نوعها بضع عشرة لغة، وأقدم من حاول ذلك "باكون" الفيلسوف الشهير من أهل القرن السادس عشر للميلاد، ولكن أول من أفرد هذا الوضع بكتاب، إنما هو "الأستاذ بشر" فإنه صنع كتابًا استقرى فيه المعاني، فوضع بإزاء كل معنى اللفظ الدال عليه؛ ووضع أحكام الصيغ الصرفية والتركيبية، ثم انسحب على أثره كثيرون، حتى جاء الأستاذ اللغوي "شلبير" الألماني، فوضع كتابا نشره سنة 1879م بعد أن صرف في تأليفه عشرين سنة، وسمى لغته "الفولابوك" وهو لفظ من أوضاعها معناه "اللغة الجامعة" ولكن هذه اللغة لم تنتشر إلا قليلًا، ثم ذهبت مع القرن التاسع عشر في مدرجة واحدة من التاريخ. وفي أثناء ذلك كان الأستاذ "زامنهوف" المشهور يشتغل بوضع لغته المتداولة، فقضى اثنتي(1/48)
عشرة سنة ثم نشر رسالة عرض فيها أصول تلك اللغة، وجعل عنوانها "دكتور اسبرانتو" أي: الأستاذ المؤمل؛ إشارة إلى يأس العلماء قبله من النجاح في هذه الأوضاع، على أن هذا الاسم ما لبث أن لزم لغته ولا تزال تعرف به إلى اليوم.
والاسبرانتو تتألف من 3200 مادة، مقتبسة من جميع لغات أوروبا على نحو اقتباس هذه اللغات نفسها من اللاتينية والجرمانية واليوناينة، وكلها في سبيل واحد من السلاسة والانقياد واطراد القواعد بلا شذوذ ولا استثناء؛ وقد ألحق بها واضعها ثلاثين لفظة تركب مع سائر ألفاظها فيدل بها على نوع المعاني الوصفية، وسبع عشرة زيادة صيغية تدل على المعاني التصريفية فصارت بذلك من الثروة في ألئفاظها بحيث تنتهي في التركيب إلى عشرة ملايين من الكلمات.
وقد انتشرت هذه اللغة في أوروبا واطرد استعمالها وكثر أهلها والقائمون عليها، وكأنها لم تكن إلا حاجة في نفس الإنسان قضاها، وإنه لذو علم مما علمه الله.(1/49)
اللغات السامية:
والمراد بها لهجات سكان القسم الجنوبي من غرب آسيا من حدود الأرمن شمالًا إلى البحر العربي جنوبًا، ومن خليج العجم شرقًا إلى البحر الأحمر غربًا؛ وهي منسوبة إلى سام بن نوح عليهما السلام، باعتبار أن المتكلمين بها هم في الجملة من نسله، كما تسمى اللغات الآرية باليافثية أيضًا نسبة إلى يافث.
والذين يزعمون أصالة بعض اللغات في النوع الإنساني لا يعدون في زعمهم هذه اللهجات السامية؛ لأنهم يذهبون إلى أن مهد الإنسان الأول إنما كان حيث نشأت تلك اللغات على ضفاف الفرات ودلجة. فالعبرانيون والسريان بعض الغلاة من العرب، يزعم كل فريق منهم أن لغته أصل اللغات، وأنها كانت لغة آدم عليه السلام؛ وهذا على غرابته وانقطاعه من نسب البرهان لا يخلو من بعض المعنى في الدلالة على قدم اللغات السامية.
وعلماء اللغات يعينون السامية منها في التقسيم، بحسب موقع أهلها الجغرافي، كما كانت الشعوب السامية قديمًا ينسبون بعضهم بعضًا إلى موقعه من شرق الشمس وغربها. وذلك التقسيم أصح بيانًا في اللغة؛ لأن أشد العوامل في تغييرها إنما هو أمر الحضارة لا كرور الزمن وحده؛ فإن العبرانيين مثلًا حينما غلبهم الكلدانيون، جعلت لغتهم تفنى حتى صارت الآرامية في منطقهم إلا حيث يتعبدون, فإن لغة العبادة بقيت العبرانية، ولا تزال إلى اليوم؛ وكانت لغتهم هي العبرانية وحدها إلى الزمن الذي خرب فيه بختنصر ملك الكلدانيين ببيت المقدس وأوقع باليهود وأجلاهم عنها إلى بابل وذلك سنة 586 قبل الميلاد.
لذلك يعتبرون اللغات السامية شرقيا وغربيا، ومن الشرقي اللغتان البابلية والأشورية. والغربي عندهم قسمان: شمالي، وجنوبي؛ ويجعلون الشمال منهما قسمين أيضًا:
1- الكنعاني، ومنه العبراني والفينيقي ولغة مؤاب شرقي فلسطين وغيرها.
2- الآرامي ويجعلونه قسمين: غربي، وهو لسان اليهود المتأخرين في فلسطين ومصر، ثم هو لسان أمم أخرى؛ وشرقي، وهو لسان اليهود في بابل ولسان السريان وغيرهم.
وهذا في القسم الشمالي من الجزء الغربي من اللغات السامية؛ أما الجنوبي فهو نوعان: أحدهما لغة القبائل العربية العدنانية -أي: العرب المستعربة- والثاني لغة القبائل العاربة، وهي السبئية والحميرية والحبشية.
ويردون اللغات السامية كلها إلى ثلاثة أصول: الآرامية، والعبرانية، والعربية. كما يردون إلى(1/50)
اللغات الآربة إلى ثلاثة أصول أيضًا: وهي اللاتينية، واليونانية، والسنسكريتية. وكل من هذين النوعين بأصوله يرد عندهم في الاشتقاق إلى لغة مفقودة يتوهمونها انفصلت عنها هذه اللغات، فكانت متاشبهة في أول عهدها؛ جعلت تتنوع وتتباين حتى قلت وجوه المشابهة إلا ما يكون من قبيل الدلالة التاريخية على وحدة الأصل.
والذي يعنينا من هذا البحث أن نكشف عن أصل العربية، وإنما سقنا ذلك توطئة حتى يجيء الكلام آخذًا بعضه ببعضه.
الأصل السامي:
رجع علماء الأثر الذين تخاطبهم الأرض بلغتها الحجرية الصامتة فينقلون عنها آثار الأول، أن الأصل السامي الذي انشقت منه اللغات المتقدمة إنما هو اللسان البابلي القديم، الذي عثروا على بقيته من آثار دولة حمورابي كما أومأنا إليه في أصل العرب؛ لأنهم رأوا مشابهة قريبة بين هذا اللسان وبين العربية، بل رأوا كلمات في العربية، كأنما نقلت عن البابلية نقلًا صريحًا، مع أنها في العبرانية والسريانية قد دخلها التحريف. وعللوا ذلك بأن العربية بادية، فهي قلما تتغير كلغات الحضر التي تتنازعها التبعية لغيرها والاستقلال بنفسها، على حسب ما يتقلب عليها من أدوار العمران؛ فمن المشابهة بين البابلية والعربية، حركات الإعراب، وهي في اللغتين واحدة، ولا وجود لها في سائر اللغات السامية، حتى لقد كانوا يذهبون قبل ذلك الاكتشاف إلى أنها من اختراع العرب، تميزوا بها لرقة ألسنتهم وتوخيهم عذوبة البيان كما سنفصله في موضعه.
واللغات تتباين في سكون الآخر، وتحريكه؛ فالتحريك في السنسكريتية القديمة، وفي بعض اللغات الأوروبية الحاضرة: كالإيطالية، والإسبانية؛ ولكن جميعها خالية من هذا الضبط الموزون بالحركات المتساوقة التي تجدها إعرابًا في العربية؛ ويقال أيضًا إن ما اكتشفوه من لغة بطره وتدمر، يوجد فيه آثار لحركات الإعراب، وذلك لأن أهلهما من بقايا العمالقة.
ومن تلك المشابهة: التنوين، فهو في البابلية ميم، وفي العربية نون، وهما من أحرف الإبدال، ومن العرب من يجوز إبدال أحدهما من الآخر كما سيمر بك -ومنها علامة الجمع، فهي في البابلية الواو والنون كما في العربية- وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرانية الياء والميم- ومنها أن صيغ الأفعال في البابلية أقرب إلى الصيغ العربية منها إلى غيرها من سائر اللغات السامية.
أما الكلمات التي حفظت في العربية كأنها نقل صريح عن البابلية مع تغيرها في سواها، فمنها لفظة "أنف" سقطت نونها في العبرانية والسريانية دون العربية والبابلية؛ وكذلك لفظة "عنب" فهي أيضًا ساقطة النون في تينك دون هاتين.
ولما رجحوا أن البابلية هي اللغة السامية الأصلية، أو هي بقيتها بعد أن تنوعت، قالوا: إن هذا الأصل تفرعت منه سائر اللغات السامية، ثم انفصلت اللغات الشمالية عن الجنوبية، وتميزت كل طائفة منها بخصائص بحيث لا يمكن أن تكون إحدى الطائفتين قد أخذت لغتها عن الأخرى، لتميز اللغات(1/51)
الجنوبية بخواص لسانية، ولمخالفة أوثانها لأوثان اللغات الشمالية؛ لأن اللغة كما قدمنا مجموع العادات.
وقال بعضهم: إذا لم تكن اللغة السامية الأصلية قد نشأت في شمال جزيرة العرب، فلا بد أن يكون منشؤها في وسطها. وقد أفاضوا في المشابهة بين جميع الفروع السامية، وأسلسوا عنان الرأي في الكلام على تاريخها، مما لا يعدو في برهانه الظن والاستئناس؛ ولا يهمنا من ذلك إلا أن نحصل ما يتعلق باللغة العربية.(1/52)
أصل العربية:
لا يذهبن عنك أن العلماء إنما يكتشفون عن أصول اللغات القديمة بما يعثرون عليه من بقايا الطبقات التاريخية؛ وبقية التاريخ في الدلالة الزمنية غير التاريخ نفسه؛ وبذلك يجيئون في أحكامهم بالناسخ والمنسوخ, وربما كشفوا عن حفرة من الأرض فأحيوا منها تاريخا ميتًا ودفنوا فيها تاريخًا حيا؛ فنحن إن قلنا "أصل العربية" لا نريد أنها فجر اليوم من أمس، أو نهار يدل به على الشمس, وإن لم تظهر الشمس، ولكنه فجر يوم من أيام الله أظهره ثم محاه، وشهد الأولون تباشيره ثم تعاقبت الأجيال ولا يزال العالم في ضحاه.
بعد أن انشعبت اللغات من البابلية، ذهب المعينيون، وهم من القبائل الذين اقتبسوا تمدن السومريين مع الدولة البابلية في عصر حمورابي، فنزلوا اليمن وحذوا في عمارتها حذو بابل؛ وكانت لغتهم من البابلية في منزلة العامية من الفصحى لما ثبت فيها من أثر المخالطة والتجول، وهم الذين اقتبسوا حروف الفينيقيين واستعملوها في التدوين على طريقة سهلت للزمن أسباب التنويع فيها، حتى انتهت في صورها إلى الخط المسند المشهور، وهو القلم الحميري؛ واستمرت لغتهم تتباين من البابلية بتقادم الزمن، حتى لم يعد من الشبه بينهما إلا أثر الدلالة التاريخية فقط، وقد وجدوا من ذلك علامة لا توجد من اللغات السامية إلا في هاتين اللغتين وفي الحبشية أيضًا، وهي السين التي هي ضمير الغائب في اللغات الثلاث؛ وقالوا إن هذه السين ربما كانت دخيلة في الأصل السامي من اللغة الطورانية.
ثم نشأت الدولة السبئية، وهم القحطانيون الذين يسمونهم العرب المتعربة، ويرجح العلماء أن أصلهم من الحبشة؛ وكان ظهور دولتهم على ما تحققوه من القرن الثامن إلى سنة 115 قبل الميلاد؛ وقد اقتبسوا لغة المعينيين إلا في ضمير الغائب الذي أشرنا إليه، ولعل هذا ما ينظر إليه قول المؤرخين إنهم أخذوا العربية عن العرب العاربة: وبديهي أن هذه العربية لا يمكن أن تكون لغة مضر، فإنهم يعرفونها -أي: العربية- درجات ويعدون منها لغة حمير، فلا يكون إذن إلا أنهم أرادوا عربية ذلك الزمن، وهي أصل في المضرية وغيرها؛ ولا عبرة بما يتعلق عليه أهل اللغة من أن منطق القحطانيين ومن قبلهم، بل ومنطق آدم، هو العربية الفصحى؛ فإن ذلك كذب لغوي يحتاج إلى تصحيح1.
وابتدأت الدولة الحميرية من سنة 115 قبل الميلاد واستمرت إلى سنة 525 بعده، وهو العهد الذي زهت فيه عربية مضر, وحفظ أهله بعض خصائص الحيرية كما سنبينه.
أما الأحباش فيرجح بعضهم أن أصلهم عرب هاجروا من اليمن زمن المعينيين، وأخذوا معهم
__________
1 بعضهم يغلو في ذلك غلوا كبيرًا حتى يقول: إن لغة آدم عليه السلام في الجنة كانت العربية، فلما عصى ربه سلبه العربية وأعطاه السريانية، ثم لما تاب ردها عليه؟(1/53)
لغتها، واستدلوا على ذلك من مشابهة لغتهم المعينية والبابلية في ضمير الغائب "السين" ثم من مشابهتها للغة الحميرية حتى إن أحرف الكتابة تكاد تكون واحدة في اللغتين، غير أن الأحرف الحبشية تكتب من اليسار إلى اليمين، وهم يزيدون رسم الحركات مما لم يكن عند الحميريين. هذا غير ما يرى من تشابه الملامح في الأحباش وأهل اليمن، وتماثل الآثار في البلادين، ونحو ذلك مما يرجح أنهم طارئون على تلك البلاد من اليمن.
وقد أسلفنا أن عرب الشمال المستعربة، وهم الإسماعيلية، يبتدئ تاريخهم من القرن التاسع عشر قبل الميلاد؛ ولكن عدنان الذي ينتهي إليه عمود النسب العربي الصحيح كان في القرن السادس قبله؛ فلا بد أن تكون العربية العدنانية قد ابتدأت بعد الحميرية أو قبلها بقليل، ومهما يكن من ذلك فإن أصل هذه العربية لا بد أن يكون من الحبشية والحميرية، ثم من اللغات السامية الأخرى؛ لأن العرب قوم رحل، وقد اختلطوا بأمم كثيرة، فلا بد أن يكون أثر هذا الاختلاط بيتًا في تكوين لغتهم؛ وتلك سنة عامة في اللغات كلها، حتى لقد تجد في لغات هذا الزمن ما لا صفة له في نفسه، بل هو لغة مركبة كالعروض التجارية: تؤخذ من كل مكان إلى مكان واحد، وذلك خاص بالبلاد التي عرفت بتجارة المقايضة على نحو ما كان يصنع العرب. ومن هذا القبيل لغة "البيجيين" في الشرق الأقصى، وهي مزيج من الإنجليزية والصينية؛ ولغة السابير، وهي تتألف من العربية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. وهكذا كانت العربية في أول نشأتها إلى أن ضربت القبائل في البادية بعد سيل العرم، وذلك يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد على أبعد تقدير1؛ فاستقلت بعدئذ طريقة العربية، وانصرف أهلها إلى العناية بتشقيقها، وعلى ذلك لا يمكن الجزم مطلقًا بأن للعربية العدنانية أصلًا معينًا، إلا إذا أمكن القطع بأن لهم دولة مستقرة في التاريخ مميزة الحضارة، حتى تقتضي أصالة اللغة، وهذا مما لا يقول به أحد؛ لأنه لا مكان له في التاريخ.
__________
1 ذكرت هذه الحادثة في سورة سبأ، ويقال إن سد العرم هذا بنى في القرن الثامن قبل الميلاد، كما وجدوا ذلك في النقوش التي على صدفيه. وأكثر الروايات على أن الحادثة كانت حوالي تاريخ الميلاد.(1/54)
مجانسة العربية لأخواتها:
لم يبق من أمهات اللغات السامية إلا ثلاث: العربية، والعبرانية، والسريانية، أما الحميرية فقد اندثرت قبل الإسلام غير ألفاظ قليلة، وتولدت منها لهجات مهرة والشحر في جنوب الجزيرة، وقد عثروا من هذه اللغة على آثار من القرن الخامس والسادس قبل الميلاد وتمكنوا من قراءة الخط المسند1.
أما اللغة البابلية أو الأشورية أو الكلدانية القديمة، فقد وفقوا في قراءة آثارها، حتى استخرجوا قواعدها ووضعوا فيها المعجمات كأنها من اللغات الحية، وصيغ الأفعال التي وجدوها في هذه اللغة اثنتا عشر صيغة أكثرها موجود في العربية والعبرانية والسريانية، وبعضها غير موجود في جميعها, ولكنه طبيعي في أصل المنطق، مما يدل دلالة صريحة على أصالة تلك اللغة وتفرع الباقيات عنها، وتلك الصيغ هي:
فعَل نِفْعَل فاعَل شفْعَل
إفتعَل إفْتَنْعَل إتّفْعَل إتَّنْفَعَل
إفتاعَل إفتَنْعَل إستفعل إستَنَفْعل
فصيغتا افتَنْعَل واستنفعل لا توجدان في غير الأشورية، وفعَل وفاعل لا توجدان إلا في هذه اللغة وفي العربية، ونِفْعل واتَّفعل مما يوجد في السريانية والعبرانية دون العربية.
أما المشابهة بين الأخوات الثلاث "العربية والعبرانية والسريانية" فهي متحققة في جهات منها تحققًا يقطع الريب ويمتلخ الشبهة في أنهن أخوات أو فروع لأصل واحد2، وأخص ما يكون ذلك في الألفاظ الطبيعية التي لا تتغير بتبدل المواطن واختلاف الحالة الاجتماعية، وهي التي سميناها الألفاظ الخالدة: كالأرض والسماء، وكثير من ظواهر الطبيعة وأعضاء الإنسان ونحوها فإن مادتها فيهن واحدة على اختلاف قليل في بعض الأوزان والمقاطع، مما يرجع أكثره إلى الخصائص المقومة لهيئة كل لغة منها في منطوقها؛ وتجد في الأفعال والأسماء المشتقة دليلًا من ذلك في تناسب الوضع وتداني اللفظ. أما الألفاظ الثابتة في اللغة الإنسانية التي هي خلف من لغته الأولى، وهي الضمائر: فإنها في اللغات الثلاث باقية على حالة واحدة، وإن لم تخل من الفروق العارضة التي لا بد منها في الهيئة المقومة لمنطوق اللغة، والضمائر -كما لا يخفى- مادة أصلية لا تؤثر فيها زيادة مواد اللغة أو نقصها، وهذا مثال من حقيقة التشابه فيها:
__________
1 أشهر الباحثين في الحميرية الأستاذ هاليفي الفرنسي، وغلازر الألماني، وهم اليوم يبحثون في آثار الحبشة، ويقال إنهم أصابوا فيها بعض ما يعين على الكشف عن أصل العربية.
2 على هذه المشابهة ووجوهها المختلفة بني علم مقارنة اللغات السامية.(1/55)
الجزء العلوي يسحب سكان:1
فالمقابلة بين هذه الضمائر كافية في الدلالة على أن العربية مجانسة لأختيها وأنها أعذب منهما وأخف، والسبب في ذلك أنها صرفت على وجوه كثيرة؛ لأنها كانت غير مدونة، بخلاف العبرانية مثلًا، فإنها مدونة من أقدم أزمانها، والكتابة نص على النص، فبقيت ثابتة كما هي؛ فضلًا عما لقي العبرانيون من طول الاغتراب والتقلب بين أظهر الأمم المختلفة، وما ابتلوا به من الجوائح السياسية في متعاقب أزمانهم؛ وكل ذلك قد خلا منه العرب، وهم ليسوا من أهل المهن، ولا أورثتهم الطبيعة أسباب التبليد والغرة والذل.
وبعد؛ فإن الكلام في مجانسة العربية لأخواتها من اللغات السامية طويل الذيل عند علماء اللغات، وقد فصلوه تفصيلًا وجاءوا فيه بأشياء كثيرة من الحبشية والحميرية والعبرانية والسريانية والفروع الأخرى التي أومأنا إليها فيما سبق، مما لا محل لبسطه وتقريره؛ لأننا إنما نشير إلى التاريخ وقد يكون المثال الطبيعي برهانًا فيه.
على أنه يخلص من جملة أبحاثهم أن المشابهة بين العربية وباقي اللغات السامية أمر لا ريب فيه؛ وعلى ذلك فهي إما أن تكون فرعًا من الأصل الذي انفصلن عنه جميعًا، ويكون أصل الوضع مستصحبًا في جميعها على السواء؛ وإما أن تكون مشتقة من بعض تلك الفروع ثم كملت بما تناولته من غيرها إلى أن استقلت طريقتها المقومة لها بعد ذلك. وكلا الرأيين قريب بعضه من بعضه في النسبة؛ غير أنهم يرجحون الرأي الأول كما سلف بيانه.
ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، أن العدنانية يعدون أنفسهم متميزين عن القحطانية، ويقولون إن حميرًا تنمي إلى العرب وليست منهم، وكذلك يرون أن اليهود مع طول معاشرتهم إياهم واختلاطهم بهم ليسوا إلا حلفاءهم، فلا يبالون بأنسابهم ولا بلغتهم، وكأنهم لا يرون أنهم أخذوا من العبرانية أو الحميرية شيئًا وإنما ذلك شعور طبيعتهم السامية.
__________
1 ينطق الحرف الذي نضع تحته هذه الكسرة بالإمالة.(1/56)
اللسان العربي في الشمال:
قامت في شمال الجزيرة دول عربية متحضرة: كالنبط والتدمريين، وهؤلاء وإن كانوا عربًا فيما حققه العلماء، بيد أن عربيتهم غثة غير متوقحة؛ لأنهم على أطراف البادية مما يلي الحجاز، وبذلك لا تعرف نسبة لغتهم إلى العربية العدنانية، وقد كانوا زمن نشأتها؛ لأن أقدم ما عرف من تاريخ النبط يرجع إلى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت أطراف مملكتهم تترامى إلى نواحي دمشق، وهم قوم كانوا يكتبون بالآرامية التي خلفت البابلية في مدونات السياسة والتجارة؛ لأن الأحرف العربية لم تكن وضعت يومئذ، والملك من أخص حاجاته الكتابة. على أن ما اكتشفوه من آثارهم الكتابية لا يخلو من ألفاظ شبيهة بعربية العدنانيين، مما رجح عند العلماء أنها تحول في الآرامية التي هي مشتقة من البالية القديمة، كما خرجت المضرية بذلك التحول عينه من فروع البابلية؛ وقد استدلوا بهذا على أن لسانهم كان عربيا على وجه ما حتى أثرت عربيته على لغة الكتابة التي اضطروا إليها بحكم الحضارة؛ وذلك شبيه بأمر النوبيين الذين يكتبون اليوم بالعربية، مع أنهم يتكلمون لغة تكفر بها العربية كفرًا لا إيمان له. وفي البلاد العثمانية طوائف من الأرمن والروم يتكلمون التركية ولكنهم يكتبونها بحروفهم القديمة، وذلك كان شأن بقية العرب في الأندلس بعد سقوطها، فإن بعضهم كانوا يكتبون عربيتهم بالأحرف الإسبانية، وتسمى هذه الكتابة "الخميادو" وكانوا يكتبون بها حتى الفقه والحديث والتصوف؛ ومن هذا النحو القلم "الكرشوني" عند السريان، وهو كتابتهم العربية بالأحرف السريانية.
وقد حمل تاريخ النبط منذ صارت مملكتهم ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني للميلاد، ونبه من بعدهم تاريخ التدمريين، وهم عرب أيضًا، حذوا حذو النبط في استعمال الكتابة الآرامية، ووجد العلماء في آراميتهم صبغة ضعيفة من العربية، مما يدل على أنها بسبيل من عربية من قبلهم، لا أثر فيها لأحكام البداوة ولا للغريزة الصحيحة. وقد عثروا على خطوط فيما بين دمشق والعلي, وهي من رسم الرعاة خطوها على الصخور؛ ومن أغرب ما في عربيتها أن التعريف فيها بالهاء، إذا قرأوا في بعضها هذه الكلمات "حامل بن سلم أخذ هفرس بخمسة أمني" أي: أخذ الفرس، و "أمني" نوع من النقود كانوا يتعاملون به، ويرجع تاريخ بعض ما قرأوه من هذه الخطوط إلى أوائل القرن الثاني للميلاد؛ لأنهم وجدوا هذه الكلمات في بعضها "الأنعم بن فاحش غنم سنة حرب نبط" وهذه الحرب كانت في أيام طرايانوس ملك الرومان في أوائل القرن الثاني.
وثم كتابة أخرى وجدوها على قبر امرئ القيس بن عمرو بن ملوك اللخميين الذين كانوا يتولون للفرس، ومقرهم الحيرة على طرف العراق، ولكنهم اكتشفوا هذا القبر بين آثار الغساسنة في حوران، وهم الذين كانوا يتولون للروم على مشارق الشام، والكتابة بالحرف النبطي، ويؤخذ منها أنها كتبت سنة 328 للميلاد، وهي لغة عربية تشوبها صبغة آرامية، وهذه صورتها:(1/57)
وهذا نصها بالحرف العربي:
1- تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التاج.
2- وملك الأسدين ونزور وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وحاء.
3- يزجو في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزول بنيه.
4- الشعوب ووكله لفرس ولروم فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- عكدي هلك سنة 223 يوم 7 بسكسول بلسعد ذو ولده.
وترجمتها هذا:
1- هذا قبر امرئ القيس ملك العرب كلهم، الذي تقلد التاج.
2- وأخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وهزم مذحج إلى اليوم، وقاد.
3- الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر، وأخضع معدًا، واستعمل بنيه.
4- على القبائل، وأنابهم عنه لدى الفرس والروم؛ فلم يبلغ ملك مبلغه.
5- إلى اليوم؛ هلك سنة 223 في اليوم السابع من أيلول، وفق بنوه للسعادة1.
وهذه اللغة تكاد تكون الحلقة المتوسطة بين الآرامية والعربية، أو هي أقدم ما يمكن أن يسمى عربية في اللغات الشمالية. أما البادية لذلك العهد فلا شك في أن لغتها كانت أخلص منطقًا وأعذب بيانًا وأدنى إلى عهد الجاهلية التي أدركها التاريخ؛ والفرق في ذلك بين اللغتين، طبيعة الفرق بين الجهتين.
__________
1 كان أهل الشام وحوران في ذلك العهد يؤرخون من دخول بصرى عاصمة حوران في حوزة الروم سنة 105 للميلاد، فإذا أضيف هذا التاريخ إلى سنة 223 المذكورة في الكتابة، كانت وفاة ذلك الملك سنة 328م.(1/58)
تهذيب العربية الأول:
أردنا بما تقدم الكلام في أولية هذه اللغة، وكيف نشأت وتفرعت، والقول في وجوه المشابهة بينها وبين غيرها، لتضم أطرافًا من التاريخ تحصر جهة معينة من جهاته، يستدل بها الباحث على الوضع المكاني لهذه اللغة في التاريخ العام؛ إذ لا سبيل إلى تعيين موضع من المواضع الدائرة التي تراكمت عليها طبقات الزمان القديم، إلا بتتبع الآثار التي تومئ إليه ولو إيماء معنويا.
والعرب -أهل هذه اللغة- قوم ملكوا الأرض ولم تملكهم، فلم يؤثر عنهم شيء في جاهليتهم الأولى من أنواع الدلالة الثابتة: كالكتابة والآثار ونحوها، ولا دخلوا في تاريخ أمة من أمم الحضارة فيكون لهم نوع من تلك الدلالة؛ وعلى ذلك يتعين أن تكون لغتهم أيضًا قد ملكت التاريخ ولم يملكها؛ وهي لا بد أن تكون قد تقلبت معهم على وجوه من الإصلاح وجرت على مناخ من التهذيب؛ وتاريخ ذلك بالطبع غير محقق بالنص، ولا سبيل إليه إلا تلك الطريقة التي سلكناها من قبل، وإن كانت هذه الجهة منها قد حفظت بعض الآثار التي يترسمها الباحث, ويراها كأنما تركت بالأمس؛ وذلك لقرب عهد الرواة في صدر الإسلام بقبائل العرب الذين خلصت من لهجاتهم هذه اللغة المضرية.
وقبل أن نأخذ إلى القصد من هذا التاريخ، نأتي على شيء من أقوال علماء العرب في أمر اللغة وتهذيبها؛ فهم مجمعون على أن إسماعيل عليه السلام أصل العربية المضرية؛ ولذلك قال صاحب "المخصص" في موضع من كتابه حين أراد أن يدل على أن لغة أهل الحجاز هي الأصل في جميع لهجات العرب: "وإنما صارت لغتهم الأصل؛ لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة"1. وعندهم أن العربية قحطانية وحميرية وعربية محضة! وهذه هي التي نزل بها القرآن، وقد انفتق بها لسان إسماعيل، قالوا: وعلى هذا يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى، وهو الصواب ا. هـ.
وقال الجاحظ -يشير إلى فلسفة هذا المعنى وإن لم يقصده، في سياق كلامه: "أما لخواص الخلص فإنهم قالوا: العرب كلهم شيء واحد؛ لأن الدار والجزيرة واحدة، والأخلاق والشيم واحدة، وبينهم من التصاهر والتشابك والاتفاق في الأخلاق وفي الأعراق, ومن جهة الخئولة المرددة والعمومة المشتبكة، ثم المناسبة التي بنيت على غريزة التربة وطباع الهواء والماء؛ فهم في ذلك شيء واحد "في الطبيعة واللغة" والهمة والشمائل..... فإذا بعث الله عز وجل نبيا إلى العرب فقد بعثه إلى جميع
__________
1 لهذا يعتبر النحاة مذهب الحجازيين مقدمًا؛ وصاحب المخصص ينقل دائمًا عن العلماء ولكنه لا يعزو أكثر من ينقله؛ وستمر بك أقوال في الكلام على لهجات العرب.(1/59)
العرب، وكلهم قومه؛ لأنهم جميعًا يد على العجم، وعلى كل من حاربهم من الأمم؛ ولأن تناكحهم لا يعدوهم، وتصاهرهم مقصور عليهم. قالوا: والمشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرحم. نعم، حتى تراه أغب عليه عن أخيه، لأمه وأبيه، وربما كان أشبه به خلقًا وخلقًا وأدبًا ومذهبًا، فيجوز أن يكون الله تبارك وتعالى حين حول إسماعيل عربيا، أن يكون كما حول طبع لسانه إلى لسانهم وباعده من لسان العجم, أن يكون أيضًا حول سائر غرائزه، وسلخ سائر طبائعه فنقلها كيف أحب، وركبها كيف شاء، ثم فضله بعد ذلك بما أعطاه من الأخلاق المحمودة، واللسان البين بما لم يكن عندهم، وكما خصه من البيان بما لم يخصهم به، فكذلك يخصه من تلك الأخلاق ومن تلك الدلائل بما يفوقهم ويروقهم، فصار بإطلاق اللسان على غير التلقين والترتيب، وبما نقل من طبائعه إليهم ونقل إليه من طبائعهم، وبالزيادة التي أكرمه الله بها أشرف شرفًا وأكرم كرمًا.
ولو صح هذا وأمثاله لكان دليلًا على أن لغة القرآن متوارثة في قريش من لدن إسماعيل عليه السلام، وتكون قد بقيت زهاء خمسة وعشرين قرنًا وهي جامدة على واحدة؛ وهذا الرأي مدفوع في العقول، وإنما سوغه عندهم ما يريدونه من إعطاء هذه اللغة صفة إلهية لمنزلة القرآن منها، وما كان إلهيا فهو كذلك إلى الأبد؛ غير أن التاريخ لا دين له في نسقه الزمني، وإنما التحول والتنوع من سنن الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
والذي عندنا، أن المراد بانطلاق لسان إسماعيل بالعربية، وضع أصلها بما أضاف من لغة جرهم إلى لغة قومه؛ وبذلك انطلق لسانه من الكلام في مذهب أوسع منحى وأوضح دلالة؛ وهذا معنى ما ورد في الحديث من أنه أول من فتق لسانه "بالعربية المبينة" وذلك أمر خاص بالكمال الفطري لا يحتاج إلى تمرين ولا تلقين ولا تدريج، ولا تخريج؛ هذا إذا صح الحديث، إلا فإن إسماعيل علم من أعلام التاريخ الصحيح، وهو الرأي الذي أودع المعقول من تأريخ العدنانية أهل هذه اللغة، لا يتجاوزونه إلا إلى الحدس والتخمين؛ فلا جرم كان في الاعتبار أصل اللغة، وكانت كأنها منسوبة إليه نسبة تأريخية؛ لأن ما وراءه كأنه منقطع عن التاريخ؛ إذ هو تيه من الظن لا يعرف في أي موضع منه توجد الحلقة المفصومة من سلسلة التاريخ العربي.
وعلى هذا يصح لنا أن نقول: إن أول تهذيب حقيقي في العربية، يرجع إلى عهد إسماعيل؛ أما تنقيح اللغة قبل ذلك فإنما هو درجات من النشوء الزمني لا يمكن بوجه من الوجوه أن يحدد أو ينسب إلى فرد معين، كنسبتهم بعضه ليعرب بن قحطان مثلًا، إلا إذا صح التسلسل التاريخي حتى ينتهي إليه، وذلك غير صحيح.
والاستدلال على نسبة المنطق العربي إلى يعرب إنما هو استدلال لغوي فقط. تنبه إليه المجانسة اللفظية؛ وإلا فإن من المؤرخين من يقول إن يعرب هذا هو المعروف في التوراة باسم "يارح بن يقطان" وإذا وجدنا دلالة الإعراب -أي: الإبانة- في يعرب، فلا نجدها في يارح، لا بالنص ولا بالتأول.(1/60)
انتشار القبائل العربية والتهذيب الثاني:
خرج أولاد إسماعيل عليه السلام ومنه انشعبت القبائل بعد أن كانت لغتهم قد اشتدت وقطعت مسافة بعيدة من الفرق بينها وبين أصلها الذي اشتقت منه، فابتدأت تأخذ صورة متميزة من الاستقلال.
ومن شأن الكمال في الاستقلال اللغوي استعمال القوى الكامنة في اللغة نفسها وإعطاؤها الحياة والنمو في باطنها، لا تهيئة هذا الكمال بما يتناول من قوى غيرها، فإن ذلك تبعية لا استقلال؛ وقد كان هذا الاستعمال الذي أشرنا إليه أصل التهذيب الثاني الذي أحدثته القبائل بعد انشعابها، فإن أعظم الأسباب في تكوين العربية على هذا النحو من اللين والمطاوعة على التغير الذي تعاورها في كل عصورها قبل الإسلام، إنما هو عدم كتابتها؛ لأن ما كتب لا يتغير كما أومأنا إليه في محله؛ وهي قد صادفت من العرب قومًا كما علمت في وصفهم من التركيب الخلقي الصحيح، والفطرة البدوية السليمة، والطبيعة العربية السامية؛ إذا كنا نرى اختلاف صورة الحيوان على قدر اختلاف طبائع الأماكن، فأحر بذلك أن يكون في الإنسان وفي اللغة المقومة له.
لا جرم كانت جزيرة العرب وكانت قبائل العرب وكانت لغة العرب سواء في سمو الطبيعة وتميز الشأن والنزعة إلى الكمال الفطري في كل ما هو من معاني الفطرة؛ وإنما يمتنع الكمال عن اللغات من قبل أمور تعرض من الحوادث وأمور في أصل تركيب الغريزة، فإذا كفى الله أهلها تلك الآفات، وحصنهم من تلك الموانع، ووفر عليهم الذكاء، وجلب إليهم جياد الخواطر، وصرف أوهامهم إلى التعرف، وحبب إليهم التبين وقعت المعرفة وتمت نعمة الكمال؛ وذلك شأن العرب العدنانية في كل أدوارهم إلى الإسلام.
ولهؤلاء العرب أسباب خاصة فيهم بالجارحة اللسانية، وهي التي اتخذوا منها أدوات لتهذيب اللغة وصقلها، وسنفصل أمرها بعد.
فلما تفرقت القبائل أخذت اللهجات تتنوع؛ والعرب إنما تهجم بهم طبائعهم على حقائق الكلام، وبذلك لا بد أن تكون قد تعددت طرق الوضع في اللغة بطول المدة واتساع الاستعمال وتقليب الكلام على وجوهه المستحدثة؛ ومن ثم نشأت اللغات الكثيرة التي تشير إلى تاريخ هذا التنوع؛ لأنها مادته الحقيقية، وسنكسر عليها بابًا مفردًا.
وكانت العرب يأخذ بعضها عن بعض بالمخالطة والمجاورة، فربما انتقل لسان العرب عن لغته إلى لغة قبيلة أخرى، وربما تداخلت اللغات فنشأت من اللغتين لغة ثالثة، على أنهم في ذلك لا يخرج(1/61)
كل منهم عن قياس نفسه ووزن طبعه، حتى كأن ألسنتهم تختلف مثل الاختلاف ما بين أجسامهم وأذواقهم؛ فكل منهم يفصل من الكلام ويتصرف في وجوه القول على حسب هذا القياس الذي خلق فيه وركب في طبعه وكان مظهر قريحته؛ ومن هذه الجهة نشأ بينهم التنافس في إحكام اللغة والمفاخرة بالبيان وانحراف اللسان عن الشذوذ الذي يعتبرونه خلقيًا في الألسنة الشاذة، وساعدتهم على ذلك مواقعهم وأيامهم وأسواقهم التي يقصدونها للتسوق والبياعات والمنافرة والحكومة وغيرها مما هو من طبيعة المخالطة. وهذا هو الدور الثاني من أدوار تهذيب العربية.(1/62)
الدور الثالث في تهذيب اللغة:
أما هذا الدور فهو عمل قريش وحدها، وهي القبيلة الأخيرة في تاريخ الفصاحة، بعد أن كان الثاني عمل القبائل جميعًا، وكان الأول عمل القبيلة الأولى، فتكون اللغة قد أحكمت على أدوار التاريخ الاجتماعي كل الإحكام، وذلك أن قريشًا كانوا ينزلون من مكة بواد غير ذي زرع، لا يستقل أهله بتكاليف الحياة، ولا يرزقون إذا لم تهو إليهم أفئدة من الناس، وكانت الكعبة شرفها الله وجهة العرب وبيت حجهم قاطبة في الجاهلية، فكان لكل قبيلة منهم صنم يحجون إليه، حتى قيل إنهم كانوا يقربون القرابين في الكعبة من الإبل والغنم لثلاثمائة وستين صنمًا1، وكانت تلك القبائل بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه، ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تاريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد؛ حتى رقت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم؛ وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس؛ وكانت لهم رحلتان في التجارة كل عام: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران، وهي حاضرة ذلك الجبل؛ وكذلك كانوا يضربون في الأرض إلى فارس وإلى الحبشة، فسمعوا مناطق الناس وتدبروا وجوه العذوبة في أعذبها، وتناولوا كثيرًا من ألفاظ تلك الأمم، فداخلت كلامهم وأعربوها من الرومية والفارسية والعبرانية والحبشية والحميرية؛ وعلى ذلك صاروا بطبيعة أرضهم في وسط العرب كأنهم مجمع لغوي يحوط اللغة ويقوم عليها ويشد أزرها ويرفع من شأنها ويزيد في ثروتها، وبالجملة يحقق فيها كل معاني الحياة اللغوية.
ولا يسع المتأمل في الأدوار التي تعاقبت على قريش في تهذيبها اللغة، إلا أن يستسلم للدهشة، ويحار من أمر هذا التعاقب، فإنه كالسلم المدرجة: تنتهي الدرجة منها إلى درجة، على نمط متساوق من الرقي إن لم يكن عجيبًا في تاريخ أمة متحضرة، فهو عجيب على الخصوص في تاريخ العرب،
__________
1 هذه رواية هشام بن محمد بن الكلبي عن أبيه محمد هذا؛ فقد ذكر في كتاب "الأصنام" أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول البيت 360 صنمًا، فجعل يطعن بسية قوسه في وجوهها وعيونها، وهي تتساقط على رؤسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت، ولهذه الرواية كلام كثير عن العرب زيفه العلماء وردوه. ولا يخلو عدد الأصنام التي ذكرها من المبالغة كما حققه المتأخرون الذين بحثوا في تاريخ أصنام العرب وأصلها وأسمائها واهتدوا من ذلك إلى حقائق كثيرة لا محل لبسطها في هذا الموضع.(1/63)
ولا سيما إذا اعتبرنا مبدأ تلك النهضة، وأنها لا تتجاوز مائة سنة قبل الهجرة إلى مائة وخمسين على الأكثر؛ فئلا بد من التسليم بأنها حادثة كونية من خوارق النظام الطبيعي، ظهرت نتيجتها بعد ذلك في نزول القرآن الكريم بلغة قريش، وهو أفصح الأساليب العربية بلا مراء؛ والله يحكم ما يشاء ويقدر.(1/64)
أسواق العرب:
آخر الأدوار التي قامت فيها قريش مقامها في تهذيب العربية، هو الدور العكاظي؛ وقد أشرنا إلى أسواق العرب آنفًا -ومنها عكاظ- ونحن نوجز القول في بيانها؛ لأنها ليست من غرض ما نحن فيه.
وهي أسواق كانوا يقيمونها في أشهر السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض فكانوا ينزلون "دومة الجندل" أول يوم من شهر ربيع الأول، ثم ينتقلون إلى "هَجَر" بالبحرين فتقوم سوقهم بها في شهر ربيع الآخر، ثم يرتحلون نحو "عمان" في أرض البحرين أيضًا فتقوم بها سوقهم إلى أواخر جمادى الأولى، ثم ينزلون سوق "المُشَقَّر" وهو حصن بالبحرين فتقوم سوقهم به أول يوم من جمادى الآخرة، ثم ينزلون سوق "صَحَار" فيقيمونها خمسة أيام لعشر يمضين من رجب الفرد، وتقوم سوقهم "بالشَّحْر" وهو ساحل بين عمان وعدن في النصف من شعبان، ثم يرتحلون فينزلون "عدن أبين" وهي جزيرة في اليمن أقام بها "أبين" فنسبت إليه، ثم تقوم سوقهم في "حضرموت" نصف ذي القعدة، ومنهم من يجوزها وينزل "صنعاء" فتقوم أسواقهم بها.
ولهم أسواق أخرى غير هذه: كـ"ذي المجاز" بناحية عرفة، وسوق "مِجَنّة" وهي تقام قرب أيام موسم الحج ويؤمها كثير من قبائلهم، وسوق "حُباشة" كانت في ديار بارق نحو قنونا من مكة إلى جهة اليمن، ولم تكن من مواسم الحج وإنما كانت تقام في شهر رجب؛ وأسواق كانت بين دورهم ودور العجم يلتقون فيها للتسوق والبياعات، وهي التي كانت أوسع أبواب الدخيل والمعرب في هذه اللغة، وذكر منها الجاحظ في الحيوان سوق الأبلة وسوق لقه "كذا" وسوق الأنبار، وسوق الحيرة.
عكاظ:
أما عكاظ فهي أعظم أسواقهم، اتخذت سوقًا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة -540 للميلاد- ثم بقيت في الإسلام إلى أن نهبها الخوارج الحرورية حين خرجوا بمكة مع المختار بن عوف سنة 129 للهجرة.
وعكاظ نخل في واد بين نخلة والطائف، فكانت تحضره قبائل العرب كلها؛ لأنها متوجههم إلى الحج الأكبر، فيجتمعون منه في مكان يقال له الابتداء، فتقوم أسواقهم ويتناشدون ويتحاجون؛ لأنه مشهد القبائل كلها؛ إذ كان كل شريف إنما يحضر سوق ناحيته، إلا عكاظ فإنهم يتوافون إليها من كل جهة1، وهم كانوا لذلك العهد يتعلقون بالكلمة السائرة والخبر المرسل، لا يعدلون بذلك شيئًا؛ لما
__________
1 كانت هذه السوق تقوم في ذي القعدة، فمن كان له أسير يسعى في فدائه، ومن كانت له حكومة، ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة، وهم ناس من بني تميم كان آخرهم الأقرع بن حابس على ما نقله القلقشندي في "قبائل العرب"؛ ثم يقفون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ثم يرجعون إلى أوطانهم بما حملوا من آثار هذا الاجتماع.(1/65)
ركب في طباعهم من الفخر وجب المحمدة، وما انصرفوا إليه من المباهاة بالفصاحة وقوة العارضة وقرب ما بين اللسان والقلب، ونحو ذلك مما اقتضته أحوالهم يومئذ.
وفي هذه السوق كان يخطب الشاعر الفحل بقصيدته، والخطيب المصقع بكلمته، كما فعل عمرو بن كلثوم بطويلته التي سميت بالمعلقة على قول بعضهم إنها مع باقي القصائد السبع المعروفة علقت في هذه السوق أو في الكعبة -وهو من الأكاذيب، وسنفصل أمره في موضعه- وكما خطب قيس بن ساعدة الإبادي حكيم العرب خطبته المشهورة التي شهدها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على جمل أورق. وفيها ضربت للنابغة الذبياني قبة من أدم ليتحاكم إليه الشعراء في أيهم أشعر، وقد أنشده فيها الأعشى والخنساء وحسان في قصة مشهورة1.
ولا يخفى أن مثل هذا الاجتماع العام حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعة اللسانية؛ فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة فيه للمجموع المكون على هذه الطريقة, ولكنه يدل على أصل التكوين.
هذا أثر قريش في تهذيب اللغة، وبلغتهم نزل القرآن فتكونت به الوحدة اللغوية في العرب، ومنع لغتهم على الدهر أن تضمحل أو تتشعب فتصير إلى ما انتهت إليه لغات الأمم من تباين اللهجات واختلاف مناحي الكلام كما ترى في اللغات العامية العربية، فهي من أصل واحد وقد تتباين حتى يصير هذا الأصل فيها كأنه بعض الجذور الذاهبة في طبقات الأرض خفاء وضعفًا في التأثير.
وكما أن الذي أنزل عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، إلا وجدت فضلًا في معناه لكلام الله على الكلام.
__________
1 وخلف عكاظ في هذا المعنى الأدبي بعد الإسلام: مربد البصرة، وهو من أشهر محالها، وكان يكون سوق الإبل فيه قديمًا، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الأشراف ومجالس الخطباء يتوافون إليه ساعة من نهار للحديث، والمناشدة والمفاخرة ويجتمع إليهم الناس فيهدر الشعراء ويخطب الخطباء ويتكلم العلماء؛ ولهم مقامات مأثورة ومواقف مشهورة؛ وسنشير إليه في الكلام على الشعر. ولا يعرف من أسواق الكلام غير المربد وعكاظ.(1/66)
الأسباب اللسانية:
أومأنا في الفصل السابق إلى هذه الأسباب، وأن العرب قد خصوا بها لتكون معدلًا لألسنتهم، وهي أسباب طبيعية فيهم ما دامت اللغة بالقياس، وما دام قياس العربي قريحته، فهي تجعل حركات الألسنة على مقادير مضبوطة توازن الحروف التي تجري عليها كما تميل كفة الميزان بمقدار ما يوضع فيه ثقلًا وخفة.
وقد كان يسبق إلى ظننا أن هذه الجارحة اللسانية في العرب قد تكون ممتازة في أصل تركيب الخلقة, كما امتازت أدمغتهم عن أدمغة السلائل الأخرى؛ وكنا نعلل بذلك ما في منطقهم من الفخامة وما في حروفهم من لطيف الحس, وسري المخرج وعجيب التركيب والترتيب؛ بيد أننا لما تتبعنا لغات القبائل واستقرينا لهجتها الباقية في كتب العربية، رأينا أنهم ليسوا سواء في هذه الميزة فإن لبعضهم لهجات رديئة وطرقًا شاذة في سياسة المنطق، كما سنبينه في موضعه، فرجع عندنا أن ذلك من عمل التنقيح وأنه صنعة وراثية في الألسنة جرت بها اللغة مجرى الكمال؛ وهي في بعض القبائل أظهر منها في البعض الآخر، وعلى حسب ذلك قسموها درجات في الفصاحة كما ستعلم.
غير أنه مما لا ريب فيه أن كل قبيلة كانت تهذب في منطقها باعتبار ما ألفته وعلى مقدار يكافئ طبيعة أرضها، راجعة في كل ذلك إلى الثقل والخفة؛ فكل ما رفضه العرب في الجملة أو عدلوا عنه إلى غيره من هيئات المنطق، فإنما فعلوه استثقالًا؛ وكل ما قبلوه أو عدلوا إليه فلخفته على ألسنتهم؛ وهذا مذهب كل من يستبطن أسرار لغتهم ويتتبع هيآتها وتراكيبها، حتى جعلوه في تقدير الكلام علة ما لا تظهر له علة.
قال ابن جني في فصل من كتابه "الخصائص" بعد أن ذكر علة عدل عامر وجاشم إلى عمر وجُشَم، مع تلك الأسماء المحفوظة التي تمنع من الصرف للعلمية والعدل دون أن يكون هذا العدل في مالك وحاتم ونحو ذلك، ووجهها على أنهم لم يخصوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره إلا لاعتراضهم طرفًا مما طف لهم -أي: أمكن- من جملة لغتهم كما عن، وعلى ما اتجه، لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله، قال: "وعلى هذه الطريق ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله، ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها إلا بعد السبر والتأمل والإنعام والتصفح، فإن وجدت عذرًا مقطوعًا به صرت إليه واعتمدته؛ وإن تعذر ذلك جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك مذهبًا تسلكه ومأما تتورده".
وبعد فالثقل والخفة أمران معنويان في اللغة لا يقدرهما إلا الذوق، وهو ليس من الصفات التي يجمع عليها الناس؛ ثم إن الذين دونوا اللغة لم يجمعوها إلا بعدما انطبعت الألسنة على لغة القرآن وجرت في نهجه، وبعد تنقل هذه اللغة في أدوار التهذيب حتى بلغت نهايتها من الكمال؛ فمن ههنا تألف ذوق عام في تقدير لهجات القبائل المختلفة والتمييز بينها خفة وثقلًا. وليس يخفى أن العلماء إنما دونوا لغات بعينها وتناولوا من اللهجات الأخرى نتفًا قليلة مما كان باقيًا لعهدهم، وذلك للحاجة إليه في العربية، ثم أغفلوا ما عداه فضلًا عن كثير لم يقع إليهم علمه؛ ولذلك تأتي لهم أن يحصروا أبنية الكلام وأنواع المستعمل منها والمهمل، وأن يضعوا قوانين وضوابط لتأليف الحروف حتى توافق "منطق العرب"، ومثل هذا لا ينهض به الدليل على أن ذلك كان شأن اللغة في كل القبائل جاهلية وإسلامًا؛ فلغات العرب مختلفة، وكلهم كانوا يدأبون في تهذيبها متابعة لسنة الكمال، راجعين في ذلك إلى موازين القرائح التي لا تميل بطبيعتها إلا مع الاستثقال والاستخفاف على ما يكون بين مقاديرهما من التفاوت.(1/67)
أمثلة من هذه الأسباب:
من نوادر اختلاف العرب في لغتهم للأسباب اللسانية، هذه الأمثلة:
1- من العرب من يحرك آخر الكلمة بحركة الحرف الذي قبله مطلقًا في الفتح والضم والكسر، فيقول في "رُدّ مالي": "رد مالي" كما يقول: "عَضّ" يحرك الضاد كتحريك العين، ويقول في نحو: فر يا غلام واطمئن واستعد: "فر واطمئن واستعد" وهلم جرا.
2- وكذلك يفعلون إذا اتصل الفعل بضمير غير الهاء؛ فإن جاءت الهاء والألف فتحوا أبدًا؛ لأن الهاء خفيفة فكأنها لا تنطق، فيقولون: ردها وأمدها؛ يعتبرون أنفسهم لخفة الخاء المفتوحة عندهم كأنهم قالوا: رد وأمد، والألف بالطبع تقتضي الفتحة.
وأما إن كانت الهاء مضمومة فإنهم يرجعون لطبيعتهم فيضمون ما قبلها وعلى ذلك يقولون في "مَدَّهُ وعَضَّهُ": "مَدُّهُ وعَضُّهُ" كلغة العامة, وسمع الأخفش ناسًا من بني عقيل يقولون: "مَدِّهِ وعَضِّهِ".
3- زعم الخليل أن ناسًا من بكر بن وائل يقولون في نحو: رددْن ومررْن ورددْت ومررْت: رَدَنَ ومَرَّنَ ورَدَّتُ ومَرَّتُ. وهذا الفعل المضاعف إذا كان آخره مفتوحًا نحو: ردّ ومدّ، فالعرب مجمعون على الإدغام وذلك فيما زعم الخليل أولى به؛ لأنه لما كانا -أي: الحرفان اللذان صارا حرفًا مشددًا- من موضع واحد، ثقل عليهم أن يرفعوا ألسنتهم من موضع ثم يعيدوها إلى ذلك الموضع للحرف الأخير؛ فلما ثقل عليهم ذلك أرادوا أن يرفعوا رفعة واحدة، وذلك قولهم: ردِّي وضارّي، إلى سائر تصاريف الفعل.
4- قال سيبويه: فإذا كان حرف من هذه الحروف -المدغمة- في موضع تسكن فيه لام الفعل نحو: رُدّ "فعل الأمر"، فإن أهل الحجاز يضاعفون "لا يدغمون"؛ لأنهم أسكنوا الآخر، فلم يكن بد من تحريك الذي قبله؛ لأنه لا يلتقي ساكنان؛ وذلك قولهم: أُرْدُدْ، وإن تُضارِرْ أُضارِرْ، وإن تستعدد أستعدد؛ يدعونه على حاله ولا يدغمونه. وأما بنو تميم فيدغمون المجزوم كما أدغموا إذا كان الحرفان متحركين، فيقولون: رُدَّ يا فتى، وإن تضارّ أضارّ إلخ. وهي اللغة المأنوسة في الفصيح.
5- قال سيبويه في باب ما شذ من المضاعف: إنهم يقولون: أحست يريدون أحسست؛(1/68)
وأحسن، يريدون أحسسن. قال: وكذلك تفعل في كل بناء تُبني اللام من الفعل فيه على السكون ولا تصل إليها الحركة. شبهوها بأقمت. فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف؛ لأن اللام -أي: آخر الفعل- في موضع قد تدخله الحركة ولم يبين على سكون لا تناله الحركة- أي: كقولهم أحسست- فهم لا يكرهون تحريكها. وأورد من شاذ اللغة: ظَلْتُ، ومِسْتُ، وظِلْتُ، ومَسْت في ظَلِلْت، ومَسَسْتُ: شبهوا الأولى بخِفتُ والثانية بِلَسْت، قال: ولم يقولوا ليِست، ألبتة.
6- وقال أيضًا: اعلم أن للعرب لغة مطردة تجري فيها فُعِل "المبني للمجهول" من رددت ونحوه، نجرى فُعل من قلت -أي: على وزن قيل- وذلك قولهم: قد رِدَّ، وهِدَّ. ورحُبت بلادُك وظِلَّت -وأصل ذلك كله بالضم- وقد قال قوم قد رِدّ فأمالوا الفاء يريد أنهم ينطقون كسرة الراء كحرفeَ -ليعلموا أن بعض الراء كسرة قد ذهبت- لأن أصله على فُعِل كما قالوا للمرأة أُغزي، فأشموا الزاي "وجعلوا في كسرتها صوت الضمة، ليعلموا أن هذه الزاي أصلها الضم.
7- الواو إذا كانت مضمومة في أول الكلمة، فإن من العرب من يبدل مكانها الهمزة، فيقول: في نحو وُلْد ووجوه: أُلد وأُجوه؛ وإذا اجتمع الواون في كلمة فمنهم من لا يهمز فيقول في قؤول ومؤونة: قوول وموونة: يجري الحركة على الواو الأولى؛ والذين يهمزونها إنما يرونها حرفًا ضعيفًا فيضعون مكانها حرفًا أجلد منها وهو الهمزة.
8- إذا كانت الواو في أول الكلمة مفتوحة، فمنهم من يبدلها بالهمزة ولكن هذا في كلمات معدودة: كوجم، ووناة، يقولون: أجم، وأناة؛ وهو ليس مطردًا. قال سيبويه: ولكن ناسًا كثيرًا يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزونها إذا كانت أولًا؛ من ذلك قولهم: إسادة، وإعاء، في وسادة ووعاء، وهكذا1.
9- من لغة بعضهم إدغام الهاء في الحاء -أي: إخفاؤها عندها، وهذا الإخفاء يسميه سيبويه إدغامًا- وذلك كقول الراجز يصف ناقة:
كأنها بعد كلال الزاجر ... ومسحي2 مر عقاب كاسر
يريد "ومسحه" وشبيه بذلك قول بني تميم: مُحم، ومحّاؤلاء: يريدون "معهم ومع هؤلاء" فيحولون العين حاء ثم يدغمون الهاء فيها، وذلك لاستثقالهم أصله وإن كان خفيفًا على ألسنة من عداهم.
10- من نوادر باب الإدغام في كتاب سيبويه -وهذا الباب صفحة ممتعة من تاريخ الأسباب اللسانية عندهم, واعتبارهم في التأليف مخارج الحروف ومرور الصوت وما هو أندى وأفشى وأخفى في السمع ابتغاء الخفة على ما ألفه كل قبيل من لغته الموروثة- قول بعضهم: ذَهَبَسلمى وقسَّمِعت، يريد
__________
1 لابن جني في هذا الموضوع بحث طويل أشبع فيه القول في كتابه "سر الصناعة" وقد ساقه في كلامه على وجوه الإبدال مطردها وشاذها.
2 قلت: وإخفاء الهاء في هذه الكلمة يقتضي تحريك الياء بالكسر.(1/69)
ذهبت سلمى وقد سمعت، ويقولون: مُزَّمان، ومُسَّاعة، في "مذ زمان ومذ ساعة" وأغرب من ذلك قول بعضهم: حَدَّتُّهم "وهي العامية المعروفة اليوم" ومنهم من يقول: هشَّيء في هل شيء, وهَتُّعين في هل تعين, وقد وردت الكلمتان في الشعر1.
ومراتب الثقل متفاوتة عند العرب، فقد يقل الشيء من الصحيح في كلامهم وإن كان له بعض نظائر من المعتل مثلًا، كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون، وقد يطرحونه لهذا السبب؛ وقد يقل عندهم ما هو أخف مما يستعملونه لتوهمهم فيه سببا من أسباب الثقل, وقد يطرحونه وغيره أثقل منه في كلامهم لهذا التوهم عينه؛ وقد يدعون البناء من الشيء وهم يتكلمون بمثله في لفظ آخر. وذلك عينه؛ وقد يدعون البناء من الشيء وهم يتكلمون بمثله في لفظ آخر, وذلك كله راجع إلى قيام القريحة المستقلة، فلا يتقيد العربي بمتابعة غيره ولا تقليده في منطقه ناظرًا إلى حقيقة المتابعة والتقليد، بل ذلك أمر طبيعي في جميعهم، يرجعون فيه إلى السليقة، وينزلون منه على حكم الغريزة؛ وقد رأينا سيبويه يقول في باب الإمالة من كتابه بعد أن أشار إلى اختلاف العرب، وأن منهم من يوافق غيره في الإمالة وقد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، وأن تلك الموافقة ليست تقليدًا من بعضهم لبعض ولكنها طبيعية قال: "فإذا رأيت عربيا كذلك "يخالف أو يوافق" فلا ترينه خلط في لغته، ولكن هذا من أمرهم".
مواقع الحروف اللسانية:
نظر ابن دريد في كتابه "الجمهرة" إلى مواقع الحروف في كلام العرب باعتبار الأسباب اللسانية في دورانها، فرأى أن أكثر الحروف استعمالًا عندهم؛ الواو، والياء، والهمزة، وأقل ما يستعملون منها لتفاوتها في الثقل على ألسنتهم: الظاء، ثم الذال، ثم الثاء، ثم الشين، ثم القاف، ثم الخاء، ثم العين، ثم النون، ثم اللام، ثم الراء، ثم الباء، ثم الميم؛ أما باقي الحروف فهي بين المنزلتين. وقال في موضع من كتابه: اعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة، لصعوبة ذلك على ألسنتهم؛ وأصعبها حروف الحلق، فأما حرفان فقد اجتمعا، مثل أحد، وأهل، ونخع؛ غير أن من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدءوا بالأقوى من الحرفين ويؤخرون الألين، كما قالوا: وَرَل2، ووتد؛ فبدءوا بالتاء مع الدال، وبالراء مع اللام؛ فذق التاء والدال، فإنك تجد التاء تنقط بجرس "صوت" قوي، واللام تنقطع بغتة؛ ويدلك على ذلك أيضًا أن اعتياص اللام على الألسن أقل من اعتياص الراء، وذلك للين اللام. وقال الخليل: لولا بحة في الحاء لأشبهت العين، فلذلك لم يتألفا في كلمة واحدة، وكذلك الهاء، ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكل واحدة منهما معنى على حدة، نحو قولهم حيَّهل وحيَّهلًا؛ فحي: كلمة معناها هلم، وهلا: حثيثًا3.
__________
1 هذه اللغة قرأ بعضهم: هثوب الكفار، في: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} ويتؤثرون في {بَلْ تُؤْثِرُونَ} وقد بقيت أشياء من هذا الفصل اللساني تتعرفها فيما يأتي بعد.
2 الورل: دابة كالضب، أو العظيم من أشكال الوزغ.
3 يقال: حي هلا الثريد أي: هلم، وحي هلك أيضًا.(1/70)
ثم قال ابن دريد في امتزاج الحروف وسر التأليف في أبنية كلامهم بمراعاة المخارج المتباعدة والمتقاربة وملاءمة بعضها لبعض مما هو حقيقة الأسباب اللسانية: أعلم أن أحسن الأبنية أن يبتنوا بامتزاج الحروف المتباعدة؛ ألا ترى أنك لا تجد بناء رباعيا مصمت الحروف لا مزاج له من حروف الذلاقة1 إلا بناء يجيئك بالسين وهو قليل جدا: مثل عسجد، وذلك أن السين لينة وجرسها من جوهر الغنة، فلذلك جاءت في هذا البناء، فأما الخماسي: مثل فرَزَدَق وسفرجل، فإنك لست واجده إلا بحرف أو حرفين من حروف الذلاقة من مخرج الشفتين أو أسلة اللسان "طرفه" فإذا جاءك بناء يخالف ما رسمته لك: مثل "دمشق وضغج حضافج وضقهج، أو مثل عقجش2" فإنه ليس من كلام العرب فأردده؛ فإن قومًا يفتعلون هذه الأسماء بالحروف المصمتة ولا يمزجونها بحروف الذلاقة، فلا تقبل ذلك. فأما الثلاثي من الأسماء والثنائي فقد يجوز بالحروف المصمتة بلا مزاج من حروف الذلاقة: مثل خدع، وهو حسن، لفصل ما بين الخاء والعين بالدال فإن قلبت الحروف قبح؛ فعلى هذا القياس فألف ما جاءك منه وتدبره، فإنه أكثر من أن يحصى.
__________
1 انظر مخارج الحروف وأقسامها في الفصل التالي.
2 هذه الكلمات أمثلة مفتعلة لا معنى لها.(1/71)
عدة أبنية الكلام:
وقد أطال العلماء النظر في وجوه التأليف المتصورة من تركيب الحروف العربية بضرب من الحساب واضح، ليستخرجوا بذلك عدة أبنية الكلام العربي من البناء الثنائي إلى الخماسي، ويستقصوا من كلام العرب ما تكلموا به وما رغبوا عنه مما يأتلف أو لا يأتلف باعتبار الأسباب اللسانية أيضا. وهذه الطريقة الحسابية من وضع الخليل بن أحمد، وقد شرحها ابن دريد في "الجمهرة" ونقلها عنه السيوطي -في الكلام على إيحاء اللغة من "المزهر"- وبها حصر أبو بكر الزبيدي الأندلسي في "مختصر كتاب العين" عدة أبنية الكلام، ما أهمل منه وما استعمل، صحيحًا ومعتلا؛ فذكر أن عدة مستعمل الكلام. كله ومهمله 6659400، والمستعمل منها 5620 والباقي مهمل لم يستعملوه لا في الصحيح ولا في المعتل؛ أما الصحيح من المستعمل فهو 3944 والمعتل منه 1676؛ وقد نقل كلامه برمته صاحب المزهر في الفصل الذي أومأنا إليه، وهو يشمل عدة الكلام المتصور في كل بناء، مستعمله ومهمله، في الصحيح والمعتل من كليهما؛ فارجح إليه إن أحببت الاستقصاء1.
والمهمل عندهم على ضربين: ضرب لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب ألبتة، وذلك كجيم تؤلف مع كاف، أو كاف تقدم على جيم، وكعين مع غين، أو حاء مع هاء أو غين، فهذا وما أشبهه لا يأتلف.
والضرب الآخر ما يجوز تألف حروفه لكن العرب لم تقل عليه، وذلك كإرادة مريد أن يقول عَضَخَ، فهذا يجوز تألفه وليس بالنافر؛ ألا تراهم قد قالوا في الأحرف الثلاثة خَضَعَ؛ لكن العرب لم تقل عضخ.
فهذا ضربان للمهمل، وله ضرب ثالث، وهو أن يريد مريد أن يتكلم بكلمة على خمسة أحرف ليس فيها من حروف الذلق أو الإطباق حرف, وأي هذه الثلاثة كان فإنه لا يجوز أن يسمى كلامًا.
ومن يتتبع تراكيب هذه اللغة ويتدبر أثر الأسباب اللسانية فيها، لا يجد كلامًا يعدل كلام العرب في العذوبة والبيان، وفي الاختصار ونهج التأليف بين حروف الكلمة الواحدة، حتى إنهم قد يراعون
__________
1 قد يعجب بعضهم لاستغراق العلماء في مثل هذا الإحصاء، بل وجدنا من يكذبه زاعمًا أنه منزع بعيد، وذلك قياسًا على همم "المتأخرين" من علمائنا؛ ولكن المطلع على تاريخ المحققين من العرب أيام كان العلم علمًا، يرى أن هذا مما امتازوا به في التحقيق، ونحن نكتفي بخبر عن الزبيدي نفسه الذي نقلنا عنه هذا الحساب، فإنه لما كتب "طبقات النحاة" وقف في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ على خبر؛ وذلك أنه قيل له: "إن فلانًا يقول أخطأ أبو عبيد في مائتي حرف من الغريب المصنف، فحلم أبو عبيد ولم يقع في الرجل بشيء وقال: إن في المصنف كذا وكذا حرفًا، فلو لم أخطئ إلا في هذا القدر اليسير لم يكن كثيرًا".
فنهضت همة الزبيدي إلى تحقيق قول أبي عبيد وإتمام الرواية حتى يضع بدل "كذا وكذا" عددًا معينًا، فعد ما تضمنه الكتاب من الألفاظ. قال: فألفيت فيه 17770 حرفًا. ا. هـ. فتأمل!(1/72)
مواضع الحروف من معانيها، فيجعلون الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس, لما هو أدنى وأقل وأخفى عملًا وصوتًا؛ ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملًا وأعظم حسا، ولتفصيل ذلك موضع سيأتيك.
أما صيغ كلامهم فهي بذلك أبدع الصيغ وأسهلها، لما نَحَوْه من استعمالها من التخفيف، وما طلبوه في صوغها من الاختصار؛ وأكثر الصيغ المهملة في العربية تجدها مستعملة في العبرانية والسريانية أو في إحداهما دون الأخرى، مما يدل على أن هذه اللغة خلق لساني حي كما بيناه في صدر هذا الكلام.
أوزان الأفعال في اللغات الثلاث:
وصيغ الأفعال معروفة في اللغات الثلاث، وقد نقلنا ما عرفوه منها في اللغة البابلية، ونحن ذاكرون هنا أوزانها في هذه اللغات المتشابهة؛ ليستدل بالمقابلة بينها على ترقي الصفات اللسانية في العرب، وأن مبني كلامهم على خفة اللفظ وعذوبته، حتى كأنهم جروا في اللغة على ناموس اقتصادي، وهو نهاية ما تبلغه القرائح من الكمال في أوضاع اللغات؛ هذا إلى ما انفردت به العربية من استقامة الصوت وامتلائه ووضوحه؛ لأنه مادة الحرف وصلاح كل شيء من مادته.(1/73)
__________
1 كل الكسرات التي تكون "على العين" في هذه الأوزان يترك فيها الصوت أعور فلا تنطق إلا بالإمالة، وكل أوزان الأفعال العربية محركة الأواخر بالفتح.(1/74)
مناطق العرب:
الحروف العربية.
الحرف هيئة عارضة للصوت الساذج يتكون في مواضع من اللسان والحلق والسن والنطع1 والشفة، وهذه المواضع هي مخارج الحروف، ومحال أن يتكون الصوت في جميعها تكونًا طبيعيا يشمل الناطقين جميعًا، بل لا بد في ذلك من عمل وراثي يتبع حالة اللغة من الكمال ويقدر بقدرها، وذلك لا تجده على أكمل الوجوه إلا في لغة العرب.
وقد بينا فيما سبق أن الحرف الطبيعي في المنطق إنما هو الحرف الهاوي الذي يتسع مخرجه لهواء الصوت فلا يقع الحرف فيه على مدرج من مدارج الحلق ولا اللسان ولا غيرهما من سائر المخارج، ويتلوه في التكون أحرف الحلق، لقربها من مصدر الصوت؛ ثم تكونت باقي الحروف على نظم طبيعي بطيء، وذلك بارتقاء أوتار الصوت وتفن الإنسان في توقيع الأصوات عليها؛ لأن الحلق إنما هو في أصل الخلقة أداة الموسيقى اللغوية.
وثبت ما قدمناه ما وقف عليه علماء اللغات في مباحثهم، وهو أن بعض القبائل في أواسط إفريقيا لا توجد في لغتهم الحروف الشفوية: كالفاء والباء والميم والواو؛ وبعض هنود كولومبيا لا يجدون سبيلًا إلى النطق بهذه الحروف "ب ف ج د و" وأكثر أقوام أوستراليا لا يستعملون حروف الصفير "س ص ز" ولا هذه الحروف "ش ث ط"؛ وأهل "نيوزيلاندا" لا ينطقون هذه الحروف "ب س د ف ح ج ل ن ص وي" وكذلك وجودا اللغة الهيروغليفية القديمة -وهي من أقدم اللغات المعروفة- ليس من حروفها في المنطق "ب ج د ز ظ ض" بل أنت ترى الدليل الذي لا سبيل إلى رده في هذه الحروف الطبيعية الخالدة التي لا يزاد فيها ولا ينقص منها وهي ما يتهيأ في منطق الحيوان السائم2 فإنها على قدر الحاجة الحيوانية, مما لا يتجاوز معنى الإحساس الذي هو النطق الباطني.
أما الحروف العربية فهي المعروفة اليوم بالحروف الأبجدية؛ أو ألف باء، ولم تكن على هذا الترتيب الهجائي من قبل، وإنما هو ترتيب نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدواني، في زمن عبد الملك بن مروان، حين بدئ في إصلاح الخط وتمييز الحروف والحركات -كما سيأتي في موضعه- كانت قبل ذلك على ترتيب "أبجد هوز" المعروف، وهو ترتيب السريانية والعبرانية.
__________
1 النطع: ما ظهر من الغار الأعلى للفم وفيه آثار كالتحريز، وحروفه "ط د ت" وتسمى الحروف النطعية.
2 أما الحيوان المروض المأخوذ بالعناية والتعليم والتلقين، فقد يقتبس جملة من حروف اللغة التي يعلم بها، وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية. ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية: كالأكل والشرب، فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضًا.(1/75)
ومن علماء اللغة من يرتبها على وجه آخر، كالخليل بن أحمد1؛ فإنه اعتبر ترتيبها على مخارجها الطبيعية ذاهبًا من الصدر إلى الشفتين، وبنى على هذا الوضع كتاب "العين" الذي هو أول كتاب جمع اللغة فجعلها هكذا:
ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط
د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي
وقد خالفه بعضهم، ولا نرى فائدة في استقصاء أقوالهم المختلفة.
وهذه الحروف 29 حرفًا بإضافة الهمزة -وهو رأي سيبويه وعليه المحققون، وكان أبو العباس ثعلب لا يعدها منها- وتسمى حروفًا أصلية، ولها أربع حركات أصلية أيضًا، وهي الفتحة والضمة والكسرة والسكون2.
وهذه الحركات قديمة في اللغة؛ لأنها هيئات المنطق, ولكنها دلائلها الخطبة "-َ ُ- ِ-ْ" لم تكن عندهم، بل اخترع أصولها السريان حينما تنصروا وأرادوا ضبط قراءتهم في الأناجيل؛ فوضعوا علامات صغيرة تدل على الحركات، وهي نقطة أو خط صغير فوق الحرف أو تحته أو بين يديه، ولا يزال أثر هذه الطريقة في المصاحف المخطوطة في القرن الثاني للهجرة؛ فقد كانت تكتب من غير نقط إلا للشكل؛ فالنقطة فوق الحرف علامة الفتحة، وتحت علامة الكسرة، وإلى جانبه علامة الضم، وأول من وضع هذه الطريقة للعرب أبو الأسود الدؤلي؛ ولذلك تأريخ يأتي في محله.
والمراد بالحروف والحركات "الأصلية" التي يستوي في الإتيان بها الأقحاح من العرب الذين لم تخلط لغتهم ولا ورثوها مخلوطة؛ فإن لمن عداهم حروفًا أخرى تسمى متفرعة.
الحروف المتفرعة:
وهي حروف من التسعة والعشرين حرفًا تتميز بإشراب الحرف3 صوتًا من غيره، وهي قسمان: مستحسنة، ومستهجنة؛ ونحن نذكرها في هذا الفصل مقرونة بما يناسبها من لغات العرب، تحقيقًا
__________
1 قال الأزهري في "التهذيب" نقلًا عن الليث بن المظفر -متمم كتاب العين بعد الخليل: لما أراد الخليل الابتداء في كتاب العين، أعمل فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدئ من أول أب ت ث إلخ؛ لأن الألف حرف معتل، فلما فاته أول الحروف، كره أن يجعل الثاني أولًا "وهو الباء" إلا بحجة وبعد استقصاء؛ فتدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها، فوجد مخرج الكلام كله من الحلق فصير أولها بالابتداء أدخلها في الحلق، وكان ذوقه إياها أنه كان إذا أراد أن يذوق الحرف، فتح فاه بألف "أي الحرف الطبيعي في النطق كما قدمنا" ثم أظهر الحرف "الذي يريد ذوقه" نحو: أت، أح، أع، فوجد العين أقصاها في الحلق وأدخلها، فجعل أول الكتاب العين، ثم ما قرب مخرجة منها، الأرفع فالأرفع، حتى أتى على آخر الحروف.
2 في كتاب "سر الصناعة" لابن جني: الحركات أبعاض، حروف المد واللين؛ فالفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وكان متقدمو النحويين يسمون الفتحة: الألف الصغيرة، والكسرة: الياء الصغيرة، والضمة: الواو الصغيرة.
3 سمى سيبويه بعض الحروف: بالمشربة، وذلك في باب الوقف من كتابه.(1/76)
لغرضنا التاريخي.
المستحسنة:
أما المستحسنة فهي التي عرفت في لغة من يوثق بعربيته وتستحسن في قراءة القرآن وإنشاد الشعر, بحيث لا تشوب المنطق منها هُجنة أو زراية، وهي:
1- النون الخفيفة التي يكون مخرجها من الخياشيم. كما تقول "عنك" تخرج النون بغنة من الخياشيم، وهذه النون في منطق كثير من أشراف العرب، ومن لغاتهم أنهم يستجيزون في الشعر جمع الميم والنون في القوافي لاجتماعهما في الغنة التي ترتفع إلى الخياشيم، وعليها قول الراجز:
بني إن البر شيء هين ... المنطق اللين والطعيم
ينطقها "الطُّعَيِّن1" للقافية. وقال آخر:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
ينطقها "أُنِّي".
2- الهمزة التي بين بين "التسهيل"؛ وهي التي تقع متحركة بعد ألف؛ فإنهم ينطقون بها حرفًا بين الهمزة وبين حرف حركتها، ويجعلون الحركة التي عليها -أي: الهمزة- مختلسة سهلة بحيث تكون كالساكنة وإن لم تسكن؛ فينطقون بها بحرف بين الهمزة والألف إن كانت مفتوحة نحو: تساءل، وبينها وبين الواو إن كانت مضمومة نحو: تفاؤل، وبينها وبين الباء الياء إن كانت مكسورة نحو: قبائل.
وهذا الحرف المنطوق به يسمى الهمزة المسهلة أيضًا، وذلك في لغة قريش وأكثر أهل الحجاز: يخففون الهمزة؛ لأنها أدخل في الحلق ولها نبرة تجري مجرى التهوع2 فثقلت بذلك على ألسنتهم, ويروى عن علي أنه قال: نزل القرآن بلسان قريش وليسوا بأصحاب نبر، ولولا أن جبريل عليه السلام نزل بالهمزة على النبي صلى الله عليه وسلم ما همزنا. أما تحقيق الهمزة فهو الأصل، وهو لغة تميم وقيس.
لغات في التخفيف:
والتسهيل نوع من أنواع التخفيف المقررة في علم الصرف، ولا محل لبسط ذلك في هذا الكتاب، ولكنا نذكر منه أمثلة من لغاتهم فيه جريًا على طريقتنا من جمع الصور التاريخية لهذه اللغة كما سنفصله3:
فمن العرب من يبدل الهمزة المفتوحة إذا كانت منفصلة -أي: بين كلمتين- إلى لفظ ما قبلها
__________
1 قلت: والطعيم: تصغير الطعام.
2 يريد أن صوت الهمزة في مخرجها من الحلق يشبه صوت من يتكلف القيء.
3 نتقدم إلى القراء أن يتقصصوا ما ذكرناه من لغات العرب وما نذكره وما سنذكره منها في الفصول التالةي؛ لأنها في حقيقتها درجات تاريخية، ثم هي بجملتها لا يجمعها كتاب كائنًا ما كان لمتقدم أو متأخر.(1/77)
ويدغمها فيه ويسمونه "التخفيف البدلي" فيقولون في "أو أنت": أوّنت، وفي "أبو أيوب": أبوَّيُّوب، هكذا.
فإذا كانت الهمزة المنفصلة مكسورة أو مضمومة فأهل التخفيف لا يدغمونها فيما قبلها بل يقولون في نحو: "أحلبني إبلك" أحلبني بِلَك، وفي نحو: "هذا أبو أمك" أَبُوُمِّك. فيلقون حركة الهمزة على ما قبلها.
أما إن كانت الهمزة في كلمة واحدة -أي: غير منفصلة- نحو: سوأة، وموألة، فإنهم يحذفونها فيقولون: سَوَة، ومَوَلة.
فذلك كما ترى قريب من لغاتنا العامية، وأقرب منه أنهم يحذفون الهمزة بعد المتحرك المبني ويلقون حركتها عليه، فيقولون في نحو: "قال إسحاق، وقال أسامة" قال سحاق، وقال سامة.
وكذلك يحذفون الهمزة إذا كانت أول كلمة وكان آخر الكلمة التي قبلها ألفًا، وفي هذه اللغة: إن كان ما بعد الهمزة حرفًا ساكنًا حذفوا معها الألف التي قبلها لئلا يجتمع ساكنان، فإن لم يكن ذلك أبقوا الألف وحذفوا الهمزة وحدها؛ فيقولون في نحو: "ما أحسن زيدًا": محسن زيدًا. وفي "ما أشد عمرًا": ما شدَّ عَمْرًا، يبقون في هذا المثال الألف التي قبل الهمزة؛ لأن ما بعدها متحرم وهو "الشين".
الإمالة:
3- من الحروف المستحسنة، الألف التي تمال إمالة شديدة، وذلك أن ينحى بالفتحة نحو الكسرة إلى حد لو زاد صارت الألف ياء؛ وهي الإمالة الكبرى، ويسمونها المحضة، ونطقها كحرف "Eَ" أما غيرها فيسمونها الإمالة الصغرى، وبين بين، وبين اللفظين، وتسمى ترقيقًا أيضًا، وهذا خاص بإمالة الفتحة التي قبل الألف فقط: كعابد؛ والمراد من الإمالة إما غرض مناسبة صوت النطق بالفتحة إلى صوت النطق بالكسرة التي قبلها حتى تقرب منها: كعماد، أو التي بعدها: كعالم؛ أو المناسبة لصوت النطق بباء قبلها: كسيَّال، وشيبان؛ أو للتنبيه على أصل الألف الممالة إذا كانت منقلبة عن ياء أو واو مكسورة: كباع، وخاف؛ أو للتنبيه على الحالة التي تصير إليها الألف في بعض الأحوال: كأفعى، وحبلى؛ لأنهما تصيران في التثنية أَفْعَيَان، وحُبْلَيَان1. وسائر أسباب الإمالة وأنواعها مفصل في كتب التصريف ولا تمس حاجتنا إليه، وإنما نقصد منه إلى معنى التاريخ اللغوي فقط.
فأصل التقريب شائع في كلامهم، يقربون الحرف إلى الحرف للشبه بينهما، كما يقربون الصاد من الزاي ونحو -على ما سيأتي- وليست الإمالة مطردة في أهل اللغة الواحدة؛ فإن أهل الحجاز يميل
__________
1 من لغات العرب أن بعضهم يبدل الألف في أفعى وحبلى ياء في الوقف، فيقول: أفعي وحبلي "بكسر العين واللام"، وبعضهم يبدلها واوًا فيقول: أفعو، وحبلو؛ وقال ابن سيده في "المخصص": بعض العرب يجعل الياء والواو ثابتتين في الوصل والوقف. وفي "سر الصناعة": حكى سيبويه عنهم في الوقت: هذه حبلاء، يريدون حبلى، ورأيت رجلاء، يريدون رجلًا؛ وقال: إن الهمزة فيهما بدل من الألف، وحكى أيضًا أنهم يقولون: هو يضربها، بالهمزة، وهذا كله في الوقف.(1/78)
بعضهم قليلًا في مواضع معينة، وأكثرهم لا يميلون؛ ونبو تميم وهم أحرص العرب عليها في منطقهم, يميل بعضهم في مواضع وينصب بعضهم "لا يميل" في مواضع أخرى، وقد يميلون جميعًا في أشياء معروفة.
ولناس كثير من العرب ممن ترضى عربيتهم أنواع من إمالة الألف، فيقولون: هو يريد أن يضربها! ونحو ذلك؛ لأن الهاء خفيفة والراء مكسورة، فكأنها عندهم "يضربا" -بدون هاء- ولذلك يميلون؛ وفي هذه اللغة يقولون: منها، فيميلون أيضًا، ويقولون: فِينا، وعِلينا؛ فيميلون للباء حيث قربت من الألف، وكذا "يدا، ويدها" يميلون فيهما للياء أيضًا؛ ومن أهلها بنو تميم وقوم من قيس وأسد.
وثم حروف تمنع من إمالة الألفات وهي "ص ض ط ظ غ ق خ" إذا كان حرف منها قبل الألف، وكانت الألف تليه: كصادق، وضامن وطائف، وظالم، وغائب، وقاعد، وخامد؛ وإنما منعت هذه الحروف الإمالة؛ لأنها مستعلية إلى الحنك الأعلى، والألف إذا خرجت من موضعها استعلت إليه فغلبت عليها هذه الحروف، وقربتها منها لاستواء الصوت في مجموع الكلمة.
قال سيبويه: ولا نعلم أحدًا يميل هذه الألف "مع المستعلية" إلا من لا يؤخذ بلغته؛ فإذا كان حرف من هذه الحروف قبل الألف بحرف وكان مكسورًا، فإنه لا يمنع الألف من الإمالة، نحو: الضعاف، والصعاب، والقباب، مثلًا؛ لأنهم يضعون ألسنتهم في موضع هذه الحروف المستعلية ثم يصوبونها فالانحدار أخف عليهم من الإصعاد.
وبقيت أشياء كثيرة لا تتعلق بغرضنا، ولكن جماع القول من هذا الباب التاريخي ما قاله سيبويه، من أنه ليس كل من أمال الإلفات ووافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، وذلك من كان النصب من لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر، فإذا رأيت عربيا كذلك فلا ترينه خلط في لغته، ولكن هذا من أمرهم.
المضارعة بين الحروف:
4- ومن الحروف المتفرعة المستحسنة، الشين التي تكون كالجيم؛ فإنهم يشربونها صوت الجيم متى كانت الشين ساكنة قبل دال؛ لأن الدال مجهورة شديدة والشين مهموسة رخوة1 فيريدون بهذا النطق تناسب الصوت على ما هو من أمرهم. وذلك نحو أشدق ومشدود، فإنهم يشربون هذه الشين صوت الجيم فتنطق كحرف "J" وهي الجيم في منطق السوريين.
5- ومنها الصاد التي تكون كالزاي، وذلك أن الصاد متى كانت ساكنة وكان بعدها دال نطقوها زايًا مفخمة غير خالصة؛ لأنهم يضارعون بها أشبه الحروف بالدال في موضعه وهو الزاي؛ لأنها حرف مجهور غير مُطْبَق، فيقولون في نحو: "أصدر، ومصدر، والتصدير" أزدر، ومزدر، والتزدير؛ ولكن كما ينطق عامتنا حرف الظاء؛ وقال سيبويه: وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايًا خالصة..... إرادة أن
__________
1 انظر فصل مخارج الحروف.(1/79)
يكون عملهم من وجه واحد، وليستعلوا ألسنتهم في ضرب واحد.
وقد يضارعون بالصاد أيضًا منطق الزاي إذا كانت الصاد متحركة، نحو: صدق، وربما ضارعوا بها وهي متحركة وبعيدة عن الدال، نحو: مصادر، بل وفي نحو الصراط أيضًا, وإن لم يكن في الكلمة دال, ولكنهم يعتبرون الطاء كالدال. وفي شرح الفصيح لابن خالويه: إن من لغة بعض العرب أن يشم "الصفا والعصا" فيشرب الصاد صوت الزاي مع أنه ليس فيهما دال ولا ما هو في حكمها، قال: وهي لغة سوء.
وكذلك قد يضارعون الشين بالزاي إذا كان بعدها دال؛ لأنها في الهمس والرخاوة كالصاد، فيقولون في نحو: "أشدق" أزدق؛ وقد مرت اللغة الأخرى في النطق بهذه الشين.
6- ومن الحروف المستحسنة ألف التفخيم، وهي ألف ينحى بها نحو الواو فتكون كحرف "O" وينطق بها أهل الحجاز في قولهم: الصلاة، والزكاة، والحياة؛ ويقال إنهم كتبوا هذه الكلمات في المصحف بالواو بدل الألف على هذه اللغة؛ ولا يقاس في ذا المنطق بل ينتهي فيه عندما انتهت إليه العرب.
الحروف المستحسنة:
وهي حروف لا يستحسنونها ولا تكثر في لغة من تُرْتَضَى عربيته، ولا يؤخذ بها في قراءة القرآن وإنشاد الشعر؛ وهذه الحروف لا يستطيع بعضهم النطق بأصولها، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها وهي:
1- حرف بين الجيم والكاف ينطق به كمنطق الجيم المصرية، فيقولون في "كافر": جافر، وهو اليوم من لغات اليمن وبغداد.
2- الجيم التي ينطق بها كالكاف، وكانت لغة سائرة في اليمن، وهي اليوم فاشية في أهل البحرين، فيقولون في "رجل، وجمل": رَكُل وكَمَل.
3- الجيم التي كالشين، وهي عكس الشين التي كالجيم في الحروف المستحسنة، ولكنهم استهجنوا هذه؛ لأنها إنما ينطق بها كذلك إذا كانت ساكنة وبعدها دال أو تاء نحو: "اجتمعوا، وأجدر" يقولون فيهما: اشتمعوا وأشدر؛ وموضع الثقل أنه ليس بين الجيم والدال، ولا بينها وبين التاء تباين؛ بل هما شديدتان.
ومن لغاتهم أيضًا أنهم يقربون الجيم من الدال في وزن "الافتعال" فيبدلون الدال مكان التاء من هذا الوزن ليكون العمل من وجه واحد، يقولون في نحو: "اجتمعوا، واجترءوا": اجدمعوا واجدرءوا.
4- حرف بين الكاف والقاف، وهذا لم يذكره سيبويه في كتابه بين الحروف المتفرعة، ولكن ذكره ابن فارس في "فقه اللغة" فقال: فأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف باللهاء حتى تغلظ جدا، فيقولون: "القوم" فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم، قال الشاعر:
ولا أكول لكدر الكوم قد نضجت ... ولا أكول لباب الدار مكفول(1/80)
يريد في كل ذلك القاف. وهذا الحرف يسمى القاف المعقودة، قال أبو حبان في "ارتشاف الضرب": وهي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي من العرب حتى لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة لا بالقاف الخاصة المنقولة على وضعها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن.
5- الضاد الضعيفة، قال سيبويه في مخرجها: إنها تتكلف من الجانب الأيمن، وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر وهو أخف؛ لأنها من حافة اللسان مطبقة. وقال الفارسي: كما إذا قلت ضَرَبَ ولم تشبع مخرجها "أي: الضاد" ولا اعتمدت عليه ولكن تخفف وتختلس فيضعف إطباقها ويقول السيرافي أنها في لغة قوم ليس في لغتهم ضاد فإذا احتاجوا إلى التكلم بها في العربية اعتضلت عليهم فربما أخرجوها ظاء لإخراجهم إياها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم يتأت لهم فخرجت بين الضاد والظاء.
6- الصاد التي كالسين؛ يقربونها من السين لكونهما من مخرج واحد, وهي كبعض لغات المتطرفين من العوام، يقولون في "صالح": سالح.
ومن لغات العرب إبدالهم السين صادًا إذا كان بعدها قاف وكانتا في كلمة واحدة، فيقولون في "سُقْتُ" صقت. وكذا يعتبرون الغين والخاء بمنزلة القاف، يقولون: صالغ وصلخ، في "سالغ وسلخ" وهذه من لغة بني العنبر، وقد قالوا أيضًا: صاطع، وفي "ساطع".
7- الطاء التي كالتاء، وهي فاشية في لغم عجم أهل الشرق؛ لأن الطاء في أصل لغتهم معدوم، فإذا نطقوا بها تكلفوا ما ليس في لغتهم فارتضخوا هذه اللكنة، فيقولون في "سلطان": سلتان بتفخيم قليل.
8- الظاء التي كالثاء، وهو حرف يجيء من المبالغة في إفشاء الظاء فتخرج كأنها ثاء مفخمة.
9- الباء التي كالفاء، وفي نحو: "أصبهان وبلخ" وهي على ضربين. أحدهما لفظ يكون الباء أغلب عليه من الفاء كحرف "P" والآخر لفظ يكون الفاء أغلب عليه، وهما حرفان من حروف المعجم سوى الباء والفاء المخلصين. قال السيرافي: وأظن العرب إنما أخذوا ذلك من العجم لمخالطتهم إياهم.
10- الياء كالواو في نحو: قيل وبيع بالإشمام، وهي لغة بعض العرب، يشمون الياء صوت الواو فتخرج كحرف "EU".
11- الواو التي كالياء في نحو: مذعور وابن بور، ينطقون بها كحرف "U" وهي في لغة كثيرين من قيس وأكثر بني أسد: كفقعس ودُبَير، يجيئون بها بدل واو المد التي بعدها راء مكسورة، فتميل الضمة إلى جهة الكسرة، ويتبع ذلك ميل الواو إلى جهة الياء كما قال سيبويه.
تلك جملة ما عرفوه في مناطق العرب، وهي ولا شك آثار يرتضخونها من لغات أخرى: كالعبرانية والسريانية ولغة الفرس والروم والحبشة وغيرهم ممن خالطوهم في أقدم أزمانهم، ولا يزال ذلك بينًا في مناطق هذه اللغات إلى اليوم.(1/81)
صفات الحروف ومخارجها:
لا نريد أن نطيل في بيان مخارج الحروف العربية وضبطها على وجوهها الصحيحة المتناقلة عن العرب؛ فذلك خارج عن غرضنا في هذا الكتاب، ثم هو موضوع فن برأسه، وهو فن التجويد الذي وضعه حفص بن عمرو الدوري صاحب القراءة المشهورة بـ"قراءة حفص" وقد أخذ عن عاصم عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بعد مستفيض في كتب التصريف، وقد وضع فيه ابن جني كتابه "سر الصناعة"، وهو أتم كتاب في ذلك، قسمه على أبواب بعدد الحروف، فذكر فيه أسماءها وأجناسها ومخارجها ومدارجها وفروعها وخلاف العلماء في ذلك مسقصى مشروحًا.
ولكنا نذكر أنواع هذه الحروف باعتبار صفاتها؛ لأن هذه الصفات إنما هي مصطلحات تاريخية في اللغة، وهم يسمون الخطأ فيها -صفات الحروف- لحنًا خفيا، وقد سمينا بعضها فيما تقدم لنا من الكلام, فنذكر جملتها في هذا الفصل ترجمة لتلك وتوفية للفائدة، ثم نلم بمخارجها بعد.
الصفات:
يقسمون الحروف باعتبار صفاتها إلى تسعة عشر نوعًا، وبعضهم يبلغ بها إلى أربعة وأربعين، وكثير ينقصون أو يزيدون؛ أما الأنواع المشهورة عند علماء هذا الفن والتي هي كالأصول، فهي حروف: همس، وجهر، وشدة، ورخاوة، وبين بين، وحرفو استعلاء، واستفال، وإطباق، وانفتاح، وتفخيم، وترقيق وتفش، وتكرير، واستطالة، وغنة، وذلاقة، ومد، ولين، وصفير، وقلقلة:
1- فالحرف المهموس هو الذي ضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه، وحروف هذا النوع عشرة: "هـ ح خ ك ش س ت ص ث ف".
2- والحرف المجهور هو الذي أشبع الاعتماد في موضعه -أي: على مخرج الحرف- ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت، وحروف هذا النوع تسعة عشر؛ لأنها كل ما كان غير مهموس.
3- والشديد هو الذي يمتنع الصوت أن يجري فيه لكمال قوة الاعتماد على مخرج الحرف، ولهذا النوع ثمانية حروف: "ء ق ك ج ط ت د ب".
4- والرخو هو الذي يجري فيه الصوت لضعف الاعتماد على مخرجه مع نفس قليل، وذلك في الرخو المجهور، أو كثير وهو في الرخو المهموس؛ وحروف الرخاوة ستة عشر: "ذ ظ غ ض ز وي اهـ ح خ ش س ت ص ث" وهذه الثمانية الأخيرة هي كل حروف الهمس ما عدا الفاء والكاف.
5- وأما الحرف الذي هو بين بين فهو المتوسط بين الرخاوة والشدة وذلك من عدم كمال احتباس الصوت وعدم كمال جريه؛ وحروفه خمسة: "ل ن ع م ر" وهذه الحروف المتوسطة كلها مجهورة.(1/82)
أما الأنواع السابقة فمنها الشديد المجهور، وهو ستة حروف: "ء ق ط ب ج د".
ومنها الشديد المهموس وهو حرفان: "ك ت".
ومنها الرخو المجهور وحروفه ثمانية: "ض ظ ذ غ ز اوي".
ومنها الرخو المهموس وهو ثمانية أيضًا: "هـ ح خ ش س ص ث ف" وهذه الثمانية هي جميع الحروف المهموسة ما عدا الكاف والتاء.
6- الاستعلاء: هو أن يستعلي اللسان عند النطق بالحرف إلى جهة الحنك العليا، وحروفه سبعة "خ ص غ ط ق ظ" وأشدها استعلاء القاف.
7- والاستفال ضد الاستعلاء، وحروفه كل ما عدا السبعة المتقدمة.
8- الإطباق: وهو انحصار الصوت فيما بين اللسان والحنك، لانطباق الحنك على وسط اللسان بعد استعلاء أقصاه ووسطه إلى جهة الحنك، كما تعرف ذلك عند النطق بحروفه، وهي أربعة: "ظ ص ض" وجملتها من حروف الاستعلاء، ولا يكون الإطباق تاما إلا مع الطاء.
9- والانفتاح: هو عدم انحصار الصوت بين وسط اللسان والحنك عند النطق بالحرف لانفتاح ما بينهما، سواء انطبق الحنك على أقصى اللسان أو لا؛ وحروفه كل ما عدا الأربعة المطبقة؛ وكل حروف الاستفالة منفتحة.
10- التفخيم: وهو تغليظ الحرف في مخرجه بحيث يمتلئ الفم بصداه, وحروف الاستعلاء كلها مفخمة، ولا يجوز تفخيم شيء من حروف الاستفالة إلا الراء واللام في بعض أحوالهما وإلا ألف المد، فإنها تابعة لما قبلها تفخيمًا وترقيقًا.
11- والترقيق: وهو نحافة الحرف بحيث يكون جسمه ناحلًا لا يمتلئ الفم بصداه.
12- والتفشي: كثرة انتشار خروج الهواء بين اللسان والحنك وانبساطه في الخروج عند النطق بالحروف، وحرف التفشي هو الشين فقط على المشهور، وبعضهم يجعله في الضاد والثاء والفاء، وبعضهم يقول إن في الصاد والسين تفشيًا أيضًا، وكل ذلك غير مجمع عليه.
13- والتكرير: ارتعاد رأس اللسان عند النطق بالحروف؛ وحرفه الراء فقط، وأكثر ما يظهر تكريره إذا كان مشددًا نحو: مرَّة، وكرَّة.
14- والاستطالة: امتداد الصوت من أول حافة اللسان إلى آخرها وهي جنب اللسان لا طَرَفه، وحرفها الضاد فقط، وبعضهم يقول إن الشين مستطيلة أيضًا؛ لأنها تفشت واستطالت حتى خالطت أعلى الثنيتين، وهذا نقله صاحب "المخصص".
15- والغنة: صوت يخرج من الخيشوم -أقصى الأنف- ولذلك لو أمسك المتكلم بأنفه لم يمكن خروجها، وحرفاها النون "ولو تنوينًا" والميم إذا سكنتا ولم تظهرا.
16- الذلاقة: حروف سميت بذلك لخروج بعضها من ذَلَق اللسان وبعضها من ذلق الشفة، أي: طرفهما، وهي "ف ر م ن ل ب" وضدها حروف الإصمات، وهي ما عدا هذه الستة.(1/83)
17- والمد: هو إطالة الصوت بحرف من حروف المد واللين زيادة على المد الطبيعي، وحروفه "اوي" لأن مخرجها متسع لانتهائها إلى هواء الفم، ومخرج الحرف إذا اتسع انتشر فيه الصوت وامتد ولان، وإذا ضاق انضغط فيه الصوت وصلب، وكل حرف تجده مساويًا لمخرجه إلا هذه الثلاثة1. وللمد في علم التجويد ألقاب عشرة ليس هذا موضعها.
18- والصفير: صوت يخرج مع الحرف يشبه صفير الطائر، وحروفه ثلاثة: "س ص ز".
19- والقلقلة: صوت زائد يحدث بفتح مخرج الحرف بتصويت، ويشترط عندهم في إطلاق اسم القلقلة على ذلك الصوت، أن يكون شديدًا جهريا؛ وحروفها خمسة: "ق ط ب ج د" والمبرد يعد الكاف من حروف القلقلة، كأنه لم يشترط قوة الصوت الزائدة، وعلى ذلك تكون التاء منها أيضًا، وهو ما يفهم من كلام سيبويه؛ لأنها كالكاف، والصوت فيهما يلابس جري النفس، وهو صوت همس ضعيف، ولذلك عُدّا شديدين مهموسين.
المخارج:
تلك صفات الحروف المجمع عليها. أما مخارجها الطبيعية فهي خمسة عشر على ترتيب ذهابها مع الصوت من ابتداء الصدر إلى الشفتين كما ترى:
1- حروف المد "اوي" تخرج من جوف الصدر، وتنتهي إلى هواء الفم.
2- "ء، هـ" مخرجهما من أقصى الحلق، غير أن الهمزة أدخل فيه.
3- "ع، ح" من وسط الحلق، والعين أدخل من أختها.
4- "غ، خ" من أدنى الحلق إلى الفم: والغين أدخل.
5- "ق" من بين أقصى اللسان وما فوقه من الحنك.
6- "ك" مما يلي مخرج القاف من اللسان والحنك.
7- "ج، ش، ي" من بين وسط اللسان وما فوقه من الحنك، غير أن الجيم أدخل والياء أخرج.
8- "ض" من بين جانب اللسان من أقصاه إلى قرب رأسه, وبين ما يقابل ذلك من الأضراس العليا فتستغرق أكثر حافة اللسان.
9- "ل" من بين جانب اللسان حيث ينتهي مخرج الصاد إلى منتهى طرفه وبين ما يقابل ذلك من الحنك الأعلى فوق الأسنان، فالضاد واللازم يتوزعان حافة اللسان2.
__________
1 سيبويه يعتبر لين حرفين: الواو والياء، ويسمى الألف "الهاوي" لأنه حرف اتسع لهواء الصوت، مخرجه أشد من اتساع مخرج الياء والواو، قال: لأنك قد تضم شفتيك في الواو وترفع في الياء لسانك قبل الحنك.
2 سيبويه يسمي اللام والراء حرفي الانحراف؛ لأن اللسان ينحرف عند النطق باللام إلى داخل الحنك، فلا=(1/84)
10- "ر، ن" من بين طرف اللسان إلى رأسه وبين لثة الثنيتين العلويتين، غير أن الراء أدخل في ظهر اللسان قليلًا1.
11- "ط، د، ت" من بين طرف اللسان وبين أصول الثنايا العليا مصعدًا إلى الحنك، غير أن الطاء أدخل والتاء أخرح.
12- "ص، س، ز" من بين رأس اللسان والثنايا من غير أن يتصل بها الحرف وإنما يحاذيها ويسامتها، غير أن الصاد أدخل والزاي أخرج.
13- "ظ، ذ، ث" من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، غير أن الظاء أدخل والثاء أخرج.
14- "ف" من بين الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا.
15- "ب، م، و" من بين الشفتين منطبقتين للباء والميم، ومنفتحتين للواو، غير أن الباء أدخل والواو أخرج.
__________
= يخرج الصوت من موضع اللام بل من ناحية مستدق اللسان فويق ذلك؛ وينحرف عند النطق بالراء إلى جهة اللام، قال: ولهذا يلثغ فيها الأطفال فيخرجونها لامًا.
1 المراد بهذه النون ما يسمونه النون المظهرة، والإظهار والإدغام والإقلاب والإخفاء هي أحكام هذا الحرف؛ فالمظهرة النون الساكنة إذا كان بعدها حرف من حروف الحلق، نحو: أنعمت، والمدغمة التي يتلوها من كلمة أخرى من حرف من الحروف المجموعة في قولهم: "يرملون"، ويكون الإدغام بغنة إذا كان الحرف التالي ميمًا أو نونًا، وتقلب النون ميمًا إذا تلاها باء نحو: منبع، وتكون خفيفة، أي: بين الإظهار والإدغام إذا تلاها ياء نحو: منيع، وتكون خفيفة أي: بين الإظهار والإدغام إذا تلاها حرف من الخمسة عشر الباقية بعد الحروف التي أشرنا إليها.(1/85)
اختلاف لغات العرب:
قدمنا أن بعض أسباب اختلاف اللغات عند العرب كونهم أميين لا يكتبون، فبقيت اللغة متعلقة على الألسنة، تتغير ما دام يتكلم بها وما دامت ألسنتهم متصرفة بالسليقة أو ما هو في حكمها، كالتقليد الطبيعي الذي يأخذ به العربي للخفة وانحراف لسانه إليه طبيعة؛ لأنه يركب منه قياس نفسه كأنه من منطقة الموروث.
لا جرم كانت اللغات كثيرة؛ فإن العرب قبائل، وتحت كل قبيلة بطون متعددة، ثم الأفخاذ، ثم العشائر، ثم الفصائل1؛ ولا بد أن يكون ناموس الاختلاف قد عم هذه الأقسام كلها، إن لم يكن في أصل اللغة ففي الفروع واللهجات.
وقد نقل صاحب "المخصص" في موضع من كتابه أن أبا عبيد روى عن الكسائي النحو -توفي سنة 182هـ- أن المضارع من "نمى" إنما هو "ينمي" بالياء، وقال الكسائي: لم أسمع "ينمو" بالواو إلا من أخوين من بني سُلَم، ثم سألت عنه جماعة من بني سُلَيم فلم يعرفوه بالواو. هذا على انتشار اللغة يومئذ بالقرآن والشعر في جمهور العرب، ولزومها على الغالب طريقة واحدة وحدا معروفًا، ومع ذلك بقي الاختلاف حتى في الفصيلة الواحدة؛ لأن هذين الأخوين أهل بيت واحد امتاز بهذه اللغة عن العشيرة كلها.
ولا بد لنا من التنبيه على أن الرواة والعلماء لم يدونوا اللهجات على مناطق العرب قبل تهذيب قريش للغة، ولكنهم تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قبيل ذلك؛ أما سواد ما كتبوه فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات الأولى التي كانت لعهد الجاهلية.
على أنهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام، أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين: كالبصريين والكوفيين؛ أما تدوين اللهجات على أنها أصل من أصول الدلالة التاريخية في اللغة فهذا لم يتنبه له أحد فيما نعلم؛ لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما قرشية؛ وهذه يقل الاختلاف فيها؛ لأنها حضرية مهذبة، والتحضر شيء ثابت فكأنها في حكم المدونة.
وقبل أن نأتي على ما وقفنا عليه من وجود الاختلاف والكشف عن معنى الأدلة التاريخية فيها، نذكر شيئًا قليلًا عن تفرع قبائل العرب؛ لأنه من الأدلة الطبيعية على تفرع اللهجات وانشقاقها بما يطرأ عليها من أسباب المخالطة وقدم العهد ونحو ذلك.
__________
1 العشيرة: رهط الرجل، والفضيلة: أهل بيته خاصة.(1/86)
قبائل العرب:
تنقسم القبائل العربية إلى قسمين: القحطانية، والعدنانية؛ وقد تداخلت لغاتهما جميعًا بعد الإسلام وصارت لغة واحدة هي القرشية، إلا فروقا قليلة بقيت في المنطق كأنها أدلة أثرية.
فمن القحطانية حمير، وغسان، ولخم، والأزد، ومذحج، وكندة، وطيء، وغيرها -وبعضهم بعد منها قضاعة أيضًا-؛ وأولئك عرب الجنوب.
أما العدنانية أو عرب الشمال وهم أهل هذه اللغة، فمنازلهم في تهامة ونجد والحجاز، إلا قريشًا فإنهم تحضروا في مكة؛ وتلك البادية هي التي صهرت اللغة وأحالتها إلى هذه السبيكة الفنية العجيبة؛ ويرجع هؤلاء العرب إلى فرعين ينتهيان إلى عدنان، وهما: عك، ومَعَدّ؛ وقد بقيت من عك بقية إلى الإسلام؛ أما معد فهو البطن العظيم الذي تناسلوا منه، وكانت قبيلة كبرى ثم انشقت إلى فرعين: نزار، وقنص؛ وتفرعت نزار إلى خمسة فروع وهي: أنمار، ومضر، وقضاعة1 عند من لا يعدها من القحطانية، وربيعة، وإياد، وتحت كل فرع -من هذه الخمسة- قبائل كثيرة، إلا أن الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة ومن بطونها قريش ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبة، ومزينة؛ وتحت كل قبيلة بطون وأفخاذ بسط النسابون عليها الكلام في كتبهم ولا فائدة في استقصائه لمثل هذا الفصل؛ وسنلم بشيء من تاريخ تفرق القبائل ومنازلها عند الكلام على أولية الشعر العربي؛ فهناك موضع الحاجة إليه.
__________
1 الظاهر أن من يعدون قضاعة من القحطانية إنما يعتبرونها كذلك؛ لأنها لما تفرقت ذهب منها قوم فأنشئوا دولًا متحضرة في العراق والشام: كسليح، فإنهم نزلوا مشارف الشام وفلسطين، وكانت الدولة في بطن من بطونهم يسمون الضجاعمة، وهم يعملون للروم؛ وتنوخ. نزلوا البحرين، ثم رحلوا إلى الحيرة وأنشئوا هناك دولة، ومن ملوكهم جذيمة الأبرش صاحب الخبر المشهور مع الزباء؛ ومن تنوخ قوم رحلوا إلى الشام فاستعملهم الروم على بادية العرب ومشارف الشام، وبعض النسابين يقولون عن تنوخ إنها مزيج من قضاعة والأزد؛ وكثير من اللغات الشاذة يرجع إلى قضاعة هذه.(1/87)
أفصح القبائل:
وهذا فصل لا يؤخذ فيه إلا بأقوال الرواة الذين جمعوا اللغة وتلقوها عن أهلها؛ وذلك لتقادم العهد بزمان العرب؛ ولأن لغاتهم غير مميزة في التدوين حتى يعارض بعضها ببعض ويفصل بينها بطبقات من النظر يعلو إليها وينحدر عنها كما هو الشأن في التنظير والمقابلة بين المتفاضلات.
والفصيح عندهم ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم؛ لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليل على تحقق المناسبة الفطرية فيه.
وليس يخفى أن فصاحة العربي إنما هي عمل من أعمال الطبيعة المحيطة به، فإن كانت خالصة وإلا كثر في لسانه الابتذال والتنافر، كما تجد في لغات القبائل الضاربة إلى العراق واليمن والشام؛ وهذه أيضا تقرب أو تبعد من الفصاحة على نسبة مضبوطة باعتبار قربها وبعدها من ذلك الاختلاط الطبيعي1؛ فحقيقة الفصاحة أنها عمل تبتدئه الطبيعة وتكمله الوراثة، فإن وقع اختلال في أحد العاملين وقع مثله في العمل، على نسبة واحدة.
ومن قبائل العرب قوم لم يخرجوا من ديارهم، ويسمونهم الأزحاء؛ لأنهم أحرزوا دورًا ومياهًا فلم ينزحوا عن أوطانهم بل هم يدورون في دورهم كالأرحاء على أقطابها، إلا أن ينتجع بعضهم في البرحاء وعام الجدب، وذلك قليل؛ وهم ست قبائل: تميم بن مرة، وأسد بن خزيمة في مضر؛ وكلب بن وبرة، وطيء بن أزد في اليمن؛ وقبيلتان أخريان في ربيعة لم يذكروهما؛ ومنهم قبائل يسمونها الجمرات، لاجتماعهم2 على أن لا يخرجوا منهم إلى غيرهم ولا يدخلوا من غيرهم فيهم، وهم: بنو تميم بن عامر بن صعصعة، وبنو الحرث بن كعب وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض3.
وبالأرحاء والجمرات نستدل على أن الطبيعة العربية تتفاوت في الميل إلى العزلة والمخالطة، وهي بحسب ذلك أيضًا متفاوتة في خلوص المنطق وانتشابه.
ولسنا نريد المخالطة على إطلاقها، بل مخالطة الأعاجم خاصة، والمخالطة الدائمة على الأخص، وهي التي تكون في القبائل النازلة على حدودهم؛ وذلك عند العلماء هو الحد بين من ترتضى عربيته ولا من يوثق بلغته، حتى إنهم نصوا على أن نطق من ترضى عربيته بالشاذ الذي يخالف قياسهم لا يخل بفصاحته؛ لأنه لا بد من أن يكون قد حاول به مذهبًا أو نحا نحوًا من الوجوه التي يتأول عليها؛ وذلك لأن الجادة على غير ما جاء به فيكون ما شذ من منطقه مأمونًا عليه من فساد المخالطة؛ ولهذا يلحقونه بقياس القريحة الصحيحة.
__________
1 كان العرب أنفسهم يعرفون تأثير الطبيعة في خلوص منطقهم، وسنأتي بالنص على ذلك في موضع آخر.
2 الجمرة لغة: الجماعة، والتجمير: التجميع.
3 سنشير في بعض المواضع من بحث الشعراء إلى هذه الجمرات وما طفئ منها.(1/88)
وأفصح القبائل الذين هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، والعجز من هوازن الذين يقال لهم عليا هوازن1، وهم خمس قبائل أو أربع، منها: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر" وكان مسترضعًا فيهم, وهم أيضًا الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلي تميم2.
ولهذا كان لا يكتب في المصاحف برأي عمر وعثمان إلا كاتب ثقيف. وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد والحجاز وتهامة، وقد بقيت معادن الفصاحة العربية زمنًا بعد الإسلام، وإليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج البصرة فلقي الخليل بن أحمد وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسدًا وتميمًا وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة! فقال للخليل: من أين أخذت علمك؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج إليهم ولم يرجع حتى أنفذ خمس عشرة قنينة حبرًا في الكتابة عن العرب.
ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص المنطق وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة؛ وهذا الأزهري صاحب "تهذيب اللغة" المتوفى سنة 370هـ يقول في مقدمة كتابه: "لما وقعت في إسار القرامطة، وكان الذين وقعت في سهمهم عربًا، عامتهم من هوازن واختلط بهم أصرام من تميم وأسد.... يتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في نطقهم لحن ولا خطأ فاحش.... إلى أن يقول: واستفدت من مخاطبتهم ومحاورة بعضهم بعضًا ألفاظًا جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في مواقعها من الكتاب" ا. هـ.
أما القبائل التي اختلطت بغيرها فلم ينقلوا عنها ولا عدوها خالصة الفصاحة، فسنذكرها مع تفصيل لما تقدم عند الكلام على رواية اللغة إن شاء الله.
__________
1 وفيهم قال أبو زيد: أفصح الناس سافلة العالية، وعالية السافلة. ويعني عجز هوازن. وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها وما يليها ودنا منها؛ ولغتهم ليست بتلك عنده.
2 في رواية أخرى عن أبي عمرو أيضًا: أفصح الناس عليا تميم وسفلى قيس.(1/89)
معنى اختلاف اللغات:
رأينا محصل ما يروي من كلام العلماء في معنى اختلاف اللغات يرجع في كل وجوهه إلى ثلاث معان:
1- ما يكون من تباين اللهجات وتنوع المنطق؛ وهذا رأس الأنواع؛ لأنه يشمل اختلافهم في إبدال الحروف وحركات البناء والإعراب واختلاف بناء الكلمة في اللغتين والتقديم والتأخير والحذف والزيادة ونحوها مما يرجع في جملته إلى صيغة الكلمة أو كيفية النطق بها. والعرب أنفسهم يعدون مثل ذلك في اللغات الأصلية التي تمثل نوعًا من أنواع الاختلاف الطبيعي فيهم؛ وقد رووا أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: ما ترى برجل ظحى بظبي؟ فعجب عمر ومن حضر، وقال: ما عليك لو قلت: ضحى بظبي؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنها لغة! فكان عجبهم من هذه أشد.
2- ما يكون من اختلاف الدلالة للفظ الواحد باختلاف اللغات التي تنطق به؛ ومن هذا النوع المترادف والأضداد وغيرهما مما سيأتي في محله. ورووا أن أبا هريرة لما قدم من دَوْس عام خيبر، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت من يده السكين، فقال له: "ناولني السكين"! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول ثانية وثالثة، وهو يفعل كذلك، ثم قال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: "نعم"! فقال: أوتسمى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوْس بطن من الأزد.
3- ما يكون قد انفرد به عربي مع إطباق العرب على النطق بخلافه؛ وهذا أقل الأنواع. وإنما يعد من اختلاف اللغات، لجواز أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها وعفا رسمها؛ وقد رووا عن أبي حاتم أنه سأل أم الهيثم الأعرابية عن نوع من الحب يسمى "اسفيوش": ما اسمه بالعربية؟ فقالت: أرني منه حبات! فأراها، فأفكرت ساعة ثم قالت: هذا البحدق! ولم يسمع ذلك من غيرها.
وعندنا أن لغات القبائل في اختلافها إنما هي درجات تاريخية في سلم النشوء والارتقاء يستقرى فيها سير التاريخ اللغوي من طبقة إلى طبقة؛ لأن هذه اللغات جرت من أول عهدها على اندماج النوع الأدنى منها في النوع الأرقى، واستمر ذلك بين العرب، فكلما انتشرت لغة أو لغات لقوم دون قوم تعاورها كل، وبهذا جعلت القبائل تدرج في سبيل الوحدة اللغوية العامة التي تقضي بها سنة الحياة، واعتبر هذا بما حصل آخرًا، فإنه لم يبق بين اللغات كلها إلا فروق جنسية، ثم لما ذهب عصر العرب وفسدت السلائق واختبل الكلام وأصبح اللسان تعليمًا، لم يبق من اللغة إلا اللغة، وأودعت تلك الفروق الجنسية في معرض التاريخ؛ على أن العلماء أنفسهم قد أضرحوا لهذه الفروق قبل أن تموت؛ وذلك لمكان القرآن من الوحدة اللغوية، فلم يكونوا يسمونها لغات إلا للدلالة على أنها مخالفة لما أطبق عليه أكثر العرب، وهو المعنى الاصطلاحي القديم منذ دونت اللغة.
روى أبو بكر الزبيري الأندلسي في "طبقات النحويين": قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي(1/90)
عمرو بن العلاء "توفي سنة 154هـ": أخبرني عما وضعت مما سميت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني: لغات.
وقد نبهنا فيما سبق إلى أن العلماء إنما يريدون بلغات العرب ما كان باقيًا لعهدهم في ألسنة من أخذوا عنهم من القبائل، وهم أقوام يمكن حصرهم والإحاطة بلهجاتهم؛ ولذا ترى سيبويه يقول في مواضع من كتابه: هذا عربي كثير في جميع لغات العرب، وهذا عربي كثير في كلامهم، وذلك قول العرب سمعناه منهم؛ ونحو هذا مما يحقق أنهم يريدون باللغات ما بيناه؛ وكذا نقلنا عن صاحب "المخصص" في بعض المواضع أنهم يعتبرون لغة الحجازيين الأصل عند اختلاف اللغات؛ لأن أصل العربية إسماعيل عليه السلام؛ وهذا المعنى قد كشفه سيبويه في باب الإدغام من كتابه حين ذكر أن أهل الحجاز دعاهم سكون الآخر في المثلين أن يبينوا في الجزم، فقالوا: اردُدْ ولا تَرْدُد، بخلاف بني تميم فهم يدغمون, قال: "وهي اللغة العربية القديمة الجيدة". وسنشير إلى هذا المعنى ببيان أوسع فيما يلي.
وبقيت اللغات مسماة منسوبة إلى أصحابها من العرب عند الرواة والعلماء إلى آخر القرن الثالث على أضعف الظن، لكثرة الرواة يومئذ وتشعب فنون الرواية، وإن كان الجوهري صاحب "الصحاح" وهو في أواخر القرن الرابع قد ذكر أنه شافه بهذه اللغة العرب العاربة في باديتها1.
ومما يروونه: أن الخليفة الواثق المتوفى سنة 232هـ لما قدم عليه أبو عثمان المازني سأله: ممن الرجل؟ فقال: من بني مازن. قال: أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ فكلمه الواثق بكلام قومه وقال: "باسْبُك"؟ يريد: ما اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا، قال المازني: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر -لأن اسمه بكر- فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! فأعجبه ذلك وقال لي: اجلس فاطبئن، يريد: اطمئن.
وبديه أن مثل هذا الاختلاف لا يتدارس ويجعل من رياضة اللسان ما لم يكن أهله في شباب أمرهم؛ لأن هرم لغة من اللغات لا يكون إلا بوشك انقراض أهلها أو تغير تاريخهم بما يشبه الانقراض، إذا تفقد أكثر مميزاتهم الاجتماعية الأولى فكأنهم غير ما كانوا.
تحقيق معنى اللغات في الاصطلاح:
رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عرض كلامهم؛ لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تاريخيا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تاريخها لمن بعدهم؛ ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل
__________
1 سنفصل تاريخ الفساد في ألسنة العرب البادين عند الكلام على اللغة العامية.(1/91)
طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تاريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها، لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعية، يرجع إليه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة؛ ولكان هذا يعد أصلًا فيما يمكن أن يسمى تاريخ آداب العرب، يفرعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب.
ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وأنها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وإذا أفصح اللهجات إنما هي لهجة إسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه.
والرجوع بالتاريخ اللفظي إلى عهد إسماعيل ضرب من المحال، ومن تكلم فيه فقد أكبر القول؛ لأن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم عن الأمم وسيرهم: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التاريخ، فلم يجيئا ببعضها إلا شاهدًا على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوها من التنافر والشذوذ، وتمامًا على الذي جمعوه من أصول العربية، وتفصيلًا لكل شيء إلا التاريخ.
مع أن الرواة قد وضعوا كتبًا كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، ونحو ذلك مما يرجع إلى التاريخ المتجدد، فلو اعتقدوا اللغات بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير
في حقيقته, لأجروها مجرى غيرها من آثار التاريخ ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله, ولحق فرعه بأصله، فبقي ذلك الخطأ التاريخي كأن صوابه من بعض التاريخ الذي هو حديث الغيب!
نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والتراجم والطبقات على كثرتها، وتبينًا ما يسرد فيها من أسماء الكتب والأصناف، عسى أن نجد من آثار أحد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تاريخ لهجات العرب وتمييز لغاتها على الوجه الذي أومأنا إليه، أو ما عسى أن نستدل به على أنهم كانوا يعتبرون ذلك اعتبارًا تأريخيا؛ ولكنا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر؛ ولم يزدنا تعداد أسماء الكتب علمًا بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية.
بيد أننا استفدنا تحقيق معنى اللغات في اصطلاحهم بما يقطع الريب ويمتلخ عرق الشبهة فيما أيقنا به، فقد وجدنا كتاب التراجم، والطبقات مجمعين في صنيعهم على أن اللغات: إنما هي الشواذ والنوادر واختلاف المعاني للكلمة الواحدة باختلاف المتكلمين بها، وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي؛ لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة، وعلى هذه السبيل يقولون مثلًا: كان منفردًا في حفظ اللغات والآداب، وكان من شيوخ العلم عارفًا باللغات والإعراب، وكان حافظًا للتفسير والحديث ذاكرًا للأدب واللغات، وكان مبرزًا في علم العربية حافظًا للغات. وأوضح من هذا أننا رأينا لعمر بن شبة النحوي المتوفى سنة 262هـ كتابًا سماه "الاستعانة بالشعر وما جاء من اللغات"(1/92)
ورأينا ياقوتًا يقول في ترجمة عمر بن جعفر الزعفراني: "إنه متخصص بمعرفة علم الشعر والقوافي والعروض، وله كتاب اللغات". ونهاية البيان ما ذكره ياقوت أيضًا في ترجمة أبي مالك الأعرابي الراوية المشهور، من أنه يقال إن أبا مالك هذا كان يحفظ لغات العرب. وقد فسر أبو الطيب اللغوي ذلك بأن المراد التوسع في الرواية والفتيا؛ لأن الأصمعي مثلًا كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات، وغيره كأبي مالك يتوسع في ذلك ولا يرى حرجًا في نقل ما شذ وندر -كما سيأتي في بحث الرواية- وقرأنا كذلك أن لكثير من الرواة: كأبي عبيدة، وأبي زيد، الأصمعي، والفراء، وغيرهم، مصنفات يتواردون جميعًا على تسميتها "بكتاب اللغات"؛ فهذا الإجماع دليل على تعيين المعنى وتحديده كما أسلفنا؛ ولكنا رأينا فيما استقريناه من أسماء المؤلفات، أن لحسين بن مهذب المصري اللغوي كتابًا سماه "كتاب السبب في حصر لغات العرب"؛ والذي يبادر الظن من معنى هذه التسمية -إن لم تكن لفظة "السبب" قد جيء بها للسجع- أن الكتاب يتناول الكلام عن تأثير القرآن في حصر اللغات وتغليب القرشية عليها؛ فإن كانت اللفظة للسجع فالكتاب في حصر ما يسمونه باللغات، من نحو المصنوع والضعيف والمنكر والمتروك والرديء والمذموم والحوشي والنوادر، إلى مثال ذلك مما بوب على أكثره السيوطي في "المزهر"، وهو نفس ما تواضعوا عليه من معنى "اللغات" كما علمت، والله أعلم.(1/93)
أمثلة اختلاف اللغات
النوع الأول
...
أمثلة اختلاف اللغات:
وقد فلينا كتب العربية والأدب، وتناسينا حساب الوقت في تصفحها لاستخراج هذه الدفائن التي نعتبرها بمنزلة الآثار التاريخية؛ وإنما جهدها مما جمعناه أن ندل على علم مات في رءوس علمائنا رحمهم الله، وتصور من بقاياه هيكلًا نصفه، كما يفعل علماء عصرنا في درس البقايا العظمية القديمة التي استحجرت عليها طبقات الأرض، والمثالان سواء في ذلك الموت الأبدي؛ ورأينا أن نقسم أنواع الاختلاف التي جمعناها إلى خمسة أقسام:
1- لغات منسوبة ملقبة.
2- لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف.
3- لغات من ذلك في تغير الحركات.
4- لغات غير منسوبة ولا ملقبة.
5- لغة أو لثغة في منطق العرب.
وكما قدمنا أشياء من ذلك في بعض الفصول التي سلف ولا نعيدها، كذلك أخرنا أشياء لبعض الفصول التي تأتي فلا نثبتها؛ لأن لكل موضعًا متى اقتضاه استوفاه.
النوع الأول:
وقد عده العلماء من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ، وهو كذلك بعد أن هذبت اللغة وأطبقت العرب على المنطق الحر والأسلوب المصفى؛ ومن أمثلته:
1- الكشكشة، وهي في ربيعة ومضر: يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيئًا، فيقولون في رأيتك: رأيتكش، وبكش، وعليكش؛ وهم في ذلك ثلاثة أقسام: قسم يثبت الشين حالة الوقف فقط، وهو الأشهر؛ وقسم يثبتها في الوصل أيضًا؛ وقسم يجعل الشين مكان الكاف ويكسرها في الوصول ويسكنها في الوقف، فيقولون في مررت بك اليوم: مررت بِشِ اليوم، وفي مررت بِك في الوقف: مررت بِشْ.
وقال ابن جني في "سر الصناعة": قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى قول بعضهم:
علي فيما أبتغي أبغيش ... بيضاء ترضيني ولا ترضيش
وتطبي ود بني أبيش ... إذا دنوت جعلت تنئيش
وإن نأيت جعلت تدنيش ... وإن تكلمت حثت في فيش
حتى تنقي كنقيق الديش(1/94)
فشبه كاف الديك لكسرتها بكاف ضمير المؤنث.
وقد تروى الكشكشة لأسد وهوازن وقال ابن فارس في فقه اللغة: إنها في أسد.
2- الكسكسة، وهي في ربيعة ومضر أيضًا: يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سينًا على ما تقدم؛ وقصدوا بالفرق بين الحرفين: السين والشين، تحقيق الفرق بين المذكر والمؤنث في النطق.
ونقل الحريري أن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر، وهي فيما نقله زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر.
وروى صاحب القاموس أنها لتميم لا لبكر، وفسرها كما فسر الحريري.
3- الشنشنة في لغة اليمن: يجعلون الكاف شينًا مطلقًا، فيقولون في لبيك اللهم لبيك: لبيش اللهم ليبش.
4- العنعنة في لغة تميم وقيس: يجعلون الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في إنك: عِنّك، وفي أسلم: عسلم، وفي إذن: عذن، وهلم جرا.
5- الفحفحة في لغة هذيل: يجعلون الحاء عينًا، فيقولون في مثل حلت الحياة لكل حي: علت العياة لكل عي. وعلى لغتهم قرأ ابن مسعود: عَتّى عِين، في قوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43] ، [الأعراف: 8] فأرسل إليه عمر بن الخطاب: إن القرآن لم ينزل على لغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش.
6- العجعجة في لغة قضاعة: يجعلون الياء المشددة جيما فيقولون في تميمي: "تميمج"؛ وكذا يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج، وهكذا -وسيأتي في النوع الثاني عكس هذه اللغة- وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا فلا تكاد تظهر حروفهم، وقد سمى العلماء ذلك منهم "غمغمة قضاعة".
7- الوتم في لغة اليمن أيضًا: يجعلون السين تاء، فيقولون في الناس: النات، وهكذا.
8- الوكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب يكسرون كاف الخطاب في الجمع متى كان قبلها ياء أو كسرة، فيقولون في عليكم وبكم: عليكِمِ وبِكِم.
9- الوهم في لغة كلب: يكسرون هاء الغيبة متى وليتها ميم الجمع مطلقًا "والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة نحو: عليهم وبهم" فيقولون في منهُم وعنهُم وبينهُم: منهِم وعنهِم وبينهِم.
10- الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار يجعلون العين الساكنة نونًا إذا جاوزت الطاء، فيقولون في أعطى: أنطى.
وعلى لغتهم قرئ شذوذًا: "إِنَّا أَنْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" وجاءت أمثلة منها في الحديث الشريف.
11- التلتلة في بهراء، وهم بطن من تميم، وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقًا، وقد(1/95)
ذكر سيبويه في الجزء الثاني من كتابه مواضع يكون فيها كسر أوائل الأفعال المضارعة عامًا في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز وذلك في نحو مضارع "فعِل" إذا كانت لامه أو عينه ياء أو واوًا، نحو: وجِل وخشِي، مثلًا، فيقولون: نيجَل، ونِخشي؛ هكذا، فراجعه في الكتاب فإن فيه تعليلًا حسنًا. وقال في آخر هذا الفصل: إن بني تميم يخالفون العرب ويتفقون مع أهل الحجاز في فتح ياء المضارعة فقط. ونسب ابن فارس في "فقه اللغة" هذا الكسر لأسد وقيس، إلا أنه جعله عاما في أوائل الألفاظ، فمثل له بقوله: "مثل تعلمون ونعلم وشِعير وبِعير"1.
12- القُطعة في لغة طيئ: وهي قطع اللفظ قبل تمامه, فيقولون في مثل يا أبا الحكم: يا أبا الحكا, وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو؛ لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى, أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام.
13- اللَّخلخانية، وهي تعرض في لغة أعراب الشحَر وعمان، فيحذفون بعض الحروف اللينة، ويقولون في نحو ما شاء الله: مشا الله. ومن لغات الشحر المرغوب عنها ما نقله صاحب "المخصص" من أن بعضهم يقول في السيف: شَلَقَى.
14- الطُّمطمانية في لغة حِمْيَر: يبدلون لام التعريف ميمًا، وعليها جاء الحديث في مخاطبة بعضهم: $"ليس من امبر امصيام في امسفر"، أي: ليس من البر الصيام في السفر.
__________
1 أحرف المضارعة في العبرانية والسريانية لا تلزم حركة واحدة. فتكون في العبرانية ساكنة ومكسورة ومفتوحة ومضمومة على اختلاف في هذه الحركات بين الاختلاس والإشباع والإمالة، أما في السريانية فهي ساكنة، ما عدا الهمزة فإنها متحركة أبدًا ولكن إذا ولي حروف المضارعة همزة متحركة فإنهم ينقلون حركة هذه الهمزة إليها، وإذا وليها حرف ساكن كسروها.(1/96)
النوع الثاني:
لغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء، ومن أمثلته:
1- في لغة فُقيم1: يبدلون الياء جيما، ولغتهم في ذلك أعم من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول؛
لأنها غير مقيدة، فيقولون في بختي وعلي: بختجّ وعلجّ، ومنه قول الحماسي:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجّ ... المطعمان اللحم بالعشج
أي: بالعشي، وأنشد أبو زيد لبعضهم:
يا رب إن كنت قبلت حجتج ... فلا يزال ساجح يأتيك بج
يريد: حجتي، ويأتيك بي؛ والساجح: السريع من الدواب2. وقال ابن فارس في "فقه اللغة":
__________
1 فقيم هذه: هي فقيم دارم، لا فقيم الكنانية المسمون بنسأة الشهور؛ لأنهم كانوا يؤخرون حركة الأشهر الحرم إلى غيرها، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} والنسبة إلى هؤلاء فقمي، وإلى أولئك فقيمي، حذفوا الياء في الأولى للتمييز بينهما، وله نظائر في كلامهم.
2 ويروى: فلا يزال شاحج: وهو البغل؛ لأن الشحيج صوته.(1/96)
إن الياء تجعل جيما في النسب، عند بني تميم: يقولون غلامج أي: غلامي؛ وكذلك الياء المشددة تحول جيما في النسب، يقولون: بَصْرِجّ وكُوفِجّ، في بصري وكوفي. وعكس هذه اللغة في تميم -على ما نقله صاحب "المخصص"- وذلك أنهم يقولون: صهريّ والصهاريّ، في صهريج والصهاريج.
2- في لغة مازن يبدلون الميم باء والباء ميمًا، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن: اطبئن، وقد تقدمت.
3- في لغة طيئ يبدلون تاء الجمع هاء إذا وقفوا عليها، إلحاقًا لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم: "دفن البناه، من المكرماه" يريد: البنات، والمكرمات؛ وحكى قطرب قول بعضهم: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوة والأخواه؟ وسيأتي في النوع الرابع عكس هذه اللغة.
4- في لغة طيئ أيضًا يقلبون الياء ألفًا بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماض ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنيا للمجهول، فيقولون في رضي وهُدي: رضا، وهدى؛ بل ينطقون بها قول العرب "فرس حظية بظية" فيقولون: حظاة بظاة. وكذلك يقولون: النصاة، في الناصية.
ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكّد بالنون، فيقولون في: اخْشَينّ وارمينّ.... إلخ. اخشنّ وارمنّ. وجاء من ذلك في الحديث الشريف على لغتهم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها". وتنسب هذه اللغة إلى فزارة أيضًا كما تنسب إلى طيئ.
5- في لغة طيئ على ما رواه ابن السكيت أنهم يبدلون في الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون: هن فعلت فعلت، يريدون: إن فعلت، ومنه قول شاعرهم:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق علي كريم
أي: لإنك وسيأتي عكس هذه اللغة في النوع الرابع.
6- في لغة تميم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياء على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو: مبيع مبيوع؛ ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واوًا إلا ما ندر، بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مَقُول ومَصُوغ؛ وهكذا.
7- في لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يلقبونها ياء ثم يدغمونها، توصلًا إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاي وهواي: عَصِيّ وهَوِيّ؛ قال شاعرهم:
سبقوا هوِيّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
ولا يفعلون ذلك إلا إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو: "فتياي" بل يوافقون الجمهور في إبقائها دون قلب، كأنهم كرهوا أن يزيلوا دلالتها على المعنى الذي ألحقت بالكلمة له.
8- في لغة فزارة وبعض قيس يقلبون الألف في الوقف ياء، فيقولون: الهُوي وأفعي وحُبلي.(1/97)
ومن تميم من يقلب هذه الألف واوًا فيقول: "الهُدو وأفعو وحبلو" ومنهم من يقلبها همزة فيقول: ألهُدأ وأفعأ وحُبلأ".
وقريب من قلب الألف واوًا ما رواه ابن قتيبة عن ابن عباس: "لا بأس بلبس الحِدَوْ للمحرم" أي: الحذاء, وهو دليل على أن من بعض لغاتهم قلب الألف مطلقًا واو.
9- في لغة خشعم وزبيد يحذفون نون "من" الجارة إذا وليها ساكن، قال شاعرهم.
لقد ظفر الزوار أقفية العدا ... بما جاوز الآمال م الأسر والقتل
وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها.
10- في لغة بلحرث يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الأرض، علأرض، وهكذا.
11- في لغة قيس وربيعة وأسد وأهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لامًا" فيقولون: أولالك، قال بعضهم:
أولالك قومي لم يكونوا أشابة ... وهل يعظ الضليل إلا أولالك1
12- في لغات أسماء الموصول:
بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع، وعلى لغتهم قول الفرزدق:
أبني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلال
وقول الأخطل:
هما اللتا لو ولدت تميم ... لقيل فخر لهم صميم
وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذان، واللتان؛ وذلك في أحوال الإعراب الثلاثة، وللنحاة في حكمة هذا التشديد أقوال ليست من غرضنا.
وطيئ تقول في الذي ذو، وفي التي ذات. ولا يغيرونهما في أحوال الإعراب الثلاثة رفعًا ونصبًا وجرا. وقال أبو حاتم: إن "ذو" الطائية للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإعرابها بالواو في كل موضع.
وسيأتي في النوع الرابع بعض لغات غير منسوبة في أسماء الموصول.
13- في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنون بالسكون في كل أحوال الإعراب، فيقولون: رأيت خالد، ومررت بخالد، وهذا خالد؛ وغيرهم يشاركهم إلا في النصب.
وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة فيقولون جاء خالدو، ومررت بخالدي.
__________
1 الأشابة: الأخلاط، والضليل: مبالغة.(1/98)
وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها، إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكنًا، فيقولون: هذا خالد، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر.
14- في لغة بلحرث وخثعم وكنانة يقلبون الياء بعد الفتحة ألفًا، فيقولون في إليك وعليك ولديه: "إلاك، وعلاك، ولداه"، ومنه قول الشاعر:
طاروا علاهن فطر علاها
ومن لغتهم أيضًا إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرا؛ وذلك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفًا؛ فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان؛ وأنشد ابن فارس في "فقه اللغة" لبعضهم:
تزود منا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم
غير أنه خص هذه اللغة ببني الحارث بن كعب1.
15- ذكر المبرد في "الكامل" أن بني سعد بن زيد بن مناة، ولخم من قاربها، يبدلون الحاء هاء لقرب المخرج، فيقولون في مدحته: مدهْتُه؛ وعليه قول رؤبة:
لله درّ الغانيات المده
أي: المدح؛ وفي هذه الأرجوزة:
براق أصلاد الجبين الأجله
أي: الأجلح.
وقل في موضع آخر: العرب تقول: هودج، وبنو سعد بن زيد مناة ومن وليهم يقولون: فودج؛ فيبدلون من الهاء فاء.
وفي أمالي ثعلب: أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون تفكنون، بمعنى تعجبون.
وأمثلة الاختلاف من هذا الضرب غير قليلة.
16- في "أمالي القالي" عن أبي زيد أن الكلابيين يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك الاستفهام إذا أنكروا أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر.
فإذا قلت: رأيت زيدًا، وأنكر السامع أن تكون رأيته قال: زيدًا إنيه! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيدنيه! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت.
وهذه الزيادة تجري في لغة غيرهم على النحو الذي تسمعه في لغة العامة من مصر، فإنك إذا قلت لأحدهم: رأيت الأسد، يقول: الأسد إيه! فالعرب تحرك آخر الكلمة إذا كان ساكنًا2. وتلحق به
__________
1 قال ابن جني في "سر الصناعة": إن من العرب من يقلب في بعض الأحوال الواو والياء الساكنتين ألفين للفتحة قبلهما، وذلك نحو قولهم في الحيرة: جاري؛ وفي طيئ: طائي.
2 قلت: يعني بالساكن: المنون.(1/99)
الزيادة، فإذا قال رجل: رأيت زيدًا، قالوا: أزيدنيه! ويقول: قدم زيد، فنقول: أزيدنيه! أما إذا كان آخر الكلمة مفتوحًا فإنه يجعلون الزيادة ألفًا، ويجعلونها واوًا إذا كان مضمومًا، وياء إذا كان مكسورًا، فإن قال: رأيت عثمان، قلت: أعثماناه! ويقول: أتاني عمر، فتقول: أعمروه! هكذا. فإن كان الاسم معطوفًا عليه أو موصوفًا، جعلوا الزيادة في آخر الكلام؛ رأيت زيدًا وعمرًا، فتقول: أزيدًا وعمرنيه! ويقال: ضربت زيدًا الطويل: فتقول: أزيدًا الطويلاه!
وذكر سيبويه أنه سمع رجلًا من أهل البادية وقيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنيه! وإنما أنكر أن يكون رأيه على خلاف الخروج1؛ وسيأتي وصف لغة أخرى للحجازيين في النوع التالي.
__________
1 قال أبو علي القالي: زادت العرب "إن" إيضاحًا للعلم، ولذلك قالوا: إنيه؛ لأن الهاء والياء خفيان والهمزة والنون واضحان، كما زادوا إن في قولهم: ما إن فعلت كذا. فأما ما حكاه أبو زيد من قوله: أزيدنيه "بتثقيل النون" فإنما هذا على لغة من يقف على الحرف بالتشديد ... وقف على زيدن فشدد؛ فلما ألحق به العلامة حركه بالكسر؛ لأنه توهم أن التنوين أصل.
ومن قبيل حرف الإنكار الذي شرحناه، حرف التذكير. وهو أن يقول الرجل في نحو: سار، ومسير، ومن العام "مثلًا": سارا، يسيرو، من العامي؛ وذلك إذا تذكر ولم يرد أن يقطع كلام المتكلم، وهذه الزيادة تكون في اتباع ما قبلها إن كان متحركًا كما في زيادة الإنكار، فإذا أسكن ما قبلها حرك بالكسر، قال سيبويه: سمعناهم يقولون: قدى وألى، يعني في "قد فعل" وفي "الألف واللام - ال" إذا تذكر "الحارث" ونحوه، ثم قال: وسمعنا من يوثق به يقول: هذا أسيفني، يريد هذا سيف من صفته كيت وكيت "إذا تذكر صاحب هذه الصفات".(1/100)
النوع الثالث:
وهو من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات؛ ومن أمثلته:
1- "هلم" في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة "بمنزلة رُوَيَد" وتلزم في كل ذلك الفتح؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد؛ فيقولون هلم يا رجل، وهلمي، وهلما وهلموا، وهلممن؛ وإذا أسندت لمفرد لا يكسرونها كما قال سيبويه، فلا يقولون: هلم يا رجل، ولكنها تكسر في لغة كعب وغني.
2- في لغة تميم يكسرون أول فعِيل وفَعِل إذا كان ثانيهما حرفًا من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لئيم، ونحيف..... إلخ، بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لعِل، ورجل محِك، وهذا ماضغ لهم "كثير البلع" وهذا رجل وغِل "طفيلي على الشراب"، وفخِد، ونحوها1 كل ذلك في لغتهم بالكسر وغيرهم بفتحه؛ وقد نقل صاحب "المخصص" في ذلك تعليلًا حسنًا يرجع إلى الأسباب اللسانية.
3- في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقًا مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر
__________
1 قلت: لعب، ومحك، ولهم؛ ووغل -جميعها صفات على وزن "كتف"؛ واللعب: الكثير اللعب؛ والمحك: اللجوج، واللهم: الأكول، والوغل: الطفيلي أو السيئ الأكل.(1/100)
وبفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لك ولِهُ. ونقل اللحياني ذلك عن خزاعة أيضًا.
وفي "سر الصناعة" لابن جني عن أبي عبيدة والأحمر ويونس، أنهم سمعوا العرب تفتح اللام الجار مع المظهر، وقال أبو زيد، سمعت من يقول: وما كان الله ليعذبهم؛ وفي لغة هؤلاء يقولون: المال للرجل؛ ومثل هذه اللغة في عامية الشام.
ولكن العرب إجماع "ومنهم خزاعة" على كسر اللام إذا اتصلت بباء المتكلم فلا يفتحها منهم أحد.
4- هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقًا إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لديهُ وعليهُ؛ ولغة غيرهم كسرها، وعلى منطق أهل الحجاز قرأ حفص وحمزة: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَان} ، و {عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} وهي القراءة المتبعة، أما غيرهما من القراء فيكسر الياء.
5- في لغة بني مالك من بني أسد يضمون هاء التنبيه؛ فيقولون في: يا أيها الناس، ويا أيها الرجل، يا أيه الناس ويا أيه الرجل؛ إلا إذا تلاها اسم إشارة، نحو: أيّهذا؛ فإنهم يوافقون فيها الجمهور.
6- في لغة بني يربوع -وهم من بني تميم- يكسرون ياء المتكلم إذا أضيف إليها جمع المذكر السالم فيقولون في نحو ضاربيَّ ضاربيِّ، وهكذا.
7- في لغة الحجازيين يحكون الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علمًا كما نطق به؛ فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيدًا، ومررت بزيد، يقولون: من زيد ومن زيدًا؟ أم إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علمًا موصوفًا: كزيد الفاضل, فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجل؟ ومن زيد الفاضل؟ في الأحوال الثلاث.
وإذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة "من"، ولكنهم في حالة الرفع يلحقون بها واوًا لمجانسة الضمة في النكرة المستفهم عنها، ويلحقون بها ألفًا في حالة النصب، وياء في حالة الجر؛ فإذا قلت: جاءني رجل، ونظرت رجلًا، ومررت برجل؛ يقولون في الاستفهام عنه: "مَنو؟ ومَنا؟ ومني؟ ". وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع، فيقولون: "مَنَه"؟ في الاستفهام عن المؤنثة، ومَنان ومَنَين؟ للمثنى المذكر، ومَنَتَان؟ ومَنَتَين؟ للمثنى المؤنث، ومنون، ومنين؟ للجمع المذكر، ومنات؟ للجمع المؤنث؛ وهكذا كله إذا كان المستفهم واقفًا؛ فإذا وصل أداة الاستفهام جردها عن العلامة، فيقول: من يا فتى؟ في كل الأحوال. قال الزمخشري: وقد ارتكب الشاعر في قوله:
أتوا ناري فقلت منون أنتم
شذوذين: إلحاق العلامة في الدرج، وتحريك النون.
وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: مَنُو، ومنا، ومَنِي، إفرادًا وتثنية وجمعًا، في التذكير والتأنيث.(1/101)
8- من لغة الحجازيين أيضًا أنهم يعاقبون بين الواو والياء فيجعلون إحداهما مكان الأخرى؛ والمعاقبة إما أن تكون لغة عند القبيلة الواحدة، أو تكون لافتراق القبيلتين في اللغتين، وليست بمطردة في لغة أهل الحجاز بين كل واو وياء، ولكنها محفوظة عنهم، فيقولون في الصواغ: الصياغ؛ وقد دوخوا الرجل، وديخوه. وسمع الكسائي بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني لك ولا يضورني أو يضيرني. قوم يقولون في سريع الأوبة: سريع الأيبة؛ ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول بعضهم: حكوت الكلام، أي: حكيته؛ وأهل العالية يقولون: القَصْوَى، ويقول فيها أهل نجد1: القُصْيا.
وقد وردت أفعال ثلاثة تحكى لإماتها بالواو والياء، مثل: عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت، وهي قريب من مائة لفظة نظمها ابن مالك النحوي في قصيدة مشهورة.
9- في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافًا، فيقولون في فخذ، والرجل، وكرم، وعلم: فخْذ، وكرم، والرجْل، وعلْم. وقال أبو النجم الراجز، وهو من بكر ابن وائل، يصف الشعر المتعهد بالبان والمسك:
لو عصر منه البان والمسك انعصر
وهذه اللغة كثيرة أيضًا في تغلب، وهو أخو بكر بن وائل. ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضًا فيقولون في العنق والإبل. العنق، والإبل، قال سيبويه: ومما أشبه الأول فيما ليس على ثلاث أحرف، قولهم: أراك منتفخًا، وانطلق يا فتى، أي: منتفخًا وانطلق، ثم قال: حدثنا بذلك الخليل عن العرب وأنشدنا بيتًا لرجل من أزد السراة:
عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان!
وسمعناه من العرب كما أنشده الخليل، وأصله "لم يلده" فلما أسكنوا اللام على لغتهم حركوا الدال لئلا يجتمع ساكنان2.
10- في "الخصائص" لابن جني عن أبي الحسن الأخفش: أن من لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل، كقول القائل:
وأشرب الماء ما بي نحو عطش ... إلا لأن عيونه سال واديها
11- لغات في كلمات:
تميم من أهل نجد يقولون: نِهْي، للغدير، وغيرهم يفتحها.
الوتر في العدد حجازية، والوتر -بالكسر- في الذحل: الثار. وتميم تكسرهما جميعًا، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط.
__________
1 قال صاحب المخصص: إن نجدًا في لغة هذيل نجد "بضم النون والجيم".
2 قلت: الأمثل أن تكون حركة الدال كسرة؛ لأن ذلك هو الأكثر عند اجتماع ساكنين.(1/102)
اللَّحد واللُّحد: للذي يحفر في جانب القبر، والرَّفع والرُّفع: لأصول الفخذين، فالفتح لتميم، والضم لأهل العالية.
يقال: وتِد، ووتَد، وأهل نجد يدغمونها فيقولون: وَدّ.
وفي لغة بعض الكلابيين يقولون: الدِّواء، وغيرهم يفتحها.
والعرب يقولون: شُواظ من نار، والكلابيون يكسرون الشين.
ويقولون: رُفقة، للجماعة، ولغة قيس كسر الراء.
وقالوا: وَجنة ووُجنة، وبالكسر لغة أهل اليمامة.
أهل الحجاز يقولون: خمس عشرة، وتميم يقولون: خمسَ عَشَّرَة، ومنهم من يفتح الشين. والحجازيون يقولون: لعمري، وتميم تقول: رعَمْلي، وتحكى عنهم رعَمْري أيضًا.
واللص في لغة طيئ، وغيرهم يقول: اللصت.
وبقيت ألفاظ أخرى كنا جمعناها فأضربنا عن ذكرها؛ لأن هذا الاختلاف غير مطرد، فلا يعتد به فيما نحن بصدد منه.
12- لغات في الإعراب:
في لغة هذيل يستعملون "متى" بمعنى "من" ويجرون بها؛ سُمِع من بعضهم: أخرجها متى كُمُّه أي: من كمه؛ ويروون من ذلك البيت المشهور:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخبرية مفردًا، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، فيقال: كم درهم عندك، وكم عبيد ملكت! وتميم يقولون: كم درهمًا، وكم عبدًا!
في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشرًا، وتميم يرفعونه.
في لغة أهل العالية ينصبون الخبر بعد "إن" النافية، سُمَع من بعضهم: إن أحد خيرًا من أحد إلا بالعافية.
الحجازيون ينصبون خبر "ليس" مطلقًا، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا؛ فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسك، وبنو تميم: إلا المسك.
في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلة منعه الوصفية، وزيادة النون؛ فيقولون: لست بسكران، ويلحقون مؤنثة التاء، فيقولون: سكرانة.
في لغة ربيعة وغنم، يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبت معه، وإذا وليها ساكن يكسرونها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت مع الرجل. وغنم: حي من تغلب بن وائل.
في لغة بني قيس بن ثعلبة يعربون "لدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ: "من لدُنِه علمًا".
الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزن فعال: كحزام، وقطام، على الكسر في كل حالات(1/103)
الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راء وتمنعها من الصرف للعلمية والعدل؛ فإذا كان آخرها ياء كوبار "قبيلة" وظفار "مدينة" فهم فيها كالحجازيين.
في لغة هذيل أن "عقيل" يعربون "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم، قال شاعرهم:
نحن الذون صبحوا الصباحا ... يوم النخيل غارة ملحاحًا
ومن لغة هذيل أيضًا فتح الياء والواو في مثل: بَيضات، وهَيآت، وعورات، فيقولون: بَيَضات، وهَيَآت، وعَوَرات، والجمهور على إسكانها، وقد وقفنا على أمثلة أخرى نتجاوزها اكتفاء بما قدمناه.(1/104)
النوع الرابع:
وهو يشمل اللغات التي ذكرها العلماء ولم ينسبوها وتكون في جملتها راجعة إلى تباين المنطق واختلاف اللهجات، وهذا القسم هو اللغة أو أكثرها؛ لأن الذين دونوها جمعوا كل لغات العرب وجعلوها لغة جنسية لم يميزوا منطقًا من منطق، ولا أفردوا لغة عن لغة؛ إذ كان من سبيل خدمة التاريخ اللغوي، وهم إنما أرادوا بصنيعهم خدمة القرآن وعلومه، فلولاء لمضت لغة العرب في سبيل ما تقدمها، ولماتت مع أهلها، وكأن من يظفر اليوم بحرف منها فقد أحيا شيئًا من التاريخ.
ولو أردنا استغراق هذا النوع لخرجنا بالكتاب عن معناه إلى أن يكون معجمًا من معاجم اللغة، ولكنا نأتي بشيء من نادره ونقتصر على القليل من غريبه مما يجانس ما قدمناه ويتحقق به نوع من أنواع الاختلاف اللساني في العرب، ومن أمثلة ذلك:
1- إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي، والأراني، والضفادي. وقال ابن جني في "سر الصناعة" وقد أورد قول الشاعر:
لها أشارير من لحم تتمّره ... من الثعالي ووخز من أرانيها1
لم يمكنه أن يقف الباء فأبدل منها حرفًا يمكنه أن يقفه في موضع الجر وهو الياء..... ليس ذاك أنه حذف من الكلمة شيئًا ثم عوض منها الياء. وقال وقد ذكر قول الآخر:
ومنهل ليس له حوازق ... ولضفادي جمه نقانق2
كره أن يسكن العين "من الضفادع" في موضع الحركة، فأبدل منها حرفًا يكون ساكنًا في حال الجر وهو الياء.
__________
1 الأشارير: جمع إشرارة، وهي قطعة من اللحم تقدد للادخار؛ والتتمير: التجفيف، والبيت للنمر بن تولب اليشكري من أبيات يصف بها عقابًا.
2 الحوازق: الجماعات، والجم: الماء الكثير، والنقانق: جمع نقنقة، وهي صوت الضفدع. وهذا البيت عزاه سيبويه لرجل من بني يشكر، وقيل إنه مما صنعه خلف الأحمر، فإذا صح ذلك فإن هذه اللغة تكون خاصة ببني يشكر لنسبة هذا البيت والذي قبله إليهم.(1/104)
وفي "الصحاح": قد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم: في أما1: أيما، وفي سادس: سادي، وفي خامس: خامي. وجاءت لغات الإبدال وكلها غير منسوبة ولا مسماة، وهي كثيرة؛ ومنها نوع طريف يعد من "لغات اللغويين" لأنهم جمعوه ورتبوه؛ وهو في الألفاظ التي ينطق فيها بلغتين بحيث يؤمن التصحيف: كالتي تنطق بالياء والتاء والباء والثاء؛ والتاء والثاء ونحوها مما يقع في حروفه التصحيف، وهذه الحروف هي:
ب ت ث ج ح خ د ذ
ر ز س ش ص ض ط ظ
ع غ ف ق ك ل ن
وفالنون تشتبه بالتاء والثاء، والواو تشتبه بالراء؛ أما سائر الحروف فالاشتباه فيها ظاهر. وعلى أن هذا مما يرجع إلى الخط ويبعد أن يكون العرب أرادوه، ولكن اللغويين وفقوا في عده عن لغات الإبدال، ومن أمثلته: الثّري والبري: بمعنى التراب، وثجّ الجريح ونجّ: سال دمه، وفاح الطيب وفاخ، وهلم جرا....
2- من العرب من يجعل الكاف جيما، فيقول مثلًا: الجعبة، في "الكعبة" وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفلطني، في "أفلتني" قال الخليل: وهي لغة تميمية قبيحة2.
3- نقل صاحب "المخصص" في "باب ما يجيء مقولًا بحرفين وليس بدلًا" أن بعض العرب يقول: أردت عن تفعل كذا، وبعضهم يقول. لألني. في "لعلني" وقال في موضع آخر: وفي "لعل" لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي لعلي، لعلني، وعلي، علني، لعني، ولغني؛ وأنشد للفرزدق:
هل أنتم عائجون بنا لعنّا ... نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال أبو النجم:
اغد لعِلْنا في الرهان ترسله
يريد "لعلَّنا" وبعضهم يقول: لأنني؛ وبعضهم: لأني، وبعضهم: لونّي؛ وقال رجل: من يدعو إلي المرأة الضالة؟ فقال أعرابي: لوَنذ عليها خمارًا أسود؛ يريد: لعل عليها؛ ومما وقفنا عليه من
__________
1 أما هذه هي الشرطية، وفي لغة تميم وقيس وأسد ينطقون إما التي للتفصيل مثلها، أي: بالفتح، ويروى لبعض شعرائهم:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أما إلى جنة أما إلى نار
2 وهي في لغة سفلة العوام في مصر أيضًا، وتطرد في كل تاء: كما يبدلون الدال ضادًا. ومن اللغات التميمية القبيحة ما نقله ابن خالويه من أنهم يقولون: الحمد لله -بكسر الدال- كما تقولها العامة، قال: ولا خير فيها! وذكر أيضًا في "كتاب ليس" في دخول ألف الوصل على المتحرك: أن عبد القيس يقولون: إسل زيدًا في "أسأل" وأن العرب تقول زيد الأحمر، والحمر -بفتح الحاء والميم- ولحمر -بفتح اللام وتسكين الحاء وفتح الميم- ثلاث لغات، وكلها في العامية أيضًا.(1/105)
لغاتها، ولم يذكره في "المخصص": رَعَن ورعّن وعنّ، وأنّ ولَعَاء، بالمد، ومنه قول الشاعر:
لعاء الله فضلكم علينا ... بشيء أن أمكم شريح
وتروى في "لعل" لغة بكسر اللام لِعلّ؛ وقد أسلفنا أن لغة عقيل الجر بلعل* وهو مما عزاه إليهم أبو زيد، وغيره يقول إن ذلك في لغة بعض العرب.
ومما أورده في هذا الباب: قرأ فما تلعثم، وبعضهم يقول: تَلَعْزم. وتضيّفت الشمس للغروب، وتصيّفت، قال: ومنه اشتقاق الصيف.
4- وفي "المخصص" أيضًا عن السكيت في "لغات: عند" تقول: هو عِندي، وعُندي، وعَندي؛ ومنه أيضصا "لدن" فيه ثماني لغات، وهي: لَدُن، ولُدُن، ولدَي ولَدُ، ولَدْن، ولُدْن، ولَدْ، ولدًي؛ ومنه أيضًا في "الذي" لغات: الذي بإثبات الياء، واللذِ، واللذْ، واللذيّ؛ وفي التثنية اللذانِ، واللذانّ، واللذا؛ وفي الجمع: الذي والذون واللاءون، واللاءوا، واللاتي -بإثبات الياء في كل حال- والأولى؛ وللمؤنث اللائي، واللاء، واللاتي، واللتِ، واللتْ، واللتان، واللتا، واللتانّ؛ وجمع التي، اللاتي، واللات، واللواتي، واللوات, واللوا، واللاء، واللآت.
ومن لغات "هو وهي": هوْ، وهيْ -بالسكون- وهوّ، وهيّ: قال بعضهم:
وإن لساني شهدة يشتفى بها ... وهوْ على من صبه الله علقم
وتحكى فيها لغة رابعة، وهي أن تحذف الواو والياء وتبقى الهاء متحركة فتقول: هُـ، هِـ.
ومن لغات "نعم، حرف الإيجاب": نِعَم، ونِعِم، ونَخَم، بإبدال العين حاء كما أبدلت الحاء من "حتى" عينًا في فحفحة هذيل فقيل: عَتَّى، كما مر في موضعه.
5- بعض العرب يبدل هاء التأنيث تاء في الوقف، فيقول: هذا أمَتْ، "في أَمَهْ" وسمع بعضهم يقول: يا أهل سورة البقرت، فقال مجيب: ما أحفظ منها ولا آيت! ويؤخذ مما ذكره ابن فارس في "فقه اللغة" أن هذه اللهجة كانت من اللغات المسماة المنسوبة إلى أصحابها في القرن الرابع، ولكنا لم نقف على نسبتها, ونقتصر من ذلك هذا القدر فإنه كفاء الحاجة فيما نحن بصدد منه.
__________
* قلت: لم يسبق هذا القول، فلعله سهو من المؤلف.(1/106)
النوع الخامس:
وهو ما يروونه على أنه لغة في الكلام أو لثغة من المتكلم، كالألفاظ التي وردت بالراء والغين، أو بالراء واللام، أو بالزاي والذال، أو بالسين والثاء، أو بالشين والسين؛ فكل ذلك مما يشك فيه الرواة، لا يجزمون بأنه لغة فرد أو لغة قبيلة، وقد قال الأنباري في شرح المقامات يذكر أنواع اللثغة في منطقهم: اللثغة تكون في السين، والقاف، والكاف، واللام، والراء؛ وقد تكون في الشين. فاللثغة في السين أن تبدل ثاء، وفي القاف أن تبدل طاء، وربما أبدلت كافًا؛ وفي الكاف أن تبدل همزة، وفي اللام أن تبدل ياء، وربما جعلها بعضهم كافًا؛ وأما اللثغة في الراء فإنها تكون في ستة أحرف: "ع غ ي د ل ط"، وذكر أبو حاتم أنها تكون في الهمزة. ا. هـ.
قلنا: وليس ما ذكره أبو حاتم بغريب، فقد رأينا في "بغية الوعاة" في ترجمة ركن الدين بن القوابع النحوي المتوفى سنة 738هـ أنه كان يلثغ بالراء همزة.
وبعضهم يلثغ في اللام فيجعلها تاء، ويسمونه الأرَتّ؛ أما النطق بالحاء هاء فيسمونه ههّة، كقول صاحب "الصحاح": اللَّهْسُ لغة في اللِّحْس، أو ههّة.(1/107)
عيوب المنطق العربي:
وقد رأينا توفية لفائدة هذا الفصل أن نذكر عيوب المنطق بأسمائها، وهي:
"التمتمة": ويقال لصاحبها: التمتام، وذلك إذا تعتع في التاء، فإذا تردد في الفاء فتلك:
"الفأفأة": وصاحبها فأفاء.
"والعقلة": وهي التواء اللسان عند الكلام.
"والحبسة": تعذر النطق ولم يبلغ المتكلم أحد الفأفاء ولا التمتام، ويقال إنها تعرض في أول الكلام فإذا مر فيه انقطعت.
"واللفف": إدخال بعض الكلام في بعض.
"والرتة": إيصال بعض الكلام ببعض دون إفادة، وقد تقدم لها معنى آخر في اللثغة.
"والغمغمة": أن يسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف ولا تفهم معناه.
"والطمطمة": أن يكون الكلام شبيهًا بكلام العجم؛ وقيل هي إبدال الطاء تاء؛ لأنهما من مخرج واحد، نحو: السلتان في "السلطان".
"واللكنة" وهي إدخال بعض حروف العجم في بعض حروف العرب، ومنها قولهم: فلان يرتضخ لكنة فارسية، وعدوا منها إبدال الهاء حاء، والعين همزة.
"والغنة": وهي أن يشرب الصوت الخيشوم، ثم هي عيب إذا جاءت في غير حروفها.
"والخنة": ضرب منها.
"والترخيم": حذف بعض الكلمة لتعذر النطق به.
"اللثغة": وقد تقدم الكلام عليها، غير أنا رأينا فيها كلامًا حسنًا لبعضهم قال: وتكون في أربعة حروف "ق س ر ل" فالتي تعرض للقاف يجعلها صاحبها طاء، فيقول: طلت في "قلت"، ومنهم من يبدلها كافًا. وأما السين فتبدل ثاء. والتي تعرض في الراء أربعة أحرف: منهم من يجعلها غينًا، ومنهم عينًا، ومنهم ياء، ومنهم زايا فينطقون لفظ "عمرو" على أنواع اللثغة هكذا: "عمغ، وعمع، وعمي، وعمز" وأما التي تعرض في اللام فإن من أهلها من يبدلها ياء، ومنهم من يجعلها كافًا وهي لغة قبيحة. ا. هـ.
ولا حاجة بنا لإيراد الأمثلة من ذلك جميعه؛ فإنما أردنا بيان نوع من أنواع الاختلاف الطبيعي في لهجاتهم، وذكر هذه الحروف التي تغير شيئًا من هيئة المنطق، حتى نُقَفِّي بذلك على ما أوردناه، ونُوفّي الفائدة مما أردناه.(1/108)
تنبيه:
ولا يفوتنا أن ننبه القراء إلى أن أنواع الاختلاف التي بسطناها لا تزال متحققة في اللهجات العامية المعروفة اليوم في مصر والشام والعراق وسائر الأقطار التي يتكلم أهلها الفصيح البلدي أو العربية المطلقة، وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الاختلاف لم يأت عبثًا، بل هو طبيعة الاختلاف بين العرب الأولين الذين استوطنوا البلاد أيام الفتوح فخرج من أصلابهم هؤلاء المتأخرون؛ ومن لم يمت إليهم بنسب كان منهم بسبب من الولاء والمخالطة ونحو ذلك. وعلى هذا يكون ما تصيبه في لهجات العوام مما يوافق لغات العرب ليس إلا نسبًا لفظيا يدل على ما وراءه من النسب التاريخي بين طوائف العوام وقبائل العرب.
نعم إن اللغة ميراث تاريخي، ولكنها كذلك في الجملة، فيقال إن لغة أمة متفرعة تدل على تحقيق النسبة التاريخية بينها وبين أمة اللغة نفسها، ولكن من الخطأ الواضح أن يقال إن نسب المفردات في الكلام يرتبط بنسب الأفراد في المتكلمين؛ فإذا رأيت أهل مصر جميعًا يقولون: مشالله في "ما شاء الله" فلا يدل ذلك على أنهم من بقايا عرب الشَّحر وعمان الذين يحذفون بعض الحروف اللينة، وهي اللخلخانية كما مر في موضعه، وإذا رأيت كثيرين من أهل البحيرة والغربية يقولون: أَحْمَا في "أحمد" وتاكوا "في تأكل". والبَصَا "في البصل"، فذلك لا يدل على أنهم من عرب طيئ الذين يقطعون اللفظ قبل تمامه، وهي القطعة كما بيناه.
لو ذهبنا نعارض كل ما كان من هذا القبيل بالمأثور من لهجات العرب على أن نحقق نسبة هذا الميراث المنطقي إلى قبائله، لتقحمنا خطة من الغيب، ولأوشكنا أن نضع علمًا كله جهل، وإن كان هذا البحث مما ينهج للنظر سبلًا من الكلام ويفتق للذهن أمورًا من الجدل، بيد أنه التاريخ المزور، والشهادة الظنية على حق اليقين.
والصحيح أن الألسنة هي الألسنة في كل زمان، وما جرى عليه العرب في لغتهم جرت عليه العامة في لغتها؛ فهو يتصرفون في المنطق تصرف المتمكن المستقل؛ لأن العامية لا ترجع إلى قاعدة مضبوطة، ولا هي من اللغات المكتوبة، فتقف عند حد محدود؛ ولكنهم يلوون بها ألسنتهم على ما يصرفها من الأسباب الخلقية، ثم ما تقوم عليه من أحوال المجتمع بين موروث ومكتسب؛ ولسنا ننكر ألبتة أن التقليد قد فعل في اللغة العامية ما فعله في العربية قبلها، بل كان أهل الأمصار في صدر الإسلام -وهم أصل العامية- يتكلمون على لغة النازلين فيهم من البدو، كما كان العرب النازلون بقرب السبل ومجامع الأسواق يتكلمون على لغة من يليهم من العامة. واللغة لا تخلق على لسان أحد، بل لا بد من التقليد والمحاكاة؛ ولكنا ننكر نسبة الناطقين إلى قبائل من العرب توافقها في هيآت المنطق، بعد أن تصرف أهل الأمصار في اشتقاق اللغة كما تصرف العرب، وأخذوها بالتقليد والمحاكاة عن كل شفة، وكان لهم في سياستها استقلال أوسع بكثير مما كان للعرب.
ونحن نذكر هنا كلمة واحدة صح نقلها عن العامية أول عهدها في الشام، ثم هي لا تزال دائرة إلى اليوم في العامي والفصيح. وهي لفظة "عليه" فقد نقل صاحب "الأغاني" كلمة من الشعر العامي(1/109)
في دمشق زمن الوليد بن عبد الملك جاءت فيها هذه الكلمة "ويلي علَوه" وهي تنطق كحرف "O" وينطقونها اليوم في الشام "علاه" وقد مرت هذه اللغة عن العرب، وفي الفصيح "عليه" وفي اللهجات المصرية الغالبة "عَليه" و"عَلايَه" و"عَلِيَهُ" و"عَلِيه" بالإمالة كحرف "E" و"عَلِيه" بغيرها كحرف "I" وذلك أكثر ما يمكن أن تدار عليه اللفظة؛ فإذا استطعنا تحقيق نسبة هذا المنطق إلى قبائل معينة فهل تحقق بها نسبة الناطقين أيضًا؟ هذا ما لا جواب عليه إلا أنه لا جواب له؛ والتاريخ وإن كان من الكلام غير أنه ليس كل الكلام من التاريخ.(1/110)
البقايا الأثرية في اللغة:
الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس؛ فالذهن يشبه أن يكون في علم الحياة كتابًا موضحًا بالرسوم: يقرر الحقيقة ويمثلها ويداخلها بين أجزائها, ولكنه لا يعطيها؛ فقد تعلم لذة الطعام إذا كنت جائعا وتتصوره أقرب من فوت ما بين اليد إلى الفم، وتتخيل منه كل ما تشتهي النفس، بل قد تجد طعمه ورائحته إذا كنت شاعرًا دقيق موضع الاتصال بين الحواس الظاهرة والباطنة؛ ولكن تلك المائدة الذهنية على كثرة ما وسعت وطيب ما احتوت، لا تعدل عندك لقمة واحدة تلجلج الفكين!
فالألفاظ مقصرة دائمًا عن بيان معانيها بيانًا يطابق نوع الخلق، ويوافق حالة الوجود، فإذا قيل أمامك: جاء زيد، وكنت لا تعرف من زيد هذا، لم تعد أن تتمثل رجلًا من الرجال، ولكنك إذا عرفته تمثلت نوعًا من الخلق متميزًا بحالة خاصة من أحوال الوجود؛ ومن هنا كان التاريخ -الذي هو بيان نفسي محض لا يؤدى إلا بالألفاظ- من المعاني الكلية والمبهمة التي لا تثبت على قياس واحد الحقيقة، بل لا بد فيها من الزيادة والنقص؛ لأن مرجعها إلى التصور، وهو مجموع ظلال متقلبة على النفس.
ومن التاريخ ما لا يقتصر الإبهام على مدلوله فقط، ولكن يتناول الألفاظ الدالة أيضًا، وذلك لأن صورته الذهنية تكون في مجموعها ملفقة، غير مضبوطة على قياس مألوف من حياة المتكلم؛ فإذا أصاب تلك الألفاظ لم يجد لها في ذهنه رسمًا معينًا؛ لأنها أطلال زمنية؛ وأكثر ما يكون ذلك في العادات والمصطلحات اللغوية التي تتغير بتغير الأزمان والأقوام، فإذا انقرض أهلها انقرضت معهم وبقيت ألفاظها في اللغة مبهمة في ذاتها، حتى إذا ألحقت بالشرح التاريخي أو اللغوي الذي يكشف غموضها ويزيل إبهامها دخلت في الحياة الذهنية، ولكنها تبقى مع ذلك بالنسبة لانقطاعها من الوجود بقايا أثرية في اللغة1.
ولو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى، وما اختصت به من المعاني، وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسمًا كبيرًا من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية؛ لأننا لا نحتاجه ولا هو مما يعد فضلًا عن الحاجة فينتظر به وقتها؛ وذلك كأسماء الإبل وصفاتها الكثيرة، وكأسماء كثير من الحشرات وما جاءت به اللغات المتعددة، وهو كثير تطفح به معاجم اللغة؛ ولقد نرى أن ذلك مما يصح أن يسمى "لاتينَ العربية" قياسًا على اللغة اللاتينية التي لا يستعملها الأوروبيون، ولكن يشتقون منها أسماء المصطلحات التي تمس إليها الحاجة فيما يستحدثون من أمورهم؛ لولا أن "لاتيننا العربي" يحتاج منا إلى عربية تلائمه؛ فإن استحياء الماضي لا يكون إلا
__________
1 سنشير إلى هذا المعنى بمزيد من البيان عند الكلام على خشونة الشعر الجاهلي متى انتهينا إليه.(1/111)
بالملاءمة بينه وبين روح الحاضر.
ولسنا إلى ذلك نذهب، فهو بجملته لا يخرج عما يسمونه وحشيا1 أو غريبًا2 أو حوشيا3، وإنما نريد بالبقايا الأثرية ما أراده علماء اللغة أنفسهم حين جمعوها، فإنهم عدوا من اللغات: منكرًا، ومتروكًا، ومماتًا؛ فالمنكر: ما لا يعرفه بعض أئمة اللغة لكونه مهمل الاستعمال في العرب إلا قليلًا، وهو دون الضعيف الذي ينحط عن درجة الفصيح: كقول بعض أهل الحجاز: ذَأَي يَذْأَي، وهي في لغة أهل نجد: ذوى يذوي، وعليها الاستعمال. والمتروك: ما كان قديمًا من اللغات ثم ترك واستعمل غيره، وهذا ما سميناه آنفا "بالمصطلحات اللغوية" كالغزِّين في بعض تلك اللغات المتروكة أي: الشدقين، واحدهما غز؛ والبعقوط والبلقوط أي: القصير، ونحو ذلك. والممات: ما أميت استعماله: كأسماء الأيام والشهور في اللغة الأولى على ما زعموا، وقد ذكرها صاحب "الجمهرة"، وهي هذه:
ومن الممات عندهم لغات في التصريف: كقول الكسائي: محبوب، من حببت، وكأنها لغة قد ماتت، كما قيل: دمت أدوم، ومت أموت، وكان الأصل أن يقال أمات وأدام5 في المستقبل -المضارع- إلا أنها قد تركت. ومن ذلك "ليس" الفعل الناقص؛ فإن بعضهم يظن مضارعه وأمره من
__________
1 قال ابن رشيق: إذا كانت الكلمة مستغربة لا يعلمها إلا العالم المبرز والأعرابي القح، فتلك وحشية.
2 تتفاوت درجات الغريب بمقدار العناية بحفظه، حتى يبلغ أحيانًا أن لا يعد غريبًا إلا ما ذهب معناه وشاهده من العلم: فقد كان إمام اللغة في عصره محمد بن علي الأنصاري الأندلسي المتوفى بالقاهرة سنة 684هـ يقول: أعرف اللغة على قسمين: قسم أعرف معناها وشاهدها، وقسم أعرف كيف أنطق بها فقط. وسنذكر أشياء من عنايتهم بالغريب وحفظه في باب الرواية.
3 نسبة إلى الحوش: وهي بقايا إبل وبار التي ذكرناها في أصل العرب، والمراد أن ذلك غريب نادر.
4 ينسب ابن الكلبي ربى وحنينًا إلى عاد، ويجعل الاسمين من لغتهما ... وقال الفراء في كتاب "الأيام والليالي": خوان، من العرب من يشدده ومنهم من يخففه "ومنهم من يلفظه بالحاء"، ووبصان، منهم من يقول: بوصان، ومنهم من يقول: بصان؛ والحنين، منهم من يفتح حاءه ومنهم من يضمها. قال: وجمادى الآخرة يسمى ورنة ساكن الراء، ومنهم من يقول: رنة كزنة "وقد تقدم أن ورنة لذي القعدة، والفراء يسميه: هواعًا". وفي هذه الأسماء واشتقاق بعضها كلام كثير وقفنا عليه في كتب مختلفة، ولا حاجة لنا به في هذا الموضع.
5 قلت: كما يقال في مضارع خاف: أخاف.(1/112)
الأفعال الممات؛ ومما عدوه متروكًا من أسماء العادة العربية لزوال معانيه في الإسلام: المرباع: وهو ربع الغنيمة، وكان خاصا بالرئيس، ثم صار في الإسلام، الخمس. والنشيطة: هي أن ينشط* الرئيس عند قسمة المتاع الشيء النفيس يراه، إذا استحلاء. والفضول: وهي فضول المقاسم كالشيء إذا قسم وفضلت فضلة منه: كاللؤلؤة والسيف والدرع والبيضة والجارية؛ فكان ذلك من قسم الرئيس. وقد جمع هذه العادات كلها ابن غنمة الضبي في مرثيته لبسطام بن قيس إذ يقول:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
أما الصفايا فبقيت في الإسلام، وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اصطفى في بعض غزواته من المغنم أشياء: كالسيف اللهذم، والفرس العتيق، والدرع الحصينة، والشيء النادر؛ وذلك يسمى الصفي، قالوا: وقد زال هذا الاسم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
والممات من أسماء العادات شيء كثير يستجر الكلام إلى قسم من تاريخ العرب لا يسعه هذا الموضع؛ فقد كانوا أهل مغاورات وإغرام بالمعاقرة والمياسرة ونحوها، ولكل ذلك أسماء وصفات، فنجتزئ بما ذكرناه، ولكن لا بد من التنبية على شيء دقيق في هذا الباب، وذلك أنا لو تدبرنا الكلام الذي نستعمله لرأينا أشياء كانت من عادات العرب الخاصة بها ثم نقلتها الحضارة إلى معنى يناسبها بعد أن انتزعت منها الأصل التاريخي، فمن ذلك أن الواحد يقول: نحن فعلنا، وليس معه غيره، فلا يظن إلا أنه أراد تعظيم نفسه، وأنه ليس لهذا الاستعمال من أصل تاريخي في الكلام, وإنما الأصل أن العرب كانوا قبائل وجماعات, فكان الرئيس الذي له أتباع يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه ويتداعون لألمه،
كأنهم أجزاء من شخصه، يقول: أمرنا، ونهينا، وغضبنا، ورضينا لعلمه بأنه إذا فعل شيئًا فعله تباعه لا يخذلونه ولا يخالفونه، ثم كثرة استعمال العرب لهذا الجمع ملحوظة فيه تلك الدلالة، ثم استفاض في الكلام حتى صار الواحد من عامة الناس يقول وحده: قمنا، وقعدنا، لا يريد إلا المعنى الحضري المصنوع، وهو التعظيم الحقير.
..
__________
* قلت: ينشط: يأخذ لنفسه اختلاسًا.(1/113)
نمو العربية وطرق الوضع فيها:
العربية أوسع اللغات مدى، أغزرهن مادة، وأوفاهن بالحاجة الحقيقية من معنى اللغة؛ لكثرة أبنيتها، وتعدد صيغها، ومرونتها على الاشتقاق، وانفساحها من ذلك إلى ما يستغرق اللغات بجملتها، مع أنها أقل هذه اللغات أوضاعًا، حتى إن المستعمل منها لا يتجاوز ستة آلاف تركيب، وإذا رددت الثلاثي منه وما فوقه إلى التركيب الثنائي، لم يكد يزيد ما يخرج منه على ثلاثمائة لفظة، هي أصل الأوضاع وسائر التراكيب المستعملة متفرع عنها. كما تفرعت سائر مواد اللغة عن هذه التراكيب بالاشتقاق، وهي في الجملة لا تقل عن ثمانين ألف مادة، عدة ما اشتمل عليه معجم لسان العرب.
وظاهر أن اللغة لم تترام إلى هذا الاتساع إلا بعد أن قلبت على وجوه كثيرة في الاستعمال، وأديرت على مناحي مختلفة من الوضع؛ بما في أصل تكوينها من الحياة النامية التي تكافئ حياة أهلها وتماد أزمنتها مهما كثرت أغراض هذه الحياة واستفاضت معانيها، واستبحرت في مذاهب العمران؛ فهي في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزاء المتكلم من تلك الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرفها الألسنة والأقلام في مناح من العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي. وإن صمت الطبيعة البدوية إنما هو في حقيقة الاعتبار جزء متمم في المعنى للغة أهلها، كما أن حركة العمران إنما هي حركة العمل في مصنع اللغة. وليس يخفى أن حياة اللغة وموتها أمران يؤخذان بالاعتبار؛ فإن اللغة الحية هي التي تكون مشايعة بأوضاعها لكل ما يجد من مستحدثات الحياة، فكلما خلت ألفاظها المتداولة بين أهلها مما يصور معنى جديدًا أو يؤدي غرضًا حادثًا، لم تعقم أوضاعها بما ينتج هذا اللفظ الجديد ويسد هذه الخلة الطارئة؛ فهي بذلك فيما تأخذ وتدع كأنها تتنفس، والتنفس أول صفات الحياة.
ولكن اللغة التي ترمى بأنها في سبيل الميتة، لا يزال يطرأ عليها النقص كلما زادت مستحدثات الحياة؛ لوقوفها عن حد من الوضع محدود، وقعودها بكل طريق تدفع إليه من طرق التعبير، فلا يبرح أهلها يتناولون من غيرها، ويزيدون نقصها؛ حتى تصبح بهذه المداخلة لغة جديدة من عمل الزمن وكأن أصلها بقية من أهلها، وأهلها بقية من أصلها؛ لفقدان المميزات الجنسية التي أخص دلائلها اللغة.
وقد عرفوا الحي بأنه الكائن الذي ينمو من باطنه؛ فإذا كان في اللغة ما يساعد على نموها المستمر مع بقائها متميزة في نفسها -بحيث تحيل كل ما يداخلها من ألفاظ اللغات الأخرى إلى أوضاعها الخاصة بها والمقومة لهيئتها، فلا تتحيفها الزيادة الطارئة عليها مهما بلغت، ولا تخرجها من حيزها إلى مضطرب لا تثبت لها فيه الجنسية ولا ينطبق عليها وصف الاستقلال- وإلا فتلك هي اللغة(1/114)
التي أحق ما توصف به أنها سائلة من طرق الكلام، وأن أهلها صعاليك في طرق التاريخ!
والعربية قد غَنِيت بأواضعها حتى كأنها خلقت لتماد الزمن، وفيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، غير أنه قد أصابها ما أصاب أهلها من تبدد الكلمة واضطراب الأمر ووهن الاستقلال وتمزق المجتمع، فأصبحت بعدهم كأنها محكومة بقوة خفية لا يعرف ما هي ولا يظهر منها إلا أثرها الذي تتبينه فيما لحق اللغة من الضعف وما رهقها من العجز، وفي جمودها على حال واحدة كأنها مقبورة في كتبها منذ تراجع التمدن الإسلامي أيام العباسيين إلى قريب من هذه الغابة.
ومتى كانت اللغة صورة الأمة فإن كان ما يعتور هذه يتصل أثره بتلك ضرورة. ولذلك بقيت العربية في نفسها على مرونتها الأولى حتى يتاح لها أقوام كأولئك الأقوام، وتفيض لها أقلام كتلك الأقلام.
وليس من غرضنا أن نفيض هنا في هذه المعاني، وإنما تريد لنبين أنواع النمو في هذه اللغة، والطرق التي جرت عليها في الوضع؛ إذ لولا ذلك ما خطت اللغة في التاريخ خطوة واحدة.
طرق الوضع:
وأنت إذا تدبرت المأثور من ألفاظ اللغة، وجدته في الجملة لا يخلو من ثلاث: إما أن يكون مرتجلًا أو مشتقا، أو منقولًا على وجه من جوه المجاز؛ وهذه الثلاث هي طرق الوضع التي تقلبت عليها اللغة، وهي تشبه أدوار الخلقة الكاملة، فإنها ثلاثة أيضًا: التركيب، والقوة، والجمال؛ فالمجاز جمال اللغة، والاشتقاق قوتها، والارتجال تركيب الخلقة فيها؛ ويندر أن تجد ذلك كله في لغة من اللغات على مقدار ما تجده في العربية؛ فلا جرم كانت حرية بأن تكون مناط الإعجاز؛ لأنها الخلقة اللغوية الكاملة.
الارتجال:
وهو وضع اللفظ ابتداء في أول أمر اللغة بتقليد الطبيعة كما مر في موضعه؛ ولا يمكن أن يحاط بأوائل كلامهم، وعلى أي مقادير كانوا يضعونها، غير أنه مما لا شك فيه أنه لم يبق وجه للزيادة على ما ارتجلوه؛ لتقليبهم صور التراكيب المرتجلة على كل ما في آلات الصوت من المقاطع، بحيث لم يدعوا منها إلا المستكره المبذوء مما يتعتع به اللسان وينبو عنه السمع ولا يكون منه إلا تنكير الأسلوب وتغيير ديباجة اللغة؛ بيد أن هذا إنما هو في الارتجال الذي تراعَى فيه النسبة بين اللفظ الموضوع له، كمحاكاة الأصوات والحركات الطبيعية ونحوها، أما فيما عدا ذلك فإن العرب كانوا يتصرفون في لغتهم، فيرتجلون ألفاظًا قليلة ليست فيها ولا هي مأخوذة بالاشتقاق، كما يصنع كثير من العامة اليوم؛ فقد يتفق لأحدهم أن يضع كلمة يرتجلها لمعنى من المعاني على طريق التظرف والتملح، فلا تلبث أن تشيع وتصير من أصل اللغة؛ وكذلك كان يفعل العرب.
قال ابن جني فيما ينفرد به العربي من اللفظ ولا يسمع من غيره ما يوافقه ولا ما يخالفه: "إنه يجب قبوله إذا ثبتت فصاحته؛ لأنه إما أن يكون شيئًا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشاركه في(1/115)
سماع ذلك منه أحد ... أو شيئًا ارتجله؛ فإن العربي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبيه1، أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعها ولا سبقا إليها. أما لو جاء ذلك عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته، فإنه يرد ولا يقول" ا. هـ.
ومهما يكن من ذلك فإن الارتجال أمر مفروغ منه؛ لأن تاريخ الشباب كله لا يقع فيه يوم واحد من عهد الطفولة.
الاشتقاق:
كل ما يوضع من اللغة ارتجالًا فإنها وضع لمناسبة بين الدال والمدلول على وجه من الوجوه؛ ولولا تحقق هذه المناسبة ما تأتى للواضع أن يشتق لفظًا من لفظ؛ لأن الأصل في الاشتقاق المناسبة في المعنى والمادة؛ فلولا اعتيادهم مراعاة المناسبة في الوضع الأول ما تنبهوا إليه في الوضع الثاني؛ لأن بعض الأشياء يدعو إلى بعض، والارتقاء سنة لا بد فيها من اطراد النسبة.
وعلى هذا أمكنهم أن يجعلوا كل مقطع من المقاطع الثنائية أصلًا في الدلالة، ثم يفرعون عنه بالاشتقاق معانيه الجزئية المختلفة التي ترجع في أصل الدلالة إليه؛ فكأن المعاني سلائل مرتبة تنحصر كل طائفة منها تحت جنس معلوم، على ما قرروه في مذهب النشوء والارتقاء. ولا يزال هذا التسلسل متحققًا في اللغات السامية الباقية إلى اليوم، وهو أظهر في العربية منه في أخواتها؛ حتى ذهب بعض العلماء الذين استقروا تراكيب اللغة إلى أن هذا الأصل مستصحب في كل تركيب، بحيث لا يخلو مما يرجعه إليه ولو تأويلًا من طريق المجاز، إلا ما تخلف عن سلسلته لأمر طارئ على أصل الوضع، كأن يكون مبدلًا من لفظ آخر، أو مقلوبًا عنه، أو داخلًا في تركيب المادة من لغة أخرى؛ لأن العلماء الذين دونوا هذه اللغة جمعوها من لغات كثيرة بعد أن تدخلت هذه اللغات بعضها في بعض، لتعاور العرب ألفاظها جميعًا؛ فخفي بهذا التداخل كثير من وجوه الوضع الاشتقاقي؛ أوضاع النقل كثيرًا من ألفاظ اللغة مما انثلمت به سلسلة أوضاعها فأصبحت بحيث لا يمكن أن يدل فيها على تحقق التسلسل إلا باعتبار الأغلب الأعم.
وقد نقلوا عن بعض المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع؛ وكأن بعض من يرى هذا الرأي يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل: ما مسمى "إذغاغ"؟ وهو بالفارسية الحجر؛ فقال: أجد فيها يبسًا شديدًا، وأراه الحجر.
أما خواص أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطيقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، وقد عقد لها ابن جني بابا في "الخصائص" سنشير إليه عند الكلام على التمدن اللغوي.
وأول من ابتدع القول بأن المعاني سلائل مرتبة، وأن الألفاظ المختلفة ترد في الاشتقاق إلى قدر
__________
1 رؤبة بن العجاج هو وأبوه راجزان مشهوران من العرب، وكان رؤبة خاصة بصيرًا باللغة قيمًا بحوشيها وغريبها، حتى لا يرون في التشبيه أن في معد بن عدنان أفصح منه؛ وتوفي رؤبة بالبادية سنة 145هـ عن سن عالية.(1/116)
مشترك، هو فيلسوف العربية أبو الفتح بن جني المشار إليه؛ وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس بهذا الرأي قليلًا.
أما علماء العربية فقد قالوا إن ذلك ليس متعمدًا في اللغة؛ لأن الحروف قديمة وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكاد تتناهى.... ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة المادة معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها، ولكن التحيل على ذلك في جميع مواد التركيب، كالطلب لعنقاء مغرب، وجواب ذلك عندنا ما تقدم الإيماء إليه، من مداخلة اللغات وتفريط النقلة ونحو ذلك، مما لا ينتظم به أمر التاريخ اللفظي في هذه اللغة.
ولابن جني في تحقيق رأيه كلام سابغ الذيل سنشير إليه في الفصول التالية.
أما الكلام على الاشتقاق من حيث هو علم ذو أقسام وحدود فهو مبسوط في مواضعه من كتب الصرف والكتب الأخرى المجردة في هذا العلم، ولا حاجة بنا إليه؛ لأنه إنما نريد جهة التاريخ منه وكونه سببًا من أسباب نمو اللغة وطريقة من طرق نشأتها.
وقد قلنا في تحقيق المناسبة بين الألفاظ والمعاني وأن أكثر أهل اللغة والعربية مطبقون على ثبوتها؛ لأنها في الحقيقة ليست إلا توسعًا في المناسبة الأولى التي هيأت للواضع أن يضع بالتقليد والمحاكاة. ونحن ذاكرون طرفًا مما يثبت تلك المناسبة:
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : أنفق الشيء وأنفذه أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج.
وقال في تفسير قوله عز وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] ، [المائدة: 7] : والمفلح "بالحاء والجيم": الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو: فلَق وفلَذ وفلَى يدل على الشق والفتح. وللزمخشري عناية بذلك في مواضع من تفسيره أيضًا.
ومن هذه الأمثلة أن تراكيب الهمزة مع الباء تدل على النفور والبعد والانفصال: كأب: للسير، وأبت اليوم: اشتد حره فقطع الناس وفصلهم عن أعمالهم، وأبد الوحش: نفر، وأبر النخل: قطع شيئًا منه، وأبز الظبي: وثب وانطلق، وأبق العبد: فر، وأبل: توحش وانفصل عن الناس، وأبه عن الشيء: بعد عنه وتنزه، وأبي الضيم: نفر منه، وهكذا.
والألف مع الزاي تدل تراكيبها على الضيق في الأمر، يقال: أزر المجلس: إذا ضاق، وأزق الرجل: ضاق صدره، وأزل: صار في ضيق، وأزم: ضاق عيشه، وأزى الظل: قلص وضاق.
وتراكيب الباء مع الدال تدل على الابتداء والظهور، نحو بدأ الشيء وبدا أي: ظهر، وبدح فلانًا بالأمر: أظهره له من دون روية، وبدح: أظهر التعظيم، وبدر إليه بكذا: أظهره له، وبدع أي: ابتدأ، وبدخ بالشر: أظهره، وبده بالأمر بديهة أي: ابتدأ به.
والباء مع الذال تدل تراكيبها على إخراج الشيء، نحو: بَذِيَ: أخرج الفحش في كلامه، وبذح(1/117)
وبذل: أعطى فأخرج ما عنده، وبذج: أخرج شقشقته، وبذر: أخرج سره أو ماله بغير تقدير؛ وبذن: أقر بما يخفيه فأخرجه.
والباء مع الراء تدل على الظهور، نحو برأ الله الخلق: أظهره، وبرت: دل على الشيء فأظهره؛ وبرج: ظهر. ومنه التبرج. وبرح الخفاء: ظهر. وبرخ: زاد فظهر فيه الزيادة. وبر: ظهر وبرز كذلك, وبرش: ظهور بياضه. مثله. وبرض الماء: ظهر.
وكذلك الباء مع الزاي. كبزج: أظهر فضائله. وبزح الصيد: خرج. وبزر النبات: خرج بزره. وبزع الغلام: ظهر ظرفه. وبزغت الشمس: طلعت، وبزقت مثله. وبزل ناب البعير: طلع. وبزن الحق: ظهر. وهلم جرا.
ولو استقريت تراكيب اللغة كلها لوجدت مواد كل تركيب ترجع إلى أصل واحد. ولو تأويلًا من طريق المجاز. إلا ما تخلف من سلسلته لأمر طارئ، كما أشرنا إليه في صدر الكلام؛ وليس يخفى أن سلسلة الاشتقاق في كل لفظة إنما هي نسق تاريخي في تدوين نسبها اللغوي وفروع هذا النسب؛ وقد بينا من قبل أن الرواة أغفلوا كل ما يتعلق بالجهات التاريخية في اللغة؛ فلا جرم انثلمت سلاسل الاشتقاق وضاع كثير من تلك الأنساب؛ إلا ما تدل عليه مشابهات الخلقة اللفظية؛ وهو ما يعرف بالاستقاء كما مثلنا له آنفًا.
وكذلك ترى في أكثر صيغ الأمثلة من الفعل والاسم على السواء؛ فإن القياس ثابت فيها ثبوتًا بينًا: كصيغتي فاعَلَ وتَفاعل، وكوزن فُعلة في الأسماء1 وغير ذلك ذلك مما نبهوا على اطراد القياس فيه وأحصوا شواذه، وهو خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
ولو أن أحدًا عكف على هذه اللغة فتتبع ألفاظها وتدبر وجوه اشتقاقها وتفقد مواقعها في كلام العرب ورتب صيغها وأوزانها على ما تقتضيه أغراضها بحيث يستقر كل مثال منها في نصابه ويرد إلى حيزه؛ لجاء من ذلك بعلم يكشف عن كثير من أسرار الوضع، ويهتك عن أستار الحكمة المستكنة في دقائق هذه اللغة العجيبة التي يزيد في العجب منها أنها لغة تلك العقول الفطرية، والفطرة وإن كانت
__________
1 "فاعل" تأتي للمشاركة كضارب، ولتكرار الفعل وموالاة بعضه لبعض كطالبه بدينه، ولطلب الفعل من طريق المزاولة والعلاج ولازمه التكرار أيضًا: كسابق وقاتل؛ لأن هذا طلب كل من المتشاركين الغلبة لنفسه، ونحو: خادع وخاتل، والمشاركة كما قد تكون بين اثنين ليس فاعل الفعل واحدًا منهما: كطارقت النعل، إذا خصفت عليها نعلًا أخرى، وضاعفت الشيء، إذا زدت عليه ضعفًا آخر.
"وتفاعل" تكون للمشاركة كتضارب القوم، وتكون لوقوع الفعل مكررًا: كتهادت المرأة، لوقوعه في مهله. نحو: تكامل وتناهى.
"وفعلة" بضم الفاء تأتي اسمًا للطائفة المجتمعة: كالحزمة والعصبة، وللشيء القليل، أو للبقية من الشيء بعد ذهاب معظمه: كالعقبة لبقية المرق في القدر، النزفة للقليل من الماء، وتكون لمعنى الشيء يؤخذ بمرة ومن لوازمه الاجتماع والقلة، كاللقمة والجرعة من الماء، وتكون اسمًا لما توسط شيئًا فجمعه. كالوصلة والرقعة، وتكون اسمًا للافتعال: كالفرقة والحرقة.(1/118)
دائمًا تختص بمسحة إلهية، إلا أنها تكون أصل الكمال في النفس لا نفس الكمال. وهذه اللغة يوشك أن يكون أمرها معجزًا على ما رأيت بحيث لا يغلو في رأينا من يقول إنها بسبيل من الأوضاع الإلهية "في التوفيق والإلهام" لأن أثر ذلك قد ظهر في القرآن.
المجاز:
وهذا هو الوضع الأخير في اللغة؛ ولذا تجد مراعاة المناسبة فيه على أضعف وجوهها؛ فكأنهم في الوضع الأول راعوا المناسبة الثابتة التي لا زيادة فيها، ثم توسعوا في هذه المناسبة بنوع من التصرف في الوضع الثاني وهو الاشتقاق، ثم بلغوا آخر حدودها "المناسبة" في المجاز؛ وهذا مما يؤكد أن اللغة كلها حكاية للطبيعة؛ فإن كان ثم توقيف أو وحي فيكون في هداية العقول إلى أسرار هذه الحكاية، ولا بد في استكناه منطق الطبيعة من الذهن الشفاف والبصيرة النفاذة والإلهام الخفي الذي يشبه أن يكون قبسًا من النور الإلهي يضيء بين العقل والقلب فلا يقع شعاعه على جهة من الطبيعة إلا كشف منها عن معاني الأسرار الإلهية.
والمراد من المجاز التوسع في الحقيقة؛ لأن الألفاظ الحقيقية تمضي لسننها المعروف فلا يبقى ثمة وجه لتقوية الحقيقة المرادة منها بالاتساع أو التوكيد أو التشبيه؛ وليس يخفى أن الحقيقة الواحدة تتنوع في ذاتها إلى أجزاء متشابهة، وتتنوع في معناها أيضًا على درجات من الضعف والقوة، فإذا كان معنى "الكوكب" في الوضع اللغوي الدلالة على هذا الجرم السماوي الذي يشبه نكتة بيضاء في رأي العين، ثم رأيت في عين الإنسان نكتة بيضاء تغشى سوادها؛ فقد تجزأت الحقيقة النظرية هنا في ذاتها فتطلق على بياض العين "النكتة" اسم الكوكب مجازًا للمناسبة بين الاثنين في الشكل؛ وكذلك تقول في التوكيد: فلان أسد، تريد إثبات شجاعته في النفوس بدرجة متناهية مؤكدة؛ ثم تقول في التشبيه: فلان على جناح السفر أي: لا يلبث أن يسافر، كأنه طائر بسط جناحه فليس إلا أن يطير. وإنما مدار ذلك كله على التوسع في المثال الحسي إذا ضاقت به الحقيقة المألوفة في التعبير.
ولسنا نخوض هنا في أنواع المجاز وجهاته وتحقيق القول في الاستعارة وأقسامها، فذلك من موضع علم البيان، بل هو البيان كله على ما قيل؛ وإنما نتناول الكلام من حيث يتصل بمعنى التاريخ؛ فالمجاز صنعة حقيقة في اللغة لا تتهيأ إلا بعد أن يكون العرب قد استكملوا أسباب النهضة الاجتماعية من المخالطة واقتباس بعضهم عن بعض واعتبارهم أنفسهم في أمر اللغة مجموعًا معنويا؛ فينصرفون إلى تشقيق الكلام وتتبع أظلال المعاني في أجزائه، حتى تتسع لغتهم على نسبة هذا الاجتماع المعنوي؛ وذلك ما سنفرد للكلام عليه باب التمدن اللغوي.
لا جرم كان للمجاز في اللغة هذا الأثر الذي بسط منها حتى فاضت أطرافها على المعاني، وتهيأ فيها من أنواع الوضع طرق التعبير ما يعد في اللغات ميراثًا خالدًا تستغل منه المعاني في كل جيل، ويضمن للغة الثروة وإن أفلس أهلها ...
والوضع بالمجاز بعتبر اشتقاقًا معنويا، فما لم يتهيأ للعرب أخذه من طريق الاشتقاق أخذوه بالنقل من طريق المجاز؛ وبذلك وسعوا لغتهم من جهات:(1/119)
1- الإكثار من الألفاظ وتعدد الوضع الواحد تفننًا في التعبير، كما تسمى الخوذة بالبيضة وبالتريكة، وهي بيضة النعام بعد أن يخرج منها الفرخ وكتسمية المطر بالسماء، والنبات بالغيث، ونحو ذلك.
2- التذرع إلى الوضع فيما لم يوضع له لفظ من المحسوسات، كتسمية البياض في العين بالكوكب، وغضروف الأذن بالمحارة، والهنية الناشزة في مقدم الأذن بالوتد، وكقولهم: ذؤابة الرحل، للجلدة المعلقة على آخره، وعنق الإبريق، وساق الشجرة، وأبط الوادي، ونحو ذلك.
36- التذرع إلى الوضع لتمثيل صور المعاني، كقولهم: نبض البرق، إذا لمع خفيفًا، من نبضان العرق؛ وسبح الفرس، إذا مد يديه في الجري كما يفعل السابح في الماء؛ ورنقت السفينة، إذا دارت في موضع واحد لا تمضي من ترنيق الطائر، وهو أن يخفق بجناحه ويرفرف ولا يطير.
4- الرمز إلى حقائق المعاني، كقولهم: سافر ولا ظهر له، أي: ولا دابة يركب ظهرها؛ وفلان يملك كذا رقبة؛ أي: عبدًا؛ وقطع الأمير اللص، أي: قطع يده؛ وبزلت الخمر، أي: ثقبت دنها، وهلم جرا.
وهذه الجهات الأربع الأصلية تجمع أنواع المجاز وكل ما يحمل على هذه الأنواع، ثم هي معان تشبه أن تكون تاريخية في حركة النمو، والاتساع من هذه اللغة، ولذلك استخرجناها وعدلنا إليها عن تقسيم علماء البيان، فإن لهم في بحث المجاز كلامًا مستفيضا مضطربًا لا يؤخذ منه شيء يلتحق بغرضنا في هذا التاريخ.
وقد رأينا أن ننقل مادة من مواد اللغة تمثل هذا الوضع. وكيف اتسعت به اللغة حتى قلب المعنى الواحد على صور كثيرة، وهي مما نقله بعض اللغويين مثالًا لما نحن بسبيله؛ ومثل هذه المادة كثير في اللغة تطفح به معاجمها، وإنما خصها بالذكر لسعة التصرف فيها ووضوح المآخذ، وهي مادة "ك ف ف".
وأصل المعنى فيها: الكف، وهي الجارحة المعروفة، والكلمة مشتركة بين العربية وغيرها من اللغات السامية، ومأخذها في العبرانية والسريانية من معنى الانحناء والانعطاف. هذا أصلها.
ثم اشتقوا منها قولهم: كفه عن الأمر، إذا منعه، كأنه دفعه بكفه، فنقلوا معنى الكف إلى لازمها، وهو من المجاز المرسل.
وقيل من هذا: كف هو عن الأمر، إذا امتنع، فنقل الفعل من التعدي إلى اللزوم، وهو من قبيل ما سبقه.
ثم قيل: استكف السائل، وتكفف، إذا طلب بكفه. ويقال أيضًا: استكف بالصدقة، إذ مد يده بها يعطيها؛ فضمن الأول معنى الاستعطاء، والثاني معنى الإعطاء؛ وكلاهما مما ذكر.
ومن هذا القبيل قولهم: استكففت الشيء، إذا استوضحته بأن تضع كفك على حاجبك كمن يستظل من الشمس، فاستعمل هنا في معنى آخر من لوازم الكف.(1/120)
ومن معنى كف عن الأمر قيل: كف بصره؛ وهو من المجاز المرسل، من قبيل استعمال العام في الخاص.
وفي مثل مأخذه قولهم: وكفاف من الرزق أي: ما كف عن الناس وأغنى.
ثم قيل من معنى الكف للجارحة: كفة الميزان، وكفة المقلاع؛ لشبهها بالكف في الهيئة، وهي من الاستعارة.
ثم استعيرت الكفة لعود الدف بكفة الميزان في الاستدارة والإحاطة، ومثلها الكفاف: وهو ما استدار بالشيء.
والكفة أيضًا النقرة المستديرة يجتمع فيها الماء، وهي مما ذكر.
ومن معنى الاستدارة قيل: كفة الصائد، وهي الحبالة يجعلها كالطوق، ومثلها كفة اللثة، وهي ما انحدر منها على أصول الأسنان، وكفة القميص، وهي ما استدار حول الذيل، وكذلك كفة الدرع، وهي أسفلها.
ثم قيل من هذا المعنى: استكفوا حوله، إذا أحاطوا به ينظرون إليه؛ واستكفت الحية إذا ترحت، أي: استدارت كهيئة الرحى.
ومن كفة القميص قيل: كفة الثوب وغيره، وهي حاشيته.
ومن معنى الحاشية قيل: كفة الشيء، بمعنى حرفه؛ وكفاف السيف "بالكسر" بمعنى غراره "أي: حده"، وكل ذلك على التشبيه.
ثم قيل من معنى الحاشية: كف القميص؛ إذا خاط حاشيته.
ومن معنى الحرف: كف الإناء، إذ ملأه ملأ مفرطًا، كان المعنى ملأه حتى بلغ كفته.
وبقيت معان من هذه المادة ترجع إلى معنى الكف، أو شيء من المجاز المأخوذ عن بعض المعاني الراجعة إليه، بحيث ترى المعاني سلسلة متصلة من أول المادة إلى آخرها. وهذا هو الأصل الذي عليه معظم كلامهم؛ فإذا تدبرته رأيت أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، وتبينت صحة قولهم: إن منكر المجاز في اللغة جاحد للضرورة ومبطل محاسن لغة العرب.
وقد ذكروا أن بعض العلماء يذهبون إلى أن اللغة كلها حقيقة، وأن تسمية الرجل بالأسد لغة لقوم، وتسمية الحيوان المفترس بالأسد لغة أخرى.... وهو رأي بيّن الأفن، وأكبر ظننا أنه لم يقل به أحد وإنما أورده بعض علماء الأصول؛ لأنه مما يتمحل له ويرد عليه ويكون مادة في الجدل؛ وذلك من أمرهم، والله أعلم.(1/121)
أنواع النمو في اللغة:
تلك هي طرق الوضع التي سلكوا منها إلى اللغة في كل أطوارها، حتى أصبحت من الاتساع والنمو ما هي، ولكن لهذا النمو أنواعًا تحدد في جملتها أجزاء هذه اللغة، وتصف تاريخ اتساعهم فيها، وهي من هذه الجهة تعتبر تمامًا على الذي تقدم وتفصيلًا له؛ وتلك هي: الإبدال، والقلب، والنحت، والترادف، والاشتراك، والتضاد، والمداخلة بالتعريب، والتوليد؛ ونحن نوفيها حظها من الكلام على مقدار حظها من التاريخ.
الإبدال:
وهو إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، كما يقولون: مدح، ومَدَه: واستعدى عليه، واستأدى.
وقد أسلفنا في الكلام على أصل الوضع أن الدورة الجديدة التي دارت بها الحروف بعد وضع المقاطع الثنائية، كانت بالقلب والإبدال؛ والدليل على ذلك أن أكثر ما يجري فيه الإبدال من اللغة إنما هو الألفاظ الطبيعية الأولى التي كانت من حاجة الإنسان أدل عهده بالتعبير: كالقطع، والكسر، والهدم، والشق، والخرق، والفرقة، والتبديد؛ وهي المعاني الوحشية في لغة الإنسان. ثم لما انقاد الوضع بهذه الطريقة لأهل اللغة، جعلوها من سنتهم وقلبوا عليها الألفاظ الأخرى مما ليس بسبيل من تلك المعاني؛ والغريب أن فعل القطع يكاد يكون الأصل في أكثر هذه اللغة؛ فقلما تناولت مادة إلا رأيت أثره المعنوي فيها، ولو تأويلًا من طريق المجاز؛ وهذه أيضًا مما يؤكد أن اللغة نطق عن الطبيعة.
ثم إن الإبدال من حيث اعتبار الوضع اللغوي فيه، نوعان: الأول أن يكون لغات مختلفة لمعان متفقة: كلعلني ولألني. وإن فَعَلَ، وهِنْ فَعَلَ، ونحوها مما مر في اختلاف اللهجات؛ فيختلف اللفظان للأسباب اللسانية في القبائل المختلفة، ثم تحفظ صورة كل لفظ على أنها لغة، فلا تشترك العرب في النطق بالصورتين تعمدًا منها لتعويض حرف من حرف، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون، وقد سأل اللحياني أعرابيا. أتقل: مثل حَنَك الغراب، أو مثل حَلَكه؟ فقال: لا؛ أقول مثل حلكه. وسأل أبو حاتم أم الهيثم الأعرابية: كيف تقولين أشد سوادًا مماذا؟ فقالت: من حَلَك الغراب. فقال: أفتقولينها من حنك الغراب؟ قالت: لا أقولها أبدًا.
والنوع الثاني ما يتعدد فيه الوضع في لغة القبيلة الواحدة، فتقوم كل من الصورتين بمعنى لا يصح استعمال الأخرى فيه، وعلى هذا النوع يتوقف نمو اللغة واتساعها، كقولهم: لطمه: ضربة بكفه مفتوحة؛ ولَذَمه: ضربه بشيء ثقيل يسمع صوته؛ ولثم أنفه: لكمه؛ ورثمه: كسره؛ ورضم به الأرض: ضرب؛ وكذلك مما يرجع إلى معنى الأكل: قضم أي: أكل بأطراف أسنانه، أو أكل يابسًا؛(1/122)
وخَضِمَ: أكل بأقصى الأضراس، أو أكل رطبًا؛ وقطم أي: عض، أو تناول الشيء بأطراف أسنانه فذاقه؛ وكزم الشيء: كسره بمقدم فمه واستخرج ما فيه ليأكله؛ وكدمه: عضه بأدنى فمه؛ وقشم: إذا نقى من الطعام رديه وأكل طيبه؛ ونحو ذلك من الأمثلة الكثيرة في اللغة؛ فكل أولئك إنما يقع فيه الإبدال لتجزئة المعاني، فترى الألفاظ متقاربة ترجع إلى مقطع واحد، وهي بعد متباينة في الدلالة؛ وكذلك ترى معاني كل طائفة منها ترجع إلى جنس واحد ثم تتباين متقاربة؛ وبهذا يتحقق الارتباط المتسلسل الذي هو برهان التاريخ على النشء اللغوي. وقد تجد للمعنى الواحد ألفاظًا متعددة في اللغة، ثم تجد كل لفظ قد صار أصلًا في الدلالة وتفرعت عنه ألفاظ أخرى عن طريق الإبدال، ثم يدل بكل لفظ على جزء من أجزاء المعنى، كما تجد من ألفاظ القطع مثلًا: قَطّ وقَصّ، وجَدّ، وغيرها، فإن هذه الألفاظ وضعت في الأصل حكاية لأنواع من أصوات القطع، إما حقيقية أو متوهمة، فقد تسمع أنت صوت الشيء المقطوع كأنه "قط" ولكن غيرك يتوهمه كأنه "قَت" وقد يكون لبعض الأشياء المقطوعة أصوات أخرى تحكي "جدّ" أو "كسّ" أو "قصّ" وغيرها. فنرى لفظ "قط" قد صار أصلًا وتفرع عنه: قطع، وقطف، وقطب، وقطم، وقطل، ونحوها. وترى لفظ "قص" قد تفرع عنه: قصم، وقصل، وقصب: وقصر، وقصف. ومن لفظ "جذ": جذب، وجذر، وجذف، وجذم، وهكذا، وكلها معان متقاربة تتقلب معها الألفاظ المتفرعة عن مقطع واحد, وهذا هو أكثر أنواع النمو في اللغة؛ لأنه أصل نشأتها، وللنحويين وأهل الصرف كلام في الإبدال وحروفه مَقِيسه ومسموعه لا يتعلق بغرضنا، ولهذا ضربنا عنه صفحًا.
القلب:
وهو تقديم وتأخير في بعض حروف اللفظة الواحدة، فتنطبق على صورتين بمعنى واحد، كقولهم: جذب، وجبذ، وما أطيبه، وما أيطبه. وأهل اللغة يقولون إن كل ما جاء في هذا القبيل فهو مقلوب وبذلك لا يعتبر إلا لغة واحدة من وضع واحد، وكأن هذا التقديم والتأخير إنما هو عارض في المنطق لسبب من الأسباب اللسانية كالخفة والثقل؛ وتابعهم على ذلك النحويين من الكوفيين؛ أما البصريون فلا يعتبرون القلب إلا متى رأوا أنه لا يمكن أن يكون اللفظان جميعًا أصلين في المعنى اللغوي بحيث يقصر أحدهما عن تصرف صاحبه ولا يساويه فيه، كقولهم: فلان شاكي السلاح وشائك، وجرف هار، وهاير، وحينئذ يعتبرون أوسع اللفظين في التصرف أصلًا للثاني ويعدون اللفظ الثاني مقلوبًا عنه، ويكون ذلك عندهم من قبيل الوضع الواحد.
وكل ما عدا ذلك مما يتصرف فيه اللفظان تصرفًا واحدًا، كجذب يجذب جذبًا1 وجبذ يجبذ جبذًا، فليس بقلب عندهم، وإنما هما لغتان من وضعين مختلفين، وبذا يعد كلا اللفظين أصلًا مستقلا.
وقد صنف علماء اللغة ما جاء مقلوبًا من الألفاظ وعقد له السيوطي في "المزهر" النوع الثالث
__________
1 هذا هو معنى التصرف.(1/123)
والثلاثين، واستقصى فيه كثيرًا من أمثلته، ومنها: صاعقة، وصاقعة، ولعمري، ورعملي, ونحن في ذلك على رأي البصريين؛ لأننا نرى في بعض اللغات المنسوبة "ومنها هذان المثالان" ثبتًا لما ذهبوا إليه.
النحت:
وهو جنس من الاختصار: ينحتون من الكلمتين كلمة واحدة: كعبشمي وعبقسي، وفي النسبة إلى عبد شمس وعبد القيس، وكما ينسب المولودن إلى الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله فيقولون: شفعنتي وحنفلتي1.
ولكن هذا الاختصار إنما هو زيادة في اللغة؛ لأنه يجعل الكلمتين ثلاثًا كما رأيت، فضلًا عما فيه من معنى التصرف بخفة اللفظ مع جميع المعنيين في بعض أنواعه كما قالوا: عجوز صَهْصَلِقْ أي: صخابة، نحتوه من: صهل، وصلق؛ والصلق بمعنى الصوت الشديد، ونحو العَجَمضَى، وهو ضرب من التمر يكون في ضاجم "اسم واد" فنحتوه من "عجم" أي: نوى و"ضاجم".
هذا، وقد ذكر ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الظهير النعماني اللغوي، أن عثمان بن عيسى النحوي البليطي شيخ الديار المصرية كان يسأله "سؤال مستفيد" عن حرف من حُوشي اللغة، فسأله يومًا عما وقع في كلام العرب على مثال "شَقَحْطَب" فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه أن الكلمة منحوتة في كلمتين "فَشَقَحْطَب" منحوت من "شَقّ حَطَبْ" فسأله البليطي أن يثبت ما وقع من هذا المثال، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه وسماها: "كتاب تنبيه البارعين على النحوت من كلام العرب".
وقد ظن بعض المتأخرين من علماء اللغة أن النحت يقع في الثلاثي أيضًا ومثل له بقوله: نبض الماء إذا سال؛ قال: فإنه يصح أن يكون من "نض" و"بض" وكلاهما بمعنى نبض. وقولهم: مَؤُجَ الماء يمؤج فهو مأج إذا ملح، فلا يكون إلا منحوتًا من "ماء" و"أجاج" وذلك ليس بشيء؛ لأن النحت لا بد فيه من الاختصار الجامع للمعنيين، وهذا لا تجده في نبض؛ لأنه مرادف لبض ونض؛ ولأن أقرب ما يظن في المأج أن الكلمة مأخوذة من الموج ولازمه الملوحة.
والعلماء كلهم مجمعون على أن النحت لا يُعْرَف في الثلاثي.
ومن أنواع التصرف بالنحت في العربية هذه الحروف2؛ فإن من العلماء من يذهب إلى أنها بقايا كلمات، وقد نص بعضهم على ذلك في أحرف المضارعة، فقال: إنهم أخذوا الهمزة من "أنا" والنون مم "نحن" والتاء من "أنت" وعدلوا عن الواو من هو إلى الياء لكونها أخف منه، وجعلوا الأحرف دليلًا على ما كانت تدل عليه الأصول تقريبًا، فكملت المعاني مع وجازة اللفظ.
__________
1 قلت: كذا في الأصل، ولعله من اصطلاح بعض المتأخرين من الفقهاء، والذي يطابق مذهبهم أراه أن تكون: شفحتي، وحنشفي؛ بوزن عبشمي في كليهما.
2 قلت: الحروف من أنواع الكلام: ما دون الأسماء والأفعال.(1/124)
وقد تتبع علماء اللغات بعض الحروف في اللغات السامية ليعرفوا من أين أخذت وكيف انتهت إلى العربية على هذا الوجه فاهتدوا من ذلك إلى بعض ما يرجح أنها منحوتة؛ ومن هذه الأمثلة التي عيّنوا أصلها، باء الجر؛ فإنها تستعمل في العربية لمعان كثيرة؛ كالإلصاق، والتعدية، والاستعانة ... إلخ، والأصل في ذلك الإلصاق كما نصوا عليه، ولكنها لا تستعمل في غيرها من اللغات السامية إلا للظرفية؛ فرأوا أن أصلها "بيت" في العبرانية، ثم جاءت "بي" في الكلدانية، ثم الباء وحدها في العربية، فكأن الباء بقية من لفظ "بيت" كمل بها المعنى الأصلي مع وجازة اللفظ وسعة التصرف؛ وهو بحث طريف ظريف.
المترادف:
وهو ترادف الفظين فأكثر على معنى واحد، كما تقول: السيف والعَضْب، والأسد والليث والغضنفر؛ والخمر والراح والعقار والقَرْقَف، ونحو ذلك؛ وقد وجدنا كلامهم في هذا النوع يرجع إلى أربعة مذاهب:
1- بعض العلماء ينكر أن يكون في اللغة ترادف مطلق؛ لأن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد، إذ لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة الحكيمة المحكمة.
وهؤلاء يرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة: وأشباع هذا المذهب كثيرون، منهم ابن الأعرابي، وثعلب، وابن فارس.
وقال ابن الأعرابي: إن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا علمه فلم يلزم العرب جهله. ومن أمثلة هذا الذي عرفوه وبينوا وجهه، قول العرب: قعد وجلس. وقال ابن فارس: إن في "قعد" معنى ليس في "جلس": ألا ترى أن نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد. ثم نقول: كان مضطجعًا فجلس، فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الجَلَس "في اللغة": المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله.
2- بعضهم يذهب إلى إنكار الترادف مطلقًا بقيد الزيادة في معاني الألفاظ المترادفة وبدون هذا القيد: فيعتبر الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء: فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له: كالمهند والصارم والعَصْب ونحوها: ومن القائلين بهذا الرأي أبو علي الفارسي شيخ ابن جني.
وموضع الاختلاف بين هذا الرأي وما قبله، في اعتبار الفرق بين الاسم والصفة، فأصحاب المذهب الأول يعتبرون المترادفات اسماء تزيد معنى الصفة وهؤلاء يعتبرونها صفات محضة.
3- والمذهب الثالث إثبات الترادف ولكنهم يخصونه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد، كما يقال أصلح الفاسد، ولم الشّعَثَ، ورَتَقَ الفَتْق، وشَعَب الصدع، ونحوها، أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد فيسمونه المتوارد: كالخمر والعقار، والليث والأسد،(1/125)
وغيرها؛ وهذا المذهب من تقسيم بعض علماء الأصول.
4- والمذهب الرابع إثبات الترادف مطلقًا بدون قيد ولا اعتبار ولا تقسيم، وعليه أكثر اللغويين والنحاة، وقد قال ابن درستويه في هؤلاء:"إنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة، وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها. ولم يعرفوا العلة فيه والفروق فظنوا أنهما "أي: اللفظين المترادفين" بمعنى واحد وتأولوا على العرب هذا التأويل من ذات أنفسهم؛ فإن كانوا قد صدقوا في ذلك عن العرب فقد أخطئوا عليهم في تأويلهم ما لا يجوز في الحكمة".
والصحيح من ذلك كله أن أوضاع العرب تختلف؛ لأنهم متصرفون في اللغة لا يعرفون لها قيودًا اصطلاحية، وما من عربي إلا وهو في حكم العرب كلهم باعتبار الفطرية اللغوية التي يرجع إليها أصل الوضع؛ لأن اللغة مفردات وضعها أفراد، وقد كانت لهم أشياء كأنها مظاهر الطبيعة المتسلطة عليهم بمعانيها المتناقضة وصفاتها المتباينة لبلوغها الغاية في مألوفهم من اللذة والألم والمنفعة والمضرة، وهذه يراها كل عربي ويحدث عنها ويصفها على ما يجد في نفسه من أثرها، وعلى ما يراه من صفاتها المختلفة، فلا جرم اختلفت الألفاظ الموضوعة لها بحسب ذلك.
ومن هذه الألفاظ ما يكون أسماء من وضع القبائل المتعددة تسمع كل قبيلة لغة الأخرى فيأخذ بعضها عن بعض استطرافًا وتوسعًا في الكلام، ومنها ما يكون صفات يتصرف في ضوعها أفراد كل قبيلة فلا تختص بالوضع الواحد لما عَلِمتَ من اختلاف السبب الحامل على اشتقاقها، ثم تنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العرفية بعد أن تكون قد فشت في الاستعمال وتلتحق ألفاظها بأصل اللغة، وهذا هو القسم الأكبر من المترادفات، كثرت عندهم أسماؤه وصفاته لما أشرنا إليه آنفًا، وأشهر ما ورد منه، أسماء العسل وهي 80، والأسد 350 وقيل 500 وقيل 670، والحية 200 وقيل 500، والداهية 400 وقيل أربعة آلاف1، والحجر 70، والكلب 70، والسيف 30 وقيل: 1000، والناقة 255، والبعير ألف2، والشمس 52، والخمر 100 وقيل 200، والبئر 88، والماء 170، وغير ذلك وخاصة ما يدخل في باب الصفة، كصفات الطويل والقصير والشجاع والجبان والكريم والبخيل ونحوها من الصفات الشائعة التي أجمعوا على مدحها أو ذمها؛ وقد استوفى صاحب "المخصص" في
__________
1 تختلف هذه الأسماء كثرة وقلة باعتبار سعة الرواية وضيقها؛ فمن الرواة من يجوز كل ما اتصل به، ومنهم من يضيق فللا يروي إلا ما صح عن العرب، وقد يكون الاختلاف من الاقتصار على الأسماء دون الصفات عند قوم، وعد الأسماء مع الصفات عند آخرين.
2 مما يثبت ما ذهبنا إليه في تعليل الترادف, أنه ليس في كلام العرب اسم جمع ست مرات إلا الجمل؛ فإنهم جمعوه: أجملًا؛ ثم أجمالًا، ثم جاملًا، ثم جمالًا، ثم جمالة، ثم جمالات: جمع الجمع، وأكثر ما يكون الجمع عندهم هو مرتين أو ثلاثًا لا يجاوزون ذلك، وإنما كان هذا لمكان الجمل من العرب جميعًا، إذ هو حبل الحياة الذي تعتصم به أرواحهم من طوفات الطبيعة العربية؛ ولما كانت الناقة أكرم عليهم منه جمعوها سبع مرات فقالوا: ناقات، ونوقًا، وناقًا، وأيانق، ونياقًا، وأينقًا، وأنواقًا. ا. هـ.
قلت: عد صاحب القاموس من جموع "الجمل" ثماني، وزاد على ما ذكر المؤلف: جمل "بضم فسكون"، وجمائل وأجامل، وعد من جموع "الناقة" أحد عشر. وزاد: أنؤق، وأونق، وأنواق، ونياقات.(1/126)
كتابه قسمًا كبيرًا منها.
وعلى أن ثمة شيئًا هو أكثر ألفاظ العربية ترادفًا، وهو "الميل الجنسي" فلا تكاد تتصفح مادة في "القاموس المحيط" حتى تصيب من مترادفاته لفظًا أو أكثر؛ وذلك مما يثبت ما بيناه من سبب الترادف الكثير الذي هو مثار العجب.
أما النوع الثاني من المترادف وهو القسم الأصغر منه الذي تقل فيه ألفاظ المعنى الواحد، فإنه يكاد يكون طبيعيا في اللغات كلها؛ ومأتاه في العربية من اختلاف الأوضاع لتعدد القبائل: كالمدية في لغة دوس والسكين في غيرهم، ولا يتعين في مثل هذا النوع أن يكون في كل كلمة زيادة في المعنى والفائدة عما في غيرها؛ لأن كلا اللفظين موضوع لمعنى واحد لا زيادة في دلالته، إلا إذا اعتبرنا أصل الاشتقاق والسبب الحامل للواضع على أن يضع وإلا إذا كان كل اللفظين يمثل حالة مما يصح فيه الاختلاف كجَلَس وقَعَد مثلًا، وتجد لأهل الاشتقاق في هذا المذهب تعسفات كثيرة وتأويلات باطلة كقول بعضهم إن الإنسان سمي إنسانًا باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه يؤنس؛ وسمي بشرًا باعتبار أنه بادي البَشَرَة ... فكأن لفظ النسيان الذي يدل على معنى جزئي معقول وضع قبل لفظ الإنسان الذي هو مدلول اللغة كلها. وذلك هو التاريخ الميت الذي حسابه عند ربه.
وقد أفرد بعض العلماء أنواع المترادف بالتأليف، فوضعوا كتبًا في أسماء الأسد والحية والسيف والداهية وغيرها، ولصاحب القاموس كتاب سماه "الروض المسلوف، فيما له، اسمان إلى الألوف" ولم يعثر عليه أحد لا رأينا منه مادة منقولة في كتاب من الكتب.
المشترك:
وهو عكس المترادف؛ لأنه مجيء اللفظ الواحد لمعنيين فأكثر: كالأرض لهذا البسيط، ولأسفل قوائم الدابة، وللنُّفْضة والرِّعدة، وللزكام؛ وأرض الخشبة، وهو أن تأكلها الأرضة. وهذا لا شك في أن مأتاه من تعدد الوضع وتباين اللغات؛ لأن الألفاظ متناهية والمعاني لا تتناهى، فإذا وزعت هذه على تلك لزم الاشتراك واختصاص اللفظ الواحد بمعنيين أو أكثر. والقسم الأكبر من المشترك كلمات معدودة، أشهرها ما تعلق عليه شعراء المتأخرين كما ستعرفه في بحث الصناعات اللفظية، وجملة ذلك خمسة ألفاظ وهي: العين، والخال، والهلال، والغرب، والعجوز.
فمن معاني العين مثلًا: عين الإنسان، والنقد من الدراهم والدنانير، ومخرج ما البئر، ومطر أيام لا يقلع، والجاسوس، ونفس الشيء.... إلخ. وقد توسع المتأخرون من الشعراء في معاني هذه الكلمات لتبلغ بها أنفاس القوافي كما سنذكر في موضعه إن شاء الله. لا جرم أن الاشتراك وجه من وجوه الوضع في اللغة؛ فإن أكثره راجع إلى الاشتقاق والمجاز كما يقال مشي من المشي، ومشي إذا كثرت ماشيته؛ وكما نقلوا من أسماء الطير لأجزاء الفرس، فسموا العظم الذي في أعلى رأسه بالهامة وهو اسم طائر، وسموا دماغه الفرخ، والجلدة التي تغطي الدماغ بالنعامة، والعظم الذي تثبت عليه الناصية بالعصفور ... إلخ وهي عشرون اسمًا.(1/127)
المشجر والمسلسل:
وقد استخرج اللغويون من الاشتراك في اللغة ومداخلة الكلام للمعاني المختلفة نوعًا سموه المشجر، وبعضهم يسميه المسلسل، متابعة لرواة الحديث فيما يناظر هذا النوع عندهم؛ وذلك أن يجيئوا بالكلمة المشتركة فيعتبرونها شجرة يفرعون من معانيها المختلفة فروعًا ويسترسلون في تفسير الكلام على الوجه المشترك حتى تبلغ الشجرة مائة كلمة أو أكثر، وكلها متسلسلة من كلمة واحدة.
تاريخ هذا النوع:
وأول من وضع كتابًا ففي ذلك أبو عمرو المطرز الراوية المتوفى سنة 345هـ فقد عمل عليه كتابه الذي سماه "المداخل في اللغة" وكان يعاصره أبو الطيب اللغوي المتوفى بعد سنة 350هـ بقليل، فعمل كتابًا سماه "شجر الدر" وجعل كل شجرة مائة كلمة، إلا شجرة ختم بها الكتاب عدد كلماتها 500 وقال في كتابه: إنما سمينا الباب شجرة لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي: تداخله. فأخذ وضع المطرز وزاد فيه وابتدع له تسمية جديدة، ثم جاء أبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي المتوفى بمدينة قرطبة سنة 538هـ فوضع كتابه الذي سماه "المسلسل" وقال في مقدمته: "كان سمع علي كتاب المداخل في اللغة لأبي عمرو المطرز رحمه الله، فاستنزرته لقدره، ولم أحظ بهلاله فيه ولا بدره، فرأيت أنه رأى لم تستوف تمامه، وغرض لم تُقَرْطِسه سهامه، ولعله إنما ارتجله ارتجالًا، وجرت ركائبه فيه عجالًا، فلم يدمث خزنه، ولا أقام وزنه، ولا استوفى غرره، ولا استقصى درره، فحركني ذلك إلى صلة ما ابتدأ، وتمكين ما رسم فيه وأنشأ".
وقد ضمن كتابه خمسين باباً افتتح كل باب منها بشعر عربي وختمه بمثل ذلك.
أمثلة:
من أمثلة كتاب أبي الطيب:
"شجرة": العين عين الوجه، والوجه القصد، والقصد الكسر، والكسر جانب الخباء، والخباء مصدر خابأت الرجل إذا خبأت له خبءًا وخبأ لك مثله، والخبء السحاب.
ثم انسحب على هذا الأثر بعد "العين". وقد نقل السيوطي هذه الشجرة في مزهره في النوع الحادي والثلاثين.
ومن أمثلة المسلسل هذا الفصل فيه وقد حذفنا شواهده اختصارًا، قال:
أنشد أبو عبيدة لصبيان الأعراب، وتروى لامرئ القيس:
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل
ينادي الآخر الأل ... ألا حلوا ألا حلوا
الأل الأول، وأول يوم الأحد، والأحد هو الوحد، والوحد الفرد، والفرد الثور، والثور الظهور، والظهور الغلبة، والغلبة جمع غالب، وغالب أبو لؤي، ولؤي تصغير اللأي، واللأي الثور،(1/128)
والثور فحل البقر، والبقر الفرق، والفرق تباعد ما بين الثنايا، والثنايا العقاب، والعقاب الموالاة، والموالاة المظاهرة، والمظاهرة لبس ثوب على ثوب، والثوب الرجوع، والرجوع الكر، والكر حبل النخل، والنخيل الخيار، والخيار الحكم، والحكم الحكمة، والحكمة العلم والعدل، والعدل القيمة، والقيمة الثمن، والثمن العوض، والعوض البدل، والبدل الخلف، والخلف الجبر، والجبر إصلاح الكسر, والكسر كسر جانب البيت, والبيت الزوج, والزوج النمط, والنمط من الناس الضرب, والضرب من الرجال الممشوق القد، والقد قطع السير، والسير سرعة المشي، والمشي سعي الواشي، والواشي المحسن، والمحسن اسم إنسان، والإنسان صبي العين، والعين خاصة الملك، والملك الصَّيْدَن، والصيدن الثعلب، والثعلب ما يدخل السنان من القناة، والقناة القامة، والقامة جمع قائم، والقائم مقبض السيف، والسيف الضرب به، والضرب الذهاب في الأرض، والأرض الرعدة، والرعدة الرعش، والرعش سرعة الظليم، والظليم اللبن قبل الروب، والروب خثارة النفس من كثرة النوم، والنوم الكرى، والكرا طائر، والطائر عمل العامل، والعامل من الرمح الصدر، والصدر "الأول" ا. هـ.
وهذا الإتساع مما اختصت به العربية دون سائر اللغات, وللمشجر معنى آخر في صناعات النظم نذكره في موضعه من "باب الصناعات".
الأضداد:
والتضاد نوع من الاشتراك، وهو من أعجب ما في أمر هذه اللغة؛ لأنه إيقاع اللفظ الواحد على معنيين متناقضين، ومثل ذلك إذا لم تصح فيه الحجة ولم ينهض به الدليل كان عبثًا؛ لما فيه من التباس أطراف الكلام ورجوع بعضه على بعض بالنقض, وإن أصحب من القرينة بما يوضح تأويله ويعين جهة الخطاب فيه؛ وذلك ما لا يمكن أن يغمز فيه على العربية وهي بخصائصها وسنن أهلها في الوضع والتصرف تعتبر كالعقل المدرك في جمجمة اللغات. وحاصل كلامهم في الأضداد يرجع إلى أربعة مذاهب:
1- إبطال الأضداد وأن اللغة في ذلك تجري على وجه واحد؛ وهذا مذهب لم نتحققه ولم نتصفح شيئًا من آراء القائلين به، وإنما أخذناه مما نقله السيوطي في "المزهر" عن ابن درستويه المتوفى سنة 347هـ، في "شرح الفصيح" قال: "النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قد ناء إذا طلع. وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضًا وأنه من الأضداد، وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا -الذي عملناه- في إبطال الأضداد ... ".
2- إثبات التضاد متى كان إيقاع اللفظ على الضدين في لغة القبيلة الواحدة؛ لأن التضاد يكون متحققًا في الوضع حينئذ. ومن أصحاب هذا الرأي ابن دريد، قال في "الجمهرة": الشعب الافتراق، والشعب الاجتماع؛ وليس من الأضداد وإنما هي لغة القوم.
3- إثباته على أن لا يكون من وضع القبيلة الواحدة؛ لأنه من المحال أن يكون العربي أوقع اللفظ على الضدين بمساواة بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره،(1/129)
ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء. وذلك رأى الجمهور من العلماء.
4- إثباته مطلقًا من وضع واحد أو متعدد، واعتبار الضد معنى مشتقا من أصل الوضع؛ فالأصل لمعنى واحد ثم تدخل على جهة الاتساع. وأصحاب هذا الرأي يعتلون لذلك بإمكان رجوع الضدين إلى باب واحد في الاشتقاق أحيانًا، كقولهم: الصريم، يقال لليل وللنهار؛ لأن كليهما ينصرم من الآخر، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وهذا المذهب كما ترى جدلي، ونظم القائلين به من علماء الكلام.
والذي عندما في ذلك أن التضاد ليس قديمًا في اللغة، ولا هو من سنن الوضع عند العرب؛ لأنه لا تمس إليه الحاجة الطبيعية، وليس في كل ما ورد من ألفاظه لفظة واحدة تفتقر إليها اللغة، فلا بد أن يكون أصله حادثًا في زمن النهضة التي تقدمت الإسلام حين اختلطت القبائل وانصرف العرب إلى زينة المنطق والتملح في الكلام، فهو تفنن تدخله بعض القبائل في لغتها وتتوسع به لإحدى المناسبات المرهونة بأوقاتها، ثم يعرفون به ويمضون عليه في التعبير فيثبت في ميراث القبيلة في اللغة. ومما يرجح ذلك أن الألفاظ التي يتحقق فيها معنى التضاد الطبيعي قليلة: كالسدفة للضوء والظلام، والصريم لليل والنهار، والجنون للأبيض والأسود، والسجود للانحناء والانتصاب، ونحوها؛ وقليل منها منسوب للقبائل التي استعملته على وجهيه.
أما أكثر ما يعدونه من الأضداد فمعظمه حادث في الإسلام، اقتضاه تصرفهم في اللغة على ضروب من الإشارة والإيجاز؛ فهو تفنن محض لا يرجع إلى الوضع الواحد ولا المتعدد، بل يكاد يعد نوعًا من البديع أو الصناعات اللفظية1؛ ومن يقرأ كتاب "الأضداد" لأبي بكر بن الأنباري ويتدبر معاني ما فيه, ويعتبر نسبة الشواهد التي جاء بها يتحقق ما ذهبنا إليه؛ وقد رأيناهم ربما اختلفوا في تفسير الكلمة فعدوا ما يقتضيه الاختلاف من التضاد أمرًا واقعًا في حقيقة المعنى، كاختلافهم في معنى "أشد" من قولهم: بلغ فلان أشده؛ فإن منهم من يفسرها ببلوغ ثماني عشرة سنة، ومنهم من يقول ببلوغ أربعين أو ثلاث وثلاثين، وبهذا الاختلاف المتناقض يعدون اللفظة من باب الأضداد.... وربما تزيد بعض أهل اللغة فيتوسع في تفسير الكلمة بالمعنيين المتضادين ليدل بذلك على اتساع علمه، كقول بعضهم في "الضد" نفسه: إنه يقع على معنيين متضادين، يقال: فلان ضدي، أي: خلافي، وهو ضدي أي: مثلي. قال ابن الأنباري: وهذا عندي قول شاذ لا يعمل عليه؛ لأن المعروف من كلام العرب: العقل ضد الحمق، والإيمان ضد الكفر؛ والذي ادعى من موافقة "الضد" للمثل لم يقم عليه دليلًا تصح به حجته.
__________
1 وقد جاءت من البديع مبنية على التضاد لفظًا، أو معنى، كالمطابقة، وهي الجمع بين الضدين لفظًا كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} والتهكم أيضًا وهو الإتيان بلفظ في موضع الضد من معناه كقوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ومن ذلك، الهجو في معرض المدح والمدح في معرض الذم، والمناقضة ونحوها مما لا محل لاستيفاء الكلام عليه في هذا الموضع.(1/130)
ولو صح أن التضاد قديم في اللغة وأنه ثابت في أصل الوضع، لفسد هذا الوضع ولبطلت حكمته؛ ثم لا بد أن يكون من أثر ذلك شيء كثير في منقول اللغة؛ وهو خلاف الواقع؛ حتى إن العلماء كانوا يتميزون من هذا النوع بمعرفة ألفاظ معدودة، كالألفاظ التي عقد لها أبو عبيدة في "الغريب المصنف" باب الأضداد، وهي أربعون لفظة، وهذا ابن الأنباري المتوفى سنة 328هـ وهو من أوسع الناس حفظًا للغة، قد ألف كتاب "الأضداد" الذي قالوا إنه لم يؤلف في الأضداد أكبر منه، وذكر في مقدمته أنه نظر في الكتب التي أحصيت فيها الحروف المتضادة، فوجد كل واحد من أصحابها أتى من الحروف بجزء وأسقط جزءًا، فجمعها في كتابه "ليستغني الناظر فيه عن الكتب القديمة المؤلفة في مثل معناه؛ إذ اشتمل على جميع ما فيها"؛ ومع ذلك لم يشتمل كتابه إلا على قريب من 300 حرف لا يتحقق التضاد في نصفها، والباقي متجوز به ومتوسع فيه.
أما الألفاظ التي رويت من هذا الباب ونسبوها لقبائل مسماة، فقد حرصنا على جمعها اتباعًا لطريقتنا التي نحوناها في هذا التاريخ؛ لأنا نرى في مثل ذلك أشباحًا للمعاني التاريخية التي ذهبت في آفاقها، والشبح إن لم يفصل معاني جسمه، ولم يضبط أجزاءه، فلا أقل من أن يعين موقعه ويظهر منه صورة مبهمة، وذلك فتح عظيم في مثل هذا التاريخ المستغلق بابه، المضروب على الغيب حجابه، وتلك الألفاظ هي:
الرجاء: يستعمل بمعنى الشك، والطمع، واليقين، وكنانة وخزاعة ونصر وهذيل يقولون: لم أرج، ويريدون لم أبال.
وبنو عقيل تقول: لَمَقْت الكتاب ألمقه لموقًا ولمقًا، إذا كتبته؛ وسائر قيس يقولون: لمقته لموقًا إذا محوته.
والسامد في كلام أهل اليمن: اللاهي، وفي كلام طيئ: الحزين.
يقال: شريت إذا ابتعت، ولكنها بمعنى "بعت" لغة الغاضرة.
والسدفة يذهب بنو تميم إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء.
حاب الرجل فهو حائب، إذا أثم، والحائب في لغة بني أسد القائل.
المعصر في لغة قيس وأسد: التي دنت من الحيض. وفي لغة الأزد: التي ولدت، أو تعنست1.
يقال: عين، للخلق كالقربة التي تهيأت مواضع منها للتثقب، وطيئ تقول عين للجديد.
المقور في لغة الهلاليين: السمين، وفي لغة غيرهم: المهزول.
الساجد: المنحني، عن بعض العرب؛ وهو في لغط طيئ: المنتصب.
القلت في كلام أهل الحجاز: نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيغرق فيها الجمل والفيل لو سقط فيها، وهي في لغة تميم وغيرهم نقرة صغيرة في الجبل يجتمع فيها الماء.
__________
1 العانس: التي طالب مكثها في أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار ولم تتزوج قط.(1/131)
رزقه بمعنى أناله، ولكنها في لغة الأزد بمعنى شكره.
وهذا كل ما أمكن العثور عليه في كتب اللغة وغيرها؛ وهو متمم لما استقصيناه من لغات العرب.
الدخيل:
وهو ألفاظ داخلت لغات العرب من كلام الأمم التي خالطتها فتفوهت بها العرب على منهاجها لتدل في العبارة بها على ما ليس من مألوفها، وتجعل منها سبيلًا إلى ما يجد من معاني الحياة؛ لأن أرضهم وديارهم لم تكن الأرض كلها فتنحصر أفلاذها ونتائجها بين أيديهم حتى يتعين عليهم أن يضعوا لكل شيء ضريبه من اللفظ ونديده من التعبير؛ والعجيب أن طبيعة أرضهم ظاهرة التأثير فيما أعربوه، فهم لم يعدوا به حد الضرورة، ولا تجاوزوا مقدار الحاجة الماسة، مما جعل هذا النوع في لغتهم قليل النماء بادي الإمحال.
بل الدخيل في لغة العرب يكاد يكون صورة جغرافية لما عرفوه مما خرج عن حدود جزيرتهم، وقد كان شعراؤهم وتجرهم وأهل الأسفار منهم يحملون إليهم التواريخ والأحاديث كما يحملون عروض التجارة من مصر والحبشة وفارس والهند والروم، فيدخل من ذلك في عادتهم وشعائرهم ويلحقون ألفاظه بلغتهم، سواء منها ما جعلوه على أبنيتهم وما لم يجعلوه؛ لأن قواعد اللغة يومئذ لم تكن كما هي اليوم في حركات الأقلام، ولكنها كانت في حركات الألسنة. وبالجملة فإنهم لم يتناولوا اسمًا من أسماء الأجناس أو الأعلام إلا غيروه متى كان فيه ما ليس من حروفهم، وربما عادوا فغيروا في الحروف العربية أيضًا وتصرفوا في الكلمة بالحذف والزيادة، مبالغة في تحقيق الجنسية اللغوية؛ أما إن كانت حروف الاسم الأعجمي من جنس حروفهم فقد يتركونه على حاله، نحو: خراسان؛ إذ ليس في أبنيتهم فعالان، وحُزّم، وألحقوه ببناء سُلم.
فموضع التصرف كما رأيت إنما هو في حروف الكلمة حتى تخرج على وجه من الوجوه العربية الفطرية التي يراعى فيها غير الخفة والثقل، وليس غير الحرف اللفظي ما يغمز من مواضع الإحسان من ألسنتهم، كما فصلناه في بابه؛ ولهذا قال أئمة العربية: تعرف عجمة الاسم بوجوه:
1- النقل، بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية.
2- خروجه عن أوزان الأسماء العربية، نحو إبريسم؛ فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.
3- أن يكون أوله نون ثم راء، نحو: نرجس؛ فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
4- أن يكون آخره زاي بعد دال، نحو: منهدز؛ فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم1 نحو الصولجان والجص.
__________
1 قال الأزهري في التهذيب متعقبًا على هذا القول: الصاد والجيم مستعملان ومنه جصص الجرو، إذا فتح عينيه، وجصص فلان إناءه، إذا ملأه، والصج ضرب الحديد بالحديد.(1/132)
6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو: المنجنيق1.
7- أن يكون خماسيا أو رباعيا عاريًا عن حروف الذلاقة، فإنه متى كان عربيا فلا بد أن يكون فيه شيء منها2.
وقالوا:
1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذولقي؛ ولهذا ليس "الجبت" من محض العربية؛ وهو في القرآن في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .
2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية، ولهذا كان "الطاجن والطيجن" مولدين؛ لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي.
3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط فصاده يدل من السين.
4- يندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كورَل ونحو.
5- قال البطليوسي في "شرح الفصيح": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال إلا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا بغداذ.
6- قال ابن سيده في "المحكم": ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة؛ الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات3.
هذا وقد وجد الباحثون بعد الاستقصاء أن أكثر ما دخل العربية من أسماء المعبودات والمصطلحات الدينية فهو من الهيروغليفية والحبشية والعبرانية: كلفظ النبي4، فإن هيروغليفي، ومعناه في الأصل: عميد أو رب المنزل؛ وكلفظة منبر: فإنه معرب "ومبر" بالحبشية؛ وكألفاظ: الحج والكاهن، وعاشوراء، وغيرها؛ من العبرانية.
أما أسماء العقاقير والأطياب والجواهر فأكثرها هندي كالمسك، فإنه في اللغة السنسكريتية "مشكا"، والزنجبيل وهو فيها "زنجابير"، والفلفل وهو "ببالا أو فيفالا"، وهكذا.
وأكثر ما يكون من أسماء الأطعمة والثياب والفرش والأسلحة والأدوات فهو من الفارسية:
__________
1 في الصحاح: الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلا أن تكون معربة أو حكاية صوت. ومثل لهذه الحكاية بقولهم: جلنبلق، حكاية صوت باب ضخم في حالة فتحه وإصفاقه "جلن" على حدة و"بلق" على حدة.
وقال ابن دريد في الجمهرة: لم تجمع العرب الجيم والقاف، في كلمة إلا في خمس كلمات أو ست.
2 ذلك لأن حروف الذلاقة هي أخف الحروف، وقد مر الكلام في هذا المعنى.
3 كل ما أوردناه في هذا الفصل إنما هو تمام على ما سبق في الأسباب اللسانية فاعتبره بسببه.
4 روى أبو عبيدة أن أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب، فيهمزون النبيء، والبريئة "البرية" وذلك قليل في الكلام، وقد اختلف العلماء في اشتقاق لفظة النبي؛ لأنهم لم يقفوا على أصله؛ وأحسن ما ورد لهم من ذلك ما نقله صاحب المخصص في "باب ما تركت العرب همزه وأصله الهمز" من الجزء 14.(1/133)
كالسكباج، والديباج، والخز، والخوذة، والإبريق، والطست، وغيرها.
وفي "المزهر" فصل معقود لألفاظ أخذتها العرب من الفارسية والرومية والسريانية والنبطية وغيرها، ولكن علماء اللغة كانوا يخلطون في ذلك؛ لأنهم غير متحققين بتلك اللغات ولا بأكثرها؛ والعجيب أنهم يردون أكثر المعربات إلى الفارسية، ولم نكن نظن أن لذلك سببًا غير شيوع هذه اللغة أيام العباسيين، حتى وقفنا على أن مرجع تلك النسبة إلى العصبية؛ فإن كثيرًا من العلماء كانوا موالي أو فرسًا، وقد نصوا على أن بعضهم -كحمزة الأصبهاني والأزهري وغيرهما- كانوا يتملحون لذلك؛ تكثيرًا لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصبًا لهم.
وبلغ من ذلك أن منهم من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية؛ واشتهر بين الأعاجم حديثان، أحدهما قوله فيما زعموا: أن جابرًا صنع لكم سور أي: ضيافة. والثاني قوله: العنب دو دو والتمر يك أي: في تناولهما مثنى وفرادى. وقد حقق العلماء أن لا أصل له، وإنما يتوجه على تلك العصبية التي تشبه أن تكون دينًا لغويا ترغم العربية على انتحاله.
ومن المعرب كلمات معدودة استعملها العرب ولها رديف في لسانهم: كالتامورة للإبريق، والثقوة للسّكرُّجة، والمشموم للمسك، والناطس للجاسوس، ونحوها؛ ولا يعقل أن يستعمل العرب هذه الألفاظ على أنها مرادفات لأوضاعها في لغتهم؛ لأنهم لا يبلغون بالمعرب قوة كلامهم بالضرورة من حيث إنه دخيل على الأوضاع العربية فهو ليس في معنى الأصيل إلا حيث تخلو اللغة من نديده. وعندنا أن بعض تلك الألفاظ إنما كان لمعان غير محدودة بما يطابق عليه بالحد، بل يبقى من الألفاظ المشتركة، وحينئذ كانت اللفظة الدخيلة أولى بالحاجة وأصح في تأدية المعنى اللغوي بحده؛ وقد يكون بعض تلك الألفاظ من وضع قبيلة بعينها، ثم تتناول القبائل الأخرى اسمه بالتعريب لخلو لغتها منه أو لقربها من أسواقه، واختلاطها بأهله، فينطق بالأصيل قوم وبالدخيل أقوام، وقلة هذه الألفاظ المشار إليها مما يحقق ظننا فإن كل ما جمعوه منها نيف وعشرون لفظة.
الدخيل في الإسلام:
ولما فتحت الأمصار على المسلمين ودان غير العرب للإسلام، فشت في منطق المتحضرين ألفاظًا كثيرة من الدخيل بحكم الاختلاط والمعاملة، إلا أن أكثرها لم يلتحق باللغة؛ لأن الرواة أهملوه؛ وكان هذا الدخيل أول أمره بدء انحراف الألسنة عن العربية الفطرية في تاريخ اللحن كما سيأتي في موضعه، ومن ذلك ما ساقه الجاحظ في لغة أهل المدينة، فإنه ذكر أنهم علقوا ألفاظًا من قوم من الفرس نزلوا فيهم، فيسمون البطيخ: الخربز، والسميط: الروزق؛ وأن أهل الكوفة يسمون المسحاة: بال، والسوق، بازار، وذلك كله فارسي.
وكان الأعراب الأقحاح يعجبون لمثل هذا ولا ينطقون به؛ وقد حكى أبو مهدية الأعرابي -ممن أخذت عنهم اللغة- بعض ألفاظ أعجمية كانت فاشية لعهده فأنكرها؛ وإنما ضربها مثلًا لغيرها فقال:
يقولون لي "شنبذ" ولست مشنبذًا ... طوال الليالي ما أقام ثبير(1/134)
ولا قائلًا "زودا" ليعجل صاحبي ... "وبستان"1 في قولي علي كبير2
ولا تاركا لحني لأتبع لحنهم ... ولو دار صرف الدهر حيث يدور
على أن من الأعراب من كان يستظرف بعض الكلمات الأعجمية فيقحمها في شعره على جهة التملح والاستظراف، ونقل الجاحظ من ذلك بعض أبيات في كتابه "البيان".
ثم لما انقضت الدولة الأموية وهي بقية العهد العربي، أقبل العباسيون على اتخاذ البطانة من الفرس والديلم وغيرهم، وهم الذين كانت لهم اليد في بث العلوم واتخاذ المترجمين ونقل الكتب عن الفارسية والهندية واليونانية مما سنفصله في مكانه، فابتدأت من ثم صنعة التعريب، وداخلت اللغة كلمات كثيرة من مصطلحات العلوم: كالطب والفلك والهندسة ونحوها.
ولما أنشأ المأمون دار التعريب التي سماها "دار الحكمة" وهي دار كتبه العظيمة، أرصد فيها علماء لتهذيب الكتب المترجمة وتوجيه الأسماء المعربة من الأعلام والأجناس على ما يناسب المنطق العربي، فكانوا ينحون في ذلك منحى العرب، ويتصرفون في الأسماء بالتغيير والإبدال والحذف، وهذا هو وجه الصعوبة في التعريب؛ لأنه لا ضابط له ولأن الألفاظ العربية محصورة الأوضاع محدودة الصيغ، لا تقبل الزيادة عليها إلا منها، ولا يمكن أن تقحم فيها الألفاظ الأجنبية إلا بعد أن تجانسها وتؤاخيها.
ومن أمثلة هذا التغير الذي جرى عليه العرب ومن بعدهم في أسماء الأعلام: يحيى في يوحنا، وقابيل في قابين، وعيسى في إيسوس3 وطالوت في جليات، والضحاك في ده آك، والأشكري في أسكاريس، وشمشقيق في زيميلساس وسجسطيلوس في سكستيلس، وأشبيلية في هسياليس، وطليطلة في تولاده، وغير ذلك كثير تطفح به كتبهم.
وهذا التغيير الذي لا ضابط له كان سببًا من أسباب الإفساد والتحريف في الكتب؛ حتى لقد تجد الاسم الواحد يتقلب على صور شتى، وبذلك تضيع حقيقته التاريخية: كفيلبس أبي الإسكندر، فإنك تجده في كتب التاريخ العربية: فيلقوس، وفيلثوس وفيلنوس، وفيلبوس، وقنلتوس؛ وقد جاء في تاريخ القرماني: أفطياقوس في أنطيخوس، ثم جاء هذا الاسم في موضع آخر من التاريخ نفسه على هذه الصورة: أبطيحش....
ومن مثل هذا الاختلاف الذي لا بد منه تنبه ابن خلدون حين اعتزم وضع تاريخه المشهور إلى وجوب ضبط هذه الأسماء الأعجمية على وجوهها التي تلفظ بها في لغاتها، فاصطلح لذلك على وضع جديد في الكتابة سنذكره في الكلام على الخط ما كان عند علماء العرب من مثله.
لم يكد ينقضي عصر التعريب العلمي عند العباسيين بعد أن دالت الدولة وتراخت الهمم، حتى
__________
1 شنبذ من قولهم: شون بوذ؛ أي: "كيف"؟ يعنون الاستفهام. وزود: عجل، وبستان: خذ.
2 كذا في الأصل ولم نقف على صوابها.
3 إيسوس: تحريف "يشوع" باليونانية، وقد حذفوا آخره فصار إيسو، وعرب عيسى.(1/135)
استعجمت اللغة وطم الدخيل على المنطق؛ لأن الذين تولوا أمر التعريب يومئذ إنما هم الصناع والمحترفون لا الكتاب والمؤلفون؛ وبذلك صار الدخيل لغة في التاريخ بعد أن كان تاريخًا في اللغة.
وبقي من هذا الفصل كلام في كيفية التعريب، واختلاف الكتاب فيه، والحروف التي يطرد فيها الإبدال، والألفاظ التي عربها المتأخرون أو اصطلحوا على تأدية معانيها، ونحو ذلك مما لا تعلق له بالتاريخ؛ فأمسكنا عن إيراده وإن كان ثروة من الكلام.
أما الكتب التي وضعت في المعرب والدخيل فأجمعها كتاب "المعرّب" لأبي منصور الجواليقي المتوفى سنة 539هـ و"شفاء الغليل" للخفاجي من أدباء القرن الحادي عشر، وكلاهما متداول مشهور.
المولد:
ويسمى المحدث أيضًا، ويراد به في الاصطلاح اللغوي: ما أحدثه المولدين الذين لا يحتج بألفاظهم1، وهم الطبقة التي وليت العرب في القيام على لغتهم من المتحضرين. وذلك يشبه الوضع في بادئ الرأي؛ لأنه استقلال بالمنطق عن الطريقة التي انتهجتها العرب، والعلماء لا يقبلون الوضع ولا يصححون الاستعمال إلا من عربي، لمكان السليقة واعتبار النحيزة، ولذا ميزوا بين الكلام فيما ينقلونه، فقالوا: هذه عربية، وهذه مولدة.
وشرط المولد عندهم أن لا يكون في استعمال أهل البادية ولا في العتيق من كلام العرب، وبهذا قال بعضهم إن "الغضارة" مولدة؛ لأنها من خزف وقصاع العرب من خشب.
وفي "أمالي ثعلب" ما يفهم منه أن المولد عنده كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة بنوع من أنواع التغيير، كأن يكون مهموزًا فتدع همزه، نحو: هَنَاك الطعام، في هنأك؛ أو تبدل الهمزة فيه نحو واخيته في آخيته؛ أو تسقطه، نحو: قفلت الباب، في أقفلته؛ أو لا يكون مهموزًا فتهمزه. نحو: رجل أعزب، في عَزَب؛ أو يكون مشددا فتخففه، نحو: فوهة النهر، في فوهته، أو يكون مخففا والعامة تشدده، نحو: الدخّان في الدخَان؛ أو يكون ساكنًا وتحركه، نحو: حلَقة الباب، وهي الحلْقة؛ أو تبدل فيه حرفًا بحرف نحو: الزمرد وهو بالذال؛ أو يكون مفتوحًا فيكسرونه، نحو الكتان وهو بالفتح؛ أو مكسورًا ويفتحونه، نحو: الدهليز وهو بالكسر، وهلم جرا.
وفي كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة أمثلة كثيرة من هذه الأنواع.
الألفاظ الإسلامية:
وقد سبقت التوليد طبقة من الوضع العربي خرجت ببعض الكلام في الاشتقاق عن معاني الجاهلية، وذلك ما يسمونه بالألفاظ الإسلامية، وقال ابن فارس في أسبابها: كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه
__________
1 سنذكر في بحث شعر من يحتج به في اللغة ومن لا يحتج به.(1/136)
بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفّى الآخر الأول، فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن، والمسلم، والكافر والمنافق؛ وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان، وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافًا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا؛ وكذلك الإسلام والمسلم: إنما عرفت منه إسلام الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء؛ وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر؛ فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع1.
ومن هذا الضرب كل ما استحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسماء: كمصطلحات الفقه والنحو والعروض وغيرها مما يكون له اسمان: لغوي وصناعي، والأصل في جميع ذلك الألفاظ الشرعية التي نقلها النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة إلى الشرع كما رأيت.
وقد كان مثل هذا النقل المجازي في الجاهلية أيضًا؛ لأنه سبب من أعظم الأسباب في نمو اللغة كما تقدم في موضعه، ولكن لم ينسب من ذلك شيء لناقل معين فيما علمنا. إلا كلمة واحدة ذكرها الجاحظ في كتاب "الحيوان"، وهي فيما يقال: إن أول من سمى الأرض التي لم تحفر قط ولم تحرث إذا فعل بها ذلك "مظلومة" النابغة.... وقد تبعه العرب على ذلك، ومنه قيل: سقاء مظلوم، إذا أعجل عليه قبل إدراكه2. وقال الجاحظ في جزء آخر من "الحيوان" وقد ذكر هذه الكلمة: إن النابغة ابتدأ هذا الاسم على الاشتقاق من أصل اللغة، وإن العرب اجتمعت على تصويبه وعلى اتباع أثره.
ومما يلتحق بفصل الألفاظ الإسلامية، كلمات عربية كرهوا النطق بها في الإسلام، كأنهم من خوفهم على العرب أن يعودوا في شيء من أمر الجاهلية احتاطوا فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلق. وأصل ذلك ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله: "لا يقولن أحدكم لمملوكه: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي؛ ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، ولكن يقول: سيدي وسيدتي". وعلة هذا المنع ظاهرة؛ ولكن فيما كرهوه أشياء جاءت بها الروايات ولا تعرف وجوهها. قال الجاحظ: "ولم نسمع في ذلك أكثر من الكراهة، ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر الرواية دون حكاية العلة دون الإخبار عن البرهان وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدة واحدة". ومن ذلك قول ابن مسعود وأبي هريرة: "لا تسبوا الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم" وقد رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورووا عن ابن عباس أنه قال: "لا تقولوا: والذي خاتمه على فمي، فإنما يختم الله عز وجل على فم الكافر". ومما كرهه ابن عباس قولهم: قوس قزح، وقال: قزح شيطان. فكأنه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية في الإضافة إلى الأصنام.
__________
1 ذكروا أن اليربوع يحفر في جحره طريقًا يكتمها تسمى "النافقاء" ويظهر طريقًا مخالفة لها تسمى "القاصعاء" فإذا أتى من جهة الطريق الظاهرة ضرب النافقاء برأسه فانتفق ونجا. وقد قيل إن النفاق لفظ حبشي معناه البدعة والضلالة، وهو في الحبشة من الألفاظ النصرانية.
2 المراد: الوطب يسقى منه اللبن قبل أن يروب.(1/137)
والشياطين وكأنه أحب أن يقال: قوس الله، فيرفع من قدره كما يقال أرض الله وسماء الله. وبقيت أمثال لذلك كثيرة لا نطيل في استقصائها.
أمثلة المولد وكتبه:
وقد علمت أن من المولد هذه المصطلحات التي جاءت بها العلوم، وهي معدودة أيضا من الألفاظ الإسلامية؛ لأنها وضعت في الإسلام، ومنها ألفاظ خاصة بالمتكلمين والرياضيين والفلكيين والأطباء والفقهاء والصوفية وغيرهم، وقد أفردت لها معاجم خاصة بشرحها: ككتاب "التعريفات" للجرجاني، و"كشاف اصطلاحات العلوم" للتهانوي، و"كليات" أبي البقاء، واصطلاحات الصوفية. وأول ما وضع من هذا النوع فيما نظن، كتاب "مفاتيح العلوم" لمحمد بن أحمد الخوارزمي من أهل القرن الرابع، وهو على اختصاره مفيد، جمع فيه مصطلحات أهل العلوم والصناعات المختلفة، ونحن ننقل منه بعض أمثلة توفية للفائدة. فمن ذلك في مواضعات كتاب ديوان الخراج "الحشري" وهو ميراث من لا وارث له -ويعرف في أيامنا بالمحلول- و"الإقطاع" وهو يقطع السلطان رجلًا أرضًا فتصير له رقبتها، وتسمى تلك الأرضون قطائع، واحدتها قطيعة؛ و"الطعمة" وهي أن تدفع الضيعة إلى رجل ليعمرها ويؤدي عشرها وتكون له مدة حياته، فإذا مات ارتجعت من ورثته، والقطيعة تكون لعقبه من بعده. و"التسويغ" وهو أن يترك للرجل شيء من خراجه في السنة، وذلك "الحطيطة والتريكة".
من مواضعات كتاب ديوان الجيش "الأطماع" وتمسى الزرفات: وهي مرتبات الجند، والعمال، و"التلميظ"، وهو أن يطلق لطائفة من المرتزقين بعض أرزاقهم قبل أن يستحقوا، وقد لمظوا بكذا، و"المقاصة" وهي أن يحبس عن القابض لماله ما كان تلمظه أو استلفه.
وقد رأينا لعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المتوفى سنة 340هـ كتابًا سماه "الزاهر" يذكر فيه معاني الكلام الذي يستعمله الناس من المولد أو من الألفاظ الإسلامية؛ ويؤخذ من مقدمته أن المفضل أنشأ كتابًا في هذا المعنى سماه "الفاخر" جمع فيه قطعة من اشتقاق ما يكثر في المحاورات والمخاطبات، فعمل محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328هـ في ذلك كتابه الموسوم بالزاهر فصل فيه كتاب "المفضل" وأكثر شواهده وضبطه، فجاء الزجاجي واختصره وأصلح ما فيه من السهو والغلط وكشفه وشرح معانيه. ومما أورده في هذا الكتاب، معنى قولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وألفاظ القنوط والاستغفار، والأذان والتشهد ونحو ذلك؛ وهو يبحث في اشتقاق الكلام ويذكر الأقوال الواردة في معانيه ويرد أكثر ذلك إلى أصله العربي. ومن أمثلته شرحه لقولهم: "بيت مُزَوق" قال أبو العباس ثعلب: معناه: بالزاووق، والزاووق في لغة بعض أهل المدينة: الزئبق، وهو يقع في التزاويق؛ فمزوق مُفَعَّل منه. ا. هـ.
الغريب المولد:
ونريد به في المولد ما يقابل الغريب والحوشي في العربي العتيق، وذلك كالذي اخترعه بعض المفسرين الذين نصبوا أنفسهم للعامة وحطوا في هواهم؛ فإن المفسر كلما أغرب عند العامة كان أحب(1/138)
إليهم. ومن هؤلاء عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر بن الأصم. وقد نقل الجاحظ أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الويل: واد في جهنم. قال: ثم قعدوا يصفون ذلك الوادي. وسئلوا عن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقالوا: الفلق واد في جهنم، ثم قعدوا يصفونه. وفسروا قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فقالوا: النعيم الماء الحار في الشتاء والبارد في الصيف. أي: فكأنه من الأضداد، ومثل ذلك كثير عن بعض غلاة الصوفية أيضًا، والأصل في جميعه ما أومأنا إليه من الألفاظ المنهي عنها.
وليس يؤتي القوم إلا من الطمع ومن شدة إعجاب العامة بالغريب من التأويل، وهو كذلك الغريب الكاذب في المولد من اللغة.(1/139)
تمدن العرب اللغوي فلسفة الفصل:
هذا فصل من الكلام نرمي فيه إلى أقصى غايات العقل العربي في الحياة، وأدنى آفاقه من الخلود؛ إذ نصف مبلغ ما انتهى إليه من الكمال في وضع هذه اللغة وإحكامها عن سنن كيفما تدبرتها رأيت فيها المعنى الإلهي الذي لا دليل عليه إلا شعور النفس به، والنفس هي البقية السماوية في الإنسان.
تلك السنن التي خرجت بها اللغة كأنها عقل حي تتلامح في جهات الحكمة خطراته وتتراسل من أعين الوحي نظراته؛ بل كأنها معنى إلهي مبتكر ألقي في هذه الطبيعة ليتحول به وجه العالم إلى جهة الله، فما زال ينكشف من أطرافه شيئًا فشيئًا حتى ظهر سر ابتداعه في القرآن الكريم فاتضح عن روعة تملك على الإنسان مذاهب حسه، وتنساب في قلبه لتتصل بالروح الإلهي من نفسه.
وقد وصفنا بما تقدم تكوين اللغة في الجملة بما فيها من أسباب القوة والجمال، ونحن واضعون من هذا الفصل مرآة تصف محاسنها وصفًا معنويا تأخذ الأعين منه تفصيلًا في جملة، وجملة في تفصيل؛ لأنه ليس كالأمور المعنوية ما تجد فيه قوة الإفصاح عن الأسرار الصامتة؛ إذ تكون مقابلة الأوصاف بموصوفاتها نطقًا بليغًا من لسان الحقيقة.
ومن المعلوم بالضرورة أن اللغة صورة الاجتماع، وأن العرب لولا ما سبق في علم الله من أمر سيكون فيهم؛ وقدر واقع بهم، وشأن في الغيب مخبوء لهم, لما عدوا في الاعتبار الاجتماعي أن يعدوا موجودات إنسانية مهملة، كأنهم بقايا منسية من التاريخ.
وقد تقرر عند الحكماء أن غنى اللغة بألفاظها، واتساع وجوه التصرف فيها دليل بين على مدنية أهلها وسعة متفيئهم فيظل الاجتماع؛ فلا يبقى إلا أن يكون للعرب تمدن لغوي خصوا به من أصل الفطرة؛ إذ هم لم يكونوا في معادن العلوم ولا موطن الصناعات، ولا كان في أيديهم من أدوات الأمم ومرافق الاجتماع إلا متاع قليل لا يبلغ بجملته أن يكون تفسيرًا موجزًا للفظ "العرب" في معجم الأمم. فالحكمة التي جعلت من قديم مدنية الفنون في أيدي الصينيين، ومدنية العلوم في رءوس اليونانيين، هي التي خصت مدنية اللغات بألسنة العرب.
وإذا تدبرت معنى التمدن بما يعطيك من آثاره، رأيت له في كل مجتمع صورتين: الأولى صورة الفرد في باطنه، والثانية صورة الجماعة في ظاهرها؛ ولن يكون التمدن حقيقيا إلا إذا كان أساسه نمو الصفات العقلية في الفرد الواحد بما يتهيأ له من الفضائل التي هي مادة التغير العقلي في نموه وإنشائه نشأة جديدة تستتبع نشأة التاريخ في المجموع؛ ولا مراء في أن الأحوال الظاهرة للجماعة إنما هي مرآة التغيرات الباطنة في الأفراد، فكأن الاجتماع في معناه ليس إلا مجموع آثار العقول وتاريخ التغيرات النفسية.(1/140)
ونحن إذا اعتبرنا ذلك في العرب لم نر لهم حقيقة ولا مظهرًا إلا في اللغة؛ لأنه لا يكفي أن يكون العربي على أخلاق فطرية تحميها حدود البادية، وتصونها أسوار الحرية الطبيعية، حتى يقال إن فيها ذاتًا نامية بآدابها؛ لأن هذه الآداب لم تحدث فيهم التغيرات العقلية التي تراءى بها صورة المجموع, إلا في آخر عهدهم الجاهلي حين ضمهم الإسلام، ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة؛ فهي منهم بحر الحياة الذي انصبت فيه جميع العناصر، وانبعث بها هذا التيار العقلي الذي يدفع بعضه بعضًا، وكأنها هي التي كانت تهذب من نفوسهم وتزنها وتعدلها وتخلصها برقة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضاع الكمال من لغته؛ لأنه يتلقنها اعتياديا من أبويه وقومه؛ ولهي أقوم على تثقيفهم من المؤدب بأدبه والمعلم بعلمه وكتبه؛ لأنها حركات نفسية مدارها على انجذاب الطبع فيهم، حتى كان العربي القح ربما أخطأ في الكلمة إذا جذبه طبعه إليها، فيعدل بها عن سنن الفصيح -كما سيأتي في باب اللحن1- والكمال متى كان مأتاه من الطبع. وكانت قوته في الغريزة، فأحر به أن يصنع النفس صنعة غير طبيعية في العادة؛ ونحن نرى العرب لعهدنا لا يزالون في مواطن أسلافهم ولم تتنكر لهم الطبيعة، ولكنهم حين فقدوا خصيصة اللغة فقدوا معها خصائص كثيرة من النظام النفسي، حتى إنهم لا يصلحون في حالتهم الراهنة أن يكونوا مادة نظام سياسي في جزيرتهم، فضلًا عن أن يكونوا مادة حادث اجتماعي عظيم كالإسلام الذي جعله أسلافهم نظام العالم، فكأن بينهم وبين أسلافهم من الفرق ما يستغرق تاريخ العالم كله من عهد الإسلام.
وأخص شروط التمدن الاجتماعي فيما نرى ثلاثة: هي الحرية، والنظام، والنمو. وهي التي تتخلف عن معانيها الاجتماعية آثار المدينة التي تدل على حضارة الأمم الخالية، كالأبنية والمخلفات الأدبية، والعلمية والفلسفية، ثم الثروة الاعتبارية التي تدير حركة العمران، من التجارة والصناعة والزراعة، ثم الشرائع. وهذه الشروط هي كذلك أخص مميزات اللغة العربية, فهي حرة في أوضاعها بها يطابق الحرية الشخصية والسياسية، منتظمة في أجزائها بما يماثل نظام القوانين والشرائع، حتى
__________
1 وكان منهم من يتوهم موضوعًا فيضع عليه ويجذبه إليه طبعه، كقول بعضهم: سؤق، في سوق جمع ساق، ومؤق، في مؤق العين؛ وتعليله عند النحاة أن يتوهم أن الضمة التي قبل الواو واقعة على الواو نفسها، ولذلك يهمزها تخلصًا من ثقل الضم ولا أصل لها في الغمز. وزعم الفارسي أن أبا حية النميري الشاعر كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وإن لم يكن لها أصل في الهمزة؛ فيقول: المؤقدان، أي: الموقدان، ومؤسى، أي: موسى، وهكذا.
وعكس ذلك قولهم أيضًا: الكماة والمراة، في الكمأة والمرأة: كأنهم توهموا فتحة الهمزة واقعة على ما قبلها, فكأنها كمأة ومرأة "بسكون الهمزة" وإذا كانت الهمزة ساكنة وما قبلها مفتوح وأريد تخفيفها قلبت ألفًا فتصير كماة ومراة كما ينطقون. وهذا التعليل -كما قال ابن سيده- من أدق النحو وأظرف اللغة.
ورأينا ابن جني يعلل ذلك في "سر الصناعة" بأن الساكن إذا جاور المتحرك صارت حركته كأنها فيه. قال: ويزيد ذلك عندك وضوحًا أن من العرب من يقول في الوقف: هذا عمر وبكر "بضم الميم والكاف" ومررت بعمر وبكر "بكسر الميم والكاف" فينقل حركة الرا إلى ما قبلها؛ وهذه من اللغات التي لم نذكرها فيما تقدم؛ لأن لها في هذا الفصل مكانًا.(1/141)
أمكن أن يحصى منها كل كلمة جاءت شاذة في بابها1، نامية في مجموعها بما فيها من ثروة الأوضاع التي تكافئ معاني الاقتصاد السياسي على أتم وجوهها.
فالعرب إذن قوم معنويون كان تمدنهم معنويا، ولو جردتهم من مزايا لغتهم وألقيت في أفواههم أصول أي لغة من لغات العالم، لخرجوا بها جنسًا مغمورًا في الأجناس، ولكانت حريتهم عبثًا ونظام قبائلهم فسادًا، ولصاروا في الجملة إلى حال الشعوب التي لا يدور بها الزمان ولكنه يلقي عليهم الأمم كلما دار ويقابلهم بالمكتشفين والفاتحين والمتحفظين وغيرهم من أجناس المجتمعات المتمدنة. بيد أن الحكمة ألقيت في طباعهم هذا النظام اللغوي، وجعلتهم بحيث ينساقون في سبيله إلى الكمال، لا تعترضهم عقبة ولا يصرف وجوههم عنه صارف من نظام المدنية، فمضوا عن ذلك واللغة تتخطى بهم درجات الاجتماع واحدة فواحدة، حتى انتهت إلى الوحدة الجنسية، فتغير مجموعهم وانصب على العالم بقوة جديدة فنية صادفت دولًا قديمة بالية فصدمتها تلك الصدمة التي هدمت التاريخ وبُني بعدها بناء جديدًا. ولولا اللغة ما انتظم أمر العرب؛ لأنهم قضوا أجيالا قبل تمدنهم اللغوي لم ينبه لهم شأن في أنفسهم، ولا عدوا في اجتماعهم أمر النظام الطبيعي الذي هو وسيلة حفظ الحياة لنظام الحي، لإتمام نظام الحياة، كما هو شأن التمدن الاجتماعي، واللغة هي التي جذبتهم إلى هدي الأخلاق بالشعر، وإلى هدي السياسة بالخطابة، وإلى هدي الدين بالقرآن.
بعض وجوه التمدن:
تقدم لنا في غير هذا الموضع ما يثبت أن تأليف الكلام في هذه اللغة مبني على أسباب لسانية, من عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف، بحيث لا يلاق فيه بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحسن السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق في غير المطبق، كتاء الافتعال مع الصاد والضاد، في خلال كثيرة من هذا الشكل ترجع بجملتها إلى ميل العرب فطرة عما يلزم كلامها الجفاء إلى ما يلين حواشيه ويرقها؛ وهذه العناية منهم بتأليف الحروف كانت السبب الطبيعي لعنايتهم بتأليف الألفاظ وإحكام الكلام وتوخيهم روعة الإسلوب وفخامة التركيب، وهو ما خص به العرب دون سائر الأمم.
وقد غفل بعض العلماء عن هذا السبب الطبيعي، فذهب إلى أن العرب إنما تعنى بالألفاظ؛ لأنها تغفل المعاني، فتجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشّوه ودبجوه، ولست تجد مع ذلك تحته معنى شريفًا، بل لا تجده قصدًا ولا مقاربًا، وعلى هذا النمط أكثر أشعارهم. وقد رد على هؤلاء ابن جني في كتاب "الخصائص"، وتمحل في النضج عن العرب؛ لأنه كذلك لم ينظر إلى السبب الطبيعي الذي أومأنا إليه. قال: "فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا عذوبها "أطرافها" وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ؛ بل هي عندنا خدمة
__________
1 من ذلك كتاب "الشذوذ" لابن رشيد صاحب كتاب "العمدة" المتوفى سنة 463هـ يذكر فيه كل كلمة من اللغة جاءت شاذة في بابها. وما تجد من قاعدة في كتب العلماء إلا ولها شواذ محصورة إن كانت مما يدخله الشذوذ.(1/142)
منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها".
والحق أن ذلك في العربية وجه من وجوه تمدنها، وقد جروا فيه على سنن طبيعية ثابتة؛ لأنهم يفرعون من المعاني فروعًا كثيرة بالمجاز والاستعارة، ثم يجرون عليها الألفاظ التي تناسبها، فكأنهم يستغلونها استغلالًا معنويا. وذلك من أمرهم أيضًا في الألفاظ؛ فإنهم لا يفرطون في مادة تتقلب عليها حروف المنطق بما ينزل على حكمهم في التأليف من العذوبة والمناسبة، فيفرعون الألفاظ المتقاربة فروعًا كثيرة يجرونها على المعاني المتباينة، كقولهم: روأت في الأمر، "فكرت"، ورويت رأسي من الدهن، وأمثال لذلك كثيرة؛ فكأنهم بهذا الضرب يستغلون المعاني استغلالًا لفظيا.
ومن وجوه التمدن التي تناسب طبائع الاقتصاد المدني، هذه الحركات التي تخصص المعاني وتعين الأغراض بأيسر إشارة؛ وهي أخص مميزات السمو العقلي، ومنها حركات الإعراب، كقولهم: ما أحسن زيدًا! إذا أرادوا التعجب من حسنه, وما أحسن زيد؟ إذا أرادوا الاستفهام عن أحسن ما فيه، وما أحسن زيد، إذا أرادوا نفي الإحسان عنه، ولا يوجد ذلك في غير لغة العرب.
ومنها حركات التصريف كقولهم: مِفْتَح، لآلة الفتح، ومَفْتَح، لموضع الفتح، وهكذا.
ومنها حركات الفروق التي تنوع المعاني، كقولهم: الإذلاج، لسير أول الليل، والادّلاج، لسير آخر الليل؛ وأمثلة ذلك فاشية في اللغة.
ومن هذا الباب قولهم: رجل لُعنة وضُحكة، إذا كان يُلعن كثيرًا ويُضحك منه؛ ورجل لَعنة وضُحكة، إذا كان هو كثير اللعن والضحك.
ولعلهم لم ينتبهوا لهذه الفروق بالحركات إلا بعد أن أحدثوا مثلها في لغتهم بالحروف، كقولهم: أخفر، إذا أجار؛ وخَفَر! إذا نقض العهد؛ وأقذى عينه، إذا ألقى فيها القذى؛ وقذاها، إذا نزع عنها القذى؛ وأبعت الفرس، عرضته للبيع؛ وبعته، إذا انتهى البيع؛ وهكذا، فكأن الاختصار دائمًا تمثيل للانتهاء.
ومما يستنفد عجب المفكر من أمر هذا الباب الاقتصادي، تصرفهم في حروف المعاني المفضلة معانيها في كتب النحو، ودلالتهم بالحرف الواحد في الكلمة على المعاني المختلفة، كمعاني الهمزة والباء وغيرهما مما يتصرف به في مناحي الكلام. ويزيد هذا العجب أن لا يكون بين المعنيين أو المعاني الكثيرة وجوه من الشبه بحيث يتأول في رد معانيها الأصول بعضها إلى بعض، وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما رآه بعض علماء اللغات من أن هذه الحروف بقايا ألفاظ مستقلة بمعانيها، فإن صح ذلك كان "عجبًا من العجب".
وهذا وأمثاله، مما يكشف من اللغة عن سر النمو الذي هو أصل من أصول التمدن بالإطلاق، وأن للعرب تصرفًا ليس في لغة من اللغات، وخاصة أختي العربية، فإن الزمن وقف بهما عند منقطع لم يتعده، وكأن العربية منهما قرآن لغوي ومفتتح بهذه القاعدة التي يبنى عليها نظام الارتقاء: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فإن لغة السريان مثلًا لا تجد فيها أثرًا للفعل المبني للمجهول، كضرب زيد أي: ضربه شخص -وذلك من أنواع الاقتصاد اللغوي- وفي العبرانية(1/143)
لا توجد إلا صيغتان ثقيلتان من صيغ الفعل، هذه وزنهما: فُعّال، وهُفْعال؛ ولكن العرب يستعملون المجهول في كل الأوزان، ماضيًا ومضارعًا. وقد فاتوا بذلك لغات الدنيا جميعا.
وتجد العبرانية أيضًا قليلة الأوزان في الفعل المجرد والمزيد بحيث لا تكافئ العربية في ذلك "وقد أسلفنا في موضع تقدم أن صيغة المشاركة التي هي صيغة اقتصادية، مما انفردت العربية به" وإنما وضعت الأوزان لتنمية المعاني وسياستها على وجوهها المختلفة سياسة اقتصادية.
ذلك فضلًا عما امتازت به العربية من العذوبة التي كأنها شباب الحياة ورقتها بجانب ذلك الهَرَم الذي تولى العبرانية، حتى كأن ألفاظها من اللبس والتعقيد أيام الكهولة بأقدارها.... ومما لاشك فيه أن فقدان ذلك السبب الاقتصادي في العبرانية هو الذي ابتلاها بالفقر من نوابغ الكتاب والخطباء لضيق مضطرب التعبير، حتى كأنما ينفذ المتكلم بها إلى أغراضه من صدوع ومضايق، وفي هذا العسر كله.... ولما انتفى ذلك في العربية واستوفت وجوه السياسة الاقتصادية في صيغها وألفاظها، كثر شعراؤها وكتابها وخطباؤها "اللغويون"1 إلى حد ترك رجال سائر الأمم عند الترجيح، في كفة شائلة.
وهنا أصل طبيعي يحسن التنبيه إليه؛ لأنه ثبت لما نحن بصدد منه، وذلك أن التثنية وهي أخص مظاهر الحياة في الطبيعة، لا أثر لها في اللغة السريانية، وهي في العبرانية مقصورة على معناها الطبيعي أو ما يكون في حكمه، فلا يثنون إلا ما وجد اثنين في الطبيعة، كاليدين والرجلين إلخ، أو ما أنزله الاستعمال هذه المنزلة، كالنعلين مثلًا، ولكنها في العربية عامة لكل الأسماء؛ لأن العدد نظام طبيعي عام لا يتخلف، ومنه الإفراد والتثنية ودرجات الجمع من الثلاثة فصاعدًا2.
بقي علينا أن نذكر شيئًا من أسرار النظام في هذه اللغة غير ما سبق لنا بيانه، وهو الصلة بين طرفي التمدن اللغوي الذين هما الحرية والنمو، وقد مضى الكلام عليهما فيما تقدم.
__________
1 خصصنا هذه الكثرة بكونها لغوية؛ لأنها كذلك في الحقيقة؛ إذ القرائح لا تكون من مواهب اللغات؛ واللغة إنما هي أداة من أدوات الحياة لا أكثر، وعندنا أنه ربما كان من شعراء بعض الأمم من يرجع شعراء العرب جميعًا في منزلة شعره، لا في صنعته اللغوية، وكذلك القول في الكتاب والخطباء.
2 مما تتم به فائدة هذا المعنى، أن كلمة "زوج" يراد بها في اللغة الفاشية الاثنان -وقد قلبها العامة وجعلوها جوز- قال ابن الأنباري في الأضداد: وهذا "الاستعمال" عندي خطأ، لا يعرف الزوج في كلام العرب لاثنين: بهذا نزل كتاب الله، وعليه أشعار العرب، قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} أراد بالزوجين الفردين، إذا ترجم عنهما بذكر وأنثى ... والعرب تفرد الزوج في باب الحيوان، فيقولون: الرجل زوج المرأة والمرأة زوج الرجل، ومنهم من يقول زوجة ... وإذا عدلت العرب عن الناس إلى الحيوان فقالوا: عندي زوجان من حمام، أرادوا عندي الذكر والأنثى؛ فإذا احتاجوا إلى إفراد أحدهما قالوا للذكر فرد وللأنثى فردة ... وكذلك يقال للشيئين المصطحبين "زوجان" كقولهم: عندي زوجان من الخفاف ... فمن ادعى أن الزوج يقع على اثنين فقد خالف كتاب الله عز وجل وجميع كلام العرب؛ إذ لم يوجد فيهما شاهد له ولا دليل على صحة تأوله. ا. هـ وأكثر اللغويين على خلافه.(1/144)
أٍسرار النظام اللغوي
نظام الألفاظ بالمعاني
...
أسرار النظام اللغوي:
لا نريد بمعنى النظام هذه الأحكام الظاهرة في اللغة كالإعراب، والتصريف والقواعد اللسانية، من نحو عدم الجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين؛ فهذا كله ليس إلا أسبابًا للنظام الذي نشرحه في هذا الفصل، وهو يشبه النظام النفسي من حيث تعلقه بالحكمة التي تضبط عواطف النفس وخطراتها؛ وقد رأينا ذلك في اللغة على ثلاثة ضروب:
1- نظام الألفاظ بالمعاني.
2- نظام المعاني بالألفاظ.
3- النظام المطلق، وهو نظام القرينة أو الحس النفسي.
نظام الألفاظ بالمعاني:
والمراد به مساوقة الصيغ اللفظية للمعاني الموضوعة لها؛ وقد ألممنا بأشياء منه في باب الاشتقاق، وذكرنا ثمة أن لابن جني صاحب "الخصائص" كلامًا في هذا المعنى؛ وابن جني هذا هو أول من ناهض هذا البحث اتقانًا؛ وتخلى بأمره افتنانًا؛ وإنما كان العلماء قبله يستروحون إلى أشياء منه عند الضرورة يتعللون به، وأكثرهم لزومًا لذلك شيخه أبو علي الفارسي1؛ ولهذا وضع ابن جني كتابه "الخصائص" لبيان ما أودعته هذه اللغة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائم الإتقان والصنعة؛ أقام فيه القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ وإلام نمي؛ وقال في المعنى الذي عقدنا له هذا الفصل: إنه غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهوا عنه.
ومما حاوله في كتابه مما يتعلق بغرضنا سبعة أمور:
1- إثبات أن العرب تقارب حروب الألفاظ متى تقاربت معانيها، كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] أي: تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى "تهزهم هزا" والهمزة أخت الهاء، فكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة؛ لأنها أقوى من الهاء، كما أن المعنى نفسه أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهز ما لا حراك له، كالجذع ونحوه؛ أي: فيبقى الهز المقرون بالإزعاج خاصا بذي الحياة؛ لأنه متعلق بالشعور؛ وذلك ما أفادته الهمزة وحدها.
2- إن هذه المقاربة بين الحروف تقع فيها المراعاة حتى في الحروف البعيدة التي لا تتشابه إلا بالتأويل، كقوله إن تركيب "ع ل م" في العلامة والعَلَم، وقالوا مع ذلك: بيضة غرماء، وقطيع أغرم،
__________
1 توفي الفارسي سنة 377هـ وكانوا يقولون ما بين سيبويه وأبي علي أفضل منه وتوفي ابن جني 392هـ وهو عالم هذه الأمة في التصريف.(1/145)
إذا كان فيه سواد وبياض، وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه، وكان كل واحد منهما "علمًا" للآخر، وهذا المعنى من "غ ر م" ولكنه مقارب لتركيب "علم" كما ترى!
3- إن المقاربة قد تكون بالمضارعة في الأصل الواحد بالحرفين، كسَحَل وصَهل "في معاني الصوت" فالصاد أخت السين، والهاء أخت الحاء، وسَحَل وزحر "في الصوت أيضًا" فالسين أخت الزاي، واللازم أخت الراء.
4- إن من المضارعة نوعًا أحكم من هذا، وهو المضارعة بالأصول الثلاثية في الفعل "الفاء والعين واللام" نحو: عصر الشيء وأزله، إذا حبسه، قال: والعصر ضرب من الحبس، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام، ونحو: الأزم "أي: المنع" والعصب "أي: الشد"، فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين، والزاي أخت الصاد، والميم أخت الباء، وقد أتى بأمثلة من ذلك ثم قال: وهذا موجود في أكثر الكلام، وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه، بل من إذا وضح له وكشفت عنده حقيقته، أطاع طبعه له فوعاه، وهيهات ذلك مطلبًا، وعز فيهم مذهبًا.
5- إثبات أن العرب يصورون اللفظ على هيئة المعنى، وهذا مذهب قد نبه عليه الخليل وسيبويه، قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة، فقالوا: "في العبارة عنه" صر، وتهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صَرْصَر، وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على فَعَلان "بثلاث حركات" إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو: الغَلَيان، فقابلوا بتوالي الحركات في المثال توالي الحركات في الأفعال.
قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه؛ منها أن المصارد الرباعية المضعفة تأتي للتكرر والزعزعة: كالقلقلة والصلصلة إلخ؛ وإن الفَعَلى من المصادر والصفات تأتي للسرعة نحو: الجَمَزَى والوَقَلى إلخ؛ ومنها أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلًا على تكرير الفعل، نحو: كسر وقطع إلخ؛ وإنما خصوا العين بذلك؛ لأنها أقوى حروف الفعل، إذ الفاء قد تحذف، نحو: عِدَة وزِنَة، أصلها وعْدَة، ووزنة، واللام كذلك، نحو يد وفم، أصلهما: يَدَو، وفَمَو، ولكن قلما تجد الحذف في العين؛ فلما كانت الأفعال دليلة المعاني، كرروا أقواها، وجعلوه دليلًا على قوة المعنى المحدث به، وكذلك يضعفون العين للمبالغة، نحو: أسد غَشَمْشَم، ويوم عَصَبْصَب، ونحو: اعْشَوْشَب المكان، واغْدَودن الشعر إلخ. قلنا: ومن هذا الباب ما ذكره ابن فارس أنه سمع من يثق به يقول إن العرب تشوه صورة اللفظ وتقبحها لمقابلة مثل ذلك في المعنى، كقولهم للبعيد ما بين الطرفين المفرط الطول: طِرِماح، وإنما أصله من الطّرح، وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سمي طرماح؛ ومثل ذلك كثير في أبواب الصفات.
6- ومن نظام الألفاظ بالمعاني أنهم يقابلوا الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، فيجعلون كثيرًا أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها كقولهم: خَضم، وقَضم، فالخضم لأكل الشيء الرطب، والقضم لأكل الشيء الصلب اليابس، فاختاروا الخاء من أجل رخاوتها للرطب، والقاف من أجل صلابتها لليابس، فحذوا بمسموع الأصوات على حذو مسموع الأحداث. ومن ذلك(1/146)
النَّضْح، للماء الخفيف، لرقة الحاء، والنضخ لما هو أقوى منه، وذلك لغلظ الخاء. ومنه أيضا قولهم: القد، للقطع طولًا، والقط، له عرضًا؛ وذلك لأن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعًا له من الدال، فجعلوا الطاء لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا، والأمثلة من ذلك كثيرة في اللغة تبادر من يلتمسها، وقد أتى ابن جني بعدة منها، ونقل السيوطي في أوائل "المزهر" عن غيره أشياء أخرى وكلها تدل على أنهم يضبطون الألفاظ المقترنة المتقاربة بالمعاني، فيجعلون الحرف الأضعف فيها، والألين والأخفى والأسهل والأهمس، لما هو أدنى وأقل وأخف عملًا أو صوتًا، ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر، لما هو أقوى عملًا وأعظم حسنًا؛ ومن أجمع الأمثلة لذلك ما أورده الثعالبي في "فقه اللغة"، قال: إذا أخرج المكروب أو المريض صوتًا رقيقًا فهو الرنين، فإن أخفاه فهو الهنين، فإن أظهره فخرج خافيًا فهو الحنين، فإن زاد فهو الأنين، فإن زاد في رفعه فهو الحنين.
7- إنهم قد يضيفون إلى اختيار الحرف تشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها, وتقديم ما يضاهي أول الحدث "المعنى" وتأخير ما يضاهي آخره؛ سوقًا للحرف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب، كقولهم: شد الحبل؛ فالشين لما فيها من التفشي تشبه بصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليها إحكام الشد والجذب، فيعبر بالدال التي هي أقوى من الشين لاسيما وهي مدغمة فهي أقوى لصيغتها وأدل على المعنى الذي أريد بها. وكذلك: جز الشيء، قدموا الجيم؛ لأنها حرف شديد، وأول الجر مشقة على الجار والمجرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهي حرف تكرير، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض اضطرب في غالب الأمر صاعدًا عنها ونازلًا، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق؛ فكانت الراء لما فيها من التكرير؛ ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها، أوفق بهذا المعنى من جميع الحروف.
ومما يلتحق بهذا الباب الذي هو نظام الألفاظ بالمعاني، ما وضعوه من حكاية الأصوات، وذلك أنهم يشتقون اللفظ من نفس الصوت القائم بمعناه على جهة الحكاية وتصوير الأشياء بأصواتها، وهذا النوع يعده أدباء الغربيين من مبدعات القرائح, ومما يحضرنا منه للعرب قولهم في حكاية صوت مصراعي الباب الكبير إذا أغلق: جَلَنْبَلَقَ، وقول الشاعر:
جرت الخيل فقالت حبَطَقْطَق
قول الآخر في الإبل: "تداعين باسم السيب" يحكي صوت مشافرها؛ وهذا غير الأصوات التي يعبرون بها عن الأحداث وإن كانت مشتقة منها، كالعطعطة للأصوات المتتابعة في الحرب، والقهقهة للاستغراب في الضحك، وأمثال لذلك كثيرة.(1/147)
نظام المعاني بالألفاظ:
والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها في منازلها وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنسًا، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي.
ولما كانت اللغة عملًا نفسيا محضًا، كان وجود هذا النوع فيها من أخص الدلائل على تمدنها؛ لأن النظام الذي يعين درجات المعاني إنما يفصل أجزاء الموجودات على درجات شعور النفس بذوات هذه الأجواء أو بصفاتها، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان في اللغة حياة باطنة تشبه ما في الإنسان الراقي مما يسمى بالكمال أو الحياة الروحية العالية، حتى تتكافأ النفس واللغة في تصور أجزاء المعاني وتصويرها.
ولقد أثبت العلماء أن أظهر ما يكون الفقر في اللغات المنحطة، إنما هو في أنواع الدلالة المعنوية، فكلما انحطت اللغة قلت فيها هذه الأنواع، حتى لتبلغ بها تلك القلة أحيانًا إلى أن تشبه الجماد في تجرده من الشعور ومعانيه؛ ووجدوا من لغات القبائل المتوحشة في أواسط أفريقيا ما ليس فيها ألفاظ تعبر عن الحب والمؤاخاة والعبادة ونحوها من أمهات المعاني النفسية، كأن مادة تلك اللغات من الإحساس الحيواني المحض.
والعربية تعتبر أحكم اللغات نظامًا في أوضاع المعاني، وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت، فالعرب لم يدعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها؛ فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب؛ ثم الكَلَف، وهو شدة الحب؛ ثم العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب؛ ثم الشعف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق؛ ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن؛ ثم التيم، وهو أن يستعبده الحب؛ ثم التبل، وهو أن يسقمه الهوى؛ ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى؛ ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر، وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.
وكذا فعلوا في معاني السرور والعداوة والغضب الحزب والسرعة وغيرها؛ ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعية التي هي قوام أمرهم: اللبن، فإن له نحو سبعين اسمًا باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي كلها في "المزهر" "الفصل 15- النوع 29"؛ وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها وتسمية أجزائها ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه.
وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بَنَى الثعالبي كتابه "فقه اللغة" وهو أشهر من أن ينبه عليه، ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاء، بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة.
ومما ننبه إليه في هذا الفصل، أن أرقى الأمم مدنية إذا بلغت فيها المعاني النفسية مبلغ الهرم، وتعلقت بها الخواطر من كل جهة بحيث تفصل أجزاءها تفصيلًا؛ فجهد الأمة عند ذلك أن تحيط المعنى باصطلاحات علمية، وتعرف حوادثه على نحو ما تعرف به فصول العلوم، كالحب مثلًا، فإن مراتبه التي يشير إليها العرب بالألفاظ المتقدمة يشير إليها غيرهم بتعاريف وفصول واصطلاحات، ثم لا تعدو بعد ذلك كله ما كان يفهمه العرب منها برقة شمائلهم ولطف حواسهم النفسية؛ فكأنهم لما عدموا العلوم جعلوا ألفاظهم فصولًا علمية، وذلك منتهى ما يكون من تمدن اللغات.
ثم أنت إذا تدبرت هذا النوع رأيته انتباهًا روحيا صرفًا، بيد أنه ممثل بالألفاظ، ورأيت فيما ترى كأن النفس العربي طيفًا يحرك اللغة حتى بأنفاس الخطرات، ويكشف لها كل عاطفة دقيقة ولو اختبأت في أشعة من النظرات!(1/148)
نظام القرينة:
وهو ما نسميه بالنظام البديع؛ لأنه في ظاهره نوع من الفوضى؛ وذلك أنهم يعتمدون في ضرب من كلامهم على اللمحة الدالة والإشارة التي تقع موقع الوحي، وعلى أضعف أثر يشير إلى وجه الكلام ومذهبه ويهدي إلى طريق المعنى فيه، ثم يطلقون الكلام إطلاقًا غير مقيد بنظام، ولا متبع لطريق غيره من سائر الكلام؛ وذلك نظم ينفردون به ولا تجد القليل منه في لغة غيرهم حيث تصيب أدلة النبوغ في أشعر الشعر ومأثور المنثور. وقد سماه علماؤنا "سنن العرب"، وعقد الثعالبي على أمثلة منه القسم الثاني من كتابه "فقه اللغة"، وسماه "سر العربية".
ونحن نرى أن هذا النوع لم يكن في اللغة إلا بعد أن انصرف العرب إلى صنعة الكلام، وهذبوا حواشيه، وبلغوا الغاية في تنميق الشعر وإجادته، وذلك قبل الإسلام بما لا يتجاوز مائة سنة على الأكثر؛ لأن التفنن في العبارات لا يأتي إلا من كمال صنعة الألفاظ؛ ولأن ما عرف للعرب من ذلك قليل في جنب ما أتى به القرآن الكريم، وهذا معنى من معاني إعجازه، إذ جعل من عبارته أزمة لعقولهم، فكان يلفتها فجأة عن المعنى الظاهر، ثم يبغتها بروح الكلام، فتكون لها بينهما هزة من الطرب الذي ينشأ عن إدراك العقل لما ليس في مقدوره مع رغبته فيه.
فمما ذكروه من سنن العرب التي يتحقق فيها نظام القرينة: مخالفة ظاهر اللفظ، كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره! فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه، وكذلك قولهم: هَبِلَته أمه، وثكلته، وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجل في رميه أو في فعل يفعله؛ ومنها الحذف والاختصار، فيقولون: والله أفعل ذاك، ويريدون لا أفعل؛ فيحذفون حرف النفي؛ ومنها ذكر الواحد والمراد الجمع، كقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} [الحجر: 68] وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] والمراد الجماعة. وذكر الجمع والمراد واحد أو اثنان، كقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 66] وهو يريد واحدًا، وقوله في خطاب موسى وأخيه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النحل: 37] "والخطاب لاثنين، وقوله في خطاب زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم. {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ "* فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهما قلبان. ومنها صفة الجمع بصفة الواحد، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] وصفة الواحد أو
__________
* قلت: ما بين القوسين "" ساقط في الأصل، وإنما هو من زيادتنا.(1/149)
الاثنين بصفة الجمع، كقول العرب: ثوب أهدام، وجاء الشتاء وقميصي أخلاق1. ومنها أن تخاطب العرب الشاهد ثم تحول الخطاب إلى الغائب. وتخاطب الغائب ثم تحوله إلى الشاهد، وهو الالتفات المعروف في البديع؛ وأن تخاطب المخاطب ثم ترجع الخطاب إلى غيره، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] الخطاب الأول للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والثاني للمشركين. ومنها الرجوع من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بدون تغيير في المعنى كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 13] أراد بكم، وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان: 21, 22] ومعناه: كان لهم، وقد جاء ذلك في الشعر أيضًا كما رواه ابن الأنباري في الأضداد. ومنها أن يبتدئ بشيء ثم يخبر عن غيره، كقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] فخبر عن الأزواج بلفظ {يَتَرَبَّصْنَ} وترك الذين, ومنها نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] إلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19] وإنما يخرجان من الملح لا العذب, ونسبته إلى الجماعة وهو لأحدهم كقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] والقاتل واحد, وإلى أحد اثنين وهو لهما؛ كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . ومنها أن تأمر الواحد بلفظ أمر الاثنين، كقول العرب: افعلا ذلك، ويكون المخاطب واحدًا، وكان الفراء يرى في أصل ذلك أن الرفقة عند العرب أدنى ما تكون ثلاثة نفر، فيجري كلام الواحد على صاحبيه، ولذا كان شعراؤهم أكثر الناس قولًا: يا صاحبي، ويا خليلي. ومنها أن تأتي بالفعل بلفظ الماضي وهو حاضر، أو بلفظ المستقبل وهو ماض، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، أي: يأتي {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: ما تَلَتِ الشياطين. ومنها أن تأتي بالمفعول بلفظ الفاعل نحو: سر كاتم، أي: مكتوم، وأمر عارف، أي: معروف، وبالفاعل: على لفظ المفعول، كقولهم: بيع مغبون، ويكون المعنى غابنًا، ومنها وصف الشيء بما يقع فيه، كقولهم: ليلهم نائم، إذا ناموا فيه، وليلهم ساهر، إذا سهروه. ومنها البسط، بالزيادة في حروف الاسم والفعل متى أمن اللبس بقرينة تقتضي ذلك، كإقامة وزن الشعر وتسوية قوافيه، وعلى هذا قول بعضهم في صفة الظلماء.
وليلة خامدة خمودًا ... طخياء تخشى الجدي والفرقودا
فجعل الفرقد كما ترى، ثم قال فيها:
"لو أن عمرًا هم أن يرقودا"
يريد يرقد. ومنها القبض محاذاة لذلك البسط. وهو النقصان من عدد الحروف كقولهم: لاه ابن عمك؛ أي: لله، ودرس المنا، أي: المنازل؛ ومنها الإضمار للأسماء والأفعال والحروف، كقولهم: ألا يا اسلمي، أي: يا هذه، وقولهم: أثعلبا وتفر؟ أي: أترى ثعلبًا وتفر؟ وقوله طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أشهد الوغى
__________
1 أحصى ابن خالويه في كتاب "ليس" ما كان من هذا النحو وهو: ثوب أسمال، أي: خلق، وثوب أكباش -غليظ- وبرمة أكسار، وقدر أعشار، وقميص أخلاق. ولم يذكر منها أهدام.(1/150)
يريد أن أشهد الوغي. منها إقامة المصدر مقام الأمر، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا، واسم الفاعل مقام المصدر، كقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي: تكذيب، واسم المفعول مقام المصدر نحو: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] أي: الفتنة. ومنها المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا بحذاء كلام فتؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين في أصل الوزن، وهذا النوع يسمى الازدواج أيضًا، كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة وهي من الواو على غَدَايا، محاذاة للفظ العشايا وهي جمع العشية، وقول بعضهم:
هتاك أخبية ولاج أبوية
فجمع الباب على أبوية ليشاكل لفظ الأخبية. ومنها إتيانهم بالمصدر من غير الفعل لأن المعنى واحد، كقولهم: اجتوروا تجاورًا، وتجاوروا اجتوارًا، وانكسر كسرًا وكُسِر انكسارًا، وعليه قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] . ومنها مجيء صفات المؤنث على فاعل، كقولهم: امرأة بادن أي: بادنة، وجارية عاتق، بمعنى صغيرة، ومجيء فاعل في المؤنث بمعنى المفعول كقولهم: دابة حاسر، أي: حسرها السير. وغلالة رادع، أي: مردعة بالطيب بالزعفران في مواضع منها، وقد أفاض صاحب "المخصص" في أبنية المؤنث والمذكر مما يجري هذا المجرى "الجزء 16".
ومن سننهم العجيبة حذف الحرف وهو مقدر لصحة معنى الكلام، فيسقطون الوسيط تفننًا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه، ومثله كثير في كلامهم، وقد عقد له ابن سيده بابًا في "المخصص" "الجزء 14".
ومنها أيضًا قلب الكلام تفننًا، كقول العباس بن مرداس:
فديت بنفسه نفسي ومالي
أي: فديت نفسه بنفسي ومالي، وقول الأعشى في قلب الإعراب:
ما كنت في الحرب العوان مغمرًا ... إذ شب حر وقودها أجزالها
وإنما هو: إذ شب حر وقودها أجزالها، ولكن روي القصيدة بالفتح. ولكل ما قدمناه أمثلة كثيرة، وإنما أوجزنا فيها؛ لأننا نرمي بما شرحناه إلى تعيين الجهات التي تحصر معاني التمدن في اللغة، وبيان كل شيء في حصر معانيه.
وبعد، فهذا ما حضرنا من القول في إثبات ما سميناه "تمدن العرب اللغوي" وهو كما ترى يصح أن يكون غرضًا لكتاب من أمتع الكتب، بيد أنه لا يخرج إلا من الصدر الرحب والقلب المعتزم، وبعد أن يتعاون على إخراجه الفكر الصحيح والذهن الشفاف والفطنة الوقادة، وبعد أن تبلغ به الوسائل في تصفح العربية ومقابلة معانيها ومعارضة ألفاظها بعضها ببعض، فإن ثم ما وصفناه وإلا فهو أمر منتشر ومذهب وعر وفن غامض وما برح ذلك شأن الحكمة من قديم؛ لأنها الطبقة الباطنة من كل الأشياء، حيث تخلق الأسرار، وتسدل عليها الأستار، فلا يرفع منها شيء إلا بعون من الله، وكل شيء عنده بمقدار.(1/151)
اللغة العامية
اللحن وأوليته
...
اللغة العامية:
وهذه هي اللغة التي خلفت الفصحى في المنطق الفطري، وكان منشؤها من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة، ثم صارت بالتصرف إلى ما تصير إليه اللغات المستقلة بتكوينها وصفاتها المقومة لها، وعادت لغة في اللحن بعد أن كانت لحنًا في اللغة.
ولا بد للكلام على تأريخ العامية وشيوعها، من التوطئة ببعض القول في تاريخ اللحن؛ إذ هو أصلها ومادتها، بل هو العامية الأولى؛ لأنه تنويع في الفصيح غير طبيعي، خلاف ما قد يشبهه من اللهجات العربية المختلفة كما ستعرفه.
اللحن وأوليته:
والمراد باللحن الزيغ عن الإعراب، وهو أول ما اختبل من كلام أعرب ولم يكن منه قبل الإسلام شيء، وإنما كانت له طيرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت كلمة المسلمين على تباين قبائلهم واختلاف جهاتهم، فتساوى الأحمر والأسود؛ ووجد فيهم من يرتضخ أنواعًا من اللكنة، ومن هؤلاء بلال؛ كان يرتضخ لكنه حبشية؛ وصهيب لكنه رومية؛ وسلمان لكنة فارسية1. ثم إنه ليس كل العرب سواء في قوة الفصاحة وجفاء الطبيعة العربية؛ فلا بد أن يكون بدء ظهور اللحن في الألفاف المستضعفين ممن لم يبلغ به الجفاء ولم تتوقح فصاحته، فربما جذبه طبعه الضعيف وقد دار في سمعه شيء من كلام المتعربين بعد الإسلام فيزيغ ويسترسل إلى ما انجذب إليه. هذا إذا لم نعتبر في أمر أولئك الألفاف ما يكون عادة من ذهول الطبع. وتبلده إذا فجأه ما ليس في قوته ولا تسمو طبيعته إليه؛ كفصاحة القرآن الكريم، فإنه فضلًا عن نزوله بغير اللغات الضيقة واللهجات الشاذة، قد انطوى على أسرار من سياسة الكلام لا تتعلق بها إلا الطبيعة الكاملة؛ ولذا كان أكثر اللحن فيه بادئ بدء؛ لأن لسان كل عربي يركب منه قياس لغته، ويدرك من أسراره بحسب قوته؛ فإذا لم يكن صليبًا جافيا قصر به طبعه فاختبل وتلبد، كما ترى فيمن يقرأ الفصيح وليس من أهله؛ ولو لم يكن ذلك لما كان أبو بكر رضي الله عنه يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها؛ لأن لحن العربي خَورَ في طبعه فهو من هذه الجهة لا يستقيم إلا بمراجعته والتغيير عليه حتى يثبت على الصواب بنوع من التعلم والتلقين، وأنى لهم ذلك؟ فلا جرم كان إسقاط الكلمة وهو في حكم السهو، خيرًا من إثبات اللحن الطبيعي فيها وهو في حكم العمد.
وقد رأينا العلماء فريقين في أمر الإعراب وإطباق العرب عليه: فمنهم من يرى أنهم يتساندون في ذلك إلى السليقة ويجرون على مقتضى الطبع فلا يفطنون إلى اختلاف مواقع الكلام باختلاف
__________
1 من هنا سمى علماء القراء عدم إقامة الحروف وأدائها على وجوهها المتناقلة عن العرب، باللحن الخفي، كما مر في "مناطق العرب". والخفي أصل الظاهر بالضرورة.(1/152)
جهاته؛ وعلى هذا متقدمو العلماء؛ ومنهم من يرى أنهم إنما يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة، وأن ذلك منهم ليس استرسالًا ولا ترجيعًا، وإلا لكثر اختلاف الإعراب في كلامهم وانتشرت جهاته ولم تنفذ مقايسه، فلم يجمعوا مثلًا على رفع الفاعل ونصب المفعول ونحو ذلك. ومن هؤلاء ابن فارس في كتابه "فقه اللغة"1، وابن جني كما يؤخذ من كلامه في كتاب "الخصائص".
والذي عندنا أن ذلك من "خرفشة النحاة" كما يقول ابن خلدون في تحذلقهم وتنطسهم، والصواب رأي الفريق الأول؛ لأن ما ذكره ابن جني في معنى التعليم والتلقين، فإذا ثبت أنهم يتصفحون وجوه الكلام ويتأملون مواقعه، لم يجز أن ينتقل لسان العربي عن لغة إلى لغة أخرى، ولا أن يستدرج في بعض الكلام، ولا أن تضعف فصاحة الفصيح منهم، للزومهم طريقًا واضحًا ومهيعًا معروفًا، وما كان بالتعليم لا يكون بالفطرة. وقد جاءت الروايات بكل ذلك عنهم، ولا سبب له غير الاختلاف الفطري الذي تبتدئه الوراثة وتكملة الطبيعة كما أومأنا إليه في محله.
فالصحيح أن الطباع العربية مختلفة قوة وضعفًا. فمنها المتوقح الجافي، ومنها الرخو المضطرب وبحسب ذلك تكون اللغة فيهم؛ وقد نقل ابن جني نفسه في موضع من كتابه أن العرب أشد استنكارًا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولد ولكنه لا ينطق باللحن, ثم قال في موضع آخر: إن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيغ الإعراب. ولم يأت هذا التفاوت -كما ترى- إلا من اختلاف الطباع الذي أشرنا إليه، فأحر بما اتفقوا عليه أن يكون سببه في الطبع أيضًا؛ لأن الاختلاف في جهات من الشيء إنما يتميز بالاتفاق على جهات أخرى منه.
بهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية ألبتة، وكل ما كان في بعض القبائل من خور الطباع وانحراف الألسنة فإنما هو لغات لا أكثر؛ وسنزيد هذا الموضع بيانًا في الفصل التالي.
هذه أولية اللحن، كانت كما عرفت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رووا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل" ويروى: "فإنه قد ضل" , فلو كان اللحن معروفا في العرب قبل ذلك العهد، مستقر الأسباب التي يكون عنها، لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه؛ لأن الضلال خطأ كبير، والإرشاد صواب أكبر منه في معنى التضاد، بل إن عبارة الحديث تكاد تنطق بأن ذلك اللحن كان أول لحن سمعه أفصح العرب صلى الله عليه وسلم.
ثم لما استفاضت الأسباب التي ذكرناها في صدر هذا المقال، وفتحت الروم وفارس، كثر
__________
1 بل غلا ابن فارس غلوا قبيحًا لاعتقاده أصلة اللغة واعتبارها اعتبارًا دينيا كما بسطناه فيما سلف، فزعم أن العرب "العاربة" كانوا يعرفون النحو والعروض بمصطلحاتهما؛ وذلك بتوقيف من قبلهم حتى ينتهي الأمر إلى الموقف الأول وهو الله عز وجل الذي علم آدم الأسماء كلها -على ما يفسر به بعضهم هذه الأسماء- وأن هذين العلمين "النحو والعروض" كانا قديمًا ثم أتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس حتى جدد النحو أبو الأسود، وجدد العروض الخليل بن أحمد.(1/153)
اللحن بالضرورة. ولكن العرب كانوا يستمجونه ويعتبرونه هُجنة وزراية، وينتقصون أهله ويبعدونهم، ومما رووه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بقوم يرمون، فاستقبح رميهم، فقال: ما أسوأ رميكم! فقالوا: نحن قوم "متعلمين". فقال عمر: لحنكم أشد علي من فساد رميكم1. وقد تضافرت الروايات بأن كاتبًا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر فلحن، فكتب إليه عمر: عزت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا -وفي رواية كتب إليه أن قنع كاتبك سوطًا- ولكنهم لم يذكروا موضع اللحن في كتاب أبي موسى حتى وقفنا عليه، فإذا هو لحن قبيح يشق على عمر وغير عمر؛ لأن ذلك الكاتب جعل صدر كتابه هكذا: "من أبو موسى" وهذا على ما نظن أول لحن وقع في الكتابة، ثم شاع بعد ذلك حين نقلت الدواوين إلى العربية من الرومية والقبطية2، وكان أكثر ما يكون ذلك من ألفاف كتاب الخراج والصيارفة، وقد عثروا في بعض قرى مصر على رقاع مكتوبة، يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة 127هـ، ومنها رسائل موجزة إلى أصحاب البُرُد، كبريد أشمون وغيره، وهي على إيجازها قبيحة اللحن، ولكن منها رسائل مؤرخة في سنة 182هـ و250هـ و279هـ و295هـ وقد كتب الأخيرتين "شمعون بن مينا، ونقله ابن اندونه" ولحنها من أقبح اللحن، يكتبون فيها دنانير هكذا "دنَنِير" على أنها كلها تكتب بصيغة واحدة لا تتجاوز كلمات معدودة، مما يرجع أنها أمثلة موضوعة لهم ينقلونها في تلك الأغراض الثابتة ولا يغيرون منها إلا الأسماء والأرقام، وذلك شأن حثالة العامة إلى اليوم. ومن تلك الرسائل التي أصابوها، رقعة أملاها بعض المتحذلقين إلى بقال ولا تاريخ لها، ونحن ننقل نصها تفكهة، وهو: رقعة عبد الرازق:
"بسم الله الرحمن الرحيم. أطال الله بقاك، وأدام عزك وكرامتك، وجعلني فداك، قد وجهنا إليك ربع درهم، فتفضل ادفع إلى الغلام دانق سكبينج، ونصف دانق بزْر كَرَفْس، وادفع إليه كسرين، وسرني بذلك إن شاء الله" ... أملي في غدا القدر3.
__________
1 كذا روى ابن الأنباري في كتاب "الأضداد"؛ وعندنا أن هذا الخبر موضوع؛ لأن إلزام المثنى والجمع الياء دائمًا إنما كان ظهوره في لغات الموالي والمتعربين، لسهولة ذلك على ألسنتهم ولصعوبة التمييز بين حال الرفع وحال النصب، وسياق الخبر يدل على أن القوم كانوا من العرب، ويرجح ذلك أنه زاد في الخبر عن عمر قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رحم الله امرءًا أصلح من لسانه". فكأن ذلك للتغريب والترهيب لا غير.
2 نقلت الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية في خلافة عبد الملك بن مروان، وأول ديوان نقل إليها ديوان الشام، كان بالرومية فنقل سنة 81هـ، وكان الديوان في مصر أول نقله يكتب فيه بالعربية والقبطية معًا، ثم ماتت هذه بحياة تلك، ولهذا البحث موضع من الكتاب نرجو أن نصل إليه إن شاء الله.
3 كنا نريد أن نثبت الصور الخطية لتلك الرقاع، ولكنا لم نر في إثباتها فائدة من البحث الذي نحن فيه.(1/154)
انتشار اللحن:
ولما نشأ الجيل الثاني في الإسلام اضطربت السلائق، وذلك بعد أن كثر الدخيل وعلقته الألسنة لدورانه في المعاملات وتنزله من الاجتماع منزلة المعاني الثابتة، فانحرفت به ألسنة الحضر عن نهجها العربي، وخيف من تمادي ذلك على لسان العرب من الفساد؛ فوضع أبو الأسود الدؤلي أصول النحو؛ ثم كان الناس يختلفون إليه يتعلمونها منه، وهو يفرع لهم ما كان أصله -وسنأتي على ذلك في موضعه- ومن خشيتهم فساد اللسان، كانوا يأخذون أولادهم بالإعراب أخذًا شديدًا، حتى كان ابن عمر رضي الله عنهما يضرب بنيه على اللحن تقويما لهم.
ثم فشا النحو بعد ذلك وتناوله الموالي والمتعربون, وصار يعلم في المساجد، فانحصر اللحن القبيح الذي هو مادة العامية في الزعانف من الطبقات الوضعية، كالمحترفين وأهل الأسواق، وكان الخطيب البليغ خالد بن صفوان -توفي في أوائل الدولة العباسية- يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن "السقاءات"؟ فكان خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب.
واشتهر النحو وغيره من العلوم التي وضعت لذلك العهد بأنها علوم الموالي؛ فكان يرغب عنها الأشراف لذلك؛ وقد روى المبرد في "الكامل" أن المنتجع قال لرجل من الأشراف: ما علمت ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك "علم الموالي" لا أبا لك! علمهم الرجز فإنه يهرت أشداقهم. ومر الشعبي "سمير عبد الملك بن مروان" بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده. وسنقول في الموالي بعد.
قال الجاحظ: وأول لحن سمع بالبادية: عصاتي، والصواب عصاي؛ وأول لحن سمع بالعراق؛ حيِّ على الفلاح، صوابه حيَّ؛ بالفتح1.
وفي الدولة المروانية العربية كان يعتبر اللحن من أقبح الهجنة؛ لأن العرب يومئذ كانوا لا يزالون على حميتهم الأولى، وكانت جماهيرهم تحضر مجالس الخلفاء والأمراء وتنادي كل طائفة منهم باسم قبيلتها، فيقال مثلًا: لتقم همدان، ولتقم تميم، ولتقم هوازن، ونحو ذلك؛ وهم يريدون من حضر من هذه القبائل؛ فكان عبد الملك يستسقط من يلحن، قال العتبي: استأذن رجل من عِلْيه أهل الشام عليه وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: يا غلام، غطها فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: يا غلام، اكشف عنها الغطاء؛ ليس للاحن حرمة. ولحن محمد بن سعد بن أبي وقاص لحنة، فقال: حَسَّ! -كلمة تقال عند الألم- إني لأجد حرارتها في حلقي, وقد أحصوا الذين لم يسمع منهم لحن قط في ذلك العهد، فعدوا منهم عبد الملك بن مروان، والشعبي، والحسن البصري، وأيوب بن القرية؛ وقال الحسن يومًا لبعض جلسائه: توضيت، فقيل له: أتلحن يا أبا سعيد؟ فقال: إنها لغة هذيل؛ وكان هذا الجواب أبين عن فصاحته من الفصاحة نفسها.
وأحصوا اللحانين من البلغاء، فعدوا منهم خالد بن عبد الله القسري2 وخالد بن صفوان وعيسى بن المدور؛ وكان الحجاج بن يوسف يلحن أحيانًا.
__________
1 وقال ابن السكيت: زعم الفراء أن أول لحن سمع بالعراق: هذه عصاتي.
2 توفي خالد هذا سنة 126هـ وكان من خطباء العرب المشهورين، ونقل صاحب الأغاني من المدائني أنه كان لخالد مؤدب يقال له الحسين بن رهمة الكلبي، وكان يجلس بإزائه إذا صعد المنبر ليخطب، فإذا شك في شيء أومأ إليه بالصواب.(1/155)
وقد كان بنو مروان يلزمون أولادهم البادية لينشؤهم هناك على تقويم اللسان وإخلاص المنطق، ومن أجل ذلك قال عبد الملك: أضر بالوليد حبنا فلم نوجهه إلى البادية! والوليد هذا ومحمد أخوه كانا لحانين، ولم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة؛ وذكروا أنه قيل للوليد يومًا: إن العرب لا تحب أن يتولى عليها إلا من يحسن كلامها، فجمع أهل النحو ودخل بيتًا ليتعلم فيه، فأقام ستة أشهر ثم خرج أجهل من يوم دخل, ومما نقلوا من لحنه أنه خطب الناس يوم عيد, فقرأ في خطبته: "يا ليتها كانت القاضية" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك!
وما صار الأمر إلى العباسيين حتى كانت العجمة قد فشت في الحضر وغلبت على السليقة وأصبحت السلامة من الحلن لا تتهيأ إلا بالتصون والتحفظ وتأمل مواقع الكلام، ولذا صاروا يشبهون اللسان الفصيح بأنه لسان أعرابي قح، وكانوا يمسون عثمان البتي النحوي "معاصر للأصمعي" عثمان العربي، من فصاحته واستقامة لسانه؛ ولكن أذى اللحن بقي ثابتًا في الغرائز القوية، حتى ذكروا أن الرشيد كان مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم؛ فقال يومًا: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرًا فيتغنون فيه؛ فقيل له: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال أبو العتاهية: فوجه إلي الرشيد أن قل شعرًا حتى أسمعه منهم؛ ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك؛ فقلت: والله لأقولن شعرًا يحزنه ولا يسر به, ثم عمل شعرًا رقيقًا في الموعظة والتذكير بانصراف الدنيا وانصرام لذتها، يقول فيه:
خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح
هل لمطلوب بذنب ... توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب ... إنما هن قروح
موت بعض الناس في الأر ... ض على قوم فتوح
نح على نفسك يا مسـ ... ـكين إن كنت تنوح
ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما سمعه الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان من أغزر الناس دموعًا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفًا في وقت الغضب والغلظة.
نقول: ولو أنا أبا العتاهية لم يطرح ظل نفسه على ذلك الشعر وقتئذ وعمل على أن يصيب حقيقة غرض الرشيد، لكان أول واضع في الإسلام للشعر الذي يسمى أغاني الشعب، ولجاء بعده من يأخذ في طريقه ويفتن فيها حتى توضح أغاني الشعب الاجتماعية والسياسية على حقيقتها، ويكون ذلك من أرقى أبواب الأدب العربي، ولكن ظل الشاعر كان في ذلك الغضب ثقيلًا باردًا كأنه قطعة من ظلمة حبسه، أو كأنه ظل شيطاني لا ينبسط إلا ليطوي الأشعة المنبعثة من الأفكار الصالحة1.
__________
1 قلت: كان للمؤلف "رحمه الله" أمنية أن يصنع شيئًا يتم به نقص العربية في هذا الباب. وقد بلغ في ذلك مبلغًا فصنع بعض أغنيات لمثل ما يصف، كان يتهيأ لنشرها بعنوان "أغاني الشعب" فلعله يتهيأ لنا أن نذيعها على قراء العربية عن قريب، واقرأ كتابنا "حياة الرافعي" ص65-72.(1/156)
وكان المأمون يقول: أنا أتكلم مع الناس كلهم على سجيتي، إلا علي بن الهيثم، فإني أتحفظ إذا كلمته؛ لأنه يعرف في الإعراب، وعلي هذا كان كاتبًا في ديوانه، وكان كثير الاستعمال لعويص اللغة، وله نوادر عجيبة في التشادق:
دخل مرة سوق الدواب، فقال له النخاس: هل من حاجة؟ قال: نعم؟ أردت فرسًا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوف برأسه، ويعقد عنقه، ويخبط بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص، جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة، أو سيل حدور. فقال النخاس: هكذا كان فرسه صلى الله عليه وسلم!
وكان مثل هذا التقعر خاصا بجفاة الأعراب ممن يطرءون من البادية، فلما فشا اللحن ولانت جوانب الكلام، أخذ في طريقهم جماعة من النحويين، فكانوا يبالغون في التقعير والتعقيب والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم، يريدون بذلك أن يتبادَوْا في الحضريين ليكونوا أعرابهم، فكانت هذه الأعرابية الكاذبة تمثيلًا مضحكًا عند العامة، وثقيلًا مبغضًا عند العلماء. ومن أشهر أولئك: عيسى بن عمر الثقفي، وهو رأس المتقعرين وفاتحة تاريخهم "توفي سنة 149هـ"، وأبو علقمة النحوي، وأبو خالد النميري، وأبو محلم الراوية، وغيرهم، ومن أثقل ما رأينا في التقعير، هذا الكتاب الذي كتبه أبو محلم "في أواخر القرن الثاني" إلى بعض الحذائين، في نعل كانت له، وهذه عبارته كما رواها القالي في أماليه:
"دِنها، فإذا همت تأتدن فلا تخلها تُمَرْخِد، وقبل أن تقْفعِل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وَكِبة ولا جَشِبة، ثم امعسها معسًا رقيقًا، ثم سن شفرتك وأمهها، فإذا رأيت عليها مثل الهوة فسن رأس الإزميل، ثم سم بالله وصل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انحها وكوف جوانبها كوفًا رقيقًا، واقبلها بقبالين أخنسين أفطسين غير خليطين ولا أصمعين، وليكونا وثيقين من أديم صافي البشرة غير نَمِش ولا حَلم، ولا كَدِش، واجعل في مقدمتها كمنقار النغر1".
لا جرم عد أمثال هؤلاء في الثقلاء؛ لأن هذا الفصيح في العامة أقبح من اللحن في مخاطبة الأعراب الفصحاء.
وقد ألف أبو الفرج النحوي المتوفى سنة 499هـ كتابًا جمع فيه أخبار المقعرين وساق نوادرهم.
على أن النحويين لم يكونوا كلهم من الفصحاء، بلْهَ المتقعرين، ولا الرواة أيضًا، فقد كان حماد الراوية وهو في شباب الدولة العربية لحانة، حتى اعتذر عن ذلك في مجلس الوليد بن عبد الملك بأنه رجل يكلم العامة ويتكلم بكلامها.
__________
1 هذا تفسير غريبه: تأتدن: تبتل، تمرخد: تسترخي، تقفعل: تنقبض، وكبة جشبة أي: وسخة غليظة، المعس: الدلك، إمهاء السكين: تسخينها بالنار ثم إلقاؤها في الماء، أوحدها، الإزميل: من أدوات الحذاء، التكويف: التدوير: القبالان: سيران تشد بهما النعل. ويريد أبو محلم بوصفهما أن يكونا غليظين من أديم واحد لا عيب فيه من عيوب الجلد.(1/157)
وقد ألف عمر بن شبة النحوي الراوية المتوفى سنة 262هـ كتابًا فيمن كان يلحن من النحويين إلى عهده. واستمرت العامية فاشية بما كثر من أسبابها وتوفر من وسائلها، ولم يغن الخلفاء ولا الأمراء اتخاذ المؤدبين لأولادهم يقومون ألسنتهم ويأخذونهم بالفصيح، واندفع الناس في ذلك، وخاصة بعد أن فسدت سلائق الأعراب أيضًا في القرن الخامس كما سيجيء؛ وكلما تقدمت البلاد في مذاهب الترف وتقلبت في أعطاف الرقة، بلغت مثل ذلك من العامية، حتى صارت الأندلس -وهي التي انفردت بمشاهير النحاة الذين أعادوا عصر الخليل وسيبويه1- تكاد تكون عامية محضة؛ وقد نقل صاحب "نفح الطيب" أن الخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو: استثقلوه واستبردوه!.
__________
1 سنفصل ذلك في تاريخ الأدب الأندلسي.(1/158)
فساد اللغة في البادية:
هذا ما يحضرنا من تاريخ اللحن في الحضر، حيث توفرت أسبابه من الاختلاط والملابسة؛ أما في البادية فقد بقيت اللغة على خلوصها إلى آخر القرن الرابع، على ما يكون من الاختلاف الذي لا بد منه بين طبائع الأعراب كما أومأنا إليه فيما سبق.
وقد حكى ابن جني في "الخصائص" أنه كان يرد عليهم من عقيل بن يؤنس ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وابن جني توفي سنة 292هـ وكلامه في "الخصائص" يشعر أن ألسنة البدو يومئذ بدأت تضطرب حتى كان ينبه بعضهم بعضًا إلى الصواب، وحتى ظهر في بعض طوائفهم شيء من مرذول القول؛ قال: وقد طرأ علينا مرة أحد من يدعي "الفصاحة البدوية" ويتباعد عن الضعفة الحضرية؛ فتلقينا أكثر كلامه بالقبول وميزناه تمييزًا حسن في النفوس موقعه، ثم ذكر أن هذا البدوي ركب في بعض شعره قياسًا غير صحيح، وتكرر منه ذلك، فطرحوا لغته، قال: وكان من أمثل من رأيناه ممن جاءنا.
على أن اختلاف طبائع الأعراب قديم؛ لأنهم يرثونه عن سلفهم وأوليتهم، وقد يكون من ضعف تلك الطبائع ما يعده الثقات فسادًا، لانحطاطه في الفصاحة، لا لأن فيه لحنًا؛ إذ العلماء إنما يطلبون فصح اللغة ويقدرون الأعراب على حسب ما عندهم من ذلك. وقد ذكرنا في الكلام على "أفصح القبائل" من نصوا على قوة الفصاحة فيهم بعد الإسلام، أما الضعاف الذين يوجه ضعفهم على جهة ما أشرنا إليه فلم نقف على نص يعين قومًا منهم، إلا ما ذكروه عن أعراب الحُلَيْمات1 فقد روى العسكري عن أبي زيد أن الكسائي المتوفى سنة 189هـ بعد أن أخذ العلم الصحيح عن أساتذة البصرة، خرج إلى بغداد، فقدم أعراب الحُلَيْمات، وهم غير فصحاء فأخذ عنهم شيئًا فاسدًا فخلط هذا بذاك فأفسده: وهذا الفساد ظاهر المعنى كما ترى.
ولم نعثر على نص يثبت خلوص لغة الأعراب فيما وراء القرن الرابع: ولا يمكن أن يكون ذلك مع اضطراب الفتن واستعجام الدولة وغلبة العامة وانقطاع حاجة العلماء إلى عربيتهم الفطرية، ودروس معاهد الرواية ثم فُشوّ الاختلاط بين العرب وعامة الأمصار كما سيمر بك، وخاصة في الحجازيين منهم، حيث يختلف إليهم الحجيج من جميع الآفاق، غير أننا رأينا في "معجم البلدان" لياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ في لفظ العكوتين "تثنية عكوة: وهو اسم جبلين منيعين مشرفين على زبيد باليمن" قوله: ومن أحدهما عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، من موضع فيه يقال له الزرائب ...
__________
1 الحليمات: أنقاء بالدهناء، والدهناء من ديار بني تميم، وهي سبعة أجبل من الرمل، بين كل جبلين شقيقة، وهي من أكثر البلاد كلأ، حتى إنها متى أخصبت كفت العرب لسعتها، ولعل ضعف أعرابها من هذا الخصب!(1/159)
وقال الزاجر:
إذا رأيت جبلي عكاد ... وعكوتين من مكان باد
فأبشري يا عين بالرقاد
قال: وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب، وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم: لم تتغير، بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحضارة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه.
ثم رأينا في "القاموس" لمجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى بمدينة زبيد سنة 817هـ في مادة "ع ك د" أن عكاد جبل باليمن قرب مدينة زبيد "وأهله باقية على اللغة الفصيحة"؛ وقد زاد شارحه مرتضى الزبيدي -أقام بمدينة زبيد مدة طويلة فعرف بهذا اللقب- المتوفى سنة 1205هـ قوله: "إلى الآن"، ثم قال: ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفًا على لسانهم.
ولا يعرف قوم خلصت لغتهم غير أولئك العكاديين؛ وعبارة ياقوت تدل على أنه لم يكن يعرف في زمنه غيرهم أيضًا، على أن لسان البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب لا يزال إلى اليوم أكثر شبهًا بالفصيح من بعض الوجوه دون غيرهم من سائر العرب، وأظهر ما يكون ذلك على ما تبينه الرواد في سكان حارب وبيحان. وكذلك يقال في قبائل فهم وقحطان في الحجاز: إنهم أكثر انطلاقًا في الألسنة من سائر عرب الشمال، والله أعلم.(1/160)
طبائع الأعراب:
بقي أن نذكر شيئًا عن طبائع الأعراب الفصحاء الذين كانوا يطرءون على الحضر فتؤخذ عنهم اللغة؛ لأن العلماء كانوا إذا وجدوا منهم من يفهم اللحن وعلل الإعراب بَهْرَجوه وزيفوا طبعه وطرحوا لغته؛ كما يفعلون بمن لم يخلص منطقه وبمن يرق طبعه وتضعف فصاحته، لإغراقه في علل الحضارة وأسبابها، فقد ذكروا أن أبا عمرو بن العلاء "توفي سنة 154هـ" استضعف يومًا فصاحة أبي خيرة العدوي الأعرابي، فسأله: كيف تقول: حفرت الإران؟ فقال: حفرت إرانًا. فقال له أبو عمرو: ألان جلدك يا أبا خيرة حين تحضرت1! وهكذا كانوا: إذا ارتابوا بفصاحة أعرابي وظنوا أن جلده قد لان وذهب جفاؤه الذي يعدونه مادة الفصاحة، وضعوا له قياسا غير صحيح وسألوه عنه, فإن نطق به طرحوه, وإلا كان عندهم بتلك المنزلة, وإنما يعمدون إلى الأقيسة غالبًا؛ لأن قياس العربي قريحته كما بيناه من قبل، والقريحة مظهر الفطرة؛ قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو يقول: ارتبت بفصاحة أعرابي فأردت امتحانه، فقلت بيتًا وألقيته عليه، وهو:
كما رأينا من "مسحب" مسلحب ... صار لحم النسور والعقبان
فأفكر فيه ثم قال: ردّ علي ذكر "المسحوب"، حتى قالها مرات، فعلمت أن فصاحته باقية2. ولا تجد الأعرابي ينطق بمثل هذا إلا إذا ضعفت فصاحته وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.
قال ابن جني: سألت مرة الشجري -وهو أعرابي من عقيل كانوا يرجعون إليه في اللغة -ومعه ابن عم له دونه في الفصاحة، وكان اسمه غصنًا- فقلت لهما: كيف تحقّران حمراء؟ فقالا: حُمَيْراء. وواليت من ذلك أحرفًا وهما يجيئان بالصواب، ثم دسست في ذلك عِلْباء، فقال غصن: عُلَيْبَاء، وتبعه الشجري؛ فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور، ثم قال: آه عَليْبيّ3.
وقال في موضع آخر من "الخصائص": سألته يومًا -يعني الشجري- كيف تجمع دُكانًا؟ فقال: دكاكين. قلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين.. قلت: فعثمان؟ قال: عثمانون، فقلت له: هلا قلت عثامين؟ قال: أيش عثامت؟ أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته؟
كذلك نقل عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني "توفي سنة 255هـ" في كتابه الكبير في
__________
1 قال الرياشي: إنه أخطأ؛ لأن الحفرة يقال لها إرة، وتجمع على إرين، وهي التي يخبز فيها، وأما الإران فخشب النعش. وقد وقفنا على مسائل أخرى مما "لان فيه جلد الأعراب" لم نر فائدة في استقصائها.
2 قلت: يريد بقوله "مسحب" اسم المفعول من "سحب" الثلاثي، امتحانًا له بالخطأ، فأبت عربيته الخالصة أن ينطق به إلا على الصحيح، وهو "مسحوب".
3 صغروه على ذلك لأن همزته بدل من ياء، وإذا أردت شرح ذلك فراجع كتاب سيبويه "الجزء الثاني صفحة 108". وعلياء البعير: عصب عنقه. قلت: وفرق ما بين علباء وحمراء، أن ألف حمراء مزيدة للتأنيث.(1/161)
القراءات، وقال: قرأ علي أعرابي بالحرم: "طِيبي لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب" فقلت له: طوبى ... فقال: طيبي، فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبي؛ فلما طال علي قلت: طُوطُو ... فقال: طي طي ... وهكذا نبا طبع هذا الأعرابي إلا عن لحن قومه وإن كان غيره أفصح منه، ولو يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه هز ولا تمرين!
على أن طبع العربي قد يجذبه إذا توهم القياس، ومن ذلك ما رواه صاحب "الأغاني" أن عمارة بن عقيل الشاعر "في القرن الثالث وهو الذي يقال إن الفصاحة ختمت به في شعراء المحدثين"1 أنشد قصيدة له جاء فيها "الأرباح والأمطار" فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبيعي ... أما تسمع قولهم رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك! قال: صدقت! ورجع إلى الصحيح, وقبله كان الفرزدق يلحن، وكان عبد بن يزيد الحضرمي البصري مغرى باعتراضه ونسبته إلى اللحن الحضري، حتى هجاه بقوله:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى المواليا!
فقال له الحضرمي: لحنت.. ينبغي أن تقول: مولى موال، والفرزدق هو القائل:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف2
قال ابن قتيبة: وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يرتضى, ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه؛ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: علي أن أقول وعليك أن تحتجوا ... !
وبعد أن فشت العامية وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة بسؤالهم من الرواة والعلماء، وكذلك كانوا لا يخاطبون العامة إلا بمحضرهم ومساعفتهم في "الترجمة"؛ والآثار من ذلك كثيرة نكتفي منها بما رواه الجاحظ في "البيان"، قال: رأيت عبدًا أسود لبني أسد قدم عليهم من شق اليمامة، فبعثوه ناطورًا، وكان وحشيًا لطول تغربه في الإبل، كان لا يلقى إلا الأكرة "الحراثين"، فكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إلي، وسمعته يقول: لعن الله بلادًا ليس فيها عرب.... أبا عثمان، إن هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس؛ فئلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حاشية لطمست هذه العجمان آثارهم!
وقد بقيت أشياء مما يصلح لهذا الباب أمسكنا عنها حتى يقتضيها مكانها في بحث الرواية.
__________
1 وهو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، وكان يطرأ من البادية فتؤخذ عند اللغة.
2 قلت: المسحت، والمجلف: المذهب: الذي استأصلته السنون: والشاهد في البيت في رفع "مجلف" وقياس العربية النصب.(1/162)
العامية في العرب:
قد علمت كيف بدأت العامية وكيف خرجت من اللحن، وأن ذلك لم يكن إلا في أوائل الإسلام؛ فلا عبرة بما يهجس به بعض أولئك الذين تراهم في مجازفتهم وتحرصهم كأنما يشرحون للناس "علم" الغيب. فيزعمون أن العامية كانت لغة بعض العرب في الجاهلية الأولى، وأن القوم كان لهم فصيح وعامي، معتلين لذلك بما عثر عليه من آثار بعض رعاة تلول الصفا وغيرهم مما يرجع إلى غابر أزمانهم، ثم ما وجدوه من المخطوطات التي جرت فيها كلمات تشبه الفصيح, ونحن نقول إن كل ذلك لا يلحق العرب من سيئه شيء؛ لأن أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم؛ فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم؛ لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان: وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة؟ فكما أن لهؤلاء لغة متميزة عن العربية الفصحى نشأت عن أسباب خاصة، كذلك يقال في غيرهم ممن تميزت لغتهم عن المضرية؛ ولا يذهبن عنك أن هذه المضرية الفصحى لم تخلق مضرية فصحى، بل مرت في أطوار زمنية هذبت منها وأخلصتها كما بيناه في موضعه، فلا يمكن أن يقال إنه كان للعرب فصيح وعامي، إلا إذا أجرينا عليهم أحكامنا وألزمناهم ما لزمنا من ضعف النظر وسوء التأول، واعتبرنا ما بيننا وبينهم من تقادم التاريخ كأنه سواد ليل ختم به الأمس!
وكل ما صح من ذلك قبل الإسلام حين فشت المضرية؛ أن الذين كانوا يسكنون الريف من العرب ويضربون على حدود الأعاجم، كانت ترق طباعهم وتلين ألفاظهم ويكثر الدخيل فيها، ومن ثم لا يكون لهم جفاء الخلص وقوة ملكاتهم، واعتبر ذلك بعدي بن زيد العبادي الشاعر الذي نشأ في ديوان كسرى؛ فكل شعره فصيح لا لحن فيه، إلا أن رقة ألفاظه سوغت للرواة أن يحملوا عليه شعرًا كثيرًا مما يسهل وضعه ولا يباين ديباجته الحضرية فيصعب تمييزه في النسبة.
ومما نذكره ثبتًا لما نحن فيه، أن الرواة قد جاسوا خلال البادية بعد الإسلام بقليل، وضربوا في أطرافها، وشافهوا القبائل، ونقلوا عنهم كثيرًا من الشاذ والدخيل والوحشي والمتروك، ورأيناهم عدوا ذلك جميعه لغات، بل كانوا يجعلون الاحتجاج بلغاتهم على نسبة بعدهم من قريش التي هي سرة العرب، فاعتبروا لغة قريش أفصح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، ثم تركوا عمن بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن؛ لمجاورتهم الفرس والروم والحبشة، فاعتدوا لغاتهم غير صريحة لذلك؛ وهم على كونهم أغفلوا أمرها قد نقلوا منها أشياء كما مر في لهجات العرب؛ فلو أنهم عرفوا لهم عامية أو ما هو في حكمها، لأشاروا إليها في بعض الروايات، ولما صح أن يعدوا ما نقلوه عنهم في باب اللغات؛ هذا على أنهم أدركوهم وقد تتابعت(1/163)
أجيالهم وانثالوا أواخر على أوائل في مخالطة الأعاجم وملابستهم، فلأن ينزهوا عن العامية في جاهليتهم أولى.
وما زالت لغات العرب جارية على سنن الفطرة، معتبرة في حكم اللغات المستقلة -على ما يكون في طبقات كلامهم من الجزل والسخيف والمليح والحسن والقبيح والسميج والخفيف والثقيل، وذلك كما قال الجاحظ: كله عربي، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا -ما زالت لغاتهم على ذلك حتى خالطوا السوقة في الأمصار الإسلامية، ونشأت أجيالهم على سماع العرب والعامة، فأخذوا من هؤلاء وهؤلاء، وكان ذلك سريعًا في ألسنتهم؛ ففسدت السليقة العربية فسادًا عربيا أحال منطقهم، وقد كانت مخالطتهم للأعاجم أبقى على فطرتهم؛ لأنهم إنما يعربون وينقلون عنهم، ولكنهم لا يحكونهم في المنطق، بخلاف أمرهم مع العامة؛ ولكل شيء آفة من جنسه؛ ولهذا رأينا الجاحظ يعد أقبح اللحن في زمنه لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة وبقرب مجامع الأسواق؛ ومن هنا دب الفساد في ألسنتهم بما يدور على مسامعهم من رطانة السوقة ولحن البلديين، ثم ما يتعاطونه من هذا الشأو في مخاطبتهم التي بها قوام المعاملات.
فلا سبيل إلى القول إذن بأن للعرب فصيحًا وعاميا، إلا بعد فشو هذا الفساد العربي في منطقهم منذ القرن الخامس، أما ما وراء ذلك في بادية العرب فلحن أو لغة لا أكثر.(1/164)
شيوع اللغة العامية وفساد العربية:
كانت العامية في الأمصار الإسلامية أول عهدها لحنًا صرفًا، لما بقي في أهلها من آثار السليقة؛ على حساب هذه الآثار كانت درجاتها في القرب من الفصيح والبعد عنه؛ فكانت لا تزال قريبة من الفصحى في عوام الحجاز والمصرين: البصرة والكوفة، إلى القرن الثالث، حتى عرف بعضهم المولد بأنه ما يكون من هذا الضرب لحنًا وتحريفًا كما أومأنا إليه من قبل.
وقد ذكر الجاحظ لغة أهل المدينة لعهده، فقال: إن لهم ألسنة ذلقة، وألفاظًا حسنة، وعبارة جيدة.... ثم قال: "واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب".
أما العامة في الشام ومصر والسواد، فقد علقوا ألفاظًا كثيرة من الفارسية والرومية والقبطية والنبطية، فسدت بها لغتهم فسادًا كبيرًا؛ لأنهم خلطوها بها خلطًا، ولم يجانسوا بين الأصل والدخيل، وليس يخفى أن أكثر ما تقتبسه العامية إنما هو من الأسماء، وأن اقتباس الصفات فيها قليل؛ لأن الأسماء هي في الحقيقة أدوات الاجتماع، والعوام إنما يلتمسون التعبير والإبانة كيفما اتفق لهم هذا الغرض، ولقد كانت الشام ومصر وسواد العرب أوفر خصبًا وأكثر عمرانًا من سائر الأمصار الإسلامية، فمن ثم كان عوامها أسقط ألفاظًا. وقد رأينا العلماء يصفون اللفظ العامي الساقط المبذوء وما يدخل في باب الرطانة من ذلك، بالسوقي -نسبة إلى السوق- لا يتجاوزون هذا الوصف؛ لأنه أبين في الدلالة في الفساد والابتذال؛ ولأن الأسواق لا تعنى من أمر الجيد والزيف إلا بألفاظ لغة الأرزاق "الدراهم" ... وهي بعد مجامع العامة على تباين أجناسهم، ومعارض الأشياء على اختلاف جهاتها، وقد قلنا في اللغات التجارية التي لا قوام لها من نفسها، وتلك حقيقة لغات الأسواق.
ورأينا العلماء ألفوا كتبًا "فيما تلحن فيه العامة" ككتاب أبي عبيدة، وأبي حنيفة الدينوري، وأبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكتاب "الفاخر في لحن العامة" للمفضل بن سلمة، "ولحن العامة" للفراء1، وكل هؤلاء لا يتجاوزون المائة الثالثة، ولا يعدون في صنيعهم أن يوردوا ألفاظًا من الفصيح حرفتها العامة، ثم يذكرون أصلها على صحته، وذلك يدل على أن العامية لم تكن طغت على
__________
1 ولأبي بكر الزبيدي الأندلسي المتوفى سنة 379هـ كتاب فيما يلحن فيه عوام الأندلس، ولعله جرى فيه مجرى هذه الكتب تقليدًا للمشارقة، ولسلامة بن غياض النحوي المتوفى ببغداد سنة 533هـ كتاب فيما تلحن فيه عامة زمانه، ولا نراه إلا تقليدًا ومتابعة، وكذلك فعل أبو منصور الجواليقي المتوفى سنة 539هـ فألف فيما تلحن فيه العامة ولم يخص كتابه بزمن، وهذا يدل على أن ذلك النوع من التأليف صار لغويا محضًا، وأن العمل فيه إنما كان شرحًا وجمعًا واختصارًا، كما فعلوا في سائر الفنون التي لا يؤلف فيها لشيء إلا لأن التأليف "عمل العلماء".(1/165)
الكلام، وإلا لما أمكن حصر ما يلحن فيه أهلها، بل لما كان لهذا الحصر معنى لا في القليل ولا في الكثير.
أما بعد القرن الثالث فكان يؤلف في "لحن الخاصة" كالكتاب الذي وضعه أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ وسماه "لحن الخاصة" وكتاب الحريري المسمى "درة الغواص، في أوهام الخواص" وقد وضع له الجواليقي تتمة؛ لأن اللحن بعد ذلك إنما كان يؤاخذ به خواص العلماء والأدباء -في كتابتهم لا في أقوالهم- أما العامة فكانت مناطقهم كما قلنا: لغة في اللحن لا لحنًا في اللغة!
ومما أعان على فصاحة العامية في صدر الإسلام، قيام الدولة الأموية العربية، وديانة العرب فيها بالعصبية، إلى سقوطها، حتى إن الموالي -وهم من الأوشاب والزعانفة في رأي العرب يومئذ لاحترافهم وخدمتهم إياهم كانوا يسمونهم بالحمراء1- أقبلوا على النحو والعلوم وأولعوا بها، حتى خرج منهم فقهاء الأمصار جميعًا في عصر واحد؛ ولولا خوفهم معرة اللحن ما ثبتوا على ذلك؛ لأنه إن كانت العرب قد أبقت عليهم فلأن خطبهم في ذلك لم يستفحل.
فلما جاءت الدولة العباسية وكان قيامها بنصرة الفرس -وخصوصًا أهل خراسان، حتى لقبوها بالدولة الخراسانية الأعجمية- ضعفت العصبية للعرب بما سكن من سورتهم وفثئ من حدتهم؛ فكان ذلك فتقًا في العربية أيضًا؛ ولم ينتصف القرن الثالث حتى اختلط العرب بالفرس والترك والفراعنة وغيرهم من طبقات الأعاجم الذين اتخذوا للدولة، وكان ذلك بدء شيوع الألسنة الحضرية التي هي لهجات العامية.
والبعد عن اللسان -كما قال ابن خلدون- إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغتة عن ذلك اللسان الأصلي أبعد؛ لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم، وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم، فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه، يبعدون عن الملكة الأولى. قال: واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق: أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل؛ فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة، والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه؛ فهي عن اللسان الأول أبعد، وكذا المشرق: لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولًا ودايات وأظآرًا ومراضع، فسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى، وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة، وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم
__________
1 يريدون بالحمراء: الأعاجم، وكان العرب لا يكنون الموالي بالكنى "لأنها تشريف" ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، وإن حضروا طعامًا قاموا على رءوسهم "للخدمة". وإن أطعموا رجلًا ما من الموالي لسنة وفضله وعلمه، أجلسوه في طريق الخباز لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب.
وقد ألف الجاحظ كتابًا في الموالي العرب نقل عنه صاحب العقد الفريد في الجزء الثاني من كتابه فارجع إليه.(1/166)
أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضًا بعضها بعضًا.
ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغرب "منذ القرن الرابع" وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية -فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين، وصار ذلك مرجحًا لبقاء العربية المضرية من الشعر والكلام، إلا قليلًا بالأمصار؛ فلما ملك التتر والمغل بالمشرق "في النصف الثاني من القرن السابع" ولم يكونوا على دين الإسلام، ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم، وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام، إلا قليلًا يقع تعليمه صناعيا بالقوانين المتدارسة من كلام العرب. قال ابن خلدون. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالبًا لها، فانحفظت ببعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق لها أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي؛ وكذا تدريسها في المجالس.
لهجات العامية وأسباب اختلافها:
وقد اختلفت لهجات العامية اختلافًا بينًا، ونهجت في كل مصر من الأمصار منهجًا متميزًا؛ بل هي قد جرت في ذلك مجرى اللغات المقتطعة من أصل واحد، كالعربية والعبرانية والسريانية، وكاللغات المشتقة من اللاتينية ونحوها مما هو من تكوين الزمن، وليس يخفى أن صنعة الزمن إنما تجري على المباينة والتنويع، ومدارها على إضافة الأعمار التاريخية في المصنوعات بحيث لا تنقطع الصنعة ما دامت لها مادة في الوجود؛ وذلك متحقق في كل ما ترى فيه آثار الزمن من أرقى أنواع الإحياء، كتكوين الأمم والأخلاق والعادات إلى أدنى أنواع الجماد كالجبال وغيرها؛ فالجبل من ذرات مجتمعة، والأمم كلها من أصل واحد، واللهجات العامية كافة من العربية الفصحى؛ ولكن الزمن لم يحفظ في الجميع إلا نسبة المادة فقط، فكأن كل يوم من الدهر إنما هو عامل مستقل يترك تأريخ عمله في كل الموجودات.
وإنما اعتبرنا اللغات العامية بسبيل الأعمال الزمنية؛ لأنها مطلقة غير مقيدة بالقيود الثابتة، كالكتابة والقواعد العلمية، ونحوها، مما يعتبر حدا للعمر التاريخي؛ فإن ما كتب لا يتغير، وما لا يتغير فقد فرغ منه الزمن؛ لهذا لا يمكن أن تكون اللغات العامية مستقرة على حالة واحدة في كل مصر من الأمصار من عهد نشأتها، بل لا بد من تغيرها في المصر الواحد جيلًا بعد جيل، ولولا هذا التغير ما تباينت في الجملة؛ لأن جميعها راجع إلى لغة واحدة وهي العربية الفصحى؛ وإذا أردت أن تعتبر ذلك فالق رجلًا من المعمرين في العامة، فإنك تلقى فيه تأريخ طبقتين أو ثلاث من هذا التغير اللغوي.
وليس يمكن ألبتة تأريخ هذا التغير في الشعوب التي تنطق باللهجات العامية على وجه من التفضيل وضرب واضح من البيان؛ لأن هذه اللهجات غير معروفة، وقد جهدنا كثيرًا في البحث فلم نعرف أن أحدًا نقل منها أمثلة في أدوارها الماضية؛ لأنها لغة الحاجة الراهنة، فلا يتصرف فيها بالتفنن(1/167)
في العبارات وتشقيق الألفاظ وما إلى ذلك مما ذهب الفصيح بمزيته؛ إلا ما يكون في بعض آدابها: كالموالي، والزجل، والشعر البدوي، وغيرها؛ وهذه الأنواع كلها يتوخى فيها أقرب الوجوه إلى الفصيح، وأكثر القائمين عليها من الفصحاء، وإنما يأتون بها تفننًا في وجوه الكلام. وقد وقفنا على أشياء كثيرة منها في عصور مختلفة إلى عصرنا هذا، فلم نر بينها على تباين جهات القائلين إلا فروقًا قليلًا في الصيغ العامية، وألفاظًا نادرة من اللغة البلدية، كان أكثر ما أصبناه منها في ديوان ابن قزمان الأندلسي "رأس الزجالين كما سيجيء في بابه" على أن شعر البدو وحده يمتاز بتصوير اللهجة البدوية.
بيد أننا وقفنا على قاعدة واحدة من قواعد عامية شرق الأندلس في القرن السادس، وهي مثال من شذوذ التصرف العامي الذي أومأنا إليه. قد نقل السيوطي "في بغية الوعاة" في ترجمة الحافظ أبي محمد بن حوط الله المتوفى بغرناطة سنة 612هـ في تفسير هذا اللقب "حوط الله": قال ابن عبد الملك: كأنه مصدر حاط يحوط مضافًا إلى الله تعالى ... "وذكر شيخنا أبو الحكم أن أصله حوطلة، مصغر حوت مؤنث على لغة شرق الأندلس؛ فإنهم يفتحون أول الكلمة من نحو: الحوت والسعود وينطقون بالتاء طاء -فيقولون في حُوت: حَوط- ويلحقون آخر المصغر لامًا مشددة مفتوحة في المؤنث مضمومة في المذكر، وهاء ساكنة؛ فيقولون في تصغير حوت: خَوْطلّة، وحوْطلّه".
فمن الذي يسمع "حَوطلُّه" في هذه الأيام، ويفهم أن المراد بها تصغير حوت؟ وقس على هذه الطرفة الغريبة ما لا سبيل إلى العثور عليه.
وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته ما لا سبيل إلى العثور عليه.
وتاريخ اختلاف اللغات العامية في جملته يرجع إلى أربعة أسباب:
1- وراثة المنطق: فإن التقليد في حكاية اللغة أصل طبيعي في الإنسان ولما بدأ الفساد والاضطراب في كلام أهل الأمصار، كان أهل كل مصر يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب1. قال الجاحظ: ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر ... قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة في أهل مكة، فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم. أنتم تسمون القدر برمة، وتجمعونها على برام، ونحن نقول قِدر، ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 11] وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علِّيَّه وتجمعون هذا الاسم على علالي، ونحن نسميه غرفة، ونجمعها على غرفات؛ وقال الله تبارك وتعالى: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: 20] وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] .. إلى أن عد عشر كلمات.
فحكاية الألفاظ واقتباس الأخف من اللغات -وإن كان أضعف وأقل استعمالًا في أصل اللغة- هو من خواص العامة: لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، فضلًا عن أن
__________
1 المراد باللغة هنا الألفاظ المتوارثة مما يكون من وضع القبيلة أو مما داخل كلامها.(1/168)
يحكموا اللهجات العربية نفسها، كما وهم بعضهم في استدلال بالمنطق على النسب، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه.
وكذا يقال في حكايتهم ألفاظ الأعاجم؛ كالذي كان في لغة أهل المدينة مما علقوه من الفرس النازلين بهم، وفي لغة البصرة إذ نزلوا بأدنى فارس وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الكوفة إذا نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب، وفي لغة الشام إذ كانوا من بقايا الروم، وفي لغة مصر إذ كانوا من بقايا القبط؛ وكذلك في لغة الأندلس والمغرب؛ وهذا أيسر أسباب الاختلاف التي أشرنا إليها.
2- علل الوراثة وطبيعة الإقليم: وذلك أن الناس يختلفون اختلافًا طبيعيا في كيفية النطق بما يكون في ألسنتهم من عيوب الوراثة: كاللفف، واللجلجة، والغمغمة، وما إليها؛ وبذا تختلف الكلمة الواحدة باختلاف الناطقين بها، حتى كأن فيها لغات كثيرة وهي لغة واحدة؛ وهذا فضلًا عن أن اللغات الأعجمية: كالفارسية والرومية والنبطية ونحوها؛ تصنع الألسنة على طرق متباينة بما فيها من التباين في المنطق بحسب الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها مما يكون في اللغات كزّا أو دِمثًا بحسب الأقاليم، حتى كأنه صورة ما بين الأمكنة من التباين الطبيعي؛ إذ اللغة صورة نفسية للإنسان، والإنسان صورة نفسية للإقليم.
وعلى هذا تجد منطق الإنجليزي لعهدنا ... كأنه نفخ آله تدار بالفحم الحجري ... وتكاد تحسب منطق الفرنسوي غناء موسيقيا؛ وهكذا مما لو تدبرت حقيقة الاختلاف فيه لرأيتها دلالة طبيعية على اختلاف الأقاليم، كأن الطبيعة تَسِم الألسنة كما تَسِم الوجوه، وكأنها مصنع إنساني فلا يخرج منه كل إنسان إلا برقمه وسمته؛ ولهذا السبب صارت كيفية النطق كأنها تنتشئ لغة أحيانًا، وصارت اللهجات العامية تختلف في المصر الواحد بل في البلدين المتجاورين، كما تراه في سوريا ومصر، وكما حدثوا به عن عرب تونس، فإن كل قبيلة هناك على ما يقال تتميز بخواص منطقية، حتى كأن كلام الواحد منهم انتساب صريح لقبيلته.
ومما لا نشك فيه أن العرب أنفسهم كانوا يعرفون تأثير الإقليم على فصاحتهم، ويعتبرون اختلاف ألسنتهم بهذا السبب. وقد وقفنا على ثَبَت لذلك، وهو ما رواه القالي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: لقيت أعرابيا بمكة، فقلت له: ممن أنت؟ قال: أسدي. قلت: ومن أيهم؟ قال: نهدي. قلت: من أي البلاد؟ قال: من عُمان. قلت: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: إنا سكنا قطرًا لا نسمع فيه ناجخة التيار1. قلت: صف لي أرضك. قال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صردح، ورمل أصبح2. فكأنه أراد أن لغته إنما جانست هذه الطبيعة في نقائها جفائها، فمن ثم كانت فصيحة خالصة.
__________
1 ناجخة التيار: صوته، وكأنه أراد ما يلازم البحار والأنهار من الرطوبة والخصب وخصال الطبيعة، وقد ثبت لفلاسفة التاريخ أن مواطن الحضارة إنما تكون على الشواطئ والشطوط.
2 السيف: شاطئ البحر، والمراد هنا ما يشبهه، والأفيح: الواسع، والصحيح: الصحراء، والصردح: الصلب، والأصبح: الذي يعلو بياضه حمرة.(1/169)
3- الإعراق في العجمة: فإن العجمة تصنع اللسان كما قلنا؛ ولذلك فهو إذا تناول الألفاظ العربية أداها على الوجه الذي يستقيم له وإن كان معوجًا وتصرف فيها بالحذف والقلب والإبدال، ومزجها بمادة العجمة حتى تنقلب إلى رطانة أو ما يشبهها, ولذا قال ابن خلدون: ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مُضَر، قصّر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية حصول ملكتها، لتمكن المنافاة حينئذ. قال: واعتبر ذلك في أهل الأمصار، فأهل أفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم.
ولقد نقل ابن رشيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: "يا أخي ومن لا عدمت فقده ... أعلمني أبو سعيد كلامًا أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعافنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج، وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلًا ليس من هذا حرفًا واحدًا، وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله"1.
"هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيه ما ذكرنا؛ وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد "سنة 779هـ" ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف، وأكثر ما يكون فيه الشعراء طارئين عليها..... وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظمًا ونثرًا ... وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية "في القرن الخامس" وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص ذلك، شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض ... وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليمها أيسر وأسهل، "بما هم عليه من معاناة علوم اللسان" ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلًا للغة أهل الأندلس. والبربر في هذه العدوة هم أهلها ولسانهم لسانها، إلا في الأمصار فقط، وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم، بخلاف أهل الأندلس ... ".
قلنا: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جشأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
قال: ولهذا السبب عينه تتبين الجفاء في عامية تونس والجزائر ومراكش حتى لتحسبها مخلفة عن بعض اللغات الأعجمية، فضلًا عما فيها من جسأة المنطق ونبوه إلا عن مسامع أهلها، بحيث يكاد لا يدور في مسمع الغريب عنهم إلا مقاطع صوتية يحسبها لأول وهلة ميتة في ذهنه؛ لأنها لا تتعلق بشيء فيما يسمع من معاني الحياة الذهنية.
ومما يجري مجرى الإعراق في العجمة، ضعف اللسان ورخاوته بحيث لا يحتمل الكلمات التي
__________
1 ليس هذا اللحن القبيح والخلط السخيف إلا من التباصر بالفصيح على ركاكة في الطبع، وذلك أمر فاش في فصحاء الجهال، وقد أذكرنا هذا الكتاب ما حدث به العسكري عن الأنصاري، قال: قلت لبعض الكتاب: ما فعل أبوك بحماره؟ قال: باعه "بكسر العين والهاء" قلت: فلم تقول: باعه؟ قال: وأنت فلم تقول بحماره؟ "بكسر الراء والهاء". فقلت: أنا جررته بالباء الزائدة، قال: فمن الذي جعل باءك تجر وبائي أنا لا تجر؟ "يريد الباء التي في لفظ باعه"!(1/170)
تتألف من أحرف كثيرة، أو تكون مركبة تركيبًا غير مستخف، فيحصل الذهن من الكلمة صورة مجملة تتركب من أخف أحرفها، ثم تصاغ عن طريقتي القلب والإبدال بحيث تخرج كأنها وضع جديد، وأكثر ما تصيب أمثلة ذلك في لغات الأطفال وألفاف العوام الذين لا مران لهم على تصريف الكلام والتقلب في فنونه، وإذا التمست ذلك في كلامهم أصبت كثيرًا من أمثلته، وتراهم فيه يختلفون ضعفًا وقوة، فلا بد أن تكون طائفة من ألفاظ العامية قد جرت في أصلها على هذا الوجه.
4- مخالطة الأعاجم: وهذا السبب مما ينوع مادة العامية تنويعًا محدودًا؛ لأنه مقصور على ما يقتبسه أهل الأمصار ممن يلابسونهم من الأمم المستعجمة، كأسماء الأدوات ومرافق الحياة ونحو ذلك مما لا أصل له في مواضعاتهم واصطلاحهم، وهو الدخيل بعينه إلا أن العامية تحيله إليها وتلحقه بمادتها كيف كان ما دامت لها حاجة إليه -وهي لغة الحاجة كما قلنا- فإذا مضى وقته أو انقطع سببه أهملته فتنزل منها منزلة الألفاظ المماتة، وذلك كأسماء الثياب التي كانت مستعملة في مصر لعهد المماليك مثلًا وما يجري مجراها من الألفاظ الفارسية والتركية والكردية وغيرها.
بيد أن الأمصار تختلف في هذا الاقتباس أيضًا بحسب الأسباب الثلاثة التي قدمناها، فمنها ما لا يتناول أهله إلا الألفاظ التي تمس إليها حاجتهم ثم يصقلونها ويعربون عجمتها ويخففون من غرابتها بما استطاعوا من المجانسة؛ وهؤلاء هم الذين بقيت لغتهم أقرب إلى العربية، كأهل مصر.
ومن أهل الأمصار من يذهبون في ذلك مذهبًا وسطًا لتكافؤ تلك الأسباب فيهم، كعامة الشام؛ ومنهم من يأخذ في ذلك كل مأخذ، كأهل طرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش، على تفاوت قليل بينهم؛ فقد أثبت الذين عنوا بدراسة هذه اللغات من المستشرقين1 أن الجزائريين ينقلون الألفاظ الفرنسوية أقبح نقل، حتى ليتعذر أحيانًا ردها إلى أصولها "وفي لغتهم ألفاظ تركية أيضًا، وقليل من الإسبانية والإيطالية" وإن في منطق التونسيين كثيرًا من الألفاظ الفرنسوية والتركية والإيطالية، وأن عامية المراكشيين خليط من العربية والبربرية والفرنسوية والإيطالية والإسبانية.
وجماع القول إنه لا بد من المجانسة الطبيعية في اقتباس الدخيل؛ فكلما رقت عذبات الألسنة ولانت جوانبها، كان الدخيل بحسب ذلك في منقطها؛ ومن ثم لا تسرف فيه بل تقف منه عند حد الحاجة. ولقد رأينا رجلًا من المعمرين في بعض القرى المصرية لا ينطق لفظة "البوليس" للشرطة إلا هكذا: "البلوص"، ولا يرجع عن لحنه مهما راجعته؛ لأن البلوص في اصطلاحهم "بلوص الزمارة، وهو هنة من القصب تشق على وجه معروف ثم توضع في رأس اليراع المثقب" فكأنه استروح لهذا الوضع الثابت في لغته فألحق به الوضع الطارئ عليها وترك تعيين الدلالة للقرينة, وبخلاف ذلك ترى الدخيل في المناطق الجاسية والألسنة الكزة كما أشرنا إليه.
__________
1 أولع كثير من هؤلاء الفضلاء بدرس اللغات العامية وضبط قواعدها وتعيين أصولها وإحصاء أنواع الدخيل فيها على تباين أمصارها، ولهم في ذلك كتب ورسائل لا حاجة إلى ذكرها؛ لأننا التزمنا الإيجاز في هذا الفصل العامي، إذ هو ليس من غرضنا وإنما استطردنا إليه لاتصاله بالكلام على اللحن وفساد اللسان.(1/171)
وقد بقيت عامية البدو أقرب إلى الفصيح من سائر اللهجات، لقلة مخالطتهم للأعاجم، ولا يزالون على حيال لغات آبائهم إلا في الزيغ عن الإعراب، وإلا في ملكة الوضع ونظام اللغة1 ولهم في عاميتهم المحافل والمجامع والخطباء والشعراء؛ وقد اعتبر ابن خلدون تغير ألسنتهم من قبيل ما تغير في لسان مضر عن موضوعات اللسان الحميري "أي: تغيرًا قياسيا في الملكات"؛ وذلك بعض ما وهم فيه، وإنما استدرجه الغلو في الرد على "خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق" كما يقول، حيث يزعمون أن البلاغة لعهده قد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانيه إلخ. وإنما نظر النحاة إلى معنى كمالي في الطبيعة، ونظر ابن خلدون إلى الطبيعة في معناها؛ فإن اللغة من الملكات المتوارثة، وشرط الكمال في الوراثة ارتقاء النوع وتحسينه، إذا كان العرب قد ورثوا لغتهم ثم أضافوا إليها أسبابًا كثيرة من معاني الكمال وورثوها أعقابهم فنقص هؤلاء من كمالها ونكروا من محاسنها، أفلا يكون ذلك خليقا بأن يسمى فسادًا باعتبار المعنى الكمالي وإن كان عن أسباب طبيعية ثابتة.
ولما تعطلت ألسنة البدو من الإعراب تصرفت في الكلام على غير نظام، فاختلفت من ثم لهجاتهم، حتى لتسمع العربي منهم فيغطي منطقه عندك على ما يعطيه كلامه؛ فإذا هو فصل ألفاظه رأيتها عربية صريحة؛ وقد سمعنا بعض شعرائهم من المعاصرين ينشد في رثاء الحسين عليه السلام شعرًا بدويا مطلعه:
تمنتن بلفين فوق احصنا ... يوم كربلا وونجيه قبل الجنا
وألقى الشطر الأول متلاحق الكلمات مختلس الحركات فلم نفهم منه شيئًا حتى كشف لنا عن معناه، فإذا "تمنيتني بألفين فوق أحصنة" يريد نجدة الحسين عليه السلام بفرسانه قبل أن يستشهد؛ وانظر أين ما نطق مما أراد، وبهذا تتبين ما قدمناه، من أن كيفية النطق قد تنشئ لغة أحيانًا.
هذا ما نراه في أسباب اختلاف اللغات العامية، وهي في جملتها تاريخ طبيعي لهذا الاختلاف، غير أن كل سبب منها في تفصيله يحتمل أبحاثًا مستفيضة بما يلتمس له من الأمثلة في اللهجات المتباينة على كثرتها، ثم ما يستقصى مع ذلك من حوادث التاريخ الاجتماعي التي أنشأت اللغة إنشاء وجعلت لها في كل مصر معنى متميزًا، وفي كل بلد هيئة مقومة وصفة بينة، حتى كأن لغة الأمة على الحقيقة أمة من اللغة.
__________
1 قال ابن خلدون: إن هذا الجيل الباقين "يعني البدو" معظمهم ورؤساؤهم شرقًا وغربًا في ولد منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس بن غيلان، من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور، قال: وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر.
ومن أراد أن يقف على أنساب بقايا العرب المتفرقين في مصر والشام والمغرب فعليه بما نقله القلقشندي من ذلك في الجزء الأول من كتابه "صبح الأعشى" ثم برسالة المقريزي "البيان والإعراب، عن النازلين بأرض مصر من قبائل الأعراب" وكلاهما مطبوع. وهذا غير ما يكون لمن يلتمس التحقيق فيقابل بين ما في الكتابين وما في الأصول العامة من كتب الأنساب.(1/172)
ومما ننبه عليه أن العربية الفصحى مدنية معنوية لم تبرح قائمة على تحرير هذه اللهجات العامية وتهذيبها كلما خالطتها في التعليم والقراءة -فإن ميراث العامة إنما يثبت في الأميين- واعتبر ذلك في البلاد التي تفتح فيها المدارس وتنشر الصحف وتبث المؤلفات؛ فإنك ترى عامية أهلها تتفصح على نسبة مطردة بما يلين من حواشيها ويرق من جوانبها ويستأنس من غريبها؛ وهذا هو السبب في رقة لهجات الحواضر لعهدنا دون ما يجاورها من القرى، ثم في تفاوت لهجات بعض القرى الكبيرة، ثم في اخلاتف اللهجة في أهل القرية الواحدة؛ حتى لقد تجد لهجة الرجل أرق وأعذب من لجهة زوجه وأولاده، ثم تجد مذهبه من ذلك غير مذهب جاره وصاحبه؛ ولا يكون السبب في هذا التفاوت غير صحيفة يقرؤها كل يوم، فقد بدءوا يرجعون إلى شأن "عامة التاريخ" يوم كان الفصيح منتشرا وأسباب البيان متوفرة ومجالس العلم آهلة وحلقات الدروس حافلة، وهكذا يعيد التاريخ نفسه بما تقضي به سنة الله، وإلى الله ترجع الأمور.(1/173)
الباب الثاني: الرواية والرواة
مدخل
...
الباب الثاني: الرواية والرواة
وهذا باب من الأدب وقف التاريخ على عتبته إلى اليوم وليس من يتسبب لفتحه أو يتطوع لمعاناته أو يتقلد بعض البلية في الصبر على مكروه ذلك، حتى كأنه قطعة من الأرض سويت على دفين مضى حسابه، وكان جسمه بيت الحياة المقفر، فكل الأرض إذا أغلقت عليه بابه؛ على أنه -كما تعلم- ذلك الباب الذي خرجت منه اللغة منذ زمان، وكان قبل هذا الصدأ المتراكب يفتح قفله "باللسان" فعاد كأنه جحر سدت به الأيام على الأيام، وكأن الأدب قد تدرع منه فما تزال تندق فيه أسنة الأقلام؛ بيد أننا وصلنا به أسباب المطعمة، وناهضناه من حيث يهتز، وعالجناه من حيث يندفع، وأعان الله وله الحمد والمنة، فأنطق للقلم ما خرس من صريره، وألان ما قد استمر من مريرة، وإذا لم نكن مددنا لك في هذا الأدب، فقد جئنا بما يوقفك على سره وصميمه، وينحرف بك عن معوج ذلك المنهج إلى مستقيمه، وآتيناك من البحث ما يكبر عن أن يعد من قليله إذا لم يعد من عظيمه.(1/175)
الأصل التاريخي في الرواية:
كان العرب أمة أمية؛ لا يقرءون إلا ما تخطه الطبيعة، ولا يكتبون إلا ما يلقنون من معانيها، فيأخذون عنها بالحس ويكتبون باللسان في لوح الحافظة؛ فكان كل عربي على مقدار وعيه وحفظه: كتابًا، أو جزءًا من كتاب؛ وكانت كل قبيلة بذلك كأنها سجل زمني في إحصاء الأخبار والآثار.
ولقد رأينا كثيرًا من الباحثين يزعمون أن الأصل في حفظ العرب كونهم قومًا بادين، وأن قلة مرافق الحياة التي في أيديهم كانت هي الباعث لهم على التوسع في الحفظ والمران عليه؛ وهو رأي لا يستقيم على النظر، ولا يصح عند التحقيق؛ لأن أقوامًا غير العرب قد تبدوا في عصور مختلفة ولم يؤثر عنهم من نوادر الحفظ وفنونه بعض ما أثر من هؤلاء؛ ولكن الصحيح ما قدمناه في غير هذا الموضع، من أن العرب قوم معنويون، ولم يجر من الأحكام النفسية على أمة من الأمم ما جرى عليهم؛ ولهذا كان لا بد لهم في أصل الخلقة من الحوافظ القوية التي ترتبط مآثر تلك النفوس ارتباطًا، وإلا اختل تركيبهم الطبيعي، وانتفت الموازنة بين قواهم، فلم يقم صلاح القوة الواحدة بفساد الأخرى.
وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبر ما اتسعوا فيه من المحفوظ؛ فإنك لست واجده إلا في المعاني النفسية، مما يرجع إلى التفاخر والتفاضل بالأحساب والأنساب والتعاير بالمثالب والتنابز بالألقاب؛ ولو أن الكتابة كانت فاشية فيهم ما عدلوا إليها ولا استغنوا بها عن الحفظ؛ لأن سبيل تلك المعاني الطبيعية أن تجيء من أداة طبيعية أيضًا، حتى تكون عند الخاطر إذا خطر، والهاجس إذا بدر، وليس لذلك غير اللسان.
والعربي إذا فاخر أو نافر لا يكون من همه أن يقنع بطريقة من المنطق يدير لها الكلام على أشكاله وقضاياه، وإنما همه أن يضع لسانه في مفصل الحجة ثم يرسلها غير ملجلجة.
وكل أمة تضطر إلى شيء مما عددناه فإنها تنزل على هذا الحكم الطبيعي؛ كاليونان في جاهليتهم؛ فقد حفظوا ما وضعوه من أنساب آلهتهم ثم قرنوا بها أنسابهم، حتى لم يكن فيهم بيت من بيوت الشرف والحكمة إلا وهو معلق بسلسلة من النسب فرعها في الأرض وأصلها في السماء ... وكذلك كان الرومان في أجيالهم الأولى؛ فإن فئة "البطارقة" منهم كانوا يرجعون بما يحفظونه من أنسابهم إلى أصول ليست عتيقة في الأرض.
فمثل هذه المعاني لا يتكل فيها على الكتب والخطوط دون الحفظ؛ وعلى حسب ما كان من اختلافها وتعدد أنواعها في العرب بما لم يكن في غيرهم من سائر الأجيال, كان العرب بطبيعتهم أثبت الناس حفظًا وأتمهم حافظة؛ وكانت الكتابة غير طبيعية في نظامهم الاجتماعي؛ ومن ثم نشأ فيهم الأخذ والتحمل، فكان كل عربي بطبيعته راويًا فيما هو بسبيله من أمره وأمر قومه؛ فلما أن اهتدوا إلى الشعر وتوسعوا فيه -وسنأتي على تاريخ ذلك في بابه- جعلوا يرتبطون به أرقى تلك المعاني النفسية،(1/177)
حتى صار الشاعر لسان قومه: يذود عنهم، ويدفع عن أحسابهم، ويغتمز في أعدائهم؛ وبهذا انفرد بمعنى تاريخي في الرواية؛ إذ صار كأنه إنما يروي للتاريخ، بخلاف غيره من شيوخ القبيلة وأهل أنسابها القائمين على مفاخرها؛ ممن يرجع إليهم في علم ذلك خاصة دون الرواية العامة، وذلك فيما نرى أصل المعنى التاريخي في الرواية العلمية عند العرب؛ وثبته ما كان من صنيع الرواة أنفسهم، وفي اتخاذهم الشعر عمودًا للرواية والاستشهاد به على الخير وسواه، واطراح كثير مما لا شاهد له منه كما سيمر بك.
ولما صارت للشعر تلك المنزلة، مست الحاجة إلى من يتفرغ لرواية المفاخر والمثالب، ويتقصص أخبارها في أجذام العرب على نحو من الاستقصاء والاستغراق، كما هو الشأن في الأوضاع العلمية؛ فنشأت لذلك طبقة النسابين، وهم رواة الجاهلية وعلماؤنا، وكان أمرهم قبيل الإسلام؛ ومن أشهرهم دغفل بن حنظلة، وعبيد بن شَرْيَة الجرهمي، وابن الكيس النمري، وابن لسان الحمرة، وغيرهم؛ وبهذا تميزت الرواية بالمعنى العلمي.(1/178)
الرواية بعد الإسلام:
فلما جاء الإسلام وكان مرجع الأحكام فيه إلى الكتاب والسنة، كان الصحابة يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذًا علميا؛ ليتفقهوا في الدين وليكونوا في جهة القصد من أمرهم، اختيارًا للصواب، وصدا عن الخطأ؛ فكانت مجالسه عليه الصلاة والسلام هي الحلقات العلمية الأولى التي عرفت في سلسلة التاريخ العربي كله، كما كان هو صلى الله عليه وسلم أول من علم، وأول من صدرت عنه الرسائل التي تشبه لمؤلفات العلمية: كرسالة الزكاة التي أملاها وكانت عند أبي بكر رضي الله عنه.
فلما قبض صلى الله عليه وسلم، بدأ من بعده علم الرواية؛ إذ لم يعد من سبيل إلى الاستدلال والفضل إلا بها، حتى يكون الرأي عن بينة، وحتى تكون المعرفة بالحق عيانًا؛ فوضع أبو بكر رضي الله عنه أول شروط هذا العلم، وهو شرط الإسناد الصحيح؛ إذ احتاط في قبول الأخبار؛ فكان لا يقبل من أحد إلا بشهادة على سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم1، والعهد يومئذ قريب، والصحابة متوافرون، والمادة لم تنقض بعد؛ لذلك كانت الشهادة على السماع في وزن العدالة والضبط, وكل ما تقوم به صحة الإسناد.
ثم كان عمر رضي الله عنه أول من سن للمحدثين التثبت في النقل؛ إذ كانت طائفة من الناس قد مردت على النفاق، وكان الحاجة قد اشتدت إلى الرواية واعتبرها الناس بمنزلة علمية، لانفساح المدة وانتباه النفوس إلى تقادم العهد بصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآثار ستكون علم من يتخلفون عن مراتب أهل السابقة من التابعين فمن بعدهم؛ فكان عمر وعثمان وعائشة وجلة من الصحابة رضي الله عنهم يتصفحون الأحاديث ويكذبون بعض الروايات التي تأتي ويردونها على أصحابها، ثم خشي عمر أن يتسع الناس في الرواية وقد شعروا بالحاجة إليها فيدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، فكان يأمرهم أن يقلوا الرواية، وكان شديدًا على من أكثر منها أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه؛ لأن المكثر وإن جاء بالصحيح فقد لا يسلم من التحريف، أو الزيادة أو النقصان في الرواية، وقد سمعوه عليه الصلاة والسلام يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار".! وعلى هذه الجهة من التوقي والإمساك في الرواية كان كثير من جلة الصحبة وأهل الخاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام: كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا، كسعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
وكان أكثر الصحابة رواية أبو هريرة، وقد صحب ثلاث سنين وعمر بعده صلى الله عليه وسلم نحوًا من خمسين سنة -توفي سنة 59هـ- ولهذا كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه، وهو أول راوية اتهم في الإسلام، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه، لتطاول الأيام بها وبه، إذ توفيت قبله بسنة، غير أنه كان رجلًا فقيرًا معدمًا، فكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشِبَع ِبطنه، لا يشغله عن الصفق
__________
1 وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي صدقته.(1/179)
بالأسواق "البيع والشراء"، والتصرف في التجارات، ولا لزوم الضياع والعمل في الأموال كغيره من الصحابة، فلهذا حفظ ما لم يحفظوا، وأتى عنه من الرواية ما لم يأت عن غيره منهم.
ثم كانت الفتنة أيام عثمان رضي الله عنه، واضطراب من بعدها حبل الكلام من الخلافة، وخاض الناس في ضروب من الشك والحيرة والقلق، فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت، وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة فاطمة، أو دلالة قائمة، على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والأغفال، مما هو غلط لا شوب فيه من تعمد الكذب.
وقد قال عمران بن حصين, وهو من الصحابة، توفي سنة 52هـ: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالًا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون1.
غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة؛ فكان الخطب لم يستفحل؛ حتى إذا خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقًا وجعلوا أهلها شيعًا بدءوا يتخذون من الحديث صناعة، فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب؛ ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة مما يشبه أحاديث خرافة؛ فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل هذه الوجوه في عصور مختلفة.
أما القصاص فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب من الأحاديث؛ ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فطر العقول، أو كان رقيقًا يحزن القلوب ويستغزر العيون؛ وللقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة.
وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المستشنعة، والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان والرومان وأساطير الهنود والفرس، ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح في العقول ولا يستقيم على النظر.
وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير وما إليه. وأمثلة ذلك كله فاشية في كتب موضوعات الحديث، ولا محل لها في هذا الفصل؛ فإنما نريد به متابعة تأريخ النشأة الأولى لعلم الرواية، وهي إنما كانت في الحديث كما علمت.
__________
1 أول من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدًا متعمدًا، عبد الله بن سبأ الذي تنسب إليه السبئية، وهم من غلاة الروافض من اليمن، كان يهوديا أظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليوقع الفتنة بينهم. وقد دخل الشام لذلك في زمن عثمان رضي الله عنه فلم يوافقه أحد. فخرج إلى مصر، وجعل يطعن على أبي بكر الصديق وعمر ويكذب على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم؛ ثم أخذ بعد ذلك وقتل شر قتلة. وابن سبأ هذا أيضًا هو أول من أظهر الرفض في أيام علي رضي الله عنه، حين حكم الحكمين في صفين.(1/180)
تدوين الحديث:
واستمر الحديث بعد الطبقة التي كان منها صغار الصحابة وكبار التابعين -كطبقة ابن عباس- على ما يعترض فيه من عوارض السهو والإغفال، وما يدخل عليه من الشبه والتأويلات، وعلى أن بعض الثقات ربما أخذه عن غير الثقة -حتى كانت خلافة عمر بن عبد العزيز "بويع سنة 99هـ وتوفي سنة 102هـ" فرأى أن الحديث متعلق بأفراد الرجال وقد أسرع الموت فيهم، وأن أحدهم ربما طويت معه طائفة من الخبر إذا هو مات، وخشي تزيد الناس وشيوع الكذب إذا قل الصحيح، وكانت قد فشت في زمنه أشياء مما يتعمد فيه الكذب لغير مصلحة يتأول عليها: كالأحاديث التي كان يكذب فيها عكرمة؛ مولى عبد الله بن عباس "توفي عكرمة سنة 105هـ" وبرد؛ مولى سعيد بن المسيب "توفي سعيد سنة 94هـ" وغيرهما. وقبل ذلك تكلم معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي في القدر، وهما أول من فعل ذلك1، وجعلا الكلام في القدر نحلة يناظر يها، وقد وضعا شيئًا من الأحاديث؛ ثم كان أمر الخوارج قد بلغ الغاية، فخشي عمر عاقبة ذلك وما أشبهه، فكتب إلى أبي بكر بن حزم نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة "توفي سنة 120هـ" أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاكتبه: فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
وكان هذا أول البدء في تدوين الحديث وجمعه؛ إذ كتب منه أبو بكر أشياء كانت عند أفراد, ولم يكن الحديث يدون قبل ذلك، إلا ما كان يقيده بعض الصحابة، كعبد الله بن عمر وغيره، ممن رأوا أن السنن تكثر وتفوت الحفظ، فكتبوا. أما سائر الصحابة فأكثرهم أميون، وقليل منهم يكتبون ولكن لا يتقنون الكتابة ولا يصيبون التهجي إذا كتبوا، فتركوا التدوين لذلك.
ولما فشت الكتابة بينهم، كانت الصدور أوثق من الكتب؛ لتوافر الرجال؛ ولأن الحديث كان يطلب للعمل به، فكان لا بد من معرفة حامله لتحقق عدالته قبل معرفة الحديث نفسه، على نحو ما مر بك آنفًا؛ ومضوا على هذه السنة حتى حدثت الأحداث وانصدعت الفتوق؛ ولقد روي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة نهيًا، وقال: إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة. وجاءه رجل فقال: إني كتبت كتابًا أريد أن أعرضه عليك، فلما عرضه عليك أخذه منه ومحاه بالماء، ولما سئل في ذلك قال: إنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم.
ثم أمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم الزهري عالم الحجاز والشام وصاحب اليد البيضاء
__________
1 ويقال إن أول من بحث في القدر وتعمق وانحرف، رجل من أهل القرآن يقال له بيسريس، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأعانه معبد وأخذ غيلان عنه؛ أما أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد بعد الإسلام، فهو الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار آخر ملوك المروانية، وله مذاهب أخذها عن بعض اليهود وقال بها، ولا محل هنا للإضافة فيها؛ وكان الجعد أول من خالف السنة والجماعة أيضًا.(1/181)
على فن الرواية؛ لأنه أول من قرر شروطها "50-124هـ" فدون الحديث تدوينًا مراعيًا فيه شروط الرواية الصحيحة.
وقيل: إن أول من جمع في الحديث لذلك العهد، الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن انتهى الأمر لكبار الطبقة الثالثة، وصنف الإمام مالك بن أنس "94-179هـ" كتاب "الموطأ" بالمدينة، وعبد الملك بن جريح بمكة "توفي سنة 150هـ" وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام "ولد سنة 72هـ وتوفي ببيروت سنة 157هـ" وسفيان الثوري بالكوفة "97-161هـ" وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة "توفي سنة 167"1.
ونسبوا لمالك تدوين الحديث؛ لأنه أودع كتابه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه؛ وجاء به مع ذلك على شروط الرواية2؛ وكان أول من فعل ذلك، وقيل إن عبد الملك بن جريج سبقه إليه3.
ثم شاع التدوين بعد هؤلاء فيمن تلاهم من الأئمة، كل على حسب ما سنح له، فمنهم من رتب على المسانيد، ومنهم من رتب على العلل، بأن يجمع في كل متن من متون الحديث طرقه واختلاف الرواة فيه، بحيث تتضح علل الحديث المصطلح عليها بينهم -وسيأتي شيء منها- ومنهم من رتب على أبواب الفقه ونوعه أنواعًا, وجمع ما ورد في كل نوع وفي كل حكم إثباتًا ونفيًا بابًا فبابًا، إلى غير ذلك مما يخرجنا بسط الكلام فيه عن الكلام فيما نريد أن نبسطه؛ فنجتزئ بالإيماء إليه.
الإسناد في الحديث:
بعد أن دُوّنت أوائل الكتب ورأوا ما دخل على الحديث من الشبه والتأويلات، وما هجّن به من التزيد، والاختلاق، صار لا بد من حياطة الصحيح منه بأسماء الذين صح نقله عنهم وصح نقلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الإسناد.
وقد كانت أحوال النقلة من الصحابة معروفة، وكان الجميع مشهورين في أعصارهم، فلم يكن من باعث على الإسناد المصطلح عليه في الرواية.
وكان منهم أفراد بالحجاز، ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق، ومنهم بالشام ومصر، فلما أدركهم التابعون أدركوا منهم عددًا، وربما كان عند الواحد ما ليس عند الآخر، وربما جاء الحديث الواحد عن طائفة منهم، فاضطر الآخذون أن يضبطوا أسانيد ما حملوه؛ ولقد أدرك الشعبي وحده 500 من الصحابة، وهو عامر الشعبي رأس الأدباء والمؤدبين، ولد في سنة 21هـ على الأكثر،
__________
1 وذكروا مع هذه الطبقة تصنيف هشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن حميد بالري، وابن المبارك بخراسان؛ وكلهم في عصر واحد، فلا يدرى أيهم أسبق.
2 ذكروا أن مالكًا رضي الله عنه روى عن 300 شيخ من التابعين و600 شيخ من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفهمه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وأنه ترك الرواية.
3 وكذلك كان مالك أول من صنف في تفسير القرآن بالإسناد على طريقته في الموطأ.(1/182)
وتوفي سنة 107هـ على أوسع الأقوال، وكان يعد عالم الكوفة بين التابعين ويقرن به ابن المسيب في المدينة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام.
ولما أمعن الناس في الرحلة إلى أفراد الصحابة المتفرقين في الأمصار، ومن اشتهر من التابعين من بعدهم، تعددت طرق الرواية، فمن ثم تعين على الرواة أن يبينوا إسناد كل طريقة، وابتدأ ذلك من عهد الإمام مالك بن أنس، وهو سند الطريقة الحجازية بعد السلف رضي الله عنهم، ثم كثر طالبوا الحديث ورواته، فتشعبت الأسانيد، وصار لا بد من تعديل الرواة وبراءهم من الجرح والغفلة، وذلك لا يتهيأ إلا بمعرفة طبقات الرجال على مراتبهم من العدالة والضبط، وكيفية أخذ بعضهم عن بعض؛ ومن ذلك نشأ علم الرواية؛ وأول من قرر شروطه الزهري كما قدمنا، واستمر بعده زمنًا لا يعمل به إلا الثقات كما رأيت فيما ذكروه عن شيوخ مالك.
ولما كانت الأحاديث معروفة، وكان لا مطمع لمتأخر أن يستدرك شيئًا منها على المتقدمين، انصرفت عناية العلماء من المتأخرين إلى تمحيص ما يروى، وتصحيح الأمهات المكتوبة: كالموطأ، وصحيحي البخاري ومسلم، وضبطها بالرواية عن مصنفيها، والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها، وانصرف جماعة منهم إلى الاتساع في الإسناد، فطلبوا الحديث الواحد من طرق مختلفة قد تبلغ إلى عشرين طريقًا بأسانيدها؛ وكان من ذلك أن استبحروا في الحفظ واشتغلوا به، وتبسطوا في فنون الرواية وجهاتها، بما لا تتعلق بقليله أمة من الأمم؛ ولكل ذلك تاريخ طويل أمسكنا عن كثيره وسيأتي قليل منه فإننا لا نقصد مما قدمناه إلا أن نتصل بما يلي:(1/183)
اتصال الرواية بالأدب:
ولقد جرت العرب في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها؛ لأن الإسلام لم يهدم مما قبله إلا ما كان شركًا أو داعية إلى الشرك، فاستمرت الرواية للشعر والخبر والنسب والأيام والمقامات ونحوها، مما أثروه عن أسلافهم في أعقاب الجاهلية، بل توسعوا في بعض هذه الفنون أول عهدهم بالإسلام، لمعالجة الحجة في الرد على شعراء المشركين ممن كانوا يهاجون شعراء النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنفصله في موضعه -وقد علموا أنهم لا يؤلون من مفاخر العرب وحكمتها إلا إلى ما يحفظونه عنهم؛ فإذا هم أغفلوا رواية ذلك والتعلق به وارتبط ما بقي منه، لم يأمنوا أن يذهب على من بعدهم، فيفوت الناس علم ظهرت حاجتهم إليه بعد ذلك في تفسير القرآن والحديث.
وكان أحفظ الصحابة للأنساب أبو بكر الصديق، وأرواهم للشعر عمر بن الخطاب؛ أما أبو بكر فخبره مع دغفل النسابة مشهور، وسنومئ إليه، وأما عمر فقد نقل المبرد في "الكامل" في سياق المناظرة التي جرت بين ابن عباس ونافع بن الأزرق من زعماء الأزارقة "قتله المهلب سنة 65هـ وسنأتي على ذكر هذه المناظرة في باب القول في القرآن" أن ابن عباس بعد أن مل من مساءلة نافع وأظهر الضجر، طلع عمر بن أبي ربيعة عليه فأنشده من شعره قصيدة في ثمانين بيتًا، فحفظها ابن عباس ولم
يكن سمعها إلا ساعته تلك، وقال: لو شئت أن أرددها لرددتها، ثم أنشدها1؛ فقال له نافع: ما رأيت أروى منك قط! قال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي. وكان عمر مع ذلك غاية من الغايات في الأنساب وقيافة الناس، وستعلم شرح ذلك في بابه.
بيد أن كل ما حفظوه وتناقلوه لم يدون منه شيء ولم يكن فيه إسناد؛ لأنه لا خطر ولا يتعلق به أمر من أمور الدين، بل هو لا يعدو أن يكون أدبًا ونافلة وبابًا من التطوع؛ ومضوا على ذلك وهم يضيفون إليه رواية أشعار المخضرمين -الذين أدركوا الجاهلية والإسلام- حتى انقضى عهد الراشدين، دون أن تكتب قصيدة أو يدون خبر من أخبار العرب، وهم قد تركوا ذلك في السنة كما علمت, فلأن يتركوه في هذا ونحوه أولى.
__________
1 وقد ذكر صاحب الأغاني هذا الخبر من رواية عمر بن شبة. ثم قال: وفي غير رواية عمر بن شبة أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، أو ما سمعها قط إلا تلك المرة صفحًا، فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط! فقال: لكنني ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب عليه السلام!(1/184)
أولية التدوين في الأدب
مدخل
...
أولية التدوين في الأدب:
وهذا موضع بعيد المنزع منتشر الجهات، أمعنا له في البحث وأبعدنا في الطلب عن فسحة في الرأي وبسطة في الذرع وروية وأناة، حتى أمد الله بعونه وسنى لنا ويسر، فظهرنا من ذلك على مقدار يغني شيئًا في تبين نسق التاريخ ويعين على تأمله بما تتهيأ معه السلام في الحكم ويستقل به عمود الرأي إن شاء الله.
وقد رأينا أنه لم يكتب شيء مما يكون بسبيل من العلوم -غير ما سبقت الإشارة إليه من كتابة بعض الحديث- إلا في عهد كبار التابعين؛ وأول ما عرف من ذلك أن ابن عباس كان يكتب الفتاوي التي يسأل فيها، ثم كان أول ما كتب في الأدب صحيفة أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ "وقيل إنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز بين سنة 99 و 101هـ عن 85 سنة" وهي المعروفة عند النحاة بتعليقة أبي الأسود، وفيها اختلاف بينهم نذكره في محله1.
ثم كان زمن معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية "توفي سنة 60هـ بعد أن ولي عشرين سنة" فوفد عليه عبيد بن شرية الجرهمي النسابة الأخباري2، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وافتراق الناس في البلاد ونحو ذلك؛ فلما أجابه أمر معاوية أن يدون قوله وينسب إلى عبيد هذا؛ وكان ذلك أول ما دون في الأخبار. ولما استلحق معاوية زيادًا بن أبيه "مات سنة 53هـ" وهو من الموالي، وكان قد ادعى أبا سفيان أبا وأَنِفَت العرب لذلك ونافروه فظفروا عليه، وعلى نسبه، عمل "أي: زياد" كتابًا في المثالب ودفعه إلى ولده
__________
1 لم يكتب أبو الأسود إلا هذه الصحيفة، وكان أصحابه يكتبون عنه، ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أنه رأى في مكتبة عند بعضهم قمطرًا كبيرًا فيه نحو: 300 رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصري وورق صيني وورق تهامي وجولد أدم وورق خراساني، وفيها خطوط بعض الصحابة؛ وبينها أربعة أوراق قال: "أحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمه الله عليه بخط يحيى بن يعمر" ويحيى هذا من أبرع أصحاب أبي الأسود، وسنذكر أمره بعد.
أما أول كتاب وضع في النحو على التحقيق، فهو الكتاب الذي وضعه نصر بن عاصم الليثي النحوي من أصحاب أبي الأسود، وتوفي سنة 89هـ ذكره ياقوت.
2 في طبقات الأدباء؛ روى هشام بن الكلبي قال: عاش عبيد بن شرية 300 سنة؛ وأدرك الإسلام فأسلم، ثم ساق له خبرًا مع معاوية ما نحسبه إلا حديث خرافة، وقد ذكر ابن قتيبة "في التأويل" ما تناقلوه في عمر لقمان صاحب النسور الذي زعموا أنه عاش أعمار سبعة أنسر، وكان مقدار ذلك 2451سنة، فقال: وهذا شيء متقادم لم يأت فيه كتاب ولا سنة وليس له إسناد، وإنما هو شيء يحكيه عبيد بن شرية الجرهمي وأشباهه من النسابين ... على أن ابن قتيبة بعد هذا الذي أنكره "صحح" بإسناده إلى أبي عمرو بن العلاء أن المستوغر بن ربيعة عاش 320....(1/185)
وقال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم1؛ وكان هذا أول كتاب وضع في المثالب. وقد رأينا في "الفهرست" لابن النديم أن أبا مخنف من أصحاب علي كرم الله وجهه، ألف كتابًا ضمنه بعض التراجم؛ فإذا صح هذا يكون أو مخنف أول من دون في ذلك؛ وكان هذا الرجل صاحب أخبار وأنساب، والأخبار عليه أغلب.
ويقال إن أول من ألف في السير عروة بن الزبير المتوفى سنة 93هـ، وألف وهب بن منبه، صاحب الأخبار والقصص "وهو من أبناء الفرس المولدين باليمين وتوفي سنة 116هـ عن تسعين سنة2 فكان أول من دون هذه الموضوعات التاريخية، ووضع بعد ذلك محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124هـ كتابًا في المغازي، فكان أول من دونها؛ وكتب بعده محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151هـ كتابه الشهير في السيرة ومزجه بالخرافات والموضوعات على نحو ما فعل ابن منبه، وجعل كل ذلك عربيا، وعدوه أول من ألف في السيرة؛ لأنه وضع كتابه للمنصور؛ ولأنه اتسع فيه بما لم يحمل عن أحد غيره كما رأيت, ثم جاء ابن النطاح من الأخباريين في أواخر القرن الثاني، وهو أول من ألف في الدولة الإسلامية وأخبارها كتابًا. ثم وضع الخليل بن أحمد المتوفى سنة 160هـ "وقيل 170 و175هـ" كتاب "العين" في اللغة، وهو أول كتاب جمعت فيه. وجاء ابن الكلبي النسابة المتوفى سنة 204هـ فدون أنساب العرب، وكان أول من فعل ذلك؛ ثم كان أبو عبيدة الراوية المتوفى سنة 211هـ "وقارب المائة" فصنف في أيام العرب، وهو أول من صنف فيها.
هذا ما وقفنا عليه من الخبر في أولية التدوين في الأدب خاصة، دون ما استفاض بعد ذلك، ودون هنات تركناها وستأتي في أخبار الرواة، وكل تلك الكتب لا إسناد لها على نحو ما كان في كتب الحديث.
وأول من صنف الكتب مسندة في الحديث، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي المتوفى سنة 150هـ، ولذا عدوه أول من صنف الكتب في الحجاز، كما أن سعيد بن أبي عمرو أول من صنف بالعراق؛ لأنهم لا يعتبرون من الكتب إلا ما كان مسندًا؛ أما غير ذلك فلا يعدون به شأن ما كان
__________
1 لم يؤلف أحد في مثالب العرب كعلان الشعوبي، وأصله من الفرس، وكان ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة. فقد عمل كتاب "الميدان" في المثالب هتك فيه العرب وأظهر مثالبها وفضح أشهر قبائلها.
أما قبل علان هذا فقد كان كتاب زياد أول كتاب من نوعه، ثم ثنى عليه الهيثم بن عدي، وكان دعيا، فأراد أن يعر أهل الشرف تشفيًا منهم، ثم لما كان هشام بن عبد الملك بن مروان أمر النضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي أن يبينا مثالب العرب ومناقبها، وقال لهما ولمن ضم إليهما: دعوا قريشا بما لها وما عليها، فوضعا كتابًا ليس فيه لقريش ذكر. وقد وضع قوم آخرون كأبي عبيدة وابن غرسية الأندلسي كتبًا في المثالب، ولكنهم لم يبلغوا من النسبة التاريخية مبلغ من ذكرنا، وسنأتي على شيء من هذا المعنى وتفصيل أسبابه في بعض الفصول من باب الشعر.
2 قلت: اختلف الرواة في تحديد السنة التي توفي فيها وهب بن منبه، فقيل سنة 110هـ، وقيل سنة 114هـ وقيل سنة 116هـ.(1/186)
يكتبه العلماء قديمًا لأنفسهم أو لمريديهم؛ فإن بعضهم كانوا يكتبون ما يحدثون في صحيفة ويعطونها للمريدين فيحدثون منها، ولذلك يقال مثلًا: إن فلانًا ثقة وبعض روايته صحيفة. ومن هنا نشأت لفظة الصحفي كما سيأتيك.
على أن العلماء في أواخر القرن الأول كانوا يكتبون عن العرب ما يصيبونه من الشعر والخبر ونحوهما، ولكنهم لا يدون مثل هذا تأليفًا؛ وقد ذكروا أن كتب أبي عمرو بن العلاء "70-159هـ على الأكثر في التاريخين" التي كتبها عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا إلى قريب من السقف1؛ مع ذلك فلم يذكروا له تصنيفًا واحدًا.
ونظن أن أول من كتب عن العرب هو الحافظ الزهري الذي دون الحديث؛ فقد نقل الجاحظ في "البيان" عن أبي زياد قال: كنا لا نكتب إلا سنة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما احتيج إليه عرف أنه أوعى الناس.(1/187)
تاريخ الإسناد في الأدب:
قد علمت كيف كان بدء الإسناد في الحديث وما أمر الحاجة التي بعثت عليه وكيف انتهى إلى التدوين, أما تأريخ اتصال ذلك بالأدب فقد دللناك على أن العرب إنما جرت في إسلامها من أمر الشعر والخبر والنسب ونحوها على مثل عاداتها في جاهليتها، فلا جرم أنهم كانوا ينسبون أكثر ما يتناقلونه إلا أن النسبة غير الإسناد فيما اصطلح عليه الرواة؛ لأن الإسناد لا يراد به إلا شهادة الزمن على اتصال النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المروي، حتى يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة، كالدعوى التي تتلقى بثبتها من البينة، وهذا لا يستقيم إلا إذا صارت الرواية صناعة علمية، ولم يكن في العرب شيء من ذلك بالتحقيق، إلا بعد قيام دولة بني مروان حين اتخذوا المؤدبين لأولادهم؛ وذلك هو العهد الذي تسلسل فيه إسناد الحديث أيضًا لتشعب طرقه كما أومأنا إليه من قبل.
وأول إسناد عرف في الأدب كمان علميا بحتا، وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه في العربية وأشرنا إليه, ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لا بد فيها من الإسناد وإن كان قصيرًا لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خيف على لسان العرب من الفساد ومست الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والاستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك -نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها:
__________
1 قالوا إن أبا عمرو تنسك في آخر أيامه فأحرق هذه الكتب، وكان ذلك دأب طائفة من العلماء: يتورعون أن يأخذ الناس عنهم ما عدوه من سيئات أنفسهم فيسندوه إليهم، وقد يكون فيه الباطل والموضوع والمنكر وما لا يعرفه إلا صاحبه؛ ومنهم من كان يغسل كتبه؛ لأنها جلود، وأغرب ما وقفنا عليه أن حافظ أهل الكوفة ومحدثها محمد بن العلاء بن كريب المتوفى سنة 243هـ "أي: بعد أن نضجت العلوم" أوصى أن تدفن كتبه معه فدفنت.... فإن لم يكن هذا هو الحب الميت فلا ندري ماذا يكون, وقد ظهر لمحمد هذا بالكوفة 300 ألف حديث، قالوا: وكان ثقة مجمعًا عليه.(1/187)
كحماد الراوية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما, وصارت الرواية علمية محضة, وبهذا تحقق معنى الإسناد في الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب.
ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعًا إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشبه من غريب القرآن والحديث، حتى لا تجد فيهم ألبتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدثون يرون أنه ليس براو عندهم من لم يرو من اللغة1؛ لأن موضوع الحديث أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا لما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مرويا بسنده أو مأخوذًا عمن يسنده؛ انتفاء مما عسى أن يرموا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالفقه والبراعة في الفتيا مفتقرة إلى الأصلين: الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي رحمه الله قال إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه.
وقد رأت تلك الطبقة التي أشرنا إليها أن ما بعث على الإسناد في الحديث قد تحقق في الأدب، من افتعال اللغة والتزيد في الأخبار والصنعة في الشعر, وأرادوا أن يطرد علمهم من ينبوع واحد، فجعلوا الصنفين سواء في الرواية وأوجبوا الإسناد فيهما جميعًا.
ولم يكن الإسناد واجبًا قبل ذلك على نحو ما هو في الحديث، وأنت تعتبر هذا بأن كل أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم إنما تنتهي إلى الطبقة الأولى فحسب، كأبي عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وغيرهما ممن تصدروا للرواية وكانوا ظهور هذه الصناعة في السماع والتدوين، ولا تكاد تجد رواية واحدة يتصل سندها إلى الجاهلية في شيء من الشعر والخبر, وإنما يكتفون بالنسبة إلى أولئك؛ لأنهم في أول تاريخ الرواية؛ ولأنهم جميعًا يزعمون أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية أو نقلوا عمن أدركهم2. ولم يكن من سبيل إلى رد ما تناقلوه عن الجاهلية؛ لأنه كان كل ما في أيدي الرواة.
__________
1 ورواة الأدب هم الذين جعلوا غريب الحديث علمًا وخصوه بالتدوين، وأول من فعل ذلك منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 211هـ وقد ناهز المائة؛ فإنه جمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابًا صغيرًا ذا أوراق معدودة، لبقية من المعرفة كانت في الناس يومئذ؛ ولأنه مبتدئ مثالًا جديدًا؛ ثم جمع النضر بن شميل المتوفى سنة 204هـ كتابًا أكبر من ذاك شرح فيه وبسط، ثم الأصمعي المتوفى سنة 213هـ، ثم قطرب المتوفى سنة 206هـ، ثم وضع أبو عبيدة القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ كتابه الذي قرر به هذا الفن، جمعه في أربعين سنة وكان خلاصة عمره؛ لأنه تتبع الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين فجمع منها ما احتاج إلى بيانه بطرق أسانيدها وحفظ رواتها، ثم تعقبه ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ فتتبع ما أغفله في كتاب ذي مجلدات عدة؛ وتتابع أهل اللغة بعد ذلك على التصنيف في هذا الفن مما لا محل لبسطه في هذا الموضع.
2 رأينا في كثير من الكتب أن أبا عمرو بن العلاء روى عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية؛ وذلك خطأ ركبه النساخ، والصواب أنه روى عن أعراب قد أدركوا أعراب الجاهلية؛ لأن أبا عمرو ولد سنة 70هـ وتوفي سنة 159هـ على الأكثر في التاريخين، وكان لا يأخذ إلا عن العرب؛ قال الأصمعي: جلست إليه عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي.(1/188)
ولم نعثر في كل ما وقفنا عليه على سند في إحدى الروايات يتصل بالجاهلية، وإنما وقفنا من ذلك على شيء لبعض الشعراء، كالذي نقله علي بن حمزة في كتاب "أغاليط الرواة" قال: إن رؤبة بن العجاج الراجز "توفي سنة 145هـ عن سن عالية" سئل عن قول امرئ القيس:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لامين على نابل1
فقال: حدثني أبي عن أبيه، قال: حدثتني عمتي وكات في بني درام، قالت: سألت امرأ القيس وهو يشرب طلى "خمرًا" له مع علقمة بن عبيدة: ما معنى قولك: كرك لامين؟ مررت بنابل وصاحبه يناوله، فما رأيت أسرع منه، فشبهت به.
وخبر آخر، وهو ما نقلوا عن حماد الراوية أنه قال: كانت للكميت "الشاعر المتوفى سنة 126هـ" جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية: فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه عنه؛ فمن هناك كان علمه.
والله أعلم بأمر هاتين الروايتين وأين تقعان من الصحة.
__________
1 اختلف علماء الشعر في شرح هذا البيت، حتى تحدث الأصمعي عن أبي عمرو وقال: كنت أسال منذ ثلاثين سنة عن هذا البيت فلم أجد أحدًا يعلمه، حتى رأيت أعرابيا بالبادية فسألته عنه ففسره لي.
ومعنى نطعنهم سلكى أي: طعنًا مستويًا، وقيل: السلكى: على القصد أمام وجهك، والمخلوجة: المعوجة عن يمين وشمال، والكر أي: الرد، واللامان: السهمان، والنابل: صاحب النبل.
وقال القتيبي: إنما هو "كر: كلامين" أي: تكرير كلام، بمعنى قول القائل للرامي، ارم ارم، أي: ليس بين الطعنة والطعنة إلا بمقدار اللفظتين، وقال زيد بن كندة: يريد أنه يطعن طعنتين مختلفتين ويوالي بينهما كما يوالي هذا القاتل بين هاتين الكلمتين.(1/189)
فائدة الإسناد إلى الرواة:
مما تقدم تعلم أنه لولا الحديث لما خلصت اللغة، ولجاءت مشوبة بالكذب والتدليس، ولفسد هذا العلم وما بني عليه، وذلك قليل من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونضرته، غير أنا رأينا قومًا ممن يردون على الرواية ويتحكمون على السماع بالغرض مجردًا من النصفة، وبالرأي مستهترين به دون أن يجعلوا له نصيبًا من التثبت والتوقي, يجحدون فائدة الإسناد ولا يرون له خطرًا كبيرًا، ثم لا يجدون في سلسلة تلك الأسماء التي توصل بها الأخبار إلا لغوًا تاريخيا, ومنهم من يرى أن ذلك إنما جاء من أثرة الرواة ومحبتهم أن تبقى أسماؤهم مذكورة متدارسة، فكأنهم دسوا تراجمهم في العلوم لتبقى ببقائها، وأن ذلك من حبائل ثقفهم وفطنتهم..... إلى آخر ما يعقدون فيه أعناقهم من مثل هذه الآراء التي يموهون بها على قصار النظر، وذوي العقول المدخولة؛ وهؤلاء وأشباههم كمن ينظرون إلى الدوحة الباسقة من أعلاها فيحسبونها قد نبتت من السماء؛ لأنهم لم يستقروا تاريخ الإسناد، ويظنون أن هذه العلوم المسندة قد دفعت للناس على الكفاية, ووقعت إليهم على قريب من التمام، فهي هي في الكتب وفي الصدور، لم يعترضها عارض ولا دخل عليها وهن ولا فساد.
وفريق آخر رأيناهم ينكرون كل ما جاءت به الروايات ويتهمون الكتب ويطعنون على الإسناد،(1/189)
ومن غريب التناقض في أمر هؤلاء أن في نفس اعتراضهم الجواب عليه، فهم يقولون إن الخبر من الأخبار لا يثبت إلا عن رؤية حتى تكون حكايته على يقين، فإذا عارضتهم بخبر وناظرتهم فيه قالوا لك: هل رأيت؟ هل شهدت؟ هل لقيت صاحب الخبر، وليت شعري، هل غاية الإسناد إلا أن تكون كأنك رأيت وشهدت ولقيت صاحب الخبر الذي تسنده؟ وهل هو -الإسناد- إلا تحقيق المعاصرة التي هي الشرط في ثبوت الرواية حتى كأنك أشهدت الزمان على صحة ما ترويه؛ لأن كل رجل في سلسلة الإسناد إنما هو قطعة من الزمن تتصل بقطعة إلى قطعة حتى يتهيأ من ذلك مسلك التاريخ ويتضح نهجه كأنك تبصره على رأي العين ويقين الخبرة.(1/190)
حفظ الأسانيد في الحديث:
وقد عني المحدثون بعلم الرجال أتم عناية وأكملها، بحيث لا يتعلق بغبارهم في ذلك الشأو مؤرخو الأمم جمعاء، حتى جعلوا الإسناد عاليه ونازله كأنه علم الأخلاق التاريخي، قد رتبوا فيه الرجال على طبقاتهم، وأنزلوهم على المراتب المتفاوتة من العدالة والضبط، ووزنوهم في كفتي التجريح والتعديل1، وحاسبوهم على كل دقيق وجليل، وبحثوا فيما كان من أمرهم على العزيمة وما كان على الرخصة، وحفظوا أسماءهم وتبينوا صفاتهم، وتصفحوا على أخلاقهم، كما يعرف الرجل الحكيم مثل ذلك من بنيه وأقرب الناس إليه.
وهذا شأن لا تصوره الكلمات، ولا يصفه إلا النظر في كتبه المدونة، كالكتب الموضوعة للطبقات والموضوعات وشورح الأمهات من كتب الحديث، كصحيح البخاري ونحوه.
وقد قال دغفل بن حنظلة: "إن العلم أربعًا: آفة، ونكدًا، وإضاعة، واستجاعة؛ فآفته النسيان،
__________
1 مما يشترطونه في رواية الحديث: أن يكون عدلًا ضابطًا، وقد اختلفوا في تعريفهما اختلافًا كثيرًا يناسب خطر ما يبنى عليهما، حتى ردوا العدالة مرد الملكات الثابتة في النفس؛ لأن مبناها على الأخلاق التي تعصم من الكذب والابتداع، واصطلحوا على أن الضابط هو الذي يقل خطؤه في الرواية ووهمه فيها بحيث يوافق الثقات فيما يرويه، ويسمون ذلك إتقانًا أيضًا، أما الثقة فهو الذي يجمع بين العدالة والضبط. ولا يقبلون من مجهول العدالة، كما لا يقبلون من مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء؛ ولكل ذلك شروط وأقسام كان المتقدمون يتشددون فيها، فلما تأخر الزمن وتشعبت طرق الإسناد، وكثر الرجال وقت شروط العدالة البالغة، وذلك حوالي المائة العاشرة؛ ترخص المحدثون في تلك الشروط، واكتفوا بأن يعتبروا في راوي الحديث الإتقان وحسن الأحدوثة ونحو ذلك، حتى لا تنفصم سلاسل الإسناد إذا فرض أنه لم يكن يد من إحلال أحد رجالها المتأخرين بما اشترطه المتقدمون.
ولألفاظ التعديل عندهم مراتب: أعلاها قولهم:
1- ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة.
2- خير صدوق مأمون لا بأس به.
3- شيخ.
4- صالح الحديث.
ولألفاظ التجريح مراتب أيضًا: أدناها:
1- لين الحديث.
2- ليس بقوي، وليس بذلك.
3- مقارب الحديث، أي: رديئه.
4- متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواه. رواه بمرة، أي: قولًا واحدًا لا تردد فيه.
وبعض هذه الألفاظ يستعمله الأدباء، ولذلك ذكرناها حتى تعرف مراتبها. ومتى انتهينا إلى الكلام في علم الرواية وتدوينه نذكر أول من تكلم في الرجال جرحًا وتعديلًا.(1/190)
ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لم تشبع منه". قال الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لسوء تدبير أكثر العلماء، ولخرق سياسة أكثر الرواة؛ ولأن الرواة إذا شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه وتدبر ما قد دونوه، كان ذلك الازدياد داعيًا إلى النقصان، وذلك الربح سببًا إلى الخسران.... ا. هـ. والازدياد الذي وصفه كان شأن طائفة من العلماء انصرفوا إلى حفظ الأسانيد وطلبوا الحديث الواحد من طرق كثيرة، رغبة في تنوع أسانيدها، لا لفائدة إلا التميز بهذا النوع من الحفظ، فإنه بعد أن اتسعت فنون الرواية أخذ أهلها في مذاهب التخصيص، فبعضهم كان أحفظ للنسب، وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ لمتون الألفاظ؛ وكل طائفة إنما تشارك غيرها فيما تعلمه وتنفرد دونها بما عرفت به، ليكون إليها المرجع فيه. ولكن أغرب ما وقفنا عليه مما يتعلق بالاتساع في حفظ الأسانيد، ما ذكروه من أن ابن الأنباري المتوفى سنة 327هـ كان يحفظ 120 تفسيرًا للقرآن بأسانيدها1، وهو الذي قيل فيه أن من جملة تصانيفه كتابًا عن غريب الحديث يقع في خمسة وأربعين ألف ورقة، وله أخبار أخرى من نوادر الحفظ نذكر بعضها في محله. وهذا الرجل لو سمع أو قرأ مائتي تفسير بأسانيدها لحفظها؛ فإنه كان آية من آيات الله في الوعي وقوة الحافظة.
وبعد أن ضعف علم الرواية واقتصروا في الحديث على ما لا بد منه، كان لا ينبغ من حفاظ الأسانيد المتسعين فيها إلا الأفذاذ الذين تعقم بهم الأزمنة المتطاولة؛ ومن أشهرهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية الأندلسي المتوفى سنة 633هـ، وقد انفرد هذا الرجل بحفظ حواشي اللغة، حتى صار عنده مستعملًا، وامتاز بذلك في المتأخرين، كما انفرد بحفظ الأسانيد، حتى إنه لما حضر إلى مصر في دولة بني أيوب -أيام الملك الكامل- جمعوا له علماء الحديث فذكروا له أحاديث بأسانيد حولوا متونها ليعرفوا مبلغ حفظه فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية وردها إلى أسانيدها الصحيحة.
وكان مثل هذا يعد غريبًا في القرن الثالث، والحفاظ متوافرون، والأسانيد قريبة الأطراف، فإن علماء مصر الذين امتحنوا أبا الخطاب إنما حذوا في ذلك حذو علماء بغداد في امتحان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح المتوفى سنة 256هـ رحمه الله؛ فقد نقل كثير أنه لما قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا من هذا الإسناد آخر، وإسناد هذا لمتن آخر، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس؛ امتحانًا لحفظه، فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من العشرة التي حفظها؛ فئقال: لا أعرفه! واستمروا يسألونه وهو يقول: لا أعرف! حتى أتوا على المائة! فلما علم أنهم فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني قلت فيه كذا صوابه كذا؛ واستمر حتى أتى على تمام العشرة، ثم فعل بالآخرين مثل ذلك ما يخطئ ترتيب حديث علي غير ما ألقي عليه، ولا في نسبة حديث إلى غير صاحبه الذي ألقاه، وهو كل ذلك يرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، فأقر الناس له بالحفظ. وقيل إنه كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطته، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد العراق في إسناد الشام، وإسناد الحرم في إسناد اليمن؛ فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة، لا في الإسناد ولا في المتن؛ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
__________
1 مر بك أن أول من صنف التفسير بالإسناد، مالك بن أنس رضي الله عنه، ثم صار من بعده طريقة المحدثين، حتى ليقل أن تجد حافظًا منهم لا تفسير له.(1/191)
حفظ الأسانيد في الأدب:
ذلك شأن الإسناد في الحديث وعنايتهم بحفظه، أما الإسناد في الأدب فلا يراد منه إلا توثيق الرواية وإثبات صحتها، وضمان عهدتها، لا أن يطلب الرواية بذكر الإسناد حكاية ما يرويه على أنه معدل، وإثبات ما يسنده على أنه إلى مقنع؛ فإن اللغة ترجع إلى أقيسة معروفة، وإن ما شذ عن هذه الأقيسة موضوع قطعًا إلا أن يحمل عن الثقة، أو ينفرد به أهل الكفاية فيوردونه على أنه من الأفراد والنوادر؛ وإن الشعر والخبر قد فشا فيهما الكذب والتوليد منذ القرن الأول، ونشأ كثيرون من الرواة يشدون من العلوم الموضوعة، وينفقون من الأخبار المكذوبة، ويموهون بمزج هذه الأمور على الناس، ويخترعون الأشعار الكثرة عند مناقلة الكلام وموازنة الأمور؛ ومع ذلك فلم يعن بأمرهم أهل التفتيش والتحقيق من العلماء، إلا حيث يكون الخبر أو الشعر مظنة الشاهد وموضع المثل، فهناك يضربون دونه الإسناد؛ مخافة أن يجري في شيء من العلوم التي هي قوام الأصليين من الكتاب والسنة؛ فحيث وجدت المعنى الديني تجد التثبت والتحقيق الذي لا مساغ فيه إلى خطرات الظنون، فضلًا عن فَرَطات الأوهام؛ ومتى انتفى هذا المعنى عن شيء فأمره عندهم بحساب ما يدور عليه, وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبره بما وضعه العلماء من ترجمة الإمام البخاري ونقد كتابه؛ فما رأينا في الإسلام كتابًا استوفى شروط النقد الصحيح كلها كهذا الكتاب1، ولو أنهم تناولوا ببعض تلك العناية كبار الرواة وفحول الشعراء ونوابغ الكتاب، لكانت العربية اليوم أغنى اللغات آدابًا وأمتنها أسبابًا وأوسعها في تاريخ الآداب كتابًا؛ ولكن الأدباء لم يجنوا من ذلك إلا ثمرة المراء ونكد الخلاف، ولم يحصلوا إلا الأشياء القليلة مما يتعلق باللغة؛ لأنها موضع الشاهد؛ وذلك من أمرهم كما أومأنا إليه، بل كان أهل الشعر منهم يرون أنهم أضاعوا العمر في الباطل، ولم يحلوا من ثواب الأعمال بطائل2.
والأسانيد في الأدب قصيرة؛ لأن الرواة ما زالوا يحملون عن العرب قرونًا بعد الإسلام على ما سبق لنا بيانه في الباب الأول، ومن حمل شيئًا فهو سنده؛ ثم إن الرواية قد درست بعد القرن الخامس على أبعد الظن، ولم يبق إلا بعض الأسانيد العلمية كما سيجيء، فكان عمر الإسناد ثلاثة قرون على الأكثر؛ دع عنك ما كان من شأنهم في هذا الإسناد؛ فإن الصدور منهم يكتفون بالنسبة غالبًا -وهي بعض طرق الرواية كما ستعرفه- فيقولون: روينا عن فلان، وحُدثنا عن فلان، ويكون بين الراوي والمروي عنه جيلان وأكثر.
بيد أن كل ذلك لا يدفع الثقة بما يرويه أهل الضبط والتحصيل منهم، وهم قوم معدودون يعرفونهم بالعدالة؛ ثم لأنهم يأخذون عن الثقات؛ ولأن أكثر ما يروونه لا وجه للخلاف فيه، وإذا اختلفوا في شيء فلا يكون ذلك قادحًا فيهم؛ لأن مظنة الخلاف إنما تكون في ضعف الرواية أو الراوية, وسيأتي شرح ذلك فيما يأتي.
__________
1 قالوا إن الذين سمعوا كتاب البخاري من مؤلفه رواية، تسعون ألف رجل، كلهم روى عنه وأسند إليه؛ فتأمل!
2 سيأتي لهذا المعنى مزيد من البيان في موضع آخر.(1/192)
أصل التصحيف:
وقد قلنا إن الإسناد في الحديث استتبع الإسناد في الأدب، وذكرنا في أخذ المحدثين عن الصحف أنهم يغمزون بذلك، وإن كان ما في الصحيفة صحيحًا، فيقولون مثلًا: إن فلانًا ثقة وبعض روايته صحيفة1، وقد جرى أهل الأدب في أمر الإسناد على ذلك أيضًا. وأصل التصحيف رواية الخطأ عن قراءة الصحف باشتباه الحروف؛ فقد كانوا يكتبون في القرن الأول بدون نقط ولا شكل، يفعلون ذلك في المصاحف وغيرها؛ فكان الذي يأخذ القرآن من المصحف ولا يتلقاه من أفواه القراء تشتبه عليه الحروف فيصحف، وغبر الناس على ذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان، ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات؛ فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط، فغبر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلا منقوطًا، وكان أبو الأسود قد وضع النقط قبل نقط نصر لضبط الحروف -شكلها- فاشتبه الأمر واستمر يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام -أي: الشكل بالحركات على ما أرادوه في أول التعبير بذلك- فكانوا يتبعون النقط بالإعجام. ولكن ذلك لم يكن مستقصى في كل ما يكتب ولا كان كل من يقرأ يستقصي ضبط الكلمة ونقطها2 فلم يزل يعتري التصحيف؛ فالتمسوا حيلة فلم يقدروا على غير الأخذ من أفواه الرجال، وكان ذلك كله قبل أن تستبحر فيهم الرواية؛ فلهذا وأشباهه قالوا: لا تأخذوا القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي!
ولما استجرت لهم أطراف الرواية وكثر التبدين، كان أشد ما يهجى به الرواية إسناده إلى الصحف؛ لأن ذلك غميزة في ضبطه تحصيله، ولأن الرواة كانوا يتفاوتون بمقدار ما يصحفون أو
__________
1 أصل تجويزهم الرواية من الصحيفة والإسناد بها إلى صاحبها، أن رسول الله أملي صحيفة الزكاة والديات، وهي التي كانت عند أبي بكر رضي الله عنه- وقد أشرنا إليها- ثم صار الناس يخبرون بها عنه؛ لأنها انتهت إليه بطريق المناولة، وهذا هو أصل الإجازة التي هي من طرق الرواية كما سنبينه. وقد وقفنا على أخباره مما يتعلق بالصحف المروي منها أضربنا عن ذكرها اختصارًا.
2 وقفنا على أسماء بعض علماء ذكروا أنهم كانوا يخطئون إذا قرءوا القرآن نظرًا؛ فمن أشهرهم أبو صالح مولى أم هانئ، أخذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان مفسرًا: فكان الشعبي يراه فيقول: تفسر القرآن ولا تحسن أن تقرأه نظرًا! وحماد الراوية: ذكر العسكري أنه كان يصحف نيفًا وثلاثين حرفًا من القرآن، وأبو عبيدة الراوية، قال ابن قتيبة في المعارف: وكان يخطئ إذا قرأ القرآن نظرًا؛ فإذا كان هذا بعض شأنهم في القرآن وهم يحفظونه ويفسرونه، فالشأن في غير القرآن أعجب، ولم يزل هذا التصحيف من أمر من لم يعتادوا القراءة إذا قرءوا.(1/193)
يصححون1؛ ولا يكون التصحيح إلا بلقاء العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم المتقنين لما حفظوه والإسناد إليهم؛ وقد هجا بعض الشعراء أبا حاتم السجستاني المتوفى سنة 250هـ وهو واحد عصره في فنه، فلم يزد على أن قال في عيبه والزراية عليه:
إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس
وأورد العسكري في موضع من كتابه "التصحيف" شرح البيت لابن مقبل، فنبه قبل إيراده على أنه كتبه من كتب لبعض العلماء، قال: "ولا أضمن عهدته؛ لأني لا أعتد إلا بما أخذته رواية من أفواه الرجال أو قرأته عليهم".
فلما كان القرن الخامس وابتدأت الرواية تعفو وتجود بأنفاس أهلها، بعد أن تميزت العلوم ووضعت فيها الكتب الكثيرة، ودونت روايات الصدور المتقدمين -ضعف أمر الإسناد شيئا غير قليل، ولكن بقيت فيه بقية يتماسك بها، حتى إن أبا محمد الأعرابي المعروف بالأسود العلامة النسابة الذي تصدر في القرن الخامس للرد على العلماء والأخذ على القدماء كان لا يستطيع أن يروي بغير إسناد؛ فكان يسند إلى رجل مجهول يسميه "محمد بن أحمد أبا النداء" وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: من أبو النداء في العالم؟ لا شيخ مشهور ولا ذو علم منشور2!
__________
1 أحصى العسكري المتوفى سنة 382هـ في كتابه "التصحيف والتحريف" ما وهم فيه جلة العلماء وأفراد الرواة من البصريين والكوفيين، وكتابه أجمع ما وضع في هذا الباب، وقد طبعت منه قطعة في مصر.
2 قال ياقوت "عن أبي محمد الأعرابي": كان علامة نسابة عارفًا بأيام العرب وأشعارها وأحوالها.... وكان لا يقنعه أن يرد على أهل العلم ردا جميلًا، إنما يجعله من باب السخرية التهكم وضرب الأمثال ... وقال: رأيت في بعض تصانيفه، وقد قرئ عليه سنة 428هـ.
والعجيب أن ياقوتًا ترجم أبا النداء المجهول وقال: واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها..... ثم صرح أنه استدل على ذلك برواية الأسود عنه في كل كتبه.... مع أنه لا يعرف له شيخًا ولا تلميذًا غير الأسود هذا!(1/194)
إسناد الكتب:
ومن يومئذ صار أمر الإسناد مقصورًا على تلقي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها؛ لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل وكان أمرهم قد اختل، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئا، وذلك ما سميناه آنفًا بالأسانيد العلمية. وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفًا من أول عهد التأليف، ولكنه لم يكن مما يتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفى سنة 335هـ يتباهى عظيمًا بكتبه وهي مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع! وقد هجي بذلك؛ لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد1.
__________
1 المحدثون يشترطون مع سماع الكتب مقابلة ما يكتبه المحدث بأصل شيخه الذي كتب عنه، أو بأصل أصل شيخه المقابل به، بشرط أن يكون الأصل الثاني قوبل على الأول، أو بفرع مقابل بأصل السماع، وليس من هذا شيء في الأدب.(1/194)
ومن ثم صاروا يطلقون لفظ "الصُّحُفي" على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي "في أواخر القرن الخامس" وكان يحسن كتاب سيبويه في النحو، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحُفيا.
وكان موفق الدين النحوي المتوفى سنة 858هـ آية عصره في النحو، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حِسّه، فلما جرت المناظرة بينه وبين عمر بن الشحنة النحوي المشهور وظهر فيها موفق الدين هذا، لم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال له: أنت صحفي! يعيبه بذلك، فسافر موفق الدين من إربل إلى بغداد ولحق بها مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج وكثيرًا من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم إلى إمام1.
ومن كان ثقة مسندًا للكتب وفاته إسناد كتاب مما يعده الناس من الأمهات والأصول، عدوه متساهلًا في الرواية، وقد نقل ياقوت أن علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي "من صقلية" إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب المتوفى سنة 515هـ؛ لما قدم إلى مصر سأله نقاد المصريين عن كتاب الصحاح، فذكر أنه لم يصل إليهم، قال: ولذلك نسبوه إلى التساهل في الرواية، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب لهم إسنادًا وأخذه الناس عنه مقلدين له2. ولهذا قلما كان يظهر كتاب لإمام في فنه إلا سارع الناس إلى قراءته عليه، ورحلوا إليه في ذلك بغية الانتماء وتحقيق الإسناد؛ وقد ذكروا أن بعضهم كان يقرأ المقامات على الحريري "توفي سنة 516هـ" فوصل إلى قوله:
يا أهل ذا المغني وقيتم شرا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرا
قد رفع الليل الذي اكفهرا ... إلى ذراكم شعثًا مغبرا
فقرأها "سغبًا معترا" ففكر الحريري ساعة ثم قال: "والله لقد أجدت التصحيف، فرب شعث مغبر غير سغب، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أني كتبت بخطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت علي لغيرته كذلك! ".
ولا يزال إسناد كتب الحديث وبعض كتب العربية معروفًا عند كبار العلماء إلى اليوم.
__________
1 كان موفق الدين مفتتنًا في العلوم، ولكنه كان الآية الكبرى في العربية، وقالوا إنه لما رحل إلى بغداد أخذ معه جملة لينفقها على النحو، فلم يجد من يرضيه علمه فأنفقها على تعلم الضرب بالعود ... وكان مكي الذي انتمى إليه يراجعه في المسائل المشكلة يرجع إلى رأيه في أجوبة ما يورد عليه.
2 أول من أدخل كتب اللغة والنحو إلى مصر ورواها بأسانيدها هو الوليد بن محمد التميمي النحوي المشهور بولاد، وأصله من البصرة، ولكنه نشأ بمصر، ثم رحل وأخذ عن المهلبي تلميذ الخليل بن أحمد وغيره، وروى كتب اللغة والنحو، ولم يكن بمصر قبله شيء منها، وتوفي سنة 263هـ، وسنذكر في تاريخ الأدب الأندلسي أول من أدخل كتب الأدب إليها.(1/195)
الحفظ في الإسلام:
بسطنا في أول الكلام ما حَضَرنا من أسباب حفظ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ونريد هنا أن نذكر تأريخ الحفظ بعد ذلك؛ فإنه كان مادة الرواية ومدارها. ولقد رأينا كثيرًا من أهل عصرنا يمضغون علماء العرب مضغًا، ويلوون ألسنتهم بعبارات من الإزراء على ما وردت به الرواية من أنباء حفظهم، لا يعجبون في أنفسهم من أن يكون ذلك صدقًا فحسب، ولكنهم يعجبونك من كذبه، وينبهونك على سخافة المغالاة فيه بزعمهم؛ لما يشق عليهم من النزوع إلى مثله والأخذ في ناحيته، ولقصر نظرهم عن الطموح إلى بعض مراتبه! فيأتونك بالكلام اعتسافًا، ويتخرصون بالأحكام جزافًا، ويزعمون أن أكثر ما روي عن علمائنا من الحفظ فهو إما تنفيق لهم في سوق التاريخ, أو تلفيق عليهم في مساقه؛ ولو أنك اعترضت الحجة في مدارج أنفاسهم لرأيتها هواء، أو كلامًا هراء: فهم يقيسون على ما في طباعهم من الكلال، وما في أنفسهم من الهَوْينا والوكال؛ ثم هم قوم لا يكشفون عن أسباب الحوادث العربية، ولا ينفذون بين معاقد تلك الأمور ومصادرها؛ وقد جهلوا تاريخ الرواية، وجهلوا معه الأسباب التي بعثت من تلك الهمم سوابق غاياتها، وأظهرت لها معجزات الحفظ خوارق آياتها، ورفعت للأجيار على قمة التاريخ العقلي خوافق راياتها؛ فهؤلاء لا نزيد على أن نقول فيهم: هؤلاء.
وليس تاريخ العرب وحدهم هو الذي امتاز بنوابغ الحفاظ، بل الحفظ موجود من أقدم أزمنة التاريخ؛ لأن الحافظة كانت وحدها عند القدماء كتاب التاريخ والتقاليد والشرائع والآداب وما إليها؛ فكانت هي صورة الفكر الإنساني على الحقيقة؛ وقد ذكروا من قدماء الحفاظ "متيريداتس" الكبير الذي كان مالكًا على الشمال من غربي آسيا الصغرى في القرن الأول قبل الميلاد، فقالوا إن هذا الملك كان يحكم على اثنتين وعشرين أمة مختلفة، وزعموا أنه كان يخطب على كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، وذكروا مثل ذلك عن "قورش" ملك الفرس و"سيبيون" الآسيوي، والإمبراطور أدريان وغيرهم؛ وهذا أمر لا ينقطع في عصر من العصور، فإن من الناس من تكون أذناه وعيناه أبوابًا للتاريخ، فلا يسمع أو يقرأ شيئًا إلا حفظه ثم لا ينساه؛ وفي أوروبا وأمريكا لعهدنا شواهد كثيرة لا نطيل باستقصائها فإن أحدًا لا ينكرها.
بيد أن تاريخ العرب إنما امتاز بسعة مادة المحفوظ وتنوعها، وبالأسباب الدينية التي بعثتهم على الحفظ، مما أومأنا إليه في محله؛ ومن القواعد المطردة التي تبنيناها من البحث في التاريخ العربي، أن كل شيء للعرب إذا تعلق به سبب من الدين جاءوا فيه بالمعجزات التي يبزون فيها الأمم كافة ويجعلونها من أنفسهم طبقة التاريخ وحدها، ولم نر هذه القاعدة تخلفت في أمر من أمورهم؛ وهي بعض ما خص به هذا الدين الحنيف الذي وجد العالم في كتابه الكريم معجزته الخالدة.
وبعد: فإن الحافظة نفسها تتفاوت درجاتها في الناس؛ وتتفاوت في أدوار الحياة للشخص(1/196)
الواحد باعتبار الأسباب الوراثية والآفات والعلل وما يكون من الإهمال والاستعمال، كما تختلف قوة وضعفًا في بعض أنواع المحفوظات دون بعضها، على حسب ما ركب في الفطرة وما تمس إليه الحاجة؛ فليس ما يحفظه الرياضي، بالذي يستطيعه المحدث أو اللغوي، ولا حفظ هذين كحفظ غيرهم من أهل الطبقات الأخرى، وهلم جرا. وإن نوادر الحفظ التي تُروى عن العرب إنما جاءت عن أفراد رزقوا سمو هذه القوة الطبيعية، وتفرغوا لها برهة العمر مما يشغل الذرع، ويملك الطاقة، ويقسم القلب، ويشعث الفكر؛ فلم يكن من العجيب أن يحفظوا ما حفظوه، ولكن العجيب أن لا يكونوا قد حفظوا أكثر من ذلك؛ فأولئك قوم هيأهم الله لما برعوا فيه بالأسباب الآخذة إليه، والعلل المقصورة عليه؛ فاجتمعت له أنفسهم، وتوفرت قواهم، وفرغت أذهانهم؛ حتى لم يكن من هم أحدهم إلا أن يرى نفسه شخصًا للعلم الذي هو بسبيله، فيقال فلان صاحب الفن والفن هو فلان.
دع عنك ما كان على الناس من مؤنة الكتابة في القرن الأول وبعض الثاني إذا ابتغوا أن يتكلوا على الخطوط ويدونوا ما يقع إليهم من فنون العلم تدوينًا يغنيهم عن الحفظ ويجزئ ما تجزئه المؤلفات المعدة للمراجعة والتصفح؛ إذ كانوا إنما يكتبون على الرقاع واللخاف "حجارة بيض رقاق عراض" وعسب النخل والجلود والعظام ونحوها، مما يأتي على ما فيه أيسر أسباب التلف أيها كان؛ واستمروا يكتبون بعد الإسلام على الجلود، والرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، وعلى الورق الصيني وغيره نادرًا، إلى آخر عهد الأمويين؛ فلما كان زمان "السفاح" أول الخلفاء العباسيين "توفي سنة 136هـ" غير وزيره خالد بن برمك "توفي سنة 163هـ" الدفاتر من الأدراج "لفائف الجلد" إلى الكتب؛ ولكنها كانت كتبًا من الجلد، وبقيت كذلك حتى اتخذ الفضل بن يحيى البرمكي هذا الكاغد "الورق" وأشار بصناعته؛ فشاعت الكتابة فيه مع الجلود والقراطيس وأصناف أخرى من الورق الصيني والتهامي والخراساني؛ واتخذ الناس من ذلك الصحف والدفاتر، ومن ثم تمت لهم أدوات التأليف، ولكن بعد أن استبحرت فنون الرواية ودرج أهلها على الحفظ ورأوا فيه صلاح الأمر وسداد الرأي وبلغوا منه كل مبلغ؛ وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك في الرق لكثرة الحفظ وقلة الرسائل السلطانية والصكوك، فلما طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه ضاق الرق عن ذلك فلم يكن لهم بد من تلك الصناعة.
ويبتدئ تاريخ الحفاظ المعدوديين في الإسلام بعبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ فقد كان لا يدور في مسمعيه شيء إلا وعاه وأثبته، وقد مر بك الخبر الذي رد فيه قصيدة ابن أبي ربيعة ولم يكن سمعها إلا تلك المرة صفحًا؛ فلا جرم أن كان صدره رضي الله عنه خزانة العرب، إليه مرجعهم في التفسير والحديث والحلال والحرام والعربية والشعر؛ لو صحت نسبة ما رواه بعض الرواة عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس من أنه قال: إنه يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء1،
__________
1 يتناقل العلماء أيضًا خبرين غير هذا وهما بسبيل منه في التقسيم: أحدهما عن أصحاب الآلاف، والآخر عن أصحاب المئات؛ وذلك كله فيما نرى من موضوعات الصوفية: يزعمون مرة أنه من الجفر الجامع الذي حوى أخبار الدنيا ولا يطلع عليه إلا أهل الكشف منهم -وللكلام على الجفر تاريخ لم يسعه المقام- ومرة يردون=(1/197)
لكان ابن عباس نفسه صاحب السبعين الأولى في الإسلام؛ أما إن كان الخبر من أكاذيب عكرمة، فيكون قد وصف به أستاذه ابن عباس أصدق الوصف.
ثم كان بعد ابن عباس الشعبي من التابعين، وكان يقول: ما كتبت سوادًا في بياض إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد بحديث قط إلا حفظته! وفساد الحفظ في كثير من طبقة التابعين، وإنما نوهنا بالشعبي لأنه أوحدهم في حفظ الأدب، كما أنه أوحدهم في حفظ الحديث؛ وقد صار في التفنن مثلًا دائرًا على الألسنة، وكان يقول: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرًا ثم لا أعيد بيتًا واحدا.
وما أظلهم القرن الثاني حتى كثر الحفاظ واتسعوا في فنون المحفوظ، وخاصة بعد أن نشأ الإسناد واشتغلوا بطرقه؛ والإسناد إنما يعتبر به اتصال السماع، فهو راجع إلى التلقي والتلقين، ونحن نرى أن لولا حفظ الحديث ما اشتغلوا بالإسناد، ولولا الإسناد ما ثبتوا على الحفظ، وقد وجدا في الرواية جميعًا وذهبا جميعًا.
وبعد، فقد كان التدبير عندما أجمعنا النية على كتابة هذا الفصل؛ أن نفيض في ذكر الحفاظ جيلًا بعد جيل إلى سقوط الرواية، ثم نستقصي أسماء من اشتهروا منهم بعد ذلك إلى هذه الغاية ممن وقفنا على أخبارهم في بطون الكتب، ولكنا رأينا الشوط بطينًا والمادة حافلة وفي دون ذلك بلاغ، فاجتزأنا بالنتف والنوادر مما يتعلق بالأدب دون الحديث1؛ تفاديًا من أن يعد ذلك منا في الحشد
__________
= ذلك في الرواية إلى ابن عباس نفسه؛ لأنهم وضعوا عليه أشياء كثيرة ونحلوه أمورًا من الغيبيين: الماضي الذي لم يدركه التاريخ، والآتي الذي هو تاريخ في علم الله. أما خبر الآلاف فهو ما يزعمون من أن الله يبعث على رأس كل ألف سنة نبيا، ويذكرون أن الدنيا أسبوع من أسابيع الآخرة: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فيكون عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، بعث في الألف الأولى آدم، وفي الثانية إدريس، وفي الثالثة نوح، وفي الرابعة إبراهيم، وفي الخامسة موسى وفي السادسة عيسى، وفي السابعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وأما خبر المئات فهو الأخ الصغير لذلك الخبر، قالوا: إن الله بعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدده لها دينها: فكان على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية الشافعي -وقيل المأمون العباسي- ولم تقف على مبعوثي المائتين الثالثة والرابعة. وقال الغزالي عن نفسه إنه المبعوث على رأس الخامسة. وقالوا: إن ابن العربي هو المبعوث على رأس السادسة. وابن دقيق العيد في السابعة؛ وعمر البلقيني في الثامنة؛ وقال السيوطي عن نفسه: إنه صاحب التاسعة، ثم لم يعد أحد يقول، والله أعلم.
1 لما كان الحديث مبينًا على الإسناد، كان الحفظ فيه أثبت والحافظ له أكثر، فهناك حفظ الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال ووفياتهم وطبقاتهم، ومتون الأحاديث والسنن، ثم ما يتبع ذلك من جمل العلوم الأخرى التي لا بد للمحدث منها. وينبغي لمن يقرأ أخبار الحفاظ من أهل الحديث أن لا يبادر بالإنكار ولا يجزم بالمبالغة في الأخبار، فإذا رأى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ ألف ألف حديث وأبا زرعة سبعمائة ألف حديث "وأبو زرعة هو الذي سئل عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث وتطلق امرأته؟ قال: لا! " وإن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث من حفظه, إذا رأى ذلك وما إليه فلا يتوهمن أن كل هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشك في صحته ويستريب بما رأى، وإنما يتبعه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا وتقريرًا وصفة، ويداخله شيء كثير من آثار الصحابة؛ لأن غرض الراوي بيان الشرع؛ وقد نقل ابن حجر في "طبقات الصحابة" أن عدد الصحابة ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وسمع منه ونقل عنه، مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، رضي الله عنهم؛ فانظر ما يكون مبلغ ما يروى عن هؤلاء.
وذلك كله غير الموضوعات، ولا بد منها للمحدثين ليصونوا بها الصحيح وليتكلموا في عللها وأسانيدها، وهو شطر من علم الرواية، وعلى أن ابن حنبل يحفظ مليون حديث فإنه لم يذكر في مسنده إلا خمسين ألفًا، وقيل إنه يحفظ مائة وخمسين ألفًا بالأسانيد والمتون، والباقي من أخبار الصحابة وغيرها.(1/198)
والاجتلاب، وتوسعًا من الضيق في هذا الباب.
ذكروا عن حماد الراوية المتوفى سنة 155هـ "وهو أول من خصص بلقب الراوية من الأدباء" وكانت ملوك بني مروان تقدمه وتؤثره وتسني بره, أن الوليد بن يزيد قال له يومًا: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الرواية؟
قال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم مم تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا ينشدني أحد شعرًا لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث.
قال: إن هذا العلم وأبيك كثير؛ فكم مقدار ما تحفظه من الشعر؟
قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة سوى المقطعات من شعر الجاهلية.
قال: سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهلين!
وروي عن الطرماح الشاعر أنه قال: أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:
بان الخليط بسحرة فتبددوا
وهي ستون بيتًا، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد؛ ثم أقبل علي فقال: هذه لك؟ قلت: نعم! قال: ليس الأمر كذلك! ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها في وقته، فقلت: له: ويحك! إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد! فقال: قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي....! فقلت: لله علي حجة أحجها حافيًا راجلًا إن جالستك بعدها أبدًا!
وكان الأصمعي "المتوفى سنة 215هـ" آية في سرعة الحفظ والتعلق: كان يحفظ ست عشر ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وذكروا أنه لما قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قومًا من أهل الأدب؛ فأحضر أبا عبيدة، والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي، وأبا بكر النحوي؛ فابتدأ الحسن فنظر في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة، ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل عليهم فقال: قد فعلنا خيرًا ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية فنأخذ الان فيما نحتاج إليه؛ فأفاضوا في ذكر الحفاظ، فذكروا الزهري، وقتادة، ومروا؛(1/199)
0فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول إنه ما قرأ كتابًا قط فاحتاج أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه؟ فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك ما حكى، وأنا أقرب إليك1: قد نظر الأمير فيما نظر من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة!
قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا، والرقعة الثانية، والثالثة، حتى مر في نيف وأربعين رقعة؛ فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين! فكف الأصمعي.
وكان أبو محلم الشيباني المتوفى سنة 248هـ لا ينسى شيئًا، حتى قيل فيه إنه صاحب السبعين لعهده؛ ولما قدم مكة لزم ابن عيينة فلم يكن يفارق مجلسه، فحدث أنه قال له يومًا: يا فتى، أراك حسن الملازمة والاستماع، ولا أراك تحظى من ذلك بشيء! "قال أبو محلم": قلت: وكيف؟ قال: لأني لا أراك تكتب شيئًا مما يمر! قلت: إني أحفظه! قال: كل ما حدثت به حفظته؟ قلت: نعم! فأخذ دفتر إنسان بين يديه وقال: أعد علي ما حدثت به اليوم. فأعدته فما خرمت حرفًا، فأخذ مجلسًا آخر من مجالسه فأمررته عليه، فأورد حديث السبعين عن ابن عباس، وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين!
وسأل الواثق يومًا أبا محلم هذا عن شاهد من الشعر فيه ذكر المَرْت "وهو الفقر الذي لا نبت فيه" فأفكر طويلًا حتى أنشد بعض الحاضرين بيتًا لبعض بني أسد، فضحك أبو محلم، ثم قال للذي أنشده: ربما بعد الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، والله لا تبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة بيت معروف لشاعر معروف في كل بيت منها ذكر المرت.
وكان بندار بن عبد الحميد "وهو معاصر لأبي محلم" لا يشذ عن حفظه من شعر الجاهلية والإسلام إلا القليل: ذكروا أنه يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة منها: بانت سعاد2.
وكان ابن دريد المتوفى سنة 321هـ أحفظ الناس وأوسعهم علمًا، تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها من حفظه، وقد تصدر في العلم ستين سنة.
وأبو بكر الأنباري المتوفى سنة 327هـ، فقد كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر شاهدًا في
__________
1 كان الأصمعي كثير الذهاب بنفسه، يخبر عنها بالثناء كما يخبر الإنسان عن حقيقة، وإنما جاءه ذلك من طول صحبته للخلفاء والأمراء.
2 أشهر القصائد بهذا الابتداء قصيدة كعب بن زهير المشهور التي يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
ومن أجلها عرفت القصائد بهذا الابتداء، ومما ينظر إلى هذا الخبر ما رواه الأصمعي، قال: جاء فتيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، بل قلتم كبر الشيخ وتبلغته السن عسى أن نأخذ عليه سقطة؛ فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو، قال الأصمعي: فعددت وخلف الأحمر فلم نقدر على أكثر من ثلاثين.(1/200)
القرآن، وكان لا يملي إلا من حفظه، ومرض يومًا فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمرًا عظيمًا، فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتبًا1 وأعجب ما عرف من أمره أن جارية للراضي بالله سألته يومًا عن شيء في تعبير الرؤيا، فقال: أنا حاقن! ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني وجاء من الغد وقد صار معبرًا للرؤيا.
وللمتأخرين من بعد القرن الخامس ولوع بحفظ الكتب؛ لأن الحفظ خلف الرواية من ذلك العهد، فقامت الكتب مقام الرواة أنفسهم، ومن أعجب ما يُروى من ذلك أن الملك عيسى ابن الملك العادل الأيوبي سلطان الشام المتوفى سنة 604هـ أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه "محمد وأبي يوسف"2 فجردوه في عشرة مجلدات وسموه، "التذكرة" فكان يديم قراءته ولا يفارقه حتى حفظه، وذكروا أنه كتب على جلد منه: "حفظه عيسى". وهذا الملك هو الذي شرط لكل من يحفظ "المفصل" للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة.
وكان علماء الأندلس يتهافتون على حفظ الكتب، وخاصة كتاب سيبويه في النحو، وأخبارهم في ذلك مستفيضة.
بيد أن من أعجب ما وقفنا عليه من تاريخ الحفظ في المتأخرين وفي البلاد التي يكون أهلها بالفطرة أبعد عن العربية وآدابها، ما ذكره صاحب "الشقائق النعمانية" من أنه كانت في بلاد قرامان -لعلها القريم- مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة، شرط بانيها أن لا يدرس فيها إلا من حفظ كتاب "الصحاح" للجوهري، وذلك في أواخر القرن الثامن، وهي مدرسة نشأ منها علماء على مذهب من التحقيق، يظهر أنه كان لعلماء الروم عناية بالصحاح؛ فقد أورد صاحب "الشقائق" في موضع آخر في ترجمة المولى المشهور بالمليجي "في النصف الأخير من القرن التاسع" أنه كان يحفظ "الصحاح"، وكان يرجع إليه إذا شكلت كلمة منه فيقرأ ما يتعلق بتلك الكلمة من حفظه.
على أن خاتمة حفاظ اللغة في المتأخرين بلا نزاع، إنما هو الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي
__________
1 قدر ابن الأنباري نفسه ما يحفظه من الكتب بثلاثة عشر صندوقًا!
2 في تاريخ الإسلام نظائر كثيرة لمثل هذا الخبر، وكلها قد وثقه العلماء، فالشافعي رضي الله عنه أخذ من أبي يوسف ليلة كتابًا كبيرًا لأبي حنيفة، فما أصبح حتى أتى عليه حفظًا، وأبو الطيب المتنبي حفظ وهو غلام كتابًا للأصمعي نحو ثلاثين ورقة، أخذه لينظر فيه من يد رجل يريد بيعه في الوراقين والرجل واقف ينتظر فلم يكن إلا مقدار ما قرأه حتى وعاه حفظًا.
وكان أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين المتوفى سنة 291هـ يحفظ كتب الفراء كلها لا يشذ منها عن حفظه حرف، والفراء أملى هذه الكتب كلها من حفظه إلا بعض أوراق استعان فيها بالمراجعة وكانت مقدار ثلاثة آلاف ورقة.
وكان ابن عبدون الوزير الأندلسي يحفظ كتاب "الأغاني" بحروفه ما يخطئ منه واوًا ولا فاء، وفي ذلك خبر عجيب رواه المراكشي صاحب "المعجب".
وكان أبو الحسن الروياني الفقيه المتوفى سنة 502هـ يقول لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري! وأمثلة ذلك كثيرة.(1/201)
صاحب "القاموس" المتوفى سنة 817هـ، فقد كان سريع الحفظ آية في الذكاء، كان يقول: لا أنام إلا بعد أن أحفظ مائتي سطر؛ وكانت ولادته سنة 729هـ فلو قضى قريبًا من نصف هذا العمر لا يحفظ كل يوم إلا ما شرط على نفسه على أن يهمل أيامًا كثيرة، لكان مبلغ حفظه مائة ألف ورقة أقل ذلك1؛ وعلى أن هذا المحفوظ ما يختاره من عيون اللغات والآداب والفنون دون المألوف من ذلك كله؛ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [غافر: 2] .
ونقف عند هذا الحد مكتفين بما تقدم وإن كان غيضًا من فيض؛ فإن الاستقصاء يمد في كل صفحة من هذا الفصل بابًا، ويجعل من الفصل كله كتابًا؛ بيد أنه لا يفوتنا أن ننبه في هذا الموضع على أصل من أصول التاريخ العلمي في الإسلام؛ وذلك أن كثرة المؤلفات العربية على امتداد النفس في أكثرها وتوفير أوراقها وتعدد أجزائها وامتلاء مادتها واستغراق أبوابها، وعلى ما فيها من سمو العبارة ومتانة التركيب وبلاغة الأداء وحلاوة الكفاية واتساق القول واطراد ينبوعه, كل ذلك إنما جاءهم من الحفظ، وهو نتيجة الرواية؛ فترى الواحد منهم يملي المجالس الحفيلة بأنواع الآداب من حفظه ثم يكتبه السامعون، فتخرج منه الأجزاء الكثيرة الممتعة؛ وإذا ألف استملى من حافظته فأمدته وسالت على قدمه، فهو يجمع ويرتب ويستخرج من فكره، وليس أسرع من حركة الفكر؛ وهذه السرعة هي التي تخرج لهم ما تخرجه من آثار الصناعة المتقنة على ما فيها من الجمال والكمال؛ فهم يستعينون في أعمالهم بالأدوات العقلية الحية التي تشبه الآلات الكهربائية في معجزات الصناعة الحديثة. ولا سواء من يكون كذلك ومن لزمه من أيسر مؤنة العمل كد الفكر واستحثاث الخاطر وكثرة الإطراق وتقطيع الوقت في البحث والتفتيش، ثم يخرج من ذلك على حسرات يرسلها وراء ما ند عنه مما لا تصل يده إليه في الأصول والأمهات من كتب القوم؛ وبعد هذا كله لا يكاد يجد في مدته ما ينفقه على وجوه الإتقان الصناعي في عمله إن خرج قصدًا أو مقاربًا.
فلا سبيل إلى إحياء العربية وآدابها إلا بإحياء سنة الحفظ والرجوع إلى طريقة الرواة في التعليم، وهي هي الطريقة الجامعة "الإنسكلوبيديا" التي بها العلم في أوروبا وأمريكا، وكل سبب يغني شأنه إن أريد به الغناء، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] .
__________
1قدر ابن النديم في "الفهرست" ما ذكره من المؤلفات بعدد الأوراق، يريد بها الورقات السلمانية، ومقدار ما في الصفحة "الوجه الواحد" منها عشرون سطرًا. وقدر كتاب "الأغاني" المطبوع في واحد وعشرين جزءًا بخمسة آلاف ورقة من ذلك الغرار، وقد جرينا على هذا التقدير، فيكون أقل ما يحفظ صاحب القاموس عشرين كتابًا في حجم الأغاني، وذلك لا يبلغ ثلث حفظ ابن الأنباري.(1/202)
علم الرواية
مدخل
...
علم الرواية:
وذلك بدء الرواية وسببها ومعناها وخطرها، أما اعتبارها على أنها علم بأصول قد أفردوه بالتدوين فلم يكن إلا في الحديث خاصة، وكانوا يسمونه قديمًا "علم أصول الحديث" وسماه المتأخرون "مصطلح الحديث"1 وكانت أصوله مقررة في منتصف القرن الثاني كما علمت مما أوردناه عن رواية الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، ولكنهم اكتفوا من ذلك بالاصطلاح ومعنى العرف؛ لأن من العرف ما يكون علمًا.
وأول من قرر شروط الرواية، ابن شهاب الزهري الذي جمع الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز كما مر، ثم كان أول من تكلم في الرواة جرحًا وتعديلًا شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160هـ وذلك بعد أن دونوا الحديث والتزموا فيه بالإسناد، وكان شعبة هذا يرى أنه في الشعر أسلم منه في الحديث حتى قال لأصحابه: "لو أردت الله ما خرجت إليكم، ولو أردتم الله ما جئتموني ولكنا نحب المدح ونكره الذم". فمن ثم تنبه إلى أسباب الجرح والتعديل في الرواة على ما نظن، وكثيرًا ما تجود عيوب النوابغ بالقواعد التي تعد من محاسن العلوم.
ثم كان أول من صنف في هذا العلم القاضي أبو محمد الرامهرمزي المتوفى سنة 360هـ، وضع فيه كتاب "الفاصل بين الراوي والواعي"، واستوعب فيه أكثر ما يتعلق بعلوم الحديث، قال ابن حجر: وهذا في غالب الظن؛ وإن كان يوجد قبله مصنفات مفردة في أشياء من فنونه. ولعله يشير بهذه الأشياء إلى ما كتب عن الزهري وشعبة، ثم إلى مصنف الإمام مسلم صاحب الصحيح المتوفى سنة 261هـ في علل الحديث، ونحو ذلك مما ذهب علمه من المتأخرين.
وجاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405هـ فتصدى للتأليف في معرفة علوم الحديث، وتناول روايته ورواته، وأبدع في ذلك ما شاء الله واحتذى مثاله أفراد ممن جاءوا بعده، ولكنهم لم يبتدعوا شيئًا جديدًا.
أما في الأدب فلم تكن الرواية علمًا متميزًا، وإنما كانوا يجرون عليه ما يناسبه من علوم الحديث، وتكلموا في ذلك، وأكثر ما ورد منه مدونًا كان في كتب أصول النحو التي دونت في القرن الرابع وما بعده، ككتاب "الخصائص" لابن جني المتوفى سنة 392هـ، و"لمع الأدلة" لكمال الدين بن الأنباري المتوفى سنة 577هـ وهو أجمع الكتب في ذلك؛ ثم كتاب "اللمع الجلالية في كيفية التحدث في علم العربية" لعثمان بن محمد المالقي المتوفى سنة 635هـ، وغيرها إلى أن جاء العلامة جلال
__________
1 أخذوا التسمية الأولى من أصل الفقه، وهو العلم الذي استنبطه إمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله "150-204هـ" أما الثانية فقد أخذها المتأخرون عن الكتاب؛ لأنهم كانوا يطلقون منذ القرن الثامن لفظ "المصطلح" على ما اصطلحوا عليه من آداب الكتاب الديوانية وآلاتها.(1/203)
الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ فحاكى علوم الحديث في التقاسيم والأنواع ووضع في ذلك كتابه "المزهر في علوم اللغة"؛ وهو متداول مشهور.
ولما أوجبوا الإسناد قديمًا في نقل اللغة لوجوبه في الحديث، إذ بها معرفة تفسيره وتأويله، وكانت اللغة قائمة بالشعر والخبر وهما يرويان عن الرجال والصبيان والعبيد والإماء من العرب, وكان لابد أن يتناولوا مصطلحات الحديث؛ فاشترطوا في ناقل اللغة العدالة بحسب ما يناسب اللغة؛ ولذا قبلوا نقل أهل الأهواء والمبتدعين ممن لا تكون بدعتهم حاملة لهم على الكذب، ورفضوا المجهول الذي لم يعرف ناقله، كما رفضوا الاحتجاج بشعر لا يعرف قائله؛ خوفًا من أن يكون مولدًا فتدخل به الصنعة على اللغة.
واعتبروا من اللغة متواترًا وآحادًا ومرسلًا ومنقطعًا وأفرادًا، ونحو ذلك مما بوب عليه السيوطي في "المزهر"، ولا بد لفهمه من الرجوع إلى ما اصطلح عليه أهل الحديث؛ ونحن نورد بعض ذلك عنهم بما قل ودل مكتفين بما يجري على اللغة مما جرى على الحديث.(1/204)
تقاسيم الرواية:
فمنها:
1- "المتواتر": وهو الذي يرويه عدد من الناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
2- "والمسند": وهو ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه؛ أما ما انقطع سنده فهو "المرسل".
3- "والمنقطع": ما سقط من رواته واحد.
4- "والمعضل": ما سقط من رواته أكثر من الواحد.
5- "والمعنعن": الذي قيل فيه "عن فلان عن فلان" من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار.
6- "والمؤنن": قول الراوي: "حدثنا فلان أن فلانًا قال" ويشترط فيه وفيما قبله أن يكون المسند إليهم قد لقي بعضهم بعضا مع السلامة من التدليس.
7- "والغريب": ما انفرد أحد الرواة بروايته، وينقسم باعتبار حالة راويه إلى غريب صحيح، وضعيف، وحسن. وتسمى الكلمات التي ينفرد بها الراوية بالأفراد والآحاد.
8- "والمعلل": وهو ما كان ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة لكن فيه علة خفية غامضة تظهر لأهل النقد عند التخريج.
9- "والشاذ": ما خلف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات.
10- "والمنكر": الذي لا يعرف من غير جهة راويه فلا متابع له ولا شاهد.
11- "والموضوع": ما كان كذبًا واختلافًا، وهو المصنوع أيضًا، وسنفرد للكلام عليه فصلًا يأتي إن شاء الله.(1/204)
وظائف الحفاظ في اللغة:
وقد أخذ أهل اللغة في هذه الوظائف أخذ المحدثين واتبعوا سنتهم فيها لتعلق ما كان في اللغة بما كان في الحديث كما علمت؛ ولأن هذه العلوم كانت سواء في طلبها لقوام الدين والتماسها لفضل الاستبانة
وتلك الوظائف أربع كلها ترجع إلى بث العلم ونشره، وهي:
1- الإملاء: وهذه هي الوظيفة العليا عند المحدثين واللغويين، وطريقتها واحدة عند الطائفتين: يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا1 في يوم كذا ... ويذكر التاريخ ثم يورد المملى بإسناده كلامًا عن العرب الفصحاء فيه غريب يحتاج إلى التفسير، ثم يفسره ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره. وقد كان هذا في الصدر الأول فاشيًا كثيرًا لتحقق معنى الرواية به، ثم مات الحفاظ وانقطعت الأسانيد وبطلت أسباب الرواية واعتمد الناس على الدواوين والكتب المصنفة، فانقطع إملاء اللغة واستمر إملاء الحديث لوجود الإسناد فيه وتحقق السماع.
قال السيوطي: ولما شرعت في إملاء الحديث سنة 872هـ وجدته بعد انقطاعه عشرين سنة، من سنة مات الحافظ أبو الفضل ابن حجر2 أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلسًا واحدًا فلم أجد له حملة ولا من يرغب فيه فتركته. قال: وآخر من علمته أملى على طريقة اللغويين، أبو القاسم الزجاجي: له أمال كثيرة في مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة 239هـ ولم أقف على أمال لأحد بعده. ا. هـ.
هكذا قال في "المزهر"؛ وهو بعيد؛ لأن مجالس الإملاء بقيت آهلة إلى منتصف القرن
__________
1 كان العلم كله مسجديا، وأول من بنى المدارس في الإسلام نظام الملك، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من الكتاب. ثم بنيت دور خاصة بعلم الحديث وأول من بناها نور الدين صاحب دمشق المتوفى سنة 569هـ، وقد بنى غيرها مدارس كثيرة لأهل المذاهب، ثم حذا حذوه السلطان الصالح بمصر، فهو أول من بنى دار الحديث فيها.
2 ابن حجر هو إمام الحفاظ في زمنه، انتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث، فلم يكن في الدنيا بأسرها من يذكر معه في ذلك، وتوفي سنة 852هـ وأملى أكثر من ألف مجلس؛ وكانت سنة الإملاء في الحديث قد دثرت قبله أيضًا فأحياها حافظ عصره الإمام زين الدين العراقي المتوفى سنة 806هـ وقد ابتدأ الإملاء من سنة 796هـ. وهو أحد الخمسة الرؤساء الذين انفردوا في العالم العربي على رأس المائة الثامنة. وهم: العراقي هذا بالحديث، الشيخ سراج الدين البلقيني يفقه الشافعي، وشمس الدين الغماوي بالنحو والاطلاع على العلوم، ومجد الدين صاحب القاموس، باللغة؛ وسراج الدين بن الملقن بكثرة التصانيف والفقه في الحديث.
وكان آخر من مات من هؤلاء الرؤساء، صاحب القاموس، فإنه توفي سنة 817هـ.
ولم نعلم أحد جدد إملاء الحديث بمصر بعد السيوطي على سنة المتقدمين غير الزبيدي شارح القاموس المتوفى سنة 1205هـ؛ أما إملاء اللغة فلم يبق له وجه بعد أن وضعت فيها المعاجم الواسعة، ولذا لم يشرع فيه أحد ولا يمكن أن يسمى ما يزاول من مثل ذلك إملاء بعد انقطاع الأسانيد. والله أعلم.(1/205)
الخامس، وقد أملى كثيرون بعد الزجاجي، وأورد السيوطي نفسه في "بغية الوعاة" في ترجمة الأديب محمد بن أبي الفرج الصقلي المعروف بالذكي "427-516هـ" وكان قيمًا باللغة وفنون الأدب، قال: إنه ورد إلى بغداد وخراسان وجال في تلك البلاد حتى وصل إلى الهند.... وحضر مرة "مجلس إملاء" محمد بن منصور السمعاني فأملى المجلس، فأخذ عليه الذكي أشياء، وقال: ليس كما تقول، بل هو كذا؛ فقال السمعاني: اكتبوا كما قال فهو أعرف به، فغيروا تلك الكلمة وكتبوا كما قال الذكي؛ فبعد ساعة قال: يا سيدي أنا سهوت والصواب ما أمليت؛ فقال: غيروه واجعلوه كما كان. فلما فرغ من الإملاء وقام الذكي، قال السمعاني: ظن المغربي أني أنازعه في الكلام حتى يبسط لسانه في كما بسطه في غيري، فسكت حتى عرف الحق ورجع إليه!
ولكن يمكن أن يقال إن خاتمة أهل الإملاء على طريقة المتقدمين هو إمام العربية في عصره أبو السعادات ابن الشجري المتوفى سنة 542هـ، وله كتاب "الأمالي" في فنون الأدب يقع في أربعة وثمانين مجلسًا.
2- الإفتاء في اللغة: أي الإجابة عما يسأل عنه اللغوي، وهي وظيفة أدبية لا مجال فيها للتاريخ، وإنما ألبسوها هذا التعبير؛ لأنها تناظر وظيفة من وظائف المحدثين والفقهاء؛ ومن أدب المفتي في اللغة أن يقصد التحري والإبانة والإفادة، والوقوف عندما يعلم والإقرار بما لا يعلم، وأن لا يحدث برأيه من غير سماع، وأن يصير في الشيء الذي لا يعرفه إلى من يعرفه غير مستنكف، وأن لا يصر على غلطه إذا أخطأ في شيء ثم بان له الصواب من بعد؛ فإن الرجوع عن الخطأ خروج إلى الصواب، وقد وصفوا الذي يصر على خطئه ولا يرجع عنه بأن "كذاب ملعون". ومتى سئل عن شيء من الدقائق التي مات أكثر أهلها فلا بأس أن يسكت عن الجواب إعزازًا للعلم وإظهارًا للفضيلة. قالوا: وإذا فسر غريبًا وقع في القرآن أو في الحديث فليتثبت كل التثبت وليتقص كل الاستقصاء؛ فإنهما هو علم لا يراد للمناقشة والشهوة ولا يبتغي به عرض الدنيا.
وليس يخفى أن تلك الآداب هي جملة الأخلاق العلمية وجماع الفضائل الأدبية، ولا تكون إلا في العالم الذي يطلب علمه لفضيلته وكرمه، وقد أخذ بها أفاضل المحدثين وأماثل الرواة، وبها محص هذا العلم العربي ونما وطرح الله في ألسنة أهله البركة، وله سبحانه الحمد والمنة.
3 و 4- الرواية، والتعليم: والمراد بهما أن يتعلم ويعلم، فيخلص النية في طلب العمل والتماسه ولا يبتغي من تعليمه المنالة والكسب، وإنما يصد إلى نشره وإحيائه، فيلزم جانب الصدق ولا يفتأ يتحرى لنفسه وينصح لغيره، وإذا كبر ونسى ولم يجد له عزمًا وخاف التخليط أمسك عن الرواية ليتحقق إخلاصه1؛ وقد نقلوا أن الرياشي رأى أبا زيد الأنصاري وقد قارب من سنه المائة فاختل
__________
1 هذا إذا نسي الرواية أكثر علمه، أما إن نسي خبرًا أو بعض أخبار فلا. ومن أرقى آداب الرواية أن الحافظ ربما نسي الخبر فيذكره به أحد من رواه عنه من تلامذته أو غيرهم فإذا صح عنده وعرف أن هذا الخبر من روايته، رواة ثانية ولكن لا عن شويخه بل عمن ذكره به وإن كان تلميذه، إقرارًا بالحق وقيامًا بما اصطلحوا عليه مما سموه شكر العلم، فيقول الشيخ عند رواية ذلك الخبر: حدثني فلان "يعني تلميذه" عني، وحدثني فلان "يعني شيخه الذي روى عنه في الأصل" إلى آخر السند، وذلك شروط عند أهل الحديث، وقد صنفوا كتبًا فيه سموها "رواية الأصاغر".(1/206)
حفظه وإن لم يختل عقله، فأراد أن يقرأ عليه كتابه في الشجر والكلأ فقال له أبو زيد: لا تقرأه علي فإني أنسيته.
تلك الوظائف الحفاظ، وهي متداخلة ترجع إلى معنى واحد، غير أن بينها فروقًا في آداب الرواية، وأدناها كلها عندهم التعليم لتعلق الحفاظ عليه ولابتغائهم به الوسيلة إلى الرزق في الأعم الأغلب، وذلك ما لا ينبغي أن يتواضع له شرف العلم الإلهي، بيد أن كل ما مر إنما ينزل على حكم العرب ويعتبر بالسنة المألوفة، فالتعليم اليوم إذا كان على حقه كما نراه في أوروبا وأمريكا وفى تلك الوظائف كلها في معنى الفائدة.(1/207)
طرق الأخذ والتحمل:
والمراد بهذه الطرق، الاصطلاحات التي تثبت بها اللغة لمن يأخذها وتصح روايته عند الأداء، وهي أيضًا من أوضاع المحدثين، ولهم فيها كلام مستفيض، وعندهم لها علامات خاصة بالأسانيد والصيغ لم تجر على اللغة ولا محل لبسط الكلام عليها.
وطرق الأخذ في اللغة ست، نذكرها توفية للفائدة، وليتبين بها القارئ مواقع الأخبار من درجات الرواية فيما يقرؤه منشورًا في كتب الأدب، ثم ليعلم ما كان يرمي إليه العلماء بهذه الاصطلاحات التي يراها متشابهة في الدلالة وبينها عندهم اختلاف؛ وهي:
1- السماع من لفظ الشيخ أو العربي، وللمتحمل بهذه الطريقة عند الأداء صيغ تتفاوت بحسب منزلة الرواية، فأعلاها أن يقول: أملي علي فلان، ويليها: سمعت فلانًا، ويلي ذلك أن يقول: حدثني أو حدثنا فلان ثم أخبرني أو أخبرنا فلان، ثم قال لي فلان، ثم قال فلان "بدون الإضافة إلى نفسه"، ومثله زعم فلان؛ ويلي ذلك قول الراوي عن فلان، ومثلها إن فلانًا قال:
وهذا في اللغة والخبر، أما في الشعر فيقال: أنشدني وأنشدنا، وقد تستعمل فيه بعض تلك الاصطلاحات أيضًا.
والسماع أصل الرواية؛ ولكن علماء البصرة كانوا يأنفون أن يأخذوا من علماء الكوفة، أو يسمعوا من أعرابهم1، وقالوا: وأول من أحدث السماع بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية "وهو كوفي" فسمع منه وكان ضنينًا بأدبه.
2- القراءة على الشيخ، ويقول عند الرواية: قرأت على فلان.
3- السماع على الشيخ بقراءة غيره، ويقول عند الرواية: قرأ علي فلان وأنا أسمع، أو أخبرني قراءة عليه وأنا أسمع.
__________
1 سنفصل هذا المعنى بعد، فإن له موضعًا.(1/207)
4- الإجازة: وهي في رواية الكتب، والأشعار المدونة، وقد أشرنا إلى أصلها في الكلام على معنى الصحفي، وتكون الإجازة بكتاب معين وتكون بغير معين، كقول الشيخ: أجزتك بجميع مسموعاتي ومروياتي.
وعند المحدثين أنواع من الإجازة يبطلونها ولا يعملون بها، كإجازة الراوي من يولد له أو إجازته بما لم يتحمله بوجه صحيح في الرواية كالسماع ونحوه.
ولما بطلت الرواية صارت النسبة إلى الشيوخ محصورة في الإجازة؛ فتهافت الناس عليها، وصار الأمراء يطلبونها للمباهاة، وكبار العلماء في الأقطار المتباعدة يقارض بها بعضهم بعضًا، وتفنن العلماء في كتابتها وتجويد إنشائها، وقد بقي العمل بها في كتب الحديث والعربية إلى قريب من هذه الغاية حين قامت مقامها "الشهادات".
ومن أراد أن يقف على صورة من أحسن ما كتب فيها فليقرأ إجازة حافظ عصره الإمام أثير الدين ابن حيان الأندلسي المتوفى سنة 745هـ للصلاح الصفدي الأديب البارع؛ وقد ساقها برمتها صاحب "نفح الطيب" في الجزء الأول من كتابه في ترجمة أثير الدين المومأ إليه.
5- المكاتبة: وذلك أن يكتب الراوية الثقة إلى غيره أبياتًا أو خبرًا فيروي ذلك عنه.
6- الوجادة: وهي أن يسوق ما يرويه على أنه وجده في كتاب؛ وهذا هو أضعف وجوه الأخذ؛ لأنه لا ضمان فيه لعهدة المروي، وإنما اضطروا إليه حين كثرت الكتب.
هذه هي طرق الرواية، وكان الرواة إلى آخر القرن الرابع يبالغون في بيانها، ويقرنون كل خبر بطريقته؛ انتفاء من الظنة، وقيامًا بحقوق العلم، وحياطة لهذا الأدب الذي اصطلحوا عليه؛ ثم ضعف الأمر في القرن الخامس، ثم صار العلم كله "وجادة" وعاد أول هذا الأمر آخره.(1/208)
رواية اللغة
تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي
...
رواية اللغة:
كانت هذه اللغة سليمة من الفساد، خالصة من الشوب؛ والإسلام لا يزال في ريعانه، واندفاع موجته، والعرب في أمر الأدب على إرث من جاهليتهم، يأخذون في سَمْتِها، ويتجاذبون على منهاجها، فيسمرون بالأخبار ويتحملون بالأشعار؛ لا يرون إلا أن ذلك علم آبائهم، وإرث أبنائهم, حتى بدأت اللغة تلتوي بعد سلاستها، وتمرض بعد سلامتها، ونزلت من بعض الألسنة في موضع نفار ومرمى شراد، فطار اللحن في جنباتها، وخيفت عليها عاقبة الاختبال، وما يتوقع في تداول النقص من هذا الوبال، فتقدم الكفاة من أهل عصمتها ينهجون إليها السبيل، ويقيمون عليها الدليل، وكان من ذلك وضع النحو كما فصلناه في موضعه.
ومنذ وضع النحو اكتسب هذا الكلام العربي أول معنى لغوي اصطلاحي؛ لأن اللغة ما دامت في حياطة من السليقة وإلى ملجأ من الفطرة، لا يكون من وجه للنظر فيها على أنها علم يفيده الدرس ويثبته التلقي، ولا سواء في الاعتبار العلمي ما تنشأ على معرفته صحيحًا، وما تعرف صحته وخلوصه بعد أن تنشأ وتتحرى ذلك وتأخذ في أسبابه بالتلقين والتخريج.
تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي
وقد تتبعنا الأطوار التي تعاقبت على هذا اللسان حتى أطلق عليه المعنى العلمي الذي يفهمه المتأخرون عند إطلاق لفظة "اللغة"، وصار يقال فيه وفي العالم به: اللغة واللغوي، ولنستخرج تأريخ هذه الكلمة "اللغة" في دلالتها الاصطلاحية، فرأينا أن بداءة هذا التاريخ كانت لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه إليهم الخطاب, كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة؛ حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بنى نهد: "يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريا في العرب فلم يلتفتوا إليه.
فلما تكلموا في تفسير القرآن وغريب الحديث، وكانوا يلتمسون لذلك مصادقه من أشعار العرب، وضح هذا المعنى اللغوي، وأكثر ما كان هذا المعنى وضوحًا في زمن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فهو الذي سن ذلك للمفسرين، وقال إن الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله "بلغة العرب" رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه. وقد سأله نافع بن الأزرق وصاحبه نجدة بن عويمر مسائل كثيرة في التفسير، وجعلا الشرط عليه أن يأتي لكل كلمة بمصداقها من كلام العرب -وهي أسئلة مشهورة أخرج الأئمة أفرادًا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن(1/209)
عباس، وساق السيوطي جميعها في "الإتقان" إلا بضعة عشر سؤالًا- فكان هذا الصنيع من ابن عباس داعيا إلى اعتبار اللغة اعتبارا علميا؛ إذ نظر إلى لغات العرب من وجه واحد واعتبرها مادة واحدة في الاستشهاد، وسمى هذه المادة "لغة العرب".
ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ "العربية"1 -وكان الناس يختلفون إليه يتعملونه منه وهو يفرع لهم ما كان أصّله، وشاع ذلك. وكان الغرض منه صيانة اللسان من الخطأ، وتقويمه من الزيغ، ورد السليقة إلى حدود الفطرة التي خرجت عنها- ظهر ذلك المعنى اللغوي في الشكل اصطلاحي، ولكن لم يتميز من اللغة بالتعريف إلا العويص النافر منها الذي يعلو عن طبقة الحضريين ومن ضعفت ملكاتهم، فكان هذا وأشباهه كأنه غريب عليهم خارج عما ألفه سوادهم من تصاريف القول، بعد أن أطبق الناس على اللغة القرشية الفصحى، ولذلك اصطلح أهل العربية يومئذ على تسميته "بالغريب" وهو أول معاني الدلالة اللغوية.
وكان أبو الأسود قد روى الشعر وتتبع كلام العرب واستقصى في ذلك وبالغ2 ومع ذلك فلم يسم علم هذا الكلام "باللغة"، ولم يعرف في زمنه إلا "العربية" للنحو وإلا "الغريب" لمثل ما يسميه المتأخرون بالكلام اللغوي ...
نقل الجاحظ في "البيان" أن غلامًا كان يقعر في كلامه، فأتى أبا الأسود يلتمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟
قال: أخذته الحمى، فطبخته طبخًا، وفنخته فنخًا، وفضخته فضخًا، فتركتعه فرخًا!
__________
1 في وضع النحو أقوال كثيرة، والثقات مجمعون على أن أبا الأسود أخذه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن العلماء جميعًا أغفلوا ذكر التاريخ الذي كان فيه ذلك الوضع، وقد وقفنا على نص بلغت بنا الحيرة مبلغًا عنده، وذلك ما أورده ابن قتيبة في كتاب "المعارف" في ترجمة أبي مريم بن حبيش من التابعين "طبقة أبي الأسود"، فإنه قال فيه: "كان أعرب الناس، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية، وعاش 120 سنة" وعبد الله بن مسعود صحابي جليل توفي سنة 32هـ عن بضع وستين سنة.
ومقتضى هذه الرواية أن اللحن كان فاشيًا لذلك العهد حتى صار الإعراب الجيد يبين أهله، وأن العربية "النحو" كانت مقررة يومئذ، أي: قبل سنة 32 للهجرة، ولكن يبقى من الإشكال قول ابن قتيبة إن ابن حبيش كان أعرب الناس، وذلك في زمن كان فيه علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو الأسود وغيرهم من الصحابة وسائر العرب، وإن ابن مسعود كان يرجع إليه دولة أبي الأسود نفسه، وذلك غريب إن لم يكن منكرًا.
والذي عندنا أن في رواية ابن قتيبة تحريفًا، وأن الذي كان يرجع إلى ابن حبيش هو عبيد الله بن مسعود، أحد السبعة المدنيين الذين أخذ عنهم الفقه، وهو من أجلة التابعين، كان مشهورًا بكثرة العلم وفنونه، وتوفي سنة 102هـ، وهو ولد ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي، وبذلك ينحل الإشكال، والله أعلم.
أما تاريخ وضع النحو فلا سبيل إلى تحقيقه ألبتة.
2 قال الجاحظ: أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم ومأثور عنه الفضل في جميعها: كان معدودًا في التابعين، والفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والدهاة، والنحويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف، والبخر الأشراف.(1/210)
قال: فما فعلت امرأته التي كانت تشاره وتماره وتهاره وتضاره؟
قال: طلقها وتزوجت غيره فرضيت وحظيت وبظيت1؟
فقال أبو الأسود: قد علمنا رضيت وحظيت وبظيت!
قال: بظيت حرف من "الغريب" لم يبلغك!
فقال أبو الأسود: يا بني، كل كلمة لا يعرفها عمك فاسترها كما تستر السنور خزءها!
وأشهر من عرف بالغريب يومئذ، يحيى بن يعمر العدواني، وهو آخر أصحاب أبي الأسود كما سنبينه.
ثم لما اتسعت العربية وفشا اللحن وفسد الكلام وجعل الناس يبغونها عوجًا، وذلك في أواخر القرن الثاني، وخرج الرواة إلى البادية ينقلون عن العرب ويتحققون معاني العربية وأبوابها؛ تهيأت أسباب المعنى اللغوي وصارت اللغة لغتين: العربية، والمولدة. بل صارت العربية نفسها كأنها في الاعتبار العلمي لغتان، بما قام بين البصريين والكوفيين، وتحقق كلتا الطائفتين بمذاهب متميزة، فمن ثم وجد الناس السبيل إلى تسمية ما يؤخذ عن العرب "باللغة"؛ لأنها صارت من "العهد الذهني" بعد اشتغال العلماء بها وبعد تميزها عما انتهت إليه لغتهم المولدة.
فلما وضع الخليل بن أحمد كتاب "العين" الذي رتب فيه كلام العرب وضع به علم اللغة، وتمت هذه الكلمة على الناس بما صنع.
بيد أن الرواة، وهم القائمون بفنون اللغة، لم يكن يطلق على أحد منهم لفظ "اللغوي" إلا بعد أن ضعفت الرواية في أواخر القرن الثالث، وذلك لأن أحدًا منهم لم يتخصص من الرواية بعلم الألفاظ دون سائر فنونها من الخبر والشعر والعربية ونحوها، ولم نقف على هذا اللقب "اللغوي" في كلام أحد من علماء القرون الثلاثة الأولى، وقد كان يوجد في الرواة من تغلب عليه النوادر، وهي أساس علم اللغة: كأبي زيد الأنصار المتوفى سنة 216هـ، وكان أحفظ الناس للغة وأوسعهم فيها رواية وأكثرهم أخذًا عن البادية، ومع ذا فلم يلقبوه باللغوي، ووجد فيهم كذلك من انفرد بأولية التصنيف في بعض الأنواع اللغوية المحضة: كقطرب المتوفى سنة 206هـ وهو أول من ألف المثلث من الكلام، وكان يرمي بافتعال اللغة أيضًا -كما سيجيء- ولكن لم يلقبه أحد "باللغوي"؛ وعندنا أن هذا اللقب إنما ظهر في القرن الرابع بعد أن استفاض التصنيف في اللغة وتميزت العلوم العربية واستعجمت الدولة فصار صاحب اللغة يعرف بها كما ينسب كل ذي علم إلى عمله الغالب عليه، وخلف ذلك اللقب لقب الرواية؛ وممن عرفوا به في القرن الرابع: أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب "مراتب النحويين"، وابن
دريد صاحب "الجمهرة"، والأزهري صاحب "التهذيب"، والجوهري صاحب "الصحاح"، وغيرهم. ثم فشا بعد ذلك وأكثر أصحاب الطبقات من استعماله خطأ، حتى وصفوا به صدور الرواة؛ لأنهم لا يرون فيه أكثر من المعنى العلمي، أما الألفاظ بفروقها فهي ألفاظ الناس جميعًا، فلا تاريخ لها إلا التاريخ كله، والله أعلم.
__________
1 في هذا الخبر رواية أخرى يسندونها إلى الأصمعي، قال فيها الغلام لأبي الأسود عن بظيت: "إنها حرف من العربية لم يبلغك" على أننا نوثق رواية الجاحظ لأن لفظ "العربية" أطلقه أبو الأسود على النحو وعرف به النحو في عصره وبعد عصره أيضًا، ولكن الرواة لم يكونوا يباليون بالفروق التاريخية بين الألفاظ، وهذا بعض ما نعانيه من إهمالهم، عفا الله عنهم وأثابهم بما أحسنوا!(1/211)
الأخذ عن العرب:
كان "علم العرب" في الجاهلية وصدر الإسلام مما يعرف به النسابون وأهل الأخبار؛ وقد أشرنا إلى ذلك في بعض ما مر، فلما رجعوا إلى الشعر والتمسوه للشاهد والمثل، كان ذلك بدء تاريخ الأخذ عن العرب للقصد العلمي الذي نحن في سبيل الكتابة عنه، بيد أن اللسان يومئذ كان لا يزال أقرب إلى عهده من الفطرة، فلم يأخذوا عن العرب شيئًا يسمونه اللغة، إذ كانت هذه التسمية لم تجتمع بعد أسبابها كما عرفت، فكان علم العرب مقصورًا على النسب والخبر والشعر، وأكثر من يقوم عليها النسابون والخطباء وبعض رواة الحديث؛ فلما اشتهر علم العربية بعد أبي الأسود، وكان القائمون به ولده عطاء، وعنبسة الفيل، وميمونًا الأقرن، ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني، وهو آخرهم وأفصحهم، وأعربهم، توفي سنة 129هـ بعد أن بعج العربية، وفلق بها تفليقًا؛ مست الحاجة في عصر تلك الطبقة إلى تتبع اللغات والسماع من العرب، وخاصة بعد أن قامت المناظرات بين أهل الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، حين ابتدءوا يجردون القياس ويعللون النحويين ويعتبرون به كلام العرب؛ وأول من علل النحو فيما يقال، ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 117هـ وهو أعلم أهل البصرة وأنقلهم، وكان هو وعيسى بن عمر الثقفي "رأس المتقعرين" يطعنان على العرب، وكان معهما أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة، وهو من المشهورين في تجريد القياس، ولكنه كان أشد تسليمًا للعرب، وقد ناظره ابن أبي إسحاق فغلبه بالهمز، إلا أن أبا عمرو طالت مدته فكان أكثر طلبًا لكلام العرب ولغاتها وغريبها، حتى تميز بذلك، وهو قد أخذ النحو عن نصر بن عاصم صاحب أبي الأسود.
فتلك هي العلة في أخذهم عن العرب، ولم يكونوا يأخذون عنهم قبل ذلك، وأنت تعتبر مصداق هذا أنك لا تجد رجلًا مما عنوا بالسماع من العرب طالبًا لمعرفة كلامها ولغاتها؛ وانتهت إليهم أسانيد الرواة، إلا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني؛ ومن أشهرهم أبو عمرو الشيباني، عاش 120 سنة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم في صغره؛ وقتادة بن دعامة السدوسي، توفي سنة 117هـ؛ والشعبي سنة 105هـ؛ وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبان بن تغلب، سنة 114هـ؛ وأبو عمرو بن العلاء؛ وسائر من تجدهم من متقدمي الرواة.
ثم لما تفرعت المذاهب واشتد الخلاف بين أهل الطبقة الثالثة التي أخذت عن أولئك، وأصاب ذلك ضعف اللغة في الحضر ورقة جوانبها، ورأى العلماء أن أكثر اللغة مما لا يطرد فيه القياس، لتداخل لغات العرب بعضها في بعض, وأن أكبر العلم بهذه اللغة هو العلم بنوادرها وغريبها, صار لا بد من استقصاء ذلك في مناطق العرب، واستغراقه إلى أطراف البوادي، وتصفح تلك الجهات فيمن لا(1/212)
يزال منطقهم خالصًا ولم يلابس فطرتهم شوب ولا فساد؛ فكان الراوية يأخذ عمن يلقاه من أهل الطبقة الثانية حتى يستنفذ ما عنده؛ ثم يرحل إلى البادية يستزيد ويتحقق من منطق العرب ما شك فيه، ويطلب ما عسى أن ينفرد بروايته، إلى غير ذلك مما يتصل بهذا المعنى.
وهذه الطبقة الثالثة هي أشهر طبقات الرواة في الإسلام، وعنها أخذت اللغة، وفي أيامها دونت؛ ورأسها الخليل بن أحمد إن لم يكن في اللغة كأبي زيد الأصمعي وأبي عبيدة؛ فإنهم فيها أئمة الأمة، وهم الذين أخذ عنهم جل ما في أيدي الناس من هذا العلم العربي، بل كله على ما قيل.(1/213)
الرحلة إلى البادية:
كان أهل المصرين: "البصرة والكوفة" عربًا كلهم في القرن الأول، إلا الموالي منهم؛ على أن كثيرًا من هؤلاء اشتغلوا بالعلوم وبرعوا فيها؛ أنفة وبقيا على أنفسهم؛ وكان أولئك العرب من قبائل مختلفة، وكلهم باق على فطرته؛ ثم كان الأعراب من أهل البادية وسكان الفيافي يطرءون على المصرين والمدينتين: "مكة والمدينة"؛ فلم يكن للرواة في القرن الأول من حاجة إلى البادية؛ لأنهم لم يكونوا قد بلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه، وكان ذلك الأمر لما يضطرب، والمادة لا تزال باقية، وفي الناس فضل بعد؛ ولهذا نقطع جزمًا بأن الرحلة إلى البادية في طلب اللغة لم تكن في القرن الأول ألبتة، وإنما كان يعنى الرواة بالسماع من العرب كما أومأنا إليه آنفًا؛ فلما كانت الطبقة الثالثة من الرواة -طبقة الخليل وجماعته- وقد اختلفت أسانيد أهل المصرين عن العرب، واختلفت بذلك مذاهبهم، وتمكنت منهم العصبية، وأخذوا في الإزراء بعضهم على بعض، وخرج بعضهم من ذلك إلى الوضع والافتعال وصنعة الشواهد -كما نوضحه بعد- ورغب أهل التحصيل منهم في استيعاب الشواذ والنوادر، وأهل التحقيق في تمحيص المذاهب المختلفة، ورأوا أن أكثر القبائل البادية قد أخذت في مخالطة البلديين والأعاجم، ويوشك أن تختبل ألسنتهم ويلين جفاؤهم ويدخل على طباعهم الفساد، وأن شيئًا من ذلك قد خلص إلى الأجيال الناشئة في الحضر -لما اجتمعت لهم كل هذه الأسباب، ورأوا أن أهل الحديث يرحلون في طلب الأثر، ويقطعون ظهور الإبل إلى المرامي البعيدة، وإلى كل شرق وصقع يعلمون أن فيه من مصادر الحديث أحدًا -أخذوا هم أيضًا في سبيلهم، فرحلوا إلى البادية وهي مصدر اللغة، يطلبون جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، ويأخذون عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، فأخذوا عن قيس، وتميم، وأسد؛ وهؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف1، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وخاصة الذين كانوا يسكنون أطراف بلادهم المجاورة لمن حولهم من الأمم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان2، ولا من بكر، لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة
__________
1 تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على "أفصح القبائل" من الباب الأول وقد كان النحو والتصريف شيئًا واحدًا في المدارسة والتدوين، ويقال: إن أول من أفرد التصريف وميزه من النحو بالتصنيف والتبويب، أبو عثمان المازني المتوفى سنة 249هـ على الأكثر.
2 كذا قالوا.(1/214)
وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأنهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب صادقوهم وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم بالحضارة، وهم لا يأخذون عن حضري قط، مع أن أولئك كانوا هم الأصل في الفصاحة العربية، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم، والأصل فيهم قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرشي ثم بنو سعد بن بكر؛ لأنه استرضع فيهم وأقام عندهم حتى ترعرع1 ثم ثقيف وخزاعة وهذيل وكنانة وأسد وضبة، وهؤلاء كانوا قريبًا من مكة، وكانت لغة أهل مكة والمدينة قد فسدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة من خالطهم من رقيق العجم، وبمن تردد إليهم من تجارهم، وقد مر شرح ذلك في بابه.
وأقدم من عرفنا ممن رحلوا إلى البادية: يونس بن حبيب الضبي المتوفى سنة 183هـ وقد جاوز المائة فيما قيل، وخلف الأحمر المتوفى سنة 180هـ، والخليل بن أحمد المتوفى سنة 175هـ، وأبو زيد الأنصاري المتوفى سنة 215هـ عن 93 سنة، وهو أكثر أهل هذه الطبقة أخذًا عن البادية، وكانت له بذلك ميزة على صاحبيه: الأصمعي، وأبي عبيدة، حتى قيل إن الأصمعي جاء يومًا إلى مجلسه فأكب على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة؛ ولقد أراد أبو زيد هذا مرة أن يعرف بابًا من الصرف ويتبين من منطق العرب ما هو أولى بالضم وما هو أولى بالكسر من باب فَعَل "بفتح العين" الذي قالوا فيه إن كل ما كان ماضيه بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه حرفًا من حروف اللين ولا الحلق فإنه يجوز في مضارعه ضم العين وكسرها، وليس أحدهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف، كقولهم نَفَر ينفِر وينفُر، وشتَم يشتِم ويشتُم ... إلخ؛ فطاف أبو زيد في عليا قيس وتميم مدة طويلة، يسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم، قال: فلم أجد لذلك قياسًا، وإنما يتكلم به كل امرئ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك.
ولما جاءت الطبقة الرابعة التي أخذت عن هؤلاء، أخذوا عنهم التلقي عن العرب في باديتهم؛ إذ صار ذلك سنة وبابًا من أبواب الكفاية عندهم؛ ومن أقدمهم وأسبقهم إليه: النضر بن شميل المتوفى سنة 204هـ، فإنه أخذ عن الخليل بن أحمد وعن بعض الأعراب الذين أخذت عنهم الطبقة الثالثة، وأقام بعد ذلك بالبادية أربعين سنة؛ ثم الكسائي المتوفى سنة 189هـ "على الأكثر" فإنه أخذ عن الخليل ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ!
واستمروا يرحلون إلى البادية إلى أواخر القرن الرابع، ثم فسدت سلائق العرب كما فصلناه في بابه، وبذلك انقطعت مادة الرواية عنهم واكتفى الناس بآثار أسلافهم التي حوتها الكتب؛ وإنما كان العلماء بعد ذلك يسألون بعض الأعراب المتوسمين بشيء من جفاء البادية ممن لم تنسخ فيهم الفطرة
__________
1 أسلفنا في الكلام على تاريخ اللحن صفحة 156 أن بني مروان كانوا يلزمون أولادهم البادية لتخلص لغتهم وتسلم عربيتهم؛ وفاتنا أن نذكر هناك أن ذلك كان من شأن أهل مكة ولا يزال إلى اليوم؛ فإن أشرافها يرسلون أولادهم إلى بعض القبائل فيترعرعون فيها وقد أخذوا لغتها وحفظوا أشعارها وتفرسوا وتمهروا، وهم يتبعون في ذلك سنة أسلافهم من أيام الجاهلية.(1/215)
نسخًا، وكانوا يستروحون إلى ذلك ولا يأخذون به، وبقي هذا الأمر إلى منتصف القرن السادس؛ ونقلوا عن الزمخشري المتوفى سنة 538هـ بعض كلمات مما سألهم فيه، ولكن لم ينقلوا أن أحدًا اعتد هذا وأمثاله من اللغة وأجراه مجرى الرواية، ولا يمكن أن يكون ذلك.
فصحاء الأعراب:
وقد قلنا في فرق ما بين العربي والأعرابي في موضع ذلك من صدر هذا الكتاب؛ ورأينا العلماء وأهل اللغة في الإسلام يضربون المثل بفصاحة الأعراب وخلوص لغتهم وما لهم من بارع اللفظ وسري المخرج والعارضة الشديدة واللسان السليط، ثم ما يحمل عليها من طبع جاف متوقح غير بكيء، ولا منزور، وفطرة سليمة لا تنازع إلى غير الصواب، ولا يصرفها عنه صارف من سوء العادة أو الضعفة الحضرية، وإلى ما يكون من هذا الضرب.
والبلغاء في الصدر الأول إنما كانوا يتكلفون أن يحكوا الأعراب في مقامات الكلام؛ يبتغون من وراء ذلك بعض ما يرده التقليد والحكاية من تلك الصفات؛ وكان أفصح الناس إنما يرى منزلته منهم أن يجري على ما سبق إليه من أعراقهم، فهو منهم بطبيعته دون موضع الغاية وعلى حد المقاربة في منزلة بين المنزلتين. ولا نفيض هنا في هذا المعنى وأدلته، فقد أسلفنا منه أشياء وسنأتي على بقيته في باب الخطابة، وإنما نكتفي بهذا الإيماء لأنه سبيل ما نحن فيه.
كان الأعراب يطرءون من البادية على الحضر، فيلقاهم الرواة بما اختلفوا فيه، يعترضون حجته في منطقتهم، ويتلقفون أدلته من أفواههم، ويتحملون عنهم بالنوادر وما إليها، ومنهم طائفة كانوا ينزلون الأمصار العربية ويقيمون بها، فيأنسون إلى الرواة ويسكنون إلى مسألتهم، ثم ينتهي الأمر بهم إلى أن يصيروا أساتذة القوم في الفتيا ومرجعهم في الخلاف، لا يتبرءون بذلك بل يتصدرون له؛ لأنهم يخشون على ألسنتهم من طول المكث في الحضر، فلا ينفكون يذاكرون الرواة؛ إذ لا يجدون غيرهم من سائر الناس، وهم الذين يسمونهم فصحاء الأعراب.
ويبتدئ تاريخهم منذ مست الحاجة إليهم في الطبقة الثانية من الرواة عند تفريع النحو وقياسه كما أشرنا إليه، ولذا لم نر لأحد من هؤلاء الأعراب اسمًا مذكورًا قبل أبي خيرة وأبي الدقيش ورؤبة بن العجاج الراجز، وأبي المهدي وأبي المنتجع وأضرابهم ممن أخذت عنهم تلك الطبقة.
ولما كثر تردد الأعراب على الرواة ومذاكرتهم إياهم، أقبل بعضهم على الطلب والرواية عن العلماء والتلمذة لهم؛ ولم نقف على أحد فعل ذلك قبل أبي مسحل الأعرابي الذي قدم من البادية وأخذ النحو عن الكسائي المتوفى سنة 189هـ، وروى شعرًا كثيرًا في الشواهد عن علي بن المبارك، ثم صنف في النوادر والغريب؛ أما قبل ذلك فكان فصحاء الأعراب إنما يلمون بالرواة إلمامًا، كالذين كانوا يقصدون منهم حلقة يونس بن حبيب بالبصرة، وكان بعضهم يقف على حلقة أبي زيد الأنصاري يسأله عن أشياء من العربية تظرفًا لا حاجة.
ومتى طال مكث الأعرابي في الحضر ضعفت طبيعته ورق لسانه؛ فإذا آنس منه الرواة ذلك وضعوا له الأقيسة الفاسدة يمتحنونه بها كما مر في موضعه، وإذا وجدوه قد صار يفهم الكلام على(1/216)
لحن أهل الحضر -فضلًا عن أن يحكيه مثلهم- نبذوه؛ لأن الأصل أن لا يفهم هذا اللحن إلا من زاوله ودار على سمعه حتى ألفه؛ وقال الجاحظ "توفي سنة 255هـ": "إنهم لا يفهمون قولهم: ذهبت إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو...." ثم قال: "ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا وأشباهه، بهرجوه ولم يسمعوا منه؛ لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد وتنقض البيان؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك الجيرة، لفقد الخطباء من جميع الأمم، ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة "تأمل" وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين".
وقد سقنا مثلًا من أسئلة الأعراب في بعض الفصول التي تقدمت، ونسوق هنا بعضها توفية لفائدة هذا الفصل.
وروى المبرد في "الكامل" أن الأصمعي شك في لفظ استخذى "خضع" وأحب أن يستثبت: أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: فقلت لأعرابي: أتقول استحذيت أم استحذأت؟ قال: لا أقولهما! فقلت: ولم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي "لا تخضع"!
وقال الأصمعي لأعرابي: أتهمز الفارة؟ قال: تهمزها الهرة1.
وقال الجاحظ: سمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري إني عثرت البارحة بكتاب وقد التقطته وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرًا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيدًا "مشكولًا". قال: والله ما أدري أكان مقيدًا أو مغلولًا.... قال الجاحظ: ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته.
ومهما جهدت بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه، فإنه لا يستطيع إلا من ضعف؛ لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ واللغة إنما تؤخذ عن السليقة وهي سنة واحدة.
قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيب إلا المسك "بالرفع"، قال أبو عمرو: نمت وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم قال: قم يا يحيى، يعني اليزيدي، وأنت يا خلف، يعني خلف الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي "أعرابي الحجاز" فلقناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع "أعرابي تميم" فلقناه النصب فإنه لا ينصب.
قال: فذهبا فأتيا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول ليس الطيب إلا المسك "بالرفع"؟ فقال: "تأمرني بالكذب على كبر سني"! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل، قال
__________
1 تروي عنهم من ذلك نوادر كثيرة لا فائدة منها إلا بالفكاهة. فلم نفسح لها في هذا الفصل.(1/217)
اليزيدي: فلما رأيت ذلك منه قلت له: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله والعمل بها، فقال: هذا كلام لا دخل فيه، ثم أعادها بالنصب، فرفعها ثانية، فقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي. قالا: فكتبنا ما سمعنا منه، ثم أتينا أبا المنتجع فلقناه النصب وجهدنا به، فلم ينصب وأبى إلا الرفع.
وإذا قال الأعرابي شعرًا وأخطأ فيه على مصطلح أهل العروض، وإن كان قد ذهب في نفسه مذهبًا، فهيهات أن يفهم الصواب أو يذكر الوجه الذي ذهب إليه إلا بالتلطف في سؤاله والحيلة على إفهامه.
قال ابن جني في "الخصائص": أنشدنا أبو عبد الله الشجري لنفسه شعرًا مرفوعًا يقول فيه يصف البعير:
فقامت إليه خدلة الساق أغلقت ... به منه مسمومًا دوينة حاجبه
فقلت: يا أبا عبد الله، أتقول: دوينة حاجبه، مع قولك: مناسبه، وأشانبه؟ فلم يفهم ما أردت، فقال: كيف أصنع، أليس ههنا تضع الجرير على القرمة على الجرفة1؟ وأومأ إلى أنفه، فقلت: صدقت، غير أنك قلت أشانبه، وغالبه، فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول، فلما طال هذا قلت له: أيحسن أن يقول الشاعر:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
ومطلت الصوت "أي: مد الهمزة"، ثم يقول مع ذلك:
ملك المنذر بن ماء السماء
فأحس حينئذ وقال: أهذا ... ؟ أين هذا من ذاك؟ إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قِصَر الحركة في "حاجبه" وأنها أقل من الحروف في "أسماء، والسماء".
__________
1 الجرير: الحبل، والقرمة، موضع الجلدة التي تقطع من فوق خطم البعير لتقع على موضع الخطام وليذل، والجرفة: أثر الجلدة التي تقطع من جسد البعير دون أذنه من غير أن تبين، وقد ظن الشجري أن ابن جني ينتقد معنى البيت ويخطئه فيه.(1/218)
المحاكمة إلى الأعراب:
وكان العلماء إذا اختلف ما بينهم في المناظرة وادعى كل منهم الفَلَجَ والظهور بالحجة والدليل، رجعوا في الحكم إلى منطق الأعراب ممن يصيبونهم من الفصحاء على أبواب الأمراء أو في المساجد أو في طرق السابلة.
ولم تكن المحاكمة إليهم مقصورة على القياس وما يحتاج إلى المنطق الصحيح في التعيين صحته فحسب ولكنها كانت تكون أيضًا في معاني الألفاظ وما يدخله التصحيف، وخاصة أسماء الأمكنة والبقاع وما يجري مجراها من هذه الجوامد التي يعرفها الرواة عن سماع ويعرفها الأعراب عن يقين وعيان.
قال أحمد بن يحيى: لقيني أبو محلم على باب أحمد بن سعيد بن مسلم ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي؛ أليس كان يقول في قوله:
زوراء تنفر عن حياض الديلم
ن الديلم الأعداء؟ فاسألوا هذا الأعرابي؛ فسألناه فقال: هي حياض بالغور قد أوردتها إبلي غير مرة. والأمثلة من هذا كثيرة.
وأشهر ما عرف من محاكماتهم إلى الأعراب، المسألة الزنبورية التي اختلفت فيها سيبويه البصري والكسائي الكوفي1 بحضرة الرشيد، وقيل إنها كانت بين سيبويه والفراء بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي؛ وذلك أن سيبويه قدم إلى بغداد، وكان الكسائي يعلم الأمين، وهو يومئذ رأس الكوفيين؛ فوفد سيبويه على يحيى بن خالد وابنيه جعفر والفضل، وعرض عليهم ما يذهب إليه من مناظرة الكسائي؛ فسعوا له في ذلك وأوصلوه إلى الرشيد، فكان فيما سأله الكسائي: كيف تقول: ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو: إياها؟
فقال سيبويه: فإذا هو هي؛ وأجاز الكسائي القولين: بالرفع والنصب "لأن نصب الخبر المعرفة
__________
1 أوردنا في فصل "فساد اللغة في البادية" صفحة 159 أن الكسائي أخذ عن أعراب الحليمات لما قدموا إلى بغداد، وكانوا غير فصحاء، فخلط على علمه.
وقد نقلوا عن الأصمعي أن هؤلاء الأعراب كانوا ينزلون بقطربل "قرية من متنزهات بغداد اشتهرت بالخمر وأسباب اللهو"، وأن الكسائي لما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه ... فقال أبو محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل
إن الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفل!
ونقل السيوطي هذا الخبر في "بغية الوعاة" لكنه قال: إن الكسائي أخذ اللغة عن أعراب الحطمة ... وجاءت هذه اللفظة في كتاب "التصحيف" للعسكري: أعراب الحلمات، والصواب ما ذكرناه.(1/219)
بعد "إذا" لا يجيزه إلا الكوفيون، ولم يأت عن العرب في سماع صحيح".
ثم قال الكسائي: كيف تقول يا بصري: خرجت فإذا زيد قائم، أو: قائمًا؟
فقال سيبويه: أقول: قائم، ولا يجوز النصب.
فقال الكسائي: أقول: قائم؛ وقائمًا.
فقال يحيى "أو الرشيد": قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟
فقال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد سمع منهم أهل البلدين؛ فيحضرون ويسألون.
فجاءوا بالأعراب الذين كانوا بالباب يومئذ، وهم أبو فقعس، وأبو دثار، وأبو الجراح، وأبو ثروان؛ فوافقوا الكسائي؛ ويقال إنهم أرسوا على ذلك، أو أنهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد فنظروا إلى المنزلة، ويقال إنهم لم يزيدوا على أن قالوا في الموافقة: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب، وأن سيبويه قال ليحيى: مرهم أن ينطقوا بذلك فإن ألسنتهم لا تطوع به1.
وكان الأمراء الذين يتولون الأمصار البعيدة عن البلدين يستقدمون إلى جهاتهم أعرابًا من الفصحاء، لتأديب أولادهم، وليأخذ عنهم علماء تلك الأمصار، ثم ليرجعوا إليهم في بعض ما يختلفون فيه. ومن أشهر أولئك الأمراء، عبد الله بن طاهر، فإنه لما ولي خراسان استقدم إليها جماعة، ذكروا من أسمائهم: أبا العميثل الأعرابي المتوفى سنة 240هـ، وعوسجة, ولما ورد أبو سعيد اللغوي الضرير من بغداد على ابنه طاهر بن عبد الله، تأدب بهؤلاء الأعراب وأخذ عنهم.
ومنذ القرن الخامس فسدت سلائق الأعراب في الحضر والبادية، ولم يعد العلماء يركنون إليهم في شيء إلا الاستئناس ببعض ما يسمعونه، وعز الظفر بالفصيح منهم الذي يرجع إلى نجره ويتساند إلى سليقته، حتى صار لقب الأعرابي مما يحرص عليه بعض الفصحاء من أهل العلم، يدعونه تميزًا به وإحياء للسنة العربية، كأبي محمد الأعرابي النسابة اللغوي المعروف بالأسود "وهو الذي كان يسند إلى أبي النداء كما مر"، فإنه تلقب بالأعرابي، وكان يتعاطى تسويد لونه بالقطران ويقعد في الشمس ليتحقق تلقيبه بذلك!
وهذا الرجل هو آخر تاريخ الأعراب الفصحاء، لا يعرف معه أعرابي، ولا يعرف بعده من ادعى الأعرابية اللغوية2.
__________
1 سئل الأعلم الشنتمري نحوي أهل الأندلس عن هذه المسألة في سنة 476هـ، فأجاب بجواب مسهب أورده صاحب "نفح الطيب" في الجزء الثاني من كتابه، وعقد له هناك فصلًا برأسه.
وأورد صاحب "الأغاني" في ترجمة أبي محمد اليزيدي "في الجزء الثامن عشر" مناظرة كانت بين اليزيدي والكسائي بحضرة المهدي، ظفر فيها اليزيدي بشهادة أعرابي أيضًا. ولذلك أمثلة أخرى أضربنا عن ذكرها اكتفاء بما مر.
2 أما قبل ذلك فلم نقف على من ادعى الأعرابية وبالغ في انتحالها غير أبي خالد النميري "وهو معاصر لأبي عبيدة والأصمعي"، وكان يتبادى ويتقعر! قال العسكري وأبو خالد: هذا هو الذي خرج إلى البادية فأقام أيامًا يسيرة ثم رجع إلى البصرة فأنكر الميازيب فقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا!(1/220)
بعض فصحاء العرب:
وقد عقد ابن مريم في كتابه "الفهرست" فصلًا لأسماء أولئك الفصحاء الذين أخذ عنهم الرواة ودارت أسماؤهم في كتب القوم وفي خطوط العلماء. ولا يذهبن عنك أن جميع الأعراب إنما كانوا في العراق، وكان قليل منهم في الحجاز؛ لأن الرواية كانت قائمة بأهل هذين الصقعين، وهم لا يقيمون لعلماء الشام وزنًا، ولا يوثقون روايتهم إن لم تكن من ناحيتهم، ولهذا قل أن تجد لعلماء ذلك الشرق أعرابًا معروفين يختصون بالأخذ عنهم. بيد أن الجاحظ في بعض رسائله قد ذكر اسم عكيم بن عكيم الحبشي، وقال فيه: "كان أفصح من العجاج، وكان علماء أهل الشام يأخذون عنه كما أخذ علماء أهل العراق عن المنتجع بن نبهان. وكان المنتجع سنديا وقع إلى البادية وهو صبي فخرج أفصح من رؤبة ا. هـ. ولم نقف على اسم أعرابي انفرد أهل الشام بالأخذ عنه وحاكوا به أهل العراق، غير عكيم هذا. والمنتجع بن نبهان كان في القرن الثاني.
وهذه أسماء المشهورين من أولئك الفصحاء، عن ابن النديم وغيره: الخثعمي، وكان راوية أهل الكوفة؛ وأبو خيرة العدوي؛ وأبو الدقيش؛ وكان من أفصح العرب؛ وأبو مهدية الأعرابي؛ وأبو المنتجع؛ وأبو البيداء الرياحي، وراويته أبو عدنان، وكان أبو البيداء حين نزل البصرة يعلم الصبيان بأجرة؛ وأبو طفيلة؛ وأبو حياة بن لقيط؛ والفقعسي محمد بن عبد الملك راوية بني أسد وصاحب مفاخرها وأخبارها، أدرك المنصور، وعنه أخذ العلماء مآثر بني أسد؛ وعبد الله بن عمرو أبي صبح، معاصر للفقعسي؛ وأبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي اللغوي صاحب النوادر، وكان يعلم في البادية ويورق في الحضر1؛ وأبو الجاموس ثور بن يزيد، وكان من أفصح الناس إنسانًا، وهو الذي أخذ عنه ابن المقفع الفصاحة وجرى في طريقته من البيان؛ وأبو سوار الغنوي؛ وأبو زياد الكلابي، قدم بغداد أياما المهدي فأقام بها، أربعين سنة؛ وأبو عرار العجلي؛ وأبو ثوابة الأسدي؛ وأبو ضمضم الكلابي؛ وعمرو بن عامر البهدلي، وقد أخذ عنه الأصمعي؛ وأبو شبل العقلي، وفد على الرشيد واتصل بالبرامكة؛ وأبو ثروان العكلي، وكان يعلم في البادية؛ وأبو فقعس؛ وأبو دثار؛ وأبو الجراح؛ وهؤلاء الأربعة هم الذين حكموا بين سيبويه والكسائي كما مر أبو العميثل؛ وعوسجة؛ وأبو مسهر الأعرابي؛ وأبو المضرحي؛ والحرمازي؛ وأبو الهيثم؛ وأبو المحبب الربقي؛ وأبو صاعد الكلابي؛ وأبو أدهم الكلابي؛ وأبو الصقر الكلابي؛ وأبو الصعق العدوي؛ والمفضل العنبري؛ ويزيد بن كثوة؛ وناهض بن ثومة الكلابي، وكان شاعرًا بدويا جافيًا كأنه من الوحش، وكان يقدم البصرة في منتصف القرن الثالث فيكتبون شعره ويأخذون عنه؛ وأبو السمح الطائي وهو ممن أحضر في أيام المعتز ليؤخذ عنه.
__________
1 الغرض من التعليم في البادية، إقراء الأعراب بما يقيم لهم صلاتهم ويعرفهم الضروري من أمر دينهم؛ احتسابًا لا لأجر، ومن أقدم من وقفنا على أسمائهم من معلمي البادية: الحصين بن عبدة بن نعيم العدوي، كان في منتصف القرن الأول، وكان يعلم أعراب بني عدي. وصناعة الوراقة أو التوريق هي معاناة الانتساخ والتصحيح والضبط، وكان الوراقون من العلماء والأدباء، ولذا كانت الكتب القديمة آية في الصحة والضبط، كما قال ذلك ابن خلدون.(1/221)
ومن أشهر الأعرابيات اللواتي أخذ الرواة عنهن وهن قليلات: غنية أم الهيثم الكلابية، وكانت راوية أهل الكوفة؛ وقريبة أم البهلول؛ وغنية أم الحمارس.
وفيما قدمناه بلاغ، وبعض ما دون الاستقصاء في هذا الباب كفاية الباب كله.(1/222)
الوضع والصنعة في الرواية
...(1/223)
افتعال اللغة:
قال الخليل بن أحمد: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت.
وليس يخفى أنه لا سبيل إلى الوضع فيما يرجع من اللغة إلى الأقيسة المطردة، وإن وضع من ذلك شيء لم يجز على العلماء، وإنما الشأن في الغريب وما ينفرد به الرواية مما لا دليل على مثله إلا دعوى حامله، فإن قومًا يفتعلون من ذلك أشياء: كعَيْدَشون اسم دويبة، وصيدخون للصلابة والبد للصنم الذي لا يعبد، والبتش، وضهيد، وغنشج، وأمثالها1 يضعونها رغبة في الذكر بها، وأن يكون عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم، والانفراد في اصطلاح الناس مَنْبَهة.
ومن هذه الأشياء ما يقره الرواة إذا لم يجدوه مخالفًا لأبنية العرب ولم يعلموا على حامله سوءًا ولا كان ممن يتدينون بالكذب، كبعض فرق الروافض فإنه منهم من يضع الشعر ويضمنه شيئا من الغريب، ليقيم به حجة واهية، أو رأيًا متداعيًا، كما ستعرفه.
وقد أفرد ابن جني بابًا في "الخصائص" لكلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي، وثقاة الرواة كانوا يتثبتون في مثل هذا فينفرد الواحد بالكلمات القليلة ولكن مع شواهدها من كلام العرب، وهم لا يروونه مع ذلك على أنه من قول العرب الذي اجتمعت عليه، فإن هذا الضرب من الكلام المجمع عليه لا يكون إلا في المألوف، وفي الذي يسمع من الفصحاء خاصة، وعلى ذلك قول أبي زيد: "لست أقول: قالت العرب، إلا إذا سمعته من هؤلاء: بكر بن هوازن، وبني كلاب، وبني هلال، أو من عالية السافلة أو سافلة العالية2؛ وإلا لم أقل: قالت العرب"!
ولا يجيء بالغريب على أنه بسبيل من الكلام المجمع عليه إلا من أراد أن يستند بشروط الرواية فيلبس على الناس أمرهم، وهو يرمي بذلك إلى التزيد في علمه والتكثر بالباطل والتنبل عند الناس، وتراه إذا أورد الكلمة المفتعلة جعلها من سماعها وزينها بوجوه من الرواية، آمنًا أن ترد عليه أو يدعي فيها مدع؛ لأن البينة عليها منه، والحكم فيها إليه، إذ كان له سلف صدق من الرواة الذين انفردوا بالغرائب والنوادر، وقبل ذلك منهم وألحق بمادة اللغة، ولهذا وأشباهه من العلل كانوا يرجعون إلى الأعراب كما علمت.
ولم يعرف أحد من الرواة كان يضع اللغة في القرن الأول، ولا في القرن الثاني، إلا ما يكون
__________
1 وعلى هذا القياس جرى القصاصون وبعض المتصوفة فيما وضعوه من الغريب الإسلامي "وهو غير الغريب المولد الذي مر الكلام عليه في الباب الأول" كأسماء الملائكة والشياطين والسماوات والأرضين ونحوها، مما لا يعرف في كتاب ولا سنة صحيحة، ومن بعض أسماء السماوات: أزقلون، وفيدوم، ودقنا، وكقولهم: إن أول من آمن من الجن، هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس، وأمثال لذلك كثيرة.
2 يعني عجز هوازن، وأهل العالية: أهل المدينة. ولغتهم ليست بتلك عند أبي زيد.(1/224)
من الكلمات التي يكذب فيها الأعراب1، أو توضع إرادة اللبس والتعنيت، وإلا ما يكون من خطأ بعضهم ومكابرته في الاحتجاج له، كما سيأتي مع نظائره في الكلام على وضع الشعر.
وأول من رمي بافتعال اللغة وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة 206هـ، وكان يرى رأي المعتزلة النظامية، فأخذ عن النظام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثقوه في الرواية؛ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قمطرًا "أي: ملء صندوق"، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئًا.
واتهموا بالصنعة وتوليد الألفاظ، ابن دريد صاحب الجمهرة المتوفى سنة 321هـ؛ لأنه كان مدمنًا للخمر لا يكاد يفتر عن ذلك. قال الأزهري اللغوي: وقد سألت عنه إبراهيم بن عرفة "يعني نفطويه" فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته2.
وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة 345هـ وكان واسع الحفظ جدا، حتى قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة وتلك لعمر الله مظنة. وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه؛ فيقولون: لو طار طائر في الجو قال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا! ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مرد التهمة إلى سعة حفظه، ثم أثبت هذا الحفظ فنفى التهمة وقال: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه وضعه فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروى أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها فإنه يجيب بشيء آخر؛ فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب؟ فذكر شيئًا قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث فوضعنا رجلًا غير ذلك فسأله فقال: ما القنطرة؟ قال: أليس قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا فقلت هي كذا؟ فما درينا من أي الأضمين نعجب من ذكائه: إن كان علمًا فهو اتساع طريف، وإن كان كذبًا في الحال فحفظه فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة فأجاب بذلك الجواب فهو أطرف.
__________
1 مما يروونه: أن رؤبة قال ليونس بن حبيب المتوفى سنة 183هـ، وكان يسأله عن بعض الغريب: "حتام تسألن عن هذه الخزعبلات وأزخرفها لك؟ أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك؟ ".
2 دفع بعض العلماء ذلك عن ابن دريد بما كان بينه وبين نفطويه من المنافرة حتى قال ابن دريد يهجوه من أبيات:
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخًا عليه
يريد "النفط" ولفظ "وبه" وكان الصياح على الموتى بهذين اللفظين "واي وي" وأول من صاح بذلك في الإسلام أم عبد المجيد الثقفي صاحب ابن مناذر الشاعر أيام الرشيد العباسي حين مات عبد المجيد، وكان من أجمل الفتيان جمالًا. وذلك في خبر ليس هذا موضعه.
والمحدثون يرون أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يقدح في العدالة، وقد جاراهم أهل الأدب حتى قالوا: "إن المعاصرة حجاب".(1/225)
وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلامًا تركيا مملوكًا يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا وكان يملي كتاب "الياقوتة"، فلما جازه قال: اكتبوا "ياقوتة خواجا" الخواج في أصل اللغة الجوع؛ ثم فرع على هذا بابًا وأملاه؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه. وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها؛ فإن بين العلم المستطيل والحفظ المتسع موضعًا لبسط اللسان إذا أراد قائل أن يقول.
وأشهر من عرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي الذي ورد الأندلس في حدود سنة 380هـ على المنصور بن أبي عامر؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو المومأ إليه؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه؛ ولذا نظروه في الأندلس في سرعة الجواب وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق؛ وادعى في الأندلس علم الغريب؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين.
قالوا: ودخل مرة على المنصور وفي يده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه "القلب والتزبيل" وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع؛ فقال له المنصور: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب "القوالب والزوالب" لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع؛ هكذا هكذا! فقال له: "أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا إلخ، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب ونسبته إلى عاملي لأختبرك! " فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق. وله من هذا كثير.
وقال ابن بسام: إن المنصور أراه كتاب "النوادر" لأبي علي القالي، فقال: إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابًا أرفع منه وأجل، لا أورد فيه خبرًا مما أورده أبو علي! فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة على كتابه المترجم "بالفصوص" فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم؛ وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جلدتها حتى توهم القدم، ففعل ذلك وترجم عليه: "كتاب النكت، تأليف أبي الغوث الصنعاني" فترامى عليه صاعد حين رآه وجعله يقبله وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان؛ فأخذه المنصور من يده خوفًا أن يفتحه وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلام يحتوي؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئًا؛ ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر؛ فقال المنصور: أبعد الله مثلك؛ فما رأيت أكذب منك! وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب الفصوص في النهر1.
وكان أبو صاعد هذا قوي البديهة في الشعر، يضع لسانه منه حيث يريد، وهو صاحب البيت
__________
1 قال ابن بسام: ما أظن أحدًا يجترئ على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي في "الفصوص" إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان ينتفق به من الكذب.(1/226)
المشهور "بيت الخنفشار" الذي جرى في المتأخرين مثلًا مضروبًا في الكذب والوضع لما لا أصل له، وذلك أن المنصور قال له يومًا: ما الخنبشار1؟ فقال: حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم:
لقد عقدت محبتها بقلبي ... كما عقد الحليب الخنبشار
وتوفي صاعد سنة 417هـ.
وإنما كان كل ذلك قبل أن تجمع مفردات اللغة وتؤلف الأمهات والأصول وتشيع في أيدي الناس: "كالصحاح" للجوهري، و"التهذيب" للأزهري؛ ولم يوضع قبله كتاب أكبر ولا أصح منه؛ وذلك في أواخر القرن الرابع في المشرق؛ لأن الرجوع في اللغة كان إلى الرجال، وفيهم من علمت؛ أما بعد ذلك فلم يؤثر الافتعال شيئًا في اللغة، لسقوط الرواية فيها إلا من الكتب، كما أومأنا إليه في محله؛ وبهذا بطلت الصنعة وبطل تاريخها اللغوي.
__________
1 جاءت هذه الكلمة فيما بين أيدينا من الكتب بالباء، ولكن المتأخرين ينطقونها بالفاء.(1/227)
وضع الشعر:
والشعر هو عمود الرواية: عليه مدارها وبه اعتبارها؛ وقد كانت منزلته من العرب ما هي، إذ كان يتعلق بأنسابهم وأحسابهم وتاريخهم وما يجري مع ذلك، حتى كأنه الحياة المعنوية لأولئك القوم المعنويين، فلم يكن عجبًا أن يدور فيهم مع الشمس والريح، وأن تسخر له ألسنتهم فينصرفوا إلى قوله وروايته، حتى بلغ منهم مبلغه الذي نصفه لك في بابه إن شاء الله.
وقد كان عند قدماء اليونان لبعض الأسباب المعنوية التي تشابهوا فيها هم والعرب رواة يتفرغون لنقل الشعر ويقومون في الناس على إنشاده ويروون قطعًا من التواريخ، وهم يسمونهم "RHAPSODIST" ومن أشهرهم في القديم رواة الإلياذة لهوميروس؛ على أن الفرق بين العرب واليونان في ذلك كالفرق بين أمة كلها شعراء بالفطرة، وأمة تميز الفطرة منها بعض شعراء.
ولم يكن من سبب في جاهلية العرب يبعثهم على وضع الشعر ونحلته غير قائله وإرساله في الرواية على هذا الوجه؛ لأن شعراءهم متوافرون، ولأنهم لا يطلبون بالشعر إلا المحامد والمعاير، وقصارى ما يكون من ذلك أن يتزيد شاعرهم في المعنى ويكذب فيه إذا هو حاول غرضًا أو أراغ معنى مما تلك سبيله، وعلى أن ذلك لا يكون إلا في الأخبار التي تلحق بالتاريخ؛ لأن الشاعر موضع الثقة؛ وهو مصدر رواية في العرب، فإن أرسل القول أرسل معه التاريخ فيجريان معًا؛ وذلك كالذي ادعاه الأعشى في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، فإنهما تنافرا إلى هرم بن قطبة في خبر مشهور، فاحتال لهما حتى رضيا بحكمه جميعًا؛ إذ كره أن يفضل أحدهما على الآخر وهما ابنا عم فيوقع بذلك عداوة بين الحيين؛ فوصفهما بأنهما في المنزلة كركبتي البعير الأردم: تقعان إلى الأرض معًا. ولكن الأعشى ادعى أنهما حكما هرمًا، وأنه حكم لعامر على علقمة، وقال في ذلك بعض قصائده وأشاعها في العرب، فلبس على الناس؛ وإنما جاء هذا الإفك؛ لأنه كان ممن ثار مع عامر، وكان قبل ذلك حين رجع من عند قيس بن معديكرب بما أعطاه، طلب الجوار والخفرة عن علقمة فلم يكن عنده ما طلب، وأجاره وخفره عامر حتى أداه وماله إلى أهله. وهذا التزيد هو الذي يسميه الرواة أكاذيب الشعراء, أما أن يكون في عرب الجاهلية من يصنع الشعر وينحله غيره على نحو ما كان في الإسلام، فذلك ما لا نعلمه ولا نظنه كان ألبتة1.
ولما جاء الإسلام واندفع به العرب إلى الفتوح، اشتغلوا عن الشعر بالجهاد والغزو حينًا من
__________
1 إنما كان منهم عكس هذا، وهو انتحال الرجل شعر غيره أو الاجتلاب منه أو نحو ذلك مما يأتي تفصيله في الكلام على سرقة الشعر. قال الراجز:
يا أيها الزاعم أني اجتلب ... وأنني غير عضاهي أنتجب
كذبت، إن شر ما قيل الكذب!
والعضاه: شجر، والانتجاب: نزع نجبه "بفتح الجيم" وهو لحاؤه أو قشر قروفه.(1/228)
الزمن؛ فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف والحيف وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب رواته. صنعت القبائل الأشعار ونسبتها إلى غير أهلها، تتكثر بها وتعتاض مما فقدته؛ وكان في العرب قوم آخرون قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بذوي الكثرة من ذلك، وإنما العزة للكاثر؛ فقالوا على ألسن شعرائهم ما لم يقولوه وأخذه عنهم الرواة.
وأول القبائل التي وضعت الشعر في الإسلام، قريش، وكانت أقل العرب شعرًا وشعراء -لأسباب نذكرها في الكلام على الشعر- فإنها لما تعاضهت واستبت وكذب بعضها على بعض أول العهد بالإسلام حين كان منها المسلمون ومنها القاسطون ومنها دون ذلك، وضعوا على حسان بن ثابت أشعارًا كثيرة لا تليق به ولا تجوز عليه، وما نرى العرب إلا أخذت أخذها في ذلك من بعد.
ولما كانت الرواية العلمية في القرن الثاني وشمر الرواة في طلب الشعر للشاهد والمثل، استفاض الوضع في العرب وتفرغ قوم لذلك: كمحمد بن عبد الملك الفقعسي راوية بني أسد الذي وضع للرواة أشعارًا كثيرة أدخلها في روايته عن قومه. وإن أشد ما كان يعضل بالرواة يومئذ أن يقول الرجل من ولد الشعراء في العرب عن لسان أبيه تكثيرًا لشعره، فإن هذا كان مما يشكل عليهم؛ لأنهم لا يميزون أكثر الشعراء إلا بالنسبة، وهي محمل الصدق والكذب، أما الصنعة الشعرية فقلما تختلف في أشعار العرب اختلافًا يظهر لأولئك الرواة إلا في القليل من صنعة الفحول المتقدمين. وكان القوم إذا تعلقوا برجل من ولد الشعراء وألحوا عليه في السماع، ورغبوا في شعر أبيه دونه، فكثيرًا ما يفعل بهم مثل ذلك، ومن هؤلاء داود بن متمم بن نويرة الشاعر، قال أبو عبيدة: إنه قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، قال: فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته؛ فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.
شعر الشواهد:
وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو؛ وقد اشترط ذلك علماء المصرين: "البصرة والكوفة" بعد أن قامت المناظرات بينهم في فروع النحو ومسائله، وكانوا يستشهدون على ذلك بأشعار الطبقتين من الجاهليين والمخضرمين، ثم اختلفوا في الإسلاميين كجرير والفرزدق، وأكثرهم على جواز الاستشهاد بأشعارهم. وكان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم، ويعدونهم من المولدين الذين لا يستشهد بكلامهم؛ قال الأصمعي: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. وأبو عمرو هذا كان يقول في شعر تلك الطبقة: لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته!
وللعلماء كلام كثير في الطبقات التي يجوز الاستشهاد بأشعارها من أهل الحضر، ولكن الثقات منهم مجمعون على أن ذلك لا يتجاوز نفرًا من طبقة المحدثين ممن ينتسبون في العرب، ونقل ثعلب(1/229)
عن الأصمعي أنه قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج, وتوفي ابن هرمة بعد الخمسين ومائة، وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية1.
أما ما يذهب إليه بعضهم من أن سيبويه احتج بشعر بشار بن برد، فالخبر في ذلك أن سيبويه عاب أحرفًا على بشار ونسبه فيها إلى الغلط: كالوجلى من الوجل وجمع نون "أي: الحوت" على نينان؛ فهجاه بشار، قال أبو حاتم: فتوفاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدًا من شعر بشار احتج به استكفافًا لشره! "وتوفي بشار سنة 168هـ وقد نيف على التسعين".
وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن، وشواهد النحو؛ أما الأولى فكثيرة، وقد تقدم ما رووه من حفظ ابن الأنباري فيها، ولا يبالي الرواة في هذه الشواهد إلا باللفظ، فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون منها الألفاظ وهي حروف طاهرة؛ وقد روى أبو حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيد معمر بن المثنى الراوية بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم، قال الجرمي: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ وإن شئت فذر!
وأما شواهد النحو فأوسع الناس حفظًا لها فيما وقفنا عليه: خلف الأحمر النحوي المتوفى سنة 207هـ، وهو مؤدب الأمين ابن الرشيد؛ قال ثعلب: إنه كان يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب؛ وأبو مسحل الأعرابي الذي أخذ عن الكسائي، قالوا إنه روى عن علي بن المبارك أربعين ألف بيت شاهد على النحو.
وقد قلت شواهد النحو واللغة بعد ذهاب الرواة وعفاء مجالسهم، حتى صارت تشبه الآثار التاريخية في الضن بها والحرص عليها وتداولها كما هي؛ لأن قيمتها في نفس الحالة التي هي عليها؛ ومنشأ ذلك من تناقل الكتب بالرواية والاقتصار على ما فيها من مبالغة في تحقيق الإسناد العلمي؛ ولم يشتهر أحد في المتأخرين بالإكثار من تلك الشواهد والاتساع في حفظها كابن مالك النحوي الشهير صاحب الألفية المتوفى سنة 672هـ، وكان قد أخذ العلم بنفسه وليس له في الانتماء ما لغيره من العلماء2؛ قال الذهبي في ترجمته: "وأما أشعار العرب التي يستشهدون بها على اللغة والنحو فكانت الأئمة الأعلام يتحيرون ويتعجبون من أين يأتي بها" وهذه العبارة وحدها كافية في الوصف التاريخي الذي نحن فيه.
والكوفيون أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها؛ لضعب مذاهبهم وتسلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولًا يقاس عليها؛ مجاراة عليها؛ مجاراة لما فيهم من الميل الطبيعي إلى الشذوذ كما
__________
1 في رواية ابن قتيبة عن الأصمعي أنه قال: ساقة الشعراء ابن ميادة، وابن هرمة، ورؤبة، وحكم الخضري.
2 قال أبو حيان، وكان ابن مالك لا يحتمل المباحثة ولا يثبت للمناقشة: يريد بذلك أنه يتوقى التعبير بأنه صحفي على ما كان من أمر العلماء كما سبقت الإشارة إليه في موضعه.(1/230)
سنبينه، قال الأندلسي في شرح المفصل: "والكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين" وأول من سن لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك.
ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم؛ وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله؛ بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، كالشاهد الذي يحتجون به على جواز دخول اللام في خبر لكن، وهو قول القائل المجهول:
ولكنني من حبها لعميد
واستمروا على الوضع حتى بعد أن استبحرت الرواية في أواخر القرن الثالث؛ قال المبرد المتوفى 285 وهو من البصريين: قال لي أبو عكرمة الضبي: ما يساوي نحوك عند ابن قادم شيئًا! "وابن قادم من الكوفيين" قلت: كيف؟ قال: لأن له لغة بخلاف هذه، وشواهد من الشعر عجيبة, فجعل ينشدني ويحدثني ويضحك، فكان من ذلك أن قال لي: سمعته يقول: أرز، ورنز؛ ثم أنشد:
قربا يا صاح رنزه ... واجعل الأصل إوزه
واصفف القينات حقا ... ليس في القينات عزه
فقلت له: من يقول هذا؟ قال: بعض العرب المتحضرة، فقلت: بل بعض النبط المتقذرة. ا. هـ.
ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ1. على أن البصريين وإن تثبتوا في أشعار الشواهد فقد وقع لهم أشياء من الموضوع وجازت عليهم، وهذا سيبويه الذي سمي كتابه "قرآن النحو" وقيل فيه إن شواهده أصح الشواهد؛ سأل اللاحقي: هل تحفظ للعرب شاهدًا على إعمال فُعِلٌ "الصفة"؟ قال اللاحقي: فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورًا لا تضير، وآمن ... ما ليس منجيه من الأعداء
وقال المبرد في "الكامل"2: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضورة ... والبيت الأول:
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا يومًا من الأمر معظما
والثاني:
__________
1 حرش الضب: صاده، واليربوع: دويبة، والشواريز: الألبان الثخينة، والكواميخ: المخللات يشهى بها الطعام، والمراد الأخذ عن أعراب البادية الجفاة وأعراب الأسواق الضعفاء.
2 كان المبرد من أجل علماء البصريين وقد أفرد كتابًا في القدح في كتاب سيبويه والغض منه، أما الكوفيون فإنهم لا يعدون كتاب سيبويه شيئًا!.(1/231)
ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعًا وأيدي المعتفين رواهقه
وقال الحرمي: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا، سألته عنها فعرف ألفًا ولم يعرف الخمسين1. أما شواهد اللغة والغريب فلم يحصها الرواة؛ لأن مادتها أكثر شعر العرب، ولأن اللغة لم تكن علمًا برأسه.
شواهد أخرى:
وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكان رواية الشعر فيهم يومئذ عامة؛ قال ابن قتيبة في "التأويل": وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يرده إلى مذاهبهم ويجعلوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] أي: علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:
ولا يكرسئ علم الله مخلوق2
ونقل الجاحظ في "الحيوان" أنهم يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأن عرب الجاهلية رأت الرجوم, ووضعوا أشعارًا في ذلك منها ما نسبوه لأوس بن حجر، وهو قوله:
فانقض كالدري من منحدر ... لمع العقيقة جنح ليل مظلم
قال الجاحظ: فخبرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخر لأسامة صاحب روح بن همام وهو الذي كان ولدها.
ونجتزئ من الكلام عن شعر الشواهد بهذا المقدار؛ لأنه جماع الباب كله على كثرة شواهده، ونوفر فوائده.
__________
1 ذكر العلامة اللغوي المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي نزيل مصر المتوفى بها سنة 1313هـ في حماسته المطبوعة، أنه علم واحدًا من هذه الخمسين، وهو قول القائل:
أفبعد كندة تمدحن قبيلا
قال: وهو لامرئ القيس، من قصيدة أوردها هناك من ثمانية عشر بيتًا، وذكر أنه نقلها مع شرح ديوان امرئ القيس رواية أبي سهل بن خرابنداذ عن أبي جعفر الكوفي، ثم قال: ولكون الديوان برواية الكوفيين خفي على البصريين وغيرهم معرفة قائل الشاهد المذكور مع شهرته ومسابقة الناس إلى حفظ أشعاره.
قلنا: ولكن الشيخ رحمه الله ذهب عنه ما روي عن يونس بن حبيب الضبي من أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وقد دفع البصريون أشعارًا لامرئ القيس وزهير وغيرهما مما انفرد بروايته الكوفيون، وأورد العسكري شيئًا من ذلك في كتابه "التصحيف"، والصحيح أن تلك الأبيات موضوعة على امرئ القيس لنزولها عن طبقته وظهور الصنعة والتوليد فيها، ولا بد أن تكون الخمسون أو معظمها من هذا الطراز.
وقد أثبتنا هذه الكلمات لهذه الفائدة, ثم لنذكر المرحوم الشنقيطي، فإنه آخر من ضمه التاريخ ممن يمكن أن يوصف ببعض صفات الرواة المتقدمين.
2 قلت: يكرسئ، مضارع "كرسأ" بوزن "دحرج". من توليد بعض المتكلمين يزعم أنه بمعنى: علم.(1/232)
الرواة الوضاعون للشعر
مدخل
...
الرواة الوضاعون للشعر:
وكان من الرواة قوم انفردوا بعلم قبائل العرب وأشعارها وأخبارها وما إليها. وغلب ذلك عليهم حتى لم تكن إليهم حاجة إلا فيه؛ وهؤلاء هم الذين فتقوا بألسنتهم هذه الفتوق في الأدب؛ وليس يخفى أن الحاجة وسيلة إلى الاختراع، وأن من كثرت إليه الحاجة في أمر من الأمور كان خليقًا أن يكون رأس هذا الأمر والغاية فيه، وهيهات هيهات لذلك إلا إذا استبد بفنه وأحكمه بأسره ووجد الناس عنده منه ما لا يجدون عند غيره. وقد كانت علوم أولئك النفر قاطبة تدور على الخبر والشعر، وليس في ذلك عندهم أكثر من الاستمتاع باللفظ الحسن والمعنى الطريف، مما لا يبنى عليه دين ولا يدخل الناس منه في خرج ولا يكون به من بعد إلا إفساد التاريخ العربي، وأهوِن بذلك ما دام هذا التاريخ قائمًا بالتأويلات والمفاخرات والمناشدات، وبكل ما نسخه الإسلام أو أنساه أو جاء بخير منه، وليست الغاية من أكثره إلا ضربًا من السمر ونوعًا من لهو الحديث، وقد تزيد فيه العرب أنفسهم وهم مصدر الرواية وقدوة الرواة1. وهذا هو السبب في أنك لا تكاد تجد للجاهلية تاريخًا صحيحًا، ولا ترى فيما تتصفحه إلا التكاذيب والمبالغات وما يتصل بها؛ لأن مثل هذا العلم قريب أسباب المطعمة لا يكف عنه يأس ولا يدفع دونه عي، ما دام قد تعاطاه أمثال أولئك الرواة من كل بصير بمذاهبه متحقق بمناقبه؛ ومن حذق شيئًا لم يصبر عن الزيادة منه.
فأما الأخباريون الوضاعون فستعرف أمرهم، وأما أهل الشعر فهم يضعون منه لثلاثة أغراض: للشواهد على العلوم -وقد مر الكلام عليها- والشواهد على الأخبار، والاتساع في الرواية.
__________
1 في مثل هذا يقول الرواة: إذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن!
2 ولم يعرف قبل ابن إسحاق أحد وضع الشعر على أمم مختلفة، وإنما كان قبله يزيد بن ربيعة بن مفرغ، وهو في أيام يزيد بن معاوية، وقد وضع أشعارًا نسبها إلى تبع من ملوك حمير وعمل له سيرة، وسنذكر ذلك في الكلام على التزيد في الأخبار.(1/233)
الشواهد على الأخبار:
وقد نشأ هذا النوع من الاستشهاد بالشعر على التفسير والحديث وعلى كل ما قدمت به الرواية في الصدر الأول، حتى قر في أوهام الناس أن ما لا شاهد له من كلام العرب لا ثقة به كائنًا ما كان علمًا أو خبرًا؛ وكانت الأمة لا تزال على إرث الفطرة العربية في اعتبار الشعر وتمجيده والاهتزاز له، ثم كان ذلك عاما في سواد الناس من الخلفاء فمن دونهم، فلما كثر القصاصون وأهل الأخبار اضطروا من أجل ذلك أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام، فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه من الأنبياء وأولادهم وأقوامهم، وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة المتوفى سنة 150هـ، وكان من علماء السير والمغازي2، فكان الناس يعملون له الأشعار فيحمل منها كل غثاء، ويعقد قوافيها على الهواء، وقد كتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارًا كثيرة، حتى صار فضيحة عند علماء السير ورواة الشعر، وكان في عصره جماعة من القصاصين يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون أنهم أخذوها من الصحف ويروونها للأمم البائدة وغيرهم، فكان راوية ذاك العصر أبو عمرو بن العلاء يقول: لو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا كان فيه دليل على علم.(1/233)
شعر الجن وأخبارها:
والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة.
وكان أبو إسحاق المتكلم، من أصحاب الجاحظ، يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغول الغيلان: "أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد عن الإنس، استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين؛ والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى وبالتفكير؛ والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلي بذلك غير حاسب.... وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه "من الحمية" وداووه؛ وقد عرض ذلك لكثير من الهند، وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه وانتفضت أخلاطه، فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرًا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا ونشأ عليه الناشئ وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الخنادس، فعند أول وحشة أو فزعة وعند صياح يوم ومجاوبة صدى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاجًا كذابًا وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة؛ ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها.... ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيا مثلهم، وإلا غبيا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط؛ وأما أن يلقوا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر! ".
والأمر قريب مما قاله أبو إسحاق؛ فإن أخبار الجن لا تعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجل من الرواة الذي يقصون للعامة وأشباه العامة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الراوية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعر إن أنشده، ليدير الكلام على روعة توكد معناه وتجعله ظريفًا(1/234)
غريبًا؛ فكأنه يستعين على بيان غرضه بضرب من التخييل، كما يستعين الكاتب أو الشاعر بمثل من المجاز.
ولقد أفرط رواة الإسلام من أهل الأخبار في مزاعمهم عن الجن، ونسبوا إليها كل غريب وكل عظيم؛ لأنها مظنة كل ذلك في أوهامهم؛ وقفّى على آثارهم جماعة من المتصوفة، حين عينوا أول من أسلم من الجن؛ وهو بزعمهم "هامة بن الهام بن لاقيس بن إبليس" وأول نبي أرسل إلى الجبن فيما قالوا "عامر بن عمير بن الجان" فقتلوه وقتلوا بعده 800 نبي!
والغرائب من هذا النمط كثيرة، وما نراها استفاضت في الإسلام إلا بعدما ذكره جهلة المفسرين وأهل القصص ممن تكلموا في تفسير ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الجن، أو ما جاء من ذلك في الحديث الشريف أو ما يشبه ذلك1، ولا بد لكل كلام عندهم من شعر يستشهد به على ما عرفت، ولا أبلغ في ذلك ولا أدعى إلى الرضى من شعر الجن أنفسهم؛ وقد سبقهم إلى بعضه الأعراب؛ فلم يبق إلا أن ينفوا عنه تلك اللوثة الأعرابية، ويرققوا حواشيه ويلائموا بينه وبين ما هم بسبيله من العلوم القديمة التي ادعى غيرهم من أهل الكتاب أن بعضها إلهي نزل من السماء، وادعوا هم أن سائرها شيطاني خرج من الأرض.
على أن نادرة النوادر من ذلك، في التاريخ العربي كله، إنما هو ما جاء به أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي الشاعر المفلق الذي كان في أواخر القرن الثاني، فإنه نشأ بسجستان، ثم ادعى رضاع الجن وأنه صار إليهم، ووضع كتابًا ذكر فيه أمر الجن وحكمتهم وأنسابهم وأشعارهم، وزعم أنه بايعهم للأمين بن هارون الرشيد بالعهد، فقربه الرشيد وابنه الأمين وزبيدة أم الأمين، وبلغ معهم وأفاد منهم؛ ثم جعل يتنفق عندهم بما يضعه من الشعر الجيد على ألسنة الجن والشياطين والسعالي، وقال له الرشيد: إن كنت رأيت ما ذكرت فقد رأيت عجبًا، وإن كنت ما رأيته فقد وضعت أدبًا!
ولكل ما أومأنا إليه في هذا الفصل أمثلة كثيرة من الشعر والخبر: أضربنا عنها خوف الإطالة بما لا طائل تحته، ولو كان فيها شيء غير إنسي لجئنا به ... أما ما يتعلق بزعمهم في شياطين الشعراء فقد أمسكنا الكلام عند إلى بابه، فإن له ثمة موضعًا.
__________
1 من تفسير مقاتل بن سليمان في غزوة بدر وهي أفضل غزوات رسول الله صلى الله عيه وسلم: "أنه لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه وحضره الشياطين وحضره كفار الجن كلهم ... وتسعون من مؤمني الجن وألف من الملائكة" إلخ فتأمل.(1/235)
الاتساع في الرواية:
وهو سبب من أسباب الوضع، يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره، هوى وتعنتًا؛ ورأس هذا الأمر حماد الراوية الكوفي المتوفى سنة 155هـ، وقد لقب بالراوية لهذا الاتساع. قال المفضل الضبي: سُلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا! فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان ذلك؛ فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم؛ فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد؛ وأين ذلك1؟
وكان حماد أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، فلا جرم أنه كان رأس الوضاعين لما يقتضى لصنعة الجمع الذي يراد به الاتساع والاستئثار من الزيادة في شعر المقل حتى يكثر، ونسبة ما يكون للخامل من الشعراء إلى المشهور حتى يروى شعره، ونحو ذلك.
وكان حماد يضع من الشعر ليقربه إلى بعض الأمراء زلفى، كالذي حدثوا به عن يونس، قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة في مديح أبي موسى فقال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس2! وكان أبو موسى جد بلال! لأن أبا بردة ابنه.
وأخذ في مذهب حماد خلف الأحمر المتوفى سنة 180هـ، وهو أول من أحدث السماع بالبصرة فيما سمعه من حماد كما مر؛ وقد سلك في البصريين مذهب حماد في الكوفيين؛ غير أن أكثر ما وضعه من الشعر إنما خص به أهل الكوفة فرووه عنه؛ وكان خلف أفرس الناس ببيت شعر، وأعلمهم بمذهب الشعراء ومعانيها، وأبصرهم بوجوه الاختلاف بين ما يتميز به شاعر وشاعر؛ فإذا عمد إلى المحاكاة فيما يضعه أشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يصنع عليه؛ حتى لا يتميز منه، وحتى لا يكون من الفرق بينهما إلا فرق التعدد الطبيعي الذي لا يدرك في الجوهر الواحد، كالفرق بين الروح والروح. وكان نفاذه في ذلك سريعًا بمقدار ما أوتي من سرعة البديهة ودقة الحسن البياني، حتى ضربوا به المثل؛ وهو في باب معاني الشعر ومذاهب الشعراء معلم أهل البصرة جميعًا. ولا يصدرون الرأي في شعر دونه، حتى إن مروان بن أبي حفصة لما مدح المهدي بشعره السائر الذي أوله:
طرقتك زائرة فحي خيالها
__________
1 من ذلك أن حمادًا قدم على بلال بن أبي بردة بالبصرة وعنده ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيد وليس له! قال: فمن يقوله: قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له: إن لي إليك حاجة. قال: هي مقضية! فقال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا، قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري! قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.
2 يريد أبا موسى الأشعري، والقصيدة مثبتة في ديوان الحطيئة، وهي أربعة عشر بيتًا، مطلعها:
هل تعرف الدار مذ عامين أو عام ... دار لهند بجزع الخرج فالدام
والبصير بالشعر ومذاهبه إذا قرأ شعر الحطيئة أخرج هذه القصيدة منه؛ لأنها تقليد ومقاربة، وإن كان المدائني قد صحح أنها للحطيئة في أبي موسى، ونفى أن يكون حماد نحلها الحطيئة تقربًا إلى بلال؛ فإن نفس الشاعر أصدق في نسبة كلامه من ألسنة الرواة.(1/236)
أراد أن يعرضه على نقاد البصرة، فدخل المسجد الجامع فتصفح الحلق، فلم ير حلقة أعظم من حلقة يونس النحوي، فجلس إليه فعرفه خبره، ثم استأذنه أن يسمعه، فقال يونس: يابن أخي، إن هنا خلفا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرًا حتى يحضر؛ فإذا حضر فأسمعه.
وقد وضع خلف قصائد عدة على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفرى1 المشهورة بلامية العرب التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
وما أشبه أن تكون القصيدة أو أكثرها كذلك. وقال الأصمعي: سمعت خلقًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وهو من أبيات الشواهد؛ وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا؛ وقال الجاحظ إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسيب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا!
ثم قالوا: إن خلفًا نسك في آخر أيامه فخرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة! فبقيت الأشعار على حالها؛ إذا كان الأمر قد مضى لوجهه، وهكذا لا يملك الإنسان من آخره الكذب ما يملك من أولاه.
وإنما امتاز أهل الكوفة بكثرة الشعر والاتساع في روايته؛ لأن ذلك ميراث فيهم منذ نزلها العرب، حتى إن عليا كرم الله وجهه لما رجع بهم من قتال الخوارج على أن يستعدوا لقتال أهل الشام، ثم تخاذلوا عنه, لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حِلقًا عزين "جماعات"، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار؛ تربت أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل..".
وكان الشعر علم أهل الكوفة حين كانت العربية علم أهل البصرة؛ لأن العربية لم تكثر عند أولئك إلا بآخرة كما سنبينه بعد، وللكوفيين رواية قديمة في الشعر، وكان الخثعمي راويتهم فيه قبل حماد، ومعه أبو البلاد الكوفي، وهما في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم يشتهروا برواية الشعر إلا في أيامهما.
بيد أن حمادًا جعل لامتياز الكوفيين بالشعر أصلًا تاريخيا؛ فزعم أن النعمان بن المنذر أمر فنسخت له أشعار العرب في الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد
__________
1 الشنفرى: شاعر جاهلي من بني الحرث بن ربيعة وهو من لصوص العرب وصاحباه في التلصص: ابن أخته تأبط شرا، وعمرو بن براق؛ وكان الثلاثة أعدى العدائين في العرب، لا تلحقهم الخيل إذا عدوا، وقد وضع خلف على تأبط شرا أيضًا قصيدة مشهورة زعم أنه رثى بها خاله، والله أعلم.(1/237)
الثقفي1 قيل له إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، قال: فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة.
ولما اشتغل هؤلاء الكوفيون بعلم العربية، وكان في طبعهم الشذوذ كما ستعرفه، سهل عليهم قبول الشواذ، ولم يتحرجوا من الصنعة للاستشهاد؛ لأن الصنعة من شذوذ الرواية أيضًا، فزاد ذلك في الشعر عندهم، ومن أشهر رواتهم بعد حماد، خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل، وقد ألف فيها كتابًا، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة 206هـ وقد جاوز المائة بعقد، وعنه أخذت دواوين أشعار القبائل كلها، وقد جمع نيفًا وثمانين قبيلة.
وليس في الرواة جميعًا من يداني حمادًا وخلفًا في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التاريخ كله، وإنما يكون لغيرهما البيت الواحد والأبيات القليلة مما لا تفتضح صنعته، يضعونه لتوجيه الحجة وتزيين الخبر ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء، قال: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله:
وأنكرتني، وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2
وهو من أبيات الشواهد, ومنهم الأصمعي، وأبو عبيدة، واللاحقي، وقطرب، وغيرهم.
وقد يجد الرواة للشاعر الأبيات الحسنة في المعنى الجيد وهي تحتمل الزيادة، فيصنعون عليها ويولدون حتى تبلغ قصيدة، أبيات الطيرة للحارث بن حلزة, وهي أربعة أبيات ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. قال أبو عبيدة: أنشدنيها عمرو، وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولد، وتلك قوله:
يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنيك الحادي ولا الشاحج
ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مربع هائج
بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشه ... "يعيش منه"3 همج هامج4
__________
1 وثب المختار بالكوفة سنة 66هـ في سلطان ابن الزبير وأخرج منها عامله، فوجه إليه ابن الزبير أخاه مصعبًا فقتله سنة 67هـ، وكان يزعم أن جبرائيل عليه السلام يأتيه؛ وهو من رءوس الفتن التي نجمت في الإسلام، والكوفة قد بنيت بظاهر الحيرة، وكان مقرا للنعمان بن المنذر.
2 هذه رواية أبي الطيب اللغوي، ينسب فيها وضع البيت لأبي عمرو، ولكن صاحب "العقد الفريد" نقل أن حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
إلخ.
ورواية أبي الطيب أوثق وأصح.
3 قلت: هذه رواية المؤلف، والذي في اللسان: "يعيث فيه".
4 الحادي مقلوب الحائد، وهو في الطيرة ما استقبلك من تجاهك من الطير والوحش، والسانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره، والعقيد الذي يأتيك من خلفك، والشاحج الغراب المسن الذي غلظ صوته، وهو من شر ما يتطيرون به، كالثور الأعضب وهو المكسور القرن، وترقيح المال: إصلاحه والقيام عليه حتى ينمو.(1/238)
وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثًا، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مشهورة، أولها:
خليلي ما أذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل
قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطُوّلت بحيث لا يُدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا، قلنا: وإنما طولت هذه القصيدة معارضة للطوال المعروفة "بالمعلقات" حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قاله عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن في أصلها أبياتًا هاشمية تفي بكثير من الطوال.
ولما كان علم العرب كله في البصرة والكوفة بعد أن نشأت الرواية لم يكن الناس يأبهون لما يظهر في غيرهما؛ فكانت تسقط أخبار الوضاعين في الأمصار لذلك، إلا قليلًا يأتي عن بعض علماء البلدين، كالذي ذكره الأصمعي، قال: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة، إلا مصحفة أو مصنوعة؛ وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخبت روايته؛ وهو عيسى بن يزيد، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر.
ولما فشا أمر الصنعة في الشعر، جعل المتأخرين يضعون القصيد والرجز وينسبونه لمن اشتهروا بالوضع من المتقدمين، كخلف؛ أو بالاتساع في الرواية، كالأصمعي؛ لأن من أجاز على الناس أجاز الناس عليه.
وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
وأخذ القصاص أيضًا في هذه الناحية، فصنعوا الأخبار الكثيرة وأسندوها إلى علماء الأنساب والأخباريين، ليعطوها بذلك معنى التاريخ الذي تثبته الرواية.
__________
1 لم تتناول الرواية من المنثور غير الخطب؛ لأن الرسائل لم تكن في الجاهلية، ولا كان ما يصنعه الإسلاميون منها مما له متعلق في غرض من أغراض الرواية إلا عند الأخباريين "المؤرخين"، ولهذا لم يكن الوضع في المنثور إلا على الخطباء خاصة؛ وأكثر ما يكون الوضع من ذلك في الكلام المغمور أهله الذي يدور على الألسنة وإن كان سريا شريفًا؛ لأن جميع القائلين لم يرزقوا الحظ في ذلك على السواء، وقد قال الجاحظ: ما علمت أنه كان في الخطباء أحد أجود خطبًا من خالد بن صفوان وشبيب بن شبة الذي يحفظ الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما. وما علمنا أن أحدًا ولد لهما حرفًا واحدًا، ا. هـ.(1/239)
ضرب من الوضع:
وضرب آخر من الوضع سنه الأدباء فيما يتكلفون له من الشعر والرسائل والخطب1، إذ عرضوا ذلك يطلبون فيه رأي النقادين وأهل البصر بالكلام، وأن يعرفوا موقع ما يأتون به من الاستحسان، ومبلغ تجرد الهوى في الحكم عليه. قال الجاحظ يزين هذه الطريقة: "فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة أو حبرت خطبة أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، وعجبك بثمرة عقلك، إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه فيخرج عندهم مخرج المتروك وينتفي منه قائله ولا ينفيه، فعسى أن يكون فيمن سمعه من يحفظه مدخولًا، أو يرويه منحولًا، ويجريه مع سائر القصيدة أو الخطبة أو الرسالة -إن كان في شيء من ذلك- على أنه بعضه، أو يحفظ نسبته إن كان في كلام متفرق، ويكون ذلك سبب وضعه، ثم يمر في الأفواه فتصقله، ويلقيه الزمن بعد ذلك لمن ينقله؛ ولا شك عندنا أن مثل هذا في تاريخ الوضع قول ومذهب.(1/240)
التعليق على الكتب:
وههنا نوع من الرواية الموضوعة كان يذهب إليه بعض المتأخرين؛ وذلك أن الواحد منهم ربما ألحق الأبيات للشاعر المتأخر ببعض العرب ويعلق ذلك على كتاب عنده، أو ينحل الشاعر أبياتًا لغيره ثم يدسها في ديوان شعره، على أن يكون هذا مما يكاد به لذلك الشاعر، حسدًا له، ونفاسة عليه، أو عبثًا يلهو به من يفعل ذلك، أو لسبب مما يجري هذا المجرى، وقد اختلف العلماء في أشباه من هذا الجنس، قال المعري في كتاب "عبث الوليد" وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتابًا قديمًا قد كتب على ظهره: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ثعلب:
من الجآذر في زي الرعابيب1
وذكر خمسة أبيات من أول هذه القصيدة، وهذا كذب قبيح وافتراء بين، وإنما فعله مفرط الحسد، قليل الخبرة بمظان الصواب، غرضه أن يلبس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة "البحتري" التي في صفة الذئب لبعض العرب، ويجب أن يكون ذلك كذبًا مثل ما تقدم. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من بني البرك راشد بن وبرة، ولا ريب أن ذلك باطل, والشواهد من هذا النوع غير قليلة.
__________
1 مطلع قصيدة للمتنبي في كافور.(1/240)
الشوارد:
ومن الشعر نتف قليلة تقع في البيتين والثلاثة، ويسميها الرواة بالشوارد؛ لأنهم لا يعرفون نسبتها، بل يروونها على أنها مرسلة لا أرباب لها، وهي نادرة في الشعر؛ لأنهم لا يحفلون بما جهلوا نسبته كما مر في موضعه، بيد أنه متى كانت الأبيات لا شاهد فيها وكانت جيدة حسنة السبك رصينة المعنى طلية العبارة، عدوها من الشوارد لتجوز من هذا الباب إلى الرواية؛ فمن ذلك ما رواه أبو عبيدة، قال: من الشوارد التي لا أرباب لها قول بعضهم:
إن يغدروا أو يفجروا ... أو يبخلوا لم يحفلوا
يغدوا عليك مرجلـ ... ـين كأنهم لم يفعلوا
كأبي براقش كل يو ... م لونه يتبد(1/240)
اختلاف الروايات في الشعر:
وقد كان العرب ينشد بعضهم شعر بعض، ويجري كل منهم في النطق على طبعه ومقتضى فطرته اللغوية، فمن ثم يقع الاختلاف الصرفي واللغوي الذي نراه في بعض الروايات، وقد يغير العربي فيما يتمثله من الشعر كله بأخرى يراها أليق بموضعها وأثبت في معناها، أو تكون الكلمة قد أصابت هوى في نفسه؛ لأنهم إنما يتمثلون الشعر لغير الغرض اللغوي الذي قامت به الرواية، وذلك كقول أبي ذؤيب الهذلي.
دعاني إليها القلب إني لأمره ... مطيع فما أدري أرشد طلابها
وهي رواية أبي عمرو بن العلاء، ولكن الأصمعي رواه على نقيض هذا المعنى فقال:
"عصاني إليها القلب...."
البيت. وظاهر أن هذا التناقض في الرواية لا يكون من الشاعر، إنما هو تفاوت في الاستحسان لا غير.
وكان الرواة ينقلون الشعر على ما يكون فيه من مثل هذا الاختلاف ولا يبالون أمره؛ لأنهم يريدون لغة الشعر، والشعر متى جاء عن أعرابي كان حجة؛ لأن لسان العربي لا يطوع بغير الصواب، ولهذا تختلف الروايات في بعض الأبيات وهي في الأصل غير مختلفة.
ومن أسباب الاختلاف، أن الشعراء في الصدر الأول كانوا يعتمدوا على الحفظ، ولكنهم لا يثبتون من شعرهم كل لفظ بعينه، بل ربما أنشد الرجل منهم أبياتًا فتروى عنه، ثم تأتي الأيام فينسى بعض ألفاظها؛ فلا يكون إلا أن يضع غيرها ثم ينشد الأبيات على وجه آخر؛ فتروى أيضًا؛ ومن ثم تجتمع الروايتان في شعره أو الروايات المختلفة؛ ولهذا قال ذو الرمة لعيسى بن عمر الثقفي: اكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام!
ومن الرواة من كان يغير في ألفاظ بعض الأبيات لتوجيه حجته وإنهاض دليله فيروى عنه البيت على وجهه المغير؛ وذلك فاش بينهم، وخاصة في رواة الكوفيين، ومنهم من كان يغير في الدواوين المكتوبة ليعذر بها عند الخلاف ويقيم منها الحجة على الرواية الصحيحة؛ فيكون ذلك سببًا في الاختلاف.
ولا تنس ما ينشأ عن التصحيف في الكلمات المتشابهة؛ فإنه من بعض أسباب الاختلاف أيضًا، وشواهده كثيرة في كتاب "التصحيف" للعسكري.
وهذا وذاك غير ما يكون من تزيد بعض الرواة في الشعر حتى يخرج إلى الوضع والصنعة كما مر في محله، ثم يجيء غيره فينقص أو يزيد ويقدم أو يؤخر، ويعقبهما ثالث فيصيب أبياتًا حسنة على روي تلك القصيدة فيدسها فيها ويرويها على أنها منها، ثم يأتي رابع فيرى اختلاف النسبتين في القصيدة(1/241)
الواحدة فيسقطهما جميعًا وينحلها شاعرًا آخر، وهكذا؛ ومما استجمع كل ذلك الاختلاف هذه القصيدة التي أولها:
تقول ابنة العبسي قد شبت بعدنا ... وكل امرئ بعد الشباب يشيب
ومنها شاهد النحاة المشهور:
"لعل أبي المغوار منك قريب"*
وهي مرثية رواها القالي في أماليه، وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب الغنوي ... إلى أن قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسهم الغنوي، وبعضهم يروي شيئًا منها لسهم، وزاد أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين. قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره، ثم قال: والمرثي بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار، واسمه هرم، وبعضهم يقول اسمه شبيب، ويحتج ببيت روي في هذه القصيدة:
"وأقام وخلى الظاعنين شبيب"
، وهذا البيت مصنوع والأول "كأنه أصح".
هذا، وقد بقي الكلام في انتحال الشعر ورواة الشعراء وشياطينهم وعمل أشعارهم وتدوينها وما إلى ذلك، وكلها مما يمكن أن يتصل نسبه بما نحن فيه من أمر الرواية، ولكنه بباب الشعر أقرب مشاكلة وأدنى اتصالًا، فأنزلناه ثمة في مراتبه، وألحقناه بتلك المطالب لفائدة طالبه.
__________
* قلت: يستشهدون به على استعمال "لعل" حرف جر، وقد سها المؤلف عن إثبات ذلك في لغات العرب.(1/242)
التزيد في الأخبار:
وهذا أوسع أبواب الوضع في الرواية؛ لأنك إذا اعتبرت اللغة والشعر وجدتهما في حكم العلوم الثابتة المدونة، بما حاطهما الرواة من التثبت والتفتيش كما مر؛ ولأن اللغة كانت لسانًا فطريا في قوم معروفين لقيهم أهل الرواية وشافهوهم بها، وكان الشعر إنما يطلب أكثره للفظه ولم يأخذوه عن المحدثين، فهو في حكم اللغة من هذه الجهة، وأما الأخبار التي تأتي عن العرب وغيرهم فإنما يريدون ببعضها التاريخ، وبأكثرها السمر والمنادمة والاستعانة على حشو علوم أخرى، كالنسب والتفسير والحديث وما إليها.
ولم يعن العلماء بالتثبت في شيء من الخبر إلا ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما يدخل في السنن، فقد محصوا كل ذلك وميزوا جيده، ونفوا رديئه وخلصوا إلى الحقيقة فيه بكل حجة، أما ما عداه فكان أمره بحسب القائمين عليه: منهم من تثبت واستبصر ورأى أنه يبرأ من العهدة ويتحرج من التبعة بإسناد كل خبر وبيان طريقه في الرواية، وهم مشاهير الرواة.
ومنهم من لم يبال معروف ذلك من مجهوله، وصحيحه من مدخوله. فكان يكذب ويصدقه الناس، ويأتي بالأخبار المتنافية المتناكرة، ويضع التهاويل والأباطيل والأضاليل، والناس مقبلون عليه، منصرفون بوجوه الرغبة إليه، وهؤلاء هم أكثر القصاص.
ومنهم قوم جعلوا الأخبار علمهم فتميزوا بها ودونوا فيها الكتب الكثيرة المفننة، فهم يكذبون مبالغة في الإغراق، ورغبة في الاجتلاب والحشد؛ لأن ذلك لا يطرد لهم إلا بالتزيد؛ وهؤلاء هم الذين كتبوا في تاريخ العرب وأخبارهم وأسمارهم ومناقبهم ومثالبهم وأيامهم في الجاهلية ونحو ذلك، وقد سموهم "الأخباريين"؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون من معنى "التاريخ والمؤرخ" إلا التوقيت -وسيأتي الكلام عن الأخباريين في فصل الرواة- ولم يتسعوا في ذلك الاتساع كله إلا في أطراف القرن الثاني، حين استفحل أمر الشعوبية فوضع القوم على العرب شيئًا كثيرًا من المناقب والأخبار، رد أكثره عليهم أهل الرواية من المحققين وكذبوهم فيه وأغفلوا روايته عنهم، ومن هذا الموضوع خبر المعلقات المشهورة كما سيمر بك في بابه.
والرواة إنما قلدوا العرب في صنعة الأخبار والتزيد فيها، كما قلدوهم في وضع الشعر؛ لأن العرب كانوا يكذبون بعضهم على بعض في المثالب، ويتزيدون في المناقب، وكانوا يتناقلون أخبارًا من تاريخ الأوائل والبائدة عمن خالطوهم من الأمم، على ما في أكثرها من الوهن والكذب، وهي لا تدور فيهم حتى يكون قد داخلها الكثير من مثل ذلك، وشبه الشيء منجذب إليه.
ولبعضهم نوع من التاريخ الوضعي يسميه الرواة "تكاذيب الأعراب" "وأضاحيك الأعراب" وهو هو الخرافات أو "الميثولوجيا" وللكلام عليه موضع.
ومن وراء ذلك أمر الهجائين والفحاشين ومن اشرأبوا للفتنة، ومردوا على النفاق وألفافهم،(1/243)
ومادة هذا الأمر مجبولة بالكذب. فلما جاء الأخباريون بعد الإسلام أخذوا تلك الأخبار وجعلوها علمهم، وولدوا منها واحتذوا مثالها؛ لأن كل ما هو بسبيل التاريخ مما خرج عن أمر الدين، فهو عندهم في سبيل الحكاية والتلفيق وما يبتغى من القصص، ولولا اعتبارهم هذا لما بقيت الآداب العربية خالية إلى اليوم من كتاب واحد يوثق به في تأريخ العرب أو تأريخ آدابهم، وقد أشرنا إلى هذا المعنى غير مرة.
وروى الجاحظ أن بعضهم قال لأحد الرواة: إنك تكذب في الحديث! فقال: وما عليك، إذا كان الذي أزيد فيه أحسن منه؟ فوالله ما ينفعك صدقه ولا يضرك كذبه!
بخ بخ! وما يدور الأمر إلا على لفظ جيد ومعنى حسن!
هذه هي طريقتهم بعينها قبل أن تنضج العلوم وتنضب الرواية، كمخض الماء: لا يؤتي غير الماء، وقد ورثوها عن العرب أنفسهم؛ لأن العرب أمة في حكم الفرد، والفرد منها في حكم الأمة، إذ كان كل واحد منهم إنما ينهض بعبئه ولا يحمل إلا رأسه يطرحه كيف أراد، وتلك طبيعة أرضهم لا يجمعهم ولا يفرقهم إلا منفعة الفرد ومضرته, ومعلوم أن تاريخ العرب لا ينفع صدقه أحدًا ولا يضر كذبه أحدًا، إذا جعلنا مصداق النفع والضرر ما يتبينه المرء في خاصة نفسه مما يحس منه أثر النفع أو الضرر، وهل الأمر إذا رجعنا إلى هذه القاعدة إلا كما يقول الله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] .
هذا، وإن أكثر ما وضع من الأخبار لغير التصنيف إنما كان يراد به الملوك ومن في حكمهم، أو العامة ومن في وزنهم، فأما الملوك فإن الرواة كانوا يعرفون أنهم لا يستقصون، فيصنعون لهم الأخبار يُزلفونها إلى هوى أنفسهم ويديرون الكلام فيها على أغراضهم، ويأخذون في تلك الفنون، استعانة على السمر، وتكثيرًا للأحاديث. وكل من عرف من الرواة بأنه صاحب سَمَر كان ذلك غميزة في علمه، ومذهبًا للكلام فيه، كشرقي بن القطامي مؤدب المهدي فإنهم جعلوا السمر علته، وكان يجري في مذهب ابن دأب الشاعر الأخباري الذي كان بالمدينة، كما جرى خلف الأحمر في مذهب حماد.
وأول من عرف من ملوك الإسلام بالرغبة في السمر والتعلق بأهل الأخبار -وإن كان ذلك لمعنى سياسي- معاوية بن أبي سفيان، فقد كان داهيًا نقابًا في أموره1, يستبين من رأيه في كل مشكل طريقًا نهجه، ويفرق له في كل معضل عن سبب إلى النفاذ صحيح، فكان يتطلب الأخبار يستعين بها على استيضاح الشبهات، ويرجع منها إلى القدوة في المعضلات، فيقال إنه كان إذا انفتل من صلاة الفجر جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يضطرب في أموره سائر نهاره، حتى إذا صلى العشاء الآخرة جلس لمؤامرة حاشيته فيما أرادوا، صدرًا من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وما إلى ذلك، وقد أسلفنا
__________
1 عرف معاوية بالدهاء منذ عرف، حتى روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!(1/244)
أنه استقدم عبيد بن شَرْية الجرهمي النسابة الأخباري من اليمن خصيصًا لبعض أغراضه تلك.
وأما العامة فكلما كان الراوية أو المحدث أو القاص أموق كان عندهم أنفق، وإذا كان مستهترًا بالغرائب كان عندهم أوثق، وإذا ساء خلقه وكثر غضبه واشتد حدة وعسرة في الحديث وشغب ولوى شدقه لمن يراجعه، تهافتوا عليه، وهذا أمرهم بعد التابعين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيجيء.
وقد كان الأعمش المحدث "توفي سنة 148هـ" يقلب الفرو ويلبسه حتى يكون صوفه إلى خارج، ويطرح على عاتقه منديل الخوان مكان الرداء؛ وسأله رجل مرة عن إسناد حديث. فأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده ... والأعمش هو القائل فيمن كانوا يسمعون منه: والله لا يأتون أحدًا إلا حملوه على الكذب!(1/245)
القصاص:
وهم الذين يقصون على الناس، ويكون من علمهم التفسير والأثر والخبر عن الأمم البائدة غيرهم؛ ينقلون ذلك تعليمًا وموعظة؛ وكانوا في القرن الأول يقدمونهم في بعض حروب بني أمية ليقصوا على المقاتلة أخبار الشهداء وفضائلهم وما وعدوا به في الجنة مما لا عين رأيت ولا أذن سمعت، وليحمسوهم بذلك قبل مباشرة القتال، حتى لا تحجزهم رهبة ولا يملكهم فزع ولا ترد وجوههم آمال الحياة؛ وهو وجه من الحيطة في السياسة وحسن النظر في التدبير؛ وكان ذلك دأب الحجاج الثقفي أمير العراقيين لبني أمية، في حروبه ووقائعه؛ لأن أكثر من قاتلهم كانوا من المستميتين ديانة أو حمية، كالخوارج والناقمين عليه وعلى بني أمية من العرب، وأخبارهم مشهورة.
أما قبل هذه الدولة فكانت الموعظة في الحروب والتذكير بما يصدق الله من وعده للمجاهدين في إعلاء كلمته شأنًا من شئون القواد يخطبون بذلك على الناس ولا يتجاوزون به آيات من القرآن، وجملًا من الحديث وكلمات لهم بين ذلك.
ولم يكن القصص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لاجتماع كلمة المسلمين، ولقرب العهد من الرسالة؛ وإنما أحدثت القصص في زمن معاوية، حين كانت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مقصورة على الموعظة الحسنة والتذكير وما إلى ذلك؛ وأول من قص من الصحابة، الأسود بن سريع، وكان يقول في قصصه إذا ذكر الموت وخاطب الميت.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... إلا فإني لا إخالك ناجيا
ثم كان أول من قص من التابعين بمكة، عبيد بن عمير الليثي؛ وقد جلس إليه عبد الله بن عمر وسمع منه، فكان ذلك داعية إلى إقبال الناس ورغبتهم في استماع القصص لمكان ابن عمر من الدين والورع؛ وقد أقرته كذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولم تنكر عليه، فحدث عطاء قال: دخلت أنا وعبيد عليها، فقالت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير؛ فقالت رضي الله عنها: قاص أهل مكة؟ قال: نعم! قالت: خفف، فإن الذكر ثقيل.
وقد مر بك آنفًا أن معاوية اتخذ قاصا كان يجلس إليه متى انفتل من صلاة الفجر؛ فلا غرو أن يتابعه أهل الشام على ذلك ويكثر القصص فيهم؛ ولعل هذا من دهاء معاوية في السياسة.
ثم صار القصص مما يلقى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة واتخذت له حلقة كحلق الدروس؛ وأول من لزم ذلك فيه، مسلم بن جندب الهذلي، وهو إمام أهل المدينة وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: من سره أن يسمع القرآن غضا فليسمع قراءة مسلم بن جندب! ثم كان أول من اتخذ تلك الحلقة في مسجد البصرة، جعفر بن الحسن.
ولم يكن القصص في القرن الأول مرذولًا، ولا كانوا يرون به بأسًا؛ لأن فنونه إنما ترجع إلى القرآن والحديث، ولم يكن يشوبه شيء إلا ما كانوا يسمونه "بالعلم الأول" وهو ما يتعلق بأخبار.(1/246)
الأمم السالفة، وأكثره يأخذونه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعمن أسلم منهم، وبعض هؤلاء كان غزير العلم واسع الحيلة في قصص الأولين، كعبد الله بن سلام أسلم عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكعب الأحبار الذي أسلم في خلافة عمر وتوفي سنة 32هـ؛ وعن هذين الرجلين -ووهب بن منبه المتوفى سنة 114هـ- أخذوا سواد قصصهم مما يتعلق بأخبار الأمم وأحوال الأنبياء والنذر الأولى وما يجري مع ذلك؛ وكان وهب من الأبناء "أبناء الفرس" لأن جده جاء إلى اليمن فيمن بعثهم كسرى حين استنجدوه على الحبشة، وقد أخذ آباؤه عن اليمن أخبار اليهود، وأخذوا عن الحبشة أخبار النصارى، ثم كان وهب يعرف اليونانية أيضًا، فاتسع بذلك علمه، حتى قالوا في بعض ما نقلوه عنه: إنه قرأ من كتب الله اثنين وسبعين كتابًا، وهو أول من صنف قصص الأنبياء في الإسلام.
وممن أخذوا عنهم أيضًا، طاوس بن كيسان التابعي، وهو من الأبناء، وتوفي سنة 106هـ ثم ورث الرواية عنه ابنه عبد الله بن طاوس.
ولما كان القرن الثاني وانتهى عصر كبار القصاص من التابعين، ورأسهم الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ1 -وكان رضي الله عنه مفننًا ثقة في كل ما يتعاطاه من العلوم- نشأت بعده الطبقة التي أخذت عنها العامة وقد اضطربت الفتن وكثر الكلام وفشت الأكاذيب في الحديث وفي أخبار العرب وفي الشعر، فصار هم القاص أن يجيء بالغرائب، ويكثر من الرقائق؛ لأن أهل العلم انصرفوا إلى حلقات الرواية، ولم يبق في حلقات القصاص إلا العامة وأشباههم؛ وقد علمت مذهبهم والشأن فيما ينفق عندهم؛ فمن ثم ساءت المقالة فيهم، وصار القاص عند أهل العلم أحمق ممخرقًا لا يعرفونه بغير ذلك، إلا قليلًا ممن استوعبوا وتبينوا وجروا في مذهب الرواة "وهو نقل الكذب الذي لا بأس به وإسناده إلى أهله". وامتازوا مع ذلك بالفصاحة والبيان. ويبدأ تاريخ هؤلاء بعد الحسن البصري؛ بموسى بن سيار الأسواري، قال الجاحظ: وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار؛ ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرأ في محراب من موسى بن سيار، ثم عثمان بن سعيد بن أسعد، ثم يونس النحوي، مث المعلى.
__________
1 كانت أم الحسن تقص للنساء أيضًا، ولعلها أول امرأة فعلت ذلك في الإسلام، ودخل عليها يومًا وفي يدها كراثة تأكلها؛ فقال لها: يا أماه، ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك! فقالت: يا بني، إنك شيخ قد كبرت وخرفت! قال: يا أماه أينا أكبر ... ؟
وكان الحسن أفصح الناس وأعلمهم وأزهدهم، ولما مات بالبصرة، تبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به بعد صلاة الجمعة فلم تقم صلاة العصر بالجامع. قال حميد: ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر!(1/247)
قال: ثم قص في مسجده "بالبصرة" أبو علي الأسواري ابن فائد، ستا وثلاثين سنة، وابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة، فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما يفسر آية واحدة في عدة أسابيع، كأن تكون الآية قد ذكر فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكان يقص في فنون كثيرة من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك. وكان يونس بن حبيب يسمع منه كلام العرب ويحتج به. وخصاله المحمودة كثيرة.
ثم قص من بعده القاسم بن يحيى، وهو أبو العباس الضرير، ولم يدرك في القصاص مثله. وكان يقص معهما وبعدهما ملك بن عبد الحميد المكفوف، فأما صالح المري فإنه كان يكنى أبا بشر، وكان صحيح الكلام رقيق المجلس، قال الجاحظ: فذكر أصحابنا أن سفيان بن حبيب لما دخل البصرة وتوارى عند مرحوم العطار "من أصحاب الحديث، كان في أواخر القرن الثاني" قال له مرحوم: هل لك أن تأتي قاصا عندنا فتتفرج بالخروج والنظر إلى الناس والاستماع منه؟ فأتاه على تكره؛ لأنه ظنه كبعض من يبلغه شأنه، فلما أتاه وسمع منطقه وسمع تلاوته للقرآن، وسمعه يقول: حدثنا سعيد عن قتادة، وحدث قتادة عن الحسين رأى بيانًا لم يحتبسه، ومذهبًا لم يكن يدانيه، فأقبل سفيان على مرحوم، فقال: ليس هذا قاصا، هذا نذير!
ولما نضجت العلوم في القرن الثالث، ذهب القصاص وخلفهم الوعاظ من المتصوفة والزهاد، إذا كان اسم القاص قد أصبح لقبًا عاميا مبتذلًا، وأكثر المتصدرين في الوعظ إنما يكونون من أهل الحديث المتسعين في العلوم، ولا حاجة إلى الكلام عنهم، ولم يزد المتصوفة في الأخبار إلا ما يزعمون أنهم احتووه بعلم خاص، والله أعلم بغيبه.(1/248)
الرواة:
فرغنا من القول في الرواية ونشأتها وتأريخها والوجوه التي تقلبت عليها، وبقي الكلام على الرواة وعلومهم ما تحققوا به من المذاهب وما تميزت به طوائفهم عند أهل المقابلة والتنظير، ثم ما يداخل ذلك من معان حين تعرض، وأعراض حين تتوافى لتورد بها الفائدة مورودها ويصدر الأدب مصدره، وهو منزع لا ننكر أن المتطاول إليه هو المقصر عنه، وأن المبتدئ فيه فهو المنتهي منه؛ وذلك لأن رواتنا وإن قدح بعضهم في بعض جرحًا وتعديلًا، وتوسعوا في مذاهب النقد تعريضًا وتطويلًا؛ إلا أنهم لم يدونوا شيئًا لمن بعدهم كما دون أهل الحديث، بل اكتفوا بأن هذا الأمر كان منهم على المشاهد والعيان؛ أو قريبًا منهما بالسند والسماع، فألقوا لنا بذلك الشغل الطويل، والعناء الوبيل؛ ولو أنهم دونوا الطبقات وميزوها وفصلوا مراتبها وساقوا أخبار الرجال، على نحو ما فعل نقاد الحديث، وهم كما قالوا: "عيار هذا الشان، وأساس هذا البينان" لقد كانوا أحسنوا لأهل التاريخ الإحسان كله.
ولشذ ما كانوا يتحوبون "عفا الله عنهم" فيما يهجن به بعضهم بعضًا مما يسبق من الظنة إلى أحدهم ويتوجه من الشبهة عليه، فلا يحبون أن يثبتوا من ذلك شيئًا؛ لأنه جهاد لا يراد به وجه الله كما هو الشأن في الحديث؛ فكان الأمر بينهم مقصورًا على المناقضات والمنافسات، بيد أن كل طبقة منهم كانت تحكي عن سابقتها أشياء مما تناقلته، حتى انتهى جماع ذلك إلى مدوني كتب الطبقات، وإلى المتناظرين في تصنيف الكتب التي وضعوها للكلام في علماء المصرين، وإلى المصنفين في اللغة من متأخري الرواة الذين تعقبوا السابقين وتتبعوا ما نقل عنهم، كالأزهري صاحب "التهذيب" وغيره، فرأى كل أولئك أن القليل الذي تأدى لا يعطى من حكم النقد المباح ما كان له في زمنه، فيعتبر من الكلام المعفو عنه الذي بعثت عليه المعاصرة كما أجراه أهله، فلا يبقى له شأن متى وضح الحق وظهر وجه الصواب وتمهدت به العلوم بل رأوا فيه مادة لما كانوا بسبيله، ورأوا أن التاريخ قد أحال تلك المناقضات بعد أن طوى أشخاصها ونفض عنها رَهَج الحفيظة ووهج الأنفاس، فحرصوا عليها ودونوها، ولولا ذلك لعفا هذا الموضع من التاريخ.
أول من صنف في طبقات القوم، أبو العباس المبرد المتوفى سنة 285هـ فإنه وضع كتابًا في علماء البصريين، وكان بصريا، ثم صنف أبو الطيب اللغوي المتوفى سنة 338هـ "وقيل بعد الخمسين" كتابه "مراتب النحويين"، جمع فيه البصريين والكوفيين، ثم اطرد التصنيف بعد ذلك، فوضع السيرافي المتوفى سنة 368هـ كتابه في "طبقات النحاة" البصريين، وصنف أبو بكر الزبيدي الأندلس المتوفى سنة 379هـ "طبقات النحاة" وميز فيه البصريين من الكوفيين، ثم ظهرت بعد ذلك كتب كثيرة لا حاجة إلى الكلام عنها؛ لأننا إنما نريد أن نعين تأريخ التدوين فيما تناول أحوال الرواة ومناقضاتهم، ولم يكتب من ذلك شيء قبل القرن الثالث، ولا نعلم أنه كتب منه شيء قبل الذي أورده(1/249)
الجاحظ في تضاعيف كتبه، وهو قد توفي سنة 255هـ، وليس غيره أولى بأن يكون أول من اقتحم هذا الباب من الكتابة، وإن كان ما أورده قليلًا لا حفل به ولا قدر له في جانب ما تناولناه من كتب الطبقات على اختلافها وكتب أخرى، "كالتهذيب" للأزهري، و"التصحيف" للعسكري، و"الخصائص" لابن جني، وقد كسر فيه بابًا على ما يكون من قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضًا.
ولقد انتقد كثير من جلة العلماء -وخاصة علماء الأصول- إهمال الرواة والقائمين باللغة والنحو أن يبحثوا عن أحوال هذه العلوم ويفحصوا عن جرح رواتها وتعديلهم، واعتذر بعضهم من ذلك بأنهم أهملوه ولم يجاروا فيه رواة الأثر؛ لأن الدواعي كانت متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفة التي تحمل الواضعين على الوضع. قال: وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليه في غاية الضعف. ولذلك اكتفى العلماء فيه بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة، فإن شهرتها وتداولها يمنع من ذلك مع ضعف الداعية إليه. وقد رد السيوطي على أصحاب هذه الأقوال بما زعمه "الجواب الحق" ولم يزد على أن احتج بما جاء في كتب الطبقات!
البصرة والكوفة:
وقبل أن نمضي فيما أخذنا فيه، نسوق هذه الكلمات الموجزة في تاريخ هذين المصرين العظيمين اللذين خرج منهما علم العرب، واللذين يرجع إليهما سند العربية في سائر الأمصار.
أما البصرة فقد اتخذها المسلمون مصرًا كانوا يغزون من قبل البحرين ليشتوا فيه ثم ليلوذوا به إذا رجعوا من غزوهم، وأول من مصرها عتبة بن غزوان بن ياسر، وذلك في سنة أربع عشرة للهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أقرب إلى البوادي الصريحة من الكوفة، تكاد تقابل في وضعها سرة البادية التي ضربت فيها القبائل العربية الفصيحة، ولذا فصح أعرابها وتميز أهلها بالصحيح، وكانت مثابة الجفاة الخلص من أعراب البادية؛ وقد كان فيها المربد، وهو عكاظ الإسلام، يقوم فيه الخطباء ويتنافر الأشراف ويتناقض الشعراء؛ ومن ثم ضربوا المثل بأدب البصريين، وجعلوا هذا الأدب فيهم بمنزلة ما اختصت به الأمم طبيعة من الميراث التاريخي, كحكمة اليونانيين، وصناعة أهل الصين، وما إليهما.
وأما الكوفة فكان تمصيرها بعد البصرة بستة أشهر، على قول، وبعام أو عامين على قول آخر1؛ واتخذها المسلمون مصرًا حين كانوا يغزون من قبل فارس، وأكثر أهلها من عرب اليمن، وكان يطرأ عليها ضعاف الأعراب مما فوق البادية الصريحة؛ ولذا لانت جوانب ألسنتهم وضعفت فصاحتهم وكان الميل إلى الشاذ متأصلًا فيهم طبيعة؛ فأسرع الفساد في ألسنتهم قبل أن يفشو مثل ذلك في البصريين؛ وأعظم ما اشتهرت به الكوفة، ميل أهلها إلى الطاعة ديانة، دون البصرة التي اشتهر
__________
1 وبثلاثة أعوام في قول ابن قتيبة؛ وهذا الاختلاف يشبه أن يكون منهم إغفالًا لتاريخ الكوفة وغضا من شأنها، إن لم يكن مثلًا من سوء العناية بكل ما هو من التاريخ "الذي لا دين له".(1/250)
أهلها في التاريخ بالنزوع إلى الشقاق والعصيان وبالعصبية العربية؛ ولذا كانت الكوفة مثلًا مضروبا في فقه أهلها، كما ضربوا البصرة مثلًا في الأدب، وكما ضربوا المثل بالمدينة في القراءة، وبمكة في المناسك1؛ وبظاهر الكوفة كانت منازل النعمان بن المنذر، والحيرة والخورنق، والسدير، وما هناك من القصور والمتنزهات، وكل ذلك غير طبيعي في تاريخ الفصاحة العربية.
ولما مصرت بغداد وجعلها المنصور ثاني الخلفاء العباسيين مدينة -وكان قد اختطها قبله أخوه أبو العباس السفاح وشرع في عمارتها سنة 145هـ ونزلها سنة 149هـ، وكانت قرب الكوفة- وهي ما هي، حاضرة الدنيا ومدينة الإسلام ومظهر أبهة الخلافة وجلال الملك, كان علماء الكوفة أسرع الناس إليها، فأكرم العباسيون لقاءهم، وبسطوا لهم بالعطاء، غير أن ذلك لم يزدهم إلا ضعفًا وشذوذًا، حتى عيرهم البصريون بأنهم يأخذون عن باعة الكواميخ كما تقدم في موضعه.
أما بغداد نفسها فلم يعتد البصريون بأحد من علمائها، ولا يرونها مدينة علم، وإنما هي عندهم مدينة ملك، وما فيها من العلم فمنقول إليها ومجلوب للخلفاء وأتباعهم؛ قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن ادعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة2.
__________
1 لم يعرف بمكة ولا بالمدينة أحد من أئمة العربية أو من يتصدر للرواية، وكل ما قاله أبو الطيب اللغوي في علمائها: أنه كان بالمدينة على الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا، وأما مكة فكان بها رجل من الموالي يقال له ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو ووضع كتابا لا يساوي شيئًا؛ ولم يجد الأصمعي بالمدينة من الرواة إلا ابن دأب الذي ذكرناه في الوضاعين.
2 توفي أبو حاتم سنة 255هـ، وقال الأصمعي، وقد توفي نسة 215هـ: خرجت إلى بغداد وما فيها أحد يحسن شيئًا من العلم، لقد جاءني قوم يسألونني عن الجعطري فأخبرتهم أنه المكتل، قالوا: وما المكتل؟ قلت: هو المعضل! قالوا: وما المعضل؟ وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال! فرووا عني.....(1/251)
عنايتهم بالرواة:
وكان الرواة مَحَط الأعباء في الرحلة، وإليهم المرجع في الغريب والشعر والخبر والنسب، وقد انفردوا بالقيام على هذه العلوم أيام بني أمية، والدولة يومئذ دولة العرب، وهم لا يزالون حيال آبائهم وعلى إرث منهم؛ فلم يكن إلا أن تنفق سوق الرواة ويقبل في الدهر أمرهم، وينبه في الناس شأنهم، ويجد كل واحد منهم ما يجده الحظيظ في بضاعته، والمحتاج إليه في صناعته؛ ولم يأت ذلك من قِبَل الخلفاء وحدهم، ولكن الشأن كان في أهل الأمصار من الأمراء فمن دونهم؛ فإنهم صرفوا إلى الرواة وجوه المطالب، وقصروا عليهم الرغبات؛ لأنهم الوصلة بينهم وبين أوليتهم من العرب، بما يقصون من أخبارهم، ويروون من أشعارهم، وينقلون من آثارهم؛ وبهذه وما إليها كانت تلتئم أطراف المجالس، وتنفصل جهات الأحاديث، وتتشعب مذاهب السمر؛ وفوق ذلك فإن أكثر الرواة جمعوا إلى علومهم تلك رواية الحديث وتفسير غريبه والفتيا في مشتبه القرآن والقول في السير ونحوها، وهي من أغراض الناس جميعًا.
أما الخلفاء من لدن معاوية إلى عبد الملك بن مروان، فهؤلاء اقتصروا على أهل الشعر والنسب والخبر؛ لأن أمر اللغة لم يكن بدأ في أيامهم، ولأن ذلك كان هو علم العرب يومئذ؛ وكان معاوية يرمي
إلى اجتذابهم حوله وتألف قلوبهم عليه، وإلى التخذيل عن أهل الحق في الخلافة من رجال هاشم وفتيان قريش؛ وكان يأتي كل مأتى لانتظام أمر الملك والدولة، حتى لو عرف أنه يستكثر بالزنج لوطأ الحيلة إليهم فبالغ في إيثار الشعر والنسب والإفضال عليهم، حتى تحدث الناس بذلك، فأرسل في ألسنتهم رسائله السياسية من حيث لا يدرون؛ وكان يحث على رواية الشعر، وينتقص من لا يروي منه، حتى إنه كتب إلى زياد "الذي ادعى أبا سفيان" في إشخاص ابنه عبيد الله، وقد علم أنه يتورع عن الشعر، فأوفده زياد إليه. وأقبل معاوية يسأله، فلما سأله عن شيء إلا أنفذه، حتى سأله عن الشعر، فلم يعرف منه شيئًا، فقال: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري! فقال معاوية: أعزب؛ والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارًا ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي ... وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وحاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
ولا نرى هذا إلا من دهاء معاوية وحذقه في سياسة الأمور ومداورتها؛ وإلا فمتى كان الإقرار بالنقيصة من سياسة الملوك إذا لم تكن قد استبطنت غرضًا من الأغراض لا ينكشف حتى يحيلها إلى محمدة.
وقد رمى خلفاؤه من قوسه ونزعوا في وتره، وهو كان يبصرهم؛ حتى كان لا يقطع أمرًا دون(1/252)
يزيد ابنه، ويريه أنه إنما يفزع إلى رأيه فيما يلم حتى يستخرج أقصى ما عنده ويعركه بالخلافة قبل أن يصير خليفة.
وقال أبو الحسن المدائني: كانت بنو أمية لا تقبل الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها تدل على مكارم الأخلاق ... فعفا الله عن أبي الحسن ظنه حتى اعتبر السياسة بالعلم! ولقد سئل أعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق! وإنما كان بنو أمية رجال مرزأة وحروب وفتن عربية؛ ولم يقم أمرهم إلا بدعوى المطالبة بدم عثمان؛ فكان همهم أن لا ترقأ الدمعة ولا تطفأ اللوعة، وأن تبقى في القلوب معان رقيقة تهيجها المراثي فتنقدح بها المعاني الغليظة في المقاتلة والمسترزقة من العامة، وهم قوة الدعوة، ومن قلوبهم قوت السياسة، وقد استقام لهم بذلك عمود من الأمر كان مائلًا، وحق كان فيما ظنه غيرهم باطلًا.
ولما استخلف عبد الملك بن مروان، أخذ بسنة معاوية، واقتدى به في إحكام السياسة وحسن التأتي للأمور، وكأن القلوب المضطربة قد استقرت أو كادت، والأعناق المائلة قد استقامت بعد أن مادت؛ فبسط عبد الملك بره للرواة، وألان لهم جانبه، وكان لا يجالسه من الناس غير ذي علم وأدب, وهو الذي قال فيه الشعبي: "ما ذاكرت أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه؛ إلا عبد الملك، ما ذاكرته حديثًا إلا رادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه"! ولذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، وضربوا إليه آباط الإبل شرقًا وغربًا، حتى حفلت بهم مجالسه، وازدهت أيامه؛ وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم، ومن أجله أطلق الأدباء على دولة بني أمية قولهم: "المروانية" على جهة التغليب؛ لأن من بعده أخذوا في طريقته واتبعوا أثره وزادوا عليه بمقدار ما اتسع في أيامهم، حتى كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق.
وحدث أدباء البصرة أنهم كانوا يرون كل يوم راكبًا من ناحية بني مروان ينيخ على باب قتادة بن دعامة السدوسي الراوية "وكان أجمع الناس توفي سنة 117هـ" يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وربما سار هذا الراكب بالكلمة عن قتادة فأبلغها بالشام ثم عاد ليسأله عن معنى في نفس جوابه، حتى يكون الجواب مما يحسن السكوت عليه؛ وهذا لعمر أبيك علم الملوك!
وقد بعث هشام بن عبد الملك في إشخاص حماد الراوية من الكوفة، لبيت خطر بباله لا يعرف صاحبه، وهو قول عدي بن زيد:
ودعو بالصبوح يومًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
وقطع حماد طريقه إلى دمشق في اثنتي عشرة ليلة، ليذكر له صاحب البيت وسائر القصيدة.
وما كان الناس يومئذ -وهم على دين ملوكهم- بأقل رغبة في الرواة والعلماء والمتوسمين بالأدب، وخاصة بعد أن توطد أمر الرواية حتى قال عمرو بن العلاء: لو أمكنت الناس من نفسي ما تركوا لي طوبة! ... يصف تدافعهم وازدحامهم عليه.
أما العباسيون وأمراء دولتهم، وهم أهل العلوم والحكمة والأدب، فوالله إن كان أحدهم ليرى(1/253)
الرواية عنه كأنه ديوان من أبلغ الشعر, مدحه خالص له من دون الناس، وإنشاده دائر في ألسنة الناس جميعًا؛ لأنهم رأوا آثار بني أمية وأرادوا أن يطمسوا عليها وينسوا الناس أخبارهم ولا يدعوا للرواة بابًا من الذكرى، وصار الناس يومئذ أوفر ما كانوا إقبالًا على مجالس الرواة، وأشد ما كانوا حاجة إليه؛ لشيوع العلوم وتنافس الخاصة فيها؛ حتى لا يشك من يقف على تاريخ الرواة أنهم كانوا في أمصارهم كأنهم خلفاء الدولة العظمى التي تعنو لها الدول كافة وهي دولة التاريخ.
ولقد كان الرشيد يجلس الكسائي ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما أن لا ينزعجا لنهضته, وكان يطارح الرواة ويناشدهم ويذاكرهم به ولما رآهم يقصرون الرواية على أشعار الجاهليين والمخضرمين ممن يحتج بهم في العربية، اتخذ له منشدًا يروي أشعار المحدثين خاصة وينشده إياها، وهو محمد الراوية المعروف بالبيدق "لقب بذلك لقصره" وكان إنشاده يطرب كما يطرب الغناء ولم يرو مثل ذلك عن أحد قبل الرشيد.
أما المأمون فناهيك من خليفة عالم، وهو لم يزل منذ دخل العراق يراسل الأصمعي في أن يجيئه "من البصرة"، وكان لا ينفك يعد أصحابه في مجالسه ويقول: كأنكم بالأصمعي قد طلع, ولكن الأصمعي احتج بضعف وكبر وعلل، ولم يجب إلى ذلك، فكان المأمون يجمع المسائل وينفذها إليه بالبصرة ثم ينتظر جوابها.
ولما كان أبو عبيدة مع عبد الله بن طاهر، ألف كتاب "غريب الحديث" وعرضه عليه، فاستحسنه ابن طاهر وقال: إن عقلًا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب، لحقيق أن لا يخرج عنا إلى طلب المعاش, فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر، ولزمه بعد ذلك، فوجه إليه أبو دلف "يستهديه أبا عبيدة مدة شهرين"، فأنفذه إليه ابن طاهر، فلما انسلخ الشهران أراد الانصراف فوصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم، فردها وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما فيه على نقص. فلما عاد ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار، فعوضه من كل درهم دينار!!
والأمثلة من ذلك مستفيضة لا نطيل باستقصائها، وما من كتاب في الأدب والمحاضرة إلا وأنت واجد فيه شيئًا منها ومن أخبار الملوك والأمراء ومجالسهم مع الرواة.
وكان آخر خليفة جرى على هذه السنة العربية من مجالسة الندماء وتقريب العلماء، هو الراضي بالله المتوفى سنة 328هـ "وبويع سنة 322هـ" وهو كذلك آخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين، وكانت الرواية يومئذ قد بدأت آخرتها أيضًا، بيد أن الأمراء الذين استبدوا بالأمصار الإسلامية بعد ذلك، كآل بويه، وآل حمدان، وغيرهم، لم يألوا جهدًا في إحياء تلك السنة، والإفضال على العلماء، إلا أن هؤلاء كانوا غير الرواة كما بسطناه في موضعه، ولذا نجتزئ بما أوردنا، فإن أكبر غرضنا من هذا الفصل أن نخلص إلى الكلام على موضع الرواة من أنفسهم، ولم يكن لذلك سبيل إلا من الكلام على موضعهم من الناس.(1/254)
الرواة: علومهم - أنواعهم
علوم الرواة:
واعلم أن من طريقتنا في هذا الباب أن لا نعد من الرواة كل من اقتنى علمًا من علومهم، أو قبس أدبًا من آدابهم، وإن جاء ذلك على شرط الرواية وأدبها؛ فلو أنا عددنا من أمثال هؤلاء لكان لنا منهم باب واسع "في الترادف التاريخي" يهجن نسق الكتاب ويزري على سبكه، ويتنزل منه منزلة الجملة التي تجمع مترادفات، وكان في كلمة منها أو كلمتين البلاغة كلها؛ فلما كثرت وتقطع بها نسق المعنى ذهب آخرها بفضل أولها ولم يغن أولها عن آخرها شيئًا, إنما نذكر من الرواة الأفراد الذين ذهبوا بمآثر العلوم، وكانوا مشيخة الأجيال، وانقادت لهم أزمة الأسانيد، واتخذ التاريخ منهم أقطاب رحاه؛ وقل من هؤلاء من لا يجمع علوم الرواية كلها أو أكثرها بحسب ما يكون منها في عصره، من النسب، والخبر والشعر، والعربية، واللغة بيد أنهم قد تفاوتوا في مقادير الإحسان من ذلك كله؛ فطائفة غلب عليها النسب، وأخرى ذهبت بمزية الشعر، وثالثة انفردت بعلم الأخبار، وهلم جرا؛ وسنصرف الكلام في هذا الفصل إلى التنظير بين رجال هذه الطبقات على ما أعلمناك من طريقتنا؛ فإن فيها غناء وكفاية.(1/255)
النسب:
أما رواية النسب فقد كانت عامة في العرب، وكانوا ينسبون حتى الخيل والإبل والكلاب، ما كرم عليهم من هذه الأجناس "كما نسبت طائفة من الإسلاميين الحمام".
والنسب يستتبع رواية أخبار العرب وما فيه شاهد على التاريخ من أشعارها؛ فكان كل أولئك علم النسابين، وقد اجتمع من رؤسائهم في القرن الأول: عبيد بن شرية الجرهمي، وانفرد باتساعه في رواية الأخبار المتقدمة وما يسمونه بالعلم الأول إلى مبدأ الخليفة، عربها وعجمها، وبالحكمة والخطابة والرياسة، وقد ذكرنا أمره مع معاوية في محله, ودغفل بن حنظلة، وأبو الشطاح اللخمي، وقد جمع بينهما معاوية وتناظرا في فنون كثيرة، جاءا في جميعها بالنادر الغريب، حتى صارت مناظرتهما مثلا يضرب لكل ما يجري بين اثنين من الكلام البديع الذي يتدفق بالحكمة والبيان، وكان دغفل أوسع أهل زمانه رواية في أنساب العرب خاصة، وأخبارها وعلومها في الجاهلية، كالأنواء وغيرها؛ وقد تصادر مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حديث في النسب، ودغفل يومئذ غلام قد بقل وجهه، فكان أمره مع أبي بكر كما قال:
صادف درء السيل درءًا يدفعه ... يهيضه حينًا وحينًا يصدعه
ثم النخار بن أوس، وهو دون أصحابه يجري في قص النسب على طريقة الكهان من السجع والتشبيه، لفضل في بيانه وبسطة في لسانه، وكانت له حكمة تزين ذلك؛ دخل على معاوية أول عهده(1/255)
به فازدراه، وكان عليه عباءة خلقة فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها!
ويجري في هذه الطريقة عبد الله بن عبد الحجر، وهو ممن وفدوا على معاوية أيضًا.
وهؤلاء ومن كان في طبقتهم: كزيد بن الكيس النمري، وابن لسان الحمرة، وصحارى العبدي، والمختار العدوي، وصبح الطائي، وميجور بن غيلان الضبي، هم رؤساء النسابين، وإليهم تنتهي الرواية، وكان علمهم مقصور على الجاهلية، وطرف من الإسلام.
وامتاز في أواخر هذه الطبقة، صعصعة بن صوحان، وكانت الرواية عند بعد الإسلام في أخبار العرب خاصة، وكان ابن عباس على سعة حفظه كثيرًا ما يسائله ويذاكره، وقد لقبه بباقر علم العرب.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة الناس للأشعار وعلماؤهم بالأنساب والأخبار، وكل ما كان قرشيا فهو عند العرب طبقة متميزة. والأربعة هم: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزي، وعقيل بن أبي طالب.
وكانت قريش في الجاهلية دون غيرها من العرب تعاقب شعراءها القليلين إذا هجا بعضهم بعضًا؛ أما النسابون فكانوا يحمقون منهم من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس؛ لأن ذلك هو الهجاء المنثور؛ وهم يريدون بهذا الإزراء أن يسقطوا شأن الرواية إذا شاعت له قالة السوء، حتى تخرج قبيلته مما يلحق بها انتسابه إليها واكتسابه على نفسه، أو تذهب الأحدوثة عنه بصدق الأحاديث منه اتقاء للذم بالذم، وقد كان عقيل واحد الأربعة في ذكر مثالب الناس، فعادوه لذلك وقالوا فيه وحمقوه، وسمعت ذلك منهم دهماء الناس فألف فيه بعض أعدائه الأحاديث وقرنوه فيها إلى الحمقى والمغمورين، فجعلوه بجانب أخيه علي بن أبي طالب, كعتبة بن أبي سفيان بجانب أخيه معاوية, ومعاوية بن مروان بجانب أخيه عبد الملك؛ وإنما كان عقيل رجلًا قد كف بصره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلما فضل نظراءه بهذه الخصال، صار لسانه بها أطول، وصار هو بذلك أجرأ وأشد صولة.
تلك هي الطبقة الأولى وما امتازت به، أما الطبقة الثانية فهي التي أخذت على هؤلاء، ونشأت منتصف القرن الأول، وكان أهلها مبدأ الرواية في الإسلام، وهم يتناولون أخبار العرب وأنسابهم وما حدث في الإسلام إلى العهد الذي هم فيه، ويضمون إلى ذلك أنساب الصحابة وطبقاتهم، وأشهرهم في أخبار العرب: قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117هـ، والشعبي نديم عبد الملك بن مروان، وهو مفنن يمتاز عن سائر الرواة بذلك، حتى كانوا في القرن الثاني يلقبون من يجمع بين الفقه والحديث والشعر وأيام الناس والأنساب ونحوها "بشعبي زمانه"؛ وممن أطلقوا عليه هذا اللقب، القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، وكان على قضاء الكوفة1،
__________
1 ونقل الجاحظ أن عبد الله بن شبرمة كان فقيهًا عالمًا قاضيًا، وكان راوية شاعرًا، وكان خطيبًا ناسبًا، وكان حاضر الجواب مفوهًا، ثم قال: وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بالشعبي.(1/256)
ثم قتيبة بن مسلم، وهو يمتاز بمعرفة أحوال الشعراء وأخبارهم، والبصر بأشعارهم ومذاهبهم فيها؛ والنضر بن شميل الحميري، وخالد بن سلمة المخزومي، وكانا أعلم أهل زمانهما بأنساب العرب ومغامزها، وهما اللذان وضعا كتاب "المثالب" كما مر في موضعه، والزهري عالم الشام والحجاز، وقد تقدم الكلام عليه, ومن هذه الطبقة عبد الرحمن بن هرمر بن الأعرج المتوفى سنة 117هـ، وهو أحد من ينسب إليه وضع العربية، وقد امتاز من سائر طبقته بعلم أنساب قريش وأصولهم، والتغلغل في ذلك إلى أعماق بعيدة1؛ وروي أن مالكًا بن أنس رضي الله عنه كان يختلف إليه في هذا العلم، وكان يرى أنه علم لم ينته للناس.
وأما الطبقة الثالثة فهي التي كانت في القرن الثاني؛ وهي مصدر الرواية العامة في الإسلام؛ لأن شروط الرواية تعرف إلا في عهدها؛ وتمتاز هذه الطبقة بغلبة الأخبار عليها، وبكثرة الوضع على العرب في المناقب والمثالب، وبانتحال بعضهم مذاهب من الفتنة من الدين؛ وقل منهم من لم يكن أكبر علمه الأخبار؛ ولهذا نذكرهم فيما يلي، ولم يعد لعلم الأنساب من بعدهم الشأن الذي كان له، وإنما صار يروى على أنه بعض علوم العرب.
__________
1 أبعد رواة الإسلام في كل ما يتعلق بأنساب قريش وفضائلها، لمكان النبي صلى الله عليه وسلم منها. حتى نقل القاضي عياض في "الشفاء" أن ابن الكلبي كتب للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم: فكأن ابن الكلبي ينفذ في تاريخ الجاهلية إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة ... وإنما زعم الرجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس في آبائي من لدن آدم سفاح".(1/257)
الخبر والأخباريون:
وصار الخبر بعد الإسلام في طائفتين من الرواة: الأولى تروي أخبار العرب وتغلب عليها، والثانية تغلب عليها أخبار الفتوح الإسلامية وأحوال الدولة. ومن رءوس الطائفة الأولى محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير المتوفى سنة 146هـ، وكان أعلم القوم بالنسب، وهو كوفي أجمعوا على تركه واتهموه بالكذب والرفض وزيفوا كلامه عن أصل العرب والعربية وما جرى هذا المجرى؛ لكثرة ما يضع منه كذبا وزورًا، وعنه أخذ ابنه هشام بن الكلبي النسابة صاحب "الجمهرة" والكتب الكثيرة في أخبار العرب وأحوالها ومناقبها أخبار الأوائل والأمم البائدة والأحاديث والأسمار ونحوها، وتوفي سنة 204هـ، هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع "المعلقات" وتعليقها على الكعبة -كما سيأتي في بابه- وقد اتهمه العلماء كما اتهموا أباه بالرفض وتركوا حديثه لذلك ولما ظهر من كذبه؛ وشبيل بن عرعرة الضبعي1، وكان راوية ناسبًا شاعرًا عالمًا بالغريب، قالوا: وكان سبعين سنة رافضيا، ثم صار بعد ذلك خارجيا؛ ومجالد بن سعيد بن عمير؛ وهو يروي عن الشعبي؛ وقد توفي سنة 144هـ؛ والشرق بن القطامي، وهو من رواة الغريب واللغة والشعر، وكان يكذب للرجل في الكلمة ثم يحدث بها الناس في المسجد على أنها من علمه الذي يرويه؛ وعبد الله بن عياش الهمداني، وراويته الهيثم بن عدي، وكل أفراد هذه الطبقة يتقاربون، إلا ما كان من هشام بن الكلبي، فإنه
__________
1 وفي "المعارف" لابن قتيبة أنه ابن عروة، وذلك تحريف من النساخ، وشبيل هذا معدود من الفصحاء عند الرواة؛ ومن النسابين الرواة عند الناس؛ ومن الخطباء العلماء عند الخوارج.(1/257)
أوسعهم علمًا وأمدهم رواية وأكثرهم تأليفًا حتى ليصح أن يعتبر بمفرده في وزن الطبقة كلها، ويمتاز معه أبو اليقظان النسابة المتوفى سنة 190هـ، فإنه يشارك طبقته في علومها وينفرد بالاتساع في أنساب الإسلاميين وأخبارهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
وأما الطائفة الثانية وهم الذين غلب عليهم لقب الأخباريين لامتيازهم بالاتساع في أخبار الفتوح الإسلامية، فقد انفرد منهم ثلاثة بأنواع من المعرفة قلما يساويهم أحد فيها: أبو مخنف الأزدي، بأمر العراق وفتوحها وأخبارها، وأبو الحسن المدائني بأمر خراسان والهند وفارس "توفي سنة 215هـ"، والواقدي بالحجاز والسيرة النبوية "توفي سنة 207هـ"، ويشتركون مع غيرهم في فتوح الشام وأخبارها.
ولقد عرف كثيرون بعلم السيرة والأحداث والفتوح ولا نعرفهم يمتازون بشيء عمن ذكرناهم، فإن ثلاثتهم بالغوا في الاستيعاب والاستقصاء إلى ما لا يلحق بهم فيه أحد؛ ومن أولئك: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأحمد بن الحارث صاحب أبي الحسن المدائني، وعبد المنعم بن إدريس المتوفى سنة 228هـ وقد بلغ المائة، ونصر بن مزاحم، وإسحاق بن بشير، وسيف بن عمرو الأسدي، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وأبو إسحاق الفزاري؛ وكلهم من أصحاب السير والأحداث.
وممن جاء بعدهم من أصحاب الأخبار العربية والإسلامية: محمد بن سلام الجمحي، والزبير بن بكار، وعمر بن شبة، وابن الأزهر؛ وكلهم في القرن الثالث؛ والفضل بن الحباب، وتوفي سنة 305هـ.
وانفرد في القرن الرابع رجلان من الأخباريين الرواة المصنفين: أحدهما محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة 378هـ، وليس لأحد في الإسلام أكثر ولا أمتع من تصانيفه في الشعر والشعراء -وسنشير إليه في باب الشعر- والثاني أبو الفرج الأصبهاني المتوفى سنة 356هـ؛ وهو صاحب كتاب "الأغاني" وغيره من الكتب الكثيرة في الأخبار والآداب مما لا يدانيه فيه أحد.
وكان في القرن الثالث رجل من الأخباريين هو طبقة وحده في الإسلام، وهو محمد بن عبيد الله العتبي المتوفى سنة 228هـ، وكان من ولد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية، وقد انفرد برواية أخبار بني أمية خاصة، وليس له في غيرها يد؛ وكان يرويها عن آبائه، وهم يروونها عن سعد القصير، وسعد هذا هو مولى بني أمية؛ قتله ابن الزبير بمكة.
وهذا الذي أوردناه من القول في الأخباريين لا يداخله الكلام على المؤرخين في الإسلام؛ فإن فصل ما بين الفريقين أن الذين ذكرناهم كانوا مادة المؤرخين؛ لأنهم تميزوا بأنواع من الرواية جمع منها المؤرخون ما جمعوه، ولكل قول موضع ومقام معلوم.(1/258)
رواة العرب:
وهؤلاء قوم كانوا في البادية بمنزلة الرواة في الحضر، من حيث هم مصادر العلم والقائمون عليه، فيتحققون بعلم الأخبار والآثار والأنساب والأشعار، وكان الرواة يأخذون عنهم ويسمونهم علماء البادية، وهم منهم في هذه العلوم كالأعراب الفصحاء في اللغة، كانت أسماؤهم دائرة في أفواه الرواة، بيد أن العلماء الذين دونوا الأخبار وصنفوا الكتب اكتفوا بنسبة الكلام إلى صدور الرواة ممن نقلوا عن علماء البادية: كالأصمعي، وأبي عبيد، وابن الكلبي وغيرهم، دون هؤلاء العلماء؛ لتحقق الرواة بالأمانة والضبط؛ ولأنهم لا يقدرون الألفاظ بمعانيها التاريخية؛ ولهذا لم نقف إلا على القليل من أسماء القوم، وعلى أن هذا القليل إنما جاء في عرض كلام مما يتعلق بالسمر ويدخل في باب الحكاية ... وقد رأينا في "الفهرست" لابن النديم أن لابن دريد كتابًا سماه "رواة العرب" ولا ندري من خبره شيئًا.
فمن هؤلاء الرواة: المسور العنزي، وسماك بن حرب؛ ومنهم ثم من علماء بني عدي: زرعة بن أذبول، وابنه سليمان، وأبو قيس، وتميم العدوي؛ وكلهم في أواخر القرن الأول؛ ومنهم أبو بردة وأبو الزعراء، وأبو فراس؛ وأبو سريرة، والأغطش؛ وكانوا في القرن الثاني، وأدركهم أبو عبيدة وطبقته وأخذوا عنهم.
ولا بد أن تكون منهم طائفة ممن عدوهم في فصحاء الأعراب، ولكنهم لم يترجموهم ولم ينبهوا عليهم ولم يذكروا ما أخذوه عنهم إن كان لغة أو خبرًا أو نسبًا أو شعرًا؛ كمحمد بن عبد الملك الفقعسي؛ فإنه معدود من فصحاء الأعراب، وقد ذكرناه ثمة، وهو من ذلك راوية بني أسد وصاحب مفاخرها وأخبارها، وعنه أخذها العلماء، والله أعلم.(1/259)
الشعر:
والشعر كان عمود الرواية، فلا بد منه لكل راوية، وإنما يتفاضلون فيه من جهتين: الاتساع في الرواية، وأكثر ما يكون فيمن لم تقتطعه العلوم التي يفتن فيها علماء الرواة: كالنسب، والخبر، والعربية، والقراءة، والحديث، ومن هذا الاتساع ينشأ الوضع، وقد مكنا القول فيه من قبل.
والجهة الثانية معرفة تفسيره والبصر بمعانيه، وهي التي نرمي إلى الكلام عليها في هذا الفصل.
كان صدور الرواة إنما يطلبون الشعر للشاهد والمثل، وهما غرضان أكثر ما تؤديهما الألفاظ دون المعاني، ولما كانت الألفاظ عربية صريحة ينبغي أن تؤخذ بالتسليم ولا وجه لتقليبها ونقدها والتورك عليها انصرف أكثرهم عن البحث في الشعر والتصفح على معانيه، فاقتصر العلم به على رواية اللفظ كما هو وما يقتضى لها من فهم المعنى كما هو؛ وبذلك بقي الشعر أيضًا كما هو.
ومن شعر العرب نوع مما يقال على المشاهدة، فيستخرج الشاعر المعنى الغريب من شيء رآه ويكون في اللفظ إبهام لا يتعين معه أصل المعنى، وهذا النوع إن لم يفسره شاعره أو من أخذه عنه، ذهب العلم بحقيقة معناه واضطربت فيه الظنون؛ ونوع آخر يتعلق بالعادات التي كانت للعرب في جاهليتها، ولا بد لتفسيره من المعرفة بها، وبما كان خاصا منها بقبيلة الشاعر إن كان من ذلك شيء؛ ونوع ثالث يتعلق بعلوم العرب التي أخذتها عن الأمم واعتبرتها علومًا صحيحة واعتبرها من جاء بعدهم، الخرافات والتكاذيب، ويسمى الرواة كل ذلك في الشعر بأبيات المعاني؛ لأنها أشياء خارجة عن غرضهم اللفظي الذي أومأنا إليه، والعلم بتلك الأبيات وتفسيرها أكثر ما يكون عند الشعراء(1/259)
والرجاز من العرب الذي نشئوا في البادية كما نشأ أصحاب المعاني، أو الذين رووا الشعر عمن نشأ فيها وأقاموا بالأمصار: كالحطيئة، وجرير، والفرزدق، والكميت، وغيرهم؛ لأنها طرف من صناعتهم؛ لأن الشعر كان لا يزال على بداوته وإن ضعف شيئًا قليلًا. وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلًا في باب الشعر.
أما الرواة فقد انصرفوا عن هذا وأشباهه، وكانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء في أوهامهم. فالمعنى الذين يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر، وأخذ منه التصحيف كل مأخذ؛ ولقد سئل أبو عمرو بن العلاء عن معنى قول امرئ "ومر تفسيره عن الكميت":
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لامين على نابل
فقال: ذهب من يحسنه.
وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن قوله "أي: الشاعر":
زعموا أن كل من ضرب العيـ ... ـر موال لنا وأنى الولاء
فقال: مات الذين يعرفون هذا؛ وإنما يعني شعراء العرب لا الرواة. وكان أبو عمرو نفسه يقول: العلماء بالشعر أقل من الكبريت الأحمر.
فلما أخذ الخلفاء وأمراؤهم يطارحون الرواة ويذاكرونهم في المعاني، وذلك حين استبحر العلم في الدولة العباسية، وكانت قد انحرفت طريقة الشعر بما ذهب إليه المحدثون: كبشار بن برد، ومسلم، وأبي نواس، وغيرهم؛ إذ جعلوا يغوصون على المعاني ويتلومون على حوك الشعر وسبكه، وأقبل الناس أيضًا يفتشون على المعاني، وقلت عنايتهم بالألفاظ, انتبه بعض الرواة إلى هذه الجهة من الشعر، وأعطوها قسطها من العناية، فنبغت منهم طبقة لم يعرف غيرها، ولم تنبغ من ذلك إلا في معاني أشعار العرب ومن يستشهد بقولهم دون المولدين؛ وهؤلاء كان شعرهم أدق معاني وأبعد أغراضًا؛ وقد انفرد يومئذ بعلم الشعر على الإطلاق -أغراضه ومعانيه ومذاهب النقد فيه- أهل الطبع والبلاغة من أدباء الكتاب الذين صرفوا القول في فنونه واندفعوا إلى مضايقه وحزونه؛ قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه "الألفاظ والمعاني العربية" فسألت الأخفش فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار؛ ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره.
أما الطبقة التي أومأنا إليه فرجالها ثلاثة: خلف الأحمر، والأصمعي، وجهم بن خلف المازني، وهو معاصرهما؛ وكانوا ثلاثتهم يتقاربون في ذلك، وامتاز خلف بقول الشعر وإحسانه وإجادته حتى لا ينزل عن الطبقة التي يقارنه بها، ومن ثم كان ينحل الشعراء المتقدمين؛ ذهابًا بنفسه، واعتدادًا بما تطوع له؛ وكان أيضا أعلم الرواة بالشعر ومعانيه ومذاهب الشعراء فيه، ثم هو معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة، وقد أجمعوا على أنه أفرس الناس ببيت شعر، وكان علماؤهم لا يتكلمون في الشعر ونقده ما لم يكن حاضرًا، ولا يراجعونه في قول إن قال وفي رأي إن رأى؛ ولكن الأصمعي فاته(1/260)
بمعرفة النحو مع مقاربته له في المعاني وصدقه في الرواية؛ ولذا فضلوه عليه؛ وكان للأصمعي ذهن ثاقب وطبع صحيح؛ فما لبث في آخر عهده أن صار أبعد نظرًا في الشعر من أستاذه وأوسع رواية فيه؛ حتى كان الرشيد يسميه شيطان الشعر؛ وقال ابن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ما فيها بيت عرفناه.
وأما جهم بن خلف المازني فهو يقارب الأصمعي وخلفًا، وينفرد دونهما بسعة علمه في عادات العرب وحقائق أوصافها؛ ولذا كان كثير الشعر في الحشرات والجارح من الطير ونحوها؛ إلى ما يتصل بذلك من معاني البادية التي لا ينفذ في حقائقها إلا العربي القح وإلا البدوي الجافي.
ولم يساو هذه الطبقة أحد ممن جاء بعدهم من الرواة، إلا ابن دريد المتوفى سنة 321هـ؛ وكان أحفظ الناس وأوسعهم علمًا وأقدرهم على الشعر وأبصرهم بمذاهبه؛ ولذلك نظروه بخلف، وقالوا: ما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد، ولو كان الأصمعي يجمع إلى علمه وروايته القدرة على الشعر وصوغه لكانه نادرة التاريخ العربي كله بلا امتراء.
وقد وقفنا للجاحظ على فصل نادر يصف به رواة عصره في معرفتهم بالشعر وبصرهم بمعانيه وما تلتمس من أغراضه كل طائفة منهم، وانصراف الناس يومئذ إلى حقيقة الشعر والتفتيش على دقائقه مما هو من محض البلاغة وصميم الفصاحة، ثم ما تدرجوا فيه من ذلك؛ ونحن نورد كلامه توفية لفائدة هذا الفصل، ولكنا ننبهك إلى أن الجاحظ يتحامل على من أدركه من الرواة الذين كان إليهم أمر اللغة؛ لأنهم لم يوثقوه، بل ذموه وهجنوا كتبه وتنقصوا روايته، وسنشير إلى ذلك بعد.
قال الجاحظ: قد أدركت رواة المسجديين والمربديين؛ ومن لم يرو أشعار المجانين "كمجنون بني جعدة، ومجنون بني عامر، وغيرهما من العشاق" ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المصنفة, فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة؛ ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والنتف من كل شيء، ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس ابن الأحنف؛ فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل؛ وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن تخيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده؛ وكان خلف يجمع ذلك كله، ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم -فقد طالت مشاهدتي لهم- لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت اللسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر؛ ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة. ا. هـ.(1/261)
العربية واللغة:
ونريد بالعربية النحو؛ والكلام فيه سابغ الذيل: إذ يتناول تاريخه وأهله ومذاهبهم فيه ومن انفرد منهم ببعض المذاهب ومن شارك، إلى ما يداخل ذلك ويلتحق به؛ وهو فن من التاريخ لا صلة له بما نحن في سبيله الآن، إلا من جهة استتباعه للشعر واللغة، ومن جهة أنه كان مثار الخلاف بين الطائفتين العظيمتين من البصريين والكوفيين، منذ تجاروا الكلام في مسائله؛ وقد تقدم لنا صدر من القول في الجهة الأولى، ونحن نردفه بفصل موجز عن الجهة الثانية؛ ثم نمسك سائر ما يتعلق بهذا النحو إلى موضعه من باب العلوم إن شاء الله.
وأما اللغة فقد أجمعوا على أنه لا معول في روايتها على أهل الكوفة، وأما أهل البصرة فقالوا إن منهم أصحاب الأهواء، إلا أربعة، فإنهم كانوا أصحاب سنة، وهم: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي؛ وهم يريدون بذلك التثبت والتحري، وتوثيق الرواية والأمانة في النقل والأداء؛ لأن هؤلاء الأربعة كانوا أركان الرواية في اللغة والعربية. ورأيناهم ذكروا أئمة اللغة الذين امتازوا دون سائر الرواة في الإسلام بما حفظوه منها، فقالوا: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل بن أحمد يحفظ نصف اللغة1، وكان أبو فيد مؤرج السدوسي "من تلامذة الخليل" يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي يحفظ اللغة كلها؛ قالوا: وكان الغالب عن أبي مالك حفظ الغريب والنوادر "وهي حقيقة المراد باللغة كما شرحناه في موضعه".
وجاءت هذه الرواية من وجه آخر بأن الأصمعي يجيب في ثلث اللغة؛ وأبو عبيدة في نصفها، وأبو زيد الأنصاري في ثلثيها، وأبو مالك الأعرابي فيها كلها؛ وإنما يريدون توسعهم في الرواية والفتيا؛ لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات ويلح في دفع ما سواه، وكان شديد التأله: لا يفسر شيئًا من القرآن، ولا شيئًا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك كان يتحرج في الحديث، ثم كان لا يفسر شعرًا يوافق تفسيره شيئًا من القرآن، ولا ينشد من الشعر ما كان فيه ذكر
__________
1 امتاز الخليل عن سائر الرواة في الإسلام بشدة العقل وثقوب الفراسة ودقة الفطنة والاستنباط، فهو مدون اللغة، وواضع العروض، ومستخرج المعمى، ومتمم النحو، حتى قالوا فيه: إنه أذكى العرب وأجمعهم، كما أن ابن المقفع أذكى العجم وأجمعهم، وقد نفس عليه الجاحظ هذه الصفات؛ فذمه في كتاب "الحيوان" بما لا يذم مثل الخليل؛ إذا قال: إنه "غره من نفسه حين أحسن في النحو والعروض، فظن أنه يحسن الكلام وتأليف اللحون، فكتب فيهما كتابين لا يشير بهما ولا يدل عليهما إلا المرة المحترقة، ولا يؤدي إلى مثل ذلك إلا خذلان من الله" وهذا من تعنت الجاحظ.(1/262)
الأنواء ولا يفسره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا". ولم يكن ينشد أو يفسر شعرًا يكون فيه هجاء1، ومن ثم فاته أبو عبيدة وأبو زيد، ولما وضع أبو عبيدة كتاب "المجاز في القرآن"2، وقع الأصمعي فيه وعاب عليه تأليف هذا الكتاب، وقال: يفسر القرآن برأيه! فسأل أبو عبيدة عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، ثم قصد إليه وجلس عنده وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟ قال: هو الذي تخبزه وتأكله. فقال: فسرت كتاب الله برأيك؛ قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يوسف: 36] ! فقال له الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي. فقال أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا.
بيد أن الأصمعي امتاز في رواة اللغة بالشعر ومعانيه، وانفرد أبو زيد دون الثلاثة بالنحو وشواهده؛ وهو الذي يعنيه سيبويه إذ قال في كتابه: "وحدثني من أثق بعربيته ... "3 وفاتهم أبو مالك بالغريب والنوادر؛ أما أبو عبيدة فإنه استبد بهم جميعًا في العلم بأيام العرب وأخبارهم وعلومهم، وكان يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام، إلا عرفتهما، وعرفت فارسيها! وقال فيه الجاحظ: ليس في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة!
وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفان الأصمعي ويناويانه كما يناويهما؛ فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية، وكانت اللغة متنازعة بينهم، فيتفق الصاحبان وينفرد الأصمعي وحده بالخلاف، والكوفيون لا يرون فيهم ولا في الناس أعلم باللغة من الفراء المتوفى سنة 207هـ، وكان من رءوسهم وقالوا فيه: إنه لولاه لما كانت اللغة؛ لأنه حصلها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية؛ لأنها كانت تنازع ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.
ثم انتهى علم اللغة في البصريين إلى ابن دريد، وهو خاتمة رواتهم وآخر ثقاتهم، لم تفتح بعده
__________
1 كان الرواة المتورعون يرون الشعر من عمل الشيطان وهو عبث لا ثواب فيه، ولم يكونوا يطلبونه إلا لأنه وسيلة الثواب؛ إذ يتوصل به إلى اللغة والعربية، وهما إنما يرادان للقيام بهما على فهم كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأول من تحرج في ذلك من الرواة، أبو عمرو بن العلاء؛ فكان إذا دخل رمضان لا ينشد بيتًا حى ينقضي، ولما تقرأ خلف الأحمر وزهد في آخر أيامه، كف عن الشعر فلم يتكلم فيه، وقد بذلوا له مالًا كثيرًا ليتكلم في بيت منه فأبى؛ أما قبل أبي عمرو فكان لا يتأثم من إنشاد الشعر إلا الغلاة في الزهد والنسك، ولقد روى الأصمعي هذا الورع المتحرج أنه قيل لسعيد بن المسيب "من التابعين": ههنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر؛ فقال: نسكوا نسكًا أعجميا!
2 وضع أبو عبيدة هذا الكتاب حين قدم بغداد على الفضل بن الربيع بعد أن تقدم الفضل إلى إسحاق الموصلي في إقدامه، وكان سبب وضعه أن بعض الكتاب سأله في مجلسه عن قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} وقال: إنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف؛ فقال أبو عبيدة: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
"ومسنونة زرق كأنياب أغوال"
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، ثم انتبه أبو عبيدة إلى مثل هذا في القرآن فلما رجع إلى البصرة عمل كتابه.
3 وكل ما في كتاب سيبويه: وقال الكوفي كذا، فإنما يعني به أبا جعفر الرؤاسي شيخ نحاة الكوفة وأستاذ الكسائي والفراء.(1/263)
صفحة في التاريخ لما يسمى بصريا أو كوفيا من هذا العلم.
ولما دونت كتب الأئمة في اللغة وتناقلها روايتها بالأسانيد، كثر فيها التزيد، وركب النساخ منها عبثًا كثيرًا، إلى أن جاء الأزهري المتوفى سنة 370هـ، وهو صاحب كتاب "التهذيب"؛ فتفقد كتبهم، وتأمل نوادرهم، ونظر في الكلام المصحف، والألفاظ المزالة عن وجهها أو المحرفة عن معناها، وما أدخل في الكلام مما هو ليس من لغات العرب، وما اشتملت عليه الكتب التي أفسدها الوراقون وغيرها المصحفون؛ واعتبر كل ذلك اعتبار ناقد يتصفح على الرواة ويطلب مواضع الثقة فيما يروى عنهم؛ ثم إنه بعد أن أمعن في ذلك واستقصى، قال: إنه وجد عظم ما روي لابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي معروفًا في الكتب التي رواها الثقات عنهم والنوادر المحفوظة لهم، فخص بالثقة هؤلاء دون سائر الرواة.
ولما عد في مقدمة كتابه "التهذيب" ثقات الرواة، وهم أولئك الذين عرفتهم، ووصفهم بالإتقان والتبريز ووثقهم، قال: فلنذكر بعقب ذكرهم أقوامًا اتسموا بسمة المعرفة وعلم اللغة، وألفوا كتبًا أودعوها الصحيح والسقيم، وحَشوها بالمزال المفسد والمصحّف المغير، الذي لا يتميز ما يصح منه إلا عند الثقة المبرز، والعالم الفطن، وعد من هؤلاء: الليث بن المظفر الذي نحل الخليل تأليف كتاب "العين"1، وقطربًا، وقال: كان متهمًا في رأيه وروايته عن العرب؛ والجاحظ، وقال فيه: إن أهل المعرفة بلغات العرب ذموه، وعن الصدق دفعوه؛ ثم ابن قتيبة وابن دريد.
__________
1 في هذا الكتاب ونسبته إلى الخليل كلام كثير لم نجد له متسعًا في هذا الباب فأرجأناه إلى باب العلوم حيث نقول في علم اللغة وتدوينه.(1/264)
البصريون والكوفيون:
وهما الطائفتان اللتان عصب بهما طلاب العربية، وقد تضافرتا جميعًا على استخراج هذه العلوم بعد أن كانت السابقة فيها للبصريين بما أصلوا وفرعوا؛ وكان في هؤلاء غريزة التحقيق والتمحيص دون الكوفيين، فبغت لذلك إحدى الطائفتين على الأخرى نفاسة وحسدًا، ثم استطار الجدال بينهم فوقعوا من المناظرة في أمر مستدير، وتباين ما بين الفئتين إلا حيث تتصلان في الكلام لتدفع إحداهما الأخرى. ومن ثم جعل الكوفيون، يتمرءون بخصومهم1، فينتقصونهم ليعد ذلك منهم قدرة على الكمال، ويعيبون الرجال ليكونوا هم وحدهم الرجال. أما البصريون فكانوا يريدون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة؛ وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلوهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق، ولشد ما اندرءوا جميعًا بعضهم على بعض بمثل هذا الكلام، وقاموا في المناظرة كل مقام؛ على أن العلم منذ وجد إنما تخلص حقائقه بالجدال؛ فرحم الله الغالب فيه والمغلوب.
__________
1 تمرأ به: إذا طلب المروءة بنفضه.(1/264)
أولية العربية في الكوفة:
وقد رأينا المتوسمين بالأدب لا يميزون عهد الكوفيين من عهد البصريين، ولا يدرون متى اشتغل الكوفيون بالمذاهب المقصورة عليهم، والحدود المنسوبة إليهم؛ بل يحسبون أن أول بصري في النحاة وجد معه أول نحوي من الكوفيين؛ وذلك جهل فاحش بتاريخ الرواية والجبهة المتقدمة في الرواة, ونحن لم نقف على كلام لأحد في أولية العربية بالكوفة، بيد أن ذلك لم يقعد بنا عن التتبع والاسترواح، كسائر ما نستفرغ الهم فيه من أصول هذا الكتاب وفصوله.
والذي ثبت لنا أن أولية العربية إنما كانت في البصرة؛ لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل لها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين ثم انتقل النحو إلى الكوفة، وكانت الرواية فيها مقصورة على الشعر وما يتصل به من النسب والخبر، كشأنها من أول العهد بالإسلام؛ ومن أقدم رواتهم الخثعمي، وقد أومانا إليه من قبل، ومنهم ثم من أعلمهم، أبو البلاد الكوفي، وكان أعمى جيد اللسان، وهو في زمن عبد الملك بن مروان، فلا بد أن تكون نشأته في منتصف القرن الأول؛ ثم ظهر بعده حماد الراوية، ولهو لحانة لا يذكر في العربية؛ ولكن أول من عرف بالنحو من الكوفيين إنما هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي المتوفى سنة 164هـ، وكان بصريا ثقة، غير أنه انتقل إلى الكوفة وسكن بها زمانًا، وهو من تلامذة أبي عمرو بن العلاء؛ وظهر معه معاذ الهراء واضع التصريف، وقد عمر طويلًا حتى قارب المائة، وتوفي سنة 187هـ، ثم نجم رأس علماء الكوفيين وأستاذهم وأول من ألف منهم كتابًا في العربية، وهو أبو جعفر الرؤاسي، وكان معاذ الهراء عمه، فأخذ عنه، ثم أخذ عن عيسى بن عمر من تلامذة أبي الأسود، وعن هذين "معاذ والرؤاسي" أخذ علي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة 189هـ، وهو الذي رسم للكوفيين الحدود التي عملوا عليها وخالفوا بها البصريين؛ وكان فيهم كالخليل بن أحمد في أولئك.
ثم استفاض نحو الكوفيين من بعده، وتوسع فيه تلميذه الفراء حين ألف كتاب "الحدود"، وكان المأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، وأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار "دار الحكمة"، ووكل به من يكفيه كل حاجته حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوق نفسه إلى شيء، وحتى إنهم كانوا يؤذنونه في حجرته بأوقات الصلوات "تأمل وترحم على ملوك العلماء" وصير له الوراقين، وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون وهو يملي حتى صنف الحدود1.
وفي الكسائي وتلميذه يقول ابن الأنباري "وهو من الكوفيين أيضًا": لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء، لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس؛ إذ انتهت العلوم إليهما، وكان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو.
ومن لدن الكسائي غلب أهل الكوفة على بغداد، لخدمتهم الخلفاء وتقديمهم إياهم كما علمت، فغلبوا بذلك البصريين على أمرهم، ورغب الناس من يومئذ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصل واعتمدوا على الفروع، ومن ذلك بدأ اختلاط المذاهب الذي عده البصريون اختلاطًا للعلم؛ لأن مذاهب الكوفيين ليست عندهم من العلم الصريح.
__________
1 هذا تفسير ما مر من قولهم: لولا الفراء لما كانت اللغة.(1/265)
مذاهب الطائفتين:
وقد انفرد كل من البصريين والكوفيين بمذاهب في العربية استخرجوها من كلام العرب أو وضعوها محاماة لكلامهم، كالذي كان يصنعه علماء الكوفة، وليس من عالم إلا وقد أخذ بمذاهب هؤلاء أو أولئك أو خلط بين المذهبين -كما سنفصله في باب النحو ونذكر أهله إن شاء الله- بيد أن البصريين كانوا يأنفون أن يرووا عن الكوفيين لضعفهم وتعلقهم بالشاذ وارتفاعهم عن البوادي الفصيحة، وكانوا لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة في العربية؛ لأنهم غير خلّص؛ وكما تركوا عربيتهم تركوا شعرهم، لا لأنه فاسد كله، ولكن لمجيئه على مذاهبهم؛ قالوا: وأول من أحدث السماع في البصرة خلف الأحمر، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر؛ فإنه هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس؛ إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء ومع هذا فكان البصريون لا يرون حمادًا ثقة ولا مأمونًا؛ لأنه كوفي وكفى!
أما في النحو واللغة فلا يعلم أحد من علماء البصريين أخذ شيئًا منهما عن أحد من أهل الكوفة، ولا روى عنهم شيئًا من الشعر أيضًا؛ لأن الذين أخذوا عن حماد إنما كانوا يطلبون الشعر ليرووه شعرًا لا ليقيموا منه الشواهد، ولا يعرف في تاريخ البصريين من روى الشعر عن الكوفيين للشاهد، إلا أبا زيد الأنصاري، فإنه روى عن المفضل الضبي؛ لثقته في الشعر وتحريه؛ إذ لم يكن للكوفيين راوية يذكر بإزاء علماء البصرة إلا المفضل هذا؛ وهو أوثق من روى الشعر منهم؛ وقد اختص به دون العربية واللغة؛ ولذلك أمنوا جانبه.
وكان الكوفيون يأخذون عن أهل البصرة، وما من أحد من أساتذتهم إلا وقد تلمذ لبصري، ولكنهم كانوا يتميزون بروايتهم؛ حتى لم يكن فيهم أحد أشبه رواية برواية البصريين إلا ابن الأعرابي "توفي سنة 231هـ" وهو ممن أخذوا عن الكسائي؛ ولم ير أحد في علم الشعر واللغة كان أغزر منه؛ وكذلك لا يعرف أحد في رواة المصرين كان أشد عصبية من ابن الأعرابي هذا؛ قال أبو عمرو الطوسي: كان يدع ما يعرف ويركب الخطأ ويقيم في العصبية عليه.... وكان يضع من أبي تمام، فجئته يومًا ومعي أرجوزته:
وعاذل عذلته في عذله
فقرأتها عليه "على أنها لبعض شعراء هذيل"، فقال: لا تبرح والله حتى أكتبها، فأمليتها عليه فكتبها بخطه، فلما فرغ قلت: هذا الذي تعيبه أبو تمام! فخرقها وقال: ولذا يظهر عليها أثر التكلف!
على أن مثل هذه العصبية إنما تقدر بسببها، وقد كان الأصمعي راوية البصريين، يتعصب على أبي النجم الراجز بالعشيرة؛ لعداوة ما بين ربيعة وقيس، حتى حملته العصبية على أن صرح ببغضه(1/266)
وتتبع سقطاته، وبينهما أكثر من نصف قرن؛ وقال علي بن حمزة في كتاب "التنبيهات"1: إنه كان شديد العصبية على جماعة من الشعر لعلل.... فعلة ذي الرمة اعتقاده العدل، وكان الأصمعي جبريا، وقيل لأبي عثمان المازني: لم قلت روايتك عن الأصمعي؟ قال: رميت عنده بالقدر والميل إلى مذاهب الاعتزال؛ ثم ذكر قصة أنه جاءه يومًا فاستدرجه الأصمعي إلى الإقرار بعقيدته ليغري به العامة، وقال في آخرها: ثم أطبق "يعني الأصمعي" نعليه، وقال: نعم القناع للقدري. فأقللت غشيانه بعد ذلك. قال: وكان الأصمعي لهذه العلة يكثر الأخذ على ذي الرمة ويعترضه مخطئًا أيضًا.
ولا يزال يكون مثل ذلك في العلماء الذين يجعلون العلم وراء العقيدة؛ فهم إذا انتحلوا مذهبا يميزهم في طائفة من الأضداد، ذهبت ريحهم بهذا التضاد فصرفوا العلم إلى جانب الهوى فيه، وجعلوا ألسنتهم من وراء ما يذهبون إليه، يحوطونه ويدرءون عنه ويبغون الغوائل بمن يعترضه دافعًا أو مدافعًا، ولا بد في التسبب لذلك من ضغن علمي يرونه حلالًا بينًا، فإن كان فيه مكروه من النفاسة والتخذيل فكراهة تحليل؛ لأنه في الله أو في الحق الذي هو من الله؛ والضغن متى كانت له سبيل في العلم كان أمد في الصدور، وأرسخ في القلوب، لما يكون معه من خاصة النظر التي تكتنفه بأشعة النفس فتجعله كأنه من أخلاط الطبيعة في التركيب وإن كان من أغلاطها، وتظهره في أشعتها مظهر السحاب الذي يرتفع بقطرات الماء وإن كان بعد ذلك سبب انحطاطها؛ فرحم الله القوم، فإن لهم وجوهًا من المعذرة، تنظر فيها عيون المغفرة، و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .
وبعد، فهذا مجمل من أمر الرواية والرواة، ولولا أني حبست من نفس المقال، وعدلت بالقلم عن انتجاع الغيث إلى البلال لأمضيت البحث لطيته، وتركت الخاطر على سجيته، ولكنها قصبة من جناح قد طار، وأثارة من علم صار من الإهمال إلى ما صار، وإن هو إلا بساط كان منشورًا فطوي، وحديث قيل ثم روي.
__________
1 هو علي بن حمزة البصري اللغوي المتوفى سنة 375هـ، وعنده نزل المتنبي حين ورد بغداد، وقد كانت له عناية لا تعرف لغيره وغير معاصره صاحب "التهذيب" في التتبع على أئمة اللغة وتصفح كتبهم، ولكنه انفرد عن الأزهري بتدوين ذلك؛ فصنف الرد على رواية بعض ما في نوادر أبي زياد الكلابي الأعرابي، ونوادر أبي عمرو الشيباني وما في كتاب "النبات" لأبي حنيفة الدينوري، وما في "الكامل" للمبرد، وما في "الفصيح" لثعلب، وما في "الغريب المصنف" لأبي عبيد، وما في "إصلاح المنطق" لابن السكيت، وما في "المقصور والممدود" لابن ولاد النحوي المصري؛ وسمى مجموع هذه الردود "التنبيهات على أغلام الرواة"، وهو في المكتبة الخديوية، وردوده، كما قال: فيها كلمة مصحفة، وأخرى محرقة، وتفسير غير صحيح، وتأويل غير رجيح، وإعراب غير مليح إلخ.(1/267)
المحتويات:
5 تصدير
9 مقدمة الطبعة الأولى
13 كلمة في هذا التأليف
نهج المؤلف: أثر المستشرقين في تبويب هذا الفن، خطأ تبويب الأدب على التاريخ الزمني، ذهاب الكثير من أصول التاريخ الأدبي، صلة الأدب بالدين والسياسة والعلم، آداب اللغة العربية كلها عصر واحد، نهج المؤلفين في تاريخ آداب العرب، ونهج المستشرقين، تعليق الحواشي وتلخيص المتون، علماء لا يعلمون، مذهب الضم ومذهب التفريق.
19 نمط الكتابة وأبوابه
مراجع المؤلف، وأسلوبه، الأمثلة والمختارات، تحقيق الروايات، أبواب الكتاب.
تمهيد: في فصلين:
21 الفصل الأول: الأدب - تأريخ الكلمة
الأدب والمأدبة، الخلق والتهذيب، علم المؤدبين، فنون الأدب، قال ابن خلدون، الأدب والرواية، وقال ابن عبد ربه، مجلس ابن عباس، علم العرب، حرفة الأدب، الكسب بالشعر، الأدب وفنون المنادمة، الآداب الرفيعة، أدب النديم، الأدباء: العلماء والمتعلمون، الأدباء: الشعراء والكتاب.
26 المؤدبون
المؤدبون والمعلمون، أصحاب العلوم وأصحاب البيان، جريدة المؤدبين.
28 علوم الأدب وكتبه
الشعر، اللغة والنحو، قال ابن الأنباري، وقال الزمخشري، وفي نفح الطيب، كتب الأدب، قال ابن خلدون.
30 الفصل الثاني: العرب
31 بلاد العرب: أقسام العربية
32 أصل العرب: الشعوب الشامية
33 طبقات العرب - العرب البائدة - القحطانية - الإسماعيلية
36 العرب والأعراب: أصل كلمة "عرب"(1/269)
37 الباب الأول: اللغات واللغة العربية
39 أصل اللغات
المذهب التوفيقي، المذهب الوضعي، منطق الحيوان، الدلالة بالإشارة، الصوت.
40 المواضعة على الألفاظ
صوت الطبيعة، ألفاظ الإحساس، تنوع مخارج الحروف، بدء اختراع اللغة، تطورها، أمثلة من لغات الشعوب المنحطة، الكتابة الصورية.
44 تفرع اللغات
اللغة الأولى، أصول اللغات: الآري، والسامي، والطوراني.
46 علوم اللغات
48 اللغة العامة: وأصلها العربي فيما يقال
لغة محيي الدين بن عربي، محاولة تيمورلنك، الأسبرانتو.
50 اللغات السامية
51 الأصل السامي: حركات الإعراب في اللغات، المشابهة بين فروع السامية
53 أصل العربية: الدولة المعينية، الدولة السبئية، الدولة الحميرية، الأحباش
55 مجانسة العربية لأخواتها
صيغ الأفعال، الألفاظ الطبيعية، الضمائر، العدنانية والقحطانية، العرب واليهود.
57 اللسان العربي في الشمال
النبط، التدمريون، خطوط آرامية.
59 تهذيب العربية الأول
أقوال العلماء في تهذيب اللغة، الإسماعيلية والقرشية، لفظ "يعرب".
61 انتشار القبائل العربية: والتهذيب الثاني
تفرق القبائل وتنوع اللهجات، أخذ العرب بعضهم عن بعض.
63 الدور الثالث: في تهذيب اللغة
عمل قريش: أثر الكعبة والتجارة، رحلة الشتاء والصيف. 65 أسواق العرب
أسماء الأسواق ومواسمها، الدخيل في أسواق البياعات.
65 عكاظ
خرافة المعلقات السبع، منطق قريش، سوق المربد، الوحدة اللغوية.(1/270)
67 الأسباب اللسانية
امتياز اللسان العربي، الثقل والخفة، جمع اللغة وضبط قوانينها.
68 أمثلة من هذه الأسباب
الاتباع، الفعل مع الضمير، في إسناد الفعل المضعف، المضعف إذا بني للمجهول، الواو المضمومة في أول الكلمة، والواو المفتوحة، إدغام الهاء في الحاء، من نوادر الإدغام "لغات إلى العامية المعروفة" مراتب الثقل، الاستقلال والمتابعة.
70 مواقع الحروف اللسانية
اكثر الحروف العربية استعمالًا، حروف لا تأتلف في كلمة، سر التأليف في أبنية الكلام.
72 عدة أبنية الكلام
طريقة الخليل بن أحمد، المهمل والمستعمل، أنواع المهمل، عناية العرب بالإحصاء واستقراء النظائر، أسرار الحروف ومعانيها، صيغ الكلام في العربية وصيغ العبرانية والسريانية.
73 أوزان الأفعال في اللغات الثلاث
75 مناطق العرب: الحروف العربية
ترتيب الحروف في الأولية باعتبار مخارجها، ترتيب الأبجدية العربية، كتاب "العين"، تاريخ الحركات.
76 الحروف المتفرعة
77 المستحسنة منها
77 لغات في التخفيف
78 الإمالة
79 المضارعة بين الحروف
80 الحروف المستهجنة
82 صفات الحروف ومخارجها
82 الصفات
84 المخارج
86 اختلاف لغات العرب
87 قبائل العرب(1/271)
88 أفصح القبائل
معنى الفصيح، الأرحاء، الجمرات، أثر العزلة والمخالطة، القبائل الفصيحة، فصاحة النبي، كتبة المصحف، قال الأزهري.
90 معنى اختلاف اللغات
تباين اللهجات وتنوع المنطق، اختلاف دلالة اللفظ. لغة الآحاد، تدرج القبائل في سبيل الوحدة اللغوية، معنى كلمة "لغات"، نسبة اللغات إلى أصحابها.
91 تحقيق معنى اللغات في الاصطلاح
إغفال القدماء تدوين اللغات، الاعتبار الديني، اللغات هي الشواذ والنوادر و..
94 أمثلة اختلاف اللغات
94 النوع الأول: لغات منسوبة ملقبة
الكشكشة، الكسكسة، الشنشنة، العنعنة، الفحفحة، العجعجة، الوتم، الوكم، الوهم، الاستنطاء، التلتلة، القطعة، اللخلخانية، الطمطمانية.
96 النوع الثاني: لغات منسوبة غير ملقبة
إبدال الباء جيمًا، إبدال تاء الجمع هاء، إبدل الياء ألفًا، إبدال الهمزة هاء، اسم المفعول من الثلاثي المعتل بالياء، ألف المقصور، المضاف لياء المتكلم، إبدال الألف ياء في الوقف، أو واوًا، أو همزة، حذف نون "من" الجارة والألف من "على" الجارة, أولا لك قومي، حذف النون من اللذين واللتين في الرفع، أو تشديدها، "ذو" الطائية، الوقف بالسكون على المنصوب المنون، أو قلب التنوين حرفًا لينًا، أو تضعيف الحرف الأخير، قلب الباء الساكنة ألفًا بعد الفتح، إلزام المثنى الألف، إبدال الحاء هاء، إبدال الهاء فاء، أو نونًا، علامة الإنكار من الاستفهام.
100 النوع الثالث: لغات في تغير الحركات
هلم. كسر الفاء من فعيل وفعل، كسر لام الجر مع الضمير، ضم هاء الغائب في لديه وعليه، ضم هاء التنبيه، كسر ياء المتكلم المضافة إلى جمع المذكر، حكاية العلم وحكاية النكرة، منون أنتم، المعاقبة بين الباء والواو "غزيت، غزوت"، إسكان عين المتحرك الثلاثي، تسكين ضمير الجر المتصل.
104 النوع الرابع: لغات غير منسوبة ولا ملقبة
إبدال بعض أواخر الكلمات المجرورة ياء، ألفاظ ينطق فيها بلغتين مع أمن التصحيف، الكاف والجيم، لغات في "لعل، لغات في "عند" و"لدن" و"الذي" وغيرها. لغات في "هو" و"هي". لغات "لا جرم". هاء التأنيث تاء في الوقف.(1/272)
106 النوع الخامس: لثغات في لغة العرب
108 عيوب المنطق العربي
التمتمة والفأفأة وأخواتها, لغات العرب واللهجات العامية المعروفة, رأى في ميراث أهل العامية من لغات العرب القبائل، مناقشة هذا الرأي، العامية لا ترجع إلى قاعدة مضبوطة، أثر التقليد في اللغات العامية، مثال من اختلاف اللغات العامية في كلمة "عليه".
111 البقايا الأثرية في اللغة
الألفاظ ومدلولاتها، زوال مدلولات بعض الألفاظ، التطور في معاني الألفاظ، لاتين العربية، الغريب والمنكر والمتروك والممات، أسماء الشهور العربية المماتة، ومن الممات لغات التصريف، الممات من أسماء العادات بتطور الحضارة، ضمير المعظم نفسه.
114 نمو العربية: وطرق الوضع فيها
سعة اللغة العربية، سبيل اللغات إلى الفناء، اللغة صورة الأمة الناطقة بها.
115 طرق الوضع: استمداد اللغة
115 الارتجال: المناسبة بين اللفظ والمعنى. معاني الأصوات
116 الاشتقاق
الاشتقاق هو الوضع الثاني، أصالة المقاطع الثنائية في حروف العربية وتسلسل اللغة منها، رأي ابن جني في المناسبة بين الألفاظ والمعاني، أمثلة لبيان هذه المناسبة، أسرار الوضع.
119 المجاز
المجاز هو الوضع الأخير في اللغة، تنوع الحقيقة الواحدة إلى أجزاء، المجاز من مظاهر التمدن اللغوي، الوضع بالمجاز هو اشتقاق معنوي، صور من التوسع في اللغة بالمجاز، كلمة ومعانيها "ك ف ف". رأي: اللغة كلها حقيقة!
122 أنواع النمو في اللغة
122 الإبدال
نوعا الإبدال، ترادف الألفاظ المتقاربة على المعاني المتقاربة.
123 القلب
124 النحت
آراء في النحت، أحرف المضارعة، أصل باء الجر في اللغات السامية.(1/273)
125 المترادف
آراء في الترادف، الفروق اللغوية بين المترادفات، لا ترادف في اللغة ولكنها أسماء وصفات، الترادف الجملي والترادف اللفظي، أكثر العلماء على إثبات الترادف مطلقًا، مناقشة هذه الآراء، أسباب الترادف، المترادف نوعان، أمثلة وإحصاء، النوع الثاني من المترادف، تأليف العلماء في المترادف.
127 المشترك
128 المشجر والمسلسل
129 الأضداد
132 الدخيل
أسباب الدخيل، تصرف العرف في الدخيل، أمارة الدخيل.
حروف لا تجتمع في كلام العرب، اللغات التي دخل منها على كلام العرب، دخيل له رديف في لغة العرب.
134 الدخيل في الإسلام
في أيام العباسيين، دار الحكمة والكتب المترجمة، ترجمة الأعلام، الكتب التي وضعت في الدخيل.
136 المولد
136 الألفاظ الإسلامية
مصطلحات أهل الفنون. النقل المجازي في الجاهلية، كلمات عربية كرهوا النطق بها في الإسلام.
138 أمثلة المولد وكتبه
138 الغريب المولد: من توليد المفسرين
140 تمدن العرب اللغوي: فلسفة الفصل
شروط التمدن الاجتماعي.
142 بعض وجوه التمدن
مراعاة النسب الللفظي بين الحروف، عناية الحروف، عناية العرب بالألفاظ دون المعاني، مناقشة هذا الرأي، الاقتصاد اللغوي، حركات الإعراب، حركات التصريف، حركات الفروق التي تنوع المعاني، تصرف العرب في حروف المعاني، المبني للمجهول، المجرد والمزيد، صيغة المفاعلة، عذوبة لغة العرب، التثنية والجمع بأنواعه(1/274)
145 أسرار النظام اللغوي
145 نظام الألفاظ بالمعاني
ابن جني، الألفاظ المتقاربة للمعاني المتقاربة، أنواع هذا التقارب، تصوير اللفظ على هيئة المعنى، مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، تشبيه أصوات الحروف بالأحداث المعبر عنها إلخ، حكاية الأصوات.
147 نظام المعاني بالألفاظ
الألفاظ المعبرة عن المعاني الطبيعية في مختلف مراتبها، مراتب الحب، معاني السرور والغضب وما إليها، فقه اللغة للثعالبي، تحديد أجزاء المعاني بالاصطلاحات العلمية في هرم اللغات.
149 نظام القرينة
سنن العرب، ألفاظ لمعان تعينها القرينة "قاتله الله" الجمع في موضع التثنية ونحوه، المشاكلة والاتباع، القلب.
152 اللغة العامية
اللحن وأوليته، الإعراب في مناطق العرب ورأى العلماء في أمره، خرفشة النحاة، النحو والعروض في العرب العاربة، لا لحن في الجاهلية، أسباب شيوع اللحن، أمثلة من لحن الدواوين. 154 انتشار اللحن
وضع النحو، النحو علم الموالي، أول لحن سمع بالبادية، اللحن في الدولة المروانية، اللحانون والبلغاء، أبناء الأمراء في البادية، الوليد بن عبد الملك، في الدولة العباسية، غناء الملاحين، أغاني الشعب، المتقعرون اللحانون من الرواة والنحويين، عامية أهل الأندلس.
159 فساد اللغة في البادية
قال ابن جني. أعراب الحليمات، لحن الحجازيين، أعراب عكاد. 161 طبائع الأعراب
الأعراب الفصحاء لا يعرفون النحو وعلل الإعراب، امتحان الأعراب، أمثلة من ذلك، لحن الفرزدق، لغة الأعراب ولغة العامة، قال الجاحظ.
163 العامية في العرب
لم يكن للعرب فصيح وعامي، سكان الريف من عرب الجاهلية
فصاحة الأعراب بمقدار بعدهم عن بلاد العجم، مخالطة السوقة في الأمصار شر من مخالطة العجم.(1/275)
165 شيوع اللغة العامية وفساد العربية
أول العامية اللحن، اللحن في المدينة، تأثير الأمصار المفتوحة في لغة العرب، السوقي، الكتب المؤلفة فيما تلحن فيه العامة، اللحن في لسان الخاصة، فصاحة العامية في عهد الأمويين، الدولة العباسية والخراسانية، قال ابن خلدون، عامية المغرب والأندلس، الاعتبار الديني في حفظ اللغة.
167 لهجات العامية وأسباب اختلافها
تاريخ التطور في عامية الشعوب، من قواعد العامية من شرق الأندلس، وراثة المنطق، علل الوراثة وطبيعة الإقليم، الإعراق في العجمة، قال ابن رشيق، العربية في الأندلس، ضعف اللسان ورخاوته، مخالطة الأعاجم، اختلاف أهل الأمصار، في التأثر بالمخالطة، فرنسية أهل الجزائر، عامية البدو، أنساب بقايا العرب في الأمصار، أثر الفصحى في تذهيب ألسنة المتعلمين.
175 الباب الثاني: الرواية والرواة
177 الأصل التاريخي في الرواية
الباعث على توسع العرب في الحفظ، أكثر محفوظهم في المعاني النفسية، محفوظ اليونان، الكتابة والحافظة، الشاعر لسان قومه، رواة الجاهلية.
179 الرواية بعد الإسلام
بدء علم الرواية، شروط الإسناد، التثبت في النقل، أبو هريرة، الرواية على عهد عثمان، الأحزاب والشيع، القصاص وأهل الأخبار، الزنادقة، أول من كذب على النبي.
181 تدوين الحديث
صنيع عمر بن عبد العزيز، كتابة الحديث، الصدور أوثق من الكتب، أول من قرر شروط الرواية، أول من جمع الحديث، كتاب الموطأ، ترتيب الحديث في التدوين.
182 الإسناد في الحديث
سببه، تعدد طرق الرواية لتفرق الرواة في الأمصار. التبسط في فنون الرواية.
184 اتصال الرواية بالأدب
أحفظ الصحابة للأنساب، أرواهم الشعر، ابن عباس، الإسناد في رواية الأدب.
185 أولية التدوين في الأدب
صحيفة أبي الأسود الدؤلي، أول ما دون في الأخبار، كتاب زياد ابن أبيه، أول(1/276)
التأليف في السير، وهب بن منبه، ابن إسحاق، كتاب العين في اللغة، الأنساب وأيام العرب، أول الكتب المسندة في الحديث، كتب أبي عمرو بن العلاء، الحافظ الزهري.
187 تاريخ الإسناد في الأدب
إسناد نصر بن عاصم، الإسناد في المغازي، طبقة حماد وأبي عمرو، غريب الحديث، بدء الإسناد في الأدب، ليس في رواية الأدب سند يتصل بالجاهلية.
189 فائدة الإسناد إلى الرواة
190 حفظ الأسانيد في الحديث
شيء من مصطلح الحديث، التخصيص في الرواية، حفاظ الأسانيد، نادرة.
192 حفظ الأسانيد في الأدب
فرق ما بين الإسناد في رواية الحديث والإسناد في رواية الأدب.
193 أصل التصحيف
الرواية عن الكتب، النقل والشكل، الصحفيون، ضعف الإسناد في الأدب، أبو محمد الأعرابي.
194 إسناد الكتب
شروط الصحة في إسناد الكتب السماع، موفق الدين النحوي، ابن القطاع الصقلي، مقامات الحريري، أول من أدخل كتب اللغة والنحو إلى مصر.
196 الحفظ في الإسلام
نوابغ الحفاظ في التاريخ، الأسباب الدينية في العرب، اختلاف قوة الحافظة، مشتقة الكتابة وأثرها في تقوية الحافظة، بدء تاريخ الحفاظ، ابن عباس صاحب السبعين الأولى، حديث عن أصحاب المئات، الشعبي, نوادر عن الحفاظ، حماد، الأصمعي، أبو محلم الشيباني، بندار بن عبد الحميد، بانت سعاد، ابن الأنباري، حفظ الكتب، نادرة. الفيروزآبادي، أثر الحفظ في التأليف، سنة يجب أن تعود!
203 علم الرواية
مصطلح الحديث، أول من قرر شروط الرواية، أول من صنف، رواية الأدب، ما شرطوه في ناقل اللغة.
204 تقاسيم الرواية
205 وظائف الحفاظ في اللغة(1/277)
الإملاء. الإفتاء في اللغة، الرواية والتعليم، رواية الأكبار عن الأصاغر، مراتب هذه الوظائف.
207 طرق الأخذ والتحمل
السماع، القراءة على الشيخ، السماع على الشيخ بقراءة غيره، الإجازة، الإجازات و"الشهادات"، نموذج من الإجازات، المكاتبة، الوجادة.
209 رواية اللغة
تاريخ لفظتي: اللغة واللغوي.
وفود العرب على النبي، تفسير القرآن وغريب الحديث، ابن عباس ونافع ابن الأزرق، في وضع النحو، أبو الأسود، الخليل بن أحمد واضع "علم اللغة".
212 الأخذ عن العرب
علم العرب والقائمون عليه. تتبع اللغات والسماع من العرب، تجريد القياس. ضعف اللغة في الحضر. طبقات الرواة.
214 الرحلة إلى البادية
بين البصريين والكوفيين، بدء الرحلات إلى البادية، الاقتداء بأصحاب الحديث, تحصيل الشواذ والنوادر، القبائل التي أخذت عنها اللغة، قبائل مشكوك في خلوص عربيتها، أقدم من رحل إلى البادية، رواة الطبقة الرابعة، انتهاء الرحلة إلى البادية.
216 فصحاء الأعراب
تكلف البلغاء محاكاة الأعراب، طروق الأعراب على الحضر، أول الطارئين منهم، إذا تحضر الأعرابي فسدت لغته، الأعرابي لا ينطق الخطأ ولا يتأتى له، ولا ينطق بغير لحن قومه، ولا يفهمه، مثال.
219 المحاكمة إلى الأعراب
تصحيح القياس وضبط الألفاظ وتحقيق المعاني, المسألة الزنبورية, الأعراب في مجالس الأمراء, فساد لسان الأعراب في القرن الخامس.
221 بعض فصحاء الأعراب
223 الوضع والصنعة في الرواية
الصدق والكذب، أسباب الوضع، الكسائي يبكي!
224 افتعال اللغة
كلمات من الغريب، قطرب، ابن دريد، بين نفطويه وابن دريد، غلام ثعلب، نادرة، أبو العلاء صاعد بن الحسن البغدادي، نوادر، حديث الخنفشار.(1/278)
228 وضع الشعر
رواة الشعر في اليونان، وضع الشعر في الجاهلية، الأعشى، وضع الشعر وسرقة الشعر، البواعث على وضع الشعر في الإسلام، المباهاة والمكاثرة، الشعر المحمول على حسان بن ثابت، شعر الشواهد، رواية الأبناء على الآباء.
229 شعر الشواهد
آخر من يستشهد بشعرهم، بين سيبويه وبشار، شواهد القرآن وشواهد النحو، شواهد ابن مالك، شواهد الكوفيين، الشواهد في كتاب سيبويه.
232 شواهد أخرى: شواهد يفتعلها المعتزلة
233 الرواة الوضاعون للشعر: السمر ولهو الحديث
233 الشواهد على الأخبار
234 شعر الجن وأخبارها
رأي في تعليل دعوى الأعراب عن شعر الجن، أول من أسلم من الجن, أنبياء الجن، في غزوة بدر، رضيع الجن!
235 الاتساع في الرواية
حماد الراوية، خلف الأحمر، لامية العرب، اعتراف خلف، الكوفيون في رأي علي بن أبي طالب، أصل امتياز الكوفيين في الرواية، عمرو بن العلاء، بعض البواعث على الوضع، قصيدة أبي طالب في النبي، المعلقات وقصيدة أبي طالب، ابن دأب قاص المدينة، متأخرو الرواة.
239 ضرب من الوضع
نسبة الشعر لغير قائله لاستخلاص الحكم عليه بغير هوى، رواية النثر.
240 التعليق على الكتب
240 الشوارد
241 اختلاف الروايات في الشعر
أسباب هذا الاختلاف، هوى النفس، الاعتماد على الحفظ، توجيه الحجة، التصحيف، تزيد الرواة، مثال.
243 التزيد في الأخبار
البواعث عليه، مذهب الشعوبية، تكاذيب الأعراب "الميثولوجيا". القصص على عهد معاوية.
246 القصاص(1/279)
القصاص في جيش بني أمية، أول من قص من التابعين، دروس القصص في المساجد، أخبار الأمم السالفة، عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه، الحسن البصري وأمه، القصاص للعامة، الوعاظ بعد القصاص.
249 الرواة: رأي الرواة بعضهم في بعض، كتب الطبقات
250 البصرة والكوفة
252 عنايتهم بالرواة
الرواة في عهد بني أمية، معاوية وعبيد الله بن زياد، احتفالهم بشعر المراثي في الدولة المروانية، في الدولة العباسية، في مجلس الرشيد، بين الأصمعي والمأمون، نادرة!
255 علوم الرواة
256 النسب
رواة النسب، قريش وشعراء الهجاء، عقيل بن أبي طالب.
256 الطبقة الثانية من رواة النسب
257 الطبقة الثالثة من رواة النسب
257 الخبر والأخباريون
أخبار العرب وأخبار الفتوح، ابن الكلبي، الطبقة الثالثة من الأخباريين.
258 رواة العرب
259 الشعر
الغرض من رواية الشعر، أنواع ثلاثة، أبيات المعاني، احتفال الرواة بلفظ الشعر دون معناه، العناية بالمعاني في عهد العباسيين، أدباء الكتاب، رأي الجاحظ في رواة عصره.
262 العربية واللغة
رواة اللغة ومراتبهم وما يتميز به بعضهم عن بعض, قال الأزهري.
264 البصريون والكوفيون
265 أولية العربية في الكوفة
رواة الكوفيين، وعلماؤهم: الكسائي والفراء والمأمون.
266 مذاهب الطائفتين
ابن الأعرابي وعصبيته، الأصمعي البصري وعصبيته، خاتمة.(1/280)
المجلد الثاني
المقدمات
فاتحة
...
فاتحة:
هذه هي الطبعة الثامنة من إعجاز القرآن لم نزد فيها شيئًا على ما كان في الطبعات السابقة، إلا ما كان من تعليق بعض الحواشي التي كان أعدها المؤلف -رحمه الله- وكتبها بخطه ثم أودعها غلافها إلى أوان فأعجله الموت عما أراد! وإلا ما دعت إليه من تعليقات قليلة في حاشية بعض الصفحات لتحقيق فكرة أو تبيان معنى أو الإشارة إلى مرجع.
وإني لأرجو أن أكون بما بذلت من جهد في تصحيح هذا الكتاب وضبط كلمه وتحقيق أصوله قد بلغت ما أردت حين نصبت نفسي لهذا العمل حرصًا على إبلاغ النفع، ووفاء بحق العلم على أهله، واعترافًا بما أدين وتدين العربية كلها للرافعي من أياد لم يجد من يشكرها ويذكره بها!
على أنه لا يفوتني أن أسأل القارئ المعذرة مما قد يجد في صفحات هذا الكتاب من أخطاء أعجل الزمن عن تصحيحها، أو اقتحمتها العين في التلاوة، أو خدعتني النفس فيها على سهوة، فإن ذلك مما لا يتهيأ التحرز من مثله في كل الوقت.
ولقد كنت على أن أشير في هذه الفاتحة، إلى تاريخ هذا الكتاب، والغرض الذي هدف إليه مؤلفه، وما بلغ به عند الأدباء وقراء العربية، ولكن المقام لا يتسع، فحسبي ما أثبت من ذلك في كتاب "حياة الرافعي" فليرجع إليه من يلتمس الوسيلة إلى شيء من هذا البيان، والله يهدي من يشاء.
محمد سعيد العريان(2/3)
كلمة المغفور له سعد باشا زغلول في هذا الكتاب:
مسجد وصيف في 1/ 11/ 1926.
حضرة المحترم الفاضل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي.
تحدى القرآن أهل البيان في عبارات فارغة محرجة، ولهجة واجزة مرغمة، أن يأتوا بمثله أو سورة منه، فما فعلوا، ولو قدروا ما تأخروا، لشدة حرصهم على تكذيبه ومعارضته بكل ما ملكت أيمانهم، واتسع له إمكانهم.
هذا العجز الوضيع بعد ذاك التحدي الصارخ، هو أثر تلك القدرة الفائقة، وهذا السكوت الذليل بعد ذلك الاستفزاز الشامخ، هو أثر ذلك الكلام العزيز.
ولكن أقوامًا أنكروا هذه البداهة وحاولوا سترها, فجاء كتابكم "إعجاز القرآن" مصدقًا لآياتها، مكذبًا لإنكارهم، وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة مشتقة من أسرارها، في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.
فلكم على الاجتهاد في وضعه والعناية بطبعه شكر المؤمنين، وأجر العاملين والاحترام الفائق.
سعد زغلول(2/5)
مقدمة الطبقة الثالثة: للمؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بما أنعم، سبحانه، على الإسلام وأهله.
وأما بعد: فهذه هي الطبعة الثالثة من نسخ كتابي هذا، تظهر اليوم وإن فينا مع فريق الطباعة فريق المعصية1، ومع أهل اليقين عصبة الشك، ومع طائفة الحقيقة دعاة الشبهة، ومع جماعة الهداية أفراد الضلالة؛ ويتخذون العلم دربة لإفساد الناس وتحليل عقدهم الوثيقة، وتوهين أخلاقهم الصالحة القوية، ويزعمون للعلم معنى إن يكن بعضه في العلم فأكثره في الجهل، وإن يكن له صواب فله خطأ يغمر صوابه، وإن كان فيه ما يرجع إلى عقول العلماء ففيه كذلك ما يرجع إلى عقولهم هم..... ناهيك بها عقولًا ضعيفة معتلة غلب عليها الكبد، وأفسدها التقليد، ونزع بها لؤم الطبع شر منزع، حتى استهلكها ما أوبقهم من فساد الخلق، وما يستهويهم من غوايات المدينة، فجاءونا في أسماء العلماء ولكن بأفعال أهل الجهل، وكانوا في العلم كالنبات الذي خبث: لا يخرج في الأرض الطيبة، إلا خبيثًا وإن كان زكا ونما وجرى عليه الماء وأنبثت فيه الشمس وانقلب ناضرًا يرف رفيفًا؛ لأن هذه العناصر إنما قوتها وطيبها لإخراج ما فيه كما هو نكدًا أو خبثًا.
وإنك لن تجد سيماهم إلا في أخلاقهم فتعرفهم بهذه الأخلاق فستنكرهم جميعًا، ولتعلمن عليهم كل سوء، ولترينهم حشو أجسامهم طينًا وحمأة، في زعم كذب يسمي لك الطيب طيبًا، والحمأة مسكًا، ولتجدن أحدهم وما في السفلة أسفل منه شهوات ونزعات وإنه مع ذلك ليزور لك ويلبس عليك فما فيه من لون عندك يعيبه إلا هو عنده تحت لون يزينه، ولا رذيلة تقبحه إلا هي في معنى فضيلة تجمله، فخذ منه الكذب في فلسفة المنفعة، والتسفل في شعاعة الغريزة، والوقاحة في زعم الحرية، والخطأ في علة الرأي والإلحاد في حجة العلم، وفساد الطبيعة في دعوى الرجوع إلى الطبيعة، وبالجملة خذ أفعالهم فسمها غير أسمائها وانحلها غير صفاتها واكذب بالألفاظ على المعاني وقل علماء ومصلحون وأنت تعني ما شئت إلا حقيقة العلم والإصلاح.
أيتها الحصاة، ما يسخر منك الساخر بأكثر من أن يجلوك على الناس في علبة جوهرة.
وأنت أيها القارئ فلا يغرنك منهم من يلبس العمامة يتسم بسمة الشرع، ثم ذهب أين يذهب وشعلة الجحيم العلمية تدور في رأسه تهفو من ههنا وهنا.
ومن تراه في ثياب المعلم يتلبس بالفشء كما يتلبس الداء بعضو حي: لا يدع أبدًا أن يغمز غمزة ويبتلي بما فيه من ضعفة وبلاء، فلا يصلح إلا على إفساد الحياة، ولا يقوى إلا على إضعاف القوي، ولا يعيش إلا على غذاء من الموت، كأن هذا المعلم -أخزاه الله- كان من قبل دودة في
__________
1 يعني المؤلف من يعني ممن ذكر في كتابه "تحت راية القرآن" ويذكر القراء أن الطبعة الثالثة من هذا الكتاب ظهرت سنة 1928 وإبان اشتداد المعركة بين الجديد والقديم. انظر كتابنا "حياة الرافعي".(2/7)
قبر ... ثم نفخه الله إنسانًا يجعله فيما يبلو به الخلق، ويضرب الحياة به ضربة انحلال وبلى وتعفن.
ومن تراه قد سخر به القدر أشد سخرية قط، فضغطه في قالب من قوالب الحياة المصنوعة فإذا هو في تصاريف الدنيا كاتب مرشد متنصح ينفث دخان قلبه الأسود ويعمل كما تعمل الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس صحفًا منشرة من غبار الأرض، إن لم تكن مرضًا فأذى، وإن لم تكن أذى فضيق، وإن لم تكن ضيقًا فلن تكون شيئًا مما يساغ أو يقبل أو يحب!
يحتجون بالعلم، وهذا العلم لا ينفي شبهة ولا يحل مسألة مما هو فوق العقل، ولا بد أن يكون للعقل "فوق" وإلا كان هو تحت المادة وسطت هي عليه وأصبحت الحياة بلا غاية والإنسانية بلا معنى، وهذا العلم كيف اعتبرته إن هو إلا ترجمة جزء من الوجود إلى الكلام والعمل، فهو لا يوجد شيئًا غير موجود؛ وإنما يكشف عن الوجود ويتسع في العبارة عنه ويحاول جعله كلا بنفسه، وما هو إلا ظاهرة من جزء من كل ما وراء الكل؛ فمن ثم كان من طبيعة البحث العلمي أن يستجر الفاسد الصحيح، ويخلط اليقين بالظن، ويضرب المقطوع به في المشكوك فيه، ومتى استقام هذا فصار عملًا، واتسق فرجع نظامًا، خرج إلى تشبيه الباطل بالحق، وتلبيس الخطأ بالصواب، فيكون من العلم ما هو علم وقت وجهل وقت بعده، وبعد منه ما هو حق في زمن على حين أنه شبهة زمن يتلوه، وهكذا ترى في الزمن العقلي شبيهًا بما يتعاور الزمن الحسي من تقلب الليل والنهار فلا يزال لكل أبيض تليه الأسود، ولكل أسود تليه الأبيض, إذا كان لا بد من طبيعتين إحداهما تجمع والأخرى تفرق، ومن قوتين إحداهما للتمثيل بين المتشابهات والأخرى للتضريب بين المتناقضات.
أي: علم هذا الذي يحتجون به وهم يرون الإنسان قد جعله عقله كونًا وحده ثم يرون في الكون الكبير يقينًا ساريًا مطردًا هو الحافظ لنظامه، الضابط لدقائقه، الممسك بمقادير أجزائه؛ فكيف يصلح الكون الصغير الإنساني إلا على يقين مثل هذا ينزل من النفس وطباعها ونظام حياتها هذه المنزلة، من الجماعة، إلى الأمة، إلى المجتمع كله، بحيث يلائم بين المتفرقات ويجانس بين المختلفات! وينقص من الزائد ويزيد في الناقص، ويقوم من الاجتماع مقام الحاكم على تلك الأسباب المجهولة التي تدفع الجماعات في كل لحظة إلى قضايا النزاع في مصالحها العالمية، وتديرها على قانون التجمع والتألف كما تديرها على قانون التفكك والتبعثر في وقت معًا.
لقد أثبت تاريخ الإنسانية أن هذا اليقين الساري فيها لن يكون غير الدين، فهو وحده معنى الجاذبية بين المعلوم الذي تبدأ النفس سيرها منه، وبين المجهول الذي تصير النفس إليه طوعًا وكرهًا؛ وما دامت الجاذبية فيه وحده فلن يستطيع شيء غيره أن يقيم حدود الإنسانية أو يحفظ ما يقيمه منها؛ وما غاية العلم إلا أن يكون قوة في هذه الحدود أو قوة لبعضها على بعضها بمنفعة أو مضرة وهي في الجملة ما اصطلحوا على تسميته بالآداب الإنسانية والأخلاق الإنسانية.
على أنك ترى أصحابنا ... لا يتحاملون على شيء ما يتحاملون على القرآن الكريم، فهم(2/8)
يخصونه بمكاره العلم كلها، ويجفون عنه أشد جفاء، وإنهم وإياه في غرورهم وأوهامهم لكالطيارات غرها أن تصعد في الجو فمضت حاشدة في حملة حربية إلى فلك الشمس.
ألا إن دون هذه الشمس سنن الكون وقوانين الأقدار ونظام الأبدية، مما تستوي عنده طيارات الأرض ودبابات الأرض ... حتى ما بين هذه وهذه منزلة أو فرق، وإن جعل العلم بينهما فروقًا وفروقًا ومنازل ومنازل.
دع جهلهم باللغة وأسرار البيان، فهو السبب الحق الذي ضل بهم وجعلهم يرون القرآن كلامًا من الكلام يجرون عليه الحكم الذي يجري على غيره، كما يظن الجاهل الذي ليس في نظره معان عقلية, كل صورة ككل صورة وكل حصاة ككل جوهرة، ويذهب يقيم لك البرهان على صحة نظره من الخطوط والتقاسيم والألوان والأوصاف ومعان فلسفية اقتصادية.... دع هذا وخذ في السبب العلمي الذي ينقمونه من القرآن فهم يرونه صورة من الثبات والاستقرار، ويعلمون أن العقيدة قد محته من قانون التحول والتغير وجعلته في ذلك قانونًا وحده؛ ثم يقفون عند هذا وحسب فما ندري أمن علم أم جهل لا يصدقون أن في العالم معجزات والمعجزة ماثلة بين أيديهم على مقادير متفاوتة ودرجات مختلفة، تبدأ من إعجاز القوي للضعيف، ثم الأقوى للقوي، ثم الشاذ للأقوى، ثم ما كان إلهيا لما كان إنسانيا.
لا يعلمون -أصلحهم الله- أن استقرار القرآن وهو شريعة وأخبار وآداب، هو بعض أدلة إعجازه، بل أقواها، بل دليلها الزمن المنسحب على الزمن، إذا كانوا قومًا يجهلون ولا يحققون، كالذي يحبس عينه على الظل ولا ينظر فيما وراءه مما يفيء عنه الظل تارة قصيرًا وتارة طويلًا وحينًا مجتمعًا وحينًا ممتدا ثابتًا ومرة متحولًا، فإن هذا القرآن أشبه بالأثر المبني بناء "كالهرم الأكبر مثلًا" وقد تركه تاريخ زمن ليعين للأزمنة الأخرى صفة ثابتة لا تحتمل هذا التأويل الذي لا بد أن يعتري في كل عصر من طبائع أهله، وتقلب هذه الطبائع. وتنوع هذا التقلب واختلافه، ولكنه مع ذلك كتاب، أي: كلام ومعان تتسع لكل الأزمنة وتحتمل اختلافها الذي تختلف به، ثم هي تحدد هذا الاختلاف فترده إلى القانون الإنساني الأعلى الذي يسري فيه اليقين العام ليحفظ الإنسانية على أهلها، ومن ثم تراه يجمع في نفسه الثبات الزمني، فلا يتغير ولا يتبدل على ما يمتد الزمن ويتغير، ثم يجمع إلى ذلك لكل جيل قوة التأويل في معانيه الحادثة الصحيحة، وقوة التكوين في آدابه الصالحة القوية كأنه ليس من زمن مضى، ولا كان لأمة سلفت، ولا هو لتاريخ وقع وانقطع، فإذا أنت تدبرت هذا واستدللت عليه بما أظهره هذا الجيل العلمي في القرآن مما وافق الحقائق الطبيعية والكونية والاجتماعية1 فلن يأتي لك من ذلك إلا معنى واحد تستخرجه وتقع به، وهو أن هذا الكتاب الكريم أثر غيبي كان في علم الله قبل
__________
1 قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلًا جدا. وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله إذ لو كان صلى الله عليه وسلم فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم، لجمد القرآن جمودًا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها، فإن كلام الرسول نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسان يفسر كتاب الإنسانية، فتأمل حكمة ذلك السكوت: فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه. "المؤلف".(2/9)
كل الأزمنة، فهو يحويها كلها وكأنه معها كلها، وبذلك يتعين أنه هداية إلهية في أسلوب إنساني يحمل في نفسه دليل إعجازه، ويكون القرآن منفردًا في التاريخ بأنه منذ أنزل لا يبرح في كل عصر يظهر من ناحيتين صادقتين: ناحية الماضي، وناحية الحاضر.
فثباته على خلاف قاعدة الثبات الإنسانية، إعجاز ليس في العجب أبدع منه إلا تحول معانيه على غير قاعدة التحول، إنه وجود لغوي ركب كل ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية؛ فهو يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيء, وهذا وحده إعجاز. ثم هو لن يكون كفاء ذلك ولن يقوم به إلا إذا كان معجزًا أهل اللغة جميعًا، فتذكر به اللغة ولا يذكر هو بها؛ وبذلك يحفظها؛ إذ يكون في إعجازه مشغلة العقل البياني العربي في كل الأزمنة، يأتي الجيل من الناس ويمضي وهو باق بحقائقه ينتظر الجيل الذي يخلفه؛ كما أنه مشغلة الفكر الإنساني إذا أريد درس أسمى نظام للإنسانية في حرامها وحلالها مما تحله مصلحة الاجتماع أو تحرمه.
وهنا معنى دقيق بديع فإن الأديان إنما كانت على النبوات، ولم يأت دين من الأديان بمعجزة توضع بين أيدي الناس يبحث فيها أهل كل عصر بوسائل عصرهم غير الإسلام، بما أنزل فيه من القرآن, فكأن النبوة في هذا الكتاب متجددة أبدًا يلتقي بروحها كل من يفهم دقائقه وأسراره، فلا يلبث البليغ الذي يفهم القرآن -ولو لم يكن من أهله المؤمنين به- أن يستيقن في نفسه أنه حارس على اللغة، ثم يغلو في هذا اليقين فإذا هو قد أوحت إليه نفسه أنه ليس حارسًا على اللغة العربية فحسب، ولكنه كذلك من حراس المعجزة.
ولو كان الإنسان باقيًا بقاء المادة لجاز أن يتحول، بل لوجب أن يتحول ولكن فناء الناس جميعًا من أول تاريخ الإنسانية برهان حي مستمر الدلالة على أن هذه الإنسانية محدودة بحقائقها محصورة في معانيها، وأن عليها طابعًا إلهيا يؤذن أنها مفروغ منها، وإذا كان ذلك من أمرها وجب أن تكون حدودها بينة صريحة في أعاليها وأسافلها؛ وإذا صح هذا لزم أن يكون لها كتاب منزل من الله، فإذا نحن أصبنا تلك الحدود في القرآن ورأينا أثر القرآن في الآخذين به والمهتدين بهديه، فلا علينا أن نقول بصيغة الجزم: إن القرآن كتاب أنزل لتكون كل نفس سامية نسخة حية من معانيه، وليكون هو النفس المعنوية الكبرى، فهو كتاب ولكنه مع ذلك مجموعة العالم الإنساني*.
مصطفى صادق الرافعي
__________
* كنا نريد الزيادة في هذه الطبعة ما وسعنا، وأن نمد في الكتاب ما تبلغ الطاقة غير أن ذلك يخرج بنا إلى مضاعفة حجمه، إذ تتناول الزيادة بسط أسرار الإعجاز في آيات كثيرة، والتوسع في معانيها بما تطابق المناحي التي يذهب إليها كلامنا في هذا الجزء، وذلك عمل لا يستوفيه إلا كتاب برأسه، فتركنا ما كان على ما كان "إلا قليلًا حذفًا أو تنقيحًا أو تكملة"، والله المستعان فيما سيكون بحوله تعالى وقوته. ا. هـ من تعليق المؤلف، ونقول: إننا وقفنا فيما وقفنا عليه من منشآت الرافعي الأدبية على فصول من كتاب "أسرار الإعجاز" وقد بسطنا الكلام عنه في كتابنا "حياة الرافعي".(2/10)
مقدمة الطبعة الثانية:
عرض الكتاب *:
بقلم المرحوم السيد محمد رشيد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول، وقد تحدى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه؛ على شدة حرص بلغائهم على إبطال دعوته، واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى جميع الأمم فظهر عجزها أيضًا. وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في فصاحته دون هدايته، ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم, ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم.
ثم ابتدع بعض الأذكاء في القرن الماضي دينًا جديدًا وصنعوا له كتابًا1 توخوا وتكلفوا فيه تقليد القرآن في فواصله وادعوا محاكاته في إعجازه بهدايته، ومساهمته بإنبائه عن الأمور الغائبة المستقبلة، فكان من خزيهم وخذلان الله لهم أن اضطروا إلى كتمان هذا الكتاب المختلق والإفك الملفق، ليكلا يفتضحوا بظهوره، وهم ما زالوا يجمعون ما كانوا طبعوه من نسخه قبل أن يظهر فيهم الداهية الواقف على مخازي تزويره، وهم يحرقون ما جمعوه منها، ولعلهم ينقحونه ثم يبرزونه لجيل لم يطلعه عليها.
وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله، الصادين عن دين الله، قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابا جددًا، وللتشكيك في الدين طرائق قددًا، منها الطعن في اللغة العربية وآدابها، والتماري في بلاغتها وفصاحتها، وجحود ما روي عن بلغاء الجاهلية من منظوم ومنثور، وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور، ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين، إلى هجر أساليب الأولين، واتباع أساليب المعاصرين.
__________
* خصص هذا العرض في الأصل للطبعة الثانية من الكتاب في إخراجه المستقل باسم "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية".
1 هم البهائية. وهيهات أن يأتوا بقرآن إلا إذا خلقوا سبع سماوات ولم نشر إلى معارضتهم في كتابنا هذا لا تسمى معارضهم ولا تذكر. "المؤلف".(2/13)
ومنهم الذين يدعون إلى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن الخاصية المضرية، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام وعن الإيمان بإعجاز القرآن، فإن من أوتي حظا من بيان هذه اللغة، وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته، وقد صرح بهذا من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتاب "الخواطر الحسان"1.
وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام مرة يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة، لحكيم من حكمائها، فكان مما قرأ علي منه بالترجمة العربية، رد المؤلف على من قال من دعاة النصرانية إن محمد صلى الله عليه وسلم لم يأت بمثل آيات موسى وعيسى المسيح "عليهما السلام" قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مولهًا مدلهًا2، صادعًا ومتصدعًا، فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات الأنبياء من قبل3 ا. هـ.
لقد حار العلماء في كشف حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن، وبعد أن ثبتت عندهم بالوجدان والبرهان، حتى قال بعضهم إن الله تعالى قد صرف عنه قدر القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم، وذلك أن إدراك كنه العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة والمقام مقام عجز مطلق، فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد والأثير في المادة, والكهرباء في الكون: تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها، وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يستغنى عنها.
كذلك ما عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء على الإتيان بسورة مثل سور القرآن في الهداية والأسلوب أو حسن البيان، فيه لذات عقلية وروحية وطمأنينة ذوقية وجدانية، تتضاءل دونها شبهات الملحدين وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين.
فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا، وهو من فروض الكفاية وقد تكلم فيه المفسرون والمتكلمون. وبلغاء الأدباء المتأنقون، ووضع الإمام عبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة كتابيه
__________
1 نقول وصرح لنا بذلك أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية، وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه "نجعة الرائد" وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران، ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا أستاذه بمثل ما أقر به اليازجي! والأمر بعد إلى العقل، والعقل ليس له دين إلا الحق، والحق واحد لا يتغير. "المؤلف".
2 قال لي الأستاذ الإمام: أن المؤلف استعمل هنا كلمة إفرنسية لا أعرف لها مرادفًا في لغتنا العربية، معناها أنه كان يقرأ في حال مؤثرة في نفسه وفي نفس من يسمع قراءته، نعبر عنها بالتدله. "رشيد رضا".
3 ومما يناسب هذا وجهًا من المناسبة ما نقله صديقنا حجة العصر الأمير شكيب أرسلان، قال: إن لوثير وكلفين المصلحين المعروفين في التاريخ المسيحي، ذكرا مرة أمام فولتير فيلسوف فرنسا، فقال إنهما لا يليقان حذاءين لنعال محمد صلى الله عليه وسلم. هذا وفولتير ملحد، فكيف بالمؤمنين؟ "المؤلف".(2/14)
"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لإثبات ذلك بطريقة فنية، وقواعد علمية، وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها كتاب "إعجاز القرآن" للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره؛ لأنه طبع مرتين أو أكثر، فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنعت فيها تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان، إذ هي داعية إلى قول أجمع وبيان أوسع، وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب، وأخلب للب, وأصغى للأسماع، وأدنى إلى الإقناع.
استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع، والشاعر الناثر المبدع، صاحب الذوق الرقيق، والفهم الدقيق، الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها والمثاني، صديقنا الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" فصنف في إعجاز القرآن سفرًا لا كالأسفار، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت به الأوائل، فكان مصدقًا للمثل السائر "كم ترك الأول للآخر", ناهيك بمنثور لآلئه في نظم القرآن العجيب، وأسلوبه المباين لجميع الأساليب, فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل، يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل، ولا هو مسجوع كسجع الكهان، ولا شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان. ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين والكلمات، والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع، الطولى منها لا تتجاوز سطورها جمع القلة، وأطولها آية الدين، فقد تجاوزت مائة كلمة، وكل نوع يؤدى بالترتيل اللائق به، المعين على تدبره.
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه، وددت لو مد هذا البحث مد الأديم، بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم، فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات في طولها وقصرها، وقوافيها وفواصلها، ومناسبة كل منها لمواضيع الكلام، واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام1.
كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا أعرض بها كتابه هذا على القارئين، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل، ولا سيما قصار سور المفصل، فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله، دع ما فيها من غرر مباحثه وحجوله، إذ لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح لقراء العربية عامة والمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص: بأن يقرءوا هذا الكتاب، بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم، والتفقه في كتاب الله تعالى، وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه، مما لا يجدونه في غيره.
قال شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: "إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج القرآن بلحمه ودمه، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون".
وقال أيضًا: "فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة، وذلك بممارسة الكلام البليغ منها".
__________
1 قلنا سيكون هذا إن شاء الله غرض كتاب برأسه في "أسرار الإعجاز" والنية معقودة عليه من قديم، كما أشرنا إليه في هذا الكتاب، فاللهم عونك وتيسيرك.(2/15)
وقال في وصف من امتزج القرآن بدمه ولحمه حاكيًا عن نفسه: "إني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق به كما أنزل عليه -أو نزل به عليه- جبريل عليه السلام" وبهذا امتاز الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى- على الأقران إن كان له أقران1.
إن الله تعالى قد أوجد بالقرآن أعظم انقلاب في البشر، بتأثيره في أنفس العرب، إذ جعلهم بعد أميتهم أساتيذ الأمم وسادة العجم، وما فقد المسلمون هدايته إلا لجهلهم بأسرار لغته، لذلك يهاجمه أعداؤه الملاحدة والمستعمرون من طريق لغته، فليعلم المسلمون هذا، وليحرصوا على حفظ دينهم يحفظ لغتهم وممارسة آدابها وأسرار بلاغتها ولتكن غاية هذا كله فهم القرآن، كما كان يفهمه سلفنا الصالح "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".
القاهرة - ربيع الأول سنة 1346
محمد رشيد رضا
منشئ مجلة المنار
__________
1 انظر وصفنا للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- في آخر كتابنا "السحاب الأحمر".(2/16)
مقدمة الطبعة الأولى
...
مقدمة الطبقة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} .
الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه، أما بعد فإنا قد أفردنا هذا الجزء بالكلام في إعجاز القرآن الكريم وفي البلاغة النبوية، وقصرنا من ذلك على ما كان مرجع أمره إلى اللغة في وضعها ونسقها والغاية منها، إلى ما يتصل بجهة من هذه الجهات، أو يكون مبدأ فيها أو سببًا عنها، أو واسطة إليها، وهذا هو في الحقيقة وجه الإعجاز الغريب الذي استبد بالروح اللغوية في أولئك العرب الفصحاء, فاشتملت به أنفسهم على خلق من العزيمة الحذاء1 دائبًا لا يسكن كأنه روح زلزلة. فلم تزل من بعده ترجف بهم الأرض حيث انتقلوا.
ولا يخفين عليك أن ذلك في مرده كأنه باب من فلسفة اللغة، فهو لاحق بما قدمناه من أمرها2 يستوفي ما تركناه ثمة، ويبلغ القول في محاسنها وأسرارها، فيكون بعض ذلك تمامًا على بعضه، إذ اللغة هناك مفردات واللغة ههنا تراكيب، وليس رجل ذو علم بالكلام العربي وصنعته ينازع أو يرتاب في أن القرآن معجزة هذه في بلاغة نظمه واتساق أوضاعه وأسراره، فمن ثم كانت مادة الاتصال في نسق التأليف بين هذا الجزء والذي قبله.
على أن القوم من علمائنا -رحمهم الله- قد أكثروا من الكلام في إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأي3 لونوا فيها مذاهبهم ألوانًا مختلفات وغير مختلفات بيد أنهم يمرون في ذلك عرضًا على غير طريق4 ويشتقون في الكلام ههنا وههنا من كل ما تتمرس به الألسنة5 في اللدد والخصومة، وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم6، وليس وراء ذلك كله إلا ما تحصره هذه المقاييس من "صناعة الحق"7 وإلا أشكال من هذه التراكيب الكلامية، ثم فتنة متماحلة8 لا تقف عند غاية في اللجاج والعسر.
وقد كان هذا كله من أمرهم وعلمهم، وكان له زمن وموضع، وكانت تبعثهم عليه طبيعة ورغبة، والمرء بروح زمانه أشبه، وبحالة موضعه أشد مناسبة ولا بد من طبقة في الموافقة بين الأشياء
__________
1 الماضية التي لا يلوي صاحبها على شيء.
2 في الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" وهو مقصور على الكلام في اللغة وروايتها.
3 أصناف.
4 أي: على غير جهة معينة، والمعنى أنهم يأخذون في كل جهة ولا يوفون جهة حقها.
5 تتجادل.
6 عقائدهم.
7 كناية عن علماء الكلام، وفنهم يقوم على الجدل والمنطق.
8 متطاولة لا تكاد تنقضي. "المؤلف".(2/17)
وأسبابها، فإن تكن هذه الحوادث هي تاريخ الناس، فإن الناس أنفسهم تاريخ الحوادث.
ولا نطيل عليك باستقصاء القول في آرائهم وكتبهم في الإعجاز، فإن شيئًا من ذلك تفصيل يقع في موضعه مما تستقبل من هذا الكتاب؛ ولكنا ننبهك إلى ما قسمناه لك من الرأي في هذا الموضع، وما تكلفناه من الخطة في هذا التأليف، فإنا لم نسقط عنك كل المؤنة، ولم نعطك إلى حد الكفاية التي تورث الاستغناء، بل نهجنا لك سبيلًا إلى الفكر تتقدم أنت فيه، وأعناك على جهة في النظر تبلغ ما وراءها، وتركنا لك متنفسًا من الأمر تعرف أنت فيه نفسك، وجمعنا لك بالحرص والكد ما إن تدبرته وأحسنت في اعتباره وأجريته على حقه من التثبت والتعرف، كان لك منبهة إلى سائره، ومادة فيما يجيش إليك من الخواطر التي لن تبرح ينمي بعضها بعضًا.
ولسنا نزعم -حفظك الله- أن كتابنا هذا على ضعفه وقلة الحشد فيه1 قد أحاط بوجوه الإعجاز من كتاب الله، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنا لم ندع من ذلك لغيرنا ما يرفعه أو يضعه وما ينقصه أو يتمه، فإن من ادعى ذلك زعم باطلًا، وأكبر القول فيما زعم وبلغ بنفسه لعمري مبلغًا من السرف لا قصد معه في التهمة له وسوء الظن به، ودعا إليه من النكير ما لا قبل له برده أو بسط العذر فيه، وكان خليقًا أن يكون قد جاء ببهتان يفتريه بين يديه، وأن يكون ممن لا يتحاشون الكذب الصرف، ولا يضنون بكرامتهم على الألسنة. فإن مكاره هذا البحث مما لا يسعه طوق إنسان وإن أسرف على نفسه من القهر، ولا يصلب عليه قلم كاتب وإن كان هذا القلم في يد الدهر، ولا بد للباحث في أوله من فلتات الضجر، وإن اعتد، وفي أثنائه من سقطات العزم وإن اشتد، وفي آخره من العجز والانقطاع دون الحد.
على أنا مع ذلك استفرغنا الهم، والتمسنا كل ملتمس، وبرئنا إلى النفس من تبعة التقصير فيما يبلغ إليه الذرع أو تناله الحيلة، فنهضنا لذلك الأمر نهضًا وسبكنا فيه سبكًا محضًا، فإن قصرنا فضعف ساقه العجز إلينا، وإن قاربنا فذلك من فضل الله علينا.
وبعد فإنا نقول: إنه لا بد لمن ينظر في كتابنا من إطالة الفكر والتأمل. فإن ذلك يحدث له روية، وتنشئ له الروية أسبابًا إلى الخواطر، وتفتح عليه الخواطر أبوابًا من النظر، ويهديه النظر إلى الاستنباط والاستخراج، فإن وقع دون هذه الغاية فحظه من القراء حيث يقع، وإن بلغها فهناك مداخل الحجج ومخارجها، وتصاريف الأدلة ومدارجها، ثم الإفضاء إلى مذاهب الحكمة على ما اشتهى، ثم الانتهاء حيث ترى كل حكيم ا. هـ.
__________
1 الحشد: الجمع.(2/18)
الباب الثالث: القرآن الكريم
القرآن:
آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه "أعراف" الضمائر فابتز "أنفالها"1. وكم صدوا عن سبيله صدا، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟ واعترضوه بالألسنة ردا، ولعمري من يرد على الله القدر؟ وتخاطروا له بسفهائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب2 وفتحوا عليه من الحوادث كل شدق فيه من كل داهية ناب, فما كان إلا نور الشمس: لا يزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لا يضع منه قطرة في سقائه، ويلقي الصبي غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لا يزال النور يتبسط على غطائه. وهو القرآن كما ظنوا -مما انطوى تحت ألسنتهم وانتشر- كل ظن في الحقيقة آثم، بل كل ظن بالحقيقة كافر، وحسبوه أمرًا هينًا؛ لأنه أنزل في الأرض على بشر. كما يحسب الأحمق في هذا السماء أرضًا ذات دواب نورانية؛ لأن هلالها كأنما سقط من حافر، وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها3 ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ} .
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب.
ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان.... وبينا هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهب عليها بأنفس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير.... ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تتساقط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان, إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قواعده والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة: وإنما هي
__________
1 الأعراف: الأمكنة العالية. جمع عرف "بضم فسكون". والأنفال: الغنائم جمع نقل "بفتحتين". والمراد أن ضمائر العرب امتنعت على القرآن بما استوعر فيه من العادات والأخلاق فنفذ إليها وابتزها وغلبها على أمرها. والأعراف والأنفال أيضًا السورتان المذكورتان في القرآن.
2 إذا تصاولت الفحول من الإبل تخاطرت بأذنابها كأنها يهدد بعضها بعضًا. "المؤلف".
3 أي: في هذه الملة السمحة، وهذا وصفها في الحديث الشريف، وهو وصف دقيق بالغ. "المؤلف".(2/21)
عند ذلك زجرة واحدة: فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض "مائدة".
توهموا السحر ما توهموه، فلما أنزل الله كتابه قالوا: هذا هو السحر المبين، وكانوا يأخذون في ذلك بباطل الظن فأخذوا هذا بحق اليقين {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} ومن الشعر ما تسمعونه أم أنتم لا تسمعون؟ بل إنه لسحر يغلب حتى يفرق بين المرء وعادته، وينفذ حتى ينصرف بين القلب وإرادته, ويجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء، وإنه لسحر، إذ هو ألحاظ لم تعهد كلم أحداقها، وثمرات لم تنبت في قلم أوراقها، ونور عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماء يتلألأ كالنور فكأنما عصر من النجوم1، وبلى إنه لشعر ولكن زنة مبانيه في معانيه، وزينة معانيه في مبانيه، فكل معنى ولا جرم من بحر، وكل لفظ كلؤلؤة في النحر، وإنه لشعر، إذ هو آيات لا يجانس كلامها البديع غير كمالها، وحقيقة في الوجود لم يكن يعرف غير خيالها، ومرآة في يد الله تقابل كل روح بمثالها.
يقولون مجنون بعض آلهتنا اعتراه2، وأساطير الأولين اكتتبها أم يقولون افتراه، بلى إن العقل الكبير في كماله ليتمثل في العقول الصغيرة كأنه جنون، وإن النجم المنير فوق هلاله ليظهر في العيون القصيرة كأنه نقطة فوق نون، وهل رأوا إلا كلامًا تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن.
لا جرم أن القرآن سر السماء فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول, ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
فصل:
وبعد، فإنا سنقول في القرآن الكريم مما يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف عن أوجه الإعجاز في ذلك، لا ننفذ في غير سبب لما نحن بسبيله، ولا نذهب في الكلام عن نتيجة من نتائج, ولا يكون من شأننا أن نتزيد بما ينزل من غرضنا منزلة القافية، أو نتكثر مما وراءه بمثبتة أو نافية، فإن هذا القرآن ما يزال يهدي للتي هي أقوم، وإن النول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد الجهات متصل الحدود يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مستقرا ومستودعًا، وقد جاء بالإعجاز
__________
1 المراد بهذا الفصل ما يناسب التخييل السحري كما أن الفصل الذي يليه يرمي إلى ما يتعلق بمثل ذلك من الشعر.
2 أي: اعتراه بسوء، وهو اكتفاء. "المؤلف".(2/22)
الأبدي الذي يشهد على الدهر ويشهد الدهر عليه، فما من جهة من الكلام وفنونه إلا وأنت واجد إليها متوجهًا فيه، وما من عصر إلا وهو مقلب صفحة منه حتى لتنتهي الدنيا عند خاتمته فإذا هي خلاء "من الجنة والناس"1.
ولقد أراد الله أن لا تضعف قوة هذا الكتاب، وأن لا يكون في أمره على تقادم الزمن خضع أو تطامن2، فجاءت هذه القوة فيه بأسبابها المختلفة على مقدار ما أراد، وهي قوة الخلود الأرضي التي خرج بها القرآن مخرج الشذوذ الطبيعي، فلا سبيل عليه ليد الزمن وحوادثه مما تبليه أو تستجده، إنما هو روح من أمر الله تعالى هو نزله وهو يحفظه، وقد قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} .
بيد أنه لا بد لنا من صدر نبتدئ به القول في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءته حتى تكون هذه سببًا إلى الكلام في لغته وبلاغته، ثم إعجازه في اللغة والبلاغة؛ لأن بعض ذلك يريد بعضه، ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه، فإن في يده مفتاح هذا الباب المغلق وما زال الناس قديمًا يأخذون في ناحيته ويختلفون إليه ويعتزمون في ذلك. وقليل منهم من وصل, وقليل من هؤلاء من اتصل، فاللهم عونك وتيسيرك.
__________
1 هذه الجملة هي كذلك آخر المصحف.
2 يقال: خضعه الكبر وأخضعه، إذا جعل في عنقه تطامنًا، وهو الانخفاض.(2/23)
تاريخ القرآن: جمعه وتدوينه
أنزل هذا القرآن منجما في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدة إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية، وذلك بحسب الحاجة التي تكون سببًا في النزول، وليثبت به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن آياته كالزلازل الروحية، ثم ليكون ذلك أشد على العرب وأبلغ الحجة عليهم وأظهر لوجه إعجازه وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.
ولولا نزوله متفرقًا: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يلبس الحق بالباطل، وينفس عليهم أمر الإعجاز, ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل؛ لأنهم قوم لا يقرءون ولا يتدارسون، ولكن الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربو عليه ويضعف، وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل؛ أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه وأنه ليس في طبعهم ألبتة لا قوة ولا حيلة، فإن العجز عن صنع المادة لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية.
وبخاصة إذا اعتبرت أن أكثر ما أنزل في ابتداء الوحي واستمر بعد ذلك من لدن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي حراء1 فيتحنث فيه الليالي، إلى أن هاجر من مكة, إنما هو من قصار السور، على نسق يترقى إلى الطول في بعض جهاته. وذلك ولا ريب مما تتهيأ فيه المعارضة بادئ الرأي إذا كانت ممكنة؛ لأنه مفصل آيات، ثم لقرب غايته ممن ينشط إلى معارضته والأخذ في طريقته، دون ما يكون ممتد النسق بعيد الغاية، فتصدف النفس عن جملته الطويلة، ويخلف نشاطها فيه؛ لأن للقوة النفسية حدا إذا حملت على ما وراءه كان من طبعها أن تنتهي إلى ما دونه، وهذا أمر يعرفه من يرى شاعرًا يعد أبيات القصيدة الرائعة قبل أن يقرأها، أو كاتبًا ينظر في أعقاب الرسالة الجيدة ولما يأخذ في أوائلها.
وهلم مما يجري هذا المجرى.
وقد كان ابتداء الوحي في سنة 611 للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة 622 إلى المدينة، فنزل القرآن مكيا ومدنيا. وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها، وفي بعضها
__________
1 هو جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي يتعبد في غار من هذا الجبل، وفيه ابتدأ الوحي إليه.(2/24)
أن ذلك كان قبل موته عليه السلام بأحد وثمانين يومًا، في سنة إحدى عشرة للهجرة، وأي ذي كان فإن مدة نزول القرآن توفي على العشرين سنة. وإنما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها، وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على حسب النوازل وكفاء الحادثات، ليكون تحولهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه، وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:
وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخاف1 والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كل منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن ما ليس فيه ريب أن منهم قومًا جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد، فإن المصاحف حتى اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبي، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك، وأما أبي فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زويد فقرأه بعدها وكان عرضه متأخرًا عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة والسلام وكان يصلي إلى أن لحق بربه، ولذلك اختار المسلمون ما كان آخر كما ستعرفه.
أما علي بن أبي طالب فقد ذكروا أن له مصحفًا جمعه لما رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي "الفهرست" لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفًا بخط علي يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبرًا شيعيا؛ لأنه غير شائع.
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في الصدور، وفيما كتبوه عليه، ثم نهض أبو بكر بأمر الإسلام، وكانت في مدته حروب أهل الردة، ومنها غزوة أهل اليمامة، والمحاربون أكثرهم من الصحابة ومن القراء، فقتل في هذه الغزوة وحدها سبعون قارئًا من الصحابة "ويقال سبعمائة"، وكان قد قتل منهم مثل هذا العدد ببئر معونة2 في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهال ذلك عمر بن الخطاب، فدخل على أبي بكر رحمهما الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلت عليه وعمر مسربل؛ فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى
__________
1 العسب: جمع عسب؛ وهو جريد النخل: كانوا يكشطون الحموص عنه ويكتبون في الطرف العريض. والكرانيف: جمع كرنافة "بالكسر والضم" وهي أصول السعف الغلاظ، واللخاف: جمع لخفة "بفتح فسكون" وهي صفائح الحجارة.
2 موضع قرب المدينة يقال إنه لهذيل، وقيل لسليم.(2/25)
أمر فأبيت عليه؛ وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك، وقلت: يفعل ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. وقال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب.
وهذا الذي فعله أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذين استحر بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعد به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيد نسخة واحدة، وهو قد تتبع ما فيها من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ؛ ولأنه من كتبة الوحي، ثم لأنه صاحب العرضة الأخيرة؛ وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع؛ فإن في بعض الروايات أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما الكتابة فهي لزيد بالإجماع.
وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظر بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة 13هـ صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان، ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كل مصر عن رجل من بقية القراء.
فأهل دمشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري -وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب- وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار -إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المواطن على جهاد أعدائهم- يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أجازها، لا يمنع أن يحيك في صدره بعض الشك وأن ينطوي منها على شيء, وإذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة، فلا يلبث أن يجري ذلك الاختلاف مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيرًا من بعضه، ويظن منه الصريخ والمدخول والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلك، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم ثم مردوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والملاحاة وإلى أن يرد بعضهم إلى بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرم أنها الفتنة لا تفنأ بعد ذلك من دم.
ولقد نجمت هذه الناشئة يومئذ، فلما كانت غزوة إرمينية، وغزوة أذربيجان، كان فيمن غزاهما مع أهل العراق حذيفة بن اليمان، فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، أنهم لا يجرون من ذلك على أصل في الفطرة اللغوية كما كان العرب يقرءون بلحونهم، ورأى ما يبدر على ألسنتهم حين يأتي كل فريق منهم بما لم يسمع من غيره، إذ يتمارون فيه حتى يكفر بعضهم بعضًا، ولم ير عندهم نكيرًا لذلك ولا إكبارًا له، بل كانوا قد ألفوه بين أنفسهم، وصار من عاداتهم وأمرهم، ففزع إلى عثمان فأخبره بالذي رأى، وكان عثمان قد رفع إليه أن شيئًا من ذلك يكون بين المسلمين الذي يقرئون الصبية(2/26)
ويأخذونهم بحفظ القرآن فينشئون وبهم من الخلاف بعضهم على بعض، فأعظم رحمه الله أمر هذه الفتنة، وأكبره الصحابة جميعًا؛ لأن الاختلاف في كتاب الله مَدْرجة إلى مخالفة ما فيه، ومتى أهملوا بعض معانيه لم يكن بد أن يتصرفوا ببعض ألفاظه، وإنما هو اجتراء واحد فيوشك أن يكون ذلك مساغ للتحريف والتدبيل، فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها، حذار تلك الردة المشتبهة، وإشفاقًا على الناس إن يصيروا كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فأرسل عثمان إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانهم1.
قال زيد -في بعض الروايات عنه: فلما فرغت عرضته عرضة فلم أجد فيه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2 قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدها عند خزيمة -يعني ابن ثابت- فكتبتها ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخر السورة3, فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضًا فأثبتها في آخر براءة ولو تمت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئًا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته فعرض
__________
1 في رواية أخرى عن زيد بن ثابت: أن عثمان أمره أن يكتب له مصحفًا بعد أن رفع إليه أمر الاختلاف, وقال: إني مدخل معك رجلًا لبيبًا فصيحًا، فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص، فلما بلغا في الكتابة قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال زيد: فقلت التابوة. وقال أبان بن سعد: التابوت، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: التابوت.
وفي رواية ثالثة لابن عساكر؛ أن عثمان خطب في الناس يومئذ وعزم على كل رجل عنده شيء من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة؛ ثم دعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال فليمل سعيد وليكتب زيد، ونحسب أن اختلاف هذه الرواية وما جاء بمعناها من وجوه أخرى إنما بعث عليه تصور الرواة لأبلغ ما يكون من صور الثقة في هذا الأمر حتى يحكموه من نواحيه كلها، فإنك لا ترى منها رواية إلا وفيها مبالغة في التحري ليس في الأخرى. والذي يخبر بمثل ذلك الخبر عن القرآن إنما يخبر بأمر شديد إذا هو لم يمكن فيه لموضع الثقة ولم يحصنه أشد التحصين حتى لا تجد الشبهة إليه سبيلًا، وظاهر أنه من المحال أن تكون كل هذه الروايات هي الواقع. "المؤلف".
2 سورة الأحزاب.
3 سورة براءة.(2/27)
المصحف عليها فلم يختلف في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمه فأعطاهم إياهم فغسلت غسلًا.
قلنا: وكلام زيد نص قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه، إذ كان يعرض ما في الصحف على ما ربط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نص كذلك على أن زيدًا كان لا يكتفي بنفسه بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشية أن يكون موضع ظِنّه وإن كان الصحابة -رضي الله عنهم- قد أجمعوا على الثقة به، فلم يثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظ غيره, والآخر من حفظه.
ثم بعث في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وكانت سبعة -في قول مشهور- فأرسل منها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام1 ثم أمر بما عدا ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد. وكان جمع عثمان في سنة 25 للهجرة.
وإنما أراد عثمان بذلك حسم مادة الاختلاف؛ لأنه أمر يمد مع الزمن وتنشعب الأيام به, وهو إن أمن في عصره لم يدر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عربًا على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف. ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته، وأن الاختلاف كان بابًا إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئًا أكثر من أنه حَصّن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.
ولم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور إلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان2, أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعًا بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديمًا وتأخيرًا, ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية3 فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه، وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبي بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه "الفهرست"، وقال ابن فارس: إن السور
__________
1 الأصل في هذه التسمية ما جاء في بعض الروايات من أن عثمان لما بلغه اختلاف المعلمين في القرآن كما أوردناه آنفًا، قال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشد تكذيبًا وأكثر لحنًا، يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا.
2 وكان تقسيم المصحف ثلاثين جزءًا زمن الحجاج.
3 هي عندهم من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة.(2/28)
في مصحف علي كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف.
أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت, وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضًا، لما مر في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم1.
ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيبًا أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدون في إخراجها وانتساخها. ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات2.
وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعابا لما في الصدور، فكانوا لا يقلبون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرءون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كتبت عند عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين"، و"لا تبديل للخلق" قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "خلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل" وكتب "يتسنه" ألحق فيها
__________
1 ويرجح أن ترتيب زيد الذي نقرأ به اليوم هو ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما روي عن عوف بن مالك، وعن حذيفة، من أنه عليه الصلاة والسلام تهجد ذات ليلة فاستفتح فقرأ في نافلته البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في أربع ركعات، سورة سورة على هذا النسق، وهو الذي عليه ترتيب زيد.
وهذا الخبر يظاهر ما ورد في معناه وانعقد به التصديق من أن ترتيب الآي إنما كان توقيفًا منه صلى الله عليه وسلم. ومن قصص زيد عن نفسه في تلك الرواية تعلم أنه كان يحفظ القرآن على ترتيبه آية فآية وسورة فسورة.
2 هذا إن صحت رواية المسعودي، ونحن لا نوثقها؛ لأن الرجل مؤلف أخبار يحتمل لها من كل وجهه، أما الرواية التي نرضاها فهي ما رواه ابن قتيبة من أن عليا نادى أصحابه فأصبحوا على رايتهم ومصافهم، فلما رآهم معاوية وقد برزوا للقتال قال لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألم تزعم أنك ما وقعت في أمر قط إلا وخرجت منه؟ قال: بلى! قال: أفلا تخرج مما ترى؟ قال: والله لأدعونهم إن شئت إلى أمر أفرق به جمعهم ويزداد جمعك إليك اجتماعًا: إن أعطوك اختلفوا، وإن منعوك اختلفوا! قال معاوية: وما ذلك؟ قال عمرو: تأمر بالمصاحف فترفع ثم تدعوهم إلى ما فيها, فوالله لئن قبله لتفرقن جماعته، ولئن رده ليكفرنه أصحابه!
فدعا معاوية "بالمصحف" ثم دعا رجلًا من أصحابه يقال له ابن هند، فنشره بين الصفين، ثم نادى: الله الله دمائنا البقية! بيننا وبينكم كتاب الله. فلما سمع الناس ذلك ثاروا إلى علي فقالوا: قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فأقبل منه ورفع صاحب معاوية "المصحف" وهو يقول بيننا وبينكم هذا.. إلخ إلخ.
وإن لم تكن هذه الرواية هي حقيقة الواقع فليس أشبه بحقيقة الواقع منها.(2/29)
هاء والقراءة على هذا الرسم.
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل، واستخراج الأساليب الجدلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملًا على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن، لما علمته من أنباء حفظته الذين جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجم الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع مه الباطل شيئًا.
ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسنم في الرد والتأويل كل طريق وعر؛ كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا لا يتدارأ فيها الرواة، من علا منهم ومن نزل، وإنما كان ذلك لأن القرآن أصل هذا الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن؛ وتألب الأحداث وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله وضربتهم الفتن والشبهات مقبلًا بمدبر ومدبرًا بمقبل, فصار كل نزع إلى الاختلاف، يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يتدسس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعنف بها في أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهًا.
ونحسب أن أكثر ذلك مما افترته الملحدة وتزيدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم1، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه ويرى فيه حجته على مذهبه وبينته على دعواه؛ ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم في الحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون أو ممن تعارضهم الغفلة في التمييز، وذلك سواء كله ظلمات بعضها فوق بعض، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وقد وردت روايات قليلة في أشياء زعموا أنها كانت قرآنًا ورفع, على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرر الأحكام عن ربه إذا لم ينزل بها قرآن؛ لأن السنة كانت تأتي مأتاه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "أوتيت الكتاب ومثله معه" يعني السنن.
__________
1 نجمت في الأمة من غير أهل السنة فرق كثيرة يكفر بعضها بعضًا وكل فرقة منهم اعتدت نفسها أمة ... فذهبت هي أيضًا فرقًا مختلفة يكفر بعضها بعضًا.
ومن رءوس الفرق المعروفة: المعتزلة، وهم عشرون فرقة، والشيعة اثنتان وعشرون، والخوارج سبع فرقع، وبعض هذه الفرق يفترق أيضًا ... كالعجاردة فإنهم عشر، ومنهم فرقة الثعالبة، وهي وحدها أربع فرق، ثم المرجئة، وفرقهم خمس، والنجارية، وهم ثلاث. وكل أولئك منهم جبرية، ومنهم مشبهة، ولجميعهم نبز يعرفون به، وغيرهم كثير أحصاهم المؤلفون في الملل والنحل.
قلنا: ولولا حفظ الله لكتابه المعجزة الخالدة، لما بقي منه بعد هؤلاء حرفًا واحدًا فضلًا عن أن يبقى بجملته على الحرف الواحد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(2/30)
وعلى هذا الحديث يخرج في رأينا كل ما رووه مما حسبوه كان قرآنًا فرفع وبطلت تلاوته على قلة ذلك إن صح؛ لأنه يكون وحيًا، وليس كل وحي بقرآن، على أن ما ورد من ذلك ورد معه اضطرابهم فيه وضعف وزنه في الرواية، وأكبر ظنا أنها روايات متأخرة من محدثات الأمور، وأن في هذه المحدثات لما هو أشد منها وأجدى بشؤمه, ولو كان من تلك شيء في العهد الأول لرويت معها أقوال أخرى للأئمة الأثبات الذين كان إليهم المفزع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا يومئذ متوافرين، وكلهم مقر لذلك قوي عليه؛ وكانوا يعلمون أن المراء في القرآن كفر وردة، وإن إنكار بعضه كإنكاره جملة، وإن أجمعوا على ما في مصحف عثمان وأعطوه بذل ألسنتهم في الشهادة، أي: قوتها، وما استطاعت من تصديق.
ونحن من جهتنا نمنع كل المنع، ولا نعبأ أن يقال إنه ذهب من القرآن شيء، وإن تأولوا لذلك وتمحلوا، وإن أسندوا الرواية إلى جبريل وميكائيل ونعتد ذلك السوأة الصلعاء التي لا يرحضها من جاء بها ولا يغسلها عن رأسه بعد قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أفترى باطلهم جاءه من فوقه إذن؟
ولا يتوهمن أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نص في أن ذلك القول الصحيح ألبتة، فإن الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بها أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك العهد هو ما هو، ثم بما وَهِل عنه بعضهم1 مما تحدثوا من أحاديثه الشريفة، فأخطئوا في فهم ما سمعوا، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب2 أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يشبه لهم أن الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا.
وثبت أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمم لخوف الوهم، مع أن عمارًا ممن لا يتهم بتعمد الكذب، ولا بالكذب وهلة، لصحبته وسابقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أذن له عمر في رواية هذا الحديث مع شكه هو في صحته.
على أن تلك الروايات القليلة3 إن صحت أسانديها أو لم تصح فهي على ضعفها وقلتها مما لا حفل به؛ ما دام إلى جانبها إجماع الأمة وتظاهر الروايات الصحيحة وتواتر النقل والأداء على التوثيق.
وبعد فما تلك الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتن التي تعاقبت والأحداث التي استفاضت، والانشقاق الذي ارفضت به عصا الإسلام, بأقل شأنًا ولا أضعف خطرًا من هذا كله ومثله معه من ضروب الأقاويل؛ حتى لا يقتحم مجترئ ولا يستهدف مفتر ولا يبالغ مبطل ولا ينحرف متأول، وحتى لا يروى من أشباه ذلك دقيق أو جليل؛ وإنما قياس الباطل بالعلم الحق، وقياس الظن باليقين الثقة، وأنت تعلم أن كل ما رووه لم يأت من قِبل الإجماع، وليس له من هذه الحجة مادة ولا
__________
1 غلط أو نسي.
2 الجزء الأول.
3 فيما زعموه كان قرآنًا وبطلت تلاوته.(2/31)
قوة، ولو أن الأمر كان إلى الرأي والنظر لقلنا: لعله ولعلنا، ولكنها الرواية وملاكها، والأدلة واشتراكها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} .(2/32)
القراءة وطرق الأداء:
وهذا الفصل مما نتأدى به إلى الكلام في لغة القرآن، فهو سبيلنا إليها في نسق التأليف، إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها.
وليس من همنا فيما نأتي به إلا نقضي حق التاريخ اللغوي، منصرفين ما وسعنا الانصراف عن الجهة الفنية التي هي جانب من علمي القراءات والتجويد، فإن الكلام في هذه الجهة يتسع، وهو غير ما نحن فيه، وما زالت الجهة الفنية من كل علم هي فرع من أصله في التاريخ.
نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفصح ما تسمو إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما تقوم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقيا محضًا، في التركيب، والتناسب بين أجراس الحروف والملاءمة بين طبيعة المعنى وطبيعة الصوت الذي يؤديه، كما بيناه في بابه من الجزء الأول1 فكان مما لا بد منه بالضرورة أن يكون القرآن أملك بهذه الصفات كلها، وأن يكون ذلك التأليف أظهر الوجوه التي نزل عليها، ثم أن تتعدد فيه مناحي هذا التأليف تعددًا يكافئ الفروع اللسانية التي سبقت بها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، توقيعًا يطلق من نفسه الأصوات الموسيقية التي يشيع بها الطرب في هذه النفس، بما يسمونه في لغة العرب بيانًا وفصاحة, وهو في لغة الحقيقة الموسيقى اللغوية.
وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدى به، ومع اليأس من معارضته، على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب، فقد تم له التمام كله، وصار إعجازه إعجازا للفطرة اللغوية في نفسها حيث كانت وكيف ظهرت ومهما يكن من أمرها ومتى كان العجز فطريا فقد ثبت بطبيعته، وإن لج فيه الناس جميعًا؛ لأنه شيء في تلك الفطرة يفهم منه صريحًا ثم لا تنكر هي موضعه منها وموقعه، وإن كابرت فيه الألفاظ وبالغت الأهواء في جحده والانتفاء منه مراء ومغالبة.
والطبيعة قد توجد في مفردات لغتها مترادفات، بحيث يكون الشيئان لمعنى واحد, ولكن لا توجد فيها الأضداد بحال من الأحوال، فلا يكون الشيء الطبيعي محتملًا بصورته الواحدة لأن يكون إقرارًا وإنكارًا معًا، ومن ثم لا يستقيم للعرب أن يعارضوا القرآن، إذ كان مأتى العجز من فطرتهم اللغوية، ولا يتوهم ذلك وإن انتشرت لهم في الخلاف كل قالة2.
ذلك فيما ترى هو السبب الأول الذي من أجله اختلفت بعض ألفاظ القرآن في قراءتها وأدائها
__________
1 تاريخ آداب العرب.
2 القالة والمقالة بمعنى واحد.(2/33)
اختلافًا صح جميعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحت قراءته؛ وهو كان أعلم العرب بوجوه لغتها، كما سيأتي في موضعه؛ إذ لا وجه عندنا للاختلاف الصحيح إلا هذا، فإن القرآن لو نزل على لفظ واحد ما كان بضائره شيئًا وهو ما هو إحكامًا وإبداعًا، فهذه واحدة.
وحكمة أخرى، وهي تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلًا عن أن يكون مما ألفوه.
وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم, ثم هو مما لا يستطيعه لغوي أو بياني في تصوير خيال فضلًا عن تقرير شريعة.
ومن أعجب ما رأيناه في إعجاز القرآن وإحكام نظمه، أنك تحسب ألفاظه هي التي تنقاد لمعانيه, ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادة لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثبتًا فتصير منه إلى عكس ما حسبت وما إن تزال مترددًا على منازعة الجهتين كلتيهما، حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة؛ لأن ذلك التوالي بين الألفاظ ومعانيها, وبين المعاني وألفاظها، مما لا يعرف مثله إلا في الصفات الروحية العالية، إذ تتجاذب روحان قد ألفت بينهما حمة الله فركبتهما تركيبًا مزجيا بحيث لا يجري حكم في هذا التجاذب على إحداهما حتى يشملها جميعًا.
ووجوه الاختلاف الطبيعي -كاختلاف القراءات في العرب- مما لا تفهم له تلك الطباع المختلفة به وجهًا؛ لأن كل عربي قد ثبت على لحنه في النطق أو القراءة1 فيحسب ذلك الختلاف مما لا يحتمله الشيء الثابت؛ ولهذا جاءت بعض روايات عن الصحابة رضي الله عنهم تصف نبضًا من الشك ربما كانت تضرب به قلوبهم، حين يسمعون الاختلاف بين قراءة وقراءة حتى يصرف الله عنهم ذلك ويربط على قلوبهم كما روي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم، فلما سلم لببته بردائه2 فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال: "هكذا نزلت"، ثم قال: "اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هكذا نزلت"، ثم قال: "إن هذا القرآن نزل على سبعة
__________
1 انظر تفصيل ذلك في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 أي: جمع ثيابه عند نحره، ثم جره، وذلك ما تقول له العامة "مسك في خناقه".(2/34)
أحرف فاقرءوا ما تيسر منها". فتأمل قوله: "ما تيسر" تصب منها شرحًا طويلًا، وسنقول في هذه السبعة بعد.
ورووا أن عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد لكثرة الرد, وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين1 ينهى عن شيء يأمر به الآخر كان ذلك الاختلاف, ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن؛ ولو أعلم أحدًا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين2، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن. فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإن من جحد بآية جحد به كله.
هذا حين كان الاختلاف مما تقتضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتفضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجم لم يعد لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من الرأي، بل صار كأنه دربة لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجه ينكر من حقيقتها بما يضيف إليها أو يخلط بها أو يغير منها، وإلى هذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه القرآن العرضة الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرة لولا ما علمه الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي إلى أن انتقل إلى جوار ربه. ومن ثم اختارها المسلمون بعده وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مر، ثم تركوا للناس أسانيدهم، إذ كانت الفطرة سليمة بعد.
فلما كانت الطيرة والاختلاف لعهد عثمان، وأشفقوا من الضلال في معاسف الرأي ومعانيه، حملوا الناس عليها حملًا وكتبوا بها المصاحف كما تقدم3.
__________
1 أي: القراءتين المختلفتين، وكانوا يكرهون أن ينسبوا القراءات لمن يقرأ بها نظرًا لمكان الفطرة اللغوية منهم، فلما فسدت هذه الفطرة في المتأخرين نسبوا كل قراءة لرأس أهلها كما ستعرفه. روى الجاحظ في "الحيوان": قال النخعي: كانوا يكرهون أن يقال قراءة عبد الله، وقراءة سالم؛ وقراءة أبي، وقراءة زيد. وكانوا يكرهون أن يقال: سنة أبي بكر وعمر، بل يقال: سنة الله ورسوله، ويقال: فلان قرأ بوجه كذا، وفلان يقرأ بوجه كذا. ا. هـ.
2 تأمل حكمة عرضه مرتين في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم على خلاف ما كان قبلها لتعلم أنه أمر من أمر الله، وكأن العرضة الزائدة كانت عرضة التاريخ إلى آخر الدنيا.
3 تجد في كتاب "حجج النبوة" للجاحظ كلامًا حسنًا في الاحتجاج لجمع الناس على قراءة زيد دون غيره، ولو أنت فكرت قليلًا في عمل أهل التاريخ للتاريخ به لظهر لك من وجوه الحكمة أكثر مما ظهر للجاحظ.(2/35)
القراء:
يرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم، فقد اشتهر بالإقراء منهم سبعة: عثمان، وعلي، وأبي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري؛ وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كانت أواخر عهد التابعين في المائة الولى تجرد قوم واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية، لما رأوا من المساس إلى ذلك بعد اضطراب السلائق، وجعلوها علمًا، كما فعلوا يومئذ بالحديث والتفسير، فكانوا فيها الأئمة الذين يرحل إليهم ويؤخذ عنهم؛ ثم اشتهر منهم ومن الطبقة التي تلتهم أولئك الأئمة السبعة الذين تنسب إليهم القراءات إلى اليوم، وهم: أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفى سنة 154هـ، وعبد الله بن كثير المتوفى سنة 120هـ، ونافع بن نعيم المتوفى سنة 169هـ، وعبد الله بن عامر اليحصبي المتوفى سنة 118هـ، وعاصم بن بهدلة الأسدي المتوفى سنة 128هـ، وحمزة بن حبيب الزيات العجلي المتوفى سنة 156هـ، وعلي بن حمزة الكسائي إمام النحاة الكوفيين المتوفى سنة 189هـ.
وقراءات هؤلاء السبع هي المتفق عليها إجماعًا، ولكل منهم سند في روايته، وطريقة الرواية عنه؛ وكل ذلك محفوظ مثبت في كتب هذا العلم1.
ثم اختاروا من أئمة القراءة غير من ذكرناهم ثلاثة صحت قراءتهم وتواترت وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني المتوفى سنة 132هـ، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي المتوفى سنة 185هـ، وخلف بن هشام بن طالب "ولم نقف على تاريخ وفاته". وهؤلاء وأولئك هم أصحاب القراءات العشر، وما عداها فشاذ، كقراءة اليزيدي، والحسن، وأعمش، وغيرهم2.
ولا يذهبن عنك أن هذا الاختيار إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة، على قراءة أبي عمرو ويعقوب؛ وبالكوفة، على قراءة حمزة وعاصم؛ وبالشام، على قراءة ابن عامر؛ وبمكة، على قراءة
__________
1 في معجم الأدباء ج1 ص412.
"قال الحاكم: سمعت أبا بكر بن مهران يقول: قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفا المقرئ القرآن من أوله إلى آخره. وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره على أبي بكر محمد بن سليمان بن موسى الهاشمي ببغداد قال: قرأت على قنبل بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد بن جرجة المكي، وقال: قرأت على أبي الحسن النبال وأخبرني أنه قرأ على ابن الإخريط وهب بن واضح وقرأ ابن الإخريط على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين وقرأ ابن قسطنطين على شبل بن عباد ومعروف بن السلطان فأخبراه أنهما قرآ على عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوفي ابن مهران سنة 381هـ وهو أبو بكر النيسابوري إمام عصره في القراءات وأعبد أهل دهره رحمه الله".
2 لا تخلو إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة، فإن فيها من ذلك أشياء.(2/36)
ابن كثير؛ وبالمدينة، على قراءة نافع، وكان هؤلاء هم السبعة؛ فلما كان على رأس المائة الثالثة، أثبت أبو بكر بن مجاهد1 اسم الكسائي وحذف منهم اسم يعقوب.
قال بعضهم: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرًا، أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة؛ هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرًا جدا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروى إلى ما اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر2 في ملازمة القراءة به والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردا من كل مصر إمامًا واحدًا. ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب، وأبي جعفر، وشيبة، وغيرهم. قال: وقد صنف ابن جبر المكي مثل ابن مجاهد كتابًا في القراءات فاقتصر على خمسة، إلى هذه الأمصار، ويقال إنه وجه بسبعة: هذه الخمسة ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين، لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره "مراعاة عدد المصاحف" استبدلوا من مصحف البحرين واليمن قارئين كمل بهما العدد. ا. هـ3.
وأول من تتبع وجوه القراءات وألقها وتقصى الأنواع الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع، هارون بن موسى القارئ النحوي المتوفى سنة 170هـ، وكان رأسًا في القراءة والنحو، ولكن أول من صنف فيها إنما هو أبو عبيد القاسم بن سلام الراوية المتوفى سنة 224هـ، وكان أول من استقصاها في كتاب. ويقال إنه أحصى منها خمسًا وعشرين قراءة مع السبع المشهورة.
__________
1 هو مقرئ أهل العراق وممن ألفوا في هذا الفن، وكان من الأثبات المتقنين.
2 تأمل حكمة هذا الشرط ففيه معان كثيرة.
3 وقال بعض العلماء: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر، وأوهم أنه لا يجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد.
وعندهم أن أصح القراءات من توثيق جهة سندها: نافع. وعاصم، وأكثرها توخيًا للوجوه التي هي أفصح: أبو عمرو، والكسائي.(2/37)
وجوه القراءة:
ومنذ بدأت القراءة تتميز بأنها علم يتدارس ويتلقى، بدأت فيها الصناعة العلمية؛ فحصرت وجوهها وعينت مذاهبها؛ ومن شأن كل علم أن يكون ضبط الصحيح فيه حدا لغير الصحيح، وقد تكون الأمثلة التي تنزع من العلم للتمثيل بها على صحيحه مما يقتضي التمثيل بضدها على فاسده، فتقلب القاعدة أو الكلمة على وجوهها المتباينة مما اطرد أو شذ؛ وبهذا يدل على المذاهب الضعيفة ويطرق إلى معرفتها، فعسى أن يكون فيمن يقفون عليها من تنقطع به المعرفة عندها، أو يقف به الهوى على حدها، أو يعجبه منها إن كان له أن يكون صاحب غريب، وأمره عند العامة والجمهور ما عرفت في باب الرواية1 وأن يتدافعه الناس من راد معه وراد عليه، أن يكون هو ضعيف البصير بهذا الأمر قليل التمييز فيه، أو يكون خبيث الدخلة مستجم الباطل، أو من أصحاب العلل والمراء أو شيء مما يجري هذا المجرى، فلا يلبث أن يأخذ بها دون الصحيح. ويتقلد أمرها على وهنه واضطرابه، فيعتسر الكلام فيها2، ويبالغ في النضح عنها والدفع لما عداها، ويتكلف لتصحيح هذا الفساد كما يتكلف لإفساد الصحيح وتوهينه؛ ومن ثم ينشأ من العلم علم آخر لم يكن قبل إلا حاجة من التمثيل به لغيره؛ فاتسع حتى صار في حاجة إلى التمثيل له بغيره.
كذلك نشأت القراءات الغريبة في رأينا، فإن هذا الشاذ، وهذا الضعيف وهذا المنكر مما لا تحسبه كان معروفًا متلقى بالإسناد الذي لا مغمز فيه وإن لم يقرأ به أصحابه إلا على أنه معروف موثق الأسانيد.
ولا بد أن تكون قد شذت وجوه كثيرة من القراءات قبل مصحف عثمان، وخاصة فيمن يقرأ على عرب الأمصار من الأوشاب المستضعفين الذين لم تخلص فطرتهم ولم تتوقح طباعهم، وكل أولئك قد كان لهم في أحيائهم من يقرئهم القرآن، فإذا كان قد وقع أمر من ذلك لأصحاب القراءات ومن يتتبعون وجوهها فأخذ به؛ لأنه عن متقدم يسنده أو يزعمه صحيحًا عمن يسنده فذلك أيضًا قول ومذهب.
والعلماء على أن القراءات متواترة وآحاد وشاذة, وجعلوا المتواتر السبع والآحاد الثلاث المتممة لعشرها ثم ما يكون من قراءات الصحابة رضي الله عنهم مما لا يوافق ذلك3, وما بقي فهو شاذ.
والقياس عندهم موافقه القراءة للعربية بوجه من الوجوه، سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله؛ لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها؛ والمصير إليها بالإسناد لا
__________
1 الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 أن يتكلم به من غير أن يروي فيه ويقدر صوابه من خطئه.
3 في بعض الأقوال أن العشرة متواترة ولكنا نأخذ في هذا بالأضيق الأحوط.(2/38)
بالرأي، ثم يشترط في تلك القراءة أن توافق أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا1، وأن تكون مع ذلك صحيحة الإسناد، فإن اجتمعت الأركان الثلاثة: موافقة العربية، ورسم المصحف، وصحة السند؛ فتلك هي القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أطلق عليها أنها ضعيفة أو شاذة أو باطلة؛ ولتجيء بعد ذلك عن كائن من كان.
أما اشتراط موافقة العربية على أي وجوهها، فذلك إطلاق يناسب ما قدمناه من أمر الفطرة، ومن أجله كان صحيحًا أن لا يعول أئمة القراءة في أمر الجواز على ما هو أفشى في اللغة وأقيس في العربية، دون ما هو أثبت في الأثر وأصح في النقل؛ لأن العرب متفاوتون في خلوص اللغة وقوة المنطق فإن قرءوا فلكل قبيل نهجه.
وأما موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية، فذلك لما صح عندهم من أن الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة فكتبوا "الصراط" مثلًا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل، لتكون قراءة السين "السراط" إن خالفت الرسم من وجه، فقد أتت على الأصل اللغوي المعروف، فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام2 محتملة لذلك3.
وأما اشتراط صحة الإسناد فهو أمر ظاهر ما دامت القراءة سنة متبعة، وكثيرًا ما ينكر بعض أهل العربية قراءة من القراءات؛ لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة؛ ولا يحفل أئمة القراءة بإنكارهم شيئا؛ كقراءة من قرأ "فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ" بسكون الهمزة، ونحوها مما أحصوه في كتبهم.
وأول من اشتهر من القراء بالشواذ؛ وعني بجمع ذلك واستقصائه وإظهاره دون الصحيح؛ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي في أواخر المائة الثانية، فقد جمع قراءة نسبها إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومنها "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقد أكذبوه في إسناده وجعلوه مثلًا بينهم في القراءات الموضوعة المردودة.
ثم اجترأ الناس على القرآن بما فشا من مقالات أهل الزيغ والإلحاد بعد المائة الثانية، ولكن
__________
1 يقال إن نسخ المصاحف العثمانية تختلف بعض الاختلافات؛ ومما وقفنا عليه من أمثلة ذلك ما ذكره ابن الجوزي إمام القراء المتأخرين المتوفى سنة 823هـ أن ابن عامر قرأ: "قالوا اتخذ الله ولدًا" وقراءة غيره "وقالوا" بزيادة الواو؛ وأن ذلك أي: حذف الواو ثابت في المصحف الشامي؛ وقال: إن ابن كثير يقرأ "تجري من تحتها الأنهار" وقراءة غيره "تجري تحتها الأنهار" وقراءة ابن كثير ثابت في المصحف المكي؛ والمراد بالموافقة الاجتماعية ما يكون من نحو قراءة "مالك يوم الدين" فإن لفظة "مالك" كتبت في جميع المصاحف بحذف الألف فتقرأ "ملك" وهي توافق الرسم تحقيقًا وتقرأ مالك وهي توافقه احتمالًا.
2 أي: إشمام السين صوت الزاي؛ وهي قراءة معروفة.
3 في رسم المصحف كلام طويل؛ فقد أحصى علماء القراءة كل ما فيه من نحو ما مثلنا به، واعتلوا له بوجوه حسنة في القراءات، وإنما حملهم على النظر في ذلك والاستقصاء له أن الرسم من وضع زيد بن ثابت، وهو كان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه، وعلم من هذا العلم ما لم يعلم غيره بدعوته عليه الصلاة والسلام فكأنما كتب بتوفيق كالتوقيف.(2/39)
ذلك لم يتناول قراءته، بل تناول مسائل من أمر الاعتقاد فيه؛ ثم ظهر ابن شنبوذ المتوفى سنة 228هـ، وكان رجلًا كثير اللحن قليل العلم، فيه سلامة وحمق وغفلة؛ فكان من أشهر القراء بالشواذ, ثم أخذ في سبيله أبو بكر العطار النحوي المتوفى سنة 354هـ، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وإنما أفسد عليه أمره أنه من أئمة نحاة الكوفيين، فخالف الإجماع وصنع في ذلك صنعًا كوفيا.... فاستخرج لقراءته وجوهًا من اللغة والمعنى، ومن ذلك قراءته في قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} 1 فإن هذا الأحمق قرأها "نُجُبا" فأزالها بذلك عن أحسن وجوه البيان العربي، ولم يبال ما صنع إذا هو قد انفرد بها على عادة الكوفيين في الرواية..... كما مر في باب الرواية في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب2.
أما بعد هؤلاء الرءوس, وبعد أن انطوت أيامهم، فإن القراءة قد استوثق أمرها ولم يعد للشاذ وجه ولا أقيم له وزن؛ إذ كانت قد دونت العلوم في اللغة العربية وفي القراءات, وأخمل الناس أهل الشواذ، والخلفاء، والأمراء فمن دونهم، واعتدوا لهم السوء والإثم، ورأوا أمرهم الفتنة التي لا يستقال فيها البلاء؛ فما زالوا بهم حتى قطع الله دابرهم وغابرهم.
هذا، وقد أورد ابن النديم في كتابه "الفهرست" أسماء كثير من أهل الشواذ في كثير من الأمصار، فارجع إليه إن شئت تستقصي فيما لا يفيد.
__________
1 في سورة يوسف يصف إخوته وقد ذهبوا يتشاورون بعد أن استيأسوا من يوسف حين أخذ إليه أخاه. ومن عرف سياق الآية ثم قرأها لم يجد لها نظيرًا في باب التصوير البياني.
2 اختلف الكوفيون والبصريون أيضًا في رسم المصاحف رجوعًا إلى قواعدهم المقررة، وقد كان الأمراء يفزعون إلى الجلة من علماء هذين المصرين في كتابة المصاحف على مذاهب أهل التحقيق، فيختلف كل فريق في رسمه بعض الاختلاف؛ ومن ذلك كتابة "والضحى والليل" فإن الكوفيين يكتبونها بالياء، ومن مذهبهم أنه إذا كانت كلمة من هذا النحو أولها ضمة أو كسرة كتبت بالياء، وإن كانت من ذوات الواو. أما البصريون فيكتبونها بالألف خلافًا, وقد ناظر المبرد ثعلبًا في ذلك بحضرة ابن طاهر، فقال المبرد لثعلب، لم كتبت "والضحى" بالياء؟ فقال: لضمة أوله، فقال له: ولم إذن ضم أوله وهو من ذوات الواو وتكتبه بالياء؟ قال: لأن الضمة تشبه الواو وما أوله واو يكون آخره ياء. فتوهموا أن أوله واو، فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟(2/40)
قراءة التحلين
...
قراءة التلحين:
ومما ابتدع في القراءة والأداء، هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتنافله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإقناع وهو الغناء التقي.... ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم "الترعيد" وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا كأنه يرعد من البرد أو الألم.... "والترقيص" وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة؛ "والتطريب" وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب موضعه، "والتحزين" وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم "الترديد" وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه.
وإنما كنت القراءة تحقيقًا، أو حدرًا، أو تدويرًا1 فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ بالتلحين والتطنين عبيد الله بن بكرة، وكانت قراءته حزنًا ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عمر بن عبيد الله، فهو الذي يقال له قراءة ابن عمر، وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه وعرفت به؛ لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين2.
وكان القراء بعده: كالهيثم، وأبان، وابن أعين، وغيرهم ممن يقرءون في المجالس أو المساجد، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء، والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسا خفيا، ومنهم من يجهر به حتى يسلخه، فمن هذا قراءة الهيثم {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فإنه كان يختلس المد اختلاسًا فيقرؤها "لمسكين"، وإنما سلخه من صوت الغناء كهينة اللحن في قول الشاعر3:
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتًا يوافق عندي بعض "مفيها"
أي: ما فيها، وكان ابن أعين يدخل الشيء من ذلك ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء وافتنوا فيه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها.
__________
1 التحقيق: إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤدة؛ والحدر: إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة؛ والتدبر: التوسط بين التحقيق والحدر.
2 نرجح أن هذا كان أول تاريخ اتخاذ الأمراء وأهل السعة للقراء في بيوتهم كما هي سنتهم إلى اليوم.
3 هذا البيت مطلع قصيدة سائرة رواها القالي في ذيل أماليه، وهي قصيدة كثر مدعوها فما يدري لمن هي. قال: وكان أبو عبيدة يصححها لعليل بن الحجاج الهجيمي "بضم الهاء وفتح الجيم".(2/41)
وقال صاحب "جمال القراءة": إن أول ما غني به القرآن قراءة الهيثم "أما السفينة" كما تقدم، فلعل ذلك أول ما ظهر منه.
ولم يكن يعرف من مثل هذا شيء لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا لعهد أصحابه وتابعيهم إلا ما رواه الترمذي في "الشمائل" واختلفوا في تفسيره؛ فقد روي بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة يوم الفتح "فتح مكة" وهو يقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال: فقرأ ورجع. وفسره ابن مغفل بقوله: آآآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثلاث مرات ولا خلاف بينهم في أن هذا الترجيع لم يكن ترجيع غناء1.
وكان في الصحابة والتابعين رضي الله عنهم من يحكم القراءة على أحسن وجوهها ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يسمع منه القرآن غضا طربًا، لفصاحته وعذوبة منطقه وانتظام نبراته، وهو لحن اللغة نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة، على أن كثيرًا من العرب كانوا يقرءون القرآن ولا يعفون ألسنتهم مما اعتادته في هيئة إنشاد الشعر، مما لا يحل بالأداء، ولكنه يعطي القراءة شبهًا من الإنشاد قريبًا، لتمكن ذلك منهم وانطباع الأوزان في الفطرة، حتى قيل في بعضهم: إنه يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب.
وهذا عندنا هو الأصل فيما فشا بعد ذلك من الخروج عن هيئه الإنشاد إلى هيئة التلحين، وخاصة بعد أن ابتدع الزنادقة في إنشاد الشعر هذا النوع الذي يسمونه التغيير، ولم يكن معروفًا من إنشاد الشعراء قبل ذلك2 وهو أنهم يتناشدون الشعر بالألحان فيطربون ويرقصون ويرهجون؛ ويقال لمن يفعلون ذلك: المغبرة3. وعن الشافعي رحمه الله: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغيير ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن.
وبالجملة فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عد العلماء القراءة بغير هذا التجويد لحنًا خفيا؛ لأن المختص بمعرفته وتمييزه هم أهل القراءة الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أئمة أهل الأداء.
__________
1 سنصف منطقه صلى الله عليه وسلم عند الكلام على البلاغة النبوية.
2 سنصف القول في كيفية إنشاد الشعراء وهيئة الإنشاد. وذلك في باب الشعر من تاريخ آداب العرب.
3 هذا هو عين ما يفعله بعض المتصوفين إلى اليوم حين ينشدون أو يتناشدون وذلك هو أصله ولا ريب.(2/42)
لغة القرآن:
الأصل فيمن نزل القرآن بلغتهم، قريش، وقد سلف لنا في مبحث اللغة1 كلام في معنى الإصلاح الذي خلصت به لغتهم إلى التهذيب، وكيف واروا بينهم في لغات العرب ممن كان يجتمع إليهم من الحجيج أو ينزل بهم من العرب في كل موسم ومتسوق. وكان طبيعيا أن يكون القرآن بلغة قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشي, ثم ليكون هذا الكلام زعيم اللغات كلها كما استمازت قريش من العرب بجوار البيت، وسقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وغيرها من خصائصهم؛ وقد ألف العرب أمرهم ذلك واحتملوا عليه وأفردوهم به، فلأن يألفوا مثله في كلام الله أولى.
وهذه حكمة بالغة في سياسة أولئك الجفاة وتألفهم وضم نشرهم، فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب ألبتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيى، ثم كانوا لا يعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات، كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريش ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رءوسهم عن الإصغاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وكاهن وشاعر، ومجنون. وتقولوا من أمثال ذلك يبتغون به أن يحدثوا في قلوب الناس لهذا الأمر خفة الشأن؛ وأن يهوّنوا عليهم منه بما هونته العادة، وهم كانوا أعلم بعادات القوم وما يبلغ بهم، حين قعدوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
وههنا أصل آخر، وهو أن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فيهون ذلك على قريش, ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبا من القول فيه، فتنشق الكلمة, ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته.
وإنما وطأنا بهذا النبذ من القول؛ لأن طائفة من الناس يذهبون إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير القرشية، لكان ذلك وجهًا من إعجازه تلتمس به الحجة ويستبين الظفر، ولخلي عنه العرب فترة وعجزًا, وهو زعم لا يقول به إلا أحد رجلين: من يدري كيف يقول، أو من يقول ولا يبالي أن يدري أنك مطلع منه على جهل وسفه.
ولما كان الوجه الذي أقبل به القرآن على العرب وجه تلك البلاغة المعجزة، فقد كان من إعجازه أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغات العرب جميعًا، وإنما سبيل ذلك من لغة قريش. وهذه اللغات وإن اختلفت في اللحن والاستعمال، إلا أنها تتفق في المعنى الذي من أجله صار العرب
__________
1 الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.(2/43)
جميعًا يخشعون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم، وهذا المعنى هو مناسبة التركيب في أحرف الكلمة، الواحدة، ثم ملاءمتها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساق الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون الذي يصب في الأذن صبا، فيجري أضعفه في النسق مجرى أقواه؛ لأن جملته مفرغة على تناسب واحد.
وقد استوفى القرآن أحسن ما في ذلك اللغات من ذلك المعنى، وبان منها بهذه المناسبة العجيبة التي أظهرته على تنوعه في الأوضاع التركيبية مظهر النوع الواحد وهي مناسبة معجزة في نفسها؛ لأن التأليف بين المواد المختلفة على وجه متناسب ممكن، ولكن التأليف بينها على وجه يجمعها ويجمع الأذواق المختلفة عليها كما اتفق القرآن, أمر لا يقول بإمكانه من يعرف معنى الإمكان, وسنفصل ذلك في موضع هو أملك به متى انتهينا إلى القول في حقيقة الإعجاز.
أما اللغات التي نزل بها القرآن غير لغة قريش، فهي لغة بني سعد بن بكر الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعًا فيهم، وهي إحدى لغات العجز، من هوازن، ثم سائر هذه اللغات وهي جشم بن بكر، ونصر بن معاوية وثقيف، وتلك هي أفصح لغات العرب جملة، ثم خزاعة، وهذيل، وكنانة، وأسد وضبة، وكانوا على قرب من مكة يكثرون التردد إليها ومن بعدهم قيس وألفافها التي في وسط الجزيرة1.
قال بعض العلماء: وقد كانت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} أي: لا ينقصكم بلغة بني عبس، ونقل الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر أن في القرآن من أربعين لغة عربية، وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وتميم، وكندة، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعمر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة. ا. هـ.
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك؛ لدروس هذه اللغات وتداخلها وتقطع أسباب المقارنة بينها وبين لغة قريش التي مضوا على استعمالها بعد القرآن وأطبقوا عليها، والعلماء إنما يذكرون من أكثر هذه اللغات في القرآن الكلمة والكلمتين، إلى الكلمات القليلة؛ وانظر أين يقع مبلغ ذلك من لغة بجملتها؟
ولقد ائتلفت لغة القرآن الكريم على وجه يستطيع العرب أن يقرءوه بلحونهم وإن اختلفت وتناقضت؛ ثم بقي مع ذلك على فصاحته وخلوصه؛ لأن هذه الفصاحة هي في الوضع التركيبي كما أومأنا إليه آنفًا، وتلك سياسة لغوية استدرج بها العرب إلى الإجماع على منطق واحد ليكونوا جماعة واحدة، كما وقع ذلك من بعد؛ فجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام، كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام؛ وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم، وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهمو وعنهمو، وإلحاق الياء في إليه وعليه وفيه،
__________
1 تكلمنا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب عن أفصح قبائل العرب، فارجع إليه.(2/44)
ونحو ذلك، فكان أهل كل لحن يقرءونه بلحنهم.
وربما استعمل القرآن الكلمة الواحدة على منطق أهل اللغات المختلفة فجاء بها على وجهين لمناسبة في نظمه: كبراء، وبريء، فإن أهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، لا يعدونها، وتميم وسائر العرب يقولون: أنا منك بريء، واللغتان: في القرآن. وكذلك قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن الأولى لغة قريش؛ يقولون: أسريت؛ وغيرهم من العرب يقولون: سريت، وهذا باب من اللغة لم يقع إلينا مستقصى؛ ولكن علماء الأدب ربما أشاروا إلى بعض ألفاظه في كتبهم، كما تصيب من ذلك في "الكامل" للمبرد وغيره1.
وبالوجوه التي أومأنا إليها تختلف القراءات على حسب الطرق التي تجيء منها؛ فالناقلون عمن قرأ بلغة قبيلة ينقلون بتلك اللغة في الأكثر، ولذا قيل: إن القراءات السبع متواترة فيما لم يكن من قبيل الأداء أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها فغير متواتر، وهو الوجه المتقبل.
ولقد أحصى علماء القراءة في كتبهم ما ورد من ألفاظ القرآن على أحد تلك الوجوه، ومن قرأ بها كلها أو بعضها من الأئمة، وهي عناية ليس أوفى منها، ولا يعرف من مثلها لغيرهم ولغير أهل الحديث في أمة من الأمم: غير أنهم -عفا الله عنهم- أسقطوا من كتبهم كل ما يتعلق بالنسبة التاريخية في اللغات نفسها، إلا ما لا حفل به، وقد أشبعنا القول من هذا المعنى ومن الحسرة عليه في باب اللغة من التاريخ، ولكن القول منهم لا يزال يشره فيسيل به لعاب القلم, كلما توهم لذة الفائدة وطعمها!.
__________
1 قد تتبعنا نسبة هذه اللغات وتقصينا في ذلك حتى ظفرنا بها؛ لأن هذا من أكبر ما نعنى به كما بينا في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. فتخفيف الهمزة لغة قريش وأهل الحجاز، والتحقيق لغة من عداهم, وقيل: إن أهل مكة وحدهم يهمزون النبي، والبرية، والخابية، والذرية، ويخالفون في ذلك سائر العرب.
وكانت العرب تمد عند الدعاء، وعند الاستغاثة، وعند المبالغة في نفي الشيء. والمد هو زيادة مط في حروف المد على المد الطبيعي فيه. والقصر: ترك تلك الزيادة، وكلاهما اعتبار لا يختص به قوم دون قوم.
والفتح لغة قريش، والإمالة لغة بني سعد، وقد سبق الكلام عنهما وعما بينهما في اختلاف لغات العرب من الجزء الأول من التاريخ.
والإظهار لغة أهل الحجاز، والإدغام لغة تميم، ولعل إشباع الضمائر مختلف في بعض اللغات القريبة من اليمن عن الحميرية، فإن ضمير المفرد المتصل فيها ينطق "هو" بالمد والإشباع فيقال في "لغته": لغتهو. وضمير المثنى المتصل فيه ينطق "همي" فيقال في "لغتهما": لغتهمي، وضمير الجمع "همو" فيقال: لغتهموا، وهكذا.
وثم وجه لغوي آخر، وهو التفخيم أي: تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها وأفخم، ومن ذلك في القرآن: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة} ، وأشباهه، فإن هذا تفخيم وتثقيل، قال أبو عبيدة: أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفًا واحدًا وهو "عشرة" فإنهم يجزمونه، وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا هذا الحرف، فإنهم يقولون عشرة "بكسر الشين". وما فسرناه من أمر التفخيم إنما هو على بعض معانيه اللغوية؛ لأن له في الاصطلاح غير هذا المعنى.(2/45)
الأحرف السبعة:
وروى أهل الأثر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" 1 ثم اختلفوا في تأويله وفي تفسير هذه الأحرف، ولكن الأكثرين على أنها سبع لغات من لغات قريش وألفافها من ظواهر مكة إلى قيس، وقد سميناها آنفًا، وذلك قول لا تخرج عليه إلا بعض ألفاظ الحديث ويبقى سائرها غير متجه.
وقال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تختلف بها لغات العرب فوجدتها على سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص، وبجميع ذلك نزل القرآن: الوجه الأول إبدال لفظ بلفظ: كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنقوش قرأها ابن مسعود: كالصوف المنفوش، والثاني إبدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه -وقد مر بك أنها كانت كتابة زيد بن ثابت حتى غيرها عثمان2- والثالث تقديم وتأخير، إما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه وسلب ثوب زيد. وإما في الحرف، نحو: أفلم ييأس وأفلم يأيس؛ والرابع زيادة حرف أو نقصانه، نحو: ماليه وسلطانيه، فلا تك في مرية؛ والخامس اختلاف حركات البناء، نحو: فلا تحسبن "بفتح السين وكسرها"، والسادس اختلاف الإعراب، نحو: "ما هذا بشرًا"، وقرأ ابن مسعود بالرفع، والسابع التفخيم والإمالة، وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب، وقد مر معنى ذلك.
قال: فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقًا فيه، ليعلم بذلك أن من زل عن ظاهر التلاوة بمثله أو من تعذر عليه ترك عادته "اللغوية" فخرج إلى نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه؛ وكل هذا فيما إذا لم يختلف في المعاني. ا. هـ.
وهو قول حسن يحمل به الحديث على معنى القراءات التي هي في الأصل فروق لغوية، وإن كان بعض الأحرف قد قرئ بسبعة أوجه وبعشرة، نحو: "مالك يوم الدين" و"عبد الطاغوت".
والذي عندنا في معنى الحديث: أن المراد بالأحرف اللغات التي تختلف بها لهجات العرب، حتى يوسع على كل قوم أن يقرءوه بلحنهم، وما كان العرب يفهمون من معنى الحرف في الكلام إلا
__________
1 وقد روي هذا الحديث بألفاظ أخرى.
2 علمت مما قدمناه السبب الذي من أجله جعلوا كتابة المصحف لزيد، وقد كانوا يعلمون اختلاف المذاهب اللغوية في العرب، فكانوا يعهدون بالكتابة والإملاء، إلى الأفصح منهم خيفة أن ينزع المملي أو الكاتب إلى لحنه ولغة قومه فيحمل الناس على أحرف مختلفة, وهم إنما يخطون المصاحف ليحملوهم على حرف واحد، ولهذا قال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف. وقال عثمان: اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف.(2/46)
اللغة1، وإنما جعلها سبعة رمزًا ما ألفوه من معنى الكمال في هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسموات السبع، والأرضين السبع، والسبعة الأيام التي برئت فيها الخليقة وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوي ما وراءها بالغًا ما بلغ؛ وهذا الرمز من ألطف المعاني وأدقها: إذ يجعل القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله2، على أنه مع ذلك لا يبلغ منه شيء في المعارضة والخلاف، وإن تماد العرب في ذلك إلى الغاية، إذ هو لغات تنزل من أهلها منزلة السموات ممن ينظرونها، والأرضين ممن يضربون فيها، وهلم إلى آخر هذا الباب، فذلك قولهم بأفواههم، وهذا قول الله الذي يكابرون فيه ويطمعون أن يسامتوه بأقوالهم، وما لهم منه إلا أن يهتدوا به وينتفعون بما فيه كما ينتفعون بالسماء والأرض دون أن يكون لهم من أمرهما شيء. ثم أشار أفصح العرب صلى الله عليه وسلم بظهر كل حرف وبطنه وحده, ومطلع كل حد إلى حقيقة هذا الإعجاز، فإن ظاهر القرآن على أي لغة قرئ بها من لغات العرب إنما هو ظاهر تلك اللغة بعينها، ولكن باطنه صورة السماء في الماء، ومسميات إلهية لا تنال وإن نيلت الأسماء، ثم إن لكل لغة في امتزاجها بالقرآن حدا يقف عنده أهلها، وهو الحد الذي تبتدئ منه الجنسية اللغوية، ولكل حد من هذه الحدود مطلع يصدر منه إلى مرتقى هذه الجنسية التي كان القرآن أخص مقوماتها، وذلك في جملته إنما هو الإعجاز كله، والهدى كله، والكمال كله.
__________
1 أما بعد الإسلام فخصوا لفظة الحرف من القرآن بكل كلمة تقرأ منه على الوجوه، فيقولون هذا حرف ابن مسعود مثلًا، يعنون قراءته.
2 ألف الأديب الصفدي كتابًا في عدد السبعة لكماله وشهرته سماه "عين النبع على طرد السبع"، ومما قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله؛ لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج فيها أول وثان، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثان، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثاني، أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كان سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد، مع الستة التي هي عند الحكماء عدد تام، يكون منهما السبعة التي هي عدد كامل؛ لأن الكمال درجة فوق التمام. وهذه الخاصة لا توجد في غير السبعة. ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية وتسعة وعشرة إلخ. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
ثم ساق أمثلة من استعمال الناس لفظ السبعة في كل ما يريدون به الكمال.
قلنا: وهذا الذي اعتل به لإدخال الواو في قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس بشيء وإنما وجه به كلامه توجيهًا، أم الصواب فإن الواو إنما كانت في هذه الجملة دون غيرها مما تقدمها، لتؤذن بأن الذين قالوا إنهم سبعة كانوا على ثقة مما قالوه ولم يرجموا بالغيب، ولهذا فصلوا بين القوم وبين كلبهم الذي ليس فيهم إلا في العدد؛ وارتفاع هذه الواو من الجملتين الأوليين جعلهما لا تصفان إلا الشك وجعل سياق الكلام يؤكد أن الحساب في الجملتين من الغلط، وأن القول به لم يصدر على القطع والتحقيق، ولذا قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أي: لم يبق بعدها وجه للعدد وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، فتأمل كيف انتظمت هذه الواو معنى الآية وكيف تكون البلاغة المعجزة التي تجعل في تركيب الكلام أسرارًا كأسرار الخلق الحي، ولا زعمات صاحبنا الصدفي، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا لوضع الكتاب الذي نكمل به كتابنا هذا! فنبسط فيه من أسرار الآي وإعجازها ما تطلع به الشمس لمن أبصر فيراها، ولمن عمي فيحسها!(2/47)
ولسنا ننكر أن هذا التأويل قد يكون بعيدًا بدقائقه عن متناول أذهان العرب، ولا أن فيه شيئًا من الكد، ولكنه على كل حال قريب ممن ورثوا العرب في لغتهم وقصروا عنهم في فهم حقائق الإعجاز بتقصير الفطرة فيهم، ثم لا بد أن يكون العرب قد فهموا الحديث على نحو مما يؤديه تفسيرنا الذي ذهبنا إليه، إذ لا يعرفون من الحرف وظهره وبطنه؛ والحد والمطلع غير الصفات التي تتعلق باللغة، ولأمر ما كان كلام النبوة خالدًا كأنه قيل في كل عصر لأهله وقبيله, وكأن هذا الزمان إنما هو شاهد يجيء بالبينة على صحة تأويله.
ولو أن هذا الحديث قد جاء تأويله نص على النبي صلى الله عليه وسلم يعين المراد منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم: فإن ذهبت مذهبنا؛ وإلا فخذ مما أحببت أو دع!.(2/48)
مفردات القرآن:
وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس.
وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلًا؛ جميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان رحمه الله يقول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه.
ولقد كان رضي الله عنه يجلس بفناء الكعبة ثم يكتنفه الناس يسألونه عن التفسير وثبته من كلام العرب، وأسئلة نافع بن الأزرق التي ألقاها عليه وأومأنا إليها في باب الرواية من تاريخ آداب العرب مشهورة، وقد أجابه عليها ابن عباس، واستشهد لجوابه بنيف وتسعين بيتًا من الشعر العربي الفصيح، فلا نطيل بسردها؛ فإن الكلام يتسع بما لا فائدة منه إلا معرفة الألفاظ وتفسيرها1.
ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يخرجها مخرج الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان، ونحوها مما نقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدثة، أو يكون سياق الألفاظ، قد دل بالقرينة على معنى معين غير الذي يفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: فإذا بيناه فاعمل به.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يسمون فهم هذا الغريب "إعراب القرآن" لأنهم يستبينون معانيه ويخلصونها؛ وقد روى أبو هريرة في ذلك: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" وبهذا الأثر ونحوه مما تأتي فيه لفظة "الإعراب" زعم طائفة من أبناء الطيالسة2 وطائفة من قومنا الذين في قلوبهم مرض، أن اللحن -أي: الزيغ عن الإعراب- كان يقع من الصحابة في القرآن لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، ضلة من القائلين، وذهابًا إلى معنى "الإعراب" النحوي، ثم غفلة عن لغة الاصطلاح، والاصطلاح في أهله ضرب من الوضع: لا يحمل على كلامهم غير ما حملوه عليه.
وكذلك عد العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفرس
__________
1 إذا أردت أن تقف عليها مستقصاة، بل مزيدًا فيها إلى ما لم تبلغه، فأرجع إلى الجزء الأول من كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي.
2 أبناء الطيالسة: كناية عن الأعاجم. وكان العرب يقولون للعجمي إذا عيروه: "يابن الطيلسان" كأنه عندهم ابن ثوبه.(2/49)
والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن؛ لأنه لا يسد مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الأول، فيكون قد خاطب العرب بما لم يوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء؛ لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة.
ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في نفسها أنه لا يوجد غيرها يغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفرادًا ولا تركيبًا، وهو قول يحسن بعد الذي بيناه.
ومن ألفاظه ما يسميه أهل اللغة بالوجوه والنظائر، والأفراد.
أما الوجوه والنظائر فهي الألفاظ التي وردت فيه بمعان مختلفة: كلفظ الهدى، فإنه فيه على سبعة عشر وجهًا، بمعنى: الثبات، والدين، والدعاء، ونحوها. ومن هذه الألفاظ: الصلاة، والرحمة، والسوء، والفتنة، والروح، وغيرها. وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن وسياسة القرينة في العربية شريعة من شرائع الألفاظ.
وأما الأفراد فهي ألفاظ تجيء بمعنى مفرد غير المعنى الذي تستعمل فيه عادة، ولابن فارس في إحصاء هذا النوع كتاب قال فيه: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن، إلا قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فمعناه: أغضبونا. وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب, إلا قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فهي القصور الطوال الحصينة, وكل ما فيه ذكر البر البحر؛ فالمراد بالبحر: الماء، وبالبر: التراب، إلا قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالمراد به البرية والعمران. وعد من مثل ذلك هو وغيره أشياء؛ فهذا ما يسمونه في لغة القرآن بالأفراد.(2/50)
تأثير القرآن في اللغة:
لا نتكلم في هذا الفصل عن الوجوه اللغوية التي ابتدعها القرآن في الكلام فصارت من بعده نهج الألسنة والأقلام، ولا عن وجوه تأثيره باللغة, فإن لكل من ذلك موضعًا هو أملك به، وإنما نقص لك طرفًا من القول في هذه اللغة كيف ظهرت في آياته للزمان حتى لا يظن أنها لغة عصرها، وكيف بهرت بغاياته في البيان حتى ليقال إنها لغة دهرها، وكيف جاوز بها قدرها الطبيعي بعد أن صار هو من قدرها.
نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معًا: فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه وفي أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض وإنما كان ذلك؛ لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجزاها في ظاهرها على بواطن أسرارها, فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها الحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة الدقيقة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهرًا لا يقضى العجب منه؛ لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود؛ لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم1، ورقة غير ما انتهى إليهم من أمر الحاضرة. وهذا معنى ليس أظهر منه في إعجاز القرآن، فإن اللغة لا تشب عن أطوار أهلها متى كانت من غرائزهم، وإنما تكون على مقدارهم ضعفًا وقوة؛ لأنها صورتهم المتكلمة وهم صورتها المفكرة، فهي ألفاظ معانيهم وهم في الحقيقة معاني ألفاظها؛ ولذلك لا تزيد عليهم ولا ينقصون عنها ما دام رسمهم لم يتغير وما دامت عادتهم لم تنتقل، فإن سنح لامرئ من أهل النظر أن يستدل في لغة من اللغات على آثار أمتها بنوع من القيافة المعنوية؛ كما يستدل صاحب القيافة النظرية من الأثر في الطريق على مذهب صاحبه لا يخطئه، وعلى بعض صفاته لا يتعداها, فذلك ممكن لا تهن فيه القوة ولا يبلغ به الإعياء، متى هو تقدم فيه بالذهن الثاقب وتعاطاه بالقريحة النافذة؛ لأنه يستظهر من اللغة الصفات على الموصوف ويجعل المعروف قياسًا لغير المعروف.
وأنت إذا صبغت يدك بهذا الفن من القيافة اللغوية، وحاولت أن تستخرج من لغة القرآن ما يصف لك العرب على أخلاقهم وطباعهم ومبلغهم من العلم؛ فإنك تحاول محالًا، وتكابر فيما يأبى عليك وما ليس في الحيلة إليه غير المكابرة، حتى إن الذي لا يعتقد مستبصرًا أن هذا القرآن من عند
__________
1 يقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم، إذا كان عربيا خالص البداوة. وهما نبتتان من نبات البادية.(2/51)
الله إذا هو نظر فيه وأثبت حقيقته وقوي على تمييزها وكان ممن ينزلون على حكم النظر والمعرفة، فإنه لا يجد مناصًا من رد التاريخ والتكذيب له، ثم الإقرار بأن هذا القرآن إنما هو أثر من لغة قوم جاوزوا في الحضارة حد أهلها من سائر الأجيال, وبلغوا من أحوال المدنية أرقى هذه الأحوال، وكانوا من العلوم في مقام معلوم؛ لأن هذا الماء الصافي الذي يترقرق في عبارته، وهذا النظم الجيد الوثيق، وما اشتمل عليه من بدائع الأوصاف، وما فيه من روائع الحكمة ثم ما احتوى عليه من إشارات السماء إلى الأرض، وضراعة الأرض للسماء، إلى ما حله من معضلات الاجتماع، وكشفه من وجوه السياستين النفسية والقومية، لا يكون ألبتة في لغة أمة قد أناخت بها أخلاق البداوة في ساقة الأمم حتى عبدت الأصنام، ولم تعرف من الشرائع غير شريعة الإلهام، وما ملكها من ملوك الدهر غير سلطان الأوهام.
فهو إذا قرأ قوله تعالى1: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا، وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
نقول: إذا هو قرأ هذه الآيات البينات ثم تدبرها وأحسن حملها وتأويلها ولم يكن كدر الحس ولا مريض الذوق، فإن أحرفها تسطع له من نور الأخلاق بما يرى فيه أمة تضج في الحضارة وتختبط، ومدنية تضطرب من أهلها وتختلط، فلو أن أعضاء المجمع العلمي الفرنسي لعهدنا أرادوا مخاطبة أمتهم التي أوهاها الترف بلينه، وأخذت في ظن الإثم بيقينه, ورقت فيها الأعراض وبدأ نسلها في الانقراض، وتغالبت في وجوه المدح والذم، وسبح شرف أهلها يغتسل في الدم. وهبت فيها الرذائل بأنواعها، ورمتها كل أمة من أمم الأرض بدائها واسترسلت أخلاق الفتنة بين جراثيمها، وأوشك أن يتصل ما بين تقيها وأثيمها, واجتمعت فيها النقائض اجتماع جوار، لا اجتماع نفار، من الإلحاد والإيمان، والصلة والحرمان، والحب الذي هو كالدين والعبادة إلى البغض الذي هو كالطبيعة والعادة، والائتلاف الذي ليس له تلاف، والإمساك الذي ليس له مساك، إلى غير مما هو ألوان صورتها
__________
1 اتبعنا في كتابة هذه الآيات الكريمة رسم المصحف الشريف.(2/52)
الاجتماعية التي هرمت وهي مع ذلك تتصابى، وعلمت وهي على ذلك تتغابى، قلنا: لو أن أولئك النفر أرادوا مخاطبة هذه الأمة على أن يتخولوها بالموعظة، لما أصابوا في غرضهم أسد ولا أحكم ولا أبلغ من تلك الآيات، يعرضونها على القوم فيبصرونهم صورة مجموعهم في مرآتها، ويعرفونهم مبلغ سيئاتهم من حسناتها؛ وينفضون إليهم جملة الحال في شبه الإيجاز النظري من كلماتها1 فلو أن ذلك واقع ثم أثرت عن القوم هذه الموعظة ورواها التاريخ بعد الأمد المتطاول، لما استطاع امرؤ ذو علم بالتاريخ وفلسفته أن ينكر أن المراد به الأمة الفرنسية بعينها في القرن العشرين بعينه، وانظر أين ما بدأت مما انتهيت؟
وما دام ذلك قد تحقق في المعاني، وكانت هي سبيلًا إلى الاستدلال عليه، فالاستدلال بالألفاظ ومسابقتها لتلك المعاني في الدقيق والجليل أيسر وأسهل.
فلا مذهب لمن يفهم الكتاب الكريم، ويقف على دفائن الحكمة فيه إلا أن يدفع به المذهب إلى إحدى اثنتين: إما أن يعتقد أنه أنزله الذي يعلم الغيب في السموات والأرض، فجاء كما يراه: أمرًا من أمر الله، وإما أن ينكر هذا ويعتقد أن القرآن الذي بعث به النبي الأمي في أولئك الأميين إنما وضع في زمن كانت فيه الأمة العربية غير نفسها، وكانت بالغة ما شاء الله من علم وجهل، وحضارة وبداوة، وصلاح وفساد؛ إذ يجد ما يصف كل ذلك على حقيقته الصريحة في القرآن2. وأيهما أنكر وأيهما أقر، فإنه سبيل الحجة إليه ينحوها، وهو يظن أنه يمحوها, ويكشفها، ويحسب أنه يكسفها {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن قد جمع أولئك العرب على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية التي جعلت أهل لكل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مرغبًا، إذ يرونها كمالًا لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه. ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء -كهذا الكمال البياني في القرآن- أن يجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسباب المتباينة، والصفات المتعادية؛ ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقيادًا يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرة والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسع بينه وبينهم الغاية.
وقد كان العرب على حال يتوهم فيها كل قبيل منهم أنه أسلم فطرة في اللغة وأبين مذهبًا في البيان؛ لأنهم لا يجدون من ذلك إلا أمثلة ترجع إلى الفطرة وتختلف باختلافها، ولا يجدون المثال
__________
1 المراد بالإيجاز النظري: استيعاب العين للحقيقة كلها في لحظة واحدة وهو إيجاز الحقائق الحسية.
2 كتبنا هذا سنة 1914 للميلاد ثم جاء "طه حسين" أستاذ الأدب في الجامعة المصرية فأخذ به في كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أخرجه سنة 1926 واستدل بالقرآن على أن العرب كانوا أمة سياسة وحضارة إلخ.... وهو من جهله وإلحاده، فانظر ردنا عليه في كتابنا "تحت راية القرآن".(2/53)
الفطري الكامل الذي تقاس إليه القدرة والعجز في ذلك قياسًا لا يلتاث1 ولا يختلف، ولا يحط من صنف حقه أن يزاد فيه، ولا يزيد في صنف حقه أن يحط منه.
ومن أعضل الأمور وأشدها التباسًا أن يكون امرؤ من الناس قادرًا على أن يقيس ببيانه، أو علمه بمذاهب البيان, قدرة أقوام وعجزهم في أمر معنوي كاللغة، متى كانت مذاهبهم إلى أنواع من الاختلاف في القدرة والعجز، وخاصة إذا كان أمر اللغة فيهم إلى السليقة والفطرة، فإن من ينتصب لذلك وإن أراد أن يسقط، وحاول أن لا يحول فهو لا بد مخطئ تعيين المراتب في المقدار الفاضل، وتعيين ما يقابلها في المقدار المفضول، ثم مخطئ في تمييل الحكم بين المقدارين، ولا يجيء من رأيه إلا بما تعرض فيه الخصومة أو تطول؛ لأن قياس مثل ذلك من الفطرة لا يتهيأ إلا بعمل يحتوي كل دقائقها وما يمكن أن تبلغ إليه من الكمال المطلق الذي هو الحد الأعلى في طبيعة تركيبها، ومثل هذا لا يكون ألبتة من إنسان ينزل على حكم هذه الفطرة نفسها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ ولأن قابل الكمال لا يكون في نفسه حدا للكمال، ومن أجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه أفصح ذي لسان وأبلغ ذي لب، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغاية التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها، كما ستقف عليه في موضعه.
فيلزم من ذلك أن يكون القياس الذي أشرنا إليه أمرًا فوق الطبيعة وليس فوقها إلا أمر الله، وهو القائل عز وجل: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
وينبغي لك أن تطيل النظر في قوله تعالى: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وتقف على موقع هذا الفصل من الآية، وتتأمل لفظة "العوج" فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه, فتراها تصف القرآن بأنه فطرة هذه الفطرة العربية نفسها, وإنها لكلمة من الوصف الإلهي ترجع في موقعها بالكلام الإنساني كله.
فقد وضح لك أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته، ولو لم يجتمعوا لتبدلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بد، حتى تنتقض الفطرة وتختبل الطباع، ثم يكون مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة، إذ لا يخلفهم عليها إلا من هو أشد منهم اختلاطًا وأكثر فسادًا، وهكذا يتسلسل الأمر حتى تستبهم العربية فلا تبين -وهي أفصح اللغات- إلا بضرب من إشارة الآثار، وتنزل منزلة هذا "الهيرغليف" الذي قبره المصريون في الأحجار وأحيته هذه الأحجار.
وذلك معنى من أبين معاني الإعجاز، إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن، ولقد كان أسلوبه البياني الذي جمع له العرب هو الذي اقتضى ما أحدثه العلماء بعد ذلك من تتبع اللغات وتدوينها ورواية شواهدها، والتحمل لها؛ فكان صنيعهم صلة بين
__________
1 أي: يلتبس ويختلط.(2/54)
اللغة وبين العلوم التي أفرغت عليها من بعد؛ لأن لغة من اللغات لا تحيا ولا تموت إلا بحسب اتصالها بمادة العلم الذي به حياة أهلها وموتهم، وهي لا يلبسها العلم إلا إذا كانت قشيبة محكمة، لا تضيق عن أنواعه وفروعه ولا يخلقها الاستعمال.
وإنما شباب هذه الحياة اللغوية أن تكون اللغة لينة شديدة كما يكون كمال الإنسان بقوة الخلق والخلق: وهذا وجه لو لم يقمها عليه القرآن لما استقامت أبدًا، ولا وقفت على طريقه، ولا تلاقى فيه آخرها بأولها، لما أومأنا إليه, وسنزيد هذا المعنى بيانًا إن شاء الله.
ويبقى وجه آخر من تأثير القرآن في اللغة، وهو إقامة أدائها على الوجه الذي نطقوا به، وتيسير ذلك لأهلها في كل عصر، وإن ضعفت الأصول واضطربت الفروع، بحيث لولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها.
وهذا أمر يكون في ذهابه ذهاب البيان العربي جملته أو عامته؛ لأن مبناه على أجراس الحروف واتساقها، ومداره على الوجه الذي تؤدى به الألفاظ، وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يحكمون منطقهم وما يصنعون بالأساليب المدمجة والفقر المتوثقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجود الكلام في جزالته وقوة أسره وصلابة معجمه إلى الفسولة والضعف، وإلى البرد والغثاثة، كأنما يموت في ألسنتهم موتًا لا رحمة فيه.
لا جرم أن اللغة التي يذهب منها ذلك لا ينطق بها إلا على الحكاية السقيمة، ولا جرم أن بعض السقم يدفع إلى بعضه، وأن جملة ذلك تفضي إلى الموت.
فهذه معان سامية غريبة انفردت بها العربية، ولولا القرآن ما كانت فيها وما ينبغي لها بكلام غيره؛ إذ ليس في غيره ما يبلغ أن يكون حدا للكمال اللغوي في الفطرة، فيتعلق بمثل أثره في العرب وأحوالهم وتاريخهم، أو يقع من ذلك على مقدار مقسوم، أو يكون له فيه حق معلوم.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
صدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلا؟.(2/55)
الجنسية العربية في القرآن:
لك بعض ما تناصرت عليه الأدلة واجتمعت على صحته، من تأثير القرآن في اللغة وما أصلح الله لأهلها في هذه البقية، حفظًا لكتابه، وإظهارًا لوجه من وجوه إعجازه الخالدة؛ ولكن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما تقول فيه من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجارًا في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية، في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشد بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا انضموا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما إن يزالوا في التاريخ مرة أضوله، ومرة فصوله، وإن لم يقوموا أحيانًا بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها، ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها.
ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردها من الفائدة، فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب هذا العالم كما سيأتيك. بيد أن سبيل ذلك من اللغة، فإن القرآن تنزل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية، إذ كان بما احتواه من الأساليب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفرق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألوا عما يدنيها إليه معالجة واكتسابًا؛ ولو أنهم تمالئوا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعاديًا في الرأي؛ وتباعدًا عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصًا فطريا وهو يحسبه كمالًا، ويبعد الكامل على حقيقة ما يلتمسه من الكمال بعد أن يرى غيره قد حسبه نقصًا؛ لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان، ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق، وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن.
تلك سياسة هذا القرآن: جمع العرب لمذهب الأقدار وتصاريف التاريخ, رأى ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبد بالتكوين العقلي في كل أمة, فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاح الباب الذي تلج منه إلى مستقبلها؛ فإن كل أمة تستفيد عقلها الحاضر من ماضيها، لتفيد مستقبلها من هذا العقل بعينه، فلما استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم، وطرحت عليها نقائصها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها؛ فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة، وراءها خيوط من الأعنة؛ حتى أصبح تاريخ الأرض عربيا، وصار بعد الذلة والمسكنة أبيا، واستوسق لهم من الأمر ما لم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء(2/56)
العرب، حتى كأنما زويت لهم جوانب الأرض، وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها؛ لا غزاة يفتحونها؛ فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره, ولا يكاد يشير إلى "قطر" من أقطارها إلا أراك كيف تدور عليه "الدائرة".
وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه، فإنما هو أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءًا كضوء الصواعق، وحركة كحركة الزلازل، وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض، فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة، أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء1 نفضت على الأرض جنودًا عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل، وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب، ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها، إذ كان لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها ... ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونههم، حتى لأحسبهم
إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض, وكان أهل السَّرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها.
وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن، بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها؛ لأن القرآن هو صفي تلك الطباع، وصقل جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة. فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفًا من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم.
ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها، وصرفها في وجوه معانيه -ما بلغ من القوم رأيًا ولا نية، ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم- ما يذهب به جملة ويمسح أثره في القلوب، ولا يدع له مساغًا إلى ما وراء السمع؛ لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب، وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة، ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى، كلها فصيح وكلها بيان، وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها، وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك؛ وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن أخلاقها وعاداتها. ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة؛ فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كأنما هي ليست من لغة أحدهما، فلا تبلغ منه ولا تمسه، كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من الكرم يلقاها جواد وبخيل.
أنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلت تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك من الخواطر إلا ما أحكمه العقل, فإنك واجد منه سبيلًا إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالعنف محضًا بعد
__________
1 من ديار بني تميم، وهي سبعة أجبل من الرمل، ويكثر ذكرها في كلام الشعراء.(2/57)
اللين ممزوجًا، حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم، بل ردد ذلك وكرره، وعمهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم؛ وهاج منهم حمية الجاهلية، وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى؛ وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواة في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال؛ ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا!
لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير؛ وإلا فما بال هؤلاء العرب قد خرجوا من تاريخهم بعد الإسلام كأنما نزعوا جلدتهم نزعًا، على حين كانت لهم الأمور المطمئنة، والصفات المتوارثة؛ من أخلاق شبوا عليها، وعادات ينازعون إليها، وطبائع هم بها أخص وهي بهم أملك، ولم يكونوا مقطوعين عن التاريخ، بل كان لهم ماض أحسن ما تكلف به الأمم، وكانوا عليه أحرص ما تكون أمة على ماضيها -كما نصفه في غير هذا الموضع- فلا الزمان تولاهم بعمله وهدم في أرضهم بمقدار ما بنى أو قريبًا من ذلك، ولا هم ورثوا طباعًا من طباع وأخلاقًا من أخلاق وخرجوا من ماضيهم كما تخرج أمة من أمة في سلسلة طويلة الذرع من حلقات الأجيال التي هي درجات للنشوء في تاريخ كل مجتمع، ولا رأيناهم فيما وراء ذلك كالشعوب التي تمخضها الحوادث مخضًا شديدًا، وتتعاورها بالحروب والفتن، فتهدمها أنقاضًا ولا تبدل منها إلا الشكل الاجتماعي، وإلا هيئة الوضع، والأمة بعد ذلك هي هي كيف هدمت وكيف بنيت: لا تزال على أعراقها وأخلاقها، وربما عصفت الثورة الكبرى بأمة من الأمم، وألحت عليها بالفتن دائبة، ثم تسكن العاصفة، وتقر الزلزلة، وتطمئن الأرض وأهلها، ولا يكون من جداء ذلك كله إلا اصطلاح لغوي في تاريخ الأمة لا يغني من الحق شيئًا؛ كأن تكون الأمة غريرة جاهلة مستبدا بها على وجه من الاستبداد، ثم تصير بعد الثورة غريرة جاهلة أيضًا، ولكن في استبداد على وجه آخر!
فالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلة الزمان في عمله وآثاره؛ لأن الذي أنزله بعلمه وقدره بحكمته إنما هو خالق الزمن نفسه، فهدم في نفوس العرب، وكان هدمه بناء جديدًا جعل الأمة نفسها قائمة على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ؛ وهذا هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي, وبين شيء يسمى ممكنًا وشيء يسمى معجزًا.
بلى، ولقد يخيل إلي أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرءوس, فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة، ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة، وكل ما يجيء من قبل الطبع وعلى حكم الفطرة لا يراه أهله نظرًا يقبلونه أو يردونه، ولكنهم يرونه ضرورة مقضية ليس لهم على حال بد من قبولها. وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لا يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم، ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض؛ ولم يتخذوا السيف نابًا إلا ليأكلهم، ولا الحرب ضرسًا إلا لتمضغهم.... وكانا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية.(2/58)
ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت، إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الطود الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين، إن يكن منها فهو لعمرك استخذاء، وإن كان من الجبل فهو لعمري استهزاء....
ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها1 إلا عصبية الروح2، إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم، وساوى بين نفوسهم، وأجرأهم على المعدلة في أمورهم، فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت؛ لأنها لا توجهه إلا لله، فكان بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية، فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة، ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد، وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلًا إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها، على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم التربية في الأمم بأبدع منها.
فأما التوفيق بين مذاهب قلوبهم؛ فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير، وأما التأليف بين ألسنتهم فيما ذهب إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر، ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظًا وحفظًا وأداء، لا يجد إليه التبديل سبيلًا، ولا يأتيه الباطل موجهًا أو محيلًا، ولا يدخله التحريف كثيرًا أو قليلًا، بحيث كأنه عقدة لغوية لا تحلل منها الألسنة المختلفة أبدًا؛ وهذا من أرقى معاني السياسة، فإن الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق؛ وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها، فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد، وفيها كذلك التغرير والخطار، والكذب والخداع، ولكل من أهلها شرعة ومنهاج.
فبقاء القرآن على وجهة العربي، مما يجعل المسلمين جميعًا على اختلاف ألوانهم، من الأسود إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد، فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه، وانتفى من صفته الطبيعية؛ لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله، إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه.
وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى: فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال، ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة، ولا يؤثرون عليه رضى، ولا
__________
1 وفي الحديث الشريف: "ليس منا من دعا إلى عصبية؛ وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية". وإن لتستطيع أن ترجع كل بلاء الإنسانية في أهوالها وحروبها وطغيانها ومذلتها إلى كلمة العصبية؛ لأن معناها في الحقيقة انقطاع بعض الإنسانية من بعض ظلمًا وعدوانًا، أو على ظلم وعدوان.
2 سنبسط فلسفة هذا المعنى في الفصل الثاني.(2/59)
يعدلون به عدلًا، ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله، ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه، ثم هم لا يرون أنفسهم المؤمنة في إحساس الفطرة، ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها "أي: الأرض" ويشبه بعضها بعضًا بالصفة والخاصة أني وجدت وكيف اتفقت وعلى أي حالة كانت، وهذا كله مشاهد فيهم على أتمه وأبلغه، بعد كل ما رهقهم بالعجز عن مداولة الأيام، وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام.
على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسونه، ولا يتصلون إلى سببه، وكأنما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم، وقد بقي القرآن على ذلك معروفًا مجهولًا، ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .
وإن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن: أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية؛ من الأنفة والعزة والصوت1 والغَلَب: وما يكون من هذا الباب الاجتماعي الذي لا يزال يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض2.
كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غمرهم، وكانوا أهل ذمتهم: لانتحالهم العربية طوعًا أو كرهًا، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت؛ ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة، ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية، بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ، وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها، حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط، ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعيًا أو ملتهمًا, ثم لا يمكن لهم من دينهم، ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استحقاقهم بالأمة التي وثبت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد، فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان، ولا تشدد للسان خذله القلب، ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم، وتلك سنة من السنن {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن، وهو بعد زمام السياسة مهما جمحت في الأرض.
ولقد ترى اليوم هذه التوراة وهذه الأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصلية إلا شرذمة قليلة من اليهود وغير اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة, ولا نرين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد، ثم استبدلت الألسنة واللغات بهذه الكتب، فهي شريعة ولا هي جنسية جامعة، وإنما نراها في كل أمة من الأمة نفسها، ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها، وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرءون فيها إلا إذا أرادوا الاستغراق في رؤيا تاريخية، والعارف عارف من
__________
1 يراد بلفظ الصوت: الأمر والنهي على المجاز؛ لأن ذلك لا يكون إلا به.
2 كناية عن الممالك كأنها حجرات في القصر الأرضي.(2/60)
يثبت فصولها ومعانيها، أو يعرف ذلك فضل معرفة.
وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية "الغوط" وبين صنيع العرب، فإن أولئك أغاروا على إيطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا أن ملكوها حتى ملكتهم، إذ تركوا أهلها وعادتهم من اللغة -وغير اللغة- ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية، حتى رغبوا في العلم، فاستجادوا المهرة من علماء الرومان، ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها، فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية، وهم قرءوها بها وأقروها عليها، فذهب غوطيتهم وذهبوا على أثرها، وأدالت اللغة الرومانية لأهلها منهم، فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا في لغة قبلها! ألا فأقبل أنت على هذا المعنى وتدبره حتى تحكم ما وراءه، فلقد تركوها آية بينة!
وبعد، فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض.... ولن تلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها، واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق، وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد، إذ تعلق الدين والسياسة معًا بفرع واحد من الفروع، هو الذي نقلت إليه التوراة، فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هي معه إلى زيغ حتى انطوت في ظله، ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي، ونسيت نسيان الميت.
وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان: الإنكليزي، والهولاندي، وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر، ثم أناف الإنكليزي حتى صار ما عداه من ظله، وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت في الأرض الجرماني، كالأسوجي والأيسلندي وغيرهما.
واللاتينية، فقد استفاضت في أوروبا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهًا في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.
فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي؛ حتى صارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا ... لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادة العقل بل مادة الحياة؛ وقد يكون العقل في يد صاحبه يضمن به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية زمنًا بعد زمن1، ولخرجت
__________
1 لم نقف على ثبت يدل على أن اللغة العامية دونت في عصر من عصور التاريخ أو دون بها شيء، وقد ذكرنا ذلك في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، ثم عثرنا على أن أبا عقال الكاتب "في القرن الثالث" قد وضع كتابًا سماه "الملهى" وصف فيه أخلاق عامة بغداد وشيمهم ومخاطباتهم، وأورد هذه المخاطبات على سردها في منطقهم، والكتاب غير معروف. أما في زمننا فالعامية تدون، ولها صحف تنشرها وأتباع يتولونها ويقولون بها، وذلك من بعض فساد الزمن وانحراف الرأي بالعقيدة والجهل العلمي.... وانظر تفصيل ذلك في كتابنا: "تحت راية القرآن - المعركة بين القديم والجديد"(2/61)
بها الكتب، ولكان من جهلة الملوك والأمراء، وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي, من يضطلع من ذلك بعمل، إن لم يكن مفسدة فمصلحة يزعمها، كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية، حتى خرج منها اللسان الطلياني، وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي، وهو العامي من اليونانية. ولولا أن أحدًا استقبل من ذلك شيئًا وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمرًا بعض ما فيه العنت كله والضياع بجملته، ولشق على نفسه في بلوغا إرادة لها من شعور كل نفس عدو، حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس في بدء؛ لأن له مدة نفسه وحدها1 وللناس عمر التاريخ كله؛ ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين، وأراد أن يتولى عمل التاريخ، فليس بدعًا أن يجعله التاريخ بعض عمله؛ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
__________
1 أو كما قلنا في بعض مقالاتنا، إن لهذه الفئة قبورًا بعددهم وهي تنتظرهم.(2/62)
آداب القرآن:
ونحن الآن تلقاء نوع آخر من الإعجاز الأدبي، وهو ضريب تلك المعجزة السياسية التي أومأنا إليها في الفصل المتقدم، وسنقول فيه على وجه من الإيجاز والتحصيل، فإن آداب هذا الكتاب الكريم إنا هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع أنى وجدت وحيث تكون. إذا لم يراوغ الناس معنى الإنسانية في أنفسهم، ولم يتمنوا فيها الأماني الباطلة، ولم يصدموها بالعنت بين كل رغبة ورغبة وبين كل رأي ورأي؛ لا ترى أن أمة تفضل حتى تضيق هذه الآداب عنها، أو قبيلًا يلتوي حتى تكون منه بمقصر، أو قومًا يصلحون حتى لا تصلح لهم، فإنها بعد آداب الفطرة التي لا تتغير في هذا الخلق، على ما بين طوائفه من التباين، وعلى الضروب المختلفة من أساب هذا التباين وعلله، مما ترجع جملته إلى تنوع الصور النفسية العامة التي تنشأ من الأفكار والعادات وما إليها من الأجزاء التاريخية التي تجتمع منها الأمم، وتنشأ منها قواعد الحكم وضوابط الاجتماع ونحوها من الكليات التي يتألف تاريخ الأمة من آثارها.
ولا شيء يشبه نظام هذه الفطرة في تسويتها بين الناس على ما وصفنا من أمرهم، إلا نظام الجاذبية في تأليفه بين الأجرام المتفاوتة وإمساك جملتها على اختلاف ما بينها وتباعدها فيما وراء ذلك؛ وليس نظام الجاذبية في التسبب لإصلاح العالم الكبير إلا شبهًا من الفطرة النفسية، ولا نظام هذه الفطرة في الإنسان الذي هو العالم الصغير إلا شبهًا من تلك الجاذبية, وكلاهما يغني شأنًا أراده الله من خلق السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.
وقد خرج الناس من أصل واحد ولا تزال طبيعة الحياة فيهم واحدة، فكل ما أمكن أن يرجع إلى النفس الإنسانية ونظامها فهو في أصله وطبيعته شيء واحد وجنس متميز، وإنما الذي يتغير في الإنسان مظاهر فكره، إذ هو يستمد هذا الفكر مما يتقلب عليه من الحوادث، ومما يريغه من الأمور؛ وذلك شيء ليس في الناس على قدر واحد ولا صفة معينة ولا أمر مستقر، لا يغادر الدهر أن يزيد بسبب وينقص بسبب، والناس بعد ذلك متفاوتون فيه بالزيادة والنقص جميعًا. فما كان من الآداب الاجتماعية
ناشئًا من العادة التي هي بعض مظاهر الفكر، فهو كالعادة نفسها: يدور معها ويتغير بحسبها؛ وما كان منها راجعًا إلى طبيعة النفس التي هي مصدر الفكر، فهو يشبه أن يكون طبيعة للاجتماع الإنساني وعلى مقدار ما فيه من قوة الملاءمة لطبيعة النفس أو ضعف هذه الملاءمة يكون ضعف الحياة الأدبية فيها أو قوتها.
وما يزال أمر الآداب الصحيحة في كل جيل من الناس يرمي إلى غاية بعينها من الإنسانية المطلقة التي لا تحد بألوان المصورات1 كما تفصل حدود الأمصار والممالك، فإن الله لم يلون الناس تلوينًا جغرافيا. وذلك مما يدل على أن نوعًا من الإنسان لا تجزئه شرائع أرضه وعاداتها عن الآداب النفسية
__________
1 كتب المصورات الجغرافية.(2/63)
التي تجعل الفرد إنسانًا من الناس قبل أن تجعله تلك الشرائع وتلك العادات فردًا من أمة، فإن فصل ما بين حق الأمة على الفرد من أبنائها، وبين حق الآداب عليه؛ وهو أن كل أمة تريد أفرادها على أن يكونوا أبدًا مع الحال التي تتفق بها مصلحة على وجه أمرها، وإن كان في ذلك المفسدة وكان فيه معنتة ومأثم، وكان فيه كل ظلم للإنسانية ومراء في الحق وإصرار على الباطل؛ وأن لا يدعوا لها سبيلًا إلا ركبوه، ولا هوى إلا حطوا فيه، ولا منفعة إلا هدموا دور جيرانهم ليفتحوا بابها، ولا حاجة إلا قطعوا أسباب حلفائهم ليعترضوا أسبابها، فإن هذه الإنسانية وهذا الحق وذلك الباطل ليست غير أدوات سياسية تعمل في تحريك كل مجموع سياسي يسمونه الأمة؛ وقلما تتخذ السياسة لها فعلًا إذا أرادت أن تضرب في الأرض، إلا من "جلود" القوانين الممزقة.
غير أن الآداب على الفرد أن يكون أبدًا مع الحق، لا مع الحالة التي تسمى حقا في لسان من تنفعه وباطلًا في لسان من تضره, إذا الحق في اعتبار الآداب ما كانت في مصلحة الإنسانية نفسها باعتبار النظام الذي يعمها، لا مصلحة جزء منها باعتبار النظام الذي يخصه؛ ومبدأ الإنسانية قائم على أن الله لم يخلق إلا صنفًا واحدًا من الناس، ولكن مبدأ كل أمة سياسية أنها هي ذلك الصنف الواحد.
فلولا الآداب النفسية في طبائع الإنسان، وما تمكنه من صلات الناس بعضهم ببعض، وما تعطف منهم جماعة على جماعة، وما تطلق من حد المساواة، وما تحد من معنى الجزية، لكان وجه الأرض قد تغير بما يشملها من الفوضى الإنسانية، ولانتقض أمرها، ثم لكانت الشرائع نفسها أشد في إفسادها من الفساد كله، ثم لصارت كل أمة كأنها جنس من الحيوان: في قيامه بنفسه، وانفراده بنوعه، وتميزه بالعداوة لغيره، فههنا آكل وههنا مأكول؛ فإذا العالم قد أودى وقطع دابر القوم الذين ظلموا.
والشريعة في الجملة لا تعدو أن تنزل من كل مجموع من الناس منزلة المرشد المصرف للأفعال على جهة بينة من الحكمة، وطريقة لائحة من المنفعة؛ فهي في الحقيقة عقل هذا المجموع الذي يعقل به وينقاد لأمره، ثم هي بعد ذلك من المنزلة في نفسها بحسب ما تبلغه من الوفاء بأسباب السعادة، والكفاية بحاجات الاجتماع، إلى سائر ما تشبه فيه العقل الإنساني شبهًا تاما ونعتًا محققًا. ولكن الآداب تتنزل من المجموع منزلة النفس الإنسانية التي بها الحياة، والتي هي الكفيلة دائمًا بتحقيق النسبة بين العقل وبين أغراضه المعقولة وبين الأشياء التي هي مادة هذه الأغراض.
فالآداب لا تكون في الإنسان إلا شرائع، ولكن الإنسان إذا عري من الأدب النفسي، فربما شرع لنفسه ما لا يصنع الشيطان أخبث منه بل ما يركض فيه الشيطان ركضًا؛ وقلما انتفع من لا أدب له بشريعة من الشرائع وإن كانت في الغاية التي لا مذهب وراءها في تهذيب النفس ودرء المفسدة عنها بحسم مادتها أو ما سبيلها أن ترد به، ومن تقويم الطباع، وتثقيف الأخلاق، وتثبيت الإرادة، وتعيين الحد النفسي لكل منزع إلى الخير وإلى الشر، حتى تستوضح للمرء مذاهب نفسه، فيمضي إذا مضى على بينة، ويعدل إذا عدل عن بينة1. وانظر ما عسى أن يكون موقع الشريعة من نفس ترى أن كل
__________
1 تستطيع أن تتبين هذا المعنى في "أناتول فرانس" الكاتب الفرنسي الشهير الذي هلك في السنة الماضية "1926" وافتتن به وبآرائه بعض شباننا فهو حيوان من أعقل العقلاء، وعاقل من أكبر المجانين ... وكل أقدار نفسه في آرائه وكفى(2/64)
هذه الآداب التي توجب لها المنافع على الناس مجتمعين لا توجب عليها للناس منفعة.
من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخلق الإنساني المحض الذي لا يضعف معه الضعيف دون ما يجب له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدب عقيدة لا فكرًا إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازغ كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عين الله لا تنفك ناظرة إليه من ضميره.
وبين أن الاجتماع إنما هو شيء روحاني، وأن الأمة لا تجتمع إلا بقوة من قوى التجاذب الروحي، تبنى عليها الأغراض الاجتماعية التي هي المبادئ الأولى في الحياة، وعلى حسب الصفة الروحانية التي يقوم بها الاجتماع، ثم قوة المادة الروحية فيها، يكون أمر هذا الاجتماع إلى القوة أو الضعف، وإلى الثبات أو الاضطراب، وإلى أن يكون مستحصدًا أو منتكثًا. وعلى قدر ما يفقد من صفته يفقد من نفسه، فإذا زالت تلك الصفة وانسلخ منها، تعاورته صفات المادة فصار كالشيء المادي الذي تعمل فيه كل الأسباب الظاهرة تركيبًا وتخليلًا، فلا يتصل الفرد بغيره من الأفراد اتصالًا ثابتًا لا تنفصم عروته، ثم لا يكون من الأفراد إلى مجموع فرد إلى فرد على هذه الصفة عينها، وما من شعب منحط إلا وهو مثال لهذا الاجتماع المادي الذي يمتاز أكثر ما يمتاز بالصفة العددية وما كان من أسبابها مما هو علة الضم، والضم وحده لا يغني في الاجتماع شيئًا.
وأنت إذا تدبرت هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجفاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت مها ذرة وقع وراءها عربي! بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داع للصنم وراع للغنم، وعالم على وهم، وجاهل على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إليهم أطرافها.
وليس من دليل في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلًا اجتماعيا كذلك الجيل الأول في صدور الإسلام، حين كان القرآن غضا طريا، وكانت الفطرة الدينية مؤاتية، وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقًا جديدًا، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعًا، والعلوم قاطبة، لم تنشئ جيلًا من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان(2/65)
من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحق، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله.
وهذا على كثرة عديدهم، وترادف تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم؛ وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك، بل يجعل هذه الأرض مثال السماء؛ لأنه في نفسه مثال الملك.
وماذا تريد من علوم الأخلاق وعبر الاجتماع وفلسفة التربية وآداب السلوك وما إليها مما يبتغى ذريعة في كل وجه من إصلاح الإنسانية، إذا كانت كل هذه إنما تلتمس الناقص أو المعوج أو الفاسد، أو الضال، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصح إليه على طريق من الجدل والمدافعة والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغًا ولا تؤخذ إلا على أنها ثقاف ودربة وتمكين، وما كل الناس يحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا القيام، وهي بعد وإن كانت علمًا غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة ويشوبها الاجتماع ويفسد عليها الظن والتأول. فكل كتاب من كتبها خيال رجل كامل على الحقيقة؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجل في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة "اليمين" جميعًا؛ إلا أن تصيب ذلك في الفرط والندرة.
وإنما كان ما علمت، لقصور هذه الآداب عن استبطان حقائق الفطرة الإنسانية، والكشف عن دخائلها، واستنارة دفائنها، وتمثل مذاهبها النفسية على الوجوه التي تذهب إليها هي لا تلك الوجوه التي يمضي فيها النظر والتأمل والحدس والقياس والتنظير ونحوها من وسائل العلماء إلى الاستنباط والاستنتاج وإلى القطع والتقرير، حتى خرجت تلك الآداب من أن تكون آدابًا إلى أن صارت قضايا متداخلًا بعضها في بعض، وأقيسة يفضي بعضها إلى بعض، فصارت كالشيء المختلف الذي لا ينفك يخذل بعضه بعضًا؛ لحملها على العقل دون الخلق، واعتمادها على جملة الفائدة دون الطريقة التي تنتهي إلى الفائدة، وبذا ضعفت آثارها في النشء من دون الطفولة، فضلًا عن ذوي العنفوان من الأحداث ومن أغفال الرجال، إذ لم تمازج أنفسهم! ولا داخلت طبائعهم المتطلعة التي إنما يكون الشر بها شرا، فلم تثبت ثبات العادة، ولا أغنت غناء الدين، وبقيت التربية الطبيعية كما هي: للدين والعادة1.
وإنما انفردت آداب القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفت من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحيًا يوحى إلى كل من يفهمه ويقف عنده متثبتًا بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكر ويملأ الصدر عجبًا؛ وهذا تفسير ما جاء
__________
1 كان نابليون يقول: إن البواعث الدينية والإيثار والتقوى هي التي يقوم بها بناء الأمم، وهذه الثلاث هي التي لا يشتد القرآن الكريم في شيء ما يشتد فيها.(2/66)
في الأثر من أن "من قرأه فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه".
وذلك -أي: ما وصفناه من شبه الوحي- ظاهرة التحقيق فيمن تدبر القرآن من أهل الذوق في اللغة والبصر بأسرارها والمعرفة بوجوه الخطاب والحنكة في سياسة المنطق، فكيف به في قوم كالمضرية من هذه العرباء: تنبع اللغة من ألسنتهم، وتجري الفصاحة على ما أجروها، وتنزل البلاغة على حقوقها وعلى أماكن حظوظها من حكمهم ورضاهم، وهم بعد ذلك من هم في تصريف القول والافتنان فيه، وسعة الحيلة في التأني لإبرازه واجتماعه على الغاية، حتى تعود الجملة الطويلة لفظًا واحدًا، والمعنى البعيد لحظًا قريبًا وحتى تصير حروفهم كنبض البرق في اشتماله ما بين أقطار السموات، على أنه إشارة ودون الإشارة؛ ثم كيف بذلك في قوم كأولئك العرب وهم كانوا من حس الفطرة بحيث يفسخ البيان عقد طباعهم، وينض قواهم المبرمة، ويرخي معاقدهم الوثيقة؛ بل كيف به يومئذ، وقد كانوا يأخذونه عن لسان أفصح خلق الله منطقًا، وأصحهم أداء، وأجملهم إيماء، وأبدعهم في الإشارة، وأبينهم في العبارة, وهو صلى الله عليه وسلم كان بينهم مظهر خطاب الله لأولي الألباب، وتفسير كل ما في القرآن من الأخلاق والآداب.
بذلك استطاع القرآن أن يؤلف من العرب -وكانوا بشرًا لا نظام لهم- أكبر جماعة نفسية عرفها تاريخ الأرض وفي تاريخها على حساب ذلك في روعته وغرابته وقوته وفائدته، إذ وجدت من آداب القرآن قلبًا اجتماعيا عاما استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والاعتقاد، وأحالها كلها فكرًا واحدًا يستمد قوته من الخلق الذي قام به لا من العقل الذي ينشأ عنه؛ وليس يخفى أن العقل هو مظهر تاريخ الأمة، ولكن الخلق دائمًا لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ، فلا جرم لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذ لم يكن قائمًا على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق.
وإنما صح هذا؛ لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ التي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها؛ لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين طبقات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد.
ولا يشتد القرآن الكريم في شيء فيجيء به على العزيمة القاطعة التي لا مساغ للعذر فيها ولا وجه للتعلل عندها، كما تعرف ذلك منه في الأخذ بالأخلاق الاجتماعية، فإنه لم يجعل في أمرها على الناس هويداء ولا رويداء، بل أمضاها وأعلنها ورفع من شأنها وجعلها من عزائمه، حتى لا يشك فيها من عسى أن يشك في غيرها، ولا يرتاب من ربما كانت الريبة من أمره، وحتى إنه لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأبلغ الصفات وأشرفها وأسناها، لم يزد على قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
فكان الأصل الأول فيه لهذه الأخلاق هو "التقوى"1. وهي فضيلة أراد بها القرآن إحكام ما بين
__________
1 المراد بالتقوى ما نفصله هنا من معناها، ولكن لما ضعفت الأخلاق الإسلامية بما ورثت من فساد الاجتماع واستبداد الملوك وظلم الرؤساء وصارت التقوى إلى معناها المتعارف، وهو الذل والانكسار والزهد في الدنيا وشدة الخوف، وما إليها مما هو فساد اجتماعي محض لا يجلب مصلحة، ولا يدرأ مفسدة كأن الله لا رحمة له.(2/67)
الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آياته القرآنية والاجتماعية؛ والمراد بها أن ينفي الإنسان كل ما فيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره، لتكون حدود المساواة قائمة في الاجتماع، لا تصاب فيها ثلمة ولا يعتريها وهن: وكل ما أصاب الاجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين بديا؛ لأن هذه التقوى هي مصدر النية في المؤمنين بالله، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالًا ولا تنفك متطلعة منازعة، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويغمضون في تقواه ويترخصون في زجره ووعيده، فكأنهم لا يبالونه ما بالوا أمر أنفسهم، وكأن ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لا يحفل بالله نفسه، وهو أمر كما ترى. يريد القرآن أن يكون المنبع الإنساني في القلب، ثم أن يبقى هذا المنبع ما بقي صافيًا ثرا لا يعتكر ولا ينضب، كأنما في القلب سماء ما تزال تمد له من نور وهدى ورحمة.
وهذا الأصل -أصل المساواة- هو الذي كشفه القرآن بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعية التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفرق فيها الجنس الإنساني كله وهي الخلق من "الذكر والأنثى": وكيف وصف الغاية الاجتماعية للناس شعوبًا وقبائل بأنها "التعارف"، لم يزد على هذه اللفظة التي لا تشذ عنها فضيلة من فضائل الاجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة اجتماعية يمكن أن تدخل في مدلولها ولن تجدها إلا منصرفة عنها في الغاية.
ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرم الناس المتساوين جميعًا في الحالتين الفردية والاجتماعية، هو أتقاهم، أي: أعظمهم خلقًا، لا أوفرهم مالًا، ولا أحسنهم حالًا، ولا أكثرهم رجالًا، ولا أثقبهم فهمًا، ولا أعلمهم علمًا، ولا أقواهم قوة، ولا شيء من ذلك وأشباه ذلك مما لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلا في إدبار الدولة واضطراب الاجتماع وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنه دربة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائل صرفة لا شوب فيها!.
ولا يمكن أن تفسر "التقوى" على التحديد والتعيين في كلمة تستوعب كل معانيها وما يتصل بها إلا كلمة واحدة، هي "الخلق الثابت" ومهما أدرتها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلها فإنك لا تجد اسمًا واحدًا يلبسها لا فاضلة عنه ولا مقصرًا عنها.
لا جرم أن هذا الأصل الاجتماعي الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الآية، هو الأصل الذي انشعبت منه كل فضائل المساواة والحرية، وإنه لذلك مقدم على الإيمان، إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وأنه يقضي بكل أنواع الحرية التي تفيد الاجتماع، وكلها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أن الذي ننبه عليه من فضيلة التقوى أو الخلق الثابت في القرآن؛ أنه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطباع الموروثة وما لا بد للنفس الإنسانية في التخلق به من الكد والمعاجلة ومن شدة الاعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانية التي هي أصل الفطرة وغريزة الجبلة أن هذا كله في وصف الفضيلة وجماع الأمر لا يزيد عن كونه "أقرب للتقوى" وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} والشنآن: العداوة والغضب، وما في حكمهما.(2/68)
وهذا على أنها "من قوم" لا من فرد كما ترى في الآية الكريمة؛ فينطوي في هذه الإضافة الحرب والاستعمار وغيرهما فتأمله.
ثم اعتبر القرآن أن خير الأمم على الإطلاق إنما هي الأمة التي تتبسط في مناحي الاجتماع على هذا "الخلق الثابت"، فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثم مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد، وهو الإيمان بالله؛ فالأمة التي تكون لأفرادها فضيلة التقوى، تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة، وهي أنها خير أمة، على هذا جاء قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فتأمل كيف قدم وأخر؛ فإنك لا تجد هذا النسق إلا ترتيبًا لمنازل الفضيلة الاجتماعية الكبرى تجعل الأمة في نفسها خير أمة، وبالحرى لا تجد هذا الترتيب إلا نسقًا في وصف الآداب الإسلامية التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوا وأخذوا بها خير أمة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه.
وإنما أركان الفضيلة الاجتماعية الكبرى في ثلاث, كلها حرية واستقلال:
1- استقلال الإرادة وقوتها وهذا هو الذي يكون عنه "الأمر بالمعروف"1 لا يكون بدونه ألبتة.
2- استقلال الرأي وحريته، ويكون منه "النهي عن المنكر" ولا يمكن أن يكون بغيره.
3- استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيمانًا على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفًا ويشدهما ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناس من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجلة. ونحوها مما ينقم الناس بعضهم من بعض, وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله, فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفق مع صحة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك, ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ارجعين إلى الإيمان بالله دخلًا في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علة وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل والمهارشة والنزاع الحيواني, فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يأمر بمعروف هو معروفه وحده وينهى عن منكر هو منكره وحده.
فانظر هل جاءت علوم الفلسفة والاجتماع بعد ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن بما ينقض هذه
__________
1 اعترى لفظة المعروف ما أصاب لفظة التقوى، وإنما المعروف، كل ما يعرفه العقل الصحيح حقا. والمنكر: كل ما ينكره. ففي ذلك تقويم لكل إنسان من الملوك فمن دونهم، غير أن هذا المعنى لم يكن على حقيقته إلا في أهل الصدر الأول ثم كان أول من عاقب معاوية بن أبي سفيان الذي جعل الخلافة ملكًا عضوضًا في هذه الأمة، وكان بعد ذلك أول من تكبر من الخلفاء وأنف أن يساوى بالناس وأن يدعى باسمه الوليد بن عبد الملك، ثم انحدر الزمن انحداره ...(2/69)
الحقيقة؟ وهل قررت إلا تفسيرها1 بوجوه ضعيفة مضطربة لا تبلغ في الكمال مبلغًا ولا تقارب هذا المبلغ؟ وهل في الآداب الآنسانية التي قامت عليها الأمم لهذا العهد مثل أن تكون سعادة الإنسان في منفعة الناس، وإن احتمل في ذلك المكروه واقتحم الصعاب وبذل من ذات نفسه وحفظ من حق غيره ما يضيعه ولو ضاع هو فيه، وذكر من واجبه ما ينساه ولو كان ذلك مما يفقده وينسبه، ثم لا يكون هذا حتى يكون مقدمًا على سعادة نفسه التي هي الإيمان، تقدم السبب على المسبب: كما يؤكد ذلك نسق النظم في الآية الشريفة التي مرت بك ...
اللهم إنه دينك الذي شرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنساية الذي قلت فيه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
تلك جملة من القول في الخلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغن عنهم من الخلق شيئًا، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الإمبراطورية الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذا امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معًا إذا كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سببًا في سقوطه!
وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمه، ولا يدركون حكمه، ولا ينزعون أخلاقه وشيمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانت شرا من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرون هذا الكتاب إلا أحرفًا، ولا ينطقون إلا أصواتًا، وتراهم يرعونه آذانهم وهم بعد لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس، وفي هؤلاء الجاهل والفاسق والوضاع والقصاص وذو الغفلة والمتهم في دينه وفهمه، ومن أكبر عرضه من القرآن حجج المخاصمة وبينات الجدل في مقارعة أو الرد على مذهب أو التأول لرأي أو النضح عن فئة، أو ما يشابه ذلك! وأولئك جمهور من يفهم عنهم المسلمون إلا نادرًا، ولا حكم للنادر2.
__________
1 آخر ما انتهت إليه الفلسفة أن الأمم على الأخلاق وعلى هذه العقائد.
2 من الثابت البين أن من لم يحكم فهم القرآن فهمًا صحيحًا لا تتم له فضائل هذا الدين، وفي بعض الشعوب المسلمة التي لا عربية لها ولم يتخولها علماء العربية من أهلها أو غير أهلها بالتثقيف والموعظة لا ترى الإسلام إلا تهذيبًا لأديانهم وعاداتهم القديمة ليس غير, ففي بلاد الدكن، وعند قبائل دراقان، يؤلهون النبي صلى الله عليه وسلم ويعبدونه، وفي بعض جهات الهند وفارس أصبح شطر الإسلام من العقائد الوثنية. وإنك لترى هذا الأمر فاشيًا حتى في الشعوب العربية العامية كالجزائر في بعض جهاتها، ومراكش، ومصر، والسودان، وغيرها. وما من شعب منها إلا له عادات تاريخية يمزجها بالدين ويراها منه، فما تزال غربة الدين تتبع غربة العربية ونحن لا نزال نذكر حديثًا أطرفنا به من نحو عشرين سنة شيخ رحالة يضرب في الأرض، فإنه تحدث -وكنا من حاضري مجلسه- فذكر أنه نزل بقبيلة في حدود الصين تنتحل الإسلام -وقد ذهب عنا اسمها- فلما رأوه ينطق العربية ويقرأ القرآن وحدثهم أن حج البيت وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أقبلوا عليه واحتفوا به وكادوا يعبدونه، ثم ذهبوا يتشاورون في إكرامه بما هو أهله, فلم يروا أكرم له عندهم من أن يذبحوه, ثم يتخذوا عليه مسجدًا, فيكون شيخ دينهم إلى يوم الدين. فما علم الرجل بها حتى هام على وجهه وكاد يهلك في مجهل من الأرض، لولا أن تداركه الله بلطف من رحمته.
كتبنا هذا للطبعة الأولى "سنة 1914" أما الآن في "سنة 1927" فنضيف إليه ما وقع في تركيا من بعض أهلها وحكامها: فكأنما كان الإسلام شعرًا على رءوسهم وحلق, ولكنه سينبت وسينبت ومن يعش يره!(2/70)
وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبين ما في البيان، وأسد ما في الرأي، وأبدع ما في الأدب، وأقوم ما في النصيحة، وبما هو التام الجامع لكل ذلك, إذا جعلت تملأ به مسامع الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهًا من وجوه الاستواء، ولا تملك إليهم سببًا من أسباب التأثير، ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها، إلا في فنون من جهل الجهلاء ولغط العامة وأوهام السخفاء، وفي انتقاض الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلا قلوبهم مساغًا {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
لا جرم كانت هذه علة العلل في أن القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهله ما كان له من قبل، ولا بعض ما كان له؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يجروه من ذلك على حقه، بل أصبحوا لا يستحون من الله أن يجعلوا قراءة كتابه ضربًا من العبادة اللفظية يرجون عند الله حسابها؛ ويبتغون في الأعمال ثوابها، ولا يشكون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابها، على أنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
ذلك وجه الإعجاز الأدبي في القرآن، وهو متصل باللغة اتصالًا سببيا كما رأيت؛ ثم هو من وراء الجنسية العربية التي بسطنا القول فيها؛ لأنه تحقيق تلك العصبية الروحية، أما حقيقة هذا الإعجاز مما يتعلق بحال الآداب نفسها وكونها آداب الفطرة المحضة التي تماد الزمن؛ لأنها مادة الإنسانية؛ ولأنها فصل ما بين الإنسان في حيوانيته وبين هذا الحيوان الناطق في إنسانيته؛ فالقرآن كله برهان هذه الحقيقة، ونحن ملمون بها إلمامًا على ما بنا من الضعف، وعلى ما بها من القوة، وعلى أنه ينبغي أن تكون الإفاضة فيها غرض كتاب برأسه في بيان ما هي الجهات المتقابلة من علوم التربية والاجتماع وفلسفة الشرائع، فإن هذه العلوم بما انتهت إليه وعلى جملتها وتفصيلها، ليست إلا شروحًا مبسوطة للمبادئ القليلة التي هي ملاك الآداب، والتي حصرها القرآن حصرًا محكمًا, وجاء بها على سردها وجهاتها، كما يتبين ذلك من يقرؤه قراءة بحث وتأمل؛ ومن زعم أن هذه الآداب علم أو هي تكون علمًا فلا يقصر سبيل الحجة إليه طول الخصومة في زعمه مهما أطلنا؛ فإن أصل الأمر في الآداب حالة النفس لا حالة العقل1؛ وكم رأينا في أجهل الناس من سلامة النفس ورحب الذرع وإخلاص الطوية وصدق اللسان والقلب وضروب من الآداب كثيرة، ما لم نر بعضه ولا الخالص من بعضه في العلماء عامتهم أو أكثرهم؛ وإنما {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
__________
1 من هذا ما يقول بعض فلاسفة الغربيين: إن أوهامنا لتكثر كلما كثرت معارفنا. قلنا: وإن أغلاطنا لتكثر كلما كثرت أوهامنا، وإن شرنا ليزيد كلما زادت أغلاطنا!(2/71)
وقوام الإنسانية في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إليه آداب القرآن:
الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلة فاصلًا طبيعيا بين فرد وفرد، وبين أمة وأخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعًا متباينة بطبيعتها، ثم ينشق النوع إلى أجناس، ثم كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظام الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسان مع تقادم الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعة ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع ...
الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يبتلى به الإنسان من الخير والشر فتنة، حتى لا يحيف القوي ولا يستيئس الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزاهز، كالحروب ونحوها، إلا عملًا إنسانيا يبتغى به دفع اعتداء وإقرار حق ورد باطل وتقويم زيغ، إلى أمثالها مما هو في حدود المرحمة والمبرة، وليس يعدو بحال من الأحوال أن يكون وسيلة من وسائل الزجر والتأديب، إذ قد خلا من ابتغاء الهلكة ورغبة الفناء وإبادة الخضراء، ونرئ من معايب هذه السياسة الحيوانية التي لا تقوم لها قائمة إلا باعتراض الغفلة وانتهاز الضعف وبالكيد والمخاتلة، وتنزه مع ذلك عز دناءة المقصد وسفال الغاية وسوء الذريعة، وعن الخبث الإنساني في الجملة.
الثالثة: حد هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوة الأزلية، حتى يتحقق معنى المساواة فيها، فإن كل ما هو أدنى فهو سواء في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض. ولولا هذا الحد لما أمكن أن يجمع الناس على آداب يكون من غايتها أن تحوط الإنسانية فيهم، إذ يبعدون هذه الإنسانية من قلوبهم إلى ما وراء إنكارها والتكذيب لها، فلا يبقى لآدابها وجه تعتبر منه أو يؤخذ به في أمرها، ومن ثم لا تكون الإنسانية إلا الغلظة والفظاظة في الأقوياء، وإلا الذلة والمسكنة في الضعفاء، وتكون كل ذرة تسقط على الأرض من نعل القوي تفتح في الأرض قبرًا لرجل ضعيف، فلا تعمل في العمران يومئذ إلا آلات الهلاك والدمار، حتى يبقى الإنسان من الدنيا كأنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا1 ولذا كانت الأديان الإلهية كلها متفقة في حد هذه النسبة التي أشرنا إليها، بل كان هذا الحد أساس الاعتقاد في جميعها؛ لأنه أساس كل نظام إنساني في الأرض.
وهذه الثلاث فإنما هي جماع ما تقول به الإنسانية المحضة في صفاتها الإلهية التي هي غريزة النفس وصلة ما بين المخلوق والخالق، ولذا أمكن أن تكون {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وأن تكون من آداب كل عصر وجيل، لا تعترضها حدود الزمن؛ ولا ينال منها تقلب الأيام؛ ولا تغادر الدهر أن يراها الإنسان من نفسه بحيث وضعها الله، وهي بعد أمهات الفضائل وأصلها الذي تنشق
__________
1 وهذا ما ستنتهي إليه المدنية الغربية وحضارتها إن مضت سائرة على طريقتها؛ وقد بسطنا رأينا فانظره في كتابنا "تحت راية القرآن".(2/72)
منه. وقد نرى هذه الفضائل الاجتماعية على اختلافها أطوار الناس، على تفاوت مقاديرها فيهم، كيف تلتقي إلى هذه الثلاث؛ وكيف تدور عليها حتى لا يقطع على الرذيلة بأنها رذيلة إلا إذا كانت تعدو على جهة من تلك الجهات في سبيلها أو غايتها، فأما أن تكون في الأرض رذيلة لا تفسد شيئًا من ذلك ولا تلم به، فهذا ما لا يكاد يصح في عقل صحيح.
وأنت إذا تدبرت آداب القرآن الكريم حيث أصبتها منه، رأيتها قائمة على تلك الثلاث جميعًا، فإن روح هذه الآداب كلها في ثلاث كلمات من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. فليس في الناس اختلاف كاختلافهم في كل ما يرد إلى تعيين حقيقة النسبة في المساواة بين الإنسان والإنسان، وما الظلم والتعسف والمكابرة والمخاتلة، ولا كل الرذائل الاجتماعية، إلا مظاهر متعددة لهذا الاختلاف بعينه؛ ولا القوانين والعادات والشرائع وكل الفضائل الاجتماعية، إلا وسائل مختلفة لتبين هذا الاختلاف على حدود بينة من الحق، وهيهات أن يكون للناس هدى إلا بالطرق التي يتخذونها لحياطة تلك النسبة ويأخذ بها بعضهم بعضًا, وهيهات أن يصيبوا أثرًا من الرحمة لأنفسهم إلا بحد تلك النسبة وإقامة هذا الحد على التقوى التي هي مظهر الإيمان فيما بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
وكل الوسائل التي تعمل في النهضة الإنسانية فإنما هي ترجع إلى ثلاث كلمات تقابل تلك الثلاث أيضًا وهي: صلة الحرية بالشريعة وصلة الشريعة بالأخلاق وصلة الأخلاق بالله, وعلى تفصيل هذه الثلاث جاءت آداب القرآن الذي لو بلغت الإنسانية في وصفه بما وسعها ما بلغت مثل قوله تعالى فيه: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} فانظر كيف يكون تصوير العاطفة وتأثيرها العصبي وما وراء تأثيرها.
لا غرو كان هذا القرآن من أجل ذلك إنما يصف جمل الآداب، أي: الكليات الأدبية التي تلائم الفطرة في مختلف أزمانها، ولا يقرر الأخلاق تقريرًا وضعيا على أسلوب الكتب والمصنفات، فيضعها على أن لها قواعد وضوابط وأشباه القواعد والضوابط، مما هو مثار الاختلاف ومبعث الفرقة في مذاهب الحكماء، ومما لا تكون الآداب معه إلا معادة على الناس في كل عصر بنوع من التنقيح وضرب من التغيير يناسبان اختلاف كل عصر عن الذي قبله، بل إن المعجزة في هذه الآداب الكريمة أنها تقرر الأخلاق تقريرًا عاما، فيصفها القرآن على أنها هي القواعد لغيرها، والضوابط لما يبتنى عليها، ويوردها في أحسن الحديث؛ ويعترض بها وجوه القصص ويقلبها مع أغراض الكلام ثم لا يكون في ذلك وجه من وجه الخلاف بينها وبين الفطرة الإنسانية، على ما في تلك الآداب من الإطلاق، وعلى أنها غير ملحوظ فيها دولة بعينها أو أمة بأوصافها، أو نحو ذلك من ضرور الحد والتعيين؛ فليس فيها من روح الزمن إلا روح الزمن كله بحيث لا يتأتى للفيلسوف ولا المؤرخ إلى أن يردها أحدهما أو كلاهما في جملتها إلى عصر بعينه لا تعدوه، أو يقصرها على حد تقفها عنده
__________
1 تأمل هذا القيد في جعله الهدى والرحمة "لقوم يؤمنون" فإذا انتفى الإيمان انتفت معه كل آداب الإنسانية، كما هو واقع.(2/73)
الإنسانية وتتقدم بغيرها مما يقال فيه إنه الأصلح أو الأنفع، ولو أن الدهر قد فنى ثم نزع من كل أمة شهيد وعرضت عليهم آداب القرآن فقابلوها بفضائل آدابهم واعترضوا بعض ذلك ببعضه ثم قيل هاتوا برهانكم عليها، لأقر الزمن بألسنتهم جميعًا أنها الحق وأن الحق لله.
من أجل ذلك تجد الخطاب الأدبي مطلقًا في القرآن كله كأنه نظام إنساني عام لا يراد به إلا حرية المنفعة للنوع كله، ثم الموازنة بين مقدار هذه المنفعة وبين مقدار الحرية التي تنال بها، ليكون كل شيء في نصابه الاجتماعي، فإن إطلاق الحرية عبث، وإطلاق المنفعة ضرر أو ضرار، ولو سوغت كل أمة أن تقارف ما تريد بمقدار ما يهيئ لها ضعف غيرها من الحرية في بسط يدها لكان من ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير.
وإن كل أمة اضطربت فيها الموازنة بين الحرية والمنفعة، فإنما يكون ذلك حاضر تاريخها مبدأ العبودية لغيرها؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه علوم الاجتماع لهذا العهد.
وكذلك كل ما في آداب القرآن الكريم من الأمر والنهي، فإنما يراد به ضبط الصلة بين عالم العقل وعالم المادة على وجه بين؛ ولولا ذلك ما كانت هذه الآداب زمنية تحيي روح الزمن كله، بل لكانت من غير هذا العالم، فلا يستقيم لها بشيء ولا تستقيم هي لشيء1 ثم لا تكون في الناس إلا عنتًا وإرهاقًا ولا يتهيأ معها صرف ولا عدل، ولا يكون منها في الزمن إلا اسمها، وإلا الخبر أنها كانت يومًا فتلحق في التاريخ بباب الفضائل الذي لا يلجه إلا القليل، مع أن وراءه كل أسماء الحكماء والفلاسفة.
والإنسان إنما يصرف ما يشاء من النواميس الثابتة لعالم المادة فيما يرجع بالنفع والضرر، فإذا أطلقت يده في ذلك فكأنه جزء ناقص من نظام الكون؛ أو جزء ينقصه شيء من هذا النظام؛ بيد أن الآداب إذا أحكمت صلته بذلك العالم المادي على وجه بين حلاله وحرامه، فلا ينحاز إلا في حد من الحدود المرسومة، ولا يبغي شيئًا لم تتعين تبعته، ولا يستدخل في أمر إلا وهو في ربقة من نظامه الاجتماعي2 فإنه يكون قد استكمل حينئذ ما كان ينقصه، أو ما كان يجعله ناقصًا إن خلا منه، وما دامت الحياة مادة، فللمادة حكمها في الحياة.
وما تدبر هذا القرآن أحد قط إلا وجده يطلق لكل إنسان -على القوة والضعف والعزة والذلة- إرادة اجتماعية أساسها الفضيلة الأدبية: حتى لا تكون بطبيعتها إلا جزءًا من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادة المجموع، ولقد كانت تلك الإرادة الاجتماعية هي الحلم السماوي الذي أطبق عليه الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعًا، ولم يتحقق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيح لآداب القرآن؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبية بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتفق لها أن تبلغ من الفطرة؛ فكانت أعمالها مظاهر لتلك القوة التي سميناها "الإرادة
__________
1 كما ترى فلسفة بعض الحكماء الخياليين في الأعلى، أو الحيوانيين في الأسفل.
2 أي: عهد ومسئولية، والمراد أن يكون الإنسان حرا، ولكن حدود الحرية المشروعة بقوانين الإنسانية.(2/74)
الاجتماعية" ولو أن العلوم كلها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئًا من غنائه، ولا ردت عليهم بعض مرده؛ فإن الفضيلة العقلية التي أساسها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظرية التي ربما اهتدى بها المرء وربما ظل بها على علم، ولكن الفضيلة الأدبية تدفع إلى الإرادة العملية دفعًا؛ لأن هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل، ومتى صحت إرادة الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعة من عمل الأمة، ولا بد أن تكون الأمة القائمة بأفراد من أمثاله قطعة من عمل التاريخ الاجتماعي؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب في التاريخ، وهو وليهم بما كانوا يعملون.
ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلا أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأ قبل أن يجعل له شريعة، ثم لا يقيم الشريعة إلا على هذا المبدأ، فيكون المرء محكومًا بيقينه وفكره لا بظنه ولا بعادته؛ وبذلك يكون بناؤه الإنساني قارا في حيزه الإنساني.
وأنه ليستحيل ألبتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعي ما دام له يقين ثابت في آداب المجموع.
هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنية في كل ما تقدم، تفاديًا من الإطالة واقتصارًا على غرض الكتاب، مما يجزئ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على الكثير وإن لم تكن هي إياه غير أنها تعينه وتصفه، ومن ضرب بالحدود على فضاء واسع من الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئ النظر الهين أن يطبقه ويستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك من تعرفه وقياسه واستخراج مبلغ ذرعه ما يبلغ العنت؛ ما ليس في العنت أبلغ منه.
وبالجملة فإن القرآن إنما يريد بآدابه وعظاته الإنسان الاجتماعي لا الصورة الإنسانية التي تخلقها العصور التاريخية والسياسية أصنافًا من الخلق، أو تفتري عليها ضروبا من الافتراء، فهو يريد كل ما فيه من الآداب الاجتماعية على هذه الجهة لا يعدوها، وليس فيه من آية من الأدب والأخلاق إلا هو يريغ بها ناحية من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روح آدابه في أنفس المسلمين لا تغير في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنها فيهم طبيعة وراثية، ولقد كانت هذه الروح -ولم تزل- هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادوا استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممن اشتدوا عليه ليخذلوه، ثم كانوا بعد ذلك من أشد أهله في نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلام لا دعوة له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما شاء الله، إلا القدرة التي هي مظهر آدابه أو روح هذه الآداب؛ فحيثما وجدت طائفة من أهله وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم، وإن لم يتسخر هو من ورائهم الدعاة المنتخبين ولم يستحثهم للجولة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدنيا ليترامى بهم إلى غرضه في كل شرق، وتلك دلالة صريحة على أنه الدين الطبيعي للإنسانية، إذ تأخذ فيه النفس عن النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط ... وهي حقيقة زمنية لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلها!
وبعد فما أفصح وأبلغ، وما أصح وأوضح ما ورد في صفة القرآن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيه(2/75)
نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل" 1. ونحن فما عدونا في كل ما قدمناه تفسير هذه الكلمات القليلة، وإن فيها بعد لفضلًا فاضلًا، لو وجد له فاضلًا، وقولًا طائلًا، وأصاب له قائلًا.
__________
1 يفهم العربي من هذا الحديث أن في القرآن تاريخًا وأنباء من الغيب وشريعة، أما نحن فنفهم منه أن فيه تاريخ الاجتماع الإنساني وتاريخ مسائله وحل مشكلته التي لا بد منهم في كل عصر مما يزيغ الناس بحكم ما بينهم، وإن ذلك كله مراد به جد الحياة لا هزلها، ومعانيها الباقية في تاريخها الذاهبة في تواريخ أفرادها.
وتأمل كيف قال: "ما قبلكم، وما بعدكم" ولم يقل: من قبلكم ومن بعدكم.(2/76)
القرآن والعلوم:
وللقرآن وجه اجتماعي من حيث تأثيره في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليوم أنها لم تكن قبل إلا سببًا، فإن في الحق ما يسع الأشياء وأسبابها جميعًا.
وليس يرتاب عاقل -ممن يتدبرون تاريخ العلم الحديث، ويستقصون في أسباب نشأته، ويتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه؛ وعند الرأي إذا قطعوا به- أنه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو في كل ما يستطيل به، وفي تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحار عمرانه، فإنما كان القرآن أصل النهضة الإسلامية وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلة في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها1، وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط، وتوفير مادة الروية عليه بما كان سببًا في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفات أخرى ليس هذا موضع بسطها -وإن لها لموضعًا متى انتهينا إلى بابها من الكتاب- وهذا كله كان أساس التاريخ العلمي في أوروبا. فما من
__________
1 كان العلم عند الأمم التي انطوت قبل الإسلام مما لا يستطيعه إلا طبقات تمتاز به وتبينها الأمم من نفسها كما تبين سائر الطبقات الإلهية، من الملوك والكهنة والأبطال وغيرهم، الذين هم آلهة الأمة، أو أبناء آلهتها، أو الواسطة إلى الآلهة، فكانت العلوم من خصائص الكهنة عند المصريين والأشوريين، وفي أبناء الأشراف خاصة عند الغرناطيين والرومان، وفي طائفة من الشبان يقع عليهم الاختيار عند الهنود واليونان.
وكانت الدنيا القديمة على ذلك أو نحوه لا يصلح العلم إلا أن يكون نظرًا وجدالًا بين طائفة تتنافس فيه. لا لشيء إلا لأنه عملها وبه وزن أقدارها. ومتى كانت المنافسة ضيقة محصورة لا يشايع الناس عليها بعلم ولا يصوبون فيها ولا يخطئون فهي منافسة أهواء وشهوات ونزعات، يكون فيها العلم سلمًا تحطم منها تحت كل قدم ثقيلة درجة.
فلما جاء الإسلام حث على طلب العلم وعلى النظر والاعتبار والاستنتاج؛ وجعل شعار دعوته مثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ؛ وترادفت أخبار الحث على طلب العلم فيه وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا العلم ولو في الصين" فكان هذا سببًا في إطلاق الحرية العلمية للناس جميعًا، وخاصة أهل الأخلاق منهم الذين هم الطبقة الوسطى في كل أمة، والذين بهم قوام الأمة: إذ يحملون ما فوقهم ويمنعون عما تحتهم، وبذلك نضجت المنافسات العلمية وآتت ثمارها، وأفضى الأمر في العلوم إلى ما وقع من الامتحان والاختبار؛ ثم الاختراع والاستنتاج.
وهذا كله لم يعرفه أساتذة اليوم "الأوروبيون" إلا في القرن السادس عشر للميلاد؛ وهم قد أخذوه وأخذوا معه كثيرًا من الفضائل الاجتماعية عن المسلمين وعلمائهم، لا يكابر في ذلك منصفوهم وذوو الأحلام منهم، وإلى الله ترجع الأمور.(2/77)
موضع في هذا "الأساس" القائم إلا وأنت واجد من دونه قطعة من الآداب الإسلامية أو العقول الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، فالقرآن من هذا الوجه إنما هو الباب الذي خرج منه العقل الإنساني المسترحل، بعد أن قطع الدهر في طفولة وشباب.
وكل دين سماوي فإنما هو طور من أطوار النمو في هذا العقل الإنساني يستقبل به الزمن درجات جديدة في نشأته الأرضية، فما التاريخ كله إلا مقياس عقلي درجاته وأرقامه هذه العصور المختلفة التي يستعين العقل منها مقدار زيادته من مقدار نقصانه.
أما من وجه آخر فإن القرآن إنما هو الدرجة الأبدية التي أجاز عليها العالم في انتقاله من جهة إلى جهة1. وإنا لمستيقنون أن هذه الدرجة هي نفسها التي سيجيز عليها العالم كرة أخرى {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .
وأما إن هذا القرآن معجزة التاريخ العربي خاصة وأصل النهضة الإسلامية، فذلك بين من كل وجوهه؛ غير أننا سنقول في الجهة التي تتصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن فيه من هذا الفصل، وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلمي وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فنقتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية.
اختلف المسلمون في قراءة القرآن لعهد عثمان رضي الله عنه كما تقدم في موضعه، وبدأت ألسنة الحضريين ومن في حكمهم من ضعاف الفطرة العربية؛ تجنح إلى اللحن وتزيغ عن الوجه في الإعراب؛ وجعل ذلك يفشو بين المسلمين بعد أن اضطرب كلام العرب فداخله الشيء الكثير من المولد والمصنوع؛ وذهب أهل الفتن يتأولون عن معاني القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه، وخيف على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الأصل الثاني بعد القرآن؛ ثم فشا الجهل بأمور الدين، وضعف عامة الناس عن حمل العلم وطلبه، واقتصروا من ذلك على أن يفزعوا إلى العلماء بالمسألة فيما يحدث لهم وما يرجون أن يتفقوا فيه، واقتصروا من ذلك على أن يفزعوا إلى العلماء بالمسألة فيما يحدث لهم وما يرجون أن يتفقوا فيه، ثم تباينت آراء العلماء واختلفت أفهامهم فيما يستنبطون من الأحكام وما يتأولون لها من الكتاب والسنة، واختلط أمر الناس، وأقبلت عليهم الفتن كقطع الليل، وامتدت إليهم كأعناق السيل، فكان ذلك كله ما بعث العلماء أن يفترقوا على جهات القرآن؛ حياطة لهذا الدين.
وقيامًا بفروض الكفاية2، يستقبل بعضهم بعضًا بالرفد والمعاونة، ويأخذون على أطراف الأمر كله، وهو أمر لم يكن أكثره على عهد الصحابة رضي الله عنهم يوم كان العلم فروعًا قليلة، إذ كانت الأعلام بينة لائحة، وطريق الإسلام لا تزال فيها آثار النبوة واضحة، ومن ثم جعلت العلوم تنبع من القرآن ثم
__________
1 أي: من المشرق إلى المغرب.
2 كل علم نافع فهو في الشريعة الإسلامية فرض كفاية: إن لم يوجد في الأمة من يتحقق به أثمت الأمة جميعًا، وإن قام به البعض سقط عن الباقين. ولا يعرف مثل هذا الأصل الاجتماعي في غير الإسلام، ولم ترتق الأمم الحديثة إلا به، فإن لكل علم رجالًا ينقطعون له، يحيون به ويموتون عليه، وهم درجات تبنى في تاريخ الإنسانية، فالإسلام كما ترى يفرض على أهله أن يبنوا في هذه الإنسانية، والأمم تفعل ذلك تطوعًا وللحاجة، وبهذا يكون الإسلام أصلًا في التشريع الاجتماعي. وما عداه كالفرع.(2/78)
تستجيش وتتسع، وأخذ بعضها يمد بعضًا.
قال أحد العلماء: "فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحريز كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء!
"واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العامة وغيرها، وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال. واللازم والمعتدي، ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة"1.
"واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفي منه، وخاضوا في ترجيع أحد محتملات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره".
"واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية، فاستنبطوا منه، وسمعوا هذا العلم بأصول الدين"2.
"وتأملت طائفة منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز".
"وتكلموا في التخصيص والأخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه".
"وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛ فأسسوا أصوله، وفرعوا فروعه، وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا".
"وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء؛ وسموا ذلك بالتاريخ3 والقصص".
__________
1 توسع النحاة وأهل اللغة في شواهد القرآن ونقبوا عنها واستعرضوا لها ما انتهى إليهم من كلام العرب، فلا يعرف في تاريخ العلوم اللسانية قاطبة شواهد تبلغ عدتها أو تقاربها أو تكون منها على نسبة متكافئة، فإن مبلغ ما أحصوه من شواهد القرآن فيما ذكروا ثلاثمائة ألف بيت من الشعر، ولعمر أبيك إنها لمعجزة في فنها ولو بلغت الشواهد نصف هذا القدر لكانت المعجزة كاملة.
2 وهو الذي يقال له اليوم علم التوحيد.
3 يجهل كثير من الناس أصل تسمية كتب الوقائع والأحداث وما إليها بالتاريخ، إنما هو أصلها، فكانت في مبدأ أمرها مقصورة على ما في القرآن من أخبار الأولين وقصصهم, ثم أطلقت التسمية فاستعملوها فيما اتسع من هذا العلم، وهو استعمال تواضع عليه أهل القرن الثاني للهجرة، أما في القرن الأول فلم يكن يعرف من معنى "التاريخ" إلا التوقيت، أي: تعيين الوقت.(2/79)
"وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولًا من المواعظ وأصولًا من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ".
"وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض".
"ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج غير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت"1.
"ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسن السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع".
انتهى تحصيلًا.
وإنما أوردنا هذا القول لنكشف لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمي وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت فنون القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات، وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلًا مما يجري هذا المجرى، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وما دري عربي واحد من أولئك لم جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنون المتعددة، التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل؟ بيد أن الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلًا بينًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله؛ وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة؛ فعلمنا من صنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني، ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسه، ثم يعمل الزمن عمله فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا إلى ما يستوفى في هذا الباب على الوجه الذي انتهت إليه العلوم في الحضارة الإسلامية؛ وكان سببًا في هذه النشأة الحديثة من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مستدبرة
__________
1 قال بعض المتأخرين: إن الميقات "أي: العلم الذي تعرف به أزمنة الليالي والأيام وأحوالها ومقاديرها لإيقاع العبادات في أوقاتها" مشار إليه في القرآن بقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} قال: فإن عدد "رفيع" أي: بحساب الجمل: ثلاثمائة وستون وهي عدد درج الليل والنهار. "قلنا": وإذا أطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور وتواريخها وأسرارها. ولولا أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث.(2/80)
وأنشأ الله القرون والأجيال لتبلغ هذه الحادثة أجلها ويتناهى بها القضاء، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} .
ولقد كانت النهضة العلمية في زمن بني أمية قائمة بأكثر العلوم الإسلامية التي مرت الإشارة إليها، حتى امتهد أبو جعفر المنصور؛ ثم الرشيد من بعده للنهضة العباسية الكبرى التي نشأت من جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمنًا وافتراق الكلمة بينهم, ومن إقبال الناس على الطلب والاستيعاب، فكان ذلك تهيئة لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إليها وظهور أهلها وانحياز السنة عنها جانبًا، ثم اجتماعها على مناظرتها؛ فإن المنصور1 لما حج في سنة 163هـ لقيه مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بمنى على ميعاد، بعد الذي كان مما أنزل به جعفر بن سليمان عامل المنصور على المدينة من الضرب بالسوط وانتهاك الحرمة وإزالة الهيبة2، قال مالك رحمه الله: "ثم فاتحني "يعني المنصور" فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس؛ ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظًا لما روى، واعيًا لما سمع، ثم قال لي: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودون منه كتبًا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله تعالى عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها. فقلت: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا. فقال أبو جعفر: "يحملون عليه وتضرب عليهم هاماتهم بالسيف وتقطع ظهورهم بالسياط! " فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد ابني "المهدي" العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله! ".
ثم قدم المهدي على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه "الموطأ" فأمر بانتساخها وقرئت على مالك. إلى أن كانت سنة 174هـ فخرج الرشيد حاجا، ثم قدم المدينة زائرًا، فبعث إلى مالك فأتاه فسمع منه كتابه ذلك، وحضره يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف من رؤسائهم أحد إلا وحضر الموسم مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موطأه كله، ثم أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأول.
لا جرم كان هذا سببًا في اجتماع كلمة الفقهاء، إن لم يكن ديانة فسياسة، ولم يؤثر من بعدها
__________
1 كان المنصور هذا مع تقدمه في الفقه وبراعته في العلوم الإسلامية ذا بصر بالفلسفة والصناعة الفلكية، مؤثرًا لأهل هذه الصناعة؛ وفي أيامه ترجمت طائفة من جياد الكتب، وكان هو أول من أمر بترجمة كتب الفلك والمنطق فقام بالأولى محمد بن إبراهيم الفزاري وأخرج الثانية كاتبه البليغ المشهور عبد الله بن المقفع، فله على العلم كما رأيت يدان.
2 وكان ذلك لأمر بلغ جعفرًا عن مالك، إذ قيل إنه كان يفتي بأن أيمان البيعة لا تحل لبني العباس ولا تلزم الناس؛ لأنهم يبايعون لهم مخافة واستكراهًا.(2/81)
عن جماعة أهل العراق ما كانوا يستطيلون به على أهل الأمصار الأخرى، من عرض الدعوة وتطويل الحديث. وتخطئة من لا يليهم أو يواليهم؛ وقد كانوا قبل ذلك يربونهم1 ويضيقون عليهم متنفسهم من العلم، ويرون أن هذا العلم عراقي، وأن ليس الأمر مع غيرهم بحيث إذا هو جد فيه رأى المادة مؤاتية وبلغ منه مثل الذي بلوغه وكان دركه حقيقًا بأن يسمى عندهم دركًا، ولعل ذلك جاءهم في الأصل من قبل العربية وأهلها، فقد علمت من "باب الرواية" كيف كانوا يبسطون ألسنتهم ويتنبلون بعلمهم ويذهبون بأنفسهم؛ إذ لم يكن في الأرض أعلم منهم بالعربية؛ ولا أوثق في روايتها، ولا أجمع لأصولها، ولا أصح في ذلك كله2.
ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، ومن كان مع أهلها من الخلفاء ومن كان عليهم فلذلك موضع في كتاب التاريخ هو أملك به وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم الإسلامية ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، أو يريغوا معنى من معاني التفقه في الدين والنظر في آظار الله، إلى ما يشبه ذلك مما يكون في نفسه صلة طبيعية بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم3.
__________
1 يقال فلان لم يزل يسأل فلانًا حتى أرباه بالمسألة، وذلك إذا سأله حتى ضايقه كأنما أصابه بالربو، وهو عسر النفس.
2 مما يذكرونه من صنع الرشيد للفقهاء وعلومهم، هذا الخبر الذي يروى عن زاهد وقته وعالم دهره عبد الله بن المبارك المتوفى سنة 182هـ: وذلك أن الرشيد حين قدم الرقة؛ لقي عبد الله هذا، فلما هم بالقيام من عنده -وكان قد زاره في داره- قال ابن المبارك: يا أمير المؤمنين، إني أخشى أن يكون العلم قد ضاع قبلك كما ضاع عندنا، فقال الرشيد: أجل، إنه ما قلت. ثم لما قدم الرشيد العراق كان أول ما ابتدأ فيه النظر: أن كتب إلى الأمصار كلها، وإلى أمراء الأجناد: أما بعد، فانظروا من التزم الأذان عندكم، فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلم ومقاعد الأدب، فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلم واستبحر، فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء؛ وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر من المعروفين به من علماء عصركم وفضلاء دهركم، فاسمعوا قولهم وأطيعوا أمرهم فإن الله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وهم أهل العلم.
قال ابن المبارك: فما رأيت عالمًا ولا قارئًا للقرآن ولا سابقًا للخيرات ولا حافظًا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه.
وهذا الخبر وإن كان إلى المبالغة ما هو، ولكنه في أصله حقيق بالتصديق، فإن مناقب الرشيد -رحمه الله- كثيرة لا تضيق من دونه، وقد صحت الرواية بأنه ما اجتمع على باب خليفة قبله ما اجتمع على بابه من الشعراء وأهل الأدب، وقد كانت يتفقدهم ويتقدم في طلبهم ويحظيهم ويفضل عليهم، وما هذه الرواية إلا بسبيل من تلك، ولتلك أقرب إلى الحق وأعلق بأسباب الزمن.
3 مما نورده تفكهة وبيانًا لاعتقاد العامة من أهل العقول، أيام كان القلب أكبر من العقل، ما رواه المسعودي: أن أبا خليفة الفضل بن الحباب الجمحي المتوفى سنة 305هـ "وكان فصيحًا معربًا لا يتكلف الإعراب بل صار=(2/82)
وما يزال أثر ذلك ظاهرًا في فواتح الكتب العلمية لذلك العهد على اختلافها فما تستفتح من كتاب إلا أصبت في مقدمته غرضًا من تلك الأغراض التي أشرنا إليها، أو ما يصلح أن يكون غرضًا منها1؛ ثم هو أمر ليس أدل على تحقيقه من كتب التفسير، فإنه لا يعرف في تاريخ العالم كله -من لدن أرخ الناس- كتاب بلغت عليه الشروح والتفاسير والأقوال والمصنفات المختلفة ما بلغ من ذلك على القرآن الكريم ولا شبيهًا به ولا قريبًا منه، حتى فسرته الروافض بالجفر، على فساد ما يزعمون وسخافة ما يقولون، وعلى سوء الدعوى فيما يدعون من علم باطنه بما وقع إليهم من ذلك الجفر2
__________
= له كالطبع لدوام استعماله إياه من عنفوان حداثته، خرج مع بعض أصحابه متفكهين إلى نهر من أنهار البصرة وقد غيروا ظواهر زيهم كيلا يعرفهم الناس، وكان ذلك أيام المبادئ وهي الأيام التي يثمر فيها التمر والرطب فكبسونه في القواصر "أوعية التمر" تمرًا؛ وتكون حينئذ البساتين مشحونة بالرجال ممن يعمل في التمر من الأكرة "الزراع" وغيرهم، فلما أكلوا قال بعضهم لأبي خليفة غير مكن له خوفًا أن يعرفه من حضر من العمال في النخل: أخبرني "أطال الله بقاءك" عن قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} هذه الواو ما موقعها من الإعراب؟ قال أبو خليفة: موقعها رفع، وقوم "قوا" هو أمر للجماعة من الرجال. قال له: كيف تقول للواحد من الرجال وللاثنين؟ قال: يقال للواحد من الرجال: ق، وللاثنين قيا، وللجماعة قوا. قال: كيف تقول للواحدة من النساء، وللاثنين، وللجماعة منهن؟ قال أبو خليفة: يقال للواحدة قي، وللاثنتين قيا، وللجماعة قين. قال: فأسألك أن تعجل بالعجلة: كيف يقال للواحد من الرجال والاثنين والجماعة وللواحدة من النساء والاثنين والجماعة منهن؟ قال أبو خليفة "وهو ينطق" عجلان: ق، قيا، قوا، قي، قيا، قين.
وكان بالقرب منهم جماعة من الأكرة، فلما سمعوا ذلك استعظموه، وقالوا: يا زنادقة، أنتم تقرءون القرآن بحرف الدجاج..؟ وغدوا عليهم فصفعوهم؛ فما تخلص أبو خليفة والقوم الذين كانوا معه من أيديهم إلا بعد كد طويل. وتروى هذه النادرة على وجه آخر، ولكن رواية المسعودي أملح؛ وكلتا الروايتين إلى مآل واحد، وفي رواية أخرى يقول الرجل العاصي: "إنهم زنادقة يقرءون القرآن على صياح الديكة".
وروى ابن الأنباري في "طبقات الأدباء": أن محمد بن المستنير المعروف بقطرب المتوفى سنة 206هـ لما صنف كتابه في التفسير؛ أراد أن يقرأه في الجامع؛ فخاف من العامة وإنكارهم عليه؛ لأنه ذكر فيه مذهب المعتزلة؛ فاستعان بجماعة أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته في الجامع. والأخبار من مثل ذلك غير قليلة.
1 ومن ذلك أن "حكم الشارع" صار عند المتأخرين أحد المبادئ العشرة لكل فن.
2 قال ابن قتيبة "في تأويل مختلف الحديث": هو جلد جفر ادعوا أنه قد كتب لهم الإمام فيه كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، ثم أورد أمثلة من تفسبرهم، فمن ذلك قولهم في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} : إنها عائشة رضي الله عنها. وفي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} : أنه طلحة والزبير، وقولهم في آية الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر. وفي آية الجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو بن العاص. إلخ إلخ، وكان بعض أهل الأدب يقول: ما أشبه تفسير الرافضة للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر، فإنه قال ذات يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل:
بيت زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
أنه في رجال منهم. قيل له: فما تقول أنت فيهم؟ قال: البيت بيت الله، وزرارة الحجر. قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قيس. قيل: فنهشل؟ قال: نهشل أشدها. وفكر ساعة ثم قال: نهشل مصباح الكعبة؛ لأنه طويل أسود، فذلك نهشل. ا. هـ.
والمراد بالجفر رق صنع من جلد البعير. ومن أراد الاتساع في معرفته فليرجع إلى ما نقله صاحب كشف الظنون في معنى علم الجفر والجامعة وأهل هذا العلم=(2/83)
واستنبط منه غيرهم إشارات من الغيب بضروب من الحساب، كهذا الذي ينسبونه إلى الحسن بن علي رضي الله عنه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في رؤياه ملوك بني أمية رجلًا رجلًا، فساءه ذلك، فأنزل الله عليه ما يسري عنه من قوله في القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قالوا: يعني بألف شهر مدة الدولة الأموية! فقد كانت أيامها خالصة ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر مجموعها ألف شهر سواء1 وحتى زعم بعضهم أن الكلمات التي في أوائل السور إنما تحتوي مدد أعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة، وإن فيها تاريخ ما مضى وما بقي مضروبًا بعضها في بعض، إلا كثير من مثل هذا مما يخطئه الحصر، وإنما أشرنا إلى بعضه لغرابته؛ ولأن أغرب ما فيه أنه عند أهله من بعض ما يفسر به القرآن2.
__________
= وقد كشف ابن خلدون في مقدمته من فصل ابتداء الدول والأمم عن شيء من مسمى هذا الجفر، ونقل إنه كان جلد ثور صغير. وأن هارون العجلي روى ما فيه عن جعفر الصادق وكتبه في كتاب سماه الجفر، قال: وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني.
وعندنا أن كل ذلك موضوع وباطل، وأن الكلام فيه أسلوب من أساليب القصص وضرب من التهويل والمبالغة، ولا نظن أن علم ما كان وما يكون شيء يسعه أو يسع الرمز إليه جلد ثور، إلا أن يكون هذا الثور هو الذي قيل فيه إنه كان يحمل الأرض قديمًا على أحد قرنيه!
1 ومن أعجب ما وقفنا عليه، أن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي أمر في حلب بصنع منبر لبيت المقدس قبل فتحه وانتزاعه من أيدي الإفرنج بنيف وعشرين سنة. قال صاحب "الروضتين" بعد أن ذكر أن هذا قد يكون كرامة له: ثم يحتمل أن يكون "رحمه الله" وقف على ما ذكره أبو الحكم بن برجان الأندلسي في تفسيره, فإنه أخبر عن فتح القدس والسنة التي فتح فيها، وعمر نور الدين إذ ذاك إحدى عشرة سنة، وقد رأيت أنا ذلك في كتابه: ذكر تفسير أول سورة الروم، أن البيت المقدس استولت عليه الروم عام سبع وثمانين وأربعمائة، وأشار أنه يبقى بأيديهم إلى تمام خمسمائة وثلاث وثمانين سنة، قال: ونحن في عام اثنتين وعشرين وخمسمائة، فلم يستبعد نور الدين "رحمه الله" لما وقف عليه أن يمتد عمره إليه، فهيأ أسبابه حتى منبر الخطابة فيه، تقربًا إلى الله تعالى بما يبديه من طاعته ويخفيه، قال: وهذا الذي ذكره أبو الحكم الأندلسي في تفسيره من عجائب ما اتفق لهذه الأمة المرحومة، وقد تكلم عليه شيخنا أبو الحسن علي بن محمد في تفسيره الأول فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي في أول سورة الروم إخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. قال لي بعض الفقهاء: إنه استخرج ذلك من فاتحة السورة. قال: فأخذت السورة وكشفت عن ذلك فلم أره أخذ ذلك من الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} .
فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون ثم ذكر أنهم يغلبون في سنة كذا على ما تقتضيه دوائر التقدير. قلنا: وكيفما كان الأمر فإنه لمعجزة.
2 أما المتصوفة ومن يقلدون علم الباطن فلا حصر لمذاهبهم وأقوالهم في تفسير القرآن. وبخاصة المتأخرين منهم لهم في ذلك المزاعم العريضة مما يخرج عن أن يكون من علم الناس فإلى الله أمره. وقد ذكر الشيخ محيي الدين بن العربي في "الفتوحات" عند تفسير قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أن قوله: {أحْصَيْنَاه} يدل على أنه تعالى ما أودع فيه إلا علومًا متناهية مع كونها خارجة عن الحصر لنا. قال: وقد سألت بعض العلماء بالله تعالى: هل يصح لأحد حصر "أمهات" هذه العلوم؟ فقال: نعم، هي مائة ألف نوع وتسعة وعشرون ألف نوع وستمائة نوع، كل نوع منها يحتوي على علوم لا يعلمها إلا الله تعالى. ا. هـ بنصه.
قلنا: قد ألف بعض علماء القوم كتابًا سماه "تنبيه الأغنياء، على قطرة من بحر علوم الأولياء" كانت هذه=(2/84)
وقد أوردنا في باب الرواية من التاريخ أن أبا علي الأسواري القاص البليغ، فسر القرآن بالسير والتواريخ ووجوه التأويلات، فابتدأ في تفسير سورة البقرة، ثم لبث يقص ستا وثلاثين سنة، ومات ولم يختمه، وكان ربما فسر الآية الواحدة في عدة أسابيع لا يني ولا يتخلف، وليس في هذا الخبر شيء من المبالغة أو التزيد، بل عسى أن يكون الأمر مع أهل التحقيق والاطلاع أبلغ منه، وهذه كتب التفسير التي عدها صاحب "كشف الظنون" وسرد أسماءها في كتابه، تبلغ ثلاثمائة ونيفًا، والرجل إنما عد بعضها كما يقول. وأنت فلا يذهبن عنك أن كل كتاب منها فإنما هو في المجلدات الكثيرة إلى مائة مجلد، وإلى ما يفوق المائة أحيانًا، فقد رأينا في بعض كتب التراجم أن أبا بكر الأدفوي المتوفى سنة 388هـ صنف "كتاب الاستغناء" في تفسير القرآن في مائة مجلد، وكان منفردًا في عصره بالإمامة في أنواع من القراءات والعربية وفنون كثيرة من العلم، وذكر الفيلسوف "أرنست رنان" أنه وقف على ثبت يدل على أنه قد كان في إحدى مكاتب الأندلس التي أحرقت تفسير القرآن في ثلاثمائة مجلد. وذكر الشعراني في كتابه "المنن" تفسيرًا قال إنه في ألف مجلد.
وهذا كله غير ما أفرد بالتصنيف من الكتب والرسائل التي لا تحصى في مسائل من القرآن وفي مشكله وغريبه ومجازه ومعانيه وضميره وشواهده وأسلوب نظمه والمتشابه من آياته وأمثاله وحروفه وإعرابه وأسمائه وأعلامه وناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله، إلى كثير في مثل ذلك مما خفيت فيه أقلام العلماء، بحيث لا يعلم إلا الله وحده كم يبلغ ما وضع لخدمة كتابه الكريم؛ ولا يعلم الناس من ذلك إلا أنه معجزة من معجزات التاريخ العلمي في الأرض لم يتفق له في ذلك شبيه من أول الدنيا إلى اليوم، ولن يتفق.
وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية، وبسطوا كل ذلك بسطًا ليس هو من غرضنا فنستقصي فيه1 على أن هذا ومثله إنما
__________
= القطرة فيه زهاء ثلاثة آلاف علم، فترى ما عسى أن يكون البحر؟ اللهم إن السلامة في الساحل، ولكن لبعض المحققين من مشايخ الصوفية دقائق في تفسير لا تتفق لغيرهم لسمو أرواحهم ونور بواطنهم ومنهم كان الإمام السلطان الحنفي صاحب المقام المشهور في القاهرة. سمعه يومًا شيخ الإسلام البلقيني يفسر آية فقال: لقد طالعت أربعين تفسيرًا فما وجدت فيها شيئًا من تلك الدقائق. ويزعم الشيعة أن عليا رضي الله عنه أملى ستين نوعًا من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوع منها مثالًا يخصه، وأن ذلك في كتاب يروونه عنه من طرق عدة وهو في أيديهم إلى اليوم وذلك وإن كان قريبًا فيما يعطيه ظاهره؛ غير أنه بالحيلة على تقريبه من الحقيقة صار أبعد منها وأمحض في الزعم.
1 من ذلك طريقة التصوير الشمسي بإمساك الظل، وهي في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} فتأمل قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ} فإن هذه الحروف تكاد تنطق بأن هذا الأمر سيكون لا محالة. ومنها كشفهم أن مادة الكون هي الأثير، والله تعالى يقول في بدء الخلق: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ومنها حققوه من أن الأرض انفتقت من النظام الشمسي، والله تعالى يقول في السموات والأرض: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} ومنها ثبوت أنه لولا الجبال لاضطربت دورة الأرض؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ، ومنها تحقيق أن كل شيء حي فهو من الماء وأن للجماد=(2/85)
يكون فيه إشارة ولمحة ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم ولا يلتوي عليه أمر من أمره ... لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها، بل وإن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعونًا على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه، وإن فيها لجمامًا وذرية لمن يتعاطى ذلك؛ يحكم بها من الصواب ناحية، ويحرز من الرأي جانبًا؛ وهي تفتق لها الذهن، وتؤاتيه بالمغرفة الصحيحة على ما يأخذ فيه، وتخرج له البرهان وإن كان في طبقات الأرض، وتنزل عليه الحجة وإن كانت في طباق السماء.
ولا جرم أن هذه العلوم ستدفع بعد تمحيصها واتصال آثارها الصحيحة بالنفوس الإنسانية إلى غاية واحدة، وهي تحقيق الإسلام، وأنه الحق الذي لا مرية فيه، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنه لذلك هو الدين الطبيعي للإنسانية؛ وسيكون العقل الإنساني آخر نبي في الأرض؛ لأن الذي جاء بالقرآن كان آخر الأنبياء من الناس، إذ جاءهم بهذا الدين الكامل، ولا حاجة بالكمال الإنساني لغير العقول ينبه إليه بعضها بعضًا، ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض!.
وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفًا، وذلك قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: {فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} هذه آفاق، وهذه آفاق أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شيء.
ذلك وأن من أدلة إعجاز هذا الكتاب الكريم أن يخطئ الناس في بعض تفسيره على اختلاف العصور، لضعف وسائله العلمية ولقصر حبالهم أن تعلق بأطراف السموات أو تحيط بالأرض، ثم تصيب الطبيعة نفسها في كشف معانيه؛ فكلما تقدم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة حتى كأنه غاية لا يزال عقل الإنسان يقطع إليها، حتى كأن تلك الآلات حينما توجه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
ذلك هو الأمر في العلوم الألى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة.
__________
= حياة قائمة التبلور، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ومنها ما كشفوه من تلاقح النبات وأنه أزواج، والله تعالى يقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} ويقول: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} .
والكلام في مثل هذا يطول، ولا ريب عندنا أن تحقيقه سيكون موضع كتاب الإعجاز الذي يخرجه المستقبل برهانًا للإنسانية على حقيقة دين الإنسانية فلندعه لأهله "عفا الله عنا وعنهم" وعسى أن يكون لنا من دعائهم في الرحمة والمغفرة ما لهم من دعائنا في العون والتوفيق، إنه من تعليق المؤلف. قال مصححه: ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه إلى المعاني الدقيقة التي وفق إليها الدكتور عبد العزيز إسماعيل في كتابه "الإسلام والطب الحديث" وكان الرافعي من المعنيين به، كما كان عونًا له ومددًا في كثير من شواهد كتابه "أسرار الإعجاز".(2/86)
سرائر القرآن:
بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابنا هذا خرج في الآستانة القديمة. كتاب جليل للقائد العظيم والعالم الرياضي الفلكي المشهور الغازي أحمد مختار باشا رحمه الله، أسماه "سرائر القرآن" وبناء على سبعين آية من كتاب الله تعالى فسرها بآخر ما انتهى إليه العلم الحديث في الطبيعة والفلك، فإذا هي في القرآن منطبق السماء عن نفسها، لا يتكذب ولا يزيغ ولا يلتوي، وإذا هي تثبت أن هذا الكتاب الكريم سبق العقل الإنساني ومخترعاته بأربعة عشر قرنًا إلى زمننا، وما ذاك إلا فصل من الدهر، وستعقبه فصول بعد فصول1.
ومعلوم أن الزمن تقسيم إنساني محض يلائم وجود الإنسان وفناءه عن هذه الأرض المحدودة بمادتها وأجلها، وإلا فليس في الحقيقة أزمان تبتدئ أو تنتهي، فإذا ثبت للقرآن المجيد سبقه ما تتوهمه زمنًا وتقدمه حدودًا من آخر حدود العقل الإنساني، على حين أنه أنزل في حدود غيرها بعيدة ضعيفة لا علم فيها ولا آلات علم, فحسبك بذلك وحده برهانًا على أن هذا الكتاب جملة من الأزل تحولت في معنى ومنطق، وجاءت لغرض وغاية، ولامست الناس لتكون فيهم سببًا لرسوخ الإيمان، ثم نظامًا للإيمان نفسه، ومتى رسخ الإيمان فقد رسخ العالم كله في النفس الإنسانية، وهذا عندنا من بعض السر فيما جاء في الكتاب الكريم من آيات السموات والأرض والنظر والاستدلال، ومن طرق التعبير، التعبير النفسي بالأمثال والقصص ونحوها.
ثم إن في ذكر الآيات الكونية والعلمية في القرآن دليلًا على إعجاز آخر فهو بذلك يومئ إلى أن الزمن متجه في سيره إلى الجهة العلمية القائمة على البحث والدليل، وأن الإنسانية ذاهبة في أرقى عصورها إلى هذا المذهب؛ وأن الدين سيكون عقليا، وأن العقل هو آخر أنبياء الأرض، فوجود ذلك فيه قبل أن يوجد ذلك في الزمن بأربعة عشر قرنًا، شهادة ناطقة من الغيب لا يبقى عليها موضع شبهة، فإن أسفر الصبح وبقي بعض الناس نيامًا لا يرونه وقد ملأ الدنيا فذلك من عمى النوم في أعينهم، وآخرون لا يرونه من نوم العمى في أعينهم والصبح فوق هؤلاء وهؤلاء. و"من أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها".
قال الغازي في مقدمة كتابه2: "وفي القرآن غير ما يكفل للهيئة الاجتماعية سعادتها وسلامتها في معاشها ومعادها مما حواه من الدساتير الأخلاقية والقضائية والإدارية والسياسية وعظة الأمثال والقصص، فيه إشارات وآيات بينات في مسائل ما برحت العلوم الطبيعية تحاول الكشف عن كنهها منذ
__________
1 انظر كتاب "الإسلام والطب الحديث" للطبيب المصري المشهور عبد العزيز إسماعيل باشا.
2 وضع هذا الكتاب النفيس بالتركية، وقد أخذ ترجمته صديقنا الأستاذ البحاثة محب الدين الخطيب صاحب مجلة الزهراء والفتح، ومن خطه لخصنا هذه الكلمات.(2/87)
عصور، ولا سيما في علم التكوين والتخريب "القيامة" الذي دل الآن بنظريات الإخصائيين من علماء الفلك ومباحثهم ومشاهداتهم في طور التقدم والارتقاء وإنك لا تكاد تقلب من المصحف الشريف بضع صفحات حتى تجد آية في أسرار الكائنات وأحوال السماء منظومة في نسقها بمناسبة من أبدع المناسبات.
قال: "وقد فهموا من علم الهيئة السماوية عظمة الله تعالى بعظمة الأجرام التي كانوا يحسبونها نقطًا صغيرة منثورة في السماء. خذ لذلك مثلًا: إدراك عظمة الشمس وكوكب الشعرى بالنسبة إلى الأرضن فإن هذه الأرض إذا نحن فرضناها فرضًا بحجم الحمصة، تكون مساحة الشمس بالنسبة إليها كمساحة مائدة مستديرة طول قطرها ذراع فرنسية، ومساحة سطح كوكب الشعرى الذي قال الله فيه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} تبلغ مائة ذراع فرنسية بالقياس إلى تلك الحمصة1.
"ومما أفدناه من تلك المباحث أن عالمنا الناسوتي الذي نسميه "العالم الشمسي" وتؤلفه طائفة مستقلة من الأجرام السماوية تعد بالمئات أهمها شمسنا المنيرة وأرضنا وأخواتها من السيارات وما يتبعهم من النجوم ذوات الأذناب- يدور بسرعة عشرين ألف ذراع فرنسية في الثانية الواحدة، مجتازًا فضاء الله الذي لا نهاية له، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 2 وأن المجرة العظمى المحيطة بالسماء3 تحتوي مئات الألوف من العوالم الأخرى.... إلى أن قال "إن القرآن الكريم آيات بينات عن تكوين العالم، وكيف كان هذا التكوين، وعن الأطوار التي تنقل فيها، وعن خلفة الموجودات، وأسباب الحياة، وعن آخرة كرتنا الأرضية وعاقبتها التي ستصير إليها في النهاية، ولقد كانت معاني هذه الآيات الشريفة منظورًا إليها فيما مضى من جهة العقائد حسب، ولم يكن أحد يستطيع أن يذهب في تأويلها مذهبًا يصدر فيه عن علم، ولكن هذه الحالة قد تغيرت الآن؛ لأن الحكماء الذين نبغوا في العصرين الأخيرين قد أبانوا بمباحثهم العلمية وما كشفوه من الغوامض الدقيقة عن قدرة الله بأجلى بيان، حتى أصبحت نظريات علم التكوين صالحة لتفسير آيات الله سبحانه وتعالى تفسيرًا بديعًا، مع أنها هي في حالتها الراهنة لم تبلغ بعد حد الكمال".
وبعد أن وصف همم علماء الفلك والرياضة، ووسائلهم ومعرفتهم المسائل الدقيقة، عن الكواكب والشموس والعوالم، وعن حقيقة هذه الكرة التي نعيش عليها، وما أفاده المجتمع البشري من ذلك، قال:
"وأفدنا نحن معشر المسلمين فوائد عظيمة خاصة بنا؛ لأن هذه المخترعات والمستحدثات وما
__________
1 من هذا الشرح تعلم عظمة الإضافة في هذه الآية الكريمة وسرها.
2 قلنا: تأمل هذا التنكير في قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ} فهو يشعرك أن العالم الشمسي يجري في اللانهاية إلى نهاية محتومة، فما الشمس بمؤلمة إذا كان لها استقرار، فهي محدثة فانية، ثم قوله: "لها" هو الذي يعين أنها تجري في اللانهاية؛ لأن المستقر غير مطلق، بل هو لها. ثم التعبير بالفعل "دون" غيره "من نحو تسير أو تدور إلخ" هو الذي ينطوي إلى الحقيقة الفلكية التي أثبتتها الأرقام، فكل كلمة من الآية إعجاز وحده.
3 المجرة: سطح هائل في غاية العظم تسبح فيه ألوف ومئات من العوالم.(2/88)
أدت إليه من أدلة ونظريات قد جاءتنا ببرهان جديد على إعجاز القرآن الذي ندين الله عليه، فقرت بذلك أعين المؤمنين، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس..". قال: "وسيرجع الفلكيون موحدين إذا علموا أن الأسرار العلمية التي يحسبونها جديدة، هي في القرآن كما ظهرت لهم، ومثل من ذلك أن العالم الفلكي م. بوانكاريه، قال في مقدمة كتابه المطبوع في نسة 1911 وهو يبحث في دقة نظام هذه الكائنات وما فيها من مظاهر الكمال: "ليس ذلك من الأمور التي يمكن حملها على المصادفة والاتفاق، وأحسب أن القدرة التي لا أول لها ولا آخر سنت للكائنات هذا النظام في عهد ما على أن يستمر حكمه إلى الأبد، فأذعنت الكائنات لإرادتها راضية طائعة". قال الغازي رحمه الله: فأمعن أنت النظر في هذه الكلمات وسياقها، ثم اقرأ قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وتأمل ما في الآية من معاني ورموز؛ ثم تصور ما في ذلك من ذوق وجداني لأهل العرفان، وقل: "تبارك الله والمنة لله".
كتاب "سرائر القرآن" ثلاثة فصول: الأول في كيفية تكوين العالم ووجود الحياة. والثاني في يوم القيامة أو خاتمة عمر الأرض. والثالث في المباحث والآيات القرآنية المتعلقة بإعادة الخلق وكل ذلك مطبق على نظريات وآراء الحكماء الأولين والآخرين إلى عصرنا، ثم ما يؤيد حقيقة ما انتهوا إليه من آيات القرآن الكريم. وكان الغازي يفكر في هذا الكتاب خمسة وعشرين عامًا، فرحمة الله عليه كفاء ما أحسن إلى أمته.(2/89)
تفسير آية 1:
وقد رأينا أن نسوق هنا تفسير آية من القرآن الكريم أصبناه في بعض كتب الحكيم العلامة داود الأنطاكي المتوفى سنة 1008 للهجرة، فتح عليه به وهو في أضعف الأزمنة وأشدها انحطاطًا وفقرًا من الوسائل العلمية.
ولا تنس أن الآية أنزلت على نبي أمي في قوم لا يعرفون كثيرًا ولا قليلًا من علم التشريح أو علم التكوين، ثم إنها كذلك ليس في صناعتها البيانية شيء مما تتحسن به البلاغة فيبين بنفسه ويجعل للكلام شأنًا في تمييزه واستخراج معانيه، كالاستعارة والكناية ونحوها؛ ولكنها قائمة على دقائق التركيب العلمي والملاءمة بينها وبين دقائق التعبير؛ ففيها إعجاز في المعنى، ثم إعجاز في الصورة؛ مع أنها في غرضها وسياقها مظنة أن لا يكون فيها من ذلك شيء؛ إذ هي عبارة علمية تسرد سردًا على التقرير والحكاية هذا مما يسمو بإعجازها سموا على حدة، فإنه يضع فوق البلاغة ما تكون البلاغة في العادة والطبيعة فوقه.
وكل ما هذه سبيله من الآيات العلمية في القرآن الكريم فأنت لا بد واجد فيه من قوة المعاني أكثر مما في العقل العربي من قوة الفهم وقوة التعبير؛ لتكون قوة الدلالة فيه يوم تتهيأ للأمم وسائلها العلمية دليلًا من أقوى أدلة الإعجاز.
أما الآية فهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 2.
والتفسير: قال جل من قائل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} ، يعني إيجادًا واختراعًا، لعدم سبق المادة الأصلية "من سلالة" هي الخلاصة المختارة من الكيفيات الأصلية بعد الامتزاج بالتفعيل الثاني مما ركب منها بعد امتزاج القوى والصور، والتنويه باسمه3 إما للصورة والرطوبات الحسية، أو لأنه السبب الأقوى في تحجر الطين وانقلابه وكسر سورة الحرارة وإحياء النبات والحيوان اللذين هما الغذاء
__________
1 زدنا هذا الفصل للطبعة الثالثة. وكتابنا "أسرار الإعجاز" الذي تعلقت به النية يكون هذا نحوًا منه إن شاء الله.
2 السلالة: الخلاصة، قالوا: لأنها تسل من الكدر، وهذا الوزن فعالة "بضم الفاء" يبنى للقلة: كقلامة الظفر ونحوها، وعبارة "سلالة من طين" تحتمل معاني كثيرة، بل أنت لا تجد معنى علميا في خلق الإنسان الأول إلا إذا انطبقت عليه وليس يخفى أن مسألة خلق الإنسان الأول من أمهات المسائل الغامضة التي لا سبيل إليها إلا من الظن، كأنها ليست من علم الإنسانية؛ وكأنها تلتحق ببيان الروح وهذه لا بيان لها على الأرض، فجاءت العبارة في الآية الكريمة كأنها "سلالة من علم" تتسع لمذهب القائلين بالنشوء، ولمذهب القائلين بالحق ولمذهب انتقال الحياة إلى هذه الأرض في سلالة من عالم آخر. وهكذا.
3 الضمير راجع إلى الماء الذي يكون منه الجبين: وهو المكنى عنه بلفظ "سلالة" وظاهر الأنطاكي لا يحمل العبارة على خلق الإنسان الأول.(2/90)
الكائنة عنه النطف، وهذا الماء هو المرتبة الأولى والطور الأول، وقوله: "من سلالة" يشير إلى أن المواليد كلها أصول للإنسان وأنه المقصود بالذات الجامع لطباعها، ثم جعله نطفة بالإنضاج والتلخيص الصادر عن القوى المعدة لذلك، ففي قوله: "ثم جعلناه نطفة" تحقيق لما صار إليه الماء من خلع الصور البعيدة؛ والضمير إما للماء حقيقة أو للإنسان بالمجاز الأولى.
وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يعني الرحم1، وهذا هو الطور الثاني، ثم قال مشيرًا إلى الطور الثالث: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي: صيرناها دمًا قابلًا للتمدد والتخلق باللزوجة والتماسك2، ولما كان بين هذه المراتب من المهلة والبعد ما سنقرره، عطفها بـ"ثم" المقتضية للمهلة كما بيّن أدوار كواكبها، فإن زحل يلي أيام السلالة المائية لبردها، والمشتري يلي النطفة لرطوبتها، والمريخ يلي العلقة لحراراتها وهذه الثلاثة هي أصحاب الأدوار الطوال.
ثم شرع في المراتب القريبة التحويل والانقلاب التي يليها الكواكب المتقاربة في الدورة وهي ثلاثة: "أحدها" ما أشار إليه بقوله: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي: حولنا الدم جسمًا صلبًا قابلًا للتفصيل والتخليط والتصوير والحفظ وجعل مرتبة المضغة في الوسط، وقبلها ثلاث حالات وبعدها كذلك؛ لأنها الواسطة بين الرطوبة السيالة والجسم الحافظ للصور؛ وقابلها بالشمس3؛ لأنها بين العلوي والسفلي كذلك، وجعل التي قبلها علوية؛ لأن الطور الإنساني فيها لا حركة له ولا اختيار، فكأنه هو المتوليه أصالة وإن كان في الحالات كلها كذلك لكن هو أظهر، فانظر إلى دقائق مطاوي هذا الكتاب المعجز وتحويله العلقة إلى المضغة يقع في دون الأسبوع.
"وثانيها" مرتبة العظام المشار إليها بقوله: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أي: صلبنا تلك الأجسام بالحرارة الإلهية حتى اشتدت وقبلت التوثيق والربط والإحكام والضبط، وهذه مرتبة الزهرة، وفيها تتخلق الأعضاء المنوية المشاكلة للعظام أيضًا ويتحول دم الحيض غاذيًا كما هو شأن الزهرة في أحوال النساء.
__________
1 في وصف القرار بأنه "مكين" إعجاز يفهمه الأطباء والذين درسوا التشريح، فقد ثبت أن الرحم مجهز في تكوينه وفي خصائصه بما يمكن أشد التمكين للجرثومة التي يكون منها اللقاح؛ ففيه مخابئ لها عجيبة خلقت لذلك خلقًا، ثم مواد منفرزة لوقايتها وحفظ الحياة عليها والدفاع عنها أن تقتلها المواد الحامضة ولذلك كله تجده في تشريح كلمة "مكين".
2 لم يكن العرب يعرفون من كلمة "العلقة والعلق" إلا أنها الدم الجامد. ولكن الكلمة إعجاز كإعجاز "مكين" التي تقدم شرحها: فقد ثبت في آخر ما انتهى إليه تكوين الجنين أن الجرثومة التي يكون منها اللقاح في ماء الرجل تعلو رأسها نازعة كالسنان: فتهاجم البويضة في الرحم وتبعجها بسلاحها فتخرقها وتعلق بها، فإذا هما قد امتزجا، فهذا هو السر في تسمية التحول الأول للنطفة "علقة" وتأمل قوله: "فجعلنا" فإن فيها كل هذه الحركة بين الجرثومة والبويضة. ولقد قرأنا هذه الآية الكريمة على طبيب مسيحي محقق فاضل من أصدقائنا، ونبهناه إلى هذه الدقائق فيها فقال: "آمنت بما أنزل على محمد".
3 يرى مفسرنا أن أطوار الخلق في الآية سبعة تقابل الكواكب السبعة السيارة؛ فإن صح هذا كانت الآية فوق الإعجاز.(2/91)
وقوله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي: حال تحويل الدم غاذيًا للعظام لا يكون عنه إلا اللحم والشحم وكل ما يزيد وينقص، وهذا شأن عطارد، تارة يتقدم وتارة يتأخر ويعتدل، وكذا في اللحم البدن، وهذه المرتبة هي التي يكون فيها الإنسان كالنبات، ثم يطول الأمر حتى يشتد، ثم يتم إنسانًا يفيض الحياة والحركة بنفخ الروح، فلذلك قال معلمًا للتعجب والتنزيه عند مشاهدة دقيق هذه الصناعة {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وهذا هو الطور السابع الواقع في حيز القمر.
وفي هذه الآية دقائق: "الأولى" عبر في الأول بـ"خلقنا"، لصدقه على الاختراع، وفي الثاني بـ"جعلنا" لصدقه على تحويل المادة، ثم عبر في الثالثة وما بعدها كالأول؛ لأنه أيضًا إيجاد ما لم يسبق، "الثانية" مطابقة هذه المراتب لأيام الكواكب المذكورة ومقتضياتها للمناسبة الظاهرة وحكمة الربط الواقع بين العوالم، "الثالثة" قوله: {فَكَسَوْنَا} ؛ وهي إشارة إلى أن اللحم ليس من أصل الخلقة اللازمة للصورة، بل كالثياب المتخذة للزينة والجمال؛ وأن الاعتماد على الأعضاء والنفس خاصة، "الرابعة" قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ} سماه بعد نفخ الروح إنشاء؛ لأنه حينئذ قد تحقق بالصورة الجامعة1، "الخامسة" قوله: {خَلْقًا} ولم يقل إنسانًا ولا آدميا ولا بشرًا2؛ لأن النظر فيه حينئذ لما سيفاض عليه من خلع الأسرار الإلهية، فقد آن خروجه من السجن وإلباسه المواهب، فقد يتخلق بالملكيات فيكون خلقًا ملكيا قدسيا، أو بالبهيمية فيكون كذلك، أو بالحجرية إلى غير ذلك؛ فلذلك أبهم الأمر وأحاله على اختياره وأمر بتزيهه على هذا الأمر الذي لا يشاركه فيه غيره.
وفي الآية من العجائب ما لا يمكن بسطه هنا، وكذلك سائر آيات هذا الكتاب الأقدس: ينبغي أن تفهم على هذا النمط. انتهى كلام الحكيم المفسر.
وأنت لو عرضت ألفاظ هذه الآية على ما انتهى إليه علماء تكوين الأجنة وعلماء التشريح وعلماء الوراثة النفسية، لرأيت فيها دقائق علومهم، كأن هذه الألفاظ إنما خرجت من هذه العلوم نفسها، وكأن كل علم وضع في الآية كلمته الصادقة، فلا تملك بعد هذا أن تجد ختام الآية إلا ما ختمت هي به من هذا التسبيح العظيم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} !
__________
1 قلنا: وقد ثبت أن الجنين أو تخلقه يكون في الإنسان والحيوان على شكل واحد، فتحوله إلى الصورة الإنسانية بعد ذلك هو إنشاؤه خلقًا آخر ولا ريب. فتأمل هذا الإعجاز الدقيق العجيب. ولو فسرت الخلق الآخر بظهور آثار الوراثة التي كانت في الخلية لكان قولًا جليلًا؛ لأن كل مولود يكاد يكون بهذه الوراثة يكون خلقًا على حدة. وآخر ما انتهى إليه العلم أن هذه الوراثة هي التي تنوع العالم الإنساني وتدفعه في سبيل الأقدار.
2 لو قال إنسانًا، أو آدميًا، أو بشرًا لوجب أن يكون في كل مخلوق إنسانية صحيحة، أو آدمية من آدم، أو بشرية بالمقابلة من الملكية، وليس كل مخلوق كذلك بل في الناس الأعلى والأسفل، فتأمل.(2/92)
إعجاز القرآن:
فصل:
وهذا هو الغرض الذي أردنا إليه الكلام في كل ما مر من هذا الباب جهة إلى جهة، وأرغنا معانيه فصلًا إلى فصل، وخضنا في ضروبه معنى إلى معنى، وقد وقفناك منه على وجوه عدة، من سر كان مكتومًا، وخبء كان مجهولًا، ومقطع من الحق كان مشتبهًا، وكلها خارج عن طوق الإنسان عندما يتعاطى وعندما يتوهم وعندما يثبت، وكلها لم يشهده الزمن إلا مرة واحدة.
وإنما الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه؛ فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد ليس له غير مدته المحدودة بالغة ما بلغت؛ فيصير من الأمر المعجز إلى ما يشبه في الرأي مقابلة أطول الناس عمرًا بالدهر على مداه كله. فإن المعمر دهر صغير، وإن لكليهما مدة في العمر هي من جنس الأخرى؛ غير أن واحدة منهما قد استغرقت الثانية؛ فإن شاركتها الصغرى إلى حد فما عسى أن يشركهما فيما بقي.
ونحن الآن قائلون فيما هو الإعجاز عند علمائنا -رحمهم الله- وما وضعوه فيه من الكتب؛ ثم ما هي حقيقته عندنا؛ ثم تبسط الكلام فضلًا من البسط في إعجاز القرآن بأسلوبه وبيانه مما يماس اللغة ويستطرق إليها نستتم بذلك القول فيما انتهى إليه جهدنا من قليل ما استطف1 لنا من أسراره العجيبة، وإن قليلها لكثير على الإنسان بالغة ما بلغت قوته.
ولسنا ندعي أننا أشرفنا على الأمد وأوفينا على معجزة الأبد، فإن هذا أمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمس جوانبه، واقتحم مصاعبه، وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه، وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة، وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا. ثم هو بعد لا يزال عندهم على ذلك خلقًا جديدًا، ومرامًا بعيدًا، وصعبًا شديدًا، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا منه نزرًا تهيأت لضعفه أسبابه، وقليلًا عرف لقتله حسابه، وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار؛ والابتغاء المعجز الذي انحط عنده قدر الإنسان؛ لأنه مما سمحت به الأقدار.
__________
1 طف واستطف بمعنى: أمكن.(2/93)
الأقوال في الإعجاز:
واعلم أننا لسنا نلتمس بما نتأتى إليه من هذا الفصل، ونستأتي به تعب الكتابة في سرده، ونصبنا له من استقراء مذاهب القوم وآرائهم أن نقيم من ذلك برهانًا صحيحًا، أو نقدم رأيًا صريحًا، فإن هذا بعض ما لا يطمع فيه ولا يرد التعب منه شيئًا على المباحث يكون فيه مطمع فلقد أبعد القوم في المقايسة وأمعنوا في المذاكرة، وأطالوا في الخصومة، وفخموا ما شاءوا، ومضغوا من الكلام ما ملأ أفواههم، وجاءوا بما هو لعمري فلسفة ومنطق؛ بيد أنهم في كل ذلك إنما توافوا على صنيع واحد من الرد بعضهم على بعض فمن فَلَج بحجته فقطع خصمه عن المعارضة، وأفحمه دون المناضلة كان الرأي في الإعجاز ما رآه هو، وكان أكبر البرهان على صوابه عجز خصمه عن تخطئته.
وهذه سبيل من الكلام لا يزال أذاها حاضرًا، وسالكها حائرًا، فإنه ما يندفع إليها رأيان متناقضان إلا كان أقواهما معتبرًا صوابًا بحتًا، لا بقوته ولكن بضعف الآخر، وإن كان هو في نفسه خطأ صراحًا وفسادًا صرفًا أو جهلًا وإحالة.
وقد مضى أكثر المتكلمين من رءوس الفرق الإسلامية على أن لا يبالوا أن يضربوا بآرائهم صفحًا، ولهم في ذلك صلابة يوهمون أنها صلابة أهل الحق وعناد يلتبس باليقين على العامة وأشباه العامة من أتباعهم فلا تنفعهم نافعة حتى يأخذوا بآرائهم وينتحلوها، ثم لا تكون لهم الخيرة من أمرهم بعد ذلك فيما يأخذون وما يدعون.
وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أن كل فرقة انشعبت في الإسلام وانبسط لها ظل, فإنما هي عقل رجل ذكي واحد؛ بالغًا ما بلغ أتباعها ومنتحلو عقائدها؛ فإن نبغ في هؤلاء عقل آخر انصدعت الفرقة فخرجت منها فرقة ثانية، وهلم جرا.
فالمقر من أولئك كالمنكر من هؤلاء، ما دام سبيل جميعهم من صناعة الكلام، وعلى ناحية المكابرة، وما دام نفي الشك بقوة المنطق كأنه في المنطق إقرار اليقين بقوة الحق فإن سقت الشبهة وبطل الاعتراض -ولو من عجز أو عي أو ما هو في حكمها من عوارض المنطق- فلذلك هو العلم المحض والرأي الصريح، وإلا فما دام للشبهة ظل، وللاعتراض وجه -ولو من المعارضة والمكابرة- فلا قرار لذلك الرأي، ولا ثبوت لذلك العلم، ولا يبلغ الجدال منهما رأيًا ولا علمًا.
وعلى هذه الجهة رأينا كل أقوالهم في إعجاز القرآن: لا يصنعون شيئًا دون أن ينكر ويدفع من ينكر من يدفع، فإما أن تتعارض الحجج الكلامية فتسقط بعضها بعضًا، وإما أن تقوى واحدة منهن فتسقط الباقيات وتبقى هي كلامًا من الكلام لا تصلح لنفي ولا إثبات.
وليس من طلب الحق ليعرفه كالذي يطلبه ليعرف به، فإن الأول ينصف من نفسه كما ينتصف لها، ولكن الثاني خصم لا يريده إلا جدلًا وله مع الجدل قوة الحرص على المؤاربة، وشدة الصريحة في المراوغة؛ كيما تنتهي إليه الحجة ويقف عنده البرهان فيكون له الصوت المردد ويصير إليه مرجع(2/94)
القول في النحلة أو المذهب، فهو يعتسف لذلك ولا جرم كل طريق، ويركب كل صعب، ويتحمل من كل وجه، ويتعنت بكل آية، وليس له هم دون قوة الإقناع المنطقية، ودون الإفحام والتعجيز ومن ثم لا يبالي أن يتورد خصمه بالسفه، أو يقر له بالسخف، أو يتبسط على الباطل أو يحتجز دون الحق، ما دامت هذه كلها أدوات في صناعة الكلام، وما دام الكلام قادرًا بأدواته على أن يصنع الحق أو ما يسمى حقا، وإن كانت الصنعة فاسدة أو سقيمة، وكانت التسمية من خطأ أو ضلال.
من أجل ذلك قلنا إنه لا يستقيم لنا برهان صحيح مما نصبنا لاستقرائه في هذا الفصل، ولكن أكبر غرضنا منه أن ندل على تاريخ الكلام في القرآن وإعجازه؛ فإن ذلك واضح النسق بين السرد فيما تهيأ لنا من هذه الآراء التي نؤديها كما هي وفاء بحق التاريخ وتوفية لفائدة ما نحن بسبيله.
كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن، مقالة تعزى إلى رجل يهودي يسمى لبيد بن الأعصم فكان يقول: إن التوراة مخلوقة، فالقرآن كذلك مخلوق، ثم أخذها عنه طالوت ابن أخته وأشاعها، فقال بها بنان بن سمعان الذي إليه تنسب البنانية1، وتلقاها عنه الجعد بن درهم "مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية" وكان زنديقًا فاحش الرأي واللسان، وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن، والرد عليه، وجحد أشياء مما فيه2. وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة، وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا من بعده، إذ كان أول من تكلم بها في دمشق عاصمة الأمويين، وكان مروان "ويلقب بالحمار" يتبع رأيه، حتى نسب إليه، فقيل مروان الجعدي.
ولم تظهر بعد فتنة القول بخلق القرآن إلا زمن أحمد بن أبي دؤاد وزير المعتصم "سنة 220هـ".
__________
1 هم قوم من الغلاة ينتسبون إلى هذا الرجل، وهو من بنان بن سمعان النهدي التميمي، ويعتقدون أن الإمامة انتقلت إليه من أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
والبنانية يقولون بإلهية علي، ولهم آراء، وليس في السخف أسخف منها، حتى إنهم ليزعموا أن الرعد صوت علي؛ وأن البرق ابتسامه؛ وأن السماء لا ترعد ولا تبرق إلا للهشاشة لهم والسلام عليهم "ولعل ذلك من برح الشوق أيضًا"، فكانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
وفي بعض الكتب تجد اسم بنان هكذا: أبان بن سمعان؛ وهو تحريف، وقتله خالد بن عبد الله القسري؛ كما قتل الجعد بن درهم الذي أخذ عنه مقالته. أما خالد فتوفي سنة 126هـ رحمه الله وأثابه.
وقد رأينا في "تأويل غريب الحديث" لابن قتيبة أن أول من قال بخلق القرآن قوم من الرافضة يقال لهم "البيانية" ينسبون إلى رجل يقال له "بيان" وأن هذا الرجل قال لهم: إلي أشار بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} ولا ندري ما أصله، فإن الناس لا يسمون "بيانًا" في أسمائهم، ولعله تحريف مقصود للنكتة في الاستشهاد بالآية. ومثله كثير.
2 هذه الأشياء إنما هي من إنكار الأخبار الواردة فيه؛ كتكليم الله موسى "عليه السلام" ونحوه، أما إنكار أشياء من القرآن نفسه على أنها ليست منه، فقد وقع لبعض الغلاة: كالعجاردة الذين ينسبون إلى عبد الكريم بن عجرد في أواخر المائة الأولى فإنهم ينكرون أن سورة يوسف من القرآن؛ لأنها قصة، زعموا. وقد عموا عن النظم والأسلوب وطابع الكلام، أما الرافضة "أخزاهم الله" فكانوا يزعمون أن القرآن بدل وغير وزيد فيه ونقص منه وحرف عن مواضعه وأن الأمة فعلت ذلك بالسنن أيضًا، وكل هذا من مزاعم شيخهم وعالمهم هشام بن الحكم، لأسباب لا محل لشرحها هنا، وتابعوه عليها جهلًا وحماقة.(2/95)
وكان أول من بالغ في القول بذلك عيسى بن صبيح الملقب بالمزدار الذي إليه تنسب المزدارية كما سيأتي.
ثم لما نجمت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعة من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شئون أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظرًا صرفًا، وبين الدين على كونه يقينًا محضًا وتغلغلوا في ذلك حتى خالف بعضهم بعضًا بمقدار ما يختلفون في الذكاء وبعد النظر، فتفرقوا عشر فرق، واختلفت بهذا آراؤهم في وجه إعجاز القرآن اختلافًا يقوم بعضه على بعض، فيبدأ فارغًا وينتهي كما بدأ وإن كثر في ذات نفسه.
فذهب شيطان المتكلمين أبو إسحاق إبراهيم النظام إلى أن الإعجاز كان بالصَّرفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارفًا للمادة. قلنا وكأنه من هذا القبيل هو المعجزة لا القرآن.
وهذا الذي يروون عنه أحد شطرين من رأيه، أما الشطر الآخر فهو الإعجاز إنما كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية.
وقال المرتضى من الشيعة: بل معنى الصرفة أن الله سلبهم العلوم ... التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن, فكأنه يقول إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني؛ إذ لم يكونوا أهل العلم ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأي بين الخلط كما ترى.
غير أن النظام هو الذي بالغ في القول بالصرفة حتى عرفت به، وكان هذا الرجل من شياطين أهل الكلام، على بلاغة ولسن وحسن تصرف، بيد أنه شب في ناشئة الفتنة الكلامية، فلم ينتفع بيقين. وقال فيه الجاحظ وهو تلميذه وصاحبه وأخبر الناس به: "إنما كان عيبه الذي لا يفارقه، سوء ظنه وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف. ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره ظنا، فإذا أتقن ذلك وأيقن، جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه؛ ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكان كلامه إذا خرج مخرج الشهادة القاطعة لم يشك السامع أنه إنما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته" ا. هـ.
قلنا: وهذا بعض ما ذهب بفضل بلاغته، وغطى على أثره، ونقض أمره عروة عروة، وجعله في أكثر آرائه بعيدًا عما هو من غايته، مدفعًا إلى ما ينزل عن حقه؛ حتى جاء رأيه الذي علمت في مذهب الصرفة دون قدره بل دون علمه، بل دون لسانه، وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم الذين افتتحوه وابتدعوه، لكان ذلك مذهبًا من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا!
وإلا فإن من سلب القدرة على شيء بانصراف وهمه عنه، وهو بعد قادر عليه مقرن له، لا يكون تعجيزه بذلك في البرهان إلا كعجزه هو عن البرهان، إذ كان لم يعجزه عدم القدرة. ولكن أعجزه(2/96)
القدر وهو لا يغالب والمرء ينسى ويذكر، وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزًا، وقد يعتريه السأم ويتخونه الملال، فينصرف عن الشيء وهو له مطيق، وذلك ليس أحق بأن يسمى عجزًا من أن يسمى تهاونًا، ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة1.
على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام، يصوبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك، ولكن القوم -عفا الله عنهم- أخرجوا أنفسهم من هذا كله، وكفوها مؤنته بكلمة واحدة تعلقوا عليها، فكانوا فيها جميعًا كقول هذا الشاعر الظريف الذي يقول:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء..
ولم نر أحدًا فسر هذه الكلمة "الصرفة" كابن حزم الظاهري، فإنه قال في كتابه "الفصل" في سبب الإعجاز: "لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن ما قالها لله تعالى وجعله كلامًا له، أصاره معجزًا ومنع من مماثلته ... قال: وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره". نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافيًا أيضًا؛ لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رأيًا له، أصاره كافيًا لا يحتاج إلى غيره! وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله تعالى؟
وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب فيه: "إن هو إلا سحر يؤثر" وهذا زعم رده الله على أهله وأكذبهم فيه وجعل القول به ضربًا من العمى2 {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد.
أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل ... ولذلك لم يسم هو أيضًا من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها من عرض، فقد سرد في موضع من كتاب "الحيوان" طائفة من أنواع العجز، وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم، ثم عد منها: "ما رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحداهم الرسول بنظمه" وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له أو نبه عليه3، أو هو يكون ناقلًا، ولا ندري.
__________
1 إطلاق الحرية للغير في معارضتنا، هي الشرط الجوهري الذي يسوغ افتراض الصواب فيما نراه تقرير التحدي في القرآن وحكمه ذاك. انظر "المعركة تحت راية القرآن".
2 عند أطباء العصر نوع من العمى يسمونه "العمى اللوني" وذلك أن يعتري العين اضطراب في البصر يمنعها تمييز بعض الألوان مع وضوحها، فما أقرب هذا العمى أن يكون شبيهًا به في البصيرة.
3 ينسبون في كتب المقالات والفرق إلى الجاحظ وأصحابه الذين يقال لهم الجاحظية، مقالة غريبة في القرآن. وهي فيما زعموا أنهم يقولون: القرآن جسد يجوز أن يقلب مرة رجلًا ومرة حيوانًا "وقيل: مرة أنثى.."=(2/97)
وبعض الفرق، فإنهم يقولون: إن وجه الإعجاز في القرآن هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم، في مطالعه ومقاطعه وفواصله؛ أي: فكأنه بدع من ترتيب الكلام لا أكثر.
وبعضهم يقول: إن وجه الإعجاز في سلامة ألفاظه مما يشين اللفظ: كالتعقيد والاستكراه ونحوهما مما عرفه علماء البيان، وهو رأي سخيف يدل على أن القائلين به لم يلابسوا صناعة المعاني.
وآخرون يقولون: بل ذلك في خلوه من التناقض واشتماله على المعاني الدقيقة.
وجماعة يذهبون إلى أن الإعجاز مجتمع من بعض الوجوه التي ذكرناها كثرة أو قلة، وهذا الرأي حسن في ذاته، لا لأنه الصواب، ولكن لأنه يدل على أن كل وجه من تلك الوجوه ليس في نفسه الوجه المتقبل.
أما الرأي المشهور في الإعجاز البياني الذي ذهب إليه عبد القادر الجرجاني صاحب "دلائل الإعجاز" المتوفى سنة 471هـ "وقيل 474هـ" فكثير من المتوسمين بالأدب يظنون أنه أول من صنف فيه ووضع من أجله كتابه المعروف، وذلك وهم، فإن أول من جود الكلام في هذا المذهب وصنف فيه، أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة 306هـ، ثم أبو عيسى الرماني المتوفى سنة 382هـ، ثم عبد القادر، وهذا الرأي كان هو السبب في وضع علم البيان، كما نبسطه في موضعه من تاريخ آداب العرب إن شاء الله.
ومذهب آخر لطائفة من المتأخرين: وهو أن وجه الإعجاز ما تضمنه القرآن من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة، في الفواتح والمقاصد والخواتيم في كل سورة وفي مبادئ الآيات وفواصلها قالوا: والمعول على ثلاث خواص:
1- الفصاحة في ألفاظه كأنها السلسال.
2- البلاغة في المعاني بالإضافة إلى مضرب كل مثل ومساق كل قصة وخبر في الأوامر والنواهي وأنواع الوعيد ومحاسن المواعظ والأمثال وغيرها مما اشتمل عليه؛ فإنها مسوقة على أبلغ سياق.
3- صورة النظم، فإن كل ما ذكره من هذه العلوم مسوق على أتم نظام وأحسنه وأكمله. ا. هـ.
__________
= وإنما تلك فرية شنع بها عليه خصومه من الجهال والعيابين ليهجنوا رأيه -وكان يكثر الشكوى منهم في كتبه- ولم تنقل إلا عن ابن الراوندي الزنديق الذي انفرد بحكاية الخرافات عن زعماء الفرق وجماعة الغلاة منهم، وألف كتاب "فضيحة المعتزلة" وله من ذلك أشياء، وسنذكره في موضع آخر. أما أصل الزعم الذي ينسبونه إلى الجاحظ؛ فهو ما يحكى عن أبي بكر الأصم من أنه زعم أن القرآن جسم مخلوق. تزيدوا فيه وجعلوا له صفتي الجسم من الأنوثة والذكورة كما رأيت، ثم نحلوه صفة غير إنسانية يتشكل بها، كوصف للجن والملائكة، وانظر ج2 ص146 هامش الكامل، زعم الجاحظ أن القرآن جسم.(2/98)
ومحصل هذا المذهب أن الإعجاز في القرآن كله؛ لأن القرآن كله معجز ... وهو معجز؛ لأنه معجز.
ولجماعة من المتكلمين وأهل التقسيمات المنطقية على اختلاف بينهم شبه ومطاعن يوردونها على القرآن. وهي نحو عشرين وجهًا، كلها سخيف ركيك وكلها واه مضطرب، وكلها غث بارد، منها قولهم: إن معارضته التي يقطع بأنها مستحيلة، حاصلة فعلًا: فإن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} قالوا: وكل من قرأ سورة منه فقد أتى بمثلها، أي: لأن من قرأها من المتأخرين يثبت بنفي هذه الشبه ونقضها؛ لأن سقوط الشبهة الواردة على الدليل، هو نفسه دليل صحته1.
وهذا برهان لم يكن لهم بد منه؛ فإن إنكار الإعجاز لم يقل به أحد من المتأخرين؛ وإنما وقع إليهم على هيئته في كتب الكلام وكتب التفسير التي يدرسونها؛ فهو رأي ميت، لو أنكروه بكل دليل في العلم لم يزده ذلك موتًا في الأرض ولا في السماء.
تلك هي أصول الأدلة لمن يقولون بالإعجاز2، لا نظن أنه فاتنا منها شيء إلا أن يكون قبيلًا مما زعمه بعضهم من أن حقيقة هذا الإعجاز هي أن العرب لم يعلموا وجه الترتيب الذي لو تعلموه لوصلوا به إلى المعارضة. وهو دليل لا يثبت شيئًا إلا عجز قائله وحده.
فإن قلت: أتنكر أن ما زعموه هو الدليل على الإعجاز، وأنه لا ينهض دليلًا ولا يتماسك إذا نهض وأنه زعم على الهاجس ورأي على ما يتفق، وأن مسألة الإعجاز لا تحل بصناعة الأقيسة وملابسة الجدال، وأن هذه التقسيمات وصحل لا يغني وحشو لا يسمن؟ قلت في ذلك: لشد ما ... !
أما الذين يقولون إن القرآن غير معجز، لا بقوة القدر ولا بضعف القدرة، فقد ذكرنا من أمرهم طرفًا، وأشدهم بعد الجعد بن درهم: عيسى بن صبيح المزدار وأصحابه المزدارية، وكان عيسى هذا تلميذًا لبشر بن المعتمر -من أكبر شيوخ المعتزلة وأفراد بلغائهم- ثم كان مبتلى بجنون التكفير، حتى سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعًا، فكفرهم، فأقبل عليه وقال: الجنة التي عرضها
__________
1 أي: صحة الدليل الأول الذي سقطت الشبهة عنه. وقد أطال عبد القاهر الجرجاني في الرد على القول بأن من قرأ سورة فقد جاء بمثلها، وأبدى في ذلك وأعاد وحشًا وكرر، حتى أخذ الرد شطرًا من كتابه "دلائل الإعجاز" وزعم هذا القول أيضًا في الشعر والفصاحة، وقرر أن الناس كانوا يتهالكون على هذا الرأي، فأحب لذلك أن لا يدع شيئًا مما يجوز أن يتعلق به متعلق إلا إذا استقصى في الكشف عن بطلانه، ولكن الإطالة في الرد على أي ضعيف لا تخلو من أن تكون في نفسها رأيًا ضعيفًا.
ومما هو بسبيل من ذلك السخف الذي رد عليه الجرجاني، ما زعمه ابن الجرجاني الزنديق، من أن القرآن فيه الكذب والسفه، قال: لأن هذه الحروف "ك ذ ب، س ف هـ" موجودة فيه.
2 عقد السيوطي في الجزء الثاني من كتاب "الإتقان" فصلًا عن وجوه الإعجاز، هو بسط أو تلخيص في شرح بعض الأدلة التي أوردناها. وأكثر ما فيه للمتأخرين، وكلامهم في ذلك كثير، غير أنه لا يعدو ما وصفنا، وإن كانوا قد جعلوا الكلام في الإعجاز فرعًا من علم التفسير وبابًا من علم الكلام.(2/99)
السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت، وثلاثة وافقوك؟ ومع هذا فكان الرجل من الزهد والورع بمكان حتى لقبوه راهب المعتزلة.
وقد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة ونظمًا وبلاغة؛ وعلى ذلك أصحابه، وهو جنون بلا ريب ليس أقبح منه إلا جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني الذين يزعمون أن كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن. وذلك زعم يكثر أن يكون جهلًا وسخفًا من قوم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وإنما هو بعض يزينه شيطان النفاق {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .(2/100)
مؤلفاتهم في الإعجاز:
قد رأيت أن أقوال الأولين في إعجاز القرآن وأدلتهم عليه مما لا يحتمل البسط والاتساع إلى ما تفرد له الكتب وتوضع فيه الدواوين. وتلك آراء كانوا يتواردون في المناظرة عليها ويتجارون الكلام في تصويبها والاحتجاج له في مجامع سمرهم وحلقات دروسهم، إذ كان الناس إجماعًا على القول بالإعجاز والمشايعة فيه وكانت الكلمة لا تزال متخلفة فيهم عن العرب، فهم على علم مذكور من أوليتهم وسلفهم الذين أعزهم القرآن الكريم، وعلى عيان حاضر من فصحاء البادية الذين يختلفون إليهم، ومن أهل العربية وطائفة الرواة1 وهذا كله مما يتسند إليه الطبع وإن كان طبع العامة الذين فسدت لغتهم والتوت ألسنتهم.
ومر الناس على ذلك إلى أوائل المائة الثالثة، فلما فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة؛ وخيف أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد أو العادة، وعلى الحشوة من أهل الكلام الذين لا رسوخ لهم في اللغة ولا سليقة لهم في الفصاحة ولا عرق لهم في البيان، مست الحاجة إلى بسط القول في فنون من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه، فصنف أديبنا الجاحظ المتوفى سنة 255هـ كتابه "نظم القرآن" وهو فيما ارتقى إليه بحثنا أول كتاب أفرد لبعض القول في الإعجاز أو فيما يهيئ القول به، وقد غض منه الباقلاني بقوله: إنه لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله؛ ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى "أي: الإبانة عن وجه المعجزة" وذهب عن الباقلاني -رحمه الله- أن ما دعا الجاحظ إلى وضع كتابه في أوائل القرن الثالث، غير الذي دعاه هو إلى التصنيف في أواخر القرن الرابع، فلم يحاول، الجاحظ أكثر من توكيد القول في الفصاحة والكشف عنها على ما بقي بالابتداء في هذا المعنى، إذ كان هو الذي ابتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وضعت بعد2.
__________
1 تجد تفصيل هذا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، في باب الرواية والرواة.
2 وقال الجاحظ في موضع من كتابه "الحيوان": ولي كتاب جمعت فيه آيًا من القرآن لتعرف بها ما بين الإيجاز والحذف؛ وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} وهاتان الكلمتان جمعتا عيوب خمر أهل الدنيا، وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني. ا. هـ. وهذا الكتاب غير معروف ولا مسمى، ولا بد أن يكون قد ألم فيه بأبواب من الكلام في البلاغة استعان بها من بعده في هذا العلم. كما استعانوا بنحو ذلك من سائر كتبه المعروفة.(2/100)
بيد أن أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، إنما هو فيما نعلم كتاب "إعجاز القرآن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة 306هـ، وهو كتاب شرحه عبد القاهر الجرجاني شرحًا كبيرًا سماه "المعتضد"، وشرحًا آخر أصغر منه. ولا نظن الواسطي بنى إلا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" على الواسطي، ثم وضع أبو عيسى الرماني المتوفى سنة 382هـ كتابه في الإعجاز، فرفع بذلك درجة ثالثة، وجاء القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403هـ فوضع كتابه المشهور "إعجاز القرآن" الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة1، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وسنشير إليه، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتدأ بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ.
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذبه وصفاه وتصنع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأليف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: "لم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى". فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القوم، ونوع آخر من فنونه، وقد حشر إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدها في محاسنه وهي من عيوبه.
وكان الباقلاني -رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة؛ مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ ومذهب مقلده ابن العميد2، على بصر وتمكن وحسن تصرف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضع له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة
__________
1 وهو مطبوع متداول.
2 هو أبو الفضل محمد بن العميد وزير ركن الدولة أبي علي حسن بن بويه الديلمي، وكان يسمى الجاحظ الثاني، لتمكنه من الأدب والترسل واتساعه في فنون الفلسفة حتى لم يكن في زمانه من يقاربه. وقد فضله الباقلاني في كتاب "إعجاز القرآن" على الجاحظ، لإطالته في الترسل دون أن يستريح إلى النقل من كلام غيره كما يصنع الجاحظ: وهو رأي لا نرضاه ولا نقره. ولا محل هنا لبسط القول فيه.
وقال ياقوت في معجمه من الكلام على بغداد: كان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله، سأله عن بغداد، فإن فطن لخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها، جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرًا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله، قضى له بأنه غرة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذاما لبغداد غفلًا بما يجب أن يكون موسومًا به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ، لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن. ا. هـ. وتوفي ابن العميد سنة 360 هـ-971م.(2/101)
إلى النقل، إذ كان أكبر غرضه في هذا الكتاب أن "ينبه على الطريقة ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة" وهذه ثلاثة لو بسط لها كل علوم البلاغة وفنون الأدب لوسعتها، وهي مع ذلك حشو ووصل.
على أن كتابه قد استبد بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد ووفي بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عدوه الكتاب وحده؛ لا يشرك العلماء معه كتابًا آخر في خطره ومنزلته وبعد عوره وإحكام ترتيبه وقوة حجته وبسط عبارته وتوثيق سرده، فانظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه.
وما زاد الباقلاني -رحمه الله- على أن ضمن كتابه روح عصره، وعلى أن جعله في هذا الباب كالمستحث للخواطر الوانية والهمم المتثاقلة في أهل التحصيل والاستيعاب الذين لم يذهبوا عن معرفة الأدب، ولم يغفلوا عن وجه اللسان ولم ينقطعوا دون محاسن الكلام وعيوبه، ولم يضلوا في مذاهبه وفنونه، حتى قال: إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي1 فيها كالبائن منها، وقد كانت علوم البلاغة لم تهذّب لعهده، ولم يبلغ منها الاستنباط العلمي، ولم تجرد فيها الأمهات والأصول: ككتب عبد القاهر ومن جاء بعده، فبسط الرجل من ذلك شيئًا، وأجمل شيئًا؛ وهذب شيئًا ونحا في الانتقاد منحى الذين سبقوه من العلماء بالشعر وأهل الموازنة بين الشعراء، وكانت تلك العصور بهم حفيلة.
وبالجملة فقد وضع ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصره، بيد أن القرآن كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز ونحن قد قلنا في غير الجهات التي كتبت فيها كل من قبلنا، وسيقول من بعدنا فيما يفتح الله به؛ إن ذلك على الله يسير.
وممن ألفوا في الإعجاز أيضًا على وجوه مختلفة من البلاغة والكلام وما إليهما: الإمام الخطابي المتوفى سنة 388هـ، وفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ، والأديب البليغ ابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654هـ، والزملكاني المتوفى سنة 727هـ وهي كتب بعضها من بعض2.
ومن أعجب ما رأيناه أن لابن سراقة كتابًا في الإعجاز "من حيث الأعداد ذكر فيه من واحد إلى ألوف" وهي عبارة مقتضبة رأيناها في "كشف الظنون" ولم يكشف لنا عن معناها، فلا ندري أبلغت
__________
1 أي: المبتدئ، يقال شدا من الأدب: إذا أخذ طرفًا منه.
2 كل ما تكشفه كتب التفسير وكتب البلاغة من دقائق نظم القرآن، وأسرار تركيبه، فهو من أدلة إعجازه.
وفي ص148 ج1 معجم الأدباء: لأبي زيد البلخي كتاب "نظم القرآن" قالوا: لا يفوقه في هذا الباب تأليف. قال ياقوت: قرأت في كتاب "البصائر" لأبي حيان الفارسي "التوحيدي" قال: قال أبو حامد القاضي -راجع المعركة: لم أر كتابًا في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي، وكان فاضلًا يذهب في رأي الفلسفة، ولكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في موضع وأخرج سرائره وسماه "نظم القرآن" ولم يأت على جميع المعاني فيه. قال: وللكعبي "أبو قاسم الكعبي، وكان وزيرًا. ببلخ لعاملها، وأبو زيد كاتبه" كتاب في التفسير يزيد حجمه على كتاب أبي زيد.
قلنا: فقد كان نظم القرآن يراد به تفسير معانيه وسرائره.(2/102)
وجوه الإعجاز في كتابه ألوفًا، أم هذه الألوف غير معجزة، أو هي يحصي ألوفًا من آيات القرآن والقرآن كله معجزة؟ على أننا رأينا في بعض الكتب نقلًا عن كتاب ابن سراقة هذا ما يأتي: "اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكوا في ذلك وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءًا واحدًا من عشر معشاره".
قلنا: ولعل المؤلف بلغ في كتابه نهاية هذا الحساب العشري؛ على أن كتابه لو كان مما ينفع الناس لمكث في الأرض ... والله أعلم.(2/103)
حقيقة الإعجاز:
أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وأنتهينا إليه بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية، وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد أسلوبه؛ ثم ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقابلة، واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنساني وآثاره وما نتج لنا من تتبع كلام البلغاء في الأغراض التي يقصد إليها، والجهات التي يعمل عليها، وفي رد وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه, نقول إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقر معنا، أن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفى الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة؛ وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغًا من ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذ كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله.
فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني؛ ومعجز كذلك في حقائقه؛ وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت، وقد أشرنا إليها في بعض الفصول المتقدمة؛ على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي؛ لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير.
ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيق من الطريق، ونقتص الأثر الطامس، ونلتزم الخطة التي تحمل عليها النفس حملًا. وقد كان فيما قدمناه، بل فيما دونه، مقنع، لو آثرنا ما تستوطنه النفس، عطفًا على ما تنازع إليه من السكر كلما انتهت إلى حجة واضحة، أو استبانت لائحة مفسرة؛ ولكننا نمضي ما اعتزمنا؛ فاللهم عونك! واللهم عونك!
هذا، ولا بد لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز، أن نوطئ بنبذ من الكلام في الحالة اللغوية التي كان عليها العرب عندما نزل القرآن، فسنقلب من كتاب الدهر ثلاث عشرة صفحة تحتوي ثلاثة عشر قرنًا؛ لنتصل بذلك العهد حتى نخبر عنه كأننا من أهله وكأنه رأي العين؛ وإنما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه الشاهدان: العين، والأذن؛ إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن يشهد عليهما أحدهما أو كلاهما.
بلغ العرب في عقد القرآن مبلغًا من الفصاحة لم يعرف في تاريخهم من قبل، فإن كل ما وراءه(2/104)
إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطرادها على سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وافتنوا فيه، وتوافى عليه من شعرائهم أفراد معدودون كان كل واحد منهم كأنه عصر في تاريخه بما زاد من محاسنه وابتدع من أغراضه ومعانيه. وما نفض عليه من الصبغ والرونق؛ ثم كان لهم من تهذيب اللغة، واجتماعهم على نمط من القرشية يرونه مثالا لكمال الفطرة الممكن أن يكون, وأخذهم في هذا السمت, ما جعل "الكلمة" نافذة في أكثرها لا يصدها اختلاف من اللسان، ولا يعترضها تناكر في اللغة؛ فقامت فيهم بذلك دولة الكلام؛ ولكنها بقيت بلا ملك، حتى جاءهم القرآن.
وكل من يبحث في تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء فإنه يرى كل ما سبق على القرآن -من أمر الكلام العربي وتاريخه- إنما كان توطيدًا له وتهيئة لظهوره وتناهيًا إليه ودرية لإصلاحهم به وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل هذه الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرًا وأبدع مظهرًا وأمد سببًا إلى النفس وأرد عليها بالعاقبة؛ ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقوم في سمائهم شرعًا، وأوفر في أنفسهم ريعًا وأكثر في سوقهم شراء وبيعًا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من تلك المعجزة.
هذا على أنه -كما علمت- أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف من مذاهب تربية الأمم؛ ولا هو كان طباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي تظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة، إذ كانت ميراث الدهر، وكانت مستقرة على عرق سار؛ وفي كل شبه نازع، وكانت روح المجموع لا تكون إلا منها، ولا تعرف إلا بها ولا تظهر إلا فيها فما عدا أن سفه أحلامهم، ونكس أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأولين، وقام على رءوسهم بالتقريع والتأنيب، وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تصب كالمعاني في الألفاظ؛ ثم ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق العمر إلى الفناء فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشئوا وهم أغفال وأحداث، بل كأنهم سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة، فكانوا هم الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقًا للحديث الشريف: $"خير القرون قرني ثم الذي يليه".
ولعمرك إن هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلا أن أول جيل أنسل من هؤلاء القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره في أقفال الأرض1 وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن وكأنه دار معها في الأصلاب دهرًا طويلًا حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردت عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالة بعد
__________
1 كناية عن الممالك التي افتتحوها، وقد بلغوا في ثمانين سنة ما لم يبلغه شعب من شعوب العالم في ثمانمائة سنة.(2/105)
سلالة، وجيل بعد جيل، من قوم قد مروا منذ أولهم في أدوار الارتقاء على سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم في أثناء ذلك طبع من طباع الاجتماع، ولا رذلت شيمة، ولا التوت طريقة، ولا سقطت مروءة، ولا ضل عقل، ولا غوت نفس ولا عرض لهم بغي، ولا أفسدتهم عادة. وأين هذا كله أو بعضه من قوم وكانوا بالأمس عاكفين على الأوثان فأكل بعضهم بعضًا، ولهم العادات المرذولة، والعقائد السخيفة، والطباع الممزوجة، إلى غيرها مما يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضيلة: كحمية الأنف، واستقلال النفس، ومما كان من عكس ذلك: كالتسليم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ، والمضي على ما وجدوا، ثم الموت على ما ولدوا؟
لا جرم أن في ذلك سرا من أسرار الفطرة، فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان للفصاحة وأساليبها، بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية وما بلغوا منها كما فصلناه في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم، تنبعث فيها الإرادة بأخلاق من معاني الكلام الذي يجري فيها. وتعتزهم على أخلاقهم وطباعهم فتصرفهم في كل وجه، كأنها إرادة جبار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد.
ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سر هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم برده، ولا حيلة لهم معه، مما يشبه على التمام أساليب الاستهواء في علم النفس، فاستبد بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه، حى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون في نقضها واستقاموا لدعوته وهم يبالغون في رفضها ... فكانوا يفرون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه، إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. والمكابرة في الأمور النفسية لا تتتجاوز أطراف الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور ويكابر فيه، إذ هو أداة مغلبة تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يرمى بها في حق أو باطل تمتنع على من أرادها لأحدهما أو لهما جميعًا.
قلنا: لولا ذلك على الوجه الذي عرفت، لما صار أمر القرآن إلى أكثر مما ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لما كان له في أولئك العرب أمر ألبتة؛ لأنهم قوم أميون، قد تأثلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيء الكثير من العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم ومن جنح إلى التأله منهم: كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة، وغيرهما.
وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه، ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون، ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمرًا من ذلك ما حفلوا به؛ ولا استدعى هو منهم الإجابة؛ لأن لهم منزعًا في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من دول الأرض، ولا أفلح في ذلك من حاوله من ملوك هذه الدولة في الأكاسرة والقياصرة والتبابعة، بل خلقوا عربًا يشرقون ويغربون مع الشمس حيث أرادوا وحيث ارتادوا؛ وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدنيا ولم يقلبهم على تصاريف الأمور غير القرآن.(2/106)
فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي ألقيت إليهم، لما نال منهم على الدهر منالًا، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثم لكانت سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، وهو لم يخرج عن كونه في الجملة كأنه موجود فيهم بأكثر معانيه، قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم لنقضوه كلمة كلمة، وآية آية، دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم، ولكان لهم وله شأن غير ما عرف؛ ولكن الله بالغ أمره، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيا بروح عصره الذي أنزل فيه، فلا يستطيع من لا يقول بإعجازه أن يقصره على زمن الجاهلية أو يتعلل في ذلك، وهو بعد من الإحكام والسمو شرف الغاية وحسن المطابقة بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم، واستولت على الأمد التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بسطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقومات الأمة, فذلك ما علمت.
وإن ههنا وجهًا آخر هو أعجب ما أومأنا إليه، على أنه ضريبه في الحكمة وقسيمه في الاعتبار؛ إذ هو متعلق بطبيعة الأرض، كما أن ذلك متعلق بطبيعة أهلها، فإن من الثابت البين أن لهيئة الطبيعة جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق؛ فترى في الجهات المقفرة أو المخفوفة أو التي يلقي منظرها في نفسك الرهبة دون المحبة، والفزع دون الاطمئنان أقوامًا كأنما نشئوا في المعابد، وولدوا في الصوامع؛ فليس في أخلاقهم إلا الاستسلام للوهم والتخيل، وإلا الخوف من كل شيء تكون فيه روح الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان، وتزوج السعالي، ومجاوبة الهواتف، والروغان عن الحن إلى الجن، واصطياد الشق، ومحاربة النسناس، وصحبة الرئي، وما كان لهم من خدع الكاهن، وتدليس العراف، ومن العيافة والتنجيم والزجر والطرق بالحصى1 وغيرها من خرافاتهم المعروفة، ثم الخوف من كل شيء تعرف فيه روح الطبيعة، كالأوثان وسائر ما قدسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة؛ لأن هذه الصفات وأمثالها تكتسب من طبيعة الخيال حدة وشدة2 وأنت واجد عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة مطمئنة لا تجتاح أهلها
__________
1 للعرب مذاهب كثيرة مثل ما وصفنا، ولا محل لبسط القول فيها ولكنا نقتصر على تعريف ما أتينا به تعريفًا لفظيا. فالغيلان: إناث الجن. والسعالي: جمع سعلاة، وهي سحرة الجن. ويقال إن الغيلان من السعالي. والهواتف: جمع هاتف وهي الجن تهتف بهم وتنذرهم، والحن نوع من الجن. والشق: جنس من أجناسهم، والنسناس: جنس من الخلق يعد فيهم. والرئي: جني يكون لبعض الناس فيخبره بالغيب، والكاهن من يتنبأ لهم بما سيقع. والعراف: من يستدل بالأسباب والحوادث ويتنبأ من ذلك. والعيافة: التكهن بالطير أو غيرها. والزجر: أن يزجر الطير ليتسعد أو يتشأم إذا أراد أن يهم بأمر. والطرق بالحصى: وسيلة من وسائل التكهن. وفي كل ذلك شرح طويل واختلاف كثير.
2 في العادة أن خرافات أمة من الأمم هي مادة الخيال في أهلها، وكأنها تزيغ بهم عن أساليب الحقيقة فيغلب الخيال بها على العقل، وهذا من السر في أن القرآن لم يكبر أمر الشعر ولا دعا إليه إلا في حقه وخالصته الاجتماعية.(2/107)
ولا ترميهم بالفزع فإنهم لا يقرون على خوف وتوثب، ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادة ما يخيفهم أو تقديس ما اتصلت به روح الطبيعة، ثم لا يكونون إلا أهل عمل بالحواس دون التخيل، قد غير أحدهم دهره عاملًا فليس يبالي إلا بالحاضر الذي تتعلق به روح العمل، دون الماضي الذي يجتمع عليه حرص أولئك؛ لأنه غيب الطبيعة التي يقدسونها، فكان من أخلاق العرب ما هو مشهور عنهم: من التفاخر بالآباء والأجداد، والذهاب مع الوهم في كل مذهب، وعدم المبالاة إلا بما يلحقهم بآبائهم ويجعلهم في عداد الماضين، ليكون لهم فيمن يخلفهم من الشأن والتقديس والتعظم بهم ما كان فيهم لمن تقدمهم فيتقون سوء القالة وخبث الأحدوثة، وسائر ما يفسد عليهم هذا الشأن، بكل ما وسعهم، لا يألون في ذلك جهدًا، ولا يغمضون فيه ولا يتقدمون في سد غيره قبل إحكامه واستفراغ قوتهم له، إلى غير هذا مما هو معروف متظاهر عنهم. ثم كان هواهم كله في الشعر؛ لأنه عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، وهو الصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم؛ فجاء القرآن يسفه تلك الطباع منهم، ويحول بينهم وبين ذلك الماضي، ويصرفهم إلى العمل، ويذهب عنهم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، ويأتيهم بالبصائر من ربهم، ويهديهم بالعقل إلى أسرار الطبيعة ليعلموا أنها مسخرة لهم فلا يسخروا أنفسهم لها، وحرم عليهم التقديس وما في حكمه، وبصرهم بما مسهم من طائف الشيطان وما نزغهم من أمره، خيالًا أو وهمًا أو شعرًا أو عبادة، وجعل أفضل الفضائل في الذي قام يدعو وهو النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن يومه، وابن عمله، وابن عقله، فلا هو مفاخر ولا واهم ولا شاعر، وتلك أخص فضائلهم الاصطلاحية، وخاطبه بهذه الآية الكريمة التي هي روح الثبات في أمم العلم والعمل، وهي قوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 1 فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن مع ذلك كله مما يطابق أرض العرب في طبيعتها وهي ما علمت؟ وكيف يتفق أن يكون كل ذلك من صنعة رجل قد نشأ فيهم واتصل بهم وذهبت عروقه بينهم واشجة، وهو من صميمهم نسبًا ووراثة، يعرفونه ويحققون جملة أمره.... ولم يخرج عنهم قط للعلم أو الطلب، ولا طرأ عليهم من غير أرضهم، ولا أنكروا عليه أمرًا من لدن نشأته إلى حد الكهولة، وإلى أن دب الشيب في عذاريه وهم مستيقنون أنه ما كان يتلو من قلبه من كتاب ولا يخطه؟
وما عهدنا رجلًا من علماء التاريخ قد أهاب بأمة طبيعية كالعرب، ذات بأس وصرامة وحمية وحفاظ وذات خيال وتصور, يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفهم حقا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها، وتسوغه تاريخها وعاداتها وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها! وهم لا يرونه في ذلك إلا مسخوط الرأي ذاهب الوهم، بعيدًا منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعًا، ولا يرون من أمره ذلك إلا قلة وضرعًا وهوانًا واستخفافًا وإن كانوا يعرفونه بحسن الخلق وصفاء الذمة وتخشع السمت، ويعرفون أنه لا يريد ملكًا لا يبغي دولة لا يتصنع لحدث من الأحداث السياسية ولا يهتبل غرة ذاهلة ولا يستعد لنهزة سانحة {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا
__________
1 ذكر البراءة من العمل دون البراءة منهم, كأنه يقول: إنا قد اختلفنا فلنتجادل أعمالنا، فلستم من عملي ولكنكم صائرون إليه؛ لأنه الحق.(2/108)
وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} .
ثم هو على هذا كله من أمره وأمرهم لا يتأتى إليهم بالتمويه، ولا يداخلهم بالنفاق، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا ينزل في العقيدة على حكمهم، ولا يداهن في خطابهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون وما يعبدون، ولا يحكم ذلك الأمر من ناحية الدهاء والمخاتلة، فيقرهم على طباعهم وعاداتهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويمد لهم في الغي مدا من أمر أعجبهم ومن شأن ما استخفهم كما يصنع دهاة السياسة وقادة الأمم، وكما صنع داهية أوروبا نابليون؛ الذي انتحل الكثلكة في حرب الفنديين، وأسلم في مصر1، وجهر بعصمة البابا في حرب إيطاليا؛ وقال مع ذلك: لو كنت أحكم شعبًا يهوديا لأعدت هيكل سليمان!
ثم يكون مع هذا كله من فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر ويستوسق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن يد وهي صاغرة للحق وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها المستنفرة وتعطف عليه بقلوبها الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفه لأحلامهم، والطاعن عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعاداتهم، وهو الذي خرج من الأمة أولًا، ثم أخرج الأمة كلها من نفسها آخرًا كما اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم.
ما عهدنا ذلك، ولا عهدنا أن الأمم تخرج من طبائعها النفسية وتستقيم لمن يتلوى لها مثل هذا الالتواء، وتدخل في أمر، وتثبت على طاعته ومحبته وهو أضعف ناصرًا وأقل عدا؛ إلا أن يغلبها على أنفسها، ويمتلك خيالها، ويستبد بتصورها؛ كيف له أن يغلب على النفس بتنفيرها، ويمتلك الخيال بالعنف عليه، ويستبد بالتصور وهو يسترذله؛ ومن أين له ذلك إلا أن يأتي الفطرة التي هي أساس هذه كلها، فيملكها، ثم يصوغها، ثم يصرفها، فإن الذي لا يدفع الطبع لا يدفع الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغائبها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد ذلك من كان، وإن جهد وإن بالغ!
وهذا الذي وصفناه، أمر لو ذهبت تلتمسه في تاريخ الأرض كلها ما رأيت أسبابها الفطرية في غير أولئك العرب، ولا رأيت تحقيقه في العرب إلا من ناحية القرآن وإعجازه، بنظمه وأساليبه وافتنانه على هذه الوجوه المعجزة، التي أقل ما توصف به أنها السحر، بل السحر بعضها2 وكان ذلك فيهم
__________
1 كان نابليون يقول: إن مصر لتساوي عمامة! كأن العمامة على ضميره لا على رأسه.
2 وذلك فيما نرى هو وجه الحكمة في نشأة هذا الدين عربيا واختصاص العرب بالقرآن دون غيرهم من الأمم، وإفراد قريش بذلك دون غيرها من العرب، ومن يقرأ صدر التاريخ في الإسلام ويعتبر حوادثه ويتدبر آثار القرآن في قبائل العرب ير أن شدة الإيمان كانت عند شدة الفصاحة، وأن خلوص الضمائر كان يتبع خلوص اللغة، وأن القائمين بهذا الدين والذين أفاضوه وصرفوا إليه جمهور العرب وقاتلوهم عليه وجمعوا ألفتهم وقوموا أودهم إنما كانوا أهل الفصاحة الخالصة من قريش إلى سرة البادية، وأن الفتن إنما استطارت في الجزيرة استطارة الحريق فيمن وراء هؤلاء إلى أطراف اليمن، فكانوا قومًا مدخولين منقوصين، وما كان ضعف اعتقادهم إلا في وزن الضعف من لغتهم، وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أن غربة الدين ما تزال تتبع غربة العربية. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمرو بن العاص بعمان، فأقبل منها إلى المدينة يخترق بلاد العرب، فأطافت به قريش=(2/109)
فيكونوا هم دليله من بعد.
وليت شعري ما هو أمر المعجزة في العقل، إن لم يكن هذا من أمره؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
__________
= وسألوه. فقال لهم: إن العساكر معسكرة من دبا "سوق بعمان" إلى حيث انتهيت إليكم. فتفرقوا حلقًا. ومر عمر بن الخطاب بجماعة منهم فسألهم: أفيم أنتم؟ فلم يجيبوه! فقال: أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب! قالوا: صدقت! قال: فلا تخافوا هذه المنزلة! أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون معاشر قريش حجرًا لدخلته العرب في آثاركم. ا. هـ.
وحسبك من أثر القرآن في العرب الفصحاء وصوغ فطرتهم وتصريفها، أن أحدهم كان إذا اتهم في بعض أخلاقه لم ينكر ذلك بأشد من قوله: بئس حامل القرآن أنا إذن. ولما أعطي سالم مولى أبي حذيفة راية المسلمين يوم قتال مسيلمة الكذاب وكان من أشد الأيام وأعظمها نكاية، قال لأصحابه: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها، قلتم: صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات! قالوا: أجل، وانظر كيف تكون! قال: بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت! فتأمل، وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص.
وفي هذه الوقعة صاح أبو حذيفة، وقد اضطرب المسلمين: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال! ثم حمل على القوم فحازهم حتى أنفذهم.
ولو أن هذا المعنى من غرض كتابنا لبسطناه بسطًا، ولكن القول فيه يتسع مما يخرجنا إلى تاريخ الإسلام وفلسفة آدابه ومعانيه الاجتماعية. وهي أغراض إنما نلم بها إلمامًا في هذا الكتاب كما عرفت.(2/110)
التحدي والمعارضة:
كان العرب قد بالغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة، ومن دقة الحس البياني، حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلًا واحدًا باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة1 من بلغائهم وفصحائهم، مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض، وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم؛ لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة، ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضًا ويدور بعضها على بعض، فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي، وكأن معنى حياته في الألفاظ وفيه معًا.
وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليتهم الثانية من بعده، لا حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظًا وأسلوبًا ومعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها، وكانت رأس أمره وقوام تدبيره؛ إذ هي بصبغتها العقلية ومعناها النفسي؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به، بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف
__________
1 هذا التعبير كالذي يقال له اليوم: "مستعد، أو رهين الإشارة".(2/110)
والاضطراب، شعورًا لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين.
ومن طباع النفس التي خبلت عليها، أنها متى خذلت وكان خذلانها من قبل ما تعده أكبر فخرها وأجمل صنعها وأعظم همها وأصابها الوهن في ذلك، وضربها الخذلان باليأس، فقلما تنفعها نافعة بعد ذلك أو تجزئها قوة أخرى؛ وقلما تصنع شيئًا دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه ومجاوزة ما لا تستطيع إلى ما نستطيع.
فمن ثم لم تقم للعرب قائمة بعد أن أعجزهم القرآن من جهة الفصاحة التي هي أكبر أمرهم، ومن جهة الكلام الذي هو سيد عملهم، بل تصدعوا عنه وهم أهل البسالة والبأس وهم مساعير الحروب ومغاويرها، وهم كالحصى عددًا وكثرة، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفسه، وإلا نفر قليل معه، لم يستجيبوا له ولم يبذلوا مفادتهم ونصرهم إلا بعد أن سمعوا القرآن ورأوا منه ما استهواهم وكاثرهم وغلبهم على أنفسهم؛ فكانت الكلمة منه تقع من أحدهم وإن لها ما يكون للخطبة الطويلة والقصيدة العجيبة في قبيلة بأجمعها، ولهذا قام كل فرد منهم في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه في نفسه قبيلة في مقدار حميتها وحفاظها ونجدتها، وهذا هو حق الشعور الذي كان يشعر به كل مسلم في السرايا والجيوش التي انصبت على الأمم أول عهدهم بالفتوح، حتى نصروا بالرعب من بعيد وقريب، وكأنما كانت أنفسهم تحارب قبل أجسامهم، وتعد المراصد لعدوهم من نفسه، وتسلبه ما لا يسلبه إلا الموت وحده، فالعرب يريدون أن يموتوا فيحيوا، ويريد أعداؤهم أن يحيوا فيموتوا1.. وإلا فأين تلك الشراذم العربية القليلة، من جيوش الروم والفرس، وهي فيها كالشامة في جلد البعير. ولو وقعت عليها ذبابة لكانت عسى أن تخفيها!
على أن من أعجب ما في أمر العرب أنهم كانوا يتخاذلون عن قتال النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته على كثرة ما استنفرتهم قريش لحربه، وما اعترضتهم في حجهم ومواسمهم2، وعلى ما كانوا يعرفون من مغبة هذا الأمر، وأنه ذاهب بطريقتهم لا محالة، فلم يجمعوا كيدهم، ولم يصدموه، بل استأنوا به ولبسوه
__________
1 هذا هو أثر القرآن في نفس كل مؤمن به على فهم وبصيرة، وذلك هو أثر النفس المؤمنة في أعدائها، وما ضعف المسلمون ولا استكانوا ولا ضربت عليهم الذلة إلا بعد أن شغلتهم الدنيا عن الدين, واكتفوا من القرآن وفضائله الحربية الاجتماعية التي عزت بها الأمم الأوروبية لهذا العهد وإن لم يظفروا بها كلها بالفاتحة يرددونها في الصلوات، ويقرءونها عند زيارة القبور، وآمنوا بالله إيمانًا ناقصًا لم يكسبوا فيه خيرًا؛ والله تعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ولكن أين هم المؤمنون اليوم الذين لم تفتنهم زينة الحياة، ولم يوهنهم الحرص على الدنيا، حتى يصدقهم الله وعده؟ وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق تداعي الأكلة إلى قصعتها" قيل: يا رسول الله أمن قلة منا نحن يومئذ؟ قال: "لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع العرب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت". فلقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد تداعت الأمم اليوم على المسلمين من كل أفق وما بهم قلة وهم 350 مليونًا، ولكنه نقص الإيمان ودلائله والانصراف عن القرآن وفضائله.
2 لهذا تفصيل تجده في تاريخ السير النبوية: ولقد استنفدت قريش جهدها في صد العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه أمر الله لا أمر إنسان.(2/111)
على أمر، وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة، وتركوا أسبابًا كانت منهم قريبة، وليس في ذلك سبب وراء القرآن؛ فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي، وتخذلهم في أنفسهم، فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة, ويكسر ذلك عليهم أمرهم, فتقع الحرب في أنفسهم بديئًا بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة، وعزائم واهية، وأمور منتشرة، وخواطر منقسمة، وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه، وكان عبرة لغيره، حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى، فمن سكن بعدها فقد سكن!
ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوا ونزولًا، على حسب ما لا بد منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه. ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب، متربصون به حالة من تلك الأحوال، فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام، وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية، وجمرة متوقدة، وأمر فوق الأمر وكلام يحاورن فيه بدءًا وعاقبة.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثلة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة؛ وهم مجبولون عليه فطرة. ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن، إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها, حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن، مولد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف وبالله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر1.
أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصورًا على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب،
__________
1 لورود التحدي في القرآن حكمة أخرى عجيبة, وقد أمسكنا عنها، إذ يقتضيها موضع آخر سيمر بك، ولن تسمى المعجزة معجزة إذا وقع بها التحدي بديئًا, فإن هذا التحدي ميزان ينصب بين القدرة والعجز, ولا تستطيع أن تقول هذا معجز إلا إذا تحديت الناس به فعجزوا عنه.(2/112)
وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور ... ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفج الرماد الهامد، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فقطع لهم أنهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله، ولا يقولها عربي في العرب أبدًا، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفيًا وتعجزهم آخر الأبد فما فعلوا ولا طمعوا قط أن يفعلوا1, وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف، كما يبذل المحرج آخر وسعه، وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهن حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا: ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر2 وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقرارًا منهم بالعجز، إذا جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات، تلميحًا كما تقدم، وتصريحًا كقولهم: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقولهم: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .
وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق؛ لأنها أعراق ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع، وخاصة في قوم كالعرب كان شأن الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف، وكانت العادة عندهم دينًا حين لم يكن الدين إلا عادة.
قال الجاحظ: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة،
__________
1 تأمل نظم الآية تجد عجبًا فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة لن تكون ولن تقع! فقال لهم: لن تفعلوا، أي: هذا منكم فوق القوة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن، ثم جعلهم وقودًا ثم قرنهم إلى الحجارة، ثم سماهم كافرين، فلو أن فيهم قوة بعد ذلك لانفجرت، ولكن الرماد غير النار.
2 كان العرب يلحدون إلى رجل أعجمي زعموا أنه يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيء من أخبار الأمم ونحوها, فرد الله عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} تلك مغالطة منهم وهذا ردها. وهو يثبت أن إعجازها كان بالفصاحة والأسلوب مع قدرتهم، لا بالصرفة ولا بغيرها. ويؤكده أنه تحداهم أن يأتوا بعشر سور مفتريات، والافتراء سهل لا يضيقون به، ولكن أين لهم مثل النظم والأسلوب؟ ولو كان تحداهم بعشر سور مفتريات ولم يقل "مثله" لأثبت ذلك أن الإعجاز بغير الأسلوب، بل لو لم تكن هذه الكلمة "مثله" في آية التحدي لجاز القول بأن القرآن غير معجز، ولاضطرب الأمر كله من أجل حرف واحد كما ترى.
وقد اختلفوا في ذلك الأعجمي، فقيل: إنه سلمان الفارسي، وقيل إنه بلعام الرومي. وسلمان إنما أسلم بعد الهجرة وبعد نزول كثير من القرآن، وأما الرومي فكان أسلم وكان يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: وقد كان سلمان أو بلعام الرومي أو يعيش أو جبر أو يسار، على اختلافهم في اسمه، بين أظهرهم، يكلمونه مدى أعمارهم، فهل حكي عن واحد منهم شيء مثل ما كان يجيء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك؟ وما منع العدو حينئذ، على كثرة عدده ورءوب طلبه وقوة حسده، أن يجلس إلى هذا فيأخذ عنه ما يعارض به؟(2/113)
وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته؛ فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف. فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة؛ أو بآيات يسيرة، فلكلما ازداد تحديًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا تعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات. فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم، مع كثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم؛ وكثرة شعرائهم؛ وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله؛ وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه؛ وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات؛ ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم. فمحال -أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة1 على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه، وهم يعرفون ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه. ا. هـ.
على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنهم عارضوا القرآن، فمنهم من ادعى النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآنًا كيلا تكون صنعته بلا أداة ... على أنه لا أتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه طائفة يستنفرون لأمره ويعطفون عليه جنيات الناس حتى يجمعوا له أخلاطًا وضروبًا، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية، وحدبًا من الطباع على الطباع2 فهم في غنى عن نبوته
__________
1 هي مدة رسالته صلى الله عليه وسلم.
2 وذلك أمر قد اطرد لكل المتنبئين من العرب، وهم: مسيلمة، والأسود العنسي، وطليحة، وسجاح، وسنذكر طرفًا من أخبارهم بعد، وقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه، رسول الله! فقال: لا حتى أراه! فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ قال: في ظلمة. قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر؟ ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان طليحة قد تنبأ واستطار أمره في بعض قبائل من العرب، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية، قام عيينة بن حصن في غطفان فقال: إني لمجدد الحلف الذي بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش! فتأمل.(2/114)
وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة، مقاربة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد ذلك مغنمًا، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب إذا صادفوا غرة وأصابوا مضطربًا، إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويغر به الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرءوس والأرجل مبادرة لا يدرى أيهما حامل وأيهما محمول.
ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة وظن أنه قادر عليها يضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة1 تعرض لك من حمر الوحش في جانب البر الواسع ثم تغيب وتسفي الريح على آثارها وسنعد لك عدا، لتصدر في هذه الدعوى عن روية، وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة، وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل إنهم بلغوه، فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن. وإن الحق ليجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط، فتكون مكابرتهم فيه وجهًا من الوجوه التي يثبت بها ويغلب:
1- فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب، تنبأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم، كان يصانع كل إنسان ويتألفه، ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح؛ لأنه إنما يتخذ النبوة سببًا إلى الملك، حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده، وكتب إليه في سنة عشرة للهجرة: "أما بعد: فإني قد شوركت في الأرض معك، وإنما لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكن قريشًا قوم يعتدون ... ! ".
وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرَّجَّال2 قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، إذ شهد أنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول إن مسيلمة قد أشرك معه! فصدقوه واستجابوا له؛ وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوه -إن هو لم يقبل- أن يعينوه عليه، فكان الرجال لا يقول شيئًا إلا تابعه مسيلمة؛ وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب، ليحكيه ويتشبه به، وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله، وفي "تاريخ الطبري" من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح.
__________
1 العانة: الجماعة من الحمر الوحشية.
2 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرَّجَّال بن عنفوه. فقال: إن فيكم رجلًا ضرسه في النار أعظم من أحد "وهو الجبل المعروف" فهلك القوم وبقيت أنا والرَّجَّال، فكنت متخوفًا لها حتى خرج الرجال مع مسيلمة فشهد له بالنبوة!.
والرجال في الرواية المشهورة بالجيم. وفي بعض الروايات أنه بالحاء، وقد قتل في حرب خالد بن الوليد لمسيلمة وأهل اليمامة.(2/115)
وقد زعم مسيلمة أن له قرآنًا نزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن ... بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا، ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه، ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعًا1 فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتى إلى أنفسهم منها2.
ومن قرآنه الذي زعمه قوله -أجزاه الله: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوئوه ...
وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون3.
وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل ...
وقال الجاحظ في "الحيوان" عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وكل كلامه على هذا النمط واه سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سببًا نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.
2- ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي، يلقب ذا الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خمار، وكان رجلًا فصيحًا معروفًا بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب؛ وقد تنبأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن، ولا يذكرون له قرآنًا غير أنه كان يزعم أن الوحي ينزل عليه، وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ أكب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت، يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جبارًا،
__________
1 لذلك سبب فلسفي يرجع إلى رغبة الكهان في استهواء من يستمع إليهم.
2 وما خفي هذا الأمر عن بلغاء العرب وحكمائهم. وأنه استعانة على النفس الضعيفة بأقوى منا فيها، وأنه كسائر ما يأتيه الرجل تمويه للصدق وتصنع للحمق فيه، وقد قيل إن الأحنف بن قيس أتى مسيلمة مع عمه، فلما خرجا من عنده قال له الأحنف: كيف رأيته؟ قال: ليس بمتنبئ صادق ولا بكذاب حاذق ... !
3 المذق: مزج اللبن بالماء، والمجع: اللبن يشرب على التمر، أو تمر يعجن باللبن، ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته.... أو كان بين قوم جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم!.(2/116)
وقتل قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة.
3- وطليحة بن خويلد الأسدي، وكان من أشجع العرب، يعد بألف فارس، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ثم لما رجعوا تنبأ طليحة، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي -وقيل بل يزعمه جبريل- ولكنه لم يدع لنفسه قرآنًا؛ لأن قومه من الفصحاء، ولم يتابعوه إلا عصبية وطلبًا لأمر يحسبونه كائنًا في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم، وإنما كانت كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة، رأيناها في معجم البلدان لياقوت، وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله قيامًا1 فإن الرغوة فوق الصريح2.
وقد بعث أبو بكر -رضي الله عنه- خالدًا بن الوليد لقتاله وكان مع طليحة عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة. فلما التقى الجمعان تزمل طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه، وألح المسلمون على أصحابه بالسيف، فقال عيينه: هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد! فأعاد إليه مرتين، كل ذلك يقول: لا. فقال عيينة: لقد تركك أحوج ما كنت إليه! فقال طليحة: قاتلوا عن أحسابكم، فأما دين فلا دين3! ثم انهزم ولحق بنواحي الشام، أسلم بعد ذلك، وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.
4- وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية. وكانت في بني تغلب "وهم أخوالها" راسخة في النصرانية، وقد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، فاستجاب لهم بعضهم وترك التنصر ومالأها جماعة من رؤساء القبائل، وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فالملك ملككم. وقد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر رضي الله عنه، ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها. وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها؛ وخافها مسيلمة، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوجها. قال: "ليأكل بقومه وقومها
__________
1 يريد بذلك هيئة الصلاة من الركوع والسجود. فكانت في شرعه قيامًا، وما من متنبئ في العرب أن يجيء بشيء مبتدئًا إلا أن يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ويزيد وينقص فيما جاء، وتلك دلائل التزوير وعلاماته فترى لو كان هذا الأمر إنسانيا وذكاء وصنعة، أفلم يكن في جزيرة العرب كلها من أقصاها إلى أقصاها رجل واحد يبلغ شيئًا من ذلك الذكاء وتلك الصنعة، فيأتي بشيء أو يصنع شيئًا أو يكون هو على الأقل في هذا الأمر شيئًا مذكورًا.
2 الرغوة ما فوق اللبن، والكلمة مثل جاء في العبارة حشوًا.
3 هذه رواية ابن الأثير في كتابه "أسد الغابة" وفي بعض المجاميع من كتب الأدب أن عيينة قال: تبا لك آخر الدهر، ثم جذبه جذبة جاش منها، وقال: قبح الله هذا ومن تبعوه. فجلس طليحة، فقال عيينة: ما قيل لك؟ قال: إن لك رحى كرحاه وأمرًا لا تنساه! فقال عيينة: قد علم الله أن لك أمرًا لا تنساه، يا بني فزارة هذا كذاب، ما بورك لنا وله فيما يطلب.
وفي "تاريخ الطبري" رواية أخرى تشبه هذه، وفي "معجم ياقوت" أن عيينة قال له: هل جاءك ذو النون بشيء؟ قال: نعم، قد جاءني وقال لي: إن لك يومًا ستلقاه، ليس لك أوله ولكن أخراه رحى كرحاه، وحديثًا لا تنساه. قلنا: فانظر أي هذيان تراه!(2/117)
العرب" فأجابت، وانصرفت إلى قومها؛ فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته1. ولم تدع قرآنًا، وإنما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة.
وفي رواية صاحب الأغاني2: أنه كان فيما ادعت، أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشًا قوم يبغون. وهي كلمة مسيلمة، وقد مرت آنفًا.
ثم أسلمت هذه المرأة بعد وحسن إسلامها، وما كانت نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!.
5- والنضر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدعوا النبوة ولا الوحي ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن، فلفق النضر هذا شيئًا من أخبار الفرس وملوك العجم، ومخرق بذلك؛ لأنه جاء بأخبار يجهلها العرب. ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل، لحماقته فيما زعم، وإنما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه!
6- وابن المقفع الكاتب البليغ المشهور: زعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره3.
وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحدة من أن كتاب "الدرة اليتيمة"4.
__________
1 روى الطبري أن قومها قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا. قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق، فرجعت فقالت له: أصدقني صداقًا. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي. قال: علي به! فجاء، وقال: ناد في أصحابك: إن مسيلمة بن حبيب رسول الله. وقد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر. وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما.
وفي رواية "الأغاني" أنه -أخزاه الله- وضع عنهم صلاة العصر وحدها، وأن عامة بني تميم لا يصلونها ويقولون: هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده. فإن صحت هذه الكلمة فليس أبلغ منها في الكشف عن معنى العصبية التي أومأنا إليها في هذا الفصل وقلنا إنها الأصل في مشايعة هؤلاء المتنبئين.
2 لم يترجم صاحب الأغاني لسجاح، ولكنا رأينا هذه الرواية في ترجمة الأغلب العجلي.
3 يتناقل المصنفون في كتب البلاغة من المتأخرين بعد القرن الخامس، عبارة غفل عنها من قبلهم ... وهي أن ابن المقفع لما عارض القرآن ووصل إلى قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال: هذا ما يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، وترك المعارضة ومزق ما كان اختلفه. وهذه الآية في سورة هود، فكأن ابن المقفع عارض السور الطوال حتى انتهى إليها: وهو شيء لم يزعمه الملحدة أنفسهم، إذ قالوا: إن المعارضة كانت بالدرة اليتيمة. وهي أوراق قليلة.
ولهذا رأينا أهل التدقيق إذا ساقوا هذا الخبر في كتبهم قالوا: إن ابن المقفع سمع صبيا يقرأ الآية فترك المعارضة؛ وذهب عن هؤلاء المدققين أن مثل ذلك البليغ لا يأخذ في معارضة القرآن إلا وقد قرأه وتأمله ومر بهذه الآية فيه ووقف عندها متحيرًا، فليس يحتاج إلى صبي يسمعها منه ليترك ما اتخذ فيه إن كان إبطال المعارضة موقوفًا على سماع الآية.
4 طبع هذا الكتاب مرارًا، وهو من الرسائل الممتعة، بعد طبقة من طبقات البلاغة العربية، ولكنه في المعارضة ليس هناك، لا قصدًا ولا مقاربة، ونحن لا نرى فيه شيئًا لا يمكن أن يؤتى بأحسن منه وما كل ممتع ممتنع. وقال الباقلاني: إنه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، وهذا هو الرأي: فإن ابن المقفع لم يكن إلا مترجمًا. وكان ينحط إذا كتب ويعلو إذا ترجم؛ لأن له في الأولى عقله وفي الثانية كل العقول ... وفي اليتيمة عبارات وأساليب مسروقة من كلام الإمام علي.(2/118)
لابن المقفع هو في معارضة القرآن فكأن الكذب لا يدفع إلا بالكذب، وإذا قال هؤلاء إن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته، وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته، وابن المقفع هو من هو في هذا الأمر، قال أولئك: بل عارض ومزق واستحيا لنفسه!
أما نحن فنقول: إن الروايتين مكذوبتان جميعًا، وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء من الأشياء إلا لأنه من أبلغ الناس. وإذا قيل لك إن فلانًا يزعم إمكان المعارضة ويحتج لذلك وينازع فيه، فاعلم أن فلانًا هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين: إما جاهل يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس؛ ولن يكون "فلان" ثالث ثلاثة!
وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس؛ لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده، وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه؛ ثم كان ابن المقفع متهمًا عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة.
ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب، وكان متهمًا بها أو كان له عرق في المجوسية، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة: لا لأنه زنديق، ولكن لأنه بليغ يصلح دليلًا للزنادقة1.
وزعم هؤلاء الملحدة أيضًا أن حكم قابوس بن وشمكير2 وقصصه، هي من بعض المعارضة للقرآن؛ فكأنهم يحسبون أن كل ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار فتلك سبيله؛ وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا؟ ومثل قولهم: إن القصائد السبع المسماة بالمعلقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها3.
__________
1 من أعجب ما رأيناه: أن بعضهم اتهم ابن سينا بمعارضة القرآن لأنه زنديق، وأن ابن سينا وضع رسالة في دفع هذا الافتراء، قلنا: وأين ابن سينا من طور سينا؟ هذا رجل وهذا جبل. ولكنها كانت عصور الجدل والمكابرة!.
2 وهو شمس المعالي قابوس بن وشمكير المتوفى سنة 403هـ. من ملوك الديلم على جرجان وطبرستان، وكان أديبًا مترسلًا، بالغ في وصفه الثعالبي صاحب اليتيمة، وقد طبع بعض رسائله في كتاب اسمه "كمال البلاغة" وهو رجل مسلم قوي الإيمان وإنما كذبوا عليه. وبعض كلامه جيد وبعضه لا قيمة له.
3 وإنا لنحسب هذا الزعم أصلًا فيما نراه في بعض كتب الأدب والبلاغة، من أن هذه القصائد كانت معلقة على الكعبة فأنزلها العرب لفصاحة القرآن، إلا معلقة امرئ القيس، فإن أخته أبت ذلك، فلما نزلت آية {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} قامت إلى الكعبة فأنزلت معلقة أخيها؛ وإلا فمن الذي يصدق مثل هذه الرواية الباطلة إلا إذا كان إلى زعم كزعم أولئك الملحدين؟(2/119)
7- وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي1 وكان رجلًا غلبت عليه شقوة الكلام؛ فبسط لسانه في مناقضة الشريعة، وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها من قوله في كتاب "الفريد"2: "إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي فلم تقدر على معارضته؛ فيقال لهم: أخبرونا: لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ ".
قلنا: فاعجب لهذا الجهل الذي يكون قياسًا من أقيسة العلم, واعجب "للكلام" الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب؛ ولما كان كذلك فأحدهما مثل الآخر؛ ولما كان أحدهما معجزًا فالثاني معجز لا محالة. وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني. وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت ... لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلًا من الحجة وبابًا من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط؛ وإلا فأين كتاب من كتاب3؟ وأين وضع من وضع؟ وأين قوم من قوم؟ وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض ولاطرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا: إن كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟ ولو أن مثل هذه السخافة تسمى علمًا تقوم به الحجة فيما يحتج له ويبطل به البرهان فيما يحتج عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى باسمه، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة؛ لأن فيه قوة من قوى الخلق؛ ولأنك لا تجد سخيفًا من سخفاء المتكلمين الذين يعتدون من ذلك علمًا -كابن الراوندي مثلًا- إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل إلهه هواه، أم جعل إلهه في فمه4.
__________
1 توفي سنة 293هـ على رواية أبي الفداء، وفي كشف الظنون سنة 301هـ وفي وفيات ابن خلكان سنة 350هـ، ولعل الأولى أقرب. وكان هذا الرجل من المعتزلة، ثم خالفهم فنبذوه واشتدوا عليه، فحمله الغيظ على أن مال إلى الرافضة. قالوا: لأنه لم يجد فرقة من فرق الأمة تقبله، ثم ألحد في دينه وجعل يصنف الكتب لليهود والنصارى وغيرهم في الطعن على الإسلام، وهلك في منزل رجل يهودي اسمه أبو عيسى الأهوازي، وكان يؤلف له الكتب.
2 وفي تاريخ أبي الفداء "الفرند" وهو تصحيف، وهذا الكتاب وضعه ابن الراوندي في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ردوا عليه ونقضوه.
3 كتاب إقليدس مثلًا في الهندسة، وهي علم فئة، بخلاف البيان الذي كان طبيعة في العرب لا في فئة منهم، فاختلفت جهة القياس.
4 يجنح ابن الراوندي في طعنه إلى الأقيسة الفاسدة يغالط بها, وله من ذلك سخافات عجيبة، وقد طعن في كتاب "الزمردة" على نبوات الأنبياء جميعًا وله كتاب "نعت الحكمة" يعترض فيه على الله إذ كلف خلقه ما أمر به، فاعجب لهذا حقا.(2/120)
وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه "التاج" ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب، مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء قد أجابوا على كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من "كفرياته" وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة, والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة، كما صنع في سائر كتبه؛ كالفريد، والزمردة، وقضيب الذهب، والمرجان1 فإنها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض، وكلها اعتراض على الشريعة والنبوة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح، ولا يقيم وزنها علم راجح2.
وقد ذكر المعري هذه الكتب في "رسالة الغفران"، ووفى الرجل حسابه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع!. وناهيك من سجع المعري الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى!.
ومما قاله في "التاج"، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلًا, وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: أف وتف3 وجورب وخف. قيل: وما جورب وخف؟ قالت: واديان بجهنم!.
وهذا يشير إلى أن الكتاب كذب واختلاق وصرف لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة؛ وإلا فلو كانت معارضته لنقض التحدي وقد زعم أنه جاء بمثله لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من
__________
1 يخيل إلينا أن ابن الراوندي كان ذا خيال، وكان فاسد التخيل، وإلا فما هذه الأسماء؟ وأين هي مما وضعت له؟ والخيال الفاسد أشد خطرًا على صاحبه من الجنون؛ لأنه فساد في الدماغ،؛ ولأنه حديث متوثب، فما يملك معه الدين ولا العقل شيئًا، وأظهر الصفات في صاحبه الغرور.
2 كتبنا هذا للطبعة الأولى ثم وقفنا بعد ذلك على أن كتاب "التاج" يحتج فيه صاحبه لقدم العالم وأنه ليس للعالم صانع ولا مدبر ولا محدث ولا خالق.
أما كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه "الدامغ" قالوا إنه وضعه لابن لاوي اليهودي وطعن فيه على نظم القرآن, وقد نقضه عليه الخياط وأبو علي الجبائي، قالوا: ونقضه على نفسه, والسبب في ذلك أنه كان يؤلف لليهود والنصارى الثنوبة وأهل التعطيل، بأثمان يعيش منها. فيضع لهم الكتاب بثمن يتهددهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته.
قال أبو عباس الطبري: إنه صنف لليهود كتاب "البصيرة" ردا على الإسلام لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامرا، فلما قبض المال رام نقضه، حتى أعطوه مائة درهم أخرى فأمسك عن النقض!
أما ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلا ما نقله صاحب "معاهد التخصيص" قال: اجتمع ابن الراوندي هو وأبو علي الجبائي يومًا على جسر بغداد، فقال له: يا أبا علي، ألا تسمع شيئًا من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي: أنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك. فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلًا وتلاؤمًا ونظمًا كنظمه وحلاوة كحلاوته؟ قال: لا والله. قال: قد كفيتني، فانصرف حيث شئت.
ويقال إن ابن الراوندي كان أبوه يهوديا وأسلم، والخلاف في أمره كثير، وبلغت مصنفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتابًا.
3 الأف: وسخ الأذن، والتف: وسخ الأنف.(2/121)
الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة، كما أصبنا من ذلك لغيره1.
8- وشاعر الإسلام أبو الطيب المتنبي المتوفى قتيلًا سنة 354هـ فقد أدعى النبوة في حدثان أمره، وكان ذلك في بادية السماوة "بين الكوفة والشام"، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، وكان يمخرق على الناس بأشياء وصف المعري بعضها في "رسالة الغفران"، وقيل إنه تلا على البوادي كلامًا زعم أنه قرآنًا أنزل عليه يحكمون منه سورًا كثيرة، قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها فضاعت مني وبقي في حفظي من أولها: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار, امض على سنتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين؛ فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيل".
ونحن لا نمنع أن يكون للرجل شيء من هذا ومثله، وإن لم يكن في طبقة شعره ولا في وزن ما يؤثر عنه من فصول النثر، كقوله وقد كتب به إلى صديق له في مصر كان يغشاه في علته حين مرض، فلما أبلّ انقطع عنه فكتب إليه: "وصلتني -وصلك الله- معتلا؛ وقطعتني مبلا؛ فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله" فإن هذا وشبهه إنما هو بعض عشره منثورًا، وهي المعاني التي تقع في خواطر الشعراء قبل النظم، وما من شاعر بليغ إلا هو يحسن أن يقول هذا وأحسن منه، وإن كان فيما وراء ذلك من صناعة الترسل ودواوين الكتابة لا يغني قليلًا ولا كثيرًا.
ولم يكن المتنبي كاتبًا، ولا بصيرًا بأساليب الكتابة وصناعتها ووجوهها، ولا هو عربي قح من فصحاء البادية، وإن كان في حفظ اللغة ما هو؛ فليس يمنع سقوط ذلك الكلام الذي نسب إليه من أن تكون نسبته إليه صحيحة؛ لأنه لو أراده في معارضة القرآن ما جاء بأبلغ منه؛ وما المتنبي بأفصح عربية من العنسي ولا مسيلمة، وقد كان في قوم أجلاف من أهل البادية، اجتمعت لهم رخاوة الطباع، واضطراب الألسنة، فلا تعرفهم من صميم الفصحاء بطبيعة أرضهم، ولا تعرفهم في زمن الفصاحة الخالصة؛ لأنهم في القرن الرابع، وإذا كانت حماقات مسيلمة قد جازت على أهل اليمامة والقرآن لم يزل غضا طريا ونور الوحي مشرق على الأرض بعد، فكيف بالمتنبئ في بادية السماوة وقوم من بني كلب! وهل عرف الناس نبيا بغير وحي ولا قرآن؟
9- وأبو العلاء المعري المتوفى سنة 449هـ، فقد زعم بعضهم أنه عارض القرآن بكتاب سماه "الفصول والغايات، في مجاراة السور والآيات" وأنه قيل له: ما هذا إلا جيد، غير أنه ليس عليه طلاوة القرآن! فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون*.
__________
1 في ص111 ج2 من هامش الكامل أسماء الذين كانوا يطعنون عن القرآن ويصنعون الأخبار ويبثونها في الأمصار ويضعون الكتب على أهله.
* يقول مصححه: وقع صديقنا البحاثة الأستاذ محمود زناني على نسخة خطية لبعض كتاب "الفصول والغايات" فنشرها مصححة مضبوطة منذ قريب، وأحسب أن المؤلف -رحمه الله- لم يقرأ شيئًا منها قبل.(2/122)
وقيل: إن من كتابه هذا قوله: "أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إن الكافر لطويل الويل وإن العمر لمكفوف الذيل؛ تعد مدارج السيل؛ وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج".
فلفظة "ناج" هي الغاية، وما قبلها فصل مسجوع، فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية، وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم؛ لأنها تأتي خواتم لآياته، فكأن المعارضة نقض للوضع ومجاراة للموضوع، وكأنها صنعة وطبع.
وتلك لا ريب فرية على المعري أراده بها عدو حاذق؛ لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلا أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأن البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصابًا لألفاظها، وتوطينًا لغرائبها كما يصنع؛ وأن الفصاحة شيء غير صلابة الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثرًا يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه من جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية؛ وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى فساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله، وما أسلوب المعري إلا من هذا كله.
على أن المعري -رحمه الله- قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي، فقال: "وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن المحجة ومقتدي, أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب, وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق" ا. هـ.
ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه، ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته1 منه تضييعًا ولا ضعفًا، ولا نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة؛ فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة2.
وبعد، فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة؛ أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدهم الجن بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه، ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في غلتها وحكمة مذاهبها في أساليب
__________
1 رسالة الغفران.
2 أي: هو كلام بين الأيدي، يمر فيه النظر ويجري عليه النقد حكمه، لا كالغيبيات مما تزيغ فيه بعض العقول غافلة عن الفرق بين القدرة فيما يتناهى والقوة فيما لا يتناهى وعن استحالة تمثل هذه في تلك إلا على قدر وعند حد.(2/123)
هذه اللغة، وقد تفقه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه، وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصل ويرجع فيه إلى طبع.
وإن شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع واستفاضة المادة وتمكنه من فنون القول وتقدمه في مذاهب البيان؛ فكلما تناهى في علمه تناهى كذلك في علمه بالعجز وما أهل الأرض جميعًا في ذلك إلا كنفس واحدة {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(2/124)
أسلوب القرآن:
وهذا الأسلوب فإنما هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، ليس من ذلك شيء إلا وهو معجز، وليس من هذا شيء يمكن أن يكون معجزًا وهو الذي قطع العرب دون المعارضة، واعتقلهم عن الكلام فيها، وضربهم بالحجة من أنفسهم وتركهم على ذلك يتلكئون. ثم هو الذي مثل لهم اليأس قائمًا لا يتصل به الطمع، وصور لهم العجز غالبًا لا تنال منه القدرة. فأحرز طباعهم في ناحية من الضعف والاستكانة، حتى كأنها غير طباعهم في تثلمها بعد انتضائها وتراجعها بعد مضائها، وقد كانوا يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر ويتناقضون في أغراضه ومعانيه، حين لم يكن من الفرق عند فصحائهم بين فن وفن من القول إلا ما يكون من تفاوت المعاني واختلاف الأغراض وسعة التصرف، وكان أسلوب الكلام قبيلًا واحدًا وجنسًا معروفًا، ليس إلا الحر من المنطق والجزل من الخطاب، وإلا اطراد النسق وتوثيق السرد وفصاحة العبارة وحسن ائتلافها، لا يغتصبون لفظة، ولا يطردون كلمة، ولا يتكلفون لتركيب، ولا يتلومون1 على صنعة، وإنما تؤاتيهم الفطرة وتمدهم الطبيعة؛ فنسق الألفاظ إلى ألسنتهم، وتتوارد على خواطرهم، وتجري مع أوهامهم، وتستجيب فيهم لكل حركة من النفس لفظة المعنى الذي هو أصل هذه الحركة، ثم لا تكون هذه اللفظة إلا كأنها خلقت لذلك المعنى خلقًا، وأفرغت عليه إفراغًا، حتى لا يناسبه غيرها فيما يلتئم على لسان المتكلم، ولا يكون في موضعها أليق منها في مذهبه ولحن قومه وطريقة لغته.
فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب، وألوان المنطق. ليس في ذلك إعنات ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود؛ حتى أحسوا بضعف الفطرة القوية، وتخلف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأن هذا التركيب هو روح الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس، إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطلع على قلوبهم، بل هو السر الذي يفشي بينهم نفسه، وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبين في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحس، فليس للخلابة أو المؤاربة وجه في نقض تأثيره وإزالته عن موضعه، ومن استقبل ذلك بكلامه أو أراده بأي حيلة، فقد استقبل رد النفوس عن أهوائها، وردع القلوب عن محبتها، وحاول معارضه أقوى ما في النفس بأضعف ما فيها؛ وهذا شيء -فيما يعرفونه- لا يستقيم لامرئ من الناس ببيان ولا عصبية ولا هوى ولا شيء من هذه الفروع النفسية، وليس إلا أن ينقض الفطرة فيستقيم له، وما في نقض هذه
__________
1 أي: لا ينقحون ويحككون ويبطئون لذلك في عمل الكلام.(2/125)
الفطرة إلا أن يبدأ الخلق فيكون إلهًا، وهذا كما ترى فوق أن يسمى أو يعقل.
وقد استيقن بلغاء العرب كل ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة، إذ وجدوا من القرآن، ما يغمر القوة ويحيل الطبع ويخاذل النفس مصادمة لا حيلة ولا خدعة، وإنما سبيل المعارضة الممكنة التي يطمع فيها أن يكون لصاحبها جهة من جهات الكلام لم تؤخذ عليه، وفن من فنون المعنى لم يستوف قبله، وباب من أبواب الصنعة لم يصفق من دونه، وأن تكون وجوه البيان له معرضة يأخذ في هذا ويعدل عن ذلك؛ حتى يستطيع أن يعارض الحسنة بالحسنة، ويضع الكلمة بإزاء الكلمة، ويقابل الجملة بالجملة، ثم يصير الأمر بعد ذلك إلى مقدار التأثير الذي يكون لكلامه، وإلى مبلغه في نفوس القوم؛ من تأثير الكلام الذي يعارضه.
ومذهب الحيلة على التأثير مذهب واسع لا يضيق بالبلغاء كلهم إذا هم تكافئوا في الصناعة والبصر بأسبابها؛ لأن كل واحد منهم ينتحي بكلامه جهة من جهات النفس، ويأخذ في سبيل من طباعها وعاداتها، وهو لا بد واحد في كلام غيره موضع فترة من الطبع أو غفلة من النفس، أو أثرًا من الاستكراه يبعث عليه باعث من أمور كثيرة تعتري البلغاء في صناعتهم، فيضطرب لها بعض كلامهم، ويضعف بعض معانيهم، ويقع التفاوت في الأسلوب الواحد ضعفًا وقوة. فإذا هو أصاب ذلك فعسى أن يقابله من نفسه بطبع قوي ونفس مجتمعة، ووزن راجح، أو شيء من أشباهها، فيكون قد ظفر بمدخل يسلك منه إلى المعارضة. ويظهر به فضل كلام على كلام، ومقدار طبع من طبع، وقوة نفس من نفس، ولولا ذلك وأنه من طباع البلغاء؛ ومما لا يسلم منه ذو طبع، لما أمكن أن يتناقض شاعران أو يتساجل راجزان، أو يتراسل كاتبان، أو يتقارض خطيبان، أو يواجه كلام كلامًا في معرض المقابلة، أو يرجح به في ميزان المعادلة.
فأما أن يكون الكلام الذي يقصد إليه بالمعارضة كهذا القرآن: أحكم دقيقه وجليله، وامتنع كثيره وقليله، وأخذ منافذ الصنعة كلها، واستبرأ المعنى الذي هو فيه إلى غايته، وقطع على صاحبه أمر الخيار في الوجه الذي يعارض منه، وكان من وراء ذلك بابًا واحدًا في امتناعه، لا موضع فيه للتصفح، ولا مغمز للثقاف، ولا مورد للمقالة؛ وقد توثقت علائقه، وترادفت حقائقه، وتواردت على ذلك دقائقه: ثم كانت جملته قد أحرزت عناصر الفطرة البيانية وجمعت فنونها، واحتوت من الكمال الفني ما كان إحساسًا صرفًا في نفوس أهله، يشعرون به وجدانًا، ولا يقدرون على إظهاره بيانًا, فلذلك مما لا سبيل للنفس إلى المكابرة فيه بحال من الأحوال، أو ابتغائه بالمعارضة ومطاولته بالقدرة على مثله، إذ هو بطبيعته المعجزة لا ترى فيه النفس إلا مثالًا للعلم تعرف به مقدار ما انتهت إليه من إحكام العمل.
وهذا هو سبيل آثار النوابغ الملهمين الذين انفرد كل منهم بحيزه من الفن؛ فإن المعجز من هذه الآثار -إذا بلغ أن يتجوز في العبارة عنه بهذا الوصف- لا يكون إعجازه إلا على قدر ما يحتوي من كمال الفطرة الفنية، فتتمثل أنت منه ما كان في النفس إحساسًا صرفًا، وأملًا محضًا، ثم يتصفحه من يريد معارضته فيراه بعينه ماثلًا مصورًا حتى لا يشك في إمكانه ومطاوعته، ويبتغيه حين يبتغيه فإذا هو(2/126)
قد عاد في نفسه إحساسًا وأملًا لا سبيل عليهما للقدرة الفنية.
وهذا هو معنى العجز، وذلك هو معنى الإعجاز، ولا يزال يتفق منه في أعمال الناس على حساب ما يكون من اختلاف درجاتهم ومبلغ طاقتهم؛ وما من ذي من فن نابغ إلا وأنت واحد حسن عمله دون أمله هو في هذا الحسن، ودون إحساسه بهذا الأمل، حتى إنك لتعجب بما ظهر من قدرته الفنية في عمل الذي تراه أحسن شيء, على حين أنه لا يعجب إلا بالأصل الكامل الذي توهمه في نفسه، ووجد بيانه في خاطره، والذي لم يستطع أن يخرجه كاملًا؛ لأن من طبيعة الإحساس أن يظهر فيه كمال النفس ما دام في النفس، فإذا هو انقلب في الحواس عملًا ظهر فيه نقص الحواس!
ولما كان مرجع تقدير الكلام في بلاغته وفصاحته إلى الإحساس وحده وخاصة في أولئك العرب الذين من أين تأملتهم ورأيتهم كأنما خلقوا خلقًا لغويا1، وكان القرآن الكريم قد جمع في أسلوبه أرقى ما تحس به الفطرة اللغوية من أوضاع البيان ومذاهب النفس إليه فقد أحسوا بعجزهم عما امتنع مما قبله، وكان كل امرئ منهم كأنما يحمل في قرارة نفسه برهان الإعجاز، وإن حمل كل إفك وزور على طرف لسانه!
ولهذا انقطعوا عن المعارضة، مع تحديهم إليها على طول المدة وانفساح الأمر وعلى كثرة التقريع، والتأنيب، وعلى تصغير شأنهم وتحقيرهم، وذلك بالنزول عن التحدي بمثل القرآن كله، إلى عشر سور مثله، إلى عشر مفتريات لا حقيقة فيها، إلى سورة واحدة من مثله، ولو هم أرادوا هذه السورة الواحدة ما استطاعوها؛ لأن إحساسهم منصرف إلى أصل الكمال اللغوي في القرآن، مستغرق فيه، فلا يرون المعارضة تكون إلا على هذا الأصل، أو تتحقق إلا به: وهو شيء لا تناله القدرة، ولا تيسره القوة؛ لأنه على ظهوره في أسلوب القرآن، باطن في أنفسهم، تقف عليه المعرفة ولا تبلغه الصفة: كالروائح والطعوم والألوان وما إليها.
فلو ذهبوا إلى معارضة السورة القصيرة على قلة كلماتها، وعلى أنها نفس واحدة وجملة متميزة، لضاق بهم الأمر بمقدار ما يظن الجاهل أنه يسعهم؛ فإن ذلك الإحساس لا يزايلهم ولا يبرح يورد عليهم محاسن ذلك الأسلوب جملة. ويغمرهم بها ضربة واحدة تنثال من ههنا وههنا؛ فلا يكون إلا
__________
1 أومأنا في الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" في فصل "الأسباب اللسانية" إلى السبب الذي من أجله رقت ألسنة العرب وصارت حركاتها على مقادير مضبوطة توازن الحروف التي تجري عليها، كما تميل كفة الميزان بمقدار ما يوضع فيه ثقلًا وخفة، وأفضنا في مواضع كثيرة من ذلك الجزء فيما يصف خلقة العرب اللغوية، ثم أطلعنا بعد ذلك على تعليل لبعض الفلاسفة لا بأس به إن صح أصل القياس فيه فهو يرى أن العرب أصحاب حفظ ورواية, ولخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم، وذلك لأنهم تحت نطاق فلك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء. ولا أقل من أن يكون ذلك قريبًا إن لم يكن صحيحًا.
انظر ص102 ج1 هامش الكامل: عدم معارضتهم للقرآن وسببه، وفي ص114 منه: غلبة البيان على العرب وحكمة التحدي.(2/127)
أن يقفوا متلددين1 وقد حاروا في أي جهة يأخذون، وأي جانب يتوجهون إليه، ولا يكون من همهم تعرف ذلك دون تحقيقه، ولا تحقيقه دون الإتيان به، ولا المجيء به دون أن يساوي ذلك الأصل الذي في أنفسهم، ولا هذه المساواة دون أن تذهب السورة التي يجيئون بها بكل ما وقر في أنفس العرب الفصحاء واستولى على إحساسهم من بلاغة القرآن وفصاحة نظمه، وذلك أمر بعضه أشد من بعض وأبلغ في الاستحالة.
فإن وجد منهم سفيه كمسيلمة، يحمله جنون العظمة وحب الغلبة والتحمد في الناس، ثم كدر الفطرة وغلظ الإحساس في نفوس أتباعه على أن يتعقب السورة أو بعض السورة بالمعارضة، لا يبالي بالوزن كما قال في معارضته: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فقد قال: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر ... ، إلى آخر ما حكوا من سخافاته وحماقاته التي التمس منها الحجة له فكانت فيها الحجة عليه، وأراد أن يستطيل بها فتركته مثلًا في الحماقة والسخرية؛ وسنكشف بعد عن سبب هذا الخطل في كلام مسيلمة.
لا جرم كان من الرأي القائل والمذهب الباطل قول أولئك الذين زعموا أن الإعجاز كان بالصرفة على ما عرفت من معناها، وما دعاهم إلى القول بها إلا عجبهم كيف لم يأتي للعرب أن يعارضوا السورة القصيرة والآيات القليلة مع هذا التحدي ومع هذا التقريع، وهم اللد الخصمون، والكلام سيد عملهم ولهم فيه المواقف والمقامات، بيد أن أولئك لو كان لهم إحساس العرب أو لم يأخذوا الأمر على ظاهره وردوه إلى أسبابه في الفطرة لرأوا أن معنى العجز هو في الكثير والقليل فإن التحدي بالسورة الواحدة طويلة أو قصيرة، لم يكن في أول آية نزلت من القرآن.. كان بعد سور كثيرة منه، وبعد أن ذهبت في العرب كل مذهب؛ وهو أمر غريب في استلاب حس القوم والتأتي إلى تعجيزهم، فإن أعجبك شيء من سياسة البيان المعجزة واشتقاق المستحيل من الممكن؛ فذلك فليعجبك.
وههنا معنى دقيق في التحدي، ما نظن العرب إلا وقد بلغوا منه عجبًا: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قصصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنة والتذكير بالنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون هذا الباب؛ وهو مذهب للعرب معروف، ولكنهم لا يذهبون إليه إلا في ضروب من خطابهم للتهويل والتوكيد، والتخويف والتفجع وما يجري مجراها من الأمور العظيمة؛ وكل ذلك مأثور عنهم منصوص عليه في كثير من كتب الأدب والبلاغة.
بيد أن وروده القرآن مما حقق للعرب عجزهم بالفطرة عن معارضته وأنهم يخلون عنه2 لقوة
__________
1 يلتفتون يمينًا وشمالًا، واللدد: صفحة العنق وجانبه.
2 يتركونه بلا معارضة، والتخلية: الترك.(2/128)
غريبة فيه لم يكونوا يعرفونها إلا توهمًا، ولضعف غريب من أنفسهم لم يعرفوه إلا بهذه القوة؛ لأن المعنى الواحد يتردد في أسلوبه بصورتين أو صور كل منها غير الأخرى وجهًا أو عبارة، وهم على ذلك عاجزون عن الصورة الواحدة، ومستمرون على العجز لا يطيقون ولا ينطقون. فهذا لعمرك أبلغ في الإعجاز وأشد عليهم في التحدي؛ إذ هو دليل على مجاوزتهم مقدار العجز النفسي الذي قد تمكن معه الاستطاعة أو تتهيأ المعاريض حينًا بعد حين، إلى العجز الفطري الذي لا يتأول فيه المتأول، ولا يعتذر منه المعتذرون ولا يجري الأمر فيه على المسامحة.
وقد خفي هذا المعنى "التكرار" على بعض الملحدة وأشباههم ومن لا نفاذ لهم في أسرار العربية ومقاصد الخطاب والتأني بالسياسة البيانية إلى هذه المقاصد، فزعموا به المزاعم السخيفة وأحالوه إلى النقص والوهن، وقالوا إن هذا التكرار ضعف وضيق من قوة وسعة، وهو -أخزاهم الله- كان أروع وأبلغ وأسرى عن الفصحاء من أهل اللغة والمتصرفين فيها، ولو أعجزهم أن يجيئوا بمثله ما أعجزهم أن يعيبوه لو كان عيبًا!
وفي بعض ذلك التكرار معنى آخر فطن إليه بعض علمائنا ولم يكشف لهم عن سره، وأول من نبه عليه الجاحظ في كتاب "الحيوان" إذ قال1: "ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلام" أي: كأن ذلك مبالغة في إفهامهم وتوسع في تصوير المعاني لهم وتلوينها بالألفاظ، إيجازًا في موضع وإطنابًا في موضع إذا كانوا قومًا لا سليقة لهم كالعرب وليسوا في حكمهم من البيان، فلا يمضي كلامه لسننه بلا اعتراض من تنافر التركيب وثقل الحروف وجفاء الطبيعة اللغوية، فلهذا ونحوه كان لا بد في خطابهم من التكرار والبسط والشرح، بخلاف العرب، فإن الخطاب يقع إليهم على سنن كلامهم من الحذف، والقصد إلى الحجة، والاكتفاء باللمحة الدالة، وبالإشارة الموحى بها، وبالكلمات المتوسمة، وما يجري هذا المجرى، وهو قول صحيح في الجملة2 بيد أنهم أخطئوا وجه الحكمة فيه؛ إن اليهود لم يكونوا من الغلظة والجفاء والاستكراه بحيث وصفوهم، أو بحيث يجوز ذلك في صفتهم، وإن فيهم لمتكلمين، وإن منهم لشعراء والخطاب في القرآن كان يسمعه العرب واليهود جميعًا، فلا هؤلاء ينكرون من أمره ولا أولئك.
ونحن فما ندري كيف نبلغ صفة هذا الوجه المعجز الذي غاب عن العرب ولم يدركه إلا المقصودون به، وهم الذين وصفوهم بتأخر المعرفة وبلادة الذهن، وهم أحبار اليهود ورؤساؤهم وأهل العلم فيهم، وما يمكن أن يهتدي إلى هذا الوجه بليغ عربي من بلغاء ذلك العهد إلا بوحي
__________
1 نقل العسكري هذه العبارة في كتاب "الصناعتين" ولم يعزها، فكأنه هو استخراج هذا المعنى ابتداء، وكم من مثلها في كتابه.
انظر ص46 ج1 من "الحيوان" فلا تشك أن العسكري نقل عن الجاحظ.
2 كان في اليهود شعراء فصحاء: كالسموأل وكعب بن الأشرف وغيرهما. وكان لشعر اليهود باب متميز في الرواية بعد الإسلام. والعرب لا يعدون اليهود منهم وإن كانت الدار واحدة.(2/129)
وتوفيق من الله، فإنه في الحقيقة سر من أسرار الأدب العبراني، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصة ليعلموا أنه وضع غير إنساني، وليحسوا معنى من معاني إعجازه فيما هو بسبيله، كما أحس العرب فيما هو من أمرهم؛ إذ كان أبلغ البلاغة في الشعر العبراني القديم أن تجتمع له: رشاقة العبارة، وحسن المعرض، ووضوح اللفظ، وفصاحة التركيب، وإبانة المعنى، وتكرار الكلام لكل ما يفيده التكرار وتوكيدًا وبمالغة وإبانة وتحقيقًا ونحوها، ثم استعمال الترادف في اللفظ والمعنى، ومقابلة الأضداد وغيرها، مما هو في نفسه تكرار آخر للمحسنات اللفظية، وتحسين للتكرار المعنوي.
وإنا لنظن أن تهمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر لم تكن ابتداء إلا من قبل بعض اليهود، ثم تعلق بها بعض العرب مكابرة، فإنهم ليعرفون أن القرآن ليس بشعر من شعرهم، ولا هو في أوزانه، وأعاريضه وفنونه وطرقه ولكنهم تجوزوا إلى ذلك ببراعة العبارة، وسمو التركيب، وتصوير الإحساس اللغوي بألوان من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها مما يكون القليل من جيده خاصا بالفحل من شعرائهم. ويكون مع ذلك حقيقة الإحساس اللغوي في شعره، وأن هذا الوجه البعيد الذي لا يستقيم في الرأي إلا بعد التمحل له، والتجوز فيه من قولهم إنه "شاعر"؟ ولفظ الشاعر عندهم متعين المعنى متحقق الدلالة ليس فيه لبس ولا إبهام ولا تجوز1؟
على أن كلامنا آنفًا في عجز العرب من معارضة السورة القصيرة من القرآن, وعدم تأتيهم لذلك بالسبب الذي بيناه، لا يؤخذ من أن غير العرب المحدثين والمولدين وسائر من يكونون عربًا في اللسان دون الفطرة، يستطيعون ما لم يأت لأولئك؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساس لغوي تستبد به روعة الكلام وتصرفه بالكثير عن القليل لتمثل الأصل اللغوي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز؛ لأنه سر التركيب والنظم. فيقال من ذلك إن المولدين ومن في حكمهم تتهيأ لهم معارضة السور القصار والآيات القليلة، ويتأتون إلى ذلك بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنهم مع هذه الوسائل كلها أبعد من العرب في أسباب العجز، وأدنى إلى التقصير، وأقرب إلى الهجنة
__________
1 سنكشف عند الكلام على البلاغة النبوية عن السبب الصحيح الذي من أجله لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا، وما ينبغي له الشعر ولا يلتئم على لسانه، وهو الذي خبط فيه العلماء والمفسرون.
وقد أراد الجاحظ أن يقابل معاني التسمية الشعرية فيما عند العرب بما في القرآن فقال: سمى الله تعالى كتابه اسمًا مخالفًا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل: سمى جملته قرآنًا كما سموا ديوانًا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آيات كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية ا. هـ. ولا ندري ما وجه هذه المقابلة وليس من شبه في كل ما ذكره إلا في الوضع ولا في الموضوع، إلا أن يكون الجاحظ مأخوذًا بقول العرب إنه شعر، يحسب ذلك من عندهم وأنهم يحققونه فأراد أن يدل على أن الأمر بالخلاف حتى في التسمية. وليس ذلك من الشأن والمنزلة في خلاف ولا موافقة.
على أن هذه التسمية اختراع لم يكن يعرفه العرب، فهي من هذه الجهة دليل من الأدلة الكثيرة على أن الأمر بجملته فوق القوة والطاقة ومن وراء المألوف.(2/130)
إذا هم تعاطوه؛ لأن أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنه لا يعدو حالة من حالتين:
إما أن يتعلق على الألفاظ وأوزان الكلام في اللسان ويمضي في مثل نظم القرآن، فينظر في الحرف بين الحرفين ملاءمة واحتباكًا، وفي الكلمة بين الكلمتين تناسبًا واطرادًا، وفي الجملة إزاء الجملة وضعًا وتعليقًا، ويمر ذلك حتى يخرج من السورة، وهذه أسوأ الحالين أثرًا عليه وأشدها إزراء به وأبلغها فصيحة له؛ لأنها تنادي على كلامه بالصنعة، وتدل في مقاطعه على مواضع الكلام والفتور، وتومئ في نظامه إلى عثرات الطبع إذ يعمل على السخرة ويأخذ بالمحاكاة دون أن يذهب في البيان على سجيته، ويمضي في أسلوبه الذي يتعلق بمزاجه وأحواله النفسية1. وهذا مع ضيق الكلمات القليلة أن تسع شيئًا من المحسنات أو تستوفي وجهًا من وجوهها، ومع أن المقابلة بين الأصل والمعارضة ستؤدي إلى البحث في سر النظم وطريقة التأليف من الجملة إلى الكلمة إلى الحرف، وهو مذهب استبد به نظم القرآن -كما ستعرفه- حتى كأنه استوفى من اللغة كل ما يمكن أن يتهيأ منه؛ فإما ألفاظه بأعيانها وأجراس حروفها إذا أريد مثل نظمه، وإما الخروج بالكلام إلى نظم آخر في طريقة غير طريقته؛ وذلك من أعجب ما فيه حتى ما يقضي منه البليغ عجبًا. ومهما أراغ2 الإنسان وجه التخلص إلى معارضته بمثل نظمه فإنه يرى نفسه بإزاء ألفاظه من أين دار وكيف انقلب، ولا تنصرف هذه الألفاظ عنه إلا أن يزيغ طريقة أخرى من الكلام فتتلقاه اللغة بألفاظها وتراكيبها من كل جهة حتى يسعها وتسعه.
فهذه هي إحدى الحالتين؛ والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهبًا لا يتقيد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وإنما همه في المعارضة أن يجود ويبين اللفظ ويجزل قسطه من الصناعة، وأن يتولى الكلام بالروية والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها؛ لأن مثل ذلك لا يتأتى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، إلا أن تكون مثلًا مضروبًا، أو حكمة مرسلة، أو نحو ذلك مما يقصر بطبيعته في الدلالة وتستوفي القصة أو الحالة المقرونة به شرح معناه ويكون هو روح هذا المعنى؛ فإنه ما من حكمة أو مثل أو ما يجري مجراها إلا وأنت واجد لكل من ذلك قصة قيل فيها، أو حالة قيل عليها؛ ثم لا يقع من نفسك موقعًا يهز ويعجب حتى تكون القصة أو الحالة أو ما تفهمه منهما قد سبقته إلى نفسك، أو صارت معه إلى ذلك الموضع منها، فإن أنت وقفت على حكمة لا تعرف وجهها، أو سمعت مثلًا لم يقع إليك مساقه، أو لا تكون معه قرينة تفسره، فقلما ترى من أحدهما إلا كلامًا مقتضبًا أو عبارة مبهمة, تخرج مخرج اللغز والمعاياة، واحتاج على كل حال إلى روية تتنزل منه منزلة ذلك الشرح الذي يعطيه مساق القصة أو صفة الحالة، وانظر أين هذا من أغراض السور والآيات الكريمة؟
__________
1 لهذا المعنى شرح طويل، وسنلم به في موضعين من هذا الجزء. ثم نمسك عن بسطه إلى موضعه من كتابنا "تاريخ آداب العرب" في باب الإنشاء إن شاء الله.
2 أراغ: أراد وطلب على وجه المكر.(2/131)
فأنت ترى أن معارضة السور القصار1 أشد على المولدين ومن في حكمهم من إرادة الطوال بالمعارضة، وإن أرادوا مثل النظم أو لم يريدوه، على أن المعارضة لا تكون شيئًا يسمى، ما لم تكن بمثل النظم والأسلوب؛ أما النظم فقد علمت وجه استحالته، وأما الأسلوب فستعلم وجه الأمر فيه.
وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضة ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلق الآية بما قبلها، وتسببها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجول الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟
وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما
__________
1 إن لهذه الصور القصار لأمرًا، وإن لها في القرآن لحكمة من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فهي لا تنزل متتالية في نسق واحد على الترتيب الذي تراه في المصحف: إذا لم يكن أول ما نزل من القرآن ولا آخرة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم هي بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء واحد، والقرآن كله ثلاثون جزءًا. وهو يتسع من بعدها قليلًا وكثيرًا حتى ينتهي إلى الطوال. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة وأولها في المنزلة هذه السورة القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة والتي هي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قليلة مع قصر ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ كما سنشير إليه في موضع آخر، فهذا معنى من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا أردت أن تبلغ عجبًا من هذا المعنى، فتأمل آخر سورة في القرآن وأول ما يحفظه الأطفال، وهي سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وانظر كيف جاءت في نظمها وكيف تكررت لفظة الفاصلة وهي لفظة "الناس" وكيف لا ترى في فواصلها إلا هذا الحرف "السين" الذي هو أشد الحروف صفيرًا وأطربها موقعًا من سمع الطفل الصغير وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها، ثم نظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذي أشرنا إليه, وكيف تمت الحكمة في هذا الترتيب العجيب.
وهذه السور القصار لو لم تكن في القرآن الكريم كلها أو بعضها ما نقصت شيئًا من خصائصه في الإعجاز، ولكن عسى أن يكون الأمر في حفظه على غير ما نرى إذا هي لم تكن فيه. فتبارك الله سبحانه {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} .
ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى وهي تيسير القرآن وأداء الصلاة على الأمة فإنهم لولا هذه السورة لتركوا الصلاة جميعًا إذ لا تصح الصلاة إلا بآيات مع الفاتحة؛ وقد أغنتهم القصار ويسرت عليهم فكانت على ما تضمنته وحفلت به معجزة اجتماعية كبرى.(2/132)
هي، إلا في شيء واحد وهو في القرآن سر الإعجاز إلى الأبد، وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية، متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صنعتها فقد بطل إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صور فكرية لا بد من أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور -ولا تجزئ فيها الصناعة وآلاتها- من صفاء الطبع ودقة الحسن وسلامة الذوق ونحوها مما يرجع أكثره إلى الفطرة النفسية في أي مظاهرها.
فالمعجز من هذه الصور الفكرية بإحدى الخصائص كنظم القرآن معجز إلى الأبد، متى ذهب أهل هذه الخصوصية التي كان بها الإعجاز، كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحس البياني الذين صرفوا اللغة وشققوا أبنيتها وهذبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها، وكانوا يستملون ذلك من أسرار الطبيعة في أنفسهم، وأسرار أنفسهم في الطبيعة؛ ثم ذهبوا وبقيت اللغة في أصولها وأبنيتها وطرق وضعها ومحاسن تأليفها على ما تركوها, وإن العصر الطويل من عصورها ليدبر عنها كما يموت الرجل الواحد من كتابها أو شعرائها ليس لأحدهما من الأثر في تلك الخصائص أكثر مما للآخر، على تفاوت ما بين العصر الطويل بحوادثه وأهله، وبين الرجل الفرد في خاتمة نفسه.
وذلك لأن الفطرة التي كانت تصرفها قد ذهبت، وانقطعت من الزمن أسباب الطبيعة، فليس يمكن أن تعود أو تتفق، إلا إذا استدار الزمن كيوم خلق الله السموات والأرض، وعاد التاريخ الإنساني من أوله، أو بعث أولئك العرب أنفسهم نشأة أخرى، بأيامهم وعاداتهم وأخلاقهم وسائر ما كان لهم من أسباب الفطرة. وإذا وقع هذا الأمر كله ولم يعد في الفرض من مستحيل، فكل ما هنالك أن إعجاز القرآن الكريم لا ينتهي من الأبد ولكنه يبتدئ في أولئك العرب مرة أخرى إلى الأبد.
وفي القرآن مظهر غريب لإعجازه المستمر، لا يحتاج في تعرفه إلى روية ولا إعنات، وما هو إلا أن يراه من اعترض شيئًا من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه؛ لأنه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبين عن نفسه بنفسه، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه.
ذلك هو وجه تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباين بنفسه لكل ما عرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيل كلامهم، وعلى أنه يؤاتي بعضه بعضًا، وتناسب كل آية منه كل آية أخرى من النظم والطريقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواء في ذلك ما كان مبتدأ به من معانيه وأخباره وما كان متكررًا فيه، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل بليغ من التفاوت باختلاف الوجوه التي يصرفه إليها، والعلو في موضع والنزول في موضع، ثم ما يكون من فترة الطبع ومسحة النفس في جهة بعث عليها الملل، أو جهة استؤنف لها النشاط، ثم ما لا بد منه من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها، مما يختلف البلغاء في علمه والإحاطة به، أو التأتي له والانطباع عليه؛ وهذا كله معروف متظاهر في الناس لا يمتري فيه أحد.
وليس من شيء في أسلوب القرآن ويغض من موضعه، أو يذهب بطريقته أو يدخله في شبه من كلام الناس، أو يرده إلى طبع معروف من طباع البلغاء، وما من عالم أو بليغ إلا وهو يعرف ذلك(2/133)
ويعد خروج القرآن من أساليب الناس كافة دليلًا على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان، بيد أننا لم نر أحدًا كشف عن سر هذا المعنى، ولا ألم بحقيقته، ولا أوضح الوجه الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كل ما عرف من أساليب الناس ولم يشبه واحدًا منها، ونحن نوجز القول فيه؛ لأنه أصل من أصول الكلام في أساليب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله1.
فقد ثبت لنا من درس أساليب البلغاء، وترداد النظر في أسباب اختلافها وتصفح وجوه هذا الاختلاف، وتعرف العلل التي أثرت في مباينة بعضها لبعض، من طبيعة البليغ وطبيعة عصره أن تركيب الكلام يتبع تركيب المزاج الإنساني، وأن جوهر الاختلاف بين الأساليب الكتابية، في الطريقة التي هي موضع التباين لا في الصنعة كالمحسنات اللفظية ونحوها, إنما هو صورة الفرق الطبيعي الذي به اختلفت الأمزجة بعضها عن بعض على حسب ما يكون فيها أصلًا أو تعديلًا؛ كالعصبي البحت، والعصبي الدموي، وغير ذلك مما هو مقرر في الفروع الطبية، حتى كأن الأسلوب في إنشاء كل بليغ متمكن ليس إلا مزاجًا طبيا للكلام، وما الكلام إلا صورة فكرية من صاحبه. وقد أمعنا في هذا الاستنتاج، وقلبنا عليه كل ما نقرؤه من أساليب العربية -وهي معدودة- ومررنا على ذلك زمنًا، حتى صار لنا أن نستوضح أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، برد ذلك إلى الأوصاف النفسية التي تكون من تأثير الأمزجة2 والتي قلما تختلف في الناس، وبها أشبه بعضهم بعضًا، وبها كان التاريخ يعيد نفسه.
وأنت تتبين هذه الحقيقة إذا عرفت أديبًا ليمفاوي المزاج مثلًا، وأردته على أن يأخذ في أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبية, فإنه لا يصنع شيئًا، وإذا نتج له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلا مضطربًا متعثرًا مطبقًا بأبواب التعسف والتكلف، وكأنه نتاج بين نوعين متباينين من الخلق؛ ولكن هذا الأديب عنه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترسل المتداخل الذي ليس حذرًا ولا مساوقة كترسل الجاحظ وأضرابه فقد لا يتعلق بجيده في ذلك شيء.
ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبون كيف لا يتهيأ لأحدهم أسلوب كأسلوب ابن المقفع أو عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقل له طريقة من ذلك على كثرة ما حاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته؛ ولا يدرون أنهم يحملون سر إخفاقهم، وأن أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطًا بين أسلوبين.
وهذا عبد الحميد الكاتب رأس تاريخ الكتابة العربية وواضع طريقتها، فقد أخذ نفسه بحفظ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرادها على طريقته، ثم جاءت كتابته فنا آخر لم
__________
1 في باب الإنشاء من تاريخ آداب العرب إذا وفقنا الله لإتمام هذا الكتاب ويسر لنا الوقت بعونه وتيسيره.
2 يستدلون في أوروبا من الإنسان على طباعه، فبالكتابة أولى.(2/134)
يستحكم اتفاق الأسلوب بينها وبين ما أثر من كلام الإمام علي، وقد قيل إن "نهج البلاغة"1 مصنوع، وضعه الشريف الرضي ونجله أمير المؤمنين، والصحيح أن فيه الأصل والمولد, وربما انفردا وربما تمازجا ونحن نستطيع بطريقتنا أن نزايل بين ما فيه من ذلك، ونبين وضعًا من وضع؛ فإن المزاجين لمختلفان كما يعرف من صفة الإمام علي ومن صفة الشريف.
من ذلك يخلص لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه؛ لأنه ليس وضعًا إنسانيا ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوبًا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بد في طريقته ونسقه ومعانيه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ؛ ولقد أحس العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم ولولاه ما أفحموا ولا انقطعوا من دونه؛ لأنهم رأوا جنسًا من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعة غير مخلوقة؟
ولما حاول مسيلمة أن يعارضه جعل يطبع على قالبه، فجاء بشيء لا يشبهه ولا يشبه كلام نفسه، وجنح إلى أقرب ما في الطباع الإنسانية وأقوى ما في أوهام العرب من طرق السجع، فأخطأ الفصاحة من كل جهاتها, وإن الرجل على ذلك لفصيح2.
وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضًا، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} صدق الله العظيم.
وبعد فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لحر اللفظ ونادر المعنى، وأخلقه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسم مادة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلامًا فتراه نفسا حية، كأنها تلقي عليك ما تقرؤه ممزوجًا بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك -إن كنت بصيرًا بالصناعة متقدمًا فيها- كل مدخل، ولا تدع فيها إحساسًا إلا أثارته، ولا إعجابًا إلا استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهًا من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه، وتقرؤه وكأنك تسمعه، ثم لا يلج إلى فؤادك حتى تصير كأنك أنت المتكلم به، وكأنه معنى في نفسك ما يبرح مختلجًا ولا ينفك ماثلًا من قديم؛ مع أنك لم تعرفه إلا ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له؛ وذلك بما جوده صاحبه، وبما نفث من روحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعًا من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعًا فكأنه مادة روحية منه.
__________
1 هو الكتاب الذي جمع فيه الشريف الرضي كلام سيدنا علي، وفي صحة هذا الكتاب أو تزويره كلام للعلماء ليس هذا موضعه.
2 مما يثبت أن العرب قد أحسوا هذا المعنى الذي بيناه، وأنهم كانوا يعرفون من طابع القرآن أنه ليس طبعًا إنسانيا، ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وكان أنسب العرب وأعلمهم بلغاتها وأشعارها وأمثالها، سأل أقوامًا قدموا عليه من بني حنيفة عن كلام مسيلمة وما كان يدعيه قرآنًا، فحكوا بعض ما نقلناه في موضعه فقال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم! إن هذا الكلام لم يخرج عن إل "أي: عن ربوبية" فأين كان يذهب بكم؟ فتأمل قوله: "لم يخرج عن إل" فإنه نص فيما ذكرناه؛ لأنه تراه أسلوبًا من أساليب الناس ولا يحس منه قدرة فوق القدرة.(2/135)
وقد رأينا بلغاء هذه الطريقة في الأساليب العربية، يتوخون إليها في تصاريف الألفاظ؛ وتمكين الأسلوب، وإرهاف الحواشي، واجتناب ما عسى أن تبعث عليه رخاوة الطبع وتسمح النفس، من حشو أو سفساف أو ضعف أو قلق، ثم التوكيد للمعنى بالمترادفات المتباينة في صورها1، ثم الاستعانة بالمعطوفات على النسق، وبالإسجاع على الأسلوب، وبوجوه الصنعة البيانية على كل ذلك، فلا تقرأ سطرًا من كلامهم إلا أصبت ماء ورونقًا، ولا تمر فيه حتى يقبل عليك بالصنعة من وجهها المصقول، وحتى يبادرك أنه التنقيح والتهذيب بين الكلمة وأختها، والجملة وضريبتها2 وحتى لو كنت ذا بصر بالصناعة، وقد عركتك وعركتها؛ وكنت أملك بصعابها، وأخبر بشعابها لعرفت فضول الكلام كيف حذفت، وألفاظه كيف نزلت، ومحاسنه كيف رصعت، ووجهه كيف مسح، وخلقه كيف عصب، ثم لاستطعت أن تعين في أي موضع من الكلام كانت زفرة الضجر من صانعه، وعلى أي كلمة وقفت أنفاس الملل، وعند أي مقطع كانت فترة الطبع، وأين ضاق وأين اتسع، وإن كان هذا الكلام الذي نحن في صفته كله بعد نسقًا واحدًا وصنعة مفرغة، يعلم ذلك من يعلمه ويجهله من يجهله.
فانظر، هل تحس شيئًا من كل ما تقدم أو من شبه ما تقدم في أسلوب القرآن الكريم؟ وهل ترى فيه من الغرابة التي يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد رصفه وحبكه، إلا أن غرابته في كونه منسجما لا غرابة فيه؟ وهل عندك أغرب من هذه السهولة التي يسيل بها القرآن، وهي في كثير من الكلام وكثير من أغراضه تقتضي الابتذال، وفي القرآن كله على تنوع أغراضه لا تقتضي إلا الإعجاز؟
وانظر، هل ترى هذه السهولة الغريبة في نفسها مما يمكن أن يحس فيها روح إنساني كسائر الأساليب، أم هي سهولة الأوضاع الإلهية التي يعرفها كل الناس ويعجز عنها الناس كلهم، ثم يعرف العلماء منها غير ما يعرفه الجهال، ثم يمتاز بعض العلماء في المعرفة بها على بعض، ثم يبقى فيها سر الخلق مع كل ذلك مكتومًا لا يعرف، وما هو سر الإعجاز!.
وتأمل، هل تصيب في القرآن كله مما بين الدفتين إلا رهبة ظاهرة لا تمويه في شيء منها، وإلا أثرًا من التمكن يصف له منزلة المخلوق من أمر الخالق، وإلا روحًا أكبر من أن يكون نفسًا إنسانة أو أثرًا من آثار هذه النفس، ثم هل تجد في أغراضه إلا ما كان في وضعه مادة لتلك الرهبة ولذلك الأثر وذلك الروح؟
هذا على أن فيه من المعاني والأغراض الوافرة، مما لو كان في كلام الناس لظهر عليه صبغ النفس الإنسانية لا محالة، بأوضح معانيه وأظهر ألوانه؛ وبصفات كثيرة من أحوال النفس،
__________
1 يعيب بعض علمائنا الجهلة المستحمقين ممن يسمون أنفسهم مجددين ما يرون في الكتابة العربية من الترادف. ولو كانوا عورًا للفتناهم إلى أن أصل الخلقة أن يكون في الوجه عينان لا عين واحدة "ولكنهم قوم يجهلون".
2 ثبت أن كاتب فرنسا العظيم "أناتول فرانس" الذي كان آية في حسن الأسلوب الكتابي، كان يبلغ من التنقيح أن يعيد كتابة العبارة ثماني مرات أحيانًا، وأنه لم يكن يكتب إلا على هذه الطريقة.(2/136)
وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك مما يستفيض فيه الكلام الإنساني، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بيانًا، وأفصحهم عربية لترى فرق ما بين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإنسانية في السعة والتمكن، فإن هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثم لا دليل عليه لمن يريد أن يستدل إلا الحسن.
ومعنى آخر وهو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسر في كل عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين لم يكن لهم إلا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيرًا من حقائقه التي كانت مغيبة وفي علم الله ما يكون من بعد1؛ وإن ما عهد من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه، بل هو كلما كان أدنى إلى البلاغة كان نصا في معناه، ثابتًا في حيزه، تجمد الكلمة أو الجملة على معنى بعينه قد يستقيم وقد ينتقص، وكيفما قلبته رأيته وجهًا واحدًا وصفة واحدة؛ لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين؛ وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه.
وأكبر السبب في ذلك أن هذا القرآن الكريم ليس عن طبع إنساني محدود بأحوال نفسية لا يجاوزها، فهو يداور المعاني، ويريغ الأساليب ويخاطب الروح بمنطقها من ألوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألف الناس بهذه الخصوصية فيه، حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق؛ وتراه في أوضاعه من أجل ذلك يستجمع درجات الفهم كأن فيه غاية لكل عقل صحيح، ولكنه في نفسه وأسرار تركيبه آخر ما يسمو إليه فهم الطبيعة
__________
1 انظر مثلًا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} فهذه الآية سمعها العرب، فبعضهم يفهم من نسقها أن القمر نور والشمس نور، ولكن اختلف اللفظان ليكون في ذلك تنويع بليغ، ويعلو آخر عن هذه المنزلة، فيفهم أن القمر أضعف نورًا من الشمس؛ لأن هذه عبر عنها بالسراج، ولفظ السراج يحضر في النفس شعاعه المتقدم فكأنه نور منبعث من نار ويدقق بعضهم فيرى أن الغرض هو التعبير عن الشمس بأنها تجمع إلى النور الحرارة، ولذلك فائدة في الحياة ولهذه فائدة أخرى، والنور نفسه لا تكاد تحس فيه الحرارة، بل إنما تحس في السراج ووهجه، وكأن المفسرين لم يتعدوا المنزلة الثانية، ولم يفطنوا حتى ولا للثالثة.
ثم يفهم أهل القلوب الحديثة مع كل هذه الوجوه أن المراد من الآية إثبات ما كشفته هذه العلوم، من أن القمر جرم مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من نور الشمس التي هي "سراجه" إذ النور لا يكون من ذات نفسه ابتداء، ولا بد له من مصدر يبعثه، فذكر السراج بعد النور دليل على أن هذا مصدره ذاك.
فتأمل، أيمكن أن يكون هذا في طاقة رجل من العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا في تلك الجزيرة؟ وإذا كان في طاقته وكان ينظر إلى حقيقة المعنى العلمي -مع أن هذا المعنى يعرفه المفسرون في استبحار التمدن الإسلامي- فهل كانت تجيء العبارة إلا على الأصل الذي في نفسه فتخرج صريحة في المعنى، كما هي طبيعة الكلام الإنساني! إن بين الآية وبين كلام الناس، كالفرق بين نبي يوحى إليه وبين معلم جغرافيا!.(2/137)
نفسها؛ بحيث لو هو علا عن ذلك لخفي على الناس، ولو نزل عن ذلك لما ظهر في الناس؛ لأن علوه، يفوت ذرعهم، ونزوله يوجدهم السبيل إلى معارضته ونقضه، وكلا هذين يجعل أمره عليهم غمة فلا يتجهون إلى صواب. وإنما هو في نفسه وفي أفهام الناس كما وصفه الله "الحق والميزان"1 كل الناس يعملون لفهمه ويدأبون عليه، ولكل درجات مما عملوا.
__________
1 هذه الكلمة وحدها في وصف القرآن معجزة، فقد أثبتت كل العلوم أن "الميزان" أصل الكون، وأن كل شيء بقدر ونسبة؛ وعطف الميزان على الحق في وصف القرآن مما يحير العقل؛ لأن أحدهما مما يلينا خاصة والآخر مما يلي الكون عامة، حتى لا يتغير ولا يتبدل؛ وميزان لا يغير ولا يبدل.(2/138)
نظم القرآن:
ذلك بعض ما تهيأ لنا من القول في الجهات التي اختص بها أسلوب القرآن فكانت أسبابًا لانقطاع العرب دونه وانخذالهم عنه، وتلك أسباب لا يمكن أن يكون شيء منها في كلام بلغاء الناس من أهل هذه اللغة؛ لأنها خارجة عن قوى العقول وجماع الطبائع، ولا أثر لها بعد في نفس كل بليغ يعرف ما هي البلاغة وكيف هي، إلا استشعار العجز عنها والوقوف من دونها. وإنما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة وانفرد به ذلك النظم؛ وهو سر لا ندعي أننا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أسبابه، وإنما جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونعين بعض أوصافه من ناحية، فإن هذا القرآن هو ضمير الحياة العربية، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقر في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود؛ ثم لا يدل عليها حين التعرف إلا بصفات كل نفس لمواقع تلك الآثار منها، كأن هذه الروح تحاول أن تفصح عن معاني النبوغ الفني في آثارها الخالدة، فلا تجد أقرب إلى غرضها من أن تهيج الإحساس بها في كل نفس، يجيء ذلك في البيان عنها؛ لأن الإحساس إنما هو اللغة النفسية الكاملة.
والكلام بالطبع بتركيب من ثلاثة حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجمل هي من الكلم. وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بد في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعًا.
ولا يذهبن عنك أن هذه المذاهب الكلامية التي بنيت عليها علوم البلاغة ووضعت لها أمثلة هذه العلوم، إنما هي من وراء ما نعترضه في هذا الباب فليست من غرضنا في جملة ولا تفصيل، وحسبك فيها كتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني1، ونحن إنما نبحث في القرآن من جهة ما انفرد به في نفسه على وجه الإعجاز، لا من جهة ما يشركه فيه غيره على أي وجه من الوجوه وأنواع البلاغة مستفيضة في كل نظام سوي وكل تأليف مونق، وكل سبك جيد، وما كان من الكلام بليغًا فإنه بها صار بليغًا، وإن كانت هي بعد في أكثر الكلام إلى تفاوت واختلاف.
ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء، أن نظم القرآن يقتضي كل ما فيه منها اقتضاءًا طبيعيا بحيث يبنى هو عليها؛ لأنها في أصل تركيبه، ولا تبنى هي عليه؛ فليست فيها استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء من مثل هذا يصح في الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره في موضعه إذا تبدلته منه، فضلًا عن أن يفي به، وفضلًا عن أن يربى عليه،
__________
1 أما إن أردت أن تعرف أنواع البلاغة في آيات القرآن والتمثيل منها لكل نوع فليس أوفى بغرضك من "كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان" لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ وقد جمعه من أمهات الكتب المصنفة في البلاغة، فكان في ذلك الغرض بها جميعًا، وطبع في مصر كما طبع فيها "دلائل الإعجاز".(2/139)
ولو أدرت اللغة كلها على هذا الموضع.
فكأن البلاغة فيه إنما هي وجه من نظم حروفه بخلاف ما أنت واجد من كلام البلغاء، فإن بلاغته إنما تصنع لموضعها وتبنى عليه، فربما وفت وربما أخلفت، ولو هي رفعت من نظم الكلام ثم نزل غيرها في مكانها لرأيت النظم نفسه غير مختلف، بل لكان عسى أن يصح ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم، وأن نعرف له بذلك مزية في توازن حروفه وائتلاف مخارجها وتناسب أصواتها، ونحو هذا مما هو أصل الفصاحة، ومما لا تغني فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا غيرها؛ لأنه وجه من تأليف الحروف ونسق اللفظ فيها؛ وأنواع البلاغة إنما هي وجوه التأليف بين معاني الكلمات.
فالحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة، وهذا هو السر في إعجاز جملته إعجازًا أبديا، فهو أمر فوق الطبيعة الإنسانية، وفوق ما يتسبب إليه الإنسان إذ هو يشبه الخلق الحي تمام المشابهة، وما أنزله إلا الذي يعلم "السر" في السموات والأرض.
فأنت الآن تعلم أن سر الإعجاز هو في النظم، وأن لهذا النظم ما بعده؛ وقد علمت أن جهات النظم ثلاث: في الحروف، والكلمات، والجمل، فههنا ثلاثة فصول تعرفها فيما يلي.(2/140)
الحروف وأصواتها:
بسطنا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب حاشية الكلام في الأسباب اللسانية التي جرت عليها الفصاحة العربية، وكانت معدلًا لألسنة القوم بين الاستخفاف والاستثقال، وبين اللين في حرف والجسأة في حرف، وبين نظم مؤتلف ونظم مختلف، فانتزعوا بها وجوه التأليف والتركيب في ألفاظهم وجملهم على سنن لائح ونسق واضح، وأفضينا من كل ذلك إلى مخارج حروفهم وصفاتها.
بيد أننا لم ننبه ثمة إلى أن هذه المخارج وهذه الصفات إنما أخذ أكثرها من ألفاظ القرآن لا من كلام العرب وفصاحتهم؛ لأن ههنا موضع القول فيه، فإن طريقة النظم التي اتسقت بها ألفاظ القرآن، وتألفت لها حروف هذه الألفاظ، إنما هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب، ولكنها ظهرت فيه أول شيء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم, فجعلت المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن، ولا تلوي من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بد من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء، لا يستمهله أمر من دونه وإن كان أمر العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة؛ فإنه إنما يسمع ضربًا خالصًا من الموسيقى اللغوية في انسجامه واطراد نسقه واتزانه على أجزاء النفس مقطعًا مقطعًا ونبرة نبرة كأنها توقعه توقيعًا1 ولا تتلوه تلاوة.
وهذا نوع من التأليف لم يكن منه في منطق أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء إلا الجمل القليلة التي إنما تكون روعتها وصيغتها وأوزان توقيعها من اضطراب النفس فيها إذ تضطرب في بعض مقامات الحماسة أو الفخر أو الغزل أو نحوها فتنتزي بكلام المتكلم من أبعد موضع في قلبه حتى تنتهي به إلى الحلق ثم ترسله من هناك وكأنه ألفاظه عواطف تتغنى.
وقد كان منطق القوم يجري على أصل من تحقيق الحروف وتفخيمها، ولكن أصوات الحرف
__________
1 والروايات التي ثبتت لهذا المعنى كثيرة، وما أسلم عمر بن الخطاب على شدته وعنفه إلا حين رق للقرآن، وما عُبِدَ الله جهرة إلا منذ أسلم عمر.
ولكن أبلغ ما يثبت هذا المعنى، ما رووه من أن ثلاثة من بلغاء قريش الذين لا يعدل بهم في البلاغة أحد، وهم الوليد بن المغيرة، والأخنس بن قيس، وأبو جهل بن هشام، اجتمعوا ليلة يسمعون القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي به في بيته إلى أن أصبحوا، فلما انصرفوا جمعتهم الطريق فتلاوموا على ذلك وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله واستمالهم وآمنوا به، فلما كان في الليلة الثانية عادوا وأخذ كل منهم موضعه، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فاشتد نكيرهم وتعاهدوا وتحالفوا أن لا يعودوا، فلما تعالى النهار جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول: قال بنو عبد المطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون فينا نبي ينزل عليه الوحي! والله لا آمنت به أبدًا! فما صدهم إلا العصبية كما ترى. وكما علمت في غير هذا الموضع، وقال الذين كفروا: لا تسمعون لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، فهم إذا لم يسمعوه كان في ذلك رجاء أن يغلبوا، فتأمل معي "تغلبوا"!.(2/141)
إنما تنزل منزلة النبرات الموسيقية المرسلة في جملتها كيف اتفقت، فلا بد لها من ذلك من نوع في التركيب وجهة من التأليف حتى يمازج بعضها بعضًا، ويتألف منها شيء مع شيء، فتتداخل خواصها، وتجتمع صفاتها، ويكون منها اللحن الموسيقي، ولا يكون إلا من الترتيب الصوتي الذي يثير بعضه بعضًا على نسب معلومة ترجع إلى درجات الصوت ومخارجه وأبعاده.
فكان العرب يترسلون ويحذمون1 في منطقهم كيفما اتفق لهم، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت؛ دون تكييف الحروف التي هي مادة الصوت، إلى أن يتفق من هذه قطع في كلامهم تجيء بطبيعة الغرض الذي تكون فيه، أو بما تعمل لها المتكلم، على نمط من النظم الموسيقي، إن لم يكن في الغاية ففيه ما عرفوه من هذه الغاية.
فلما قرئ عليهم القرآن، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحنا لغوية رائعة؛ كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها2 فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم؛ حتى إن من عارضه منهم، كمسيلمة، جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظمًا موسيقيا أو بابًا منه وطوى عما وراء ذلك من التصرف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية، وإنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها؛ وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلا أن يكون وزنًا من الشعر أو السجع.
وأنت تتبين ذلك إذا أنشأت ترتل قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن، مما تراعى فيه أحكام القراءة وطرق الأداء، فإنك لا بد ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن، بل ترى كأنك بهذا التحسين قد نكرت الكلام وغيرته، فأخرجته من صفة الفصاحة، وجردته من زينة الأسلوب، وأطفأت رواءه؛ وأنضبت ماءه؛ لأنك تزنه على أوزان لم يتسق عليها في كل جهاته، فلا تعدو أن تظهر من عيبه ما لم يكن يعيبه إذا أنت أرسلته في نهجه وأخذته على جملته.
وحسبك بهذا اعتبارًا في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا ينفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق؛ والتفشي والتكرير، وغير ذلك مما أوضحنا في صفات الحروف من باب اللغة في تاريخ آداب العرب.
ولقد كان هذا النظم عينه هو الذي صفى طباع البلغاء بعد الإسلام، وتولى تربية الذوق
__________
1 يقال: حذم في قراءته، إذا أسرع.
2 كل الذين يدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية، لا يرون في الفن العربي بجملته شيئًا يعدل هذا التناسب الذي هو طبيعي في كلمات القرآن وأصوات حروفها، وما منهم من يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفًا واحدًا. ويعلو القرآن على الموسيقى أنه مع هذه الخاصة العجيبة ليس من الموسيقى.(2/142)
الموسيقي اللغوي فيهم، حتى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم -مما يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف- ما لم يكن مثله للعرب من قبلهم، وحتى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسل على جفاء كان فيهما، إلى سجع وترسل تتعرف في نظمهما آثار الوزن والتلحين، على ما يكون من تفاوتهم في صفة ذلك ومقداره، ومبلغهم من العلم به، وتقدمهم في صنعته.
ولولا القرآن وهذا الأثر من نظمه العجيب، لذهب العرب بكل فضيلة في اللغة، ولم يبق بعدهم للفصحاء إلا كما بقي من بعد هؤلاء في العامية، بل لما بقيت اللغة نفسها، كما بسطناه في موضعه.
وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدا أو غنة أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها؛ ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع؛ أو الإطناب والبسط؛ بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها، مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.
فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن على طرق الأداء الصحيحة لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها في هز الشعور واستثارته من أعماق النفس؛ وهو من هذه الجهة يغلب بنظمه على كل طبع عربي أو أعجمي1، حتى إن القاسية قلوبهم من أهل الزيغ والإلحاد، ومن لا يعرفون لله آية في الآفاق ولا في أنفسهم، لتلين قلوبهم وتهتز عند سماعه؛ لأن فيهم طبيعة إنسانية؛ ولأن تتابع الأصوات على نسب معينة بين مخارج الأحرف المختلفة، هو بلاغة اللغة الطبيعية التي خلقت في نفس الإنسان، فهو متى سمعها لم يصرفه عنها صارف من اختلاف العقل أو اختلاف اللسان؛ وعلى هذا وحده يؤول الأثر الوارد أن في الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا؛ لأنه يجنب هذا الكمال اللغوي ما يعد نقصًا منه إذا لم تجتمع أسباب الأداء في أصوات الحروف ومخارجها، وإنما التمام الجامع لهذه الأسباب صفاء الصوت، وتنوع طبقته، واستقامة وزنه على كل حرف.
وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان
__________
1 وهذه حالة مطردة يعرفها الناس جميعًا، وما من أعجمي يسمع ترتيل القرآن إن فهمه أو لم يفهمه إلا اعترته رفة للشجى والنظم، وأحس أن هذه الآيات تتموج في نفسه وتجيش نفسه بها، مع أنه لا يعتريه من ذلك شيء إذا هو سمع الألحان العربية في الغناء والشعر، وقد لا يجد في الموسيقى ضربًا أسخف منها، لمكان اختلاف الأذواق، وما تجده ملحدًا لا يؤمن بالله إلا وهو مؤمن بهذا الإعجاز في كتابه حين يسمعه مرتلًا من صوت جميل، كأن النبوة حينئذ تلامسه.
وكل من يزعم أن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع ألبتة أن يشرك مع القرآن كلامًا آخر في هذه الخاصة، فكأنه يقر بمعنى الإعجاز وينكر لفظه، وما كان الدليل على الحقيقة من لفظ الحقيقة، بل هي لا يدل عليها شيء كثبوت معناها، وهل اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى.(2/143)
في الموسيقى نفسها؛ أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن1، فإن لم تنته بواحدة من هذه، كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى، كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، وماسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو ضروب أخرى من النظم الموسيقي.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه للعجز، فتألقت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بينًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت هجنة في السمع، كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تنفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولًا وبعضها عرضا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة.
ومما انفرد به القرآن وباين سائر الكلام، أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة؛ وكلما أخذت فيه على وجه الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضا طريا، وجديدًا مونقًا، وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحسا موفورًا، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوق الحروف ويستمري تركيبها ويمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه. وهو لعمر الله أمر يوسع فكر العاقل ويملأ صدر المفكر، ولا نرى جهة تعليله ولا نصحح منه تفسيرًا إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطًا وإيجازًا، وابتداء وردا، وإفرادًا وتكريرًا.
هذا على أنه ترسيل واتساق وتطويل، لا يضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي؛ ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان وضروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت وطريقة تصريفه وتوقيعه، لا إلى أصوات الحروف ووجه تأليفها وتتابعها فيحسن مع أهل الصناعة وإن كانت حروفه غثة التركيب سمجة المخارج وكانت
__________
1 وقال بعض العلماء: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون، وحكمة وجودها التمكن من التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهم "أي: العرب" إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون؛ لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع، وهذا قول ناقص، لا يبسطه ولا يتمه إلا ما ذكرناه من تأويله.(2/144)
جافية كزة, حتى إذا صار إلى من لا يحسن أن يوقع عليه الصوت ويطرد له اللحن من غير حذاق المغنين، خرج أبرد كلام وأرذله وأسمجه، وجاء وما تعرف من الكلال والفتور والتهالك في كلام أكثر مما تعرف منه.
وبهذا الذي قدمناه يفسر قوله صلى الله عليه وسلم: "القرآن صعب مستصعب على من كرهه"؛ لأن كرهه لا يكون إلا زعمًا وتكلفًا من اللسان؛ فأيما امرؤ سمعه أو فهمه أحبه وسوغه من شعوره ونفسه؛ فمن أين تدخل الكراهة على النفس ولا سبيل إليها في الكلام إلى السمع والفؤاد؟
ولا يذهبن عنك أن الحروف لم تكن في القرآن على ما وصفنا بأنفسها دون حركاتها الصرفية والنحوية، وليست هذه الحركات إلا مظاهر الكلم فمن ههنا يستجر لنا القول في النوع الثاني من سر الإعجاز.(2/145)
الكلمات وخروفها
...
الكلمات وحروفها:
والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس؛ لأنها تلبس قطعة من المعنى فتختص به على وجه المناسبة قد لحظته النفس فيها من أصل الوضع حين فصلت الكلمة على هذا التركيب.
وصوت النفس أول الأصوات الثلاثة التي لا بد منها في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمع الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصورها النفسية، فيجري في النفس مجرى الإرادة، ويذهب مذهب العاطفة، وينزل منزلة العلم الباعث على كلتيهما، فإن البيان لا يؤلف أصواتًا لرياضة الصدر بها وصلابة الحلق عليها ولكنه صور نفسية في الطبيعة وصور طبيعية في النفس، فإذا لم يكن حيا ناطقًا يلمح بعضه بعضًا، ولم يكن بتركيبه وطريقة نظمه كأنما يحمل من معناه للنفس مادة الإرادة أو الفكر لم يجد شيئًا، وانقطع به غرضه واستهلكه انصراف النفس عنه، وصارت معانيه كأن ليس لها أصول فيها، وكأنها مادة جامدة، أو روح مادة ميتة، بل هو ربما سفل إلى منزلة الإشارة التي هي اللغة الأولى منذ كان الإنسان يتكلم بحواسه، والتي هي أضعف الكلام وأخفاه وأشد التباسًا في مذاهب المعاني النفسية؛ لأنها "أي: الإشارة" باب من النطق الصامت؛ كما أن ذلك لون من الصمت الناطق.
أما الأصوات الثلاثة التي أومأنا إليها فهي:
1- صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها، وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة وعلى نضد متساو، بحيث تكون الكلمة كأنها خطوة للمعنى في سبيله إلى النفس، إن وقف عندها هذا المعنى قطع به.
2- صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداور بها المعنى، لا يخطئ طريق النفس من أي الجهات انتحى إليها.
3- صوت الحس، وهو أبلغهن شأنًا، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورد عليها من وجوه البيان، أو يسوق إليها من طرائف المعاني، يدعها من موافقته والإيثار له كأنها هي التي تريده وكأنها هي التي تحاول أن يتصل أثرها بالكلام، إذ يكون قد استحوذ عليها وانفرد منها بالهوى والاستجابة.
وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة، فإن خرج مما وقفت عنده الطباع النفسية فلم يكن في بعض الكلام مقدارًا معينًا تحسه في جهة وتفقده في جهة، وتراه مرة ماثلًا ومرة زائلًا، بل صار كأنه روح للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي, فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون خلقًا روحيا؛ وكأنه تمثيل بألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة.(2/146)
ولو تأملت هذا المعنى فضلًا من التأمل، وأحسنت في اعتباره على ذلك الوجه، لرأيته روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم، بحيث لو خلا منه لأشبه أن يكون إعجازه صناعيا عند العرب -أن بقي معجزًا- ولو هم فقدوا فقدوا هذا المعنى من أكثره أو من أقله، لقد كانوا وجدوا مذهبًا فيه للقول ومساغًا للرد، ولظلوا في مرية منه، ثم لسارت عنهم الأقاويل في معارضته واعتراضه.
ذلك بأن صوت النفس طبيعي في تركيب لغتهم، وإن كان فيها إلى التفاوت كمالًا ونقصًا، وصوت الفكر لا يعجزهم أن يستبينوه في كثير من كلام بلغائهم، أما صوت الحس فقد خلت لغتهم من صريحه وانفرد به القرآن وقد كانوا يجدونه في أنفسهم منذ افتنوا في اللغة وأساليبها ولكنهم لا يجدون البيان به في ألسنتهم؛ لأنه الكمال اللغوي الذي تعاطوه ولم يعطوه، وإنما كانوا يبتغون الحيلة إليه بألوان من العادات وضروب من التعبير النفسي؛ إذا هي اتصلت بالحس البياني الذي ميزتهم به الفطرة أشبهت أن تكون استواء حسيا، وبهذا خلص إليهم كلام شعرائهم وخطبائهم، وبلغ من أنفسهم ومازجها، وكان منها في محل وموقع؛ على أننا نقرأ اليوم أكثره ولا نجده بتلك المنزلة1.
وإنما مثل ذلك كمن يفتتن بالجمال، فهو إذا رأى الوجه الجميل كانت نظرته إليه كلامًا نفسيا لو جهد البلغاء جهدهم على أن يحكموه بالعبارة كما هو في نفسه لأعيتهم وسائل البلاغة أن يمهدوا منها لهذه الحالة النفسية، ولجائوا من كلامهم بالحس المغمور الذي لا يعدم النقص والاضطراب مما حسبوه قد تكامل واستقر2.
وهذا مثال يطرد في كل ما أنت واجده من البلاغة العربية, فلا ترى شيئًا منها يروعك ويملك عليك المذاهب من نفسك بالتئام أجزائه ورشاقة معرضه وحسن تصويره، إلا وقعت منه على ضرب من الاستعانة بالخيال الشعري أو العادة الثابتة أو العاطفة المطمئنة أو نحوها, والقرآن لا يستعين بشيء من ذلك في إحكام عبارته والتأني بها إلى النفس وانتظام أسباب التأثير فيها، وليس إلا أن تقرأه حتى تحس من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماته وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى بأنه كلام يخرج من نفسك، وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتًا، واستحال كل ما فيك من قوة الفكر والحس إليها وجرى فيها مجرى البيان، فصرت كأنك على الحقيقة مطوي في لسانك.
وأعجب شيء في أمر هذا الحس الذي يتمثل في كلمات القرآن أنه لا يسرف على النفس ولا
__________
1 وبعد القرآن صار للشعر الإسلامي وجه آخر، فالقرآن وحده نزل من العرب منزلة مدرسة جامعة كبرى؛ يدرسون فيها بطباعهم فلسفة البلاغة.
2 تعجز كل اللغات عن تصوير إحساس كامل بحيث يكون أثره على مقدار واحد في نفس صاحبه ونفس غيره، إذ هو حياة لا تلبسها العبارة إلا بمقدار ما ترمى إليها، وهو الروح من جسمها، يدل عليها بتركيبه، ويكشفها بأعماله، ثم تبقى من ذلك خافية؛ إذا اخترع لها جسم جديد على تركيب يبنى على إظهارها دون إخفائها.
وننبه هنا إلى أن لنا كلامًا كثيرًا في فلسفة البلاغة والشعر، تجده منبثا في كل كتبنا: كحديث القمر، والمساكين، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وفي الرسائل التي نشرناها في الصحف والمجلات ولم تطبع إلى اليوم في كتاب على حدة.(2/147)
يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كل أنواع التأثير عليها، فلا تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخونها الملال. ولا تزال تبتغي أكثر من حاجتها في التروح والإصغاء إليه والتصرف معه والانقياد له، وهو يسوغها من لذتها ويرفه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان1، مع أن أبلغ ما اتفق للبلغاء لا تجمع منه النفس بعض ذلك حتى يتعسفها ويثقل عليها وتبتلي منه بالتخمة وسوء الاحتمال، وحتى لا تكون البلاغة في سائره بعد ذلك إلا طعمة خبيثة؛ لأنها جاءت من وراء القصد وفوق الحاجة فلا تعدم النفس أن تجد من جماله قبحًا، ومن صوابه خطأ؛ ولا يمتنع أن يكون فيه النافر والقلق والمحال عن وجهه وما إلى ذلك مما تسكن النفس إلى تأمله وتستجم بتصفحه والبحث عنه واعتراضه في سياق الكلام ونسق التركيب.
وهذا أمر ليس في قدرة أحد أن ينفيه عن كلام البلغاء متى امتد به النفس واتسقت له المعاني وتداخلت فيه الأغراض، ولا نرى أحدًا يقدر على أن يثبت منه شيئًا في القرآن؛ لأن طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة، كما يكون للخالص من ضروب الموسيقى، على ما هو معروف من تأثيرها في النفس ووجه هذا التأثير، بل هو النفس العربية كالحداء للإبل العربية؛ مهما كدها السير لم يزدها إلا إمعانًا فيه ولم تستأنف منه إلا نشاطًا واعتزامًا حتى ليذهب بها المراح وكأنها تريد أن تسابق الحروف والأصوات المنبعثة من أفواه من يحدونها.
ولو ذهبنا نبحث في أصول البلاغة الإنسانية عن حقيقة نفسية ثابتة قد اطردت في اللغات جميعًا وهي في كل لغة تعد أصلًا في بلاغتها، لما أصبنا غير هذه الحقيقة التي لا تظهر في شيء من الكلام ظهورها في القرآن وهي: "الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي". وما تعرف في هذه الأساليب العربية خاصة -وقد مخضناها جميعًا وفررنا باطن أمرها- إلا إسرافًا على هذا الحس، أو تراجعًا من دونه؛ فأما أمر بين ذلك على أن يكون قصدًا، وألا يكون إلا المحض من هذا القصد، وأن لا تجده إلا سواء في محض الاعتبار من حيث أجريته على هذه الحقيقة فلا يكون من شأنه أن يلتوي معك في جهة ويلتوي عليك من جهة، فهذا ما لا نعرفه على أتمه وأبينه إلا في القرآن، ولا نعرف قريبًا منه إلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بين الجهتين ما بينهما2.
ولما كان الأصل في نظم القرآن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة3 كما تجد من كل ذلك في أساليب
__________
1 وبهذا سهل على أكثر البلغاء والعلماء من أهل السمت والورع أن يختموا القرآن مرة في كل يوم، وهو أمر فاش لا سبيل بعد إلى المكابرة فيه. وكان كثير منهم إذا أقبل على ربه ووقف بين يديه في صلاته، قرأ في الركعة الواحدة سورة من الطوال أو سورتين، إلى ربع القرآن، وهو في ذلك مستغرق لا يمل، وكأنه ليس في الأرض أو ليس من أهلها.
2 نجد بسط هذا المعنى في الكلام على البلاغة النبوية وكيف كان وجهًا في أنه "صلى الله عليه وسلم" أفصح العرب.
3 أي: استغاثة من ضعف واستراحة من كلال؛ فكأن الكاتب أو المتكلم يتغوث به.(2/148)
البلغاء بل نزّلت كلماته منازلها على ما استقرت عليه طبيعة البلاغة، وما قد يشبه أن يكون من هذا النحو الذي تمكنت به مفردات النظام الشمسي وارتبطت به سائر أجزاء المخلوقات صفة متقابلة بحيث لو نزعت كلمة منه أو أزيلت عن وجهها، ثم أدير لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها، لم يتهيأ ذلك ولا اتسعت له اللغة بكلمة واحدة، كما سنبينه في موضع آخر، وهو سر من إعجازه قد أحس به العرب؛ لأنهم لا يذهبون مذهبًا غيره في منطقهم وفصاحة هذا المنطق، وإنما يختلفون في أسباب القدرة عليه ومعنى الكمال فيه، ولو أنهم وجدوا سبيلًا إلى نقص كلمة من القرآن لأزالوها وأثبتوا فيه هذا الخطأ أو ما يشبه الخطأ في مذهبهم، إذ كان من المشهور عنهم مثل هذا الصنيع في انتقادهم وتصفحهم بعض على بعض في التحدي والمناقضة1.
لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجزي واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد شرط الفصاحة؛ لأن لكل لفظ صوتًا ربما أشبه موقعه من الكلام ومن طبيعة المعنى هو فيه والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان بغير ذلك أشبه.
فلا بد في مثل نظم القرآن من إخطار معاني الجمل وانتزاع جملة ما يلائمها من ألفاظ اللغة، بحيث لا تند لفظة، ولا تتخلف كلمة؛ ثم استعمال أمسها رحمًا بالمعنى، وأفصحها في الدلالة عليه، وأبلغها في التصوير، وأحسنها في النسق، وأبدعها سناء، وأكثرها غناء، وأصفاها رونقًا وماء، ثم اطراد ذلك في جملة القرآن على اتساعه وما تضمن من أنواع الدلالة ووجوه التأويل ثم إحكامه على أن لا مراجعة فيه ولا تسامح، وعلى العصمة من السهو والخطأ في الكلمة وفي الحرف من الكلمة، حتى يجيء ما هو كأنه صيغ جملة واحدة في نفس واحد وقد أديرت معانيها على ألفاظ في لغات العرب المختلفة فلبستها مرة واحدة، وذلك ولا ريب مما يفوت كل فوت في الصناعة، ولا يدعيه من الخلق فرد ولا جماعة.
__________
1 من أقرب ما يدل به على ذلك قصة الخنساء ونقدها في عكاظ على حسان بن ثابت حين أنشدها قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابن محرق ... فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأبرزته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟ قالت: قلت "لنا الجفنات" والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت "الجفان" لكان أكثر، وقلت "الغر" والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت "البيض" لكان أكثر اتساعًا، وقلت "يلمعن" واللمع شيء يأتي بعد الشيء ولو قلت "يشرقن" لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت "بالضحى" ولو قلت "بالعشية" لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت "أسيافنا" والأسياف دون العشر، ولو قلت "سيوفنا" كان أكثر، وقلت "يقطرن" فدللت على قلة القتل، ولو قلت "يجرين" لكان أكثر، لانصاب الدم، وقلت "دمًا" والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك! ا. هـ. ومثلها كثير في أخبار العرب لا حاجة بنا إلى استقصائه، ويخيل إلينا أن بلغاء العرب ابتلوا بالرعب بعد أن استيقنوا بالإعجاز فأجروا القرآن كله على التسليم حذار أن ينفضحوا إذا انتقدوا فيه شيئًا، وكفر من كفر منهم وطبيعته مؤمنة، وهذا تعرفه في كل إنسان حين يبتلي بما ليس في طاقته أو علمه أو احتماله.(2/149)
ولقد صارت ألفاظ القرآن بطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحدًا من البلغاء لا تمتنع عليه فصح هذه العربية متى أرادها، وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه، وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها؛ لأنها في القرآن تظهر في تركيب ممتنع فتعرف به، ولهذا ترتفع إلى أنواع أسمى من الدلالة اللغوية أو البيانية التي هي طبيعية فيها، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم وتكون بتكريبها المعجز طبقة عقلية في اللغة، ومن ثم تتنزل الأفكار منزلة التوهم الطبيعي الذي يؤثر بالصفة ما يؤثر بالشيء الموصوف بل بما وفي وزاد، كما ترى فيمن يهتز للشعر ويطرب له ويملكه رق أعصابه النفسية، فإنه يبصر الشاعر الفحل الذي أعجب به فيتوهم في رأسه المعنى الكريم والخيال البارع والتعبير الذي هو ضرب من الوحي، وكأنما يتخيل من الرأس صومعة إلهية تهبط عليها ملائكة الحكمة والبيان، وإنه ليتوهم ذلك فيهتز له هزة عصبية واضحة تعرفها في انتشائه والتماع عينيه واستطارة ألحاظه وما تنطق به معارف وجهه، وإن ذلك ليأخذ منه ما تأخذ القصيدة البارعة والكلمة النادرة، وإنه على ذلك في نفسه لشديد، فهذا ما سميناه باب التوهم الطبيعي، وهو بمنزلة من الحقائق النفسية1.
ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضًا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقًا في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة:
من ذلك لفظة "النذر" جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا، فضلًا عن جسأة هذه الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام, فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه؛ ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ، فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال "لقد"، وفي الطاء من "بطشتنا" وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو "تماروا"، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من "تماروا" فإنها ما جاءت إلى مساندة لراء "النذر" حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه
__________
1 من ذلك تهافت الناس على رؤية العظماء ولقائهم ومجالستهم ومطارحتهم كأن طبيعة كل إنسان تجنح إلى أن تملك ملكًا ما فيمن تراه عظيمًا لتعظم به.(2/150)
ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون "أنذرهم" وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في "النذر".
وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبًا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم فيه النظر وأحكمته الروية وراضه اللسان، وليس منها إلا متخير مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يلتمس وعلى أي جهة يستطاع، وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها -فضلًا عن القرآن كله- وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية؟ والبليغ من الناس متى اعتسف هذا الطريق ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه فقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتناثرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لج في المكابرة لجت البلاغة في الإباء، فمثله كمن يمشي مستديرًا ويحسب أنه يتقدم؛ لأنه -زعم- لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده؛ ولأن نظره ما يزال ثابتًا فيما يستقبله!
إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يلم به من تلك الجهة أو يجعل طريقة عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهامًا ووحيًا، لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسر له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من التواء ومن مغمز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة من جملة أو بيتًا من قصيدة أو شطرًا من بيت، لا يطرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقًا؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضربًا موسيقيا، وينظم نظمًا مطردًا ويهدف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف، ويعصب الحركة بالحركة، ويجري بعضًا من بعض, فهذا إن أمكن أن يكون في كلام ذي ألفاظ، فليس يستقيم في ألفاظ ذات معان، فهو لغو من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتفق في عصر خلا من ثلاثة عشر قرنًا, ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة.
وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستثقلًا بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجًا سريا، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقًا وأخفها تركيبًا, إذ تراه قد هيأ لها أسبابًا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها، كقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات؛ إذا تنطق على أربعة مقاطع، وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء؛ لأنه مما لا وجه(2/151)
للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عرب ولم يكن في الأصول عربيًا: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها؛ ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان.
وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة "ضيزى" من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1 ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه؛ ولو أردت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها؛ فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم، مفصلة كلها على الياء؛ فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله مع أولادهم البنات2 فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى؛ وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سبقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا، وفي تآلف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقدن بهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.
وإن تعجب فعاجب هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غنتين في "إذًا" و"قسمة" وإحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي, وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضًا.
ثم الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} 3 فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية، زائدتان، أي: في الإعراب. فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام
__________
1 يقال: ضازه حقه وضامه، أي: منعه ونقصه، فهي قسمة جائرة. والضيز: الجور.
2 أي: دفنهن على الحياة كما كان من عادتهم.
3 الضمير في "ألقاه" لقميص يوسف، وفي "وجهه" ليعقوب عليهما السلام.(2/152)
لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإن المراد بالآية الأولى، تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام, وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب1 تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".
وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب, ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعه ويقصر به علمه، ولا يدع مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مطلعه ومأتاه فيمضي القول على ما خيل؛ ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها؛ ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال, ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخطأ جهة ثالثة إلا أن يصر على الخطأ.
ومما لا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صبت على الجملة صبا, أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعًا ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة "اللب" فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء في مكانها "القلب"، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثم فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة؛ تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها؛ نصبًا أو رفعًا، أو جرا؛ فأسقطها من نظمه بتة، على سعة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة "الجب"، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة.
وكذلك لفظة "الكوب"، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ "أكواب" الذي هو الجمع.
__________
1 قال قبل ذلك على لسان يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} ولم يكن جاءه البشير فكان يحس به.(2/153)
و"الأرجاء" لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعًا وترك المفرد -وهو الرجا أي: الجانب- لعلة لفظه، وأنه لا يسوغ في نظمه كما ترى.
وعكس ذلك لفظة "الأرض"؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسر الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجد لها كل فكر سجدة طويلة، وهي في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ولم يقل: وسبع أرضين؛ لهذه الجسأة التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالًا، وأنت فتأمل -رعاك الله- ذلك الوضع البياني، واعتبر مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائع، وبالغ الأسباب، وأحكم ما قبله وما وراءه.
ومن الألفاظ لفظة "الآجر" وليس فيها من خفة التركيب إلا الهمزة وسائرها نافر متقلقل لا يصلح مع هذا المد في صوت ولا تركيب على قاعدة نظم القرآن، فلما احتاج إليها لفظها ولفظ مرادفها وهو "القرمد"1 وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، ثم أخرج معناها بألطف عبارة وأرقها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف يفضح الصبح, وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} فانظر، هل تجد في سر الفصاحة وفي روعة الإعجاز أبرع أو أبدع من هذا؟ وأي عربي فصيح يسمع مثل هذا النظم وهذا التركيب ولا يملكه حسه ولا يسوغه حقيقة نفسه ولا يجن به جنونًا ولا يقول آمنت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالقرآن معجزة2؟ وتأمل كيف عبر عن الآجر بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله: "فأوقد" وما يتلوها من رقة اللام، فإنها في أثناء التلاوة مما لا يطاق أن يعبر عن حسنه، وكأنما تنتزع النفس انتزاعًا.
وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر؛ فإنها تحقر شأن فرعون، وتصف ضلاله، وتسفه رأيه، إذ طمع أن يبلغ الأسباب أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى، وهو لا يجد وسيلة إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سلمًا، إلا شيئًا يصنعه هامان من الطين3!
__________
1 وهو في العامية "الطوب" أي: الطين المحرق الذي يبنى به.
2 الجمهور على أن القرآن دليل النبوة، وهو الحق الذي لا ريب فيه. ولكن من المتكلمين من يرى غير ذلك، كأبي إسحاق النظام، فإنه قال: إن الله لم يجعل القرآن دليلًا على النبوة وعلى هذا الأصل بنى قوله: إن الإعجاز كان بالصرفة -كما تقدم في موضعه- فما أصح ما نقلناه ثمة من قول الجاحظ فيه: لو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف.
3 في التعبير حكمة أخرى جليلة: وتلك أن فرعون يريد أن يبني صرحًا يبلغ به السماء فعبر بالإيقاد على الطين تهكمًا على فرعون؛ لأن البناء في مثل هذا لا يزال يرتفع بلا نهاية، وإعداد الآجر يجب أن يكون كذلك مستمرا باستمرار الإيقاد على الطين، ثم تشعر العبارة أن النتيجة لا شيء، فكأنه لم يخرج لا بناء ولا مبنيا به، وما هو إلا البدء والاستمرار في البدء.(2/154)
وما يشذ في القرآن الكريم حرف واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنة أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سردها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروف ومكانه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئًا فيما ليس فيه شيء.
تأمل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ "الطوفان والجراد والدم" وأثقلها "القمل والضفادع" فقدم "الطوفان" لمكان المدين فيها؛ حتى يأنس اللسان بخفتها؛ ثم الجراد وفيها كذلك مد؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئًا بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لماكن تلك الغنة فيه؛ ثم جيء بلفظة "الدم" آخرًا، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفًا؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب.
وأنت فمهما قلبت هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع؛ لو قدمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأغنتك أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أحالك ذلك عن قصد الفصاحة وقطعك دون غايتها، ثم لخرجت الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسواء؛ ليس يظهر أخفها من أثقلها؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيها ليس فيه إعجاز بطبيعته.
وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقص في أمثلته لأنه أمر مطرد، تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة الوضع ولن تستوي هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن ههنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث.(2/155)
الجمل وكلماتها:
والجملة هي مظهر الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، إذ يحيل بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معان تصورها في نفسه أو تصفها، ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها, على حين قد لا يراها المتكلم الذي أهدفها لكلامه غرضًا ولكنه بالكلام كأنه يراها.
ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إليها كأنها في الاعتبار بقية الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقية حس آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة.
فإذا ركب الكلام على أصل من التركيب لا يتأدى بالمعاني إلى أبعد من مظاهر الحس، فهذا هو الكلام الطبيعي الذي لا يزيد من فضيلة المتكلم أكثر مما تزيد الحواس نفسها في هذا المتكلم من فضيلة الإنسانية، وذلك أصل هو من رقة الشأن وخفة المنزلة بحيث يخرج الناس جميعًا بالسواء فيه ليس لأحد منهم على أحد فضل، ما دام الكلام سواء فيهم من أصل الخلقة وطبيعة الحياة.
أما إذا خرج الكلام إلى أن يكون في أوضاعه ومعانيه كأنه تصرف من الحواس في أنواع الإدراك ودرجاته كتصرف النظر في اكتناه الجمال وإدراك معانيه؛ أو السمع في استبانة الأصوات وحس نغماتها، إلى ما يشبه ذلك من صنع سائر الحواس في كمالها العصبي, فهذا هو الكلام النفسي الذي يضيف إلى صفة المتكلم صفة البلاغة ويرتفع به عن أن يكون إنسانًا من الجنس إلى أن يكون -بفضيلة البلاغة- مادة إنسانية لجنس الإنسان.
فإذا ارتفع الكلام إلى أن يصير في تقليبه ومداورته كأن طرق ما بين الحواس في أنواع إدراكها وبين النفس، فلا يخطئ التأثير ولا ينافر جهة من جهاته, ولا يعدو أن يبلغ من الفؤاد مبلغه الذي قسم له, فهذا هو الكلام الذي يبين البليغ ويفرده من قومه ويجعله مهوى قلوبهم وسمت أبصارهم إذ يكون في نفسه من هذه القوة البيانية ما يجعله خليقًا أن يعتده التاريخ أحد المجاميع النفسية في الأرض، وهم الذين لا يكثرون بعددهم، ولكن بمواهبهم؛ حتى إن أحدهم ليكون أمة في نفسه. ويكون عمله تاريخ عصر من أمة؛ وهم أولئك الأفراد العظماء الذين تبتدئ درجاتهم مما بين الخلق بعضهم من بعض، إلى ما بين الخلق والخالق، من الشعراء إلى الأنبياء.
فإذا بعد الكلام وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرق تصويره كأنما يفيض النفس على الحواس إفاضة، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة وبيان أمة برمتها، لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يقلبه عن جهته، وإلى أن يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، وكأنهم معه طبقة واحدة وفي طوق واحد من العجز؛ يعنيهم طلبه، ويعنتهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهًا من القدرة فذلك هو الكلام المعجز، بل هو معجزة الطبيعة الكلامية التي لا تعرف في تاريخ أمة(2/156)
من أمم الأرض، ولا عرف أن بلغاء أمة من أمم الكلام قد أقروا وأجمعوا عليها إجماعًا يتوارثونه علمًا ونظرًا على انفساح التاريخ وتعاقب الأجيال، إلا ما كان من ذلك في القرآن، وما لا يزال الإجماع منعقدًا عليه ما بقي في الأرض لفظ من العرب.
وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدرًا على تركيب الحواس النفسية في الإنسان تقديرًا يطابق وضعها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قبل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوق، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخلق؛ لأنه تفصيل للحروف على النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته, ولا يرد غيرها مردها ولا يأتلف ائتلافها ولا يجري فيها إلى نحو ذلك مما أجرى الله عليه نشء الخلق وبعث الحياة، ثم اشتمالها على سر التركيب المكنون الذي جعل البلغاء منها بمنزلة الأطباء في سعة العلم بتركيب الأجسام الحية من الخلية فما فوقها، دون العلم بالوجه الذي يمكن به التركيب، على أنهم لا يفوتهم شيء من دقائقه ولا يعزب عنهم مثقال ذرة من مادته، وهي بعد مبذولة لهم يقبلونها ويستوضحونها ويزدادون بها على الدهر خبرة، ثم ينصرفون عنها وهم في العلم غير من كانوا وهي لا تزال عندهم على ما كانت!
ولم نر شيئًا كان أمره مع العلم ذلك الأمر إلا أن يكون إلهيا، فقد فرغ الناس من كل ما وضع الناس، وعارض بعضهم بعضها، وأبر بعضهم على بعض ولم يسلم للمتقدم من الفضل على المتأخر إلا فضيلة احترام الموت بالنقض من إحدى جهاته على هرم الدهر وتقادمه، غير القرآن فإنه طبقة وحده في إعجاز تركيبه وسلامة معانيه، لم تنقض منه آية ولا كلمة ولا ما دون الكلمة، ولا ذكر معه شيء من كلام البلغاء, ولا عورض به ولا أزيل عن موضعه، ولا وزنه عقل إلا كان مرجوحًا أبدًا، وما أراده أحد إلا أراده بغير طريقته، ولا بحث عن طريقته إلا عي بإدراكها وبعل بها ولم يدر ما هي ولا كيف هي ولا من أين يأتي لها، وصار أمره نشرًا لا نظام له وعاد علمه جهلًا لا بصيرة معه. ولعمري إنه ليس في العجائب كلها شيء أعجب من إمكان أن يكون القرآن مع هذا الإعجاز كله غير معجز!
ولقد كانت هذه الطريقة المعجزة التي نزل بها القرآن هي السبب في حفظ العربية واستخراج علومها؛ وما كان أصل ذلك إلا التحدي بها، فإن من حكمة هذا التحدي أن يدعوهم إلى النظر في أساليبه ووجه نظمه وتدبر طريقته، وأن يروزوا أنفسهم منها ويزنوها به، حتى إذا استيقنوا العجز وأطرقوا عليه، كان ذلك سببًا لمن يخلفهم على اللغة إلى استبانة وجوه الإعجاز1، فكشف لهم عن
__________
1 للتحدي حكمة أخرى قرر بها القرآن أسمى ما انتهت إليه عقول الحكماء وأهل التشريع في العصور الأخيرة ونحن ننقلها هنا من كتابنا "تحت راية القرآن": "لا ثقة برأي إلا بعد تمحيصه ونقده، ولن يكون النقد نقدًا إذا كان من أنصارك ومؤازريك، بل هو النقد إذا جاء من المعارضين لك والمنكرين عليك، ثم لا يتم له معناه إلا=(2/157)
فنون البلاغة، وتأدت بهم إلى حيث بلغوا من تتبع كلام العرب والاستقصاء فيه والكشف عن محاسنه، وأغرى بعض ذلك من بعضه، وأعان كل على كل، حتى اجتمعت المادة وتلاحقت الأسباب ولولا ما صنعوا لخرج الناس إلى العجمة، ولذهبت هذه الآداب ولما بقي في الأرض إلى اليوم من يقول إن القرآن معجز!.
وذلك بأن العرب لم يكن لهم من البلاغة إلا علم الفطرة، ولم يكن لمن بعدهم من هذه الفطرة إلا ما ترجعه الوراثة من أوليتهم، وهي شيء تتولاه العصور بالتحول والزيغ، وتدأب عليه بالنقض والاختلاف، حتى يخرج عن أصله إلى أن يكون أثلًا جديدًا، ثم إلى أن تنشق منه أصول أخرى وهي الطريقة التي تنشأ بها اللغات وتستمر وتذهب في الاشتقاق، فلا يبقى على ذلك من البلاغة العربية شيء ينفذ إليه العلم أو تستطيعه القدرة، إذ تكون العربية نفسها قد درست وانتثرت بقاياها في القبور والأنقاض1.
ومن البين أن أخص أسباب الارتقاء كائن في الغلبة، والتميز والانفراد حيث وجدت، فلو جاء القرآن مثل كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صلح أن يكون سببًا لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ ولا ينفرد ولا يستعلي.
فتدبر أنت هذا الأمر العجيب الذي كان الأصل فيه نزول آيات التحدي، وتأمل كيف أثبت القرآن إعجازه على الدهر بهذه الآيات القليلة، وكيف ضمن بما وراءها نشأة العقول التي تدرك هذا الإعجاز وتقر به، وتكون مادة لتاريخه الأبدي، لا تضعف ولا تنحسم؟ وهل بعد هذا من ريب في قول الله تعالى يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} فقد علم الله
__________
= إذا كان من أقواهم فكرًا، وأصحهم رأيًا، وأبلغهم قلمًا، فإن لم ينتقدك هذا ومثله فادفعهم إليك دفعًا، وتحدهم تحديًا، وارمهم بالعجز إذا لم يفعلوا، فإن الحجة ليست لك ولا هي لهم، وإنما تنحاز إلى الغالب منكما، وحتى الحجة الصحيحة فإنها أبدًا في حاجة ماسة إلى حجة أخرى تؤيدها، أو تفسرها، أو تحدها، أو تمنع اللبس بينها وبين غيرها، فكل شيء فإنما صحته وتمامه في معارضته ونقده, إذ إن المعارضة نصف الحق، وإن هي لم تكن حقا؛ لأنها تبينه وتجلوه وتقطع عنه الألسنة وتنفي عنه الظنة، ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة في القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية، هو وحده الذي انفرد بتحدي الخلق وإثبات هذا التحدي فيه، وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني، ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة، معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فما بالحجتين جميعًا وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققت إلا انتصار في معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحار فيها، لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقول الميزان العقلي في هذه الإنسانية".
1 وهذا هو الذي يحاوله المستعمرون ويعمل فيه الملحدون ممن فسقوا عن الإسلام فيريدون أن يكون لكل أمة من الأمم الإسلامية لغة إقليمها حسب حتى تسنى العربية فيذهب بذهابها التاريخ الإسلامي كله، وقد فصلنا ذلك في كتابنا "تحت راية القرآن" فانظر فيه.(2/158)
هذا الأمر كيف يكون وكيف يثبت، فقدره بعلمه وفصله بحكمته قبل أن يقع، فانظر إلى آثار رحمة الله.
أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرتها وكيفما تأملتها وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها ومن أي جهة وافقتها؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلاف حروفها وتباين معانيها وتعدد مواقعها من أن تكون جوهرًا واحدًا في الطبع والصقل، وفي الماء والرونق؛ كأنما تتلامح بروح حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالِطَ إحساسك فلن تكون معها إلا على حالة واحدة.
تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحًا تداخلك بالطرب، وتشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حسن الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام، وتصحفت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفل، أو يستمر وينتقض، أو يأتلف ويختلف ... إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلال أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخلقة وطريقة النشأة وأسباب التحصيل وآلات الصناعة إذ كل ذلك ليس في كل الطباع الإنسانية على سواء.
فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها ويغلب عليك شبيه في التمثيل مما يغلب على أهل الحس بالجمال إذا عرضت لأحدهم صورة من صوره الكاملة، فإن لهم ضربًا من النظر يعتريهم في تلك الحالة خاصة، ولو سميته حسن النظر الفكري لم تبعد، فهو يبتدئ في الصورة الجميلة ويستتم في النفس، فلو أنها أغمضت العين دونها لبقيت الصورة ماثلة بجملتها في الفكر، ولو وقفت العين على وجهة واحدة منها لوصلها الفكر بسائر أجزائها فتمثلت به سوية التركيب تامة الخلق، في حين لا ترى العين إلا هذه الجهة وحدها.
وذلك أمر متحقق بعد في القرآن الكريم: يقرأ الإنسان طائفة من آياته فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحس ترافد ما بعدها وتمده، فلا تزال هذه الصفة في لسانه ولو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكّرت منها، أو أبرزتها على ظل هي فيه. أو دفعتها عن ماء هي إليه، ولا يرى ذلك كله إلا سواء وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، لا يغتمص في هذا إلا كاذب على دخلة ونية، ولا يهجن منه إلا أحمق على جهل وغرارة، ولا يمتري فيه بعد هذين إلا عامي أو أعجمي {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
إن طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحس الكلمة وصفتها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام،(2/159)
وباستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوت ذلك ولا يختل، فمن أين يدخل على قارئه ما يكد لسانه أو ينبو بسمعه؛ أو يفسد عليه إصغاء أو يرده عما هو منه بسبيله؛ أو يتقسم إحساسه ويتوزع فكره؛ أو يورده الموارد من ذلك كله أو بعضه؛ إلا أن يكون هذا القارئ ريضًا لم تفلح فيه رياضة البلاغة، ولا أجدى عليه التمرين والدربة؛ فخرج ألف اللسان بليد الحس متراجع الطبع، لم يبلغ مبلغ الصبيان في إحساس الغريزة وصفاء هذه الحاسة واطراد هذا الصفاء.
فإننا لنعرف صبيان المكاتب -وقد كنا منهم- وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه، إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو متون العلوم أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان، لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل، حتى لا يجمعوا منه قدرًا في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن على أنهم يبلغون من هذا بالعفو والأناة، ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد.
وقد ينسى أحدهم الآية من القرآن فينقطع إلى الصمت من قراءته، أو تتدخل في لفظة بعض الآيات المتشابهة في السور، أو يسقط بعض اللفظ في تلاوته فيضل في ذلك، ثم لا ييسره للذكر، ولا يذكره بالآية المنسية أكثر ما يتذكر، إلا نسق الحروف في بعض كلماتها، ولا يبين له مواقع الكلم المتشابهات، إلا نظام كل كلمة من آيتها، ولا يهديه إلى ما أسقطه من اللفظ غير إحساسه باضطراب النظم وتخلخل الكلام، ولقد كان ذلك أكبر ما كنا نستعين به أيام الحداثة على اتقاء الغلط والمداخلة والسهو، وكنا نفزع إليه إذا جلسنا بين يدي فقيهنا -رحمه الله- مجلس القراءة "والتسميع". وقد عرفنا أن تأذي سمعه مقرون بأذى عصاه ... وكم تواصفنا مع أذكياء الصبيان في "الكتّاب" فما رأينا منهم إلا من ادخر لمحنته من ذلك أشياء1.
__________
1 نحن نأسف أشد الأسف وأبلغه، بل أحراه أن يكون هما يعتلج في الصدر ويستوقد في الضلوع، إذ نرى نشء هذه الأيام قد انصرفوا عن جميع القرآن واستيعابه وإحكامه قراءة وتجويدًا. فلا يحفظون منه -إن حفظوا- إلا أجزاء قليلة على أنهم ينسونها بعد ذلك، ثم يشب أحدهم كما يشب قرن الماعز ... ينبت على استواء ولا يثبت إلا على التواء، ويخرج وقد عق لغته، وأنكر قومه، وانسلخ من جلدته واستهان بدينه، وخرج من آدابه، ولا يستحي من ذلك أن يقول هأنذا فاعرفوني! قد عرفناك -أصلحك الله- فهل أنت إلا أدب مسلوب، ولسان مقلوب، وضمير مغلوب، ورأس ارتقى, حتى أنكر في النسب أعطافه، وجلدة من جلود العلم ولكن حشوها خرافة.
حسبكم أيها القوم حسبكم، إنما أتيتم من جهل العربية وآدابها، وإنما جهلتم منذ خلوتم من القرآن, فإنه العقل والضمير واللسان، وإنه ما أفلح كاتب عربي قط "مسلم أو غير مسلم" بلغ من صنعة البلاغة وشغف بهذه الآداب التي يستمسك بها الأمر كله إلا وقد حفظ القرآن أو أكثره، وكان مع ذلك لا يدع أن ينظر فيه وأن يتأدب به ويزين لسانه بألفاظه ويصفي طبعه بنظمه، فإن هو نشأ على غير ذلك فهيهات أن تنفعه في البلاغة نافعة، وهيهات أن ترسخ له قدم فيها. وما نزعم زعمًا، ولكن الدليل حاضر والبرهان شاهد والتاريخ بين أيدينا من لدن نشأت صنعة الكتابة في الإسلام أو في العربية، فكلاهما شيء واحد.(2/160)
لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل الذي أومأنا إليه: نمطًا واحدًا في القوة والإبداع، ولا تقع منه على لفظ واحد يخل بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام الإلهي وما دام في موضعه من النظم والسياق1 فإذا أنت حرفت ألفاظه من مواضعها، أو أخرجتها من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حصلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها -وهي في الحالتين لغة واحدة- كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لبعد ما كانت فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن، أصبت أمرًا بالخلاف، ورأيت لكل لفظة روحًا في تركيبها من الكلام فإذا أفردتها وجدتها قريبة مما كانت؛ لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى إذا أبنتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينت فيها الوحشة والقلة شبيه الذي يعرض للغريب إذا نزح عن موطنه وبان من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعيا؛ لأن حقيقة التركيب إنما هي صفة الوحي في هذا الكلام.
__________
1 من أعجب ما اتفق في هذا القرآن من وجوه إعجازه أن معانيه ترى في مناسبة الوضع وإحكام النظم مجرى ألفاظه على ما بيناه من أمرها، ولا يعد المفكر وجهًا صحيحًا من القول ربط كل كلمة بأختها، وكل آية بضريبتها، وكل سورة بما إليها وهو علم عجيب أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره، وقد قال فيه إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
ويقال إن أول من أظهر هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان غزير المادة في الشريعة والأدب فكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكم في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ ثم كان يزري على علماء بغداد؛ لأنهم لا يعملون هذه المناسبات، وقال ابن العربي في بعض كتبه: "ارتباطًا آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة منسقة المعاني منتظمة المباني, علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد وعمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه. فلما لم يجد له حملة ختمناه بيننا وبين الله" ا. هـ.
ورأينا في "كشف الظنون" أن للإمام برهان الدين بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885هـ. كتابًا اسمه "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" قال: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد، جمع فيه أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول، وكان جل مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض، وقد ألفه في أربع عشرة سنة.
ثم جاء خزانة العلماء المتأخرين، الإمام السيوطي، فعني بهذا العلم في كتابه الذي صنفه في أسرار التنزيل وقال: إن هذا الكتاب كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات. مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة. قال: ثم لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء وسميته: "تناسق الدرر في تناسب السور" وقد وقفنا نحن على هذا الجزء، وهو مخطوط لطيف الحجم يقع في بعض كراريس، وفيه كلام جيد.
وكان نابغة عصرنا الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- كثيرًا ما يعنى في تفسيره بحقائق غريبة من تناسب الآيات وتعلق نظم القرآن بعضه ببعض. وله في ذلك فكر ثاقب ونفاذ عجيب، وبالجملة فإن هذا الإعجاز في معاني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه وهو أبلغ في معناه الإلهي إذا انتبهت إلى أن السور لم تنزل على هذا الترتيب, فكان الأحرى أن لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضًا وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب؛ ولكنه روح من أمر الله تفرق معجزًا، فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولو الألباب.
كتبنا هذا للطبعة الأولى، وقد ظفرت دار الكتب المصرية بكتاب للإمام البقاعي الذي أشرنا إليه آنفًا ورسمت بطبعه، بارك الله للأمة فيها.(2/161)
وهذه الروح التي أومأنا إليها، "روح التركيب"، لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس؛ ولولاها لم يكن بحيث هو كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم: فمن هنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة؛ هي صفة إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وإن كان فيما وراء ذلك متعدد الوجوه التي يتصرف فيها من أغراض الكلام ومناحي العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب: كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال، إلى نحوها مما يدور عليه.
ولولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة، على مقدار ما بين هذه المعاني ومواقعها في النفوس؛ وعلى مقدار ما بين الألفاظ والأساليب التي تؤديها حقيقة ومجازًا. كما تعرفه من كلام البلغاء عند تباين الوجوه التي يتصرف فيها، على أنهم قد رفهوا عن أنفسهم وكفوها أكبر المؤنة فلا يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض ومعان يعذب فيها الكلام ويتسق القول وتحس الصنعة مما يكون أكبر حسنه في مادته اللغوية، وذلك شائع مستفيض في مأثور الكلام عنهم، ثم هم مع هذا يستوفون المعنى الواحد على وجهه، فإذا تحولوا إلى غيره، وأفضوا بالكلام إلى سواه رأيت من اقتضابهم في الأسلوب ومن التذاكر في وضع المعنى إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه.
وعلى أنا لم نعرف بليغًا من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع وتقرير النظر وتبيين الأحكام ونصب الأدلة وإقامة الأصول والاحتجاج لها والرد على خلافها، إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب؛ وأنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر، والأسلوب الرائع، والصنعة المحكم والبيان العجيب، والمعرض الحسن، فإذا صرت إلى ضروب من تلك المعاني، وقعت ثمة على شيء كثير من اللفظ المستكره، والمعنى المستغلق، والسياق المضطرب، والأسلوب المتهافت والعبارات المتبذلة، وعلى النشاط متخاذلًا والعرى محلولة، والوثيقة واهنة، وتبينت كلامًا لا تطمئن إليه في أكثر جهاته حتى لتعجب أن صاحبه وصاحب ذلك الكلام رجل واحد.
وإنما وقع للبلغاء هذا النقص من جهة التركيب، إذ ليس في كلامهم روح كروح النظم في القرآن ولا هذه الروح مما تطوعه قوى الخلق؛ فلما صاروا إلى الوضع الذي تضعف مادته اللغوية من الحقيقة والمجاز وما إليها، صاروا إلى الضعف الذي لا قبل لهم به ولا حيلة لهم فيه إلا مداورة الكلام وتعريض العبارة وتشقيق المعنى، فذهبوا إلى الخلق والتهافت وتصدير القول بالرفع من ههنا وههنا، فحيث أصبت كلمة رائعة أصبت منها رقعة، وكان ما اتفق لهم من هذه الصنعة في تحسين الكلام دليلًا على قبحه؛ وكان قبحًا جديدًا.
وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها؛ وتعقد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك وأجمع لما في نفسك وأبين لهذه الحقيقة، غير كلمة الإعجاز.
وما عسى أن تقول في كلام ترى للفظ من الألفاظ فيه معنى؛ ثم ترى كأن لهذا المعنى في(2/162)
التركيب معنى آخر، هو الذي يفيض على النفس ويتصل بها فكأنه كلام مداخل وكأن اللغة فيه لغتان.
ثم ما أنت قائل في كلام جاء من الإبداع في التأليف ومن وجوه التفنن في تلوين المعاني بحيث نفى العرب جميعًا عن لغتهم وهم في أرقى ما اتفق لهم من الصور اللغوية، واستبد بها دونهم واستغرق كل ما جاء به من محاسن البيان حتى لم يدع لمن يقابل بينه وبين كلامهم إلا حكمًا واحدًا تنتهي إليه المقالة من أي جهاتها سلك؛ وهو أن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة.
ثم ماذا يبلغ القول من صفة هذا التركيب العجيب، وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستنفد كل ما في العقول البيانية من الفكر، وكل ما في القوى من أسباب البحث؛ كأنما ركب على مقادير العقول والقوى وآلات العلوم وأحوال العصور المغيبة؛ فتراه يتخير من الألفاظ على درجات ليس معنى العجب فيها أن يقع التخير عليها، ولكن العجب أن تستجيب ألفاظه على هذا الوجه المعجز الذي لا يكون في اللغة إلا عن قدرة هي عين القدرة التي ألهمت أهلها الوضع والتعبير وتشقيق الكلام، حتى حصلت لغتهم كاملة في كل ذلك، أي معنى أعجب من أن تتجاذبك معاني الوضع في ألفاظ القرآن فترى اللفظ قارا في موضعه؛ لأنه الأليق في النظم، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى, ومع ذلك الأقوى في الدلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية مما يتقدمه أو يترادف عليه، حتى خرج بذلك كله في تركيب قصر معارضته أن تنتهي إليه بعينه، ولا مثل له إلا ما يتردد منه على لسان قارئه، وحتى خرج التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى من نفس اللغة العربية مخرج الترجمة إلى غيرها من اللغات إذ لم تحمل لغة من لغات الأرض حقيقة ما تعينه ألفاظه على تركيبها المعجز بل هو في ذلك يعجزها جميعًا ويخرج عن طوق أهلها وإن تساندوا فيه، وإنما جهد ما تبلغه تلك اللغات أن تجيء بشبه معانيه، قصدًا في بعضها ومقاربة في بعضها مع الاستعانة بالشرح المبسوط والعبارة الملونة، وعلى أنه ليس ضربًا من ضروب الصناعات اللفظية التي لا يتفق فيها أن تنقل من لغة إلى لغة1.
وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز أن معاني هذا الكتاب الكريم لو ألبست ألفاظًا أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولى ذلك أبلغ بلغائها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى ليس فيها لمعانيه غير ألفاظه بأعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمة سواء إلا في المعجز الذي يساوي بين القوى في المعجز وهي بعد في ذات بينها مختلفات؟
__________
1 لذلك حرموا ترجمة القرآن إلى اللغات، فإن الترجمة لا تؤديه ألبتة، ولو هي أدت معانيه كما يفهم أهل عصر، بقي منها ما ستفهمه العصور الأخرى. وأشهر وأدق ترجمة للقرآن في اللغة الفرنسية ترجمت فيها هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} فكانت الترجمة هكذا: هن بنطلونات لكم وأنتم بنطلونات لهن.... وكيف لعمري يمكن أن يترجم هذه الكتابة الدقيقة وجه من وجوه إعجاز القرآن للغات العالم كافة.(2/163)
فصل: غرابة أوضاعه التركيبية
وههنا أمر دقيق لا بد لنا من طلب وجهه؛ لأنه شطر الإعجاز في القرآن الكريم، وسائر ما قدمناه شطر مثله؛ وذلك أنك حين تنظر في تركيبه لا ترى كيفما أخذت عينك منه إلا وضعًا غريبًا في تأليف الكلمات، وفي مساق العبارة، وبحيث تبادرك غرابته من نفسها وطابعها بما تقطع أن هذا الوضع وهذا التركيب ليس في طبع الإنسان, ولا يمكن أن يتهيأ له ابتداء واختراعًا دون تقديره على وضع يشبهه، أو احتذاء لبعض أمثلة تقابله، لا تحتاج في ذلك إلى اعتبار ولا مقايسة، وليس إلا أن تنظر فتعلم1.
ولو ذهبت تفلي كلام العرب من شعر شعرائهم ورجز رجازهم وخطب خطبائهم وحكمة حكمائهم وسجع كهانهم، من مضى منهم ومن غبر على أن تجد ألفاظًا في غرابة تركيبها "التي هي صفة الوحي" كألفاظ القرآن، وعلى أن ترى لها معاني كهذه المعاني الإلهية التي تكسب الكلام غرابة أخرى يحس بها طبع المخلوق ويعتريه لها من الروعة ما يعتري من الفرق بين شيء إلهي وشيء إنساني, لما أصبت في كل ذلك مما تختاره إلا لغة وأوضاعًا ومعاني إنسانية، تقع بجملتها دون قصدها الذي أردت، ولا ترضاها للتمثيل والمقابلة، ولا تراها تحل مع القرآن إلا في محل نافر ولا تنزل منه إلا في قاصية شاردة؛ ثم لوجدت فرق الغرابة الإلهية بين اثنينهما في الكلام عين ما تعرفه من الفرق بين الماء في سحابه، والماء في ترابه.
وما من بليغ يتدبر هذه الأوضاع في القرآن؛ ثم تحدثه النفس في خاطرًا إنسانيا يتشوف إلى مثلها، أو يصل بها سببًا من أسباب المطمعة، أو يظن أنه قادر عليها، إذ يرى غرابة الوضع في تركيب الألفاظ أشبه شيء بالتوقيف الإلهي في وضع الألفاظ نفسها لو كان وضعها ابتداء واختراعًا في اللغة وكان ذلك في زمنه "أي: البليغ" أو بعين منه بحيث تظهر له غرابة الوضع اللغوي خالصة جديدة، لا شوب فيها مما يألفه السمع أو تمكنه العادة، أو نحو ذلك مما يجعل الغريب مأنوسًا، أو يأخذ من غرابته أو يصقل بعض جهاتها, فيظهر الأمر الغريب وكأنه غير ما هو في نفسه.
على أنه لا يجد مع تلك الغرابة في أوضاع القرآن، إلا ألفاظًا مؤتلفة متمكنة، التئام سردها وتناصف وجوهها؛ لا ينازع لفظ واحد منها إلى غير موضعه، ولا يطلب غير جهته من الكلام. ولعمري إن اتفاق هذا الإحكام العجيب مع غرابة الوضع، لهو أغرب منها في مذهب البلاغة، وأدخل في باب العجب، ولولا أن الأمر إلهي، ولا عجب من قدرة الله.
__________
1 في هذا المعنى كلام سيأتي في موضعه من البلاغة النبوية.(2/164)
وقد كان العرب إنما يركبون ألفاظهم من معاني مألوفة وعلى سنن معروفة فإن وقع فيها شيء غريب فلا يكون من ائتلاف اللفظ مع اللفظ وإنما يجيء من أبواب أخرى تتعلق بهيئة التركيب نفسه؛ على ما عرف من جهات البلاغة وفنونها. وذلك شيء لا ينقض العرف، بل يتهيأ مثله لكل من تسبب له وأخذ في طريقته، وكثيرا ما اتفق للمتأخر فيه أبدع مما جاء به المتقدم؛ لأنه أمر عموده الطبع، وأسبابه في الاكتساب والتمرين، والبراعة فيه بالتوليد والمحاكاة والتأمل، وهذه ضروب كلما اتسعت أمثلتها اتسعت فنونها، لاشتقاق بعضها من بعض؛ وبها انتهت البلاغة في المتأخرين إلى ما انتهت إليه مما ذهب أكثره من علم المتقدمين في صدر اللغة.
وتلك الغرابة التي أومأنا إليها، وقد يتفق الشيء القليل منها لأفراد الفصحاء وأئمة البيان، مما ينفذ فيه الطبع اللغوي، والمنزع القوي، وهو من غرابة القريحة فيهم؛ على أن ذلك لا يعدو كلمات معدودة: كقول امرئ القيس في الجواد: "قيد الأوابد" وقول أبي تمام في الرأي: "وطن للنُّهى" ونحو ذلك من الكلمات الجامعة التي تتفق لفحول الشعراء والبلغاء، مما هو في الحقيقة وضع لغوي مركب، يشبه الوضع اللغوي في الكلمات المفردة، فيتناول اللغة والبلاغة جميعًا، وتكون فضيلته في الجهتين.
بيد أنك ترى جملة تراكيب القرآن من غرابة النظم، على ما يشبه هذا الوضع في ظاهر الغرابة وترى فيه من البلاغة الجامعة خاصة أضعاف ما أنت واجده لأهل اللغة كلهم من الشعراء والخطباء والكتاب، وهذا الضرب من البلاغة تحصي منه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرجح بكثير من الناس, ولكن لا يعمهم؛ وهو باب من أبواب بلاغته عليه الصلاة والسلام بل من أخص أبوابها, كما نبسطه في موضعه.
ولا يذهبن عنك أن وضع الألفاظ المفردة إنما يقع في أزمان متطاولة وعصور متعاقبة, ولا يلبث اللفظ أن يوضع حتى يجري في الاستعمال ويستوفي وجوه التركيب التي يقلب عليها. فنزول القرآن في بضع وعشرين سنة, واجتماعه من سبع وسبعين ألف كلمة ونيف1؛ بهذه التراكيب التي لم تعد للعرب في غرابة أوضاعها التركيبية، وهم أهل الوضع والمتصرفون في اللغة بقياس القريحة وعلى أصل الفطرة هو مما يحقق إعجازه الأبدي على وجه الدهر، إذ يستحيل بتة أن يتفق لغير أولئك العرب في
__________
1 لا ندري كيف يمكن القول بأن القرآن كلام إنساني، وهو قد تم في هذه المدة على طريقة معجزة يستوي أولها نزولا وآخرها في الاطراد والنظم والبلاغة والغرابة، بحيث لا يستطيع إنسان أن يعين فيما بين دفتيه موضع تنقيح، أو يومئ إلى جهة منها تهذيب، أو يستخرج ما يدل منه على ضعف في نسقه واطراده، أو لفظه ومعناه. ومتى عهد في تاريخ الأرض كله أن كلام إنسان من الناس يستمر على مثل هذه الطريقة بضعة وعشرين عامًا، ولا يكون أول ذلك إلا بعد أن يبلغ الأربعين، ثم لا ينتقض ولا يضعف ولا تختلف طبقاته ولا يتفاوت أمره في كل هذه المدة، مع اختلاف أحوال النفس وأمور الزمن. ومع إحصاء كلامه وجمعه لفظة لفظة والذهاب به حفظًا وتلاوة، حتى لا يجد السبيل إلى تغيير كلمة واحدة بعد أن تفصل عنه، وخاصة إذا اعتبرنا بالكلام صناعة البلاغة، على نحو ما أومأنا إليه في تركيب القرآن؟ لعمر الله ما نظن في الأرض عاقلًا يستطيع أن يدل على إنسان هذه صفته، إلا أن يخرج هذا الإنسان من الوهم، ثم يحكم في أمره بغير فهم، ويكون دليل عقله هذا من دليل جنونه ... !(2/165)
باب، إفرادًا وتركيبًا على طرقه المعروفة1 ما اتفق للعرب، ولا بعضه، ولا قليل من بعضه، إلا إذا انشقت من لغتهم لغة أخرى على غير سننها وأصولها، كما ترى في غرابة كثير من الأوضاع العامية في كل لهجة من لهجاتها؛ لأن هذا الانشقاق وضع جديد جاء من تكييف المادة اللغوية على وجه غريب، وإن كانت هذه المادة في نفسها قديمة.
وكل العلماء قد مضوا على أن ألفاظ القرآن بائنة بنفسها، متميزة من جنسها فحيثما وجد منها تركيب في نسق من الكلام، دل على نفسه وأومأت محاسنه إليه ورأيته قد وشح ذلك الكلام وزينه وحرك النفس إلى موضعه منه؛ وهو بعد أمر واقع لا وجه للمكابرة فيه، ولا نعرف له سببًا إلا ما بيناه من الصفة الإلهية في معانيه، وغرابة الوضع التركيبي في ألفاظه، فإن ذلك يتنزل منزلة الوضع الجديد في الكلام المألوف، فلا ينبئ الوضع الغريب عن نفسه بأكثر مما تدل عليه ألفة المأنوس الذي يحيط به. ومن أجل ذلك كله قلنا إن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة؛ وأن لهذه اللغة معاجم كثيرة تجمع مفرداتها وأبنيتها، ولكن ليس لها معجم تركيبي غير القرآن.
وإنما سميناه "المعجم التركيبي" لأنه أصل فنون البلاغة كلها فما يكون في المنطق العربي نوع بليغ إلا هو فيه على أحسن ما يمكن أن يتفق على جهته في الكلام، وقد رأيناه في كل أنواع البلاغة يجنح إلى الوضع والتأصيل حتى إنك لو قابلت ما فيه من أمثلتها بأحسن ما استخرجه العلماء من جملة كلام العرب، لأصبت فرق ما بين ذلك في سمو الطبيعة اللغوية وأحكام البيان وانتظام محاسنه، كالفرق الذي تكشفه المقابلة ما بين النبوغ والتقليد ولله المثل الأعلى.
ولقد كان هذا القرآن الكريم بما استجمع من ذلك، هو "علم البلاغة" عند أولئك العرب الذين كانت البلاغة فيهم إحساسًا محضًا، ثم صار من بعدهم بلاغة هذا العلم في المولدين، وهو على ذلك ما بقيت الأرض، فكان العرب يتلقون عنه البلاغة بوجدان الحاسة اللغوية وإحساس الفطرة، كما يتلقى أهل الفن الواحد قواعد النبوغ عن المثال الذي يخرجه لهم نابغة الفن2.
__________
1 فصلنا هذه الطرق في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 أومأنا في صفحة 142 إلى شبيه هذا المعنى، وهو أن القرآن جعل البلاغة الإسلامية أرقى من البلاغة الجاهلية، وقد رأينا أن نسوق في هذا الموضع كلامًا لابن خلدون، توفية لفائدة ما نحن فيه. قال في الفصل الذي عقده لبيان أن حصول الملكة بكثرة الحفظ إلخ، ويظهر لك من هذا الفصل وما نقرر فيه، سر آخر، هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذوقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان بن ثابت، وعمر بن أبي ربيعة، والحطيئة، وجرير، والفرزدق، ونصيب، وغيلان ذي الرمة، والأحوص، وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرًا من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم، ومحاوراتهم الملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة، وعنترة، وابن كلثوم، وزهير، وعلقمة بن عبدة، وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم، والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام، وسمعوا الطبقة العالية من كلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما، لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية،=(2/166)
من ههنا كانت دهشتهم له، وكان عجبهم منه، إذ رأوه يجري مجرى الفن مما لا يعرفون له فنا1، ووجدوه في ذلك ببلاغة البلغاء جميعًا، واستيقنوه فوق ما تسع الفطرة، ثم صار من بعدهم يأخذ منه أصول هذا العلم، عصرًا بعد عصر، وقبيلًا بعد قبيل، حتى استقرت البلاغة على "قواعدها" وهو مع ذلك بحيث كان، لا الفطرة استوفت ما فيه ولا الصناعة؛ ولا يزال بعد كأنه في نمط بلاغته سر محجب2.
__________
= ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة، وأصفى رونقًا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفًا، بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. ا. هـ.
قلنا: وهذا الذي وصفه، على ما فيه من النقص، هو أكبر السبب لا كل السبب وسنفصل ذلك في باب الشعر والإنشاد من تاريخ آداب العرب، فإن هناك موضعه، أما ما أشار إليه من إعجاز الحديث، وأن ذلك في وزن إعجاز القرآن كما توهم عبارته فسنقف على حقيقته, وعلى فصل ما بين الاثنين في موضعه مما يأتيك في الكلام على البلاغة النبوية.
1 أي: في السياستين البيانية، والمنطقية، كما سنذكره بعد، وهاتان الكلمتان هما طرفا التعبير النفسي لما يقال له في العرف: البيان والبلاغة.
2 قال ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة 637هـ "وهو صاحب كتاب "المثل السائر" وكان من مجتهدي أئمة البلاغة في هذه الأمة، لا يسكن بعلمه إلى التقليد، وله في إدراك الأسرار البيانية حسن عجيب": إنه عثر قبل أن يضع كتابه "المثل السائر" على ضروب كثيرة من العلم والبيان فيما انطوى عليه القرآن الكريم، قال: "ولم أجد أحدًا ممن تقدمني تعرض لذكر شيء منها، وهي إذا عدت كانت في هذا العلم بمقدار شطره. وإذا نظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره".
وقد كان ضياء الدين هذا يختم القرآن مرة في كل أسبوع ليبلغ به، ثم نظر فيه فجعل يقرؤه المرة في شهر, ثم أبعد في النظر فكان يختمه في سنة، ثم أمعن فقال إنه قطع سبع سنين ولما يفرغ منه ولا أتى على الغاية من تدبر ما فيه من البلاغة المستكنة في كلمه وحروفه.
فإذا قدرنا عدد كلمات القرآن، وهي سبع وسبعون ألفًا ونيف، على أيام هذه السنين، على أن يكون الرجل قد أشرف على ختم القرآن، وضربنا بالحصص على تلك الأيام، خرج لكل يوم نيف وثلاثون كلمة، أي: مقدار ثلاثة أسطر، يتأملها هذا الإمام المفكر البليغ ويتدبر أسرار بلاغتها، مع أنه لا يبحث منها إلا في الصناعة البيانية وحدها، دون أسرار التركيب الأخرى من علمية واجتماعية إلخ إلخ.
وروي أن ابن عطاء الصوفي أحمد بن محمد سهل المتوفى سنة 309هـ قرأ القرآن يستنبط المعاني المودعة فيه ويستروح إليها، فبقي في ختمة واحدة بضع عشرة سنة، ومات ولم يتمها.
وهو من جلة مشايخ الصوفية، لم ير فيهم أفهم منه.
وقد سئل عن التصوف ما هو؟ فقال: اتفقت أنا والجنيد على أن التصوف نزاهة طبع كامنة في الإنسان، وحسن خلق تشتمل على ظاهره، وهذا أبدع ما رأيناه في المعنى.
وهذا "يعني ضرورة التأني وإبعاد النظر" هو سر الخيبة التي يبوء بها من يطلب وجوه الإعجاز البياني إذا التمسها في "الكشاف" للإمام الزمخشري المتوفى سنة 528هـ مع كثرة ما عرض -رحمه الله- من الدعوى خطبة كتابه؛ لأنه فرغ من هذا الكتاب كما قال في "مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سنتان وثلاثة أشهر وعشرون يومًا على أوسع التقدير"، قال: وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، فانظر مبلغ عمل الرجل من مبلغ أهله، على أن له في كتابه حسنات رحمه الله وأحسن إليه.
وقد رأينا في "كشف الظنون" أن شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743هـ وضع شرحًا على الكشاف في ست مجلدات ضخمة، وأكثر فيها من إيراد النكت البيانية، وكانت أكثر ما جاء به. وهذا الشرح قد أومأ إليه ابن خلدون في موضع من مقدمته، وقال إنه شرح فيه كتاب الزمخشري وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها "وبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة" فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة ا. هـ. فتأمل كيف تتصرف بلاغة القرآن مع أهل السنة والمعتزلة مجاذبة ودفعًا فإنه معنى عجيب.(2/167)
وهذا أمر لم يقع له نظير في التاريخ ولن يقع بعد. وما من أمة في الأرض غير العرب استوفت وجوه البلاغة في لغتها من كتاب واحد "على أن تكون هذه اللغة من أوسع اللغات وأبلغهن قصدًا واستيفاء كالعربية" سواء كان لها ذلك الكتاب قبل أن توضع علوم بلاغتها وقبل أن يعرف منها باب أو فصل من باب أو مثال من فصل كما وقع في العربية، أو بعد أن وضعت، ولا سواء في المنزلة والإعجاز أن يكون الكتاب كذلك.(2/168)
فصل: البلاغة في القرآن
وبعد فلا سبيل من كتابنا هذا إلى بسط الكلام وتقسيمه فيما تضمنه القرآن من أنواع البلاغة التي نصب لها العلماء أسماءها المعروفة: كالاستعارة والمجاز وغيرهما، فضلًا عن أنواع البديع الكثيرة؛ فإن ذلك يخرج استخراجه من القرآن بابًا مفردًا صنف فيه جماعة من العلماء المتأخرين: منهم الإمام الرازي المتوفى سنة 606هـ، فقد لخص كتابي "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" للجرجاني، واستخرج منهما كتابه في إعجاز القرآن وهو كتاب معروف، أحسن في نسقه وتبويبه، ثم الأديب ابن أبي الإصبع المتوفى سنة 654هـ فقد صنف كتاب "بدائع القرآن" أورد فيه نحو مائة نوع من معاني البلاغة وشرحها، واستخرج أمثلتها من القرآن، ثم ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ وقد أشرنا في غير هذا الموضع إلى تصنيفه "كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان" وهو في معناه بتلك الكتب كلها.
هذا إلى أن كل ما كتبه المتقدمون في علوم البلاغة وإعجاز القرآن: كالرماني، والواسطي، والعسكري، والجرجاني، وغيرهم. فإنما ينحون به هذا النحو من انتزاع أمثلته في القرآن، والإضافة في أبوابها، ثم ما يداخل هذه الأبواب من فنون الكلام شعره ونثره1، ومن أجل ذلك قلنا آنفًا: إن القرآن كان علم البلاغة عند العرب، ثم صار بعدهم بلاغة هذا العلم.
بيد أنه لا يفوتنا التنبيه على أن كل ما أحصاه العلم من أنواع البلاغة في القرآن الكريم، فإنما هو جملة ما في طبيعة هذه البلاغة مما يمكن أن يقلب عليه الكلام في وجوه السياستين البيانية والمنطقية، بحيث يستحيل ألبتة أن يوجد في كلام عربي نوع ممن ذلك وقد خلا هو منه، إلا أن يكون من باب الصنعة والتكلف الذي يتلوم الأدباء على صنعه ويذهبون فيه المذاهب الكثيرة من النظر والأعداد والتنقيح ونحوها، ثم لا يعطيه معنى البلاغة مع كل هذا العنت إلا
__________
1 لم يقصر علماؤنا -رحمه الله- في شيء من هذا الذي وضعوه؛ إلا ما يكون من فلسفة البلاغة وأسرارها النفسية؛ فليس لهم في هذا الباب إلا ما يعد؛ على أن طبائع أزمانهم تسوغ لهم أكبر العذر في إغفاله، وما هو بأول شيء مكن لهم الإهمال فيه، ولعلنا إذا يسر الله وأمد بعونه وبلغت بنا الوسائل أن ننشط يومًا لوضع كتاب في بلاغة القرآن على ما هو في القرآن نفسه لا ما هو في كتب البلاغة والنية بذلك إن شاء الله معقودة، والنفس عليه مطوية، والظن في عون الله يقين!
كتبنا هذا للطبعة الأولى ولا نزال حيث كنا ولا يزال العمل نية وأملًا ولا يبرح الفكر يتمثل تكملة "إعجاز القرآن"، "بأسرار الإعجاز": ونحسب أن عون الله قريب، فإن الأيام قد هيأت الحاجة إلى الكتاب الثاني إن شاء الله. ا. هـ. من تعليق المؤلف على الطبعة الثالثة. ويقول مصححه: إنا نسأل الله المعونة على تحقيق هذا الرجاء، بإصدار ما أتم المؤلف -رحمه الله- من فصول هذا الكتاب وإتمام ناقصه.(2/169)
اصطلاحهم أنفسهم على أنه من البلاغة1.
ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة؛ لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز، أو بالكناية لأنها كناية، أو ما يطرد مع هذه الأسماء والمصطلحات إنما أريد به وضع معجز في نسق ألفاظه وارتباط معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق، فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير، ويتجوز حيث يتجوز، ويطنب ويوجز ويؤكد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أحصي في البلاغة ومذاهبها؛ لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزًا في جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقص يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكمل منه وأبلغ في القصد والاستيفاء.
فالعلماء يقولون إن كل ذلك فنون من البلاغة وقع بها الإعجاز؛ لأنهم اصطلحوا على هذه التسمية التي حدثت بعد العرب، ولو قالوا إن القرآن معجز في العربية؛ لأن الفطرة والعقل لا يبلغان مبلغه في سياستي البيان والمنطق بهذه اللغة، لكان ذلك أصوب في الحقيقة، وأبلغ في حقيقة الصواب، وأمكن في معنى الإعجاز، وأتم في هذا الباب كله، ما دام في لسان الدهر حرف من العربية2.
واعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجاز القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياستين، والتأني إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه، وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورة الكلام على ذلك إلا تأمله على هذه الوجوه، وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، وفي
__________
1 بل إن في القرآن شيئًا مما لا يتفق للناس إلا صناعة، ولم يكن يعرفه العرب ولا انتبهوا إليه، كهذا النوع البديعي الذي يسمونه "ما لا يستحيل بالانعكاس" وهو الذي يقرأ من أوله وآخره سواء، فمنه في القرآن قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَك} وقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر} على أن كل مثل يتفق من ذلك وشبهه إنما هو من العذوبة والسلاسة والانسجام كما ترى آية في آية.
ومن أعجب ما اتفق أن المتأخرين من ناظمي البديعيات كعز الدين الموصلي وابن حجة الحموي، وغيرهما، عدوا تمام الفضيلة في عملهم أن ينظموا البيت على النوع من أنواع البديع، ثم يذكروا اسم النوع في البيت وبالتورية وهذا بعينه استخرجه الشهاب الخفاجي من القرآن في قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا "يَلْتَفِتْ" مِنْكُمْ أَحَدٌ} وهذا النوع هو "الالتفات" لأن السياق يحتمل أن يكون "ولا يلتفت منهم" فعدل عن الغيبة إلى الخطاب، وهذا طريف جدا كما ترى.
2 سمينا البلاغة العربية في بعض ما كتبناه من فصولنا "باللغة الخاصة"، تخرج من اللغة العامة التي هي العربية على إطلاقها. وقلنا في تلك اللغة الخاصة أنه يحتال بها على اختصار الطريق في أداء المعاني إلى النفس؛ وإلقاء هذه المعاني إليها في سمو يعلو أو سمو ينزل؛ في فخامة وروعة؛ أو سذاجة وطبيعة؛ فإن أكبر الكبير في سموه كأصغر الصغير في إدراكه. وإن بناء هذه اللغة قائم على تأليف أسرار المعاني وترجمتها للنفس ترجمة موسيقية، بالتشبيه والمجاز والكناية والاستعارة وغيرها، وبهذه اللغة الدقيقة في التركيب. والدلالة يكتب الكاتب وينظم الشاعر؛ فتكون طبائع المعاني كأنها هي التي تتكلم؛ وتخرج الصور الكلامية وكأنها ضرب من الخلق العقلي؛ فيه الجلال والرهبة والإقناع، بل فيه شيء من الإيمان بالقوة الغامضة، بل فيه شيء من هذه القوة الغامضة يصل بين سر المعنى وسر النفس.(2/170)
طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفس به، أو تدافعه، وتلتوي عليه من قبله؛ ثم طبقات هذا المعنى بعينه، وتقديرها على طبقات الأفهام، واعتبارها بما هو أبلغ في نفسه وأعم في وضعه، ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله، واندماجه فيما بعده، ومساوقته لأشباهه ونظائره حيث اتفق منها في الكلام شيء. ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصالتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اختير كل لفظ في موضعه، أو عدل إليه عن غيره، من حيث موافقته لمعنى الجملة ونظمها، ومن حيث دلالته في نفسه، وملاءمته لغيره، ثم النظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها اللغة ووجه اختيار الحرف أو الصيغة، وموضع ذلك في الغناء والإبلاغ في الدلالة من سواه، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، ما هو خاص بهذه الطريقة حسب ما توجهه المعاني، فإن كل ذلك في القرآن الكريم على أتمه، وليس فيه اضطراب أو التواء، ولا يجوز فيه عذر ولا تسويغ، وهو منه بحيث يدعو بعضه إلى بعض، مما ينفي عنه التصنع والتكلف والمحاولة، ويدل على أنه كالمفرغ جملة واحدة، ثم هو أمر لا يجتمع ألبتة في كلام أحد من الناس ولا يستوسق على البلاغة الإنسانية. وما علوم البلاغة كلها إلا بعض الوسائل في التنبيه إليه، فهي تعطي القدرة على النظر والفهم ولكنها لا تعطي بمقدار ذلك في العمل والصنعة.
ومهما كان العرب من الرياضة والتمرين واعتياد النفس وإدمان الدربة وذكاء الفطر ودقة الحس، فإن هذه كلها تجري مجرى تلك العلوم في نسبة القدرة على الفهم إلى القوة على العمل. الناس كلهم علم واحد1 في أن هؤلاء العرب جميعًا يفهمون الشعر، ولكنا لم نجدهم كلهم شعراء، ورأينا الشعراء منهم متفاوتين وعرفنا التفاوت بينهم واضحًا، حتى لينفرد الواحد من الجميع في فن من أغراض الشعر، ثم لا يبينه منهم إلا بلاغة التراكيب؛ ومبلغ قوته في سياستي البيان والمنطق، وما قلناه في الشعراء فهو في صدقه على الخطباء هو بعينه، والخطابة أمس بما نحن فيه وأدنى إلى القصد منه، لا يقطعها من دونه ما عسى أن تنقطع عنده الحجة في الشعر، وإن كان الباب واحدًا.
وأنت إذا اعتبرت القرآن على تلك الوجوه التي فصلناها، رأيته أعلى من البلاغة التي وضعت لها تلك الفنون، فإن هذه من بيان اللسان الذي لا يرتفع عن طبقة اللغة ولا يخرج من وجوه العادة في تصريفها، وسنن أهلها في إبراز معانيها، وهذا أمر يقع فيه التفاوت، ويخرج بعضه إلى الإحكام وبعضه إلى التسامح وبعضه أمر بين ذلك؛ لأن حالات المعاني مختلفة مع النفس فبعضها ما ينقاد، وبعضها مما يستكره؛ ثم النفوس مختلفة على حسب ذلك جمامًا ونشاطا أو ضعفًا وتخاذلًا، ومهما يكن في آثارها من بلاغة المعاني وإحكامها ورونق العبارة ونظامها، فإن نفسًا أنفذ من نفس، وحسا أدق من حس، وقوة أبلغ من قوة، وإحاطة أوسع من إحاطة.
ومن ههنا نجد العبارة البليغة الواحدة كثيرًا ما تقع المواقع المختلفة على طبقات متعددة في أهل النظر حين يتأملونها ويصفونها، فإن بقيت على بلاغتها مع جميعهم لم يردها أحد ولا أنكرها، فلا بد
__________
1 أي: هذا أمر معروف للناس جميعًا.(2/171)
ومن اختلاف هذه البلاغة حينئذ حتى تكون عند أقواهم كأنها ما هي عند أضعفهم، وحتى يخيل إلى الضعيف أن القوي إنما يتعنت في حكمه ويذهب بنفسه مذهب قوته، ويخيل إلى هذا القوي أن الضعيف لا يمحض نفسه ولا يستقصي في نظره ولا يقول بعلم؛ ولكل وجهة هو موليها، وإنما اختلاف بينهم من حيث اختلفت القوى.(2/172)
فصل: الطريقة النفسية في الطريقة اللسانية
والقرآن وإن كان لم يخرج عن أعلى طبقات اللغة، ولا برز عن وجوه العادة في تصريفها، غير أنه أتى بذلك من وراء النفس لا من وراء اللسان. فجعل من نظمه طريقة نفسية في الطريقة اللسانية، وأدار المعاني على سنن ووجوه تجعل الألفاظ كأنها مذهب هذه المعاني في النفس، فليس إلا أن تقرأ الآية على العربي أو من هو في حكمه لغة وبلاغة، حتى تذهب في نفسه مذهبها لا تني ولا تتخلف، على حين أن أكثر المعاني الإنسانية يجيء من النقص في السياسة البيانية، بحيث ترى نفس السامع أو القارئ هي التي تذهب فيه فتأخذ إلى جهة وتعدل على جهة، وتصعد في ناحية وتستبطن في ناحية أخرى، ولا يكون من شأنها أن تنقاد وتذعن، ولكن أن تكابر وتأبى أو تتصفح وتستدرك أو تستحسن وتزدري؛ لأن المعنى قد ألقي إليها في ألفاظ تقصر بحقيقته النفسية في تركيبها ونظمها أو تضعف هذه الحقيقة، أو تلبسها بغيرها، أو تهمل تصورها لونًا من الألوان، أو تجيء بها على الشبه والمحاكاة مما لا يبلغ الحق في تصورها والتنبيه عليها.
وقلما تصيب لأحد من بلغاء الناس كلامًا قد أحكمت ألفاظه من هذه الوجوه كلها، فإنك لتستطيع أن تجد في كل كلام بليغ معاني قد جلبت لألفاظها، ولكنك لا تستطيع أن تجد في القرآن كله إلا ألفاظًا لمعانيها، وإن فتشت وجهدت وطلبت في ذلك الفرطة والندوة1, وهذا فصل ما بين الكلام المعجز الذي يؤخذ من وراء النفس وبين غيره مما يكون بعضه من النفس وبعضه من اللسان.
وعندنا أنه لا يمكن أن يتجه للباحث طريق الإعجاز المطلق أو يستقيم عليه، إلا إذا تدبر القرآن على تلك الوجوه التي أشرنا إليها؛ وقلب ألفاظه ومعانيه، وعرف من أين تلوى عروة اللفظ ومن أين معقد المعنى، فإن ذلك يدفع به لا محالة إلى القطع بأنه غير إنساني، وأن ليس في طبع الإنسان أكثر من فهمه وما نشك على حال في أنها كانت هي طريقة العرب في الإحساس بإعجازه، إذ ليس إلى الحقيقة غيرها من سبيل، وهم كانوا أعرف بكلامهم وسننه ووجوهه، وما يمكن أن يتفق في الطباع وما لا يتفق.
وما أخطأ هذه الطريقة أحد إلا أخطأ وجه الإعجاز العربي، وإلا فما بال كثير من بلغاء المتكلمين، وما بال أهل العربية وفنونها، وما بال أكثر علماء البلاغة نفسها لا يهتدون في الحكم عليه إلى أبعد من أنه معجز بقوة الإيمان؟ وما إعجازه إلا في قوة تركيبه على ما بسطناه بحيث لا تقرن إليه قوة إنسانية إلا خرج عن طوقها، وكان جهدها الذي تجهد كأنه في معارضته قوة من ضعف، أو عفو من جهد القوي، فكأنها لم تصنع شيئًا فيما صنفت، وجهدت وكأنها لم تجد.
__________
1 أصل الفرطة: المرة الواحدة من الخروج، والمراد بها الشذوذ.(2/173)
وليس شيء أقرب في الدلالة على ذلك لمن لم ينهض به طبعه، أو كان لم يتيسر لهذا الأمر بأدواته ولا أقوى بغرضه من أن يتأمل أمثلته في كل باب طبيعي من أبواب البلاغة العالية، فإنه سيرى منها الباب كله ويرى ما عداها واقعًا من دون حيث وقع.(2/174)
فصل: إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة
وبقي سر من أسرار هذه البلاغة المعجزة نختم به الباب، وهو شيء لا نراه يتفق إلا في القليل من كلام النوابغ المعدودين الذين يكون الواحد منهم تاريخ عصر من عصور أمته، أو يكون عصرًا من تاريخها، وهو إحكام السياسة المنطقية على طريقة البلاغة لا على طريقة المنطق1 فإن الفرق بين
__________
1 رأينا لفيلسوف الإسلام القاضي أبي الوليد بن رشد المتوفى سنة 595هـ كلامًا حسنًا في آخر كتابه "فصل المقال" لم نر مثله لأحد من العلماء، بين فيه كيف احتوى القرآن الكريم على طريق التعليم المنطقية بجملتها تصورًا وتصديقًا، وقد عد الفيلسوف ذلك من إعجازه، وهو وجه لو كان بسطه واستوفاه واستبرأ معانيه لجاء منه بكل عجيب، غير أنه -رحمه الله- أشار إليه في الكلام إشارة وجاء به عرضًا لا غرضًا ونحن نستوفي هذه الفائدة من كتابنا بتحصيل كلامه.
فقد دل على أن غاية الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق، وأن التعليم صنفان: تصور وتصديق. وطرق التصديق الموضوعة للناس ثلاثة: البرهانية، والجدلية، والخطابية، وللتصور طريقتان: إما الشيء نفسه، وإما مثاله. ولما كان الناس لا يستوون في طباعهم، ولا الطباع كلها سواء في قول البراهين والأقاويل الجدلية فضلًا عن البرهانية، وكانت غاية الشرع تعليم الناس جميعًا, وجب أن يكون مشتملًا على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور، وطرق التصديق منها عامة لأكثر الناس، أي: في وقوع التصديق من قبلها، وهي الخطابية والجدلية -والأولى أعم من الثانية- ومنها خاص لأقل الناس وهي البرهانية، ولما كان الشرع قد جعل قصده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال لتنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق.
وهذه الطرق هي أربعة أصناف: الأول لا يقبل التأويل، والثاني يقبل نتائج التأويل دون مقدماته، والثالث عكس هذا يتطرق في التأويل إلى مقدماته دون نتائجه، والرابع يتأوله الخواص وحدهم، أما الجمهور فأخذه على ظاهره.
فالناس إذن ثلاثة أصناف: صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وصنف وهو من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة، أي: صناعة الحكمة والمنطق.
وليس الناس في طرق العمل كالطرق التي تثبت في الكتاب العزيز "القرآن" فإنه إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة في جميع الناس، والطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة، مما لا يوجد أفضل منه لتعليم الجمهور، ثم انتهى الفيلسوف الكبير من ذلك بعد بسطه وبيانه بما لا يحتمله هذا الموضع إلى أن الأقاويل الشرعية المصرع بها في الكتاب العزيز للجميع، لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز إحداها أنه لا يوجد في "مذاهب الكلام" أتم إقناعًا وتصديقًا للجميع منها، والثانية أنها تقبل التصرف بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها -إن كانت مما فيه تأويل- إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. ا. هـ.
قلنا: وليس في المنطق أعجب من أن يكون الكلام مبسوطًا للجميع، ثم هو نفسه مما يهدي الخاصة إلى تأويله، ثم لا يكون في طبيعته الكلامية مع تصرفه إلا أن ينتهي إلى مقطع الحق من هذا التأويل دون أن يتعداه، وقد=(2/175)
الطريقتين أن هذه المنطقية منها تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، ويراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب، إلزامًا بالعقل لا بالشعور، وبطبيعة السياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة، وتتسع لها المغالطة، وتنتدح فيها أشياء من مثل ذلك؛ فرارًا من الإلزام ودفعًا لحجته، وإن كان المعنى في نفسه واضحًا مكشوفًا، والبرهان طبيعة قائمة معروفًا.
بيد أن طريقة البلاغة إنما يراد بها تحقيق المعنى، واستبراء غايته، وامتلاخ الشبهة منه، وأخذ الوجوه والمذاهب عن النفس من أجزائه التي يتألف منها، بعد أن تستوفى على جهتها في الكلام استيفاء يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء، حتى لا تصدف عنه، ولا تجد لها مذهبًا ولا وجهًا غير القصد إليه؛ فيكون من ذلك الإلزام البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتمًا مقضيا.
وهذا غرض بعيد وعنت شاق لا تبلغ إليه الوسائل الصناعية مما يتخذ إلى إجادة الكلام وإحكام صنعته البيانية، وإنما يتفق لأفراد الحكماء ودهاة السياسة ما يتفق منه، وحيًا وإلهامًا، وإنما يلقونه على جهة التوهم النفسي الذي تتخلق منه خواطر الشعراء؛ فنحن نعرف علمًا وتجربة أن الشاعر قد يعالج المعنى البكر، ويريغ الوجه المخترع، فيكد في تمثل ذلك حتى يتسلط أثر الكد على فكره، ويضرب الملل على قلبه، ويصرفه الضجر؛ ثم لا يعطيه كل هذا طائلًا ولا يرد عليه حقا من المعنى ولا باطلًا، وما فرط ولا أضاع ولا قصر ولا استخف، ولا كان في عمله إلا من وراء الغاية، وقد تقع إليه في تلك الحال معان كثيرة تفترق وتلتقي، ولكن ليس فيها المعنى الذي من أجله نصب وإليه تأتى، فيضرب عنه بعد المحاولة، ويقصر بعد المطاولة حتى إذا استجمت خواطره، واستحدث منها غير ما كان فيه، بلا تكلف، وهو لم يعاوده ولا قصد إليه، وقد كان بلغ منه كلال الحد واضطراب الحس مبلغ الرهق والمعاناة، وإنما ألهمه في تلك الحال إلهامًا، فعاد ما لم يمكن بكل سبب، ممكنًا بغير سبب!
وربما أراد الشاعر معنى من هذه الخواطر النادرة، فلا يكاد يبتدئ التفكير فيها أو يهم بذلك، حتى يراه قد حصل في نفسه وهو لما يتمثل أجزاءه ولا استتم تصورها، ولا كان إلا أنه أراد ما اتفق، واتفق له ما أراد. ودع عنك أقوال الفلاسفة من علماء النفس وغيرهم، وما يعتلون به لمثل ذلك من
__________
لا يظهر التأويل الحق إلا بعد أزمان متطاولة ينضج فيها العقل الإنساني وتستجم آثاره وأدواته، ومن ذلك ما ظهر في هذا العصر؛ ومن أظهره قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} وهي الآية التي أشار فيها إلى الطيران وإلى أنه سيكون "للإنس"، ولم يتحقق تأويلها إلا منذ سنوات قليلة، وقد مضى على نزول الآية ثلاثة عشر قرنًا ونيف، فإذا أضفت إلى ذلك كله أن هذه العجيبة المنطقية إنما تخرج من طريق البلاغة المعجزة على وجه الدهر أدركت أن الأمر ليس إعجازًا فحسب، ولكنه إعجاز من ظاهره وباطنه.
هذا وقد استخرج الإمام الغزالي "المنطق" من القرآن، وليس هو منطق أرسطو ولكنه منطق العقل الإنساني.(2/176)
أعمال الدماغ؛ فلو أن فيهم شاعرًا لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر ملهم، وكأنما تحدث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب.
وإذا رجعنا إلى العقل ورأيه في استبانة هذا الشكل، وضربنا منه شبهًا مما يضرب الطبيعيون لله من أمثالهم إذا تناولوا البحث فيما هو من علم الله، قلنا: كنا من العقل. وصار إلى العقل. وليس شيء فوق العقل إلا لأنه لم يرتفع إليه بعد. لما صدرنا عن هذا العقل، إلا بالبيان الغامض، وبالرأي المشتبه، وبما يكون العاقل فيه كالمتعلل أو المتمحل له، وكشف لنا العقل عن هذا السر بسر مثله، لا يقضي هو فيه ولا ينبغي صدق أسبابه إذ يحيلنا على ما في الطبيعة من ذلك وأشباهه، فإن الإلهام أقدم منه في الوجود وأظهر منه أثرًا، وأوضح منه سنة؛ وما بالعقل يبني الطائر عشه ويقطع بعض الطير إلى وطنه من أقاصي الأرض أو يجيء من غايته، ولا بالعقل يصنع النمل ما يصنع ويأتي النحل ما يأتيه من دقائق الهندسة وغير الهندسة1؛ إلى أمثال لذلك كثيرة، ولا أخذت هذه الأحياء الطبيعية عن الإنسان ولكن الإنسان هو أخذ عنها واهتدى بهديها! واتجه بعقله فيما وجهته إليه! ولو أن في رأس النملة عقلًا تدرك به ما تأتي وما تدع، وتخرج به مما تعرف إلى ما تجهل، وتستعمله مع حذقها الطبيعي فيما يستعمل العقل له، إذن لما جلس في كرسي أكبر علماء الاقتصاد في هذه الأرض كلها إلا نملة من النمل.
بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضًا، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعًا؛ أما هذا "أي: الحيوان" فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبدًا إلا كما هو، ولا يعطي الإرادة المطلقة؛ لأنها دون الإلهام. وأما ذلك "أي: الإنسان" فلا يلقاه إلا في أحوال شاذة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبدًا غير من هو، ولا يسلب الإرادة؛ لأن الإلهام فوقها.
ولو استطاع الناس يومًا أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعًا، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويتيسرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ لتفاوت الأمر تفاوتًا قبيحًا، ولما بقي في الأرض إنسانًا يسمى إنسانًا، ولكن الله تعالى يقلب أفئدتهم، وأبصارهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكل يغني شأنه {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} !
وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي أومأنا إليها وهي في لغة كل أمة أبلغ البلاغة، غير أنها في القرآن الكريم مما يعجز الطوق، ولا تحتمله قوة النبوغ الإنساني، فقد أحكمت في آياته إحكامًا أظهرها مخلوقة خلقًا إلهيا، ولا مصنوعة صنعة إنسانية، وجعل كل آية منها كأنها في الكلام نفس كلامية.
__________
1 لهذه الحشرات فنون هندسية وسياسية واجتماعية وحربية واقتصادية إلخ، وهي وحدها تؤكد للناس أن المعجزة لا حجم لها؛ فقد تكون في حجم الشمس، وقد تكون في حجم النملة، ذاهبة إلى أكثر؛ أو راجعة إلى أقل الأقل!(2/177)
ولا نظن بتة أن عربيا يطمع في مثل ما جاء به أو يطوعه له الوهم، مهما بلغ من سمو فطرته ورقة حسه، ومن بصره بطرق الوضع التركيبي. ونفاذه في أسرار البيان وتقليب أوضاع اللغة، فإن الشأن ليس في هذه اللغة ومتعلقاتها بمقدار ما هو في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين، وهذا باب لا ينفذ فيه إلا من كان شعوره وعقله وبيانه فوق الفكرة في أكمل ما يتهيأ لها من كمال الحقيقة الإنسانية التي تجمع تلك الصفات الثلاث: "البيان والعقل والشعور" والتي يقال لها من أجل ذلك: "النفس الناطقة" وليس في الناس جميعًا من يصح أن يقال فيه إنه فوق الفطرة بالمعنى الصحيح، وإن كان هو بسمو فكرته فوق الناس.
ولو ذهبت تعتبر القرآن كله لرأيت تلك الطريقة فيه أظهر الوجوه التي تبينه من كلام الناس وتجعله قبيلًا وحده، فإن لبلغاء الناس كلامًا جيدًا في كل أبواب البيان، بيد أنك حين تأخذه متفاوتًا في أجزاء تلك السياسة المنطقية، وحين تدعه متفاوتًا في طريق النظم التي خرج بها القرآن كما عرفت من قبل: فلا هو من ذلك في نسق ولا طريقة.
وما نشك على حال أن فصحاء العرب وأهل البلاغة فيهم قد أدركوا بفطرتهم هذه الطريقة المعجزة التي تنصرف إلى وجه ثم تجيء من وجه آخر، ولا أنهم قد عرفوا أن هذا مما لا تقوم به البلاغة وضروبها، وأن غاية كد العقل في مثله أن يبعد بالمعنى عن صنعة اللسان، وغاية كد اللسان أن يدخل الضيم فيه على صنعة العقل، فإن دق المعنى ولطفت مذاهبه وأحكمت الحيلة في تصريفه، قصر عنه البيان الذي ألفوه مذهبًا لفظيا، وعرفوه افتنانًا في الصنعة والتركيب، كما بسطناه في مواضع كثيرة، وإن صرح المعنى واستبان ولانت أعطافه وجاء على نسقهم في المحاورة والمخاطبة خرج على قدر ذلك وغلبت عليه الألفاظ ولم يكن بتلك المنزلة.
وهذا بعض ما أيأسهم من المعارضة تيقنًا أنه لا قبل لهم بها، واستبصارا في حقيقة هذا الكلام، وأنه مما لا يستشري الطمع فيه، وأنه وحي يوحى؛ وهو عينه أيضًا بعض ما اجتذبهم إليه وعطفهم عليه، حتى كان بلغاؤهم يستمعونه وتصغي إليه أفئدتهم، ثم يتلاومون على ذلك؛ كما مر في خبر أبي جهل وصاحبيه، وحتى قالوا كما حكى الله عنهم وأسجله في كتابه ليكون ثبتًا تاريخيا للعقل الإنساني: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فجعلوا كل أمرهم وأمره في آذانهم كما ترى، وما هي إلا سبيل الكلام إلى النفس؛ وكأنهم أقروا أنهم المغلوبون ما سمعوه1، وليس في البيان عما نحن فيه أبين من هذا إخبارًا عن حقيقة أو حقيقة من الخبر2 أو خبرًا حقا.
وعلى تأويل ما عرفته من هذه السياسة المنطقية، تحمل كلمة الوليد بن المغيرة المخزومي في خبره المشهور: فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه
__________
1 أي: ما داموا يسمعونه؛ وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع سبق.
2 لا يفوتك أن الآية قد سمعها العرب أنفسهم وجرت على ألسنتهم، وهي ليست من الأخبار بالغيب، ولكنها خبر عما قاله بعضهم وسمعه بعضهم؛ فذلك نص تاريخي قاطع في صحة الخبر نص قاطع فيما ذهبنا إليه.(2/178)
فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليعطوكه لئلا تأتي محمدًا لتعرض لما قاله. فقال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا. قال أبو جهل: فقيل فيه قولًا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن1، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا؛ ووالله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر. فلما فكر قال: "هذا سحر يؤثر" يأثره عن غيره.
ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم قال لهم الوليد: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، ولا هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق، وإن أقرب القول إنه ساحر، وإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه، والمرء وزوجته، والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس. ا. هـ.2 فتأمل كيف وصف تأثير القرآن في النفس العربية، حتى ينتزع الرجل من أهله وعشيرته وخاص أهله وعشيرته انتزاعًا كأنه مسلوب العقل، فلا يتمكث ولا يلوي على شيء، وإذن ذلك الكلام كله لو أريد إجماله لم تسعه غير هاتين الكلمتين: "السياسة المنطقية"3.
ولو أنعمت على تأمل هذه الجهة لانكشف لك السبب الذي من أجله لا نرى في كل ما يؤثر عن أهل هذه اللغة قولًا معجزًا، ولو اعترضت كثيرًا وكثيرًا من الجيد الرائع في الكلام، وقرنت بعضه إلى
__________
1 تجد بسط هذا في باب الرواية في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 تختلف ألفاظ الروايات التي وردت في هذا المعنى وما قبله زيادة ونقصانًا، ولكن مرجعها كلها إلى شيء واحد، وقد نزلت في الوليد بعد تفكيره وقوله في القرآن إنه سحر آيات في سورة المدثر، وهي قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى ما بعدها من السورة. فذلك نص في ثبوت القول، والثقول نص في ثبوت معناه، والمعنى في هذا الباب شاهد قاطع.
3 رأينا لبعض علماء الأندلس كلمة حسنة تتم بتحصيلها الفائدة قال: إن أعظم المعجزات وأوضحها دلالة: القرآن الكريم؛ لأن الخوارق في الغالب مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي وتأتي به المعجزة شاهدة، والقرآن هو نفسه الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه لا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه، فهو أوضح دلالة، لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة، وهو كونها نفس الوحي، كان المصدق لها أكثر. ا. هـ.
قلنا: وهذا الحديث يجمع كل ما قدمناه من القول في إعجاز القرآن؛ لأنه وحي بمعانيه وألفاظه، فهو بائن بنفسه من الكلام الإنساني، ولا بد أن يكون فائدة للناس كافة ليعملوا، وصادقًا على الناس كافة ليستفيدوا، ومعجزًا للناس كافة ليصدقوا.(2/179)
بعض، وبلغت من البيان ما أنت بالغ؛ لأن كل ذلك ليس من القرآن في نسق ولا طريقة، وإن اتفق له منهما شيء اختلفت عليها منهما أشياء.
بيد أنك تقرأ الآيات القليلة من هذا الكتاب الكريم؛ فتراها في هذا النسق وتلك الطريقة بكل ما في اللغة؛ لأنها متميزة بصفتها، وبائنة بنسقها؛ ومتى اعتبرنا الشيء بطريقته التي يغالي به من أجلها، كان الترجيح عند المعادلة للطريقة نفسها؛ فلا عجب أن ظهرت طريقة القرآن بالكلمات القليلة منها على جملة اللغة بما وسعت، ولا بدع أن يكون التحدي من هذه الطريقة بمثل تلك الكلمات على قلتها، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} .(2/180)
الخاتمة:
وبعد، فلا بد لنا من التنبيه على أنا في كل ما أسلفنا من القول في إعجاز القرآن أو الإشارة إلى بعض الوجوه المعجزة فيه، إنما أجملنا تفصيلًا، وأتينا بما أتينا به تحصيلًا، فاكتفينا من ذلك بما يرشد إلى أمثاله، واقتصرنا من كل وجه على أصل المعنى دون مثاله؛ فإن القرآن الكريم ليس كتابًا يتخير منه فيستجاد بعضه، ويصفح عن بعضه، إنما هو طريق مستبصر من أين أخذت فيه نفذت، ومن حيث تأديت به تهديت، وهو في كل معنى مما قدمناه سننه القائم، ومثاله الدائم.
ولقد صدفنا عن كثير مما اعترضنا وكان لا بد من انبساط القول فيه واتساع المادة به، مما لو تقصيناه لطال وبلغ بالقارئ مبلغ الملال، وعلى أنا لو ذهبنا نستقصي في استخراج كل معنى على حدوده وجهاته، ونستحمل النفس حاجة الشرح والتمثيل، والموازنة والتعليل، ونوسع هذا الباب اعتبارًا ونظرًا لخرجنا منه إلى ما يستنفذ العمر كله، وإن كنا لا نهاون بالنفس ولا نرفق بها في العمل؛ ولصرنا من بعد ذلك إلى فصل تعجز عنده المئونة، ويقصر مقدار العقل دونه، فإنما هو كتاب الله أحكمت آياته ثم فصلت من لدنه على حكمته وعلمه، فإن نفذ من أسراره في النظم والنسق، بقي ما وراء ذلك مما هو علة النظم والنسق؛ وإن استطعنا القول في كيفية إجماله، لم نستوعبه في كيفية تفصيله، إنا طريقنا في كل ذلك دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير، وجهدنا فيه أن نلزم جانب الأصل اللغوي في الإعجاز حتى لا ندع أحدًا على لبس من هذا الأمر، الذي هو علة ما وراءه وله ما بعده؛ وغايتنا منه أن نكشف عن أسرار المعجزة التاريخية التي بقيت إلى اليوم معضلة في تاريخ الأرض؛ وهي تأليف العرب على تعاديهم وتنافرهم، والزحف بهم على قتلهم وضعف وسائلهم، وتوثبهم على فقرهم وغنى سواهم حتى اكتسحوا دولة الفرس، والتحفوا على مملكة الروم، وهما يومئذ الدنيا القديمة وهما العينان في رأس التاريخ، وقد توافقت جيوشهما والتحمت في مواطن القتال، وسعروا الأرض نارًا وحربًا مدة ثلاثة قرون أو حول ذلك؛ حتى استحكمت لهم صيغ الحروب، واستجمعوا فيها الرأي من جهاته، وكانت لهم الدربة على قيادة الجيوش، وكانوا أهل الرياسة والنباهة في كل ما وصفناه.
ولولا القرآن وما بسطنا في أمره في كل ما سلف، وأنه على تلك الجهات المعجزة، لما أدرك العرب في أمرهم دركًا، ولفاتهم من ذلك الفوت كله، وإنما العرب نفوسهم وقرائحهم، وإنما القرآن بلاغته وفصاحته؛ وعلى هذا قوله تعالى في خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} فذلك ما علمت.
ونحن نرجو في البيان الذي قصدنا إليه، أن نكون قد عرَّفنا على حقه وصدقه، وجئنا به من فصه ونصه، بلغنا من جملته ما لا يقصر عن الإفادة، إن قصر عن الإجادة، وما لا ينزل مقداره إلى حد(2/181)
النقصان إن لم يبلغ حد الزيادة، وأن نكون قد كفينا، وإن لم نكن استوفينا، فإنما هو أمر كما عرفت لم يوطئ له من قبلنا بأسباب، وبناء من الكلام قد أشرفوا عليه ولكنهم لم يأتوه من "هذا الباب"1.
__________
1 كان هذا الكتاب كله "بابًا" من أبواب كتابنا "تاريخ آداب العرب" فالتورية من هنا.(2/182)
الباب الرابع: البلاغة النبوية
فصل: البلاغة الإنسانية
هذه هي البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تصنع وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يتكلف لها وهي على السهولة بعيدة ممنوعة.
ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي ولكنها جاءت من سبيله وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله، محكمة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمة مفصولة. وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم.
إن خرجت في الموعظة قلت أنين من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلت صورة بشرية من الروح في منزع يلين فينفر بالدموع ويشتد فينزو بالدماء وإن أراك القرآن أنه خطاب السماء للأرض أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء.
وهي البلاغة النبوية، تعرف الحقيقة فيها كأنها فكر صريح من أفكار الخليفة؛ وتجيء بالمجاز الغريب فترى من غرابته أنه مجاز في حقيقة. وهي من البيان في إيجاز تتردد فيه "عين" البليغ فتعرفه مع إجاز القرآن فرعين؛ فمن رآه غير قريب من ذلك الإعجاز فليعلم أنه لم يلحق به هذه "العين"2. على أنه سواء في سهولة إطماعه؛ وفي صعوبة امتناعه؛ إن أخذ أبلغ الناس في ناحيته، لم يأخذ بناصيته، وإن أقدم على غير نظر فيه رجع مبصرًا، وإن جرى في معارضته انتهى مقصرًا.
__________
1 يقول مصححه: وللمؤلف حديث آخر عن البلاغة النبوية تناوله من غير هذا الوجه، في الجزء الثالث من كتاب "وحي القلم".
2 فليعلم هذا الناظر أنه غير بليغ، وإذا جعلت بدل الياء في لفظ "الإيجاز" عينًا صار "الإعجاز"، فالتورية ظاهرة في "العين".(2/185)
فصاحته صلى الله عليه وسلم:
سنقول في هذا الباب بما يحضرنا من جملة القول، لا نسترسل في الاتساع ولا نبسط كله، كما أننا لا نقف دون القصد، ولا ننكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابنا، فإنا لو ذهبنا نستقصي في الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سببًا من الأسباب، أو يداخله جهة من الجهات، أو يتعلق به ضربًا من التعلق، لذهبنا إلى سعة من القول، وإلى فنون مختلفة من التاريخ وفلسفته، تحفل ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكنا سنقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد وسعنا العذر بما اعتذرنا.
أما فصاحته "صلى الله عليه وسلم" فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعًا مقدرًا على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع، ومن كلمة غيرها أليق، ومعنى غيره أرد، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قل ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به.
بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه؛ ولا تستزله الفجاءة وما بيده من أغراض الكلام1 عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقًا يتصفح منه صاعدًا أو منحدرًا؛ ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية كما سنعرف.
وإن كان كلامه صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ: "هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط؛ والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي؛ فلم ينطق عن ميراث حكمه، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه وغشاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع
__________
1 أي: يقتضيه للقول عن البداهة، وما يفجأه من أغراض الكلام البعيدة التي تحتاج إلى التقدير والروية وبعد النظر.(2/186)
استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج1 إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز2، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر؛ ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه صلى الله عليه وسلم" ا. هـ.
ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا، إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة؛ ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات آداب العرب، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بيهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ.
فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه؛ كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها؛ فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدهم لفظًا، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.
ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيا بعد حي وقبيلًا بعد قبيل، حتى يفلي لغاتهم، ويتتبع مناطقهم، مستفرغًا في ذلك متوفرًا عليه، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتهيأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه3 علمًا ليس بالظن، ويقينًا لا مساغ للشبهة فيه؛ إذ ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم؛ فما عرف أن أحدًا منهم تقصص اللغات وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع واختلاف الصيغ وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم أو ينتحله فيهم؛ بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأنًا، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها؛ فليس إلا أن يكون ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قد كان توفيقًا وإلهامًا من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم
__________
1 أي: الفوز والظفر.
2 لا يغتاب ولا يعيب.
3 قلنا على ذلك الوجه؛ لأن قريشًا كانوا أهل تجارة، وكانوا يضربون في الأرض ولهم رحلة الشتاء والصيف، ثم كانت تتوافى إليهم قبائل العرب في الموسم وتختلط بهم في الأسواق، وخاصة في عكاظ، فلا بد أن يكون في ألسنتهم كثير من ألفاظ العرب، ولكن هذا غير ما نحن فيه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بالغريب من لغتهم، وكان أصحابه لا يفهمون أكثر ذلك، كما ستأتي الإشارة إليه في موضعه.(2/187)
يكن يعلم؛ حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم؛ لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة.
فهذه واحدة، وأما الثانية فقد كان صلى الله عليه وسلم في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفًا، ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجمعة والذهن الحاد والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع.
وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها كالنبي صلى الله عليه وسلم فهو اصطنعه لوحيه، ونصبه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته؛ وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام وجماع الطبيعة وصفاء الحاسة وثقوب الذهن واجتماع النفس وقوة الفطرة ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض.
ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها فإنما هذه سبيله؛ يأتي من ورائها وهي الأسباب إليه1؛ وقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم وتقلب في أفصح القبائل وأخلصها منطقًا، وأعذبها بيانًا، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر" 2 وهو قول أرسله في العرب جميعًا، والفصاحة أكبر أمرهم والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم، ولا ردوه، ولا غضوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلًا، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقًا،
__________
1 فصلنا هذا المعنى في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
2 هم بنو سعد بن بكر "وقد ذكرهم في الجزء الأول في "أفصح القبائل" وكانوا من العرب الضاربة حول مكة، وكان أطفال القرشيين يتبدون فيهم وفي غيرهم يطلبون بذلك نشأة الفصاحة، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية، وخاصة إلى قبيلة عدوان في شرق الطائف وهي قريبة من بني سعد، وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية، وصحة النشأة، وحرية النزعة. وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة يتوارثونها في التربية العربية من قديم. وبنو سعد هؤلاء، غير بني سعد بن زيد مناة بن تميم الذين من لغتهم إبدال الحاء هاء لقرب المخرج، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة.
والرواة جميعًا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة وحسن البيان.(2/188)
ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ثم لجعلوا من ذلك سببًا لنقض دعوته والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا منه الفصاحة على أتم وجوهها وأشرف مذاهبها ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء؛ لا يستكره في بيانه معنى، ولا يند في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف ولا يشق عليه منزع، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما ليس منه، والتحيف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع؛ إلى أمثال أخرى لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصًا لا شوب فيه، وكأنما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه. ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرضوا، ولكان ذلك مأثورًا عنهم دائرًا على ألسنتهم، مستفيضًا في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردوا عليه القرآن ولم يستطع أن يقول لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلس حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خلص لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانًا، وأبينهم بيانًا، وخاصة في أول النبوة وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته واطرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، كما ستعرفه، علمنا قطعًا وضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافيًا بغيره، كافيًا من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم، و {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .(2/189)
صفته صلى الله عليه وسلم:
ليس في التاريخ العربي كله من جمعت صفاته وأحصيت شمائله وتواتر النقل بذلك جميعه من طرق مختلفة على توثيق إسنادها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل لا يعدل به شيء في بيان حقائق الأخلاق، والاستدلال على قوة الملكات، واستخرج الصفات النفسية التي حصل من مجموعها أسلوب الكلام على هيئته وجهته، وانفراد بما عسى أن يكون منفردًا به، أو شارك فيما عسى أن يكون مشاركًا فيه؛ وعلى هذه الجهة نأتي بطرف من صفته صلى الله عليه وسلم.
فعن الحسين بن علي "رضي الله عنهما" قال: سألت هند بن أبي هالة، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وصافًا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع1 وأقصر من المشذب2، عظيم الهامة، رجل الشعر3 إن انفرقت عقيقته فرق4 وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنبه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ من غير قرن5 بينها عرق يدره الغضب؛ أقنى العرنين6 له نور يعلوه7 ويحسبه من لم يتأمله أشم؛ كث اللحية أدعج8، سهل الخدين ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان9 دقيق المسربة10، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا11 سواء البطن والصدر12 بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس13
__________
1 المربوع، والربعة: الرجل بين الطول والقصر، لا بالطويل ولا بالقصير.
2 المشذب: البائن الطول في نحافة.
3 الشعر الرجل "بكسر الجيم وسكونها تخفيفًا": الذي كأنه مشط فتكسر قليلًا ليس بسبط ولا جعد.
4 هي شعر الرأس، والمراد إن انفرقت من ذلك نفسها فرقها، وإلا تركها معقوصة.
5 الحاجب الأزج أي: المقوس الطويل الوافر الشعر. والقرن: اتصال شعر الحاجبين، وضد البلج.
6 الأقنى: السائل الأنف المرتفع وسطه.
7 رزق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحشمة والمكانة في القلوب والعظمة ما لم يفارقه منه نشأ. فكان ذلك له عند الجاهلية وبعدها، ولقد كانوا يكذبونه ويؤذون أصحابه ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته, وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته من لم يره من قبل وربما أرعد فرقًا.
8 الأدعج: الشديد سواد الحدقة.
9 الفلج: فرق بين الثنايا. والشنب: رونق الأسنان وماؤها، وقيل رقتها وتحزيز فيها كما يوجد في أسنان الشباب. والفم الضليع أي: الواسع.
10 المسربة: خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة.
11 البادن: ذو اللحم. والمتماسك: الذي يمسك بعضه بعضًا، أي: هو بادن من عضل لا من شحم.
12 أي: مستويهما، فليس له بطن مرتفع ضخم.
13 الكراديس: رءوس العظام.(2/190)
أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعيين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين؛ رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف1 سبط العصب خمصان الأخمصين2 مسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال تقلعًا ويخطو تكفؤًا، ويمشي هونًا3 ذريع المشية: إذا مشى كأنما ينحط من صبب4، وإذا التفت التفت جميعًا5 خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام".
قلت: صف لي منطقه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت6، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه7 ويتكلم بجوامع الكلم8 فضلًا لا فضول فيه ولا تقصير9 دمثًا ليس بالجافي ولا المهين10، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم شيئًا، لم يكن يذم ذواقًا11 ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه؛ جل ضحكه التبسم12، ويفتر عن مثل حب الغمام". ا. هـ.
ولقد أفاضوا في تحقيق أوصافه صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك ألفاظًا ومعاني ونقلوا الكثير الطيب من هذه الأوصاف الكريمة في كل باب من محاسن الأخلاق، مما لا يتسع هذا الموضع لبسطه، فتأمل أنت هذه الصفات واعتبر بعضها ببعض في جملتها وتفصيلها، فإنك متوسم منها أروع ما عسى أن تدل عليه
__________
1 سائل الأطراف أي: طويل الأصابع. وشثن الكفين والقدمين أي: لحيمهما، ورحب الراحة أي: واسعها.
2 أي: متجافي أخمص القدم، والأخمص؛ هو الموضع الذي لا تناله الأرض من وسط القدم. ومسيح القدمين أي: أملسهما.
3 الهون: الرفق والوقار. والتكفؤ: الميل إلى سنن الممشى وقصده. والتقلع: رفع الرجل بقوة، وهذه صفات أقوى الناس في مشيته، وهي تكون من تماسك الجسم ووزنه وشدته.
4 أي: من علو، والذريع الواسع الخطو.
5 أي: لا يلوي بعض جسمه حين يلتفت، بل ينفتل بجميع جسمه، وهي حالة تكون من بلوغ القوة منتهاها.
6 في بعض الأحاديث: كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير.
7 أي: يستعمل جميع فمه للتكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين، وذلك من قوة المنطق والصوت والمعنى، وحضور الذهن واجتماعه.
8 هي التي تجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة مع حكمة وسمو وبلاغة.
9 أي: قولًا فصلًا يصيب به مقطع المعنى، لا حشو فيه فيزيد ولا تقصير فيقل.
10 الدماثة: سهولة الخلق. والجفاء: غلظه.
11 هو ما يتذوق من الطعام.
12 كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تبسمًا وأطيبهم نفسًا. ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب، وقد تختلف الروايات في بعض ما مر من هذا الحديث الذي نقلناه، فلم نر حاجة إلى إثبات الاختلاف أو الاستقصاء فيه وهو بعد مبسوط في كتبه كشرح المواهب للزرقاني، وشرح الشفاء وغيرهما.(2/191)
دلائل الحكمة، وسمة الفضيلة، وشدة النفس وبعد الهمة، ونفاذ العزيمة، وإحكام خطة الرأي، وإحراز جانب الخلق الإنساني الكريم.
وانظر كيف يكون الإنسان الذي تسع نفسه ما بين الأرض وسمائها وتجمع الإنسانية بمعانيها وأسمائها، فهو في صلته بالسماء كأنه ملك من الأملاك، وفي صلته بالأرض كأنه فلك من الأفلاك، وما خص بتلك الصفات إلا ليملأ بها الكون ويعمه، ولا كان فردًا في أخلاقه إلا لتكون من أخلاقه روح الأمة.
وإذا رجعت النظر في تلك الصفات الكريمة واعتبرتها بآثارها ومعانيها رأيت كيف يكون الأساس الذي تبنى عليه فراسة الكمال في نوع الإنسان من دلالة الظاهر على الباطل، وتحصيل الحقيقة النفسية التي هي بطبيعتها روح الإنسان في أعماله، أو أثر هذه الروح، أو بقية هذا الأثر، فإذا تأملتها متسقة وتمثلتها قائمة في جملة النفس، وأنعمت على تأمل صورها الكلامية التي تبعث الكلام وتزنه وتنظمه وتعطيه الأسلوب وتجمله بالرأي وتزينه بالمعنى، فإنك ستجد من ذلك أبلغ ما أنت واجده من الأساليب العصبية في هذه اللغة وأشدها وأحكمها، مما لا يضطرب به الضعف، ولا تزايله الحكمة ولا تخذله الروية، ولا يباينه الصواب، بل يخرج رصينًا غير متهافت، متسقًا غير متفاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يضبطه العقل، ولا يتوثب به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه بل تراه على استواء واحد في شدة وقوة واندماج وتوفيق.
وهذا هو الأسلوب العصبي الممتلئ الذي قلما يتفق منه إلا القليل لأبلغ الناس وأفصحهم. وقلما يكون أبلغ الناس وأفصحهم في كل دهر إلا عصبيا على تفاوت في نوع المزاج وحالته؛ فإن من الأمزجة العصبي البحت، والمنحرف إلى مزاج آخر ولكل من النوعين حالة قائمة بالكلام، وصفة خاصة بالأسلوب.
وبالجملة، فإن الندرة في الأساليب العصبية أن تجد منها ما إذا أصبته موثق السرد متدامج الفقرة محبوك الألفاظ جيد النحت بالغ السبك أن تجده مع ذلك رصينًا مثبتًا في نسق معانيه وألفاظه، لا يتزيد بهذه ولا يتكثر بتلك، لا يخالطه من فنون الأقاويل ما تستطيع أن تنفيه، ولا يتولاه ما تتأتى إليه من وجه التخطئة؛ وأن تجده بحيث يمتنع أن تقول فيه قولًا، أو تذهب فيه مذهبًا؛ وبحيث تراه من كل جهة متسايرًا لا يتصادم ومطردًا لا يتخلف.
ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوبًا يجتمع له من تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواء في الحدة والرصانة، مبنيا من الفكرة بناء الجسم من اللحم، متوازنًا في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مسحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار, وتراه في ظاهره وحقيقته كالنجم المتقد, يكون في نفسك نورًا وهو في نفسه نار.
لسنا نعرف أسلوبًا لأحد البلغاء هذه صفته، على كثرة ما قرأنا وتدبرنا واستخرجنا، وعلى أنه لم يفتنا من أقوال الفصحاء قول مأثور، أو كلام مشهور إلا ما يمكن أن يجزئ بعضه من بعضه في هذه(2/192)
الدلالة، فإنا لم نقرأ كل ما كتب عبد الحميد، وابن المقفع، والجاحظ، وهذه الطبقة العصبية، ولكنا قرأنا لهم كثيرًا أو قليلًا، وبعض ذلك في حكم سائره؛ لأن الأسلوب واحد والطريقة واحدة، ومذهب الموجود هو مذهب المفقود، ولم نجد ألبتة في هذا الباب غير أسلوب أفصح العرب صلى الله عليه وسلم فإن هذا الكلام النبوي لا يعتريه شيء مما سمينا لك آنفًا، بل تجده قصدًا محكمًا متسايرًا يشد بعضه بعضًا وكأنه صورة روحية لأشد خلق الله طبيعة، وأقواهم نفسًا وأصوبهم رأيًا، وأبلغهم معنى، وأبعدهم نظرًا، وأكرمهم خلقًا؛ وهذا وشبهه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعث عليها الطبع الحديد والخلق الشديد، ويخرجها من كل أمر متكافئة متوازنة، بحيث يظهر أثر النفس في كل عمل، فيأتي وكأنه من ذلك نفس على حدة. ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .
وعلى هذه الجهة، لا على غيرها، يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين قال له رضي الله عنه: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك فمن أدبك "أي: علمك"؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" وقوله مثل ذلك لعلي أيضًا، كما سيأتي في موضعه؛ ثم قوله: "أنا أفصح العرب" وما كان من هذا المعنى؛ لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خص الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؛ إذ الاستحالة راجعة إلى الطبع والجبلة وخلق الفطرة، مما لا يتغير في الناس إلا أن يخرق الله به العادة على وجه المعجزة ليقضي أمرًا من أمره، وأنى لامرئ بذلك من العرب غير النبي صلى الله عليه وسلم؟
وهذا الذي أشرنا إليه آنفًا، وإنما هو الأصل في أن الكلام النبوي جامع مجتمع، لا يذهب في الأعم الأغلب إلى الإطالة بل كالتمثال, يأتي مقدرًا في مادته ومعانيه وأسلوب الجمع بينها وربط الصورة بالمعنى كما ستأتي عليه بعد.
وأما الآن فإنا نقول قول أديبنا الجاحظ رحمه الله، فإنه بعد أن وصف هذا الكلام السري بما نقلناه عنه في موضعه خشي أن يظن بعض الناس أنه أفرط على ذلك الوصف، وبالغ في الحمل عليه مما حمل، فقال: ولعل من لم يتسع في العلم، ولا يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدره.
"وكلا والذي حرم التزيد عند العلماء. وقبح التكلف عند الحكماء. وبهرج الكذابين عند الفقهاء لا يظن هذا إلا من ضل سعيه".
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم.(2/193)
إحكام منطقه صلى الله عليه وسلم:
قد رأيت فيما مر من صفته عليه الصلاة والسلام أنه ضليع الفم، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسب. ولقد كانت العرب تتمادح بسعة الفم وتذم بصغره؛ لأن السعة أدل على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجهارة الأداء وإشباع ذلك في الجملة؛ ولأن طبيعة لغتهم ومخارج حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسن في النطق إلا به، ولا تبلغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعد مزيتها الظاهرة في أفصح أساليبها، إذ كانت الفصاحة راحة إلى حسن الملاءمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستوي في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، كما بسطناه في كل موضع اقتضاه من هذا الكتاب.
وذلك أمر لم يكن علم أولئك القوم به على الهاجس والظن, أو المقاربة والتقدير إنما هو أساس منطقهم، وعتاد لغتهم، فكانوا سواء بالمعرفة به وفي الحاجة إليه، من استوفاه منهم اتسقت له الفضيلة البينة، ومن قصر فيه أخمله تقصيره حتى كأنما انطوت حقيقته العربية في فمه، أو كأنما أكل نفسه.. ولهم في كل ذلك من البيان والصوت أخبار وأشعار لا حاجة بنا إلى تمثلها وقصها.
وهذا الذي أومأنا إليه من أمرهم، هو السبب في أن كل من يتصافح في هذه العربية لا يعدو في جملة وسائله التي يستعين بها أن ينتحل سعة الشدق, وتهدل الشفة، ويبالغ في استعمال جميع فمه على كل وجه، يلتمس بذلك تحقيق الحروف، وجهارة البيان، وتفخيم الأداء، ووزن المخارج، إذ كانت هذه هي الدلائل الطبيعية على الفصاحة، وهو أمر لا يستقيم له إلا إذا مط الكلام ومضغ الحروف وتفيهق1 وكد حنجرته، وجعل كل شدق من شدقيه كأنه فم وحده، وذلك تكلف قد ذمه العرب وكرهوه، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه2؛ لأنه غير طبيعي فيمن يتكلفه، وهو كذلك مبالغة تأباها طبيعة اللغة، ولا تتفق مع أسبابها وعللها، إذ تحيل هذه اللغة إلى السماحة وتستغرقها بصناعة الصوت، وتنفي عنها طبيعة اللين والعذوبة، وتجمع عليها تعقيد الصوت، واستكراهه، وجسأته؛ وذلك كله في الذم والكراهة عندهم بسبيل من الصفات التي يعتدونها في عيوب المنطق، خلقة كالتمتمة والفأفأة والرتة ونحوها، مما أحصيناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، أو تخلفًا، كالتنطع، والتمطق، والتفيهق3، وما إليها.
فكانت محاسن هذا الباب في النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة كما رأيت؛ لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه
__________
1 أي: تكلم من أقصى فمه.
2 في الحديث الشريف: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون". وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "إياكم والتشادق"!
3 مر آنفًا معنى التفيهق؛ أما التمطق: فهو ضم الشفتين ورفع اللسان إلى الغار الأعلى للفم. والتنطع: رمي اللسان إلى نطع الفم أي: إلى الغار الأعلى، وهو كالتمطق؛ إلا أن هذا أبلغ منه وأوسع.(2/194)
مع ذلك بحسن الصوت1 وهو تمامها وحليتها، فإن هذه اللغة خاصة تجمل بذلك ما لا تجمل به سائر اللغات. لما فيها من معاني الأوضاع الموسيقية في خفة الوزن، وصحة الاعتدال، وتمام التساوي، وحسن الملاءمة، فلا جرم كان منطقه صلى الله عليه وسلم على أتم ما يتفق في طبيعة اللغة ويتهيأ لها إحكام الضبط وإتقان الأداء: لفظ مشيع، ولسان بليل، وتجويد فخم، ومنطق عذب، وفصاحة متأدية، ونظم متساوق وطبع بجمع ذلك كله، مع تثبت وتحفظ وتبيين وترسل وترتيل2.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا3. ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه. وفي رواية أخرى عنها أيضًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه.
فأنت ترى أن هذا هو المنطق الذي يمر بالفكر قبل أن ينطق إلى الفم وأن العقل فيه من وراء اللسان فهو غالب عليه مصرف له، حتى لا يعتريه لبس، ولا يتخونه نقص، وليس إحكام الأداء وروعة الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم إلا صفات كانت فيه صلى الله عليه وسلم عند أسبابها الطبيعية. كما مر آنفًا. لم يتكلف لها عملًا. ولا ارتاض من أجلها رياضة بل خلق مستكمل الأداة فيها، ونشأ متوفر الأسباب عليها. كأنه صورة تامة من الطبيعة العربية.
ولا تمنع أن يكون من فصحاء العرب من يشاركه فيها أو في بعضها, فإنها مظاهر للكلام لا غير؛ وإنما الشأن الذي انفرد به صلى الله عليه وسلم أنه منزه عن النقص الذي يعتري الفصحاء من جهتها أحيانًا كثيرة وقليلة؛ لأنها طبيعية فيه؛ ولأن من ورائها تلك النفس العظيمة الكاملة التي غلبت على كل أثر إنساني يصدر عنها، حتى قرت أعمالها على نظام لا تعد فيه الفلتة، ولا يؤخذ عليه مأخذ، وحتى كأن كل عمل منها هو كذلك في أصل التركيب وطبع الخلقة وهذه خصوصية ينفرد بها الأنبياء صلوات الله عليهم، إذ هم أمثلة الكمال الإنساني في هذه الخليقة، تنصبهم يد الله على طريق الحياة لتنتهي فيهم عصور وتبتدئ بهم عصور وليسددوا خطا العقل في تاريخه وهي من الجهة اللغوية مما انفرد به نبينا صلى الله عليه وسلم في عربيته، وما يمنعه منها وإنما أنزل القرآن بلسانه لسان عربي مبين.
فهذا وجه الأمر وسبيله. وهذا فرق ما بينه صلى الله عليه وسلم وبين الفصحاء، من جهة إحكام المنطق وامتلائه، فإن أحدهم يكون مهيأ لذلك من أصل الخلقة؛ وبطبيعة النشأة بيد أن طباعه لا تتوافى إليه في كل منطق وفي كل عبارة؛ بل ربما غلبت خصلة على أختها، وربما تخاذلت طبيعة من طباعه وربما رك4 لفظه لبعض الضعف في معناه فخرج من عادته في النطق به، وربما اضطربت نفسه في حالة من الأحوال، أو تراجع طبعه لسبب من الأسباب؛ فيضطرب كلامه، ويضطرب كذلك منطقه، وربما نطق
__________
1 عن قتادة قال: ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت؛ وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم حسن الوجه حسن الصوت.
2 أي: التمهل وتحقيق الحروف والحركات في النطق.
3 السرد: متابعة الكلام على الولاء والاستعجال به، وقد يراد به أيضًا جودة سياق الحديث، فكأنه من الأضداد.
4 يراد باللفظ الركيك: ما ضعفت بنيته وقلت فائدته, واشتقاقه من الركة, وهي المطر الضعيف، وقيل من الرك: وهو الماء القليل على وجه الأرض فانظر كيف خرج في كلامهم هذا المعنى.(2/195)