وقد ذكر الله جل وعز في قصة إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، فقال حكاية عنهم: " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ". فكان كلامه سبباً لنجاته، وعلة لخلاصه، وكان كلامه عند ذلك أحمد من صمت غيره في مثل ذلك الموضع، لأنه عليه السلام لو سكت عند سؤالهم إياه لم يكن سكوته إلا على بصر وعلم، وإنما تكلم لأنه رأى الكلام أفضل، وأن من تكلم فأحسن قدر أن يسكت فيحسن، وليس من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن.
واعلم - حفظك الله - أن الكلام سبب لإيجاب الفضل، وهداية إلى معرفة أهل الطول.
ولولا الكلام لم يكن يعرف الفاضل من المفضول، في معان كثيرة، لقول الله عز وجل، في بيان يوسف عليه السلام وكلامه عند عزيز مصر، لما كلمه فقال: " إنك اليوم لدينا مكين أمين ". فلو لم يكن يوسف عليه السلام أظهر فضله بالكلام، والإفصاح بالبيان، مع محاسنه المونقة، وأخلاقه الطاهرة، وطبائعه الشريفة، لما عرف العزيز فضله، ولا بلغ تلك المنزلة لديه، ولا حل ذلك المحل منه، ولا صار(4/234)
عنده بموضع الأمانة، ولكان في عداد غيره ومنزلة سواه عند العزيز. ولكن الله جعل كلامه سبباً لرفع منزلته، وعلو مرتبته، وعلة لمعرفة فضيلته، ووسيلة لتفضيل العزيز إياه.
ولم أر للصمت فضيلة في معنى ولا للسكوت منقبة في شيء إلا وفضيلة الكلام فيها أكثر، ونصيب المنطق عندها أوفر، واللفظ بها أشهر. وكفى بالكلام فضلاً، وبالمنطق منقبة، أن جعل الله الكلام سبيل تهليله وتحميده، والدال على معالم دينه وشرائع إيمانه، والدليل إلى رضوانه. ولم يرض من أحد من خلقه إيماناً إلا بالإقرار، وجعل مسلكه اللسان، ومجراه فيه البيان، وصيره المعبر عما يضمره والمبين عما يخبره، والمنبىء عن ما لا يستطيع بيانه إلا به. وهو ترجمان القلب. والقلب وعاء واع.
ولم يحمد الصمت من أحد إلا توقياً لعجزه عن إدراك الحق والصواب في إصابة المعنى. وإنما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين عند جهلهم الله تعالى وإنكارهم إياه، ليقروا به، فإذا فعلوه حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ورعيت ذمتهم. ولو أنهم سكتوا ضناً بدينهم لم يكن سبيلهم إلا العطب.(4/235)
فاعلم أن الكلام من أسباب الخير لا من أسباب الشر.
والكلام - أبقاك الله - سبيل التمييز بين الناس والبهائم، وسبب المعرفة لفضل الآدميين على سائر الحيوان، قال الله عز وجل: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ". كرمهم باللسان وجملهم بالتدبر.
ولو لم يكن الكلام لما استوجب أحد النعمة، ولا أقام على أداء ما وجب عليه من الشكر سبباً للزيادة، وعلة لامتحان قلوب العباد. والشكر بالإظهار في القول، والإبانة باللسان. ولا يعرف الشكر إلا بهما. والله تعالى يقول: " لئن شكرتم لأزيدنكم "، فجعل الشكر علة لوجوب الزيادة، عند إظهاره بالقول، والحمد مفتاحاً للنعمة.
وقد جاء في بعض الآثار: لو أن رجلاً ذكر الله تعالى وآخر يسمع له كان المعدود للمستمع من الأجر، والمذكور له من الثواب واحداً وللمتكلم به عشرة أو أكثر.
فهل ترى - أبقاك الله - أنه وجب لصاحب العشر ذلك وفضل(4/236)
به على صاحبه إلا عند استعماله بالنطق به لسانه. ولم يلزم الصمت أحد إلا على حسب وقوع الجهل عليه. فأما إذا كان الرجل نبيها مميزاً، عالماً مفوها فالصمت مهجن لعلمه وساتر لفضله. كالقداحة لم يستبن نفعها دون تزنيدها. ولذلك قيل: " من جهل علماً عاداه ".
فصل منها
ولم أجد الصامت مستعاناً به في شيء من المعاني، ولا مذكوراً في المحافل.
ولم يذكر الخطباء ولا قدمتهم الوفود عند الخلفاء إلا لما عرفوه من فضل لسانهم وفضيلة بيانهم. وإن أصح ما يوجد في المعقول، وأوضح ما يعد في المحصول للعرب من الفضل، فصاحتها وحسن منطقها، بعد فضائلها المذكورة، وأيامها المشهورة.
ولفضل الفصاحة وحسن البيان بعث الله تعالى أفضل أنبيائه وأكرم رسله من العرب، وجعل لسانه عربياً، وأنزل عليه قرآنه عربياً، كما قال الله تعالى: " بلسان عربي مبين ". فلم يخص اللسان بالبيان، ولم يحمد بالبرهان إلا عند وجود الفضل في الكلام، وحسن العبارة عند المنطق، وحلاوة اللفظ عند السمع.
واعلم أن الله تعالى لم يرسل رسولاً ولا بعث نبياً إلا من كان فضله(4/237)
في كلامه وبيانه كفضله على المبعوث إليه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأحسنهم بياناً، وأسهلهم مخارج للكلام وأكثرهم فوائد من المعاني؛ لأنه كان من جماهير العرب، مولده في بني هاشم، وأخواله من بني زهرة، ورضاعه في بني سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد بن عبد العزى، ومهاجره إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر ".
ولو لم يكن مما عددنا من هؤلاء الأحياء إلا قريش وحدها لكان فيها مستغنىً عن غيرها، وكفاية عن من سواها، لأن قريشاً أفصح العرب لساناً وأفضلها بياناً، وأحضرها جواباً، وأحسنها بديهة، وأجمعها عند الكلام قلبا.
ثم للعرب أيضاً خصال كثيرة، ومشاهد كثيرة، مما يشاكل هذا الباب، ويضارع هذا المثال، حذفت ذكرها خوف التطويل فيها.(4/238)
فصل منها
فهذه كلها دلائل على دحض حجتك ونقض قضيتك. وإنما أرسل الله تعالى رسله مبشرين ومنذرين الأمم، وأمرهم بالإبلاغ ليلزمهم الحجة بالكلام لا بالصمت، إذ لا يكون للرسالة بلاغ ولا للحجة لزوم ولا للعلة ظهور إلا بالنطق.
فصل منها في صفة من يقدر على الإبانة
وليس يقوى على ذلك إلا امرؤ في طبيعته فضل عن احتمال نحيزته وفي قريحته زيادة من القوة على صناعته، ويكون حظه من الاقتدار في المنطق فوق قسطه من التغلب في الكلام، حتى لا يضع اللفظ الحر النبيل إلا على مثله من المعنى، ولا اللفظ الشريف الفخم إلا على مثله من المعنى. نعم، وحتى يعطي اللفظ حقه من البيان، ويوفر على الحديث قسطه من الصواب، ويجزل للكلام حظه من المعنى، ويضع جميعها مواضعها، ويصفها بصفتها، ويوفر عليها حقوقها من الإعراب والإفصاح.(4/239)
فصل منها
وبعد، فأي شيء أشهر منقبة وأرفع درجة وأكمل فضلاً، وأظهر نفعاً، وأعظم حرمة، من شيء لولا مكانه لم يثبت لله ربوبية ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتجلى في صورة الدليل.
ثم به يعرف فضل الجماعة من الفرقة، والشبهة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة.
والكلام سبب لتعرف حقائق الأديان، والقياس في تثبيت الربوبية وتصديق الرسالة، والامتحان للتعديل والتجوير والاضطرار والاختيار.(4/240)
فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام(4/241)
ذكرت - حفظك الله - تفضيلك صناعة الكلام، والذي خصصت به مذهب النظام، وشغفك بالمبالغة في النظر، وصبابتك بتهذيب النحل، مع أنسك بالجماعة، ووحشتك من الفرقة، والذي تم عليه عزمك من إدامة البحث والتنقير ومن حمل النفس على مكروهها من التفكير، ومن الانتساب إليهم والتعرف بهم. والذي تهيأ لك من الاحتساب في الأجر، والرغبة في صالح الذكر، والذي رأيت من النصب للرافضة والمارقة، وطول مفارقة المرجئة والنابتة، ولكل من اعترض عليهم، وانحرف عنهم، والذي يخص به الجبرية ويعم به المشبهة.
فيأيها المتكلم الجماعي، والمتفقه السني، والنظار المعتزني، الذي سمت همته إلى صناعة الكلام مع إدبار الدنيا عنها، واحتمل ما في التعرض للعوام من الثواب عليها، ولم يقنعه من الأديان إلا الخالص الممتحن ولا من النحل إلا الإبريز المهذب، ولا من التمييز إلا المحض المصفى. والذي رغب بنفسه عن تقليد الأغمار والحشوة، كما(4/243)
رغب عن ادعاء الإلهام والضرورة، ورغب عن ظلم القياس بقدر رغبته في شرف اليقين: إن صناعة الكلام علق نفيس، وجوهر ثمين، وهو الكنز الذي لا يفنى ولا يبلى، والصاحب الذي لا يمل ولا يغل، وهو العيار على كل صناعة، والزمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه، والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره، والذي كل أهل علم عليه عيال، وهو لكل تحصيل آلة ومثال.
ألا إنه ثغر والثغر محروس، وحمىً والحمى ممنوع، والحرم مصون، ولن تصونه إلا بابتذال نفسك دونه، ولن تمنعه إلا بأن تجود بمهجتك ومجهودك، ولن تحرسه إلا بالمخاطرة فيه. والثواب على قدر المشقة، والتوفيق على مقدار حسن النية.
وكيف لا يكون حرماً وبه عرفنا حرمة الشهر الحرام والحلال المنزل، والحرام المفصل؟ ! وكيف لا يكون ثغراً وكل الناس لأهله عدو، وكل الأمم له مطالب.(4/244)
وأحق الشيء بالتعظيم، وأولاه بأن يحتمل فيه كل عظيم ما كان مسلماً إلى معرفة الصغير والكبير، والحقير والخطير، وأداة لإظهار الغامض، وآلة لتخليص الغاشية، وسبباً للإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب.
وبه يستدل على صرف ما بين الشرين من النقصان، وعلى فضل ما بين الخيرين من الرجحان، والذي يصنع في العقول من العبارة وإعطاء الآلة مثل صنيع العقل في الروح، ومثل صنيع الروح في البدن.
وأي شيء أعظم من شيء لولا مكانه لم يثبت للرب ربوبية، ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتخيل في صورة الدليل. وبه يعرف الجماعة من الفرقة، والسنة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة.
فصل منه
واعلم أن لصناعة الكلام آفات كثيرة، وضروباً من المكروه عجيبة، منها ما هو ظاهر للعيون والعقول، ومنها ما يدرك بالعقول ولا يظهر للعيون، وبعضها وإن لم يظهر للعيون وكان مما يظهر للعقول فإنه لا يظهر إلا لكل عقل سليم جيد التركيب، وذهن صحيح خالص الجوهر، ثم لا يدركه أيضاً إلا بعد إدمان الفكر، وإلا بعد دراسة الكتب، وإلا(4/245)
بعد مناظرة الشكل الباهر، والمعلم الصابر. فإن أراد المبالغة وبلوغ أقصى النهاية، فلا بد من شهوة قوية، ومن تفضيله على كل صناعة، مع اليقين بأنه متى اجتهد أنجح، ومتى أدمن قرع الباب ولج.
فإذا أعطى العلم حقه من الرغبة فيه، أعطاه حقه من الثواب عليه.
فصل منه
ومن آفات صناعة الكلام أن يرى من أحسن بعضها أنه قد أحسنها كلها، وكل من خاصم فيها ظن أنه فوق من خاصمه حتى يرى المبتدىء أنه كالمنتهي ويخيل إلى الغبي أنه فوق الذكي. وأيضاً أنه يعرض عن أهله وينصب لأصحابه من لم ينظر في علم قط، ولم يخض في أدب منذ كان، ولم يدر ما التمثيل ولا التحصيل، ولا فرق ما بين الإهمال والتفكير.
وهذه الآفات لا تعتري الحساب ولا الكتاب، ولا أصحاب النحو والعروض، ولا أصحاب الخبر وحمال السير، ولا حفاظ الآثار ولا رواة الأشعار، ولا أصحاب الفرائض، ولا الخطباء ولا الشعراء، ولا أصحاب الأحكام ومن يفتي في الحلال والحرام، ولا أصحاب التأويل،(4/246)
ولا الأطباء ولا المنجمين ولا المهندسين، ولا لذي صناعة ولا لذي تجارة، ولا لذي عيلة ولا لذي مسألة.
فهم لهذه البلية مخصوصون، وعليها مقصورون، فللصابر منهم من الأجر حسب ما خص به من الصبر. وهي الصناعة لا يكاد تظهر قوتها ولا يبلغ أقصاها إلا مع حضور الخصم.
ولا يكاد الخصم يبلغ محبته منها إلا برفع الصوت وحركة اليد، ولا يكاد اجتماعهما يكون إلا في المحفل العظيم والاحتشاد من الخصوم، ولا تحتفل نفوسهما، ولا تجتمع قوتهما، ولا تجود القوة بمكنونها وتعطي أقصى ذخيرتها، التي استخزنت ليوم فقرها وحاجتها، إلا يوم جمع وساعة حفل. وهذه الحال داعية إلى حب الغلبة.
وليس شيء أدعى إلى التغلب من حب الغلبة. وطول رفع الصوت مع التغلب، وإفساد التغلب طباع المفسد، يوجبان فساد النية، ويمنعان من درك الحقيقة. ومتى خرجا من حد الاعتدال أخطآ جهة القصد.
وعلم الكلام بعد ملقىً من الظلم، متاح له الهضم. فهو أبداً محمول(4/247)
عليه ومبخوس حظه وباب الظلم إليه مفتوح، لا مانع له دونه.
والعلم بما فيه من الضرر يخفى على أكثر العقلاء، ويغمض على جمهور الأدباء. وإذا كان ملقىً من أكبر العقلاء، ومخذولاً عند أكثر الأدباء، فما ظنك بمن كان عقله ضعيفاً ونظره قصيراً؟ بل ما ظنك بالظلوم الغادر، والغمر الجاسر؟ فهذا سبيل العوام فيه، وجهل عوام الخواص به، وانحرافهم عنه، وميل الملوك عليه، وعداوة بعض لبعض فيه.
وصناعة الكلام كثيرة الدخلاء والأدعياء، قليلة الخلص والأصفياء والنجابة فيها غريبة، والشروط التي تستحكم بها الصناعة بعيدة سحيقة؛ ولدعي القوم من العجز ما ليس لصحيحهم، ولردي الطبع في صناعة الكلام من ادعاء المعرفة ما ليس للمطبوع عليها منهم، بل لا تكاد تجده إلا مغموراً بالحشوة مقصوداً بمخاتل السفلة.
ومن مظالم صناعة الكلام عند أصحاب الصناعات أن أصحاب الحساب والهندسة يزعمون أن سبيل الكلام سبيل اجتهاد الرأي، وسبيل صواب الحدس، وفي طريق التقريب والتمويه، وأنه ليس العلم إلا ما كان طبيعياً واضطرارياً لا تأويل له، ولا يحتمل معناه الوجوه المشتركة، ولا يتنازع ألفاظه الحدود المتشابهة. ويزعمون أنه ليس بين علمهم بالشيء الواحد أنه شيء واحد وأنه غير صاحبه فرق في معنى الإتقان والاستبانة، وثلج الصدور والحكم بغاية الثقة.(4/248)
فصل منه
فلو كان هذا المهندس الذي أبرم قضيته، وهذا الحاسب الذي قد شهر حكومته، نظر في الكلام بعقل صحيح وقريحة جيدة، وطبيعة مناسبة، وعناية تامة، وأعوان صدق وقلة شواغل، وشهوة للعلم، ويقين بالإصابة، لكان تهيب الحكم أزين به، والتوقي أولى به. فكيف بمن لا يكون عرف من صناعة الكلام ما يعرفه المقتصد فيه، والمتوسط له.
على أنا ما وجدنا مهندساً قط ولا رأينا حاسباً يقول ذلك إلا وهو ممن لا يتوقى سرف القول، ولا يشفق من لائمة المحصلين، وقضيته قضية من قد عرف الحقائق، واستبان العواقب، ووزن الأمور كلها وعجم المعاني بأسرها، وعلم من أين وثق كل واثق، ومن أين غر كل مغرور.
وعلى أنهم يقرون أن في الحساب ما لا يعلم، وأن في الهندسة ما لا يدرك ولا يفهم. والمتكلمون لا يقرون بذلك العجز في صناعتهم، وبذلك النقص في غرائزهم.
فصل منه
وأقول: إنه لو لم يكن في المتكلمين من الفضل إلا أنهم قد رأوا إدبار الدنيا عن علم الكلام، وإقبالها إلى الفتيا والأحكام، وإجماع(4/249)
الرعية والراعي على إغناء المفتي، وعلم الفتوى فرع؛ وإطباقهم على حرمان المتكلم، وعلم الكلام أصل، فلم يتركوا مع ذلك تكلفه، وشحت نفوسهم عن ذلك الحظ، مخافة إدخال الضيم على علم الأصل، وإشفاقاً من أن لا تسع طبائعهم اجتماع الأصل والفرع، فكان الفقر والقلة آثر عندهم مع إحكام الأصول، من الغنى والكثرة، مع حفظ الفروع، فتركوا أن يكونوا قضاة، وتركوا القضاة وتعديلهم وتركوا أن يكونوا حكاماً وقنعوا بأن يحكم عليهم، مع معرفتهم بأن آلتهم أتم، وآدابهم أكمل، وألسنتهم أحد، ونظرهم أثقب، وحفظهم أحضر، وموضع حفظهم أحصن.
والمتكلم اسم يشتمل على ما بين الأزرقي والغالي وعلى مادونها من الخارجي والرافضي، بل على جميع الشيعة وأصناف المعتزلة، بل على جميع المرجئة وأهل المذاهب الشاذة.(4/250)
فصل من صدر رسالته في مدح التجار وذم عمل السلطان(4/251)
أدام الله لك السلامة، وأسعدك بالنعمة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الفائزين.
فهمت كتاب صاحبك، ووقفت منه على تعد في القول، وحيف في الحكم؛ وسمعت قوله. وهو على كل حال حائر، وطريقه طريقهم، وكتبه تشاكل كتبهم، وألفاظه تطابق ألفاظهم.
وكذلك حالنا وحال صاحب كتابك فيما يسخطه من أمرنا، أني لا أعتذر منه، وأستنكف من الانتساب إليه، بل أستحي من الكتابة، وأستنكف بأن أنسب إليها من البلاغة أن أعرف بها في غير موضعها، ومن السجع أن يظهر مني، ومن الصنعة أن تعرف في كتبي، ومن العجب بكثير ما يكون مني.
وقديماً كره ذلك أهل المروءة والأنفة، وأهل الاختيار للصواب والصد عن الخطأ. حتى إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة، أملى كتاباً إلى رجل فقال فيه: " لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من(4/253)
كلاب الحرة " ثم قال: " امح: من كلاب الحرة، واكتب: من الكلاب ". كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، وأري أنه ليس في موضعه.
فصل منه
وهذا الكلام لا يزال ينجم من حشوة أتباع السلطان. فأما عليتهم ومصاصهم، وذوو البصائر والتمييز منهم، ومن فتقته الفطنة، وأرهفه التأديب، وأرهقه طول الفكر وجرى فيه الحياء وأحكمته التجارب، فعرف العواقب وأحكم التفصيل وتبطن غوامض التحصيل، فإنهم يعترفون بفضيلة التجار ويتمنون حالهم، ويحكمون لهم بالسلامة في الدين، وطيب الطعمة، ويعلمون أنهم أودع الناس بدناً وأهنؤهم عيشاً، وآمنهم سرباً، لأنهم في أفنيتهم كالملوك على أسرتهم، يرغب إليهم أهل الحاجات، وينزع إليهم ملتمسو البياعات، لا تلحقهم الذلة في مكاسبهم، ولا يستعبدهم الضرع لمعاملاتهم.(4/254)
وليس هكذا من لابس السلطان بنفسه، وقاربه بخدمته؛ فإن أولئك لباسهم الذلة، وشعارهم الملق، وقلوبهم ممن هم لهم خول مملوءة، قد لبسها الرعب، وألفها الذل، وصحبها ترقب الاحتياج؛ فهم مع هذا في تكدير وتنغيص، خوفاً من سطوة الرئيس وتنكيل الصاحب، وتغيير الدول، واعتراض حلول المحن. فإن هي حلت بهم، وكثيراً ما تحل، فناهيك بهم مرحومين يرق لهم الأعداء فضلاً عن الأولياء.
فكيف لا يميز بين من هذا ثمرة اختياره وغاية تحصيله، وبين من قد نال الرفاهية والدعة، وسلم من البوائق، مع كثرة الإثراء وقضاء اللذات، من غير منة لأحد، ولا منة يعتد بها رئيس ومن هو من نعم المفضلين خلي، وبين من قد استرقه المعروف، واستعبده الطمع، ولزمه ثقل الصنيعة، وطوق عنقه الامتنان، واسترهن بتحمل الشكر.
فصل منها
وقد علم المسلمون أن خيرة الله تعالى من خلقه، وصفيه من عباده، والمؤتمن على وحيه، من أهل بيت التجارة، وهي معولهم وعليها معتمدهم، وهي صناعة سلفهم، وسيرة خلفهم.
ولقد بلغتك بسالتهم، ووصفت لك جلادتهم، ونعتت لك(4/255)
أحلامهم، وتقرر لك سخاؤهم وضيافتهم، وبذلهم ومواساتهم. وبالتجارة كانوا يعرفون. ولذلك قالت كاهنة اليمن " لله در الديار لقريش التجار ".
وليس قولهم: قرشي لقولهم: هاشمي، وزهري وتيمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشاً فينتسبون إليه، ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش، فهو أفخم أسمائهم وأشرف أنسابهم، وهو الاسم الذي نوه الله تعالى به في كتابه، وخصهم به في محكم وحيه وتنزيله، فجعله قرآناً عربياً يتلى في المساجد، ويكتب في المصاحف، ويجهر به في الفرائض، وحظوة على الحبيب والخالص.
ولهم سوق عكاظ، وفيهم يقول أبو ذؤيب:
إذا ضربوا القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف
وقد غبر النبي صلى الله عليه وسلم برهة من دهره تاجراً، وشخص فيه مسافراً، وباع واشترى حاضراً، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ولم يقسم الله مذهباً رضياً، ولا خلقاً زكياً ولا عملاً مرضياً إلا وحظه منه أوفر الحظوظ، وقسمه فيه أجزل الأقسام.(4/256)
ولشهرة أمره في البيع والشراء قال المشركون: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق "، فأوحى الله إليه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ". فأخبر أن الأنبياء قبله كانت لهم صناعات وتجارات.
فصل منه
وإن الذي دعا صاحبك إلى ذم التجارة توهمه بقلة تحصيله، أنها تنقص من العلم والأدب وتقتطع دونهما وتمنع منهما. فأي صنف من العلم لم يبلغ التجار فيه غاية، أو يأخذوا منه بنصيب، أو يكونوا رؤساء أهله وعليتهم؟ !
هل كان في التابعين أعلم من سعيد بن المسيب أو أنبل؟ وقد كان تاجراً يبيع ويشتري، وهو الذي يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي - رضوان الله عليهم - قضاءً إلا وقد علمته.
وكان أعبر الناس للرؤيا وأعلمهم بأنساب قريش. وهو من كان يفتي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون. وله بعد علم بأخبار الجاهلية والإسلام، مع خشوعه وشدة اجتهاده وعبادته،(4/257)
وأمره بالمعروف، وجلالته في أعين الخلفاء، وتقدمه على الجبارين.
ومحمد بن سيرين في فقهه وورعه وطهارته.
ومسلم بن يسار في علمه وعبادته، واشتغاله بطاعة ربه.
وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، في فضلهما وورعهما.(4/258)
فصل من صدر كتابه في الشارب والمشروب(4/259)
سألت - أكرم الله وجهك، وأدام رشدك، ولطاعته توفيقك، حتى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب، ودرجات أهل الثواب - أن أكتب لك صفات الشارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أميز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أقفك على حد السكر، وأن أعرفك السبب الذي يرغب في شرب الأنبذة وما فيها من اجتلاب المنفعة، وما يكره من نبيذ الأوعية.
وقلت: وما فرق ما بين الجر والسقاء، والمزفت والحنتم والدباء، وما القول في الممتل والمكسوب، وما فرق ما بين النقيع والداذي، وما المطبوخ والباذق، وما الغربي والمروق، وما الذي يحل من الطبيخ، وما القول في شرب الفضيخ، وهل يكره نبيذ العكر،(4/261)
وما القول في عتيق السكر، وأنبذة الجرار، وما يعمل من السكر، ولم كره النقير والمقير.
وسألت عن نبيذ العسل والعرطبات وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف وجمهور، والمعلق والمسحوم. والحلو والترش شيرين ونبيذ الكشمش والتين، ولم كره الجلوس على البواطي والرياحين.
وقلت: وما نصيب الشيطان، وما حاصل الإنسان؟ وسألت عمن شرب الأنبذة أو كرهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء، وتشبثوا فيها من الأهواء، ولأي سبب تضادت فيها الآثار، واختلفت فيها الأخبار.(4/262)
وسألت أن أقصد في ذلك إلى الإيجاز والاختصار، وحذف الإكثار وقلت: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنية الممدوحة، فما تقول فيما حسن من الأنبذة صفاه، وبعد مداه، واشتدت قواه، وعتق حتى جاد، وعاد بعد قدم الكون صافي اللون، هل يحل إليه الاجتماع، وفيه الاكتراع، إذ كان يهضم الطعام ويوطىء المنام. وهو في لطائف الجسم سار، وفي خفيات العروق جار، ولا يضر معه برغوث ولا بعوض ولا جرجس عضوض.
وقلت: وكيف يحل لك ترك شربه إذا كان لك موافقاً، ولجسمك ملائماً. ولم لا قلت إن تارك شربه كتارك العلاج من أدوأ الأدواء وإنه كالمعين على نفسه إذا ترك شربه أفحش الداء. وأنت تعلم أنك إذا شربته عدلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السقم صحة، ومن حلول العجز قوة، ومن الكسل نشاطاً، وإلى اللذة انبساطاً، ومن الغم فرجاً، ومن الجمود تحركاً، ومن الوحشة أنساً. وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحاجة خير ناصر. يترك الضعيف وهو مثل أسد العرين يلان له ولا يلين.(4/263)
وقلت: الجيد من الأنبذة يصفي الذهن ويقوي الركن، ويشد القلب والظهر، ويمنع الضيم والقهر، ويشحذ المعدة، ويهيج للطعام الشهوة، ويقطع عن إكثار الماء، الذي منه جل الأدواء، ويحدر رطوبة الرأس، ويهيج العطاس، ويشد البضعة، ويزيد في النطفة، وينفي القرقرة والرياح، ويبعث الجود والسماح، ويمنع الطحال من العظم، والمعدة من التخم، ويحدر المرة والبلغم، ويلطف دم العروق ويجريه، ويرقه ويصفيه، ويبسط الآمال، وينعم البال، ويغشي الغلظ في الرئة، ويصفي البشرة ويترك اللون كالعصفر، ويحدر أذى الرأس في المنخر، ويموه الوجه ويسخن الكلية، ويلذ النوم ويحلل التخم، ويذهب بالإعياء، ويغذو لطيف الغذاء، ويطيب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكن الروعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصلب بالإنشاط للجماع، وفضول المعدة بالهراع، ويشجع المرتاع ويزهي الذليل، ويكثر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسلي الحزن ويجمع الذهن، وينفي الهم، ويطرد الغم، ويكشف عن قناع الحزم، ويولد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحث على الصبر، ويصحح من الفكر، ويرجي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس(4/264)
وحتى إن عز لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقي الصدر من الخصومة، ويزيد في المساغ، وسخونة الدماغ، وينشط الباه حتى لا يزيف شيئاً يراه، وتقبله جميع الطبائع، ويمتزج به صنوف البدائع، من اللذة والسرور، والنضرة والحبور. وحتى سمي شربه قصفاً، وسمي فقده خسفاً. وإن شرب منه الصرف بغير مزاج، تحلل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويفتح الذهن، ويمنع الغبن، ويلقن الجواب، ولا يكيد منه العتاب، به تمام اللذات، وكمال المروءات. ليس لشيء كحلاوته في النفوس، وكسطوته في الجباه والروس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمر الألوان، ويرطب الأبدان، ويخلع عن الطرب الأرسان.
وقلت: ومع كل ذلك فهو يلجلج اللسان، ويكثر الهذيان، ويظهر الفضول والأخلاط، ويناوب الكسل بعد النشاط. فأما إذا تبين في الرأس الميلان، واختلف عند المشي الرجلان، وأكثر الإخفاق، والتنخع(4/265)
والبصاق، واشتملت عليه الغفلة، وجاءت الزلة بعد الزلة ولا سواء إن دسع بطعامه، أو سال على الصدر لعابه، وصار في حد المخرفين، لا يفهم ولا يبين، فتلك دلالات النكر، وظهور علامات السكر، ينسي الذكر، ويورث الفكر، ويهتك الستر، ويسقط من الجدار، ويهور في الآبار، ويغرق في الأنهار، ويصرف عن المعروف، ويعرض للحتوف، ويحمل على الهفوة، ويؤكد الغفلة، ويورث الصياح أو الصمات، ويصرع الفهم للسبات فلغير معنىً يضحك، ولغير سبب يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب على الساكت الكاف. ثم يظهر السرائر، ويطلع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخفي الاعتقاد.
وقد يقل على السكر المتاع، ويطول منه الأرق والصداع، ثم يورث بالغدوات الخمار، ويختل سائر، النهار ويمنع من إقامة الصلوات، وفهم الأوقات، ويعقب السل، ويعقب في القلوب الغل، ويجفف النطفة، ويورث الرعشة، ويولد الصفار، وضروب العلل في الإبصار، ويعقب(4/266)
الهزال، ويجحف بالمال ويجفف الطبيعة ويقوي الفاسد من المرة ويذيل النفس، ويفسد مزاج الحس، ويحدث الفتور في القلب، ويبطىء عند الجماع الصب، حتى يحدث من أجله الفتق، الذي ليس له رتق، ويحمل على المظالم، وركوب المآثم، وتضييع الحقوق حتى يقتل من غير علم، ويكفر من غير فهم.
فصل منه
وقلت: ومن الحلو في المعد التخم، وفي الأبدان الوخم، وللترش شيرين رياح كمثل رياح العدس، وحموضة تولد في الأسنان الضرس.
والسكر فحسبك بفرط مرارته، وكسوف لونه، وبشاعة مذاقه، ولفار الطبيعة عنه.
وأنواع ما يعالج من التمور والحبوب فشربها الداء العضال.
وللمسجور، والبتي، وأشباهها كدورة ترسب في المعدة، وتولد بين الجلدتين الحكة. وأشباه هذا كثيرة تركت ذكرها، لأني لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليل ما يجلب المضرة.(4/267)
ولكن ما تقول فيما يسرك ولا يسوءك، وما إذا شربته تلقته العروق فاتحة أفواهها كأفواه الفراخ، محسنة للون ملذة للنفس، يجثم على المعدة، ويرود في العروق، ويقصد إلى القلب فيولد فيه اللذة، وفي المعدة الهضم، وهو غسولها ونضوحها، ويسرع إلى طاعة الكبد، ويفيض بالعجل إلى الطحال، وينتفخ منه العروق، وتظهر حمرته بين الجلدتين، ويزيد في اللون، ويولد الشجاعة والسخاء، ويريح من اكتنان الضغن، ويعفي على تغير النكهة، وينفي الذفر، ويسرع إلى الجبهة، ويغني عن الصلاء، ويمنع القر؟ ! وما تقول في نبيذ الزبيب الحمصي. والعسل الماذي إذا تورد لونه، وتقادم كونه، ورأيت حمرته في صفرته تلوح. تراه في الكأس لكأنه بالشمس ملتحف، شعاعه يضحك بالأكف؟ وما تقول في عصير الكرم إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه، وأحسن الدن نتاجه، فإذا فض فض عن غضارة قد صار في لون(4/268)
البجادي في صفاء ياقوتة تلمع في الأكف لمع الدنانير، ويضيء كالشهاب المتقد.
وما تقول في نبيذ عسل مصر، فإنه يؤدي إلى شاربه الصحيح من طعم الزعفران، لا يلبس الخلقان ولا يجود إلا في جدد الدنان، ولا يستخدم الأنجاس ولا يألف الأرجاس. وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينفض على شيء من الأجسام لونه حتى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض يققاً. وحسبك به في رقة الهواء، يكدره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهزبر ذي الأشبال، المفترس للأقران، من عاقره عقره، ومن صارعه صرعه؟ ! وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياد إذ يعود صلباً من غير أن يسل سلافه، أو يماط عنه ثفله، حتى يعود كلون(4/269)
العقيق، في رائحة المسك العتيق. أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة، وأشدها خشونة. ثم لا يستعين بعسل ولا سكر ولا دوشاب. وما ظنك به وهو زبيب نقيع، لا يشتد ولا يجود إلا بالضرب الوجيع؟ ! وما تقول في الدوشاب البستاني، سلالة الرطب الجني بالحب الرتيلي، إذا أوجع ضرباً، وأطيل حبسا، وأعطى صفوه ومنح رفده، وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطين ظهر في لون الشقر والكمت وسطع برائحة كالمسك. وإذا هجم على المعدة لانت له الطبائع، وسلست له الأمعاء، وأيس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له(4/270)
اليبوسة، وأذعنت له بالطاعة، وابتل به الجلد القحل، وارتحل عنه الباسور، وكفى شاربه الوخز. فإذا شج بماء تلظى ورمى بشرره، هل يحل أن يشعشع إذا سكن جأشه، وآب إليه حلمه.
وما تقول في المعتق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند في وجه سيف. وله صفيحة مرآة مجلوة تحكي الوجوه في الزجاجة، حتى يهم فيها الجلاس؟ ! وما تقول في نبيذ الجزر، الذي منه تمتد النطفة وتشتد النقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخ العظام؟ ! وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونه لون زمردة خضراء، صافية، محكم الصلابة، مفرط الحرارة، حديد السورة، سريع الإفاقة(4/271)
عظيم المؤنة، قصير العمر، كثير العلل، جم البدوات تطمع الآفات فيه، وتسرع إليه؟ ! وما تقول في نبيذ التين فإنك تعلم أنه مع حرارته لين العريكة، سلس الطبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضوح للكبد فتاح للسدد، غسال للأمعاء، هياج للباه، أخاذ للثمن، جلاب للمؤن، مع كسوف لون وقبح منظر؟ ! وما تقول في نبيذ السكر الذي ليس مقدار المنفعة به على قدر المؤونة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنىً معقول؟ ! وما تقول في المروق والغربي والفضيخ؟ ألذ مشروبات في أزمانها وأنفع مأخوذات في إبانها. أقل شيء مؤونة، وأحسنه معونة، وأكثر شيء قنوعاً، وأسرعه بلوغاً، ضموزات عروفات للرجل ألوفات. ولها أراييح على الشاهسفرم كأذكى رائحة تشم، أقل المشروبات صداعاً، وأشدهن خداعا.(4/272)
فصل منه
وكرهت أيضاً تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليل، دون التأمل والاعتبار بأن ظلام الشك لا يجلوه إلا مفتاح اليقين.
فصل منه
قد فهمت - أسعدك الله تعالى بطاعته - جميع ما ذكرت من أنواع الأنبذة، وبديع صفاتها، والفصل بين جيدها ورديها، ونافعها وضارها، وما سألت من الوقوف على حدودها. ولا زلت من عداد من يسأل ويبحث، ولا زلنا في عداد من يشرح ويفصح.
اعلم - أكرمك الله - أنك لو بحثت عن أحوال من يؤثر شرب الخمور على الأنبذة، لم تجد إلا جاهلاً مخذولا، أو حدثاً مغروراً، أو خليعاً ماجناً، أو رعاعاً همجاً؛ ومن إذا غدا بهيمة، وإذا راح نعامة؛ ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة؛ قد مزج له الصحيح بالمحال، فهو مدين بتقليد الرجال، يشعشع الراح، ويحرم المباح، فمتى عذله عاذل ووعظه واعظ قال: الأشربة كلها خمر، فلا أشرب إلا أجودها.(4/273)
وقد أحببت - أيدك الله - التوثق من إصغاء فهمك، وسؤت ظناً بالتغرير فقدمت لك من التوطئة ما يسهل لك سبيل المعرفة. وذلك إلى مثلك من مثلي حزم سيما فيما خفيت معالمه ودرست مناهجه، وكثرت شبهه، واشتد غموضه.
ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص على البرهان في إظهاره، واحتجت في الإبانة عنه إلى ذكر ضده، ونظيره وشكله، لم أحتشم من الاستعانة بكل ذلك. فكيف والقدرة - بحمد الله - وافرة، والحجة واضحة.
قد يكون الشيء من جنس الحرام فيعالج بضرب من العلاج حتى يتغير بلون يحدث له، ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغير لذلك اسمه، ويصير حلالاً بعد أن كان حراماً.
فصل منه في تحليل النبيذ دون الخمر
فإن قال لنا قائل: ما تدرون، لعل الأنبذة قد دخلت في ذكر تحريم الخمر، ولكن لما كان الابتداء أجري في ذكر تحريم الخمر، خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة، ودخل سائر الأشربة في التحريم بالقصد والإرادة.
قلنا: قد علمنا أن ذلك على خلاف ما ذكر السائل، لأسباب موجودة، وعلل معروفة.(4/274)
منها: أن الصحابة الذين شهدوا نزول الفرائض، والتابعين من بعدهم، لم يختلفوا في قاذف المحصنين أن عليه الحد، واختلفوا في الأشربة التي تسكر، ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن للأخبار المروية في تحريم المسكر، والواردة في تحليلها.
ولو كانت الأشربة كلها عند أهل اللغة في القديم خمراً لما احتاجوا إلى أهل الروايات في الخمر، أي الأجناس من الأشربة هي؟ كما لم يخرجوا إلى طلب معرفة العبيد من الإماء.
وهذا باب يطول شرحه إن استقصيت جميع ما فيه من المسألة والجواب.
وما ينكر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره أن الأشربة المسكرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها وأعيانها، وأجناسها وبلدانها، وأن الله تعالى قصد للخمر من بين جميعها فحرمها، وترك سائر الأشربة طلقاً مع أجناس سائر المباح.
والدليل على تجويز ذلك أن الله تعالى ما حرم على الناس شيئاً من الأشياء في القديم والحديث إلا أطلق لهم من جنسه، وأباح من سنخه ونظيره وشبهه، ما يعمل مثل عمله أو قريباً منه، ليغنيهم بالحلال عن الحرام. أعني ما حرم بالسمع دون المحرم بالعقل. قد حرم من الدم المسفوح، وأباح غير المسفوح، كجامد دم الطحال والكبد وما أشبههما(4/275)
وحرم الميتة وأباح الذكية. وأباح أيضاً ميتة البحر وغير البحر، كالجراد وشبهه، وحرم الربا وأباح البيع، وحرم بيع ما ليس عندك وأباح السلم، وحرم الضيم وأباح الصلح، وحرم السفاح وأباح النكاح. وحرم الخنزير وأباح الجدي الرضيع، والخروف والحوار.
والحلال في كل ذلك أعظم موقعاً من الحرام.
فصل منه
ولعل قائلاً يقول: وأهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وسكان حرمه ودار هجرته، أبصر بالحلال والحرام، والمسكر والخمر، وما أباح الرسول وما حظره، وكيف لا يكون كذلك والدين ومعالمه من عندهم خرج إلى الناس؛ والوحي عليهم نزل، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم دفن. وهم المهاجرون السابقون، والأنصار المؤثرون على أنفسهم. وكلهم مجمع على تحريم الأنبذة المسكرة، وأنها كالخمر.
وخلفهم على منهاج سلفهم إلى هذه الغاية، حتى إنهم جلدوا على الريح الخفي.
وكيف لا يفعلون ذلك ويدينون به وقد شهدوا من شهد النبي صلى الله عليه وسلم قد حرمها وذمها، وأمر بجلد شاربها.
ثم كذلك فعل أئمة الهدى من بعده. فهم إلى يوم الناس على رأي واحد، وأمر متفق، ينهون عن شربها، ويجلدون عليها.(4/276)
وإنا نقول في ذلك: إن عظم حق البلدة لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وإنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، والسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المصيبة.
وبعد، فمن هذا المهاجري أو الأنصاري، الذي رووا عنه تحريم الأنبذة ثم لم يرووا عنه التحليل؟ بل لو أنصف القائل لعلم أن الذين من أهل المدينة حرموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أحلوا النكاح في أدبار النساء، كما استحل قوم من أهل مكة عارية الفروج، وحرم بعضهم ذبائح الزنوج، لأنهم فيما زعموا مشوهو الخلق. ثم حكموا بالشاهد واليمين خلافاً لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الريح الخفي فقد جلدوا على حمل الزق الفارغ؛ لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، حتى قال بعض من ينكر عليهم: فهلا جلدوا أنفسهم؟ لأنه ليس منهم إلا ومعه آلة الزنى! وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل، في نظائر ذلك؛ لأن هذه كلها آلات القتل.
وبعد، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة. ولو كان كل ما يقولونه حقاً وصواباً لجلدوا من كان في دار معبد،(4/277)
والغريض، وابن سريج، ودحمان وابن محرز وعلويه وابن جامع، ومخارق، وشريك، ووكيع، وحماد،(4/278)
وإبراهيم وجماعة التابعين، والسلف والمتقدمين؛ لأن هؤلاء فيما زعموا كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر؛ وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حل طلق، على نقر العيدان والطنابير، والنايات والصنج والزنج، والمعازف التي ليست محرمة ولا منهياً عن شيء منها.
ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها، كالاختلاف في الأغاني وصفاتها وأوزانها، واختلاف مخارجها، ووجوه مصارفها ومجاريها، وما يدمج ويوصل منها، وما للحنجرة والحنك والنفس واللهوات وتحت اللسان من نغمها. وأي الدساتين أطرب، وأي أصوب، وما يحفز بالهمز أو يحرك بالضم؛ وكالقول بأن الهزج بالبنصر أطيب، أو بالوسطى؟ والسريع على الزير ألذ، أو على المثنى؟ والمصعد في لين أطرب أم المحدر في الشدة؟ لسهل ذلك ولسلمنا علمه لمن يدعيه، ولم نجاذب من يدعي دوننا معرفته.(4/279)
فصل منه
ولهج أصحاب الحديث بحكم لم أسمع بمثله في تزييف الرجال، وتصحيح الأخبار. وإنما أكثروا في ذلك، لتعلم حيدهم عن التفتيش، وميلهم عن التنقير، وانحرافهم عن الإنصاف.
فصل منه
والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبلدانها، مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعض من عساه لا يعرف جميعها، ولم يسمع بذكرها، فيتوهم أني في ذكر أجناسها المستشنعة وأنواعها المبتدعة، كالهاذي برقية العقرب، وإن كان قصدي لذكرها في صدر الكتاب لأقف على حلالها وحرامها، وكيف اختلفت الأمة فيها، وما سبب اعتراض الشك واستكمان الشبهة؛ ولأن أحتج للمباح وأعطيه حقه، وأكشف أيضاً عن المحظور فأقسم له قسطه، فأكون قد سلكت بالحرام سبيله، وبالحلال منهجه، اقتداءً مني بقول الله عز وجل: " يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ".
وقد كتبت لك - أكرمك الله - في هذا الكتاب ما فيه الجزاية(4/280)
والكفاية، ولو بسطت القول لوجدته متسعاً، ولأتاك منه الدهم. وربما كان الإقلال في إيجاز أجدى من إكثار يخاف عليه الملل. فخلطت لك جداً بهزل، وقرنت لك حجة بملحة، ليخف مؤونة الكتاب على القارىء، وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجد جماماً، والملحة بعد الحجة مستراحاً.(4/281)
فصل من صدر كتابه في الجوابات في الإمامة(4/283)
يحكي فيه قول من يجيز أكثر من إمام واحد
زعم قوم أن الإمامة لا تجب لرجل واحد بعينه، من رهط واحد بعينه، ولا لواحد من عرض الناس، وإن كان أكثرهم فضلاً، وأعظمهم عن المسلمين غناء، بعد أن يكون فرداً في الإمامة لا ثاني له. وأن الناس إن تركوا أن يقيموا إماماً واحداً جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالين ولا عاصين ولا كافرين؛ فإن أقاموه كان ذلك رأياً رأوه، وغير مضيق عليهم تركه.
ولهم أن يقيموا اثنين، وجائز لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عجما وموالي، ولكن لابد من حاكم، واحداً كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكماً على نفسه وقائماً عليها بالحدود.
ولم يقل أحد ألبتة أن من الحكم والحاكم بداً، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم ومعانيهم.
وقالوا: وأي ذلك كان، إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك،(4/285)
فعلى الناس الكف عن محارمهم، وترك التباغي فيما بينهم، والتخاذل عند الحادثة تنوبهم، من عدو يدهمهم من غيرهم، أو خارب يخيف سبلهم من أهل دعوتهم.
وعليهم فيما شجر بينهم إعطاء النصفة من أنفسهم بالغاً ما بلغ، في عسر الأمر ويسره. وعلى كل رجل في داره وبيته وقبيلته، وناحيته ومصره، إذا كان مأموناً ذا صلاح وعلم، إذا ثبتت عنده على أخيه وصاحبه وجاره، وحاشيته من خدمه، حد أو حكم جناه جان عليهم أو على نفسه أو ظلم ركبه من غيره، إقامة ذلك الحكم والحد عليه، إذا أمكنه مستحقه؛ إلا أن يكون فوقه كاف قد أجزى عنه.
وعلى المجترح للذنب الموجب على نفسه الحد، والمستحق له، إمضاء الحكم في بدنه وماله، والإمكان من نفسه، وأن لا يعاز بقوة، ولا يروغ بحيلة، ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل به، وفيما هو بسبيله من مال أو غيره. وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقين من القيم، والجاني يمكنه ما كلفه الله من ذلك. فإن أبى القيم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه، والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه، فقد عصى(4/286)
الله تعالى ولم يؤت في ذلك الأمر نفسه، لأن الله تعالى قد بينه له، وأوجبه عليه، وقرره حين أوضح له الحجة وقرب الدلالة، وطوقه المعرفة، ومكنه من الفعل.
وقد بسطنا العذر لذوي العجز في صدر الكلام.
وإن أبى الجاني المستحق للحكم والحد، الإمكان من نفسه وماله، وما هو بسبيله، فقد عصى الله في ذلك، كما عصاه في ركوبه ما أوجب عليه الحد، ولم يؤت من ربه لما ذكرنا من إيضاح الحجة وإثبات القدرة.
فصل منه
وقد علمنا أن من شأن الناس الهرب إذا خافوا نزول المكروه، والامتناع من إمضاء الحدود بعد وجوبها عليهم، ما وجدوا السبيل إلى ذلك. وهذا سبب إسقاط الأحكام والتفاسد.
وقد أمرنا أن نترك أسباب الفساد ما استطعنا، وبالنظر للرعية ما أمكننا، فوجب علينا عند الذي قلنا، أنا لو لم نقم إماماً واحداً كان الناس على ما وصفنا من التسرع إلى الشيء إذا طمعوا، والهرب إذا خافوا. وهذا أمر قد جرت به عامة المعرفة، وفتحت عندنا فيه التجربة.
قلنا عند ذلك إن الإمامة لا تجب على الناس من طريق الظنون وإشفاق النفوس.(4/287)
وقد رأينا أعظم منه خطراً، وقدراً ونفعاً، في كل جهة على خلاف ذلك، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إلى أمة وقد علم أنهم يزدادون مع كفرهم المتقدم من قبل ذلك الرسول كفراً، بجحدهم له، وإخراجهم إياه، وقصدهم قتله، ثم لا يكون ذلك مانعاً له من الإرسال إليهم والاحتجاج به عليهم، لمكان علمه أنهم يزدادون فساداً وتباغياً؛ إذ كان قدم لهم ما به ينالون مصالح دينهم ودنياهم. وإنما على الحكيم أن يأتي الأمر الحكيم، عرف ذلك عارف أم جهله جاهل.
وعلى الجواد ذي الرحمة في جوده ورحمته، أن يفعل ما هو أفضل في الجود، وأبلغ في الإحسان، وألطف في الإنعام من إيضاح الحجة وتسهيل الطرق، والإبلاغ في الموعظة، مع ضمان الوعد بالغاية من الثواب والدوام واللذة، والتوعد بغاية العقاب في الدوام والمكروه إلى عباده الذين كلفهم طاعته، وأهل الفاقة إلى عائدته ونظره وإحسانه.
فإن قبل ذلك قابل فقد أصاب حظه، وإن أبى ذلك فنفسه ظلم، وقد صنع الله به ما هو أصلح وإن لم يستطع العبد نفسه.(4/288)
قالوا: فإذا كان الله تبارك وتعالى عالماً بأن القوم يزدادون فساداً عند إرسال الرسل، وكان غير صارف لهم عن الإرسال إليهم، إذ كان قد عدل خلقهم، ومكنهم من مصلحتهم، فما بال الظن والحسبان بأن الناس يتفاسدون ويتنازعون، إذا لم يقيموا إماماً واحداً يوجب فرضاً لم ينطق به كتاب ولم يؤكده خبر. وقد رأينا العلم بأن الناس يتفاسدون بما لا يرد به فرض.
فصل منه
وقالوا: قد رأينا أهل الصلاح والقدر، عند انتشار أمر السلطان، وغلبة السفلة والدعار، وهيج العوام، يقوم منهم العدد اليسير في الناحية والقبيلة، والدرب والمحلة فيفل لهم حد المستطيل، ويقمع شذاذ الدعار، حتى يسرح الضعيف ويأمن الخائف، وينتشر التاجر، ويكبر جانبهم الداعر.
وإنما صلاح الناس بقدر تعاونهم وتخاذلهم. مع أن الناس لو تركهم المتسلطون عليهم، وألجئوا إلى أنفسهم حتى يتحقق عندهم أن لا كافي إلا بطشهم وحيلهم، وحتى تكون الحاجة إلى الذب(4/289)
والحراسة، والعلم بالمكيدة، هي التي تحملهم على منع أنفسهم؛ ولذهبت عادة الكفاية، وضعف الاتكال، ولتعودوا اليقظة، ولدربوا بالحراسة، واستثاروا دفين الرأي؛ لأن الحاجة تفتق الحيلة وتبعث على الروية، وكان بالحرى أن يصلح أمر الجميع؛ لأن طمع الراعي إذا عاد بأساً صرفه في البغي. وكان في ذلك منبهة للنائم ومشحذة لليقظان، وضراوة للمواكل، ومزجرة للبغاة، حتى ينبت عليه الصغير، ويتفحل معه الكبير.
فصل منه
وزعم قوم أن الإمامة لا تجب إلا بأحد وجوه ثلاثة: إما عقل يدل على سببها، أو خبر لا يكذب مثله، أو أنه لا يحتمل شيئاً من التأويل إلا وجهاً واحداً.
قالوا: فوجدنا الأخبار مختلفة، والمختلف منها متدافع، وليس في المتدافع والمتكافىء بيان ولا فضل.
فمن ذلك قول الأنصار، وهم شطر الناس وأكثرهم، مع أمانتهم على دين الله تعالى، وعلمهم بالكتاب والسنة، حيث قالت عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: " منا أمير ومنكم أمير ".(4/290)
فلو كان قد سبق من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أمر ما كان أحد أعلم به منهم، ولا أخلق للإقرار والعمل بما يلزم، والصبر عليه منهم، بعد الذي ظهر من احتمالهم في جنب الله تعالى، والجهاد في سبيله، والنصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم مع الإيواء والإيثار، بعد المواساة، ومحاربة القريب والبعيد، والعرب قاطبة وقريش خاصة. ثم الذي نطق القرآن به من تزكيتهم وتفضيلهم، بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وثقته بهم وثنائه عليهم، وهو يقول: " أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع "، في أمور كثيرة.
ثم لم يكن قولهم: " منا أمير ومنكم أمير " من سفيه من سفهائهم ضوى إليه أمثاله منهم، فإن لكل قوم حسدة وجهالا، وأحداثاً وسرعانا، من حدث تبعثه الغرارة والأشر، ورجل يحب الجاه والفتنة، أو مغفل مخدوع، أو غر ذي حمية يؤثر حسبه ونسبه على دين الله تعالى وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.(4/291)
ولا كان ذلك القول، إن كان من عليتهم، في الواحد الشاذ القليل، بل كان في ذوي أحلامهم والقدم منهم.
ثم كان المرشح والمأمول عندهم سعد بن عبادة، سيداً مطاعاً، ذا سابقة وفضل، وحلم ونجدة، وجاه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغاثة به في الحوادث والمهم من أمره.
ثم كان في الدهم من الأنصار، والوجوه والجمهور من الأوس والخزرج. فكيف يكون سبق من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أمر يقطع عذراً ويوجب رضاً، وهؤلاء الأمناء على الدين، والقوام عليه، قد قاموا هذا المقام، وقالوا هذا المقال.
قالوا: فإن قال قائل: فإن القوم كانوا على طبقات، من ذاكر متعمد، وناس قد كان سقط عن ذكره وحفظه، ومن رجل كان غائباً عن ذلك القول والتأكيد الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم وآله، في إقامة إمام يقدم في أيام وفاته وشكاته، ومن رجل قدم في الإسلام لم يكن من حمال العلم، فأذكرهم أبو بكر وعمر فذكروا، ووعظاهم فاتعظوا. فقد كان فيهم الناشىء الفاضل الذي يزجره الذكر، وينزع إذا بصر؛ والمعتمد الذي لم يبلغ من لجاجه وتتايعه، وركوب(4/292)
ردعه ما يؤثر معه التصميم على حسن الرجوع عند الموعظة الحسنة، والتخويف بفساد العاجل، في كثير ممن لم يكن له في الإسلام القدر النبيه، إما للغفلة، وإما للإبطاء عنه، وإما للخمول في قومه مع إسلامه وصحة عقده. فداواهم أبو بكر وعمر يوم السقيفة حين قالا: " نحن الأئمة وأنتم الوزراء ". وحيث رووا لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأئمة من قريش ". فلما استرجعوا رجعوا.
قلنا: الدليل على أن القوم لم يروا في كلام أبي بكر وعمر حجة عليهم، وأن انصرافهم عما اجتمعوا له لم يكن لأنهم رأوا أن ذلك القول من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح حجة، غضب رئيسهم وخروجه من بين أظهرهم مراغماً، في رجال من رهطه، مع تركه بيعة أبي بكر رضوان الله عليه، وتشنيعه عليهم بالشام.
وقد قال قيس بن سعد بن عبادة، وهو يذكر خذلان الأنصار لسعد بن عبادة: واستبداد الرهط من قريش عليهم، بالأمر:
وخبرتمونا أنما الأمر فيكم ... خلاف رسول الله يوم التشاجر
وأن وزارات الخلافة دونكم ... كما جاءكم ذو العرش دون العشائر
فهلا وزيراً واحداً تجتبونه ... بغير وداد منكم وأواصر(4/293)
سقى الله سعداً يوم ذاك ولا سقى ... عراجلة هابت صدور المنابر
وقال رجل من الأنصار، ودعاه علي رضوان الله عليه إلى عونه ونصرته، إما يوم الجمل، أو يوم صفين:
ما لي أقاتل عن قوم إذا قدروا ... عدنا عدواً وكنا قبل أنصارا
ويل لها أمة لو أن قائدها ... يتلو الكتاب ويخشى النار والعارا
أما قريش فلم نسمع بمثلهم ... غدراً وأعجب في الإسلام آثارا
إلا تكن عصبة خالوا نبيهم ... بالعرف عرفاً وبالإنكار إنكارا
أبا عمارة والثاوي ببلقعة ... في يوم مؤتة لا ينفك طيارا
أبا عمارة: حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه، وقد كان يكنى أبا يعلى، والثاوي في يوم مؤتة: جعفر بن أبي طالب.
وقال رجل من الأنصار من ولد أبي زيد القارىء، وذكر أمر الأنصار وأمر قريش:(4/294)
دعاها إلى استبدادها وحقودها ... تذكر قتلى في القليب تكبكبوا
هنالك قتلى لا تؤدى دياتهم ... وليس لباكيها سوى الصبر مذهب
فإن تغضب الأبناء من قبل من مضى ... فوالله ما جئنا قبيحاً فتعتبوا
فصل منه
قد حكينا قول من خالفنا في وجوب الإمامة وتعظيم الخلافة، وفسرنا وجوه اختلافهم، واستقصينا جميع حججهم، إذ كان على عذر لما غاب عنه خصمه، وقد تكفل بالإخبار عنه في ترك الحيطة له، والقيام بحجته. كما أنه لا عذر له في التقصير عن إفناد من يخالفه، وكشف خطاء من يضاده عند ما قرأ كتابه، وتفهم حجته. لأن أقل ما يزيل عذره، ويزيح علته، أن يكون قول خصمه قد استهدف لعقله، وأصحر للسانه، وقد مكنه من نفسه، وسلطه(4/295)
على إظهار عورته. فإذا استراح شغب المنازع، ومداراة المستمع لم يبق إلا أن يقوى على خلافه أو يعجز عنه.
ومن شكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم، ومضارهم ومنافعهم: أن يحتمل ثقل مؤنتهم وتعريفهم، وأن يتوخى إرشادهم، وإن جهلوا فضل من يسدي إليهم.
ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره.
وأعلم أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم، إذ كان مع التلاقي يقوى التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط النصرة، وتنبعث الحمية. وعند المزاحمة تشتد الغلبة وشهوة المباهاة، والاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع. وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصفة، وبهذه الحالة، امتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة.
وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها، والمتفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله ولا يعاز خصمه.
والكتاب قد يفضل ويرجح على واضعه بأمور:(4/296)
منها: أن الكتاب يقرأ بكل مكان وفي كل زمان، على تفاوت الأعصار، وبعد ما بين الأمصار. وذلك أمر يستحيل في الواضع ولا يطمع فيه من المنازع. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى ويبقى أثره.
ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلقت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا في الحكمة، وانقطع سبيلنا إلى المعرفة.
ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا، بما أدركته حواسنا، وشاهدته نفوسنا، لقد قلت المعرفة وقصرت الهمة وضعفت المنة، فاعتقم الرأي ومات الخاطر، وتبلد العقل، واستبد بنا سوء العادة.
وأكثر من كتبهم نفعاً، وأحسن مما تكلفوا موقعاً، كتب الله تعالى، التي فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كل عبرة، وتعريف كل سيئة وحسنة.(4/297)
فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا سبيل من قبلنا فينا. مع أنا قد وجدنا في العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا.
فما ينتظر الفقيه بفقهه والمحتج لدينه، والذاب عن مذهبه، ومواسي الناس في معرفته، وقد أمكن القول وأطرق السامع، ونجا من التقية، وهبت ريح العلماء.
فصل منه
واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى مخالفته، غير مخرج إنعام الله تعالى عليه، ولا يحول إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته، ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحجة لينقلبا إفساداً وإساءة؛ لأن المعان على الطاعة عصى بالمعونة، وأفسد بالإنعام، وأساء بالإحسان.
وفرق بين المنعم والمنعم عليه؛ لأن المنعم عليه يجب أن يكون شكوراً، ولحق النعمة راعياً، والمنعم منفرد بحسن الإنعام، وشريك في جميل الشكر. ولأن المنعم أيضاً هو الذي حبب الشكر إلى فاعله، بالذي قدم إليه من إحسانه، وتولى من يساره، ولذلك جعلوا النعمة لقاحاً، والشكر ولاداً. وإنما مثل إعطاء الآلة والتكليف لفعل(4/298)
الخير مثل رجل تصدق على فقير ليستر عورته، ويقيم من أود صلبه، وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش، لينقلب إحسان المتصدق إساءة. وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب صواباً وإن أنجح صاحبه.
وقد يؤتى الرجل من حزمه ولا يكون مذموماً، ويحظى بالإضاعة ولا يكون محموداً.
فصل منه
ولم يكن الله تعالى ليضع العدل ميزاناً بين خلقه، وعياراً على عباده، في نظر عقولهم في ظاهر ما فرض عليهم، وييسر خلافه، ويستخفي بضده، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه، وتحبب إليهم به، في ظاهر دينه، والذي استجوب به على الشكر على جميع خلقه.
فصل منه
وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة والقدرة، والحال التي هي أدعى إلى المصلحة، ما كان متروكاً على طباعه ودواعي شهواته، دون تعديل طبعه وتسوية تركيبه.
ولذلك أسباب نحن ذاكروها، وجاعلوها حجة في إقامة الإمامة،(4/299)
وأن عليها مدار المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه، فنقول: إنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم، من شأنها التقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم، وذهاب دنياهم، وإن كانت العامة أسرع إلى ذلك من الخاصة، فكل لا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرديهم، ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل، من القصاص العادل، ثم التنكيل في العقوبة على شر الجناية، وإسقاط القدر، وإزالة العدالة، مع الأسماء القبيحة، والألقاب الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل، والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبد، مع فوت الجنة.
وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة، ولتعديل الطبائع معونة؛ لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على قوى عقله ورأيه، ألفي بصيراً بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله، وأوامر رأيه. فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامره ألفي العبد ممتنعاً من الغي قادراً عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن، والغيرة، وحب الشهوات والنساء، والمكاثرة،(4/300)
والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها، واشتدت جواذبها لصاحبها، ثم لم يعلم أن فوقه ناقماً عليه، وأن له منتقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طباعاً لا يمتنع منه، وواجباً لا يستطيع غيره.
أو ما رأيته كيف يخرق في ماله، ويسرع فيما أثلت له رجاله، وشيدت له أوائله، من غير أن يرى للعوض وجهاً، وللخلف سبباً في عاجل دينه، ولا آجل دنياه، حتى يكون والي المسلمين هو الذي يحجر عليه؛ ليكون مضض الحجر وذل الخطر، وغلظة الجفوة. واللقب القبيح، وتسليط الأشكال، مادة للذي معه من معرفته وبقية عقله.
فصل منه
وقد يكون الرجل معروفاً بالنزق مذكوراً بالطيش مستهاماً بإظهار الصولة حتى يتحامى كلامه الصديق، ويداريه الجليس، ويترك مجاراته الكريم، للذي يعرفون من شذاته، وبوادر حدته وشدة تسعره والتهابه، وكثرة فلتاته. ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصليب والرجل المنيع، فيلفى ذليلاً خاضعاً، أو حليماً وقوراً، أو أديباً رفيقاً، أو صبوراً محتسباً.(4/301)
وقد نجده يجهل على خصمه، ويستطيل على منازعه، ويهم بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حماة تكفيه، وجهالاً تحميه، وجاهاً يمنعه، ومالاً يصول به، طامن له من شخصه، وألان له من جانبه، وسكن من حركته، وأطفأ نار غضبه.
أو ما علمت أن الخوف يطرد السكر، ويميت الشهوة، ويطفىء الغضب، ويحط الكبر، ويذكر بالعاقبة، ويساعد العقل، ويعاون الرأي، وينبت الحيلة ويبعث على الروية؛ حتى يعتدل به تركيب من كان مغلوباً على عقله، ممنوعاً من رأيه، بسكر الشباب وسكر الغناء وإهمال الأمر، وثقة العز، وبأو القدرة.
فصل منه
وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي عليها الوجود والعبرة، لتعلم أن الناس لو تركوا وشهواتهم، وخلوا وأهواءهم وليس معهم من عقولهم إلا حصة الغريزة ونصيب التركيب، ثم أخلوا من المرشدين والمؤدبين، والمعترضين بين النفوس وأهوائها، وبين الطبائع وغلبتها، من الأنبياء وخلفائها، لم يكن في قوى عقولهم ما يداوون به أدواءهم، ويجبرون به من أهوائهم، ويقوون به لمحاربة طبائعهم، ويعرفون به جميع مصالحهم.(4/302)
وأي داء هو أردى من طبيعة تردي، وشهوة تطغي؟ ! ومن كان لا يعد الداء إلا ما كان مؤلماً في وقته، ضارباً على صاحبه في سواد ليله وبياض نهاره، فقد جهل معنى الداء. وجاهل الداء جاهل بالدواء.
فصل منه
ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على ظاهر الرأي والحزم والحيطة أكثر من واحد، لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت عنايتهم قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء، واشتدت منافستهم في الغلبة.
وهكذا جرب الناس من أنفسهم في جيرانهم الأدنين في الأصهار وبني الأعمام، والمتقاربين في الصناعات، كالكلام، والنجوم، والطب والفتيا، والشعر، والنحو والعروض، والتجارة، والصباغة، والفلاحة أنهم إذا تدانوا في الأقدار، وتقاربوا في الطبقات، قويت دواعيهم إلى طلب الغلبة، واشتدت جوانبهم في حب المباينة، والاستيلاء على الرياسة.
ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس إلى الفساد أميل، والعزم أضعف، وموضع الروية أشغل، والشيطان فيهم أطمع؛ وكان الخوف عليهم أشد، وكانوا بموافقة المفسد أحرى، وإليه أقرب.
وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور للحكام والقادة، إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا، أن ترفع عنهم أسباب التحاسد والتغالب، والمباهاة والمنافسة.(4/303)
وإن ذلك أدعى إلى صلاح ذات البين، وأمن البيضة، وحفظ الأطراف.
وإذا كان الله تبارك وتعالى، قد كلف الناس النظر لأنفسهم، واستيفاء النعمة عليهم، وترك الخطار بالهلكة والتغرير بالأمة، وليس عليهم مما يمكنهم أكثر من الحيطة والتباعد من التغرير. ولا حال أدعى إلى ذلك أكثر مما وصفنا، لأنه أشبه الوجوه بتمام المصلحة، والتمتع بالأمن والنعمة.
فصل منه
فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه إذا كان القائم بأمور المسلمين بائن الأمر، متفرداً بالغاية من الفضل، كانت دواعي الناس إلى مسابقته ومجاراته أقل.
ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة، ويركبها وأهلها هذا التركيب، حتى تكون إقامة الواحد من الناس أصلح لهم، إلا وذلك الواحد موجود عند إرادتهم له، وقصدهم إليه؛ لأن الله لا يلزم الناس في ظاهر الرأي والحيطة إقامة المعدوم، وتشييد المجهول؛ لأن على الناس التسليم، وعلى الله تعالى قصد السبيل.(4/304)
وهل رأيتم ملكين أو سيدين في جاهلية أو إسلام، من العرب جميعاً أو من العجم، لا يتحيف أحدهما من سلطان صاحبه ولا ينهك أطرافه، ولا يساجله الحروب؛ إذ كل واحد منهما يطمع في حد صاحبه وطرفه، لتقارب الحال، واستواء القري. كما جاءت الأخبار عن ملوك الطوائف كيف كانت الحروب راكدة وأمرهم مريج، والناس نهب، ليس ثغر إلا معطل، ولا طرف إلا منكشف، والناس فيما بينهم مشغولون بأنفسهم، ملوكهم من عز بز، مع إنفاق المال، وشغل البال، وشدة الخطار بالجميع، والتغرير بالكل.
فصل منه
وإن قالوا: فما صفة أفضلهم؟ قلنا: أن يكون أقوى طبائعه عقله، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة. فإذا جمع إلى قوة عقله علماً، وإلى علمه حزماً، وإلى حزمه عزماً، فذلك الذي لا بعده.
وقد يكون الرجل دونه في أمور وهو يستحق مرتبة الإمامة، ومنزلة الخلافة، غير أنه على حال لا بد من أن يكون أفضل أهل دهره. لأن من التعظيم لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقام فيه إلا أشبه(4/305)
الناس به في كل عصر. ومن الاستهانة به أن يقام فيه من لا يشبهه وليس في طريقته.
وإنما يشبه الإمام الرسول بأن يكون لا أحد آخذ بسيرته منه. فأما أن يقاربه أو يدانيه فهذا ما لا يجوز، ولا يسع تمنيه، والدعاء به.
فصل منه
وإذا كان قول المهاجرين والأنصار والذين جرى بينهم التنافس والمشاحة على ما وصفنا في يوم السقيفة، ثم صنيع أبي بكر وقوله لطلحة في عمر؛ وصنيع عمر في وضع الشورى وتوعدهم له بالقتل إن هم لم يقيموا رجلاً قبل انقضاء المدة، ونجوم الفتنة؛ ثم صنيع عثمان وقوله وصبره حتى قتل دونهما ولم يخلعها؛ وأقوال طلحة والزبير وعائشة وعلي رحمة الله عليهم وعليها، ليست بحجة على ما قلنا فليست في الأرض دلالة ولا حجة قاطعة.
وفي هذا الباب الذي وصفنا، ونزلنا من حالاتهم وبينا، دليل على أنهم كانوا يرون أن إقامة الإمام فريضة واجبة، وأن الشركة عنها منفية، وأن الإمامة تجمع صلاح الدين وإيثار خير الآخرة والأولى.(4/306)
فصل منه
وأي مذهب هو أشنع، وأي قول هو أفحش، من قول من قال: لا بد للشاهد من أن يكون طاهراً عدلا مأموناً، ولا بأس أن يكون القاضي جائراً، نطفاً فاجراً، وهذا لا يشبه حكم الحكيم، وصفة الحليم، ونظر المرشد، وترتيب العالم.(4/307)
فصل من صدر كتابه في مقالة الزيدية والرافضة(4/309)
اعلم - يرحمنا الله وإياك - أن شيعة علي رضي الله عنه زيدي ورافضي، وبقيتهم بدد لا نظام لهم، وفي الإخبار عنهما غناء عمن سواهما.
قالت علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفعل كله في أربعة أقسام: أولها: القدم في الإسلام حين لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه.
ثم الزهد في الدنيا؛ فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة، وآمنهم على نفائس الأموال، وعقائل النساء، وإراقة الدماء.
ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم، ومراشد دينهم.
ثم المشي بالسيف كفاحاً في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين؛ وقتل عدوه وإحياء وليه؛ فليس فوق بذل المهجة واستغراق القوة غاية يطلبها طالب، أو يرتجيها راغب.
ولم نجد قولاً خامساً فنذكره.(4/311)
فلما رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم، وتقديمه دونهم.
وذاك أنا سألنا العلماء والفقهاء، وأصحاب الأخبار، وحمال الآثار، عن أول الناس إسلاماً، فقال فريق منهم: علي، وقال قوم: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب. ولم نجد قول كل واحد منهم من هذه الفرق قاطعاً لعذر صاحبه، ولا ناقلاً عن مذهبه، وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر، واللفظ به أكثر.
وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم. والماشين إلى الأقران بسيوفهم، وجدناهم مختلفين: فمن قائل يقول: علي رضي الله عنه، ومن قائل يقول: الزبير، ومن قائل يقول: ابن عفراء، ومن قائل يقول: محمد بن مسلمة، ومن قائل يقول: طلحة، ومن قائل يقول: البراء بن مالك.
على أن لعلي من قتل الأقران والفرسان ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون علي في طبقتهم.
وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء، رأيناهم يعدون علياً كان أفقههم، وعمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.(4/312)
على أن علياً كان أفقههم؛ لأن كان يسأل ولا يسأل، ويفتي ولا يستفتي، ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم. ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم.
وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف، والمعروفين برفض الدنيا وخلعها، والزهد فيها، قالوا: علي، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبو ذر، وعمار، وبلال، وعثمان بن مظعون.
على أن علياً أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وخشونة المأكل، والرضا باليسير، والتبلغ بالحقير، وظلف النفس، ومخالفة الشهوات. وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين. ورقع سراويله بالقد، وقطع ما فضل من ردنه عن أطراف أصابعه بالشفرة. في أمور كثيرة. مع أن زهده أفضل من زهدهم؛ لأنه أعلم منهم. وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره. فلا أقل من أن نعده في طبقتهم.
ولا نجدهم ذكروا لأبي الدرداء، وأبي ذر، وبلال، مثل الذي ذكروا له في باب الغناء والذب، وبذل النفس. ولم نجدهم ذكروا للزبير، وابن عفراء وأبي دجانة، والبراء بن مالك، مثل الذي ذكروا له(4/313)
من التقدم في الإسلام، والزهد، والفقه. ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر وزيد، وخباب، مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والغناء، والذب بالسيف، ولا ذكروهم في طبقة الفقهاء والزهاد.
فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وهذه الطبقات، علمنا أنه أفضلهم، وإن كان كل رجل منهم قد أخذ من كل خير بنصيب فإنه لن يبلغ ذلك مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه.
فصل منه
وضرب آخر من الناس همج هامج، ورعاع منتشر، لا نظام لهم، ولا اختبار عندهم، أعراب أجلاف، وأشباه الأعراب. يفترقون حيث يفترقون، ويجتمعون حيث يجتمعون؛ لا تدفع صولتهم إذا هاجوا، ولا يؤمن هيجانهم إذا سكنوا. إن أخصبوا طغوا في البلاد، وإن أجدبوا آثروا العناد.
ثم هم موكلون ببغض القادة، وأهل الثراء والنعمة، يتمنون النكبة، ويشتمون بالعثرة، ويسرون بالجولة، ويترقبون الدائرة.
وهم كما وصفوا الطغام والسفلة.(4/314)
وقال علي رضي الله عنه في دعائه: " نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا افترقوا لم يعرفوا ". فهؤلاء هؤلاء.
وضرب آخر قد فقهوا في الدين، وعرفوا سبب الإمامة، وأقنعهم الحق وانقادوا له بطاعة الربوبية وطاعة المحبة، وعرفوا المحنة وعرفوا المعدن، ولكنهم قليل في كثير، ومختار كل زمان. وإن كثروا فهم أقل عدداً وإن كانوا أكثر فقهاً.
فلما كان الناس عند علي وأبي بكر وعمر، وأبي عبيدة، وأهل السابقة المهاجرين والأنصار، على الطبقات التي نزلنا، والمنازل التي رتبنا، وبالمدينة منافقون يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وفيها بطانة لا يألونهم خبالاً، لا يخفى عليهم موضع الشدة وانتهاز الفرصة، وهم في ذلك على بقية، ووافق ذلك ارتداد من حول المدينة من العرب، وتوعدهم بذلك في شكاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به الخبر.
ثم الذي كان من اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرين وصاروا أحزاباً وقالوا: " منا أمير ومنكم أمير "، فأشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس، مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب شاغب ممن وصفنا حاله، وبينا طريقته، فيحدث بينهم فرقة، والقلوب على(4/315)
ما وصفنا، والمنافقون على ما ذكرنا، وأهل الردة على ما أخبرنا، ومذهب الأنصار على ما حكينا.
فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الإظهار والتجافي عن الأمور، وعلم أن فضل ما بينه وبين أبي بكر في صلاحهم لو كانوا أقاموه، لا يعادل التغرير بالدين، ولا يفي بالخطار بالأنفس؛ لأن في الهيج البائقة، وفي فساد الدين فساد العاجلة والآجلة. فاغتفر الخمول ضناً بالدين، وآثر الآجلة على العاجلة، فدل ذلك على رجاجة حلمه، وقلة حرصه، وسعة صدره، وشدة زهده، وفرط سماحته وأصالة رأيه.
ومتى سخت نفس امرىء عن هذا الخطب الجليل، والأمر الجزيل، نزل من الله تعالى بغاية منازل الدين.
وإنما كانت غايتهم في أمرهم أربح الحالين لهم، وأعون على المقصود إذ علم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء صرف ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم.(4/316)
فصل منه
وإنما ذكرت لك مذهب من لا يجعل القرابة والحسب سبباً إلى الإمامة، دون من يجعل القرابة سبباً من أسبابها وعللها، لأني قد حكيته في كتاب الرافضة، وكان ثم أوقع، وبهم أليق؛ وكرهت المعاد من الكلام والتكرار؛ لأن ذلك يغني عن ذكره في هذا الكتاب، وهو مسلك واحد، وسبيل واحد.
وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم، لأنه أحسن شيء رأيته لهم. وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم، لأن فيه دلالة على غيره، وغنىً عما سواه.
وقالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه في الفضل، حتى يكلفه الله طاعته وتقديمه؛ إما للمصلحة، وإما للإشفاق من الفتنة، كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليظ في المحنة وتشديد البلوى والكلفة، كما قال تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ". والملائكة أفضل من آدم، فقد كلفهم الله أغلظ المحن وأشد البلوى، إذ ليس في الخضوع أشد من السجود على الساجد له. والملائكة أفضل من آدم، لأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله تعالى من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل، لما قدمت من العبادة، واحتملت من ثقل الطاعة.(4/317)
وكما ملك الله طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نبيهم الذي أخبر عنه في القرآن: " وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ".
ثم صنيع النبي صلى الله عليه وسلم حين ولى زيد بن حارثة على جعفر الطيار يوم مؤتة، وولى أسامة على كبراء المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وسعد بن أبي وقاص، ورجال ذوو أخطار وأقدار، من البدريين والمهاجرين، والسابقين الأولين.
فصل منه
ولو ترك الناس وقوى عقولهم وجماح طبائعهم، وغلبة شهواتهم، وكثرة جهلهم، وشدة نزاعهم إلى ما يرديهم ويطغيهم، حتى يكونوا هم الذين يحتجزون من كل ما أفسدهم بقدر قواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فصل ما بين الداء والدواء، والأغذية والسموم، كان قد كلفهم شططا، وأسلمهم إلى عدوهم، وشغلهم عن(4/318)
طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدل التركيب وسوى البنية، وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى البلوغ والاعتدال والصحة، وتمام الأداة والآلة. ولذلك قال عز ذكره: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ".
ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة، وخلاهم وسبر الأمور وامتحان السموم، واختبار الأغذية، وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة الشهوة، وتسلط الطبيعة، مع كثرة الحاجة، والجهل بالعاقبة، لأثرت عليهم السموم، ولأفناهم الخطأ ولأجهز عليهم، الخبط، ولتولدت الأدواء وترادفت الأسقام، حتى تصير منايا قاتلة، وحتوفاً متلفة، إذ لم يكن عندهم إلا أخذها، والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة فيها، وقلة الاحتراس من توليدها.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أن الله تعالى حيث خلق العالم وسكانه لم يخلقهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحهم إلا بتبقيتهم(4/319)
ولولا الأمر والنهي ما كان للتبقية وتعديل الفطرة معنىً.
ولما أن كان لا بد للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين، بين عدو عاص ومطيع ولي، علمنا أن الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم، ومخالفة أهوائهم، إلا بالزجر الشديد، والتوعد بالعقاب الأليم في الآجل، بعد التنكيل في العاجل، إذ كان لا بد من أن يكونوا منهيين بالتنكيل معجلاً، والجزاء الأكبر مؤجلا، وكان شأنهم إيثار الأدنى وتسويف الأقصى.
وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم فهم عن مصالح دينهم أعجز، إذ كان علم الدين مستنبطاً من علم الدنيا.
وإذا كان العلم مباشرة أو سبباً للمباشرة وعلم الدنيا غامض، فلا يتخلص إلى معرفته إلا بالطبيعة الفائقة، والعناية الشديدة، مع تلقين الأئمة. ولأن الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم كان إرسال الرسل قليل النفع، يسير الفضل.
وإذا كان الناس مع منفعتهم بالعاجل وحبهم للبقاء، ورغبتهم في النماء، وحاجتهم إلى الكفاية، ومعرفتهم بما فيها من السلامة لا يبلغون لأنفسهم معرفة ذلك وإصلاحه، وعلم ذلك جليل ظاهر سببه(4/320)
بعضه ببعض، كدرك الحواس وما لاقته، فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل، والكلام في مجيء الأخبار وأصول الأديان، أعجز، وأجدر ألا يبلغوا منه الغاية، ولا يدركوا منه الحاجة؛ لأن علم الدنيا أمران: إما شيء يلي الحواس، وإما شيء يلي علم الحواس، وليس كذلك الدين.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه لا بد للناس من إمام يعرفهم جميع مصالحهم.
ووجدنا الأئمة ثلاثة: رسول، ونبي، وإمام.
فالرسول نبي إمام، والنبي نبي إمام، والإمام ليس برسول ولا نبي.
وإنما اختلفت أسماؤهم ومراتبهم لاختلاف النواميس والطبائع، وعلى قدر ارتفاع بعضهم عن درجة بعض، في العزم والتركيب، وتغير الزمان بتغير الفرض وتبدل الشريعة.
فأفضل الناس الرسول، ثم النبي، ثم الإمام.
فالرسول هو الذي يشرع الشريعة ويبتدىء الملة، ويقيم الناس على جمل مراشدهم، إذ كانت طبائعهم لا تحتمل في ابتداء الأمر(4/321)
أكثر من الجمل. ولولا أن في طاقة الناس قبول التلقين وفهم الإرشاد، لكانوا هملاً، ولتركوا نشراً جشراً، ولسقط عنهم الأمر والنهي. ولكنهم قد يفضلون بين الأمور إذا أوردت عليهم، وكفوا مئونة التجربة، وعلاج الاستنباط. ولن يبلغوا بذلك القدر قدر المستغني بنفسه، المستبد برأيه، المكتفي بفطنته عن إرشاد الرسل، وتلقين الأئمة.
وإنما جاز أن يكون الرسول مرة عربياً ومرة عجمياً، وليس له بيت يخطره ولا شرف يشهر موضعه؛ لأنه حين كان مبتدىء الملة ومخرج الشريعة، كان ذلك أشهر من شرف الحسب المذكور، وأنبه من البيت المقدم. ولأنه يحتاج من الأعلام والآيات والأعاجيب، إلى القاهر المعقول والواضح الذي لا يخيل أن يشتهر مثله في الآفاق، ويستفيض في الأطراف حتى يصدع عقل الغبي، ويفتق طبع العاقل، وينقض عزم المعاند، وينتبه من أطال الرقدة وتخضع الرقاب وتضرع الخدود حتى يتواضع له كل شرف، ويبخع(4/322)
له كل أنف، فلا يحتاج حاله معه إلى حال، ولا مع قدره إلى حسب.
وعلى قدر جهل الأمة وغباء عقولها، وسوء رعتها، وخبث عادتها، وغلظ محنتها، وشدة حيرتها، تكون الآيات، كفلق البحر، والمشي على الماء، وإحياء الموتى، وقصر الشمس عن مجراها. لأن النبي الذي ليس برسول ولا مبتدىء ملة، ولا منشىء شريعة، إنما هو للتأكيد والبشارة، كبشارة النبي بالرسول الكائن على غابر الأيام، وطول الدهر.
وتوكيد المبشر يحتاج من الأعلام إلى دون ما يحتاج إليه المبتدىء لأصل الملة، والمظهر لفرض الشريعة، الناقل للناس عن الضلال القديم، والعادة السيئة، والجهل الراسخ. فلذلك التقى بشهرة أعلامه، وشرف آياته، وذكر شرائعه، من شهرة بيته وشرف حسبه، لأنه لا ذكر إلا وهو خامل عند ذكره، ولا شرف إلا وهو وضيع عند شرفه.
* * *(4/323)