مكتوب فى المصاحف محفوظ فى الصدور مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد الكاتبين ولا ألفاظ اللافظين. ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين وخرج عن عقائد المسلمين بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبى، وربنا المستعان على ما تصفون.
وليس رد البدع وايطالها من باب إثاره الفتن. فإن الله سبحانه وتعالى أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه. ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله.
وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس: فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحد، والخلاف فى الفروع.
ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله. والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده.
وبعد ذلك فأنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندى لا يخاطر بنفسه فليس بجندى.
وأما ما ذكر من أمر باب السلامة، فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازا للدين ونصرة للحق. ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السراير، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم» .
وكتب الشيخ هذا الجواب مسترسلا بحضرة رسول السلطان، ودفعه إليه.
فلما قرأه السلطان اشتد غضبه، وأرسل اليه أستاد داره غرس الدين خليلا برسالة،(30/72)
وكان غرس الدين يحب الشيخ ويعتقده، فحضر إليه وجلس بين يديه، وتلطف به واستأذنه فى أداء الرسالة، فقال: أدها كما قيلت لك.
فقال: يقول لك السلطان: «إنا قد شرطنا عليك ثلاثة شروط، أحدها:
ألا تفتى، والثانى: ألا تجتمع بأحد، والثالث: أن تلزم بيتك» . فقال له:
إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علىّ، المستوجبه للشكر لله تعالى على الدوام.
أما الفتيا: فإنى والله كنت متبرما بها وأكرهها. وأعتقد أن المفتى على شفير جهنم. ولولا أنى كنت أراها متعينة علىّ لما أفنيت. والآن فقد سقط عنى الوجوب وتخلصت ذمتى ولله الحمد والمنة. وأما ترك اجتماعى بالناس ولزومى لبيتى: فهذا من سعادتى لتفرغى لعبادة الله تعالى. والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى. وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلىّ أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان. والله لو كان عندى خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعتها «1» عليك ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها فقبلها الحاجب وقبلّها، وانصرف إلى السلطان وقص عليه ما قاله الشيخ. فقال لمن حضره: قولوا لى ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة، أتركوه، بيننا وبينه الله.
وبقى على ذلك ثلاثة أيام الى أن ركب الشيخ العلامة جمال الدين الحصيرى شيخ الحنفية حماره وتوجه إلى القلعة، وكان معظما عند السلطان وقد جمع العلم والعمل، فلما بلغ السلطان وصوله إلى القلعة أرسل خواصه يتلقونه، وأمرهم أن يدخلوا إلى داره على حماره ففعل. ولما رآه السلطان وثب إليه وتلقاه،(30/73)
وأنزله عن حماره وأجلسه على تكرمته واستبشر به. وكان ذلك عند غروب الشمس. فلما أذن المؤذن وصلوا المغرب قدم السلطان إليه شرابا وناوله إياه بيده. فقال: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك. فقال: يرسم الشيخ ونحن نمتثل أمره. فقال: أى شىء بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان فى الهند أو فى أقصى الدنيا كان ينبغى للسلطان أن يسعى فى حلوله فى بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك. قال: عندى خطه باعتقاده فى فتيا، وخطه أيضا فى رقعة جواب، رقعة سيرتها إليه. فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بينى وبينه. ثم أحضر الورقتين، فقرأهما الشيخ وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ونفس المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط فى حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء.
وأرسل إليه واسترضاه، وطلب محاللته ومخاللته. وتقدم السلطان إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام فى مسأله الكلام وألا يفتى أحد فيها بشىء سدا لباب الخصام.
ثم وصل السلطان الملك الكامل إلى دمشق. وكانت الواقعة قد اتصلت به، فرام الاجتماع بالشيخ فاعتذر إليه، فطلب أن يكتب له صورة الواقعة مستقصاة، فأمر ولده الشيخ شرف الدين أن يكتب ذلك من أوله إلى آخره ففعل. وأرسله إلى الملك الكامل فقرأه وكتمه. ثم سأل أخاه الملك الأشرف عن الواقعة. فقال:
منعت الطائفتين من الكلام فى المسألة، وانقطع بذلك الخصام. فقال له السلطان(30/74)
الملك الكامل: ليست هذه سياسة حسنة، تساوى بين أهل الحق والباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتأمرهم أن يكتموا ما أنزل الله إليهم. كان الطريق أن تمكن أهل السنة أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله، إلى غير ذلك من الكلام. وتحقق الملك الأشرف صحة ما قاله الشيخ وصرح بخجله منه، وصار يترضاه، ويعمل بفتاويه، ويأمر أن يقرأ عليه تصانيفه الصغار مثل: الملحة فى اعتقاد أهل الحق، ومقاصد الصلاة، وكرر قراءتها عليه فى يوم ثلاث مرات.
واستمر الحال على ذلك إلى أن مرض الملك الأشرف مرضة موته «1» وأرسل أكبر أصحابه إلى الشيخ وقال: قل للشيخ محبك موسى بن العادل أبى بكر يسلم عليك ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غدا عند الله تعالى.
فأبلغه الرسول الرسالة، فتوجه إلى السلطان فسر برؤيته، وقال له: اجعلنى فى حل، وادع لى، وأوصنى، وأنصحنى: ففعل الشيخ ذلك، وتحدث معه فى أشياء منها: إبطال المنكرات بدمشق. فأمر بأبطالها، وتولى الشيخ إزالة بعضها بنفسه، وأطلق السلطان له ألف دينار عينا، فردها عليه: هذه اجتماعه لله تعالى، لا أكدرها بشىء من الدنيا. ثم مات الملك الأشرف إثر ذلك.
ولما حضر الملك الكامل إلى دمشق وانتزعها من أخيه الصالح إسماعيل كما تقدم، حضر الشيخ إلى مجلس السلطان فأكرمه، وفوض إليه تدريس زاوية الغزالى بجامع دمشق ثم فوض إليه قضاء القضاة بعد ذلك بدمشق. فاشترط شروطا كثيرة ولم يله. وقيل إنه تولاه مدة يسيره وعزل نفسه.(30/75)
ثم كانت واقعة مع الملك الصالح عماد الدين إسماعيل [بن العادل «1» ] صاحب دمشق [عند ما أذن للفرنج فى دخول دمشق وشراء السلاح ... فأفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج ... وكان الصالح غائبا عن دمشق فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام. وولى خطابة] «2» دمشق، بعد عز الدين بن عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار.
فلما سلم الملك الصالح صفد والشقيف وغير ذلك للفرنج وصالحهم، كما تقدم، امتنع [الشيخ ابن عبد السلام] من الدعاء له على المنبر الجامع بدمشق فكان من خبر عزله واعتقاله وخروجه من الشام ووصوله إلى الديار المصرية وولايته الخطابة بجامع عمرو بن العاص بمصر، والقضاء بمصر والوجه القبلى، وعزله نفسه مرة بعد أخرى، وغير ذلك من أحواله ما قدمناه فى أخبار الدولة الصالحيه النجمية.
ولم يزل الشيخ، رحمه الله تعالى، معظما عند الملك الصالح وغيره من الملوك بعده بالديار المصرية يرجعون إلى رأيه ويعتمدون على فتاويه، ويقف الأكابر عند أوامره إلى أن ملك السلطان الملك الظاهر فزاد فى تعظيمه وإكرامه وبره، واستشاره فى ابتداء دولته فيما بفعله مما فيه صلاح دولته، فقال له: إن الدولة لا تقوم إلا بأمرين؛ أحدهما: قيام الشرع الشريف. والثانى: تحصيل الأموال من وجوهها، ولا أرى لمنصب القضاء مثل تاج الدين عبد الوهاب، يريد ابن بنت الأعز، وللوزارة مثل بهاء الدين على. فرجع السلطان إلى رأيه وتمسك بقوله، وفوض المنصبين لهما، فقام كل منهما فى منصبه أحسن قيام. وحمدت عاقبة هذه الولاية، وشكر سداد هذا الرأى.(30/76)
ولما توفى الشيخ، رحمه الله تعالى، تألم السلطان لفقده، وشيع جنازته أمراء الدولة وأكابرها، وحملوا نعشه إلى أن وضع فى قبره، رحمه الله تعالى.
وهذا الذى أوردته من أخبار الشيخ فى مسألة الكلام نقلته من خط ولده الشيخ شرف الدين محمد، رحمه الله تعالى. وفضائله ومناقبه، رحمه الله تعالى، كثيرة. وقد أتينا منها بما يدل على مجموعها.
وفيها: أيضا توفى الصاحب كمال الدين «1» عمر، ابن قاضى القضاء نجم الدين أبى الحسن أحمد بن هبة الله «2» بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى ابن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبى جراده الحنفى المعروف بابن العديم الحلبى، كان فاضلا أديبا شاعرا كاتبا رئيسا مؤرخا، وكانت وفاته بمصر فى العشرين من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، ودفن بسفح المقطم، ومولده بحلب فى العشر الأول من ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.(30/77)
واستهلت سنة إحدى وستين وستمائة
ذكر البيعة للإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى «1»
كان وصوله إلى الديار المصرية فى سنة ستين وستمائة فتلقاه السلطان وأكرمه وخدمه، وأنزله بقلعة الجبل، وأدر عليه النفقات، ثم بايعه فى يوم الخميس الثانى من المحرم سنة إحدى وستين وستمائة على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية.
ذكر القبض على الملك المغيث صاحب الكرك واعتقاله «2»
كان القبض على الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك فى يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأول سنة إحدى وستين وستمائة. وذلك أن السلطان توجه من قلعة الجبل المحروسه لقصد الشام فى سابع شهر ربيع الآخر من السنة، وخيم بظاهر القاهرة إلى أن تجهز الناس، ورحل فى حادى عشر الشهر فوصل إلى غزة المحروسة فوجد والدة الملك المغيث بها، فأحسن إليها وأنعم عليها، وأعطاها شيئا كثيرا، وحصل الحديث معها فى حضور ولدها [إلى السلطان] «3» ، وتقررت الأمور سرا ولم يعلم أحد بما تقرر، وأعاد عليها العطاء والإنعام وعلى كل(30/79)
من حضر معها، وتوجهت وصحبتها الأمير شرف الدين الجاكى المهندار، برسم تجهيز الإقامات للملك المغيث إذا حضر من الكرك.
ونظر السلطان فى أمر أمراء التركمان وخلع عليهم. وأحضر أمراء العابد وجرم وثعلبة وضمنهم اليلاد، وألزمهم بالعداد «1» وشرط عليهم إقامة خيل البريد فى المراكز.
ثم سار من غزة ونرل الطور، فى ثانى عشر جمادى الأول. وسير الملك الأشرف صاحب حمص إلى السلطان يلتمس الإذن له فى الحضور إلى الخدمة فأذن له، فحضر فى نصف الشهر فتلقاه السلطان وأحسن إليه. وصارت رسل الملك المغيث تتوالى إلى السلطان وهو ينعم عليهم. وخرج [إليه] «2» الملك المغيث من الكرك وأقام مدة فى الطريق. وأظهر السلطان من الإحتفال بأمره شيئا كثيرا وخدعه أعظم خديعة. ولما وصل الملك المغيث إلى بيسان ركب السلطان لتلقيه فالتقاه وساق الملك المغيث إلى جانبه، فلما وصل إلى باب الدهليز ترجل ودخل إلى الخيمة فأدخل إلى خركاه واحتيط عليه وعلى أصحابه. وكان السلطان قد استدعى قبل ذلك قاضى القضاة بدمشق والعلماء وأظهر أن ذلك لمبايعته، ولم يطلع أحد على غير ذلك. فلما وقعت الحوطة على الملك المغيث أحضر السلطان الملوك والأمراء وقاضى القضاة والشهود والأجناد ورسل الفرنج وأخرج كتبا من جهة العدو المخذول إليه. وقال الأتابك لمن حضر: «السلطان يسلم عليهم ويقول ما أخدت الملك المغيث إلا بهذا السبب» . وقرئت الكتب. وانصرف(30/80)
الملك الأشرف ومن حضر. وقال للقاضى وجماعة العلماء: ما طلبتكم إلا بهذا السبب. وكتب مكتوب بصورة الحال، وكتب فيه القاضى والجماعة. ثم جهز الملك الأشرف وركب السلطان لوداعه.
وفى اليوم الذى قبض فيه على الملك المغيث جلس السلطان بعد انقضاء المجلس وأمر بالكتب إلى الكرك: بعد من فيها بالإحسان، ويحذرهم عاقبة مخالفته.
وسير الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير عز الدين أيدمر الظاهرى أستاد الدار العالية إلى جهة الكرك وجهز الخلع والأموال ليلحقهما بها «1» ، وجهز الملك المغيث عشية النهار إلى الديار المصرية صحبة من أختاره لذلك، وأطلق أهله وحاشيته، وسير حريمه إلى مصر وأطلق لهم الرواتب.
وكان من خبر وفاة الملك المغيث ما قدمناه فى أخباره، رحمه الله.
وفى هذه المنزلة «2» وصلت رسل دار الدعوة ومعهم الهدايا ووصل ولذا «3» الصاحبين مقدمى الدعوة، فأحسن السلطان إليهما وتوجها.
وفيها: أغار السلطان على عكا، وكان من أخبار الفرنج ما نذكر إن شاء الله تعالى فى غزوات السلطان وفتوحاته.
ولما رجع السلطان من الغارة توجه إلى نحو الكرك، وكان رحيله من منزلة الطور فى يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة من السنة. وجرد صحبته جماعة من العسكر وطائفة أخرى صحبة الأمير علاء الدين أمير جاندار إلى الصالحية.(30/81)
ووصل السلطان إلى القدس الشريف فى يوم الجمعة، فزار تلك الأماكن الشريفة وعاين ما يحتاج إليه من العمارة، وكتب إلى دمشق يتجهيز جميع ما يحتاج إليه من الأصناف والصناع. ثم صلى الجمعة، وتصدق وكتب بحماية الأوقاف، وتوجه نحو الكرك.
ذكر أخذ الكرك «1»
وفى يوم الخميس ثالث وعشرين جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وستمائة نزل السلطان على الكرك وصحبته العساكر، وأحضرت السلاليم الخشب من الصلت وغيرها. وكان السلطان قد استصحب من الديار المصرية جماعة من الحجارين والبنائين والنجارين والصناع على أنه يبتى الطور، وأحضر جماعة من دمشق وغيرها وسيروا إلى عين جالوت، وأشاع أن ذلك لبناء جامع، ولم يكن ذلك إلا لأجل الكرك. وعزم على الطلوع إليها بنفسه. فخاف أهل الكرك، ونزل أولاد الملك المغيث، وقاضى المدينة، وخطيبها وجماعة من أهلها، ومعهم مفاتيح الحصن والمدينة، وطلبوا العوض فحلف السلطان على ما طلبوا وأرضاهم بالعطاء، وسير الأمير عز الدين أيدمر أستاد الدار، والصاحب فخر الدين «2» لتسلم الحصن.
قطلعا فى ليلة الجمعة وقت المغرب وتسلماه. ودعى للسلطان فى بكرة الجمعة على أسوارها، ونصبت الصناجق السلطانية على أبراجها. وأصبح السلطان وطلع إلى الحصن فى الثالثة من نهار الجمعة وجلس فى القاعة الناصرية ورتب أحوال الحصن واهتم بأمره، وعين للقلعة خاصا. وأعطى أولاد الملك المغيث جميع(30/82)
ما حواه الحصن من مال وقماش وأثاث، وكذلك سائر غلمانهم وجميع الأمراء والمغادره والأجناد، ولم يتعرض لأحد منهم فى «1» شىء، ونزلوا جميعهم فى ذلك النهار، وصلى السلطان بها الجمعة وخطب له. ونزل وقت المغرب.
وفى يوم الأحد، سير إلى الملك العزيز ولد الملك المغيث الخلع والقماش، وكذلك [إلى] «2» الطواشى بهاء الدين صندل والأمير شهاب الدين بن صعلوك أتابكه.
وكتب السلطان إلى الشام بحمل الغلال والذخائر والأصناف إليها. وطلع إليها يوم الاثنين وكتب المناشير لعربانها ومن بها. وكانت تزيد على ثلاثمائة منشور فى وقت واحد، وعلم عليها، وثبتت، وسلمت لأصحابها بعد تحليفهم بين يدى السلطان، كل هذا فى بعض يوم. وجرد السلطان بها جماعة من البحرية والظاهرية، واستناب الأمير عز الدين أيدمر أستاد الدار بالكرك، وأضاف إليه النظر على الشوبك وأعمالها. وحلف مقدمى المدينة وحلف نصارها على الإنجيل. وحمل ما كان معه إلى الحصن من الزرد خاناه والأغنام والشعير وغير ذلك من سائر الأصناف والأقمشة وسبعين ألف دينار عينا، ومائة ألف وخمسين ألف درهم، وأعطى الأمير عز الدين أستاد الدار ثلاثين ألف درهم وجملة من القماش.
وتوجه السلطان إلى القاهرة فى يوم الأربعاء [تاسع عشر جمادى الآخرة] «3» فكان دخوله إليها فى سابع عشر رجب، وزينت المدينة أحسن زينة. وشق(30/83)
السلطان المدينة، وخلع على الأمراء والمقدمين والمغادرة وجميع حاشيته وغلمانه وأمر ولد الملك المغيث الأكبر: مائة فارس.
ذكر القبض على الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى والأمير شمس الدين أقش البرلى والأمير عز الدين الدمياطى، وما نقل من الأسباب الموجبة لذلك
وفى شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين وستمائة، قبض السلطان على الأمراء المذكورين واعتقلهم. وسبب ذلك أن السلطان كان قد أحسن إليهم إحسانا عظيما. وكان مما اعتمده مع الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى أنه فوض إليه أمر المملكة، وأنفذ كلمته، وأطلق له فى كل جمعة خوانين من عنده يمدان بجميع ما يحتاج إليه حتى ماء الورد، إلى غير ذلك. ورتب له فى كل شهر كلّوتتين زركشا بمائة دينار عينا، وكلبنداتها، كل كلبند بأربعين دينارا. كل ذلك زيادة على الإقطاعات العظيمة والمرتبات الكثيرة، وعلى الإنعام، حتى جامكيات «1» البزدارية والفهادين وعليق خيلهم. واشتغل الرشيدى بالشرب واللهو.
وأما الأمير عز الدين الدمياطى «2» فإن السلطان أعطاه وزاده، ومن جملة ما كان بيده نصف مدينة غزة زيادة، وكتب له توقيعا أنه إذا سافر فى جميع المملكة لا يمنع شيئا يطلبه فى الشام من غزة إلى الفرات.(30/84)
وأما الأمير شمس الدين البرلى فقد تقدم ما عامله به عند وصوله واستمر ذلك إلى آخر وقت.
ثم بلغ السلطان أن الرشيدى قد فسدت نيته فجعل عليه عيونا تحفط جميع ما يجرى منه، فكان مما أنكر السلطان عليه أن الأمير أسد الدين أستاد دار الملك المغيث أخبر السلطان أن كتاب الرشيدى وصل إلى الملك المغيث يقول له لا تحضر، فإن السلطان يريد أن يمسكك. وكان جواب السلطان: «إن كان الملك المغيث قد حلف للرشيدى فلا يحضر، وإن كان حلف لى فيحضر» .
ولم يظهر للرشيدى شيئا من ذلك. ولما سير السلطان الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى إلى الكرك كتب إلى السلطان يقول: «إننى أمسكت كتابا من الرشيدى بالكرك يقول: «لا تسلموها» ، ويحسن لهم التوقف عن التسليم ويعرض عليهم الاتفاق معه على أن يحضر هو ويتسلمها منهم ويحفظها لهم، فكتم السلطان ذلك وأمر الأمير بدر الدين بيسرى بالأحتراز والتحفظ. ولما توجه السلطان إلى الكرك جعل على الرشيدى عيونا، فبلغ السلطان أنه لما نزل الكفرين ونمرين قصد الركوب فى أصحابه ومماليكه «1» ويسبق إلى الكرك فيدخلها هجما. فركب السلطان إليه ونزل عنده ولاطفه ومازحه، ففاته مادبره، وحفظ السلطان عليه الطرقات، ثم نزل السلطان بركة زيزاء، فبلغه أن الرشيدى قد عزم على الركوب إلى الكرك، فخدعه السلطان بأن أرسل إليه أحد خواصه يبشره بتسليم الكرك.
فلما سمع الرشيدى ذلك وقف عن فعله وخلع على المبشر. فلما رجع السلطان من الكرك وتزل غزة قام ليسبغ الوضوء على العادة، وتفرقت الخاصكية للوضوء(30/85)
والتهيؤ لصلاة الجماعة. وقام السلطان يتركع قبل الأذان، وإذا بالرشيدى قد أقبل فى مقدار ثلاثمائة فارس مستعدة من مماليكه والدمياطى والبرلى، فلما قضى السلطان صلاته شد سيفه، وقال للأمير شمس الدين سنقر الرومى: ما الذى رأيت؟
فقال: «جماعة ما جاءوا فى خير» . ثم حضر الأمير سيف الدين قلاون الألفى وركب فرسا جيدا ووقف، واجتمعت الخاصكية. وركب السلطان، وأتى الرشيدى فوقف بالقرب من السلطان فى مكان ما جرت عادته بالوقوف فيه، فحضر الأمير عز الدين إيغان الركنى فقال للرشيدى: «أراك فى هذا المكان، ما هذا مكانك يا سيف الدين» ومازحه ومازال به حتى ساق من ذلك المكان، وساق الدمياطى والبرلى وتفرقوا. وكان الدمياطى قد جرت منه قضية أخرى وهى أن السلطان لما ملك الكرك وأنزل أولاد الملك المغيث أعطاهم السلطان خلعا وأقمشة وإنعاما كثيرا وأنزلهم فى المنظرة التى فى الوادى تحت الكرك بقرب منزلة السلطان: سير الدمياطى ضوّاء «1» وجماعة يمشون حولهم بغير أمر السلطان ثم حضر فى الليل إليهم جماعة من مماليكه بالسيوف متلثمين فكسروا الصناديق وأخذوا القماش الذى كان السلطان أنعم عليهم به ظنا منهم أن تقوم فتنة وشوشة فى العسكر ولا يعلم أنهم مماليك الدمياطى، فكشف الله ذلك، وظهر القماش عند خواص مماليكه، واطلع السلطان على ذلك، وتحدث الأمير شجاع الدين المهندار مع الدمياطى فما أنصف من مماليكه، وقال: «أنا أغرم عنهم» ، وأحضر بعض القماش، وقرر أن تقوم بدارهم عن بقية ذلك. هذا والسلطان لا يتكلم بكلمة بل كتم ذلك إلى أن استقر بقلعة الجبل فلما أصبح طلب الرشيدى(30/86)
فأعتقله، وطلع الأمراء إلى الخدمة فى اليوم الثانى، فأمسك الدمياطى والبرلى وأحسن إلى مماليكهم وخواصهم وأقرهم على أخبازهم، ولم يغير على أحد منهم ولا تعرض على بيوت الأمراء.
ذكر وصول [رسل «1» ] الملك بركة
قال: ولما وصل السلطان إلى غزة عند عوده من الكرك، وصل إليه البريد من الأمير عز الدين الحلى نائب السلطنة بالديار المصرية، يذكر أن رسل الملك بركة وصلوا إلى ثغر الإسكندرية، وهم الأمير جلال الدين بن القاضى، والشيخ نور الدين على ومعهما جماعة، وبخبر بوصول رسل الملك الأشكرى، ورسل مقدم الجنوية، ورسل السلطان عز الدين صاحب الروم. فكتب بالإحسان إلى جميعهم. ولما استقر السلطان بقلعة الجبل أحضرهم واجتمع بهم بحضور الأمراء وغيرهم، وقرئت الكتب ومضمونها، السلام والشكر وطلب الإنجاد على هولاكو والإعلام بما هو عليه من مخالفة يسق «2» جنكرخان، وأن جميع ما فعله من إتلاف النفوس بطريق العدوان منه، وأننى قد قمت أنا وأخوتى الأربعة بحربه من سائر الجهات لإقامة منار الإسلام، والتمس إنفاذ جماعة من العسكر إلى جهة الفرات لإمساك الطريق على هولاكو، ويوصى على السلطان عز الدين صاحب الروم ويستمد مساعدته. فأنعم السلطان على الرسل إنعماما عظيما، ورسم بتجهيز الهدية إلى الملك بركة.(30/87)
قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر: وكان فى جملة الهدية ختمة شريفة ذكر أنها خط عثمان بن عفان رضى الله عنه، ونمزلقات «1» ، وسجادات وذكر أشياء كثيرة من جملتها زرافة، وسافرت الرسل فى سابع عشر شهر رمضان سنة إحدى وستين وستمائة.
ذكر توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية «2»
وفى سادس شوال سنة إحدى وستين وستمائة، توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية، وذلك بعد أن توجه نحو الصيد وتصيد. وكان دخوله إلى الثغر فى يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة، ودخل من باب رشيد. ورسم بمكتوب برد مال السهمين، وصلة أرزاق الفقراء، ووضع المظالم، ثم لعب الكرة، وخلع على الأمراء ووصلهم بالأموال والأقمشة. وركب لزيارة الشيخ القبارى «3» والشاطبى وجلس بدار العدل فى يوم الخميس تاسع الشهر وبسط المعدلة وأمر بتطهير الثغر من الخواطى الفرنجيات. ثم رجع السلطان فى حادى عشر الشهر.
وفى آخر ذى القعدة من السنة نزل السلطان إلى القاهرة، وعاد الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير علاء الدين أيدغدى الركنى والأمير حسام الدين بركة خان.(30/88)
وفى ليلة الأربعاء الخامس من ذى الحجة توفى الأمير حسام الدين المذكور، فحضر السلطان جنارته ومشى فيها.
ذكر وصول التتار المستأمنين «1»
وفى سابع ذى القعدة من السنة، وردت الكتب من البيرة وحلب أن جماعة من التتار مستأمنه واردة إلى الباب العزيز، يزبدون على ألف وثلاثمائة فارس من المغل والبهادرية. فكتب السلطان بالإحسان إليهم وتجهيز الإقامات لهم. وفى يوم الخميس السادس والعشرين من ذى الحجة كان وصولهم، فركب السلطان وتلقاهم، فنزلوا عندما رأوا السلطان، وقبلوا الأرض. وكان السلطان قد رسم بعمارة مساكن لهم فعمرت باللوق فنزلوها، وأحسن إليهم. ثم وردت الكتب بقدوم جماعة أخرى كثيرة منهم، فاحتقل بهم وركب لتلقيهم. ثم ورد جماعة أخرى فاعتمد معهم من الإحسان نظير أولئك. وكان الواصل إلى الخدمة فى هذه الثلاث مرار من أكابر أمرائهم من يذكر. وهم:
كرمون أغا، وهو الذى فتح بلاد الترك جميعها، وامتغا أغا «2» ونوكا أغا «3» ، وجبراك «4» أغا، وقنان أغا، وطيشور، وناصغبة «5» ونبتو، وصحبتى «6» وجوجلان،(30/89)
واجقرقا، وأرقدق «1» وصلاعنة «2» وميقتدم «3» ، واجتمعوا بمن كان قد وصل قبلهم وهم: صراغان أغا ومن كان قد وصل معه. ثم عرض السلطان عليهم الإسلام فأسلموا على يديه.
وفى هذه السنة أمر السلطان بعمل جامع خام «4» يضرب على يمنة الخيمة السلطانية، وعمل له محاريب وعدة أبواب ومقصورة برسم السلطان.
وفيها: أمر السلطان بعمارة دار العدل تحت قلعة الجبل، وتجديد بنائها.
وفيها: وصلت رسل اليمن بتقادم ومعهم هدايا لخواص الأمراء، فأمر السلطان بإنفادها إلى من عينت له وأذن لهم فى قبولها.
وفيها: عرض السلطان العساكر، وكان يجلس لذلك فى كل خميس واثنين.
وفيها: جهز السلطان عرب خفاجة، وسير الخلع إلى كبراء العراق، وكتب إلى صاحب شيراز وغيره بالاغراء بهولاكو.
وفيها: توفى الأمير فخر الدين «5» أبو الهيجا بن عيسى بن خشترين الأزكشى الكردى أحد الأمراء بدمشق، وكان شجاعا أبلى فى وقعه عين جالوت بلاء حسنا، رحمه الله تعالى.(30/90)
وفيها: توفى الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك المسعود صلاح الدين أقسيس بن الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وكانت وفاته بنابلس فى خامس عشر ذى الحجة سنة إحدى وستين وستمائة، ومولده بدار الوزارة بالقاهرة فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو الذى كان قد ملك الديار المصرية فى أيام الملك المعز عز الدين أيبك كما تقدم.
فلما ملك السلطان الملك الظاهر أمرّه بالشام، وخلف، رحمه الله، ولدا اسمه ناصر الدين محمد، ونعته بالملك الكامل.(30/91)
واستهلت سنة اثنتين وستين وستمائة
ذكر تفويض أمر جيش حماة إلى الطواشى شجاع الدين مرشد الحموى
وفى أول هذه السنة طلب السلطان الطواشى المذكور «1» وتحدث فى أشتغال «2» صاحب حماه مخدومه بالملاذ واللهو، وقال: «كتب إليه أو نبتهه من هذه الغفلة، وسيرت إليه شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ فى ذلك فما أفاد، وقد اعتمدت عليك فى مصلحة هذا البلد، لما فيك من الديانة والخير والشجاعة» ، والزمه بتكملة الجيش والزام الجند باقامة البرك والعدة الكاملة. فالتزم بهذه الأمور. وكتب تقليده بذلك وتوجه.
ذكر عمارة المدرسة الظاهرية وترتيب الدروس «3»
كان الشروع فى عمارة المدرسة الظاهرية التى هى بالقاهرة المحروسة بين القصرين فى ابتداء الدولة فى ثامن شهر ربيع الآخر سنة ستين وتنجر بابها ودهليزها وأبوابها وكتاب السبيل فى أواخر شعبان من السنة المذكور. ولم يشرع فى بنائها حتى رتب أمور أوقافها. وكان المتولى عمارتها الأمير جمال الدين ابن يغمور، ورسم له السلطان ألا يستعمل أحدا فيها بغير أجرة. وكان اجتماع(30/93)
أهل العلم بها فى يوم الأحد الخامس من صفر سنة اثنتين وستين وستمائة. وفوض السلطان تدريس الحنفية للصدر مجد الدين بن الصاحب كمال الدين بن العديم، وتدريس الشافعية للقاضى تقى الدين بن رزين. وصدر الافراء للفقيه كمال الدين المحلى، والتصدر لإفادة الحديث النبوى للشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطى شيخنا. وذكرت الدروس بها فى هذا اليوم، وحضر السلطان، ومدت الأسمطة وأنشد الشعراء وخلع عليهم.
وفى صفر من سنة، خرج السلطان متصيدا إلى جهة الغربية وتوجه إلى ثغر دمياط وزار البرزخ ومر فى عوده ببلاد أشموم «1» ، وتصيد بمنزلة ابن حسون، وأخذ على بلاد الشرقية.
ذكر وفاة الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص والرحبة «2»
وفى يوم الجمعة حادى عشر صفر من هذه السنة، توفى الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادى [بن مروان] رحمه الله تعالى.
ولم يكن له ولد ولا أخ ولا ولى عهد، فسير السلطان إلى نوابه بتسليمها. فوصل البريد فى سابع عشرين صفر بأن بدر الدين بيليك العلائى أحد الأمراء قد تسلما، وحلف الناس بهما للسلطان.(30/94)
وفى هذا التاريخ ورد كتاب الأمير جمال الدين النجيبى النائب بدمشق يذكر أنه ولى حران للأمير جمال الدين الجاكى، والرقة لأمير آخر.
وفى هذا الشهر: سأل الفرنج نواب السلطان أنهم بأذنون لهم فى زراعة البلاد وتقويتها من أموالهم وهى جملة كثيرة من الغلال، فتقررت الهدنة معهم إلى أيام الحصاد.
وفى هذه السنة. ثمن القرط الذى قضمته الخيول السلطانية وجمال المناخات فكان ثمنه خمسين ألف دينار «1» .
وفيها: استدعى السلطان الأمير علاء الدين الشهابى النائب «2» بحلب وأمره أن يستنيب عنه الأمير نور الدين بن محلى «3» ففعل ذلك. ولما وصل الملك إلى الأبواب السلطانية عزله السلطان عن نيابة حلب، وأقر الأمير نور الدين بن محلى فى نيابة حلب فأحسن السيرة، وعمر البلاد وأعاد الفلاحين «4» ، وأفرد الخاص على ما كان عليه فى الأيام الناصرية.(30/95)
ذكر جلوس السلطان بدار العدل وما رتبه عند غلو الأسعار «1»
قال: وفى شهر ربيع الآخر من السنة غلت الأسعار [بمصر] وبلغ ثمن الأردب إلى قريب المائة درهم نقرة. فرسم السلطان بالتسعير طلبا للرفق.
فاشتد الحال وعدم الخبز. فأمر السلطان أن ينادى باجتماع الفقراء تحت القلعة، ونزل إلى دار العدل فى يوم الخميس سابع الشهر، فأول ما تكلم فيه إبطال التسعير.
ورسم أن يباع من الأهراء فى كل يوم خمسمائة أردب بما يقدره الله من ويبتين فما دونها تباع على الضعفاء والأرامل. ونزل الحجاب تحت القلعة وكتبت أسماء للفقراء، وسير إلى كل جهة حاجبا لكتابة الأسماء فى القاهرة ومصر وحواضرها، ولما تكامل حصر العالم أخذ السلطان ألوفا، وأعطى لنواب ولده الملك السعيد كذلك، وأعطى لكل أمير جماعة على قدر عدته، وفرق على الأجناد ومفاردة الحلقة والمقدمين والبحرية، وعزل التركمان والأكراد البلدين، ورسم أن يعطى لكل فقير مئونته مدة ثلاثة شهور، ويسلم نواب الأمراء والأكابر والتجار الفقراء.
ثم قال السلطان: «هؤلاء الفقراء جمعناهم فى هذا اليوم وقد انقضى نصف النهار فليعط كل منهم نصف درهم يتقوت به خبزا، ومن غد يتقرر الحال» . فانفق فيهم جملة كثيرة بهذا القدر خاصة. وأخذ الصاحب جماعة العميان والأتابك [جماعة] «2» التركمان، ولم يبق أحد من الخواص والحواشى وأرباب المناصب وغيرهم إلا أخذ جماعة. فانحطت الأسعار لذلك وكثر الخبز.(30/96)
وفى ثالث شهر ربيع الآخر من السنة رسم السلطان بمسامحة بنات الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزى «1» بما وجب للديوان فى تركة أبيهن، أربعمائة ألف درهم نقرة.
وفى هذه السنة، قصد متملك الأرمن حلب المحروسة مرة بعد أخرى، فلم يظفر بشىء، وخاب سعيه على ما نشرحه إن شاء الله فى غزوات السلطان وفتوحاته «2» .
وفيها: رسم السلطان بحفر خليج الإسكندرية «3» ، وكانت قد استدت فوهته، وندب لذلك الأمير عز الدين أمير جاندار فأهتم بذلك وحفر المكان المعروف بالنقيدى، وأمر ببناء مسجد هناك ليكون تذكرة باقية. وجهز الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستاد الدار العالية وأمره بالاهتمام بأمر جزيرة بنى نصر لما بلغه قلة ريها، فاحتفل بها كل الأحتفال.
وفيها: فى جمادى الأول، تقدم أمر السلطان إلى الأمير سيف الدين بلبان الزينى أمير علم بالتوجه إلى الشام للاهتمام بأمر القلاع والبلاد وعرض عساكر حماة وحلب ورجال الثغور، والنظر فى المهمات الخاصة والعامة، والزام الأمراء بتكملة العدد والعدة «4» وازاحة الأعذار وأخذ الأهبة للجهاد، وكتب على يده إلى دمشق بحمل خزانة كبيرة إلى البيرة برسم نفقاتها، فتوجه لذلك.(30/97)
وفى العشر الأوسط من جمادى الاخره حصل الظفر بجاسوسين للتتار، وكانت أخبارهما وحلّاهما وصلت إلى السلطان من جهة القصاد والناصحين بالأردو «1» ، وكذلك من كل جهة يصلان إليها، إلى أن ركبا من عكا فى البحر، فلما وصلا إلى ثغر دمياط مسكا وأحضرا إلى بين يدى السلطان فذكر لهما الأماير، فأقرّا، ووجد معهما فرمانين للأتابك من هولاكو، وهو يرغبه ويستميله. فطلب السلطان الأتابك وأراه ذلك، ولم يصدق ذلك فيه، ومزق ذلك وحرقه، واستدل بذلك على ضعف هولاكو.
وفى هذه السنة تنجّز البرج الذى أمر السلطان بعمله فى قارا «2» ، وشرع فى بناء برج أكبر منه لحفظ الطرقات وصون الرعية من عوادى الفرنج المجاورين.
وفى جمادى الأول من السنة شرع النواب بالشام فى بناء شقيف تيرون.
وفى الشهر أنعم السلطان على عسكر الساحل الذين هم صحبة الأمير ناصر الدين القيمرى بمائتى ألف درهم فرقت عليه.
ذكر جلوسه بدار العدل وما قرره من مشاركة أمناء الحكم للأوصياء «3»
وفى مستهل شهر رجب سنة اثنتين وستين وستمائة، جلس السلطان بدار العدل، فتقدم رجل من الأجناد ومعه صغير، فقال: «أنا وصىّ هذا الصغير»(30/98)
وشكا من قضية تتعلق به. فقال السلطان لقاضى القضاة: «أعلم أن الأجناد يموت الواحد منهم فيستولى خوشداشيته على موجوده ويجعل اليتيم أوشاقية، ويموت اليتيم فيستولى الوصى على الموجود، أو يكبر اليتيم ولا يجد شيئا ولا يقوم له حجة على موجوده. وقد يموت الوصى فينغمس مال اليتيم فى ماله، وأنا أرى ألا ينفرد أحد من الأوصياء بوصية، وأن يكون نظر الشرع شاملا، وأموال اليتامى مضبوطة، وأمناء الحكم يحاققون على المصروف وطلب نواب الأمراء ونقباء العساكر وأمرهم بذلك. واستمرت الحال عليه إلى وقتنا هذا.
ذكر وصول جماعة من عسكر شيراز «1»
وفى جمادى الآخر، بلغ السلطان أن جماعة من عسكر شيراز وصلوا لقصد الخدمة الشريفة، فأمر بالإحسان إليهم. ووصلوا فى ثالث شهر رجب ومقدمهم بكلك ورفقته وهم: سيف الدين اقبار جمدار «2» السلطان جلال الدين خوارزمشاه والأمراء الأتابكية غلمان أتابك سعد منهم: سنقر جاه وغيره من الأتابكية. ووصل صحبتهم حسام الدين بن ملاح أمير العراق وجماعة من أمراء خفاجة، فتلقاهم السلطان وأحسن إليهم، وأمرّ الأمير سيف الدين بكلك وأعطاه طبلخاناه، وكذلك أمراء خفاجة، والأمير مظهر الدين وشاح بن سهرى «3» ، وأطلق لحسين ابن ملاح قرية فى الشام، وجهزهم إلى بلادهم.(30/99)
وفى شهر رمضان وصل رسول من الملك «1» شارل أخى الملك افرنسيس وهو صاحب مرشيلية، وصحبته عدة من السناقر الشهب والأمتعة. ومضمون كتابه المحبة والمشابعة. ووصل كتاب استاد داره يقول: إن مخدومه أمره أن يكون أمر السلطان نافذا فى بلاده، وأن يكون نائب السلطنة كما هو نائبه.
وفى يوم الجمعة خامس عشر شهر رمضان: قرىء مكتوب بجامع مصر بأبطال ما قرره على ولاية مصر من الرسوم وهى مائه ألف درهم وأربعة آلاف درهم [نقرة «2» ] .
وفى هذا الشهر أحضرت فلوس من جهة قوص وجدت مدفونة فأخذ منها فلس: فإذا عليه صورة ملك واقف، وفى يده اليمنى ميزان، وفى اليسرى سيف، ومن الوجه الآخر رأس مصور بآذان كبيرة، ويداير الفلس سطور، فقرأها راهب يونانى: فكان تاريخه إلى وقت قراءته ألفين وثلاثمائة سنة. وفيه مكتوب: أنا غلياث الملك، ميزان العدل، والكرم فى يمينى لمن اطاع، والسيف فى يسارى لمن عصى، وعلى الآخر: أنا غلياث الملك، أذنى مفتوحة لسماع كلمة المظلوم، وعينى مفتوحة أنظر بها مصالح ملكى.
ذكر سلطنة الملك السعيد «3»
وفى يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة اثنتين وستين وستمائة، حصل الاتفاق على سلطنة الملك السعيد، فأركبه السلطان بشعار السلطنة، ومشى بنفسه فى(30/100)
ركابه وحمل الغاشية. ثم أخذها الأمراء وحملوها وعليهم الخلع الفاخرة، ورجع السلطان. ولم يزل الملوك والأمراء فى خدمته إلى باب النصر، ودخلوا القاهرة رجالة يحملون الغاشية، وقد زينت المدينة أحسن زينة. وشقى الملك السعيد القاهرة وأتابكه عز الدين الحلى راكب إلى جانبه. وبسط الأمراء الثياب الأطلس والعتابى وغيرها تحت حوافر فرسه. ولم يزل إلى أن عاد إلى القلعة «1» .
وكانت [الثياب «2» ] بجملة عظيمة تفرقها المماليك السلطانية وأرباب المنافع.
وكتب له تقليد شريف أنشأه المولى محيى الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر، وقرىء بحضور الأمراء وقاضى القضاة والعلماء فى سابع عشر الشهر.
وفى العشر الأول من ذى القعدة من السنة، عرض السلطان الجيش «3» ، وكان قبل ذلك رسم بتكملة العدة والتأهب للغزاة فجلس فى هذا اليوم على الصفة التى بجانب دار العدل عند طلوع الشمس، وساق كل أمير فى طلبه، وعليهم لامة الحرب، وجروا الجنائب عليها عدة الحرب دون غيرها من التشامير والمراوات المتخذة للزينة. وعبرت العساكر خمسة خمسة. فلما طال الأمر عبروا عشرة عشرة، وهلك الناس من الزحام. وإنما قصد السلطان عرض العسكر فى يوم واحد حتى لا يقال إن أحدا استعار من أحد شيئا. وكان الناس يدخلون من باب القرافة ويخرجون من جهة الجبل إلى صوب باب النصر إلى الدهليز المضروب هناك. ولما قرب وقت المغرب ركب السلطان وساق فى وسط العساكر فى جماعة يسيرة من سلاح داريته وخواصه، ونزل إلى الدهليز، ورتب(30/101)
المنازل، ورجع إلى قلعته وقت المغرب. ثم اهتم الناس بعد ذلك باللعب بالقبق، ولبسوا خيولهم التشاهير والبراجم «1» البحرية والمراوات والأهلة الذهب والفضة والأطلس وغير ذلك. وساق السلطان إلى ميدان العيد «2» وبين يديه جنائيه العظيمة وهى مزينة. حكى القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية قال: قال لى القاضى فتح الدين بن سناء الملك وهو صاحب ديوان الخزائن قبل هذا الوقت بمدة سنة: إن الذى دخل فى المراوات من البنود الأطلس الأصفر قيمته عشرة آلاف دينار، وما تجدد بعد ذلك لا يحصى. قال: وشرط السلطان لكل أمير يصيب القبق فرسا من خيوله بما عليه من التشاهير، ولكل مفردى أو مملوك أو جندى خلعة تليق بمثله. ودخل الناس بالرماح بكرة النهار، ثم شفع السلطان ذلك برمى النشاب. وحضر رسل الملك بركة فى ذلك الوقت ووقفوا مع السلطان وشاهدوا ذلك واستعظموه، وأقام العسكر كذلك أياما.
وفى تاسع عشر ذى القعدة خلع السلطان على الملوك والأمراء والبحرية والحجاب والمفاردة وأرباب المناصب من الوزراء والقضاة وأرباب البيوت «3» .
وحضر الناس بالخلع والتشاريف ولعبوا بقية ذلك النهار. فقالت رسل الملك بركة للسلطان: «هذه عساكر مصر والشام؟» . فقال: «بل عساكر المدينة خاصه، غير الذين فى الثغور، والمجردين والذين «4» فى إفطاعهم» فعجبوا من ذلك.(30/102)
ذكر ختان الملك السعيد ومن معه
قال: وفى عاشر ذى القعدة من السنة رسم السلطان بعمل سماط عظيم، ومد بالقلعة لختان الملك السعيد بن السلطان، فأكل الناس وختن الملك السعيد ثم ختن بعده ابن الأمير عز الدين الحلى، وابن الأمير شمس الدين سنقر «1» الرومى، وولد الأمير سيف الدين سكر، وولد الأمير حسام الدين بن بركة خان، وولد الملك المجاهد ابن صاحب الوصل، ثم أولاد الملك المغيث صاحب الكرك الخمسة «2» وولد فخر الدين الحمصى، وجماعة أخر من أولاد الأمراء. وكان قد تقدم قبل ذلك بكسوة جماعة من الأيتام وأبناء الفقراء بالقاهرة ومصر، فأحضروا إلى القلعة وخنتوا. وحمل السلطان عن الأمراء والخواص كلفة التقادم «3» .
ذكر خبر غازية الخنافة «4»
وفى هذه السنة ظهر بخليج القاهرة قتلى، وفقد جماعة من الناس أتهم بهم معارفهم، والتبس أمرهم. ودام ذلك شهورا. ثم ظهر أن امرأة حسناء وضيئة تسمى غازية كانت تتبرج بزينة فاخرة وتطمع من يراها من الأحداث فى نفسها، ومعها امرأة عجوز، فإذا رأت أحدا قد مال إليها تعرضت له وخاطبته فى أمرها وقالت: هذه لا يمكنها أن تجتمع بأحد إلا فى منزلها خوفا على نفسها. فمنهم من يحمله الغرض على موافقتها فيتوجه معها، فإذا حصل عندها خرج إليه رجلان(30/103)
فيقتلانه ويأخذان «1» لباسه وما معه. وكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر مخافة الشعور بهم، ثم سكنوا خارج باب الشعرية على الخليج، وكان بالقاهرة ماشطة مشهورة فجاءتها العجوز وقالت لها: عندنا أمرأة قد زوجناها ونحتاج إلى قماش وحلى تتجمل به بالأجرة على العادة، فأحضرى لها ما يمكنك ونحن نزيدك فى الأجرة، وواعدتها أن تأتيها ليلا ففعلت الماشطة ذلك وأتتها ومعها جارية تحمل القماش والمصاغ، فوصلتها الجارية وعادت، فلما دخلت الماشطة قتلت وأخذوا ما معها، ثم جاءت الجارية من الغد وطلبت الماشطة فأنكروها، فتوجهت الجارية إلى متولى المدينة، فجاء وهجم الدار، فوجد فيها الصبيّة والعجوز، فأخذهما وقررهما، فأفرتا على نفسيهما «2» وعلى رجلين آخرين فحبسهما. وجاء أحد الرجلين يتفقد أمرهما فى الاعتقال فقبض عليه وعوقب قأقر ودل على رفيقه وعلى رجل «3» طواب كان يحرق لهم من يقتلونه «4» فى قمين الطوب. فطولع السلطان فى أمرهم، فأمر بتسمير الخمسة فسمروا تحت القلعة، وشفع بعض الأمراء فى إطلاق المرأة فأطلقت وفكت المسامير فماتت بعد أيام. وهدم عوام القاهرة الدار التى كانوا يسكنونها ويقتلون فيها. وبنيت مسجدا «5» بمأذنة، وظهر فى الدار حفيرة فيها قتلى كثيرة.(30/104)
ذكر وصول رسل الملك بركة
قد ذكرنا «1» أن السلطان كان قد جهز الأمير سيف الدين كشريك والفقيه مجد الدين الروذ راورى إلى الملك بركة، وأنهما توجها فى المحرم سنة إحدى وستين وستمائة. وذكرنا عود الفقيه مجد الدين للمرض الذى أصابه، فتوجه الأمير سيف الدين ومن معه من المفل. وكان اجتماعهم بالأشكرى فى أنبه، ثم رحلوا إلى القسطنطينية فى عشرين يوما. ومنها إلى اصطنبول «2» ، ومنها إلى دفنسيا، وهى ساحل السوادق من جهة الأشكرى، ثم ركبوا فى البحر إلى البر الآخر ومسيرة ما بين العشرة أيام إلى يومين، ثم طلعوا إلى جبل يعرف بسوداق، فالتقاهم وإلى تلك الجهة فى قرية اسمها القرم «3» ، يسكنها عدة أجناس من الففجاق والروس واللان.
ومن الساحل إلى هذه القرية مسيرة يوم، ثم ساروا من القرم إلى برية يوما واحدا، فوجدوا بها مقدم عشرة الآلاف وهو حاكم على تلك الجهات، ثم ساروا عشرين يوما فى صحراء عامرة بالخركاهات والأغنام إلى بحر إتل، وهو بحر حلو سعته سعة نهر النيل، وفيه مراكب الروس ومنزلة الملك بركة على طول ساحله.
قال: وحملت إليهم الإقامات فى طول الطرقات. ولما قاربوا الأردو تلقاهم الوزير شرف الدين القزوينى.(30/105)
ثم حضروا عند الملك بركة، وكانوا قد علموا آدابه التى تعتمد معه، وهى الدخول عليه من جهة اليسار، فإذا أخذت الكتب منهم انتقلوا إلى جهة اليمين، ويكون القعود الى الركبتين. ولا يدخل أحد معه إلى حركاته بسيف ولا سكين ولا عدة، ولا يطا برجله عتبة الخركاه، ولا يقلع الإنسان عدته إلا على الجانب اليسار، ولا يترك القوس فى القربان، ولا يخليه موترا ولا يخط فى تركاشه نشابا، ولا يأكل الثلج، ولا يغسل ثوبه فى الأردو.
قال: ووجد الملك بركة فى؟؟؟ تسع خمسمائة رجل مكسوة لبادا أبيض، مستورة من داخلها بالصندات والخطاى «1» مرصعة بالجواهر واللؤلؤ، وهو جالس على تخت، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، وعنده خمسون أو ستون أميرا «2» على كراص الخركاه. ولما دخلوا إليه أمر وزيره بقراءة الكتاب، ثم نقلهم عن اليسار إلى اليمين، وسألهم عن النيل، وقال: «سمعت أن عظماء لابن آدم ممتدا على النيل يعبر الناس عليه؟» فقالوا: «ما رأينا هذا» قال: وأخذ قاضى القضاة الذى عنده هذا الكتاب وفسره وبعث به نسخة إلى القان. وقرىء كتاب السلطان بالتركى على من عنده، ففرحوا به. وأعادوا الرسل بجوابه، وسير معهم رسله، فكان وصولهم فى ذى القعدة من هذه السنة.
ذكر توجه السلطان إلى الاسكندرية وتقديم سيف الدين عطاء الله على عرب برقة
قال: ولما فرغ السلطان من هذا المهم توجه إلى ثغر الإسكندرية متصيدا،(30/106)
فعدّى فى ذى القعدة من السنة وسار إلى تروجة «1» ، ومنها إلى الحمامات، وسار إلى منزلة الكرش بالقرب من العقبة الصغرى، وضرب حلقة هناك، ووصلت المسيرة إلى قرب العقبة الصغرى، وعيّد عيد الأضحى، وصلى صلاة العيد، ونحر الأضاحى، وبلغه أن بعض العربان قد عصوا فى البرارى، فجرد إليهم جماعة، وحضر جماعة من عرب هوارة وعرب سليم فكتب عليهم الحجج بعمارة البلاد، وألا يقربوا أحدا من العربان العصاة.
وعاد السلطان إلى الإسكندرية، وصلى فى الجامع الغربى «2» ، ولعب الكره بميدانها. وزار الشيخ الشاطبى «3» ، ورجع إلى القاهرة فلما وصل إلى تروجة رسم بتقديم سيف الدين عطاء الله بن عزار «4» على عرب برقة، وتحدث معه فى أمر العربان وكونهم ينتفعون من مصر بأثمان الخيول المحلوبة والأغنام، وأنهم يستنتجون الأغنام ويزرعون ولا يقومون بحق الله. فالتزم المذكور بحفظ البلاد واستخراج الزكاة من العربان. وأنعم عليه السلطان بصنجق «5» ونقارات «6» ، وتوجه «7» .(30/107)
قال: ولما وصل السلطان من الإسكندرية وصل شحنة «1» تكريت ومعه جماعة فأحسن إليهم.
ذكر الواقعة الكائنة بين المسلمين والفرنج ببلاد الأندلس- وانتصار المسلمين
كانت هذه الواقعة فى سنة اثنتين وستين وستمائة. وورد الخبر بها إلى الديار المصرية فى سنة ثلاث وستين بمقتضى كتاب ورد فى جمادى الآخرة يتضمن انتصار المسلمين على الفرنج. وأمير المسلمين وسلطانهم يومئذ أبو عبد الله بن الأحمر وكان ألفنش ملك الفرنج قد طلب منه الساحل من طريف إلى الجزيرة، ومالقة إلى المرية، وحضر بجموعة، فاجتمع المسلمون ولقوهم واقتتلوا، فانهزم الفرنج مرارا، وأخذ أخو الفنش أسيرا. ثم اجتمع الفرنج فى جموع كثيرة ونزلوا على أغرناطه «2» فقتل المسلمون منهم مقتله عظيمة، وجمعوا من رءوسهم نحو خمسة وأربعين ألف رأس، وجعلت تلا، وأذن المسلمون فوقه. وأسر من الفرنج عشرة آلاف. وذلك فى يوم الخميس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة. وانهزم ألفنش الى اشبيلية، وكان قد دفن أباه بجامعها فأخرجه من قبره، خوفا من استيلاء المسلمين عليها وحمله إلى طليطلة، واستعاد المسلمون من الفرنج اثنتين وثلاثين بلدا «3» من جملتها اشبيلية ومرسية وشريش وغير ذلك.(30/108)
وفى هذه السنة كانت وفاة الأمير حسام الدين لاجين العزيزى الجوكندار «1» بدمشق، ودفن بفسح قاسيون. وقيل إنه سم، وأن مملوكه جمال الدين أيدغدى واطأ عليه. وكان شجاعا كريما متواضعا يحب الفقراء ويكرمهم ويتولى خدمتهم بنفسه، رحمه الله تعالى.
ذكر مقتل الزين الحافظى «2»
وفى أواخر سنة اثنتين وستين وستمائة، احضر هولاكو زين الدين أبا المؤيد سليمان بن عامر العقريانى، المعروف بالحافظى، وقال له ما معناه: قد ثبت عندى خيانتك وتلاعبك بالدول، وأنك خدمت صاحب بعلبك طبيبا، فخنته، واتفقت مع غلمانه على قتله. ثم انتقلت إلى خدمة الملك الحافظ الذى عرفت به ونسبت إليه، فلم تلبث أن خنته، وباطنت الملك الناصر حتى أخرجت قلعة جعبر عن يد مخدومك، ثم انتقلت إلى خدمة الملك الناصر فخنته معى، ثم انتقلت إلىّ، فأحسنت إليك إحسانا لم يخطر ببالك أن تصل إلى بعضه منى، وقد شرعت تعاملنى بما عاملت به الملك الناصر. وعدد له ذنوبا أخر من خيانته فى الأموال التى كانت قد ندبه لاستخراجها من البلاد، وأمر بقتله هو وأهله، فقتل هو وأخوته وأولاده وأقاربه ومن يلوذ بهم، وكانوا نحو الخمسين لم ينج منهم إلا ولده مجير الدين محمد وولد أخيه اختفى بالسوق وقيل إن السلطان الملك(30/109)
الظاهر تسبب فى قتله، فأنه أحسن إلى أخيه عماد الدين أحمد، ورتب له راتبا كبيرا، وأمره بمكاتبة أخيه واستدعائه، وأنه إذا وصل كان له ما يقترحه، بشرط المواطأة على هولاكو وإفساد من يقدر على إفساده منهم. فلما وصلت إليه الكتب حملها إلى هولاكو وقال: إن صاحب مصر إنما يكاتبنى بمثل هذا لتقع الكتب فى يدك فتقتلنى، وقد عزمت على أن أكاتت الأمراء القائمين بدولته والأعيان، وأكيده كما كادنى. فأبى «1» هولاكو ذلك، فلم يزل يراجعه حتى أذن له. فكاتب جماعة فعلم السلطان أنها مكيدة، فكتب إليه يشكره على عرض الكتب على هولاكو، ويستصوب رأيه فى عرضها لتزول التهمة عنه، وأمر القصاد أنهم إذا وصلوا إلى شط جزيرة ابن عمر يتجردوا من ثيابهم ويتجيلوا فى إخفاء أنفسهم ليظن أنهم قصدوا السباحة فغرقوا، ففعلوا ذلك.
وجاء نواب التتار فوجدوا الثياب فأخذوها وجهزوا الكتب إلى هولاكو فقرأها.
وكان ذلك من أسباب قتله، والله تعالى أعلم.(30/110)
واستهلت سنة ثلاث وستين وستمائة
فى المحرم منها، وصل الأمير جمال الدين سكز بن «1» الدوادار، وكان أبوه المجاهد دوادار الخليفة ببغداد، وكانت له نعمة عظيمة، فأحسن إليه السلطان وأمره بطبلخاناه.
وفى صفر من السنة، وقف السلطان الخان بالقدس الشريف، وقرىء كتاب وقفه بحضور السلطان وقاضى القضاة تاج الدين.
ووقف اسطبلين تحت القلعة يعرف أحدهما بجوهر النوبى، وحبسهما على وجوه البر.
وفيها فى العشر الآخر من المحرم، انهى إلى السلطان أن جماعة من الأمراء والأجناد اجتعموا فى دار على أكل ططماج وجرى بينهم كلام كثير أفض إلى الغض من الدولة، فاتصل ذلك بالسلطان وعين له ثلاثة نفرا وسعوا فى الكلام فى ذلك فأمر بتسميرهم، فسمر أحدهم، وكحل الثانى، وقطعت رجل الثالث.
وأفرج عن بقيتهم، وأمر ألا يجتمع أميران فى مكان، وألا تعمل وليمة ولا ضيافة عن غير موجب، فحسمت مادة الاجتماعات.
وفى صفر ورد كتاب الأمير عز الدين أيدمر النائب بالكرك أنه رتب راتب الأسمطة والضيافة بحرم الخليل عليه الصلاة والسلام للوافدين. وكان ذلك قد قطع من مدة طويلة.(30/111)
وفيها فى تاسع عشر شهر ربيع الأول قطع السلطان أيدى جماعة من نواب متولى القاهرة والخفراء وأصحاب الأرباع والمقدمين، وكانوا ثلاثة وأربعين رجلا «1» ، وكان سبب ذلك على ما حكاه الصاحب عز الدين بن شداد، ظهور شلوح ومناسر بالقاهرة وضواحيها ينهبون ويقتلون حتى تعرضوا للعربان الذين تحت القلعة، فارتفعت أصواتهم حتى سمعها السلطان وسأل عن خبرهم فأخبر بصورة الحال، فلما أصبح أتته ورقة الصباح وليس فيها ذكر هذه الحادثه، فأنكر على متولى القاهرة، فاعتذر أن نوابه لم يطالعوه بها، فأمر السلطان بقطع أيديهم فمات بعضهم وسلم البعض.
وحكى غيره، عن الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى، أن السلطان خرج ليلة متنكرا وجعل يطوف أزقة القاهرة، وكان يفعل ذلك ويتفقد أمور الناس وأحوالهم ويسمع من ألفاظهم ما لا ينقل إليه، فمر فى بعض أزقة المدينة فوجد بعض مقدمى «2» الوالى قد أمسك امرأة وهو يتهددها، وهى تقول له: اتق الله، والله ما أفعل هذا [إلا «3» ] من حاجة وأنت تعلم أن عندى خمسة أيتام. فقال:
أنا ما أعرف هذا، ولا بد أفعل وأصنع. فقالت له تقدم عنى ناحية. وخلعت لباسها وناولته إياه، وقالت: والله ما أمسك سواه فأخذه وأطلقها. فعرفه السلطان ثم لم تكن له همة إلا أن جمعهم وقطع أيديهم، وشاهد فيمن قطع، ذلك المقدم بعينه.(30/112)
وفى هذه السنة توجه السلطان إلى الصيد بجهة العباسة، وذلك بعد عوده من ثغر الإسكندرية، فرمى البندق، وأصرع جماعة وادعوا للسلطان «1» ، ومن جملتهم الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك.
وتوجه السلطان من العباسية إلى قلعة الجبل فأقام ليلة واحدة، وجهز العساكر، ثم توجه هو بعدها إلى الشام وصرع بشرا «2» بالقرب من رأس الماء، وذلك فى ثالث شهر ربيع الأول. وكان سبب توجهه ما بلغه من محاصرة التتار البيرة وكان فى هذه السفرة من الغزوات والفتوحات ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى موضعه.
وفى هذه السنة رسم السلطان بتبطيل المزر «3» بالديار المصرية وأن تخرب البيوت التى يعمل فيها وتكسر مواعينه ويسقط من الديوان ارتفاعه، ورسم بتعويض المقطعين عنه. وكتب بذلك إلى الأمير عز الدين الحلى فأبطلها.
ولما فتح السلطان فى هذه السفرة ما نذكره من بلاد الفرنج عاد إلى مقر ملكه، وكان رحيله من أرسوف فى يوم الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة، ودخوله إلى القاهرة فى يوم الخميس حادى عشر شعبان من السنة، وشق المدينة والأسارى بين يديه، وعم الناس بالخلع والإنعام،(30/113)
من الأمراء والوزراء والمقدمين والمفاردة والخواص حتى البرد «1» دارية وجميع الحاشية، وتصدق بجملة عظيمة من الدراهم والغلال على الفقراء، وفرق كساوى بالجوامع.
ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر واتهام أهل الذمة وما قرره عليهم من الأموال بسببه «2»
وفى هذه السنة فى جمادى الآخرة، وقعت نار بحارة الباطلية بالقاهرة، فأوقب ثلاثا «3» وستين دارا جامعة. ثم كثر الحريق بعد ذلك بمصر حتى احترق من رباعها المشهورة ربع فرح، وكان وقفا على الأشراف بالمدينة، وأكثر ربع العادل وغير ذلك. وكانت توجد لفايف من المشاق والكبريت والأصناف النفطية على الأسطحه. وشاع الخبر أن النصارى يفعلون ذلك لأجل ما فعله السلطان ببلاد الفرنج من إحراق الكنائس. فجمع السلطان عند عوده من الشام النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التى تفسخ عهودهم، وأمر بتحريقهم. فجمع منهم عالم كثير تحت القلعة وأحضرت الأحطاب والحلفا.
فسأل أهل الذمة مراحم السلطان، فقرر عليهم حمل خمسمائة ألف دينار إلى بيت مال المسلمين، والتزم بتوزيعها واستخراجها بطرك النصارى، والتزموا أنهم لا يعودون إلى شىء مما كانوا يعتمدونه من المنكرات، ولا يخرجون عن الذمة وشرطها وحمل المال المقرر شيئا بعد شىء.(30/114)
وفى هذه السنة، اعتقل السلطان الأمير نور الدين زامل بن على «1» ، وكان قد حصل منه إساءات وفتن مرة بعد أخرى. وقبض السلطان عليه ثم أطلقه وأصلح بينه وبين الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، والأمير أحمد بن حجى، والأمير هارون، وحلفهم، وأعاد إقطاع زامل إليه وإمرته. فلما توجه لم يتأن إلى أن يصل البلاد بل ساق من أوائل الرمل [وهجم على بيوت عيسى «2» ] وأفسد، وأمسك قصاد السلطان ومملوك الأتابك المتوجه إلى شيراز، وأخذ منهم الكتب، وتقرب بها إلى هولاكو، وتوجه إليه وأطمعه فى البلاد فأعطاه إقطاعا فى العراق. وتوجه [زامل] إلى الحجاز فنهب وقتل وانتهك حرمة الأشراف، وحضر إلى أوائل الشام «3» . وكان السلطان قد أعطى إقطاعه وإمرته لأخيه أبى بكر، فراسل زامل السلطان فى طلب العفو، فتقرر حضوره فى وقت معلوم وأنه متى تأخر عنه ليس له عهد ولا أيمان، فتأخر عن المدة المعينة ثم وصل فاعتقله السلطان.
وفيها: حضر إلى السلطان نعجة قد ولدت خروفا على صورة الفيل له خرطوم طويل وأنياب وإلية خروف.
وفيها: جهز السلطان الأخشاب والحديد والرصاص والآلات والصناع «4» ، فكانوا ثلاثة وخمسين رجلا لإتمام عمارة الحرم الشريف النبوى. وأنفق فيهم الأموال وجهز معهم المئونة، وندب لذلك الطواشى شهاب الدين محسن الصالحى «5» ،(30/115)
ورضى الدين أبا بكر، والأمير شهاب الدين غازى بن فضل اليغمورى مشدا، ومحيى الدين أحمد بن أبى الحسين بن تمام طبيبا إلى البيمارستان الذى بالمدينة، ومعه أدوية وأشربة ومعاجين ومراهم وسكر لأجل من يعتريه من الجماعة مرض.
وكان خروجهم من القاهرة فى سابع عشر شهر رجب. ووصلوا إلى المدينة فى ثانى شوال. واستمر العمل فى العمارة إلى سنة سبع وستين وستمائة. وكان السلطان يمدهم بما يحتاجون إليه من النفقات والآلات.
وفيها: توجه السلطان إلى بحر أشموم، وغرق عدة مراكب لإصلاحه، وتولى الحفر بنفسه، وشاهد الناس على كتفه قفة مملوءة نرابا. فلم يبق أحد من الأمراء وغيرهم إلا بادر وفعل مثل ذلك. فتنجز ذلك فى ثمانية أيام، وذلك فى شوال من السنة.
وفى حادى عشرين الشهر رسم السلطان بإبطال حراسة النهار، وكانت جملة مستكثرة وكتبت التواقيع بإبطالها.
وفى الشهر قرىء مكتوب بجامع أشموم بمسامحة الأعمال «1» الدقهلية والمرتاحية بأربعة وعشرين ألف درهم عن رسوم الولاية والمال المستخرج برسم النقيدى «2» .
وفيه توجه شجاع الدين بن الداية الحاجب رسولا إلى الملك بركة «3» ، فى كف غارات الملك بركة عن بلاد الأشكرى حسب سؤاله فى ذلك، وسير معه ثلاث(30/116)
عمر أعتمر بها بمكة الملك بركة. وسير معه قمقمان من ماء زمزم، ودهن بلسان وغير ذلك.
وفى ذى القعدة وصل الأمير جمال الدين النجيبى نائب السلطنة بالشام فتحدث السلطان «1» معه فى مهمات، وكتب على يده تذكرة «2» ، وعاد فى ذى الحجة.
ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام «3»
وفى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وستمائة فوض السلطان القضاء بالقاهرة والديار المصرية لأربعة قضاة، لكل مذهب قاض. وسبب ذلك أن الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى كان يكره قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ويغض منه عند السلطان لتثبته فى أحكامه وتأنيه «4» واحترازه، فاتفق أن السلطان جلس بدار العدل فقدمت له قصة من بيت الملك الناصر تتضمن أنهم ابتاعوا دارا من القاضى بدر الدين السنجارى وأن ورثته بعد وفاته ادعوا أنها وقفت قبل ذلك، فأخذ الأمير جمال الدين أيدغدى ينتقص المتعممين فقال السلطان للقاضى تاج الدين: «هكذا تكون القضاة؟» . فأجابه بالآية: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *
«5» . قال: «فكيف العمل فى هذا؟» . قال: «إذا ثبت الوقف يستعاد(30/117)
الثمن من الورثة من مال مورثهم» . فقال السلطان: «فإن عجزوا عن الثمن؟» قال: «الوقف باق على أصله» . فامتعض السلطان لذلك. فلم يتم الكلام حتى تقدم رسول صاحب المدينة النبوية وقال: «حملت كتاب السلطان إلى قاضى القضاة أن يسلم إلى المال الذى تحت يده من الوقف؛ لأنفقه فى فقراء أهل المدينة، فلم يفعل» . فسأل السلطان القاضى عن ذلك. فقال: «صدق هذا الرجل، أنا لا أعرفه، ولا أسلم المال إلا لمن أعرفه وأثق بدينه وأمانته، فإن تسلمه السلطان أحضرته بين يديه» . فقال السلطان: «تخرجه من عنقك وتجعله فى عنقى، لا تسلم المال إلا لمن تختاره وترضاء» . وتقدم بعض الأمراء فى المجلس وشكى من القاضى تاج الدين فى قضية آخرى هى شهادة «1» لم يثبتها لبعض أولاد خوشد اشيته فقال القاضى: «لم تأتنى بينة» «2» . فقال الأمير: حضرت البينة فلم تسمعها. فسأله السلطان عن امتناعه من سماع البينة. قال: «لا حاجة إلى ذكر الجواب» .
فقال الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى للقاضى نحن نترك مذهب الشافعى لك ويولى السلطان من كل مذهب قاضيا «3» ، فرجع السلطان إلى قوله، وفوض النظر فى الأحكام والقضايا إلى حكام أربعة «4» وهم: قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب المشار إليه، قاضى الشافعية. والشيخ شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله ابن صالح بن عيسى السبكى، قاضى المالكية، والقاضى صدر الدين سليمان قاضى الحنفية والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسى،(30/118)
قاضى الحنابلة. وجعل لهم السلطان أن يولوا فى الأعمال نوابا عنهم. وخص قاضى القضاة، تاج الدين الشافعى، بالنظر فى أموال الأيتام والأوقاف بمفرده بالديار المصرية، بتقليد سلطانى نسخته بعد البسملة، ومثال العلامة السلطانية بين السطرين المستعلى بالله.
«الحمد لله مجرد سيف الحق لمن اعتدى، وموسع مجاله لمن راح إليه وأغتدى، وموضح طريقه لمن اقتاد به واقتدى، ومزين سمائه بنجوم تستمد الأنوار من شمس الهدى، الذى أعذب لشرعة الشريعة المحمدية ينبوعا، وأقامها أصلا مد بثمار الرشد فروعا. نحمده على نعمة التى ألزمتنا التشييد [فى] «1» مبانى الإنصاف شروعا» .
«ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نعمر بها من القلوب والأفواه ربوعا. ونصلى على سيدنا محمد الذى بعثه الله إلى العالم جميعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة يناجى القائل بها بصيرا سميعا» .
«وبعد: فإن أحق من استوعبت كليات المحامد له بالتبعيض، وطافت الممادح من كعبة العلم بركن منه طواف المفرض لا طواف المفيض وخلد له إرضاء الأحكام وإمضاء النفويض، وريش جناحه وإن لم بك بالمهيض، وفسح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسمت من سحائبه الأنواء، ومن أشعته الأنوار، ووغزر مدّه فجرت منه فى رياض الرشد الأنهار، وغدا تخشع لتقواه القلوب، وتنصب لفتواه الأسماع وترنو لمحياه الإبصار، من أوفد من إرشاده للامة وللائمة لطفا فلطفا، وأوقد من علمه جذوة لا تخبو، ومن عدله قبسا بالهوى لا يطفأ، وفات النظراء والنظار فلا يرسل أحد(30/119)
معه طرفا، ولا يمد إليه حياء منه طرفا، وقد جاز واحتوى من العلوم على ما تفرق فى غيره وغدا «1» خير دليل إلى الحق، فلا يقتدى فى المشكلات إلا برأى اجتهاده، ولا يهتدى فى المذاهب إلا بسيره، وأصبح لفلك الشريعة المحمدية قطبا، ولجثمانها قلبا ولسوارها قلبا، وأضحى لدليلها برهانا، ولإنسانها عينا، ولعينها إنسانا، فكم أرضى بعدله وفضله بنى الأيام عن الأيام، وكم أغضى مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى حكما لا انفصال لعروته ولا انفصام، وكم أفضى بالجور إلى ماله وبالعدل إلى الأيتام، فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعديه، ولم يداجه لكونه يستر عليه تعبده فى دياجيه، فهو الحاكم بالحق ولو على نفسه، والمسترد الحقوق الذاهبة حتى لغده من يومه وليومه من أمسه.
«ولما كان المجلس السامى القضائى الإمامى، العالمى العاملى، الأشرف الزاهدى الأثيرى الماجدى الذخيرى الأفضلى الجلالى التاجى، حجة الإسلام، شرف الأنام، مجد الأمة، فخر الأئمة، صدر الشريعة مقتدى الفرق، رئيس الأصحاب، لسان الحق، ذخر الملوك والسلاطين، ولى أمير المؤمنين، قاضى القضاة، عبد الوهاب بن القاضى الأجل الأوحد الأعز أبى القاسم خلف، حرس الله جلاله، ممن هو فى أحسن هذه السمات يتصور، وله أنوار بركات تعدّ ونجوم السماء بها تتكثر، وقد تجوهر بالعلوم فأصبح التاج المجوهر، وله مزايا السؤدد التى لا يشك فيها ولا يرتاب، وسجايا الديانة التى إذا دخل غيره إليها من باب واحد دخل هو إليها من عدة أبواب، وهو شجرة الأحكام ومصعد كلم الحكام، ومطلع أنجم شرائع الإسلام، ومهبط وحى التقدمات والارتسام وعكاظ قضايا الحلام والحرام» .(30/120)
«خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، لا زال ماضيا وبالسداد قاضيا: بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية فليحكم جميعها بما أراه الله من مذهب الإمام المطلبى محمد بن إدريس الشافعى، رضى الله عنه، وأموالى اليتامى على اختلاف أجناسها هى ودائع الأموات، وذخائر كل ممنوع من التصرفات، وقد أوصى الله بها، واوسع المتعدى عليها إنكارا وتحذيرا، وخوف من أكلها ظلما، فقال جل وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
» «1» .
وقد رأينا أن نخصص المجلس السامى بالنظر فى جميع أمورها واذ قد غدت ذخر كل منقطع فنجعله من ذخرها، فلينظر «2» فى جميع أموال الأيتام على اختلاف أجناسها بالقاهرة ومصر المحروستين والديار المصرية بمفرده وبمن يستنيبه عنه، وليحطها بنظره، ويضبطها بحسن تأثيره وأثره، وكذلك ما يختص بمذهبه من الجوامع والمناصب والمساجد والربط والتصديرات والأوقاف، ينظر فى جميعها ويولى فى أصولها وفروعها، والأوقاف العامة من الصدقات وغيرها، ينظر فيها بنفسه وبنوابه، حافظا لأمورها وملاحظا لتدبيرها، ومجتهدا فى صلاحها وتثميرها، وليستصحب من ذلك ما هو ملى باستصحابه. وليستمر على إقامة منار الحق الذى هو موثق عراء ومؤكد أسبابه، عالما بأن كل إنارة أضأتها من قبسه وأن استضأنا بها فى دياجى المنى، وكل ثمرة من مغترسه وإن مددنا إليها يد الاجتنا، وكل جدول هو من بحره وإن بسطت إليه راحة الاغتراف وكل منهج هو من جادته وإن ثنيت البه أعنة الاستطلاع للافادة والاستكشاف(30/121)
وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادة للعناصر وإن كان يصيبه منها أوفر تصيب، والصادق الذى ينبىء بالحق إذا وامرته «1» المراسيم، ولا ينبؤك مثل خبير، ووصاياه منها يسترشد، فلا يفاوض فيها، ومنه تتعلم فلا نكرر عليه ما يستفاد منه من معانيها، والله تعالى يسد بأحكامه الذريعة، ويحمى به حمى الشريعة إن شاء الله تعالى، وكتب فى ثامن وعشرين ذى القعدة سنة ثلاث وستمائة بالاشارة العالية المولوية الأتابكية الفارسية وأعزها الله، الحمد الله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه» .
ولما فوض السلطان القضاء بالديار المصرية لحكام أربعة، فعل مثل ذلك بدمشق «2» ، وجهز التقاليد إلى الحكام الذين وقع الاختيار عليهم، وهم: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الشافعى، على عادته، والشيخ زين الدين عبد السلام الزواوى المالكى قاضى المالكية، والقاضى شمس الدين عبد الله ابن محمد بن عطاء الأذرعى الحنفى قاضى الحنيفة، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمر الحنبلى قاضى الحنابلة، ووصلت تقاليدهم بذلك فى سادس جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، فامتنع المالكى والحنبلى من قبول الولاية والدخول فى باب القضاء، فطولع السلطان بذلك، فورد جوابه بالزامهما، وأنهما إن استقرا على الامتناع وصمما عليه يعزلا عما بأيديهما من المناصب ويخرجا من بلاد السلطان، فقيلا الولاية، وامتنعا من قبول المعلوم المقرر للقضاة وقالا:
«نحن فى كفاية عن قبول المعلوم» .(30/122)
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع
وفى ذى الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة، قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع. وسبب ذلك أن رسول الملك بركة أحضر معه رجلا ادعى أنه الملك الأشرف بن الملك المظفر شهاب الدين غازى، فطلب السلطان من يشهد له بصحة ذلك، فشهد له المذكور، فبحث السلطان عن أمره، فوجد الأمير شمس الدين المشار إليه بعث اليه واستدعاه من عند الملك بركة لغرض كان فى نفسه، فقبض السلطان عليه واعتقله، واعتقل من شهد له بخزانة البنود.
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الرومى «1» وذنوبه السالفة
وفى رابع وعشرين ذى الحجة من السنة، أمسك السلطان الأمير شمس الدين سنقر الرومى. وسبب ذلك؛ أنه كان له مملوك جميل الصورة، فبلغه أن السلطان ربما تعرض إليه يفعل، فغضب لذلك، وشفع السلطان عنده فيه فلم يقبل شفاعته، وضربه وحمى سفودا من الحديد وجعله فى دبره فمات، فطلبه السلطان من وقته واعتقله. وأما ذنوبه السالفة فإنه كان جمدار الملك الصالح، وكان مؤاخى الملك الظاهر لما كانا فى الخدمة الصالحية وبينهما صداقة، ولما كان من أمر البحرية ما قدمناه كانا جميعا وكان الملك الظاهر يتفقده بالمال والقماش، ولما قتل الملك المظفر لم يكن شمس الدين حاضرا، وأعطاه السلطان الإقطاعات العظيمة فصار يخلو بجماعة بعد جماعة ويفرق عليهم المال الذى ينعم(30/123)
به السلطان عليه، فاتصل ذلك بالسلطان فأرسل إليه يحذره مع خوشداشيته، فلم يفد ذلك شيئا، وبقى ذلك فى خاطر السلطان، فلما قتل الآن مملوكه وقبض عليه أرسل يقول: «اشتهى أعرف ذنبى» ، فسير السلطان إليه من عدد ذنوبه، فتحسر وقال: «آه، لو كنت حاضرا قتل الملك المظفر حتى أعاند السلطان فى الذى جرى» ، وكان قد تكلم بهذا الكلام وشافه السلطان به فى حال إحسانه إليه، واستمر فى الاعتقال إلى أن توفى، وكانت وفاته فى يوم الأحد عاشر جمادى الأول سنة ست وسبعين وستمائة.
ذكر وفاة قاضى القضاة بدر الدين السنجارى وشىء من أخباره «1»
وفى هذه السنة فى يوم السبت رابع عشر شهر رجب: كانت وفاة قاضى القضاة بدر الدين أبى المحاسن يوسف بن الحسن بن على بن الخضر السنجارى الشافعى، رحمه الله تعالى، فجأة، وكان قد أكل بطيخا أصفر وسلنجنينيا «2» عقب خروجه من الحمام. ودفن فى يوم الأحد بمدرسته بالقرافة بجوار تربة الإمام الشافعى، وصلى عليه قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. ومولده بسواد إربل فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكان قاضيا بسنجار، وكان له على السلطان الملك الصالح من الخدمة بسنجار ما قدمنا ذكره، فلما ملك الملك(30/124)
الصالح دمشق كما تقدم، ولاه قضاء بعلبك وأعمالها وقرر له معلوما كثيرا، وكان قد وصل فى صحبته، ولما ملك الديار المصرية حضر إليه فأكرمه، وفوض إليه القضاء بمصر والوجه القبلى، ثم بالقاهرة والوجه البحرى كما تقدم ذكر ذلك، وولى الوزارة كما تقدم أيضا فى أيام الملك المنسور نور الدين بن الملك المعز، وكان، رحمه الله تعالى، مكينا عند السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ بكرهه، فكتب إلى السلطان الملك الصالح يذكر عنه أنه يأخذ من نوابه الأموال، ومن يعدله من الشهود، وأشباه ذلك، فأجابه السلطان فى طرة كتابه: «يا أخى فخر الدين: للقاضى بدر الدين على حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها، والذى وليناه قليل فى حقه، وما قمت له بما يجب على من مكافأته» ، فلم يعاوده الأمير فخر الدين فى أمره، وبقيت هذه الورقة عنده فى جملة أوراقه، فلما قتل وخلف بنتا صغيرة، احتاط ديوان الأيتام على موجوده فوجدوا هذه الورقة فحملوها إلى القاضى بدر الدين، فأوقف الناس عليها، وكان رحمه الله تعالى، كريما كثير الاحتمال، كثير المروءة، حسن العشرة، يقبل الاعتذار، ولا يكافىء على السيئة بمثلها، بل يحسن لمن ظهرت اساءته، ويبره بماله ويستميله باحسانه، إلا أنه شهر عنه فى ولاية القضاء قبول هدايا النواب، حتى قيل إنه ربما كان قرر على كل منهم ما لا يحمله فى كل مدة فى مقابلة ولايته على قدر الولاية، وكذلك أيضا من يقصد إنشاء عدالته حتى كثر المعدلون فى أيامه، ووصل إلى العدالة من ليس من أهلها، ولما ولى قاضى القضاة تاج الدين أسقط كثيرا من عدوله، ولقد جاء بعد ذلك زماننا وأدركت بقايا عدوله فكانوا أميز العدول وأجلّ الناس، ومنهم من لى قضاء القضاة وبلغ، رحمه الله تعالى، خمسة وثمانين سنة وثلاثة أشهر، رحمه الله تعالى.(30/125)
وفى هذه السنة فى يوم الاثنتين مستهل شعبان توفى الأمير جمال الدين موسى ابن شرف الدين يغمور بن جلدك بلمان «1» بن يغمور استاد دار السلطان الملك الظاهر، وهو الذى كان ينوب عن الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق، وكان عالى المنزلة عند الملوك الأيوبية ومن بعدهم، ودفن بسفح المقطم، وكان مولده بالقرية اليغمورية بقرب سمهود من الأعمال القوصية «2» فى جمادى الآخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وهو ياروقى الأصل،: وكان عفيفا كريما سمحا جوادا، كيسا لطيفا، متواضعا حسن العشرة والسيره، كثير البر والصدقة، رحمه الله تعالى.
وفى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وستمائة أيضا: أمر السلطان بشنق الشريف حصن الدين بن ثعلب الجعفرى «3» بالإسكندرية، فشنق خارج باب البحر، وكان السلطان قد اعتقله بها، وسبب شنقه أن الشريف السرسناى أحد عدول الثغر كان يتردد إليه فى معتقله لتأنيسه وقضاء حوائجه، فاتصل بالسلطان أنه أعمل الحيلة فى هروبه، وكان الشريف قد حضر إلى مصر لقضاء حوائج حصن الدين فأحضره السلطان وسأله عن ذلك، فأنكره، فأراه الخطوط الواردة من الإسكندرية بالشهادة عليه بذلك، وأمر بشنقه فشنق تحت قلعة الجبل. وسير السلطان عز الدين أيبك الأغا حصارى «4» إلى الإسكندرية فشنق الشريف حصن الدين.(30/126)
واستهلت سنة أربع وستين وستمائة
فى هذه السنة توجه الملك السلطان الظاهر إلى الشام فى مستهل شعبان «1» ، واستناب بقلعة الجبل الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وجعله فى خدمة ولده الملك السعيد هو والصاحب بهاء الدين، وتوجه، وكان فى سفرته هذه من فتوح صفد والغارات على بلاد الفرنج ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر عمارة جسر دامية «2»
وفى جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، رسم السلطان ببناء جسر على نهر الأردن، وهو النهر الذى يشق غور الشام، ويسمونه الشريعة. وهذا الجسر هو بقرب دامية، فيما بينها وبين فراوى. واتفق فيه أعجوبة لم يسمع بمثلها: وذلك أن السلطان ندب الأمير جمال الدين بن نهار المهندار لعمارته، ورسم أن يكون خمس قناطر، واجتمع الولاة لذلك ومنهم: الأمير بدر الدين محمد بن رحال متولى نابلس وحصلوا الأصناف وجمعوا الصناع، وعمروه على ما رسم به السلطان. فلما تكاملت عمارته وتفرق ذلك الجمع اضطرب بعض أركان الجسر، فقلق السلطان لذلك وأنكر عليهم وأعادهم لإصلاح ذلك. فتعذر عليهم لزيادة الماء وقوة جريانه، فأقاموا كذلك أياما وقد تيقنوا العجز عنه.
فلما كان فى الليلة المسفرة عن السابع عشر من شهر ربيع الأولى سنة ست وستين(30/127)
انقطع ماء الشريعة حتى لم يبق بها شىء منه، فتبادروا وأشعلوا النيران الكثيرة والمشاعل واغتنموا هذه الحادثة وأصلحوا الأركان وقووها، وأصلحوا منها ما لا كان يمكن عمله. وركبوا من يكشف خبر هذه الحادثة، فساقوا الخيل فوجدوا كتارا «1» مرتفعا كان يشرف على الشريعة من الجانب الغربى، والكتار شىء يشبه الجبل وليس بحبل لأن الماء يحله بسرعة كالطين، قد سقط فى الشريعة فسدها، وانسكر الماء وتحامل على جهة الغور مما وراء السكر، قعادوا بالخبر، وانقطع الماء من نصف الليل إلى الرابعة من النهار، ثم تحامل الماء وكسر ذلك الكتار، وجاء طول رمح فلم يؤثر فى ذلك البناء لإتقانه، وحمل الماء ما كان هناك من آلات العمارة. وهذه الحادثة من عجائب الاتفاق. وهذا الجسر باق إلى وقتنا هذا.
وفى جمادى الأولى أيضا تكاملت عمارة الدار الجديدة «2» المرسوم بعمارتها عند باب السر المطل على سوق الخيل. وعمل بها دعوة للأمراء.
وفى هذه السنة اهتم السلطان بحفر خليج الإسكندرية، وندب الأمير علم الدين المسرورى لذلك. ثم توجه السلطان بنفسه وباشر الحفر وأزيلت الرملة التى كانت على الساحل بين النقيدى وفم الخليج، ثم عدى إلى برأبيار، وغرق المراكب هناك وبنى عليها بالحجارة، ثم رجع إلى القاهرة.
وفى شهر رمضان من السنة وصل إلى دمشق ولد الخليفة المستعصم بالله المسمى بالمبارك «3» الذى كان عند هولاكو، وصحبته جماعة من أمراء العربان.(30/128)
فأنزله الأمير جمال الدين النجيبى فى أعز مكان. فلما وصل السلطان إلى دمشق سير إليه جمال الدين بن الدوادار والطواشى مختار، فما عرفاه. وظهر أنه بخلاف ما ادعاه، فسير إلى مصر تحت الاحتياط.
وفى ذى القعدة وصل شخص آخر أسود ادعى أنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضا.
ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى «1» وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى
قال: لما كان فى يوم الاثنين منتصف ذى الحجة سنة أربع وستين وستمائة جلس الأمير عز الدين الحلى بدار العدل، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، وإذا بإنسان يخترق الصفوف- وبيده قصة-، فوقف قدامه، وكان بيده سكين بين أثوابه، فضرب بها حلق الأمير عز الدين. فأمسكها بيده فجرحت يده، ثم رفسه برجله ونام على ظهره وقصد أن يضربه مرة أخرى أو يضرب الصاحب.
فلما رفع يده جاءت السكين فى فؤاد الأمير صارم الدين قايماز المسعودى فمات لساعته. وكان فخر الدين متولى الجيزة حاضرا فأمسكه ورماه. فوقع على قاضى القضاة، وضرب بالسيوف فمات. وعرف الضارب أنه من الجانداريه.
وكانت به شعبة من الجنون. ولما وصل الخبر بسلامة الحلى إلى السلطان وهو راجع من أفامية أعطى مملوك الحلى ألف دينار عينا، وأعطى رفيقه ثلاثة آلاف درهم، وأحسن إلى ورثة المسعودى.(30/129)
وفى هذه السنة فتحت صفد على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ورجع السلطان منها إلى دمشق، وأنعم على أمرائها وقضاتها وأرباب المناصب بالتشاريف.
ونظر السلطان فى أمر الجامع الأموى ومنع من مبيت الفقراء «1» به.
وفيها: أبطل السلطان ضمان الحشيشة وأمر بتأديب أهلها «2» .
وفيها: فى ثالث ذى القعدة توفى الأمير كرمون أغا بدمشق بعد منصرفه من فتح صفد «3» فشهد السلطان جنازته، ودفن برأس ميدان الحصا عند قباب التركمان.
وفيها: فى ليلة عرفة، كانت وفاة الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى «4» وكان قد جرح على صفد وبقى مدة والألم يتزايد به إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
وكان من أكابر الأمراء، وسمع الحديث، وحدّث، وكان مشهورا بالشجاعة والكرم والديانة وسعة الصدر وكثرة الصدقة، وكان قد رتب على نفسه صلة للفقراء من أرباب البيوت والزوايا فى كل سنة تزيد على مائة ألف درهم وألوف أراد ب غلة، هذا غير صدقاته. وكان مقتصدا فى ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندى والبعلبكى وغيره مما يباح ولا يكره لبسه. وكان من السلطان بالمنزلة العلية لا يخرج عن رأيه ومشورته سيما فى الأمور الدينية وأحوال(30/130)
القضاة. ومما يدل على ذلك: ما تقدم «1» من إشارته بتولية الحكم لأربعة قضاة.
فرجع السلطان فى ذلك إلى رأيه، وفعله لوقته. وكان رحمه الله من حسنات الزمان، وقد ختم له بالشهادة، فإنه مات من ألم تلك الجراحة. ودفن فى مقبرة الملك النساصر بسفح قاسيون، رحمه الله.(30/131)
واستهلت سنة خمس وستين وستمائة ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية وبناء الجامع الظاهرى «1»
كان خروج السلطان من دمشق فى يوم الاثنين ثانى المحرم سنة خمس وستين وستمائة. فلما وصل إلى منزلة الفوّار فارق العسكر وتوجه إلى الكرك. ولما وصل إلى بركة زيزاء تقنطر عن فرسه، وذلك فى يوم الأحد ثامن المحرم، فتأخر هناك أياما، ونزل إليه الأمير عز الدين نائبه بالكرك فأعطاه ألف دينار، وخلع عليه وسير الخلع إلى من بالكرك. ثم توجه فى محفة حملها الأمراء والخواص على أكتافهم إلى غزة. ووصل إلى بلبيس فى ثالث عشر صفر فتلقاه ولده الملك السعيد والأمير عز الدين الحلى، وزينت المدينة لمقدمه.
وفى أول شهر ربيع الأول ركب السلطان فرسه وضربت البشائر لذلك، ونزل بباب النصر وأقام هناك إلى خامس الشهر، ثم توجه إلى بركة الجب لرمى البندق.
وفى شهر ربيع الآخر، سير السلطان الأتابك والصاحب فخر الدين ولد الصاحب لكشف مكان يعمل به جامعا بالحسينية. فاتفقا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان: «أولى ما جعلت ميدانى الذى هو نزهتى جامعا «2» » .
وركب فى ثامن شهر ربيع الآخر وصحبته الوزير والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش،(30/133)
ورتب أمور بنائه جامعا، وأن يكون بقية الميدان وقفا عليه، ورجع ودخل مدرسته بالقاهرة.
وفى هذه السنة أمر السلطان بإنشاء القناطر على بحر أبى الرجا «1» فأنشئت، وتولى عمارتها الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار فحصل الرفق بها للمسافرين وكانوا يجدون شدة وإزدحاما بسبب المعادى.
وفى سابع وعشرين شهر ربيع الآخر وصل الملك المنصور صاحب حماة «2» ، وكان السلطان قد توجه إلى العباسية فتلقاه إلى رأس الماء وسير له ولمن معه التشاريف، وعاد السلطان إلى قلعته. وطلب صاحب حماة التفرج فى الإسكندرية فسير إليها وسير فى خدمته الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهرى، فوصل إليها وعظم تعظيما كثيرا، ثم عاد، وتوجه فى خدمة السلطان إلى غزة ثم توجه إلى مملكته.
وفى جمادى الآخرة وصلت رسل صاحب «3» الدعوة وصحبتهم جملة من الذهب وقالوا: هذا المال الذى كنا نحمله قطيعة للفرنج قد حملناه لبيت مال المسلمين، وكان السلطان قد شرط ذلك عليهم عند وصول رسلهم وسؤالهم الصلح وشرطه على بيت الاسبتار فى جملة ما اشترط عليهم.(30/134)
ذكر إقامة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة وشى من أخباره «1»
وفى يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وستمائة أقيمت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر. وسبب ذلك أن الأمير عز الدين الحلى خاطب السلطان فى أمره وتبرع بجملة من ماله فى عمارته، وانتزع أشياء من أوقافه كانت مغصوبة فى أيدى جماعة، وشرع فى عمارته، فعمر ما وهى من أركانه وجدرانه وبيضه وبلطه، وأصلح سقوفه وفرشه. واستجد به مقصورة حسنة، وعمل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار الظاهرى فيه مقصورة كبيرة ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء الشافعية، ورتب فيها محدثا يسمع الحديث النبوى والرقائق «2» ، وسبعا لقراءة القرآن. ووقف على ذلك أوقافا، وولى خطابته زين الدين أدريس ابن صالح بن وهيب المصرى القليوبى، فاستمر به إلى أن توفى. وكانت وفاته فى ليلة السبت رابع عشرين شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وستمائة، ومولده سنة ثمان عشرة «3» وستمائة.
وهذا الجامع هو أول مسجد جامع وضع للناس بالقاهرة المعزية، وفرغ من بنائه وأقيمت فيه الجمعة فى شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة. فلما ولى العزيز بن المعز جدد به أشياء وعمر به عدة أماكن. ويقال إن به طلسم لا يسكنه بسببه عصفور ولا يفرخ فيه. وفى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة سأل الوزير(30/135)
أبو الفرج يعقوب بن كلس الخليفة أن يأذن له فى صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأذن له. فأطلق لكل منهم كفايته واشترى لهم دارا إلى جانب الجامع، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وذكروا فيه دروس فقه وكان أبو يعقوب قاضى الخندق، وكانوا نيفا وثلاثين فقيها لأن دولة العبيد بين ما كان يستقل فيها بفقيه، ولما عمر الحاكم الجامع نقل الخطبة إليه.
ذكر إنشاء القصر الأبلق بالميدان بظاهر دمشق «1»
وفى سنة خمس وستين وستمائة، أمر السلطان الملك الظاهر بإنشاء القصر الأبلق بالميدان الأخضر بظاهر دمشق، فعمر على ما هو عليه الآن. واتفق فى عمارته واقعة غريبة، حكى بعض من كان يباشر عمارته، قال: لما انتهت عمارة القنطرة التى بالإيوان ولم يبق من ختمها إلا وضع حجر واحد أسود، فرفع بالحبال بعد أن نحت وجهز ليوضع فى مكانه وتشد به القنطرة، فانقطع الحبل وسقط الحجر إلى أرض الإيوان فانكسر، فتألم المهندس لذلك، ثم دخل إلى مرحاض القصر العتيق لقضاء الحاجه، [فرأى «2» ] فى أحد كراسيه حجرا أسود منحوتا، فقاسه فوجده قدر الحجر الذى انكسر سواء، فاستأذن المهندس، الأمير جمال الدين النجيبى على قلعه ووضعه فى رأس القنطرة، فأذن فى ذلك، فقلع من كرسى المرحاض وجعل فى رأس القنطرة بالإيوان فختمت به. وجاء كأنه عمل لها، ووضع الحجر الذى انكسر مكانه. وهذا من عجيب الإتفاق، وقد وقع نظير هذه الواقعة فى أساس سور بغداد وعتبة جامع غزنة، وتقدم ذكر ذلك.(30/136)
ذكر توجه السلطان إلى الشام وعمارة قلعة صفد «1»
وفى العشرين من جمادى الآخرة توجه السلطان إلى الشام فى جماعة من أمرائه وأراح بقية العسكر. ولما وصل إلى غزة وردت إليه رسل الفرنج «2» بهدية وجماعة من أسرى المسلمين. وتوجه السلطان إلى صفد بقصد عمارتها فرتب أمورها.
وتوجه إلى دمشق مسرعا عند ما بلغه أن التتار عزموا على قصد الرحبة، فأقام بها خمسة أيام واهتم بأمر الرحية «3» وعاد الى صفد فى رابع وعشرين شهر رجب، فقسم الخندق على الأمراء، وأخذ نصيبا وافرا لنفسه ومماليكه وحاشيته، وعمل السلطان بنفسه وبيده، فلم يتوفر أحد من العمل. ولما كملت عمارة قلعة صفد رسم السلطان أن يكتب على أسوارها:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«4» أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«5» أمر بتجديد هذه القلعة المحروسة وتحصينها وتكملة عمارتها وتحسينها، من خلصها من أيدى الفرنج الملاعين، وردها إلى أيدى المسلمين، ونقلها من مسكن إخوة الداوية إلى سكن إخوة المؤمنين، فأعادها للايمان كما بدأها أول مرة، وجعلها للكفار خسارة(30/137)
وحسرة، ولم يزل بنفسه يجتهد ويجاهد حتى عوض عن الكنائس بالجوامع والبيع بالمساجد، وبدل الكفر بالإيمان، والناقوس بالأذان، والإنجيل بالقرآن ووقف بنفسه التى هى أعز النفوس حتى حمل تراب خنادقها وحجارتها منه ومن خواصه على الرءوس، سلطان الإسلام والمسلمين ومسترد صوال الدين، مبيد التتار، فاتح القلاع والحصون والأمصار، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر الزمان، صاحب القرآن أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، خلد الله سلطانه، فمن صارت إليه هذه القلعة من ملوك الإسلام، ومن سكنها من المجاهدين المثاغرين على الدوام فليجعل لهذا السلطان فاتحها ومجددها نصيبا من أجره، ولا يخله «1» من الرحمة فى سره وجهره فى طول عمره، فإنه جعلها دار يمن وأمان، بعد أن كانت دار كفر وطغيان، وصار يقال عمر الله سرحها، بعد أن كان يقال عجل الله فتحها، والعاقبة للمؤمنين إلى يوم الدين «2» .»
ولما كملت العمارة طلع السلطان إلى القلعة فرأى بالبرج صنما كبيرا كان الفرنج يقولون إن القلعة فى خفارته ويسمونه أبا جرج، فأمر بقلعه وتكسيره، وعمر مكانه محرابا.
ورسم بتجديد عمارة حرم الخليل، وكتب بذلك إلى دمشق، وتوجه الأمير جمال الدين بن نهار لذلك، فجدد الأخشاب والمقاصير والأبواب، ودهن ما يحتاج منها إلى الدهان، وجددت الضرائح المقدسة.(30/138)
ووصلت رسل الفرنج إلى السلطان وهو على صفد، وتحدثوا معه فى أمر بلادهم، وأجابوا إلى ما قاله من مناصفة صيدا وهدم الشقيف. ثم أغار على عكا على ما نذكره إن شاء الله، ولم ينتظم أمر الصلح.
ثم حضرت رسل سيس ورسل بيروت «1» ومعهم جماعة من أسرى المسلمين، وردوا مال التجار.
وفيها: توفى القاضى صدر الدين موهوب بن عمر بن إبراهيم الجزرى الشافعى «2» وهو الذى كان ينوب عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمصر، وولى القضاء بعده كما قدمنا ذكر ذلك، وكان فاضلا عالما بمذهب الشافعى ومشاركا فى غيره من العلوم. وكان فى مبدأ أمره على قضاء جزيرة ابن عمر. وكان كثير المال مرزوقا فى التجارة، فاكتسب مالا جزيلا فمد صاحب الجزيرة عينه إلى أمواله وقصد أخذها، فبلغه ذلك، فأرسل أكثر أمواله إلى مصر والشام صحبة التجار ثم هرب واختفى، ووصل إلى الشام ثم إلى الديار المصرية. ولما ولى الصاحب بهاء الدين الوزارة قصد أذاه فخافه خوفا شديدا.
حكى عنه أنه قال: لما خفت الصاحب بهاء الدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام فسألنى عن حالى فقلت: يا رسول الله، إنى خائف من الصاحب فقال لى: لا تخف منه وقل له بأمارة كذا وكذا لا تؤذنى، فإن رسول الله قد شفع فى عندك، قال: فانتبهت فرحا بمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما صليت(30/139)
الصبح ركبت دابتى ووقفت للصاحب فى طريقه إلى القلعة، فسلمت، عليه وقلت له: معى رسالة، فقال: ممن هى؟ قلت: من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقول لك: بأمارة كذا وكذا لا تؤذنى فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد شفع فى عندك، فقال: صدقت أنت، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانت اليوم فقد بقيت أتشفع بك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله لا حصل لك منى سوء أبدا، فالمولى يرسم والمملوك يمتثل، ومن اطلع عليه مولانا وله حاجة «1» من مضرور أو مظلوم ترسل إلى تعرفنى حتى أقضى حاجته بنفسى، واعتذر إليه، وبقى يعظمه، ولو فسح فى أجله لولاه القضاء بعد القاضى تاج الدين ولكنه مات قبله. وكانت وفاته فى مستهل شهر رجب سنة خمس وستين وستمائة. وقيل بل كانت وفاته فجأة فى تاسع الشهر، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى النصف من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة بالجزيرة. ولما مات ترك ما يقارب ثلاثين ألف دينار، وكان له ابنتان: إحداهما بالجزيرة، والأخرى زوجة القاضى بدر الدين ولد القاضى تقى الدين بن رزين، «2» فورثتاه وشركهما بيت المال، وكان رحمه الله كثير المروءة والإحسان الى أهل بلده ومن يقصده.
ذكر وفاة قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز «3» ونبذة من أخباره رحمه الله ومن ولى قضاء الشافعية وغيره من مناصبه بعد وفاته
وفى السابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة خمس وستين وستمائة،(30/140)
كانت وفاة قاضى القضاة، تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب بن القاضى الأعز أبى القاسم خلف بن رشيد الدين أبى الثناء محمود بن بدر العلامى «1» - وبنو علامة بطن من لخم- وهو المشهور بابن بنت الأعز والأعز هذا هو جده لأمه، وهو الصاحب الأعز فخر الدين أبو الفوارس مقدام بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر، أحد وزراء السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، وقد تقدم ذكره فى أخبار الدولة العادلية. ومولد القاضى تاج الدين بالقاهرة فى مستهل شهر رجب سنة أربع وستمائة. ولما مات والده الاعز خلف- رحمه الله تعالى- ترك دنيا عريضة، فيقال إنه خلف اثنى عشر ألف دينار عينا، وقيل سبعة آلاف، فانفقت والدته ابنة الصاحب الأعز جميع ذلك على نفسها ومن يلوذ بها من أهلها، ونشأ فلم يجد شيئا من ذلك، فما شافهها فيه بكلمة، وكان بارابها، واشتغل بالعلم، وولى إعادة المدرسة المعروفة بزين التجار بمصر، وولى شهادة بيت المال فى الدولة الكاملية. وكان سبب ذلك أن الشريف شمس الدين الأرموى نقيب السادة الأشراف، رحمه الله تعالى، كان يلى تدريس المدرسة المذكورة فتوجه من جهة السلطان الملك الكامل فى رسالة واستناب القاضى تاج الدين هذا فى التدريس والنظر، فأحسن الخلافة عنه وعمّر الوقف وقام بالوظيفة أحسن قيام، فلما عاد الشريف ووجد الأمر على ذلك، أنهاه إلى السلطان وشكره وأثنى عليه، فرسم السلطان الملك الكامل له بمباشرة شهادة بيت المال فباشر ذلك، وكان إذ ذلك على غاية الفاقة، وسلك طريقى الضبط والأمانه، وهذه الوظيفة هى أول مناصبه الديوانية،(30/141)
فاشتهر بحسن المباشرة والأحتراز، فتقدم فى الأيام الصالحية النجمية وما بعدها، وولى نظر بيت المال، ثم ولى نظر الدواوين بالديار المصرية فى أيام الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الملك الصالح، بتقليد معظمى، تاريخه لخميس بقين من ذى القعدة سنة سبع وأربعين وستمائة، نعت فيه بالحضرة السامية:
القاضى، ثم كتب له منشور كريم خاتونى بأقطاع لخاصه ولأربعة أتباع. وقد رأيت أن أشرح هذا المنشور بنصه وأبين وضعه ليعلم منه كيف كان الرسم والمصطلح فى مثله، وهو أن الموقع كتب عن يمين الدرج ما مثاله: (الصالحية) بقلم أغلظ من قلم المنشور، ثم كتب البسملة بعد هذه اللفظة بقدر أصبعين وكتب تلو البسملة ما مثاله: خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الخاتونى الصالحى الجلالى العصمى الرحيمى، زاده الله شرفا ونفاذا، أن يجرى فى إقطاع المجلس السامى، القاضى الأجل، الصدر الكبير، الرئيس الفقيه، العالم الإمام، الفاضل الأوحد، العامل المرتضى، الكامل المجتبى، المختار تاج الدين مجد الإسلام بهاء الأنام اختيار الدولة، مجتبى الملوك السلاطين، فخر الرؤساء، علم العلماء، شرف الفقهاء، رضى أمير المؤمنين عبد الوهاب بن خلف الناظر بالدواوين المعمورة، أدام الله رفعته ونعمته، ما رسم له به الآن من الإقطاع لخاصه ولأربعة أتباع معه فى السنة ما يأتى ذكره.
خاصه: الثلثان من أبواب الهلالى بمدينة الفيوم. كفور سقط رشين خارجا عن بنى شريان «1» ، ومعصرة أبى دخان، ودبيس، وهى منشاة ابن مليح، كوم(30/142)
بنى مؤمنة، كوم الحمير، كوم مغنين «1» ، منشأة حراز، فزونة «2» ، قبالة الجعاف «3» .
وذلك فى الإقطاع لإستقبال مغل سنة سبع وأربعين وستمائة بعد الإعتداد على غايتة بما قبضة من الجامكية لاستقبال المدة من جملة ما يعوض به، وفى الخدمة مستهل المحرم منها.
أتباعه وعدتهم أربعة فى السنة: ستة عشر ألف درهم ناصرية جهة ذلك من متحصل السدس من بحيرة تنيس لإستقبال تاريخ عرضهم بالديوان المعمور بعد الخط الشريف، أعلاه الله، وثبوته حيث ثبتت مثله.
كتب فى ثامن ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة، وبين السطرين الأول والثانى بخطها ما مثاله: والده خليل.
ورأيت فى هذا المنشور أشياء تستغرب ويستنكر مثلها فى وقتنا هذا:
وهو أن بيت العلامة الذى هو بين السطرين كتبب فيه الملكة، وفيه تحت خطها بين السطرين: خط ناظر الدواوين ومثاله: ليثبت بديوان النظر على الدواوين المعمورة إن شاء الله تعالى، وخط شاد الدواوين: امتثل الخط الشريف، وبينهما فى بيت العلامة أيضا: خط ناظر الفيوم ومثاله: ليثبت إن شاء الله تعالى بديوان نظر الفيوم. وما معه وفى سامتة السطر الثانى ما مثاله:
ليثبت بالديوان المعمور مما يختص بالوجه القبلى، وأسفل منه ما مثاله: ليثبت(30/143)
بالديوان المعمور بالوجه البحرى، وإلى جانبه عن يساره ليثبت بديوان الجيوش المنصورة إن شاء الله تعالى، ثم بعد ذلك خطوط الكتاب، ولعل ناظر الفيوم الذى كتب فى هذا الموضع هو شرف الدين هبة الله الفايزى الذى ولى الوزارة فيما بعد، فإنه كان ناظر الصناعة والفيوم فى ذلك الوقت، والله أعلم.
ثم ولى القاضى تاج الدين نظر بيت المال فى الأيام المعزية، بتوقيع تاريخة ثالث عشر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة، وقرر له فى كل شهر خمسون دينارا، وفى السنة مائتا أردب واثنى عشر أردبا نصفين، ثم ولى بعد ذلك نظر الدواوين. فهذه مناصبه قبل أن يلى القضاء والوزارة. ثم ولى قضاء القضاة بمصر والوجه القبلى فى تاسع شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة، عوضا عن القاضى بدر الدين السنجارى، وجمع له القضاء بالقاهرة والوجة البحرى فى الشهر المذكور لثمان بقين منه، وعطل القاضى بدر الدين السنجارى عن القضاء. ولما ولى القضاء شدد على العدول وأسقط كثيرا منهم، فكان يكتب؟؟؟ بأسقاط عدالة جماعة بعد جماعة من عدول السنجارى، ويشهد على نفسه بما تضمنته، فقلق الناس لذلك، ولم تطل مدة ولايته هذه، فإنه عزل فى بعض شهور سنة خمسة وخمسين وستمائة كما قدمنا ذكر ذلك، ثم فوضت إليه الوزارة بالديار المصرية كما تقدم ذكره، ثم عطل عن الوزارة والقضاء فى الأيام المظفرية- قطز- إلى أن كانت الدولة الظاهرية الركنية، ففوض السلطان الملك الظاهر له قضاء القضاة بجميع الديار المصرية فى السابع عشر من جمادى الأول سنة تسع وخمسين وستمائة، عوضا عن القاضى بدر الدين السنجارى، ثم أفردت عنه مصر والوجه القبلى فى السنة المذكورة، وفوض ذلك إلى القاضى(30/144)
برهان الدين الخضر السنجارى، ثم أعيد ذلك إليه فى الثامن من صفر سنة ستين وستمائة. وقد شرحنا مضمون تقاليد هذه الولايات فى مواضعها. وفوض إليه تدريس المدرسة الصالحية النجمية، بتوقيع ظاهرى تاريخه ثانى عشر جمادى الأول سنة ستين وستمائة بعد وفاة الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ثم فوض إليه النظر العام على الأشراف والأوقاف والأحباس، ومشهد السيد الحسين ومدرسة الإمام الشافعى، والخانكاه والمشاهد بالباب الشريف وبجميع أعمال الديار المصرية بتوقيع ظاهرى تاريخه السابع من جماد الآخر سنة ستين وستمائة. وفوض إليه تدريس مدرسة الشافعى بتقليد تاريخه نصف ذى الحجة سنة إحدى وستين.
ثم قسم القضاء بين أربعة حكام، فكتب له تقليد كما تقدم، تاريخه ثامن عشرين ذى القعدة سنة ثلاث وستين، وخص بالنظر فى جميع أموال الأيتام بالقاهرة ومصر والديار المصرية بمفرده والأوقاف، وقد شرحنا ذلك. واستمر كذلك إلى أن مات رحمه الله تعالى. وكان رحمه الله، كثير الاحتراز والتحفظ، وضبط ناموس الشرع، وإقامة الحرمة، وكف الأيدى العادية، والتطلع على جهات الأوقاف، وأخبار العدول، وغير ذلك مما هو متعلق بمنصب الشرع الشريف.
ولما مات، رحمه الله تعالى، قسم قضاء الشافعية بعده، ففوض قضاء مصر والوجه القبلى للقاضى محيى الدين بن الصلاح «1» عبد الله بن قاضى القضاة شرف الدين محمد ابن عين الدولة الصفراوى «2» . وفوض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى(30/145)
تقى الدين محمد بن الحسين بن رزين «1» . وولى النظر على ديوان الأحباس القاضى تاج الدين أبو الحسن على بن الشيخ أبى العباس أحمد المعروف بالقسطلانى. وولى تدريس المدرسة الصالحية القاضى صدر الدين أبو حفص عمر ولد قاضى القضاة تاج الدين المشار إليه. وولى نظر الخانقاه قاضى القضاة شمس الدين الحنبلى، وولى تدريس مدرسة الإمام الشافعى فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين.
وفيها أيضا: توفى الأمير ناصر الدين الحسين بن عزيز بن أبى الفوارس القيمرى مقدم الجيش بالساحل «2» ، وكانت وفاته فى ثالث شهر ربيع الأول بالساحل، ومولده فى سنة ستمائة بقيمر، وهو الذى بنى المدرسة الشافعية بدمشق بناحية مادنه «3» فيروز. وكان جوادا كريما جليلا مقداما تقدم على جيوش الشام فى الأيام الصالحية والناصرية، وكان جميع الأكراد فى طاعته وخدمته. وكان أمره فى الأيام الناصريه أنفذ من أمر السلطان لانقياد الجيوش إليه. ثم حمل فى الأيام الظاهرية إلى أن أقطعه السلطان الملك الظاهر إقطاعا بالساحل، وقدمه على أمراء الساحل، فصلحت حاله، وكان مقامه بجنين، رحمه الله تعالى.
ذكر وصول الشريف بدر الدين مالك بن منيف «4» وإعطائه نصف إمرة المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
وفى سنة خمس وستين وستمائة: وصل الشريف بدر الدين مالك بن منيف(30/146)
ابن شيحة، وكان السلطان على صفد، فشكى من الشريف عز الدين جماز، وقال: إن المدينة كانت بين أبى وبينه نصفين، وتوفى والدى وأنا صغير، فظلمنى وأخذ نصيبى، وقد جئت مستجيرا بالسلطان فى رد حقى. فكتب السلطان إلى الشريف جماز يأمره بتسليم النصف الذى كان لمنيف لولده مالك، وكتب تقليده بنصف إمرة المدينة ونصف الأوقاف، وسلم إليه نصف الأوقاف التى بمصر والشام، وتوجه. وورد جواب الشريف عز الدين جماز إلى السلطان بامتثال الرسوم، وأرسل خادمين من خدام الضريح النبوى يشهدان بذلك، فكتب السلطان إليه يشكره على ذلك.
ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل. وكان وصوله إليها فى يوم الثلاثاء رابع عشر ذى الحجة سنة خمس وستين وستمائة.
ذكر تسمير من يذكر بالقاهرة
وفى العشرين من ذى الحجة من السنة بعد عود السلطان إلى الديار المصرية أمر بتسمير جماعة كانوا معتقلين بخزانه البنود منهم: أقش الففجاقى أحد المماليك الصالحية، وكان قد ادعى النبوة. وأحضر فى شهر رمضان إلى دار العدل، فأمر نائب السلطنة باعتقاله. فلما حضر السلطان من الشام أنهى إليه أمره فاستحضره وسمع كلامه وأمر بتسميره.
ومنهم: الناصح الواحى كان فى ابتداء أمره ضامن الواحات، ثم ترقى إلى أن ولى نظر أخميم وأسبوط وغير ذلك بالوجه القبلى. وكان يركب بالطبلخاناه، وقويت نفسه وكثرت أتباعه واتسعت أمواله. فأرسل السلطان وقبض عليه(30/147)
وأمر باعتقاله بخزانه البنود، فانهى إلى السلطان الآن أنه اتفق مع الملك الأشرف ابن شهاب الدين غازى ومع رجل نصرانى على أن ينقبوا خزانة البنود ويخرجوا منها ويتوجهوا إلى الواحات فيتسلطن بها الملك الأشرف ويكون الناصح وزيره والنصرانى كاتبه، فأمر السلطان بتسميرهم، فسمروا فى يوم واحد.(30/148)
واستهلت سنة ست وستين وستمائة
ذكر أخذ الزكاة من عرب الحجاز «1»
كان السلطان قد اهتم بأمر الزكاة من سائر الجهات حتى المغرب والحجاز، وأذعن عريان بلاد برقة لذلك وقاموا بالزكاة.
وفى صفر سنة ست وستين وستمائة: وصل الأمير ناصر الدين بن محيى الدين الجزرى الحاجب من المدينة النبوية، وكان قد توجه لا ستخراج الزكاة والعشر، فأحضر صحبته مائة وثمانين جملا وعشرة آلاف درهم فاستقلها السلطان وأمر بردها عليه، ثم وصل بنو صخر، وبنو لام، وبنو عنزة وغيرهم من عريان الحجاز، والتزموا بزكاة الغنم والإبل، وتوجه معهم مشدون لاستخراج ذلك، هذا والسلطان على صفد لعمارتها.
ذكر ظهور الماء بالقدس الشريف «2»
وفى سنة ست وستين وستمائة: ورد كتاب قاضى القدس أن الماء انتزح من بئر السقاية وعظمت مشقة الناس، فنزل رجل إلى البئر وشاهد قناة مسدودة من زمن بخت نصر الذى هدم البيت المقدس، فأحضر الأمير علاء الدين الحاج الركنى [نائب القدس «3» ] بنايين وكشف القناة السليمانية، ومشوا فيها تحت(30/149)
الأرض إلى الجبل الذى تحت الصخرة المقدسة فوجدوا بابا مقنطرا ففتحوه، فخرجت عين ماء كادت تغرقهم. وكان خروج الماء فى ذى الحجة سنة خمس وستين.
ووردت كتاب الأمير الحاج علاء الدين الركنى أنه نقص ماء السقاية الذى ظهر ونزح، ودخل الصناع إليه فوجدوا سدا، فنقب فيه الحجارون مقدار عشرين يوما ووجد سقف مقلفط به مائة وعشرون ذراعا بذراع العمل، فخرج الماء وملأ القناة.
وفى هذه السنة: وصلت هدية صاحب اليمن «1» ورسله، وأحضر فيها من الخيل المسومة عشرون فرسا بالبركسطوانات «2» الأطلس المزركشة وفيلة وحمارة وحش عتابية اللون، وغير ذلك من المسك والعنبر والعود والصينى «3» وغيره، فقبلت هديته، وجهزت له هدية وصنجق وخلعة وشعار السلطنة وجوشن وكبش «4» وغيره من آلة الحرب، وسير إليه طيور جوارح. وكوتب «5» بالمقام العالى المولوى السلطانى، وكاتبه السلطان بالمملوك. وتوجه بالهدية فخر الدين المقرى «6» ووصل صحبة أحد رسوليه- وهو ابن الماكسانى التاجر- بها، وذكر أن «7» والده صاحب اليمن(30/150)
سير به للمجاهدين ولوجوه البر، فأودع ثمنه بالخزانة. ولما توجه السلطان إلى الغزاة أنفق منه جملة فى إقامة مجانيق أفردها لها، وأفتك ببقيته جماعة من أسارى المسلمين.
ذكر خبر الحبيس النصرانى ومقتله
هذا الحبيس من نصارى مصر، وكان فى ابتداء أمره من كتاب صناعة الإنشاء، ثم ترهب وانقطع فى جبل حلوان. فيقال إنه وجد فى مغارة منه مالا للحاكم العبيدى كان قد وضعه هناك، فتصدق هذا الحبيس على الفقراء من سائر الملل. واتصل بالسلطان خبزه فطلبه، وطلب منه المال، فقال: «أما أنى أعطيك من يدى إلى يدك فلا يتصور، ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره ولا يقدر على ما تطلبه منه، فأساعده بمال يحمله إليك» وشفع فيه، فأطلقه السلطان.
ولما كانت واقعة النصارى المتقدمة، كان يحضر عند مشد المستخرج، ومن عجز عن أداء ما قرر عليه ساعده به وأداه عنه، نصرانيا كان أو يهوديا.
وكان يدخل إلى الحبوس ويطلق منها من عليه دين ويقوم بما عليه. وكان يعطى ما ينافر العقول. وتوجه إلى الصعيد، ودفع عن أهل الذمة أكثر ما قرر عليهم، وتوجه إلى الإسكندرية، وعامل أهلها بما هالهم من بذل الأموال.
فوصلت فتاوى الفقهاء إلى السلطان بقتله، وعللوا ذلك: «خوف الفتنة» .
فوافق ذلك رأى السلطان فأحضره فى سنة ست وستين وستمائة، وطلب منه المال وأن يعرفه من أبن أصله، وكيف حصل له، فلم يعرفه وجعل يغالطه ويدافعه، إلى أن أيس السلطان منه فعذبه حتى مات. وأخرج من القلعة ورمى(30/151)
بظاهرها على باب القرافة. وذكر أن مبلغ ما وصل إلى بيت المال وما واسى به من مدة سنين: ستمائة ألف دينار عينا، مما أحصى بقلم الصيارفة الذين كان يجعل الأموال عندهم ويكتب إليهم أوراقه بما يعطيه. وذلك غير ما كان يعطيه سرا من يده.
ذكر بناء القرية الظاهرية قرب العباسة
وفى سنة ست وستين وستمائة: مر السلطان على وادى السدير قرب العباسة فأعجبه. فأختار منه مكانا بنى به قرية سماها الظاهرية، وعمر بها جامعا.
وفيها: توجه السلطان إلى الشام. وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى من الفتوحات.
ذكر إيقاع الحوطة السلطانية على الأملاك والبساتين وما تقرر على أربابها من المال
وفى سنة ست وستين وستمائة: لما كان السلطان نازلا على الشفيف أمر بإيقاع الحوطة على البساتين والقرى والضياع التى بأيدى أهل دمشق ملكا وحبسا.
وقال: «نحن فتحنا هذه البلاد بالسيف، وانتزعناها من أيدى التتار» . وكان قد تحدث بذلك فى السنة الخالية. وعقد مجلس حضره السلطان والقضاة والفقهاء، فقال قاضى القضاة شمس الدين بن عطاء الحنبلى: «هذا لا يحل ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه» وقام مغضبا، فتوقف السلطان ثم تقدم الآن بإيقاع الحوطة على البساتين فاتقق وقوع صقعة باردة على البساتين فأحرقت أكثر أشجارها، فظن أهل(30/152)
دمشق أن هذه الحادثة تبعث السلطان على الإفراج عنها فلم يفعل، ولما وصل إلى دمشق وعزم على العود إلى الديار المصرية عقد مجلسا بدار العدل حضره القضاة والفقهاء وأهل البلد، وأجرى ذكر البساتين وأخرج فتاوى الفقهاء من الحنفية باستحقاقها، فتوسط الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عند السلطان على أن يقرر على أصحاب البساتين ألف ألف درهم، فامتنعوا من ذلك. وقالوا: «لا طاقة لنا بها معجلة» ، وسألوا أن يقسطها، فامتنع السلطان، وتمادى الحال إلى أن خرج من دمشق، ولما وصل إلى منزلة اللجون عاوده الصاحب فخر الدين والأتابك والأمراء، فاستقر الحال أن يعجلوا منها أربعمائة ألف درهم ويعقد لهم بما قبضه نواب السلطان من المغل، ويقسط ما بقى، فى كل سنة مائتى ألف درهم، وكتب بذلك توقيع وقرىء على المنبر بدمشق.
ذكر وصول الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار والصلح مع التكفور هيتوم صاحب سيس
كان السلطان قد جهز العساكر إلى سيس، وأسروا ليفون بن هيتوم ولد صاحب سيس على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فترددت الرسل منه إلى السلطان يعرض عليه كل ما تقرر عليه من مال وقلاع. فاقترح السلطان عليه أمورا، منها أن يحضر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار، وأن يرد القلاع التى أخذها من المملكة الحلبية، فسأل مهلة سنة إلى أن توجه إلى الأردو، وكشف خبره وأجيب إلى إطلاقه. ثم ورد كتاب صاحب سيس بذكر أنه حصله. وورد كتاب الأمير شمس الدين المذكور بعلائم وأماير. فتوقف(30/153)
صاحب سيس فى الإجابة إلى رد بعض القلاع، فرد السلطان رسله وكتب إليه: «إنك إذا كنت قسوت على ولدك وولى عهدك، أنا أقسو على صديق ما بينه وبينى نسب، ويكون الرجوع منك لا منى. ونحن خلف كتابنا.
ومهما شئت افعل بسنقر الأشقر» . فلما وصل إليه هذا الكتاب والسلطان إذ ذاك على أنطاكية خاف ويذل ما رسم به السلطان، وتقرر الصلح على تسليم قلعة بهسنا والدربساك ومزريان ورعبان والروب وشيح الحديد «1» ؛ وجميع ما كان أخذه من بلاد الإسلام، وردها بحواصلها كما تسلمها، وإطلاق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وأن يطلق السلطان له ولده وولد أخيه وغلمانهما. وأنه يحضر رهينة باسال أخ الملك، ويسير ريمون أخ زوجة الملك ليفون، ويبقى باسيل المأسور بن كندا صطبل هو وهؤلاء رهائن على تسليم القلاع. وكتبت الهدنة بذلك فى شهر رمضان بأنطاكية.
وأرسل السلطان الأمير بدر الدين بجكا «2» الرومى على خيل البريد إلى قلعة الجبل، فأحضر ليفون وتوجه به إلى أبيه على خيل البريد فى حادى عشر شوال. ثم توجه الأمير سيف الدين بلبان الرومى الداودار إلى سيس لتقرير فصول رسم بها السلطان. ولما وصل ليفون إلى أبيه أطلق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر.
وكان السلطان يتصيد بجرود بالقرب من بلاد حمص مما يلى دمشق، فلما بلغ السلطان قربه، ركب مختفيا والتقاه وأحضره معه إلى الدهليز وباتا جميعا. ولما أصبح واجتمع الناس للخدمة خرج إليهم السلطان والأمير شمس الدين فى خدمته، فبهت الناس لرؤيته. وأنعم عليه السلطان بالأموال والخلع والحوائص والخيل(30/154)
والبغال والجمال والمماليك وجميع ما يحتاجه الأمراء. ولما حضر إلى الديار المصرية أمّره، وبنيت له دار بقلعة الجبل. وأما القلاع المذكورة فتسلمها نواب السلطان، وأطلقت الرهائن.
ولما ترتبت هذه المصالح وفتحت هذه الفتوحات العظيمة التى نذكرها، رجع السلطان من أنطاكية ووصل إلى شيزر، وتوجه منها فى البرية إلى حمص للصيد.
ووصل السلطان إلى دار النائب بحمص فى ثلاثة نفر وهم: الأمير بدر الدين بيسرى «1» ، والأمير بدر الدين الخزندار، والأمير حسام الدين الدوادار. ثم دخل دمشق فى سادس عشرين شهر رمضان والأسرى بين يديه، وخرج منها فى ثامن عشر ذى القعدة، وعيد فى أم البارد [وهى السعيدية «2» ] ورحل إلى قلعته فى حادى عشر ذى الحجة وحمل عن الناس كلفة الزينة.
وفيها: توفى الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور بن محمد بن محمد ابن محمد بن وداعة الحلبى «3» . وقيل إنه كان فى ابتداء أمره خطيبا بجبلة، ثم اتصل بالملك الناصر وصار من خواصه، فولاه شد الدواوين بدمشق، وكان يعتمد عليه.
فلما ملك السلطان الظاهر ولاه وزارة الشام، فوقع بينه وبين الأمير علاء الدين طيبرس نائب السلطنة مفاوضة اقتضت حضوره إلى الديار المصرية، ثم أعيد إلى الوزارة بالشام عند ما فوض السلطان نيابة السلطنة بدمشق للأمير جمال الدين النجيبى كما تقدم، فوقع بينه وبينه [خلاف] أيضا، فكان يهينه، فكتب إلى السلطان يذكر أن الأموال قد انكسرت، وأن الشام يحتاج إلى مشد تركى شديد(30/155)
المهابة مبسوط اليد وتكون أمور الاموال والولايات والعزل راجعة إليه، وقصد بذلك رفع يد الأمير جمال الدين النجيبى عن الأموال، وظن أن المشد يكون بحكمه ولا يتصرف إلا عن أمره. فرتب السلطان فى المشد الأمير علاء الدين كشتغدى «1» الشقيرى وبسط يده حسب ما اقترح ابن وداعة، فلم يلبث أن وقع بينهما [خلاف] وكان يهينه بأنواع [الإهانات] ويسبه، فيشكو ذلك إلى النجيبى فلا يلبى دعوته، ويقول له: «أنت طلبت مشدا تركيا، وقد جاء ما طلبت» .
ثم كاتب الشقيرى فى حقه، فورد الجواب بمصادرته، فصادره وضربه بالمقارع وعصره وعلقه، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، وباع موجوده وأماكن كان قد وقفها وحمل ثمن ذلك، ثم طلب إلى الباب السلطانى فتوجه، وحدث نفسه بالعود إلى منصبه، فأدركته منيته، فمات فى ذى الحجة من السنة، ودفن فى مستهل المحرم سنة سبع.(30/156)
واستهلت سنة سبع وستين وستمائة
فى هذه السنة فى أولها، جهز السلطان من كان عنده من رسل الملوك فتوجهوا إلى مرسليهم
ذكر تجديد الحلف للملك السعيد
وفى يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين وستمائة: جلس السلطان فى مرتبته، وجلس الأمير فارس الدين الأتابك والأمير عز الدين الحلى بين يديه، والصاحب بهاء الدين، وكاتب الإنشاء. وكان قبل ذلك يتحدث مع الأمراء فى أمر ولد الملك السعيد وتفويض الأمور إليه فأجابوا بالسمع والطاعة. وحلف الأمراء فى هذا اليوم وسائر العساكر المنصورة.
وفى ثالث عشر الشهر ركب الملك السعيد فى الموكب كما يركب والده، وجلس فى الإيوان، وقرئت عليه القصص. وفى العشرين من الشهر قرىء تقليده بتفويض السلطنة إليه. وهو من إنشاء المولى فخر الدين بن لقمان «1» وخطه.
ونسخته بعد البسملة والعلامة السلطانية الظاهرية:
«الحمد لله الذى أجزل العطاء والمواهب، وضاعف النعماء التى يفيض شعابها، وأمواه العيون نواضب، وضاعف عزا لا يعز معه مقصد، ولا يتعذر معه المطالب، وحلى عطل الأيام بالمحاسن التى تستر بها ما ظهر من المعايب. أحمده على نعمه التى(30/157)
تجلى بنورها ظلم الغياهب، والأنطاف التى نظمت من المجد عقدة المتناسق ودره «1» المتناسب» .
«وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ بها يوم الإشهاد قاصيه المنى، وتجعل كل صعب هينا. وأشهد أن محمدا عبده الذى صدع بالحق معلنا، ورسوله الذى أظهر الإسلام وما تباحد عزمه ولا انثنى، صلّى الله عليه وعلى آله الذين شيدوا من المعالى البنا، وأصحابه الذين أحسنوا والله يحب من من كان محسنا» .
«وبعد: فإنا لما أتانا الله تعالى من السلطان الذى ملك به من العز ما جمح، والقدرة التى قربت «2» من الآمال ما نزح، والمهابة التى ملأت عيون الأعداء بالذل لا الوطف، والعزايم التى أذكرت من مواقف المهاجرين والأنصار ما سلف، والهمم التى نهضنا بها لفتح معاقل الكفار، والجهاد الذى كانت أثارنا فيه من أحسن الآثار، والغزوات التى كان معروفها منكرا، والوقائع التى نصر الله فيها حزب الإيمان فأضحى الدهر ينشر حديثه متعطرا، وشد أزرنا بولدنا الملك السعيد الأجل الكبير العالم العادل ناصر الدين بركه خاقان، امتع الله الإسلام ببقائه، وأقر عيون المجد بنصر لوائه، وتوسمنا فيه مخايل السعادة بادية الغرر، وظهرت فيه أدلة النجابة، والأدلة إذا ظهرت لا تستتر، وبدت فيه مساع أوجبت له مزبة التكريم، وعم فيها فضله فتعين أن يخص بالتعظيم، ولاحت منه إشارات يعرب عن الرشد، وتدل أنه فى تدبيره حسن القصد، وسما نور هلاله فاتفقت(30/158)
النفوس أن يكون بدرا كاملا، ووثقت الآمال أن يرجع حاليا كل ما كان عاطلا، رأينا أن نفوض إليه حكم كل ما أمضى الله فيه حكمنا من البلاد، وتحققنا أن رائد نظرنا فى أمره يصدق فيما اختار من الارتياد. وقلدناه أمر الديار المصرية والبلاد الشامية والقلاع والحصون، وهى: الديار المصرية، البلاد الشامية، البلاد الحلبيه، البلاد الحموية، البلاد الحمصيه. فهذا الملك إليه ممتد الرواق، ودو نظامه يتزين بحسن الإتساق «1» ، ونواحيه مع اتساعها محروسة بهممه، فكأنه خصر «2» اشتمل عليه النطاق، ونعم الله محروسه معه بالشكر، مفيده عنده بالإطلاق، والدين الحنيفى من عزمه عالى المنار، والنفوس واثقة «3» أن تكون بناصره دائمة الانتصار، وأخبار نصره تحفظها الليالى مما تكرره ألسن السمار، ومهابته تسرى إلى قلوب الأعداء فتحول منها الأفكار، والدولة الزاهرة به محاطة «4» الأرجاء، وسحائب إحسانه متدفق الأنواء، وآثار نعمة الله فيها ظاهرة، والله يحب أن يرى على عبده أثر النعماء. والشريعة المطهرة بتأييده نافذة الأحكام، وأمورها مرعية بهممه التى أضحت المعالى أنها لا تنام. وأطلقنا تصرفه وحكمه فى الخزائن والأموال، وتعيين الإقطاعات فى الغيبه منا والحضور. وأمرنا أن لا يرد أمره فى جميع ما يقتضيه رأيه الشريف من الأمور. فبيديه الحل والعقد، وإلى أبوابه ينتهى القصد. فقد أضحى بحمد الله حلية للمجد، والأيام تزهو به كما تزهو الدرر بواسطة العقد، وإليه فى الأمور النقض والإبرام. وعليه المعتمد فى فصل(30/159)
الأحكام. وإليه ترجع الولاية والعزل، وهو الفرع الذى زكا، ولا يزكو الفرع إلا إذا كان طيب الأصل. ومن شيمته الأقتداء بنا فى بسط الإحسان والعدل وإحياء سنتنا مما يضفيه على الأولياء من ملابس الفضل، واقتقاء آثارنا فى غزو بلاد الكفار، والمجاهدة التى تطول بها أيدى الكماة بالسيوف القصار، وإلى الله نرغب أن يوفقه لمراضيه، ويلهمه رشده فيما يستقبل من أموره، ويمضيه ويؤيده بالنصر الذى تروى أحاديثه وتتلى، ويمده بتوفيقه الذى يرشده من الضلال ناشئا وكهلا، ويساعده بالتأييد الذى يستجد له ذكرا خالدا لا يبلى، والظفر الذى تستحلى أحاديثه إذا أعيدت، وإن كان الحديث المستعاد لا يستحلى. ونسأل كل واقف على هذا التقليد أو من يسمع به من الأمراء والنواب والعساكر المنصورة- أيدهم الله تعالى- امتثال أمره، والقيام بما يجب عليه من طاعته فى سره وجهره، والنهوض فى خدمة ركابه، والإجتهاد فى تسهيل ما يصعب من طلابه، والمسير عند سيره تحت علمه، والإلتجاء فى السراء والضراء إلى حرمه، والوفود إلى جنابه المنيع المريع، فهو بحمد الله كعبة تحج إليها الآمال، وحرم يخفف ما على الأعناق من أعباء الخدم الثقال. والإعتماد على الخط الشريف أعلاه، وكتب فى عاشر صفر سنة سبع وستين وستمائة» .
وقرىء هذا التقليد بالإيوان بحضور الأمراء وأعيان الدولة واستمر جلوس الملك السعيد وركويه.
وفى ثانى عشر جمادى الآخرة، توجه السلطان إلى الشام واستصحب أكابر الأمراء وجماعة من العسكر المنصور. وفى غرة شهر رجب شرع السلطان فى النفقة فى الأمراء الذين صحبته، ونزل أرسوف لكثرة مراعيها.(30/160)
ووصل إليه رسل أبغابن هولاكو، فقرىء على السلطان كتابه، ومعناه الرغبة فى الصلح، وأعاد الرسل بالجواب، وكاتب أبغا نظير ما كاتبه به.
ذكر توجه السلطان على خيل البريد إلى الديار متنكرا وعوده إلى مخيمه بخربة اللصوص ولم يعلم من به بتوجهه
قال القاضى عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية عن هذه الوقعة حسبها أملاه السلطان من لفظه: لما خرج السلطان من دمشق، بعد تجهيز رسل أبغا، ودع الأمراء كلهم وتوجهوا إلى الديار المصرية، ولم يبق معه من الأمراء الأكابر غير الأتابك، والمحمدى، والأيدمرى، وابن اطلس خان، وأقش الرومى، توجه إلى القلاع، فابتدأ بالصبيبة ومنها إلى الشقيف وصفد، وبلغه وفاة الأمير عز الدين الحلى، فكتب إلى الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار بالحضور بالأثقال والعساكر إلى خربة اللصوص والعسكر قد خيم بها. وخطر له التوجه إلى الديار المصرية، فكتب إلى النواب بالشام بمكاتبة الملك السعيد والإعتماد على أجوبته، ورتب أنه كلما جاء بريد يقرأ عليه ويخرج علائم على دروج بيض تكتب عليها أجوبة البريد، واستقرت هذه القاعدة مدة.
وفى رابع عشر شعبان أظهر تشويشا، وأحضر الحكماء إلى الخيمة، وحصل احتفال ظاهر بهذا الأمر، وأصبح الأمراء فدخلوا وشاهدوا مجتمعا فى صورة متألم، وكتب إلى دمشق باستدعاء الأشربة.
وتقدم إلى الأمير بدر الدين الأيدمرى وسيف الدين بكتوك جرمك الناصرى، بأنهما يتوجهان إلى حلب على خيل البريد، وودعاه وصحبتهما بريدى،(30/161)
وتوجها فى ليلة السبت سادس عشر شعبان، وأوصاهم أنهم إذا ركبوا يحيدون إلى خلف الدهليز ليتحدث معهم مشافهة.
وجهز آقسنقر الساقى فى البريد إلى الديار المصرية وأعطاه تركاشة «1» ، وأمره بالوقوف خلف خيمة الجمدارية خلف الدهليز. ولبس السلطان جوخة مقطعة وتعمم بشاش دخانى عتيق، وأراد أن يخرج ولا يعلم به الحرس، فأخذ قماش نوم لأحد المماليك، وطلب خادما من خواصه وقال له: ها أنا خارج بهذا القماش فامش أمامى، فإن سألك أحد فقل: هذا بعض البابية «2» معه قماش أحد الصبيان حصل له مرض وما يقدر يحضر إلى الخدمة هذه الليلة، وهذا غلامه خارج إليه بقماشه.
فخرج بهذه الحيلة، وتوجه إلى الجهة التى واعد آقسنقر إليها. وكان قد سير بهاء الدين أمير آخور ومعه أربعة أرؤس من الخيل، وأمره أن يقف بها فى مكان، فتوجه إليه، وأخذ آقسنقر الخيل، وسير بهاء الدين أمير آخور إلى التل فأحضر الأيدمرى ورفقته، وساق بهم السلطان وهم لا يعرفونه فلما اختلطوا قال للأيدمرى: «تعرفنى؟» قال: «أى والله» ، وأراد النزول لتقبيل الأرض فمنعه. وقال: لجرمك «تعرفنى» ، فقال: «إيش هذا يا خوند» ؟ فقال له:
«لا تتكلم» وكان معهم علم الدين شقير مقدم البريدية فصاروا خمسة، معهم أربعة جنائب من خيل السلطان الخاص.(30/162)
وساقوا إلى جهة مصر، فوصلوا إلى القصير «1» المعينى نصف الليل، فدخل السلطان ليأخذ فرس الوالى، فقام إليه يهاوشه بأربعين خمسين راجلا، وقال له:
«هذه الضيعة ملك السلطان ما يقدر أحد يأخذ منها فرسا، فإن رحتم وإلا قاتلناكم» .
فتركوه وتوجهوا إلى بيسان فأتوا دار الوالى وقالوا: «نريد خيلا للبريد» .
فقال: «انزلوا خذوا» ، فنزلوا، وقعد السلطان عند رجلى الوالى وهو نايم.
ثم قال للأيدمرى «الخلائق على بابى وأنا على باب هذا الوالى لا يلتفت إلى، ولكن الدنيا نوب» . وطلب من الوالى كوزا فقال: «ما عندنا كوز، إن كنت عطشان اخرج واشرب» فأحضر له الأيدمرى كوزا شرب منه. وركبوا فصابحوا جينين، فوجدوا خيل البريد بها عرجا معقرة، فركب السلطان منها فرسا ما كاد يثبت عليه من رائحة عقوره. ولما وصلوا العريش قام السلطان والأمير سيف الدين جرمك ونقيا الشعير. فقال السلطان للأيدمرى: «أين السلطنة، واستاد الدار، وأمير جاندار، وأين الخلق الوقوف فى الخدمة؟ هكذا تخرج الملوك من ملكهم، وما يدوم إلا الله سبحانه وتعالى» .
ووصلوا إلى قلعة الجبل ليلة الثلاثاء الثلث الأول، فأوقفهم الحراس حتى شاوروا الوالى. ونزل السلطان فى باب الأسطبل وطلب أمير آخور، وكان قد رتب مع زمام «2» الأدر أنه لا يبيت إلا خلف باب السر، فدق السلطان باب السر، وذكر علايم لزمام الأدر، ففتح الباب، وأحضر السلطان رفقته إلى باب السر، وأقام هو وهم يومى الثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس لا يعلم بهم أحد إلا زمام الأدر،(30/163)
وهو ينظر إلى الأمراء وغيرهم فى سوق الخيل. فلما قدّم الفرس للملك السعيد يوم الخميس قدم أمير آخور للسلطان فرسا. ولما خرج الملك السعيد ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه، فخاف، فلما عرفه قبل الأرض، وركب السلطان وخرج والوقت مغلس، فأنكر الأمراء ذلك ووضعوا أيديهم على قبضات سيوفهم وطلّعوا «1» فى وجه السلطان فلما حققوه قبلوا الأرض. وساق السلطان إلى ميدان العيد، وعاد إلى القلعة، فقضى أشغال الناس، ولعب الكرة يوم السبت.
وتوجه يوم الأحد إلى مصر لرمى الشوانى، وركب فى الحراريق.
وسافر ليلة الأثنين على البريد. ولما قربوا من الدهليز المنصور رد الأيدمرى وجرمك إلى خيامهم، وأخذ السلطان جراب البريد على يده وفى كفه فوطة، وتوجه راجلا ودخل من جهة الحراس، فمانعه حارس وأمسك الحارس أطواقه ونتشه، فانجذب منه ودخل من باب الدهليز. وركب عصر يوم الجمعة، وحضر الأمراء إلى الخدمة، فأظهر أنه كان متغلث المزاج، وضربت البشائر بالعافية، ولم يدر بهذه الأمور إلا الأتابك وأستاد الدار وخواص الجمدارية.
وفى هذه السنة فى تاسع جمادى الآخرة رسم السلطان بأبطال الخواطى «2» من القاهرة ومصر والديار المصرية، وأمر بحبسهن وتزويجهن.
وفيها أيضا وردت الأخبار أن زلزلة حدثت ببلاد سيس «3» أخرجت قلاعها مثل سرفند كار، وحجر شعلان، وقتل بسببها جماعة حتى سال النهر دما.(30/164)
ذكر وفاة الأمير عز الدين أيدمر الحلى [الصالحى نائب السلطنة «1» ]
لما خرج السلطان لسماع رسالة الملك أبغا خرج الأمير عز الدين المذكور فى خدمته، فلما استقر السلطان طلب دستورا وتوجه إلى دمشق لملاحظة أملاكه، فلما دخل السلطان إلى دمشق أطلق له شيئا كثيرا، وزار السلطان فقيرا بجبل الصالحية ومعه الأمير عز الدين، فقام عز الدين ليجدد الوضوء، فقال الشيخ للسلطان: «هذا يموت فى هذه الأيام ولا يخرج من دمشق» ، وكان إذ ذاك كالأسد قوة، فمرض فى اليوم الثانى، وتوفى فى أوائل شعبان سنة سبع وستين. وحضر ولده «2» إلى الدهليز بخربة اللصوص فأحسن السلطان إليه وسيره إلى القاهرة. ولما وصل السلطان إلى القاهرة أمره بأربعين فارسا.
وفيها: توفى الأمير أسد الدين سليمان بن الأمير عماد الدين داود بن عز الدين موسك «3» الدوادى الهذبانى، من بيت الإمرة وله اختصاص كبير بالملوك والتقدم عندهم. وحدّه الأمير عز الدين من أكابر الأمراء الصالحية، وترك أسد الدين هذه الخدم وتزهد ولازم مجالس العلماء، ولبس الخشن من الثياب، وكانت له نعمة عظيمة ورثها من أبيه فأذهبها، ولم بيق له سوى ربع أملاكه، فكانت تقوم بكفايته إلى أن توفى فى يوم الثلاثاء مستهل جمادى الأول بدمشق، ودفن بقاسيون، وله شعر حسن، رحمه الله تعالى.(30/165)
ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الحجاز الشريف «1»
قال: لما قوى عزم السلطان على الحجاز الشريف كتم ذلك، وأنفق ونقى من جيشه، وجرد جماعة صحبة الأمير جمال الدين أقش الرومى السلاح دار، وهم المتوجهون صحبة السلطان، وجرد العساكر التى بقيت صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر أستاد الدار إلى دمشق. فنزلوا بظاهرها.
وتوجه السلطان إلى الكرك فى صورة أنه يتصيد، فوصل إلى الكرك فى مستهل ذى القعدة، وكان رسم بتجهيز جميع ما يحتاج إليه برسم الحجاز هناك. فسير الثقل فى رابع ذى القعدة، وتوجه السلطان فى السادس من الشهر إلى الشوبك، وتوجه منه فى حادى عشر الشهر، ووصل إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فى الخامس والعشرين منه، فزار ورحل فى السابع والعشرين. فقدم مكة، شرفها الله تعالى، فى خامس ذى الحجة، فتصدق بصدقات وافرة وكساوى كثيرة، وبقى كأحد الناس بغير حاجب، ثم غسل الكعبة، وبقى فى وسط البيت، ومن رمى له إحرامه غسله له بما ينصب من الماء فى الكعبة ويرميه إلى صاحبه، ثم جلس على باب الكعبة وأخذ بأيدى الناس ليطلع بهم إلى الكعبة.
وتعلق أحد العوام به، فلم يصل إلى يده لازدحام الناس عليه، فتعلق بإحرامه وكاد يرميه إلى الأرض وهو مستبشر بهذا الأمر، وعلق كسوة البيت الشريف ورفعها بيده على أركان البيت الشريف هو وخواصه. وسبل «2» البيت الشريف(30/166)
لسائر الناس، وتردد إلى الصالحين. وكان قاضى القضاة صدر الدين سليمان معه فى طول الطريق يستفتيه. وكتب إلى صاحب اليمن كتابا ينكر «1» عليه أمورا وكتب فيه: «سطرتها من مكة وقد أخذت طريقها فى سبع عشرة خطوة «2» » يريد بالخطوة المنزلة. وقضى السلطان فرض الحج ومناسكه كما يحب، وحلق، ونحر، وأحسن إلى أميرى مكة، شرفها الله تعالى: الأمير نجم الدين أبى نمى، والأمير إدريس بن قتادة، وإلى صاحب ينبع و [أمير] خليص، وزعماء الحجاز كلهم. وطلب أميرا مكة نائبا من السلطان، فرتب شمس الدين مروان.
وزاد أميرى مكة جملة من الغلال فى كل سنة بسبب تسبيل البيت الشريف، وزاد أمراء الحجاز، إلا جما ومالك أميرى المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه.
وخرج السلطان من مكة، شرفها الله تعالى، فى ثالث عشر ذى الحجة، ووصل إلى المدينة فى العشرين منه، وخرج فى بكرة النهار الثانى، ووصل إلى الكرك فى يوم الخميس سلخ ذى الحجة.(30/167)
واستهلت سنة ثمان وستين وستمائة
واستهلت سنة ثمان وستين وستمائة والسلطان الملك الظاهر بقلعة الكرك، فأقام بها حتى صلى الجمعة، وركب من الكرك بعد الصلاة مستهل المحرم فى مائة فارس جريدة، وعلى يد كل واحد من أصحابه جنيب، وساق إلى دمشق. فلما قاريها والناس لا يعلمون شيئا من حاله ولا يجسر أحد يتكلم، سير أحد خواصه فى البريد بكتب البشاير بسلامته وقضاء حجة إلى دمشق. فأحضر الأمير جمال الدين النجيبى الأمراء وغيرهم ليقرأ عليهم كتاب البشرى، فبينما هم فى ذلك وقد بلغهم أن السلطان فى الميدان. فتوجه إليه الأمير جمال الدين النجيبى فوجد السلطان قد نزل بالميدان بمفرده ووهب فرسه لإنسان من منادية سوق الخيل عرفه وقبل الأرض بين يديه، وحضر الأمراء إلى الخدمة وأكلوا شيئا، وتوجهوا ليستريح السلطان، فقام وركب فى جماعته اليسيرة وتوجه إلى حلب، فعادوا إلى الخدمة فلم يجدوا أحدا. ودخل السلطان حلب والأمراء فى الموكب فساق إليهم فما عرفه أحد، وبقى ساعة ثم عرفه الصرورى «1» ، فنزل الأمراء وقبلوا الأرض، ونزل بدار السلطنة بحلب، وشاهد قلعتها، وعاد منها، فوصل إلى دمشق فى ثالث عشر المحرم، ولعب الكرة وركب فى ليلته وتوجه إلى القدس والخليل عليه الصلاة والسلام فزار تلك الأماكن المقدسة وتصدق. وكان(30/169)
العسكر «1» المصرى قد سبقه صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار إلى تل العجول. هذا كله وما غير عباءته التى عليه، وذلك كله فى عشرين يوما.
وركب من تل العجول ووصل إلى قلعة الجيل فى ثالث صفر.
ثم توجه إلى ثغر الإسكندرية فى ثانى عشر صفر ودخل الثغر فى الحادى والعشرين من الشهر. وكان الصاحب بهاء الدين قد سبقه إلى الثغر وجهز الأموال والتعابى من الأقمشة، فخلع على الأمراء وأنعم عليهم بالتعابى والنفقات. ولعب الكرة بالإسكندرية. وخرج منها إلى الحمامات، ونزل بالليونة «2» ، وابتاعها من وكيل بيت المال.
وبلغه حركة التتار فعاد إلى قلعته، فوصل إليها فى ثامن ربيع الأول سنة ثمان وستين وستمائة.
ذكر توجه السلطان إلى الشام جريدة «3»
قال: ولما بلغ السلطان حركة التتار. وأنهم تواعدوا مع فرنج الساحل، وأن التتار أغاروا على الساجور بقرب حلب، وعلى جهة أخرى وأخذوا مواش العربان، فأراح العسكر وجرد الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار بجماعة من(30/170)
العسكر ليقيموا فى أوائل البلاد الشامية. وركب فى جماعة يسيرة من قلعته، وذلك فى ليلة الاثنين حادى عشرين شهر ربيع الأول ووصل إلى غزة، وتوالت الأمطار، فوصل إلى دمشق فى سابع شهر ربيع الآخر، ووردت إليه الأخبار برجوع التتار لما بلغهم خروجه، فأغار على عكا، واستولى على بلاد الإسماعيلية على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأقام السلطان بالشام بقية سنة ثمان وستين وستمائة.
وفى هذه السنة نصب الدرابزين على الحجرة الشريفة النبوية. وذلك أن السلطان لما توجه إلى الحجاز رأى الضريح النبوى والزوار تقف إلى جانب الحائط، فرأى أن يعمل درابزبنا ليكون حرما حول الحجرة، فأمر بعمله، فعمل وكمل، وسير إلى المدينة فى سنة ثمان وستين صحبة الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلى، فنصب.
وفيها: كانت وفاة قاضى القضاة محيى الدين أبى الفضل يحيى بن قاضى القضاة محيى الدين أبى المعالى محمد بن قاضى القضاة زكى الدين أبى الحسن على ابن قاضى القضاة مجد الدين أبى المعالى محمد بن قاضى القضاة زكى الدين أبى الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثمانى «1» . وكانت وفاته بفسطاط مصر فى رابع عشر شهر رجب سنة ثمان وستين. ودفن بالقرافة.
ومولده بدمشق فى ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شعبان سنة ست وتسعين وخمسمائة، ورياسته وأصالته أشهر من أن يأتى عليها.
وفيها: توفى الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على، وزير الصحبة، ضحى يوم الاثنين الحادى والعشرين من شعبان ودفن بكرة نهار الثلاثاء(30/171)
بتربتهم بالقرافة. ومولده فى اثنين وعشرين وستمائة بفسطاط مصر، وفوضت وزارة الصحبة بعده لولده الصاحب تاج الدين محمد.
وفيها: توفى الصاحب الوزير زين الدين أبو يوسف يعقوب بن عبد الرفيع ابن زيد الزبيرى، المعروف بابن الزبير نسبة إلى الزبير بن العوام الأسدى رضى الله عنه. وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء رابع عشر شهر ربيع الآخر. ومولده سنة ست وثمانين وخمسمائة. وكان عالما فاضلا رئيسا يتكلم باللغة التركية. وزر للملك المظفر فظفر، ثم وزر بعده للسلطان الملك الظاهر أياما، ثم عزله، فلزم داره إلى أن مات، رحمه الله تعالى، وكان له شعر حسن رقيق.
وفيها: توفى الشيخ الإمام الخطيب أصيل الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن عمر بن على العوفى الأسعردى المولد. قدم دمشق فى الدولة الصالحية وولى الخطابة بها. ثم عزل بالشيخ عز الدين بن عبد السلام، وعاد ثم عزل بالقاضى عماد الدين بن الحرستانى. وانتقل إلى الديار المصرية صحبة الملك المظفر فى سفرته التى قتل فيها. وتولى خطابة الجامع الصالحى خارج بابى زويلة.
وتولى نيابة الحكم بالشارع الأعظم نيابة عن قاضى القضاة بدر الدين السنجارى.
واستمر على الخطابة والحكم إلى أن توفى فى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وستين فى بيت الخطابة قبل صلاة الجمعة، وجاء ريس المؤذنين كما جرت العادة فوجده ساجدا وعليه ثياب الخطابة وقد قضى نحبه، فأحضر ولده فى تلك الساعة وأعلم بموت والده، فطلع المنبر وخطب وصلى بالناس. ودفن الخطيب فى بكرة يوم السبت بسفح المقطم بقرافة سارية. وكان لطيفا حسن العبادة والصوت. وله تصانيف ونظم ونثر، رحمه الله تعالى.(30/172)
واستهلت سنة تسع وستين وستمائة
فى هذه السنة، توجّه السلطان إلى عسقلان فى سابع صفر فهدمها «1» وعفى آثار عمارتها ورمى حجارتها فى ميناها، وعاد فوصل إلى قلعته فى ثامن شهر ربيع الأول.
وفيها: هلك الملك المجير هيتوم بن قنسطنطين صاحب سيس «2» ، ووردت مطالعة ولده ليفون فى سابع عشرين شهر ربيع الأول مضمومها: أنه لما كان فى خامس عشرين تشرين الأول ترهب والده وانتقل إلى الدير وخرج عن أمور الدنيا. فلما كان فى نهار الثلاثاء ثامن عشرين تشرين الأول وهو حادى وعشرين ربيع الأول مات وقت مغيب الشمس، وسأل شموله بالمراحم السلطانية فى ضمه إلى جناح الرحمة. فكتب بتعزيته بأبيه وتهنئته بما صار إليه من الملك، وإطابة قلبه.
ذكر القبض على الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك والأمراء الشهرزورية «3»
قد ذكرنا أن السلطان لما تسلم الكرك من المشار إليه بعض القبض على والده أمّره بمائة فارس. واستمر المذكور فى الخدمة الشريفة ولازم السلطان(30/173)
فى أسفاره وغزواته. وكان يلعب معه بالكرة، ويحضر معه فى أوقات الصيد وغير ذلك من مشاهده العامة. وظهرت منه شهامة، وأحسن رماية النشاب وأخذ نفسه فى ذلك بمأخذ الفرسان الشجعان. ولما كان السلطان على هدم عسقلان أفرد له جانبا يهدمه، فمر السلطان عليه فى بعض الأيام وهو قائم يستعمل الرجالة ويحثهم على الهدم ويجتهد فيما هو فيه. فبينما السلطان ينظر إليه ويتأمله إذا انهدم ما تحته من البناء فوثب من مكانه وألقى نفسه إلى الأرض ووثب أخرى فسلم والسلطان ينظر إليه. فعجب السلطان من اهتمامه مع حداثة سنه. ثم عاد إلى ما كان عليه من الهدم ولم يتأثر لذلك. وبينما السلطان فى أواخر هدم عسقلان ورد عليه كتاب نائبه الأمير بدر الدين الخزندار يستحثه على العود إلى قلعة الجبل، ويعلمه أنه لا يأمن وثوب الأمراء الشهرزورية، وأن قدرته تضعف عن مقاومتهم فى غيبة السلطان. وحال ورود كتابه أمر الناس بالرحيل ورجع لوقته إلى الديار المصرية. ولما رجع رمى الملك العزيز بقرة وحش بيده فى أثناء الطريق وحملها إلى السلطان والأمير شمس الدين سنقر الأشقر وغيره من الأمراء عنده. فقال السلطان للأمير شمس الدين المذكور: انظر إلى هذا الصغير وما هو عليه، والله ما يقصر!. فقال له سنقر الأشقر: لقد ربيت حية صغيرة بين ثيابك تنتفغ بها إذا كبرت. وكان سنقر الأشقر يكرهه لقبض أبيه عليه وتسليمه للملك الناصر واعتقاله كما تقدم، فأراد مكافأته فى ولده. ولما وصل السلطان إلى قلعة الجبل فى ثامن شهر ربيع الأول، كما تقدم، نزل إلى الميدان فى يوم الثلاثاء الثانى عشر من الشهر ولعب بالكرة، ودخل الملك العزيز على عادته إلى الميدان ولعب بالكرة، فجاء الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ليأخذ الكرة منه، والملك العزيز مجتهد فى ضربها، ورفع جوكانه ليضربها فوقع(30/174)
فى رأس الأمير شمس الدين ولم يقصد ذلك، فكاد أن يسقط إلى الأرض لولا [أن] اعتنق عنق فرسه حتى سكن ما به من ألم الضربة. فجاء السلطان إليه وهو يمازحه، فقال له: «كاد هذا الصغير أن يرميك عن فرسك حتى اعتنقت رقبته.»
فنظر إلى السلطان وقال: «والله إن كان اليوم ما رمانى، فغدا يرميك أنت، وهذا الصبى والله لك بئس الذخيرة» . فلما كان فى يوم الخميس رابع عشر الشهر جلس السلطان فى مجلسه واستدعى الأمراء الشهرزورية وهم عشرة منهم: الأمير بهاء الدين يعقوبا «1» ، وتوتل، وسنقران وقبض عليهم، وقبض على الملك العزيز معهم واعتقلوا، ثم أحضر الأمراء الشهرزورية وغيرهم وقررهم، فاعترفوا أنهم قصدوا قتل الملك السعيد ابنه، وقيامهم بالأمر فان أطاعهم الناس وإلا أفاموا الملك العزيز، فسألهم: «هل كان هذا الأمر عن مباطنته؟» فحلفوا أنه لم يطلع على ما عزموا عليه ولا باطنهم فيه. واستمر الملك العزيز فى الإعتقال إلى آخر أيام الملك السعيد عند ما حوصر بالقلعة فأفرج عنه وعن الأمراء الشهرزورية وغيرهم.
وكان قد رزق أولادا فى اعتقاله فى الدولة الظاهرية، فلما أفرج عنه الملك السعيد أمره أن ينصرف فى حال نفسه ويتوجه إلى الأمراء إن أحب ذلك، أو يقيم بالقلعة إلى أن ينفصل الأمر. وخرج بعض من أفرج عنهم إلى الأمراء فقبضوا عليهم واعتقلوهم، فخشى الملك العزيز من ذلك فسأل أن يرجع إلى معتقله ويقيم مع أولاده فرجع إليهم، فاستمر فى الإعتقال إلى أن ملك الملك الأشرف خليل ابن السلطان الملك المنصور قلاون فأفرج عنه فى سنة تسعين وستمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(30/175)
ولنرجع إلى سياقة أخبار الدولة الظاهرية:
وفى عاشر جمادى الآخرة من السنة توجه السلطان إلى الشام وصحبته ولده الملك السعيد «1» ، فكان دخول الملك السعيد إلى دمشق فى ثامن شهر رجب. وخرج هو والأمير بدر الدين الخزندار من جهة القطيفة. وكان السلطان قد توجه من جهة بعلبك ووصل إلى طرابلس، فأغار وقتل وفتح صافيتا وحصن الأكراد «2» وحصن عكا وبلاد الإسماعيلية، وغير ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها فى تاسع شوال: دخل الشيخ خضر شيخ السلطان إلى دمشق، وجاء إلى كنيسة اليهود وأخرجهم منها وجعلها زاوية، وعمل لأصحابه بسيسة عشرة قناطير بالدمشقى، فأكلوا منها، وحضر المغابى تعمل سماعا ورقصوا على بقية البسيسة بأرجلهم، فما أفلح بعد ذلك. فاجتمع اليهود وخرجوا عن مظالم كانت بينهم ورفعوا أصواتهم بالدعاء وقالوا: «يا محمد بن عبد الله، نحن فى ذمتك وعهدك، لا دولة لنا ولا سلطان، فانتصر لنا» . فكانت حادثة السيل، وخروج الشيخ خضر من الكنيسة على صورة منكرة.
ذكر حادثة السيل بدمشق «3»
وفى ثانى عشر شوال سنة تسع وستين وستمائة، وهو يوم عيد عنصرة اليهود، جاء سيل عظيم إلى دمشق فى الساعة الثامنة من النهار، وعلا على سور دمشق قدر(30/176)
رمح، وفى بعض المواضع أحد عشر ذراعا، ودخل من باب الفراديس بعد أن خرب جسره، وأخرب جسر بابى السلامة وتوما، ووصل إلى المدرسة الفلكية وصار فيها مقدار قامة وبسطة. واستمر ثلاث ساعات من النهار وهبط. وكان مبدأ هذا السيل أنه انعقد على جبال بعلبك غيم متكائف فسمع لرعده دوى هائل فى يوم السبت حادى عشر شوال، وكان بذلك الوادى ثلوج كثيرة، فوقع المطر على الثلوج فحلها، وسال فى يوم الأحد من جهة عين الفيجة بعد أن رمى فيها صخورا عظيمة ساقها بين يديه، واقتلع أشجار جوز عادية، وانتهى إلى دمشق وخرب عدة كثيرة من دور العقبية، وخرب حيطان الميدان وقطاير «1» البساتين، وأهلك خلقا كثيرا من الروم والعجم كانوا قد قدموا حجاجا ونزلوا بالميدان فغرقوا عن آخرهم هم وجمالهم ودوابهم، وأغرق من الحيوانات على اختلاف أجناسها مما لا يعد كثرة، وردم الأنهار بطين أصفر، واقتلع الأشجار من أصولها. ودخل السلطان بعد ذلك بأيام إلى دمشق فما وجد بها ماء ولا حماما يدور، وشرب الناس من الصهاريج والآبار. ويقال إنه هلك بهذا السيل عشرة آلاف نفس، وأخذ الطواحين بحجارتها.
وحكى أن فقيرا يعرف بالخبر حضر «2» إلى دار نائب السلطنة بدمشق قبل هذه الحادثة وقال: «عرفوا الأمير أنى أريد أعدو إلى بعلبك» . فقال له الأمير:
«رح، اجر» . وضحكوا منه. فتوجه، وعاد وهو ينذر الناس بالسيل.
فضحكوا منه ولم يعبأوا بكلامه. فما أحسّوا إلا والسيل قد هجم.(30/177)
وفى هذه السنة: عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن قضاء دمشق، وخرج منها فى ذى القعدة. وكانت مدة ولايته عشر سنين سواء.
وقلد القضاء بعده بالشام قاضى القضاة، عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر المعروف بابن الصايغ. وكان تقليده قد كتب والسلطان على طرابلس، وتأخر إلى أن حضر السلطان إلى دمشق، وكان وصول السلطان إلى دمشق فى يوم الأربعاء خامس عشر شوال «1» .
ذكر سفر الشوانى الإسلامية إلى قبرس وكسرها وأسر من كان بها وخلاصهم
وفى شوال سنة تسع وستين وستمائة: كتب السلطان من الشام إلى الديار المصرية بتسفير «2» الشوانى لقصد قبرس، فأشار ابن حسون برأى كان بئس الرأى، وهو أنه قال: «لو دهنت الشوانى سوادا تشبها بشوانى الفرنج، وعملت لها أعلام بصلبان حتى إذا دخلت إلى بلاد الفرنج يعتقدونها لهم، فتغتنم الغرة منهم» فاتبع رأيه. وتطاير الناس بذلك، وسافرت الشوانى فانكسرت بالقرب من قبرس. فورد كتاب صاحب قبرس إلى السلطان وفيه تقريع: «إن الشوانى كسرها الريح وأخذتها، وهى أحد عشر شينيا، وأسرت من فيها» . فكتب السلطان إلى الديار المصرية وهو بالشام بإنشاء عشرين شينيا، وإحضار خمس شوانى كانت بقوص. وأجاب [السلطان] صاحب قبرس «3» بتقريع وتوبيخ،(30/178)
ويعلمه أنه فتح القرين، فى كلام كثير تركنا ايراده اختصارا. وبقى القواد فى الأسر هم والرماة. ففادى بهم الفرنج أسرى، وبقى الإحتياط على الرؤساء وهم ستة نفر، منهم ريس الإسكندرية، وريس دمياط، وأبو العباس المغربى وغيرهم. واستمروا فى الأسر إلى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وقصد السلطان ابتياعهم وسير الأمير فخر الدين المقرى الحاجب إلى صور بسبب ذلك، فتغالى الفرنج فيهم. وكانوا قد نقلوا إلى عكا وحصل الإحتراز عليهم، وجعلوا فى حبس حصين. فرسم السلطان للأمير سيف الدين بن خطلبا- أحد النواب بصفد- بسرقتهم، فأرغب الموكلين بهم بالمال حتى دخلوا إليهم بمبارد ومناشير، وسرقوا من جب القلعة، وخرجوا فى مركب. وكانت خيل مهيأة، فركبوا ووصلوا إلى القاهرة ولم يدربهم أحد بعكا. ثم قامت فتنة بعكا بسببهم.
ذكر عود السلطان إلى قلعته ووصول رسل اليمن، واهتمامه بأمر الشوانى، وما أنعم به من الخلع والخيول على الأمراء والأجناد
قال: وسار السلطان إلى الديار المصرية فدخل قلعة الجبل فى ثانى عشر ذى الحجة سنة تسع وستين، وعند وصوله جهز الأمير شمس الدين آقسنقر استاد الدار بالعساكر إلى الشام، فخرجوا فى الشهر المذكور.
ووصلت هدية صاحب اليمن فى الشهر [المذكور] وفيها التحف الثمينة وفيل ودب أسود.
ووالى السلطان للنزول إلى مصر بنفسه والأمراء فى خدمته لمباشرة عمل الشوانى.(30/179)
وفى الشهر المذكور خلع وفرق بالميدان على ألف وسبعمائة نفر من الأمراء والحلقة أتمان خيل، وفرق ألفا وثمانمائة وخمسين رأسا، وذلك فى ثانى عشرين الشهر. ثم أعاد العطاء فى الثالث والعشرين منه حتى فرغ الناس وعمهم بالعطاء، ولازم صناعة الإنشاء عدة أيام بسبب الشوانى.
ذكر القبض على من يذكر من الأمراء «1»
وفى هذه السنة فى خامس عشر ذى الحجة أمر السلطان بالقبض على جماعة من الأمراء، منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبى الكبير، والأمير جمال الدين أقش المحمدى، والأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى الناصرى، والأمير عز الدين إيغان الركنى سم الموت، والأمير شمس الدين سنقر المساح، والأمير سيف الدين بيغان «2» الركنى، والأمير علم الدين سنجر طردح «3» الآمدى وغيرهم، وحبسوا فى قلعة الجبل.
وسبب ذلك أن السلطان بلغه عنهم وهو بالشقيف أنهم قد عزموا على القبض عليه، فأسرها فى نفسه إلى أن وصل إلى القاهرة وقبض عليهم واعتقلهم، ثم أفرج بعد ذلك عن بعضهم.
وفيها: فى سابع عشر ذى الحجة تقدم أمر السلطان بإراقة الخمور «4» فى سائر بلاده، والوعيد لمن يعصرها بعد ذلك بالقتل والنهب. فأهريقت بأعمال بالديار المصرية(30/180)
وأبطل ضمانها، وكان فى كل يوم بالديار المصرية خاصة يزيد على ألف دينار.
وكتب بذلك توقيع قرىء على الناس بالقاهرة ومصر.
وفى هذه السنة: أمر السلطان بإنشاء جامع بمنشاة المهرانى، وهى التى على نهر النيل، والخليج الحاكمى فارق بينهما وبين مصر، فعمّر.
وفيها: توفى قاضى القضاة الشيخ شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكى المالكى قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية «1» . وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأحد الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وستين وستمائة. ودفن من الغد بمقابر باب النصر. ومولده بالصالحية من الأعمال القليوبية فى ذى الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة. وكان رحمه الله تعالى عالما، وكان قد ولى الحسبة بالقاهرة مدة وعقود الأنكحة، ثم ولى نيابة الحكم بالقاهرة عن قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. ثم فوض إليه القضاء أحد الأربعة كما تقدم ذكر ذلك، رحمه الله تعالى. وولى بعده قضاء المالكية القاضى نفيس الدين أبو البركات محمد بن القاضى المخلص هبة الله بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر.
وفيها: أيضا توفى القاضى شمس الدين أبو إسحق إبراهيم بن المسلم بن هبة الله ابن البارزى قاضى حماة الشافعى، رحمه الله، وولى قضاة حماة فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، و؟؟؟ إلى أن توفى الآن.
وفيها: كانت وفاة الملك الأمجد تقى الدين أبى الفضائل عباس بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وهو آخر من مات من أولاد الملك(30/181)
العادل، وكان محترما عند الملوك الأيوبية، معظما عند السلطان الملك الظاهر، لا يرتفع عليه أحد فى المجلس ولا الموكب. وكان رحمه الله دمت الأخلاق سمحا كريما عاقلا حازما. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الجمعة ثانى عشرين جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون، وليس له عقب.
وفيها: توفى القاضى كمال الدين أبو السعادات أحمد بن الوزير فخر الدين الأعز أبى الحمايل مقدام بن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر. كان أحد الأكابر المشهورين بالديار المصرية متأهل للوزارة وغيرها. وهو خال قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، رحمهما الله تعالى، وكانت وفاته بالقاهرة فى السادس والعشرين من شهر رمضان. ودفن من الغد من يوم وفاته بسفح المقطم، وكان يومئذ ناظر بيت المال، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الأمير علم الدين سنجر الصيرفى «1» وكان من أعيان الأمراء بالديار المصرية، فلما تمكن السلطان الملك الظاهر أخرجه إلى الشام وأقطعه إقطاعا جيدا وزاده عدة قرى ببعلبك، فتوجه إليها، فمات فى يوم الأربعاء سادس صفر وهو فى عشر الستين رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الشيخ العارف قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ابن نصر بن محمد بن سبعين المرسى الزقوطى «2» ، أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وله تصانيف عدة وجماعة كثيرة ينسبون إليه، وأقام بمكة سنين كثيرة إلى أن(30/182)
توفى بها فى الثامن والعشرين من شوال من هذه السنة، ومولده فى سنة أربع عشرة وستمائة. والزقوطى نسبة إلى حصن من عمل مرسية يسمى زقوطة، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى العدل الرئيس زين القضاء أبو المكارم عبد الوهاب بن القاضى الرئيس فخر القضاء أبى الفضائل أحمد بن المرتضى أبى عبد الله محمد بن الجليس أبى المعالى عبد العزيز بن الحسين بن عبد الله بن الحباب التميمى السعدى الأغلبى، سمع وحدّث، وهو من بيت الرياسة والعدالة والفضل بالديار المصرية منذ سكنوها، وهم من ذرية زيادة الله بن الأغلب آخر ملوك بنى الأغلب بأفريقية.
وكانت وفاته بمصر فى التاسع والعشرين من جمادى الأول من السنة. ومولده فى غرة المحرم سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وفيها: توفى الطواشى الأمير شجاع الدين مرشد الخادم المظفرى عتيق صاحب حماة ومقدم جيشها، وكان من الشجعان الأبطال، وكان إذا حمل فى جيش العدو يقول: أين أصحاب الخصى. وكان السلطان الملك الظاهر يعتمد عليه لأمانته وشجاعته. وكان يتصرف فى المملكة الحموية تصرف ملوكها للوثوق به.(30/183)
واستهلت سنة سبعين وستمائة
ذكر توجه السلطان إلى الكرك ثم إلى الشام وعزل الأمير جمال الدين النجيبى عن نيابة دمشق وتولية الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك نيابة السلطنة بالشام واستنابة الأمير علاء الدين أيدكن أستاد الدار بالكرك
وفى سنة سبعين وستمائة: بلغ السلطان أن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وغيره من العربان تغيرت نياتهم وعزموا على الإنضمام إلى التتار. فعلم أنه إن استدعاهم لا يحضرون وينكشف الحال، وإن قصد الشام تسحبوا، فنزل إلى الميدان فى سابع المحرم وفرق على خواصه أربعمائة ألف درهم، واثنى عشر ألف دينار عينا، وستين حياصة ذهبا، وأمر بتجهيز العساكر إلى عكا بعد الربيع. وتوجه السلطان من قلعته بعد المغرب من ليلة تسفر عن سابع وعشرين المحرم فى جماعة يسيرة من خواصه، وخرج من الزعقة «1» فى البرية إلى الكرك وأخفى مقصده، فوصل فى سادس صفر، وطلع إلى قلعة الكرك، وكتب تقليد الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك بنيابة الشام، ولم يعلمه بذلك [حتى تسلم أيدكين نيابة الكرك] بل أفهمه أنه يستنيبه بحصن الأكراد، وتوجه إلى دمشق فوصل إليها فى ثالث عشر الشهر وسير للأمير جمال الدين النجيبى [نائب دمشق] تشريفا وأمره أن(30/185)
أن يتوجه إلى الديار المصرية، وولى الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى نيابة السلطنة بالشام. وركب السلطان فى ليلة سادس عشر صفر وتوجه إلى حماة ونزل بظاهرها بالجوسق، ونزل صاحب حماة فى خيمة أسوة الناس، ورتب استاد داره وأمير جانداره وحواشيه فى خدمة السلطان لأنه كان جريدة. فكان أول ما شرع فيه أمر العربان. وكان سبب نفورهم أشياء من جملتها أخذ أولادهم رهائن.
ولما وصل إلى حماة وجد عثمان بن مانع وعمرو بن مخلول وجماعة من أكابر العربان بغتة فأكرمهم، وما أظهر لهم شيئا، وكتب إلى الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا يطلب منه فرس فلان، والفرس الفلانى تسكينا له، وكان عيسى قد كتب إلى السلطان قبل خروجه من الديار المصرية يستأذن فى الحضور خديعة، فخدعه السلطان ورسم أن لا يحضر حتى يطلب. فكتب إليه الآن: «إنك كنت طلبت الحضور، ونحن الآن بحماة، فإن أردت الحضور فاحضر» . فحضر فسأله السلطان عما نقل عنه العربان، فاعترف به، فرعى له حق الصدق.
وأحسن إليه وإلى أمراء العربان، وأطلق رهائنهم، وأطلق لعيسى نصف خبزه الذى كان أخذه منه فى سنة ثمان وستين من سلمية وغيرها، وهو مائة ألف وثلاثون ألف درهم، وأطلق له من حلب ألف مكوك غلة إنعاما، وأطلق لغيره من العربان من خمسمائة مكوك إلى ما دونها.
وفى مستهل شهر ربيع الأول، ركب السلطان من حماة بعد العشاء الآخرة ولم يعلم بقصده، وسار على طريق حلب، ثم عرج فأصبح بظاهر حمص، وتوجه إلى حصنى الأكراد وعكار فكشفهما «1» ، وتوجه إلى دمشق.(30/186)
وورد الخبر أن جماعة من التتار أغاروا على عين تاب، وتوجهوا إلى عمق حارم «1» فى نصف شهر ربيع الأول، فكتب [السلطان] إلى الديار المصرية بتجريد الأمير بدر الدين بيسرى بثلاثة آلاف فارس، وتوجه بذلك صارم الدين المشرقى، وخرج من دمشق الثالثة من نهار الأحد ثامن عشر شهر ربيع الأول، ودخل القاهرة الثالثة من ليلة الأربعاء حادى عشرينه، فخرج الأمير بدر الدين بيسرى والعسكر بكرة نهار الأربعاء المذكور.
ووصل الأمير شمس الدين أستاد الدار بالعسكر المجرد وكانوا على جينين وهم خمسمائة فارس. وكان التتار قد أغاروا على حارم والمروج وقتلوا جماعة، وتأخر ابن مجلى والعسكر الحلبى إلى حماة، وجفل أهل دمشق، وبلغت قيمة الجمل ألف درهم، وأجرته إلى مصر مائتى درهم.
ووصل الأمير بدر الدين بيسرى والعسكر إلى دمشق فى رابع شهر ربيع الآخر، وتوجه السلطان بالعسكر إلى حلب، وجرد الأمير شمس الدين أستاد الدار وجماعة معه إلى مرعشن، وجرد الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا إلى حران والرها، فتوجها ووصلا إلى حران، فاتصل الخبر بمن فيها من نواب التتار فخرجوا فالتقاهم الأمير شرف الدين عيسى وطاردهم وطاردوه، ثم وصل العسكر فخرج عليهم كمينه، فلما رأوه نزلوا عن خيولهم، وقبلوا الأرض، وألقوا سلاحهم، فقبضوا عن آخرهم، فكانوا ستين رجلا. ثم سار الأمير علاء الدين طيبرس إلى حران، فلما أشرف عليها أغلق من فيها أبوابها وتركوا بابا واحدا، فخرج منه الشيخ محاسن أحد أصحاب الشيخ(30/187)
حياة ومعه جماعة كثيرة، وذلك فى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الآخر، وأخرج لهم طعاما قليلا لأجل البركة، فتلقاه الأمير علاء الدين وترجل له.
فلما اجتمع به أخرج له الشيخ مفاتيح حران وقال له: «هذا بلد السلطان فتسلمه» .
فقال له: «طيب قلوب الجماعة ويكونون «1» على ما هم عليه إلى أن يصل السلطان» .
وعصى برج باب يزيد وفيه شحنة التتار فطلبه فامتنع، وقال: «اذا جاء السلطان خرجت إليه» ؛ فعاد الأمير علاء الدين طيبرس ولم يدخل حران، وعبر الفرات سباحة.
وبعد توجهه فارق أكابر أهل حران البلد ووصلوا إلى دمشق مثل: أمين الدين بن شقير، وخطيبها الشيخ شهاب الدين بن تيمية، وأولاد بشر، وابن علوان وغيرهم. وأقام جماعة كثيرة من أهل حران بحلب وحماة وحمص وتفرقوا فى البلاد، وبقى جماعة بحران.
فلما كان فى الخامس والعشرين من شهر رمضان من السنة، وصل جماعة من التتار إلى حران،؟؟؟ أسوارها وأكثر أسوافها ودورها ونقضوا جامعها وأخذوا أخشاب سقوفه، واستصحبوا معهم من بقى فيها، فخربت وأخليت و؟؟؟ إلى الآن. وكانت من المدن الجليلة.
ذكر عود السلطان من حلب ورجوعه إلى الديار المصرية وعوده إلى الشام «2»
وفى آخر شهر ربيع الآخر بلغ السلطان أن الفرنج أغاروا على قاقون، وقتل(30/188)
الأمير حسام الدين استاد الدار، وجرح الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق وجرح [بجكا العلائى] والى قاقون. فرحل السلطان من حلب، ودخل دمشق وبين يديه التتار الذين أسروا من حران. وأما الفرنج فإنهم لما قصدهم العسكر المجرد بقاقون تأخروا عنها، ووصل الأمير جمال الدين أقش الشمسى بعسكر عين جالوت، فولوا مدبرين، ولحقهم العسكر واسترجع منهم تركمانا، وقتل من رجالتهم وعرقب من خيولهم [خمسمائة رأس] . وخرج السلطان من دمشق فى ثالث جمادى الأول وصحبته العساكر بنية الغارة على الفرنج، وقصد عكا فتوالت الأمطار وهو على مرج برغوث «1» حتى كاد الناس يهلكون. فانثنى عزمه عن الإغارة. ورد العسكر الشامى وصار إلى الديار المصرية. فوصل إلى قلعة الجبل فى الثالث والعشرين من جمادى الأول وأقام بقلعته أياما.
ثم توجه إلى الجيزية للتنزه فى يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة فى جماعة من أمرائه وخواصه، فحضر إليه مطالبيه، وأخبروه أن بناحية بوصير السدر من الجيزية مغارة بها مطلب. فتوجه إليها وأمر بحفرها. فجمع متولى الجيزية جماعة، فحفروا وأعمقوا، فأخرجوا قطاطا ميتة، وكلاب صيد، وطيورا وغير ذلك من الحيوانات، وهى ملفوفة فى خرق، فإذا حلت اللفائف عنها وأصابها الهواء صارت ترابا تذروه الرياح، ولم يوجد فيها خلاف ذلك. وعاد السلطان من الجيزية فى يوم الثلاثاء العشرين من الشهر.(30/189)
ذكر إيقاع الحوطة على القاضى شمس الدين الحنبلى واعتقاله «1»
وفى سنة سبعين وستمائة: أمر السلطان بإيقاع الحوطة على منزل قاضى القضاة شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسى الحنبلى.
وسبب ذلك أن تقى الدين شبيب الحرانى كان أخوه ينوب عن قاضى القضاة المشار إليه بالمحلة فعزله، فغضب أخوه المذكور لذلك، وكتب رقعة إلى السلطان يقول: «إن القاضى شمس الدين عنده ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام وغيرهم جملة كثيرة، وقد مات بعض أهلها واستولى عليها» .
فاستدعاه السلطان وسأله عن ذلك فأنكره وجحد، فطلب منه اليمين فحلف وتأول يمينه. فعند ذلك أمر السلطان بهجم داره، فهجمت ووجد فيها كثير مما ادعاه شبيب، بعضه قد مات أربابه، فأخذت زكاة ما وجد مدة ستين. وسلم ما بقى لأصحابه. فغضب السلطان عند ذلك على قاضى القضاة، وأمر باعتقاله، وتوجه السلطان إلى الشام وهو فى الإعتقال، فتسلط شبيب عليه حينئذ وادعى أنه حشوى وأنه يقدح فى الدولة. وكتب بذلك محضرا، فأمر الأمير بدر الدين الخزندار نائب السلطنة بعقد مجلس، فعقد له يوم الاثنين حادى عشر شعبان من السنة واستدعى من شهد فى المحضر، فنكل بعضهم عن الشهادة فأطلقوا، وشهد الباقون، فأخرق بهم وجرسوا. ثم تبين للأمير بدر الدين الخزندار تحامل شبيب لما ظهر له من إساءته على القاضى شمس الدين والقدح فيه، فأمر باعتقاله(30/190)
والحوطة على موجوده. وأعاد القاضى إلى الإعتقال فاستمر به إلى أن أفرج عنه فى النصف من شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، [ولم يول السلطان بعده قضاء الحنابلة أحدا] «1»
ذكر توجه السلطان إلى الصيد ثم إلى الشام «2»
قال: ولما عاد السلطان من الجيزية، أقام بقلعة الجبل إلى شهر رجب من هذه السنة، وخرج متصيدا إلى جهة الصالحية، فبلغه حركة التتار فرجع إلى القلعة وتجهز.
وخرج إلى الشام فى ثالث شعبان من السنة، ونزل بمرج قيسارية وحصلت الهدنة مع الفرنج «3» .
ونزل السلطان بمنزلة الروحاء وعيّد بها عيد الفطر، ورحل منها فى ثانى شوال إلى خربة اللصوص، ثم توجه إلى دمشق.
ووردت رسل التتار، وهم رسل صمغار مقدم عسكر التتار بالروم، ورسل البرواناه، فحضروا بين يدى السلطان وسمع مشافهتهم، وتضمن الكتاب الذى على أيديهم الرغبة فى الصلح وطلب رسل من السلطان. فجهز إليهم الأمير مبارز الدين الطورى أمير طير، والأمير فخر الدين المقرى الحاجب، فتوجها هما(30/191)
والرسل فى نصف شوال سنة سبعين، واجتمعا بصمغار، بين سيواس والجسر، فأكرمهم وأوصلوه ما كان معهم من الهدية، وهى: قسى تسعة، دبابيس تسعة. واعتذروا عن قلتها كونهم حضروا على خيل البريد. وفى اليوم الثانى اجتمعا بالبرواناه واعطياه قماشا فاخرا كان السلطان قد سيره إليه خفية، وسير معهما هدية لأبغا بن هولاكو، وهى جوشن ريش قنفد، وخوذه كذلك، وسيف، وقوس، ودركاش «1» ، وتسع فردات نشابا، وتوجهوا صحبة البرواناه إلى الأردو، وأوصلوا إلى أبغا هديته. وقال له الأمير مبارز الدين الطورى:
«السلطان يسلم عليك ويقول: إن رسل منكوتمر وردوا إليه مرارا، أن السلطان يركب من جهته. ويركب الملك منكوتمر من جهته، وأين وصلت خيل سلطاننا كان له، وأين وصلت خيل منكوتمر كان له» فانزعج أبغا انزعاجا عظيما، وقام وركب وخرجت الرسل إلى خيامهم، ثم طلب أمراءه للشورة «2» ، وبعد ذلك خلع على الرسل وأذن لهم فى السفر فعادوا.
وأما السلطان فإنه أقام بدمشق حتى ضحى بها، وأحسن إلى صاحب حماة، وأمر بجلوسه معه بطراحة ومسند وكرسى فى رأس السياط مسامتا للسلطان.
ثم توجه بعد ذلك إلى حصنى الأكراد وعكار «3» وشاهد العمارة بهما، وعمل بيده، وخلع على من بحصن الأكراد من الأمراء وأرباب الوظائف.
وعاد فتصيّد فى الطريق وخلع مقدار خمسمائة تشريف على من أحضر صيدا، ورجع إلى دمشق فدخلها فى خامس المحرم سنة إحدى وسبعين.(30/192)
وفى سنة سبعين وستمائة: كانت وفاة الملك الأمجد أبى الحسن بن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب «1» ، رحمهم الله تعالى، بدمشق فجأة فى يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، ودفن بسفح قاسيون وله من العمر ما ينيف على خمسين سنة تقريبا. وكان من الفضلاء، وله مشاركة فى العلوم ومعرفة بالأدب، وتنقلت به الأحوال فى عمره، وصحب الفقراء والمشايخ، وانتفع بهم وأخذ عنهم. وكان كثير البرّ لمن يصحبه من المشايخ. وكانت همته عالية ونفسه ملوكية، وله صبر على المكاره. وكان جميع أهل بيته يعظمونه ويعترفون له بالتقدمة، حتى هم أبيه الملك الأمجد تقى الدين الذى قدمنا ذكر وفاته. وكان حسن الخط والترسل، وكان واسطة عقد هذا البيت. فإن أمه ابنة الملك الأمجد مجد الدين حسن بن السلطان الملك العادل الكبير، تسمى باسم جده.
وإلى جده لأمه المذكور ابن الملك العادل ينسب الغور الأمجدى وهو الخميلة، والنويعمة «2» ، ودامية، والحمام، وورثة أولاد الملك الناصر عن أمهم. وتزوج الملك الأمجد هذا ابن الملك الناصر داود، ابنة الملك العزيز غياث الدين بن الملك الظاهر أخت الملك الناصر صاحب الشام وأولدها ولدا سماه صلاح الدين محمود.
وفيها: توفى الصدر الكبير وجيه الدين أبو عبد الله محمد بن على بن سويد بن معالى بن محمد بن أبى بكر الربعى التغلبى التكريتى التاجر «3» المشهور بسعة المال والثروة(30/193)
والجاه ونفوذ الكلمة، [بلغ] مالم يبلغه أحد من أمثاله. وكانت كتبه تنفذ عند سائر الملوك، حتى عند ملوك الفرنج بالساحل. وكانت النجابون تأتيه من بغداد إلى دمشق فى مهمات تتعلق بالخلافة. وكانت متاجره لا يتعرض إليها.
وكان خصيصا بالملك الناصر صاحب الشام لا يخرج عن إشارته ورأيه.
وانبسطت يده فى دولته. وكان عنده فضة كثيرة، مراود وجسرا «1» ، فاستأذن الملك الناصر على ضربها دراهم فأذن له، وجعل دار الضرب بدمشق بيده، فضرب منها شيئا كثيرا، وكانت مغشوشة، فخسر الناس فيها أموالهم. ولما ملك هولاكو البلاد وصل إليه فرسان من جهتة يتضمن تأمينه على نفسه وماله فما وثق به. وفارق دمشق إلى الديار المصرية. وغرم جملة مقارب ألف ألف درهم بسبب الدراهم المغشوشة وغيرها. ثم تمكن فى الدولة الظاهرية تمكنا كبيرا، ووكله السلطان الملك الظاهر، وجعله وصيّه على أولاده من بعده وناظر أوقافه، وخوطب فى مكاتباته بالمجلس السامى المولوى. وكان مع تمكنه من الملك الناصر لا يكتب له عنه إلا الصدر الأجل. وكان سبب تمكنه من السلطان الملك الظاهر ما حكاه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر الجزرى فى تاريخه عن والده، رحمه الله تعالى، قال: كنت عند وجيه الدين فى داره فى أيام الملك الناصر، وقد جاء إليه الملك الظاهر وهو يومئذ فى خدمة الملك الناصر من أمرائه، وشكى إليه ضعف إقطاعه، وأنه قد ركبه دين كثير، وليس عنده كسوة لصغاره، وسأله أن يتحدث له مع الملك الناصر، وكان قد وصل إلى وجيه الدين فى تلك الساعة من عكا جوخ سقلاط وغيره، فأعطاه منه كفاية(30/194)
عشرة أقبية، وخرق كتان فرنجى مائتى دراع، وخمس تقاطيع سكندرى، وتفصيلتين حرير، وألف درهم. وقال له: «ياخوند «1» مهما كان لك من حاجة أو خدمة أطلب ذلك منى، ولا حاجة بقول السلطان» . قال: والله لقد رأيت الملك الظاهر وقد أهوى إلى أقدام وجيه الدين ليقبلها، فرعى له السلطان الملك الظاهر حق هذا الإحسان. وملك وجيه الدين المذكور عدة من ضياع دمشق وأملاكها. وكان مع ذلك كله فيما حكى عنه شحيحا على طعامه، لكنه كان يتكرم بماله. وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الجمعة التاسع والعشرين من شوال سنة سبعين وستمائة. ومولده بتكريت فى ذى القعده سنة تسع وستمائة، رحمه الله تعالى.(30/195)
واستهلت سنة إحدى وسبعين وستمائة
ذكر توجه السلطان إلى الديار المصرية على خيل البريد وعوده إلى الشام
قال: لما عاد السلطان من كشف الحصون فى خامس المحرم من هذه السنة، استشار خواص الأمراء فى أن التتار تواترت الأخبار بحركتهم، وأنهم متى قصدوا البلاد والعساكر والخزائن غير حاضرة صعب الأمر، وعرفهم أنه بتوجه إلى الديار المصرية على البريد.
وركب ليلة السادس من المحرم بعد عشاء الآخرة، وصحبته الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير جمال الدين أقش الرومى، وجبرك «1» السلاح دار، وجرمك الناصرى، وسنقر الألفى السلاح دار، وعلم الدين شقير مقدّم البريدية. فدخل قلعته يوم السبت ثالث عشر المحرم، ولم يشعر الناس إلا وهو داخل من باب القلعة، فدخل وتوجه إلى الميدان ولعب الكرة، وكتب إلى الأمراء المقيمين بالشام أنه سطرها من البيرة، وسير علائم بخطه ليكتب عليها أجوبة البريد من دمشق إلى الأطراف. وكان الأمير سيف الدين الدوادار بقلعة دمشق لتجهيز الكتب والبريد. وفى يوم الثنين توجه إلى مصر وركب فى البحر ولعبت الشوانى. وفى ليلة الأربعاء سابع عشرين المحرم جهز العسكر المجرد إلى الشام،(30/197)
وتوجه هو إلى الشام فى ليلة التاسع والعشرين من الشهر هو ومن كان معه من الأمراء. ووصل إلى دمشق فى ثالث صفر، ودخل قلعتها ليلا.
وحضر إليه رسل أبغا وكان مضمون مشافهتهم طلب الاتفاق.
ثم توجه السلطان إلى قلعة البيرة عند ما نازلها التتار. وكان من انهزامهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الغزوات والفتوحات.
ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية فدخل قلعته فى الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وفى السابع والعشرين من الشهر: أفرج عن الأمير عز الدين الدمياطى «1» وأنزله بدار الوزارة ورتب له الرواتب، وكان فى الإعتقال من شهر رجب سنة إحدى وستين وستمائة.
وفى شهر رجب: خلع السلطان على الأمراء والوزراء والقضاة «2» والمقدمين، وعم بذلك المسافرين والمقيمين.
وفى هذه السنة: نجزت عمارة قبة الصخرة الشريفة «3» ، وذلك فى يوم عرفة، وكان السلطان قد توجه إليها وجميع الصناع لعمارتها كما قدمناه.
ذكر اعتقال الشيخ خضر «4» والأسباب التى أوجبت ذلك
وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوال سنة إحدى وسبعين: أحضر الشيخ خضر(30/198)
ابن أبى بكر بن موسى العدوى المهرانى شيخ السلطان إلى قلعة الجبل، وأحضر جماعة خانقوه على أشياء كثيرة منها اللواط والزنا وغيره، فتقدم أمر السلطان باعتقاله. وكان سبب ذلك أنه تعاطى أمورا منكرة وأفحش، ثم شرع يغض من الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين، وانتقل إلى حد المهاجرة لهما بالقول بحضرة السلطان، وهو أن السلطان أطلق له شيئا فتوقف الأمير بدر الدين فى إمضائه، فقال له بين يدى السلطان: «كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده، كما فعل قطز بأولاد الملك المعز» . فخشى عاقبة ذلك.
فاتفق هو والصاحب بهاء الدين على التدبير عليه وإطلاع السلطان على ما خفى عنه من حقيقة حاله، ووافقهما على ذلك الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بالشام، ورتبه، وذلك أنه طلب إسماعيل ومظفر نائبه بدمشق وآخر من أتباعه اسمه محمد بن بطيخ وتهددهم أولا، ثم وعدهم أنهم متى اعترفوا على شيخهم بما يعتمده أحسن إليهم وجعل لهم الرواتب. فذكروا عنه أشياء كثيرة وأشهدوا على أنفسهم بذلك. فكاتب السلطان فى أمره، فأمر بإرسالهم على خيل البريد فأرسلوا. ولما حضروا بين يدى السلطان سمع كلامهم. ثم أحضره وقال له:
«هؤلاء نوابك بالشام، ما تقول فيهم؟» فذكر من خبرهم وصدقهم وأنه رضى بما يقولونه فيه. فذكروا عنه من القبائح والمنكرات وارتكاب المحرمات شيئا كثيرا، وخانقوه على ذلك. فأطلقهم السلطان وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده.
وحكى الشيخ قطب الدين اليونينى فى تاريخه: أنه لما حضر أولئك لمخانقته كان ذلك بحضور الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب الأتابك، والأمير سيف الدين قلاون، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سيف الدين قشتمر(30/199)
العجمى، فخانقه أصحابه على كل عظيمة لا تصدر من مسلم. فقال: «ما أعرف ما تقولون. ومع هذا، أنا ما قلت إنى رجل صالح، أنتم قلتم هذا. فإن كان الذى تقولون صحيح فأنتم كذبتم» . فقام السلطان وقال للأمراء: «قوموا بنا لئلا نحترق بمجاورته» . فقاموا وانتقلوا إلى طرف الإيوان. فاستشار السلطان الأمراء فى أمره، فقال له الأتابك: «هذا مطلع على أسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغى إبقاؤه، ووافقه من حضر من الأمراء على هذا الرأى، وقالوا: ببعض ما قيل عنه يباح دمه. ففهم ما هم فيه، فقال للسلطان: «اسمع ما أقول لك، أنا أجلى قريب من أجلك، وما بينى وبينك إلا مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه الآخر عن قريب» . فلما سمع السلطان كلامه وجم، وقال للأمراء: «ما تشيرون فى هذا» ؟ فسكتوا. فقال السلطان: «أرى أن يحبس فى مكان لا يصل إليه أحد ولا يسمع كلامه، فيكون كمن قبر وهو حى» . ثم أمر به فحبس فى مكان منفرد بقلعة الجبل، ولم يدخل إليه إلا من يثق السلطان به غاية الوثوق. وكان يرسل إليه الأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، واستمر فى الإعتقال إلى أن توفى فى سنة ست وسبعين وستمائة قبل وفاة السلطان بأحد وعشرين يوما. وسنذكر إن شاء الله تعالى، مبدأ أمره وسياقة أخباره عند ذكر وفاته.
وفيها: هرب الأمير عمرو بن مخلول من آل فضل من قلعة عجلون هو وحامد رفيقه. وكان السلطان قد اعتقلهما فى برج من أبراج القلعة، فحفر حفيرة ملاصقة للسور ووقدوا النار حتى تكلس حجر السور، فنقباه وخرجا منه، وقد كانت أعدت لهما خيل سوابق فركباها وتوجها إلى بلاد التتار، ثم ندما على ما فعلاه، فكتبا إلى السلطان يسألان مراحمه، فحلف أنه لا يرضى عنهما إلا أن(30/200)
يعودا الى قلعة عجلون ويضعا أرجلهما فى القيود على ما كانا عليه، ففعلا ذلك.
وكان عودهما من بلاد التتار فى ذى الحجة سنة اثنين وسبعين وستمائة. ولما رجعا إلى الطاعة وفعلا ما أمر السلطان به عفا عنهما وأطلقهما وأحسن إليهما.
وفى هذه السنة فى رابع عشرين ذى الحجة: توفى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الفائز إبراهيم بن الملك السلطان العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمهم الله تعالى، فى معتقله بجب خزانة البنود، ودفن بتربتهم بالقرافة بجوار الإمام الشافعى. ومولده فى صفر سنة ست وستمائه، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها: كانت وفاة الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن الأمير ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خمردكين «2» صاحب صهيون وبرزية فى شهر ربيع الأول. وكانت وفاته بصهيون وقد ناف على ستين سنة، ودفن بتربة والده. وتسلم صهيون وبرزية بعده ولده الأمير سابق الدين سليمان، ثم أخذهما السلطان منه فى هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها: كانت وفاة الحافظ الخطيب فخر الدين أبى محمد وأبى الفرج عبد القاهر ابن الشيخ علاء الدين عبد الغنى بن محمد بن تيمية الحرانى. وكانت وفاته بدمشق فى ثانى عشر شوال من هذه السنة. ودفن بمقابر الصوفية. ومولده فى سنة ثنتى عشرة وستمائة، سمع الحديث من جده ومن ابن اللتى، وخطب بجامع حران وكان فاضلا دينيا، وهو من بيت معروف بالعلم والفضيلة، رحمه الله تعالى «3» .(30/201)
واستهلت سنة اثنتين وسبعين وستمائة
ذكر الطلسم الذى وجد بباب القصر بالقاهرة
قال المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، فى السيرة الظاهرية: لما كان يوم عاشوراء من هذه السنة وجد ما سنذكره «1» ، وذلك أنه كان قد رسم بنقض علو أحد أبواب «2» القصر المسمى بباب البحر قبالة دار الحديث الكاملية، لأجل نقل عمد منه لبعض العمائر السلطانية، فظهر صندوق فى حائط مبنى عليه، وللوقت أحضرت الشهود وجماعة كثيرة وفتح الصندوق. فوجد فيه صورة من نحاس أصفر مفرغ على كرسى شكل الهرم، ارتفاعه قدر شبر له أربعة أرجل تحمل الكرسى، والصنم جالس عليه متوركا، وله يدان مرفوعتان ارتفاعا جيدا، يحمل صفيحة يكون دورها قريب الثلاثة أشبار، وفى هذه الصفيحة أشكال بايتة «3» ، الأوسط صورة رأس بغير جسد، وعليه دوائر مكتوب عليها كتابة بالقبطى بالقلفطريّات «4» ، وإلى جانبها فى الصفيحة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب الآخر شكل على رأسه صليب، وآخر فى يده عكاز وعلى رأسه صليب وتحت أرجلهما أشكال طيور. وفوق رءوس الأشكال كتابة كثيرة أكثر من(30/203)
نصف الصفيحة. وعلى الأشكال كتابة. ووجد مع هذا الصنم فى الصندوق لوح من الواح الصبيان التى يكتبون فيها فى المكاتب مدهون وجهه الواحد «1» أبيض، ووجهه الآخر أحمر، وفيه كتابة قد تكشّط أكثرها من طول المدة وقد بلى اللوح وما يقيت الكتابة تلتئم ولا الخط يفهم.
قال: والوجه الأبيض مكتوب بقلم الصفيحة القبطىّ. وذكر ما ظهر من الكتابة على الوجه الأحمر وهى ثلاثة عشر سطرا، ذكر ألفاظا غير ملتئمة، إلا أن المفهوم منها على غير التئامة: «الإسكندر ذو الملك يزجر» . وذكر ما ظهر فى كل سطر، وأخلى لما تكشط منه مما لا فائدة فى ذكره، والذى شرحه من السطر الثانى عشر ما صورته: «شد أيضا كل امار «2» أشد به» . قال: وقيل إن هذا اللوح بخط الحاكم خليفة مصر. وأعجب ما فيه اسم السلطان وهو بيبرس. قال:
ولما شاهد السلطان ذلك أمر بقراءته، فعرض على قراء الأقلام، فقرىء، وهو بالقلم الفبطى، ومضمونه طلسم عمل للظاهر بن الحاكم، وفيه أسماء ملائكة وعزائم ورقىّ وأسماء روحانية وصور ملائكة، وأكثره حرس للديار المصرية وثغورها وصرف الأعداء وكفهم عن طروقهم إليها، وابتهال إلى الله بأقسام كثيرة بحماية الديار المصرية، وصونها من الأعداء، وحفظها من كل طارق ومن جميع الأجناس.
قال: وتضمن هذا الطلسم كتابه بالقلفطريات «3» وأوفاق وصور وخواص لا يعلمها إلا الله تعالى. وحمل هذا الطلسم إلى السلطان فبقى فى ذخائره.(30/204)
قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر: رأيت فى كتاب عتيق رث «1» سماه مصنفه: وصية الإمام العزيز والد الإمام الحاكم لولده المذكور، وقد ذكر فيه الطلسمات التى على أبواب القصر. وقال: إن أول الكواكب الحمل، وهو قلب المريخ، وشرف الشمس، وله القوة على جميع سلطان الفلك، لأنه صاحب السيف، وله الأمر والحرب والسلطان والقوة، والمستولى لقوة روحانيته على مدينتنا عند ما بنيناها. وقد أقمنا طلسما لساعته ويومه لقهر الأعداء وذل المنافقين، فى مكان أحكمناه على شرافة عليه «2» والحصن الجامع لقصره مجاور لأول باب بنيناه. هذا نص ما فى الكتاب، والله أعلم.
ذكر توجه السلطان إلى الشام «3»
وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة: وردت الأخبار بحركة أبغا بن هولاكو ملك التتار، فخرج السلطان فى ليلة السادس والعشرين من المحرم، وصحبته جماعة من أمرائه الخواص، منهم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير سيف الدين أوتامش «4» السعدى. فلما وصل إلى عسقلان بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد وقد خرج إلى الزاب متصيدا، فكتب إلى القاهرة يستدعى العساكر. فخرج منها يوم السبت حادى عشر صفر أربعة آلاف فارس [مع] مقدميهم: الأمير علاء الدين طيبرس الوزير، والأمير جمال الدين أقش(30/205)
الرومى، والأمير شمس الدين أقش المعروف «1» بقطليجا، والأمير علم الدين سنجر طردح «2» .
ورحلوا من البركة فى يوم الاثنين. ثم قويت الأخبار، وهو فى أثناء الطريق بحركة التتار، فكتب السلطان بخروج العساكر جميعها والعربان من الديار المصرية صحبة بدر الدين بيليك الخزندار، ورسم بأن جميع من فى مملكته ممن له فرس يركب إلى الغزاة، وأن يخرج أهل كل قرية بالشام من بينهم خيالة على قدر حال أهل البلد، ويقومون بكلفتهم. ودخل السلطان إلى دمشق فى سابع عشر صفر. وكان رحيل العساكر من القاهرة فى العشرين من صفر، فوصلوا إلى يافا، وورد المرسوم بنزولهم قريبا منها، وركب السلطان من دمشق فى نحو أربعين فارسا جرائد، ولم يستصحبوا ركاب دار السلطان ولا غيره «3» . فوصل وقد طلّبت العساكر وقاربوا المنزلة، فاعترضهم السلطان وجماعته وقد ضرب كل منهم على وجهه لثاما، فظن الحجاب أنهم من التركمان، فرسموا لهم بالترجل فما ترجلوا «4» . وساق السلطان منفردا وجاء من خلف الصناجق وحسر اللثام عن وجهه، فعرفه السلاح دارية فأفرجوا له، فدخل وساق فى الموكب فنزل الناس وقبلوا الأرض، وساق السلطان ونزل بدهليزه فرتب المصالح.
وأصبح فى اليوم الثانى وركب فى موكبه، ونزل فقضى حوائج الناس وركب عند المساء، هو ومن حضر معه وعاد إلى دمشق.(30/206)
ذكر وصول الملك شمس الدين بهادر صاحب شميصاط «1» وشىء من أخباره
هذا المذكور هو الملك شمس الدين بهادر بن الملك فرج «2» ، أمير الطست للسلطان جلال الدين خوارزم شاه منكربرتى، وكان والده قد ملك بعد السلطان جلال الدين قلعة كيران «3» وست قلاع أخرى فى ناحية نقجوان «4» . ووصل إلى بلاد الروم فأقطع أقصرا، فكاتب شمس الدين هذا السلطان وراسله، وتقرب إليه بإعلامه بحقيقة أخبار العدو، وذلك فى سنة إحدى وسبعين وستمائة. واتفق السلطان معه على نكتة غريبة قتل بسببها الجاثليق النصرانى؛ وكان قد أهان المسلمين ببغداد وسكن «5» مواطن الخلافة وأفسد أمور المسلمين.
فكتب السلطان كتابا إلى الجاثليق مضمونه: عرفنا محبتك وتوصيتك على النصارى الذين ببلادنا، وقد أكرمناهم لأجلك، وعرفنا أخبار المغل الباطنة التى أشرت إليها. وذكر فى الكتاب أمورا موهمة لا أصل لها، منها: الذى التمسته لمن أشرت قد أجبنا إليه، وتسليم الأمكنة لمن عنيت قد حلفنا على تسليمها، والدواء الذى تقرر السعى فى استعماله لمن أشرت إليه قد علم، والله يقدر ذلك، والذى طلبته من دهن البلسان والآثار المسيحية «6» قد سيرناها،(30/207)
وسيرنا قطعة من صليب الصلبوت، وسيرنا ذلك إلى الرحبة، وعرفنا الناتب بها إلأمارة التى قررت. فأرسل من تثق إليه بالأمارة ليتسلم ذلك.
وسير السلطان هذا الملطف «1» إلى النائب بالبيرة، ورسم له أن يجهزه صحبة أرمنى يوصله إلى الجاثليق، وأنه إذا جهزه يرسل إلى الملك شمس الدين بهادر يعرفه بخبره وحليته. ففعل ذلك، وأرسل بهادر من أمسك هذا القاصد وسير به إلى أبغا. فلما وقف أبغا على الملطف كان فيه هلاك الجاثليق، وتقرب شمس الدين بهادر إلى السلطان بأشياء كثيرة مثل ذلك. فشعر التتار به فأمسكوه وتوجهوا به إلى الأردو، وهربت حاشيته ومماليكه، فوصلوا إلى باب السلطان وهم يزيدون على ألفى نفر من مماليك وأجناد وغيرهم، فأحسن إليهم ورتب لهم الرواتب. وأما الملك شمس الدين بهادر فإنه هرب ونجا بنفسه ووصل البيرة فتلقاه أهلها، وسير إلى السلطان. وذكر أنه أقام سبعة أيام لم يأكل شيئا.
ولما وصل تلقاه السلطان وأكرمه وأعطاه الإقطاعات بالديار المصرية وأحسن إليه.
ذكر الظفر بملك الكرج
وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة: ظفر السلطان بملك الكرج. وذلك أنه حضر لزيارة بيت المقدس، فاتصل ذلك بالسلطان، فأرسل من يعرف حليته فأمسك هو وثلاثة نفر من أعيان الكرج من بين الزوار، وسير [وا] إلى السلطان وهو بدمشق فطيب قلوبهم، وعرفهم أنه متيقظ لمن يدخل إلى بلاده، واحترز عليهم.(30/208)
ولما سكنت الأخبار عاد السلطان والعساكر فدخل إلى قلعته فى رابع عشرين جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفى شعبان من هذه السنة: رسم السلطان بعمارة جسرين قناطر بالقرب من الرملة لعبور العساكر، فعمرت.
وفيها: فى يوم السبت عاشر ذى القعدة حضر متولى القرافة إلى مستنيبه الأمير سيف الدين أبى بكر بن اسباسلار متولى مصر، وأخبره أن شخصا دخل إلى تربة الملك المعز وجلس عند القبر يبكى، فسأله من بالمكان عن بكائه، فأخبرهم أنه قاءان بن الملك المعز، وكان الملك المظفر قد أرسله مع أخيه الملك المنصور إلى بلاد الأشكرى كما تقدم، فأحضر وقيد واعتقل. وطولع السلطان بأمره، فأحضره وسأله عن أمره، فذكر أنه عاد إلى الديار المصرية منذ ست سنين، وأنه يتوكل للجند. فطلب منه من يعرفه، فذكر أن رجلا معتقلا بالإسكندرية كان يتردد إلى بلاد الأشكرى، فأمر السلطان باحضاره واعتقال قاءان، فحبس فى حبس اللصوص بمصر، وأجرى عليه بعض مماليك المعز نفقة.
وفيها: أفرج السلطان عن الأمير سيف الدين الجوكندار، وكان له مدة فى الاعتقال.
وفى ثانى عشر شهر رمضان من السنة: توجه الملك السعيد إلى الشام «1» ، وجرد السلطان فى خدمته الأمير سيف الدين أستاد دار وجماعة من أكابر الأمراء والخواص. ودخل إلى دمشق فى سادس عشرين الشهر، ولم يشعر به نائب السلطنة إلا وهو بينهم فى سوق الخيل، فنزلوا وقبلوا الأرض، ودخل الملك(30/209)
السعيد القلعة وخلع على الأمراء فى ليلة العيد، وخلع أيضا على المقدمين والمفاردة والأكابر، وخرج متصيدا بالمرج، ثم توجه إلى الشقيف وصفد، وعاد إلى مصر فى حادى عشر شوال منها.
ذكر ختان الملك المسعود نجم الدين خضر ولد السلطان الملك الظاهر «1»
كان ختانه فى يوم عيد الفطر سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وحمل السلطان عن الناس كلفة التقادم والهدايا وشملهم بالخلع والإنعام والعطاء.
ذكر نكتة غريبة «2»
وفى هذه السنة: ورد كتاب الغوس بن شاور والى الرملة يذكر أنه فى هذه السنة حصل لأهل البلاد مرض وحمايات «3» من شرب مياه الآبار وزاد ذلك، فحضر إليه رجلى نصرانى فقال: «هذه الآبار قد حاضت كما جرى فى السنة التى جاء التتار فيها إلى الشام، وأن الفرنج أنفذوا إلى قرية تسمى عابور «4» فى الجبل أخذوا من مائها وسكبوه فى الآبار فزال الوخم.» فلما سمع ابن شاور ذلك سير إلى الضيعة المذكورة وأخذ من مائها وصبه فى الآبار التى بياقا، وكان الماء قد كثر فيها. فلما سكب الماء فيها نقصت إلى حدها المتعارف «5» .
وقيل: إن هذه الآبار إناث تحيض، وآبار الجبل ذكور.(30/210)
ذكر ورود كتاب متملك الحبشة «1»
قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: فى هذه السنة وصل كتاب متملك الحبشة إلى السلطان عطف كتاب صاحب اليمن.
وهو يقول: «إن سلطان الحبشة قد قصدنى فى حاجة عند السلطان، وقد سيرت كتابه عطف كتابى» فكان مضمون كتاب متملك الحبشة إلى السلطان «2» :- «أقلّ المماليك، محرا «3» ملاك يقبل الأرض وينهى بين يدى السلطان الملك الظاهر، خلد الله ملكه، أن رسولا وصل من [جهة] والى قوص بسبب الراهب الذى جاءنا، فنحن ما جاءنا مطران وبلادنا بلاد مولانا السلطان ونحن عبيده. فيرسم مولانا يأمر الأب البطرك يعمل لنا مطرانا رجلا جيدا عالما لا يحب ذهبا ولا فضة، ويسيره إلى مدينة عوان و «4» أقل المماليك يسير إلى أبواب «5» الملك المظفر صاحب اليمن ما يلزمه، وهو يسيره إلى أبواب السلطان. وما كان سبب تأخر الرسل عن الحضور إلى السلطان إلا أننى كنت فى بيكار. والملك داود «6» توفى، وقد ملك ولده، يا مولانا. وعندى فى عسكرى(30/211)
مائة ألف فارس مسلمين. وإنما النصارى كثير لا تعد. وكلهم غلمانك وتحت أوامرك. والمطران [الكبير «1» ] هو يدعو لك، وهذه الخلق «2» كلهم يقولون: آمين بطول بقاء عمر سلطاننا «3» مالك مصر، ويهلك الله عدوه، ويقول الخلق آمين.
وكل من بصل «4» من المسلمين إلى بلادنا أقل المماليك يحفظهم ويسفرهم كما يحبون «5» . وإنما الرسول الذى سيره وإلى قوص فجدر «6» وهو مريض. وبلادنا بلاد وخمة أى من مرض ما يقدر أحد يدخل إليه، وأى من شم رائحته يمرض ويموت. والراهب قال: ما يروح [بغير «7» ] رفيق. ونحن فنحفظ كل من يأتى من المسلمين، وارسموا فسيروا مطرانا يحفظهم» . أنهى ذلك.
هذا نص كتابه ومخاطبة ملك اليمن له بالسلطان «8» .
قال: فكتب جوابه عن السلطان:
«ورد كتاب الملك الجليل الهمام العادل فى مملكة حطى ملك امحره، أكبر ملوك الحبشان، الحاكم على ما لهم من البلدان، نجاشى عصره [وفريد مملكته فى دهره] سيف الملة المسيحية، عضد [دولة] دين النصرانية، صديق(30/212)
الملوك والسلاطين سلطان الأمحره، حرس الله نفسه، وبنى على الخير رأسه.
فوقفنا عليه وفهمنا ما فيه فأما طلب المطران، فلم يحضر من جهة الملك رسول حتى كنا نعرف الغرض المطلوب، وانما كتاب مولانا السلطان الملك المظفر ورد. مضمونه: أنه وصل من جهته كتاب وقاصد، وأنه أقام عنده حتى يسير إليه الجواب. وأما ما ذكره من كثرة عساكره وأن من جملتها مائة ألف فارس مسلمين، فأخبار البلاد عندنا، ولا تخفى عنا، فالله يكثر عساكر المسلمين.
وأما وخم بلاده، فالآجال مقدرة من الله، وما يموت أحد الا بأجله، ومن فرغ أجله مات، وكم من جريح بالسيف عاش وصحيح مات، والأمر لله فى الجميع» .
وفى هذه السنة: كانت وفاة الصاحب محيى الدين أبى العباس أحمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد، فى ليلة الأحد التاسع والعشرين من شعبان؛ ودفن من الغد بسفح المقطم؛ سمع من جماعة، وحدّث ودرّس بمدرسة والده [التى أنشأها بزقاق القناديل بمصر «1» ] وكان منقطعا عن المناصب يحب التخلى والإنفراد كثير الصدقة، وبنى رباطا بمصر، ومولده بالفسطاط فى سنة ست وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى.
وفيها: فى ليلة الثلاثاء رابع عشر الآخر توفى الشيخ العالم الزاهد الورع أبو محمد عبد الله بن عمر بن يوسف الحميدى القصرى، ودفن من يومه بالقرافة الصغرى.
كان أوحد أهل زمانه فى أصول الدين والفقه، وله معرفة بكلام الفقراء وأحوالهم رحمه الله تعالى.(30/213)
وفيها: فى ليلة الاثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر توفى أبو المحاسن يوسف بن عبد الله بن نهار البكرى، خطيب جامع ابن طولون، ودفن بالقرافة.
ومولده بالقاهرة فى سنة ثلاث وستمائة، رحمه الله تعالى.
وفيها: فى يوم الأحد رابع عشر المحرم توفى الصدر الرئيس الأصيل مؤيد الدين أبو المعالى أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن أسد بن على بن محمد التميمى الدمشقى، المعروف بابن القلانسى «1» رئيس دمشق وكبيرها والمشار إليه. وكان متواضعا كريما سمحا جوادا متصدقا «2» حسن السيرة جميل الطريقة طاهر اللسان.
وكان السلطان الملك الظاهر قد عرض عليه نظر الشام فلم يقبل، فألزمه بوكالته الخاصة والنظر فى ديوان ولده الملك السعيد، فباشر ذلك. وكانت وفاته بدمشق ودفن بتربته بسفح قاسيون، ومولده بدمشق فى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى، وهو والد الصاحب الرئيس عز الدين حمزة.
وفيها: فى ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان توفى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ النحاة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائى «3» الجيانّى. وكانت وفاته بالمدرسة العادلية بدمشق، ودفن بقاسيون بتربة بنى الصايغ، له التصانيف المفيدة فى علم العربية، وشهرته أكثر من أن يؤتى على شرحها، رحمه الله تعالى.(30/214)
واستهلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة
فى هذه السنة: وصل الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمة السلطان «1» ، فأحسن إليه وإلى ولده وأخيه وعاد إلى بلاده.
وفى ثامن صفر منها: توجه السلطان إلى الكرك على الهجن من الطريق البدريّة، فوصل إلى الكرك والشوبك. وأقام بالكرك ثلاثة عشر يوما، وعاد إلى قلعته فى ثانى عشرين شهر ربيع الأول «2» .
وفيها: فى سادس عشر شهر ربيع الآخر توجه السلطان إلى العباسة، وفى صحبته ولده الملك السعيد، فصرع الملك السعيد أوزة خبّيّة «3» ، وقيل له: «لمن تدعى» ؟
فقال: «لمن أدعو بحياته» . فقبّله السلطان. وعاد السلطان بعد خمسة أيام.
وكان سبب عوده أنه ظفر بكتب من جماعة من الأمراء إلى التتار، وهم:
قجمقاد «4» الحموى، وتوغان بن منكو، وسريغا، وطنغرى يورى، وطنغرى يرمس، وأنوك، وبرمش، وبلبان مجلى، والبغلائى المرتد، وبلاغا، وطغينى «5» ، وأيبك، وسنجر الحواشى «6» . وقبض عليهم وقررهم فأقروا. وكان آخر العهد بهم.(30/215)
وفيها: أقبل السلطان على الأمير شهاب الدين يوسف بن الأمير حسام الدين الحسن بن أبى الفوارس القيمرى، وهو من أعيان الأمراء فى الدولة الصالحية النجمية والدولة الناصرية وكان السلطان قد نقم عليه، فأنه تخيل؟؟؟ كان يثبط الملك الناصر عن قتال التتار، فواخذه بذلك وقطع خبزه، وعطّل، وأطلق له فى كل يوم عشرين درهما، ودام على ذلك فأعطاه الآن إمرة أربعين.
وفيها: توجه السلطان إلى الشام فى شعبان بجميع العساكر واستخلف بقلعة الجبل الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقانى، والصاحب بهاء الدين، واستصحب معه الصاحب تاج الدين وزير الصحبة وكان فى هذه السفرة غزاة سبس على ما نذكر ذلك.
وفيها: رسم السلطان بعمارة ما كان تداعى من منارة الإسكندرية.
وفيها: فى يوم السبت تاسع جمادى الآخرة توفى الأمير فارس الدين آقطاى المستعرب الصالحى الأتابك، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة الإمام الشافعى، ومشى السلطان فى جنازته، وحضر دفنه، وحزن عليه وبكى بكاء شديدا. وكان يستحق ذلك منه، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى قاضى القضاة شمس الدين عبد الله بن [محمد بن الحسن بن عطاء ابن الحسن] عطاء الأذرعى الحنفى «1» بدمشق فى يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى.
ولما مات عزل قاضى القضاة زين الدين الزوّاوى المالكى نفسه من القضاء حال دفنه، فإنه أخذ بيده من تراب القبر وحثاه عليه وقال: «والله لا حكمت(30/216)
بعدك، فإن لك أربعين سنة تحكم، ثم هذه «1» مآلك» . وعزل نفسه من الحكم، وبقى نائبه القاضى جمال الدين يوسف الزواوى يحكم على حاله.
وفوض السلطان قضاء الحنفية بعده للقاضى مجد الدين أبى المجد عبد الرحمن ابن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم الحنفى «2» فوصل إلى دمشق فى يوم الاثنين سلخ ذى القعدة، وحكم فى ذى الحجة من السنة.
وفيها: توفى الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن يحمود «3» الأسدى اليغمورى «4» بالمحلة فى ليلة الأربعاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر. كان فقيها أصوليا مشاركا فى علوم كثيرة، وصحب الأمير جمال الدين بن يغمور فعرف به. وكان قد توجه لزيارة الأمير شهاب الدين بن يغمور بالمحلة فمات.
ومات الأمير شهاب الدين بعده بشهرين ويومين، رحمهما الله تعالى.
وفيها: توفى الأمير سليمان بن الملك السعيد بن الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وكانت وفاته بدمشق فى حادى عشر صفر رحمه الله تعالى.(30/217)
واستهلت سنة أربع وسبعين وستمائة
استهلت سنة أربع وسبعين وستمائة والسلطان بالشام، فرسم بإحضار ولده الملك السعيد، فتوجه الأمير بدر الأمير بيليك الخزندار نائب السلطنة على خيل البريد لذلك، فى الرابع والعشرين من المحرم. ووصل إلى قلعة الجبل، فأرسل إليه الملك السعيد ألف دينار وتشريفا. وكان السلطان أيضا قد رسم للأمراء بإحضار أولادهم فتجهزوا.
وتوجه الملك السعيد على خيل البريد، فى سلخ المحرم ووصل إلى دمشق فى سادس صفر، وركب السلطان للقائه، وحضر بعد ذلك طلبه «1» ومماليكه.
وفى هذه السنة: وصلت رسل برواناه، وأخبر «2» بقصد التتار البيرة، وقال إنه اتفق هو وجماعة على أن العساكر إذا أقبلت من بر الشام وشاهدوا الصناجق السلطانية يضع السيف فى التتار، فلم يف بذلك.
ثم بلغ السلطان حركة التتار، وأن قصدهم البيرة، فجمع العساكر من جميع البلاد، وأقام ينتظر خبرا محققا، فوصل الخبر أن التتار، نازلوا البيرة، فى يوم الخميس ثانى جمادى الآخرة، وأنهم أقاموا فى تلك الليلة أحد عشر منجيقا، واهتموا بالحصار ونصب المجانيق، وكان مقدّمهم إبتاى «3» ، فأنفق السلطان فى(30/219)
العساكر وتولى النفقة بنفسه. وخرج بالعساكر، فلما وصل إلى القطّيفة بلغه رحيل التتار لانقطاع الميرة عنهم، فوصل إلى حمص، ثم عاد إلى دمشق فى مستهل شهر رجب متوجها إلى الديار المصرية، فدخل إلى قلعة الجبل فى ثامن عشر الشهر.
ذكر شنق الطواشى شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز «1» وغيره
كان هذا الطواشى المذكور قد تمكن فى الدولة الظاهرية وكبر شأنه، وتعاظم فى نفسه، وصار فى غيبة السلطان يركب إلى الميدان ويلعب بالكرة ويعود إلى القلعة، ثم تعاطى بعد ذلك، فيما نقل، إدمان شرب الخمر فى دور السلطان، ويجتمع على ذلك مع الخدام: فاتصل ذلك بالسلطان، فلما عاد أحضره بين يديه ليلا، وقام السلطان إليه بنفسه ولكمه وقصد أن يؤدبه بالضرب والإخراق «2» ليرتدع بذلك.
وكان لهذا الخادم على السلطان إدلال كبير، فحمله إدلاله على أن خاطب السلطان بما لا يليق أن يخاطب به، فكان مما قال له: «هذا الضرب لا يفيدك، ولكن اشنقنى» . فغضب السلطان وأمر بشنقه، فشنق بالميدان الأسود تحت قلعة الجبل فى ليلته، وشنق إلى جانبه خمسة من الأجناد كانوا قد تخلفوا عن العرض بحمص، وشفع فى جماعة أخر من الجند، فحبسوا بخزانة البنود.(30/220)
وأمر السلطان بمن كان يحضر مع صدر الدين «1» من الخدام على الشراب فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسملت أعينهم.
وقد حكى لى حكاية عجيبة عن هذا الخادم وهى: أن السلطان، قبل وصوله إلى الديار المصرية، كان قد كتب إلى النائب بقلعة الجبل أن يتقدم بنصب مائة خشبة بالميدان الأسود للشنق فنصبت، وما علم لمن هى، فكان الطواشى إذا توجه الى الميدان يمر على الخشب فينظر الى خشبة منها، ويقول: أجد قلبى يحن الى هذه الخشبة، وتكرر ذلك منه، فشنق عليها. وهذا من عجيب الإنفاق فى إحساس الخواطر.
ذكر متجددات اتفقت بعد وصول السلطان إلى الديار المصرية غير ما تقدم ذكره
منها: وصول هدية صاحب اليمن «2» ، ومن جملتها الفيل والكركدن والحمار الوحشى العنابى وأصناف من التحف والبهار وغير ذلك، فعرض ذلك على السلطان، وجهز [السلطان] له هدية سنية وسيرها صحبة رسله.
ومنها: تجهيز رسل الملوك، وهم: رسل الملك منكوتمر ملك البلاد الشمالية، ورسل الأشكرى، ورسل الفنش، ورسل جنوة، وإرسال الرسل إلى أشبيلية.(30/221)
ذكر توجه رسل السلطان إلى أشبيلية وما كان من خبرهم
كان الفنش «1» صاحب أشهيلية قد سير رسولا إلى السلطان اسمه دينار، وعلى يده هدية سنية ورسالة، مضمونها: استدعاء مودة السلطان، وذلك قبل هذا التاريخ. فسير السلطان إليه الآن رسلا، وهم: الأمير سيف الدين الجلدكى والأمير عز الدين أيبك الكبكى «2» ، والفقيه العدل (؟؟؟ «3» ) الدين الحسين ابن همام بن مرتضى، وعلى أيديهم هدية سنية وعقاقير. فتوجهوا من القاهرة فى العشر الآخر من شوال وتوجهوا إلى الإسكندرية، وتوجهوا منها فى البحر فى ذى القعدة، فوصلوا إلى سنقريس «4» ، فعوقهم صاحب برشنونة أياما ثم أفرج عنهم، فساروا حتى وصلوا إلى مرعش «5» ، وهى من جملة مملكة الفنش، فأعلم بوصلولهم فاستدعاهم، وكان يومئذ ببنطورية «6» فتوجهوا إليه، فكانوا كلما مروا ببلد خرج إليهم أهل البلد وتلقوهم بالأفراح، إلى أن وصلوا إلى بنطورية، فخرج جميع من بها من الخيالة والرجالة والتقوهم بظاهرها، ثم استدعاهم الملك بعد ثلاث وأكرمهم غاية الإكرام، واستحضرهم فى اليوم الثانى وأحضروا(30/222)
الهدية، فاستبشر وطابت نفسه وقبلها، ثم جهز لهم مركبا ببرشنونة «1» فتوجهوا فى البر إليها، ثم ركبوا منها فى المركب فى آخر ذى الحجة، فوصلوا إلى الإسكندرية فى صفر سنة خمس وسبعين وستمائة.
ذكر اتصال الملك السعيد بابنة الأمير سيف الدين «2» قلاون
وفى هذه السنة: فى يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة، عقد نكاح الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان بن السلطان الملك الظاهر على [غازية خاتون] ابنة الأمير سيف الدين قلاون الألفى العلائى الصالحى. وكان العقد بالإيوان بقلعة الجبل على صداق مبلغه خمسة آلاف دينار، المعجل منه ألفا دينار، ومعاملة صرف الدينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم. وكان الوكيل عن الملك السعيد فى قبول النكاح، الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والوكيل عن الأمير سيف الدين قلاون، الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار العالية، بعد أن ثبت التوكيل فى المجلس عند قاضى القضاة صدر الدين سليمان الحنفى.
وجرى العقد بين الوكيلين بحضوره، وحضر السلطان والوزراء والقضاة والأكابر وأعيان الأمراء والمقدمين «3» . وكان الصدّاق بخط القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، وإنشائه، وقرأه فى المجلس، فخلع عليه وأعطى مائة دينار. ونسخه:(30/223)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
«الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة، ومصدق الفال لمن جعل عنده أعظم بركة، ومحقق الإقبال لمن أصبح بشبيه سلطانه وصهرة ملكه، الذى جعل للأولياء من لدنه سلطانا ونصيرا، وميز أقدارهم باصطفاء تأهيله حتى حاروا نعيما وملكا كبيرا، وأفرد فخارهم بتقربته حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا، وشرف وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بها عظيما وأفضاله كثيرا، مهيىء أسباب التوفيق العاجلة والآجلة، وجاعل ربوع كل أملاك من الأفلاك «1» بالشموس والبدور والأهلة أهلة، جامع أطراف الفخار لذوى الإيثار حتى وصلت لهم النعمة الشاملة، وحلت عندهم البركة الكاملة.»
«نحمده على «2» [أن] أحسن عند الأولياء بالنعمة لاستيداع وأجمل لتأميلهم الاستطلاع، وكمّل لاختيارهم الأجناس من الغرر والأنواع «3» ، وآتى «4» آمالهم ما لم يكن فى حساب أحسابهم من الإبتداء بالتخويل والابتداع.»
«وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حسنة الأوضاع ملية بتشريف الألسنة وتكريم الأسماع.»(30/224)
«ونصلى على سيدنا محمد الذى أعلا الله به الأقدار وشرف به الموالى والأصهار، وجعل كرمه دارا لهم فى كل دار، وفخره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرق الأنوار، صلى الله عليه وعليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار.»
«وبعد، فلو كان «1» إفضال كل شىء بحسب المتصل به فى تفضيله «2» لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله، ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله، ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله، ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله، ولكن ليتشرف بيت يحل به القمر، ونبت يزوره المطر، ولسان يتعوذ بالآيات والسور، ونضار يتجمل باللآلىء والدرر. وكذلك تجمّلت برسول الله صلى الله عليه وسلم أصهاره من أصحابه، وتشرفت أنسابهم بأنسابه، تزوج صلى الله عليه وسلم منهم، وتمّت لهم به مزية الفخار حتى رضوا عن الله ورضى عنهم. والمرتب على هذه القاعدة إفاضة نور يستمده الوجود، وتقرير أمر يقارن سعد الأجنة «3» منه سعد السعود. وإظهار خطبة يقول الثريا لا نتظام عقودها كيف، وإبراز وصلة «4» يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف، الذى يغطيه «5» [على] ايداع هذا الجوهر به كل سيف، ونسج صهارة يتم بها إن شاء الله تعالى كل أمر شديد، ويتفق بها كل توفيق، تخلق الأيام وهو جديد. ويختار لها أبرك طالع، وكيف لا تكون البركة فى ذلك الطالع وهو السعيد، وذلك أن المراحم الشّريفة(30/225)
السلطانية أرادت أن تخص المجلس السامى الأمير- وذكر نعوته- بالإحسان المبتكر، وتفرده بالمواهب التى ترهف بها منه الحد المنتظر، وأن ترفع من قدره بالصّهارة، مثل ما رفعه صلى الله عليه وسلم من قدر صاحبيه أبى بكر وعمر، فخطب إليه أسعد البرية وأمنع من تحميها السيوف المشرفية، وأعزّ من تسبل عليها ستور العيون الخفية، وتضرب دونها خدور «1» الجلال الرضية، وتتجمل بنعوتها العقود. وكيف لا، وهى الدرة الألفية. فقال والدها الأمير المذكور:
هكذا ترفع الأقدار وتزان، وكذا يكون قران السعد وسعد القران. وما أسعد روضا أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة «2» ، وأشرف سيفا غدت منطقة بروج سمائها له خميلة، وما أعظمها معجزة آتت الأولياء من لدنها سلطانا، وزادتهم مع إيمانهم إيمانا، وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لإبرامها: ليت، وأشرفها عبودية كرمت سلمانها بأن جعلته من أهل البيت. وإذ قد حصلت الاستخارة فى رفع قدر المملوك «3» ، وخصّصته بهذه المزية التى تقاصرت عنها أمال أكابر الملوك. فالأمر لمليك البسيطة فى رفع درجات عبيده كيف يشاء، والتصدق بما يتفوه به هذا الإنشاء، وهو:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
«هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الخط وأقلام الخطّ على تحريره، وتنافست مطالع النّوار ومشارق الأنوار على نظم سطوره، فأضاء نور الجلالة وأشرق،(30/226)
وهطل نوره بالإحسان فأغدق. وتناسبت فيه أجناس من تجنيس لفظ التفضيل، فقال الاعتراف، هذا ما تصدق، وقال العرف، هذا ما أصدق مولانا السلطان- وذكر نعوته وألقابه- أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا وشجرة الأنساب ثمارا، ومشكاة الجلالة أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا. فبذل لها من العين المصرى ما هو بإسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدى هباته وصدقاته قد تصرف» .
ثم كان الدخول بها فى شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة.
واهتم السلطان بذلك اهتماما لم يسمع بمثله، وخلع على جميع أكابر دولته من الأمراء والمقدمين والوزراء والقضاة والكتاب. وأنعم على الأمير سيف الدين قلاون بتشريف كامل بشربوش كان السلطان قد لبسه ثم خلعه عليه.
ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده «1»
وفى يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة من هذه السنة: حالة انقضاء العقد، ركب السلطان على الهجن وتوجه إلى الكرك فى جمع يسير من جهة البرية، فوصل إلى قلعة الكرك فى ثالث وعشرين الشهر. وكان سبب ذلك أنه بلغه عن بعض رجال القلعة أنهم عزموا على إثارة فتنة ونقل دولة، وأنهم عزموا على الوثوب بنواب السلطان بالكرك فيقتلونهم ويسلمون الحصن لأخ كان للملك القاهر ابن الملك المعظم لأمه، كونه ينسب إلى الملك الناصر، وكان مقيما بالكرك لا يؤبه(30/227)
له. فدخل السلطان إلى الكرك بغتة، واستدعى الرجالة، وكانوا زهاء ستمائة، وأمر بالقبض عليهم وشنقهم، فشفع ما كان معه فيهم، فأخرجهم من الحصن وقطع أيدى وأرجل ستة نفر منهم من خلاف، كانوا سبب الفتنة. وكان السلطان قد استخدم رجالا يثق بهم، وسفرهم إلى غزة، ولم يعرف أحدا قصده بهم، فأحضرهم إلى الكرك ورتبهم عوض من كان بها من الرجال. واستدعى السلطان الطواشى شمس الدين صواب السهيلى الصالحى- وكان يتولى صناعة الإنشاء بمصر- وسلم إليه الحصن، وفوض «1» إليه النظر فى أمواله وحواصله وذخائره.
وخرج متوجها إلى دمشق فى يوم الجمعة ثامن عشرين ذى الحجة سنة أربع وسبعين وستمائة.
واتفق للسلطان فى هذه السفرة أمور، وشاهد أبنية ومنازل غريبة فى مسيره من الديار المصرية إلى الكرك. وقد ذكرها المولى محيى الدين بن عبد الظاهر واعتذر فى بسط القول فيها «2» لغرابتها. فأحبنا أن نذكر ذلك تلخيصا.
قال: رحل السلطان من قلعته يوم الخميس المذكور فنزل بلبيس، وأقام إلى قرب وقت العصر، ورحل فنزل رأس الماء بوادى السدير، ورحل منه فى نصف ليلة السبت، فنزل الكراع وأقام إلى غروب الشمس، وحمل الماء لكفاية يومين، وتوجه على طريق البدرية، وساق سوقا عنيفا إلى وقت الفجر من يوم الاثنين، لم يرح ولم يسترح إلا بقدر ما تشرب الخيل الماء وتستوفى العليق، فنزل جبل بدر، ثم ركب بعد الإسفار لشدة الوعر فوصل إلى بدر، ونزل عند العين.(30/228)
قال: وهى عين تخرج من جبل أخضر ليس فيه نبات، منبعها من جهة الغرب تحت جبل شاهق، وهى شكل مغارة منقوبة، يدخل الإنسان منها مقدار عشرة خطى، فيجد عينا تنبع عن بسرة الداخل إليها.
وكان السلطان قبل وصوله إلى العين قد بعث جماعة من العرب وأمرهم أن يجمعوا من ماء العين ما يكون حاصلا للورود، فصنعوا حول العين حياضا فى الأرض شكل البرك محوطة بالحجارة، وملأوها من ماء العين، فوردها السلطان ومن معه، وارتفقوا بها، ولولا ذلك لهلكوا من الأزدحام على الماء. ثم دخل السلطان بنفسه إلى المغارة، وجلس عند العين، وكان يملأ لمن معه قربهم بيده ويناول كل قربة لصاحبها حتى ملأوا ما معهم. ثم رحل من بدر فنزل حسنة، وهى بئر واحدة. ورحل منها حتى انتهى إلى عين تعرف بالمليحة فوردها. ورحل وبات تحت جبل يعرف بنقب الرّباعى، فلما أسفر الصبح صعد إلى الجبل وإذا هو جبل عظيم به عقاب صعبة- وهى حجارة رخوة تشبه الرمل المتجمد، متغيرة الألوان إلى الحمرة والزرقة والبياض- وثم ثقوب فى الجبل يعبر الراكب منها، وبها أمكنة تشبه السلالم من حجارة. وبها قبر هارون نبى الله أخى موسى ابن عمران، عليهما السلام، على يسرة السالك المتوجه إلى الشام. وثم قلعة تعرف بالأصوت «1» صعدها السلطان وشاهدها، فوجدها من أعجب الحصون وأمنعها لا يكون أحصن منها. ونزل من نقوب الرباعى إلى مدائن بنى إسرائيل، وهى ثقوب فى الجبال من أحسن الأشكال ذات بيوت بالعمد وأبواب، وظواهر البيوت مصوقة «2» بالنقوش فى الحجارة بالإزميل، وكلها مخربة، بها صور أشكال(30/229)
وهى على قدر دور الناس المبنية الآن، وداخل هذه البيوت الأواوين المنورة المعقودة والصفف المتقابلة والخزائن والدهاليز والحرميات «1» . وليس ذلك مبنيا بل جميعه منحوت بالحديد أشكال المغاير «2» .
قال: وقد خلق الله تعالى جبلين متقابلين، بينهما طريق، وكل جبل منهما كأنه شكل سور مرتفع، والدور متصلة يمينا وشمالا. ثم خرج السلطان من تلك الأمكنة إلى وادى المدرة، ثم منه إلى قرية تعرف بالعذبا «3» ، عرفت بذلك لأن بها العين التى يحسها موسى بن عمران عليه السلام بعصاه، وكانت تجرى دما، فقال:
«عد بأمر الله ماء عذبا» فعادت العين ماء حلوا رائقا باردا. فبات السلطان بها، ورحل منها ليلة السبت حادى عشرين الشهر، فوصل قلعة الشوبك نصف نهار الأحد، وخيم هناك، وحضر أمراء بنى عقبة وغيرهم من أمراء العربان، وقدموا الخيول والهجن وغير ذلك، ثم رحل من الشوبك نصف نهار الاثنين على طريق الحسا، فوصل إلى الكرك نصف نهار الثلاثاء ثالث عشرين الشهر.
قال: ولما كان فى سابع وعشرين الشهر يوم الجمعة خرج السلطان إلى باب قلعة الكرك، وأحضر رجالها، وذكر من خبر إخراجهم نحو ما تقدم.
وفى هذه السنة: توفى الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب.(30/230)
وكانت وفاته بدمشق فى خامس عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون. وكان من أجمل الناس صورة وألطفهم خلقا وأكثرهم أدبا، كثير المكارم وحسن العشرة، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الصاحب موفق الدين أبو الحسن على بن محمد بن على بن محمد المذحجى الآمدى، وكان من أعيان الأكابر ممن يرشح للوزارة، وولى نظر الدواوين ثم رتب آخرا ناظر الكرك والشوبك، فباشر ذلك مكرها، واستمر على ذلك إلى أن مات بالكرك. وكانت وفاته فى ثامن عشر ذى الحجة، ودفن قريبا من مشهد جعفر التيار رضى الله عنه.
وفيها: فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأول كانت وفاة الأمير ركن الدين خاص ترك الكبير بدمشق ودفن بقاسيون «1» .
وفيها: فى العشرين من شهر رمضان توفى الشيخ الإمام الفاضل تاج الدين أبو الحسن على بن الأنجب البغدادى- المعروف بابن الساعى- المؤرخ خازن كتب المدرسة المستنصرية «2» . كان فاضلا، وله تاريخ مذيل على تاريخ ابن الأثير الجزرى، رحمهما الله تعالى.(30/231)
واستهلت سنة خمس وسبعين وستمائة «1»
ذكر وصول جماعة من أمراء الروم إلى خدمة السلطان وطاعتهم له «2»
قال: ووصلت الأخبار أن جماعة من أمراء الروم اظهروا طاعة السلطان وتجاهروا بذلك. وأن البرواناه أنفرد عنهم وتقرب إلى التتار ورجع عما كان مشتركا معهم فيه من طاعة السلطان، وتوجه إلى الأردو وطلب من أكابر أمراء الروم النجاة بأنفسهم «3» . وأخذ «4» الأمير شرف الدين مسعود بن الخطير وأخوه ضياء الدين محمود: السلطان غياث الدين صاحب الروم وتوجها به إلى قلعة نكيدة «5» ، وكاتبوا السلطان. وكذلك الأمير حسام الدين بينجار «6» وولده الأمير بهاء وأولاده، وجماعة من الأمراء وهم إثنا عشر أميرا، وطلبوا من السلطان أنه»(30/233)
يتداركهم بعسكره. فركب [السلطان] من الكرك كما تقدم، ووصل إلى دمشق فى رابع عشر المحرم، فوصل الأمير حسام الدين بينجار والأمير بهاء الدين بهادر وولده [أحمد «1» ] ، ثم وصل بعدهما الأمير سيف الدين حيدربك «2» صاحب الأبلستين «3» ، والأمير مبارز الدين [سوار بن] «4» الجاشنكير وجماعة من أمراء الروم، فتلقاهم السلطان بنفسه وأحسن إليهم ووصل حريمهم وأولادهم، فجهزهم «5» إلى الديار المصرية. وكتب السلطان إلى الأمير بدر الدين بيسرى والأمير شمس الدين أفش [البرلى] [و] قطليجا «6» ، فحضرا إلى دمشق على خيل البريد، فطلب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر «7» . وتوجه السلطان إلى حلب، وجهز الأمير سيف الدين بلبان الزينى الصالحى وصحبته جماعة من العسكر، فوصلوا إلى عين تاب، وقرر معهم التوجه إلى القلعة التى بها السلطان غياث الدين وابن الخطير. فورد كتاب الزينى أنه وصل إلى كرصو «8» ، فبلغه أن التتار وصلوا إليها أيضا، وبقى بينه وبين العدو النهر، وجالوا بين العسكر وبين قلعة نكيدة، فرجع العسكر إلى(30/234)
عين تاب، وهرب شرف الدين بن الخطير «1» إلى بعض القلاع فتقرب إلى العدو بتسليمه [السلطان] إليهم. وبقى أخوه ضياء الدين فى خدمة السلطان [الظاهر بيبرس] لأنه كان حضر إليه مستنجدا وسير هذا العسكر بسبب حضوره. وأما السلطان غياث الدين فعلم التتار أنه محكوم عليه فعفوا عنه، وسلموه «2» إلى الصاحب والبرواناه.
وعاد السلطان إلى دمشق ومنها إلى الديار المصرية، فدخل قلعة الجبل فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة، فأقام إلى شهر رمضان من السنة وتوجه إلى الشام فى العشرين من الشهر، فكانت غزوة الروم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى، فى الغزوات.
ذكر ظهور المسجد بجوار دير البغل وإقامة شعائر الإسلام به
وفى التاسع عشر من شوال من هذه السنة: خرج جماعة إلى دير القصير، المعروف بدير البغل ظاهر مصر، فرأوا أثر باب بجوار الدير، فدخلوا المكان فرأوا آثار محاريب المسلمين، فأنهوا ذلك إلى الصاحب بهاء الدين، فتقدم إلى القاضى بهاء الدين ناظر الأحباس أن يتوجه وصحبته نواب الحكم والعدول والمهندسون ومن يعتبر حضوره فى مثل ذلك. فتوجه وصحبته القضاة [و] المشايخ: وجيه الدين البهنسى، وظهير الدين التّزمنّى، وعلم الدين السمنودى نائب الحكم، ونظام الدين الخليلى، وجماعة من المهندسين، فشاهدوا المكان ورأوا به من(30/235)
من الأثار ما يدل على أنه مسجد، وشهدوا بذلك عند القاضى علم الدين السمنودى فأثبته، ونقل الحكم إلى قاضى القضاة محيى الدين بن عين الدولة. وطولع الملك السعيد بذلك، فأمر الصاحب بهاء الدين بعمارته وإقامة من يحتاج إليه من إمام ومؤذن وزيت وفرش، فرتب ذلك له، وهو باق إلى يومنا هذا.
وفى هذه السنة فى رابع شوال: كانت وفاة الصاحب بدر الدين جعفر بن محمد بن على بن محمد المذحجى الآمدى «1» بدمشق وهو يومئذ ناظر النظار بها، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكان هو وأخوه موفق الدين من أمناء المباشرين وأرباب الستر على الكتاب، ولقب كل منهما بالصاحب، ولم يليا وزارة. ولما حضرا من بلاد آمد فى سنة ثلاثين وستمائة هما وابن اختهما شمس الدين، لما نقل الملك الكامل أهل آمد منها. فلما عبرا الفرات قال موفق الدين لهما: «اعلما أننا نقدم على بلاد لا نعرف فيها أحدا، وليس لنا فيها معين إلا الله تعالى، فتعاهدانى والله تعالى، على الأمانة وألا نخون السلطان ولا الناس» . فتعاهدوا على ذلك ودخلوا إلى الديار المصرية. وولوا المناصب فوفيا بما عاهدا عليه، ونكث ابن اختهما شمس الدين، فسلما فى مباشراتهما. وكان شمس الدين كثير النكبات والمصادرات.
وفيها: كانت وفاة الشيخ الصالح برهان الدين أبى إسحق بن سعد الله بن جماعة ابن على بن جماعة الكنانى الحموى بالقدس الشريف يوم عيد الفطر، رحمه الله تعالى.(30/236)
وفيها: كانت وفاة القاضى شرف الدين محمد بن يشكور المصرى الكاتب، ولى مناصب جليلة، منها: نظر الجيش ونظر الدواوين بالديار المصرية. وكان بينه وبين الصاحب بهاء الدين مصاهرة ووحشة. وكانت وفاته بداره على الخليج بالقرب من مصر فى ليلة الأحد خامس عشرين جمادى الأولى. ودفن يوم الأحد بالقرافة الصغرى. ومولده سنة ست عشرة وستمائة.
وفيها: توفى الأمير عز الدين إيغان ولا دمر «1» الركنى المعروف بسم الموت فى محبسه بقلعة الجبل، وسلم إلى أهله فى يوم الخميس ثامن عشر جمادى الآخرة، فدفن من يومه بمقابر باب النصر. وكان من الأمراء الأكابر، وقد تقدم «2» ذكر اعتقاله.
هذا آخر ما لخصناه من الحوادث فى الأيام الظاهرية، فلنذكر الغزوات والفتوحات الظاهرية.(30/237)
ذكر غزوات السلطان الملك الظاهر وفتوحاته وما استولى عليه من البلاد الإسلامية
ولنبدأ من ذلك بذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية مما كان بيد غيره من الملوك وأصحاب الحصون. ثم نذكر الغزوات والفتوحات على مساقها بمقتضى ما يقدمه التاريخ ويؤخره توفية للشرط الذى شرطناه.
ذكر ما استولى عليه من القلاع والحصون والبلاد الإسلامية وأضافه إلى ممالكه
كان مما استولى عليه السلطان الملك الظاهر من القلاع والحصون والبلاد بعد أن استقر فى الملك: الشوبك، والكرك، وقلعة البيرة، وحمص، والرحبة.
وقد تقدم ذكر ذلك فى أثناء أخباره فلا فائدة فى إعادته. واستولى على خلاف ذلك مما نذكره الآن وهو: سواكن من بلاد اليمن، وخيبر من بلاد الحجاز، وقرقيسيا، وبلاطنس، وصهيون، وبرزية، وحصون الدعوة من الشام وما والاه.
ذكر فتوح سواكن
كان فتحها فى سنة أربع وستين وستمائة. وسبب ذلك أن صاحبها [الشريف] علم الدين أسبغانى كان قد تعرض للتجار «1» ، وأخذ ميراث من مات(30/239)
منهم فى البحر ومنع أولادهم منه، وكوتب فى ذلك وحذر من العود إليه، فلم تغن المكاتبات شيئا. فرسم الأمير علاء الدين الخزندار متولى الأعمان القوصية والأعمال الإخميمية، فقصده، فورد كتابه أنه وصل إلى ثغر عيذاب وسير عسكرا إلى سواكن فهرب صاحبها، ثم توجه علاء الدين المذكور إليها من عيذاب فى عشرة أيام، وكان معه من المراكب الكبار والصغار نيف وأربعون مركبا، ووصل إليه من القصير كلالين «1» موسّقة بالمقاتلة، ودخل سواكن وأقام بها ومهدها وقرر أحوالها، ثم رجع إلى مدينة قوص. ولما فارق سواكن عاد صاحبها إليها فقاتله من بها أشد قتال، وعاد منها.
ذكر فتوح خيبر «2»
كان فتحها فى سنة اثنتين وستين وستمائة، وذلك أن أصحابها عبيد على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وصلت كتبهم إلى السلطان يبذلون الطاعة والخدمة، فسير نجابين تستصح «3» الأخبار، وندب الأمير أمين الدين موسى بن التركمانى، وجهز الرماة والمقاتلة، وأنفق فيهم الأموال وجهز الخلع للمقدمين والمشايخ وكتب إلى نائب الكرك بتجهيز أمراء العربان وجماعة من البحرية صحبته، وجهز الغلال والذخائر لهذه القلعة، فتوجه الأمير أمين الدولة وافتتحها.(30/240)
ذكر فتوح قرقيسيا «1»
وقرقيسيا هذه من أقدم المدن، وكانت تعرف بالزبّاء الملكة. وفيها يقول ابن دريد:
فاستنزل الزباء قسرا وهى فى ... عقاب لوح الجو أعلا منتما «2»
وكان السلطان قد راسل أهلها، وسير إليها الأمير كمال الدين الطورى وملكها وأقام بها مدة، فقصدها التتار، فعاد كمال الدين إلى السلطان وتركها.
وفى شهر رمضان سنة ثلاث وستين وستمائة، أرسل مقدموها إلى عز الدين السكندرى النائب بالرحبة «3» ، وسألوه عفو السلطان وسيروا رهائنهم. فتوجه إليها جماعة من الخيالة والأقحية، وساقوا من أول الليل إلى نصفه وباتوا على ماكسين «4» ، فلما أصبح الصبح أحاط بها المسلمون والعسكر وقتلوا من كان بها من عسكر التتار والكرج، وأسروا من المرتدة نيفا وثمانين نفرا، وتسلموا الجسر ومراكبه والسلسلة، فى نصف الشهر.(30/241)
ذكر أخذ بلاطنس وخبرها «1»
كانت بلاطنس جارية فى مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، فلما دخل التتار البلاد استولى عليها الأمير مظفر الدين عثمان صاحب صهيون «2» ، فطلب السلطان منه رد هذا الحصن، فصار يدافع ويقول: «أنا من جملة النواب» . فلما توجه السلطان إلى أنطاكية سير إليه هدية ردها السلطان عليه، وسيّر جماعة من عسكر حلب أغاروا عليها. فتوالت رسله «3» بالإذعان بالتسليم ويطلب قرية توقف عليه، فعين السلطان له قرية الحلمة «4» من بلد شيزر، ووقفها عليه وعلى أولاده، وقرر أن يعطى صاحب بلاطنس شيئا من بلد صهيون فقرر له السلطان منها بلادا تغل «5» ثلاثين ألف درهم، وتسلمت بلاطنس منه فى سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وستين وستمائة.
وهذا الحصن من جملة معاقل الإسلام الحصينة لأنه برى بحرى سهلى، ما أخذ بالسيف قط، بناه رجال يعرفون ببنى الأحمر من أهل الجبال وحصنوه، فلما سمع بهم قطبان أنطاكية المسمى ببقيطا عاجلهم قبل إتمامه فملكه بالأمان، وأخذ فى تحصينه وإتمام بنائه، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. فلما كان(30/242)
فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة، خرج روجار صاحب انطاكية فدوخ بلاد الإسلام، وقصد حصن بلاطنس وفيه بنو ضليعة أولاد أخى القاضى شرف الدين، فنزل على بلاطنس فى يوم الثلاثاء ثامن عشرين ذى الحجة من السنة، وأجلب عليه فتسلمه فى يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة ثنتى عشرة، وعوضهم عنه بأنطاكية ثلاث قرى. فلما كان فى يوم السبت سابع وعشرين شعبان سنة ثلاثين وخمسمائة وثب أهل بلاطنس على من فيه من الفرنج فقتلوهم، فاحتمت عليهم القّلة. فأرسل أهل الجبال إلى منكجك التركمانى صاحب بكسرائيل «1» يستنجدونه فأتاهم وأقام يحاصرها مدة. فعمل الفرنج الذين بها حيلة عليه، وراسلوه وبذلوا له تسليمها على شرط أن يخفر نساءهم وأولادهم حتى يصلوا إلى جبلة أو إلى صهيون. فإذا جاءت لهم العلامة بوصولهم سالمين سلموها له، فلما وصلهم امتنعوا من التسليم.
وكان ذلك حيلة منهم، فإن الأقوات ضاقت عندهم وضاقت الغلة عليهم، فاستراحوا بخروجهم عنهم وقويت نفوسهم. واتصل الخبر بأنطاكية فسيروا إليها عسكرا دفعه عنها. واستقرت بأيديهم إلى أن ملكها السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب على ما قدمناه.
ذكر تسليم صهيون وبرزية «2»
وفى سنة إحدى وسبعين وستمائة: تسلم السلطان صهيون وبرزية، وذلك(30/243)
أن صاحبها الأمير سيف الدين محمد «1» بن الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس «2» بن بدر الدين خمرد كين توفى فى هذه السنة كما تقدم، وكان السلطان يومئذ بدمشق فاستدعى ولده الأمير سابق الدين سليمان «3» فحضر»
، وأقطعه إمرة بأربعين فارسا، فكتب إلى عمه جلال الدين بتسليم القلعة إلى نواب السلطان بذخائرها، فتسلموا ذلك فى ثانى عشر شهر ربيع الأول منها. وأقطع السلطان عميه جلال الدين مسعود ومجاهد الدين إبراهيم؛ كل منهما إمرة عشرة طواشية، ووصل أهل صاحب صهيون إلى دمشق.
ذكر أخبار الإسماعيلية وابتداء أمرهم والاستيلاء على حصونهم
أول من قام بدعوتهم الحسن بن الصباح المعروف بالكيال، وهو من تلامذة ابن عطاش الطبيب. قدم مصر فى زمن المستنصر العبيدى فى زى تاجر فى سنة ثمانين وأربعمائة، ودخل عليه وخاطبه فى إقامة الدعوة ببلاد العجم فأذن له.
وكان الحسن كاتبا للرئيس عبد الرزاق بن بهرام بالرّى. وادعى أنه قال للمستنصر: «من إمامى بعدك؟» فأشار إلى نزار: فمن هنا سموا بالنزارية.
وقال ابن السمعانى فى تاريخه: إنما سموا بالإسماعيلية لأن جماعة من الباطنية ينسبون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لانتساب زعيمهم المصرى إلى(30/244)
محمد بن إسماعيل المذكور. وكان أول إظهار دعوتهم بالألموت وطلوع أعلامه فى سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وجرى لنزار ما قدمناه بعد وفاة أبيه ومسك من الإسكندرية وجىء به إلى القصر فكان آخر العهد به. وانفصل أهل الألموت من العبيديين من ذلك الوقت. وشرع الإسماعيلية فى افتتاح الحصون، فأخذوا قلعة وبنوا أخرى وأظهروا شغل السكين. وأول عملهم بالسكين؛ أن ابن الصباح كان ذا دين فى الظاهر، وله جماعة من نسبته يتبعونه، فلما حضر من مصر إلى الألموت وهى حصينة وكان أصحابها ضعفاء، فقالوا «1» لأصحابها: «نحن قوم زهاد نعبد الله ونشترى منكم نصف هذه القلعة ونقيم معكم نعبد الله» .
فاشترى نصفها بتسعة آلاف دينار. ثم قوى واستولى عليها وصاروا جماعة، فبلغ خبرهم ملك تلك البلاد فقصدهم بعساكره. فقال رجل منهم يعرف بعلى اليعقوبى: «أى شىء يكون لى عندكم إن كفيتكم أمر هذا الجيش» ؟ قالوا:
«نذكرك فى تسابيحنا» . فقال: «رضيت» . فنزل بهم وقسمهم أرباعا فى أرباع العسكر وجعل معهم طبولا وقال: «إذا سمعتم الصايح فاضربوا الطبول وقولوا «2» يا آل على» بم هجم بهم على الملك فقتله فصاح أصحابه، فضرب أولئك الطبول، فامتلأت قلوبهم خوفا وهربوا لا يلوى منهم أحد على أحد، وأصبحت خيامهم خالية، فنقلوا «3» ما فيها إلى القلعة. وسنوا السكين من ذلك الوقت.(30/245)
ثم بعثوا داعيا من دعاتهم يعرف بأبى محمد إلى الشام فملك قلاعا من بلاد الناصرية.
ثم ملك بعده سنان: وهو سنان بن سليمان بن محمد البصرى، وأصله من قرية من قرى البصرة تعرف بعقر السدن «1» . وأقام فى الشام نيفا وثلاثين سنة، وكان يلبس الخشن، ولا يراه أحد يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يبصق، بل يجلس على ضجرة، فاعتقدوا فيه التأله.
ثم ولى مكانه أبو منصور بن محمد وكان ابن الصباح، الذى قدمنا ذكره.
[و] «2» لما قتل نزار طالبوه به، فقال: «إنه بين أعداء كثيرة والبلاد بعيدة ولا يمكنه الحضور، وقد عزم على أن يختفى فى بطن امرأة ويجىء سالما ويستأنف الولاده» . فقنعوا بذلك، وأحضر لهم جارية قد أحبلها وقال: «إنه قد اختفى فى هذه» ، فعظموها فولدت ابنا سماه حسنا. وقال: «نغير الاسم لتغيير الصورة» .
ومات حسن فى سنة خمس عشرة وخمسمائة، وخلف ولده محمدا. ولمحمد ولد اسمه حسن خلف أباه بعد موته. ولما سمع ملك خوارزم شاه قصد بلادهم.
فأظهر محمد بن حسن هذا أنه رأى على بن أبى طالب فى المنام يقول له: «تعيد شعار الإسلام وفرائضه وسننه» فعرف جماعته بذلك. ثم قال لهم: «الدين لنا، نتصرف تارة بوضع التكاليف عنكم، وتارة نأخذها منكم» . فقالوا:(30/246)
«السمع والطاعة» فكتب إلى بغداد وسائر البلاد بذلك، واستدعى القراء والفقهاء واستخدم أهل قزوين «1» فى ركابه. وسير الخليفة رسولا صحبة رسوله إلى حلب بتقوية يد نوابه «2» وأن يقتل النائب القديم ويولى هذا الواصل، فخلصوا بذلك من صولة خوارزم شاه.
هذا ابتداء أمر هذه الطائفة. وقد ذكرنا طرفا من أخبارهم فيما تقدم، فلنذكر سبب الاستيلاء على بلادهم، وكيف انتزعها السلطان الملك الظاهر منهم.
ذكر استيلاء السلطان على بلاد الإسماعيلية وشىء من أخبارها «3»
وهى مصياف «4» والعليقة والرصافة والكهف والمنيقة «5» والقدموس والخوابى.
وكان السلطان الملك الظاهر، رحمه الله، قد كسر شوكة هذه الطائفة الإسماعيلية، وأبطل رسومهم التى كانت مقررة لهم على ملوك الديار المصرية،(30/247)
وقرر عليهم قطيعة «1» يحملونها إلى بيت المال. ثم لم يرضه ذلك إلى أن استولى على حصونهم وانتزعها من أيديهم.
وأول ما استولى عليه من حصونهم مصياف: استولى عليها فى العشر الأوسط من شهر رجب سنة ثمان وستين وستمائة. وذلك أن السلطان كان قد حضر فى جمادى الآخرة من هذه السنة إلى حصن الأكراد «2» وأغار على البلاد الساحلية، ونزل بالقرب من البلاد الإسماعيلية، وحضر إلى خدمته صاحب حماة وصاحب صهيون، ولم يحضر نجم الدين [حسن «3» ] ابن صاحب الإسماعيلية ولا ولده شمس الدين.
وسيروا يطلبون أن ينقصوا من القطيعة التى كانوا يقدمون بها للفرنج وأبطلها السلطان وتقررت لبيت المال. وكان السلطان قبل ذلك قد غضب على صارم الدين ابن [مبارك] الرضى صاحب العليقة «4» لأجلهم، فتوصل صاحب صهيون فى إصلاح أمره، فحضر إلى السلطان فرضى عنه وقلده بلاد الدعوة «5» استقلالا، وأعطاه طلبخاناه، وعزل نجم الدين وولده من نيابة الدعوة. ونعت صارم الدين بالصحوبية على عادة نواب الدعوة، وتوجه فى سابع عشر جمادى الآخرة(30/248)
وصحبته عز الدين العديمى أحد مفاردة الشام لتقرير أمره، وجرد صحبته جماعة من شيزر «1» وغيرها، فوصلوا إلى مصياف وتحدثوا مع أهلها، فامتنعوا، فسير السلطان إليهم، فسلموها فى العشر الأوسط من شهر رجب.
ومصياف هذه كرسى مملكة الدعوة، وبها أكابرهم، ومنها رسلهم إلى الملوك، فلما علم نجم الدين وولده سرعة هذا الاستيلاء سألوا الحضور. وحضر الصاحب نجم الدين [حسن] وعمره تسعون سنة، فرحمه السلطان وعفا عنه وولاه النيابة شريكا لابن الرضى لأنه صهره، وكان أبوه هو المشار إليه. وقرر حمل مائة وعشرين ألف درهم فى كل سنة. وتوجه نجم الدين وبقى ولده ملازما باب السلطان، وتقرر على صارم الدين بن الرضى حمل ألفى دينار فى كل سنة.
وكانت مصياف قديما بيد الأمير وثاب بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس «2» من أمراء بنى كلاب فى سنة خمس وتسعين وأربعمائة، فملكها ولده ناصر الدين سابق، فباعها لعز الدين أبى العساكر سلطان بن منقذ فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وجعل فيها الحاجب سنقر، فقتله الباطنية وملكوا الحصن فى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وبقى فى أيديهم إلى الآن.
ذكر فتوح العليقة والرّصافة
هذا الحصن من أمنع الحصون، وكان مختصا بالرضى، ثم بولده صارم الدين، فجرت من المذكور أمور أوجبت اعتقاله بمصر، ورسم للعسكر المقيم(30/249)
ببلاطنس «1» بمنازلتها، وسير إلى عبد الظاهر النائب بها وإلى جماعة من أهلها بالترغيب والترهيب، فتسلمها نواب السلطان فى يوم السبت حادى عشر شوال سنة تسع وستين وستمائة، واستخدم بها الرجالة، ثم هجم نواب السلطان على الرصافة، وملكت فى آخر الشهر المذكور.
ذكر فتوح بقية حصون الدعوة
كان قد تقرر على الصاحب نجم الدين عند وصوله إلى السلطان مائة ألف وعشرين ألف درهم فى كل سنة، واستقر أن يكون هو وولده «2» فى خدمة السلطان، واستقر شمس الدين فى صحبة ركاب السلطان، فنسب إليه أنه كاتب الفرنج.
فحضر والده نجم الدين فى سنة تسع وستين وستمائة عند فتوح حصن الأكراد فاعتذر عنه، وتحدث هو وولده المذكور مع الأتابك فى تسليم القلاع، وأنهما يحضران إلى باب السلطان، فأجابهم إلى ذلك. وتوجه شمس الدين إلى الكهف لتدبير أمور أهله فى عشرين يوما ويعود، وسافر أبو، فى الخدمة إلى القرين «3» ثم إلى الديار المصرية، فما حضر ولده وصار يعتذر «4» عن الحضور. فكتب إليه السلطان: «أن الذى كنتم سألتموه من تسليم القلاع كأنكم رجعتم عنه، والوعد الذى وعدناكم نحن ما نخلفه، من أننا نعطيك إمرة بأربعين فارسا، وقد تسلم والدك الإقطاع» . فورد جوابه يعتذر عن الحضور ويطلب حصن العليقة،(30/250)
وأنه يسلم بقية الحصون. فأجيب إلى ذلك. وسير السلطان الأمير علم الدين سنجر الدوادارى وقاضى حمص فخلّفا شمس الدين بحصن الكهف، ثم طالبوه من التسليم «1» فامتنع أهل الكهف عن ذلك باتفاق منه، فعادت الرسل بذلك. ثم أعيد إليه الأمير علم الدين الدوادارى وعلم الدين شقير مقدم البريدية، فمنعا من الدخول إلى الكهف، ولم تؤخذ منهم الكتب. فأمر السلطان بمضايقتهم، فندم شمس الدين ونزل من الكهف، وجاء إلى السلطان بظاهر حماة فى سادس وعشرين صفر سنة تسع وستين، فأكرمه السلطان، فسير ورقة إلى السلطان يقول: «إن أهل الكهف كانوا جهزوا فداوية إلى الأمراء.» فغضب السلطان وأمر بإمساكه فى الوقت وإمساك أصحابه، وسيروا إلى مصر.
واستمرت مضايقة حصونهم، وأمسك وإلى الدعوة والناظر بسرمين «2» ، وكان لهم أقارب بالخوابى، فأشار عليهم الأمير سيف الدين بلبان الدوادار بمكاتبة أقاربهم بالتسليم. فحضر منهم جماعة، وأعطاهم السلطان الخلع والنفقات وأجراهم على رسومهم، فسلموا حصن الخوابى فى سنة تسع وستين وستمائة.
واستمر امتناع أهل الكهف والمنيقة والقدموس من التسليم، فرسم السلطان للملك المنصور بمضايقة الكهف. واستمر ذلك إلى أواخر سنة إحدى وسبعين وستمائة.
فأما المنيقة: فتسلمها نواب السلطان فى ثالث ذى القعدة من السنة.
والقدموس: حضر جماعة من أكابر أهلها وبذلوا الطاعة وتسلّمت فى ذى القعدة.(30/251)
وأما الكهف: فتسلمه الأمير جمال الدين أقش الشهابى أحد أمراء الشام فى ثانى وعشرين ذى الحجة من السنة، وسيرت مفاتيحه صحبة رسلهم ورسل صاحب جماة، وتكمل بذلك قلاع الدعوة.
وأقيمت بها الجمع وترضى عن الصحابة رضى الله عنهم، وأظهرت شعائر الإسلام بها.
ذكر أخبار هذه الحصون
فأما حصن الكهف: فقد ذكر فى الكتب أنه الكف بغير هاء، وسمعت أكثر أهل تلك البلاد لا ينطقون فى اسمه بالهاء. وكان هذا الحصن فى يد نواب العبيديين ملوك مصر، فانتزعه الأمير ليث الدولة بن عمرون وأخذه، وبقى إلى ولاية سيف الدولة بن عمرون «1» ، فذبح على فراشه فى سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وتولى ولده الحسن وهو خائف مما جرى على أبيه، فالتجأ إلى الإسماعيلية، واستدعى قوما منهم وأسكنهم معه فى الحصن ليتقوى بهم على بنى عمه الذين يقصدونه. فأخرجوه من الحصن وملكوه إلى هذا الوقت.
وأما القدموس: فإنه كان فى يد بنى محرز بعد ولاية العبيديين، وكان آخر بنى محرز، منير الدولة حمدان بن حسن بن محرز، فتوفى وملكه بعده ولده علم الدولة يوسف، فضعف عن حفظه، فسلمه للإسماعيلية فى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة.
وأما حصن المنيقة: وهو فى جبل الرواديف، وبانيه رجل اسمه نصر بن مشرف الرواد فى كان قد استولى على جميع المسلمين الساكنين بجبل الرواديف وما يليه،(30/252)
واستقحل أمره، فأخذ وحمل إلى أنطاكية، فاستتيب وأطلق، فعاد إلى أذية المسلمين والروم، فأخذ وطلب العفو، وأعطى ولده رهينة. وتنصح للروم وقال:
«إن فى آخر عمل الروم من آخر جبل الرواديف ضيعة تعرف بالمنيقة، ومكانها يصلح أن يكون به حصن ليحفظ على جميع الأعمال» . فأجابوه إلى ذلك.
فقال: «إن المسلمين لا يمكنونكم من بنائه، وإنما أنا أدفع المسلمين عنه، وأفهمهم أننى أبنيه لنفسى، فإذا بنيته سلمته لكم» ، فاغتر الروم بقوله وأعانوه، فلما بناه استعصى به، وشرع فى بناء حصن آخر امنع منه. ثم إن نقيطا قطبان «1» أنطاكية أتى إلى الحصن وحاصره فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فلم يظفر به، ثم عاد إليه وملكه وخرب أبرجته إلى الأرض، ثم عمرت وصارت بعد ذلك للإسماعيليه.
وأما حصن الخوابى: وهو من جبل بهراء «2» ، فإن محمد بن على بن حامد سلمه للروم فى سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ثم صار للإسماعيلية.
هذا ما أمكن إيراده من أخبار هذه الفتوحات وابتداء أمر هذه الطائفة.
فلنذكر خلاف ذلك من الغزوات الظاهرية والفتوحات، وما يتخلل ذلك ويناسبه من الصلح والمهادنات إن شاء الله تعالى.(30/253)
ذكر غزوات السلطان وفتوحاته وما وقع من المصالحات والمهادنات
ولنبدأ من ذلك بالأمور التى أوجبت انحراف السلطان عن الفرنج بالبلاد الساحلية «1» وأخذ بلادهم.
قد ذكرنا ما كان قد تقرر من الهدنة عند وصول السلطان إلى الشام فى سنة تسع وخمسين وستمائة، وأن الفرنج لم يفوا بما تقرر من إطلاق الأسرى. فلما وصل السلطان إلى جهة الطور «2» على ما قدمناه فى سنة إحدى وستين عند القبض على الملك المغيث صاحب الكرك، وكان الفرنج قد شرعوا يحيدون عن الحق ويطلبون زرعين، والسلطان يجاوبهم «إنكم أخذتم العوض عنها فى الأيام الناصرية ضياعا من مرج «3» عيون، وقايضتم «4» بها صاحب تبنين «5» » . ثم وردت رسلهم الآن يهنئون بالسلامة ويقولون: «ما عرفنا بوصول السلطان» . فأجابهم: «إن من يريد يتولى أمرا ينبغى أن يكون فيه يقظة، ومن خفى عنه هذه العساكر وجهل ما علمه الوحوش فى الفلاة والحيتان فى المياه من كثرة هذه العساكر، التى لعل بيوتكم ما فيها موضع إلا ويكنس منه التراب الذى أثارته خيل هذه العساكر، ولعل وقع سنابكها(30/255)
قد أصمّ سماع من وراء البحر من الفرنج وفى موغان «1» من التتار. فإذا كانت هذه العساكر تصل إلى أبواب بيوتكم ولا تدرون بها فأى شىء تعلمون» . وانفصل الرسل على هذا الحال.
ووصلت نواب يافا، ونواب أرسوف «2» بهدية أخذت منهم «3» ، وكانت كتبهم وردت قبل ذلك مضمونها: طلب فسخ الهدنة والندم عليها، فصارت ترد الآن ببقائهم عليها وتمسكهم بالمواثيق.
وجرت أمور ومراسلات يطول شرحها اقتضت تغير السلطان، ثم كاتبهم السلطان يقول: «أنتم فى أيام الملك الصالح إسماعيل أخذتم صفد والشقيف على أنكم تنجدونه على السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخرجتم جميعا خدمته ونجدته، وجرى ما جرى من خذلانه، وقتلكم وأسركم وأسر ملوككم ومقدميكم. وقد نقضت تلك الدولة ولم يؤاخذكم السلطان الشهيد عند فتوحه البلاد وأحسن إليكم، فقابلتم ذلك بأنكم رحتم إلى الريذ افرانس وأتيتم صحبته إلى مصر وساعدتموه حتى حوى عليكم ما جرى من القتل والأسر، فأى مرة وفيتم فيها لمملكة مصر. وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من الصالح إسماعيل لإعانة مملكة الشام وطاعة ملكها ونصرته، وقد صارت مملكة الشام وغيرها لى وأنا لا أحتاج إلى نصرتكم، فتردّون ما أخذتموه بهذا الطريق، وتفكون جميع أسرى(30/256)
المسلمين، وغير ذلك لا أقبله.» فلما سمعوا هذه المقالة قالوا: «نحن لا ننقض الهدنة ونطلب مراحم السلطان فى استدامتها، ونفك الأسرى» . فقال السلطان:
«كان هذا قبل خروجى فى هذا الشتاء ووصول هذه العساكر «1» » . وانفصلوا على هذه الصورة، وأمر أنهم لا يبيتون فى الوطاق «2» . ورسم بهدم كنيسة الناصرة وهى أكبر مواطن عبادات النصرانية. فتوجه الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إليها وهدمها إلى الأرض، فلم يجسر أحد من سائر الفرنجية أن يخرج من باب عكا. ثم جرد السلطان الأمير بدر الدين الأيدمرى وصحبته جماعة فتوجهوا إلى جهة عكا وهجموا إلى أبوابها، ثم توجه الأمير المذكور مرة أخرى فأغار على المواشى واستباح منها شيئا كثيرا، وأحضر ذلك إلى المخيم المنصور.
ذكر مسير السلطان إلى عكا «3»
وفى ليلة السبت رابع جمادى الآخرة سنة إحدى وستين: ركب السلطان وجرد من كل عشرة فارسا صحبته، واستناب الأمير شجاع الدين الشبلى أمير مهمندار «4» فى الدهليز، وساق من منزلة الطور نصف الليل. فلما أصبح وقف قريب عكا فى الوادى الذى بقربها، ومنه يشرف عليها. وأمر الناس بلبس السلاح ورتب العساكر وساق وطاف بعكا من جهة البر، وسير جماعة إلى برج(30/257)
كان قريبا منها فيه جماعة فحاصروه، وللوقت عملت فيه الثقوب إلى قرب وقت المغرب والفرنج ينظرون من أبواب المدينة وتل الفضول «1» . ثم رجع السلطان إلى الدهليز قريب البرج المذكور عند الماء. ولما أصبح ركب وساق إليها، وكان الفرنج قد حفروا خنادق حول تل الفضول وجعلوها معاثر فى الطريق. ووقف الفرنج صفوفا على التل، ورتب السلطان العساكر للقتال بنفسه، وردمت تلك الخنادق بحوافر الخيل وأيدى الغلمان والفقراء المجاهدين. وطلع الناس إلى تل الفضول وانهزم الفرنج إلى المدينة. وحرق الناس ما حول عكا من الأبراج والأسوار وقطعوا الأشجار. وساق العسكر إلى أبواب عكا يقتلون ويأسرون، فقتل جماعة كثيرة من الفرنج فى ساعة واحدة، وأسرت جماعة بخيولهم، وجرح أكابرهم ووقعوا فى الخندق بخيولهم، وهرب من بقى من الفرنج إلى الأبواب.
ثم ساق السلطان وقت العصر إلى البرج الذى كان النقابون علقوه، ووقف حتى رمى وأخرج منه بالأمان أربعة خيالة أخوة، ونيف وثلاثين راجلا [وبات السلطان على ذلك «2» ] . وأصبح السلطان وكشف بلاد الفرنج مكانا مكانا، وعبر على على كنيسة الناصرة «3» ، ثم رجع وجلس على مسطبة كان قد أمر ببنائها قبالة الطور «4» ، وأوقد الشموع وأحضر الصاحب فخر الدين وزير الصحبة «5» ، وجماعة(30/258)
كتاب الدرج «1» ، وكتاب الجيش، والسديد المعز «2» مستوفى الصحبة «3» . وجعل الأمير سيف الدين بلبان الزينى أمير علم «4» جالسا عند ديوان الجيش لكناية الأمثلة «5» وتجهيز الطليخاناه، والأتابك «6» بين يدى السلطان. واستدعى من جشاراته «7» خمسمائة فرس برسم الطلبخاناه وخيول الأمراء، وأحضرت الخلع الكثيرة، ولم تزل المثالات والمناشير تكتب والسلطان يعلم، وكتب بين يديه فى تلك الليلة ستة وخمسون منشورا كبارا بخطب وهو يعلم، والنائب يكتب، و [كتاب «8» ] ديوان الجيش يثبتون، ومستوفى الصحبة ينزل حتى كملت بين يديه. وأصبح السلطان فخلا بنفسه وجهز الطلبخاناه والصناجق والخيل والخلع للأمراء، وجعل الأمير ناصر الدين القميرى نائب السلطنة بالفتوحات الساحلية، ورحل من الطور وتوجه إلى الكرك وفتحها على ما قدمنا ذكره.
ذكر قصد متملك الأرمن حلب المحروسة
وفى سنة اثنتين وستين وستمائة: وصل هيتوم بن قسطنطين متملك الأرمن(30/259)
من جهة هولاكو، وتوجه قبل دخوله إلى بلاده إلى السلطان ركن الدين صاحب الروم، فعزم [صاحب الروم «1» ] على الإيقاع به على غرة، ثم ينسب ذلك إلى التركمان، فشعر هيتوم «2» بذلك، وكان قد استصحب معه قاضى بلاد هولاكو ليصلح بينه وبين صاحب الروم، وأعطاه عطاء كثيرا واستماله، فقال له هيتوم:
«لا أقدر على دخول بلاد الروم حتى تحضر جماعة من التتار يخفروننى «3» » . فكتب القاضى إلى التتار الذين بالروم، فحضر منهم أربعمائة فارس، فتوجه بهم إلى السلطان ركن الدين، فخرج إليه وتلقاه مترجلا لأجل القاضى، والأرمتى لم يترجل، وقدم كل منهما للآخر تقدمة، لكن كانت تقدمة صاحب الروم لهيتوم أكثر، ثم جاءوا جميعهم إلى هرقلة «4» وتحالفا واتفقا، واهتم هيتوم بجمع العساكر لقصد البلاد الإسلامية. وكان فى عسكره من بنى كلاب ألف فارس فقصد عين تاب.
وكان السلطان قد اطلع على هذا الأمر لاهتمامه بالاستطلاع على الأخبار، فسير إلى عسكر حماة وعسكر حمص بالتوجه إلى حلب، فتوجهوا، وتوجه جماعة من العسكر المصرى، فأغاروا على الأرمن وأسر أمير من أمراء هيتوم، وأخذ له مائة جمل من البخاتى فولوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، وجرح صاحب حموص «5» قرابة هيتوم الملك جراحة شديدة، فكتب الأرمنى إلى التتار الذين بالروم، وهم(30/260)
سبعمائة، فحضروا إليه لقصد الشام؛ فلما وصلوا إلى مرج «1» حارم وقعت ثلوج شديدة، وكان الأرمنى قد كتب إلى أنطاكية يطلب نجدة، فأنجد منها بمائة وخمسين فارسا، ولبسوا كلهم السراقوجات «2» تشبها بالتتار، واجتمعوا كلهم بالقرب من مرج حارم فكادوا يهلكون من كثرة الثلوج والأمطار، وخرج العسكر المنصور لقصدهم، وانقطعت عنهم الميرة فتأخروا راجعين، فعدم من أصحاب الأرمنى مائة وعشرون فارسا، وثلاثون تتربا، وستة من خيالة أنطاكية وجماعة من رجالتهم.
ثم اهتم هيتوم بعد ذلك وجمع العساكر وفصلّ ألف قباء تترى وألف سراقوج ألبسها أصحابه، ليوهم أنهم نجدة من التتار. فجرد السلطان عسكرا من دمشق إلى حمص وجماعة من حماة، وتوجه الأمير حسام الدين العين تابى فأغار على مرزبان «3» وقتل وأسر وعاد سالما. وتوالت الغارات من جميع الجهات، فتفرق جمع هيتوم، وعدل العسكر الإسلامى إلى أنطاكية فغنم وقتل وأسر.
وفى جمادى الآخرة منها: أغارت العساكر التى بالساحل صحبة الأمير ناصر الدين القيمرى ووصلت إلى أبواب عكا.
وفى شهر رمضان من السنة: وصل كتاب الأمير ناصر الدين المذكور، يذكر أنه بلغه أن الفرنج توجهوا إلى جهة يافا، فأمره السلطان بالغارة على قيسارية «4»(30/261)
وعثليث، فساق إلى باب عثليث فنهب وقتل وأسر، ثم ساق إلى قيسارية واعتمد فيها مثل ذلك. فرجع الذين ببافا.
ذكر محاصرة التتار البيرة وتجريد العساكر وانهزام العدو «1»
كان السلطان قد توجه إلى جهة العباسة «2» ، فى أوائل سنة ثلاث وستين وستمائة، للصيد ورمى البندق كما قدمناه، فأتته الأخبار أن التتار قد جمعوا ونازلوا البيرة، وللوقت أمر الأمير بدر الدين الخزندار بالركوب على الخيل السوابق إلى القلعة، وأنه ساعة وصوله يجرد أربعة آلاف فارس من العسكر الخفيف. ورجع السلطان إلى القلعة فبات ليلة واحدة، وجهز الأمير عز الدين إيغان، ورسم له بتقدمة العساكر وصحبته الأمير فخر الدين الحمصى، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، والأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى وجماعة من الأمراء والحلقة «3» .
وتوجهت هذه العساكر فى رابع عشر ربيع الأول، وأمر الأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى بالسفر فى أربعة آلاف فارس أخر، فخرجوا بعد العسكر الأول بأربعة أيام، وشرع السلطان فى التجهيز، وخرج فى خامس شهر ربيع الآخر،(30/262)
ورحل فى سابع الشهر، ووصل إلى غزة فى العشرين منه، فوصلت كتب النواب: إن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا. فكتب إلى الأمير عز الدين إيغان يستحثه على سرعة الحركة، ويقول: «متى لم تدركوا هذه القلعة؟
وإلا سقت إليها بنفسى جريدة» . فساق العسكر وحث السير، فلما كان فى السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، ورد البريد من جهة الأمير جمال الدين النجيى نائب السلطنة بالشام وعطف كتابه بطاقة «1» من الملك المنصور صاحب حماة مضمونها: أنه وصل إلى البيرة بالعساكر المنصورة صحبة الأمير عز الدين إيغان، وأن التتار عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقهم وغرقوا مراكبهم، وانهزموا لا يلوى أحد منهم على أحد. ثم وصلت أربعة من مماليك الأمراء بالبشارة. وورد كتاب الأمير جمال الدين أقوش «2» المغيثى النائب بالبيرة يذكر صورة الحال، وأنه لما كثر العدو على القلعة وطم الخندق، حفر أهل البيرة حفيرا قدر قامة، وعملوا منه سردابا نافذا إلى الأحطاب التى كان العدو رماها فى الخندق فأضرموا فيها النار، فاحترقت جميعها، ثم سد المسلمون السرّب المحفور.
وذكر مصابرة أهل الثغر، وأن نساءهم فعلن من حسن البلاء فى مصابرة الأعداء ما لم يفعله الرجال. ومن جملة ما وصف أن برجا واحدا كان عليه خمسة عشر منجنيقا وثبت شهرين. فكتب السلطان بإطابة قلوب من بالثغر، وعينت أمثلة «3»(30/263)
بالإقطاعات لمن جاهد من البحرية وغيرهم بالبيرة. واستشهد صارم الدين بكتاش الزاهدى «1» أحد الأمراء المجردين بها بحجر منجنيق، وترك موجودا كثيرا وبنتا واحدة؛ فرسم السلطان بجميع ميراثه لابنته. واهتم السلطان بأمر القلعة، وكتب إلى جميع القلاع والولايات «2» بما يحملونه إلى هذا الثغر من الأموال والغلال والأسلحة والعدد وغير ذلك، مما يحتاج أهل هذه القلعة إليه لمدة عشر سنين.
وكتب إلى الأمراء والملك المنصور صاحب حماة أنهم لا يتحركون «3» من مكانهم حتى ينظفوا الخندق وينقلوا الحجارة التى فيه، ففعلوا ذلك وأقاموا مدة بسببه.
ووردت كتب الأمراء يخبرون أنه لما كانت نوبة الأمير عز الدين إيغان والأمير فخر الدين الحمصى والأمير بدر الدين الأيدمرى وجماعة من البحرية، وكانت خيلهم ترعى فى الجانب الشامى وهم يعملون، فأحاط بهم فرقة من التتار المغل ملبسين «4» ، فأجمعوا ورموهم بالنشاب وأنكرهم بالجراحات فولوا منهزمين، وساق العسكر خلفهم فوجد منهم جماعة قد هلكوا فى الطريق من الجراحات، وقتل جماعة فى ذلك اليوم. فاستدعى السلطان من الديار المصرية مائتى ألف درهم ومائتى تشريف، وكتب إلى دمشق بتجهيز مائة تشريف ودراهم، وجهز ذلك إلى البيرة، وكتب إلى الأمير عز الدين إيغان بأن يحضر أهل القلعة جميعهم من(30/264)
الأمراء والجند والعوام ويخلع عليهم وينفق فيهم المال حتى الحراس والضوية «1» .
ثم عاد الأمراء بعد أن نظفوا الخندق ونقلوا إلى القلعة زلطا كثيرا. ولما وصلوا رسم السلطان أن يكون الأمير جمال الدين المحمدى مقدما على العساكر المصرية والشامية لكبر سنه، والأمير عز الدين إيغان يتحدث فى المهمات وإطلاق الأموال وترتيب أمور البلاد.
هذا ما أتفق من أمر البيرة. فلنذكر ما افتتحه السلطان من البلاد الساحلية فى هذه السفرة.
ذكر الفتوحات بالبلاد الفرنجية فى هذه السفرة
قال: لما وصلت الأخبار إلى السلطان وهو بالساحل بانهزام التتار، واستقر خاطره من تلك الجهة، ثنى أعنته الى جهة الفرنج وجرد العزائم نحوهم. وركب من العوجاء بعد رحيل الأطلاب للصيد فى غاية أرسوف. ورتب الحلقة ودخل الغابة وتصيد. ثم ساق إلى أرسوف «2» وقيسارية وشاهدهما وعاد إلى دهليزه «3» ، فوجد أخشاب المجانيق قد وصلت صحبة زرد خاناه. فأمر الأمير عز الدين أمير جاندار أن ينصب عدة مجانيق مغربية وفرنجية، فعمل فى ذلك اليوم أربع منجنيقات كبارا وعدة من الصغار. وكتب إلى القلاع يطلب المجانيق والصناع والحجارين(30/265)
ورسم للعسكر بعمل سلاليم وعين لكل أمير عدة منها، ورحل إلى قريب عيون الأساور «1» وأمر العسكر بعد العشاء الآخرة بلبس السلاح وأخذ أهبة الحرب، وركب قريب وقت الصبح وساق إلى قيسارية على حين غفلة من أهلها.
ذكر فتوح قيسارية «2»
نزل السلطان عليها فى يوم الخميس تاسع جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة، وللوقت طاف بها وهاجمها الناس، وألقوا نفوسهم فى خنادقها، وعمدوا إلى سكك الخيل الحديد «3» والشّبح والمقاود «4» فتعلقوا فيها وطلعوا من كل جانب، ونصبت عليها الصناجق، وحرقت أبوابها، فهرب أهلها إلى قلعتها. فنصبت المجانيق على القلعة وهى من أحصن القلاع وأحسنها، وتعرف بالخضراء. وكان الريدا فرانس حمل إليها العمد الصوان وأتقنها، ولم ير فى الساحل أحسن منها عمارة ولا أمنع ولا أرفع، لأن البحر حافّ بها، وجايز فى خنادقها، والنقوب لا تعمل فيها للعمد الصوان المصلبة فى بنائها، حتى إذا علقت لا تقع. فاستمر الزحف عليها ورمى المنجينقات وعملت دبابات «5» وزحافات «6» . وكان السلطان يركب فى بعض الدبابات وتجر من(30/266)
تحته بالعجل حتى يصل إلى الأسوار ويرى النقوب. وأخذ فى بعض الأيام بيده ترسا وقاتل، وما رجع إلا وفى ترسه عدة سهام. وفى ليلة الخميس منتصف الشهر حضر الفرنج وسلموا القلعة بما فيها، وتسلق المسلمون إليها من الأسوار وحرقوا الأبواب ودخلوا من أعلاها وأسفلها، وأذن بالصبح عليها. وطلع السلطان إلى القلعة وقسم المدينة على أمرائه وخواصه ومماليكه وحلقته، وشرع فى الهدم وأخذ بيده قطاعة وهدم بنفسه ويده.
وقيسارية هذه من المدن القديمة فتحت فى صدر الإسلام فى سنة تسع عشرة للهجرة، على يد معاوية بن أبى سفيان، بعد قتال عظيم، ولم يكن معاوية أمير الجيش، إنما كان من قبل أخيه يزيد بن معاوية.
وفى جماد الأول: جرد السلطان الأمير شهاب الدين القيمرى بجماعة من عسكر الساحل لجهة بيسان «1» ، فسير جماعة من العربان والتركمان للإغارة على عكا، فأغاروا ووصلوا إلى أبوابها وغنموا وعادوا.
ذكر التوجه إلى عثليث «2» وأخذ حصن الملوحة وحيفا
قال: ولما قارب السلطان الفراغ من هدم قيسارية سير الأمير شمس(30/267)
سنقر الألفى الظاهرى، والأمير سيف الدين المستعربى. وجماعة فهدموا قلعة للفرنج عند الملوحة «1» وكانت عاصية فدكوها إلى الأرض.
وفى سادس وعشرين جمادى الأولى: توجه السلطان إلى عثليث جريدة، وسير الأمير شمس الدين سنقر السلاح «2» دار الظاهرى والأمير عز الدين الحموى، والأمير شمس الدين سنقر الألفى الظاهرى إلى حيفا، فساروا إليها ودخلوا قلعتهما، فنجا الفرنج بأنفسهم إلى المراكب بعد أن قتل منهم وأسر. وأحضرت الأسرى والرؤس، وأخربوا المدينة وقلعتها وأحرقوا أبوابها، وذلك جميعه فى يوم واحد.
وأما السلطان فإنه وصل إلى عثليث وأمر بتشعيثها وقطع أشجارها، فقطعت جميعها وخربت أبنيتها فى ذلك النهار، وعاد السلطان إلى قيسارية وكمل هدمها.
ذكر فتوح أرسوف «3»
وفى تاسع وعشرين جمادى الأولى من السنة: رحل السلطان من قيسارية وسار إلى أرسوف، فنازلها فى مستهل جمادى الآخرة، وأمر بنقل الأحطاب فصارت حولها كالجبال الشاهقة، فعملت منها الستائر، وأمر بحفر سربين «4» من خندق المدينة الى خندق القلعة، وأسقفت بالأخشاب وسلمها لأكابر الأمراء، وعمل طريق من الخندقين إلى القلعة، فخرج الفرنج لإحراق الأحطاب(30/268)
فطلبهم الأمير سيف الدين قلاون الألفى وغيره، وقلب على الأحطاب المياه فطفئت «1» النيران. ولما تكامل ردم الخندق بالأحطاب، تحيل الفرنج ونقبوا من داخل القلعة إلى أن وصلوا إلى تحت الردم وعملوا بتاتى «2» ملآنة أدهانا وشحوما وأضرموا النيران وعملوا فى النقوب المفاتح «3» ، ولم يعلم العسكر بذلك إلا بعد تمكن النيران، فاحترقت تلك الأحطاب جميعها وكان ذلك فى الليل. وجاء السلطان بنفسه وسكب المياه بالروايا، فلم تقد شيئا. فعند ذلك تقدم السلطان إلى الأمير شمس الدين سنقر الرومى والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير بدر الدين الخزندار، والأمير شمس الدين الدكز الكركى، وجماعة من الأمراء، وهم نصف الأمراء الصنجقية «4» ، وميمنة الأمراء البحرية، وميمنة الأمراء الظاهرية، وميمنة الحلقة، بأن يأخذوا من مكانهم فى باب السرب من حافات الخندق من جهة سوره حفرا إلى البحر الملح «5» . وتقدم إلى الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير علم الدين الحلبى، والأمير سيف الدين كرمون وجماعة الأمراء، وهم نصف الأمراء الصنجقية من جهة الميسرة وميسرة الحلقة والبحرية، بأن يحفروا من الجهة الأخرى، وأن يحفر [وا] من كل ناحية من هذه النواحى سربا يكون حائط خندق وساترا له.(30/269)
وتحفر فى هذا الحائط أبواب يرمى التراب فيها ويترك فى هذه السروب حتى يساوى أرضها بأرض الخندق، وعذق «1» هذا الأمر بعز الدين أيبك الفخرى أحد أصحاب الأتابك، فأستمر العمل فى هذه الخنادق والسلطان طائف فيها بنفسه ويعمل بيده، وهو تارة فى السروب، وتارة فى الأبواب التى تفتح، وتارة على حافة البحر، ويرامى مراكب الفرنج ويجر فى المنجنيق ويرمى من الستائر «2» .
وحكى عنه الأمير جمال الدين بن نهار، رحمه الله، قال: «رأيت السلطان فى هذا النهار رمى بثلاثمائة سهم نشابا» . واتفق أن السلطان حضر إلى السرب وقعد فى رأسه خلف طاقة يرمى فيها، فخرج جماعة من الفرنج الفرسان ومعهم الرماح بالخطاطيف فلم يشعر إلا وهم على باب السرب، فقام وقاتلهم يدا بيد، وكان معه الأمير شمس الدين سنقر الرومى والأمير بدر الدين بيسرى والأمير بدر الدين الخزندار وغيرهم. وصار سنقر الرومى يناوله الحجارة، فقتل بها فارسين، وقطع الأمير حسام الدين الدوادار أحد الخطاطيف بسيفه وجرح فى عضده، ورجع الفرنج على أسوأ حال.
وحضر فى هذه الغزاة جمع كبير من العباد «3» والزهاد والفقهاء والفقراء وأصناف العباد، ولم يعهد فيها خمر ولا شىء من الفواحش، بل كانت «4» النساء(30/270)
الصالحات يسقين الماء ويجررن فى المجانيق. وأطلق السلطان لجماعة من الصالحين الرواتب مثل: الشيخ على المجنون والشيخ إلياس، وأطلق للشيخ على البكا جملة من المال.
قال: وأهتم بأمر المجانيق وأحضرها من دمشق، وعمل كرمون أغا منجنيقا بسبعة سهام وأثر أثرا حسنا. وكان للأمير عز الدين أيبك الأقرم أمير جاندار فى هذه الغزاة أوفر نصيب، وهو الذى تولى أمر المجانيق.
قال: ولما أثرت المجانيق فى هذه الأسوار ونجزت الأسربة التى إلى جانب الخندق من الجهتين وفتحت فيها أبواب متسعة حصل الزحف على أرسوف فى يوم الاثنين ثامن شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة، وافتحت فى يوم الخميس.
وذلك أن الباشورة «1» سقطت فى الساعة الرابعة من النهار، وطلع المسلمون إليها تسلقا «2» ، وما أحس الفرنج بالمسلمين إلا وقد خالطوهم من كل باب. ورفعت الأعلام على الباشورة، وحفت بها المقاتلة، وطرحت النيران فى أبوابها. وأعطى السلطان صنجقه للأمير شمس الدين الرومى، وأمره أن يؤمن الفرنج به من القتل عند ما طلبوا الأمان. فلما رآه الفرنج بطلوا القتال، وسلم الصنجق للأمير علم الدين سنجر المسرورى الحاجب المعروف بالخياط، ودليت له الحبال من قلعة أرسوف فربطها فى وسطه والصنجق معه، ونشله الفرنج إلى القلعة فأخذ(30/271)
سيوفهم، وأحضروا فى الحبال [إلى السلطان «1» ] .
ولما خلت القلعة من الفرنج أباحها السلطان للمسلمين بجميع ما فيها من أموال وغلال وذخائر. وكان بها جملة من الخيول والبغال لم يتعرض [لشىء «2» ] منها إلا لما اشتراه بالمال. وكان فى أسر الفرنج جماعة من المسلمين خلصوا فى تلك الساعة وأخذت قيودهم وقيد بها الفرنج. وجرد جماعة من المقدمين يتوجهون مع الأسرى. وسير لكل أمير جماعة، ولكل مقدم جماعة. وشرع السلطان فى تقسيم أبراج أرسوف على الأمراء، وجعل هدمها دستورهم «3» ، ورسم بأحضار الأسارى لإخرابها، فكانوا كما قال الله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
«4» .
ورحل السلطان عن أرسوف بعد استكمال هدمها فى يوم الثلاثاء ثالث وعشرين شهر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة.
ذكر ما ملكه السلطان لأمرائه من النواحى التى فتحها الله على يده
قال: لما فتح الله تعالى على السلطان قيسارية أمر الأمير سيف الدين الدوادار الرومى بكشف بلادها وتحقيق متحصلاتها، وعملت أوراق بذلك.
ولما فتح الله أرسوف طلب [السلطان] قاضى القضاة بدمشق وجماعة من(30/272)
العدول ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراء [المجاهدون «1» ] من البلاد التى فتحها الله على يديه ما يأتى ذكره. وكتبت التواقيع لكل منهم ولم يطلعوا عليها، ولما كملت التواقيع قرئت «2» على أربابها، وكتب بذلك مكتوب جامع بالتمليك:
ونسخته بعد البسملة:
أما بعد حمد الله على نصرته المتناسقة العقود، وتمكينه الذى «3» رفلت الملة الإسلامية منه فى أصفى البرود، وفتحه الذى إذا شاهدت العيون مواقع نفعه وعظيم وقعه علمت أنه الأمر ما يسود من يسود.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى جاهد الكفار، وجاهرهم بأعمال السيف البتار، وأعلمهم لمن عقبى الدار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشى والأبكار.
فإن خير النعم نعمة وردت بعد اليأس، وجاءت بعد توحشها وهى حسنة الإيناس، وأقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاون الناس، (وصرعت أبواب الجهاد وقد غلقت فى الوجوه، وأنطقت السنة المنابر وشفاة المحابر بالبشائر التى ما اعتقد أحد أنه بها يفوه «4» ) ، فأكرم بها نعمة على الإسلام وصلت للملة المحمدية(30/273)
أسبابا، وفتحت للفتوحات أبوابا، وهزمت من التتار والفرنج العدوين، ورابطت بين الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم فى عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار، وتملأ خنادقهم بشاهق الأسوار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب فى قبضة القيد إلى حلقات الأسار. ففرقة منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصينا. وفرقة تتسلم بالحجاز «1» قلاعا شاهقة وتتسنّم هضابا سامقة، فهى بحمد الله البانية الهادمة والمفيدة العادمة والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله للأمة الإسلامية راحما، وجرد به سيفا قد شحذت التجارب حديه ففرى، وحملت رياح النصرة ركابه تسخيرا فسار إلى مواطن الظفر وسرى، وكونته السعادة ملكا إذا رأته فى دستها قالت تعظيما: «هذا ملك ما هذا بشرا» . وهو مولانا السلطان الأجل العالم العادل المؤيد المنصور، ركن الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين، محيى العدل فى العالمين، قاتل الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، سلطان بلاد الله، حافظ عباد الله، وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، صاحب القرآن، ملك البحرين صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، الآمر ببيعة الخليفتين صلاح الجمهور صاحب البلاد والأقاليم والثغور، فاتح الأمصار، مبيد التتار، ناصر الشريعة المحمدية، رافع علم الملة الإسلامية، مقتلع القلاع من الكافرين، القائم بفرض(30/274)
الجهاد فى العالمين «1» أبو الفتح «2» بيبرس قسيم أمير المؤمنين، جعل الله سيوفه مفاتيح «3» البلاد وأعلامه أعلاما من الأسنة، على رأسها نار لهداية العباد، فإنه آخذ البلاد ومعطيها، وواهبها بما فيها، وإذا عامله الله بلطفه شكر، وإذا قدر عفا وأصلح، فكم وافقه قدر، وإذا أهدت إليه النصرة فتوحا بسيفه قسمها فى حاضريها لديه متكرما، وقال الهدية لمن حضر، وإذا خوله الله تخويلا من بلاد الكفر وفتح على يديه قلاعا جعل الهدم للأسوار، والدماء للسيف البتار، والرقاب للإسار، والنواحى المزروعة للأولياء والأنصار، ولم يجعل لنفسه إلا ما تسطره الأملاك فى الصحائف لصفاحه «4» من الأجور، وتطوى عليه طويات السّير التى غدت بما فتحه الله من الثغور باسمه باسمة الثغور.
فتى جعل البلاد من العطايا ... فأعطى المدن واحتقر الضياعا
سمعنا بالكرام وقد رأينا «5» ... عيانا ضعف ما فعلوا سماعا
إذا فعل الكرام على قياس ... جميلا كان ما فعل ابتداعا
ولما كان- خلد الله سلطانه- بهذه المثابة، وفتح الفتوحات التى أجزل الله بها أجره وثوابه، وله أولياء كالنجوم إنارة وضياء، وكالأقدار نفاذا ومضاء، وكالعقود تناسقا، وكالوبل تلاحقا إلى الطاعة وتسابقا، وكالنفس الواحدة(30/275)
عبودية له وتصادقا، رأى- خلد الله سلطانه- أن لا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يتخصص ولا يستأثر بمنحة غدت بسيوفهم تستنقذ، وبعزائمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم «1» عليهم الأشعة من أنوار شمسه، ويبقى للولد منهم وولد الولد ما يدوم إلى آخر الدهر ويبقى على الأبد، ويعيش الأبناء فى نعمته كما عاش الآباء. وخير الإحسان ما شمل، وأحسنه ما خلد، فخرج الأمر العالى لا زال يشمل الأعقاب والذرارى، وينير إنارة «2» الأنجم الدرارى، أن يملك جماعة أمرائه وخواصه الذين يذكرون، وفى هذا المكتوب الشريف يسطرون، ما يعين من البلاد والقرى والضياع على ما يشرح ويبين من الأوضاع وهو:
المولى الأتابك فارس الدين أقطاى الصالحى* عتيل بكمالها الأمير جمال الدين إيدغدى العزيزى النصف من زيتا الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى نصف طور كرم الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهرى نصف طور كرم الأمير شمس الدين الدكز «3» الكركى ربع زيتا الأمير سيف الدين قليج البغدادى ربع زيتا الأمير ركن الدين بيبرس خاص ترك الكبير الصالحى أفراسين «4» بكمالها(30/276)
الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحى باقة الشرقية بكمالها الأمير عز الدين أيدمر الحلى «1» الصالحى نصف قلنسوة الأمير شمس الدين سنقر الرومى الصالحى نصف قلنسوة الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحى نصف طيبة الاسم الأمير عز الدين إيغان الركنى سم الموت نصف طيّبة الاسم الأمير جمال الدين أقش النجيبى نائب سلطنة الشام أم الفحم بكمالها من قيسارية الأمير علم الدين سنجر الحلبى الصالحى بثان «2» بكمالها الأمير جمال الدين أقش المحمدى الصالحى نصف بورين الأمير فخر الدين الطنبا الحمصى نصف بورين الأمير جمال الدين أيدغدى الحاجبى الناصرى نصف بيزين «3» الأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى الصالحى نصف بيزين الأمير فخر الدين عثمان بن الملك المغيث ثلث حلمة «4» الأمير شمس الدين سلار البغدادى ثلث حلمة(30/277)
الأمير صارم الدين ضراغان «1» التترى ثلث حلمة الأمير ناصر الدين القيمرى نصف البرج الأحمر الأمير سيف الدين بلبان «2» الزينى الصالحى نصف البرج الأحمر الأمير سيف الدين إيتامش السعدى نصف يما الأمير شمس الدين آقسنقر السلحدار الظاهرى نصف يمّا الملك المجاهد سيف الدين إسحق صاحب الجزيرة نصف ديابة «3» الملك المظفر علاء الدين أخوه صاحب سنجار نصف ديابة الأمير بدر الدين محمد بى بن بركة خان دير الغصون «4» بكمالها الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار نصف الشّويكة الأمير سيف الدين كرمون أغا [التترى «5» ] نصف الشويكة الأمير بدر الدين بيليك الوزيرى نصف طبرس الأمير ركن الدين منكورس الدوادارى نصف طبرس الأمير سيف الدين قشتمر العجمى علارّ بكمالها(30/278)
الأمير علاء الدين أخو الدوادار نصف عرعرا «1» الأمير سيف الدين سنجق «2» البغدادى نصف عرعرا الأمير سيف الدين دكاجك «3» البغدادى نصف فرعون الأمير علم الدين سنجر الأزكشى نصف فرعون الأمير علم الدين سنجر طردح الآمدى «4» استابا بكمالها «5» الأمير حسام الدين إيتمش بن أطلس خان سيدا بكمالها الأمير علاء الدين كندغدى الظاهرى أمير مجلس الصبر الفوقا «6» الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى نصف أرتاح الأمير شمس الدين سنقر الألفى نصف أرتاح الأمير علاء الدين «7» طيبرس الظاهرى نصف باقة الغربية الأمير علاء الدين على سكز «8» نصف باقة الغربية(30/279)
الأمير عز الدين أيدمر الفخرى الأتابكى القصير بكمالها الأمير علم الدين سنجر الصير فى الظاهرى أخصاص بكمالها الأمير ركن الدين بيبرس المعزى «1» نصف قفين الأمير شجاع الدين [طغريل الشبلى «2» ] أمير مهمندار نصف كفر راعى الأمير علاء الدين كندغدى الحبيشى مقدم الأمراء البحرية نصف كفر راعى الأمير شرف الدين يعقوب بن أبى القاسم نصف كسفا «3» الأمير بهاء الدين يعقوب «4» بن الشهرزورى نصف كسفا «5» الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستاد الدار العالية نصف برويكة «6» الأمير علم الدين سنجر الحلبى «7» الغزاوى نصف برويكة الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار «8» نصف حانوتا من أرسوف الأمير سيف الدين بيدغان الركنى فرديسيا بكمالها من «9» قيسارية(30/280)
الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى نائب الكرك ثلث جبلة «1» من أرسوف الأمير شمس الدين سنقرجاه الظاهرى ثلث جبلة من أرسوف [الأمير جمال الدين أقوش السلاح دار الرومى ثلث جبلة من أرسوف «2» ] الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح ثلث جلجولية الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومى ثلث جلجولية الأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى الصالحى ثلث جلجولية وكتب من كتاب التمليك الشرعى الجامع نسخ، وفرقت لكل أمير نسخة بمكانه، وخلع على قاضى القضاة، وتوجه [السلطان «3» ] إلى دمشق.
ذكر قصد البرنس صاحب طرابلس حمص وانهزامه «4»
وفى ثامن صفر سنة أربع وستين وستمائة، جمع البرنس بيمند بن بيمند «5» جموعه، واستنصر بالدواية والإسبتار، وقصد جهة حمص. وكان النائب بها(30/281)
الأمير علاء الدين [سنجر «1» ] الباقشردى «2» قد اطلع على حركته، فاحترز وجعل الطلائع على المخائض. فقصد البرنس مخاضة «3» بلاله فسبقه الباقشردى إليها وملكها. فلما جاء البرنس ورآها قد ملكت عدل إلى غيرها فقويت نفوس المسلمين، وعدّوا الماء إليه وتبعوه فانهزم، وساقوا خلفه يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن توغل فى بلاده.
ذكر إغارة العساكر على طرابلس بالشام وفتح قلعة حلبا وقلعة عرقا «4»
وفى سنة أربع وستين وستمائة فى شهر رجب، أهتم السلطان بأمر الغزاة، وطلب الأجناد من إقطاعاتهم من سائر أعمال الديار المصرية. فحضروا بأجمعهم.
وخرج السلطان فى مستهل شعبان ورحل فى ثالثه. ولما وصل إلى غزة جرد الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى والأمير سيف الدين قلاون الألفى وجماعة من العسكر المنصور. وتوجه السلطان لزيارة البيت المقدس والخليل، صلوات الله عليه، فزار وكشف المظالم ومد سماط الخليل، عليه الصلاة والسلام، وأكل منه وأكل الناس، وفرق جملة من المال على الأئمة والفقراء والمؤذنين والعوام(30/282)
وغيرهم وبلغه أن اليهود والنصارى يؤخذ منهم حقوق «1» زيارة الخليل، والنزول فى المغارة، فأنكر ذلك، وكتب مرسوما بمنع أهل الذمة من دخول المقام الشريف. ثم رحل إلى عين جالوت.
وأما العسكر المجرد: فوصلوا إلى حمص فورد عليهم كتاب السلطان بالتوجه إلى طرابلس، فركبوا على غرة من العدو، فأصبحوا على حصن الأكراد، وأغاروا إلى ساحل البحر من جهة طرابلس، ونزلوا على حصن ثيب «2» من عمل حصن الأكراد فأقاموا عليه يوما واحدا، فأخذوه وأسروا منه جماعة وهرب من كان بحلبا من الفرنج وأخلوها، فدخلها العسكر وكسبوا منها شيئا كثيرا من نحاس وصناديق وسكر وغيره، ولما هرب أهلها أدرك العسكر أواخرهم، فقتلوهم وأخذوا نساءهم. ولما شاهد «3» أهل عرقا ما حل بحلبا نجوا بأنفسهم، فأخرب العسكر القلعتين ونزلوا على حصن القليعات فتسلموه فى رابع شهر رمضان بالأمان وهدموه، وعادت العساكر. فنزل الأمير سيف الدين قلاون بالقرب من القليعات، وسير بالليل بعض المقدمين ليترقب من يخرج من الفرنج، فوجد خمسين نفرا متوجهين من صافيتا «4» إلى حصن الأكراد أقجية وجرخية «5» فقتلهم جميعا، وأحضرت رءوسهم.
وخرج جماعة من الداوية للغارة على الغلمان الذين يحشون «6» لخيل العسكر، وكان(30/283)
الأمير سيف الدين قلاون قد رتب مع الغلمان جماعة من العسكر، فلما جاءهم الداوية خرج عليهم العسكر فقتلوا بعض الفرنج وأسروا البعض. وسير صاحب صافيتا جاسوسا فأمسك وشنق. وكان فى جملة هذا العسكر من العربان ألفا «1» فارس وجاهدوا «2» أتم جهاد، وجرح الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا جرحين. ورسم السلطان أنه من عدم له فرس بعوض عنه رأسين من البقر، ورسم بتجريد جماعة لحمص وعود العسكر.
ذكر إغارة العسكر على صور «3»
قال: ولما نزل السلطان على عين جالوت رحل منها إلى جهة عكا، وجرد الأمير علاء الدين البندقدار والأمير عز الدين «4» إيغان الركتى بجماعة من العسكر إلى جهة صور، فأغاروا عليها وغنموا كثيرا من الجمال والبقر والغنم. وأسر كمندور «5» صاحب سيس ونفران معه كانوا انحازوا إلى برج فأخذوا بالأمان، وأخذ وزير صور وجماعة من الفرنج. وتوجه الأمير سيف الدين أو تامش إلى جهة صيدا «6» ؛ ورسم لهم السلطان بالحضور إلى جهة صفد. وتوجه السلطان إلى عكا، وجرد الأمير(30/284)
بدر الأيدمرى والأمير بدر الدين يسرى «1» إلى جهة القرين «2» ، وجرد الأمير فخر الدين الحمصى إلى جبل عاملة «3» ، فأغارت العساكر [على الفرنج «4» ] من كل جهة، وحاصر الأمراء القرين، وأخذت قلعة بالقرب من عكا، وتوالت المكاسب حتى لم يوجد من يشترى الأبقار والجواميس لكثرتها.
ذكر فتوح صفد «5»
كان السلطان، قبيل توجهه إلى عكا، قد رسم للأمير علاء الدين أيدكين الشهابى أحد الأمراء بالشام ولجماعة من العسكر أن يتوجهوا إلى بلاد الفرنج، ولم يعلم إلى أى جهة. ثم كتب كتابا وأمره أن لا يقرأه إلا إذا ركب هو والعساكر، وكان مضمونه أن يتوجه إلى صفد، ويتوجه الأمير فخر الدين الفايزى إلى الشقيف. فتوجه الأمير علاء الدين إليها وأحاط بها إحاطة حافظ لا مقاتل، ثم جرد الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح ومعه دهليز «6»(30/285)
إلى صفد، ثم حضر إليها الأمير علاء الدين البندقدار والأمير عز الدين إيغان الركنى بعد إغارتهم على صور فنزلوا إليها وضايقوها، وأقام السلطان على عكا.
ثم حضرت عساكر الغارات، وعمل [السلطان «1» ] عدة مجانيق وفرقها على الأمراء ليحملوها، ثم رحل والعساكر لابسة وساق إلى قريب باب عكا ووقف على تل الفضول، ثم دخل إلى عين جالوت، وكان الأمير سيف الدين الزينى قد توجه إلى دمشق لإحضار المجانيق، فأحضرها وحملت على الرقاب، وسار السلطان ونزل على صفد فى يوم الاثنين ثامن شهر رمضان سنة أربع وستين وستمائة.
وأنفق السلطان فى العساكر، وأتفق أن الناس تناوشوا القتال فساق الأمير عز الدين خاص ترك الظاهرى وحمل وواصل «2» الطعن، فتقدم الحجارون وأخذوا فى النقوب ورمى الزراقون «3» بالنفط فاحترق الباب. وأنعم السلطان على خاص ترك بعشرة آلاف درهم وفرس وجوشن «4» وخلعة. ثم أقيمت المجانيق ورمت فى سادس وعشرين الشهر، وكان وصولها فى الحادى والعشرين منه، ولما وصلت إلى جسر يعقوب «5» عجز الجمال عن نقلها، فندب السلطان الأمراء والجند وسائر الناس لحملها على الرقاب، وخرج [السلطان «6» ] بنفسه وخواصه وجر أخشابها بيده.
ووصلت العساكر التى كانت فى الغارة ببلاد طرابلس، واستمر الحصار وشرع الناس فى الزحف فى شوال، وأمر السلطان بتحريك الطلبخاناه فى نصف الليل،(30/286)
وركب وهجم خندق الباشورة، فقاتل الفرنج قتالا شديدا، وأبلى المؤمنون بلاء حسنا واستشهد جماعة من المجاهدين، وصار الإنسان يرى رفيقه قد قتل فيجره ويقف مكانه، وتكاثرت النقوب ودخلت «1» النقابون إليها، وأعطاهم السلطان ثلاثمائة دينار، وصار كل من عمل شيئا جزاه السلطان لوقته عنه بالخلع والمال.
وفى أثناء ذلك نظر السلطان إلى الناس وقد تعبوا فى وقت القائلة من القتال، وتفرق بعضهم وهو راكب ملازم، فأمر خواصه بالسّوق إلى الصواوين وإقامة الأمراء والجند منها بالدبابيس، وسبّ الأمراء. وقال: «المسلمون على هذه الصورة وأنتم تستريحون» ورسم بأمساك الأمراء وكانوا نيفا وأربعين أميرا فقيدهم ونقلهم إلى الزردخاناه «2» ، فوقعت الشفاعة فيهم فأطلقهم وأمرهم بملازمة مواضعهم.
ووسعت النقوب وشرطت الأسوار، فحرق الفرنج الستائر التى كانت على الباشورة ليحموها «3» من التسلق «4» . فأمر السلطان بضرب الطبلخاناه، وقام كل أحد إلى جهته، فضرب المسلمون سكك الخيل «5» فى سفح الباشورة، فما أصبح الصبح إلا والصناجق على أسوار الباشورة من كل جهة، وأندفع الفرنج إلى القلعة وسلموا الباشورة فى يوم الثلاثاء نصف شوال. وفى هذا اليوم أخذت النقوب فى(30/287)
برج اليتيم «1» وغيره من أبراج القلعة. فعند ذلك أتت رسل الفرنج إلى السلطان يسألون الأمان، فاشترط عليهم ألا يستصحبوا «2» سلاحا ولا لامة حرب ولا شيئا من الفضيات، ولا يتلفوا «3» ذخائر القلعة بنار ولا هدم، فعادوا لأصحابهم على ذلك.
وبقى السلطان يعطى الأمانات من المرامى ويسير المناديل، وتقرر مع جماعة أنهم يفتحون الأبواب. فتسامع الفرنج بذلك، ووقع بينهم الاختلاف، وحضر خمسة عشر نفرا من القلعة منفردين «4» فى وقت واحد فخلع عليهم، ونودى فى العسكر بأن لا يرموا أحدا من الفرنج غير الديوية. فأمسك الفرنج من تلك الساعة عن القتال، وردوا الأمان وقالوا: «ما ندخل فى شرط» ، ورمى الرسل الخلع والمال المنعم عليهم من الأسوار. ثم أيقنوا بالهلاك، فسيروا رسلهم فى يوم الجمعة ثامن عشر الشهر يطلبون ما كانوا طلبوه أولا، فامتنع السلطان من ذلك. فأخذ الأتابك منديل جمال الدين أقش القليجى مقدم الجمدارية «5» وأعطاه لهم على أنهم لا يخرجون شيئا «6» مما ذكرناه. فتوجه الرسل وصاح الفرنج بعد صلاة الجمعة: «يا مسلمين! الأمان» وفتحت أبواب القلعة وقت العصر، وطلعت الصناجق. ووقف السلطان راكبا على باب صفد، ونزل الفرنج أولا فأولا وصاروا جميعهم بين يديه، وأخرجوا معهم الأسلحة والفضيات «7» وأخفوها فى قماشهم «8» ، وأخذوا جماعة من أسرى(30/288)
المسلمين وصغارهم على أنهم نصارى. فلم يخف الله ذلك، ورسم بتفتيشهم فوجد ذلك معهم فأخذ منهم، وأنزلوا عن خيولهم، وجعلوا فى خيمة، وقد حصل منهم ما ينقض العهد أن لو كان، فكيف ولم يكن حقيقة. وأمر السلطان بضرب أعناقهم، فضربت رقابهم على تل بالقرب من صفد كانوا يضربون رقاب المسلمين فيه. ولم يسلم منهم غير نفرين، أحدهما الرسول بحكم أن السلطان كان قد شرب قمزا فى النقب وخرج إليه الرسول فسقاه منه، فعفا السلطان عنه وخيّره فى التوجه إلى قومه او الإقامة عنده، فاختار المقام فى خدمة السلطان وأسلم «1» ، فأعطاه السلطان إقطاعا، وأما الآخر فإن الأتابك «2» شفع فيه قأطلقه السلطان. ودخل السلطان القلعة وفرق على الأمراء ما فيها من العدد الفرنجية والجوارى والمماليك، واستناب فى القلعة الأمير عز الدين العلائى، وولى الأمير مجد الدين الطورى ومقدم العسكر الأمير علاء الدين أيدغدى السلاح دار، ونقلت إليها الزردخاناه التى كانت صحبة السلطان، وصار يحمل النشاب على كتفه، فنقلت فى أسرع وقت، وطلب لها الرجال من دمشق، وتقررت نفقة رجالها فى كل شهر ثمانين ألف درهم. واستخدم على جميع بلادها الأمراء، وعمل بها جامع بالقلعة وجامع فى الربض، ووقف على الشيخ على المجنون نصف وربع الحفاف «3»(30/289)
والربع منها على الشيخ إلياس، ووقف على قبر خالد بن الوليد قرية منها.
ورحل منها إلى دمشق فى سابع وعشرين شوال، فنزل بالجسورة، وأمر أن العساكر لا تدخل دمشق بل تتوجه إلى سيس «1» .
ذكر غزوة سيس وأسر ملكها وقتل أخيه وعمه وأسر ولد عمه
قال: وجهز السلطان الملك المنصور صاحب حماة، وجرد معه الأمير عز الدين إيغان، والأمير سيف الدين قلاون، ورسم للأمراء بتعظيمه.
وتوجهوا فى خامس ذى القعدة من سنة أربع وستين. فوصلوا إلى الدرب ساك «2» ودخلوا الدربند. وكان الملك المجير هيتوم بن قسطنطين بن باساك «3» قد ملّك ولده ليفون وانقطع هو مترهبا، فلما طلب «4» المسلمون وقف ليفون فى عسكره وطلّب، وتوهم أن المسلمين لا يقدرون على الطلوع فى الجبال لأن التكفور كان قد بنى على رءوس الجبال أبراجا، فكانت كقول الشاعر:
وإن بين حيطانا عليه فانما ... أولئك عقالاته لا معاقله(30/290)
فطلعت العساكر «1» فى رءوس الجبال، فلما وقعت العين فى العين أسر الملك ليفون، وقتل أخوه وعمه، وانهزم كندا سطبل عمه الآخر، وأسر ولده، وهرب صاحب حموص «2» . وكان فيهم اثنا عشر ملكا تمزقوا كل ممزق، وقتلت أبطالهم. وساقت العساكر فى هذا النهار وأقامت على كونجيد «3» من عمل سرفندكار، ونزلت فى اليوم الثانى بأعمال تل حمدون، وهى تقتل وتأسر وتحرق. وأحرقوا حموص، ثم توجهوا إلى نهر جهان فخاضته العساكر ونزلوا بقرب العمودين «4» ، وهى قلعة حصينة شاهقة للداوية. فلما طافت بها العساكر أذعن أهلها لتسليمها وكان فيها ألفان ومائتان نفرا، فقتل الرجال، وفرقت السبايا على العساكر.
وأحرقت هذه القلعة وما فيها من الحواصل والذخائر. ورحلوا إلى سيس فأخربوها وأقامت العساكر أياما تحرق وتقتل وتأسر. وأقام الملك المنصور صاحب حماة بها. وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى جهة الروم، والأمير سيف الدين قلاون إلى المصيصة وأدنة وإياس وطرسوس فقتلوا وأسروا وأحرقوا. وهدمت قلعة الداوية المعروفة بالبنية «5» ، وحرقت لهم أماكن كثيرة من حصون وبلاد وهدمت.(30/291)
ثم عادت العساكر إلى سيس بعد أن غنمت غنائم كثيرة، حتى بيع الرأس البقر بدرهمين ولم يجد من يشتريه، وأستاقت العساكر الغنائم.
ووردت هذه الأخبار إلى السلطان وهو يتصيد بجرود «1» ، فأعطى المبشر ألف دينار، ودخل دمشق فتجهز وخرج لتلقى عساكره.
ذكر قتل أهل «2» قارا وسبى ذراريهم
لما توجه السلطان من دمشق ليلقى عساكره الواردة من سيس مر بقارا فى سادس ذى الحجة فأمر بنهبها وقتل من بها.
وكان سبب ذلك أن بعض الركابية كان قد خدم الطواشى مرشد مقدم العسكر بحماة لما عاد من الخدمة السلطانية كما تقدم، ووصل إلى منزلة العيون مرض بها وبات ولم يشعر به الطواشى. فأتاه رجلان من أهل قارا وتوجها به إليها ليضيفاه، فأقام عندهما ثلاثة أيام حتى عوفى، ثم أخذاه بالليل وتوجها به إلى حصن الأكراد فأباعاه «3» بها بأربعين دينارا صورية. واتفق فى تلك السنة توجّه بعض تجار دمشق إلى حصن الأكراد لإبتياع أسرى، فاشترى ذلك الركابى فى جملة ما اشتراه وحمله إلى دمشق وأطلقه، فخدم بعض الجند وخرج فيمن خرج مع السلطان. فلما وصل إلى قارا حضر الركابى إلى مجلس الأمير(30/292)
فارس الدين الأتابك وأنهى إليه صورة الحال، فسأله هل يعرف الذى باعه؟
قال: «نعم» فسير معه جاندارية، فتوجه ووجد أحد الرجلين فقبض عليه وأحضره. فأنهى الأتابك ذلك إلى السلطان فأحضرهما بين يديه، وتقابلا فأنكر القارى «1» . فقال الركابى: «فأنا أعرف بيته وما فيه» ، فعند ذلك أعترف القارى، وقال: «ما أنا أفعل هذا جميع من بقارا يفعله» . وكان قد حضر من قارا رهبان بضيافة إلى باب الدهليز، فأمر السلطان بالقبض عليهم، وركب بنفسه وقصد الديرة التى خارج قارا، فقتل من بها ونهبها، ثم عاد وأمر العسكر بالركوب، وقصد التل الذى بظاهر قارا من جهة الشمال، واستدعى أبا العز الريس بها، وقال له:
«نحن بقصد الصيد، فمر أهل قارا بالخروج بأجمعهم» . فخرج منهم جماعة إلى ظاهر القرية، فلما أبعدوا عنها، أمر بضرب رقابهم فضربت ولم يسلم منهم إلا من هرب واختفى بالعمائر والآبار، وعصى بالأبرجة بها جماعة فأمّنوا وأخذوا أسرى، وكانوا ألفا وسبعين نفرا من رجل وامرأة وصبى. وانتمى جماعة إلى أبى العز ريسها فأطلقهم السلطان له، ثم أمر بتوسيط «2» الرهبان الذين حضروا بالضيافة فوسطوا. وتقدم إلى العسكر بنهب قارا فنهبوها «3» ، ثم أمر أن يجعل كنيستها جامعا، ونقل إليها الرعية من التركمان وغيرهم حتى شحنها بالناس، ورتب فيها خطيبا وقاضيا، وكانت قبل ذلك يسكنها النصارى. وكان السبب فى إبقاء الرئيس أبى العز أن السلطان الملك الظاهر لما ساق خلف التتار بعد وقعة عين(30/293)
جالوت مر بقارا فخرج إليه هذا الرئيس وأضافه، فرعى السلطان له ذلك وأحسن إليه.
وبيعث أولاد أهل قارا فتربّوا بين المماليك وتكلّموا باللغة التركية، ثم صاروا بعد ذلك أجنادا، وتأمر منهم جماعة وتولوا الأقاليم الكبار والمناصب بالديار المصرية، وتمولوا.
قال: ولما فرغ السلطان من قتل أهل قارا ونهبها توجه إلى حماة، فعيّد بها عيد الأضحى، وسار منها «1» إلى أفامية «2» ، ورحل للقاء العساكر فى ثالث عشر ذى الحجة. وكان قد افرد نصيب السلطان من الغنائم، ففرق ذلك على عساكره.
وأحسن إلى صاحب سيس ومن معه فى الأسر، وعاد إلى دمشق فى رابع وعشرين الشهر فدخلها مطّلبا «3» وصاحب سيس وابن عمه وأصحابه بين يديه، وخلع على الملوك والأمراء والأكابر، وسير لصاحب حماة ولأصحابه الخيول والخلع والأموال، وودعه، وتوجه إلى مملكته.
وخرج السلطان من دمشق فى ثانى المحرم على ما قدمناه.
ذكر وقعة مع الفرنج كانت النصرة فيها للمسلمين «4»
وفى المحرم سنة خمس وستين وستمائة: بلغ العسكر الصفدى أن العدو أجاز(30/294)
على بلد طبرية، فركب العسكر وطلبوا جهة عكا، فلما وصلوا إلى وادى علين «1» خرج عليهم الفرنج، وكان قد وصلهم نجدة من قبرص وغيرها، فضرب العسكر معهم مصافا فانكسر الفرنج، وكانت عدتهم ألف ومائة فارس فقتل أكثرهم، وعملت أعزبة عظيمة بعكا لمن قتل من ملوكهم فى هذه الوقعة.
ذكر إغارة السلطان على عكا «2»
قد ذكرنا أن السلطان توجه إلى الشام لعمارة صفد فى سنة خمس وستين وستمائة، وأن رسل الفرنج أتوه بها وتحدثوا معه فى أمر بلادهم. وأجابوا إلى ما قاله لهم من مناصفة صيدا وهدم الشقيف.
قال: وأنكر السلطان عليهم إغارتهم على مشغر «3» ، وأقيموا قياما مزعجا، وأمر السلطان العساكر بالركوب خفية «4» للغارة. وركب السلطان، والفرنج قد اطمأنوا بإرسال رسلهم إليه «5» ، فما أحسّوا إلا والعساكر قد وصلت إليهم. وساق السلطان ونزل على باب عكا بتل الفضول، وأحضرت إليه رءوس القتلى من كل جهة، وضرب دهليزه تحت التل وبات فيه، ثم أصبح على تملك الحالة، وعاد إلى جهة صفد.(30/295)
ووصلت رسل سيس بالهدايا فشاهدوا، هم ورسل الفرنج، رءوس القتلى على الرماح. وأحضر جماعة ممن أسر فى هذه الغارة فقتلوا فى صفد.
وطلب السلطان رسل الفرنج وقال: «هذه الغارة قبالة إغارتكم على بلاد الشقيف» . ولم ينتظر أمر الصلح، فردّ الرسل الفرنجية بغير جواب.
وركب [السلطان «1» ] فى حادى وعشرين شعبان من السنة وساق [من صفد «2» ] إلى عكا، فما علموا إلا وهو على أبوابها، فقسّم الحجارين والناس على البساتين والأبنية والآبار للهدم والقطع. وعمل اليزك بنفسه على باب عكا تحت ذيل التل.
وأقام أربعة أيام حتى تكامل الهدم والإحراق والقطع، وسير إلى طاحون كردانة «3» التى لبيت الإسبتار فهدمها.
وفى هذه الأيام أحضر رسل سيس ورسل بيروت «4» [هدايا] وجماعة «5» من أسرى المسلمين وردوا مال التجار، وكتبت أجوبتهم وتوجهوا.
وفى شهر رمضان وصل رسل «6» صور وسألوا استمرار الهدنة. فقال السلطان:
«أنا ما فعلت ما فعلت إلا لأنكم قتلتم السابق شاهين غلامى، وإذا قمتم بديته استمرت الهدنة» . وأحضر أولاد السابق شاهين فقرر ديته خمسة عشر ألف دينار صورية،(30/296)
أحضر الرسل نصفها وجماعة «1» من أسارى المغاربة «2» واستمهلوا باليقية. وقال السلطان:
«تبنين وهدنين وبلادهما [بلاد «3» ] أخذتهما بسيفى وصارت للإسلام فاستقرت للمسلمين» . وأجيبوا إلى الصلح وكتبت الهدنة لمدة عشر «4» سنين.
واستقرت أيضا قاعدة الصلح ببيروت بعد أن تقرر عليهم أن يردوا أموال التجار الذين كانوا أخذوا بمراكب «5» الأتابك وإطلاقهم وثمن المراكب. ثم قبلت هديتهم واستمرت هدنتهم.
ذكر الصلح مع بيت الإسبتار على حصنى الأكراد والمرقب «6»
كان بيت الإسبتار قد تقدم طلبهم لذلك. فاستقر هذا الأمر بشرط أن الفسخ يكون للسلطان وحضرت رسلهم الآن، والتمسوا أن يحلف لهم السلطان. فقررت الهدنة لعشر سنين وعشرة شهور وعشرة أيام وعشر ساعات وبطلت القطائع عن بلاد الدعوة وهى ألف ومائتا دينار، ومائة مدى «7» حنطة(30/297)
وشعيرا، وعن مملكة حماة وهى أربعة آلاف دينار، وعن شيزر وأفامية وهى فى كل سنة على أبو قبيس ستمائة دينار مصرية، وعلى عينتاب «1» خمسمائة دينار صورية، والرسم المعروف بالمفادنة، وهو عن كل فدان مكو كان غلة وستة دراهم. وسير لإستحلاف مقدم الإسبتار، الأمير فخر الدين المقرى والقاضى شمس الدين ابن قريش كاتب الدرج.
ذكر فتوح يافا «2»
قال: كان الصلح قد استقر بين السلطان وصاحب يافا جوان ديكين، فصار نوابه يتعدّون، وسيروا متجرّمة فى زى صيادين إلى قطيا. فاتفق هلاك صاحب يافا وقيام ولده جاك «3» بعده.
ولما كان السلطان على صفد لعمارتها حضر إليه قسطلان «4» يافا وسأله فى هدنة لولد صاحبها. فامتنع السلطان من ذلك. ثم وصلت الأخبار أن أهل يافا يحملون الميرة إلى عكا، وكانت ممنوعة عنها. وأقاموا فى يافا حانة وأوقفوا فيها عدة من المسلمات، واعتمدوا أسبابا ليست فى هدنة.
فلما كان فى سنة ست وستين وستمائة، خرج السلطان من الديار المصرية متوجها إلى الشام، وذلك فى مستهل جمادى الآخره ورحل فى ثالثه فوصل إلى(30/298)
غمزة، وبلغه أن جماعة من الجمالين تعرضوا إلى الزرع فقطع أنوفهم. وبلغه أن علم الدين سنجر الحموى أحد أمرائه، ساق فى زرع فأنزله عن فرسه واعطاه [وأعطى «1» ] سرجه ولجامه لصاحب الزرع. ونزل السلطان على العوجاء فحضر إليه القسطلان وأكابر يافا، فعوقوا إلى أن يخرجوا من الدعاوى. فبذلوا للسلطان تسليم المدينة والقلعة على أن يطلقوا بأموالهم وأولادهم. فأجيبوا إلى ذلك.
وركب السلطان فى العشرين من جمادى الآخرة وساق إليها وما أحسّ أهلها إلا والعساكر قد أطاقت بها. وأخذ الأتابك من حصل معه الحديث منهم وحضر به إلى يافا، فما تفاوضوا فى الحديث إلا والعسكر قد طلعتها من كل جانب، وفتحت أبوابها. ثم زحفوا على القلعة فسلمها أهلها فى اليوم الثانى، ومنع السلطان من نهبها، وطلع إلى القلعة وجهز أهلها إلى مأمنهم، وجرد معهم الأمير بدر الدين بيسرى. وشرع فى هدم القلعة فهدمت، وأخذ من أخشابها وألواح رخام وجدت فيها ما أوسق بها مركبا وسيرها إلى القاهرة. ورسم بعمل ذلك الخشب مقصورة فى الجامع الظاهرى بالحسينية والرخام لمحرابه. ورتب السلطان الخفراء على السواحل وألزمهم بدركها، ورسم أن المال المتحصل من هذه البلاد لا يغمس فى غيره، وجعل مأكوله ومشروبه منه. وملك الأمير علاء الدين منها قرية، والأمير علم الدين سنجر الحموى قرية. ورتب إقامة التركمان بالبلاد الساحلية لحمايتها، وقرر عليها خيلا وعدة، ورسم بتجديد مقام الخليل، عليه الصلاة(30/299)
والسلام، وعمل مكان الخوان ناحية من الحرم «1» .
وهذه يافا فتحها عمرو بن العاص فى خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، ويقال بل فتحها معاوية، ذكره البلاذرى. وذكر عز الدين بن عساكر أن الملك طنكى بناها فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، ونزل عليها السلطان الملك الناصر رحمه الله، فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. فخرج البطرق «2» وجماعة منها وسألوا السلطان على أنهم يسلموها بالأمان ويكونوا أسارى، واستمهلوا فى التسليم إلى الصبح «3» فأمهلهم. فوصل ملك الانكتير فى تلك الليلة إليها ودخل قلعتها، ونقض ما كان تقرر، فرحل السلطان عنها ونزل اللاطون «4» . ثم نزل عليها الملك العادل بعساكر ولد أخيه الملك العزيز صاحب مصر ففتحها فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. هكذا حكاه القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر فى فتحها، وقد تقدم أنها من الفتوح الناصرية «5» .
قال: وما حضر الأنيرور فرديك فى أيام الملك الكامل نزلها وحصن قلعتها وبناها. وما حضر الريدافرنس بعد خلاصه من الأسر فى سنة ثمان وأربعين وستمائة، عمّر مدينتها وأنفق عليها أموالا كثيرة.(30/300)
قال: ولما فرغ السلطان من هدم يافا رحل عنها فى ثامن عشر رجب، ووصل إلى صفد ثم منها إلى الشقيف.
ذكر فتوح شقيف أرنون «1»
كان السلطان قد كتب إلى الأمير جمال الدين النجيبى، نائب السلطنة بالشام، بتجهيز العسكر الشامى إلى أن يحضر بريدى يسير قدامهم. ولما خرج إلى الشام فى هذه السفرة توجه البريدى. وكان السلطان قد قرر مع النجيبى أمارة يمسكها البريدى من يده، فوصل البريدى وأمسك الأمارة من يده. فأحضر الأمراء للوقت ورسم لهم باتباع البريدى، فسار بهم إلى بانياس، فأخرج لهم بريدى آخر كتبا مختومة فى بانياس للأمير علم الدين الحصنى والأمير بدر الدين الأتابكى متضمنة منازلتهم للشقيف، وأنهم لا يجذبون قتالا ولا غيره، فما عرف بهم إلا وقد نازلوا الشقيف. وكان جماعة من الفرنج قد توجهوا من الشقيف إلى عكا وصيدا، فنازله «2» العسكر قبل حضورهم «3» ، وسار بعض العسكر إلى جهة صيدا فأسروا وقتلوا. وجهز هذا العسكر أخشاب المجانيق والستائر. ثم جهز السلطان بعد فتوح يافا الأمير بدر الدين بكتوت من عكا «4» بعسكر مصرى فنزلوا على الشقيف.
وتوجه السلطان فوصل إليه يوم الأربعاء تاسع شهر رجب، فأقام منجنيقين ورمى بهما فى اليوم الثانى من وصوله.(30/301)
واتفق أن الفرنج الذين بالشقيف كانوا سيروا شخصا إلى عكا لما نزل عليها العسكر الشامى يعلمونهم بحالهم ويذكرون لهم عورات الحصن «1» ، فسيروا «2» الجواب.
فلما وصل القاصد وحضر إلى السلطان وأحضر رسالة أخوية أهل عكا إليهم «3» [تتضمن إعلام النواب بالشقيفين أن المسلمين لا يقدرون على أخذ الحصن إن احتفظتم به فجدوا فى أمركم «4» ] . فحصل التحبل فى قراءتها، وعلم منها أسماء المقدمين الذين بالشقيف، فكتبت الأمارات لهم بأسمائهم ورمى بها إلى الحصن بالنشاب. وكتب أحد التراجمة عوض [رسالة] أخوية عكا، وعكس عليهم فيها القضايا. وكان فى الكتاب أن الوزير لا يكون خاطره متغلثا «5» بسبب المصادرة له، ففى ساعة يمكن تعويضه عن ذلك، فعكس ذلك: وقيل للمقدم بالشقيف يحترز من الوزير كليام، ففى قلبه إحنة من مصادرتا له، وأغرى بينهم بهذا القول وما يناسبه. ورميت هذه الكتب فى سهم فحصل «6» الاختلاف بينهم، ووجدوا الأمانات التى كانت كتبت للمقدمين، فأمسكوا جماعة وتوهموا من الوزير.
وكان الفرنج لما تسلموا الشقيف من الملك الصالح إسماعيل، فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، هو وصفد، عمروا إلى جانبه قلعة أخرى، فعجزوا فى هذا(30/302)
الوقت عن حماية جهتين. فلما كان فى ليلة الأربعاء السادس والعشرين من شهر رجب عمدوا إلى هذه القلعة المستجدة وحرقوا جميع ما بها من غلة وقماش وغيره، وانتقلوا إلى القلعة المستقرة، وأصبح المسلمون وتسلموها، وقدمت المجانيق «1» إلى هذه القلعة فى سابع وعشرين الشهر ورمى بها. وأقام السلطان فى سطح برج من أبراجها بالقرب من العدو، فعرف الفرنج موضعه فرموا حجرا قريبا منه فقتل ثلاثة نفر، ولم ينتقل السلطان عن موضعه. وكان باب هذه القلعة تجاه باب القلعة الأخرى، فعمل السلطان سربا طويلا فى أعلى القلعة نازلا إلى أسفلها وصار يتعلق به ويطلع وينزل وهو لابس عدته.
قال واشتد القتال، فبينما الناس فى ذلك وإذا بالوزير كليام قد خرج مستأمنا، ثم سألوا الأمان على نفوسهم وأنهم يؤخذون أسارى، وسألوا إطلاق الحريم والأطفال، فأجاب السلطان إلى ذلك. وفى يوم الأحد سلخ شهر رجب سنة ست وستين وستمائة، استدعوا الصناجق فرفعت على القلعة. وسير الأمير بدر الدين الخزندار فتسلمها «2» ، وخرج الفرنج إلى الخنادق فقيدوا، وأخرج النساء والأطفال. وجرد الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى «3» صحبتهم فأوصلهم إلى جهة صور، وسلم الرجال إلى العساكر «4» .
قال: وهذا الشقيف من أحصن المعاقل وأحسنها وكان مضرة على بلاد الصبيبة. وكان الملك العادل الكبير قد جدده، وما زال فى يد الإسلام إلى أن سلمه الصالح إسماعيل للفرنج على ما قدمناه.(30/303)
قال: ولما قدر الله تعالى فتح الشقيف، انفق [السلطان] فى جميع العساكر وخلع على الملوك الذين فى خدمته، مثل: الملك المنصور صاحب حماة وأخيه، وأولاد صاحب الموصل، والملك الأمجد بن العادل، وغيرهم من أولاد الملوك، وعلى الأمراء والمقدمين، ومن جرت عادتهم بالخلع. وشرع السلطان فى هدم القلعة المستجدة فهدمت إلى الأرض ورتب الأمير صارم الدين قايماز الظافرى «1» نائبا لهذه القلعة، ورتب فيها الأجناد والرجالة، ورتب بها قاضيا وخطيبا «2» ، وأقيمت شعائر الإسلام بهذه القلعة وجميع تلك البلاد، وولى الأمير سيف الدين بلبان الزينى عمارتها، وكان قد خرج منها جماعة من المسلمين حالة الحصار فكتب لهم السلطان فدنا وقفا عليهم.
ذكر توجه السلطان إلى طرابلس «3» وإغارته عليها
كان بيمند صاحب طرابلس قد كثر تعديه على بلاد الإسلام، وأخذ البلاد المجاورة له بعد زوال الأيام الناصرية واستيلاء التتار على الشام، وكان من أكبر أعوان التتار. فلما رحل السلطان من الشقيف نزل قريبا من جسر بانياس، وجهز الأثقال إلى دمشق وجرد الأمير عز الدين إيغان بجماعة توجهوا من جهة، والأمير بدر الدين الأيدمرى بجماعة من جهة أحرى، فحفظت الطرقات(30/304)
وامتلأت بالعساكر، وتوجه إلى طرابلس على جهة جبال الطنيين «1» ، وكان البرنس قد وعّر الطرقات، فوصل السلطان فى نصف شعبان وملك هذه الجبال التى يقول فيها المتنبى:
وجبال لبنان وكيف بقطعها ... وهو الشتاء وصيفهن شتاء
لبس الثلوج بها علّى مسالكى ... فكأنها ببياضها سوداء
وخيم السلطان قريبا من طرابلس واستمر على الركوب إليها، والعساكر تناوش [أهلها] القتال ويرامونهم «2» بالنشاب، وافتتح برجا قد عصى فيه جماعة من الفرنج [و] ضرب رقابهم، وجرد جماعة خربوا الحرث ونهبوا تلك الجبال وأخذوا عدة مغاير بالسيف، وقطعت الأشجار وهدمت الكنائس وقنى المياه والقناة الرومانية، وقسم السلطان الغنائم فى العساكر ورحل عن طرابلس فى العشر الآخر من شعبان من السنة.
ذكر فتوح أنطاكية «3»
لما رحل السلطان عن طرابلس لم يطلع أحدا على الجهة التى يقصدها، فتوجه إلى حمص فى سابع وعشرين شعبان. وأمر ببناء مسجد بحمص، ولما وصل إلى حماة رتب العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، وفرقه مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة صحبة الركاب السلطانى.(30/305)
فتوجه الأمير بدر الدين الخزندار إلى السويدية، وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى الدرب ساك، فقتلوا وأسروا. وتوافوا جميعهم بأنطاكية، ونزل السلطان أفامية، ومنها إلى جسر تحت الشغر وبكاس، وأصبح مغيرا على أنطاكية وذلك فى مستهل شهر رمضان.
وتقدم فى الجاليش «1» الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار، فصادف جماعة من عسكر أنطاكية وأنتشبت الحرب بينهم، فحمل أحد أجناد الأمير شمس الدين أقسنقر وهو فلان الدين المظفرى على كنداسطبل «2» فأسره وأحضره إلى السلطان، فأمّره السلطان وأحسن إليه. وأطافت العساكر بأنطاكية من كل جانب.
وكان النزول عليها بالخيام والثقل، بكرة يوم الجمعة ثالث شهر رمضان «3» سنة ست وستين وستمائة. ولما حضر كنداسطبل إلى السلطان رآه رجلا عاقلا، فسأل أنه يدخل إلى أنطاكية ويتوسط لأهلها، فجرى السلطان على عادته فى الإنذار قبل المهاجة. فسيّر كنداسطبل [من «4» ] أحضر ولده رهينة، ودخل البلد وتحدث، وخرج مع جماعة من القسيسين والرهبان، وأقاموا يترددون ثلاثة أيام فظهر منهم قوة نفس وخوف من صاحبهم البرنس. وفى بكرة السبت أنذرهم بالزحف، وصبر حتى دخل الأقساء والرهبان إلى أنطاكية، ورسم بالزحف. فزحفت العساكر وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالا شديدا. فتسور(30/306)
المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة ونزلوا المدينة، فهرب أهلها إلى القلعة. وشرعت العساكر فى النهب والقتل والأسر، وما رفع السيف عن أحد من الرجال بالمدينة، وكان بها فوق المائة ألف نفر. وأخذ التركمان من الغنائم ما لا يحصى. ثم رسم السلطان بحفظ أبواب المدينة والإحتراز عليها.
وأما القلعة فاجتمع فيها ثمانية آلاف مقاتل غير الحريم والأولاد، فتحاشروا بها فمات عالم. وأما البالى «1» والوزير الوالى فإنهم لما شاهدوا هذا الحال هربوا رجالة فى الليل، تدلوا بالحبال، وأصبح أهل القلعة فما وجدوا أحدا منهم، ولم يكن بالقلعة ماء ولا طواحين تكفيهم. فسيروا يوم الأحد ثانى يوم الفتح يطلبون الأمان من القتل وأنهم يؤخذون أسرى. فللوقت طلع السلطان فصادف جميع من فى القلعة قد خرج إلى ظاهرها وعليهم الملابس الحسنة واستغاثوا للسلطان، فعفا عنهم من القتل، وأحضرت الحبال فربطوا بها، وتسلم كل أمير جماعة من الأسرى، وكذلك كل مقدم، والكتاب ينزلون ذلك، وكتبت كتب البشائر، ومن جملتها كتاب إلى صاحب انطاكية «2» : نسخته بعد البسملة:
«قد علم القومص الجليل [المبجل المعزز الهمام، الأسد الضرغام، بيمند فخر الأمة المسيحية، رئيس الطائفة الصليبية كبير الأمة العيسوية «3» ] بيمند(30/307)
المنتقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية [منه] من البرنسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده. ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له فى عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر، وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من بساط الأرض، ودارت الدوائر على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال، واستخدمت الأولاد، وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار، ولم يترك إلا ما يصلح لأعواد المجانيق [إن شاء الله] والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والمواشى، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب «1» واستخدم الخديم وركب الماشى» .
«هذا وأنت تنظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا:
على هذا الصوت «2» ، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود. وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت ماشية إلا وهى لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهى فى ملكنا جارية، ولا سارية إلا وهى فى أيدى المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير «3» التى هى فى رءوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التى هى فى التخوم مخترفة وللعقول خارقة. وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر.
وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا تبعد عنك، وأن بعدنا فسنعود على الأمر. وها نحن نبلغك بماتم، ونفهمك بالبلاء الذى عم» .(30/308)
«كان رحيلنا عنك [و «1» ] عن طرابلس يوم الأربعاء رابع عشرين شعبان، ونزولنا أنطاكية فى مستهل شهر رمضان. وفى حالة النزول خرجت عساكرك المبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كنداسطبل، فسأل مراجعة أصحابك. فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك وأعيان أعوانك فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك فى إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأن رأيهم فى الخير مختلف، وقولهم فى الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت رددناهم وقلنا: «نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول فى الإنذار والآخر» فرجعوا متشبهين بفعلك ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففى بعض ساعة مر شأن المرشان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان» .
«وفتحناها بالسيف فى الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من أخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شىء من الدنيا، فما بقى أحد منا إلا وعنده شىء منهم ومنها. فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنهاية فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهى توزن «2» بالقنطار، وداماتك «3» وكل أربع منهن تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسرت(30/309)
ونشرت، وصحفها من الأناجيل المزورة قد نثرت «1» ، وقبور البطارقة قد بعثرت.
ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس والمدبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء الملوك وقد دخلوا فى المملكة. ولو شاهدت النيران وهى فى قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان قد زلّت كل منها وزالت، لكنت تقول: «يا ليتنى كنت ترابا، ويا ليتنى لم أوت بهذا الخبر كتابا» ، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفى تلك النيران بماء عبرتك. ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك «2» وقد أخذت فى السويدية «3» بمراكبك، فصارت سوانيك من من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذى أنطاك «4» أنطاكية منك استرجعها، والرب الذى أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض أقتلعها. ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام وهو: دير كوش، وشقيف تلميس، وشقيف كفردنين، وجميع ما كان من بلاد أنطاكية، [و] «5» استنزلنا أصحابك من الصياصى وأخذناهم بالنواصى، وفرقناهم فى الدانى والقاصى، ولم يبق شىء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما سمى بالعاصى، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فهو أجراها بما سفكناه فيه دما» .(30/310)
«وكتابنا هذا يتضمن البشرى لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر، بكونك لم تكن لك فى أنطاكية فى هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت بها فتكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا، وإما كسيرا. وسلامة النفس هى التى يفرح بها الحى، إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات. ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحق الأمر على ما جرى. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغى لك أن تكذب لنا خيرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخيرا «1» .»
قال: ولما وصل إليه هذا الكتاب اشتد غضبه، ولم يبلغه خبر أنطاكية إلا من هذا الكتاب.
ولما تسلم السلطان القلعة سلمها للأمير بدر الدين [بيليك] الخزندار والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. وأما كنداسطبل فإن السلطان أطلقه وأطلق أهله وأقاربه، فاختار التوجه إلى سيس، ففسح له فى ذلك.
ذكر ملخص أخبار أنطاكية
ذهب المفسرون لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ «2»
أن القرية أنطاكية.(30/311)
وقال أصحاب لأخبار فيها: إن الملك انتيوخس قصد بناء مدينة يعمرها لتكون نسبتها إليه، فسير حكماه ووزراه «1» لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر والجبل، فوجدوا هذا المكان. فاختاروه لأنه جبلى بحرى «2» يحكم عليه الهواه الغربى، وعيون الماه العذبة حوله، والبحيرة الحلوة شرقية، والبحر المقلوب، وهو العاصى، خارج سورها وعليه طواحينها، وفيه المراكب تحمل الغلات إليها وغير ذلك. فعرفوا ملكهم هذه الصفات، فأمر ببنائها، وأخرج النفقات، وطلبوا حجرا جيدا لبنائها، فوجدوه فى مسافة يومين منها.
فاستخدم لها من الرجال والبنائين ثمانين ألف رجل وثمانمائة رجل، ومن العجل ستمائة عجلة، وألف وتسعمائة حمار، ومائة زورق لنقل الحجارة، خارجا عما فى ميناء السويدية من العجل والرجال والزوارق التى تحمل الرخام والعمد والقواعد.
فنجزت فى ثلاث سنين ونصف، وبنيب أسوارها وأبراجها وهى مائة وثلاثة وخمسون برجا، ومائة وثلاثة وخمسون بدنة، وسبعة أبواب، منها خمسة كبار وبابان صغارا «3» . وجعل فيها سبع عوادى ترمى إلى النهر عند الوادى المسمى الحسكروت، وجعل منه باب «4» فى الجيل ينزل منه إلى المدينة، وعليه قناطر يعبر الناس «5» عليه، وإذا امتلأ يخرج من تحت السور، وساقوا الماء إليها «6» فى قناتين: البوليط «7» والعاوية «8» .(30/312)
ولما فرغت حضر الملك إليها ورآها، فأكرم الصناع ومدّ لهم طعاما ثلاثة أيام، وأمر ببناء الأدر والدكاكين، فشرع الناس فى بنائها، ووهب كل من يحضر إليها وينزل حولها خراج ثلاث سنين، وبنى الكنائس وبيوت عباداتهم فاجتمع العالم إليها.
واتفق أن الملك جلس فى بعض الأيام وهو مسرور فرح، فقال له وزيره: «لو عرفت ما أنفقت فى هذه المدينة ما كنت تفرح» فاستيقظ لنفسه، وأمر بعمل حساب ما أنفق فيها سوى الضيافات والجواميس التى أخذت من المروج والبهائم بغير ثمن، فجاءت أربعة آلاف قنطار وخمسين قنطارا ذهبا، فعظم ذلك عنده، وأمسك عن العمارة، وشرع فى بناء مدائن تغل، فبنى سبع مدائن، وأسكن الناس فيها. واستمرت فى يد الملك، ومن ملك بعده، وعمارتها تتزايد، وكل ملك يؤثر بها تأثيرا، ويجدد بها طلسما إلى أن ظهر المسيح عليه السلام.
وما زالت فى يد الروم إلى أن فتحها المسلمون فى خلافة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كما قدمناه فى خلافته. ولما ولى معاوية بن أبى سفيان نقل إلى أنطاكية فى سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص، وكان منهم: مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن مسلم الأنطاكى. ولم تزل بيد عمال الخلفاء فى الدولتين الأموية والعباسية، ثم استقرت فى يد بنى حمدان. فلما مات سيف الدولة ابن حمدان اتفق أهلها أنهم لا يمكنون أحدا من الحمدانية يدخلها، وولوا شخصا يسمى بغلوش الكردى، وكان قد ورد الغزاة من خراسان خمسة آلاف رجل فأمسكهم وتقوى بهم واشتد أمره، وكان منهم رجل أسود(30/313)
من الصعاليك يعرف بالزعلى «1» قد جمع طائفة وسموا نفوسهم بالغزاة. فدخل يوما عليه للسلام، فقتل الكردى وهرب أصحابه، واستولى الأسود على المدينة هو ومن معه. وكان فى بغراش نائب للروم اسمه ميخائيل البرجى وبطرس. فحضرا إليها فى جمع كبير، فعجز المسلمون عن حفظها لا تساعها، فملكها الروم فى يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذى الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. فطرح المسلمون النار بينهم وبين الروم، وفتحوا باب البحر وخرجوا منه. وأسر الروم جميع من كان بها من المسلمين، فقوى الروم بفتحها، وتوجهوا إلى حلب فصالحهم أهلها وأهل حمص على مال يحمل فى كل سنة إلى ملك الروم وهو عشرة قناطير ذهبا، ومن كل مسلم دينار سوى ذوى العاهات، وأقامت إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فسير جعفر بن فلاح غلامه «فتوحا» إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر فلم يظفر بها. وحدثت فى هذه السنة زلزلة عظيمة هدمت قطعة من سورها فأنفذ ملك الروم ثانيا، اثنى عشر ألف دينارا وصناعا «2» لإصلاح ذلك، فبنيت أحسن ما كانت. وبنى قلعتها لاون بن الفقاس وحصنها، وكان فى خدمته جماعة من الأرمن، ومات فكمل عمارتها الملك بسيل «3» وهو الذى وجد له لما مات ستة آلاف قنطار ذهبا، ولما ولى كان فى حاصل بيت المال أربعة قناطير لا غير، وهو الذى ملك أرجيش من بلاد أرمينية فى سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان ملكه تسعا وأربعين سنة وأحد عشر شهرا. وبقيت فى أيدى الروم إلى أن فتحها الملك سليمان بن قتلمش السلجقى فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة على ما أوردناه فى(30/314)
أخبار الدولة السلجقية، وبقيت فى يده إلى أن قتل فى سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فصارت بيد وزيره الحسن بن طاهر الشهرستانى يتولى أمرها. فلما استرد السلطان ملكشاه بلاد الشام استردها وضمها إلى الوزير المذكور، فأقام بها إلى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ثم فارقها [الوزير] ودخل الروم، فسلمها لباغى شيان بن ألب [أرسلان] وكانت بنته منزوجة للملك رضوان صاحب حلب.
وحدثت زلزلة بأنطاكية فى التاسع عشر من شعبان سنة أربع وثمانين وأربعمائة خربت دورها وأهلكت خلقا كثيرا، ورمت من أبراجها نحو السبعين برجا، فتقدم السلطان بعمارة ما انهدم فى سنة خمس وثمانين.
واستمرت أنطاكية بيد ملوك الإسلام إلى أن ملكها الفرنج فى جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة على ما قدمناه. وكان قد اجتمع عليها جماعة من ملوك الفرنج والملك الكبير المشار إليه منهم اسمه كندفرى، فقرر أن كل ملك من الملوك يحاصرها عشرة أيام، ومن فتحت فى نوبته فهى له، ففتحت فى نوبة ملك منهم اسمه ميمون «1» . فلما اتصل ذلك بملوك الإسلام بالشام اجتمعوا ومقدميهم ظهير الدين طغرتكين صاحب دمشق، وجناح الدولة حسن صاحب حمص، وكربغا صاحب الموصل، وحاصروا أنطاكية، وكان الفرنج فى قل، فسألوا الأمان ليخرجوا منها فلم يجيبوهم، ووقع تنافس بين المسلمين فخرج الفرنج إليهم فانهزموا من غير قتال. وبقى ميمون مالكها حتى كسره الدانشمند وأسره وقتل أكثر عسكره، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فاشترى نفسه بعد ذلك بمائة ألف دينار، واستخلف ميمون فيها ولد أخيه طنكرى،(30/315)
وركب فى البحر وسار إلى بلاده ليستنجد الفرنج ويعود، فأهلكه الله تعالى.
واستمر طنكرى مالكا لأنطاكية وأعمالها إلى أن أهلكه الله تعالى فى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة، وملكها بعده روجار. وكان طنكى «1» قد استدعاه من بلده وجعله ولى عهده، وهو الذى حضر الى بيت المقدس فى ملك بغدوين، وكان بغدوين شيخا كبيرا، فاجتمعا بالبيت المقدس وقررا عهدا:
أن من مات منهم قبل الآخر انتقل ملكه إلى الباقى منهما. وتزوج روجار بنت بغدوين، فقتل روجار فى حرب كانت بينه وبين نجم الدين إيلغازى بن أرتق فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. فقتل روجار «2» وجميع من معه، فسار بغدوين إلى أنطاكية وملكها، وأقام بها إلى أن وصل شاب، فى ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة، من الفرنج فى البحر وادّعى أنه ميمون بن ميمون الذى كان صاحب أنطاكية، فسلم بغدوين أنطاكيه له فملكها. وكان شجاعا مقداما، وأقام بها إلى أن سار نحو الدروب فلقيه ابن الدانشمند فكسره وقتل جماعة من عسكره بأرض عين زرية، وذلك فى نصف شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. وملك بعده الأبرنس، ولقى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى على حصن الأكراد فى شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فكسر المسلمون وقتل جماعة منهم، واستولى الفرنج على أثقالهم. فجمع نور الدين العساكر، والتقاه فى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وخمسمائة فقتله وقتل فرسانه واستولى على خيامه.
وولى أنطاكية بعده الأبرنس أرناط، فأقام إلى أن لقيه مجد الدين أبو بكر نائب(30/316)
الملك العادل فى المملكة الحلبية، وذلك فى صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فكسره وقتل أصحابه وأخذه أسيرا، فأقام فى حبس الملك العادل. وملك أنطاكية وهو فى الأسر رجل من ذريته اسمه بيمند «1» وخلص أرناد «2» ، وتزوج صاحبة الكرك وأقام بالحصن حتى ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وقتله.
وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة عقد السلطان الملك الناصر الكبير مع بيمند صاحب أنطاكية هدنة لمدة ثمانية أشهر من تشرين الأول إلى آخر آيار، وحلفا على ذلك، ورحل الناصر عنها وتوجه إلى حلب على ما ذكرناه فى أخباره. ثم ملكها الأبرنس المعروف بالأسير، وملكها ابنه من بعده، ثم ملكها بيمند ولده أيضا، وهو الذى أخذت منه الآن فى الدولة الظاهرية.
هذا تلخيص خبر أنطاكية من حين عمرت إلى حين فتحت هذا الفتح.
ذكر ما اعتمده السلطان فى قسمة عنائم أنطاكية وإحراقه قلعتها وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: ديركوش وشقيف كفردنين وشقيف كفر تلميس «3»
قال: ولما فتحت أنطاكية وفرغ الناس من نهبها، رسم السلطان بإحضار المكاسب للقسمة، وركب وأبعد عن الخيام، وحمل ما غنمه وما غنمه مماليكه(30/317)
وخواصه. وقال للأمراء: «ينبغى أن تخلصوا ذمتكم وتحضروا «1» ما غنمتموه، وأنا أحلّف الأمراء والمقدمين، وهم يحلفون أجنادهم ومضافيهم» . فأحضر الناس الأموال والمصاغ من الذهب والفضة، فطال الوزن، فقسمت النقود بالكاسات والشربوشات «2» ، ولم يبق غلام إلا أخذ. وتقاسم الناس النسوان والبنات والأطفال، وبيع الصغير بأثنى عشر درهما، والجارية بخمسة دراهم. وباشر السلطان القسمة بنفسه، وما ترك شيئا حتى قسمه من الأموال والقماش والمصوغ والدواب والمواشى. ثم ركب إلى قلعة انطاكية وأحرقها وعم الحريق أنطاكية.
وكان صاحب طرابلس قد استولى عند أخذ التتار حلب على ديركوش، وهو من أمنع الحصون، وعلى شقيف كفردنين وعلى شقيف «3» كفر تلميس، وكانت هذه الحصون شجى فى حلق المسلمين. فلما فتحت أنطاكية انقطعت حيلة هذه الحصون فطلبوا الأمان، على أنهم يسلمون الحصون ويؤسرون، فسير الأمير بدر الدين بيليك الأشرفى الظاهرى، فتسلم ديركوش فى ليلة الجمعة حادى عشر شهر رمضان، وتسلم بقية هذه الحصون.(30/318)
ذكر صلح القصير على المناصفة «1»
كان القصير للبطرك الكبير خاصة، وزعموا أن بأيديهم خط عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما نزل السلطان فى هذه الجهات بذلوا نصف البلاد للسلطان، فكتبت لهم هدنة، وأنضاف إلى مملكة الإسلام نصف بلاد القصير.
ذكر فتوح حصن بغراس «2» من الديوية
قال: ولما فتح الله تعالى هذه الحصون والجهات على السلطان ولم يبق بتلك الجهات سوى بغراس، خاف من بها من الديوية، فانهزموا وتركوه. فجهز السلطان الأمير شمس الدين أقسنقر [الفارقانى] أستاد الدار العالية بعسكر فتسلمه فى يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان من السنة، ولم يجد به سوى امرأة عجوز، ووجده عامرا بالحواصل والذخائر.
وقال البلاذرى: كانت أرض بغراس لمسلمة بن عبد الملك فوقفها فى سهيل البر، ولمّا قصد المسلمون غزاة عمورية صحبة مسلمة، حمل هو والعسكر النساء معهم للجد فى القتال. فلما صاروا فى عقبة بغراس عند الطريق المستدقة التى تشرف على الوادى سقط جمل عليه امرأة، فأمر مسلمة النساء أن يمشين، فسميت تلك العقبة عقبة النساء. قال: وكان فى تلك الطريق سباع لا يسلك فيها بسببها، فشكا الناس ذلك إلى الوليد بن عبد الملك فبعث أربعة آلاف جاموسة وفحولها، فانكفأت السباع. ثم بناها بعد ذلك وحصنها أتم تحصين(30/319)
الملك فقفور ملك الروم الذى خرج إلى بلاد الإسلام فى آخر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وقتل وسبى. ولما بنى هذا الحصن، الذى هو حصن بغراس. رتّب فيه نائبا له يعرف بالبرجى، ورتب معه ألف رجل، وحصن بغراس. ثم ملكه «1» الفرنج وما زالوا يتداولونه ويحصنونه على طول المدد، إلى أن ملكه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، فى ثانى شعبان سنة أربع وثمانين وخمسمائة، على ما قدمناه، ثم ملكه الديوية بعد ذلك.
ذكر الإغارة على صور
كانت قد تقررت مهادنة بين السلطان وبين صاحب صور، فلما توجهت الرسل إليه حلف على بعضها «2» ، وأسقط فصولا لم يحلف عليها. فلما كان السلطان بالشام، فى سنة سبع وستين وستمائة، ووقفت له امرأة ذكرت أنها كانت أسيرة فى صور، وأنها اشترت نفسها ثم قطعت على بنت لها قطيعة، وحصلت من أوقاف دمشق مبلغا اشترتها به من صور بمكاتبة عليها خط الفرنج، ولما خرجت بها إلى قرب بلاد صفد سير خلفها جماعة من صور أخذوا البنت منها ونصّروها.
فلما سمع السلطان كلامها غضب لله تعالى، وكتب يطلب هذه البنت، فاعتذروا بأنها تنصرت. وكان بالنواقير من جهة صفد جماعة [من المسلمين «3» ] سيّر صاحب صور أمسكهم وقتل منهم نفرين واعتقل الباقين. وطلبهم السلطان(30/320)
فأصروا على منعهم، فركب السلطان فى العشرين من شهر رمضان، وساق بنفسه ومن معه من العسكر الخفيف، وتوجه الأمير جمال الدين المحمدى من جهة، والأتابك من جهة، ووصلوا إلى صور، فأمسكوا جماعة من الرجال والنساء والصغار، وهرب فى ذلك الوقت مملوك للأمير جمال الدين أقش الرومى فنصّره صاحب صور لوقته. وطلب منه فدافع عنه، وأمسك السلطان عن إتلاف زرعه ورد الحريم والأطفال ورجع إلى المخيم وأمهل عليه مدة، فلما استمر على منع البنت والمملوك، جرد السلطان جماعة لاستغلال بلاده «1» .
ذكر الإغارة على بلاد كركر «2» وأخذ قلعة شرموشاك
وفى هذه السنة توجهت الغّيارة من البيرة وغيرها إلى جهة كركر فأحرقوا بلدها وأخذوا مواشى، وتوجهوا إلى قلعة بين كركر والكختا «3» اسمها شرموشاك، فزحفوا عليها وأخذوها وقتلوا رجالها ونهبوا من المواشى شيئا كثيرا، وأخرجوا من الفلاحين إلى البلاد السلطانية خلقا كثيرا، وأخذ الخمس من الغنيمة للديوان ورسم بترتيب الناجعين فى البلاد الحمصية والشيزرية وجهات أنطاكية.
ذكر الإغارة على عكا
وفى سنة ثمان وستين وستمائة، توجه السلطان جريدة إلى الشام، وكان الفرنج بعكا اعتمدوا أشياء لا يصبر عليها: منها أن أربعة من مماليك السلطان(30/321)
هربوا ودخلوا عكا، فلما طلبهم منهم طلبوا العوض عنهم، فأنكر السلطان ذلك عليهم، فنصّروهم، وذلك فى سنة سبع وستين. فكتب السلطان إلى النواب بوقوع الفسخ، فأغار عليهم الأمير جمال الدين أقش الشمسى فقتل وأسر منهم جماعة. واتفقت حركة للسلطان إلى الحجاز فأطلق الذين أسروا، وعوق «1» رسل الفرنج على إحضار المماليك، وأطلق منهم وزير الإستبار خاصة، لأنه كان يخدم السلطان. فلما كان فى هذه السنة بلغ السلطان أن الفرنج وصل إليهم سفائن من جهة الريدراكون «2» ، أحد ملوك الغرب، فيها جماعة من أصحابه وأقار به وكتبه، يقول فيها: أنه واعد أبغا بن هولاكو أنه يوافيه بالبلاد الإسلامية، وأنه «3» واصل لمواعدته [من جهة سيس فى سفن كثيرة] ، «4» فأرسل الله تعالى ريحا مزعجة كسرت عدة من سفائنه ولم يسمع لهم خبر. وأما أهل عكا فانهم خرجوا هم ومن وصل إليهم من الغرب إلى ظاهر عكا، وخيموا وصاروا يركبون [وتوجهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد «5» ] ، وبلغهم أن السلطان وصل جريدة فتوهموا أنه لا يقصدهم. واتفق أن السلطان خرج متصيدا إلى جهة الحارسة، وعاد مسرعا وتوجه على أنه يتصيد فى مرج برغوث «6» . ولما وصل فى أثناء الطريق إلى برج الفلوس «7» سير الأمير عز الدين معن الظاهرى السلاح دار لإحضار السلاح(30/322)
وسير الأمير ركن الدين إياجى لإحضار العسكر الشامى كله، فتكامل الناس عنده فى مرج برغوث، فى بكرة نهار الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع، وركب وساق فوصل جسر يعقوب عشية النهار، وساق فأصبح الصبح وهو بأول المرج.
وكان قد سير إلى الأمير جمال الدين الشمسى مقدم عسكر عين جالوت، والأمير علاء الدين أيدغدى مقدم عسكر صفد بالإغارة فى ثانى وعشرينه، وأنهم ينهزمون قدام الفرنج. فخرج جماعة من الفرنج مقدمهم كندلوفير «1» المسمى زيتون، وفيهم أقارب الريدراكون وغيرهم، ودخل السلطان الكمين. فعند ما خرج الفرنج لقتال العسكر الصفدى تقدم الأمير عز الدين إيغان الركنى، وبعده الأمير جمال الدين الحاجبى، ومعهما أمراء الشام. وساق قدام السلطان الأمير شمس الدين أيتمش السعدى، والأمير علاء الدين كتدغدى الظاهرى أمير مجلس ومعهما مقدموا الحلقة. وقاتل الأمراء الشاميون أحسن قتال، وأمسك الأمير عز الدين إيغان فارسا اسمه ريمون «2» دكوك. وأما السلطان ومن كان قدامه من الأمراء، فما وصلوا إلى الأمراء المتقدمين إلا والعدو قد انكسر فلم يحصل لهم اختلاط.
وكان القتال شديدا تماسكوا فيه بالأيدى، وأكمن زيتون فجال العسكر بينهم وأخذوا عليه وعلى أكابر الفرنج حلقة وقتل أخو زيتون، وابن أخت الريدراكون، وجماعة من الخيالة، ونائب فرنسيس «3» بعكا، ولم يعدم من عسكر الإسلام إلا الأمير فخر الدين الطونبا الفائزى. وعاد السلطان ورءوس القتلى بين يديه إلى صفد، وتوجه منها إلى دمشق، فدخلها فى يوم الأحد سادس وعشرين الشهر، والأسرى والرءوس بين يديه.(30/323)
ذكر فتوح قلعة صافيتا «1»
وفى سنة تسع وستين وستمائة، توجه السلطان من الديار المصرية فى عاشر جمادى الآخرة وصحبته ولده الملك السعيد، ودخل الملك السعيد إلى دمشق فى ثامن شهر رجب، وخرج هو والأمير بدر الدين الخزندار من جهة القطيفة. وكان السلطان قد توجه من جهة بعلبك وتوجه إلى طرابلس، فقتل من رعاياها وأسر، واتصلت الغارة بصافيتا، فطلب من فيها الأمان، ثم نكثوا، فرحل عنهم السلطان وأنزل جماعة حولهم. فسير كمندور «2» أنطرطوس إلى السلطان يشفع فى الإخوة الديوية بصافيتا، على أنه يأمرهم بالتسليم. فأجابهم السلطان إلى ذلك، فأرسل إليهم فنزلوا، وكانوا سبعمائة رجل، خارجا عن النساء والأطفال، وأحضروا إلى السلطان وهو على حصن الأكراد، فأطلقهم وجهز معهم من أوصلهم إلى مأمنهم، وتسلم السلطان صافيتا وبلادها، وتسلمت الحصون والأبراج المجاورة لحصن الأكراد، مثل تل خليفة وغيره.
وقد ذكرنا ما كان قد وقع من المهادنة على حصن الأكراد والمرقب، ثم اتفق من بيت الإسبتار أمور «3» أوجبت فسخ الهدنة: منها أن السلطان لما أغار على طرابلس فى سنة ست وستين وستمائة، وكتب إلى النائب بحمص بأن يقيم بحدود حصن الأكراد لدفع الضرر عن بلاد الهدنة، وكتب إلى عدة جهات بالوصية بهم، وحضر رسول حصن الأكراد يسأل الوصية، فأعطاهم علما برنكه.(30/324)
ولما عبرت الأثقال من جهة القصب، عبر أحد الحرافشة ومعه رفقة له على بستان بقرب تل خليفة المجاور للحصن «1» فأخذوا منه شيئا لا قيمة له، فأخذهم المقدم [الفرنجى «2» ] بتل خليفة وضرب رقاب بعضهم وأسر البعض. فنزل النائب بحمص على تل خليفة وطلب الخصوم. فامتنع النائب بها عن تسليمهم وقال:
«أنا قتلت» ، وأساء فى القول. فحاصرهم [نائب حمص] وسير إليهم شجاع الدين عنبر «3» ، فاحتال الى أن استنزل الخصوم، وسيروا الى السلطان. فحضرت رسل من حصن الأكراد تطلبهم، فأجابهم السلطان إنه لا بد من تحقيق هذه الواقعة؛ فقوت نفوس الذين فى الحصن. وغّلق النائب [الفرنجى «4» ] باب الحصن ومنع الميرة، وألبس جماعة العدد.
ولما رجع السلطان من طرابلس عند توجهه إلى أنطاكية ومرّ تحت الحصن متوجها إلى حمص، فسيّر يقول: «ما كان ينبغى لكم تعبرون من ههنا إلا بأمرى» . وقيل لهم: «لأى معنى غلقتم الأبواب ولبستم العدد، وأنتم صلح؟» . فقال: «ما غلقناها إلا شفقة على عسكر السلطان من الفرنج الغرب الذين عندنا، لأنهم لا يخافون الموت» . فعّز ذلك على السلطان لأن الغرب الذين عنده عدتهم دون المائة نفر. وكان هذا الأمر مقدمة انحراف السلطان عليهم. وبقى ذلك فى خاطره. فلما توجه إلى الشام جريدة فى سنة ثمان وستين وتوجه إلى حماة ثم رحل عنها فى ثالث جمادى الآخرة توجه إلى حصن الأكراد(30/325)
بمقدار مائتى فارس بغير عدة، وصعد جبل الحصن فى أربعين فارسا، فخرج له جماعة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وكسرهم، وقتل منهم جماعة ووصل إلى الخندق، وقال- وهو متنكر لا يعرف من هو-: «قولوا لذلك الرسول الذى حضر سنة طرابلس يخلّى الفرنج الغرب يخرجوا، فما نحن أكثر من أربعين فارسا بأقبية بيض» «1» . وعاد إلى مخيمه، ورعت الخيول المروج والزروع، فكان ذلك أحد أسباب الإستيلاء على الحصن لأنه ليس له مادة إلا من زرع بلده.
فلما توجه السلطان، فى سنة تسع وتسعين وستمائة إلى الشام، وأغار على طرابلس كما قدمنا نازل حصن الأكراد، فى تاسع شهر رجب من السنة وملك أرباض الحصن فى العشرين منه، وحضر الملك المنصور صاحب حماة، فتلقاه السلطان وترجل لترجله، وساق السلطان تحت صناجق صاحب حماة بغير جمدارية ولا سلاح دارية أدبا معه، وسير إليه دهليزا أمره بنصبه. ووصل الأمير سيف الدين صاحب صهيون، والصاحب نجم الدين صاحب الدعوة. وفى أواخر شهر رجب، تكمل نصب عدة مجانيق، وفى سابع شعبان، أخذت الباشورة بالسيف، وفى سادس عشر الشهر، تشقق برج من أبارج القلعة، وزحف العسكر وطلع الناس إلى القلعة وتسلموها، وطلع الفرنج القلعة «2» [الأخرى] وأحضرت جماعة من الفرنج والنصارى، فأطلقهم السلطان، ونقلت المجانيق إلى القلعة ونصبت على القلة. وكتب السلطان كتابا على لسان مقدم الفرنج(30/326)
بطرابلس إلى من بالقلعة يأمرهم بالتسليم. ثم طلبوا الأمان، فكتب لهم أمان على أنهم يتوجهون إلى بلادهم. وفى يوم الثلاثاء رابع عشرين شعبان، خرج الفرنج من القلعة وجهزوا إلى بلادهم، وتسلم السلطان الحصن. ورتب الأمير صارم الدين الكافرى «1» نائبا بحصن الأكراد، وفوض أمر عمارة الحصن إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم وعز الدين أيبك الشيخ.
وهذا الحصن كان قديما بيد المسلمين، فلما نازل صنجيل طرابلس كان يشن الغارات على هذا الحصن وما قاربه من الحصون، ثم قصده فى سنة ست وتسعين وأربعمائة وحاصره وضيق على من به وأشرف على أخذه، فاتفق قتل جناح الدولة صاحب حمص فطمع فيها ورحل عنه. وهلك صنجيل وملك ابنه، فجرى على عادة أبيه فى أذية أهل هذا الحصن وإفساد أعماله، ثم فارقه وتوجه لحصار بيروت. فجاء طنكلى «2» صاحب أنطاكية ونازله، وأهله فى غاية الضعف، فسلمه صاحبه إليه، وكان يرجو أنه؟؟؟ فيه لأنه اختاره على صنجيل فأنزله وأهله منه، وأخذه صحبته، ورتب فيه من يحفظه من الفرنج؛ وحكى ذلك ابن عساكر.
وذكر ابن منقذ فى كتاب البلدان أن: نور الدين محمود بن زنكى، رحمه الله تعالى، كان قد عامل بعض رجالة التركمان المستخدمين من جهة الفرنج بهذا الحصن، على أنه إذا قصده نور الدين يثور هو وجماعة من أصحابه فى الحصن ويرفعون علم نور الدين على الحصن وينادون باسمه.
وكان هذا التركمانى له أولاد وإخوة قد وثق بهم الفرنج، وكان الإتفاق(30/327)
بينه وبين نور الدين أن يقف على رأس الباشورة، فكتم نور الدين هذا الأمر عن أصحابه وتقدم أوائل العسكر النورى فرأوا التركمانى على الباشورة فرموه بالنشاب فمات، واشتغل أهله بوفاته، فلم يتم لنور الدين ما دبره. ولم يفتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين. وكان فتحه على يد السلطان الملك الظاهر الآن.
ذكر صلح أنطرطوس والمرقب «1»
قال: وسأل كمندور «2» أنطرطوس ومقدم بيت الإسبتار السلطان على الصلح، فأجابهم على أنطرطوس خاصة، خارجا عن صفيتا وبلادها، وعلى المرقب.
واسترجع منهم بلدة وأعمالها وما أخذوه فى الأيام الناصرية، وعلى أن جميع ما لهم من المناصفات والحقوق على بلاد الإسلام يتركونه. وعلى أن تكون بلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين بيت الإسبتار، وعلى أن لا تجدد عمارة بالمرقب، وحلف لهم السلطان على ذلك، وتوجه لتحليف المقدم المذكور بأنطرطوس الأمير فخر الدين المقرى الحاجب، وأخلى الفرنج برج قرميص «3» ، وأحرقوا مالا أمكنهم حمله من موجودهم، وتسلم البرج المذكور فى هذه الأيام، وكذلك البرج الذى فى بلدة هدم الفرنج بعضه وحرقوه، ورسم السلطان بهدم باقيه «4» .(30/328)
ذكر فتوح حصن عكّار «1»
قال: ولما رتب السلطان أمور حصن الأكراد توجه إلى حصن عكار ونازله، فى يوم الأربعاء سابع عشر رمضان، ورتب طلوع المجانيق، وركب بنفسه على الأخشاب فوق العجل فى تلك الجبال إلى أن أوصلها إلى مكان نصبت به، وشرع فى نصب المجانيق الكبار فى العشرين من الشهر. وفى هذا اليوم، استشهد الأمير ركن الدين منكورس الدوادارى، وكان يصلى فى خيمته فجاء حجر منجنيق فمات، رحمه الله تعالى. وفى التاسع والعشرين من الشهر، طلب أهل الحصن الأمان ورفعت الصناجق السلطانية على أبراجه، وفى يوم الثلاثاء سلخ الشهر، خرج أهل حصن عكار منه، وجهزوا إلى مأمنهم، وعيّد السلطان بالحصن» ورحل إلى مخيمه بالمرج.
وهذا الحصن يعرف بابن عكّار، وكان بيد المسلمين، فلما ملك الفرنج طرابلس وغيرها ترددت الرسائل بينهم وبين طغتكين وهو بحمص، فوقع الأتفاق على أن يكون للفرنج ثلث بلاد البقاع وتسلمون حصن المنيطرة «2» وحصن عكار، وألا يتعرضوا إلى البلاد بغارة. وتقرر معهم أن مصياف وحصن الوادى وحصن الطوبان وحصن الأكراد فى الصلح، ويحمل إلى الفرنج مال عنها. فلما تسلم الفرنج الحصنين عادوا إلى ما كانوا عليه من الغارات، وصار هذا الحصن لما تسلمه الفرنج من أضر شىء على المسلمين المارين من حمص إلى بعلبك، ولم يكن(30/329)
له كبير ذكر فيما مضى، إلى أن وصل ريدافرنس «1» إلى الساحل بعد فكاكه من الأسر بمصر فرأه حصنا صغيرا، فأشار على صاحبه الأبرنس أن يزيد فيه وهو يساعده فى عمارته، فزاد فيه زيادة كثيرة من جهة الجنوب. وهو فى واد بين جبال محيطة به من أربع جهاته.
ولما فتحه السلطان الملك الظاهر كتب إلى صاحب طرابلس ما مثاله بعد البسملة «2» :
«قد علم القومص يمند- جعله الله ممن ينظر لنفسه ويفكر فى عاقبة يومه من أمسه- نزولنا بعد حصن الأكراد على حصن عكار، وكيف نقلنا المنجنيقات إليها فى جبال تستصعبها الطيور لأختيار الأوكار، وكيف صبرنا فى جرها على مناكدة الأوحال ومكابدة الأمطار، وكيف نصبنا المنجنيقات على أمكنة يزلق عليها النمل إذا مشى، وكيف هبطنا تلك الأودية التى لو أن الشمس من الغيوم ترى بها ما كان غير جيالها رشا، وكيف صارت رجالك الذين ما قصرت فى انتخابهم، وحسنت بهم استعانة نائبك الذى انتحى بهم «3» » .
وكتابنا هذا يبشرك بأن علمنا الأصفر نصب مكان علمك الأحمر، وأن صوت الناقوس صار عوضه الله أكبر، ومن بقى من رجالك أطلقوا ولكن جرحى القلوب والجوارح، وسلموا ولكن من ندب السيوف إلى بكاء النوايح، وأطلقناهم ليحدثوا القومص بما جرى، ويحذروا أهل طرابلس من أنهم يغترون بحديثك المفترى، وليروهم الجراح التى أريناهم بها نفادا، ولينذروهم لقاء يومهم هذا،(30/330)
ويفهموكم أنه ما بقى من حياتكم إلا القليل، وأنهم ما تركونا إلا على رحيل، فتعرّف كنائسك وأسوارك أن المنجنيقات تسلّم عليها إلى حين الإجتماع عن قريب، ونعلّم أجساد فرسانك أن السيوف تقول إنها عن الضيافة لا تغيب، لأن أهل عكار ما سدّوا لها جوعا، ولا قضت من ريها بدمائهم الوطر، وما أطلقوا إلا لما عاقب شرب دمائهم. وكيف لا، وثلاثة أرباع عكار عكر. يعلم القومص هذه الجملة المسرودة «1» ويعمل بها، وإلا فيجهز مراكبه ومراكب أصحابه، وإلا فقد جهزنا قيودهم وقيوده.
وقال المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر:
يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الإرادة
إن عكار يقينا ... هى عكا وزيادة
ذكر صلح طرابلس «2»
قال: ولما استقر أمر حصن عكار رحل السلطان من منزلته بالأرزونية هو وجميع العساكر والأثقال، وساق على عزم حصار طرابلس، فوردت الأخبار أن ملك الإنكتار وصل «3» إلى عكا، فى أواخر شهر رمضان من هذه السنة، وصحبته ثلاثمائة فرس، وثمانى بطس وشوانى ومراكب تكملة ثلاثين مركبا، غير ما كان سبقه صحبة استاد داره، وأنه يقصد الحج. ففتر عزم السلطان ونزل(30/331)
قريبا من طرابلس جريدة. وتردد الأتابك إلى جهة طرابلس، والأمير سيف الدين الدوادار واجتمعا بصاحبها. وأراد السلطان قطع ما بقى من الأشجار، فسير البرنس يطلب الصلح وخرج وزراؤه، وكتبت الهدنة لمدة عشر سنين.
وجهز السلطان فخر الدين بن جلبان، وشمس الدين الاخنائى شاهد الخزانة ومعهما ثلاثة آلاف دينار مصرية لفكاك الأسرى. وتوجه السلطان إلى حصن عكار، ثم عاد إلى مخيمه بالأرزونية، ثم توجه إلى حصن الأكراد، ثم رحل فوصل إلى دمشق فى نصف شوال.
ذكر فتوح القرين «1»
كان حصن القرين لإسبتار الأرمن «2» ، ولم يكن لهم بالساحل غيره، وكان من أمنع الحصون وأضرها على صفد، فتوجه السلطان إليه من دمشق، فى الرابع والعشرين من شوال سنة تسع وستين وستمائة، ووصل إلى صفد وجهز منها المجانيق وسار إلى القرين ونازله. وبينما السلطان واقف لنصب المجانيق وردت رسل عكار «3» . واتفق أن السلطان [كان «4» ] يرمى نشابا على القلعة فمرّ به طائر فرماه فإذا فيه بطاقة من جاسوس فى العسكر للفرنج مضمونها أخبار السلطان، وذلك بحضور الرسل، فسلم السلطان الطائر لهم وقال: «استصحبوه معكم لتقرأ الفرنج(30/332)
هذه البطاقة، ونحن نفرح بمن يخبركم بأخبارنا» . وفى مستهل ذى القعدة ملك الربض، وفى ثانيه أخذت الباشورة، وأخذت النقوب فى السور، وشرط السلطان للحجارين عن كل حجر ألف درهم. واشتد القتال، فحضر رسلهم، وتقرر خروجهم وتوجههم حيث شاءوا، وأنهم لا يستصحبون مالا ولا سلاحا. وكتب الأمان بذلك، ورفعت الصناجق السلطانية عليها، وركب السلطان وأصبح على أبواب عكا مطّلبا، فما ترك أحد من الفرنج، وعاد إلى مخيمه بالقرين، وأمر بهدم القلعة، فتكمل هدمها فى رابع وعشرين ذى القعدة من السنة.
ذكر صلح صور وما تقرر من المناصفة «1»
وحضرت رسل صاحب صور، وحصل الإنفاق على أن يكون لهم من بلاد صور عشرة بلاد خاصا، وللسلطان خمسة بلاد يختارها تخصه، وبقية البلاد مناصفة، وحلف السلطان على ذلك. وجهز الرسل فحلّفوا صاحب صور على ما تقرر.
ذكر منازلة التتار البيرة وكسرهم على الفرات وقتل مقدمهم جنقر «2»
وفى تاسع شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وستمائة وردت الأخبار بحركة التتار، فجرد السلطان الأمير فخر الدين الحمصى بجماعة من العساكر المصرية والشامية إلى جهة حارم، ثم جهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيرى بجماعة(30/333)
من العساكر وجماعة من العربان. وعدّى التتار إلى البر الشامى لقصد الرحبة فتقسم «1» فكر السلطان ليقسمهم على البيرة والرحبة، ورحل من ظاهر دمشق، فبلغه رحيل العدو عن الرحبة، فجدّ فى مسيره ووصل إلى الفرات إلى مخاضة تعرف بمخاضة الحمام، فوجد التتار قد وقفوا على شط الفرات، وعدتهم قريب الخمسة آلاف فارس، ومقدمهم جقر «2» أحد مقدميهم الكبار وحفظوا فم المخاضة. وكان السلطان قد استصحب عدة مراكب من دمشق وحمص فرست فى الفرات، وركب فيها الرجالة الأقجية لكشف البر. وعمل التتار مكيدة: وهى أنهم تركوا المخاضة السهلة ووقفوا على مكان بعيد الغور وعملوا الستائر، فاعتقد المسلمون أن المكان الذى حفظوه هو المخاضة السهلة فخاضوا منه، وكان العدو قد عملوا سيبا «3» على البر من جانبهم ليقاتلوا من ورائها، فرتبت العساكر الإسلامية نفوسها بخيولها، وعاموا أطلابا، الفارس إلى جانب الفارس، متماسكين بالأعنة معتمدين على الرماح، كما قال القائل:
فعمنا إليهم بالحديد سباحة ... ومن عجب أن الحديد يعوم
وازدحم الناس وانسكر الماء بهم فصار كالجبال. وطلع المسلمون، والسلطان فى أوائل القوم «4» ، فلم يلبث التتار أن انهزموا أقبح هزيمة، وقتل مقدمهم جنقر وجماعة كثيرة منهم وأسرت جماعة، وأقام السلطان إلى العصر وجمع الأسرى ورءوس القتلى وبات فى مكان النصر، والعساكر لابسة والخيل(30/334)
ملجمة. وأصبح يوم الاثنين بمنزلته حتى عاد من كان قد ساق خلف العدو، واستبرىء أمر العدو، ثم عادت العساكر، وكان العود عليهم أشق.
ولما صار السلطان بالبر الشامى بلغه أن التتار الذين كانوا نازلوا البيرة ومقدمهم درباى قد هربوا وتركوا أزوادهم والمجانيق التى معهم؛ ورموا النار فى بعض ذلك، ونزل أهل البيرة وحملوا من ذلك شيئا كثيرا. فنزل السلطان على جبل مشرف قرب البيرة من الجانب الشامى، وتوجه إليها على الجسر الذى مده العدو وهو جسر كبير تحته المراكب والصوارى والسلاسل، ومعه جماعة من الأمراء، وأنعم على النائب بها بألف دينار، و [الأمير سيف الدين] الصروى «1» المجرد بها بألف دينار، وعم من بها بالتشاريف، وأنعم على أهل الثغر بمائة ألف درهم، وجرد بها جماعة زيادة على من بها، وعاد إلى مخيمه، وسار إلى دمشق فدخلها فى ثالث جمادى الآخرة والأسرى بين يديه.
ذكر فتوح كينوك «2»
كان قد كثر فساد أهل كينوك وتعديهم على التجار والقصاد، وكتب إلى صاحب سيس فى ذلك فلم تفد فيه المكاتبة، فجرد الأمير حسام الدين العين تأبى مقدم العسكر الحلبى إلى كينوك، فوصل إليها فى ثالث المحرم، فأخذوا الحوش البرانى، ودخل الأرمن إلى القلعة، فقاتلهم المسلمون وملكوها وقتلوا الرجال وسبوا الحريم، وأغار العسكر على أطراف طرسوس ونهبوا وسبوا.(30/335)
وهذه كينوك هى الحدث الحمراء التى بناها سيف الدولة على بن حمدان، ومعنى تسميتها كينوك أى المحترقة. وكان قسطنطين صاحب سيس قد أخذها من ملوك الروم السلجقية وأحرقها. وهى التى يقول فيها المتنبى عند بنائها يمدح سيف الدولة فى قصيدته التى أولها: «على قدر أهل العزم تأتى العزائم»
سل الحدث الحمراء يعرف لونها ... ويعلم أى الساقيين الغمائم
سقتها الغمام الغر قبل نزوله ... فلما دنا منها سقتها الجماجم
بناها علىّ والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
وكان من خبرها: أن سيف الدولة بن حمدان سار لبنائها، وكان أهلها سلموها بالأمان للدمستق ملك الروم، فى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فنزلها سيف الدولة فى يوم الأربعاء ثانى جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فحط الأساس من يومه، وحفر أول الأساس بيده، وأقام حتى كمل بناؤها فى يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر رجب من السنة.
ذكر إغارة عيسى بن مهنا على الأنبار «1»
وفى سنة اثنتين [وسبعين «2» ] وستمائة: رسم السلطان للأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا [أمير العرب «3» ] بالإغارة على بلاد العراق، فوصل إلى الأنبار فوجد بها جماعة من التتار، وكان السلطان قد اختفى أمره «4» ، فلما وصل عيسى إلى(30/336)
الأنبار توهموا أن السلطان دهمهم، فعدّوا إلى البر الآخر «1» ، واقتتل عيسى وخفاجة، ودام القتال نصف نهار، وكانت هذه الإغارة فى ثامن عشر شعبان.
ذكر الإغارة على مرعش «2»
وفى سنة ثلاث وسبعين وستمائة: توجه عسكر حلب صحبة الأمير حسام الدين العين تابى إلى جهة مرعش، وأغاروا على بلاد سيس، وحازوا غنائم كثيرة، وقلعوا أبواب ربض مرعش، وغرق ربيعة بن الظاهر بن غنام فى نهر هناك.
ذكر غزوة سيس «3»
كان صاحب سيس قد اعتمدوا ما يقتضى فسخ الهدنة التى وقع الإتفاق عليها فى سنة ست وستين عند إطلاق ولده ليفون «4» ، وقطع الهدايا المقررة عليه، وخالف الشروط من أنه لا يجدد بناء ولا يحصن قلعة، وصار لا يطالع بخبر صحيح كما تقرر معه، ثم لم يقتصر على ذلك إلى أن صار يلبس الأرمن السراقوجات ويخيف «5» القوافل ويدّعى أنهم من عسكر التتار، فاقتضى ذلك أخذ كينوك وإخرابها كما ذكرنا، فتصور «6» صاحب سيس من ذلك. فذكر السلطان لرسوله سوء اعتماده، وأرسل إليه يعرفه أنه عزم على قصد سيس، ثم أسر السلطان(30/337)
فى نفسه قصده ولم يبده لأحد، بل أظهر الحركة إلى الشام، وعرض العساكر فى يوم واحد تحت القلعة، وخرج ثالث شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ووصل إلى دمشق فى سلخ الشهر، وخرج منها فى سابع شهر رمضان بجميع العساكر. ولما وصل إلى حماة خرج الملك المنصور صاحب حماة بعساكره، ثم سار وفى خدمته العساكر والعربان. فجرد الأمير شرف الدين بن مهنا، والأمير حسام الدين العين تابى إلى جهة البيرة بصورة جاليش العسكر المنصور فوصلوا إليها. ولما وصل السلطان إلى سرمين رحل منها إلى جهة الدربساك، وأخر الأثقال وبعض العسكر صحبة الأمير شمس الدين سنقر جاه بسرمين، وجرد الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار، والأمير مبارز الدين الطورى لتمهيد جوانب النهر الأسود، فقطعته العساكر بمشقة. ونزل السلطان بين الدربساك وبغراس، وأمر جماعة من مقدمى الألوف أن يتوجه كل منهم إلى جهة، فطلعوا تلك الجبال، وأمر الناس بوقود الشموع فقطعوا تلك الجبال والأوعار والمضايق. وكان السلطان قد حمل ثلاثين مركبا لأجل التعدية، ونزل السلطان داخل باب اسكندرونة خلف السور الذى بناه الملك هيتوم والد ليفون صاحب سيس، ثم رحل إلى قرب المثقب، وملكت العساكر جسر المصيصة وملكوا المصيصة، وغلبت العساكر على ما فيها، وقتلوا من وجدوه بها، وغنم الناس ما لا يحصى كثرة من البقر والجاموس والغنم، وحضر إلى الطاعة جماعة كبيرة من التركمان والعربان بمواشيهم وخيولهم، فجهزهم السلطان إلى البلاد الإسلامية، وساق مطلبا فى تاسع وعشرين شهر رمضان، فوصل إلى سيس، فعدل عنها ووصل دربند «1» الروم، ووجد بقايا من حريم(30/338)
التتار فسبين، وعاد فبات فى تلك الجبال، وعيّد بمدينة سيس، وهى كرسى ملك الأرمن، وبها بستان متملكها ومناظره. فانتهبت مدينة سيس وهدمت وأحرقت وتحصن أهلها بقلعتها. ولما فرغ من إحراق المدينة وهدم قصور التكفور، وعادت الجاليشية بما سبوه من حريم المغول وأولادهم، وسيقت الغنائم، وعاد السلطان ورعت العساكر الزروع. ووصل الأمير جمال الدين المحمدى، والأمير عز الدين الدمياطى إلى طرسوس ووجدوا بها من الخيل والبغال مقدار ثلاثمائة رأس فاستاقوها. وتوجه الأمير مبارز الدين الطورى، والأمير عز الدين كرجى إلى قريب البحر وقاتلوا جماعة من العدو، ووجدوا مراكب فى البحر فدخلوا إليها وأخذوها وقتلوا من فيها. ووصل الأمير سيف الدين الزينى إلى قلعة البرزين، ووصل الأمير بدر الدين الأيدمرى إلى أذنة، وغنموا نساء وأطفالا. وأغارت للعساكر فى «1» تلك الجبال وقتلوا رجالا كثيرة. ووصل الأمير بدر الدين بيسرى والأمير سيف الدين أيتمش السعدى إلى أياس، وكان خبر العسكر قد وصل إلى من بها من الفرنج فنقلوا أموالهم إلى المراكب فأحرقت العساكر وقتلت جماعة كبيرة فى البر والبحر، وحضر بعد ذلك كتاب والى إسكندرونة يتضمن: أن العساكر لما قصدت أياس ركب جماعة منها من الفرنج والأرمن قريب ألفى نفس هاربين فغرقوا جميعهم، وأخذ الأمير بدر الدين أمير سلاح جشارات خيول. هذا ما يتعلق بعزوة سيس.
وأما العسكر والعربان الذين توجهوا إلى جهة البيرة فوصلوا إلى رأس عين وغنموا غنائم كثيرة، وانهزم من كان فى تلك الجهة من التتار، وعاد العسكر سالما منصورا. ووصل السلطان إلى المصيصة وأحرقت من الجانبين.(30/339)
ولما تكامل حضور الأمراء بالغنائم وخروج التركمان والعربان الواصلين إلى الطاعة من الدربندات، رحل السلطان وعبر على بحيرة بها أغصان ملتفة مثل الغابة وبها جزائر قد تحصن بها جماعة من تلك البلاد ونقلوا إليها حريمهم وأموالهم، فرمى العسكر نفوسهم فيها عوما بالخيل، فقتلوا وسبوا. ثم عبروا على تل حمدون، وقلعة النقير فعاثت العساكر فيها، وخرج العسكر من الدربندات فشاهدوا الغنائم قد ملأت المروج طولا وعرضا، فوقف السلطان بنفسه وفرق الغنائم وعمّ بها الناس، وما أخذ لنفسه شيئا منها. ثم سار بعد القسمة فنزل دهليزه بحارم.
فقال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر:
يا ملك الأرض الذى عزمه ... كم عامر للكفر منه خرب
قلبت سيسا فوقها تحتها ... والناس قالوا سيس لا تنقلب
ذكر شىء من أخبار بلاد سيس وسبب استيلاء الأرمن عليها
المصيصة بناها عبد الملك بن مروان فى أيام أبيه، فى سنة أربع وثمانين للهجرة النبوية.
وأما طرسوس فهمى من المدن القديمة، وفيها دفن الخليفة عبد الله المامون ابن الرشيد كما ذكرنا.
وطرسوس وأذنة وما يليهما تسمى قيليقيا، وتعرف هذه البلاد بالدروب والعواصم، وبها كان الغزو والرباط والجهاد والمثاغرة، وكانت مضافة إلى مملكة(30/340)
مصر فى إمارة أحمد بن طولون ومن بعده، حتى استولى الروم عليها كما قدمنا.
واستمرت بيد الروم إلى أن استولى عليها مليح بن لاون الأرمنى، وذلك فى أيام العادل نور الدين الشهيد، بمساعدته، وهزم [مليح] جيش الروم فقوى عند ذلك البلاد، وكانت هزيمته للروم فى يوم الأحد سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأسر من مقدميهم ثلاثين أسيرا، فأحسن إليه نور الدين وخلع عليه، وكتب إلى بغداد يعظم أمر الروم ويذكر أن هذا مليح الأرمنى من جملة غلمانه، وأنه كسر الروم، ومنّ بذلك على أهل بغداد.
واستمر ملك هذه البلاد فى هذا البيت إلى الآن.
نعود إلى أخبار السلطان الملك الظاهر.
قال: ثم رحل السلطان وخيم بموج أنطاكية، وانبثت العساكر فى تلك المروج ورعت الأعشاب، ثم رحل.
ذكر منازلة حصن القصير وفتحه «1»
هذا الحصن مما لم يفتحه السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف ابن أيوب رحمه الله، وقيل إنه صالح عليه، وما زال لمن يكون بابا برومية؛ والبابا خليفة عند الفرنج ينفذ أمره وحكمه فى سائر ملوك الفرنج.
وأمر الحصن راجع إلى بترك «2» أنطاكية، والفرنج تميزه وتؤثره. وأهله أهل شره ومنعة وفساد، وكان مضرة على الفرعة «3» وتلك الجهات. ولما فتح السلطان(30/341)
أنطاكية سأل أهل القصير الهدنة والمناصفة، فأجيبوا إلى ذلك كما قدمنا. فما وفوا وأخفوا فى المناصفة. ولما وصل صمغار [مقدم التتار] إلى جهة حارم ضرب أهل القصير البشائر، ودلوا على الطريق وأمثال ذلك مما يقتضى فسخ الهدنة. وكان السلطان قد رسم للأمير سيف الدين الدوادار بالتردد إلى كليام النائب بالقصير وإظهار مصافاته. واعتمد ذلك وتوجه المذكور إليه فى خامس عشر شوال سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ومعه جماعة من السلاح دارية بصورة أصحابه، فوصلوا إلى القصير وأظهر الأمير سيف الدين غضبا كون كليام ما خرج للقائه وقصد الرجوع، فبلغه ذلك فخرج مسرعا ليسترضيه ويرده. فادركه فامتنع من الرجوع واستدرجه حتى أبعد عن الحصن، ثم قتل من كان معه وأخذ كليام وأحضره إلى السلطان. فكتب إلى أصحابه بالتسليم فما رجعوا إلى كلامه.
فجرد السلطان جماعة من أمراء حلب وهم: سيف الدين الصروى «1» وشهاب الدين مروان والى أنطاكية وجماعة من الرجال، فنازلوا القصير.
وتوجه السلطان إلى دمشق واستصحب كليام معه، وكان شيخا كبيرا وكان ابنه فى الأسر، فمات كليام فى الأسر بعد اجتماعه بابنه. ولما اشتد الحصار على القصير وعدموا الأقوات سلموا الحصن المذكور فى يوم الأربعاء ثالث وعشرين جمادى الأولى سنة أربع وسبعين. وحمل أهله إلى الجهات التى قصدوها.(30/342)
ذكر وفاة الأبرنس صاحب طرابلس وما انفق بعد وفاته «1»
وفى تاسع شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين وستمائة: توفى الأبرنس بيمند ابن بيمند صاحب طرابلس. ووصل ملك قبرص، وهو ابن عم الأبرنس إلى طرابلس لتعزية ولده، وكان السلطان قد كتب إلى البرنس يقول: «إن اللاذقية ما برحت للمسلمين، ولما راح صاحب حلب تغلّب أبوك وأخذها ظلما وعتوا، ونحن لنا فى اللاذقية النصف، فتترك النصف الآخر فإنه من حقوق المسلمين» .
فلما سمع الفرنج ذلك قووا البرج، وخاف المسلمون عاديتهم. فرسم السلطان لركن الدين النائب ببلاطنس بنقل من باللاذقية يذكر أنهم ما برحوا فى الطاعة، وقد عز عليهم خروج من عندهم. ووردت رسل ملك عكا وهو يشفع عند السلطان فى استمرار الصلح، فترك السلطان الحديث فى اللاذقية. وكان السلطان قد سير عسكر للحوطة على عرقا ومغل بلادها، فسير ملك عكا وقبرص يتوسل فى أمرهم، وسأل إنفاد من يوثق به لأجل الدعاوى، ويكون منه إلى نواب السلطان ومن ملك عكا إلى نواب البرنس. فسير الأمير سيف الدين الدوادار فتوجه إلى عرقا.
وأقام بها، فاجتمع عنده نائب بعلبك، وولاه البر ومشايخ البلاد ومستخدميها ونواب الفرنجية. وكتبت الدعاوى وترددت الرسل. واتفقت وفاة الأمير صارم الدين الظافرى «2» النائب بحصن الأكراد، فبقى الفرنج يعتذرون به وأنكروا(30/343)
الدعاوى، ثم سأل الملك حضور الأمير سيف الدين إلى طرابلس فدخلها فى ثامن المحرم فى تجمل كثير من المماليك السلطانية ومماليكه وأجناده، وتلقاه أبناء الملوك بها، واجتمع بالملك وسلم إليه كتاب السلطان، وتقرر على الفرنج القيام بعشرين ألف دينار صورية وعشرين أسيرا من المسلمين.
ذكر غزوة النوبة «1»
وفى سنة أربع وسبعين وستمائة: كثر تعدى داود متملك النوبة، وحضر إلى قريب أسوان وأحرق سواقى. وكان قبل ذلك قد حضر إلى عيذاب، وفعل الأفعال الشنيعة. وتوجه الأمير علاء الدين الخزندار والى قوص إلى أسوان فلم يدركه وظفر بنائبه الأمير قمر الدين [بقلعة] الدو المسمى صاحب الجبل وجماعة معه، فجهزهم إلى السلطان فوسطوا. وأمر السلطان بتجريد الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار، والأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، وصحبتهم جماعة من العسكر ومن أجناد الولايات والعربان بالوجه القبلى. وكان قد حضر ابن أخت ملك النوبة مرمشكد «2» الذى أخذ داود الملك منه. فجهز العسكر المنصور وتوجه [مرمشكد] صحبتهم. فأغار الأمير عز الدين على قلعة الدو وقتل وسبى، وسار الأمير شمس الدين فى أثره يستأصل «3» شأفة من بقى، ونزل الأمير شمس الدين بجزيرة ميكائيل وهى رأس جنادل النوبة، وهى كثيرة الأوعار وفى وسط البحر، فقتلوا وأسروا. وكان نائب قلعة الدو الذى ولى عوض الموسط(30/344)
قد هرب إلى الجزائر، فأعطى أمانا واستمر على نيابته، وحلف لمرمشكد المتوجه صحبة العسكر ما دام على الطاعة. وخاض الأمير عز الدين فى وسط البحر إلى برج فحاصره وأخذه وقتل به مائتين وخمسين نفرا.
ثم ساق العسكر والتقوا الملك داود، وما زال السيف يعمل فيهم حتى أفناهم وما سلم إلا من ألقى نفسه فى البحر، وهرب داود، وأسر أخوه سنكوا «1» .
وجردّ جماعة من العسكر وساقوا ثلاثة أيام وأمسكوا أم الملك «2» داود وأخته.
وقرروا على الملك مرمشكد المتوجه صحبة العسكر قطيعة فى كل سنة، وعرض على أهل النوبة الإسلام أو القيام بالجزية أو القتل، فاختاروا القيام بالجزية وأن يقوم كل واحد بدينار عينا، وحرقت كنيسة سوس التى كان داود يزعم أنها تحدثه بما يؤديه. وكان داود قد بنى مكانا سماه عيذاب عمره على أكتاف المسلمين [الذين أسرهم من عيذاب وأسوان «3» ] وفيه منازل وكنائس، وميدان صور فيه قتلى المسلمين بعيذاب وأسراهم بأسوان، فمحيت تلك التصاوير منه وخرّب.
وتقرر حمل ما هو مخلف عن الملك داود وأقاربه. وكانت إقامة العسكر بدنقلة سبعة عشر يوما حتى تمهدت البلاد واستنقذت أسرى المسلمين المأسورين من أسوان وعيذاب، وألبس مرمشكد التاج على عادة ملوك النوبة، وأجلس بمكان الملك [داود «4» ] وحلف اليمين العظيمة عندهم على ما تقرر وهى:(30/345)
«والله، والله والله، وحق الثالوث المقدس، والإنجيل الطاهر، والسيدة الطاهرة العذراء أم النور والمعمورية؛ والأنبياء المرسلين والحواريين والقديسين، والشهداء الأبرار. وألا: أجحد المسيح كما أجحده بودس «1» ، وأقول فيه ما يقول اليهود وأعتقد ما يعتقدونه. وألا: أكون بودس الذى طعن المسيح بالحربة، أننى أخلصت نيتى وطويتى من وقتى هذا وساعتى هذه للسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس، وأنى أبذل جهدى وطاقتى فى تحصيل مرضاته، وأنى مادمت نائبه لا أقطع ما قرر علىّ فى كل سنة تمضى، وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصل لمن تقدم من ملوك النوبة، وأن يكون النصف من المتحصل للسلطان مخلصا من كل حق، والنصف الآخر أرصده لعمارة البلاد وحفظها من عدو يطرقها، وأن يكون علىّ كل سنة: من الأفيلة ثلاثة، ومن الزرافات ثلاث، ومن إنات الفهود خمس، ومن الصهب الجياد مائة، ومن الأبقار الجياد المنتخبة أربعمائة. وإننى أقرر على كل نفر من الرعية الذين تحت يدى فى البلاد من العقلاء البالغين دينارا عينا، وأن تفرد بلاد العلى والحيل خاصا للسلطان. وأنه مهما كان لداود ملك النوبة ولأخيه سنكوا ولأمه وأقاربه، ومن قتل من عسكره بسيوف العساكر المنصورة، أحمله إلى الباب العالى مع من يرصد لذلك. وأننى لا أترك شيئا منه قل ولا جل، ولا أخفيه ولا أمكن أحدا من إخفائه، ومتى خرجت عن جميع ما قررته أو شىء من هذا المذكور أعلاه كله كنت بريئا من الله تعالى، ومن المسيح، ومن السيدة الطاهرة، وأخسر دين النصرانية، وأصلى إلى غير الشرق، وأكفر بالصليب، وأعتقد ما تعقد اليهود.(30/346)
وإنى لا أترك أحدا من العربان ببلاد النوبة. ومن وجدته منهم أرسلته إلى الباب السلطانى، ومهما سمعت من الأخبار السارة والنافعة طالعت به السلطان فى وقته وساعته، ولا أنفرد بشىء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة، وأننى ولّى من والى السلطان وعدو من عاداه، والله على ما نقول وكيل.»
[ثم هذا عهد آخر صادر من أمير بطاعة مرمشكد وبطاعة بيبرس «1» .]
«وحلّفت الرعية أيضا بتلك الجهات بأنهم يطيعون نائب السلطان، وهو الملك مرمشكد المقيم بدنقلة، وكل نائب يكون للسلطان أطيعه ولا أرى عليه برأيى، ولا أخبىّ عنه مصلحة، وكل ما أسمعه من الأخبار الجيدة والردية أطالع نائبه به. ومتى علمت على نائبه الملك مرمشكد أمرا يخالف المصلحة لا أطيعه فيه وأطالع السلطان به فى الوقت والساعة. وأننى لا أدخل فى حكم داود، ولا أكون معه، ولا أطالعه بخبر من الأخبار، ولا أرتضى به ملكا، ورضيت بأن أقوم بدينار عينا فى كل سنة خالية على» .
وعاد العسكر وأحضر من النوبة ما نذكر، وهو ما وجد فى كنيسة سوس من الصليان الذهب وغيرها: أربعة آلاف وستمائة وأربعون دينارا ونصف، وأوانى فضيات ثمانية آلاف وستمائة وستون دينارا، والذى أحضر من الرقيق، سبعمائة رأس.(30/347)
وأما الملك داود فإنه هرب إلى جهة الأبواب، فقاتله صاحبها الملك أدر، وقتل ولده، وأمسكه وسيره إلى السلطان.
ذكر غزوات النوبة فى الإسلام
أول ما غزيت النوبة فى سنة إحدى وثلاثين للهجرة النبوية، غزاها عبد الله ابن سعد فى خمسة آلاف فارس، وأصيب فى ذلك اليوم معاوية بن حديج فى عينه، وأصيب أبرهة الصباح فى عينه، وكانوا يسمون النوبة: رماة الحدق.
وهادنهم عبد الله بن سعد بعد أن وصل دنقلة.
وفى ذلك يقول الشاعر:
لم تر عينى مثل يوم دنقلة ... والخيل تعدو بالدروع مثقلة
ترى الحماة حولها مجدلة ... كأن أرواح الجميع مهملة
وقال يزيد بن أبى حبيب: «ليست الموادعة بين أهل مصر والنوبة موادعة هدنة، وإنما هى هدنة امان؛ نعطيهم شيئا من قمح وعدس، ويعطوننا رقيقا، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم» .
وكان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قرر:
فى كل سنة أربعمائة رأس من الرقيق، وزرافة واحدة. لأمير المؤمنين ثلاثمائة وستون رأسا، وللنائب بمصر أربعون رأسا.
ويطلق لرسله، إذا وصلوا بالبقط تاما، ألف وثلاثمائة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمائة.(30/348)
وقال البلاذرى فى كتاب الفتوحات: «إن المقرر على النوبة أربعمائة رأس، يأخذون بها طعاما؛ أى غلة» .
وألزمهم المهدى العباسى بثلاثمائة وستين رأسا وزرافة.
ثم غزبت فى زمن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولم تفتح وإنما كان قتال ونهب وسبى.
وغزاها يزيد بن أبى حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة، على يد عبد الأعلى بن حميد. وغزاها أبو منصور تكين التركى هى وبرقة فى عام واحد، ولم تفتح النوبة.
ثم غزاها كافور الإخشيدى، وكان أكثر جيشه السودان.
فقال الشاعر:
ولما غزا كافور دنقلة غدا ... بجيش لطول الأرض من مثله عرض
غزا الأسود السودان فى رونق الضحى ... فلما التقى الجمعان أظلمت الأرض
ثم غزاها ناصر الدولة بن حمدان، فكبسه السودان، ونهب جيشه، وأخذت أثقاله، وذلك فى سنة تسع وخمسين وأربعمائة فى أيام المستنصر العبيدى.
ثم غزاها بعد ذلك شمس الدولة توران بن أيوب أخو الملك الناصر صلاح الدين يوسف فى سنة ثمان وستين وخمسمائة، ولم يصل إلا إلى أبريم.
وكل هذه غزوات، وإنما الفتح هذا.(30/349)
ذكر غزوة الروم وقتل التتار «1»
قد ذكرنا فى أخبار السلطان فى سنة خمس وسبعين وستمائة؛ طاعة أمراء الروم ووصولهم إلى خدمة السلطان، وإكرامه لهم وإحسانه إليهم وما عاملهم به. ولما وصل السلطان إلى الديار المصرية فى رابع عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة، أقام بها إلى شهر رمضان منها ثم عزم على السفر.
وجهز من وصل إليه من أمراء الروم بالخيول والخيام وغير ذلك، وتوجه من قلعة الجبل المحروسة، بعساكر الديار المصرية فى يوم الخميس العشرين من شهر رمضان من السنة. ورتب الأمير شمس الدين آقسنقر أستاد الدار فى النيابة عنه بقلعة الجبل «2» والصاحب بهاء الدين وجعلهما فى خدمة ولده الملك السعيد.
واستصحب معه الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين وجعله وزير الصحبة، وهى أول سفرة سافرها صحبته، واستصحب أكثر كتاب الإنشاء، وفوض فى هذا اليوم نظر الجيوش للقاضى عز الدين إبراهيم بن الوزير الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، والشهادة به للقاضى شمس الدين الأرمنتى، واستصحبهما صحبته.
ثم رحل يوم السبت ثانى عشرين الشهر وصحبته أمراء الروم، وسار فما مر بمملكة إلا استصحب عسكرها وخزائنها وأسلحتها، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها متوجها إلى حلب فى يوم السبت العشرين من الشهر، وكان وصوله إلى حلب فى يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة،(30/350)
وخرج منها فى يوم الخميس ثانى الشهر إلى حيلّان فترك بها بعض الثقل، وتقدم إلى الأمير نور الدين على بن مجلى «1» نائب السلطة بحلب أن يتوجه إلى الساجور، ويقيم على الفرات بمن معه من عسكر حلب، لحفظ معابر الفرات، خشية أن يعبر منها أحد من التتار إلى الشام. ووصل إلى الأمير نور الدين، الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا.
ولما اتصل خبر نزول هذا الجيش بالتتار المقدمين بالعراق جهزوا إليهم جماعة من عرب خفاجة لينالوا من العسكر غرّة، فاتصل خبرهم بالأمير نور الدين [نائب حلب وهو على الفرات «2» ] فركب إليهم وقاتلهم وهزمهم، وأخذ منهم ألفا «3» ومائتى جمل. ورحل السلطان من حيلان يوم الجمعة ثالث الشهر إلى عين تاب، ثم إلى دلوك، ثم إلى مرج الديباج ثم إلى كينوك، ثم رحل منها إلى كراصو «4» ، ثم إلى اقجا دربند، فوصله يوم الثلاثاء سابع الشهر فقطعه فى نصف نهار، وبات فى وطأة هناك. وقدم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر فى جماعة من العسكر جاليشا، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار مقدمهم كراى، فهزمهم وأسر منهم وقتل، وذلك فى يوم الخميس تاسع الشهر. ثم ورد الخبر على السلطان أن عسكر المغل ومقدمهم تتاون»
وعسكر الروم ومقدمهم [معين الدين] البرواناه قد قربوا من العسكر، فرتب السلطان عساكره وطلعت العساكر على(30/351)
جبال مشرفة على صحراه هونى «1» من بلد أبلستين، وكان العدو فى تلك الليلة قد بات على نهر جهان «2» ، وهو نهر جيحان، فأقبل المسلمون من علو الجبل، وترتبت المغل أحد عشر طلبا، كل طلب منها يزيد على ألف، وعزلوا عسكر الروم عنهم، وجعلوه طلبا بمفرده [لئلا يكون مخامرا عليهم «3» ] .
وكان أبغا بن هولاكو قد انتخب هذا الجيش من عسكره، وكان فيه جماعة من أكابر مقدمى المغل. فوقف السلطان وتقدم إليهم جماعة من مماليكه وخواصه، فأخلدت فرقة منهم إلى الأرض وقاتلوا قتالا شديدا، وحملت فرقة «4» منهم من ميسرتهم واستدارت خلف الصناجق السلطانية، فحمل السلطان عليهم، فانجلت الحرب عن قتل التتار، وكان من بقى منهم كما قيل:
فلزهم الطراد إلى قتال ... أحد سلاحهم فيه القذاره
وكانت وقعة عظيمة مشهورة فثبت فيها المغل.
واستشهد من المسلمين فى هذا اليوم شرف الدين قيران «5» العلائى أحد مقدمى الحلقة، وعز الدين أخو المحمدى.(30/352)
ونزل السلطان فى المنزلة التى كان العدو نازلا بها، وأحضرت بين يديه الأسارى من المغل، فاستبقى السلطان بعض أكابرهم وقتل من بقى منهم، وأسر جماعة من أكابر أمراء الروم، ووصل جماعة منهم إلى الخدمة. وكان ممن أسر ووصل من الروم بكلاء «1» بن البرواناه ومعه ولد أخته، وولد خواجا يونس، والأمير نور الدين بن جاجا، والأمير قطب الدين أخو الأتابك، والأمير سراج الدين جاجا، وسيف الدين سنقرجاه الزوباشى، ونصرة الدين صاحب سيواس، والأمير كمال الدين، عارض الجيش بالروم، وحسام الدين بركاول، قريب البرواناه، وسيف الدين بن عليشير التركمانى، والأمير سيف الدين جاليش النائب بالروم، وهو أمير داد، ومعناه أمير العدل، وظهير الدين فتوح «2» مشرف الممالك، ومرتبته دون الوزارة، والأمير نظام الدين أوحد بن الأمير شرف الدين بن الخطير وإخوته، وقاضى القضاة حسام الدين قاضى الروم، ومظفر الدين بن جحاف، وأولاد الأمير صارم الدين بن الخطير، وجماعة من أصحابهم، وسيف الدين كجكنا «3» الجاشنكير، ونور الدين المنجنيقى، وأولاد رشيد الدين صاحب ملطية «4» كمال الدين وإخوته، وأمير على صاحب كركر، وأكثر هؤلاء حضروا بيوتهم وأولادهم، وأما البرواناه فأنه هرب.(30/353)
قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: وأما البرواناه فأنه شمر الذيل وامتطى هربا أشهب الصبح وأحمر الشفق وأصفر الأصيل وأدهم الليل، ودخل قيسارية فى وقت السحر من يوم الأحد ثانى عشر الشهر، فأفهم سلطانها غياث الدين [كيكاوس بن كيخسرو «1» ] والصاحب فخر الدين وزيرها، والأتابك مجد الدين والأمير جلال الدين المستوفى، والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والطغرائى وهو ولد أخى البرواناه: أن جيش الإسلام كسر بعض المغل، وأن بقية المغل انهزموا، ويخشى أن يدخل المغل قيسارية ويقتلون من بها حنقا على الإسلام، فأخذهم وأخذ زوجته بنت غياث الدين صاحب أرزن الروم، وتوجهوا كلهم إلى توقات. ولهذه كرحى خاتون [امرأة البرواناه] أربعمائة جارية استصحيتهن معها. وكانت أم هذه كرحى خاتون ملكة الكرج.
وتوقات مكان حصين مسيرة أربعة أيام من قيسارية.
وجرّد السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بجماعة لإدراك من انهزم من المغل، والتوجه أمامه إلى قيسارية، وكتب بتأمين أهلها. فمرّ بفرقة من التتار معهم البيوت، فأخذ عنهم جانبا. وحال بينهم الليل، فمر كل منهم فى جهة.
ورحل السلطان يوم السبت حادى عشر الشهر من مكان المعركة ونزل قريبا من قرية رمّان، وهى قريب الكهف والرقيم حقيقة كما نقل، لا ما يقال إن الكهف والرقيم من عمل بيسان «2» والبلقاء.(30/354)
وقرية رمّان هذه بيوتها مبنية حول سن جبل قائم كالهرم ويطوف بها جبال كأنها أسوار، ويخرج منها أنهار عليها قناطر لا تسع غير راكب.
واشتدت الأمطار، ثم سار بكرة النهار إلى الليل، ونزل بوطأة من أعمال صاروس العتيق، وبقربها معدن الفضة. فأتى السلطان مخبر أن التتار فى فجوة هناك فركب بالعساكر فعاقته كثرة الأمطار فعاد وبات بتلك المنزلة. وأصبح فسلك جبالا وعرة، ومر على قرية أو ترال «1» ومنها إلى خان قريب من حصن سمندو، وكان السلطان قد سير كتابا إلى نائبها، فقبله وأذعن إلى النزول عنها إن أمره السلطان، فشكره وأحسن إليه، وكذلك متولى قلعة درندا، ووالى دوالوا، أجابوا كلهم إلى الطاعة. ثم نزل السلطان قرية قريبة من قيسارية شرقى جبل عسيب، وركب يوم الأربعاء، نصف ذى القعدة سنة خمس وسبعين وستمائة، والعساكر فى خدمته، وخرج أهل قيسارية، العلماء والأكابر وغيرهم حتى النساء والأطفال فتلقوا السلطان، وكان دهليز صاحب الروم وخيامه قد نصبت فى وطأة كينجسرو قريبا من المناظر التى لملوك الروم، فنزل السلطان به، وارتفعت أصوات العالم بالتهليل والتكبير، وضربت به نوبة آل سلجق على العادة، وحضر أصحاب الملاهى فردّوا، واعتمد السلطان على الأمير سيف الدين جاليش فى النيابة، وكان أولاد قرمان [أمراء التركمان «2» ] قد رهنوا أخاهم الصغير على بك بالروم، فخرج إلى السلطان فأكرمه، وطلب منه تواقيع وصناجق له ولأخوته فأعطاه وتوجه، وكتب السلطان إليهم فى الحضور إلى خدمته، وأكد فى ذلك.(30/355)
فكان من خبرهم فى الوصول إلى بلاد الروم بعد رحيل السلطان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: ثم ركب السلطان فى يوم الجمعة سابع عشر الشهر، وعلى رأسه جتر بنى سلجق ودخل قيسارية. وكانت دار السلطنة قد هيئت لنزوله، وتخت آل سلجق قد نصب لحلوله، فجلس فى مرتبة السلطنة بكرة النهار، وحضر القضاة والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية، وذوو المراتب على العادة السلجقية فى أيام الجمع، ووقف له أمير المحفل- وهو عندهم ذو حرمة ومكانه، وعليه أكبر ثوب وأكبر عمامة- فرتب المحفل، وقرأ القراء، ثم أنشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح فى السلطان. ومد السماط، فأكل من حضر وانصرفوا.
وتهيأ السلطان لصلاة الجمعة وحضر إلى الجامع وصلى، وخطب الخطباء فى جوامع قيسارية باسمه، وهى سبعة «1» جوامع. ثم عاد إلى دار السلطنة وأحضر بين يديه دراهم عليها السكة الظاهرية.
وظهر لمعين الدين سليمان البرواناه ولزوجته كرجى خاتون موجود عظيم «2» ، فحمل إلى السلطان وكذلك موجود من نزح؛ ففرق أكثره على أمرائه.
وحكى الصاحب عز الدين بن شداد فى السيرة الظاهرية قال: حكى لى من أثق به أن البرواناه بعث إلى السلطان لما دخل قيسارية يهنئه بالجلوس على التخت، فكتب إليه يأمره بالوفود عليه ليوليه، فكتب إليه يسأله أن ينتظره خمسة عشر يوما، وكان مراده أن يصل إلى أبغا ويحثه على المسير [بنفسه](30/356)
والسلطان بالبلاد، فلم يدر ذلك فى حدس السلطان. فاجتمع تتاون «1» بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر وعرفه قصد البرواناه فى طلبه الانتظار، وأن مقصده أن السلطان يتربص حتى يدركه أبغا فى البلاد، فكان ذلك سبب رحيل السلطان عن قيسارية.
ذكر رحيل السلطان عن قيسارية وهرب عز الدين أيبك الشيخى ولحاقة بأبغا وعود السلطان إلى ممالكه
كان رحيل السلطان من قيسارية فى يوم الاثنين العشرين من ذى القعدة، وقيل فى الثانى والعشرين منه، لقلة الأقوات، وقيل للسبب الذى تقدم ذكره، وجعل على يزكه الأمير عز الدين أيبك الشيخى، وكان السلطان قد ضربه لسبقه الناس وتقدمه، فحقد ذلك، وتسحب يومئذ والتحق بأبغا بن هولاكو.
ونزل السلطان بقيرلو «2» فورد عليه فيها رسول البرواناه، ومعه رجل آخر اسمه ظهير الدين الترجمان، وهو يستوقف السلطان عن الحركة، وما كانوا علموا بقصد السلطان فى مسيره إلى أية جهة، وكان الخبر قد شاع أن حركة السلطان إلى سيواس. فأجاب السلطان البرواناه: «أن كتبك وكتب غيرك كانت تأتينى واشترطتم شروطا لم تفوا بها ولا وقفتم عندها، وقد عرفت الروم وطريقه، وما كان جلوسنا على التخت رغبة فيه إلا لنعلمكم أنه لا عائق لنا عن شىء نريده بحول الله وقوته، ويكفينا أخذنا أمك وابنك وابن بنتك وما منحناه من النصر الوجيز، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز.»(30/357)
ثم رحل، ونزل خان كيقباد، فلما نزل به بعث الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إلى قرية رمّانة فحرقها، وقتل من كان بها من الأرمن وسبى حريمهم، لأنهم كانوا قد أخفوا جماعة من المغل.
ولما رحل السلطان من منزلة روزان كودلوا مرّ فى وطأة خلف حصن سمندو من طريق غير الطريق الذى كان توجه عليها إلى قيسارية، ويعرف هذا المكان بقزل صو، ومعناء النهر الأحمر، وهو بعيد المستقى، كثير الزلق والوحل، فوقف السلطان وجرد سيفه حتى بسطت جملة من اللبابيد الحمر تحت حوافر الخيل واخفاف الجمال، ووقف راجلا حتى عبر الناس أولا قأولا، ثم ركب وعبر ونزل فى واد فيه مرعى، ثم رحل إلى صحراء فراحا بالقرب من بازاريلوا.
وهذا البازار هو الذى كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه كل شىء يجلب من الأقاليم.
ثم رحل يوم السبت وسار إلى وطأة أبلستين ومر بمكان المعركه لمشاهدة رمم التتار، وحضر جماعة من أهل أبلستين، وسئلوا عن قتلى التتار، فقال رجل منهم: «عددت ستة آلاف وسبعمائة وسبعين من المغل خاصة فى المعركة غير من قتل خارجها» . ولما بلغ السلطان أقجا دربند بعث الأثقال والخزائن والصناجق صحبة الأمير بدر الدين بيليك الخزندار ليعبر بها الدربند، وتأخر السلطان ساقة العسكر يوم الأحد، ورحل يوم الاثنين فدخل الدربند، وحصل للناس مشقة، ولما خرجوا منه قطعوا النهر الأزرق، وبات.
ثم رحل السلطان فنزل قريبا من كينوك، ثم نزل يوم الثلاثاء سادس ذى الحجة قريبا من حارم، ونزل بعساكره هناك وعيّد عيد الأضحى، ووصلت إليه رسل(30/358)
الأمير شمس الدين محمد بن قرمان أمير التركمان وكتبه بما اعتمده بالروم بعد عود السلطان، وأنه حضر فى عشرين ألف فارس من التركمان وثلاثين ألف راجل متركشة إلى خدمة السلطان فلم يدركه.
ذكر ما اعتمده الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان أمير التركمان فى البلاد الرومية «1»
كان الأمير شمس الدين المذكور قد باين التتار ونابذهم، وخرج عن طاعتهم وطاعة الروم، وانحاز إلى السواحل. فلما بلغه خبر كسرة التتار ووصول السلطان إلى قيسارية جمع جموعا كثيرة من التركمان وقصد أقصرا، فلم ينل منها طائلا فرحل عنها وقصد قونية فى ثلاثة آلاف فارس ونازلها، فغلق أهلها أبوابها فى وجهه، فرفع على رأسه صناجق السلطان التى سيرها مع أخيه على بك، وبعث إليهم يعرفهم أن السلطان الملك الظاهر كسر التتار ودخل قيسارية وملكها، فقال أهل البلد: «أما الأبواب فنحن لا نفتحها، ولكن أحرقوها وأدخلوا فنحن لا نمنعكم» ، فأحرقوا باب الفاخرانى، وباب سوق الخيل ودخلوا قونية يوم عرفة، وهو يوم الخميس. وكان النائب بها إذ ذاك أمين الدين ميخائيل.
فقصد من معه داره ودار غيره من الأمراء، والأسواق والخانات فنهبوها، ثم ظفروا بأمين الدين، فأخرجوه إلى ظاهر البلد وعذبوه إلى أن استأصلوا ماله ثم قتلوه وعلقوا رأسه داخل البلد، وامتنع أهل البلد من تسليمها، فاعملوا الحيلة، ورتبوا رجلا على أن يتوجه إلى قمين من أقمنة حمام عينوه له، فإذا رأى هناك شابا رمى نفسه عليه وقبلّ رجليه، فإذا قال له الشاب: «من أين تعرفنى؟» ، فيقول:(30/359)
«ما أنت علاء الدين كيخسروا بن السلطان عز الدين كيقباذ؟ أنسيت تربيتى لك وحملك على كتفى؟» . وليكن ذلك بمشهد من العامة، فلما فعل ذلك وسمعت العامة مادار بين الرجل والشاب ازدحموا عليه، وإذا جماعة من التركمان كان قد رتب معهم أنهم إذا رأوا العامة قد أحدقوا به فيأخذونه «1» من بين أيديهم ويحملونه إلى الأمير شمس الدين محمد بك، ففعلوا ذلك، فلما رآه أقبل عليه وضمه إليه، وعقد له لواء السلطنة وحمل الصناجق على رأسه، وذلك فى الرابع عشرين ذى الحجة، فلما رأى أهل قونية ما فعلوه حملتهم المحبة فى آل سلجوق على متابعتهم، ثم نازلوا القلعة، فامتنع من فيها من تسليمها، فحاصروها، ثم تقرر بينهم الصلح على تسليمها ويعطى من فيها سبعون ألف درهم «2» ، فدخلوها وأجلسوا علاء الدين فيها على تخت الملك، ثم بلغ ابن قرمان والتركمان أن تاج الدين محمدا، ونصرة الدين محمود، ابنا الصاحب فخر الدين خواجا على، قد حشدا وقصداهم، فسار [ابن قرمان] إليهما وعلاء الدين معه، فالتقوا على آمد شهر، فكسرها وقتلهما، وقتل خواجا سعد الدين يونس بن سعد الدين المستوفى صاحب أنطاكية، وهو خال معين الدين البرواناه، وقتلوا جلال الدين خسرو بك بن شمس الدين يوناس بكلارتكسى «3» ، وأخذوا رءوسهم وعادوا بهم إلى قونية فى آخر ذى الحجة. واستمروا بقونية إلى أن دخلوا «4» سنة ست وسبعين وستمائة، فبلغهم(30/360)
أن أبغا وصل بعد خروج الملك الظاهر من الروم إلى مكان الوقعة، فرحلوا عن قونية إلى جبالهم. وكانت مدة مقامهم بقونية سبعة وثلاثين يوما.
ذكر وصول أبغا إلى بلاد الروم ومشاهدته مكان «1» الوقعة وما فعله بأهل الروم من القتل والنهب
كان البرواناه معين الدين لما تمت الهزيمة على التتار وعليه، قد كتب إلى أبغا يستنصر به ويستحثه على الوصول إلى بلاد الروم، فتوجه أبغا إلى الروم، ولما شارف البلاد خرج إليه البرواناه بمن معه، وتوجه فى خدمته بالعساكر إلى أن وصل إلى البلستين، ووقف على موضع المعركة، فتأسف على المغل وبكى، ثم قصد منزلة السلطان الملك الظاهر، فقاسها بعصا الدبوس فعلم عدة من كان نازلا بها من العساكر وأنكر على البرواناه كونه لم يعرفه جلية حال العسكر، فاعتذر بأنه «2» ما علم بذلك، وأن العسكر حضر بغتة، فلم يقبل عذره. وكان الأمير عز الدين أيبك الشيخ فى خدمة أبغا، فقال له: «أرنى مكان الميمنة والقلب والميسرة» فأقام «3» له فى كل منزلة رمحا، فلما رأى بعد ما بين الرماح قال: «ما هذا العسكر الذى حضر معى يكفى هؤلاء» ، وكان فى خدمته من عسكره ثلاثون «4» ألف، وكان قد سيرهم إلى الشام فأعادهم من كينوك، وتوجه إلى قيسارية وسأل أهلها فقال: «هل كان مع صاحب مصر جمال؟» ، فقالوا: «لم يكن معه(30/361)
إلا خيل وبغال» ، فقال: «هل نهب منكم شيئا؟» ، قالوا: «لا، إلا مشترى بالذهب» ، فقال: «منذكم فارقكم؟» قالوا: «منذ خمسة وعشرين يوما» ، فقال: «هم الآن عند جمالهم «1» » . ثم عزم على قتل من بقيسارية من المسلمين، فاجتمع إليه القضاة والفقهاء، وقالوا: «هؤلاء رعية ولا طاقة لهم بدفع عسكر إذا نزل عليهم، وهم مع الزمان عبيد من ملك» ، فلم يرجع إلى ذلك، وأمر بقتل جماعة من أهل البلد، وقتل قاضى القضاة جلال الدين حبيب، وأمر عسكره أن يبسط فى المملكة الرومية، فقتل من الرعايا ما يزيد على مائتى ألف، وقيل بلغت عدة من قتل من الرعايا والفلاحين وغيرهم خمسمائة الف من قيسارية إلى أرزن الروم [ولم يقتل أحدا من النصارى «2» ] ، ثم عاد أبغا إلى الأردو، وكان من خبر قتل البرواناه معين الدين ما قدمناه.
نعود إلى سياقة أخبار السلطان الملك الظاهر
قد قدمنا أن السلطان نزل بالقرب من حارم، وعيّد عيد الأضحى هناك، وحضر إلى خدمته أمراء بنى كلاب، ثم نزل السلطان بالقرب من أنطاكية فى مروجها ورحل إلى دمشق، فكان دخوله إليها فى خامس المحرم سنة ست وسبعين وستمائة وقيل فى سابعه.
قال المؤرخ: كان السلطان لما توجه إلى الروم كلف أهل دمشق جباية مال يسبب إفامة الخيل «3» ، فحضر إليه الشيخ محيى الدين النواوى وكلمه فى ذلك(30/362)
بكلام خشن، فلاطفه السلطان، وقال له: «يا سيدى: مد يدك أعاهدك أننى متى كسرت العدو فى هذه السفرة أبطل الجباية ويكون خاطرك معى» ، فعاهده على ذلك. فلما فتح البلاد وكتب إلى الشام بالبشارة، كتب إلى الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعى، شاد الدواوين بدمشق، كتابا مضمونه: أنه لا يحل ركابا إلا وقد استخرجت من أهل دمشق مائتى ألف درهم، ومن برّها ثلاثمائة ألف درهم، ومن قراها ثلاثمائة ألف درهم، ومن البلاد القبليه تكملة ألف ألف درهم، فتبدّل فرح أهل الشام لذلك حزنا، وتمنوا زوال الدولة، فما كملت خباية نصف المال حتى مات السلطان.(30/363)
واستهلت سنة ست وسبعين وستمائة
ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى رحمه الله تعالى
قال القاضى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية:
ودخل السلطان دمشق فى خامس المحرم وقد رنّح النصر أعطافه «1» ، وروى من دماء الأعداء أسيافه، وقدامه مقدمو التتار قد ركبوا وهم فى القيود عوض شهب الجياد، وبعد أن كانوا مقترنين صاروا مقرنين فى الأصفاد. ونزل بقصره فى الميدان الأخضر، معتقدا أن الدنيا فى يده قد حصلت، والبلاد التى حلها ركابه عنه انفصلت، وأن سعده استخلص له الأيام وأصفاها، والممالك شرقا وغربا لو لم يكن بها غيره لكفاها، وإذا بالمنية قد أنشبت أظفارها، والأمنية وقد وضعت حوبها [و «2» ] أوزارها، والعافية وقد شمّرت الذيل، والصحة وقد قالت لطبيه: «أهلك والليل» ، ورماح الخط وقد قالت لأقلام الخط: «أصبت فى لبس الحداد من المداد» ، والقلوب وقد قالت عند شق الجيوب: «نحن أحق منك بهذا المراد» ، والحصون وقد قالت لقصره الأبلق: «ما كان بناؤك على هذه الصورة إلا فألا»
بما تسود الجدران به عند الفجائع من السواد» .(30/365)
قال: وكان ابتداء مرضه الذى اعتل به الوجود، وتباشرت به الأكفان واللحود: ليلة السبت خامس عشر المحرم. فانه ركب وقت العصر من يوم الجمعة رابع عشرة وكأنه مودع لأخدانه ورؤية موكبه وركوب حصانه، ونزل والتاث جسمه بعض التياث، وأصبح وليس عنده ذلك الانبعاث. فلما انقضت مدة أجله، وانطوت صحيفة عمله، قبض الله روحه الزكية، ورجعت إلى ربها راضية مرضية، وذلك بعد الزوال من يوم الخميس سابع عشرين المحرم سنة ست وسبعين وستمائة.
وكأن نفوس العالم كانت نفسا، وأنزل الله السكينة فلا تسمع إلا همسا، واستصحبت مهابته السكون وخادعت العقول حتى أن ما كان «1» من وفاته كاد كل يحلف أنه ما يكون.
وحمل فى محفة إلى قلعة دمشق فى تلك الليلة، وسكنت الشفاة والألسنة، وتناومت العقول من غير نوم ولا سنة. وجعل فى بعض القاعات بالقلعة على سرير يومأ إليه بالترحم والسلام، ولا يزوره غير الملائكة الكرام.
قال المؤرخ: وتولى غسله وتحنيطه وتصبيره وتكفينه المهتار شجاع الدين عنبر، والفقيه كمال الدين الإسكندرى المعروف بابن المنبجى، والأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، ثم جعل فى تابوت وعلق فى بيت من بيوت قاعة البحرة بقلعة دمشق. وكانت مدة مرضه، رحمه الله تعالى، ثلاثة عشر يوما، وهى مدة مرض الشهيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى.(30/366)
وأول ما فتحه السلطان بنفسه: فيسارية الساحل، وآخر ما فتحه فيسارية الروم، واستمر بقلعة دمشق إلى أن ابتاع ولده السلطان الملك السعيد دار العقيقى بدمشق بستين ألف درهم، وحصل الشروع فى عمارتها ووضع الأساس فى يوم الأربعاء خامس جمادى الآخرة من السنة. وكانت النفقة على العمارة من ربع أملاكه. وحمل إليها ليلة الرغائب الخامس من شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، [و] بعد أن صلى عليه فى صحن جامع دمشق ليلا، أدخل من باب البريد وخرجوا به من باب النطاقين إلى تربته وتولى حمله الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بالشام والأمير عز الدين الداودار والطواشى صفى الدين جوهر الهندى، وألحده القاضى عز الدين الشافعى.
ولما تمت له سنة من يوم وفاته عملت له الأعزية بالقرافتين «1» ، ومدت الأسمطة للقراء والفقراء وفرقت على الزوايا، وحضر الناس على اختلاف طبقاتهم. وقرىء له عدة ختمات، وعمل له بعد ذلك عدة أعزبة بمدرسة الشافعى، والجامع الطولونى، والجامع الظاهرى، والمدارس الظاهرية، والصالحية، ودار الحديث الكاملية، والخانقاه الصلاحية، والجامع الحاكمى، وعمل للتكاررة «2» خوان حضره جماعة من الفقراء والصالحين.
مدة حكمه
وكانت مدة ملكه، رحمه الله تعالى، سبع «3» عشرة سنة وشهرين واثنى عشرة يوما.(30/367)
وكان له من الأولاد: السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد قاءان بركه، وأمه ابنة الأمير حسام الدين بركه خان بن دولة خان الخوارزمى «1» ، والملك المسعود نجم الدين الخضر، والملك العادل بدر الدين سلامش، وسبع ينات.
وتزوج أيضا ابنة الأمير سيف الدين نوكبة «2» التتارى، وابنة الأمير سيف الدين كراى التتارى، وابنة الأمير سيف الدين تماجى «3» التتارى، وامرأة شهرزورية تزوجها لما قدم غزة وحالف الشهرزورية، ثم طلقها لما ملك الديار المصرية.
نائبه: مملوكه الأمير بدر الدين بيليك الخزندار.
وزراؤه: الصاحب زين الدين بن الزبير مدة يسيرة. ثم استوزر بعده الصاحب بهاء الدين على بن محمد المعروف بابن حنا.
قضاته: وقد تقدم ذكر قضاته فى أخبار دولته.
***(30/368)
ذكر أخبار السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه قاءان «1» ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بييرس البندقدار الصالحى وهو الخامس من ملوك دولة الترك.
ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، بعد وفاة والده السلطان الملك الظاهر، فى يوم الخميس سابع عشرين المحرم سنة ست وسبعين وستمائة، وكان ولى عهد أبيه، على ما قدمناه فى أخبار الدولة الظاهرية «2» ، فى يوم الخميس ثالث عشر شوال سنة اثنتين وستين وستمائة، وجدّد له الحلف، فى يوم الخميس تاسع صفر سنة سبع وستين وستمائة.
قال: ولما توفى السلطان بدمشق كان الملك السعيد بمصر، وكان الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة وأكابر الأمراء قد أخفوا موت السلطان «3» .
وكتب الأمير بدر الدين بيليك الخزندار إلى الملك السعيد كتابا بخطه يخبره بوفاة السلطان، ويعلمه بما دبره من كتمان ذلك إلى أن يصل بالعساكر والخزائن إلى خدمته، وسأله كتمان الحال الى أن يصل اليه، وسير اليه المطالعة على يد الأمير بدر الدين الجو كان دار الحموى، والأمير علاء الدين أيدغمش الحكمى الجاشنكير، فلما وصلا بالمطالعة وأنهيا ما معهما من المشافهة خلع عليهما وأنعم على كل منهما بخمسة آلاف درهم، وأظهر أن ذلك بسبب بشارتهما بعود السلطان إلى دمشق.
ثم ركب الأمراء فى بكرة يوم السبت تاسع عشرين الشهر على العادة إلى سوق الخيل بدمشق.(30/369)
ثم رحلوا من دمشق فى صفر بالجيوش والعساكر، وبينهم محفة محمولة، وجماعة من المماليك السلطانية فى خدمتها يظهرون أن السلطان الملك الظاهر فيها وهو ضعيف، كل ذلك حفظا للمهابة، وما زال الأمر كذلك إلى أن وصلوا إلى الديار المصرية، وكان وصول المحفة والأمراء إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس خامس عشرين صفر سنة ست وسبعين وستمائة، وسلم الأمير بدر الدين الخزندار الخزائن والعساكر للسلطان الملك السعيد، وأظهروا عند ذلك وفاة السلطان وحلف الناس للملك السعيد، واستقر له الملك وعمره يومئذ تسع عشرة «1» سنة.
وكتب [الملك السعيد] إلى دمشق وسائر الممالك الشامية يخبر «النواب» بوفاة السلطان وسلطنته، ويطلب منهم اليمين، فوصل الأمر «2» فى البريد بذلك إلى دمشق فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأول، فجمع النائب عن السلطنة بها وهو الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى، الأمراء والمقدمين، وقرىء عليهم كتاب السلطنة فحلفوا، وحلف جميع العسكر والقضاة والأعيان، ثم رسم لمتولى دمشق أن يحلف أهل دمشق، فحلف أهل كل حارة بحضور عدلين، ورسم لمتولى البريد بذلك، فحلف أهل القرى والضياع، ودامت مدة الحلف بدمشق أحد عشر يوما حتى كملت. ثم خلع على الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان والنظار وكتاب الإنشاء بدمشق فى سادس عشر الشهر، وخلع على الأعيان والأكابر بالطرحات، وما كان قبل ذلك يخلع بالطرحة، إلا على قاضى القضاة، وحلف أيضا صاحب حماة وأهل بلده، ونائب حلب وأمراؤها وجندها وأهلها، وسائر الممالك الشامية لم يختلف منهم أحد ولا توقف عن اليمين.(30/370)
ذكر وفاة الأمير بدر الدين بيليك الخزندار
كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بقلعة الجبل فى ليلة الأحد سادس شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة، وذلك أنه لما وصل إلى خدمة السلطان الملك السعيد وقف وحلف الأمراء والخواص والأجناد وغيرهم للملك السعيد، فلما تكامل ذلك توجه إلى والدة السلطان زوجة مخدومه ليعزيها بالسلطان ويهنيها بسلطنة ابنها، فشكرت فعله وما اعتمده من حق ولدها من حفظ السلطنة عليه، ثم أخرجت له هنابا فيه مشروب، وقالت له: «أشرب هذا فأنك قد تعبت فى هذا اليوم وما أكلت شيئا.» فقال لها: «والله لى ثلاثة أيام ما آكل فى كل يوم نصف أوقية طعام خوفا على السلطان الملك السعيد، ولم أزل أدارى الأمراء منذ وفاة السلطان إلى أن كمل هذا الحلف المبارك» . وتناول الهناب وشرب منه جرعتين وأعاده فى الثالثة لكثرة إلحاحهم عليه، وتوجه إلى داره فحصل له قولنج، وانقطع وتزايد به الأمر، فمات، رحمه الله تعالى. وهذا الفصل الذى دبرته والدة الملك السعيد من سوء التدبير وقبح المكافأة، فأنه وقع الخيال عندها وعند ابنها منه، ولعل هذا الخيال كان غير صحيح: فإنه أحسن السياسة وأجمل التدبير ووفى لمخدومه، وكان رحمه الله تعالى، تربية السلطان، اشتراه وهو مفردى ورياه من صغره، وكان خزنداره، ثم أستاد داره فى الإمرة، ونائبه فى السلطنة وكانت مكانته عنده مكينة، يرجع إلى رأيه ويعتمد عليه فى سائر أحواله ويثق بنصحه، وتمكن فى الدولة الظاهرية تمكنا عظيما، وكان له بالديار المصرية إمرة مائة فارس وبالشام إمرة خمسين فارسا، وجعل له السلطان عند زواجه(30/371)
بابنه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل قلعة الصبيبة وبانياس وأعمالها والشغر «1» وغير ذلك.
ولما مات وقعت الأوهام فى نفوس الأمراء وتخيلوا، فإنهم علموا ما أسلفه المذكور من الخدمة للملك السعيد وحفظ الخزائن والعساكر، وأنه أدى الأمانة فى طاعته.
واستناب السلطان بعد وفاته الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى الظاهرى أستاد الدار ونائب السلطنة بالديار المصرية فى غيبة السلطان، وأقر الصاحب بهاء الدين على وزارته.
وركب «2» السلطان فى يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الأول بشعار السلطنة والأمراء فى خدمته، وتوجه صوب الجبل الأحمر، وذلك أول ركوبه، وخلع على الأمراء والأعيان.
ذكر القبض على من يذكر من الأمراء والإفراج عنهم ومن مات منهم
كان من سوء التدبير الذى اعتمده السلطان الملك السعيد: أنه قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى «3» الشمسى فى يوم الجمعة حادى عشرين شهر ربيع الأول، واعتقلهما بقلعة الجبل، وكانا من أكبر الأمراء، وأخصّهم بصحبة السلطان والده، فتغيرت لذلك قلوب الأمراء،(30/372)
ثم اجتمع مماليكه ومماليك الأمير بدر الدين بيليك الخزندار، وحسنوا له القبض على نائبه الأمير شمس الدين آقسنقر [الفارقانى] واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقى، وأمسكوه وهو جالس عند باب «1» القلعة وسحبوه إلى الدور وضربوه ونتفوا لحيته، وذلك فى يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واعتقل فلم يلبث إلا قليلا ومات.
ثم أفرج عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسرى «2» فى يوم السبت ثانى جمادى الأولى وخلع عليهما وأعادهما إلى ما كانا عليه.
ثم قبض على خاله الأمير بدر الدين محمد بى بن الأمير حسام الدين بركه خان فى يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة، واعتقله بقلعة الجبل، فغضبت أخته والدة السلطان لذلك، وأنكرته على ابنها، فأفرج عنه فى ليلة الثلاثاء خامس عشرين الشهر وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه. وشرع فى خلال ذلك فى تقديم مماليكه وترجيحهم وسماع آرائهم.
قال: ولما صدرت منه هذه الأفعال اجتمع الأمراء وتشاوروا، وقصدوا أن يتوجهوا إلى الشام، ثم رجعوا عن ذلك وبعثوا إلى السلطان وقد اجتمعوا فى يوم خميس، وأمتلأت بهم القلعة، وأنكروا فعله، وحذروه عاقبة ما يطرق إليه، فلاطفهم وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءا، وتولى الأمير بدر الدين الأيدمرى اليمين، فسكنت خواطرهم، واستقر الحال مدة لطيفة.
وكان السلطان لما قبض على الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى رتب فى النيابة بعده الأمير شمس الدين آقسنقر الألفى المظفرى، فلم يرضه الخاصكية لأنه غير(30/373)
ظاهرى. واتفق أنه ولى خوشداشه الأمير علم الدين سنجر المظفرى، المعروف بأبى خرص؛ نيابة المملكة الصفدية، وزاده على إقطاع النيابة نواحى من الخاص السلطانى، وهى أريحا وكفرين ونمرين من الغور، فأوهموا السلطان منه وزعموا أنه يقصد إقامة المظفرية ولا تؤمن غائلته، فعزله عن قريب، وولى الأمير سيف الدين كوندك الساقى نيابة السلطنة [لأنه ربى معه فى المكتب «1» ] وقيل إن ولايته كانت فى سنة سبع وسبعين. ولما فوضث إليه النيابة أمر الوزير الصاحب بهاء الدين أن يجلس بين يديه وألا يوقع إلا بأمره.
وتقدم من المماليك السعيدية الأمير حسام الدين لاجين «2» الزينى، وانضم إليه الخاصكية، وقويت شوكته وأخذ لخوشداشيته الإقطاعاث، ونافس النائب.
فضم النائب إليه الأمراء الأكابر، ومال إليهم واستجلبهم، هذا كله فى سنة ست وسبعين وستمائة، وبعضه فى سنة سبع على ما قيل.
وفى سنة ست وسبعين وستمائة أيضا فى يوم السبت سابع ذى القعدة: برز السلطان الملك السعيد بالعساكر إلى منزلة مسجد التبن «3» لقصد الشام، ثم انتقل بخواصه من هذه المنزلة فى يوم السبت حادى عشر الشهر ونزل بالميدان السعيدى وعادت العساكر إلى منازلهم وبطلت الحركة.
وفيها: فى شهر رمضان طلعت سحابة عظيمة بصفد، «4» لمع منها برق عظيم خارق،(30/374)
وسطح منها لسان كالنار، وسمع صوت رعد هائل، ووقع على منارة جامعها صاعقة شقت المنارة من رأسها إلى أسفلها شقا يدخل فيه الكف.
وفيها: سأل قاضى القضاه صدر الدين سليمان [بن أبى العز «1» ] الحنفى أن يؤذن له فى الإقامة بدمشق مدرسا ومجاورا لتربة السلطان، فأذن له، فأقام بدمشق. وفوض قضاء الحنفية بالديار المصرية لنائبه القاضى معز الدين.
ذكر عزل قاضى القضاة محيى الدين عبد الله بن محمد بن عين الدولة وإضافة عمله إلى قاضى القضاة تقى الدين بن رزين «2»
وفى يوم الأربعاء ثامن عشر ذى القعدة من هذه السنة، عزل القاضى محيى الدين أبو الصلاح عبد الله بن قاضى القضاة شرف الدين محمد بن عين الدولة الصفراوى «3» عن القضاء بمصر والوجه القبلى. وسبب ذلك أنه كان قد حصل له فالج منذ خمس سنين، فأقعد وعجز عن الكتابة، وكان يعلّم عنه كاتب الحكم، فعزل الآن. وأضيفت ولايته إلى القاضى تقى الدين بن رزين، وعطل القاضى محيى الدين وانقطع بمنزله إلى أن مات، وكانت وفاته بمصر فى رابع شهر رجب، وقيل فى خامسه من سنة ثمان وسبعين وستمائة، رحمه الله تعالى.
وفيها: فوض السلطان الملك السعيد قضاء القضاة بدمشق والشام أجمع من العريش إلى سلمية لقاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان الشافعى، وعزل القاضى عز الدين بن الصايغ، وتوجه القاضى شمس الدين إلى دمشق فى سابع(30/375)
وعشرين ذى الحجة، فوصل إليها فى ثالث عشرين المحرم، وخرج الناس للفائه إلى غزة. ومنهم من وصل إلى الصالحية، وكانت الشفاعة قد قويت بولايته قبل وقوعها.
وفيها: كانت وفاة قاضى القضاة الشيخ شمس الدين أبى عبد الله محمد بن الشيخ العماد إبراهيم بن عبد الواحد بن على بن سرور المقدسى «1» الحنبلى، فى يوم السبت ثانى عشرين المحرم سنة ست وسبعين، ودفن يوم الأحد بتربة عمه الحافظ عبد الغنى. وكان مولده فى يوم الأحد رابع عشر صفر سنة ثلاث وستمائة بدمشق، ولما أفرج عنه بعد القبض عليه كما تقدم، لزم بيته بالمدرسة الصالحية وتوفر على اشتغال الطلبة إلى أن توفى. وكان كريما سمحا كثير العبادة والذكر، وولى أيضا مشيخة الخانقاه الصلاحية بالقاهرة، رحمه الله تعالى.
ذكر وفاة الشيخ خضر وشىء من أخباره «2»
وفى سابع المحرم سنة ست وسبعين وستمائة: كانت وفاة الشيخ خضر ابن أبى بكر بن موسى العدوى المهرانى شيخ الملك الظاهر فى معتقله بقلعة الجبل، ودفن بسفح المقطم.
وقد حكى الشيخ شمس الدين محمد بن مجد الدين إبراهيم الجزرى فى تاريخه، «حوادث الزمان وأنبائه» ، مبدأ أمره، وكيف تنقلت به الحال، فقال:
كان فى مبدأ أمره يخدم الأكابر ببلد الجزيرة، ثم استخدم لشيل زبائل دور(30/376)
السلطنة والقلعة بجامكية وجراية. ثم ذكر عنه أنه أفسد بعض جوارى الدور، فرسم بخصيه، فهرب إلى حلب، وخدم بابا عند ابن قراطابا فأحبل جارية، فطلب فهرب إلى دمشق، والتجأ إلى الأمير ضياء الدين القيمرى، وأقام بمغارة فى زاويته بجيل المزة، فيقال إنه اجتمع بجماعة من الصالحين وبشروه بما يكون منه ومن السلطان الملك الظاهر. واتفق اجتماع الملك الظاهر به فى مدة مقامه بدمشق فى خدمة الملك الناصر فبشره بالملك. وكان الشيخ خضر قد احتوى على عقل الأمير سيف الدين قشتمر العجمى أحد الأمراء البحرية، فكان يخبره بسلطنة الملك الظاهر قبل وقوعها، ويخبره بأكثر ما وقع، ثم اجتمع به الأمير سيف الدين ايتامش «1» السغدى فأخيره أيضا بخبر الملك الظاهر، ثم كان من سلطنة الملك الظاهر ما قدمناه، وصار هو فى صحبة قشتمر العجمى، وخرج معه عند خروج السلطان إلى الشام بسبب الملك المغيث صاحب الكرك، فلما نزل السلطان على الطور سأل عنه الأمير سيف الدين قشتمر العجمى فأخبره أنه قد انقطع فى مغارة عند قبر أبى هريرة، رضى الله عنه، فتوجه السلطان إليه واجتمع به، فأخبره بوقائع كثيرة لم يخرم «2» ، فاغتبط به ولازمه، وبقى السلطان إذا حاصر بلدا من البلاد الساحلية والجبلية يخبره الشيخ بما يكون من أمره فيها، وبالوقت الذى يفتح فيه، فلا يخرم ذلك. ولما قصد السلطان أن يتوجه إلى الكرك فى سنة خمس وستين وستمائة استشاره فى ذلك فأشار عليه ألا يتوجه إليها فى هذه السفرة، وأن يتوجه إلى الديار المصرية فخالفه وتوجه إليها، فانكسرت فخذه ببركة زيزا قبل وصوله كما قدمنا ذكر ذلك. ولما رأى السلطان ذلك منه عظم عنده وبنى(30/377)
له زاوية بظاهر القاهرة بالحسينية بجوار أرض الطبالة، ووقف عليها أحكارا بجملة كثيرة، وبالقدس زاوية، وبدمشق زاوية بالمزة، وببعلبك زاوية، وبحماة زاوية، ثم هدم كنيسة اليهود بدمشق، وهى الكنيسة العظمى عندهم، وجعلها زاوية كما تقدم، وهدم كنيسة النصارى بالقدس، وقتل قسيسها بيده وعملها زاوية، وهدم كنيسة الروم بالإسكندرية، وهى كرسى كنائسهم يعقدون فيها البتركية، ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام فيها «1» ، وهو عندهم يحنا المعمدانى الذى عمد المسيح بن مريم، وجعلها مسجدا وبنى فيها المحاريب وسماها المدرسة الخضراء، وفتح لها شباكا إلى الطريق، ورتب فيها فقراء من جهته، وكذلك فى جميع زواياه: جعل بكل زاوية منها فقراء يقطعون المصانعات ويحمون أرباب الجرائم من اللصوص وغيرهم، ويتعاطون الفسق.
قال: ولقد سأله مرة والدى إبراهيم «2» فقال: «يا أخبى، اشتهى أعرف كيف كان سبب وصلتك إلى هذه المنزلة؟» ، فقال له: «والله لا أقول لك حتى تقول لى الذى تعرف منى» ، فقال له: «أعرفك شيخ نحس، نفوك من الجزيرة ثم من حلب ومن دمشق، وما رأيتك إلا وقد صرت فى هذه المنزلة» ، فقال: «والله العظيم صدقت، وما صدقنى أحد فى الحديث إلا أنت يا أخى، لما هربت من الجزيرة طلعت إلى جبل الجودى، فبقيت احتطب فى كل يوم جرزة «3» حطب أبيعها بدرهم ونصف، فلما كان فى بعض الأيام إذا أنا بفقير عريان ليس عليه لباس، وقد أنبت الله له شعرا على جسده، يستر عورته،(30/378)
فقال لى: «يا خضر، ايش تعمل؟» ، قلت: «أحتطب» فقال: «تعال غدا إلى هذا المكان وخذ منه جرزتين حطب»
، بع الواحدة لنفسك والأخرى اشترلى بثمنها موسى ومقصا ومشطا،» . فقلت: نعم. فلما كان الغد قصدت ذلك المكان فوجدت به جرزتين حطبا، فبعث إحداهما واشتريت له ما طلب، وبعث الأخرى لنفسى، قلما اجتمعت به قال لى: «اذهب إلى الشام، فسوف يكون لك «2» مع ملكه شأن عظيم» . فقدر الله تعالى أننى سكنت هذه المغارة بالمزة، فحصل لى اجتماع بالسلطان الملك الظاهر لما كان فى خدمة الملك الناصر، وفتح على بأن بشرته بالملك، فلما ملك كان سبب الوصلة بينى وبينه الأمير سيف الدين قشتمر العجمى. قال: «وكان ذلك الفقير قد أخبرنى بجميع ما يقع لى فى عمرى وبجميع ما يقع للسلطان واقعة بعد أخرى» .
قال: قال والدى: وكان فى ذلك الوقت قد حصل لى وجع فى ظهرى، فقلت له: إن ظهرى يؤلمنى فمسح بيده على ظهرى، فسكن الوجع، فقال:
«يا مجد الدين، سكن الوجع أم لا؟» . قال: فقلت: أما الوجع فقد سكن، وأما أننى اعتقد أنك رجل صالح فلا، وانما هذا من جملة السعادة التى حصلت لك. ثم كان من قبض السلطان عليه واعتقاله ما تقدم ذكره، ولم يزل فى اعتقاله إلى أن مات. قال: ولما عاد السلطان من غزاة الروم إلى دمشق كتب باطلاقه فورد البريد بعد وفاته.
وكان واسع الصدر كريم النفس، يعطى الدراهم والذهب الكثير، ويصنع له الطعام فى قدور كبيرة مفرطة فى الكبر، وكانت أحواله غير متناسبة والأقوال(30/379)
فيه مختلفة، فمن الناس من يثبت صلاحه؛ ومنهم من يرميه بالعظائم، وكان يكتب إلى صاحب حماة وغيره من الأمراء فى أوراقه إليهم: خضر نياك الحمارة، وكتب بذلك إلى قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ورقة، فأغضى عنها، ثم أخرى كذلك، فلما وصلت إليه الورقة الثالثة أحضر رسوله وقال له: «قل له، والله لئن وصل إلى ورقة منه بعد هذه فيها مثل هذا: أحضرته إلى مجلس الحكم وقابلته بما يستحقه بمقتضى ما كتب به خطه» ، فامتنع بعد ذلك من مكاتبته.
ومات وله نيف وخمسون سنة، وكان ربع القامة، كث اللحية، فى لسانه عجمة، سامحه الله وإيانا.
وفيها: كانت وفاة الأمير جمال الدين أقش المحمدى الصالحى «1» بالقاهرة فى ليلة الخميس ثالث عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بتربته بالقرافة الصغرى، وقد ناهز سبعين سنة. وكان السلطان قد نقم عليه وحبسه مدة ثم أفرج عنه وأعاده إلى الإمرة، وكان رحمه الله تعالى عديم الشر.
وفيها: توفى الأمير عز الدين أيبك الدمياطى الصالحى النجمى أحد الأمراء الأكابر المقدمين. وكان السلطان الملك الظاهر قد اعتقله كما تقدم ثم أفرج عنه، وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأربعاء تاسع شعبان، ودفن بتربته التى أنشأها بين القاهرة ومصر، المجاورة لحوض السبيل المعروف به، وقد ناف على سبعين سنة، وكان كريما جدا، له مروءة تامة، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الأمير عز الدين أيدمر العلائى، وكان ينوب عن السلطنة بقلعة صفد، فجرى بينه وبين النواب مفاوضة أدت إلى أن طلب الدستور من(30/380)
السلطان لينهى مصالح، فأذن له فحضر إلى الديار المصرية فأدركته منيته، فتوفى فى ليلة الأربعاء سابع عشر شهر رجب، ودفن فى يوم الأربعاء بالقرافة الصغرى.
وكان عفيفا أمينا محبا للعلماء والفقراء، وهو أخو الأمير علاء الدين أيدكن الصالحى العمادى، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الأمير شمس الدين بهادر المعروف بابن صاحب صهيون، وكان قد قدم إلى خدمة السلطان الملك الظاهر قبل وفاته بثلاث سنين، فأحسن إليه وأكرمه، وكانت وفاته بالقاهرة فى ليلة الأحد العشرين من شعبان، ودفن من الغد بتربته التى أنشأها خارج باب النصر، وقد ناف على أربعين سنة، رحمه الله تعالى.
وفيها، كانت وفاة الملك القاهر بهاء الدين أبى محمد عبد الملك بن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب، فجأة فى يوم السبت خامس عشر المحرم من غير مرض، بل كان راكبا بسوق الخيل بدمشق فاشتكى ألما فى فؤاده، فعاد إلى منزل «1» كريمته زوجة الملك الزاهد «2» مجير الدين داود بن صاحب حمص، فأدركته منيته، فمات عند دخوله إليها، وقيل إنه مات فى باب الدار قبل الدخول إليها، ودفن بسفح قاسيون. وكان مولده فى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكان رحمه الله تعالى رجلا جيدا شجاعا بطلا مقداما، سليم الصدر حسن الأوصاف كريم الأخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، حسن الإعتقاد فى الفقراء والصالحين، وكان يلبس(30/381)
ملابس العرب ويتزيا «1» بزيهم ويركب كمركبهم ويتخلق بأخلاقهم فى كثير من أفعاله، رحمه الله.
وقد حكى الشيخ قطب الدين اليونينى «2» ، نفع الله به، فى تاريخه، فى سبب وفاته، قال: حكى لى تاج الدين نوح بن شيخ السلامية «3» حكاية غربية معناها: أن أن الأمير عز الدين أيدمر العلائى نائب السلطنة بقلعة صفد حدثه بها، قال:
كان السلطان الملك الظاهر مولعا بالنجوم وما يقوله أرباب التقاويم، فأخبر أنه يموت بدمشق فى هذه السنة، سنة سبع وستين وستمائة، بالسم ملك «4» ، فحصل عنده من ذلك أثر كبير. قال: وكان الملك الظاهر عنده حسد شديد لمن يوصف بالشجاعة أو بذكر جميل، ولما دخل «5» الملك القاهر إلى الروم صحبة السلطان ظهر يوم المصاف عن شجاعة، وظهرت نكايته فى العدو حتى تعجب من فعله من شاهده، ورآه الملك الظاهر فتأثر منه، وانضاف إلى ذلك أن السلطان حصل منه فى ذلك اليوم فتور على خلاف عادته، وظهر عليه الندم كونه تورط فى بلاد الروم- بكلمة الملك القاهر فى ذلك الوقت- بكلام فيه إشارة إلى الإنكار وتقبيح فعله، فأثر ذلك عنده أثرا آخر، فلما عاد من غزاته وسمع الناس يلهجون بما فعله الملك القاهر تأثر من ذلك أيضا، وتخيل فى ذهنه أنه إذا سمّه فمات هو الذى ذكره أرباب النجوم لأنه يطلق عليه اسم ملك وله ذكر، فأحضره(30/382)
السلطان عنده لشرب القمز، وأعد له سما فى ورقة وجعلها إلى جانبه، من غير أن يطلع على ذلك أحدا، وللسلطان هنايات ثلاثة تختص به مع ثلاثة من سقاته، لا يشرب فيها غيره إلا من يكرمه وبناوله أحدها من يده، واتفق قيام الملك القاهر لقضاء الحاجة، فجعل السلطان ما فى الورقة فى هناب وأمسكه بيده، فلما عاد الملك القاهر ناوله اياه فقبل الارض وتناوله وشرب ما فيه. وقام الملك الظاهر لقضاء الحاجة فأخذ الساقى الهناب من يد الملك القاهر وملأه على العادة وهو لا يشعر بما وضعه السلطان فيه، فلما عاد السلطان تناول ذلك الهناب فشرب ما فيه وهو لا يظن أنه الذى جعل فيه ما جعل، فلما شريه أحس واستشعر وعلم أنه قد شرب من ذلك الهناب الذى فيه آثار السم وبقاياه وتخيل وامتد به المرض ومات كما تقدم. وأما الملك القاهر فمات من غد ذلك اليوم. وذكر الأمير عز الدين العلائى أنه بلغة ذلك من مطلع لا يشك فى أخباره، والله تعالى أعلم «1» .
وفيها: قتل الأمير عز الدين أيبك الموصلى الظاهرى، كان نائب السلطنة بحمص ثم نقله السلطان إلى نيابة السلطنة بحصن الأكراد وما معه، وكان ذا صرامة ونهضة وذكاء ومعرفة، وكان يتشيع، قتل غيلة ليلة الأربعاء سابع عشرين شهر رجب.
وفيها: كانت وفاة الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع محيى الدين أبى زكريا يحيى بن شرف الدين بن مرى بن الحسن بن الحسين بن حرام بن محمد النواوى «2»(30/383)
الشافعى. وكانت وفاته عند أبيه بنوى فى يوم الأربعاء خامس عشر شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، ومولده بنوى فى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فيكون مدة عمره خمسا «1» وأربعين سنة تقريبا. وكان رحمه الله تعالى كثير الورع والزهد واسع العلم له مصنفات مشهورة مفيدة منها: كتاب الروضة فى الفقه؛ عليه تعتمد الشافعية وبه يحتجون غالبا، وشرح مسلم، ورياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وشرح التنبيه، ومات قبل أن يكمله. ولم يكن فى زمانه مثله فى ورعه وزهده، وكان لا يأكل إلا مما يأتيه من جهة أبيه من نوى، فكان يخبز له الخبز بها ويقمرّ ويرسل إليه فيأكل منه، وما كان يجمع بين إدامين، فيأكل إما الدبس أو الخل أو الزيت أو الزبيب، ويأكل اللحم فى كل شهر مرة. وكان يتولى دار الحديث الأشرفية، فيجمع المباشر للوقف جامكيته بها، ثم يستأذنه فيما يفعل بها إذا اجتمعت، فتارة يشترى بها ملكا ويوقفه على المكان، وتارة يشترى بها كتبا ويوقفها ويجعلها فى خزانة المدرسة المذكوره. وكان لا يقبل لأحد هدية، ولا يأكل لأحد من أهل دمشق طعاما ولا غيره، وكان رحمه الله تعالى يواجه السلطان الملك الظاهر بالإفكار عليه فى أفعاله، ويلاطفه السلطان ويحمل جفوة كلامه ويخاطبه يا سيدى، رحمه الله تعالى. وعاش والده الحاج شرف بعده إلى سنة إحدى وثمانين فمات فى سابع عشر صفر، وقيل فى سنة اثنتين وثمانين، ودفن بنوى، رحمه الله تعالى.(30/384)
واستهلت سنة سبع وسبعين وستمائة
ذكر توجه السلطان إلى الشام وإقامته بدمشق وتجريد العساكر «1»
فى هذه السنة: توجه الملك السعيد إلى الشام وصحبته أخوه الملك المسعود نجم الدين خضر، ووالدته ابنة الأمير حسام الدين بركة خان، واستصحب الأمراء والعساكر. وكان رحيله من قلعة الجبل فى ذى القعدة، ووصل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء خامس ذى الحجة من السنة. ولما حل ركابه بدمشق أمر بأبطال الجبايات والمظالم التى كانت حدثت فى الدولة الظاهرية، فاستبشر الناس بذلك.
ولما استقر السلطان بدمشق جرد العساكر المصرية والشامية، فجرد الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحى فى عشرة آلاف، وأمره أن يتوجه إلى جهة سيس، وجرد الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى فى عشرة آلاف وأمره أن يتوجه إلى قلعة الروم، وأقام هو بدمشق فى مماليكه وخواصه، ونائبه الأمير سيف الدين كوندك. وأقام بدمشق من الأمراء الأكابر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبى، وكان السلطان قد أفرج عنه بعد وفاة والده الملك الظاهر وأحسن إليه.(30/385)
قالوا: وأراد السلطان بتجريد الأمراء الأكابر وإبعادهم عنه أن يتمكن فى غيبتهم من التدبير عليهم، وعزم أنهم إذا عادوا قبض عليهم وأقطع أخبازهم لمماليكه، وظن أن ذلك يتم له، والمقادير بخلاف ظنه. فتوجه الأمراء إلى الغزاة [وفى نفوسهم من ذلك إحن «1» ] وكان من أمرهم عند عودهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
[ذكر] أمر شاد الدواوين
وفى هذه السنة فى رابع عشرين ذى الحجة: حصل بين الأمير بدر الدين بكتوت الأقرعى شاد الدواوين بدمشق، وبين نائب السلطنة بها، مفاوضة أدت إلى شكواه إلى السلطان، فانتصر الأمراء لنائب السلطنة، فرسم بتفويض شاد الدواوين بالشام إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، وكان من جملة الأمراء بحلب، وخلع عليه وأقطع خبز الأقرعى، ونقل الأقرعى إلى حلب على إقطاع الدوادارى.
وفى هذه السنة، فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من ذى القعدة وهى سنة سبع وسبعين وستمائة: ولد مؤلّف هذا الكتاب وجامعه، فقير رحمة ربه «2» أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم بن عبادة «3» بن على(30/386)
ابن طراد بن خطاب بن نصر بن إسماعيل بن إبراهيم بن جعفر بن هلال بن الحسين بن ليث بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق عبد الله ابن عتيق، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن صاحبه، وأبى أصحابه، وجد صاحبه، والخليفة من بعده، وهو ثانى اثنين ابن أبى قحافة عثمان، رضوان الله عليهم، بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، عرف مؤلفه بالنويرى، عفا الله عنه ولطف به، وكان مولده بمدينة أخميم من صعيد مصر فى التاريخ المذكور.
وفى هذه السنة: كانت حوادث ووفاة جماعة من أرباب المناصب، وولاية غيرهم، نذكرها الآن فى هذا الموضع. ولا نشترط فى إيرادها الترتيب، بل نوردها بمقتضى المناصب، فمن ذلك:
[ذكر] وفاة الأمير جمال الدين أقش النجيبى الصالحى
كانت وفاته بالقاهرة فى يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر. وكان يلى أستاد دارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. وتولى أستاد دارية السلطان الملك الظاهر فى ابتداء سلطنته، ثم نقله إلى نيابة السلطنة بالشام كما تقدم.
وكان رحمه الله تعالى، دينا كثير الإحسان إلى الرعية والرفق بهم. وكان يكره السعاية فى الناس، ومن سعى عنده بأحد أبعده، وكان يحب أهل الخير ويقربهم.
وأنشأ بدمشق مدرسة للشافعية وخانقاه للصوفية على الميدان بالشّرف الأعلى، وخانا للسبيل بميدان الحصا. ووقف بالديار المصرية وقفا على المجاورين.(30/387)
ولم يرزق فى عصره ولدا. وكان عظيم الشكل والخلقة، كبير البطن، جهورى الصوت، أكولا، رحمه الله تعالى.
ذكر وفاة الصاحب بهاء الدين
وفى هذه السنة: كانت وفاة الصاحب الوزير بهاء الدين [أبو الحسن «1» ] على بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا، بمصر وقت آذان العصر من يوم الخميس سلخ ذى القعدة. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته بالقرافة. ومولده بمصر فى سنة ثلاث وستمائة، ومات وهو جد جد «2» . وكان فى ابتداء أمره فى دكان يبيع الخام، ثم تنقلت به الأحوال وباشر فى الديوان السلطانى حتى انتهى إلى هذه الغاية. وكان من رجال الدهر حزما وعزما وتدبيرا، وكتابة وتحصيلا للأموال، وقياما بمصالح الدولة، وكان شديد الغيرة على منصبه، فإذا تعرض أحد من المتعممين المباشرين إلى الاجتماع بالسلطان عمل على إتلاقه «3» ، وكذلك «4» من يجتمع بأكابر الأمراء من هذه الطائفة، ويحسن إلى من يتصل بخدمته وخدمة أولاده، وينتمى إليهم ويقدمهم، وكان حسن الظن بالفقراء والمشايخ كثير الإكرام لهم ولا يمل من حوائجهم، ويتشفع الناس عنده بهم فلا يردهم، وكان أمينا فى وزارته، ما تكلم عليه ولا على أولاده بخيانة وإنما كانوا كلهم يتجهون تجاه الغل «5» ويزرعون فاتسعت بذلك أحوالهم وكثرت أموالهم، وعمروا الأبنية العظيمة(30/388)
والمساكن البديعة والمتنزهات، وعمر هو مدرسة بزقاق القناديل بمصر، ووقف عليها أوقافا، وكان كثير الصدقة، والتزم صوم الدهر فى وزارته. وكان يثيب الشعراء «1» على مدائحهم، وامتدحه الشيخ رشيد الدين الفارقى فقال:-
وقايل فى الورى نبه لها عمرا ... فقلت إن علينا قد تنبه لى
ما لى إذا كنت محتاجا إلى عمر ... من حاجة فليتم حسبى انتباه على
وكان متمكنا من السلطان الملك الظاهر، يصرح باعتقاد بركته، حتى رام جماعة من الأمراء الأكابر خوشداشية السلطان أذاه عند السلطان وذكر معايبه فى أوقات، فكان السلطان إذا تنسم «2» ذلك منهم أو من أحدهم بادره السلطان بذكر محاسنه وأنه فى بركته، فيقف من يقصد أذاه عن ذلك. ولما مات وصل الخبر إلى السلطان وهو بمنزلة الكسوة، فأمر بايقاع الحوطة على الصاحب تاج الدين ولد ولده، وكان صحبته، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وأرسله إلى مصر، ورسم أن يستخرج من أخيه الصاحب زين الدين مائة ألف دينار، ومن الصاحب عز الدين بن الصاحب محيى الدين مائة ألف دينار.
وفوض السلطان وزارته للصاحب برهان الدين الخضر السنجارى، وفوضت «3» وزارة الصحبة للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء فى هذا التاريخ، ودخل إلى دمشق متوليا.(30/389)
[ذكر] وفاة مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم
وفيها: توفى القاضى مجد الدين [أبو محمد «1» ] عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم قاضى الحنفية بدمشق، وكانت وفاته بدمشق فى يوم الثلاثاء سادس شهر ربيع الآخر، ومولده بحلب فى جمادى الأولى سنة أربع عشرة وستمائة.
وكان رجلا دينا صالحا فاضلا لطيفا، وتولى تدريس المدرسة الظاهرية بالقاهرة كما تقدم، وخطابة الجامع الظاهرى بظاهر القاهرة، ثم نقل إلى قضاء دمشق كما تقدم. ولما مات فوض قضاء القضاة الحنفية بدمشق لقاضى القضاة الشيخ صدر الدين أبى الربيع سليمان بن أبى العز بن وهيب الحنفى، وكان قاضى القضاة الحنفية بالديار المصرية، وتوجه فى الصحبة الظاهرية إلى غزوة الروم، فلما عاد واتفقت وفاة السلطان سأل أن يكون مدرسا بدمشق ومجاورا لتربة السلطان، ففوض إليه تدريس المدرسة الظاهرية بدمشق، وكان ابتداء جلوس المدرسين بها فى ثالث صفر من هذه السنة، وولى تدريس الشافعية بها الشيخ رشيد الدين الفارقى، واستمر القاضى صدر الدين فى القضاء أربعة أشهر ومات.
وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن بسفح قاسيون بتربته وكان له، رحمه الله، التصانيف المفيدة فى مذهبه، ولما مات فوض القضاء بعده بدمشق لقاضى القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان قاضى ملطية، وكان قد حضر إلى الشام صحبة السلطان الملك الظاهر، ففوض(30/390)
إليه القضاء بدمشق فى التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وسبعين وستمائة، وقيل فى شوال منها.
وفيها: كانت وفاة الشيخ تاج الدين محمد بن على بن يوسف بن شاهانشاه ابن غسيان بن محمد بن جلب راغب المعروف بابن ميسر المصرى «1» ، وكان فاضلا جمع تاريخا لمصر، وقد نقلنا عنه مواضع فيما سلف من كتابنا هذا، وكانت وفاته بمصر فى يوم السبت ثانى عشر المحرم، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة بمصر، رحمه الله تعالى.
[ذكر] وفاة الشيخ العارف نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر الشيبانى الحريرى «2»
وفيها فى ليلة الأحد رابع عشر شهر ربيع الآخر: توفى الشيخ العارف المحقق نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر بن سوار بن اسرائيل الشيبانى الحريرى بدمشق، ودفن بقبة الشيخ أرسلان بمقبرة باب توما. ومولده فى يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستمائة بدمشق، وكان دينا صالحا كريما متواضعا فاضلا أديبا ناظما، وله ديوان شعر، وشعره كثير المعانى، رحمه الله تعالى.(30/391)
واستهلت سنة ثمان وسبعين وستمائة
[استهلت] والسلطان الملك السعيد بدمشق، وفى خدمته من الأمراء من ذكر والعساكر مجردة كما تقدم.
وفى هذه السنة فى ثامن المحرم: فوضت وزارة دمشق للصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسرانى الحلبى، وركب والرؤساء والأكابر فى خدمته وباشر من يومه.
وفيها فى شهر ربيع الأول: وقع بين الأمراء الخاصكية وبين الأمير سيف الدين كوندك «1» نائب السلطنة فتنة، كان سببها أن السلطان الملك السعيد أكثر من الإنعام على الخاصكية وأوسع فى العطاء لهم، فاتفق أنه أنعم على بعضهم بألف دينار، فتوقف النائب فى إمضاء المرسوم، فاجتمع المنعم عليه ببقية خوشداشيته وعرفهم ذلك، فاجتمعوا وحضروا إلى الأمير سيف الدين كوندك واسمعوه ما يكره، ودخلوا إلى السلطان وصمموا على عزله، فأجابهم إلى ذلك. فخرجوا إليه ليوقعوا به ويقبضوا عليه أو يقتلوه. وكان ذلك بحضور الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فمنعهم من ذلك وأخذه وضمه إليه. فخرج منشور السلطان له فى اليوم الثانى بأمرة أربعين فارسا بحلب، فاستمر عند الأمير شمس الدين سنقر الأشقر سبعة أيام. ووردت الأخبار بعود الأمراء.(30/393)
ذكر عود الأمراء من الغزاة وظهور الوحشة والمنافرة بينهم وبين السلطان الملك السعيد وتوجيههم إلى الديار المصرية
قال: ولما عاد الأمراء من الغزاة وقصدوا العبور إلى دمشق، أرسل إليهم الأمير سيف الدين كوندك يخبرهم بجلية الخبر ويعلمهم بما تقرر سرا.
ثم ركب وخرج إليهم وتلقاهم، واجتمع بالأمير سيف الدين قلاون الألفى، وبدر الدين بيسرى الشمسى، وتحدث معهما فأقاما بالمرج «1» بمن معهما من الأمراء ولم يعبرا [إلى] دمشق، وسيرا إلى السلطان يقولان له: «إن الأمير سيف الدين كوندك حضر إلينا وشكا من لاجين الزينى شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشف عنها، فيسيره السلطان إلينا لنسمع كل «2» منهما وننصف بينهما» . فلم يعبأ [السلطان] بقولهما، وكتب إلى الأمراء الظاهرية الذين معهما أن يفارقوهما ويعبروا إلى دمشق. فوقع القاصد بالكتب إلى الأمير سيف الدين كوندك فأحضره إلى الأمراء وأوقفهم على الكتب، فتحققوا سوء رأيه فيهم. ورحلوا من وقتهم من المرج ونزلوا بالجسورة «3» وأظهروا الأمور الدالة على الخلاف. وندم السلطان وبعث الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير شمس الدين سنقر التكريتى الظاهرى أستاد الدار إليهم، وتلطف بهم وقصد رجوعهم، فما وافقوا على الرجوع.(30/394)
ثم خرجت إليهم»
والدة السلطان إلى منزلة الكسوة، واجتمعت بالأمراء وسألتهم الرجوع فما رجعوا. وساروا إلى الديار المصرية، فوصلوا إليها ونزلوا تحت الجبل فى شهر ربيع الآخر، فاتصل بالأمراء المقيمين بالقلعة قدومهم، وكان بها الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى أمير جاندار، والأمير علاء الدين أقطوان الساقى، وسيف الدين بلبان الزريقى، فتقدموا إلى متولى القاهرة بغلق أبوابها فغلقت، وبنى خلف أكثرها الحيطان. فأرسلوا إلى الأمراء الذين بالقلعة فى فتح الأبواب ليعبر العسكر إلى بيوتهم، فنزل الأمير عز الدين الأفرم، والأمير علاء الدين أقطوان إلى الأمراء ليجتمعا بهم، فقبض عليهما الأمير سيف الدين كوندك، وأرسل الأمراء ففتحوا أبواب المدينة. ودخل الناس إلى بيوتهم بأثقالهم.
ولما قبض على الأمير عز الدين الأفرم وعلاء الدين أقطوان نقلان إلى دار الأمير سيف الدين قلاون بالقاهرة. وأغلق الأمير سيف الدين بلبان الزريقى أبواب القلعة واستعد للحصار.
ذكر وصول السلطان إلى قلعة الجبل وما كان من أمره إلى أن انخلع من السلطنة
قال المؤرخ: ولما رأى السلطان توجه الأمراء إلى الديار المصرية وانفرادهم عنه، جمع من كان بدمشق من بقايا العسكر المصرى والعساكر الشامية، واستدعى العربان وأنفق «2» الأموال فيهم بدمشق، وسار إلى الديار المصرية. وكان رحيله من دمشق فى يوم الجمعة ثانى شهر ربيع الآخر، وسلم قلعة دمشق إلى الأمير(30/395)
علم الدين سنجر الدوادارى وجعله نائبا إلى حين عود الأمير عز الدين أيدمر النائب، فلما وصل السلطان إلى غزة تسلل أكثر العربان وتفرقوا، ولم يصل إلى بلبيس ومعه من العسكر الشامى إلا اليسير. فأعطى من بقى منهم دستورا، فعادوا صحبة الأمير عز الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام، وكان وصولهم فى مستهل جمادى الأول. وكان الأمير سيف الدين قلاون لما عاد من غزاة سيس جرد من العسكر الشامى بحلب الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق الصالحى، والأمير عز الدين أزدمر العلائى، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزى، والأمير جمال الدين أقش الشمسى وغيرهم فى نحو ألفى فارس، فلما اتصل بهم خبر هذا الاختلاف رجعوا إلى دمشق فى شهر ربيع الآخر وقدموا عليهم الأمير جمال الدين أقش الشمسى. ووصل الأمير عز الدين أيدمر النائب بالشام إلى دمشق هو ومن معه فخرج الأمراء الذين وصلوا من حلب يتلقونه. فلما التقوه سبه الأمير ركن الدين الجالق والأمير عز الدين أزدمر العلائى وقالا له: «كيف فارقت السلطان» . فلما وصلوا إلى باب «1» الجابية أخذه الأمير جمال الدين أقش الشمسى إلى داره وقال له: «تكون بدارى إلى أن يرد مرسوم السلطان، ولا تكون سبب إقامة فتنة» . فتوجه معه إلى داره فأقام عنده إلى عشية النهار، وجاء الأمير ركن الدين الجالق وأزدمر العلائى إلى الأمير جمال الدين أقش الشمسى بعد صلاة العصر وأخذا الأمير عز الدين النائب من عنده وتوجها به إلى القلعة وسلماه إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى فتسلمه منهما وجعله بقاعة البحرة، ورسم عليه ومكنه من دخول الحمام. فجاء الأميران إلى القلعة فى يوم الاثنين بعد(30/396)
العصر واجتمعا بالدوادارى وأنكرا عليه كونه مكنه من دخول الحمام، وقالوا:
«تسلمه إلينا نتوجه به إلى الديار المصرية» ، فقال: «إنه ما جاءنى ولا جاءكم مرسوم بالقبض عليه. وقد قبضتم عليه ووصل إلى عندى، فكيف أسلمه إليكما وبأى عذر اعتذر إلى السلطان» . فأغلظوا له فى القول. فلما أنكر حالهم وثب من بينهما وأمر رجاله بالقلعة بغلق أبوابها. فوثب الأميران وجردا سيوفهما وخرجا على حمية، وأغلق الدوادارى باب قلعة دمشق.
هذا ما كان بالشام.
أما الملك السعيد فانه لم يبق معه من الأمراء الأكابر إلا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر والأمير علم الدين الحلبى، والبقية من المماليك السعيدية، كلاجين الزينى ومن يجرى مجراه، فلما وصل إلى قرب المطرية فارقه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وانفرد عنه وعن الأمراء.
قال: ولما بلغ الأمراء أن السلطان يقصد طلوع القلعة من وراء الجبل الأحمر ركبوا ليمنعوه من الوصول إلى القلعة، فجاء سحاب أسود وأظلم الوقت حتى أن الإنسان لا يرى رفيقه الذى يسايره، فطلع السلطان إلى القلعة، وما رآوه. ولما استقر بها حاصره الأمراء وأحاطوا بالقلعة، واتفق أن لاجين الزينى أنكر على الأمير سيف الدين بلبان الزريقى وشتمه؛ فتغير خاطره ونزل من القلعة وانحاز إلى الأمراء؛ وتسلل المماليك من القلعة واحدا بعد واحد ونزلوا إلى الأمراء.
وأشار الأمير علم الدين سنجر الحلبى على السلطان بالإفراج عن المعتقلين، فأفرج عن الأمراء الشهرزورية وغيرهم، واستشار السلطان الأمير المشار إليه فيما يفعل، فقال: «أرى أن آخذ المماليك السلطانية وأهجم بهم على الأمراء وافرق شملهم» . فلم(30/397)
يوافقه على ذلك وتمادى الأمر أسبوعا، فأرسل السلطان إلى الأمراء وسألهم أن يكون الشام بكماله لهم، فأبوا ذلك إلا أن يخلع نفسه من الملك. فالتمس من الأمير سيف الدين قلاون والأمير بدر الدين بيسرى أن يعطوه قلعة الكرك، فأجاباه إلى ذلك. ونزل من القلعة بعد أن حلفوه ألا يتطرق إلى غيرها وأن لا يكاتب أحدا من النواب ولا يستميل أحدا من الجند. وحلفوا له أنهم لا يؤذونه فى نفسه ولا يغيرون عليه. وسفروه لوقته صحبة الأمير سيف الدين بيغان «1» الركنى وجماعة يوصلونه إلى الكرك. فأوصلوه إليها وتسلمها من الأمير علاء الدين أيدكين الفخرى النائب بها، وتسلم ما بها من الأموال والذخائر. وكان خروجه من السلطنة فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة. فكانت مدة سلطنته بعد وفاة والده سنتين وشهرين وأياما.
ثم ملك بعده أخوه السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش «2» بن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى وهو السادس من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.
ملك بعد خلع أخيه السلطان الملك السعيد فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة. وذلك أنه لما سفّر الملك السعيد إلى الكرك عرضت السلطنة على الأمير سيف الدين قلاون فأبى ذلك، وقال: «لم أخلع الملك طمعا فى السلطنة إلا حفظا للنظام، وألفة لأكابر الأمراء أن يتقدم عليهم الأصاغر،(30/398)
والأولى ألا تخرج السلطنة عن الذرية الظاهرية، فأقام بدر الدين سلامش هذا وله من العمر سبع سنين، وخطب له على المنابر، وضربت السكة باسمه، ودبر الأمر سيف الدين قلاون أتابكية الدولة. ولم يكن للملك العادل معه غير مجرد الاسم. وأقر الصاحب برهان الدين السنجارى «1» على الوزارة وعزل قاضى القضاة تقى الدين محمد بن الحسين بن زين على القضاء بالديار المصرية، وفوضه إلى القاضى صدر الدين عمر بن قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز وذلك فى جمادى الأول سنة ثمان وسبعين وستمائة. وعزل القاضى شمس الدين بن شكر المالكى، والقاضى معز الدين الحنفى عن القضاء. ثم أعيدا بعد مدة يسيرة.
وفوض قضاء الحنابلة للقاضى عز الدين المقدس الحنبلى. واستناب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بالشام وسيره إلى دمشق. وكان وصوله إليها فى يوم الأربعاء ثانى جمادى الآخرة. وحال وصوله طلب الأمير علم الدين سنجر الداوادارى نائب قلعة دمشق وأمره بتسليم القلعة للأمير سيف الدين الصالحى.
حسب مارسم به، فتسلمها واستمر نائبا بها.
وفى يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة أمر الأمير شمس الدين بالقبض على الصاحب فتح الدين ابن القيسرانى وإيقاع الحوطة على موجوده وسير إلى الأبواب السلطانية تحت الإحتياط.
قال: وأخذ الأمير سيف الدين قلاون فى القبض على الأمراء الظاهرية «2»(30/399)
وهو فى أثناء ذلك يدير الأحوال ويفرق الأموال ويوس الممالك ويمهد لنفسه المسالك.
وأما الأمير بدر الدين بيسرى فإنه اشتغل بالشرب واللهو. فاجتمعت آراء الأمراء على استقلال الأمير سيف الدين قلاون بالسلطنة، فأجابهم إلى ذلك، وخلع الملك سلامش من السلطنة. فكان (كذا) مدة وقوع اسم السلطنة عليه مائة «1» يوم.
وكان حسن الصورة، جميل الهيئة، كثير السكون والحياء والعقل والأدب والتأنى على صغر سنه.
***(30/400)
نجز السفر الثامن والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدايم البكرى التميمى القرشى، عرف بالنويرى عفا الله عنه.
ووافق الفراغ من كتابته فى يوم السبت المبارك التاسع والعشرين من ذى الحجة سنة خمس وعشرين وسبعمائة للهجرة النبوية.
وذلك بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى بالإسلام والسنة إلى يوم الدين.
يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول السفر التاسع والعشرين منه:
ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الألفى الصالحى النجمى والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(30/401)
فهرس موضوعات الجزء الثلاثون
من كتاب نهاية الأرب للنويري
تقديم 5
سنة ثمان وخمسين وستمائة 13- 15
ذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى 13
سنة تسع وخمسين وستمائة 17- 51
ذكر تفويض الوزارة إلى الصاحب الوزير بهاء الدين على بن القاضى سديد الدين أبى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنا 18
ذكر القبض على جماعة من الأمراء المعزية 18
ذكر تفويض قضاء الفضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز 19
ذكر ما اعتمده السلطان فى ابتداء سلطنته ورتبه من المصالح وقرره من القربات والأوقاف والعمائر 23
ذكر بناء قلعة الجزيرة 23
ذكر وصول من يذكر من الملوك إلى خدمة السلطان، وما قرره لكل منهم وما عاملهم به من الإحسان 26(30/403)
ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى أن قتل 28
ذكر استيلاء الأمير علم الدين سنجر الحلبى على دمشق وسلطنته بها، وأخذها منه وتقرير نواب السلطان بها 38
ذكر ما اتفق بحلب من أمر النيابة 39
ذكر وصول طائفة من التتار إلى البلاد الإسلامية، وما فعلوه بحلب وتقدمهم إلى حمص وقتالهم وانهزامهم، وما كان من خبر عودهم 40
ذكر الغلاء الكائن بحلب 43
ذكر اختلاف العزيزية والناصرية، ومفارقة الأمير شمس الدين أقش البرلى البلاد، وتولية الحلبى نيابة حلب وعزله، وعود البرلى إليها وخروجه منها، ونيابة البندقدار وعود البرلى إليها ثانية وخروجه 43
ذكر ما اتفق للسلطان بالشام فى مدة مقامه بدمشق 46
ذكر ركوب السلطان إلى الميدان بدمشق ولعبه بالكرة ومن كان فى خدمته من الملوك 46
ذكر الصلح مع ملوك الفرنج 47
ذكر الغارة على العرب والفرنج 48
ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية 49
ذكر أخذ الشوبك 49(30/404)
سنة ستين وستمائة 53- 77
ذكر وصول الأمير شمس الدين سلار البغدادى وشىء من أخباره 54
ذكر عود رسل السلطان من جهة الأنيرو 56
ذكر عود رسل السلطان من جهة صاحب الروم ووصول رسله إلى السلطان، وما قرره السلطان من بلاده 56
ذكر عود رسل السلطان من جهة الأشكرى، وخبر مسجد القسطنطينية 58
ذكر حضور الأمير شمس الدين أقش البرلى العزيزى إلى الديار المصرية 59
ذكر القبض على علاء الدين طيبرس الوزيرى نائب السلطنة بالشام 60
ذكر وصول جماعة من التتار إلى خدمة السلطان 62
ذكر إنفاذ الرسل إلى الملك بركة 64
ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير جمال الدين النجيبى الصالحى 65
ذكر وفاة شيخ الاسلام عز الدين أبى محمد بن عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبى القاسم بن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى وشىء من أخباره 66
سنة إحدى وستين وستمائة 79- 91
ذكر البيعة للإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى 79
ذكر القبض على الملك المغيث صاحب الكرك واعتقاله 79
ذكر أخذ الكرك 82(30/405)
ذكر القبض على الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير شمس الدين أقش البرلى، والأمير عز الدين الدمياطى وما نقل من الأسباب الموجبة لذلك 84
ذكر وصول رسل الملك بركة 87
ذكر توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية 88
ذكر وصول التتار المستأمنين 89
سنة اثنتين وستين وستمائة 93- 110
ذكر تفويض أمر جيش حماة إلى الطواشى شجاع الدين مرشد الحموى 93
ذكر عمارة المدرسة الظاهرية وترتيب الدروس 93
ذكر وفاة الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص والرحبة 94
ذكر جلوس السلطان بدار العدل وما رتبه عند غلو الأسعار 96
ذكر جلوسه بدار العدل وما قرره من مشاركة أمناء الحكم للأوصياء 98
ذكر وصول جماعة من عسكر شيراز 99
ذكر سلطنة الملك السعيد 100
ذكر ختان الملك السعيد ومن معه 103
ذكر خبر غازية الخناقة 103
ذكر وصول رسل الملك بركة 105
ذكر توجه السلطان إلى الإسكندرية وتقديم سيف الدين عطاء الله على عرب برقة 106(30/406)
ذكر الواقعة الكائنة بين المسلمين والفرنج ببلاد الأندلس، وانتصار المسلمين 108
ذكر مقتل الزين الحافظى 109
سنة ثلاث وستين وستمائة 111- 126
ذكر خبر الحريق بالقاهرة ومصر واتهام أهل الذمة، وما قرره عليهم من الأموال بسببه 114
ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام 117
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأقرع 123
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الرومى وذنوبه السابقة 123
ذكر وفاة قاضى القضاة بدر الدين السنجارى وشىء من أخباره 124
سنة أربع وستين وستمائة 127- 131
ذكر عمارة جسر دامية 127
ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى 129
سنة خمس وستين وستمائة 133- 148
ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية وبناء الجامع الظاهرى 133
ذكر إقامة الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة وشىء من أخباره 135
ذكر إنشاء القصر الأبلق بالميدان بظاهر دمشق 136(30/407)
ذكر توجه السلطان إلى الشام وعمارة قلعة صفد 137
ذكر وفاة قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز، ونبدة من أخباره رحمه الله، ومن ولى قضاء الشافعية وغيره من مناصبه بعد وفاته 140
ذكر وصول الشريف بدر الدين مالك بن منيف وإعطائه نصف إمره المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام 146
ذكر تسمير من يذكر بالقاهرة 147
سنة ست وستين وستمائة 149- 156
ذكر أخذ الزكاة من عرب الحجاز 149
ذكر ظهور الماء بالقدس الشريف 149
ذكر خبر الحبيس النصرانى ومقتله 151
ذكر بناء القرية الظاهرية قرب العباسة 152
ذكر إيقاع الحوطة السلطانية على الأملاك والبساتين وما تقرر على أربابها من المال 152
ذكر وصول الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من بلاد التتار.
والصلح مع التكفور هيتوم صاحب سيس 153
سنة سبع وستين وستمائة 157- 167
ذكر تجديد الحلف للملك السعيد 157
ذكر توجه السلطان على خيل البريد إلى الديار متنكرا وعوده إلى مخبمه بخربة اللصوص ولم يعلم من به بتوجهه 161(30/408)
ذكر وفاة الأمير عز الدين أيدمر الحلى الصالحى نائب السلطنة 165
ذكر توجه السلطان الملك الظاهر إلى الحجاز الشريف 166
سنة ثمان وستين وستمائة 169- 172
ذكر توجه السلطان إلى الشام جريدة 170
سنة تسع وستين وستمائة 173- 183
ذكر القبض على الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث صاحب الكرك والأمراء الشهر زورية 173
ذكر حادثة السيل بدمشق 176
ذكر سفر الشوانى الإسلامية إلى قبرس وكسرها وأسر من كان بها وخلاصهم 178
ذكر عود السلطان إلى قلعته ووصول رسل اليمن واهتمامه بأمر الشوانى، وما أنعم به من الخلع والخيول على الأمراء والأجناد 179
ذكر القبض على من يذكر من الأمراء 180
سنة سبعين وستمائة 185- 195
ذكر توجه السلطان إلى الكرك ثم إلى الشام وعزل الأمير جمال الدين النجيبى عن نيابة دمشق وتولية الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك نيابة السلطنة بالشام واستنابة الأمير علاء الدين أيدكن أستاد الدار بالكرك 185
ذكر عود السلطان من حلب ورجوعه إلى الديار المصرية وعوده إلى الشام 188(30/409)
ذكر إيقاع الحوطة على القاضى شمس الدين الحنبلى واعتقاله 190
ذكر توجه السلطان إلى الصيد ثم إلى الشام 191
سنة إحدى وسبعين وستمائة 193- 203
ذكر توجه السلطان إلى الديار المصرية على خيل البريد وعوده إلى الشام 193
ذكر اعتقال الشيخ خضر والأسباب التى أوجبت ذلك 198
سنة اثنتين وسبعين وستمائة 203- 204
ذكر الطلسم الذى وجد بباب القصر بالقاهرة 203
ذكر توجه السلطان إلى الشام 205
ذكر وصول الملك شمس الدين بهادر صاحب شميصاط وشىء من أخباره 207
ذكر الظفر بملك الكرج 208
ذكر ختان الملك المسعود نجم الدين خضر ولد السلطان الملك الظاهر 210
ذكر نكتة غريبة 210
ذكر ورود كتاب متملك الحبشة 211
سنة ثلاث وسبعين وستمائة 215- 217
سنة أربع وسبعين وستمائة 219- 231
ذكر شنق الطواشى شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وغيره 220(30/410)
ذكر متجددات اتفقت بعد وصول السلطان إلى الديار المصرية غير ما تقدم ذكره 221
ذكر توجه رسل السلطان إلى أشهيلية وما كان من خبرهم 222
ذكر اتصال الملك السعيد بابنة الأمير سيف الدين قلاون 223
ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده 227
سنة خمس وسبعين وستمائة 233- 237
ذكر وصول جماعة من أمراء الروم إلى خدمة السلطان وطاعتهم له 233
ذكر ظهور المسجد بجوار دير البغل، وإقامة شعائر الإسلام به 235
غزوات السلطان الملك الظاهر وفتوحاته وما استولى عليه من البلاد الإسلامية ذكر ما استولى عليه من القلاع والحصون والبلاد الإسلامية وأضافه إلى ممالكه 239
ذكر فتوح سواكن 239
ذكر فتوح خيبر 240
ذكر فتوح قرقيسيا 241
ذكر فتوح بلاطنس وخبرها 242
ذكر تسليم صهيون وبرزية 243
ذكر أخبار الإسماعيلية وابتداء أمرهم والإستيلاء على حصونهم 244(30/411)
ذكر استيلاء السلطان على بلاد الإسماعيلية وشىء من أخبارها 247
ذكر فتوح العليقة والرصافة 249
ذكر فتوح بقية حصون الدعوة 250
ذكر أخبار هذه الحصون 252
ذكر غزوات السلطان وفتوحاته وما وقع من المصالحات والمهادنات 255
ذكر مسير السلطان إلى عكا 257
ذكر قصد متملك الأرمن حلب المحروسة 259
ذكرة محاصرة التتار البيرة وتجريد العساكر وانهزام العدو 262
ذكر الفتوحات بالبلاد الفرنجية فى هذه السفرة 265
ذكر فتوح قيسارية 266
ذكر التوجه إلى عثليث وأخذ حصن الملوحة وحيفا 267
ذكر فتوح أرسوف 268
ذكر ما ملكه السلطان لأمرائه من النواحى التى فتحها الله على يده 272
ذكر قصد البرنس صاحب طرابلس حمص وانهزامه 281
ذكر إغارة العساكر على طرابلس الشام وفتح قلعة حلبا وقلعة عرقا 282
ذكر إغارة العسكر على صور 284
ذكر فتوح صفد 285
ذكر غزوة سيس وأسر ملكها وقتل أخيه وعمه وأسر ولد عمه 290(30/412)
ذكر قتلى أهل قارا وسبى ذراريهم 292
ذكر وقعة مع الفرنج كانت النصرة فيها للمسلمين 294
ذكر إغارة السلطان على عكا 295
ذكر الصلح مع بيت الإسبتار على حصنى الأكراد والمرقب 297
ذكر فتوح يافا 298
ذكر فتوح شقيف أرنون 301
ذكر توجه السلطان إلى طرابلس وإغارته عليها 304
ذكر فتوح أنطاكية 305
ذكر ملخص أخبار أنطاكية 311
ذكر ما أعتمده السلطان فى قسمة غنائم أنطاكية وإحراقه قلعتها.
وما افتتحه مما هو مضاف إليها وهو: دير كوش وشقيف كفر دنين وشقيف كفر تلميس 317
ذكر صلح القصير على المناصفة 319
ذكر فتوح حصن بغراس من الديوية 319
ذكر الإغارة على صور 320
ذكر الإغارة على بلاد كركر وأخذ قلعة شرموشاك 331
ذكر الإغارة على عكا 331
ذكر فتوح قلعة صافيتا 324(30/413)
ذكر صلح أنطرطوس والمرقب 328
ذكر فتوح حصن عكار 329
ذكر صلح طرابلس 331
ذكر فتوح القرين 332
ذكر صلح صور وما تقرر من المناصفة 333
ذكر منازلة التتار البيرة وكسرهم على الفرات وقتل مقدمهم جنقر 333
ذكر فتوح كينوك 335
ذكر إغارة عيسى بن مهنا على الأبنار 336
ذكر الإغارة على مرعش 337
ذكر غزوة سيس 337
ذكر شىء من أخبار بلاد سيس وسبب استيلاء الأرمن عليها 340
ذكر منازلة حصن القصير وفتحه 341
ذكر وفاة الأبرنس صاحب طرابلس وما اتفق بعد وفاته 343
ذكر غزوة النوبة 344
ذكر غزوات النوبة فى الإسلام 348
ذكر غزوة الروم وقتل التتار 350
ذكر رحيل السلطان عن قيسارية وهرب عز الدين أيبك الشيخى ولحاقه بأبغا وعود السلطان إلى ممالكه 357(30/414)
ذكر ما اعتمده الأمير شمس الدين محمد بك بن قرمان أمير التركمان فى البلاد الرومية 359
ذكر وصول أبغا إلى بلاد الروم ومشاهدته مكان الوقعة وما فعله بأهل الروم من القتل والنهب 361
العودة إلى سياقة أخبار السلطان الملك الظاهر 362
سنة ست وسبعين وستمائة 365- 384
ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر ركن الدين بييرس الصالحى رحمه الله تعالى 365
مدة حكمه 367
ذكر أخبار السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه قاءان بن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدار الصالحى وهو الخامس من ملوك دولة الترك 369
ذكر وفاة بدر الدين بيليك الخزندار 371
ذكر القبض على من يذكر من الأمراء والإفراج عنهم ومن مات منهم 372
ذكر عزل قاضى القضاة محيى الدين عبد الله بن محمد بن عين الدولة وإضافة عمله إلى قاضى القضاة تقى الدين بن زين 375
ذكر وفاة الشيخ خضر وشىء من أخباره 376(30/415)
سنة سبع وسبعين وستمائة 385- 391
ذكر توجه السلطان إلى الشام وإقامته بدمشق وتجريد العساكر 385
ذكر أمر شاد الدواوين 386
ذكر وفاة الأمير أقش النجيبى الصالحى 387
ذكر وفاة الصاحب بهاء الدين 388
ذكر وفاة مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب بهاء الدين عمر بن العديم 190
ذكر وفاة الشيخ العارف نجم الدين أبو المعالى محمد بن الخضر الشيبانى الحريرى 391
سنة ثمان وسبعين وستمائة 393- 400
ذكر عود الأمراء من الغزاة وظهور الوحشة والمنافرة بينهم وبين السلطان الملك السعيد وتوجيههم إلى الديار المصرية 394
ذكر وصول السلطان إلى قلعة الجبل وما كان من أمره إلى أن أنخلع من السلطنة 395
فهرس موضوعات الكتاب 403
التعريف بمصطلحات المتن 417(30/416)
الجزء الحادي والثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
يسر مركز تحقيق التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب أن يقدم الجزء الحادى والثلاثين من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى.
وهذا الجزء يقابل الجزء التاسع والعشرين من مخطوطة كوير يللى المحفوظة بدار الكتب تحت رقم 549 معارف عامة.
وبالمخطوط اضطراب فى ترتيب الصفحات مما أدى إلى اختلال السياق بين الصفحات 67، 87 وقد أجرى ترتيب صفحات المخطوط بما يتفق مع الترتيب الزمنى للأحداث «1» . وبالمخطوط أيضا الكثير من الأخطاء اللغوية وقد جرى تصويبها بالمتن مع الإشارة إليها بالهامش.
ويشير النويرى إلى تاريخ تأليفه لهذا الجزء بقوله: «...... إلى حين وضعنا لهدا الجزء، وذلك فى سلخ شهر رجب سنة خمس وعشرين وسبعمائة» «2» .
كما يشير أيضا إلى ما اتخذه من نهج فى كتابته، بأن يورد أولا ما وقع من أحداث بالغة الأهمية فى داخل المملكة، ثم يذكر ما جرى من الغزوات والفتوحات، حسب ترتيبها الزمنى، ثم يشرح بعد ذلك حوادث السنين، وما وقع فيها من الولاية والعزل والأخبار والوفيات إلى انقضاء الدولة المنصورية «3» .(31/5)
والنويرى فى كل ذلك لم يختلف عن ابن الفرات، إلا فى ترتيب الأحداث، أما المادة التاريخية فتكاد تكون متطابقة.
والمعروف أن ابن الفرات عاش فى زمن لا حق لزمن النويرى ولعله نقل عنه، أو استخدم مصدرا رجع إليه النويرى ولم يشر إليه ابن الفرات، وسوف تجرى الإشارة إلى هذا التطابق فى مواضعه.
وهذا الجزء مبدأ بذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى، وهو السابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية، وجلوسه على تخت السلطنة يقلعة الجبل فى يوم الأحد العشرين من شهر رجب الفرد سنة ثمان وسبعين وستمائة.
وينتهى بذكر وصول رسل غازان ملك التتار إلى البلاد الشامية، وحضورهم بين يدى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلعة الجبل عشية نهار الثلاثاء سادس عشر ذى الحجة سنة سبعمائة، وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به.
نسأل الله التوفيق والسداد مركز تحقيق التراث جمادى الآخر 1412 هـ ديسمير 1991 م(31/6)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية]
[تتمة ذكر اخبار دولة الترك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
هو حسبى وكفى
ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى وهو السابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.
وهو من خالصة القفجاق «1» ، من قبيلة برج أغلى «2» . وكان مملوك الأمير علاء الدين أقسنقر الساقى العادلى.
اشتراه بألف دينار، فعرف بالألفى. وانفقت وفاة أستاذه «3» فى الأيام الصالحية، فى يوم الجمعة، الثامن والعشرين، من شهر رجب، سنة ثمان وسبعين وستمائة،(31/7)
فارتجع إلى المماليك السلطانية «1» هو وجماعة من خشداشيته «2» ، فهم يعرفون بالعلائية.
وكان السلطان الملك المنصور هذا، فى جملة البحرية الذين خرجوا من الديار المصرية، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى. ثم تنقلت به الحال إلى هذه الغاية. ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وما مع ذلك. وجلس على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، فى يوم الأحد، العشرين من شهر رجب الفرد، سنة ثمان وسبعين وستمائة. واستحلف «3» الأمراء والمقدمين، ومن جرت العادة باستحلافه. وخطب له على المنابر، وكتب إلى دمشق، وإلى سائر الممالك يخبرهم بذلك. فوصل البريد إلى دمشق فى الثامن والعشرين من الشهر. وساق(31/8)
[بعض مماليك الملك المنصور «1» ] من باب الأسطبل السلطانى، بظاهر قلعة الجبل إلى دمشق، فى يومين وسبع ساعات. وحلف الناس له بالشام. وخطب له على منابر دمشق، فى يوم الجمعة ثانى شعبان.
وكان من أول ما اعتمده السلطان عند جلوسه على تخت السلطنة، أنه أمر بإبطال زكاة الدولية «2» ، بالديار المصرية، وكانت قد اجحفت بالرعية. وأفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم «3» الصالحى، ورتبه فى نيابة السلطنة. فتولاها مدة يسيرة، ثم استعفى منها فأعفاه، وفوض نيابة السلطنة بعده، لمملوكه الأمير حسام الدين طرنطاى، وذلك فى يوم السبت الثالث والعشرين من شهر رمضان من السنة. وأقر الصاحب برهان الدين [السنجارى «4» ] على الوزارة، ورتب مملوكه الأمير علم الدين سنجر الشجاعى فى شد الدولة.
وكان أول ركوب السلطان الملك المنصور بشعار السلطنة، فى يوم السبت(31/9)
الثالث من شعبان. وكتب إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بركوبه.
والكتاب بخط القاضى تاج الدين بن الأثير، جاء منه «1» :
ولا زالت أيامه بمحابتها تنهى «2» ، وترى من النصر ما كانت تتمنى، وتتأمل آثارها فتملأها حسنا. وتشاهد من أماير الظفر ما يوسع على العباد أمنا.
ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك، الذى أولى كلّا منّا منّا.
المملوك يهدى من لطيف أنبائه، ووظائف دعائه «3» ، وما استقر من عوارف الله لديه، وما حباه به من النعم، التى ملأت يديه، ما يستروح بنسيمه؛ ويستفتح لسان الحمد بتقديمه، وتزداد «4» به مسرة نفسه «5» وابتهاجها،(31/10)
وتزدان عقود السعود، وإنما يزين اللآلىء فى العقود ازدواجها، وتقوى به قوى العزائم، وتمثله الأعداء فى أفكارها، فتكاد تجر ذيول العزائم، وتبعت الآمال على تمسكها بالنصر، وتظهر منه المحاب التى «1» لو قصدت الأقلام لحصرها، لعجزت عن الحصر. وهو أن العلم الكريم، قد أحاط بالصورة التى استقرت، من دخول الناس فى طاعة المملوك، واجتماع الكلمة عليه، واستقلاله بأمر السلطنة المظمة.
ولما كان يوم السبت، الثالث من شعبان المبارك، سنة ثمان وسبعين وستمائة، ركب المملوك بشعار السلطنة، وأبهة الملك؛ وسلك المجالس العالية، الأمراء والمقدمون والمفاردة «2» والعساكر المنصورة، من آداب الخدمة، وإخلاص النية، وحسن الطاعة كل «3» ما دلّ على انتظام الأمر واتساق عقد النصر.
ولما قضينا من أمر الركوب وطرا «4» ، وأنجزنا للأولياء وعدا من السعادة منتظرا، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة، والأيدى بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا مجتمعة، والآمال قد توثفت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرفت من التأييد مطالع أنواره. وشرعنا من الآن فى أسباب الجهاد، وأخذنا فى كل ما يؤذن، إن شاء الله تعالى، بفتح ما بأيدى العدو من البلاد.(31/11)
ولم يبق إلا أن تتثنى»
الأعنة، وتسدد «2» الأسنة، ويظهر ما فى النفوس، من مضمرات المقاصد المستكنة.
[ورسمنا «3» ] بأن تزين دمشق المحروسة، وتضرب البشائر فى البلاد، وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله تعالى، يجعل أوقاته بالتهانى مفتتحة، ويشكر مساعيه، التى ما زالت فى كل موقف ممتدحة، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.
ذكر عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وتفويضها للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان وغير ذلك.
وفى هذه السنة، فى السادس والعشرين، من شهر رمضان، عزل السلطان، الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى عن الوزارة، ولزم مدرسة أخيه قاضى القضاة بدر الدين، بالقرافة الصغرى. واستوزر السلطان بعده، الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان.
وفيها، فى شعبان، رسم السلطان باعفاء تقى الدين توبة «4» التكريتى بيع «5» الخزانة بدمشق، من هذه الوظيفة؛ وأن يسامح بما عليه من البواقى «6» . وفوض إليه(31/12)
نظر الخزانة بدمشق فباشرها، واستمر إلى خامس شوال منها. ثم فوض إليه وزارة الشام، وخلع عليه خلع الوزراء.
وفيها، فى أواخر شوال، حضر الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى، من دمشق، تحت الاحتياط، وجرد معه جماعة، فلما وصل إلى قلعة الجبل اعتقل [بها «1» ] .
وفيها، فوض السلطان نيابة قلعة دمشق لمملوكه الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار، وهو المعروف بلاجين الصغير، فوصل إليها وسكنها، وذلك فى العشرين من ذى الحجة من هذه السنة، فتخيل منه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، نائب السلطنة بالشام. وكان من خروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق ما نذكره.
وقد رأينا أن نذكر أخباره «2» ، وما كان من أخبار أولاد السلطان الملك الظاهر بالكرك فى هذا الموضع إلى آخر أخبارهم، ليكون ذلك سياقة. ثم نذكر الغزوات والفتوحات فى الأيام المنصورية بجملتها، على توال واتساق. بمقتضى ما يقدمه التاريخ. ثم نشرح بعد ذلك حوادث السنين، وما وقع فيها من الولاية والعزل والأخبار، والوفيات، إلى انقضاء الدولة، على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.(31/13)
ذكر أخبار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وخروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق، وما كان من أمره إلى أن عاد للطاعة، ورجع إلى الخدمة السلطانية
قد قدمنا أن السلطان الملك المنصور، فى زمن أتابكيته، فى سلطنة الملك العادل [بدر الدين «1» ] سلامش. جهزه إلى الشام، نائبا عن السلطنة بدمشق، وكان قد نقل الأمير جمال الدين أفش الشمسى من دمشق إلى نيابة السلطنة بحلب.
فلما ملك السلطان الملك المنصور، واستقر بالسلطنة، خطر ببال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أن يستبد بسلطنة الشام، ويصير الأمر على ما كان عليه فى أواخر الدولة الأيوبية. فجمع الأمراء الذين عنده، وأوهمهم أن الأخبار وصلت إليه، أن السلطان الملك المنصور قد قتل، وهو يشرب الخمر «2» . ودعاهم إلى طاعته، واستحلفهم لنفسه. فأجابوه «3» ، وحلفوا له، وتلقب بالملك الكامل، وركب بشعار السلطنة، [وأبهة الملك «4» ] ، بدمشق، وذلك فى الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة ثمان وسبعين وستمائة. وفى الوقت، قبض على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بقلعة دمشق، وعلى الصاحب(31/14)
تقى الدين توبة. وجهز الأمير سيف الدين بلبان الحبيشى «1» ، إلى سائر الممالك الشامية والقلاع، ليحلف من بها من النواب وغيرهم، واستوزر الصدر مجد الدين أبا الفدا إسماعيل بن كسيرات [الموصلى «2» ] ، وجعل وزير الصحبة الصدر عز الدين أحمد بن ميسّر [المصرى «3» ] ، وانتقل بأها من دار السعادة، التى يسكنها نواب السلطنة [بدمشق «4» ] ، إلى القلعة، وأمر عند انتقال أهله، بفلق باب النصر، وفتح باب سر القلعة، المقابل لدار السعادة، بجوار باب النصر، [ففعلوا ذلك «5» ] . فتطاير الناس له بأشياء، وقالوا: أغلق باب النصر، وانتقل من دار السعادة، وسكن القلعة، وولى وزارته ابن كسيرات، فهذا لا يتم أمره، وكان كذلك.
ذكر التقاء العسكر المصرى والعسكر الشامى، وانهزام عسكر الشام، وأسر من يذكر من أمرائه فى المرة الأولى.
كان السلطان الملك المنصور، قد جهز الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك [على سبيل الإرهاب «6» ] ، عند ما بلغه وفاة الملك السعيد، على ما نذكر ذلك، إن شاء الله. فبلغ الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أنه خرج من الديار(31/15)
المصرية، فى طائفة من عساكرها، فظن أنه يقصده. فكتب إليه ينهاه عن التقدم، ويقول: «إننى مهدت الشام، وفتحت القلاع، وخدمت السلطان، وكان الاتفاق بينى وبينه، أن أكون حاكما على ما بين الفرات والعريش، فاستناب أقوش «1» الشمسى بحلب، وعلاء الدين الكبكى بصفد، وسيف الدين بلبان الطباخى بحصن الأكراد، وآخر الحال أنه يسيّر إلى من يقصد مسكى «2» » .
واتبع سنقر الأشقر كتابه، بتجريد العساكر. فلما وصل الكتاب إلى الأمير عز الدين الأفرم، كتبت مطالعة «3» إلى السلطان، وجهّز الكتاب [الذى أرسله سنقر الأشقر «4» ] عطفها «5» . فكتب السلطان إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وكتب إليه أيضا الأمراء خوشداشيته، يقبحون عليه فعله، ويحضونه على الرجوع إلى الطاعة. وتوجه بالكتب الأمير سيف الدين بلبان الكريمى العلائى خوشداشة «6» ، فوصل إلى دمشق فى ثامن المحرم سنة تسع وسبعين وستمائة، فخرج إليه سنقر الأشقر، وتلقاه وأنزله عنده، بقلعة دمشق وأكرمه. ومع(31/16)
ذلك، لم يصغ إلى قوله، ولا رجع إلى ما أشار به خوشداشيته.
قال «1» : ولما وصل كتاب سنقر الأشقر إلى الأمير عز الدين الأفرم، رجع إلى غزة. وعاد الأمير بدر الدين الايدمرى من الشوبك، بعد أخذها، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فاجتمعا على غزة.
وجمع سنقر الأشقر العساكر، من حلب وحماه وحمص. واستدعى على الكبكى من صفد، والعربان من البلاد، وجهّز جماعة من عسكر الشام، وقدم عليهم الأمير شمس الدين قراسنقر المعزى، فتوجه إلى غزة. والتقوا هم والعسكر المصرى. فانكسر عسكر الشام، وأسر جماعة من أعيان الأمراء، منهم بدر الدين كنجك «2» الخوارزمى، وبهاء الدين يحك الناصرى، وناصر الدين باشقرد الناصرى، وبدر الدين بيليك الحلبى، وعلم الدين سنجر التكريتى، [وسنجر البدرى «3» ] ، وسابق الدين سليمان صاحب صهبون، وسيّروا إلى السلطان، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، ولم يؤاخذهم.
ذكر تجريد العساكر إلى دمشق، وحرب سنقر الأشقر وانهزامه، وإخلائه دمشق، ودخول العسكر المصرى «4» إليها قال: ولما وصل خبر الكسرة، إلى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، المنعوت بالملك الكامل، بدمشق، أخذ فى الأهتمام وجمع العساكر. وكتب نهاية الإرب ج 31- م 2(31/17)
إلى الأمراء الذين بغزة، [من جهة الملك المنصور «1» ] ، يعدهم ويستميلهم، وعين لكل منهم قلعة. وعسكر بظاهر دمشق. فجرّد السلطان، الأمير علم الدين سنجر الحلبى، والأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، بالعساكر ومن معهما من مضافيهما. فاجتمعا بالأميرين عز الدين الأفرم، وبدر الدين الايدمرى ومن معهما. وساروا، والمقدم عليهم الأمير علم الدين سنجر الحلبى.
وكان سنقر الأشقر، قد برز من قلعة دمشق، بعساكر الشام فى ثانى عشر صفر، سنة تسع وسبعين وستمائة، ونزل بالجسورة. ووصل العسكر المصرى إلى الكسوة. وترتبت الأطلاب وتقدمت. والتقى العسكران بالجسورة، فى خامس عشر الشهر. وعند اللقاء انهزم عسكر حماه والعسكر الحلبى. وانحاز جماعة من الشاميين إلى العسكر المصرى. وحمل [سنجر «2» ] الحلبى على سنقر الأشقر، فانهزم لوقته. وصحبه من الأمراء الأخصاء به، الأمير عز الدين ازدمر الحاج، والأمير علاء الدين الكبكى، والأمير شمس الدين قرا سنقر المعزى، والأمير سيف الدين بلبان الحبيشى «3» . وكان [سنقر الأشقر»
] ، من عشية يوم الجمعة، ثالث عشر صفر، قد جهز أولاده وحريمه وحواصله إلى صهيون. فلما انهزم توجه به العرب إلى الرحبة «5» ، وكان من خبره ما نذكره.(31/18)
قال: ولما انهزم سنقر الأشقر غلقت أبواب المدينة «1» ، مخافة أن ينهبها العسكر المصرى. وامتنعت القلعة أيضا. ونزل الأمير علم الدين الحلبى بالقصر الأبلق، بالميدان الأخضر، وبات العسكر حوله إلى اليوم الثانى. فجاء الأمير سيف الدين الجو كندار «2» ، وهو نائب القلعة، من جهة الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، إلى الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصورى، والصاحب تقى الدين توبة، وهم فى الاعتقال بالقلعة، وحلّفهم أنهم لا يؤذونه إذا أخرجهم، ولا يؤذون أحدا من مستخدمى «3» القلعة، وأمنوا الناس. وكان الأمير علم الدين [الحلبى «4» ] قد نادى ظاهر دمشق بالأمان، ثم فتح الأمير حسام الدين لاجين [المنصورى «5» ] باب الفرج، ووقف عليه، ومنع العسكر المصرى من الدخول إلى المدينة خوفا أن يشعثوا «6» . ثم نودى بإطابة قلوب الناس، وأمر بالزينة ودق البشائر.
وكتب الأمير علم الدين سنجر الحلبى، إلى السلطان بالنصر. وسير الأمراء الذين قبض عليهم، فأحسن إليهم، ولم يؤاخذهم. وتوجه بالبشائر إلى السلطان(31/19)
الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، فأنعم السلطان عليه. وأمرّه بعشرة طواشية «1» . ثم كان من أمر دمشق وأخبار أهلها، وما استقر من أمر النيابة بها، ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى حوادث السنين.
ذكر توجه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون وتحصنه بقلعتها
قال: لما انهزم الأمير شمس الدين المشار إليه، من دمشق، كما تقدم توجه إلى الرحبة، ففارقه أكثر من كان معه، وامتنع الأمير موفق الدين خضر الرحبى، النائب بقلعة الرحبة، من تسليمها إليه. فعند ذلك كاتب أبغا بن هولاكو «2» ، ملك التتار، يعرفه بما وقع بين العساكر الإسلامية من الاختلاف، وحثه على قصد البلاد بجيوشه، ووعده الانحياز «3» إليه، والإعانة والمساعدة على ذلك وكتب إليه «4» ، الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا، بمثل ذلك وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وكان سنقر الأشقر، لما تغلب على الشام، كاتب نواب القلاع.(31/20)
فمنهم من أطاعه، ومنهم من امتنع عليه. وكان ممن أطاعه، نائب صهيون وبرزية «1» وبلاطلس والشغر «2» وبكأس، وشيزر وعكار «3» وحمص. فلما انهزم [سنقر الأشقر «4» ] ، جرّد السلطان خلفه جيشا صحبة الأمير حسام الدين [ايتمش «5» ] بن أطلس خان. فبادر هو، وعيسى بن مهنا، بالهرب إلى صهيون، وذلك فى جمادى الأولى «6» من السنة المذكورة. وعاد ابن أطلس خان ومن معه، واستمر سنقر الأشقر بصهيون.
ذكر انتظام الصلح بين السلطان الملك المنصور، وبين سنقر الاشقر، وما استقر بينهما، وانتقاض ذلك، وأخذ صهيون منه
وفى سنة ثمانين وستمائة، انتظم الصلح بين السلطان الملك المنصور، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر. وذلك أن السلطان جرّد الأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدى «7» الشمسى إلى شيزر، فترددت الرسائل بين السلطان وبين سنقر الأشقر، وطلب منه تسليم شيزر، فطلب منه الشغر وبكأس،(31/21)
وكانتا قد أخذنا منه، وطلب معهما [فامية «1» ] ؛ وكفر طاب [وأنطاكية «2» ] وبلادها، فأجيب إلى ذلك. وتقرر أن يقيم [شمس الدين سنقر الأشقر «3» ] ، على هذه البلاد، [وعلى ما بيده قبل ذلك من البلاد، وهى صهيون وبلاطلس واللاذقية «4» ] بستمائة «5» فارس، لنصرة الإسلام، وإن الأمراء الذين معه، إن أقاموا عنده، يكونون من أمرائه، وإن حضروا إلى السلطان يكونون آمنين، ولا يؤاخذون.
وحضر عنده الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، بنسخة اليمين على ما تقرر، فحلف السلطان على ذلك. وكتب له تقليدا بالبلاد، وسأل [سنقر الأشقر «6» ] ، أن ينعت بلفظ الملك، فما أجاب السلطان إلى ذلك، ونعت بالإمرة. وسير السلطان، الأمير فخر الدين [أباز «7» ] المقرى [الحاجب «8» ] فحلّفه، وسير إليه السلطان من الأقمشة والأوانى والأنعام شيئا كثيرا. وانتظم الصلح والاتفاق.(31/22)
وحضر مع السلطان فى مصاف «1» حمص، وعاد إلى صهيون على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ واستمر ذلك إلى سنة أربع وثمانين وستمائة.
فلما حضر السلطان لحصار المرقب، وهى بالقرب من صهيون، لم يحضر الأمير شمس الدين إلى خدمة السلطان. فتنكر السلطان لذلك، وحنق [عليه «2» ] بسببه. وأرسل سنقر الأشقر ولده ناصر الدين صمغار إلى خدمة السلطان يتلافى ذلك، فمنعه السلطان من العود إلى والده. واستمر إلى سنة ست وثمانين وستمائة.
فجرد السلطان نائبه [بالديار المصرية «3» ] ، الأمير حسام الدين طرنطاى، إلى صهيون، فى جماعة كثيرة من العساكر، فنازلها، وراسله فى تسليمها، وذكر له مواعيد السلطان له. فامتنع من ذلك، فضايقه، ونصب المجانيق حتى أشرف على أخذ حصن صهيون عنوة. فلما رأى [الأمير شمس الدين سنقر الأشقر «4» ] ذلك، أرسل فى طلب الأمان والأيمان. فحلف له الأمير حسام الدين طرنطاى، إن السلطان لا يضمر له سوءا. فنزل إلى الأمير حسام، وسلّم إليه الحصن.
فأخبرنى «5» من ذكر أنه شهد كيف كان نزوله إليه، وما عامل كل منهما الآخر به،(31/23)
فقال: بينما الأمير حسام الدين جالس فى خيمته، إذ قيل له، هذا الأمير شمس الدين قد جاء. فوئب وأسرع المشى، وخرج إليه وتلقاه، فترجل الأمير شمس الدين.
وخلع الأمير حسام الدين قباء كان عليه، وبسطه على الأرض، ليمشى الأمير شمس الدين عليه. فرفعه الأمير شمس الدين عن الأرض، وقبّله ولبسه. فأعظم الأمير حسام الدين طرنطاى ذلك، وعامل الأمير شمس الدين بأتّم الخدمة وغاية الأدب. ورتّب فى الحصن تائبا وواليا ورجّاله. وسار هو والأمير شمس الدين إلى الديار المصرية. فلما قرب من قلعة الجبل، ركب السلطان وولداه الملك الصالح علاء الدين على، والملك الأشرف صلاح الدين خليل، وأولاد الملك الظاهر، والعساكر. وتلقاه الأمير شمس الدين وتعانقا، وطلعا إلى القلعة، وحمل السلطان إليه الخلع والأقمشة والحوائص الذهب والتحف، وساق إليه الخيول، وأمّره بمائة فارس، وقدّمه على ألف. واستمر فى الخدمة السلطانية، من أكابر أمراء الدولة.
فهذا ما اتفق له، فى خروجه وعوده على سبيل الاختصار. ثم كان من أخباره بعد ذلك، ما نذكره إن شاء الله تعالى فى مواضعه. فلنذكر حال الملك السعيد وأخيه المسعود.
ذكر خبر الملك السعيد وما كان من أمره بالكرك واستيلائه على الشوبك واستعادتها منه.
قال المؤرخ «1» : لما توجه الملك السعيد إلى الكرك، كان السلطان الملك(31/24)
المنصور، قد شرط عليه، أنه لا يكاتب الأمراء، ولا يفسد العساكر، ولا يتطرق إلى غير الكرك. فلما استقر بها حركه مماليكه، وحسنوا له التطرق إلى الحصون وأخذها، أولا فأولا، فوافقهم على ذلك. وكاتب النواب وسير الأمير حسام الدين لاجين، رأس نوبة الجمدارية، إلى الشوبك، فتغلب عليها، وأقام بها. فكاتبه السلطان الملك المنصور، ونهاه فلم ينته، فجرد الأمير بدر الدين بيليك الايدمرى إلى الشوبك، فنزل عليها، وضايق أهلها، وتسلمها فى العاشر من ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وستمائة، ورتب بها نائبا وعاد عنها.
ذكر وفاة الملك السعيد، وقيام أخيه الملك المسعود خضر مقامه بالكرك.
قال «1» : وفى سنة ثمان وسبعين وستمائة، ركب الملك السعيد، إلى الميدان بالكرك، ولعب بالكرة، فتقنطر عن فرسه، فصدع وحمّ [أياما قلائل «2» ] ، فمات. وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، فى ثالث عشر ذى القعدة، من السنة.
وعمل السلطان الملك المنصور له عزاء، بقلعة الجبل، فى الثانى والعشرين من الشهر. وحضره وعليه ثياب البياض، وحضر الأمراء والقضاة والعلماء، والوعاظ. ولما توفى صبّر، ووضع فى تابوت مدة، ثم حمل إلى التربة الظاهرية بدمشق، وذلك فى سنة ثمانين وستمائة، ووصلت والدته إليها فى ثامن(31/25)
عشرين شهر ربيع الآخر، والسلطان الملك المنصور يوم ذاك بالشام. فادخل التربة الظاهرية ليلا فى تابوت، ولم يدخلوا به من باب المدينة، وإنما رفعوا تابوته من أعلا السور، ودلّوه من الجانب الآخر، ووضع فى قبره، وألحده القاضى عز الدين بن الصائغ، كما ألحد والده.
وحضر السلطان الملك المنصور فى بكرة دفنه إلى التربة الظاهرية، ومعه القضاة والعلماء والقراء والوعاظ، وأظهر الحزن عليه، وذلك فى سلخ شهر ربيع الآخر «1» . ومولده بمنزلة العش «2» ، من ضواحى القاهرة، فى صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة.
قال «3» : وكان الملك السعيد، لما استقر بالكرك، رتب فى النيابة بها الأمير علاء الدين ايدغدى الحرانى الظاهرى، لما فارقه الأمير علاء الدين الفخرى النائب بها إلى الديار المصرية. فلما مات اتفق [نائبه الأمير علاء الدين ايدغدى] الحرانى «4» ومن معه، وأقاموا أخاه خضرا مقامه، ولقب بالملك المسعود. فشرع المماليك، الذين حول الملك المسعود نجم الدين خضر، فى سوء التدبير، ففرقوا أموال الذخائر «5» ، وأرادوا أن يستجلبوا بها الناس، وانضم إليه كل من قطع رزقه. وتوجه منهم جماعة إلى الصلت فاستولوا عليها،(31/26)
وأرسلوا إلى صرخد، وقصدوا الاستيلاء عليها، فعجزوا عن ذلك. وشرعوا فى استفساد الناس، وتسامع بهم العربان والطماعة، أنهم يبذلون الأموال، فقصدوهم من كل الجهات، وهم يبذلون الأموال لمن يقصدهم ويصل إليهم.
فكان جماعة من العربان وغيرهم يقصدونهم من أطراف البلاد، ويجتمعون ويحضرون إلى الملك المسعود، ويبذلون له الطاعة، ويتقربون إليه بالنصيحة.
فإذا وثق بهم، وأنفق فيهم الأموال، وحصلوا عليها، وبلغوا الغرض مما راموه تسللوا وفارقوه، وعادوا من حيث جاءوا وتفرقت جماعاتهم. وهو ومن عنده لا يرجعون عن بذل المال لمن يصل إليهم، إلى أن فنيت أكثر تلك الذخائر، التى كانت بالكرك، التى حصنها السلطان الملك الظاهر، وجعلها بهذا الحصن ذخيرة لأوقات الشدائد، فنفقوها فيما لا أجدى نفعا، بل جلب ضررا، وغلّت الخواطر. ثم كانبوا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر [نائب السلطنة بدمشق «1» ] فى الموافقة [معهم «2» ] . واتصل ذلك بالسلطان، فجرد الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك على سبيل الإرهاب. وكان بينه وبين الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ما قدمناه «3»
ذكر الصلح بين السلطان والملك المسعود وانتقاض ذلك وإخراجه من الكرك.
وفى سنة ثمانين وستمائة، وردت رسل الملك المسعود إلى السلطان فى طلب الصلح، والزيادة على الكرك، وأن يكون له ما كان للناصر داود، فلم يجبه(31/27)
السلطان إلى ذلك، ولا إلى إقامته بالكرك بالأصالة. وترددت رسائله إلى السلطان، وسأل أن يقر بيده الكرك وأعمالها من حد الموجب «1» إلى الحسا «2» .
فأجابهم السلطان، وحلف لهم، والتمسوا شروطا: منها تجهيز الإخوة الذكور والإناث، أولاد الملك الظاهر إلى الكرك، وردّ الأملاك الظاهرية عليهم، وتمّ الصلح وحلف السلطان عليه.
وتوجه الأمير بدر الدين بيليك المحسنى السلاح دار، والقاضى تاج الدين ابن الأثير، إلى الكرك، وحلفا الملك المسعود. وكوتب من ديوان الإنشاء، كما يكانب صاحب حماه، واستمر الأمر على ذلك إلى سنة اثنتين وثمانين [وستمائة «3» ] ، فبلغ السلطان أنهم نقضوا ما كان قد تقرر. وحضر الأمير علاء الدين ايدغدى الحرانى، نائب الملك المسعود بالكرك، وأنهى إلى السلطان ما اعتمدوه، مما يغلّت الخواطر. فكتب السلطان إلى الملك المسعود ومن معه ينهاهم عن ذلك، فلم ينتهوا. فجرد إلى الكرك فى هذه السنة «4» الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، وأمره بمراسلتهم، فراسلهم، فلم يرجعوا عن اعتمادهم، فضايق الكرك، ورعت خيول العسكر تلك الزراعات كلها، ثم عاد عن الكرك.
وتراخى الأمر، واستمر الملك المسعود بالكرك إلى سنة خمس وثمانين وستمائة.
فجرد السلطان الملك المنصور، الأمير حسام الدين طرنطاى، نائب السلطنة،(31/28)
بجيش كثيف، وأمره بمنازلة الكرك ومحاصرتها «1» فتوجه إليها، وأحضر آلات الحصار، من الحصون الإسلامية، وضايقها وقطع الميرة عنها. واستدعى بعض الرّجالة «2» ، وأحسن إليهم، فوافقوه «3» على الملك المسعود. فلما رأى الملك مسعود نجم الدين خضر، وأخوه بدر الدين سلامش الحال على ذلك، أرسل الملك المسعود إلى الأمير حسام الدين طرنطاى، فى طلب الأمان، فأمنّه عن السلطان. فقال لا بد من أمان السلطان وخاتمه. وفطالع الأمير حسام الدين السلطان بذلك، فأرسل السلطان بأمانه الأمير ركن الدين بيبرس الداوادار المنصورى، فاجتمع بهما، وأبلغهما أمان السلطان، فنزلا من قلعة الكرك، إلى الأمير حسام الدين طرنطاى، وذلك فى صفر سنة خمس وثمانين [وستمائة «4» ] .
فرتب الأمير حسام الدين، عز الدين أيبك الموصلى المنصورى، فى نيابة السلطنة بالشوبك منذ استعيدت من الملك السعيد.
ورحل الأمير حسام الدين طرنطاى، وولدا الملك الظاهر صحبته، فلما وصلوا إلى الديار المصرية، وقربوا من قلعة الجبل، ركب السلطان، وتلقاهما وأقبل عليهما، وطلعا إلى القلعة، وذلك فى يوم الثلاثاء ثانى عشر ربيع الأول. وأمّر كلا منهما [إمرة «5» ] مائة فارس. واستمرا يركبان معه فى الموكب والميدان، ونزّلهما «6» منزلة أولاده. ثم بلغه عنهما ما تنكر له، فقبض عليهما واعتقلهما، وبقيا فى الاعتقال فى أيام السلطان الملك الأشرف، فسيرهما إلى القسطنطينية.(31/29)
هذا ما كان من أخبار هؤلاء المناوئين فى الملك، فلنذكر الفتوحات والغزوات، ونوردها فى الترتيب، على حكم السنين، إن شاء الله تعالى.
ذكر الفتوحات والغزوات التى شهدها السلطان بنفسه، والتى ندب إليها عساكره المؤيدة
ذكر «1» عبور التتار إلى الشام، والمصاف الذى وقع بينهم وبين العساكر المنصورة، بحمص وانهزام التتار.
قال المؤرخ «2» : وفى سنة ثمانين وستمائة، وردت الأخبار بدخول منكوتمر «3» ، إلى بلاد الروم، بعساكر المغل، وأنه نزل بين قيسارية وابلستين، فتوجه كشافة من عين تاب، فوقعوا بفرقة من التتار بالقرب من صحراء هوتى «4» ، الذى كسر الملك الظاهر التتار عليها. فظفروا منهم بإنسان يسمى حلتار بهادر «5» [أمير «6» ] آخور أبغا ابن هولاكو، كان قد توجه لكشف المروج، فأمسكوه وأحضروه إلى السلطان(31/30)
إلى دمشق. فوانسه السلطان، وسأله عن الأخبار، فذكر أنهم فى عدد كثير يزيدون على ثمانين ألف فارس من المغل، وعزمهم أنهم يقصدون البلاد، قولا جزما، ويركبون من منزلتهم أول شهر رجب.
ثم ورد الخبر فى جمادى الآخرة، أنهم ركبوا من منزلتهم، وأنهم يسيرون برفق، وأن فرقة منهم توجهت صحبة أبغا إلى الرحبة، ومعه صاحب ماردين، فسير السلطان كشافة إلى الرحبة، صحبة بجكا «1» العلائى. وركب السلطان من دمشق، ووصل العدو المخذول إلى صوب حارم. وراسل السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأشقر عدة مراسلات، إلى أن تقرر أنه ينزل من صهيون بمن معه للغزاة، بشرط أن يعود إليها، إذا انقضى المصاف. فنزل ووافى السلطان على حمص، هو ومن كان عنده من الأمراء، وهم ايتمش السعدى، وازدمر الحاج، وسنجر الداوادارى، وبجق البغدادى، وكراى، وشمس الدين الطنطاش وابنه، ومن معهم من الظاهرية. ففرح المسلمون بحضورهم، وكان ذلك قبل المصاف بيومين.
ثم ورد الخبر أن منكوتمر على حماه بعساكر التتار، فى ثمانين ألف، منهم خمسون ألف من المغل، وبقيتهم مرتدة «2» وكرج وروم وأرمن «3» وفرنج، وأنه نفر(31/31)
إليهم مملوك من مماليك الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الصالحى الجالق، ودلّهم على عورات المسلمين وأخبرهم بعددهم.
ورحلوا ليلة الحميس عن حماه، ورتبوا جيشهم. فكان طرف ميمنتهم حماه، وطرف ميسرتهم [ «1» ] ، وساقوا طالبين اللقاء، والمقدم عليهم من قبل أبغا، منكوتمر [بن «2» ] هولاكو، أخو أبغا.
ورتب السلطان الملك المنصور عساكره، وبات المسلمون على ظهور خيولهم.
واتفق أن شخصا من عسكر التتار، دخل حماه، وقال للنائب بها: «اكتب الساعة إلى السلطان، على جناح طائر، وعرفه أن القوم ثمانون ألف مقاتل فى القلب، منهم أربعة وأربعون ألف من المغل وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدا، فتقوى ميسرة المسلمين، وتحترز على الصناجق» . فكتب النائب بذلك إلى السلطان. فلما قرأ الكتاب ركب عند إسفار الصباح، فى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، سنة ثمانين وستمائة، وهو يوم اللقاء. ورتب العساكر المنصورة الإسلامية، على ما نذكره، بمقتضى ما أورده الأمير ركن الدين بيبرس الداوادار المنصورى فى تاريخه «3» وهو:(31/32)
الميمنة المنصورة «1» ، فيها الملك المنصور صاحب حماه، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى والأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدى «2» الشمسى ومضافوهم «3» ، والأمير حسام الدين لاجين نائب الشام والعسكر الشامى. وفى رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا وآل فضل وآل مرى، وعربان الشام، ومن انضم إليهم.
الميسرة المباركة، فيها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الحلبى، والأمير بجكا العلائى، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى، والأمير سيف الدين خبرك «4» التترى، ومن معهم من المضافين. وفى رأس الميسرة التركمان بجموعهم وعسكر حصن الأكراد.
ذكر الجاليش وهو مقدمة القلب «5» ، فيه الأمير حسام الدين طرنطاى، نائب السلطنة، ومن معه من مضافيه، والأمير ركن الدين اياجى «6» الحاجب، والأمير(31/33)
بدر الدين بكتاش بن كرمون، ومن معهم من المماليك السلطانية. ووقف السلطان تحت الصناجق، وحوله مماليكه وألزامه وأرباب الوظائف.
وأشرفت كراديس النتار. وكان الملتقى بوطأة حمص، بالقرب من مشهد خالد بن الوليد. فالتقى الجمعان، فى الساعة الرابعة، من نهار الخميس، وجاءت ميسرة العدو، تجاه الميمنة الإسلامية، وصدموا «1» الصدمة الأولى، فثبت المسلمون، وانكسرت ميسرة التتار كسرة تامة، وانتهت إلى القلب الذى للتتار، وبه منكوتمر.
وأما الميسرة الإسلامية، فصدمتها ميمنة التتار، فلم تثبت لترادف كراديسهم.
وساق التتار وراء المسلمين، حتى انتهوا إلى تحت حمص. ووقعوا فى السوقة والعوام، فقتلوا منهم خلقا كثيرا. ولم تعلم المسلمون ما تهيأ للميمنة من النصر، ولا علم التتار ما أصاب ميسرتهم. فاستقل بعض من انهزم إلى دمشق، وبعضهم إلى قرب صفد. ومنهم من وصل غزة.
ولما رأى التتار، أنهم قد استظهروا، نزلوا «2» عن خيولهم فى المرج الذى عند حمص، وأكلوا الطعام، ونهبوا الأثقال «3» والوطاقات «4» ، والخزانة. وانتظروا(31/34)
قدوم بقيتهم، فلما ابطأوا عنهم، أرسلوا من يكشف خبرهم، فعاد الكشافة وأخبروهم [أن «1» ] منكوتمر هرب، فركبوا خيولهم، وكروا راجعين.
هذا والسلطان ثابت فى موقفه، فى نفر يسير من المماليك، والعساكر قد تفرقت، منهم من تبع التتار الذين انهزموا، ومنهم من استمر به الهرب. فلما رجعت ميمنة التتار، أمر السلطان أن تلف الصناجق، وتبطل الكوسات «2» ، فمروا ولم يقدموا عليه. وأخذوا على طريق الرستن، ليلحقوا بأصحابهم. [وعند ما تقدموه قليلا، ساق عليهم، فانهزموا لا يلوون على شىء. وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروب الشمس من يوم الخميس. ومرّ هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل، يريدون منكوتمر. وكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين وإلا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين، لما وجدوا فيهم قوة. ولكن الله نصر دينه، وهزم عدوه مع قوتهم وكثرتهم. وانجلت هذه الواقعة عن قتلى كثيرة من التتر لا يحصى عددهم] «3» . وكتبت البطائق بالنصر.
وعاد السلطان من يومه إلى المنزلة، [بعد انفصال الحرب «4» ] . وكان قد فرق ما بالخزانة من الذهب، فى أوساط مماليكه، فسلم بجملته. وباب السلطان بالمنزلة ليلة الجمعة. فلما كان عند السحر، ثار صياح بالوطاقات، فظن الناس عود العدو، فركب السلطان ومعه من وكان بالوطاقات، فانكشف الخبر بعد(31/35)
ساعة، أن جماعة من العسكر، الذين تبعوا التتار عند الهزيمة رجعوا. وقتل من التتار فى الهزيمة، أكثر من الذين قتلوا فى المصاف، واختفت منهم طائفة بجانب «1» الفرات. فأمر السلطان أن تضرم النيران بالأزوار «2» التى على الفرات، فأحرق أكثر من اختفى فيها. وهلكت فرقة منهم، كانوا سلكوادرب سلمية.
ولما وصلت البطائق إلى الرحبة، بخبر النصر وهزيمة التتار، كان أبغا ملك التتار يحاصرها، فدقت البشائر، وأعلن الناس بالنصر، ففارقها أبغا وتوجه إلى بغداد.
وعاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون. ورجع إلى الخدمة السلطانية ممن كان معه، ايتمش السعدى، وسنجر الداوادارى وكراى التتارى وولده، وتماجى «3» ، وجماعة من الأمراء الذين كانوا عنده. وعاد السلطان إلى دمشق، فكان وصوله إليها، فى يوم الجمعة ثانى عشر شهر رجب الفرد. وامتدحه الشعراء، وأكثروا المدائح والهناء بهذا النصر.
وخرج السلطان من دمشق، عائدا إلى الديار المصرية، فى يوم الأحد ثانى شعبان. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم السبت الثانى والعشرين من الشهر، فزينت له المدينة. ودخل، وبين يديه الأسرى، وبعضهم يحمل صناجقهم المكسورة وطبولهم. وخلع السلطان على الأمراء والأكابر.(31/36)
واستشهد فى هذه الواقعة من الأمراء من نذكر: منهم الأمير عز الدين ازدمر الحاج. وهو الذى جرح منكوتمر، وكان من أعيان الأمراء، وكانت نفسه تحدثه أنه يملك. والأمير بدر الدين بكتوت [الخازندار، والأمير سيف الدين بلبان الرومى الداوادار الظاهرى، والأمير شهاب الدين توتل «1» ] الشهرزورى، رحمهم الله تعالى.
هذا ما كان من خبر هذه الواقعة.
ذكر فتوح قلعة قطيبا «2»
وهذه القلعة كانت فى الزمن الأول محسوبة فى جملة قلعة آمد، ثم صارت فى يد ملك الروم، وصارت فى يد العدو المخذول [من «3» ] التتار، وفيها نوابهم.
وكانت مضرّة بقلعة كركر والثغور المجاورة لها، وما كان يمكن أخذها بحصار، فتلطف النواب، واستمالوا من كان بها.
فلما كان فى سنة اثنتين وثمانين وستمائة. خلت هذه القلعة من الغلال. فجرد السلطان إليها رجالة كركر، فضايقوها. فسأل «4» أهلها مراحم «5» السلطان فأجيبوا إلى ملتمسهم. وتسلمها نواب السلطان، وأحضروا إليها جماعة من الرجالة من(31/37)
قلعة البيرة وعين تاب والروندان. وجعل فيها ما يحتاج إليه من الغلال والسلاح والعدد. وصارت من حصون الإسلام المنيعة.
ذكر فتوح ثعز الكختا
وفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة أيضا، فتحت قلعة الكختا. وهى من أمنع الحصون وأعلاها وأتقنها بنية «1» . فاجتهد السلطان فى تحصيلها وإضافتها إلى الحصون الإسلامية. ووعد من بها المواعيد الجميلة. فأجابوا بالسمع والطاعة.
وقتلوا النائب بها، وهو الشجاع موسى. وراسلوا نائب السلطنة الشريفة بالمملكة الحلبية، وبذلوا تسليم القلعة. فجهز إليهم الأمير جمال الدين الصرصرى «2» ، والأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، والأمير شمس الدين أقش الشمسى العينتابى، ومن معهم. فتسلموا الحصن، وحلفّوا من به للسلطان ولولده الملك الصالح، والبسوهم التشاريف، ثم جهزوا من كان بها، طائفة بعد أخرى إلى الأبواب الشريفة السلطانية. فأحسن السلطان إليهم، وأقطع منهم من يستحق الإقطاع، وجهزت إليها الزردخانات، وآلات الحصار، واستقرت فى جملة الحصون الإسلامية. وصارت هذه القلعة شجىّ فى حلق الأرمن، وحصل الاستظهار بها على الغارات.
وذكر الإغارة على بلاد سيس
وفى سنة اثنتين وثمانين وستمائة أيضا، كتب السلطان إلى نائب السلطنة(31/38)
بالمملكة الحلبية، أن يوجه من يغير «1» على بلاد سيس، بسبب ما كان الأرمن اعتمدوه، من إحراق جامع حلب، لما جاءوا صحبة التتار. وجرد السلطان عسكرا من الديار المصربة، ومن عسكر الشام لذلك. فتوجهوا وأغاروا، ووصلوا إلى مدينة أياس، فقتلوا من أهلها جماعة، ونهبوا وخربوا. فلما عادوا ووصلوا إلى باب اسكندرونه، أتاهم عسكر الأرمن فاقتتلوا. فانهزم الأرمن، وتبعهم العسكر إلى تل حمدون، واقتلعوا جماعة من خيالتهم، وعاد العسكر الإسلامى بالظفر والغنيمة.
ذكر فتوح حصن المرقب
وفى سنة أربع وثمانين وستمائة، توجه السلطان الملك المنصور إلى المرقب، ونازله فى أوائل شهر ربيع الأول. وذلك أن أهله فعلوا ما يوجب نقض الهدنة، التى كانت حصلت بينهم وبين السلطان، على ما نذكرها فى حوادث السنين، ولم يتفقوا عند شروطها. فحاصر السلطان الحصن، وعملت النقوب، وأشرفت الفرنج على أنه يفتح عنوة. فطلبوا الأمان، وسلموا الحصن. فتسلمه السلطان، وذلك فى الساعة الثامنة من نهار الجمعة سابع «2» عشر شهر ربيع الأول. وكان هذا الحصن لبيت الاسبتار، وجهز أهله إلى طرابلس.
ذكر غزوتى النوبة الأولى والثانية
كانت الغزوة الأولى فى سنة ست وثمانين وستمائة. وذلك أن السلطان الملك المنصور، جهز الأمير علم الدين سنجر المسرورى، المعروف بالخياط، متولى(31/39)
القاهرة والأمير عز الدين الكورانى، وجماعة من أجناد الولايات، بالوجه القبلى والقراغلامية «1» . وجرد الأمير عز الدين أيدمر السيفى، السلاح دار، متولى الأعمال القوصية، بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية، المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليلم وهم: أولاد أبى بكر، وأولاد عمر، وأولاد شريف، وأولاد شيبان، وأولاد الكنز، وجماعة من العربان الريسية «2» وبنى هلال. فتوجه الأمير علم الدين الخياط بنصف الجيش من البر الغربى. وتوجه الأمير عز الدين ايدمر بالنصف الثانى من البر الشرقى، وهو الجانب الذى فيه مدينة دنقلة. وكان متملك النوبة فى ذلك الوقت اسمه سمامون «3» ، وكان ذادهاء ومكر وبأس، بالنسبة إلى أمثاله.
فلما وصل الجيش إلى أطراف البلاد، أخلا سمامون البلاد، وأرسل إلى نائبه بجزائر ميكائيل وعمل «4» الدّر، وهو جريس «5» - ويسمى من يتولى هذه الولاية، عند النوبة، صاحب الجبل «6» - فأمره بإخلاء البلاد التى تحت يده أمام الجيش.
فكانوا يرحلون أمام الجيش منزلة بمنزلة، إلى أن انتهوا إلى متملك النوبة بدنقلة.(31/40)
فأقام بها إلى حيث وصل الأمير عز الدين ومن معه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم سمامون، وقتل من أصحابه خلق كثير. واستشهد من المسلمين أناس قلائل.
ولما انهزم [سمامون «1» ] ، تبعه الجيش إلى مسيرة «2» خمسة عشر يوما من دنقلة، فادركوا جريس، فأخذوه، وأخذوا ابن خاله متملك النوبة، وهو من أعيان أصحابه، وممن «3» يرجع إليه الملك. فرتب الأمير عز الدين، ابن أخت الملك ملكا، ورتب جريس فى النياية عنه، وجرد معهما جماعة من العسكر، وقدر «4» عليهما قطيعة، يحملونها إلى الأبواب السلطانية فى كل سنة. وعاد الجيش [بعد أن «5» ] غنموا غنائم كثيرة من الرقيق، والخيل، والجمال، والأبقار، والأكسية.
ولما فارق الجيش النوبة وعاد، وتحقق سمامون عودهم، رجع إلى دنقلة، وقاتل من بها، وهزمهم واستعاد البلاد. فحضر الملك المستجد وجريس، ومن كان معهما من العسكر المجرد، إلى الأبواب السلطانية، وأنهوا ما اتفق من سمامون. فغضب السلطان لذلك، وجرد جيشا كثيفا.
ذكر تجريد الجيش فى المرة الثانية إلى النوبة
قال «6» : وجرد السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار إلى(31/41)
النوبة، وصحبته من الأمراء، الأمير سيف الدين قبجق المنصورى، والأمير سيف الدين بكتمر الجو كندار، والأمير عز الدين أيدمر، متولى الأعمال القوصية. وجرد أيضا من أطلاب «1» الأمراء، من نذكر: طلب الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا، وطلب الأمير سيف الدين بهادر، رأس نوبة الجمدارية، وطلب الأمير علاء الدين الطيبرس، وطلب الأمير شمس الدين سنقر الطويل. وسار أجناد المراكز بالوجه القبلى، ونواب الولاة من العربان بالديار المصرية، من الوجهين القبلى والبحرى، وعدتهم أربعون ألف راجل. وجهز معهم متملك النوبة، ونائبه جريس.
وكان توجه الجيش من الأبواب السلطانية، فى يوم الثلاثاء، [ثا «2» ] من شوال، سنة ثمان وثمانين. وصحب هذا الجيش من الحراريق والمراكب الكبار والصغار، لحمل الأذواد، والزردخاناة والأثقال، ما يزيد على خمسمائة مركب.
ولما وصل العسكر إلى ثغر أسوان، مات متملك النوبة، فدفن بأسوان.
وطالع الأمير عز الدين الأفرم [السلطان «3» ] بذلك. فأرسل إليه، من أولاد أخت الملك داود رجلا، كان بالأبواب السلطانية. ورسم له أن يملّكه(31/42)
بالنوبة، فأدركهم على خيل البريد، قبل رحيل العسكر من أسوان. ولما وصل إليهم أنفسهم العسكر نصفين على العادة. فكان الأمير عز الدين الأفرم، والأمير سيف الدين قبجاق «1» ، ونصف العسكر ونصف العربان بالبر الغربى، والأمير عز الدين أيدمر، متولى الأعمال القوصية، والأمير سيف الدين بكتمر الجو كندار، ونصف العسكر ونصف العربان بالبر الشرقى.
وتوجهوا ورسموا الجريس نائب النوبة أن يتقدمهم، منزلة بمنزلة، ومعه أولاد الكنز، أمراء أسوان، ليطمئنوا أهل البلاد ويؤمنوهم «2» ، ويجهزوا الإقامات للعسكر. فكان الجيش إذا وافى بلدا، خرج من بها من المشايخ وأعيانها، وقبلوا الأرض بين يدى الأمراء، وأخذوا أمانا واستقروا ببلدهم، وذلك من الدّو إلى جزائر ميكائيل، وهى البلاد التى كانت تحت يد جريس، صاحب الجبل «3» .
وأما ما عدا ذلك من البلاد، التى لم يكن لجريس عليها ولاية، فإنها أخليت «4» ، طاعة لمتملك النوبة. فكان العسكر ينهب ما يجده بها، ويقتل من تخلف من أهلها بها، ويرعون «5» زروعهم، ويحرقون «6» سواقيهم ومساكنهم، إلى أن انتهوا إلى مدينة دنقلة. فوجدوا الملك قد أخلاها، وأجلى أهلها، ولم يجد الأمراء بها إلا شيخا كبيرا وعجوزا. فسألوهما عن أخبار الملك، فذكرا أنه توجه إلى جزيرة وسطى، فى بحر النيل، مسافتها من دنقلة خمسة عشر يوما. واتساع هذه الجزيرة(31/43)
مسافة ثلاثة أيام طولا. فتبعهم الأمير عز الدين ومن معه إلى الجزيرة المذكورة ولم يصحبهم حراق ولا مركب، لتوعر البحر بالأحجار. فلما انتهوا إلى قبالة الجزيرة، شاهدوا بها عدة من مراكب النوبة، وجمعا كثيرا. فسألوهم عن الملك، فأخبروهم أنه بالجزيرة المذكورة، فعرضوا عليه الدخول فى الطاعة والحضور، وبذلوا له الأمان، فأبى ذلك. فأقام العسكر ثلاثة أيام، وأو هموه «1» أنهم أرسلوا يطلبون المراكب والحراريق، ويعدون إليه ويقاتلونه. فانهزم من الجزيرة إلى جهة الأبواب، وهى مسافة ثلاثة أيام من الجزيرة، وليست داخلة فى مملكته. ففارقه من كان معه من السواكرة «2» ، وهم الأمراء، وفارقه أيضا الأسقف والقسوس، ومعه الصليب الفضة، الذى يحمل على رأس الملك، وتاج المملكة، وطلبوا الأمان، ودخلوا تحت الطاعة. فأمنهم عز الدين المتولى، وخلع على أكابرهم، ورجعوا معه إلى دنقلة، وهم فى جمع كثير. ولما وصلوا إليها، عدّى الأمير عز الدين الأفرم، والأمير سيف الدين قبجاق، إلى البر الشرقى، دون من معهما من العساكر.
واجتمع الأمراء بدنقلة، ولبست العساكر آلة الحرب، وطلّبوا من الجانبين وزينت الحراريق فى البحر. ولعب الزارقون بالنفط، ومدّ [الأمراء «3» ] الأخوان [السماط «4» ] فى كنيسة أسوس «5» ، وهى أكبر كنيسة بدنقلة. فلما أكلوا الطعام، ملّكوا الملك الواصل من الأبواب السلطانية. والبسوه التاج،(31/44)
وحّلفوه للسلطان. وحّلفوا له أهل البلاد. وتقرر عليه البقط «1» المستقر أولا، والبقط هو المقرر. وجرّد عنده طائفة من العسكر «2» . وقدّم عليهم ركن الدين بيبرس العزى، أحد مماليك الأمير عز الدين متولى قوص.
وعاد العسكر، وكان وصوله إلى القاهرة فى جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة، وكانت مدة غيبته منذ خرج من ثغر أسوان، إلى أن عاد إليه ستة أشهر، وعنموا غنائم كثيرة.
فلما عاد العسكر عن دنقلة، حضر سمامون إليها ليلا، وصار يقف على باب كل سوكرى «3» بنفسه ويستدعيه. فإذا خرج ورآه، قبّل الأرض بين يديه وحلف له. فما طلع الفجر حتى ركب معه جميع العسكر النوبى. فزحف بهم على دار الملك، وقبض على الملك. وأرسل إلى ركن الدين بيبرس [العزى «4» ] .
أن يتوجه إلى مخدومه، بحيث لا يلتقيان. «5» فتوجه ركن الدين، ومن معه إلى قوص. [واستقر «6» الملك] سمامون بد نقلة. وأخذ الملك(31/45)
الذى ملكّه العسكر، فعراه من ثيابه، وذبح ثورا، وقدّ جلده [سيورا «1» ] ، ولفّها عليه طريّة، وأقامه مع خشبة. فيبست عليه تلك السبور فمات.
وقتل جريس أيضا.
وكتب سمامون إلى السلطان الملك المنصور يستعطفه ويسأله الصفح عنه.
والتزم «2» أن يقوم بالبقط «3» المقرر فى كل سنة، وزيادة عليه. وأرسل من الرقيق والتقادم عدة كثيرة، فوصل ذلك فى أواخر الدولة المنصورية. وحصل اشتغال السلطان بما هو أهم من النوبة. فاستقر سمامون بالنوبة إلى أيام العادلية الزيتية كتبغا، وكان من أمره، ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر فتوح طرابلس الشام
كان فتح طرابلس، فى الساعة السابعة، فى يوم الثلاثاء الرابع من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وثمانين وستمائة، عنوة. وذلك أن السلطان الملك المنصور توجه إلى الشام، فى شهر المحرم من هذه السنة، وعزم على غزو طرابلس.
لأن أهلها كانوا قد نقضوا قواعد الصلح، ونكثوا أسباب «4» الهدنة. فكتب(31/46)
السلطان إلى النواب بالممالك الشامية، والحصون الإسلامية، بتجهيز الجيوش إليها، وإنفاذ المجانيق وآلات الحصار.
ووصل السلطان إلى دمشق، بعساكر الديار المصرية، فى يوم الاثنين ثالث عشر صفر من هذه السنة. وتوجه منها فى العشرين من الشهر، ونازل طرابلس بالجيوش وحاصرها. ووالى الزحف والحصار والرمى بالمجانيق. وعملت النقوب، فنقبت «1» الأسوار، وافتتحت عنوة فى التاريخ المذكور. وكانت مدة المقام عليها، أربعة وثلاثين يوما. وكانت عدة المجانيق التى نصبت عليها، تسعة عشر منجنيقا، وهى فرنجية ستة، [و «2» ] قرابغا ثلاثة عشر. وعدة الحجارين والزراقين ألف وخمسمائة نفر.
ولما فتحت المدينة، فرت طائفة من الفرنج إلى جزيرة تعرف بجزيرة «3» النخلة، حيال طرابلس فى البحر، لا يتوصل إليها إلا فى المراكب. فكان «4» من(31/47)
السعادة الأزلية للمسلمين، أن البحر زجر وانطرد عن طرابلس فظهرت للناس المخائض.
فعبر الفارس والراجل إلى هذه الجزيرة، وأسروا وقتلوا من فيها، وغنموا ما كان معهم. وكان جماعة من الفرنج قد ركبوا فى مركب وتوجهوا، فألقتهم الريح إلى الساحل، فأخذهم الغلمان والأوشاقية. وقتل منهم خلق كثير وغنم المسلمون غنائم كثيرة.
وكان السلطان أمر بإبقاء المدينة، وإنزال الجيش بها. فأشير عليه أن هدمها أولى من بقائها، فأمر بهدمها فهدمت. وكان عرض سورها بمقدار ما يسوق عليه ثلاثة فرسان بالخيل. ووصل إلى الزرد خاناة السلطانية من الأسرى، ألف أسير ومائتا أسير. واستشهد عليها من المسلمين ممن يعرف، الأمير عز الدين معن «1» ، والأمير ركن الدين منكورس الفارقانى، ومن الحلقة.
خمسة وخمسون نفرا، رحمهم الله تعالى.
وحكى «2» الشيخ قطب الدين اليونينى فى تاريخه قال: ولما فتح السلطان طرابلس، تسلم أنفة «3» ، وأمر بإخراب حصنها، وكان حصنا منيعا. وأبقى على أخت البرنس صاحب طرابلس قريتين من قراها.(31/48)
قال، وحضر إلى السلطان، وهو بظاهر طرابلس ولد سيركى صاحب جبيل «1» ، وكان صاحب طرابلس قتل أباه فى سنة إحدى وثمانين وستمائة. فخلع السلطان عليه، وأقر جبيل عليه، على سبيل الإقطاع، وأخذ منه معظم أموالها.
وتسلم السلطان البترون «2» ، وجميع ما بتلك الخط من الحصون والمعاقل. ثم عاد السلطان بعد النصر إلى دمشق، وكان من خبره ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين.
ذكر أخبار طرابلس الشام، منذ فتحها المسلمون فى خلاقة عثمان إلى وقتنا هذا
وإنما ذكرناه فى هذا الموضع ملخصا مختصرا، لتكون أخبارها مجتمعة «3» ، فنقول وبالله التوفيق:
كان ابتداء فتح طرابلس، أنه لما استخلف عثمان بن عفان(31/49)
رضى الله عنه، وأقر معاوية بن أبى سفيان على الشام، وجه معاوية إلى طرابلس سفيان بن نجيب «1» الأزدى، وكانت إذ ذاك ثلاث «2» مدن مجتمعة، فبنى فى مرج على أميال منها حصنا، سمى بحصن سفيان. وقطع الميرة عن أهل طرابلس، وحاصرها. فلما اشتد الحصار على أهلها، اجتمعوا فى أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم، يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب ينهزمون فيها. فسير إليهم مراكب كثيرة، فركبوها ليلا وهربوا. فلما أصبح سفيان، وتقدم لقتالهم على عادته، وجد الحصن خاليا، فملكه، وكتب إلى معاوية بالفتح. فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الحصن الذى فيه المينا ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه.
وكان معاوية يوجه فى كل سنة جماعة من الجند، يشحنها بهم، ويوليها نائبا. فإذا غلق «3» البحر، عاد الجند وبقى النائب فى جماعة يسيرة. فما برح أمرها كذلك، حتى ولى عبد الملك بن مروان. فقدم بطريق فى بطارقة الروم، ومعه خلق كثير. فسأل أن يعطى الأمان، على أن يقيم بها، ويؤدى الخراج، فأجيب إلى ذلك. فلم يلبث غير سنتين أو أكثر بأشهر، عند عود الجند منها، حتى أغلق بابها، وأسر من بقى بها من الجند، وعدة من اليهود، وتوجه هو وأصحابه إلى بلاد الروم. فقدر الله، عز وجل(31/50)
أن ظفر به المسلمون بعد ذلك، فى البحر وهو متوجه فى مراكب كثيرة، فأسر وأحضر إلى عبد الملك، فقتله وصلبه. وقد قيل إنه إنما كان تغلبه عليها، وقتل من بها، بعد وفاة عبد الملك. ثم فتحها الوليد بن عبد الملك.
ولم يزل فى طرابلس نواب الخلفاء، مدة أيام بنى أمية، وأيام بنى العباس، إلى أن استولى العبيديون ملوك مصر على دمشق، على ما قدمنا ذكر ذلك فى أخبارهم «1» . فأفردوا طرابلس عن دمشق، وكانت قبل ذلك مضافة إليها.
وولوا عليها من جهتهم ويان «2» الخادم، ثم سند الدولة ثم أبا السعادة، ثم على بن عبد الرحمن بن حيدرة، ثم نزال «3» ، ثم مختر الدولة بن نزال «4» . [ثم تغلّب عليها قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار «5» ] . ولم يزل بها إلى أن توفى، فى سنة أربع وستين وأربعمائة. وكان ابن عمار هذا، رجلا عافلا، سديد الرأى. وكان شيعيا، من فقهائهم. وكانت له دار علم بطرابلس، فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفا. وهو الذى صنّف كتاب «ترويح الأرواح ومصباح السرور والأفراح» ، المنعوت بجراب الدولة «6» . ولما مات [أمين الدولة «7» ] ، كان بطرابلس، سديد الملك بن منقذ، هرب من محمود بن صالح. فساعد جلال الملك أبا الحسن على بن محمد بن عمار وعضده بمماليكه، وبمن كان معه من(31/51)
أصحابه. فأخرجوا أخا أمين الدولة من طرابلس، وولى جلال الملك. فلم يزل متوليا عليها، حتى مات فى سلخ شعبان، سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وملكها بعده أخوه فخر الملك عمار بن محمد [بن عمار «1» ] ، واستقر بها، إلى أن نازلها صنجيل، واسمه ميمنت «2» وهو ميمون. وصنجيل «3» اسم مدينة نسب إليها. فنزل صنجيل بجموعه على طرابلس، فى شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وابتنى عليها حصنا، يقاتل أهلها منه، ويعرف به إلى وقتنا هذا.
فبعث فخر الملك الهدايا والتحف إلى الملوك واستنجدهم واستنصرهم، فلم ينجده أحد منهم. فلما أيس منهم، بذل لصنجيل فى رحيله عنه أموالا، وبعث إليه ميرة، فلم يجبه إلى ذلك. فلما ضاق ذرعا بالحصار، وعجز عن دفعه، خرج من طرابلس، بعد أن استناب بها ابن عمه، أبا المناقب، ورتب معه سعد الدولة فتيان ابن الأغر. وانفق «4» فى العسكر ستة شهور. وسار يقصد السلطان محمود بن ملكشاه السلجوقى. فجلس أبو المناقب فى بعض الأيام، وعنده وجوه طرابلس وأكابرها، فخلط فى كلامه. فنهاه سعد الدولة بلطف فجرد سيفه، وضرب سعد الدولة فقتله. وانهزم من كان فى المجلس. وقام أبو المناقب، وصعد على السور، وصفق بإبطيه، فأمسكه أهل البلد وحبسوه، ونادوا(31/52)
بشعار الأفضل أمير الجيوش، [شريك الخليفة الفاطمى صاحب مصر «1» ] ، وذلك فى شهر رمضان سنة خمسمائة.
ثم مات صنجيل فى ثامن وعشرين رمضان، وتولى مكانه مقدم اسمه السردانى «2» . ولما نادى أهل طرابلس بشعار الأفضل، [وبلغه ذلك «3» ] حضر إليهم جيشا فى البحر، وقدم عليهم تاج العجم. فلما وصل إلى طرابلس، أخذ جميع الأموال، وما يحفظ به البلد. وبلغ الأفضل أنه يقصد العصيان بطرابلس. فقبض على ما كان حصّله، وولّى بدر الدولة ابن أبى الطيب الدمشقى. فوصل إلى طرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم، من طول الحصار. ثم رأوا من خلفه «4» ، ما رغبهم عنه، ونفرهم منه، فعزموا على طرده.
ثم رأوا إبقاءه، لأنهم لا ملجأ لهم إلا من جهة المصريين.
ثم وصلت مراكب من مصر بالغلات والرجال، فقرر المذكور مع مقدم «5» الأسطول، القبض على أعيان البلد، وأصحاب فخر الملك بن عمار وحريمه.
فأخذهم وسيّرهم فى البحر إلى مصر. وبعث معهم ما كان فى طرابلس من السلاح والذخائر، ما لم يكن عند أحد من الملوك مثله. وبعث مائة ألف دينار عينا. فلما وصلوا إلى مصر، اعتقل [الأفضل «6» ] أهل بنى عمار.(31/53)
وأما فخر الملك بن عمار، فإنه وصل إلى بغداد، واجتمع بالسلطان محمود.
وأقام ببغداد، فما تهيأ له منه ما طلبه، وبلغه رجوع أمر طرابلس إلى المصريين، وأن حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه نقل إلى مصر. فرجع إلى دمشق، فدخلها فى نصف المحرم، سنة اثنتين وخمسمائة، فاكرمه أتابك طغتكين «1» صاحب دمشق. فسأله أن يعينه على الدخول إلى جبله، فسير معه عسكرا فدخلها.
وأما الفرنج، فإنهم لازموا الحصار، وضايقوا البلد حتى ملكوه، وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا، وذلك فى يوم الثلاثاء ثالث ذى الحجة سنة اثنتين وخمسمائة.
وقد تقدم أن أخذها كان فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة ثلاث وخمسمائة، والله أعلم.
وحكى»
أن السبب فى أخذ طرابلس، أنه لما ضايقها الفرنج، كتب من بها إلى الديار المصرية، يستنجدون الخليفة، ويسألونه الميرة. وأقاموا ينتظرون ورود الجواب بالمدد والميرة. فبينما هم فى ذلك، إذا بمركب قد أقبل، فما شكوا أن فيه تجدة. فطلع منه رسول، وقال قد بلغ الخليفة، أن بطرابلس جارية حسنة الصورة، وأنها تصلح للخدمة. وقد أمرنا بإرسالها إليه، وأرسلوا إليه من حطب المشمش ما يصنع منع عبدان الملاهى. فعند ذلك آيسوا من نصره، وضعفت قواهم، وخارت نفوسهم وذلوا، وملكها الفرنج [فى التاريخ المذكور «3» ] . وكانت مدة الحصار سبع سنين وأربعة أشهر.(31/54)
ولما ملكها السردانى، تحكم «1» فيها واستقل بملكها. فبينما هو كذلك، وإذا بمركب «2» قد وصل إليها، وفيه صبى ادّعى أنه ولد الملك صنجيل، واسمه تبران «3» ، ومعه مشايخ من أصحاب والده، يخدمونه ويدبرون أمره. فطلعوا إلى السردانى، وقالوا له هذا ولد صنجيل، وهو يريد تسليم «4» مدينة والده التى فتحها عسكره، فأنكر السردانى ذلك، وقام ورفس الصبى وأخرجه. فأخذه أصحابه، وجعلوا يطوفون به على الفرسان. فرحموه، وتذكروا أيمانهم لأبيه، وقالوا:
إذا كان نهار الغد، ونحن عنده، فاحضروا وتحدثوا معه، ففعلوا. وتحدث الصبى ابن صنجيل، فصاح به السردانى، فقام الفرسان كلهم على السردانى، وأخرجوه من المملكة، وسلموها إلى الصبى [ابن صنجيل «5» ] . فأقام ملكا حتى قتله بزواج «6» ، وذلك فى يوم الأحد، لأربع خلون من شهر رجب، سنة إحدى(31/55)
وثلاثين وخمسمائة. وقتل أكثر أصحابه، وأسر بطرس الأعور، واستخلف فى طرابلس ولد القومص بدران «1» ، فأسره أتابك زنكى، [لما كان فى صحبة متملك القدس فلك «2» بن فلك، وذلك بالقرب من قلعة بعرين، فطلع الملك وجماعة معه إلى قلعة بعرين، فحاصرهم زنكى «3» ] وضايقهم، فصالحه الملك على تسليم حصن بعرين، واستخلص القومص صاحب طرابلس وجميع الأسرى. وعاد القومص إلى طرابلس، وأقام حتى وثب عليه الإسماعيلية، فقتلوه. فتولى بعده ريمند «4» ، وهو صبى، وحضر الحرب مع الفرنج على حارم. فكسرهم الملك العادل نور الدين [محمود «5» ] الشهيد [ين زنكى] ، وقتل منهم «6» مقتلة عظيمة وأسر.
وكان من أسر، القومص ريمند، وذلك فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبقى فى اعتقاله إلى أن ملك الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. فأعتقه فى(31/56)
تاسع عشرى «1» شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة «2» . وبقى الملك بيده، ويد أولاده من بعده، إلى أن فتحت هذا الفتح المبارك [سنة ثمان وثمانين وستمائة «3» ] فى الأيام المنصورية وهدمت المدينة «4» .
واستقر العسكر على عادته بحصن الأكراد والنائب عن السلطنة الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى، وكان اليزك «5» ينزل إلى طرابلس، من حصن الأكراد. ثم عمرّ المسلمون مدينة مجاورة للنهر. واختلفوا «6» بها، وعمروا فيها حمامات وقياسر ومساجد ومدارس للعلم. وأجريت المياه فى دورها بقساطل «7» وعمرت دار السلطنة، ينزلها نائب السلطنة بالمملكة، وهى عالية مشرفة على المدينة.
واستمر الأمير سيف الدين الطباخى فى النيابة، إلى أن نقل إلى حلب، فى الدولة الأشرفية، فى سنة إحدى وتسعين وستمائة. وولّاها [السلطان «8» ] الأمير سيف الدين طغريل الإيغانى، فأقام أياما، واستعفى فاعفاه السلطان الملك الأشرف. ورتب فى النيابة، الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، فبقى فى النيابة إلى الأيام العادلية الزينية كتبغا المنصورى، فعزله عنها فى سنة أربع وتسعين وستمائة. ودفن بتربته التى أنشأها، وهى بجوار حمامه بطرابلس(31/57)
وفوّضت النيابة بها بعده إلى الأمير سيف الدين كرت الحاجب، فلم تطل أيامه إلى أن كان من دخول التتار البلاد، ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية، فشهد الوقعة وعدم، وربما استشهد رحمه الله تعالى.
ثم فوضت النيابة بعد خروج التتار من الشام، إلى الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى، فتوجه إليها، وأقام بها، إلى سنة سبعمائة. واستعفى من النيابة فأعفى، واستقر فى جملة الأمراء بدمشق.
وفوضت نيابة السلطنة إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى المنصورى، فاستمر بها إلى سنة تسع وسبعمائة «1» . وعمرّ بها حماما عظيما، أجمع التجار ومن يجوب البلاد، أنه ما عمرّ مثله فى بلد من البلدان، وعمّر قيسارية وطاحونا. وأنشأ مماليكه بها مساكن حسنة البناء، تجرى إليها المياه بالقنوات، وتجرى فى طباقها، وعمرّ أيضا بعض القلعة، وأقام أبراجا، وهذه القلعة مجاورة لدار السلطنة بطرابلس. وتمكنّ استدمر تمكنّا كثيرا، وتامّر عدّه من مماليكه، ثم نقل إلى حماه.
وفوض السلطان الملك الناصر نيابة المملكة الطرابلسية وما معها إلى الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحاجب، كان المعروف بالحلبى فاقام بها إلى أن توفى فى ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة. وفوضت النيابة بها إلى الأمير جمال الدين أقش الأقرم، فأقام بها إلى مستهل المحرم سنة ثنتى عشرة وسبعمائة وفارقها، وتوجه إلى بلاد التتار، على ما نذكر ذلك، إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الناصرية.(31/58)
وفوّضت النيابة بعده إلى الأمير سيف الدين كستاى الناصرى، فأقام بها، إلى أن توفى فى شهر رجب سنة ست عشرة وسبعمائة. وفوضت النيابة بعده إلى الأمير شهاب الدين قرطاى الصالحى، وهو النائب بها الآن، إلى حين وضعنا «1» لهذا الجزء، وذلك فى سلح شهر رجب، سنة خمس وعشرين وسبعمائة.
وسنذكر إن شاء الله تعالى، أخبار هؤلاء النواب فى موضعها من هذا الكتاب على ما سنقف عليه. وإنما أوردناها فى هذا الموضع، لتكون اخبار طرابلس سيافة، وإن كانت على سبيل الإجمال والاختصار. ولنرجع إلى سياقة أخبار الدولة المنصورية.(31/59)
ذكر ما اتفق فى الدولة المنصورية على حكم السنين خلاف ما ذكرناه من إقامة النواب، ومهادنة الفرنج، والحوادث الغريبة، التى يتعين ايرادها والوفيات
سنة ثمان وسبعين وستمائة [678- 1279]
قد قدمنا بعض حوادث هذه السنة، فى ابتداء الدولة المنصورية، وبقى منها تتمة نذكرها فى هذا الموضع.
فى هذه السنة فوض السلطان الملك المنصور نيابة السلطنة، بحصن الأكراد، وما معه من الفتوحات، لمملوكه الأمير سيف الدين بلبان الطباخى.
وفيها، فى ذى القعدة، فوّض نظر الدواوين بدمشق، للصدر «1» جمال الدين إبراهيم بن صصرى، وذلك بعد وفاة الناظر بها، القاضى علم الدين محمد بن العادلى. وكانت وفاته فى يوم الأربعاء خامس عشرين شوال. وتوفى أيضا قبله، أخوه القاضى تاج الدين ناظر حلب، بها فى حادى عشرين شهر رمضان.(31/61)
وفى هذه السنة، توفى الأمير بدر الدين محمد ابن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمى، خال الملك السعيد. وكانت وفاته بدمشق، فى تاسع شهر ربيع الأول. وصلى عليه الملك السعيد، بسوق الخيل، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.
وفيها، لما كان العسكر ببلاد سيس، فى الأيام السعيدية، توفى جماعة من الأمراء، أصحاب الطبلخانات، منهم سيف الدين البطاح، وعلم الدين بلبان المشرفى «1» ، وناصر الدين بلبان النوفلى، وسيف الدين جمق «2» ، وسيف الدين قلاحا الركنى، وجمال الدين أقش الشهابى وغيرهم، رحمهم الله تعالى.
وفيها، فى يوم الأحد، ثامن شوال، توفى شيخ الشيوخ شرف الدين أبو بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين، أبى محمد عبد السلام، ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن على بن محمد حمويه بدمشق، ودفن بقاسيون، رحمه الله تعالى.(31/62)
واستهلت سنة تسع وسبعين وستمائة [679- 1280]
فى هذه السنة، فى يوم الاثنين خامس المحرم، توفى الأمير جمال الدين أقش الشمسى، نائب السلطنة بالمملكة الحلبية. وهو خوشداش «1» الأمير بدر الدين بيسرى، كلاهما كان مملوك الأمير شمس الدين صراسنقر الكاملى. ففوض بعد وفاته، نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، للأمير علم الدين سنجر الباشقردى.
وفى هذه السنة، كان من خبر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وانهزامه من دمشق، وتوجهه إلى صهيون ما قدمناه. وكان بدمشق بعد مفارقته لها، أمور نذكرها فى هذا الموضع.
ذكر ما تجدد بدمشق، بعد أن فارقها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر.
لما انهزم الأمير شمس الدين، المشار إليه، كما تقدم، دخل العسكر المصرى إلى دمشق. ونزل الأمير علم الدين سنجر الحلبى بالقصر الأبلق، بالميدان الأخضر. وكان هو المشار إليه فى الولاية والعزل، والعطاء والمنع وغير ذلك.
فرسم بإيقاع الحوطة على مجد الدين إسماعيل بن كسيرات، وزير سنقر الأشقر، وجمال الدين بن صصرى ناظر الدواوين بدمشق، وأخذ خطوطهما بجملة.(31/63)
رسم على قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان. وضرب زين الدين وكيل بيت المال، ومحيى الدين بن النحاس. ثم ورد بعد ذلك كتاب السلطان بأمان أهل دمشق.
ذكر تقويض «1» نيابة السلطنة بالشام للأمير حسام الدين لاجين، وشدّ الدواوين للأمير بدر الدين بكتوت العلائى، والوزارة للصاحب تقى الدين توبة التكريتى.
كان الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، قد وصل إلى دمشق، فى جملة الجيش المجرّد إليها، لدفع سنقر الأشقر عنها، صحبة الأمير علم الدين الحلبى. فلما استقر أمر دمشق للسلطان، تحدث فى نيابة السلطنة بدمشق. واستند فى ذلك، إلى أن السلطان الملك المنصور، لما جرده رسم له بها «2» مشافهة. إلا أنه كان فى نيابته يلزم الأدب مع الأمير علم الدين الحلبى. واستمر الأمر على ذلك، إلى حادى شهر ربيع الأول من هذه السنة. فلما كان فى هذا اليوم، ورد من الباب السلطانى، سبعة نفر على خيل البريد، ومعهم تقليد للأمير حسام الدين لاجين [الصغير «3» ] المنصورى، بنيابة السلطنة بالشام، وتقليد للأمير بدر الدين بكتوت العلائى، بشد الدواوين، وتقليد للصاحب تقى الدين توبة التكريتى بوزارة الشام، ولكل منهم تشريف «4» ، وتشريف «5» لصاحب حماه.(31/64)
فلما كان فى يوم الخميس، ثانى عشر الشهر، اجتمع سائر الأمراء بالميدان الأخضر. وليس الأمير حسام الدين لاجين تشريف النيابة، [ولبس «1» ] الأمير بدر الدين بكتوت تشريف الشد. وركب الأمير علم الدين الحلبى، والأمير عز الدين الأفرم، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمرى، وسائر الأمراء والعساكر المصرية والشامية، وساقوا كلهم فى خدمة الأمير حسام الدين. فلما انتهوا إلى باب سر القلعة، ترجلوا بأجمعهم، وقبّل الأمير حسام الدين عتبة باب السر، ثلاث مرات. ثم تقدم الأمير علم الدين الحلبى، [والأمير «2» ] عز الدين الأفرم ليعضداه حتى يركب، ويمشيان فى خدمته، إلى دار السعادة. فسلك سبيل الأدب معهما، وامتنع من الركوب، واستمر ماشيا، والأمير علم الدين عن يمينه، والأمير عز الدين الأفرم عن يساره، وبقية الأمراء والعساكر، بين يديه، وكذلك القضاة والأعيان والأكابر. ولم يزل ماشيا، إلى أن دخل دار السعادة، وجلس بها فى رتبة النيابة، وقرىء تقليده. ثم خلع فى هذا النهار، بعد الظهر، على الصاحب تقى الدين توبة، وأعطى دواة الوزارة بالشام.
ذكر عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن القضاة بدمشق واعادته، وما اتفق فى هذه السنة الحادثه
كان السلطان الملك المنصور، قد رسم بشنق قاضى القضاة شمس الدين ابن خلكان لأنه بلغه أنه أفتى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، بجواز قتال(31/65)
السلطان. فلما ورد كتاب السلطان بأمان أهل دمشق، قرىء بحضور القاضى شمس الدين. فقال الأمير علم الدين الحلبى: هذا كتاب أمان لمن سمعه، وقد سمعه القاضى، فهو آمن. ثم عزله فى حادى عشر صفر، وفوض القضاء لقاضى القضاة، نجم الدين ابن قاضى القضاة صدر الدين سنى الدولة. وكان ابن خلكان بالمدرسة العادلية، فطاليه القاضى نجم الدين بإخلاء مسكنها ليسكن فيه، وكرر عليه الطلب. وكان ابن سنى الدولة، قد أرسل إلى حلب، لاحضار أهله.
فاتفق وصولهم إلى ظاهر دمشق، فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول. فخرج لتلقيهم، ورسم على القاضى شمس الدين بن خلكان، إلى أن ينتقل من المدرسة، وضيق عليه، وبقى فى شدة بسبب ذلك. وسئل ابن سنى الدولة، أن يمهل عليه أياما، إلى أن ينتقل إلى مكان آخر، فامتنع وشدّد فى ذلك، وصمم عليه.
وبقى القاضى شمس الدين فى الترسيم، إلى الرابعة من النهار المذكور، وهو يجمع كتبه، ويعبّى قماشه للنقلة، ونقل بعضه. فبينما هو كذلك، وإذا بجماعة من الجاندارية حضروا فى طلبه، فظن أن ذلك بسبب خلو المكان فأراهم أنه يهتم «1» فى النقلة. فقالوا له، أنك لم تطلب لذلك، وإنما قد حضر بريدية من باب السلطان، فطلبت لذلك. وظن أن الطلب لأمر، هو أشد من النقلة. وخاف، وتوجه إلى نائب السلطنة. فإذا كتاب السلطان قد ورد، وهو ينكر ولاية ابن سنى الدولة القضاء وهو أطروش. ويقول «2» نحن بيننا وبين القاضى شمس الدين(31/66)
معرفة، من الأيام الصالحية. وسيّر إليه تقليدا بالقضاء على عادته. فرجع إلى المدرسة قاضيا واستقر بها. وعدّت هذه الواقعة من الفرج بعد الشدة.
ويقال إن ابن سنى الدوله كان قد أعطى الحلبى على ولايته القضاء ألف دينار، والله أعلم.
ذكر إعادة الصاحب برهان الدين السنجارى إلى الوزارة وعزله
وفى هذه السنة، فى أواخر جمادى الآخرة، أعيد الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى إلى الوزارة، وعزل الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، فعاد إلى ديوان الإنشاء. وكتب من جملة الكتاب، وتصرف عن أمر صاحب الديوان. وولى الصاحب برهان الدين الوزارة، واستمر إلى أن عزل وقبض عليه، وعلى ولده وألزامه، فى شهر ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة. واعتقل إلى يوم عرفة من السنة، فأفرج عنه فى اليوم المذكور ولزم داره.
وفيها، جرد السلطان، الأمير عز الدين أيبك الأفرم لحصار «1» شيزر، وبها الأمير عز الدين أيبك كرجى من قبل الأمير شمس الدين سنقر الأشقر. فبينما هو يحاصرها، وردت الأخبار، أن التتار قد وصلوا على ثلاث فرق «2» : [فرقة «3» ] من جهة الروم، ومقدمتهم «4» صمغار «5» ، وتنجى «6» ، وطونجى «7» ، وفرقة من الشرق ومقدمتهم(31/67)
بيدو «1» بن طوغاى «2» بن هولاكو، وصحبته صاحب ماردين، والفرقة الثالثة فيها معظم العسكر، شرة «3» المغل صحبة منكوتمر بن هولاكو. فرحل الأمير عز الدين عن شيزر، وكتب السلطان إلى سنقر الأشقر يستميله، وذلك قبل أنتظام الصلح فجنح إلى السلم، ونزل من صهيون، على عزم إنجاد «4» المسلمين. وجفل عسكر حلب وحماه وحمص. ولم يحصل قتال التتار هذه السنة.
ذكر «5» تفويض السلطنة ولاية العهد للملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور
فى هذه السنة، فى شهر رجب «6» ، فوّض السلطان الملك المنصور ولاية عهده وكفالة السلطنة لولده السلطان الملك الصالح علاء الدين أبى الفتح على، وذلك عند ما عزم على التوجه للقاء التتار. وركب [الملك الصالح «7» ] بالقاهرة بشعار السلطنة، وخطب له على سائر المنابر بعد والده. وكتب تقليده بذلك، وهو من إنشاء المولى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر وبخطه، أجاد فيه وأبلغ، تركنا إيراده اختصارا «8»(31/68)
وفيها، فى شهر رمضان، عزل السلطان القاضى صدر الدين عمر ابن قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، عن القضاء بالديار المصرية.
وكان قد سلك فى ولايتة، طريق الخير والصلاح والصلابة، وتحرى الحق والعدل فى أحكامه. ثم مات رحمه الله تعالى، فى عاشر المحرم سنة ثمانين وستمائة.
ولما عزل، أعيد قاضى القضاة تقى الدين محمد بن الحسين بن رزين إلى القضاء بالديار المصرية «1» .
ذكر توجه السلطان إلى غزة، وعوده إلى الديار المصرية
وفى هذه السنة، توجه السلطان إلى الشام، وصحبته العساكر الإسلامية، لدفع التتار، فوصل إلى غزة. وكان التتار قد وصلوا «2» إلى عين تاب وبغراس والدر بساك، وتقدموا إلى حلب، فوجدوها خالية، وقد جفل العسكر وأهلها منها، فأحرقوها وذلك فى العشر الأوسط من جمادى الآخرة. ولما بلغهم اهتمام السلطان وخروجه، تفرقوا إلى مشاتيهم. وعاد السلطان إلى الديار المصرية؛ لاستحقاق الربيع.
وجرد الأمير بدر الدين بكتاش النجمى إلى حمص، والأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحى، إلى الساحل لحفظ البلاد من الفرنج.
وفيها، كتب الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، نائب السلطنة الشريفة بحصن الأكراد؛ إلى السلطان يستأذن فى غزو الفرنج بالمرقب، لأنهم لما بلغهم(31/69)
قدوم التتار، قويت نفوسهم، وامتد طمعهم. فأذن السلطان له فى ذلك.
فجمع جيوش الحصون، وأمر التركمان والرجالة، واستصحب المجانيق وآلات الحصار. وتقدم إلى حصن المرقب، ونزل بالقرب منه، فاختفى أهله، ولم يتحركوا فى مبدأ الحال. فقوى طمع العسكر فيهم، وتقدموا إلى جانب الحصن، فرشقهم الفرنج بالسهام والجروخ «1» من أعلا الحصن، وسهام المسلمين لا تصل «2» إليهم. فاضطرب العسكر، وأمرهم الطباخى أن يتأخروا عن الحصن، فظنوها هزيمة وولوا، فما أمكنه إلا أن يتبعهم. وخرج الفرنج فى أعقابهم ونالوا من المسلمين، وجرحوا منهم جماعة، ونهبوا وأسروا جماعة من الرجالة. وبلغ السلطان ذلك، فانكره وكبر لديه، وعزم على السفر.
ذكر توجه السلطان إلى الشام.
وفى سنة تسع وسبعين وستمائة أيضا، عاد السلطان إلى الشام. وكان خروجه من قلعة الجبل، فى مستهل ذى الحجة. ونزل بها ولده الملك الصالح، ورتب فى خدمته الامير علم الدين سنجر الشجاعى، لاستخراج الأموال، وغير ذلك.
وفى هذه السنة، فى ذى الحجة، وصل الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا من العراق، إلى خدمة السلطان. وعاود الطاعة، وسأل الصفح، عن ما فرط من ذنبه، من إعانة سنقر الأشقر، وما كان عزم عليه من الانضمام إلى التتار، وكان اجتماعه بالسلطان بمنزلة الروحاء. ولما وصل إلى الخدمة، ركب السلطان إليه، وتلقاه وأكرمه، وبالغ فى إكرامه وأحسن إليه.(31/70)
وفيها، فى يوم الأربعاء، وقت العصر، رابع عشر المحرم، توفى الشيخ نور الدين أبو الحسن على ابن الشيخ جلال الدين أبى العزائم همام ابن راجى الله سرابا بن أبى الفتوح ناصر بن داود الشافعى، إمام الجامع الصالحى بظاهر القاهرة، خارج باب زويلة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى.
وولى الإمامة بالجامع الصالحى بعده، ولده الشيخ تاج الدين أبو محمد عبد الله محمد.
وفيها، فى يوم الثلاثاء، ثانى عشر شوال، توفى الأديب جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن على المصرى، المعروف بالخرّاز الشاعر المشهور، مولده بمصر، سنة إحدى وستمائة. سمع أبا الفضل أحمد بن محمد الحباب، وروى وسمع من غيره. وكان أديبا فاضلا، جيد البديهة حلو المجون، حسن المحاضرة، كثير النادرة، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير سيف الدين أبو بكر، المعروف بابن اسباسلار، متولى مصر. وكان قد سمن، وأفرط به السمن، حتى منعه الأطباء من الرقاد على فرش وطى، ومن النوم إلا إغفاء، وقالوا إنه متى استغرق فى النوم مات. فكان كذلك إلى أن مات. وكانت وفاته فى شهر ربيع الآخر، ودفن بتربته بالقرافة.
وله فى ولايته بمصر أخبار كثيرة مشهورة من المصريين، سامحه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير نور الدين على بن عمر الطورى. كان من أبطال المسلمين وشجعانهم وفرسانهم. وله صيت عظيم عند الفرنج، ومعرفة بالبلاد الساحلية ومرابطة وآثار جميلة، ومواقف محمودة. وكان ممن جمع الله له، بين قوة البدن والقلب. كان يقاتل «1» بلتّ حديد، لا يستطيع الشباب حمله، ولازم المرابطة(31/71)
ببلاد الساحل، فى وجه العدو سنين كثيرة. وكان كريما ديّنا، وتنقل فى الولايات بالشام. وكان محترما فى الدول، مكرما عند الملوك، يعرفون قدره، وحضر المصاف الكائن بين عسكر مصر وسنقر الأشقر، فجرح ووقع تحت حوافر الخيل. ومات فى أواخر صفر أو أوائل شهر ربيع الأول، بجبل الصالحية وقد ناف على تسعين سنة، رحمه الله تعالى.(31/72)
واستهلت سنة ثمانين وستمائة [680- 1281]
ذكر ما تقرر من المهادنات مع الفرنج وبيت الاسبتار «1»
فى هذه السنة، وصل إلى السلطان، وهو بمنزلة الروحاء، وصل الفرنج يسألون تقرير الهدنة، والزيادة على الهدنة الظاهرية. وما زالوا يترددون إلى أن تقررت الهدنة، بين السلطان وولده معا، ومع مقدم «2» بيت الاسبتار،(31/73)
وجميع الإخوة الاسبتارية، [بعكا «1» ] ، لمدة عشر سنين كوامل متتابعات، وعشرة شهور، وعشرة أيام، وعشرة ساعات، أول ذلك يوم السبت ثانى عشر المحرم سنة ثمانين وستمائة، الموافق للثالث من شهر أيار، سنة ألف وخمسمائة واثنتين وتسعين للإسكندر بن فيلبس «2» اليونانى، [وذلك «3» ] على جميع بلاد السلطان، وما اشتملت عليه من الأفاليم والممالك والقلاع والحصون، والمدن والبلاد والقرى، والمزارع والأراضى، والموانى والبحور، والمراسى والثغور، وسائر البلاد من الفرات إلى النوبة، وعلى التجار المسافرين فى البر والبحر، والسهل والجبل، فى الليل والنهار، وعلى قلعة المرقب، والربض المرقبى بحقوقه وحدوده.
وتقررت الهدنة مع متملك طرابلس، بيمند «4» بن بيمند، لمدة عشر «5» سنين كوامل متواليات، أولها يوم السبت السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، الموافق للخامس من تموز سنة ألف وخمسمائة واثنتين وتسعين، للإسكندر. وذلك على بلاد السلطان الملك المنصور والملك الصالح ولده، قريبها وبعيدها، صهلها وجبلها، غورها ونجدها، قديمها ومستجدها، وما هو مجاور(31/74)
لطرابلس ومحادد لها، من المملكة البعلبكية، وجبالها وقراها الدخلية «1» والجبلية، وجبال الضنيين والقصبين «2» ، وما هو من حقوق ذلك، وعلى الفتوحات المستجدة:
وهى حصن الأكراد وافليس والقليعات وصافيتا، وميعار، واطليعا، وحصن عكار ومرقية «3» ، ومدينتها وبلادها، ومناصفاتها، وهى «4» بلاد اللكمة، وجميع بلاد هذه الجهات التى ذكرناها، ومناصفات المرقب التى دخلت فى الصلح مع بيت الاسبتار وبلده ومدينته، وما هو محسوب منها ومعروف بها من حصون وقرى، وبلاد الست وبلاطنس وبلادها، وقرقص «5» وبلادها، وجبلة ولاذقية وأنطاكية والسويدية وبلاد ذلك، وحصن بغراس، وحصن دير كوش وصهيون وبرزية، وحصون «6» الدعوة، وغير ذلك من سائر الممالك الإسلامية، وما سيفتحه الله تعالى، على يد السلطان ويد ولده، وعلى الموانى والسواحل والأبراج وغير ذلك؛ وعلى بلاد الإبرنس «7» ، وعلى طرابلس وما هو(31/75)
داخل فيها، وأنفه واليترون وجبيل وبلاد ذلك، وعرقا وبلادها المعينّة فى الهدنة، وعدتها إحدى وخمسون ناحية، وما هو للخيّالة والكنائس وعدّتها أحد وعشرون بلدا، وما هو للفارس روجاردلا «1» لولاى، من قبلى طرابلس، يكون مناصفة، وعلى أن يستقر برج اللاذقية وميناؤها فى استخراج الحقوق والجنايات «2» والغلات وغيرها مناصفة، ويستقر مقامهم باللاذقية على حكم شروط الهدنة الظاهرية «3» ، وعلى أن يكون على جسر أرتوسية «4» ، من غلمان السلطان ليحفظ الحقوق، ستة عشر نفرا وهم: المشد والشاهد والكاتب وثلاثة «5» غلمان لهم، وعشرة رجّالة فى خدمة المشد، ويكون لهم فى الجسر بيوت يسكنونها، ولا يحصل منهم أذية لرعية الإبرنس، وإنما يمنعون «6» ما يجب منعه من الممنوعات، ولا يمنعون «7» ما يكون من عرقا، من الغلات الصيفية والشتوية وغيرها، لا يعارضهم المشد فيه. وما عدا ذلك مما يعبر «8» من بلاد السلطان، يؤخذ عليه الحقوق. ولا يدخل إلى طرابلس غلة محمية للإبرنس ولا غيره، إلا [و] يؤخذ الموجب عليها؛(31/76)
وعلى أن البرنس لا يستجد خارج ما وقعت الهدنة عليه، بناء يدفع ولا يمنع، وكذلك السلطان لا يستجد بناء قلعة ينشئها من الأصل فى البلاد، التى وقعت الهدنة عليها، وعلى الشوانى من الجهتين أن تكون آمنة، كل طائفة من الأخرى.
ولا ينقض ذلك بموت أحدهما. ولا بتغييره، وأن لا يحسّن لأحد من أعداء مولانا السلطان، ولا يتفق عليه، برمز ولا خط، ولا مراسلة ولا مكاتبة ولا مشافهة. وتقررت الحال على ذلك وعادت الرسل، وتوجه الأمير فخر الدين أياز الحاجب ليحلف الفرنج ومقدم بيت الاسبتار. على ما انعقد عليه الصلح، فخلفهم.
ذكر حادثة «1» الأمير سيف الدين كوندك ومن معه، والقبض عليه
وفى هذه السنة، بلغ السلطان وهو بمنزلة الروحاء، أن الأمير سيف الدين كوندك وجماعة من الأمراء الظاهرية، قد توافقوا على الغدر به. ووصلت إلى السلطان كتب المناصحين من عكا يقولون له احترز على نفسك، فإن عندك جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتلك، وكاتبوا الفرنج، وقالوا لهم لا تصالحوا فالأمر لا يبطىء. وعزم كوندك ومن معه، أن يهجموا بالليل على السلطان فى الدهليز ويغتالونه. ووافقهم جماعة من الظاهرية الجوانية «2» . فاحترز السلطان(31/77)
ورحل «1» من الروحاء. وتقدم وتلاطف الأمر، حتى اجتمع «2» الأمراء عنده بحمرة «3» بيسان، فوبخ كوندك ومن معه، وذكر لهم ما اعتمدوه من مكاتبة الفرنج فاعترفوا بذلك، وقرّوا به. وسألوه العفو. فأمر السلطان بالقبض عليهم، فقبض [على] «4» كوندك «5» وايدعمش الحكيمى وبيبرس الرشيدى، وساطلمش السلاح دار الظاهرى فى الدهليز، وأمر السلطان بإعدامهم. وسير إلى الخيام فأمسك من كان قد وافقهم من [الأمراء] «6» البرانيين والمماليك الجوانية، وكانوا ثلاثة وثلاثين نفرا، وخاف جماعة فهربوا، فساق العسكر خلفهم. فأحضر بعضهم من جبال بعلبك، وبعضهم من ناحية صرخد.
وفيها، هرب الأمير سيف الدين أينمش «7» السعدى. وسيف الدين بلبان(31/78)
الهارونى «1» ، وجماعة من البحرية الظاهرية. والتتار الوافدية «2» ، يقال كانوا نحو ثلاثمائة فارس. وتوجهوا إلى صهيون، ولحقوا بالأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وذلك قبل انتظام الصلح الذى قدمناه. وجرد السلطان خلفهم، الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، والأمير ركن الدين بيبرس طقصوا «3» وجماعتهم فلم بدر كوهم.
ورحل السلطان إلى دمشق، وكان وصوله إليها فى يوم السبت العشرين من المحرم، وهو أول دخوله إليها. وكان من انتظام الصلح بين السلطان والأمير شمس الدين ستقر الأشقر والملك المسعود ما قدمناه»
. وكانت الوقعة مع التتار على حمص، وقد تقدم ذكرها فى الغزوات «5» .
وفى هذه السنة، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، والسلطان بدمشق، فوّض السلطان قضاء القضاة بدمشق، على مذهب الإمام الشافعى، لقاضى القضاة عز الدين بن الصائغ، وعزل القاضى شمس الدين أحمد ابن خلكان. وفوّض أيضا قضاء الحنابلة بدمشق للقاضى نجم الدين أحمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن الحنبلى. وكان القضاء على مذهب أحمد، قد(31/79)
شغر «1» ، منذ عزل الشيخ شمس الدين نفسه من القضاء، وتوجه إلى الحجاز، فى سنة ثمان وسبعين وستمائة، ففوضه السلطان الآن لولده المذكور، بإشارة والده وخلع على القاضيين، واشترط القاضى عز الدين شروطا، فأجيب إليها.
وفيها، فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأول، دارت الجهة المفردة «2» بدمشق وأعمالها وضمنت. فقيل «3» إنها ضمنت فى كل سنة بسبعمائة ألف درهم.
ثم تزايد فيها الضمان حتى بلغت ألفى ألف درهم فى كل سنة. فلما كان فى يوم الأحد، الخامس والعشرين من الشهر، خرج مرسوم السلطان بإراقة الخمور وإبطال [هذه] الجهة [الخبيثة] فبطل ذلك ولله الحمد «4» .
وفيها، فى شعبان، فوض السلطان شاد الدواوين بالشام، للأمير علم الدين سنجر الدوادارى و [فوض «5» ] نظر النظار للقاضى تاج الدين عبد الرحمن بن الشيرازى.(31/80)
وفى هذه السنة، وصلت رسل الملك المظفر يوسف بن عمر، صاحب اليمن إلى السلطان بالهدايا والتحف. وكان من جملة سؤال صاحب اليمن أن يرسل السلطان إليه قميص أمان «1» ، ويكتب عليه هو وابنه الملك الصالح، فأجابه السلطان إلى ذلك. وجهّز له هدايا وتحفا وقطعة زمرد وخيلا من خيل التتار الأكاديش «2» ، وشيئا من عددهم «3» .
وفيها، فى شهر رمضان، قبض السلطان على الأمير ركن الدين أياجى «4» الحاجب. وفى ذى القعدة، قبض على الأمير سيف الدين أيتمش «5» السعدى، وجماعة من الأمراء، وقبض بدمشق على الأمير سيف الدين بلبان الهارونى،(31/81)
وسنقر الكردى وغيرهم. وكان أيتمش والهارونى، قد عادا إلى الخدمة من جهة سنقر الأشقر بعد المصاف، كما تقدم ذكر ذلك «1» .
وفيها، رسم السلطان بإبطال زكاة الدولبة «2» ، والزكاوات المقررة بالديار المصرية. وكان الناس يجدون مشقة كبيرة لذلك، لأن المال كان ينفد والزكاة باقية، وإذا مات رجل طولب ورثته بالزكاة المقررة عليه.
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين رزين، وولاية القاضى وجيه الدين، واستعفائه من قضاء القاهرة، وولاية القاضى شهاب الدين الخويى «3» .
وفى هذه السنة، فى ليلة الأحد ثالث شهر رجب، كانت وفاة قاضى القضاة، تقى الدين أبى عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى بن عيسى، ابن موسى بن نصر الله بن هبة الله العامرى الشافعى، ودفن بالقرافة.
ومولده فى يوم الثلاثاء، ثالث شعبان سنة ثلاث وستمائة بحماه، رحمه الله تعالى.
وفضائله وعلومه مشهورة، وسماعاته عالية. ولما مات، فوّض السلطان قضاء(31/82)
القضاة بالديار المصرية، للقاضى وجيه الدين عبد الوهاب بن حسين البهنسى المهلبى، فى سلخ شعبان، فولى ذلك إلى آخر جمادى الآخرة، سنة إحدى وثمانين [وستمائة «1» ] . ثم استعفى من قضاء القاهرة والوجه البحرى، وذكر أنه يضعف عن الجمع بين قضاء المدينتين والوجهين. فأعفى من قضاء القاهرة والوجه البحرى، وفوض السلطان ذلك إلى القاضى شهاب الدين الخويى «2» ، وكان يلى قضاء الغربية. فنقل إلى قضاء «3» القضاة بالقاهرة والوجه البحرى. واستمر إلى أن نقل إلى الشام، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وفيها، توفى قاضى القضاة، نفيس الدين أبو البركات محمد، ابن القاضى المخلص، ضياء الدين هبة الله ابن القاضى كمال الدين أبى السعادات أحمد بن شكر المالكى، قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية، فى يوم الجمعة مستهل ذى الحجة، ومولده فى سنة خمس وستمائة. وولّى القضاء من بعده للقاضى تقى الدين أبى على الحسين، فى سنة تسع وستين وستمائة. ولما مات، فوّض السلطان القضاء بعده، للقاضى تقى الدين أبى علّى الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبى الفضائل عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام مفتى «4» الفرق جلال الدين أبى محمد عبد الله ابن شاس الجذامى السعدى المالكى.(31/83)
وفيها، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو بكر محمد ابن قاضى القضاة صدر الدين أبو العباس أحمد ابن قاضى القضاة شمس الدين أبى البركات «1» يحيى ابن هبة الله، المعروف بابن سنى الدولة. وكانت وفاته بدمشق، فى ثامن المحرم، ودفن بتربة جده، بقاسيون، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى ثالث عشر شهر ربيع الآخر تو، فى الشيخ الصالح مجد الدين عبد العزيز ابن الحسين بن إبراهيم الخليلى الدارى بدمشق، ودفن بقاسيون «2» . وهو والد الصاحب الوزير فخر الدين عمر الخليلى.
وفيها، فى سحر يوم الجمعة، ثامن ذى الحجة، توفى الشيخ الإمام، بقية العلماء، علم الدين أبو الحسن محمد ابن الإمام أبى على الحسين بن عتيق بن عبد الله بن رشيق الربعى المالكى الفقيه، شيخ مشايخنا. ودفن بالقرافة، وكانت جنازته مشهودة. ومولده فى يوم الأحد، العشرين من شهر رجب، سنة «3» خمس وتسعين وخمسمائة بمصر، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير بهاء الدين ابن الأمير حسام الدين بيجار «4» ، وكان من أعيان الأمراء وأكابرهم. وكانت وفاته بغزة، وهو منصرف إلى الديار المصرية،(31/84)
فى رابع عشر شعبان، وهو فى عشر السبعين تقريبا، ووالده الأمير حسام الدين البايبرتى «1» باق، وقد كف بصره.
وفيها، توفى الأمير شمس الدين سنقر الألفى. وهو الذى ولى نيابة السلطنة بالديار المصرية، بعد الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقانى كما تقدم. وكانت وفاته فى معتقله بثغر الإسكندرية، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير نور الدين أحمد، ويدعى رباله، ابن الملك الظاهر على ابن الملك العزيز محمد، ابن الملك الظاهر غياث الدين غازى ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وأمه زوجة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى المعروفة، بوجه القمر. وكانت وفاته بالقاهرة، فى شوال، و [كان «2» ] عمره يؤمئذ ستا وعشرين سنة. وكان بديع الحسن، تام الخلقة، عنده شجاعة وكرم وسكون، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى موفق الدين خضر بن محاسن الرحبى، النائب بالرحبة. وكان يعد من رجال الدهر شجاعة وإقداما وحزما، وتدبيرا ومكرا، وحيلا ومداراة وسياسة. وكان فى بدايته جماسا «3» بالرحبة، لإنسان من أهلها، فمات، فتزوج بامرأته، وحاز موجوده، فصلحت حاله. وخدم من جملة قراغلامية «4» الرحبة لما كانت الرحبة للملك الأشرف، صاحب حمص. وخدم النواب بالرحبة،(31/85)
وتنقلت به الأحوال، وترقى إلى أن ولى نيابة السلطنة بالرحبة. وكانوا بعد ذلك يسمونه الموفق صاحب الرحبة. فلما كان فى هذه السنة، حضر إلى دمشق، يتقاضى مواعيد كانت سبقت له من السلطان بالإمرة، فمات بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير، وعمره نحو سبعين سنة، رحمه الله.(31/86)
واستهلت سنة إحدى وثمانين وستمائة [681- 1282]
ذكر تفويض نياية السلطنة بحلب للأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى
فى هذه السنة، فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية، إلى الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصورى. فاستأذن السلطان فى عمارة جامع مدينة حلب وقلعتها، وكان التتار قد أخربوهما «1» فأذن له فى ذلك، فعمّر هما «2» أحسن ما كانا.
وفيها، فى حادى شهر ربيع الآخر، فوّض السلطان الوزارة للقاضى الصاحب نجم الدين حمزة بن محمد الأصفونى، وكان قبل ذلك يلى نظر الدواوين. وكان فى ابتداء ترقيه يلى نصف مشارفة الأصل «3» ، بالأعمال القوصية. ثم ولى فى الدولة الظاهرية، نظر الأعمال القوصية، ثم وضع إلى نظر الأعمال الأخميمية. ثم تنقلّ فولى نظر النظار بالديار المصرية، ثم الوزارة. ولم تطل مدة وزارته، فإنه مات بعد سنة من يوم وزارته، رحمه الله تعالى. وفوضت الوزاره بعده، للأمير علم الدين سنجر الشجاعى المنصورى.(31/87)
وفيها، وفد إلى خدمة السلطان، شخص من أولاد الأويراتية «1» ، يسمى الشيخ على. كان قد دخل فى دين الإسلام، وخدم المشايخ، وعانى أسباب الرياضة والانقطاع. فظهرت له كرامة من كرامات الفقراء، فتبعه جماعة من أولاد المغل. فخرج بهم من تلك البلاد إلى الشام، ثم إلى الديار المصرية. ومثلوا بين يدى السلطان، فأحسن إليهم، منهم الأقوش وتمر وعمر، ثلاثة إخوة، وجويان «2» وجماعة، رتب السلطان بعضهم فى جملة الخاصكية، وتنقلوا إلى الإمرة. ثم ظهر من الشيخ على أمور أنكرت عليه فسجن، ثم سجن الأقوش، ومات نمر وعمر فى الخدمة.
وفى هذه السنة، فى صفر، قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير علاء الدين كشتغدى الشمسى وغيرهما، واعتقلوا. واستمر الأمير بدر الدين بيسرى فى الاعتقال إلى الدولة الأشرفيه، فأفرج عنه، على ما نذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيها، فى يوم عرفة، قبض بدمشق على الأمير عز الدين أيبك كرجى، والأمير علم الدين الروباسى «3» ، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيدمر(31/88)
الظاهرى. نائب السلطنة، والده بدمشق كان «1» ، وعلى زين الدين ابن الشيخ عدى «2» ، واعتقلوا.
وفيها، فى حادى عشرين، شهر رمضان احترق سوق اللبادين وسوق جيرون بدمشق، إلى حيطان الجامع. واتصل الحريق إلى حمام الصحن، ودار الخشب.
وكان ابتداء الحريق من وقت المغرب، واستمر ثلاثة أيام، وركب بسببه نائب السلطنة وسائر الأمراء، والعسكر، والحجارين والنجارين، حتى «3» خرّبوا قدام النار فانقطعت. واحترق سوق الكتبيين، فكان ما احترق فيه لشمس الدين إبراهيم الجزرى الكتبى، خمسة عشر ألف مجلد، غير الكراريس والأوراق. وكان سبب هذا الحريق، أن بعض الذهبيين «4» غسل ثوبه ونشره، وجعل تحته مجمرة نار وتركها، وتوجه للفطور، فتعلقت النار بالثوب، واتصلت ببارية «5» كانت معلقة، ومنها إلى السقف. وسلم أربعة دكاكين من ناحية درج اللّبادين.
ذكر وصول رسل أحمد سلطان، وهو توكدار ابن هولاكو، ملك التتار.
وفى هذه السنة، وصل رسل أحمد سلطان بن هولاكو، وهو الذى ملك بعد أبغا، وهم قطب الدين محمود الشيرازى، قاضى سيواس، والأمير بهاء الدين(31/89)
أتابك السلطان مسعود صاحب الروم، والصاحب شمس الدين محمد ابن الصاحب، وهو من أصحاب صاحب ماردين. وعند ورود الخبر بوصولهم إلى البيرة، أمر السلطان، الاحتراز عليهم، بحيث لا يشاهدهم أحد. فساروا بهم فى الليل، إلى أن حضروا بين يدى السلطان. واحضروا كتابا من أحمد سلطان، يتضمن أنه قد ملك التتار، وهو مسلم. وقد أمر ببناء المسجد والمدارس والأوقاف، وأمر بتجهيز الحاج، إلى غير ذلك من أنواع وجوه البر والقربات.
وطلب اجتماع الكلمة، وإخماد نار الفتن والحروب. وذكر أن أصحابه وجدوا جاسوسا فى زى الفقراء فمسكوه، وإن عادة مثله القتل. وجهزه إلى الأبواب السلطانية. وقال إنه لا حاجة إلى الجواسيس ولا غيرهم، بعد الاتفاق واجتماع الكلمة، إلى غير ذلك مما فيه استجلاب خاطر السلطان. وظهرت رغبته فى الصلح، وأنه كتب من واسط، فى جمادى الأولى. فاجابه السلطان جوابا حسنا، يتضمن تهنئته بالإسلام، وأجابه إلى ما طلب من الصلح، وأعاد رسله مكرّمين. فوصلوا إلى حلب فى سادس شوال، وتوجهوا إلى بلادهم «1» .
وفيها، بنى السلطان ببنت «2» سكتاى بن قراحين بن جنغان نوين. وكان سكتاى هذا، قد ورد إلى الديار المصرية، هو وقرمشى، فى سنة أربع وسبعين وستمائة، صحبة بيجار «3» الرومى، فى الدولة الظاهرية. وهذه هى والدة السلطان الملك الناصر.(31/90)
وفيها، تزوج الملك الصالح ابن السلطان الملك المنصور بمنكيك «1» ، ابنة الأمير سيف الدين نوكية بن شان «2» قطعان. وكان نوكيه إذ ذاك معتقلا بثغر الإسكندرية.
فرسم السلطان بالإفراج عنه، وأحضره إلى الأبواب العالية، وشمله الإنعام.
وتقرر العقد على خمسة آلاف دينار عينا، قدّم منها ألفا دينار.
وفيها، استقرت الهدنة بين السلطان والمقدم افرير كليام ديباجوك «3» ، مقدم بيت الديوية بعكا والساحل وديوية «4» انطرطوس «5» ، لمدة عشر سنين، أولها خامس المحرم، سنة إحدى وثمانين وستمائة.
ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه.
وفيها، بلغ السلطان الملك المنصور، أن ملكا من ملوك الكرج، خرج من بلاده، لزيارة القدس الشريف، ويعود خفية، واسمه توما سوطياس «6» كليارى. ووضعت له صفته، ومعه رفيق يسمى طيبغا بن انكوار، وأنهما ركبا المراكب من ساحل(31/91)
بوط «1» ، فحفظت عليه الطرقات من كل جهة، فلم يصل إلى موضع إلا وخبره قد سبق إلى السلطان. فلما وصل إلى القدس الشريف، أمسك هو وترجمانه «2» ، وأحضرا «3» إلى الديار المصرية، واعتقلا بها.
وفى هذه السنة، ولى القاضى بدر الدين محمد ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن جماعة الكنانى الشافعى، تدريس المدرسة القيمرية. وذكر الدرس بها، فى تاسع عشر شوال. وحضر دروسه القضاة والعلماء.
وفيها، فى يوم الثلاثاء، ثامن شهر رجب، كانت وفاة الشيخ الإمام العالم الزاهد، زين الدين أبى محمد عبد السلام بن على بن عمر الزاووى المالكى، بدمشق. ومولده بظاهر بجايه فى سنة تسع أو ثمان وثمانين وخمسمائة. ووصل إلى دمشق فى سنة ست عشرة وستمائة، وأقام بها إلى حين وفاته. وولى القضاء فى الدولة الظاهرية، بعد امتناع منه، كما تقدم. ولم يأخذ عنه جامكية، ولا لبس تشريفا. ثم عزل نفسه، فى سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وحلف ألا بلى القضاء بعدها. فأقر السلطان نائبه وصهره القاضى جمال الدين يوسف، وقد تقدم ذكر ذلك فى مواضعه. وكان رحمه الله تعالى، كثير التواضع، يشترى حاجته وبحملها «4» بنفسه.(31/92)
وفيها، فى يوم الأحد سادس عشرين شعبان، توفى الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام، عز الدين أبى محمد عبد العزيز بن عبد السلام، ودفن بتربة والده بالقرافة. ومولده بدمشق، فى سنة خمس وستمائة، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الملك الظاهر شادى ابن الملك الناصر داود ابن الملك المعظم سيف الدين عيسى ابن السلطان الملك العادل، سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب. وكانت وفاته بالغور، فى السابع والعشرين من شهر رمضان. ونقل إلى البيت المقدس، فدفن به. ومولده بقلعة دمشق، بعد صلاة الجمعة، سابع عشر ذى الحجة، سنة خمس وعشرين وستمائة.
وفيها، توفى القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن خلكان البرمكى. الشافعى الاربلى. وكان وفاته بالمدرسة النجيبية بدمشق، فى عشية يوم السبت سادس عشر شهر رجب. ومولده بمدينة إربل، فى يوم الخميس بعد صلاة العصر، حادى عشر، شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستمائة. وقد تقدم ذكر ولايته «1» القضاء بالشام. وكان رجلا عالما، وحاكما عادلا، وأديبا بارعا، ومؤرخا جامعا، وكريما سمحا، جوادا مداريا. يحب الرفق بالناس، وكان طاهر المجلس، لا يغتاب أحد أحدا فى مجلسه. وله مناقب مشهورة، وحكايات مذكوره، تدل على حسناته وستره، رحمه الله تعالى «2» .(31/93)
وفيها، توفى الشيخ الصالح، أبو الفدا إسماعيل بن إسماعيل بن جوسلين البعلبكى بها، فى يوم الأربعاء الرابع والعشرين من صفر. ومولده سنة أربع وستمائة. سمع صحيح البخارى، على ابن الزبيدى واسمعه، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها، كانت وفاة السديد هبة الله النصرانى القبطى المعروف بالماعز، ستوفى الصحبة بالديار المصرية. وكان قد تمكن فى هذه الوظيفة عند الملك الظاهر، وتقدم على أبناء جنسه. وله معرفة تامة بالديار المصرية والبلاد الشامية، لم يشاركه أحد فى زمانه من أبناء جنسه كلّهم، قد أقر له بالفضل فى صناعته، وكان متعففا عن الأموال، وعنده ستر على الكتاب والمتصرفين. ولما مات، رتب السلطان فى وظيفته، ولده الأسعد جرجس. وتمكن الأسعد فى الدولة المنصورية تمكنا كثيرا، ما سمع بمثله لمثله.(31/94)
واستهلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة [682- 1283/1284]
فى هذه السنة، توجه السلطان إلى البحيرة، لحفر الخليج المعروف بالطيرية «1» .
وتوجه صاحب حماه فى خدمته، وكان قد وصل إلى الأبواب السلطانية فى هذه السنة. فحفر هذا الحليج، وكان طوله ستة آلاف [و «2» ] ستمائة قصبة، وعرضه ثلاث قصبات، وعمقه أربع قصبات، بالقصبة الحاكمية «3» . وكان نجازه فى عشرة أيام، وروى بسببه من أعمال البحيرة «4» ، ما لم يكن يروى قبله، فى سنة من السنين.
وفيها، فى عاشر شهر ربيع الأول، فوّض السلطان إلى الصاحب برهان الدين الخضر السنجارى، النظر والتدريس، بمدرسة الإمام الشافعى [بالقرامة «5» ] ، بالجامكية «6» والجراية «7» . والرسم الشاهد به، كتاب الوقف الصلاحى، يوسف(31/95)
ابن أيوب، رحمه الله تعالى، وهو عن [معلوم «1» ] التدريس، فى كل شهر أربعون دينارا معاملة، صرف [كل «2» ] دينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم وعن النظر عشرة دنانير [والجراية «3» ] ، والرسوم فى كل يوم، من الخبز ستون «4» رطل، بالرطل المصرى، وراويتان «5» من الماء الحلو. وكانت هذه المدرسة، خلت من مدرس، من ثلاثين سنة، وأكتفى فيها بالمعيدين «6» ، وهم عشرة.
واستمر الحال على ذلك، إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة. فولى تدريسها قاضى القضاة تقى الدين بن رزين، عند عزله من القضاء وقرر له نصف المعلوم. ثم انتقلت بعد وفاته إلى غيره بربع المعلوم، وبقى الأمر على ذلك إلى الآن «7» ، ففوضت إليه بتوقيع شريف سلطانى منصورى.
ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده
وفى هذه السنة توجه السلطان إلى الشام، فى النصف من جمادى الأولى، ووصل إلى غزة، فى سابع جمادى الآخرة. وأقام بها أياما، ثم رحل «8» إلى دمشق. فدخلها فى ثامن شهر رجب، ونزل بالقلعة.(31/96)
ذكر عزل قاضى القضاة عز الدين ابن الصائغ الشافعى عن القضاء، وتولية قاضى القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكى
كان سبب عزل قاضى القضاة عز الدين ابن الصائغ عن القضاء بدمشق، أن تاج الدين بن السنجارى قاضى [قضاة «1» ] حلب، أثبت «2» محضرا، أن الطواشى ريحان الخليفتى، أودع شرف الدين بن الإسكاف، ثمانية آلاف دينار، وأن ذلك انتقل إلى يد القاضى عز الدين المذكور بحكم الوصية. فطلب القاضى عز الدين، فى يوم الجمعة حادى عشرين شهر رجب، وكان قد حضر إلى الجامع الأموى، لسماع خطبة القاضى جمال الدين بن عبد الكافى، وكان قد ولى الخطابة والإمامة بدمشق. فتوجه من الجامع إلى القلعة، «3» وحضر إلى الأمير بدر الدين الأقرعى مشد الصحبة، والقاضى شهاب الدين بن الواسطى، الناظر بالصحبة. فرسم المشدّ على القاضى بمسجد الحبالة «4» ، ولم يصلّ الجمعة. ثم شدد عليه الأمر، وعزل عن القضاء فى يوم الأحد ثالث عشرين الشهر. وفوّض القضاء للقاضى بهاء الدين يوسف ابن القاضى محيى الدين بن الزكى. ومنع الناس عن الدخول على القاضى عز الدين والاجتماع به، إلا من لا بد منه. ثم ادعى(31/97)
عليه أن عنده حياصة «1» وعصابة «2» ، القيمة «3» عنهما خمسة وعشرون «4» ألف دينار، وأنهما كانا عند عماد الدين ابن الشيخ محيى الدين بن العربى «5» ، للملك الصالح إسماعيل بن أسد الدين شيركوه، وانتقل ذلك إلى عماد الدين ابن الصائغ، ومنه إلى أخيه القاضى عز الدين. ثم ادعى عليه، أن الأمير ناصر الدين ابن الأمير عز الدين أيدمر، نائب السلطنة، والده، كان أودع عنده جملة كثيرة، واشتد عليه الأمّر، ووكل الملك الزاهر «6» فى مطالبته، فظهر الأمر بخلاف ذلك. وهو أن القاضى عز الدين أثبت عداوة تاج الدين السنجارى، الحاكم [بحلب «7» ] ، وعجز الخصم عن تحقيق حال العصابة والحياصة، وما فيهما من اللؤلؤ والبلخش «8» .
وظهرت براءته من الوديعة بأمور يطول شرحها. وانتصر له الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة بالشام. واستمال حسام الدين طرنطاى، فخاطبا السلطان فى أمره فأفرج عنه، فى ثامن عشرين شعبان من السنة، واستمر معزولا إلى(31/98)
أن مات، وكانت وفاته بحميص، ظاهر دمشق، فى عشية يوم الأحد، تاسع شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وقد بقى من النهار ساعة. ودفن فى يوم الاثنين بتربته بقاسيون، رحمه الله تعالى.
وأما السلطان، فإنه أقام بدمشق، إلى أن رتب أحوالها، وقدر مصالحها ثم عاد إلى الديار المصرية، وكان استقلال ركابه من دمشق، فى يوم الأربعاء ثانى شهر رمضان، ووصل إلى قلعة الجبل، فى الخامس والعشرين من الشهر.
وفيها، وصلت رسل عكا، وتقررت الهدنة مع الديوية والاسبتار والملك [المنصور «1» ] لعشر سنين، وعشرة شهور، وعشرة أيام، وعشر ساعات.
أولها خامس شهر ربيع الأول منها.
وفيها، تزوج السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور باردكين ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وهى أخت زوجة أخيه الملك الصالح.
ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن ومن معه من جهة احمد سلطان، ووفاة مرسلهم، وما كان من خبرهم
وفى هذه السنة، وصل الشيخ عبد الرحمن، من جهة أحمد سلطان ملك التتار، وصحبته صمد «2» اغوا، والأمير شمس الدين محمد بن التيتى «3» ، المعروف بابن الصاحب وزير صاحب ماردين، وجماعة فى صحبتهم نحو مائة وخمسين نفرا.(31/99)
وكان هذا الشيخ قدوة أحمد سلطان ملك التتار. وهو الذى استسلمه، وقرر قواعد الصلح بينه وبين السلطان، وبلغ منه مبلغا عظيما، إلى أن كان يقف بين يديه، وظهرت منه أمور للمغل استمالهم بها. وتحدث فى سائر الأوقاف وعظم ذكره ببلاد الشرق. وركب بالجتر «1» والسلاح دارية والجمدارية. وظن أنه إذا حضر إلى السلطان تمكن منه، ويتم له فى هذه المملكة، ماتم له بالعراق.
فلما وصل إلى البيرة، تلقاه الأمير جمال الدين أقش الفارسى، أحد الأمراء بحلب، ومنعه من حمل الجتر والسلاح ونكب به عن الطريق المسلوك، إلى أن أدخله إلى حلب، ثم إلى دمشق. كان وصوله إلى دمشق، فى ليلة الثلاثاء، ثانى عشر ذى الحجة، ولم يتمكن أحد من الناس أن يراه ولا يكلمه.
ولما وصل إلى دمشق، أنزل فى قلعتها بقاعة رضوان، إلى أن وصل السلطان إلى دمشق. ويقال إنه رتب للشيخ ولمن معه، فى كل يوم ألف درهم نفقة وأطعمة وحلوى، وغير ذلك بألف درهم أخرى. واستقر بالقلعة، إلى أن وصل السلطان إلى دمشق، فى جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، فاستدعاهم ليلا.
ووقف بين يدى السلطان ألف مملوك وخمسمائة. مملوك، عليهم الأقبية الأطلس الأحمر، بالطرز «2» ، والكلوتات «3» الزركش. ووفد بين يديه ألف شمعة وخمسمائة(31/100)
شمعة، وحضر الشيخ عبد الرحمن والأمير صمد اغوا وشمس الدين ابن الصاحب، وأدوا الرسالة فسمعها السلطان، وأعادهم إلى مكانهم، ثم استحضرهم مرة ثانية وثالثة، حتى استوعب ما عندهم من الأخبار، وما وردوا به من الرسالة.
ثم أعلمهم السلطان فى المرة الثالثة، أن مرسلهم قد قتل، وجلس على تخت المملكة أرغون بن أبغا. وكانت القصاد قد وصلت بهذا الخبر.
ونقلوا من قاعة رضوان، إلى بعض قاعات القلعة، ورتب لهم بقدر الكفاية.
ثم سيّر إليهم الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، استاذ الدار، وقال: قد رسم السلطان بانتقالكم إلى غير هذا المكان، فليجمع كل واحد منكم قماشه، ففعلوا ذلك.
فلما صاروا فى دهليز الدار فتشوا، فأخذ منهم جملة كثيرة من اللؤلؤ وغيره. ويقال إنه كان بيد الشيخ عبد الرحمن سبحة لؤلؤ، قيمتها تزيد على مائة ألف درهم، فأخذت فى جملة ما أخذ، واعتقلوا. فمات الشيخ عبد الرحمن، فى ثامن عشرين شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين بقلعة دمشق، ودفن بمقابر الصوفية. وهذا الشيخ المذكور، هو تلميذ شيخ الإسلام موفق الدين الكواشى، ثم رباه الشيخ المشار إليه، واشتغل عليه وخدمه. وقيل إنه علم منه الاسم الأعظم، ويقال إن الشيخ أعطاه كتابا فى علم السيمياء «1» . وقال له توجه بهذا إلى النهر واغسله،(31/101)
فأخذه وأخفاه. ومعاد إلى الشيخ، وأخبره أنه غسله. ثم اشتغل بهذا العلم، وتوجه إلى التتار، واجتمع بالخوانين وأراهم من هذا العلم، ما اقتضى تمسكهم به، وحظى عند والدة السلطان أحمد، فى صغر أحمد، وتألّف به فلما ملك التتار، حكّمه فى سائر ممالكه. ورسم له أن يركب بالجتر، فركب به، ثم جهزه فى هذه الرسالة فمات. وبقى أصحابه فى الاعتقال مدة، وضيّق عليهم. ثم كتب الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام، إلى السلطان بسببهم، فرسم بإطلاقهم.
واستمر الأمير شمس الدين فى الاعتقال، ونقل إلى قلعة الجبل، واعتقل بها مدة طويلة. ثم أفرج عنه بعد ذلك، وولى نيابة دار العدل بالديار المصرية.
وفى سنة اثنتين وثمانين أيضا، وصل من جهة تدان منكو «1» ، الجالس على كرسى الملك، ببيت بركة، نفران من فقهاء القفجاق، وهما مجد الدين أطا ونور الدين وأحضرا على أيديهما كتابا من جهته بالخط المغلى، فقرئ فكان مضمونه، أنه دخل فى دين الإسلام، وأنه أقام شرائع الملة المحمدية، وأوصى على الفقيهين «2» الواصلين بكتابه، وأن يساعدا «3» على الحج المبرور. وذكرا من ألسنتهما مشافهة، أن الملك سأل السلطان، أن ينعته نعتا، يتسمى به من أسماء المسلمين،(31/102)
ويرسل إليه علما خليفتيا، وعلما سلطانيا، يقاتل بهما أعداء الدين. فجهز السلطان الفقيهين «1» إلى الحجاز ولما عادا جهزهما «2» إلى مقصد هما» .
وفيها، أمسك تبرك «4» ، كان بالحدث من جبال طرابلس. وكانت شوكته قد قويت، وانضم إليه جماعة كثيرة من أهل تلك الجبال، وتحصن بالحدث.
فقصده التركمان، وتحيلوا عليه، حتى تمكنوا منه وأسروه وأحضروه «5» ، وكفى الله المسلمين شره.
وفيها، خرج صاحب «6» قبرص غازيا، لقصد الساحل، فرمته الريح إلى جهة بيروت، فخرج منها، وقصد الإغارة على تلك الجهات. فكمن له أهل جبل الخروب، وخرجوا عليه، فقتلوا وأسروا من جماعته ثمانين رجلا، وأخذوا له شيئا كثيرا من المال والخيل والبغال، وركب فى البحر، وتوجه إلى صور، ولم يلبث أن هلك.
وفيها، وصل إلى السلطان رسول أبونكيا «7» ، ملك سيلان، وأحضر كتابا(31/103)
فى حق من ذهب. وقال الرسول، وهو الحاج أبو عثمان، هذا الكتاب بخط الملك، فلم يوجد من يقرأه. فسألوا عن مضمونه. فقال مضمونه. إن سيلان مصر، ومصر سيلان، وأنه قد ترك صحبة صاحب اليمن، فى محبة السلطان.
وقال أريد رسولا من جهة السلطان، يحضره رسولى، ورسولا «1» يقيم «2» فى عدن.
والجواهر واليواقيت واللؤلؤ عندى كثير، والمراكب والقماش وغيره عندى.
والبقم والقرفة وجميع ما يجلبه الكارم «3» [عندى «4» ] . والرماح الكثيرة «5» عندى.
وعندى الفيلة «6» . ولو طلب السلطان كل سنة عشرين مركبا، سيرتها إليه وأطلق(31/104)
تجار السلطان. وأنا لى سبع «1» وعشرون قلعة، [وفيها معادن «2» :] جواهر ويواقيت.
والمغاص «3» ، وكل ما يحصل منها فهولى. فاكرم السلطان هذا الرسول، وكتب جوابه وجهزه.
وفيها، نجزت عمارة تربة، كان السلطان قد رسم [لشاد الأمير علم الدين سنجر الشجاعى «4» ] بعمارتها لوالده وولده الملك الصالح، بالقرب من مشهد السيدة نفيسة وعمرت. ونزل السلطان وولده إليها، وتصدقا، ورتبا وقوفها. ورسم السلطان بعمل تربة ومدرسة وبيمارستان بالقاهرة.
ذكر عمارة التربة المنصورية والمدرسة والبيمارستان ومكتب السبيل
قال «5» ، ولما رأى السلطان الملك المنصور التربة الصالحية، أمر بانشاء تربة(31/105)
[له «1» ] ، ومدرسة وبيمارستان ومكتب سبيل. فاشتريت الدار القطبية «2» ، وما يجاورها- وهى بين القصرين- من خالص مال السلطان، وعوض مكان الدار القطبية «3» بالقصر المعروف بقصر الزمرد. وكان انتقال الدار القطبية «4» منها إلى قصر الزمرد، ثانى عشر ربيع الأول من السنة «5» .
ورتب الأمير علم الدين الشجاعى مشدا على العمارة، قاظهر من الاهتمام بالعمارة والاحتفال، ما لم يسمع بمثله. فعمرت فى أيسر مدة، ونجزت العمارة فى شهور سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وإذا شاهد الرائى هذه العمارة العظيمة، وسمع أنها عمرت فى هذه المدة القريبة، ربما أنكر «6» ذلك.
ولما كملت العمارة، وقف السلطان من أملاكه القياسرو والرباع «7» ، والحوانيث والحمامات، والفنادق والأحكار وغير ذلك «8» ، من الضياع بالشام، ما يحصل من أجر ذلك وريعه وغلاته، فى كل شهر جملة كثيرة. وجعل أكثر ذلك على البيمارستان ثم [التربة بالقبة «9» ] . ورتب وقف المدرسة، إلا أنه يقصر عن كفايتها. ورتب لمكتب السبيل، من الوقف بالشام ما يكفيه.
ولما تكامل ذلك، ركب السلطان وشاهده، وجلس بالبيمارستان ومعه الأمراء، والقضاة والعلماء. فأخبرنى بعض من شهد السلطان، وشهد عليه،(31/106)
عليه، أنه استدعى قدحا من الشراب فشربه. وقال قد وقفت هذا على مثلى، فمن دونى. وأوقفه السلطان على الملك والمملوك، [والجندى والأمير والوزير «1» ] والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وجعل لمن يخرج منه، من المرضى، عند برئه كسوة. ومن مات جهّزه، وكفن ودفن. ورتب فيه الحكما، الطبائعية «2» والكحالين والجرائحية والمجبرين، لمعالجة الرمدى والمرضى والمجرحين والمكسورين من الرجال والنساء. ورتب «3» به الفراشين والفراشات، والقومة، لخدمة المرضى، وإصلاح أما كنهم وتنظيفها، وغسل ثيابهم، وخدمتهم فى الحمام. وقرر لهم على ذلك، الجامكيات الوافرة.
وعملت النخوت والفرش والطراريح والأنطاع والمخدات واللحف والملاوات لكل مريض فرش كامل. وأفرد لكل طائفة من المرضى أمكنة تختص بهم. فجعلت الأواوين الأربعة المتقابلة للمرضى بالحميات «4» وغيرها، وجعلت قاعة للرمدى، وقاعة للجرحاء، وقاعة لمن أفرط به الاصهال، وقاعة للنساء، ومكان حسن للمرورين «5» من الرجال ومثله للنساء، والمياه تجرى فى أكثر هذه الأماكن. وأفردت أماكن. لطبخ الطعام، والأشربة والأدوية، والمعاجين وتركيب الأكحال، والشيافات «6» ،(31/107)
والسفوفات، وعمل المراهم والأدهان، وتركيب الترياقات «1» ، وأماكن لحواصل العقاقير، وغيرها من هذه الأصناف المذكورة. ومكان يفرّق منه الشراب. وغير ذلك من جميع ما يحتاج إليه. ورتب فيه مكان يجلس فيه رئيس الأطباء، لإلقاء درس طب، ينتفع به الطلبة، ولم يحصر «2» السلطان، أثابه الله، هذا المكان المبارك بعده فى المرضى، يقف عندها المباشر، ويمنع من عداها، بل جعله سبيلا، لكل من يصل إليه، فى سائر الأوقات، من غنى وفقير. ولم يقتصر أيضا فيه، على من يقيم به للمرضى، بل يرتب لمن يطلب، وهو فى منزله ما يحتاج إليه، من الأشربة والأغذية والأدوية، حتى أن هؤلاء زادوا فى وقت من الأوقات، على ماتبين، غير من هو مقيم بالبيمارستان.
ولقد باشرته «3» فى شوال سنة ثلاث وسبعمائة، وإلى آخر رمضان سنة سبع وسبعمائة. فكان يصرف منه، فى بعض الأيام، من الشراب المطبوخ خاصة، ما يزيد على خمسة قناطير بالمصرى، فى اليوم الواحد، للمرتبين والطوارى، غير السكر والمطابيخ من الأدوية وغير ذلك من الأغذية والأدهان والترياقات وغيرها ورتب فى البيمارستان من المباشرين والأمناء، من يقوم بوظائفه، واتباع ما يحتاج إليه من الأصناف، وضبط ما يدخل إلى المكان، وما يخرج منه خاصة، من غير أن يكون لهم تعلق فى استخراج الأموال. وإنما يبتاعون الأصناف، ويحيلون بثمنها على ديوان صندوق المستخرج، ويكتبون فى كل شهر، عمل استحقاق «4»(31/108)
لسائر أرباب الجامكيات والجرايات من سائر أرباب الوظائف والمباشرين، يكتبه «1» العامل، ويكتب عليه الشهور. ويأمر الناظر بصرفه، ويخلد [فى «2» ] ديوان الصندوق «3» ويصرف على حكمه. وهذه الطائفة من المباشرين بالبيمارستان، هم مباشر والإدارة.
وأما مباشرو «4» الصندوق والرباع، فإليهم يرجع تحرير جهات الأوقاف، فى الخلق والسكون والمعطل، واستخراج الأموال، ومحاسبات المستأجرين وصرف الأموال، بمقضى حوالة مباشرى الإدارة، ومباشرة العمارة، وعمل الاستحقاق لا يتصرفون فى غير ذلك، كما لا يتصرف مباشر والإدارة، فى صرف الأموال، إلا حوالة «5» بأوراقهم.
وأما العمارة، فلها مباشرون ينفردون بها، من ابتياع الأصناف، واستعمال الصناع «6» ، ومرمّة «7» الأوقاف، وغير ذلك مما يدخل فى وظيفتهم، كما يفعل فى الإدارة، وينقل عليهم من الصندوق من المال، ما يصرفونه لأرباب الأجر(31/109)
خاصة. ويكتبون فى كل شهر، عمل استحقاق، بثمن الأصناف وأرباب الأجر، ويخصمونه بما أحالوا به على الصندوق، وما وصل إليهم من المال ويسوقونه إلى فائض أو متأخر.
وترفع كل طائفة من هؤلاء المباشرين حسباناتهم، مباومة ومشاهرة ومساناة إلى الناظر «1» والمستوفى «2» .
هذا ما يتعلق بالمارستان.
وأما القبة المباركة المنصورة، وهى التربة «3» ، فإنه رتّب فيها خمسون مقرئا، يقرأون كتاب الله تعالى، ليلا ونهارا بالنوب. وجعل لكل منهم، فى كل شهر عشرون درهما. ورتب بها إمام، على مذهب الإمام أبى حنيفة، رحمه الله تعالى، وله فى كل شهر ثمانون درهما من أصل الوقف، وفى كل سنة فى ليلة ختم صلاة قيام رمضان، خلعة من خزانة السلطان، كاملة مسنجبة «4» مقتدرة «5» ورتّب بها ريس ومؤذنون «6» ، يعلنون «7» الأذان، بالمأذنة الكبرى، ويقيمون(31/110)
الصلاة، ويبلغون خلف الإمام. وهم سبعة نفر. الرئيس، وله فى كل شهر أربعون درهما، والمؤذنون ستة، لكل منهم فى كل شهر ستون درهما.
ورتب بها درس تفسير لكتاب الله تعالى، فيه مدرس «1» يلقيه، رتب له فى كل شهر [مائة درهم، وثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم، ومعيد «2» له] فى كل شهر أربعون درهما، وطلبة عدتهم ثلاثون [نفرا «3» ] ، لهم فى كل شهر ثلاثمائة درهم، ودرس حديث يذكر فيه حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، له مدرس ومعيد وطلبة، لهم فى كل شهر نظير ما لمدرس التفسير ومعيده وطلبته، وزيادة على ذلك قارىء، يقرأ الحديث، بين يدى المدرس، فى أوقات الدروس، ويقرأ ميعادا «4» للعوام بين يديه أيضا، فى صبيحة كل يوم أربعاء، رتب له فى كل شهر ثلاثون درهما. ورتّب لخازن كتبها فى كل شهر أربعون درهما، ولخزانة كتبها من الخستمات الشريفة، والربعات المنسوبة الخط، وكتب التفسير والحديث والفقه واللغة، والطب والأدبيات، ودواوين الشعر شىء كثير «5» . ورتب بها [ا «6» ] لخدام أزمة، يقيمون بالقبة، لحفظ حواصلها، ومنع من يعبر إليها فى غير أوقات الصلوات، وهم ستة، لكل منهم فى كل شهر خمسون درهما، وغير هؤلاء من القومة والفراشين والبوابين.(31/111)
وأما المدرسة المباركة المنصورية، فإنه رتب بها إماما شافعى المذهب، له فى كل شهر ثمانون درهما، وريسا «1» ومؤذنين «2» ، يعلنون بالأذان بالمئذنة الكبرى المذكورة، هم ومؤذنو القبة بالنوبة «3» ، وهم ريس وأربعة مؤذنين «4» ، لهم فى كل شهر نظير ما لمؤذنى القبة. ورتّب بها متصدر لإقراء كتاب الله، عز وجل، ورتب له فى كل شهر أربعون درهما. ورتب بها دروس للمذاهب الأربعة، الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، لكل طائفة مدرس، له فى كل شهر مائتا درهم، وثلاثة معيدين لكل منهم خمسة وسبعون درهما، وغير هؤلاء من القومة والفراشين وبواب «5» .
وأما مكتب السبيل، فإنه رتّب فيه فقيهان يعلمان [ستين «6» ] صغيرا من أيتام المسلمين، كتاب الله تعالى. ورتب لهما جامكية فى كل شهر، وجراية فى كل يوم، وهى لكل منهما فى كل شهر ثلاثون درهما، وفى كل يوم من الخبز ثلاثة أرطال، وكسوة فى الشتاء، وكسوة فى الصيف. ورتّب للأيتام، لكل منهم، فى كل يوم رطلان خبزا، وكسوة فى الشتاء، وكسوة فى الصيف. وتنوّع(31/112)
السلطان، أجزل الله ثوابه، فى وجوه البر والقربات. وهذه الجهات المباركة المبرورة باقية مستمرة، يزيد وقفها وينمو، بحسن «1» نية واقفها. قدّس الله روحه، ونور ضريحه.
ولنرجع إلى بقية حوادث سنين اثنتين وثمانين وستمائة.
وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام، عماد الدين أبو الفضل محمد ابن قاضى القضاة، شمس الدين أبى نصر محمد بن هبة الله الشيرازى، ببستانه «2» بالمزه، فى فى يوم الاثنين، سابع عشر صفر. وصلى عليه بعد صلاة العصر، بجامع الجبل، ودفن بتربة فيها قبر أخيه علاء الدين. رحمهما الله تعالى. وكان شيخ الكتابة، أتقن الخط المنسوب، وبلغ فيه مبلغا عظيما، حتى يقال إنه أتقن قلم «3» المحقق، وكتبه أجود من شيخ الصناعة ابن البواب «4» .(31/113)
وفيها، توفى الصاحب مجد الدين أبو الفدا إسماعيل بن إبراهيم بن أبى القاسم ابن أبى طالب بن كسيرات الموصلى. وكانت وفاته فى سابع عشرين شهر رمضان، بداره بجبل الصالحية. وكان رحمه الله كثير المروءة، واسع الصدر، كثير الهيبة والوقار، جميل الصورة، حسن المنظر والشكل، كثير التعصب لمن يقصده، محافظا على مودّة أصحابه وقضاء حوائجهم، كثير التفقد لهم، وأصله من الموصل، من بيت الوزارة. كان والده، وزير الملك المنصور عماد الدين زنكى ابن الملك العادل نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر. ثم باشر نظر الخزانة، للملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ [صاحب الموصل «1» ] ثم نقله إلى نظر الجزيرة العمرية «2» ، لما فتحها. ووصل إلى الشام صحبة الملك المجاهد سيف الدين اسحاق، لما وصل فى الدولة الظاهرية.
وسكن دمشق، وولى نظر البر بها «3» . ثم نقل إلى نظر نابلس، ثم أعيد إلى دمشق فباشر نظر الزكاة بها. ثم انتقل إلى صحابة الديوان بالشام، إلى أن ملك سنقر الأشقر دمشق، فاستوزره كما تقدم. وتعطل «4» بعد ذلك عن المباشرة، وسكن داره التى أنشأها بجبل قاسيون، جوار البيمارستان، فكان بها إلى أن مات.(31/114)
قال شمس الدين الجزرى «1» : قلت له يوما- وقد أضرته «2» البطالة- يا مولانا لو ذكرت واحدا من أصحابك الأمراء، حتى يذكر بك السلطان، أو نائب السلطنة، فكاتب فى أمرك فإن لك خدما «3» وتفضلا «4» على الناس، فنظر إلى وأنشد:
لذّ خمولى وحلا مره ... وصاننى عن كل مخلوق
نفسى معشوقى ولى غيرة ... تمنعنى عن بذل معشوقى «5»
وفيها، فى يوم الخميس عاشر شهر رمضان، توفى الملك العادل سيف الدين أبو بكر ابن الملك الناصر صلاح الدين داود، ابن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وكانت وفاته بدمشق، وصلى عليه بعد صلاة الجمعة، ودفن بالتربة المعظمية. وكان رحمه الله تعالى، قد جمع بين الرئاسة والفضيلة، والعقل الوافر، والخصال الجميلة. وكان مجانب الناس، محبوب الصورة، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى سادس عشرين شعبان، توفى القاضى عز الدين إبراهيم ابن الصاحب الوزير الأعز، فخر الدين أبى الفوارس مقدام ابن القاضى كمال الدين أبى السعادات، أحمد بن شكر [المصرى «6» ] . وكان قد ولى نظر الجيوش، بالديار المصرية، فى شهر رمضان، سنة خمس وسبعين وستمائة، كما تقدم، رحمه الله تعالى.(31/115)
وفيها، توفى الشيخ الإمام العّلامة، العابد الزاهد، شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام، أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسى، شيخ الحنابلة بالشام. وكان قد ولى قضاء القضاة على كره منه، فى سنة أربع وستين كما تقدم. ثم ترك الحكم، وتوفر على العبادة والتدريس، وأشغال الطلبة، والتصنيف. ويقال إنه قطب بالشام. واستدل على ذلك بحرائى «1» توافقت عليها، جماعة تعرفه «2» ، فى سنة سبع وسبعين وستمائة أنه قطب، وكان أوحد زمانه. وكانت وفاته فى يوم الاثنين، سلخ ربيع الآخر منها.
ودفن بقاسيون، بتربة والده، قدس الله روحه. ومولده فى السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ولما مات رثاه المولى الفاضل شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء بقصيدة أولها.
ما للوجود وقد علاه ظلام ... أعراه «3» خطب أم عداه مرام
أم قد أصيب بشمسه فغدا وقد ... لبست عليه حدادها الأيام
جاء منها:
لكم الكرامات الجليلات التى ... لا تستطيع حجودها الأقوام
وهى قصيدة تزيد على ستين بيتا، ورثاه جماعة، رحمه الله تعالى.(31/116)
وفيها، توفى الأمير علاء الدين كندغدى «1» المشرقى الظاهرى، المعروف بأمير مجلس. كان من أعيان الأمراء بالديار المصرية. وظهر قبل وفاته بمدة يسيرة، أنه باق على الرق. فاشتراه السلطان الملك المنصور بجملة وأعتقه، وقربه لديه. وكان شجاعا بطلا مقداما. وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم الجمعة مستهل صفر. ودفن بمقابر باب النصر، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير شهاب الدين أحمد بن حجى بن يزيد البرمكى، أمير آل مرى «2» ، وكانت وفاته ببصرى. وكانت غاراته تنتهى إلى أقصى نجد والحجاز.
وأكثرهم يؤدون «3» إليه إتاوة فى كل سنة، فمن قطعها منهم أغار عليه. وكان يدعى أنه من نسل جعفر البرمكى، من العباسة أخت الرشيد. ويقول إنه تزوجها ورزق منها أولادا. ولما جرى على البرامكة ما جرى، هرب أولاده منها إلى البادية، فأحدهم جده، والله أعلم. وكان يقول للقاضى شمس الدين بن خلكان [البرمكى «4» ] ، أنت ابن عمى. وكانت بينهما مهاداة. وانتفع ابن خلكان به وباعتنائه، عند السلطان.
وفيها، فى سابع عشرين المحرم، كانت وفاة القاضى شمس الدين عيسى ابن الصاحب برهان الدين الخضر «5» السنجارى. كان ينوب عن والده فى الوزارة(31/117)
الأولى، فى سنة ثمان وسبعين وستمائة. وولى نظر الأحباس، ونظر خانقاه سعيد السعداء. ثم ولى بعد ذلك تدريس المدرسة الصلاحية المعروفة بزين التجار «1» ، ثم قبض عليه مع والده، بعد انفصاله من الوزارة الثانية، كما تقدم.
فلما أفرج «2» عنه سكن المدرسة المعزية بمصر، وكان بها إلى أن توفى. وكان حسن الصورة والشكل، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى سادس عشر شوال، توفيت زوجة السلطان الملك المنصور، والدة ولده، الملك الصالح علاء الدين على، رحمهما الله تعالى.
وفيها، فى يوم الأحد، ثانى عشر جمادى الأولى، توفى الشيخ ظهير الدين جعفر بن يحيى بن جعفر القرشى التزمنتى الشافعى، مدرس المدرسة القطبية بالقاهرة، وأحد المعيدين بمدرسة الشافعى، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى يوم السبت، ثانى عشرين شهر رجب، توفى الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار، أحد الأمراء بالديار المصرية. وكانت وفاته بدمشق لما كان السلطان بها. ودفن بظاهرها، عند قباب التركمان، بميدان الحصار «3» :
رحمه الله تعالى.(31/118)
واستهلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة [683- 1284]
ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده
فى هذه السنة، توجه السلطان الملك المنصور إلى الشام، وكان وصوله إلى دمشق، فى يوم السبت ثانى عشر جمادى الآخرة، ونزل بقلعتها. وكان جل توجهه إلى الشام، بسبب رسل السلطان أحمد، فاستحضرهم وسمع رسالتهم، كما قدمنا «1» ذكر ذلك. وأقام السلطان بدمشق، إلى أن رتب أحوالها.
وعزل الأمير علم الدين سنجر الداوادارى، من وظيفته شاد الدواوين بدمشق، وأضاف هذه الوظيفة إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وكان استاذ دار السلطنة بالشام. فاجتمع له شاد الدواوين واستاذ الدارية. ونقل أيضا الأمير ناصر الدين الحرانى، من ولاية مدينة دمشق إلى نيابة السلطنة بحمص، وأضاف ولاية مدينة دمشق، إلى الأمير سيف الدين طوغان، متولى «2» البر. ثم عزم على الرحيل، والعود إلى مقر ملكه، فبرز الأمراء أثقالهم إلى ظاهر قلعة دمشق، فكانت حادثة السيل.
ذكر حادثة السيل بدمشق
وفى يوم الأربعاء، العشرين من شعبان، سنة ثلاث وثمانين وستمائة، الموافق لأول تشرين الثانى، وهو خامس هاتور، أمطرت السماء، فى أول(31/119)
الليل، وتوالى المطر وهطل وكثر، واشتد صوت الرعد، وتوالى البرق طول الليل إلى أول النهار. ثم أقبل السيل وارتفع، حتى بلغ إلى حد السبل الذى ذكرناه فى سنة تسعة وستين وستمائة «1» . وحمل جميع أثقال من برز ثقله من الأمراء المصريين والجند، وحمل الخيل والجمال والصناديق وغير ذلك. فيقال إنه عدم للأمير بدر الدين بكتاش النجمى، ما تزيد قيمته على أربعمائة ألف درهم وخمسين درهم، وصدم السيل باب الفراديس، فكسر أقفاله، وما خلفه من المتاريس، ودخل الماء إلى المدرسة المقدمية، وبقى كذلك حتى ارتفع النهار. ثم جف «2» الماء فى يومى الأربعاء والخميس. ثم جاء مطر شديد، وهو دون المطر الأول، فهدم عدة مساكن، فى جبل قاسيون، وبظاهر دمشق وحواضرها «3» . ثم انحط الماء، وتوجه السلطان بعد أن نضب الماء، إلى الديار المصرية، واستقل ركابه من دمشق، فى يوم السبت الثالث والعشرين من شعبان، ووصل إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رمضان من السنة.
ذكر وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشىء من أخباره، وأمر ولده الأمير حسام الدين مهنا
فى هذه السنة، كانت وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع بن حذيفة أمير العرب. وصلّى عليه بدمشق صلاة الغائب، فى يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول. وقد ذكرنا ابتداء إمرته، فى إبتداء الدولة الظاهرية. وكان رحمه الله رجلا دينا خيرا، انتفع الإسلام به، فى مواطن كثيرة، وصلحت العربان(31/120)
فى أيامه، وقل فسادهم، بل كاد «1» يعدم، مع لينه وحسن سياسته. وكانت الإمرة قبله لابن عمه الأمير على بن حذيفة. وكان كثير السفك للدماء، ويقتل مفسدى «2» العرب، بأنواع القتل، فكانت له قدر كبيرة منصوبة، لا تزال على النار مملوءة ماء، والنار توقد تحتها، فمنى وقع له مفسد من العرب ألقاه فيها حيّا، قيسقط لحمه لوقته. وقتل خلقا كثيرا بذلك وبغيره من أنواع العذاب. هذا والفساد فى أيامه مستمر، وأمر العرب لا يزداد إلا شدة. فلما ولى الأمير شرف الدين عيسى بعد وفاته، أنزل القدر وامتنع من سفك دم إلا بحكم الله. فعلم الله صدق نيته، وأصلح له من أمر العرب ما فسد فى أيام غيره، وصلحت سيرتهم فى أيامه، وانحسمت مادة أذاهم للقفول «3» وغيرها، منّا من الله تعالى.
ولما مات رحمه الله تعالى، فوض السلطان إمرة العرب بعده، لولده الأمير حسام الدين مهنا. وزاده السلطان إقطاعا، وبسط يده، فسلك سبيل والده فى الخير والإحسان. وأطاعه العرب كافة، وعظم شأنه عند الملوك وغيرهم.
وهو على ذلك إلى وقتا هذا، الذى وضعنا فيه هذا الكتاب «4» .
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماه وولاية ولده الملك المظفر
فى حادى عشر شوال من هذه السنة، توفى الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد ابن الملك المظفر، تقى الدين محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك(31/121)
المظفر تقى الدين عمر ابن شاهانشاه بن أيوب، صاحب حماه، رحمه الله تعالى.
ومولده فى الساعة الخامسة، من يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. فتكون مده حياته، إحدى وخمسين سنة، وستة أشهر، وأربعة عشر يوما. وملك حماه يوم السبت ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وهو اليوم الذى توفى فيه والده، فتكون مدة مملكته بحماه، إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام.
ولما ورد الحبر بوفاته، رسم السلطان الملك المنصور، بتفويض ملك حماه، لولده الملك المظفر تقى الدين محمود، وأجراه مجرى والده فى التشاريف والمكاتبات.
وجهّز إليه التشريف والتقليد، صحبة الأمير جمال الدين أقوش الموصلى الحاجب، وجهّز معه عدة تشاريف لعمه الملك الأفضل، وابن عمه الأمير عماد الدين، وجماعة من أهل بيته وأمرائه.
وفيها، فى نصف ذى الحجة، توجه السلطان إلى الشام.
وفيها، فى ثالث شهر رمضان، توفى الملك السعيد فتح الدين عبد الملك، ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمه الله تعالى. ودفن بتربة جدته، والدة السلطان الملك الصالح، داخل دمشق.
وفيها، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو محمد عبد الرحيم ابن قاضى القضاة شمس الدين أبو الظاهر إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد البارزى، الجهنى الشافعى، الحموى، قاضى حماه.
وكانت وفاته ليلة الخميس عاشر ذى القعدة، سنة ثلاث وثمانين وستمائة. ومولده(31/122)
يوم الأربعاء، السادس والعشرين، من المحرم سنة ثمان وستمائة بحماه. وتوفى بطريق الحجاز، وحمله أولاده إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفن بالبقيع. وكان رحمه الله تعالى، ممن صنّف التصانيف المفيدة، وسمع وحدّث، وولى قضاء حماه، بعد أبيه مدة طويلة. ثم عزل مدة يسيرة. وله نظم حسن ومشاركة فى العلوم الكلامية والحكمية، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى قاضى القضاة جمال الدين أبو يعقوب يوسف بن أبى محمد عبد الله بن عمر الزواوى، قاضى المالكية بدمشق. وكانت وفاته بطريق الحجاز، قبل الحج بالقرب من تبوك، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى القاضى ناصر الدين أبو العباس أحمد بن أبى المعالى، محمد ابن منصور بن أبى بكر قاسم بن مختار الجذامى «1» الجروى «2» المالكى الإسكندرى المعروف بابن المنير. وكانت وفاته بالإسكندرية، فى ليلة الخميس، مستهل شهر ربيع الأول. ودفن بتربة والده، عند الجامع الغربى. ومولده بالإسكندرية، فى ثالث ذى القعدة، سنة عشرين وستمائة. وكان فاضلا عالما، وله اليد الطولى فى علم العربية والأدب، جيد النظم. باشر بالثغر عدة جهات. ثم ولى القضاء بالثغر، وولى الخطابة مدة يسيرة. ثم نكب فى سنة ثمانين وستمائة.
وهجم داره، ويقال إن الذين هجموا الدار، أدخلوا معهم قنانى خمر، تحت ثيابهم، وادعوا أنها وجدت عنده، فعزل عن مناصبه. ثم توجه إلى باب(31/123)
السلطان. وسعى فيمن سعى به، فنال بعضهم. وأعيدت إليه مناصبه، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير شمس الدين محمد ابن الأمير بدر الدين أبى المفاخر باخل ابن عبد الله بن أحمد الهكارى، متولى ثغر الإسكندرية. وكانت وفاته بالثغر، فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب. ودفن يوم الأحد، عند رباطه خارج باب رشيد، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها، فى ليلة الجمعة، ثالث عشرين ذى الحجة، توفى الشيخ الصالح العارف القدوة، أبو القاسم، وينعت وقار الدين، بن أحمد بن الرحمن المراغى. والمراغة التى ينسب إليها، [بلدة «2» ] معروفة باقليم «3» إخميم، من البر «4» الغربى.
ودفن بالقرافة، بزاويته المشهورة، فى يوم الجمعة، بعد الصلاة، رحمه الله وابّانا.(31/124)
واستهلت سنة أربع وثمانين وستمائة [684- 1285]
والسلطان الملك المنصور متوجه إلى الشام. فوصل إلى دمشق فى يوم السبت، ثانى عشر المحرم. وتوجه إلى المرقب، وأفتتح الحصن على ما تقدم ذكره.
ذكر مولد السلطان الملك الناصر
كان مولده المبارك الميمون، بقلعة الجبل، فى يوم السبت الخامس عشر من شهر المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة، الموافق للثامن والعشرين من برمهات من شهور القبط. وطالع الوقت السرطان. فوردت البشائر على والده «1» السلطان بمولده، وهو بمنزلة «2» خربة اللصوص، قبل وصوله إلى دمشق. فاستبشر السلطان بمولده، وتيمن به، وبلغ مقصوده، من فتح المرقب.
وفيها، بعد عود السلطان من فتح المرقب، دخل إلى الخزانة بدمشق، فى يوم الخميس سابع جمادى الأولى. وولى القاضى محيى الدين بن النحاس الوزارة بدمشق، عوضا عن الصاحب تقى الدين [توبة التكريتى «3» ] . وكان(31/125)
محيى الدين إذ ذاك، ناظر الخزانة. فخلع عليه خلعة الوزارة، وكانت الخلعة جبة عتابى «1» حمراء، وفوقها فرجية زرقاء، مسنجبة «2» مقتدرة وطرحة «3» . وعزل الأمير سيف الدين طوفان، عن ولاية مدينة دمشق، وأقره على ولاية «4» البر خاصة.
وولى مدينة دمشق الأمير عز الدين محمد بن أبى الهيجا، فى يوم الجمعة، خامس عشر جمادى الأولى. ثم توجه إلى الديار المصرية، فى بكرة نهار الاثنين، ثامن عشر الشهر. ووصل إلى قلعة الجبل، فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين شعبان.
وكان قد أقام مدة بتل العجول.
وفيها، وصلت رسل ملوك الفرنج، وأحضروا بين يدى السلطان، فى يوم الثلاثاء سابع شهر رمضان. وقدّموا ما معهم من التقادم، وهى: ما هو من جهة الأنبرور «5» ، ما حمله اثنان وثلاثون جملا «6» ، سنجاب وسمور أربعة عشر، [و] سقلاط خمسة، [و] أطلس وبندقى ثلاثة عشر. وما هو من جهة الجنوية، سار سينا «7» حملان «8» ، [و] سناقر ستة، [و] كلب أبلق، ذكر أنه(31/126)
أكبر من الأسد. وما هو من جهة الأشكرى «1» ، حمل أطلس، وأربعة أحمال بسط. فقبلت تقادمهم، وأجروا على عاداتهم فى الإحسان والصلة.
وفيها، وصل رسول صاحب اليمن، وصحبته الهدايا والتقادم، وأحضر إلى بين يدى السلطان، فى يوم السبت مستهل ذى القعدة، وأحضر من الهدية على ما نقل، ما هو «2» : خدام «3» أزمة ثلاثة عشر، خيل فحول عشرة، فيل واحد، كركدن واحد، نعاج يمنية ثمانية، طيور ببغاء ثمانية «4» ، قطع عود كبار ثلاثة، حملت كل قطعة منها على رجلين، رماح قنا أربعون حمل جمل. ومن أصناف البهار ما حمل على سبعين جملا، ومن القماش ما حمل على مائة قفص، ومن تحف اليمن ما حمل على مائة طبق نحاس، فقبل ذلك [منه «5» ] ، وأنعم على رسله وعليه على العادة.
وفيها، فى سادس ذى الحجة، وقع الحريق بقلعة الجبل المحروسة، فاحترقت الخزانة السلطانية والقاعة الصالحية.(31/127)
وفيها، فى سلخ شهر رمضان، كانت وفاة الأمير سيف الدين أيتمش «1» السعدى فى محبسه.
وفيها، كانت وفاة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدارى الصالحى، بالقاهرة، ودفن بتربته بالشارع الأعظم.
وفيها، فى يوم الأربعاء، سابع عشر صفر، توفى الصاحب المشير عز الدين محمد بن على بن إبراهيم بن شداد الأنصارى الحلبى، بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم. وكان فاضلا دينا، رئيسا مؤرخا، معظّما عند الأمراء الأكابر محبوبا إليهم. ولازم الصاحب بهاء الدين مدة حياته. وكان الأمراء الأكابر يحملون إليه فى كل سنة دراهم وغلة وكسوة وغير ذلك، رحمه الله تعالى «2» .
وفيها، فى منتصف شعبان توفى الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير افتخار الدين أباز «3» بن عبد الله الحرانى، بمدينة حمص، وهو يومئذ نائب السلطنة بها، وحمل إلى دمشق، ودفن بقاسيون، فى يوم الخميس سابع عشر الشهر «4» .
وفيها، فى يوم الأربعاء، سلخ شعبان، توفى الطواشى شبل «5» الدولة كافور الصفوى الخزندار بقلعة دمشق. ودفن يوم الخميس مستهل شهر رمضان، بتربته بسفح قاسيون. كان رجلا صالحا، كثير الصدقة والمعروف والإحسان، رحمه الله تعالى، والحمد لله وحده «6»(31/128)
واستهلت سنة خمس وثمانين وستمائة [685- 1286]
فى هذه السنة، أعيد الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، إلى شد الشام، عوضا عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر. وباشر الديوان فى بكرة يوم الاثنين خامس عشر المحرم.
وفيها، فى سلخ ربيع الآخر، وصل تقى الدين توبة التكريتى من الديار المصرية إلى دمشق. وقد أعيد إلى الوزارة بالشام، عوضا عن الصاحب محيى الدين بن النحاس.
ذكر حادثة غريبة اتفقت بحمص
وفى هذه السنة، فى سابع عشر صفر، ورد إلى الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام، كتاب من الأمير بدر الدين بكتوت العلائى وكان مجردا بحمص، وصحبته من عسكر دمشق ألفا «1» فارس، من مستهل هذه السنة، مضمونه بعد البسملة:
يقبل الأرض وينهى أنه لما كان فى يوم الخميس رابع عشر صفر، وقت العصر، حصل بالغسولة «2» إلى جهة عيون القصب، غمامة سوداء إلى الغاية،(31/129)
وأرعدت رعدا كثيرا زائدا. وظهر من الغمامة شبه دخان أسود، من السماء متصل بالأرض، وصور من الدخان، صورة أصلة «1» هائلة، مقدار العمود الكبير، الذى لا يحضنه جماعة من الرجال، وهى متصلة بعنان السماء، تلعب بذنبها فيتصل بالأرض، شبه الزوبعة الهائلة. وصارت تحمل الحجارة الكبار المقادير، وترفعها فى الهواء، كرمية سهم نشاب وأكثر. وصار وقعها «2» ، وتلاطم الحجارة بعضها ببعض «3» ، يسمع له صوت هائل، من المكان البعيد. وما برح ذلك مستمرا فى قوته، واتصل بأطراف العسكر المنصور. وما صادف شيئا إلا رفعه فى الهواء، كرمية نشاب وأكثر. وما صادف شيئا من الأشياء، من السروج والجواشن «4» ، والعدد والسيوف، والتراكيش «5» والقسى، والقماش والشاشات «6» .
والكلوتات «7» ، والنحاس، والأسطال، إلا صار طائرا فى الهواء كشبه الطيور.(31/130)
ومن جملة ذلك، أنه كان فى اسطبل المملوك، خرج آدم ملآن تطابيق «1» بيطارية حمله فى الهوا والجو، كرمية نشاب. ودفع من جملة ما دفعه، عدة من الجمال بأحمالها، قدر رمح وأكثر. وحمل جماعة من الجند والغلمان، وأهلك شيئا كثيرا من السروج، التى صدفها «2» ، والرماح، وطحن ذلك، إلى أن بقى لا ينتفع به. وأتلف شيئا كثيرا مما صادفه فى طريقه، وأضاع «3» أشياء كثيرة من العدد والقماش، لمقدار مائتى نفر من الجند وأصحاب الأمراء، إلى أن صاروا بغير عدة، ولا قماش «4» . وغابت تلك الحية عن العين، فى عنان السماء، فتوجهت فى البرية، صوب الشرق. والذى عدم من قماش الجند، منه ما راح فى الغمامة السوداء، ومنه ما أخذه بعض الجند، مع أن المملوك ركب بنفسه، ودار فى المعسكر المنصور، واستعاد «5» كثيرا مما عدم، وبعد هذا، عدم ما تقدم ذكره. وهذه الوقعة ما سمع بمثلها أبدا، ثم وقع بعد «6» هذا يسير من مطر. ثم إن اللواحيق «7» الكبار، حملها الهواء وهى منصوبة، وصارت مرتفعة فى الجو، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(31/131)
وفى هذه السنة، فى جمادى الأولى، أفرج السلطان عن الأمير شمس الدين قطلبجا أخى الرومى.
وفيها، رسم السلطان بهدم القبة الظاهرية، التى بقلعة الجبل بالرحبة.
فحصل الشروع فى هدمها، فى يوم الأحد، عاشر شهر رجب. وأمر ببناء قبة فى مكانها، فعمرت، وكان الفراغ منها فى شوال [من هذه السنة «1» ] .
ذكر توجه السلطان إلى الكرك وما رتبه من أمر النيابة وعوده
فى هذه السنة، فى يوم الخميس، سابع شهر رجب، توجه السلطان إلى غزة، ثم توجه من بعدها جريدة «2» إلى الكرك، فوصل إليها فى شعبان، وصعد إلى قلعتها، ورتب أحوالها. ورسم بتنظيف البركة التى فيها من الطين، فنظفت.
وعمل فيها جميع من كان فى خدمة السلطان، من المماليك والحاشية مدة سبعة أيام. واستناب بها الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى. ونقل الأمير عز الدين الموصلى منها إلى نيابة السلطنة بغزة، وتقدمة العسكر بها. ولم يطل مقامه بها، فإنه نقل منها إلى نيابة قلعة صفد.
وعاد السلطان من الكرك، ونزل بغابة أرسوف، فأقام بها إلى أن وقع الشتاء، وأمن حركة العدو، وعاد إلى الديار المصرية. وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم الاثنين رابع عشر شوال منها.(31/132)
وفيها، فى شوال، أفرج عن الأمير بدر الدين بكتوت الشمسى، والامير جمال الدين أقوش الفارسى.
ذكر وفاة قاضى القضاة وجيه الدين، وتفويض القضاء بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة، تقى الدين ابن بنت الأعز
فى هذه السنة، فى يوم الأربعاء، مستهل جمادى الأولى «1» ، كانت وفاة قاضى القضاة وجيه الدين عبد الوهاب ابن القاضى سديد الدين الحسين المهلبى، المعروف بالبهنسى، قاضى القضاة بمصر والوجه القبلى. وولى بعده، قاضى القضاة، تقى الدين بن عبد الرحمن ابن بنت الأعز، فى يوم الأربعاء خامس عشر الشهر.
وكان قاضى القضاة بالقاهرة والوجه البحرى القاضى شهاب الدين الخويى «2» .
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين بن شاس المالكى وتفويض القضاء لقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى
وفى هذه السنة، فى ذى القعدة، كانت وفاة قاضى القضاة تقى الدين الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبى الفضل عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام مفتى الفرق جلال الدين أبى محمد عبد الله بن شاس الجذامى السعدى المالكى، قاضى قضاة المالكية بالديار المصرية. وفوض السلطان القضاء بعده، على مذهب الإمام مالك بن أنس، لقاضى القضاة زين الدين أبى الحسن على ابن الشيخ(31/133)
رضى الدين أبى القاسم مخلوف ابن الشيخ تاج الدين أبى المعالى ناهض النويرى المالكى، وهو يومئذ ناظر الخزانة السلطانية. وكان فى ابتداء ترقيه بلى أمانة الحكم العزيز بالقاهرة. فاتفق أن السلطان الملك المنصور، فى حال إمرته، ابتاع منه، من تركة بعض الأمراء، عدة بجملة، كانت الغبطة فيها للأيتام.
فطالبه القاضى زين الدين بالمال، فتوقف عن أدائه، وقصد ردما ابتاعه.
وتحدث فى ذلك مع القاضى زين الدين فامتنع عن رده. واقتضى الحال ان شكاه للملك الظاهر، والزم بالقيام بالثمن. فبقى ذلك فى خاطر السلطان. فلما ملك، انتفع بذلك عنده غاية النفع، ورتبه فى الخزانة، ووثق به، وتمكن عنده تمكنا عظيما. ثم فوض إليه القضاء، وأقره «1» معه على الخزانة. واستمر فى القضاء إلى أن توفى، على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية.
ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى وشىء من أخباره
وفى هذه السنة، فى يوم الاثنين، حادى عشر ذى الحجة، توفى بدمشق قاضى القضاة بهاء الدين أبو الفضل يوسف، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى الفضل يحيى، ابن قاضى القضاة محيى الدين أبى المعالى محمد، ابن قاضى القضاة، ركن الدين أبى الحسن على ابن قاضى القضاة، مجد الدين أبى المعالى محمد ابن قاضى القضاة ركن الدين أبى الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثمانى الأموى القرشى، المعروف بابن الزكى، قاضى قضاة الشافعية بدمشق. اجتمع فيه وله ما لم يجتمع فى غيره، ولا له. كان من أحسن الناس صورة،(31/134)
وأكملهم قواما، وهيئة وهيبة. وكان من العلماء الفضلاء فى المذهب وعلم الأصولين «1» والعربية، والمنطق، وعلم الكلام، والحساب، والفرائض، والنظم، وعلم البيان، وحل «2» المترجم، والكتابة الجيدة الحسنة، مع الذكاء المفرط. وكان له دنيا عريضة من المال والعقار. وكانت داره بباب البريد، من أحسن الدور بدمشق وبستانه بالسهم الأعلى من أصح الغوطة وأطيبها هواء. وضيعته الملك قرية الميدانية، من غوطة دمشق. [وكانت «3» ] زوجته من أحسن النساء صورة و [كان «4» ] أولاده تامّين الصورة. وجمع له من المدارس بدمشق أجلها، وهى العزيزية والتقوية والفلكية والعادلية والمجاهدية والكلّامسة وغيرها. وأنظار أوقاف كثيرة، وقضاء قضاة دمشق وسائر أوقافها. فلما كمل له ذلك. أتاه الموت الذى لا حيلة فيه ولا دافع له، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأديب الفاضل، الشاعر المجيد، شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن يوسف بن أحمد الأنصارى اليمنى المحتد «5» المصرى الدار والمولد، الشافعى الصوفى، المعروف بابن الخيمى، الشاعر المشهور، المبرز على نظرائه. وكانت وفاته بالقاهرة المعزية، بمشهد الحسين، فى التاسع والعشرين من شهر رجب الفرد، سنة خمس وثمانين وستمائة. ومولده تخمينا «6» فى سنة اثنتين(31/135)
وستمائة. روى عن ابن باقا، وسمع من ابن البنا وغيره، وحدّث. وكان يعانى الخدم الديوانية، وله نظم كثير جيد. فمنه قصيدته المشهورة البائية، التى ادعاها الشيخ نجم الدين بن اسرائيل. وقد رأينا أن نذكر هذه القصيدة، وما وقع فى أمرها، وما قيل فى وزنها ورويها، وكيف حكم بها للمذكور. وأول «1» القصيدة:
يا مطلبا ليس لى فى غيره أرب ... إليك آل التقصى وأنتهى الطلب
وما طمحت لمرأى «2» أو لمستمع ... إلا لمعنى إلى علياك ينتسب
وما أرانى «3» أهلا أن تواصلنى ... حسبى علوا، بأنى فيك مكتيب
لكن ينازع شوقى تارة أدبى ... فأطلب الوصل، لما يضعف الأدب
ولست أبرح فى الحالين ذا قلق ... باد وشوق له فى أضلعى لهب
وناظر كلما كفكفت أدمعه ... صونا لحبك يعصينى وينسكب
ويدعى فى الهوى دمعى مقاسمتى ... وجدى وحزنى ونجوى وهو مختضب «4»
كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال «5» فى ليله للنجم يرتقب
يا صاحبى قد عدمت المسعدين فما ... عدنى على وصبى لا مسّك الوصب(31/136)
بالله إن جزت «1» كثبانا بذى سلم ... قف بى عليها، وقل لى هذه الكتب
ليقضى الخد فى أجراعها وطرا ... من تربها وأؤدى بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقى كاظمة ... فلى إلى البان من شرقيها طرب
وخذ يمينا لمغنى «2» تهتدى بشذا ... نسيمه «3» الرطب إن ضلت بك النجب
حيث الهضاب «4» وبطحاها يروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب
اكرم به منزلا تحميه هيئته ... عنى وأنواره لا السمر والقضب
دعنى أعلل نفسا عزّ مطلبها في ... هـ، وقلبا لعذر «5» ليس ينقلب
ففيه عاهدت قدما حب من حسنت ... به الملاحة واعتزت به الرتب
دان وأدنى وعز الحسن يحجبه ... عنى وذلى والإجلال والرهب
أحيا إذا مت من شوق لرؤيته ... لأننى لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من حبى «6» وصحته ... من صحتى إنما سقمى هو العجب
يا لهف نفسى «7» لو يحدى تلهفها ... عونا ووا حربا «8» ، لو ينفع الحرب(31/137)
يمضى الزمان وأشواقى مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب
هبت لنا نسمات من ديارهم ... لم يبق فى الركب من لا هزه الطرب
كدنا نطير سرورا من تذكرهم ... حتى لقد رقصت من تحتنا النجب
يا بارقا بأعالى «1» الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فانك الشنب «2»
أما خفوق «3» فؤادى فهو عن سبب ... وعن خفوقك «4» قل لى ما هو السبب
ويا نسيما سرى من جو كاظمة ... بالله قل لى كيف البان والعذب
وكيف جيرة ذاك الحى هل حفظوا ... عهدا أراعيه إن شطوا وإن قربوا
أم ضيعوا ومرادى منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا
إن كان يرضيهم ابعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا سبب ... فإنه من قبيل الوصل محتسب
ولما بلغت هذه القصيدة نجم الدين محمد بن إسرائيل، ادعاها لنفسه.
فاجتمع هو وابن الخيمى بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث فى ذلك، فأصر ابن إسرائيل على أنهاله. فتحا كما إلى الشيخ شرف الدين عمر ابن الفارض، رحمه الله، وكان يومئذ هو المشار إليه فى معرفة الأدب ونقد الشعر. فأشار أن ينظم كل واحد منهما أبياتا على الوزن والروى فنظم ابن الخيمى:(31/138)
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا علىّ، ولما أن جنوا عتبوا
يا قوم «1» هم أخذوا قلبى فلم سخطوا ... وانهم غصبوا عيشى هام غضبوا
هم العريب بنجد مذ عرفتهم ... لم يبق لى معهم مال ولا نسب
شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب
فما ألموابحى «2» أو ألم «3» بهم ... إلا أغاروا على الأبيات وانتهبوا
عهدت فى دمن «4» البطحاء عهد هوى ... إليهم وتمادت «5» بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيرى ذاك العهد قد نسبوا
من منصفى من لطيف فيهم غنج ... لدن القوام لاسرائيل ينتسب «6»
مبدل القول ظلما لا يفى بموا ... عيد الوصال ومنه الذنب والغضب
فى لثغة الراء منه صدق نسبته ... والمّن منه برور الوعد والكذب
موحد فيرى كل الوجود له ... ملكا ويبطل ما يقضى به النسب
فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهى فى المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالا لاح اذهو ... بالوردىّ «7» من شفق الخدين منتقب
فى كاس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياه بها حبب(31/139)
فلفظه أبدا سكران «1» يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينسى له الأدب
تجنى «2» لواحظه فينا ومنطقه ... جنايه يجتنى من مرّها الضرب
قد أظهر السحر «3» فى أجفانه سقما ... البرء منه إذا ما شاء والعطب
حلو الأحاديث وألفاظ ساحرها ... تلقى «4» إذا نطق الألواح والكتب
لم يبق منطقه قولا يروق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب
فداؤه «5» ما جرى فى الدمع من مهج «6» ... وما جرى فى سبيل الحب محتسب
ويح المتيم شام بارق من أضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب
واسكن البرق من وجد ومن كلف ... فى قلبه فهو فى أحشائه لهب
فكلما لاح منه بارق بعثت ... قطر المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسيمات الغوير له ... أخبار ذى الأثل إلا هزهّ الطرب
واها له أعرض الأحباب عنه وما ... أجدت وسائله الحسنى ولا القرب
ونظم الشيخ نجم الدين محمد بن اسرائيل [رحمه الله تعالى «7» ] .
لم يقض من حبكم بعض الذى يجب ... قلب متى ما جرى تذكاركم يجب(31/140)
ولى، وفىّ لرسم الدار بعدكم ... دمع متى جاد ضنت «1» بالحيا السحب
أحبابنا والمنى تدنى مزاركم «2» ... وربما حال من دون المنى الأدب «3»
ما رابكم من حياتى بعد بعدكم ... وليس لى فى حياة بعدكم أدب
قاطعتمونى فأحزانى مواصلة ... وحلتم «4» فحلالى فيكم التعب
[رحتم بقلبى وما كادت لتسلبه ... لولا قدودكم الخطّية السلب «5» ]
يا بارقا ببراق «6» الحزن لاح لنا ... أأنت أم أسلمت أقمارها النقب
ويا نسيما سرى والعطر يصحبه ... أجزت «7» حين مشين الخرد «8» العرب
أقسمت بالمقسمات الزّهر يحجبها»
سمر العوالى والهندية القضب
لكدت تشبه يرقا من ثغورهم ... مادر «10» دمعى لولا الظلم والشنب
وجيرة جار فينا حكم معتدل ... منهم ولم يعتبوا لكنهم عتبوا(31/141)
ما حيلتى قربونى من محبتهم ... وحال دونهم التقريب والخبب «1»
وعرضتا على الشيخ شرف الدين بن الفارض. فأنشد مخاطبا لابن اسرائيل عجز بيت من أبيات ابن الخيمى:
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
وحكم بالقصيدة لابن الخيمى. واستحسن بعض من حضر المجلس من الأدباء أبيات ابن اسرائيل، وقال: من ينظم مثل هذه الأبيات، ما الحامل له على ادعاء ما ليس له؟. فقال ابن الخيمى: هذه سرقة عادة، لا سرقة حاجة.
وانفصل المجلس. وفارق الشيخ نجم الدين بن إسرائيل من وقته الديار المصرية، وتوجه إلى الشام. ولما بلغت هذه الواقعة القاضى شمس الدين أحمد بن خلكان وهو إذ ذاك يتولى نيابة الحكم بالقاهرة، خلافة عن قاضى القضاة بدر الدين السنجارى، رحمهما الله تعالى، أرسل إلى الشيخ شهاب الدين ابن الخيمى، يطلب منه الأبيات التى نظمها، وادعاها ابن اسرائيل، فذيلها بأبيات وهى:
إن كان يرضيهم إبعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا صبب ... فإنه من لذيذ الوصل محتسب
وإن هم احتجبوا عنى فإن لهم ... فى القلب مشهور حسن ليس يحتجب(31/142)
قد نزه «1» اللطف والإشراق بهجته ... عن أن تمنعها «2» الأصتار والحجب
لا ينتهى نظرى منهم إلى رتب ... فى الحسن إلا ولاحت فوقها رتب
وكلما لاح معنى من جمالهم ... لبّاه شوق إلى معناه منتسب
أظل «3» دهرى ولى من حبهم طرب ... ومن أليم اشتياقى نحوهم حرب
فالقلب يا صاح منى بين ذاك وذا ... قلب لمعروف شمس الدين منتهت
إن الحديث شجون فاستمع عجبا ... حديث ذا الحبر «4» حسنا كله عجب
وشرع فى مدحه وذكر أوصافه. إلى نهاية سبعة وثلاثين بيتا، تركنا ايراد بقيتها اختصارا «5» . وشعره، رحمه الله تعالى، كثير جيد مشهور. فلنرجع إلى سياق أخبار الدولة المنصورية.(31/143)
واستهلت سنة ست وثمانين وستمائة [686- 1287]
فى هذه السنة، تسلم الأمير حسام الدين طرنطاى صهيون، وعاود الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الطاعة «1» . وقد تقدم ذكر ذلك.
وفيها، كانت غزوة النوبة الأولى. وقد تقدم ذكرها.
ذكر تفويض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى برهان الدين السنجارى، ونقلة القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام ووفاة السنجارى، وإضافة قضاء القاهرة للقاضى تقى الدين ابن بنت الأعز
كان سبب هذه الولايات ما قدمناه، من وفاة قاضى القضاة بدمشق، بهاء الدين بن الزكى، فى حادى عشر ذى الحجة، سنة خمس وثمانين. فلما اتصل خبر وفاته بالسلطان، رسم بتعيين قاض للشام. فعين قاضى القضاة شهاب الدين الخويى «2» لذلك، فيما بلغنى، القاضى شرف الدين إبراهيم «3» بن عتيق، وكان إذ(31/145)
ذاك ينوب عنه، وأحضره لذلك. وسعى قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز، أن ينقل القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام، ويستقل هو بقضاء المدينتين والعملين، فنتج سعيه الآن فى أخذ الطرفين. وذلك أن القاضى شهاب الدين الخويى، طلع فى يوم الأحد، خامس عشر المحرم، من هذه السنة، إلى قلعة الجبل، وصحبته القاضى شرف الدين بن عتيق، الذى عينه لقضاء الشام.
وحضر قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز المجلس، وطلب [السلطان] «1» قاضى القضاة برهان الدين الخضر السنجارى، فخلع عليه، وقوض له قضاء القاهرة والوجه البحرى ونقل القاضى شهاب الدين الخويى إلى قضاء الشام، فتوجه إلى دمشق، فى ثالث عشر صفر، ووصل إليها فى يوم الاثنين ثالث عشر شهر ربيع الأول. وأما القاضى برهان الدين، فإنه جلس للحكم بالقاهرة بالمدرسة المنصورية. وتقدم فى الجلوس بدار العدل، على قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز، فتألم لذلك، وندم على سعيه فى نقلة القاضى شهاب الدين الخويى إلى الشام، وسعى أن يتوفر من حضور دار العدل.
فبينما هو فى ذلك، توفى قاضى القضاة برهان الدين السنجارى. وكانت وفاته فى تاسع صفر من السنة، بالمدرسة المعزّية بمصر، ودفن بتربة أخيه بدر الدين بالقرافة. فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوما، ومولده فى سنة ست عشرة وستمائة. ولما مات، فوض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى لقاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز.
وخلع عليه، وجمع له القضاء بالمدينتين والعملين. وبلغنى أنه صلى على القاضى برهان الدين، وعليه خلعة القضاء «2» .(31/146)
ذكر خبر واقعة ناصر الدين بن المقدسى واعيان دمشق، ومصادرة أكابر دمشق، وتوكيل ناصر الدين بن المقدسى عن السلطان
وفى هذه السنة، وصل ناصر الدين محمد ابن الشيخ عبد الرحمن المقدسى، إلى الأبواب السلطانية. وكان قد حضر، ليرفع «1» على قاضى القضاة بهاء الدين ابن الزكى أمورا. فاتفقت وفاة قاضى القضاة كما تقدم، فبطل عليه ما دبره من أمره، فعدل عن ذلك إلى غيره. واجتمع بالأمير علم الدين [سنجر «2» ] الشجاعى، وزير الدولة، وتحدث معه فى أمر بنت «3» الملك الأشرف موسى ابن السلطان الملك العادل، وأنها أباعث أملاكها بدمشق، وأنه ثبت أنّها حالة البيع كانت سفيهة، وقد حجر عليها عمها الملك الصالح، عماد الدين إسماعيل، ويستعيد الاملاك ممن ابتاعها، ويرجع عليهم بما تسلموه من الريع، فى المدة الماضية، ويشترى هذه الأملاك للخاص «4» السلطانى، فأجابه إلى ذلك.
وكتب يطلب سيف الدين أحمد السامرى من دمشق، وكان قد ابتاع منها(31/147)
حرزما «1» . فحضر فى شهر رمضان، والسلطان إذ ذاك بغزة، فسيره إلى الديار المصرية. فطلب منه ابتياع حرزما، فادعى أنه وقفها من مدة. فعند ذلك، سطر محضر، يتضمن ابنة الملك الأشرف، كانت فى مدة كذا وكذا سفيهة، وذلك فى زمن البيع. ولم تزل مستمرة السفه، إلى تاريخ كذا وكذا. ثم صلحت واستحقت رفع الحجر عنها من مدة كذا وكذا. ولفّق بينة شهدت بذلك، وثبت على أخذ قضاء القضاة بالديار المصرية، وقد شاهدت «2» أنا هذا المحضر.
ولما ثبت ذلك فى وجه سيف الدين السامرى، بطل البيع من أصله. ثم طولب «3» بما تحصل «4» له من الريع، لمدة عشرين سنة، وكان مائتى ألف درهم وعشرة آلاف درهم، بعد الاعتداد له، بنظير الثمن الذى دفعه. فاشترى منه سبعة عشر مهما، من قرية الزنبقية، بسبعين ألف درهم، وحمل مائة ألف وأربعين ألف درهم. وقوض السلطان وكالته، لناصر الدين المقدسى المذكور، فشرع فى أذى أهل دمشق وأعيانها، فطلب جماعة منهم، فى سنة سبع وثمانين، وهم الصدر عز الدين حمزة بن القلانسى، والصدر نصير الدين بن سويد، وشمس الدين ولد جمال الدين بن يمن، وجمال الدين بن صصرى. وطلب أيضا قاضى القضاة حسام الدين الحنفى، والصاحب تقى الدين توبة، وشمس الدين ابن غانم، فصودر هؤلاء. فأخذ من الصدر عز الدين بن القلانسى، فيما قيل،(31/148)
مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم، ومن جمال الدين بن صصرى، ثلاثمائة ألف درهم، قيمة ملك ودراهم. وحمل [من «1» ] نصير الدين ثلاثون ألف درهم، ومن ابن يمن، عن قيمة أملاك، مائة ألف درهم وتسعون «2» ألف درهم، ومن شمس الدين بن غانم خمسة آلاف درهم؛ ومن قاضى القضاة حسام الدين ثلاثة آلاف درهم. واعتذر أكابر الدماشقة، أنهم حضروا على خيل البريد، وأن أموالهم وموجودهم بدمشق، وسألوا أن يقرر عليهم ما يحملونه. فطلب الأمير علم الدين [سنجر الشجاعى وزير الديار المصرية «3» ] ، جماعة من تجار الكارم «4» ، وأمرهم أن يقرضوا الدماشقة مالا يحملونه، ففعلوا ذلك. وكتب عليهم الحجج، وأعيدوا إلى دمشق، وقاموا بالمبلغ لأربابه. وإنما فعل الأمير علم الدين الشجاعى ذلك، خشية أنهم إذا توجهوا إلى دمشق، استشفعوا فيسامحوا.
فأراد أن يكون ذلك فى ذمتهم، لغير بيت المال. ثم عاد الدماشقة إلى دمشق، وولى جمال الدين بن صصرى نظر الدواوين بدمشق، وذلك فى سنة سبع وثمانين وستمائة.(31/149)
وفى سنة ست وثمانين وستمائة أيضا، توجه السلطان إلى جهة الشام، واستقل ركابه من قلعة الجبل، فى يوم الخميس سابع عشرين شهر رجب، ووصل إلى غزة، وأقام بتل العجول، ثم عاد إلى قلعة الجبل. وكان وصوله إليها، فى يوم الاثنين ثالث عشرين، شوال من السنة.
وفيها، فى تاسع عشر محرم، كانت وفاة علاء الدين ابن الملك الناصر، صاحب الشام، الذى كان فى الاعتقال. وكان قد اعتقل، فى أوائل الدولة المنصورية، فى سابع عشر رمضان، سنة ثمان وسبعين وستمائة. وكان قد حصل له مرض المالنخوليا. فلما اشتد به، قتل نفسه. ومولده فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
وفيها، فى ليلة السبت، الثامن والعشرين، من شهر المحرم، توفى الشيخ الإمام، قطب الدين أبو بكر، محمد بن أحمد بن على بن الحسين بن عبد الله ابن أحمد بن ميمون القيسى الشاطبى، المعروف بابن القسطلانى، بالمدرسة الكاملية، دار الحديث بالقاهرة، وهو مدرسها، ودفن من الغد، بالقرافة الصغرى. وكانت جنازته مشهورة، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها، كانت وفاة الأمير سيف الدين قجقار «2» المنصورى، نائب السلطنة بالمملكة الصفدية. وكان السلطان قد رباه فى صغره، كالولد، رحمه الله تعالى.(31/150)
وفيها، كانت وفاة الأمير علم الدين سنجر الباشقردى الصالحى بالقاهرة، فى ليلة الثلاثاء، تاسع عشر، شهر رمضان، ودفن بالقرافة. وكان من أكابر الأمراء المقدمين بالديار المصرية. وتولى نيابة السلطنة بحلب «1» كما تقدم، وعزل بالأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى.(31/151)
واستهلت سنة سبع وثمانين وستمائة [687- 1288]
ذكر عزل الأمير علم الدين سنجر الشجاعى عن الوزارة ومصادرته، وتفويض الوزارة لقاضى القضاة، تقى الدين ثم إلى الأمير بدر الدين بيدرا
وفى هذه السنة، فى يوم الخميس، ثانى عشر شهر ربيع الأول، عزل السلطان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، عن الوزارة، وصادره وأخذ أمواله. وكان سبب ذلك، أن النجيب المعروف بكاتب بكجرى، أحد مستوفى «1» الدولة، برزله، وانتدب لمرافعته، بموافقة تقى الدين بن الجوجرى، ناظر «2» الدواوين ومباطنته «3» له، وحاققه «4» بين يدى السلطان. وكان من جملة ما حاققه «5» عليه، وأغرى السلطان به، أنه قال للسلطان بحضوره، إنه أباع جملة من الرماح والسلاح، الذى كان فى الذخائر السلطانية للفرنج. فاعترف الأمير علم الدين بذلك. وقال نعم أنا بعته بالغبطة «6» الوافرة، والمصلحة الظاهرة. فالغبطة أنى(31/153)
أبعتهم من الرماح والسلاح، ما عتق وفسد، وقلّ الانتفاع به، وبعته بأضعاف قيمته. والمصلحة، ليعلم الفرنج أنا نبيعهم السلاح هوانا بهم، واستحقارا لأمرهم، وعدم مبالاة بهم. فكاد السلطان يصغى إلى ذلك. فأجابه النجيب عن ذلك، بأن قال له يا مكثل «1» ، الذى خفى عنك أعظم مما لمحت هذا الكلام، الذى صورته أنت بخاطرك، وأعددته جوابا. وإنما الفرنج والأعداء لا يحملون بيع السلاح لهم، على ما ظننت أنت وزعمت. وإنما الذى يشيعونه بينهم وينقله الأعداء إلى أمثالهم، أن يقولوا، قد احتاج صاحب مصر، حتى باع سلاحه لأعدائه، أو ما هذا معناه من الكلام. فعند ذلك أحتد السلطان عليه، غاية الاحتداد، وأشتد غضبه، وأمر بمصادرة الأمير علم الدين، على جملة كثيرة من الذهب، والزمه أن لا يبيع فيما طلب منه، شيئا من خيله وسلاحه ولا [من «2» ] عدة الإمرة ورختها «3» ، وأنه لا يحمل المطلوب منه إلا عينا، قفعل ذلك. وبلغ السلطان، أن الأمير علم الدين، قد ظلم الناس وصادرهم، وأن فى اعتقاله جماعة كثيرة، قد مرّ عليهم شهور وسنون، وباعوا موجودهم، وصرفوه فى أجرة المترسمين «4» عليهم.(31/154)
واحتاج بعضهم إلى أن استعطى من الناس بالأوراق «1» . فرسم السلطان للأمير بهاء الدين بعدى «2» الدوادار، أن يكشف أمر المصادرين، ويطالع السلطان به. فخرج إليهم وسألهم، فذكروا ما هم فيه من الضرورة والفاقة، فأعلم السلطان بخبرهم. فرسم «3» للأمير حسام الدين طرنطاى بالكشف عنهم، فأفرج عن جميعهم. ثم أفرج عن الأمير علم الدين فى يوم الأربعاء، تاسع شهر ربيع الآخر من السنة.
ولما عزل السلطان الأمير علم الدين عن الوزارة، فوضها «4» السلطان للأمير بدر الدين بيدرا، فى يوم الثلاثاء سابع شهر ربيع الأول فى السنة. ثم فوضت الوزارة لقاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، فى يوم الخميس التاسع عشر من شهر ربيع الآخر، مضافة إلى ما بيده من قضاء القضاة، ونظر الخزائن.
ولم يترك نظر الخزانة، فربما جلس فى اليوم الواحد فى دست الوزارة، ومجلس الحكم، وديوان الخزانة. واستمر على ذلك مدة يسيرة، ولم يوف منصب الوزارة حقه العادى، لتمسكه بظاهر الشرع الشريف. ثم توفر من الوزارة، وفوضت للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى، وكان أمير مجلس السلطان، ثم نقل إلى الاستادارية، ثم إلى الوزارة، واستقر كذلك إلى آخر الدولة المنصورية.(31/155)
وفيها، فى ليلة يسفر «1» صباحها عن يوم الاثنين سادس عشر ربيع الأول، وقع الحريق، فى خزائن السلاح والمشهد الحسينى بالقاهرة، ثم طفىء.
وفيها، بنى السلطان الملك المنصور بابنة «2» الأمير شمس الدين سنقر التكريتى «3» الظاهرى، وأفرج عن والدها من الاعتقال، وأمرّه بالشام. ثم فارقها السلطان، فقيل فى سبب فراقه لها، إن والدها زوج أختها من أحد مماليكه، فكره السلطان، وأنف منه، وفارقها بسببه. وقيل، بل تعاطت نوعا من الكبر وأقامت لها من الجوارى سلاح دارية وجمدارية وسقاة «4» وغيرهن، مما يتعلق «5» بالسلطنة، ففارقها السلطان لذلك. ولما انقضت عدّتها، أمر السلطان أن تزوج لأردى أولاد الأمراء سيرة، نكاية لها. فكشف عن سير أولاد الأمراء ممن اشتهر بسوء السيرة، فوقع الأتفاق على جمال الدين يوسف بن سنقر الألفى، فزوجت منه.
وفى هذه السنة، ولى القاضى بدر الدين محمد ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم ابن جماعة الشافعى الكنانى، قضاء القدس الشريف، والخطابة [به «6» ] . وتوجه من دمشق، فى رابع شوال، ووصل إلى القدس فى يوم الاثنين حادى عشر الشهر. وولى الخطابة بالقدس، بعد وفاة الشيخ قطب الدين أبى الذكاء عبد المنعم(31/156)
ابن يحيى بن إبراهيم القرشى. وكانت وفاته، رحمه الله تعالى، بالقدس الشريف فى يوم الجمعة، سابع عشر شهر رمضان، من هذه السنة «1» .
وولى بعد القاضى بدر الدين، تدريس المدرسة القيمرية، القاضى علاء الدين أحمد ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز. وجلس لإلقاء الدرس بها، فى يوم الأحد تاسع عشر شوال.
وفيها، فى شهر رمضان، فوضى نظر الحسبة بدمشق للصدر شمس الدين ابن السلعوس. ووصل توقيعه بذلك من الأبواب السلطانية، عوضا عن شرف الدين أحمد بن عز الدين عيسى بن الشيرحى «2» . وكان ابن الشيرحى قدوليها، فى جمادى الآخرة من السنة.
وفيها، فوض قضاء المالكية بدمشق، لقاضى القضاة جمال الدين الزواوى «3»
ذكر توجه ناصر الدين بن المقدسى [إلى دمشق «4» ] ، وما فوض إليه من مناصبها، وما اعتمده
فى هذه السنة، توجه ناصر الدين بن المقدسى، من الأبواب السلطانية، إلى دمشق. وقد فوض له السلطان الملك المنصور وكالته «5» ، ونظر الأوقاف(31/157)
بدمشق والشام أجمع. ومن جملة ذلك، نظر الجامع الأموى، والبيمارستانات الثلاثة، ونظر الأشراف والأسرى، والأيتام والصدقات، والأسوار والخوانق والربط وغير ذلك. وحضر صحبته مشدان، من الأبواب السلطانية، وهما بدر الدين القشتمرى، وصارم الدين الأيدمرى. فتردد الناس إلى خدمته، وخافوا شره. ولزم أرباب السعايات والمرافعات بابه. وشرع يتتبع الناس فيما ابتاعوه من الأملاك، وقصد إثبات سفه من أباع، وأن يسلك فى ذلك، الطريق الذى سلكه فى أمر ابنة الملك الأشرف «1» . فامتنع القضاة بدمشق، من موافقته على ذلك، وعضدهم الأمير حسام الدين نائب السلطنة. فمنع ناصر الدين القضاة الجامكية المرتبة لهم على مصالح الجامع الأموى. فلم يردهم ذلك إلا امتناعا من موافقته على أغراضه. وشرع فى عمارة الأملاك السلطانية، واستجد حوانيتا على جسر باب الفراديس من الجانبين. وأصلح الجسر، قبل عمارة الحوانيت. ثم أصلح باب الجابية «2» الشمالى، وكان مستقلا فهدمه وعمره. ولم يكن له حسنة، غير إصلاح هذين الجسرين والباب، ومساطب الشهود بباب الجامع «3» .
وفى هذه السنة، فى شهر رمضان المعظم، كبس بدر بن النفيس «4» النصرانى الكاتب بدمشق، وعنده إمرأة مسلمة، وهم يشربون الخمر. فطولع الأمير حسام الدين نائب السلطنة بدمشق بذلك. فأمر أن يحرق النصرانى، فبذل فى نفسه جملة من المال، وسأل مخدومه الأمير سيف الدين كجكن فى أمره،(31/158)
فلم يجب نائب السلطنة إلى إبقائه. وأضرمت له نار بسوق الخيل، وألقى فيها.
وأما المرأة، فقطع بعض أنفها، وشفع فيها فأطلقت.
وفى هذه السنة، فى مستهل رجب، توفيت الست «1» غازية خاتون زوجة الملك السعيد، ودفنت عند والدتها، بالقبة الصالحية، بجوار مشهد السيدة نفيسة، بظاهر القاهرة.
ذكر وفاة الملك الصالح وتفويض ولاية العهد إلى الملك الأشرف
فى هذه السنة، فى يوم الجمعة رابع شعبان، توفى الملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور، وكانت علته «2» دوسنطاريا كبدية. وصلى عليه بالقلعة، قاضى القضاة، تقى الدين ابن بنت الأعز، وصلّى خلفه والده السلطان الملك المنصور، وأخوه الملك الأشرف، وصلى عليه خارج القلعة، قاضى القضاة معز الدين الحنفى. ودفن بتربته المجاورة لمشهد السيدة نفيسة. وحصل لوالده السلطان عليه من الآلم، مالا مزيد عليه. وخلف ولدا واحدا، من زوجته منكبك ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وهو الأمير مظفر الدين موسى، وله أخبار، ترد إن شاء الله تعالى «3» .(31/159)
ولما مات الملك الصالح، فوض السلطان ولاية «1» العهد بعده، لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل. وركب بشعار السلطنة، فى حادى عشر شعبان من قلعة الجبل، إلى باب النصر. وشق المدينة، وخرج من باب زويلة، وعاد إلى القلعة، والأمراء فى خدمته. وكتب بذلك إلى الشام، وسائر البلاد، وخطب له بولاية العهد، بعد أبيه على عادة أخيه الملك الصالح. وكتب تقليده فتوقف السلطان على الكتابة عليه. وسنذكر ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الملك الأشرف «2» .
وفى هذه السنة، توفى الأمير بدر الدين الأيدمرى الصالحى، فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الاثنين، خامس المحرم. وتوفى الأمير فخر الدين اياز «3» ، المعروف بالمعزى «4» الحاجب، فى ليلة يسفر صباحها، عن يوم الجمعة، العشرين من شهر ربيع الأول، وذلك عقيب عوده من الحجاز. وكان رحمه الله تعالى، من حسنات الدهر. وكانت الملوك تعتمد عليه فى المهمات الجليلة. وتوفى الأمير سيف الدين بلبان العلائى الصالحى النجمى، المعروف بقول الله كريم الدين، رحمه الله تعالى، فى يوم الثلاثاء سادس عشرين جمادى الآخرة منها، ودفن بتربته بالقرافة الصغرى. وهو خوشداش السلطان الملك المنصور، وسنقر الأشقر(31/160)
وغيرهما، كانوا كلهم مماليك الأمير علاء الدين أقسنقر الساقى العادلى. وكان السلطان يرعى له حق الخوشداشية ويكرمه. ويزوره إذا مرض فى منزله، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها، توفى القاضى الخطيب، فخر الدين عبد العزيز ابن قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن بن السكرى. وكانت وفاته بالمدرسة المعروفة بمنازل العز بمصر، فى رابع عشرين شوال. ومولده فى سنة أربع وستمائة؛ رحمه «2» الله تعالى.(31/161)
واستهلت سنة ثمان وثمانين وستمائة [688- 1289]
فى هذه السنة، فى المحرم، توجه السلطان إلى الشام، وافتتح طرابلس، وقد ذكرنا ذلك فى الفتوحات.
ولما افتتح السلطان طرابلس، جهّز الأمير حسام الدين طرنطاى، إلى المملكة الحلبية، بطائفة من العسكر. وكان قد وصل إلى «1» [السلطان «2» ] ، وهو بطرابلس، رسل صاحب سيس، يسألون مراحم «3» السلطان، ويطلبون مراضيه.
فطلب منهم السلطان تسليم مرعش، وبهسنا والقيام بالقطيعة «4» على العادة، وخلع عليهم وأعادهم. ورحل عن طرابلس ونزل على حمص، وأقام بها أيّاما.
فعادت رسل سيس بهدية كثيرة، واعتذارات عن تسليم مرعش وبهسنا، وبذل جملة كثيرة من المال فى كل سنة. فرحل السلطان عن حمص، ودخل إلى دمشق، فى يوم الاثنين خامس جمادى الأولى.
ذكر ما اتفق بدمشق من المصادرات
كان السلطان قد استصحب [معه «5» ] فى هذه السفرة، الأمير علم الدين(31/163)
سنجر الشجاعى، بعد عزله من الوزارة. فلما عاد إلى دمشق من طرابلس، أمره أن يتحدث فى تحصيل الأموال بدمشق، ومكّنه من ذلك، فأوقع الحوطة، على الصاحب تقى الدين توبة. فوجد له أخشابا «1» كثيرة وبضائع وسكّرا، فطرح ذلك على أهل دمشق، بأضعاف قيمته. فكان يحفظ لمن يطرح عليه منه الربع فمادونه. فحصل من ذلك تقدير خمسمائة ألف درهم. وكان غرضه بذلك، أن يطلع السلطان، على أن تقى الدين توبة قد حصل الأموال الكثيرة، لعداوة كانت بينهما. ثم شرع فى مصادرات الناس، فهرب أكثر الدماشقة إلى القرى والضياع، واختفوا منه. وطلب نجم الدين عباس الجوهرى، بسبب ضيعة كان قد اشتراها من ابنة الملك الأشرف، بالبقاع العزيز، فطولب بما أخذه من ريعها، فكان خمسمائة ألف درهم، فحمل جوهرا، قوّم له، بثمانين ألف درهم. فشدّد عليه الطلب، فجاء إلى مدرسته التى أنشأها بدمشق، وحفر فى دهليزها، وأخرج خونجاه «2» ذهب، مرصعة بالجوهر، وعليها فرقة «3» مرصعة، فقوم ذلك بأربعمائة ألف درهم، وسبك الذهب، وكان سبعة آلاف دينار، ونقل الجوهر إلى الخزانة.
وأظهر السلطان للأمراء، أن إقامته بدمشق، لانتظار الأمير حسام الدين طرنطاى، فوصل فى سابع عشر شهر رجب. وتلقاه السلطان بالعساكر، وأقام بدمشق، إلى يوم الخميس ثانى شعبان. فتوجه فى هذا اليوم إلى الديار المصرية،(31/164)
بعد أن حصل الإحجاف بأهل دمشق، واستصحب تقى الدين توبة مقيّدا.
فلما وصل إلى حمراء بيسان «1» ، مرّ عليه الأمير حسام الدين طرنطاى، والأمير زين الدين كتبغا، وهو بالزردخاناة، فسبهما أقبح سب، وكانت هذه عادته، وذكر ما فعل به، وهما يضحكان من سبه لهما. فتوجها إلى السلطان، وسألاه فى أمره، وضمناه فأفرج عنه. وأخذاه عندهما. فتألم الأمير علم الدين الشجاعى لذلك ألما شديدا. وكان قد كتب إلى نابلس والقدس وبلد الخليل والبلاد الساحلية، يطلب الولاة والمباشرين، وأن يجهزوا إلى غزة. فلما حصل الإفراج عن تقى الدين توبة، غضب الشجاعى وأظهر حردا. وامتنع من الحديث [فى المصادرين «2» ] ، فكان ذلك من الألطاف بمن طلب. ووصل السلطان إلى قلعة الجبل فى يوم الثلاثاء.
وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء [ثا «3» ] من عشرى «4» شعبان، وقت الظهر توفى بدمشق الملك المنصور شهاب الدين محمود ابن الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل.
وفيها، كانت وفاة الأمير علاء الدين الكبكى بالقدس الشريف، فى شهر رمضان، رحمه الله تعالى.(31/165)
واستهلت سنة تسع وثمانين وستمائة [689- 1290]
فى هذه السنة، فى أولها توجه الأمير حسام الدين طرنطاى، ومعه جماعة من الأمراء والعساكر، إلى الوجه القبلى. فوصل إلى منزلة طوخ دمنوا «1» ، قبالة مدينة قوص. وتصيّد فى هذه السفرة، ومهد البلاد، وقتل جمامة من العربان، وحرق بعضهم بالنار، وأخذ خيولهم وسلاحهم ورهائن أكابرهم، وعاد إلى قلعة الجبل.
وفيها، فى شهر ربيع الأول، استدعى السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، من دمشق، على خيل البريد. فلما وصل إلى بابه أكرمه، وقال له: اعلم أننى ما اشترتيك، وأمرتك، ووليتك شاد الدواوين بالشام، إلّا ظنا منى، أنك تنصحنى وتحصل أموالى، وتنهض فى مصالح دولتى، فالتزم بتحصيل الأموال. فخلع عليه، وفوّض له، مضافا إلى شدّ الشام، الحصون بسائر الممالك الشامية والساحل، وديوان الجيش. فعاد إلى الشام، وكان وصوله(31/167)
إلى دمشق، فى يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الآخر، وتعاظم فى نفسه وكثر تجبرّه «1» .
وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين جرمك «2» الناصرى، وذلك فى جمادى الأولى.
وفيها، جهز السلطان الأمير سيف الدين التقوى، إلى طرابلس، واستخدم معه ستمائة فارس بطرابلس. وهو أول جيش استخدم بها. وكان الجيش قبل ذلك بالحصون.
ذكر ايقاع الحوطة على ناصر الدين المقدسى وشنقه
وفى هذه السنة، فى جمادى الآخرة، برز أمر السلطان بالكشف على ناصر الدين بن المقدسى وكيله بالشام. فورد المرسوم إلى دمشق، فى ثانى عشرين الشهر، فكشف عليه، فظهرت له مخازى كثيرة. وسر الناس بذلك، فرسم عليه، وطولع السلطان بما ظهر عليه. فورد الجواب، فى يوم الجمعة، تاسع عشر شهر رجب، أن يستخرج منه، ما التمسه، فطولب بذلك، وضرب بالمقارع، فى يوم ورود المرسوم. وشرع فى بيع موجوده، وحمل ثمنه، واستمر كذلك، وهو بالمدرسة العذراوية فى الترسيم، إلى يوم الخميس ثانى شعبان. فورد المرسوم السلطانى، يطلبه إلى الأبواب السلطانية. فلما اجتمع الناس، بكرة نهار الجمعة،(31/168)
دخلوا عليه، فوجدوه قد شنق. فحضر أولياء الأمر والقضاة والشهود، وشاهده على تلك الصورة، وكتبوا محضرا بذلك. ودفن، واستراح الناس من شره.
وفى هذه السنة، رسم السلطان لنائب السلطنة «1» بالشام، والأمير شمس الدين الأعسر، لعمل مجانيق، وتجهيز زرد خاناة، لحصار عكا. فتوجه الأمير شمس الدين الأعسر، إلى وادى مريين «2» ، وهو بين جبال عكار وبعلبك، وفيه من الأخشاب وأعواد المجانيق، أشياء كثيرة «3» لا يمكن أن يوجد مثلها فى غيره. وأخبرنى «4» جماعة أثق بأخبارهم، فى سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وأنا يوم ذاك، بالقرب من هذا الوادى، أن به عودا قائما طوله أحد وعشرون ذراعا، بذراع العمل، ودوره كذلك، وأنهم حققوا ذلك، بأن صعد رجل إلى أعلاه، ودلّى حبلا إلى الأرض، من أعلاه، وأداروا الحبل عليه، فجاء سواء، لا يزيد ولا ينقص.
فتوجه الأمير شمس الدين إلى هذا الوادى، وقرر على ضياع المرج «5» والغوطة بدمشق مال، من ألفى درهم إلى خمسمائة درهم، كلّ ضيعة بحسب متحصلها، لأجرة جر أعواد المجانيق، وكذلك ضياع بعلبك والبقاع. وجى «6» المال، ونال أهل بعلبك والبقاع شدة عظيمة، بسبب ذلك. وبينا الأمير شمس الدين بالوادى(31/169)
المذكور، وهو مهتم فى قطع الأعواد وجرها، سقط عليه ثلج عظيم، فركب خيله، وخرج منه. وأعجله كثرة الثلج وترادفه، عن نقل أثقاله وخيامه، فتركها ونجا «1» بنفسه، ولم يلو على شىء. ولو تأخر بسببها، واشتغل بحملها هلك هو ومن معه، وارتدمت أثقاله بالثلوج، وبقيت تحتها إلى فصل الصيف، وتلف أكثرها «2» .
وفى هذه السنة أيضا، فوض السلطان تقدمة العسكر بغزة والأعمال الساحلية، إلى الأمير عز الدين أيبك الموصلى، عوضا عن الأمير شمس الدين أقسنقر كرتيه.
فتوجه إليها من دمشق، فى رابع شهر رجب.
وفيها، فى شعبان، اشتد الحر بحماه، حتى شوى اللحم على بلاط الجامع، على ما حكاه الشيخ شمس الدين الجزرى «3» فى تاريخه. ووقعت نار فى دار صاحب حماه فاحترقت، وأرسل الله ريحا واشتدت، فقويت النار واستمرت يومين وبعض الثالث، وما قدر أحد أن يتقدم إليها، فاحترقت الدار بما فيها، وكان صاحب حماه فى الصيد.(31/170)
وفيها، فى شعبان، خرج مرسوم السلطان إلى الشام، أن لا يستخدم أحد من أهل الذمة، اليهود والنصارى، فى المباشرات الديوانية «1» ، فصرفوا منها.
وورد مثال «2» بالإفراج عن المعتقلين.
وفيها، ثار «3» جماعة من الفرنج بعكا، فقتلوا جماعة من تجار المسلمين بها، كانوا قدموا للمتجر، تمسكا بالهدنة، وذلك فى شعبان. فادعى أهل عكا، أن ذلك إنما فعله الفرنج الغرب، وأنه ليس برضاهم. فكان ذلك من أكبر الأسباب التى أوجبت أخذ عكا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» .
ذكر وفاة قاضى القضاة نجم الدين المقدسى الحنبلى وتفويض القضاء بدمشق بعده للشيخ شرف الدين المقدسى
وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء، ثانى عشر جمادى الأولى، توفى قاضى القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد ابن قاضى القضاة شمس الدين أبى محمد عبد الرحمن المقدسى، قاضى الحنابلة بدمشق. فعين [الأمير حسام الدين لاجين «5» ] نائب السلطنة ثلاثة، وكتب فى حقهم إلى السلطان، وهم الشيخ زين(31/171)
الدين بن المنجا «1» ، والشيخ تقى الدين سليمان، والشيخ شرف الدين الحسن.
فورد المثال السلطانى، فى غرة جمادى الآخرة، لنائب السلطنة، أن يفوض القضاء بدمشق للقاضى شرف الدين الحسن ابن الخطيب شرف الدين أبى العباس أحمد بن أبى عمر بن قدامه المقدسى. ففوض إليه نائب السلطنة القضاء، حسب الأمر السلطانى. وكتب تقليده عن نائب السلطنة، وخلع عليه فى يوم الاثنين تاسع الشهر. وجلس بجامع دمشق، وحكم بين الناس، على عادة القضاة قبله.
وفيها، توفى الشيخ الإمام العالم، رشيد الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل ابن مسعود الفارقى الشافعى. وكانت وفاته بالمدرسة الظاهرية بدمشق، فى يوم الأربعاء، رابع شهر المحرم، ودفن بمقابر الصوفية. ويقال إنه وجد مخنوقا «2» ، وكان من العلم والفضيلة بالمكان المشهور، وشهرته بذلك تغنى عن «3» وصف محاسنه، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى ليلة الأحد الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، توفى الطواشى شرف الدين مختص «4» الظاهرى، مقدم المماليك السلطانية، فى الدولة الظاهرية والسعيدية والمنصورية، ودفن من الغد بالقرافة. وكان مهيبا سلطا على المماليك السلطانية، مبسوط اليد فيهم، ذا حرمة وافرة، رحمه الله تعالى.(31/172)
ذكر وفاة السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون، رحمه الله
كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بمنزلة مسجد تبر «1» ، وهى المنزلة الأولى، وذلك فى العشر الأخير من شوال، فعلمت به علته إلى أن مات، رحمه الله تعالى، وحمل إلى قلعة الجبل ليلا، واستمر بها إلى آخر يوم الخميس غرة المحرم سنة تسعين وستمائة «2» . ففى هذا اليوم [قال] «3» : أرسل السلطان الملك الأشرف، إلى التربة المنصورية بالقاهرة جملة يصدق بها. فلما كان فى ليلة الجمعة المسفرة عن ثانى المحرم، نقل رحمه الله تعالى، من القلعة إلى تربته التى أنشأها بالقاهرة وأدخل من باب البرقية، وصلّى عليه بالجامع الازهر، ثم حمل منه إلى التربة.
ونزل قبره الأمير بدر الدين بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى. وفرق فى صبيحة ذلك اليوم، جملة من الذهب على القراء. وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنه وشهرين وأربعة عشر يوما.(31/173)
وخلّف من الورثة؛ أولاده الخمسة، وهم السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل، وهو الذى ملك بعده، والسلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد، وهو سلطان هذا العصر «1» ، والأمير أحمد- مات فى سلطنة أخيه الملك الأشرف- وابنتان، وهما دار مختار الجوهرى، واسمها التطمش، ودار عنبر الكمالى، وزوجته والدة السلطان الملك الناصر.
ذكر تسمية نواب السلطان الملك المنصور ووزرائه
ناب عن السلطان الملك المنصور، رحمه الله تعالى، بأبوابه الشريفة فى أول سلطنته، الأمير عز الدين ايبك الأفرم الصالحى، ثم استعفى كما تقدم. واستقر فى نيابة السلطنة، الأمير حسام الدين طرنطاى المنصورى، واستمر إلى أن كانت وفاة السلطان. وناب عن السلطان بدمشق، بعد استعادتها من الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، الأمير حسام الدين لاجين السلحدار المنصورى، المعروف بالصغير. وناب عن السلطنة بالمملكة الحلبية فى ابتداء الدولة، الأمير جمال الدين أقش الشمسى، إلى أن مات، ثم الأمير علم الدين سنجر الباشقردى إلى أن عزل، وولى الأمير شمس الدين قراسنقر الجو «2» كان دار المنصورى إلى آخر الدولة. وناب عن السلطنة بحصن الأكراد، الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى، وبالكرك الأمير عز الدين أيبك(31/174)
الموصلى، ثم الأمير ركن الدين بيبرس الداوادارى «1» المنصورى. وناب عن السلطنة بالمملكة الصفدية فى ابتداء الدولة، الأمير علاء الدين الكبكى وغيره، وتقدم ذكرهم. وناب عن السلطنة بغزة وحمص، جماعة قد تقدم ذكرهم.
وأما الوزراء، فوزر للسلطان، رحمه الله تعالى، سنة [نفر «2» ] ، أربعة من [أرباب «3» ] الأقلام، وهم الصاحب برهان الدين الخضر «4» السنجارى مرة بعد أخرى، والصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، والصاحب نجم الدين «5» حمزة بن محمد الأصفونى، وقاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وقد تقدم ذكر ولايتهم فى أثناء أخبار الدولة. ومن الأمراء [اثنان «6» ] الأمير علم الدين سنجرى الشجاعى، كان يتولى شد الدولة المنصورية وتدبيرها. فإذ شغرت «7» الوزارة من متعمم، جلس مكان الوزير، وكتب على عادة الوزراء، وولّى وعزل، واستخدم وصرف. ثم استقل بالوزارة، بعد وفاة الصاحب نجم الدين حمزة بن الأصفونى «8» . وكان فى وزارته وشده، كثير العسف والمصادرات، محصلا للأموال من وجوهها وغير وجوهها(31/175)
شديدا على المباشرين. قد أوقع الرعب فى قلوبهم، حتى كرهه الخاص والعام، وتمنوا زوالى الدولة بسببه، واستمر فى الوزارة إلى أن عزل كما تقدم. وولى الأمير بدر الدين بيدرا المنصورى إلى آخر الدولة.
وولى القضاء فى الأيام المنصورية، بالديار المصرية والشامية، جماعة قد تقدم ذكرهم «1» .
وملك السلطان الملك المنصور، من المماليك الأتراك والمغل وغيرهم، ما لم يملكه ملك بالديار المصرية فى الإسلام قبله. فيقال إن عدتهم بلغت اثنى عشر ألفا، وتأمّر منهم فى الأيام المنصورية جماعة كثيرة. ومنهم من ناب عن السلطنة الشريفة فى الممالك الشامية والديار المصرية. ومنهم من استقل بالسلطنة وخطب له على المنابر، وضربت السكة باسمه، على ما نذكر ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى. وبقايا المماليك المنصورية إلى الآن، هم أعيان الأمراء فى وقتنا هذا «2» .
ولما مات الملك المنصور، ملك بعده ولده الملك الأشرف.(31/176)
ذكر أخبار السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحى وهو الثامن من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.
ملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وما أضيف إلى ذلك من الممالك الإسلامية والأقطار الحجازية، بعد وفاة والده السلطان الملك المنصور رحمه الله تعالى.
وكان جلوسه على تخت السلطنة بقلعة الجبل المحروسة. فى يوم الأحد المبارك السابع من ذى القعدة، سنة تسع وثمانين وستمائة، ولم يختلف عليه اثنان. لأن الأمراء، أرباب الحل والعقد، ونواب السلطنة بسائر الممالك، مصرا وشاما، مماليك والده، ومن عداهم من الأمراء الصالحية، لم يظهر منهم إلا الموافقة والطاعة والانقياد، والمبادرة إلى الحلف. وقد تقدم «1» أن السلطان الملك المنصور كان قد جعل له ولاية العهد من بعده، بعد وفاة أخيه الملك الصالح علاء الدين على، وركّبه بشعار السلطنة، وتأخرت كتابة تقليده، وطلب ذلك مرة أخرى، والسلطان يتوقف فى الإذن بكتابة التقليد. ثم تحدث مع السلطان الملك المنصور فرسم بكتابته، فكتب- وقد شرحنا مضمونه فى الجزء الثامن من كتابنا هذا «2» - فلما قدم إلى السلطان، ليكتب عليه، توقف وأعاده «3» إلى القاضى فتح الدين ابن عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء، ولم يكتب عليه.
فأرسل الملك الأشرف إلى القاضى فتح الدين، يطلب التقليد، فاعتذر أنه(31/177)
لم يقدمه للعلامة. وقدّمه ثانيا إلى السلطان، فردّه. وقال يا فتح الدين: أنا ما أولى خليلا على المسلمين. ثم أرسل الملك الأشرف يطلبه، فخشى [فتح الدين «1» ] أن يقول إن السلطان امتنع من الكتابة عليه؛ واعتذر أيضا. وخاطب السلطان فى معناه، وقدمه إليه، فرماه به. وقال: قد قلت لك أننى ما أولى خليلا على المسلمين. فأخذ التقليد بغير علامة، وخرج. واتفق فى خلال ذلك، خروج السلطان ووفاته.
فلما تسلطن الملك الأشرف، طلب فتح الدين بن عبد الظاهر، وقال له:
أبن تقليدى. فأقام وأحضره إليه، وهو بغير علامة السلطان، واعتذر أن السلطان الملك المنصور، شغلته الحركة والفكرة فى أمر العدو عن الكتابة عليه.
فقال له السلطان الملك الأشرف: يا فتح الدين، إن السلطان امتنع أن يعطينى، فأعطانى الله. ورمى له التقليد، فكان عنده بغير علامة. ثم عند ابنه المرحوم علاء الدين، إلى أن مات رحمه الله تعالى «2» .
قال بعض الشعراء يمدحه:
فداك «3» يا عادل يا منصف ... أرجى من الغيث الذى يوصف
أغنى عباد الله عن نيلهم ... فجودك البحر الذى يعرف
أطاعك الناس اختيارا وما ... أذلهم رمح ولا مرهف(31/178)
كم ملكت مصر ملوك وكم ... جادوا وما جادوا ولا أسرفوا «1»
حتى أتى المنصور أنسى الورى ... بفعله سائر ما أسلفوا
ما قدموا مثل تقاه «2» ولا ... مثل الذى خلفه خلفوا
فته «3» على الأملاك فخرا بما ... نلت فأنت الملك الأشرف
قال «4» ، وخلع الملك الأشرف على سائر الأمراء وأرباب المناصب. ثم ركب بشعار السلطنة، فى يوم الجمعة بعد الصلاة، الثانى عشر من الشهر. وسيّر بالميدان الأسود؛ والأمراء والعساكر فى خدمته. وطلع إلى قلعة الجبل، قبل أذان العصر. ويقال إن الأمير حسام الدين طرنطاى، كان قد قصد اغتيال الملك الأشرف، فى يوم ركوبه، وأنه عزم على قتله عند ابتداء التسيير، إذا قرب من باب الإصطبل، وأن السلطان شعر بذلك. فلما سيّر السلطان أربعة ميادين «5» ، والأمير حسام الدين ومن وافقه عند باب سارية. فلما انتهى السلطان إلى رأس الميدان، وقرب من باب الإصطبل، وفى ظن الناس أنه يعطف إلى جهة باب سارية. ليكمل التسيير على العادة، عطف إلى جهة القلعة، وأسرع وعبر من(31/179)
باب الإسطبل «1» . ولما عطف، ساق الأمير حسام الدين ومن معه. ملء «2» الفروج، ليدركه «3» . فما وصل إلى باب الإسطبل. إلا والسلطان قد دخل منه، وحف به مماليكه وخواصه، فبطل على طرنطاى ما دبره. وبادر السلطان بالقبض عليه.
ذكر القبص على الأمير حسام الدين طرنطاى وقتله وعلى الأمير زين الدين كتبغا واعتقاله
لما استقل السلطان الملك الأشرف فى السلطنة، وقف الأمير حسام الدين طرنطاى؛ بين يديه فى نيابة السلطنة، على عادته مع السلطان الملك المنصور أبيه «4» . وكان الملك الأشرف يكره الأمير حسام الدين طرنطاى أشد الكراهية لأمور:
منها ما كان يعامله به من الاطراح لجانبه، والغض منه، واهنة «5» نوابه، وأذى من ينسب إليه. ومنها ترجيح جانب أخيه، الملك الصالح على جانبه، والميل إليه. ولما مات الملك الصالح، وأنتقلت ولاية العهد بعده، إلى الملك الأشرف مال إليه من كان يميل عنه، وتقرب إلى خاطره من كان يجفوه «6» . ولم يزد ذلك(31/180)
الأمير حسام الدين إلا تماديا فى الإعراض عنه، وجريا على عادته، فى أذى من ينتسب إليه. وأغرى السلطان الملك المنصور، بناظر الديوان الأشرفى، شمس الدين محمد بن للسلعوس، حتى ضربه وصرفه على ما نذكر ذلك، وعامله بمثل هذه المعاملة، والملك الأشرف لا يستطيع دفع ذلك، لتمكن الأمير حسام الدين، من السلطان الملك المنصور، ويكتم ما عنده منه، ويصبر «1» من ذلك، على ما لا يصبر «2» مثله على مثله.
فلما ملك السلطان الملك الأشرف، تحقق الأمير حسام الدين أنه يحقد عليه أفعاله، وأن خاطره لا يصفوله. فشرع فى إفساد نظامه سرّا، وإخراج الأمر عنه. وتحقق السلطان ذلك، ووشى به بعض من باطنه. فلما نزل السلطان من الركوب فى يوم الجمعة، الثانى عشر من ذى القعدة، استدعاه فدخل عليه، وهو يظن أن أحدا لا يجسر أن يقدم عليه، لمهابته فى القلوب، ومكانته من الدولة، وظن أن السلطان لا يبادره بالقبض عليه. ولما استدعاه [السلطان «3» ] ، نهاه الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، عن الدخول على السلطان وحذّره، وقال له: والله أخاف عليك منه، فلا تدخل عليه، إلا فى عصبة وجماعة، تعلم أنهم يمانعون عنك أن لو وقع أمر. وقال له:- فيما حكى لى «4» - والله لو كنت نائما، ما جسر «5» خليل ينبهنى. وقام ودخل على السلطان، فحمل زين الدين كتبغا(31/181)
الإشفاق عليه، أن دخل معه. فلما صار طرنطاى بين يدى السلطان، وكان قد قرر مع الأمراء الخاصكية «1» القبض عليه، فبادروا إلى ذلك، وقبضوا على يديه، وأخذوا سيفه. فصرخ كتبغا، وجعل يقول: «إيش عمل، إيش عمل» ، يكرر ذلك. فأمر السلطان بالقبض على كتبغا، فقبض عليه واعتقل، ثم أفرج عنه بعد ذلك.
وأما طرنطاى، فإنه لما قبض عليه، أمر بقتله، فقتل. وقيل إنه عوقب بين يدى السلطان حتى مات. وقيل كانت وفاته فى ثامن عشر ذى القعدة، وبقى ثمانية أيام، بعد وفاته. ثم أخرج من القلعة، ليلة الجمعة سادس عشرين الشهر، وقد لفّ فى حصير، وحمل على جنوية «2» ، إلى زاوية الشيخ أبى السعود.
فغسله الشيخ عمر السعودى، وكفنه ودفنه، خارج الزاوية. وبقى كذلك، إلى أن ملك الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، فأمر بنقله إلى تربته التى أنشأها بالقاهرة، بمدرسته التى بجوار داره بخط المسطاح «3» .(31/182)
ولما قبض السلطان عليه، ندب الأمير علم الدين سنجر الشجاعى لإيقاع الحوطة على «1» موجوده، واستصفاء أمواله، لما كان بينهما من العداوة. فنزل الشجاعى إلى دار طرنطاى التى بالقاهرة، وحمل ما فى خزانته وذخائره. وطلب ودائعه، ونبش مواضع من داره، وشعثها. وحمل من أمواله إلى الخزائن وبيت المال جملة عظيمة، يقال إن جملة ما حمل من ماله، ستمائة ألف دينار عينا، ومن الدراهم سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل بالمصرى، ومن العدد والأقمشة والخيول والمماليك ما لا يحصر قيمته كثرة. ويقال إنه كان قد جمع ذلك وادخّره، لطلب السلطنة لنفسه، فلم ينل ما تمناه «2» .
ووقف الأمير علم الدين الشجاعى، بعد القبض على طرنطاى، أياما قلائل، من غير أن يخلع عليه خلع النواب، ولا كتب تقليده، ولم يشتهر ذلك.
ثم فوضت النيابة، للأمير بدر الدين بيدرا.
ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى
لما قبض على الأمير حسام الدين طرنطاى كما تقدم، قام الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، بوظيفة النيابة أياما قلائل، كما ذكرناه. ثم فوض السلطان النيابة عن السلطنة، للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى. وخلع عليه، على عادة نواب السلطنة، وأجرى عليه، ما كان جاريا على الأمير حسام الدين طرنطاى، من الإقطاعات وغيرها.(31/183)
وفى هذه السنة، رسم السلطان بطلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، شاد الدواوين بالشام، فوصل البريد إلى دمشق يطلبه، فى رابع ذى الحجة منها، فتوجه إلى الأبواب السلطانية، فى ثامن الشهر. ولما وصل إلى بين يدى السلطان، ضربه مرة بعد أخرى، وبقى فى الترسيم، إلى أن حضر الصاحب شمس الدين [بن السلعوس «1» ] فسلّمه إليه. وولّى شاد الدواوين بدمشق، الأمير سيف الدين طوغان المنصورى. وأعاد السلطان الصاحب تقى الدين توبة التكريتى إلى وزارة الشام، فوصل إلى دمشق، فى خامس المحرم، سنة تسعين وستمائة. وأوقع الحوطة على موجود الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
حسب المرسوم السلطانى.
وفيها، رسم السلطان الملك الأشرف، باحضار الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، من حمص إلى الباب السلطانى، فى ذى الحجة، فحضر.
وفيها، فى ذى الحجة، رسم السلطان بتجديد تقليد الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام، فكتب. وزاده السلطان على إقطاعه المستقر، إلى آخر الأيام المنصورية، خرستا «2» ، وجهز ذلك على يد مملوكه شمس الدين أقسنقر الحسامى. وأعطى أقسنقر إمرة عشرة طواشية «3» . فوصل إلى دمشق فى ثامن عشر ذى الحجة من السنة.(31/184)
وفيها، فى الخامس والعشرين من ذى الحجة، كان وفاة الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى. وكان ديّنا كثير الصدقه والمعروف، قليل الأذى، وخلّف أموالا عريضة، فأوصى بثلاثمائة ألف درهم من ماله، تنفق فى العساكر وأوقف مدرسة بمصر، على طائفة الشافعية والمالكية. وأوقف خانا بظاهر دمشق، على الصدقات، ريعه فى كل شهر تقدير خمسمائة درهم، وله أثار حسنة، رحمه الله تعالى «1» .(31/185)
واستهلت سنة تسعين [وستمائة «1» ] [690- 1391]
فى هذه السنة، فى سادس المحرم، أفرج السلطان عن الملك فخر الدين عثمان ابن الملك «2» المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل، سيف الدين أبى بكر، ابن الملك الكامل ابن الملك العادل صاحب الكرك والده. وكان قد اعتقل فى الدولة الظاهرية، فى رابع عشر، شهر ربيع الأول، سنه تسع وستين وستمائة، كما قدمنا ذكر ذلك «3» . وكانت مدة اعتقاله عشرين سنة، وتسعه أشهر، واثنين وعشرين يوما. ولما أفرج السلطان عنه، رتّب له راتبا جيدا. ولزم داره، واشتغل بالمطالعة والنسخ، وانقطع عن السعى، إلا للجمعة أو الحمام، أو ضرورة لابد منها «4» .
ذكر تفويض الوزارة للصاحب شمس الدين ابن السلعوس وشىء من أخباره
كان الصاحب شمس الدين محمد بن فخر الدين عثمان بن أبى الرجا، بن(31/187)
السلعوس قد توجه إلى الحجاز الشريف، قبيل وفاة السلطان الملك المنصور.
فاتفقت وفاة السلطان وسلطنة الملك الأشرف فى غيبته. فكتب السلطان إليه كتابا يعلمه أنه قد ملك، ويستحثه على سرعة الوصول إليه. فوصل إليه كتاب السلطان، وهو فى أثناء الطريق، وقد عاد من الحجاز الشريف. فاجتمع من كان بالركب، من الأعيان والكتاب، وانضموا إليه، وركبوا فى خدمته، وسايروه وعاملوه من الآداب بما يعامل به الوزراء وعظموه، فكان كذلك، إلى أن وصل إلى باب السلطان. وكان وصوله، فى يوم الثلاثاء، العشرين من المحرم سنة تسعين وستمائة. فاجتمع بالسلطان، ففوض إليه السلطان الوزارة، فى يوم الخميس، الثانى والعشرين من الشهر، وخلع عليه. وكان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى يتحدث فى الوزارة فى هذه المدة، قبل وصوله، من غير تقليد ولا تشريف.
وكان شمس الدين [بن السلعوس «1» ] هذا، تاجرا من أهل دمشق، ولم يكن من التجار المياسير. ولكنه كان يأخذ نفسه بالحشمة والوئاسة، حتى كان التجار فيما بينهم ينعتونه بالصاحب «2» استهزاء به. ثم تعلق بالخدم، وانتمى «3» إلى تقى الدين توبة التكريتى وزير دمشق، فى الدولة المنصورية، فاستخدمه فى بعض الجهات. وتنقل إلى أن ولى نظر الحسبة بدمشق، فى شهر رمضان، سنة سبع وثمانين وستمائة كما تقدم «4» . ثم ولى نظر ديوان الملك الأشرف بالشام.(31/188)
فأظهر الأجتهاد، واستأجر للملك الأشرف ضياعا بالشام، وعمل له متجرا، وحصل من ذلك أموالا، فتقدم عند الملك الأشرف، ومال إليه.
وحضر إلى باب الملك «1» الأشرف، فى صفر، سنة ثمان وثمانين وستمائة.
واستناب عنه فى نظر الحسبة [بدمشق «2» ] والديوان الأشرفى، القاضى تاج الدين أحمد ابن القاضى عماد الدين محمد بن الشيرازى. ولما حضر إلى باب الملك الأشرف «3» ، نقله إلى نظر ديوانه نيابة، عوضا عن تاج الدين بن الأعمى. وخلع عليه خلع الوزارة. واستمر فى نظر ديوان الملك الأشرف ووكالته، إلى جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وستمائة. فاتفق أن الملك الأشرف، خلع عليه خلعة سنية تشبه خلع الوزراء. فرآه السلطان الملك المنصور، وعليه تلك الخلعة، فأنكر هيئته، وسأل الأمير حسام الدين طرنطاى عنه. فقال هذا وزير الملك الأشرف، وذكر مساوئه «4» للسلطان.
فغضب السلطان الملك المنصور لذلك «5» ، وأنكره. وأمر باحضاره، فأحضر بين يديه، فأنكر عليه كونه خدم ولده، بغير أمره، ولا أمر نائبه، ولا وزيره.
وأمر السلطان بنزع الخلعة، التى ألبسها، فنزعت. وسلمه إلى شاد الدواوين [يومئذ «6» ] ، وهو الأمير زين الدين أحمد الصوابى، وأمر بمصادرته، والإخراق(31/189)
به، وضربه. وأرسل إليه الأمير حسام الدين طرنطاى، أن يوقع به الأهنة والإخراق، ويبادر بضربه. وأرسل إليه الملك الأشرف، إلى «1» [مشد الدواوين «2» ] ، يستوقفه عند «3» ذلك، ويتوعده إن ناله منه سوء «4» . فخاف للشد المذكور غائلة الملك «5» الأشرف، وتوقف عن الإخراق به. ورسم عليه فى قاعة، كان المشد يجلس فيها، فى وقت استراحته. ثم تلطف الملك الأشرف فى أمره، مع الأمير حسام الدين طرنطاى، وراسله «6» بسببه. وتكررت رسائله إليه، وإلى غيره فى معناه، حتى حصلت الشفاعة [فيه «7» ] عند السلطان، فأطلقه. وأمر السلطان بصرفه، فصرف، ولزم داره. وكانت هذه الواقعة من أضرر شىء على الأمير حسام الدين طرنطاى، ومن أكبر أسباب القبض عليه وقتله.
واستمر الصاحب شمس الدين بداره إلى زمن الحج، فتوجه إلى الحجاز الشريف. واتفقت وفاة السلطان الملك المنصور، وسلطنة الملك الأشرف، كما تقدم، فكتب إليه يعلمه بذلك. ويقال إن السلطان كتب بخطه إليه، بين سطور الكتاب، يا شقير، يا وجه الخير، عجل بالسير، فقد ملكنا.
ويقال إنه لما حملت إلى السلطان الملك الأشرف، أموال طرنطاى، ووضعت بين يديه، جعل يقلبها ويقول:(31/190)
من عاش بعد عدوه ... يوما فقد بلغ المنى
ثم يقول أين أنت يا ابن السلعوس.
فلما وصل [ابن السلعوس] «1» إلى السلطان، فوض إليه الوزارة، ومكّنه من الدولة تمكينا عظيما، ما تمكن وزير قبله مثله فى دولة الترك. وجرّد فى خدمته جماعة من المماليك السلطانية، يركبون فى خدمته، ويترجلون فى ركابه، ويقفون بين يديه، ويمتثلون أوامره. فعظم بذلك شأنه، وتعاظم فى نفسه واستخف بالناس. وتعدى أطوار الوزراء، حتى كان أكابر الأمراء يدخلون إلى مجلسه، فلا يستكمل «2» لهم القيام. ومنهم من لا يلتفت إليه. وكان فى بعض الأوقات يستدعى أمير جاندار «3» وأستاذ الدار، على كبر مناصبهما. فكان إذا استدعى أحدا منها «4» ، يقول اطلبوا فلانا أمير جاندار، وفلانا «5» أستاذ للدار، يسمى كل واحد منهما باسمه، دون نعته. ثم ترفّع عن هذه الرتبة إلى الاستخفاف بنائب السلطنة [الأمير بيدرا «6» ] ، وعدم الالتفات إلى جهته ومشاركته فى بعض وظيفته، والاستبداد عنه، ومعارضته فيما يقصد فعله، وتعطيل ما يؤثره. هذا، والأمير بدر الدين بيدرا يصبر على جفاه، ولا يمكنه. مفاجأته لما يشاهده من ميل(31/191)
السلطان إليه. حتى أخبرنى «1» شهاب الدين بن عبادة: قال: رأيت الصاحب شمس الدين فى بعض أيام المواكب، قد قام من مجلس الوزارة، يقصد الدخول إلى الخزانة، فصادف ذلك خروج الأمراء من الخدمة، هم ونائب السلطنة.
فكان الأمراء الأكابر يبادرون إلى خدمته ومنهم من يقبل يديه، وكلهم يخلى له الطريق، ويومىء بالرجوع بين يديه، فيشير إليه بالانصراف. فلما وطىء عتبة «2» باب القلة برجله، توافى «3» هناك، هو والأمير بدر الدين، نائب السلطنة. فسلّم كل منهما على الآخر، وأومأ له بالخدمة، إلا أن النائب خدم الوزير، أكثر من خدمة الوزير له. قال: لقد رأيته، وقد رجع مع الصاحب، ولم يسامته فى مشيه، بل كان النائب يتقدمه يسيرا، ويميل بوجهه إلى جهة الصاحب ويحدثه. فكانا كذلك إلى أن وصلا إلى المصطبة، التى يجلس عليها أستاذ الدار وناظر البيوت، وهى من داخل الباب الثانى، من باب القلة لجهة الخزانة، على باب الفراش خاناه قديما. وهذا الموضع «4» الآن «5» ، هو أحد أبواب «6» الجامع الذى عمر فى أيام السلطان الملك الناصر. وسنذكر إن شاء الله تعالى، خبر هذا الجامع فى(31/192)
الأيام الناصرية. قال «1» : فلما أنتهيا إلى ذلك المكان، مسك الصاحب بدر الدين بيدرا، نائب السلطنة، وأشار إليه بالرجوع. قال: وسمعت الصاحب يقول له:
«بسم الله يا أمير بدر الدين» ، لم يزده على ذلك، وهذا أمر لم يسمع بمثله «2» .
والذى شاهدته أنا، غير مرة ولا مرّتين، أن الصاحب كان إذا أراد الركوب إلى القلعة، اجتمع ببابه «3» نظار النظار وشاد الدواوين ووالى القاهرة ووالى مصر، ومستوفى «4» الدولة، ونظار الجهات، ومشدى «5» المعاملات؛ وغير هؤلاء من الأعيان.
ثم يحضر قضاة القضاء الأربعة ومن يتبعهم. فإذا اجتمع هؤلاء كلهم ببابه، عرّفه حجّابه أن الموكب قد كمل. وكان كمال الموكب عندهم، حضور قضاة القضاة الأربعة، فيخرج عند ذلك، ويركب ويسوق الناس بين يديه على طبقاتهم.
فيكون أقرب الناس إليه، قاضى القضاة الشافعية، وقاضى القضاة المالكية «6» ، يكونان أمامه. وأمامهما قاضيا القضاة الحنفية والحنبلية «7» ؛ ثم نظار النظار والأعيان، ومستوفى «8» الدولة، ونظار الجهات على قدر مراتبهم. ويستمر القضاة معه، إلى أن يستقر فى المجلس. فينصرفون ثم يعودون عشية النهار إلى القلعة، ويركبون فى موكبه بين يديه إلى أن يصل إلى داره؛ حتى إنه تأخر ليلة بالقلعة إلى قرب(31/193)
العشاء الآخرة، وغلق باب القلعة. وانقلب موكب الصاحب، إلى جهة باب السلطان، وجاء القضاة ووقفوا على بغالهم، بظاهر باب الإسطبل السلطانى، ولم ينصرفوا حتى خرج وركب، وساقوا فى خدمته، إلى داره على عادتهم، لم يخلوا بها. وكان لا ينتصب قائما ليعض أكابرهم، ولم ينتظم هذا لوزير قبله.
ولما عظم موكبه، وبقى الأكابر، يزدحمون فى شوارع القاهرة، ويضيق بهم لكثرة من معه، ويزدحم الغلمان، انتقل إلى القرافة، وسكنها بسبب ذلك «1» . ثم كان من أمره ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى موضعه.
ذكر القبض والإفراج على من نذكر من الأمراء، وعنه «2»
وفى يوم الجمعة، سابع صفر، أمر السلطان بالقبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصرى، وعدّد لهما ذنوبا كثيرة.
وكان مما عدّه على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، أن قال هذا ما أحسن إليه أحد، إحسان طرنطاى، فإنه ما زال يدافع عنه السلطان [المنصور «3» ] ويمنعه من القبض عليه، إذا أراده. ويقول له، والله لا يقبض عليه، حتى يقبض على قبله. ووفى له طرنطاى بما عاهده عليه، بصهيون، لما استنزله منها. ولم يرع له حق هذا الإحسان العظيم والذب عنه. وكان [هو «4» ] أكبر أسباب القبض عليه، فإنه أفشى سره.(31/194)
وأفرج السلطان فى هذا اليوم، عن الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، وأعاد عليه إمرته، وأنعم عليه إنعاما كثيرا. وكان قد قبض عليه، كما تقدم لما همّ بالمدافعة عن طرنطاى.
ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا
قد ذكرنا أن السلطان الملك المنصور، والد السلطان، كان قد أهمه أمر عكا وتجهز لغزوها. وخرج لذلك، وعاجلته المنية، دون الأمنية. فلما استقر أمر السلطان الملك الأشرف، وخلا وجهه، ممن كان يقصد مناوأته، صرف اهتمامه إلى عكا وغزوها. وندب العساكر من الديار المصرية، وسائر الممالك والحصون. وأمر نواب السلطنة بالممالك الشامية والساحلية، ونواب القلاع والحصون، بتجهيز الزردخانات وأعواد المجانيق والحجارين وغيرهم. وندب الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار لذلك. فتوجه من الباب السلطانى، ووصل إلى دمشق، فى سلخ صفر. فجهزت أعواد المجانيق من دمشق، وبرزت إلى ظاهرها فى مستهل شهر ربيع الأول، وتكامل ذلك، فى يوم الخميس ثانى عشر الشهر. وتوجه بها الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد الأمراء بالشام، ثم فرقت على الأمراء مقدمى «1» الألوف، فتوجه كل أمير ومضافوه «2» منها، بما أمر بنقله. ثم توجه الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة بالشام، فى آخر الجيش «3» ، ببقية العسكر، فى يوم الجمعة، العشرين من شهر ربيع الأول. وندب(31/195)
السلطان أيضا، الأمير سيف الدين طغريل الايقانى «1» إلى الحصون والممالك يستنجدهم «2» على سرعة تجهيز المجانيق والآلات، فبادر النواب إلى ذلك.
ووصل الملك المظفر صاحب حماه إلى دمشق، فى ثالث عشرين شهر ربيع الأول، بعسكر حماه، وصحبته مجانيق وزردخانات «3» ، ووصل الأمير سيف الدين(31/196)
بلبان الطباخى، نائب السلطنة بالفتوحات، بعساكر الحصون وطرابلس وما معها، بالمجانيق والزردخانات، فى رابع عشرين الشهر. ووصل سائر النواب، وتوجهوا إلى عكا. هذا ما كان من أمر نواب الممالك الشامية وعساكرها «1» .
وأما السلطان الملك الأشرف، فإنه لما عزم على التوجه إلى عكا، أمر بجمع «2» القراء والعلماء والقضاة والأعيان، بتربة والده السلطان الملك المنصور. فاجتمعوا فى ليلة الجمعة، الثامن والعشرين من صفر، وبانوا بالقبة المنصورية، يقرأون القرآن. وحضر السلطان إلى التربة فى بكرة النهار، وتصدق بجملة من المال والكساوى، ثم عاد إلى قلعة الجبل. واستقل ركابه منها، فى ثالث شهر ربيع الأول. وجهز السلطان آدره العالية «3» إلى دمشق، فوصلوا إلى قلعتها، فى يوم الاثنين، سابع شهر ربيع الآخر. ووصل السلطان إلى المنزلة بعكا، فى يوم الخميس، ثالث شهر ربيع الآخر. ووصلت المجانيق إلى عكا فى اليوم الثانى،(31/197)
من وصلوه، وهى اثنان وتسعون منجنيقا، [ما بين افرنجى وقرابغا وشيطانى «1» ] ، فنصبت وتكامل نصبها فى أربعة أيام، وأقيمت الستائر.
وكان الفرنج، لما بلغهم اهتمام السلطان وعزمه، كاتبوا ملوك البحر، وسألوهم إنجادهم، فأتوهم من كل مكان. واجتمع بعكا منهم جموع كثيرة، فقويت نفوسهم، ولم يغلقوا أبواب البلد. واستمر الحصار وعملت النقوب، إلى السادس عشر من جمادى الأولى «2» .
فلما كان فى يوم الجمعة السابع عشر من الشهر، أمر السلطان أن تضرب الكوسات جملة واحدة، وكانت [على «3» ] ثلاثمائة جمل. فلما ضربت، هال أهل عكا ما سمعوه منها. وزحف السلطان بالعساكر، قبل طلوع الشمس من هذا اليوم. فما ارتفعت الشمس: إلا والصناجق السلطانية على أسوارها.
ولما أشرف المسلمون على فتح عكا، وتحقق من بها ذلك، خرجت طائفة منهم، نحو عشرة آلاف رجل مستأمنين، فرّقهم السلطان على الأمراء، فقتلوا عن آخرهم. وأرسل السلطان جماعة من الأسرى، إلى الحصون الإسلامية.(31/198)
وكانت مدة الحصار على عكاء منذحل ركاب السلطان، إلى أن فتحت، أربعة وأربعين يوما. واستشهد من الأمراه على حصارها، الأمير علاء الدين كشتغدى «1» الشمسى، ونقل إلى جلجولية «2» ودفن بها، والأمير عز الدين أيبك المعزى «3» ، نقيب «4» العساكر، والأمير جمال الدين آقش الغتمى «5» ، والأمير بدر الدين بيليك المسعودى، والأمير شرف الدين قيران السكرى، وأربعة من مقدمى «6» الحلقة، وجماعة يسيرة من العسكر.
وكانت عكا بيد الفرنج، منذ استرجعوها من السلطان، الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فى سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وإلى هذا التاريخ، مائة سنة وثلاث سنين، وأمر السلطان الآن بإخرابها، فخربت «7» .
وفتح الله تعالى على يد السلطان، فى بقية الشهر، من المدن المشهورة الساحلية، صور، وصيدا، وحيفا، وعثليث، بغير قتال. وذلك أن الله تعالى،(31/199)
أوقع فى قلوب أهلها الرعب، لما فتحت عكا، وعلموا أنهم لا يقدرون على حفظها، ففارقوها ونجوا بأنفسهم. فملكها السلطان، فأمر بهدمها جميعها فهدمت. ثم فتجت صيدا وبيروت، على يد الأمير علم الدين الشجاعى، على ما نذكره «1» إن شاء الله تعالى.
وأكثر الشعراء ذكر هذا الفتح. فكان ممن «2» امتدح السلطان، وذكر هذا الفتح من الشعراء، الشيخ الفاضل بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنيجى «3» التاجر المقيم بالقاهرة، فقال:
بلغت فى الملك أقصى غاية الأمل ... وفتّ شأو ملوك الأعصر الأول
وحزت رق العلى بالجد مجتهدا ... وجزت غاياتها سيقا على مهل
ونلت بالحول دون الناس منفردا ... ما لم ينله ملوك الأرض بالحيل
فطل بدولتك الميمون طائرها ... فإنها غرة فى أوجه الدول
واسعد بهمتك العليا التى وصلت ... لك السعود بحبل غير منفصل
فأنت للدين والدنيا صلاحهما ... وفيهما حمل ضيم غير محتمل
فكم بلغت مرادا بت «4» تأمله ... بعزمك الباتر العارى من الفلل(31/200)
وكم فتحت حصونا طالما رجعت ... لليأس «1» عنها الملوك الصيد فى خجل «2»
حررت «3» من عكة الغراء ما عجزت ... عنه الملوك بعزم غير منتثل
عقيلة المدن أمست من حصانتها ... وصونها من ليالى الدهر فى عقل
وقد دعتها ملوك الأرض راغبة ... وعطفها عنهم بالتيه فى شغل
صدت عن الصيد لا تلوى فلم تطل ... الأوهام منها إلى وصل ولم تصل
أم لهم «4» برّة كم رام خطبتها ... بعل «5» سواك، فلم تذعن ولم تنل
حتى أمرك فأمست وهى طائعة ... بعد الإباء لأمر منك ممتثل
مازال غيرك فيها طامعا وعلى ... يديك، قد كان هذا الفتح فى الأزل
فتحا «6» تطاول عن نثر «7» يحوط به ... وصفا، وعن نظم شعر محمد الطّول
قصدتها فأصيبت بعد ما فجعت ... فى أهلها من أسود الغيل بالغيل
فى جحفل لجب «8» كالليل انجمه ... تبدو لرائيه من قضب ومن أسل
تمم المهامه من وعر «9» ومن أكم ... وطبّق الأرض من سهل ومن جبل(31/201)
تخالهم وجياد الخيل تحتهم ... لليأس «1» فى الروع آسادا على قلل «2»
لا تنظر العين منهم إن هم لبسوا ... لا مات حربهم يوما، سوى المقل
صدمتها بجيوش لو صدمت بها ... صم الجبال، أزالتها ولم تزل
فأصبحت بعد عز الملك خاضعة ... من ذلة الملك طول الدهر فى سمل
أمست خرابا وأضحى أهلها ومما ... وسطرتها يد الأيام فى المثل
فسلب «3» بزتها «4» عنها وقد عطلت ... ألذ للطرف من حلى ومن حلل
ومحو أثارها منها وقد خربت ... أشبى إلى التفس من زوض الربى «5» الخضل
بالأشرف السيد السلطان «6» زال عنا ... التثليث وابتهج التوحيد بالجدل
تدبير «7» ذى حكم «8» فى عز منتقم ... وعمر مقتبل فى رأى مكتهل
راحت وقد سلبت أرواحهم بشبا ... الهندى أموالهم من «9» جملة النفل
هدمت ما شيدوا، فرقت ما جمعوا ... نقضت ما ابرموه غير محتفل
وعند ما أصبحت قفرا بلادهم ... من السواحل بعد الأهل فى العطل «10»(31/202)
رحلت عنها، ولكن كم أقمت بها ... من خوف بأسك جيشا غير مرتحل
لازلت ذا رتب فى المجد سامية ... وسؤدد بنواصى الشهب متصل
وقال المولى شهاب الدين أبو الثنا محمود الحلبى كاتب الانشاء، لما عاين النيران فى جوانب عكا. وقد تساقطت أركانها، وتهدمت جدرانها.
مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار فى وسطها وار «1»
وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد للنار
وقال أيضا:
الحمد لله زالت دولة الصّلب ... وعزبا لترك دين المصطفى العربى
هذا الذى كانت الأمال لو طلبت ... رؤياه فى النوم لا ستحيت من الطلب
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... فى البحر للشرك عتد البر من أرب
عقيلة ذهبت أيدى الخطوب بها ... دهرا وشدت عليها كف مغتصب
لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت ... فى البر والبحر ما ينجى سوى الهرب
كانت تخيلها آمالنا فترى ... إن التفكر فيها أعجب العجب
أم الحروب فكم [قد «2» ] أنشأت فتنا ... شاب الوليد بها هولا ولم تشب
سوران بر وبحر حول ساحتها ... دارا، وأدناهما أتأى «3» من القطب
خرقاء «4» أمنع سوريها وأحصنه ... غلب الكماة، وأقواه على النوب(31/203)
مصفح مصفاح، حولها شرف ... من الرماح وأبراج من اليلب «1»
مثل الغمامة «2» تهدى من صواعقها ... بالنبل أضعاف ما تهدى «3» من السحب
كأنما كل برج حوله فلك ... من المجانيق يرمى الأرض بالشهب
ففاجأتها جنود الله يقدمها ... غضبان «4» لله لا للملك والنشب
ليث أبى أن يرد الوجه عن أمم ... يدعون رب الورى سبحانه بأب
كم رامها ورماها قبله ملك ... جم الجيوش فلم يظفر ولم يصب
لم يلهه ملكه، بل فى أوائله ... قال الذى لم ينله الناس فى الحقب
لم ترض همته إلا التى قعدت ... للعجز عنها ملوك العجم والعرب
فأصبحت وهى فى بحرين مائلة ... ما بين مضطرم نارا «5» ومضطرب
جيش من الترك ترك الحرب عندهم ... عار، وراحتهم ضرب من الوصب
خاضوا إليها الردى والبحر فاشتبه ال ... أمران واختلفا فى الحال والسبب
تسنموها فلم يترك «6» ثباتهم «7» ... فى ذلك الأفق برجا غير منقلب
تسلموها فلم تخل الرقاب بها ... من فتك منتقم أو كف منتهب(31/204)
أتوا حماها فلم تدقع وقد وثبوا ... عنها مجانيقهم شيئا «1» ولم يثب
يا يوم عكا لقد انسيت ما سبقت ... من «2» الفتوح وما قد خطّ فى الكتب
لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما ... عسى يقوم به ذو الشّعر والخطب
كانت تمنى بك الأيام عن أمم ... والحمد لله شاهدناك عن كتب
أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم «3» ... لله أى رضى فى ذلك الغضب
وأطلع الله جيش النصر فابتدرت ... طلائع الفتح بين السمر والقضب
وأشرف المصطفى الهادى البشير على ... ما أسلف «4» الأشرف السلطان من قرب
فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت ... ببشره «5» الكعبة الغراء فى الحجب
وسار فى الأرض مسرى الريح سمعته ... فالبر فى طرب والبحر فى حرب
وخاضت البيض فى بحر الدماء فما ... أبدت من البيض إلا ساق مختضب
وغاص «6» زرق الفنا «7» فى زرق أعينهم ... كأنها شطن يهوى «8» إلى قلب
توقدت وهى تروى فى نحو رهم ... فزادها الرى فى الإشراق واللهب «9»(31/205)
أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم ... فراح كالراح «1» إذ غرقاه كالحبب «2»
وذاب من حرّها عنهم حديدهم ... فقيدتهم «3» به ذعرا يد الرهب «4»
تحكمت فسطت فيهم قواضيها ... قتلا وعفت لحاويها عن السلب
كم أبرزت بطلا كالطود قد بطلت ... حواسه فغدا كالمنزل الخرب
كأنه وسنان الرمح يطلبه ... برج هوى ووراه كوكب الذنب
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك الممالك واستعلت على الوثب
ما بعد عكا، وقد لانت عربكتها ... لديك شىء تلاقيه «5» على تعب
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها ... مدت إليك نواصيها بلا نصب
كم قد دعت، وهى فى أسر العدا زمنا ... صيد الملوك فلم تسمع «6» ولم تجب «7»
لبيتها «8» يا صلاح الدين معتقدا ... بأن ظنّ صلاح الدين لم يخب
أسلت فيها كما سالت دماؤهم ... من قبل إحرازها بحرا من الذهب
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت ... منه لعمر «9» طواه الله فى الكتب(31/206)
وجئتها بجيوش كالسيول على ... أمثالها «1» بين أجام من القضب «2»
وحطتها «3» بالمجانيق «4» التى وقفت ... أمام أسوارها فى جحفل لجب
مرفوعة نصبوا أضعافها قبلت «5» ... للجزم والكسر منها كل منتصب
ورضتها بنقوب ذللت شمما ... منها وأبدت محياها بلا نقب
وبعد صبحتها بالزحف فاضطربت ... رعبا وأهوت بخديها «6» إلى الترب
وغنت «7» البيض فى الأعناق فار تقصت «8» ... أجسادها لعبا منها مع اللعب
وخلّقت بالدم الأسوار فابتهت ... طيبا ولولا دماء القوم لم تطب «9»
وأبرزت كل خود «10» كاعب نثرت «11» ... لها الرؤوس وقد زفت بلا طرب
باتت «12» وقد جاورتنا ناشزا وغدت ... طوع الهوى فى يدى جيرانها الجنب
ظنوا بروج البيوت الشم تعقلهم «13» ... فاستعقلتهم ولم تطلق ولم تهب(31/207)
فأحرزتهم ولكن للسيوف لكى ... لا يلتجى أحد منهم إلى هرب
وجالت «1» النار فى أرجائها وعلت ... فاطفأت ما بصدر الدين من كرب
أضحت أبا لهب تلك البروج وقد ... كانت بتعليقها حمالة الحطب
وأفلت «2» البحر منهم من يخبر من ... يلقاه من قومه بالويل والحرب
وتمت النعمة العظمى وقد ملكت ... بفتح صور بلا حصر ولا نصب
أختان فى أن كلا منهما جمعت ... صليبة الكفر لا أختان فى النسب
لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب
إن لم يكن ثمّ كون البحر منصبغا ... بها إليها والألسن اللهب «3»
فالله أعطاك ملك البر وأبتدأت ... لك السعادة ملك البحر فارتقب
من كان مبدأه «4» عكا وصور معا ... فالصين أدنى إلى كفيه من حلب «5»
علا بك الملك حتى إن قبته ... على الثريا غدت ممدودة الطنب
فلا برحت عزيز النصر مبتهجا ... بكل فتح قريب المنح مقترب
وعمل الشعراء فى هذا الفتح قصائد كثيرة، اقتصرنا «6» منها، على ما أوردناه، فلنذكر خلاف ذلك.(31/208)
ذكر القبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام
وفى هذه السنة، والسلطان على حصار عكا، قبض على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، نائب السلطنة بالشام. وسبب ذلك، أن الأمير علم الدين سنجر الحموى المعروف بأبى خرص «1» ، سعى إلى السلطان به، ثم أوهم الأمير حسام الدين المذكور من السلطان، وقال إنه قد عزم على القبض عليك، فحمله الخوف على أنه ركب من الوطاق «2» بعكا ليلا، وقصد الهرب. فركب الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، وساق خلفه. فأدركه، وقال له، بالله لا تكن سبب هلاك هذا الجيش، فإن هذا البلد قد أشرف [الناس «3» ] على فتحه. ومن علم الفرنج بهروبك، قويت نفوسهم، وركب العسكر خلفك، وانصرفت عزائم السلطان عن حصار عكا إليك. فوافقه، ورجع إلى خيمته، وظن أن ذلك يستتر، ولا يشعر السلطان به. وكان [ذلك «4» ] ، فى ثامن جمادى «5» الأولى. فلما كان فى اليوم الثانى من هذه الحادثة، خلع السلطان عليه، وطيّب قلبه، ثم قبض عليه(31/209)
فى اليوم الثالث، وجهّزه إلى قلعة صفد، تحت الاحتياط، ثم جهّز منها إلى قلعة الجبل.
ذكر رحيل السلطان عن عكا ودخوله إلى دمشق وما قرره من أمر النيابة بها، وبالكرك وغير ذلك
ولما قضى السلطان الوطر من فتح عكا وما يليها، عاد إلى دمشق. فكان وصوله إليها، فى الساعة الثالثة من يوم الاثنين، ثانى عشر جمادى الآخرة، ودخل دخولا ما دخله ملك قبله. وزينت البلد أحسن زينة، ونزل بالقلعة. وفى يوم دخوله إلى دمشق، فوض نيابة السلطنة بالشام [إلى «1» ] الأمير علم الدين سنجر الشجاعى المنصورى. ورتب الأمير جمال الدين أقش الأشرفى فى نيابة الكرك، عوضا عن الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارى المنصورى، بحكم استعفائه من النيابة بها. وأقره السلطان فى جملة الأمراء بالديار المصرية «2» .
وفى هذا اليوم، قبض السلطان على الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى النائب بقلعة دمشق. وسبب ذلك، أنه وقف بين يدى السلطان، وكان الأمير شرف الدين [بن «3» ] الخطير الرومى، يكثر من البسط بين يدى السلطان على الأمراء وغيرهم. ويقصد بذلك أن يشرح خاطر السلطان ويضحكه. وكان السلطان فى بعض الأوقات، ينظر إليه نظرا يفهم منه مراد السلطان فى البسط على من يشير إليه. فنظر إليه السلطان وأومأ إليه أن يبسط على أرجواش. فنظر ابن الخطير(31/210)
إلى علم الدين أرجواش، وكان لا يعرف البسط ولا يعانيه، ولا يزال فى تصميم.
فقال «1» ابن الخطير للسلطان: كان لوالد المملوك بالروم، حمار أشهب أعور، أشبه شىء بهذا الأمير علم الدين، فضحك السلطان، وغضب أرجواش، وقال هذه صبيانية، فاشتد غضب السلطان لذلك، وأمر بالقبض عليه. وضرب بين يدى السلطان ضربا كثيرا مؤلما. ثم أمر أن يقيد ويلبس عباءة، ويستعمل مع الأسرى، قفعل به ذلك. ثم رسم بحمله على خيل البريد، إلى الديار المصرية مقيدا. فتوجه البريدية به، وحصلت الشفاعة فيه، فردّ من أثناء الطريق.
ثم أفرج السلطان عنه، بعد أن أوقع الحوطة على موجوده، وكان يحتوى على جملة كثيرة من الأموال والعدد. وأعاده السلطان إلى نيابة القلعة، فى شهر رمضان، فاستمر بها إلى أن مات.
وفى يوم الأحد، ثامن عشر جمادى الآخرة، رتب السلطان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، فى شد الشام على عادته، وكان قد أفرج عنه قبل ذلك. ونقل الأمير سيف الدين طوغان، من الشد إلى ولاية البر، على عادته الأولى «2» .
وفيها، فى يوم الأربعاء، ثانى عشر شهر رجب، ولى القاضى محيى الدين ابن النحاس نظر الشام، عوضا عن تقى الدين توبة، وبطل اسم الوزارة بدمشق.
وولى شرف الدين أحمد بن عز الدين عيسى بن الشيرجى، نظر الحسبة، عوضا عن تاج الدين بن الشيرازى، فى ثانى عشر الشهر «3» .(31/211)
ذكر فتوح برج صيدا
كان قد بقى بصيدا برج عاص «1» ، فندب السلطان لحصاره، الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، فتوجه لذلك، فى يوم الثلاثاء رابع شهر رجب. ووصل إلى صيدا وحاصر البرج، وافتتحه فى يوم السبت، خامس عشر الشهر. وعاد الأمير علم الدين إلى دمشق، بعد فتحه، على خيل البريد، فوصل إليها عند رحيل السلطان إلى الديار المصرية، وذلك فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب.
وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم الاثنين تاسع شعبان، ودخل من باب النصر وخرج من باب زويلة «2» .
ذكر فتح بيروت
لما توجه السلطان إلى الديار المصرية، أمر الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، أن يتوجه إليها، فتوجه وأفتتحها فى يوم الأحد ثالث عشرين شهر رجب. وذلك أن الأمير علم الدين سنجر وصل إليها، وكانت داخلة فى الطاعة، فتلقاه أهلها وأنزلوه بقلعتها. فأمرهم أن ينقلوا أولادهم وحريمهم وأثقالهم إلى قلعتها، ففعلوا ذلك، وظنوه شفقة عليهم. فلما صاروا بالقلعة، قبض على الرجال، وقيدهم وألقاهم فى الخندق، وملك البلد. وعاد الأمير علم الدين إلى دمشق، فوصل إليها، فى يوم الجمعة سابع عشرين شهر رمضان من السنة. ولم يبق بالساحل أجمع، من الفرنج أحد، وخلا الساحل بجملته منهم. ولم يتأخر بالبلاد(31/212)
[الشامية «1» ] غير فلاحيها النصارى، وهم داخلون فى الذمة، يؤدون الجزية.
ولما فتح السلطان هذا الفتح «2» ، أوقف منه ضياعا على تربة والده السلطان الملك المنصور، وهى: الكابرة من عكا، وتل «3» المفتوح منها، وكردانه «4» وضواحيها «5» منها. ومن ساحل صور معركه، وصريفين «6» . وأوقف على تربته ضياعا، وهى قرية «7» الفرج من عكا، وقرية شفر عمر منها: وقرية الحمراء «8» منها، وقربة طبرنية «9» من ساحل صور.(31/213)
ذكر إنفاذ ولدى السلطان الملك الظاهر ووالدتهما إلى بلاد الأشكرى «1»
وفى هذه السنة، أمر السلطان، بإخراج ولدى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وهما الملك المسعود نجم الدين خضر، والملك العادل بدر الدين سلامش، من الاعتقال «2» ، وجهزهما ووالدتهما إلى ثغر الإسكندرية، صحبة الأمير عز الدين أيبك الموصلى، استاذ الدار العالية. فتوجه بهم، وسفّرهم منها فى البحر المالح، إلى القسطنطينية. فلما وصلاها، أحسن الأشكرى إليهما، وأجرى عليهما ما يقوم بهما وبمن معهما. فاتفقت وفاة الملك العادل بدر الدين سلامش هنا، فصبّرته والدته بالصبرة «3» ، وجعلته فى تابوت، ولم تدفنه، إلى أن عادت به إلى الديار المصرية، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» .
ذكر الإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره من الأمراء
وفى هذه السنة، فى يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، أمر السلطان بالإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى. وكان السلطان الملك(31/214)
المنصور، قد اعتقله فى أوائل دولته، كما تقدم ذكر ذلك «1» ، فأفرج السلطان عنه الآن. وكتب له إفراج شريف سلطانى، ونسخته بعد البسملة «2» :
«الحمد لله على نعمه الكاملة، ومراحمه الشاملة، وعواطفه التى أضحت بها بدور الإسلام بازغة غير آفلة، ومواهبه التى تجول وتجود وتحيى رميم الآمال [فى يومها «3» ] بعد رمسها بأمسها، فى أضيق اللحود «4» ، ويقرّ لها بالفضل كل جحود» .
«أحمده حمدا يعيد سالف النعم، ويفيد آنف الكرم الذى خص وعم.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة نؤدى «5» حقوقها ونجتنب «6» عقوقها. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بمكارم الأخلاق، والموصوف بالعلم والحلم على الإطلاق، صلاة لا تزال عقودها حسنة الانساق، ونسلم تسليما كثيرا» .
«وبعد، فإن أحق من عومل بالجميل، وبلغ من مكارم هذه الدولة القاهرة، الرجا والتأميل، من إذا ذكرت أبطال الإسلام، كان أول مذكور. وإذا وصفت الشجعان، كان إمام صف كل شجاع مشهور. وإذا تزينت سماء الملك بالنجم، كان بدرها المنير. وإذا اجتمع ذوو الآراء على امتثال أمر، كان(31/215)
خير مشير، وإذا عدت أوصاف أولى الأمر كان أكبر أمير. كم تجمّلت «1» المواكب بحلوله «2» بأعلى قدر، وتزينت «3» المراتب منه بأبهى بدر. وهو المقر الأشرف العالى المولوى الأميرى»
الكبيرى- وذكر القابه، [فقال «5» ]- البدرى بيسرى الشمسى الصالحى النجمى الملكى الأشرفى. فهو الموصوف بهذه الأوصاف والمدح «6»
، [و «7» ] المعروف بهذه المكارم والمنح» .
«فلذلك، اقتضى حسن الرأى الشريف العالى المولوى السلطانى الملكى «8» الأشرفى الصلاحى، لا زالت الكرب فى أيامه تكشف، والبدور تكتمى «9» فى دولته الغراء، إشراقا «10» ولا تخسف، أن يفرج عنه فى هذه الساعة، من غير تأخير، ويمثل بين يدى المقام الأعظم السلطانى بلا استئذان نائب ولا وزير، إن شاء الله تعالى» .
وجعل هذا الإفراج فى كيس أطلس أصفر، وختم عليه بخاتم السلطان،(31/216)
وتوجه به إلى باب الجب «1» ، الأمير بدر الدين بيدرا، والأمير زين الدين كتبغا، وجماعة من أكابر الأمراء. وأخرج الأمير بدر الدين من الجب، وقرىء عليه هذا الإفراج، ورسم بكسر قيده، واحضر له التشريف السلطانى. فقال [بيسرى] :
لا يفك القيد من رجلى، ولا أليس التشريف، إلا بعد أن أتمثل بين يدى السلطان، وصمم على ذلك. فأعلم السلطان بذلك، فرسم بفك قيده، وأن يحضر إلى بين يدى السلطان بملبوسه. الذى كان عليه فى الجب. فحضر إلى بين يدى السلطان، فانتصب له قائما. وتلقاه وأكرمه، وألبسه التشريف، وأجلسه إلى جانبه، وأنعم عليه بالأموال والأقمشة، وأمرّه لوقته، بمائة فارس، وأقطعه إقطاعا وافرا، من جملته منية بنى «2» حصيب، دريستا «3» ، بالجوالى والمواريث «4» الحشرية، وقرّبه السلطان لديه، وأدناه إليه. وكان يخلو به ويؤانسه ويبرّه، ويضاعف له الإنعام، حتى أن الأمير بدر الدين بيسرى، انتسب إلى الأشرفيه.(31/217)
وكان فيما مضى من عمره فى الأيام الظاهرية وغيرها، يكتب بيسرى الشمسى، فصار «1» يكتب بيسرى الأشرفى.
وفيها، فى يوم الجمعة رابع شهر رمضان، أفرج السلطان عن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير حسام الدين لاجين المنصورى، والأمير ركن الدين بيبرس صقصوا «2» ، والأمير شمس الدين سنقر الطويل، من الأعتقال، وأمرهم على عادتهم «3» .
وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، فقبض عليه من دمشق، وجهز إلى الأبواب السلطانية مقيدا. وكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الخميس، سابع عشر شهر رمضان.
ذكر عزل قاضى القضاة تقى الدين ابن بنت الأعز عن القضاء ومصادرته
وفى هذه السنة، عزل السلطان قاضى القضاة، تقى الدين عبد الرحمن ابن قاضى القضاة، تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز. من منصب القضاء، بالديار المصرية، لأمور، منها ما كان فى نفس الصاحب شمس الدين الوزير منه، [ومنها أنه «4» ] كان فى الدولة المنصورية، يراعى خاطر الملك الصالح،(31/218)
ويقدّمه على الملك الأشرف. فذكّر الوزير السلطان بذلك، فعزله وانتدب لمرافعته «1» جماعة، وشهد عليه آخرون بأمور برأه الله منها. وأوغلوا فى الكلام عليه، ورموه بالعظائم. وكان محاشا منها «2» . فرسّم عليه، وصودر، ونكل به.
وكان قصد الوزير الإخراق به، بالضرب، فحماه الله تعالى منه، ثم تشفع «3» فيه الأمير بدر الدين بيدرا، نائب السلطنة، مع ما كان بينهما من الشحناء، فأفرج السلطان عنه. وكان سبب هذه الشفاعة، أن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، كان له اعتناء بقاضى القضاة تقى الدين، فلما امتحن بهذه المحنة، ورسم بمصادرته، ضمّه إليه، وعزم على سؤال السلطان فى أمره، والشفاعة فيه. وكان السلطان قد قبض على الأمير سنجر الحموى، المعروف بأبى خرص «4» ، وكان للأمير بدر الدين بيدرا به اعتناء، فتحدث مع الأمير بدر الدين أمير سلاح، أن يشفع فيه، فاعتذر عن ذلك، أنه يقصد أن يشفع فى قاضى القضاة ولا يمكنه أن يشفع فى اثنين فى وقت واحد. فاتفقا أن [الأمير] يشفع «5» فى قاضى القضاة. وأمير سلاح يشفع فى أبى خرص. فشفعا فيهما. فأفرج عنهما «6» .(31/219)
ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى
لما عزل السلطان؛ قاضى القضاة تقى الدين عن القضاء، أشار الصاحب شمس الدين ابن السلعوس الوزير، بتفويض القضاء، للقاضى بدر الدين أبى عبد الله محمد ابن الشيخ برهان الدين أبى إسحاق إبراهيم بن أبى الفضل سعد الله ابن جماعة بن على بن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكنانى الشافعى الحموى.
وكان يتولى قضاء القدس الشريف والخطابة كما قدمنا. فاستدعاء الصاحب شمس الدين، فى يوم الأربعاء، تاسع شهر رمضان، فتوجه البريد إليه. وكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الاثنين، رابع عشر شهر رمضان، سنة تسعين وستمائة.
وكانت ولايته من قبل السلطان الملك الأشرف، فى يوم الخميس، سابع عشر الشهر. وفوّض إليه مع القضاء، وتدريس المدرسة الصالحية، خطابة جامع الأزهر، وغير ذلك. وهذه ولاية قاضى القضاة بدر الدين الأولى «1» .
وفى هذه السنة، فى شوال، أمر السلطان بإخراج الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد، وأن يخطب للناس «2» بجامع القلعة، ويذكر السلطان فى خطبته.
فخطب فى رابع عشرين شوال. وعليه شعار بنى العباس، وهو متقلد سيفا. فلما فرغ من الخطبة. لم يصلّ بالناس. وقدم قاضى القضاة بدر الدين، فصلى بهم صلاة الجماعة. واستمر يخطب بالقلعة، واستناب عنه بجامع الأزهر القاضى صدر الدين عبد البر ابن قاضى القضاة تقى الدين بن رزين.(31/220)
وفيها، فى ليلة الإثنين، رابع ذى القعدة أمر السلطان باجتماع القضاة والفقهاء والأعيان والقراء، بتربة والده السلطان الملك المنصور، فاجتمعوا.
وبات نائب السلطنة والوزير بالقبة المنصورية فى تلك الليلة. فلما كان وقت السحر، من يوم الجمعة، وحضر السلطان والخليفة إلى التربة، والخليفة لابس السواد، وخطب الخليفة خطبة بليغة. حرض فيها على أخذ العراق، وكان يوما مشهودا. وتصدق السلطان بصدقات وافرة، وعاد هو والخليفة إلى قلعة الجبل «1» .
وكتب السلطان إلى دمشق أن يعمل مهم «2» ، مثل ما عمل بالقبة المنصورية.
فاهتم «3» الأمير علم الدين الشجاعى نائب السلطنة بدمشق بذلك. وجمع الناس له فى ليلة الإثنين، حادى عشر الشهر، بالميدان الأخضر، أمام القصر الأبلق. واجتمع الناس لتلاوة القرآن، من ظهر يوم الأحد إلى نصف الليل، من ليلة الإثنين.
ثم تكلم الوعاظ، وانصرف الناس فى بكرة النهار «4» .
ذكر متجددات كانت بدمشق
فى هذه السنة، فى شوال شرع الأمير علم الدين الشجاعى، نائب السلطنة بدمشق، فى عمارة آدر «5» بقلعتها اقترحها السلطان عليه. واهتم بذلك، وطلب الرخام(31/221)
من سائر الجهات. وكملت عمارة ذلك، فى آخر سنة إحدى وتسعين.
وفيها، فى تاسع شوال، أمر السلطان الملك الأشرف بالقبض على الأمير سيف الدين قرارسلان «1» ، وجمال الدين أقوش الأفرم المنصوريين، فقبض عليهما الأمير علم الدين الشجاعى واعتقلهما بالقلعة. وأقطع السلطان إقطاعيهما «2» للأميرين عز الدين أزدمر العلائى، وشمس الدين سنقر المسّاح.
وفيها، فى ثانى شوال، أمر الأمير علم الدين الشجاعى، بإخراب ما على جسر الزلابية بدمشق، من الحوانيت، وبإخراب جميع ما هو مبنى على نهر بانياس «3» ونهر المجدول من تحت القلعة، إلى باب الميدان الأخضر، وإلى الخانقاه، فأخربت المسايح «4» ودار الصناعة، وبيوت ومساكن وخانات ودار الضيافة، وحمام كان بنى للملك السعيد، والمسايح «5» التى على نهر بردى، والسقاية التى تعرف بالعجمى، وسقاية أرجواش، ولم يبق غير المساجد «6» .
وفيها، فى يوم الخميس، ثالث عشر ذى الحجة، زاد الأمير علم الدين [الشجاعى] فى الميدان الأخضر الصغير، الذى فيه القصر الأبلق، مقدار سدسه من جهة الشمال إلى قريب النهر، حتى صار بين حائط الميدان والنهر مقدار ذراع ونصف ذراع بالعمل «7» . وقسم الحيطان على الأمراء والأجناد وبعض(31/222)
عوام البلد. وعمل هو بنفسه ومماليكه، فلم يوفر أحد نفسه من العمل، فكانت عمارة ذلك فى يومين «1» .
وفيها، فى العشر الآخر «2» من ذى الحجة، قبّض على الشيخ سيف الدين الرجيحى «3» وهو من ذرية الشيخ يونس. وجهز من دمشق إلى الباب السلطانى، على خيل البريد.
وفى هذه السنة، فى أوائلها، كملت عمارة قلعة حلب. وكان الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى، نائب السلطنة بحلب، قد شرع فى عمارتها فى الأيام المنصورية، فكملت الآن، وكتب عليها اسم السلطان الملك الأشرف.
وكان هولاكو قد خرّبها كما تقدم «4» ذكر ذلك.
وفيها، فى يوم الخميس، ثالث عشر رجب، كانت وفاة الأمير بهاء الدين يمك «5» الناصرى، مقدم الميسرة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، بمقبرة الرباط الناصرى. وكان رجلا عاقلا قليل الاجتماع بالناس «6» .(31/223)
وفيها، كانت وفاة الأمير سابق الدين لاجين العمادى، رحمه الله تعالى.
كان يتولى الأعمال القوصية قديما، فى «1» الدولة المعزية، إلى أوائل الظاهرية.
وعّمر بمدينة قوص مدرسة معروفة به. ثم ولى فى الدولة الظاهرية الأعمال الشرقية. وكانت وفاته بالقاهرة، فى العشر الآخر «2» من شهر رمضان منها، وذلك بعد عزله من الأعمال الشرقية، وعمر نحو اثنتين وثمانين سنة. وكان دينّا خيرا، كثير الصدقة والإحسان، أمينا عفيفا، ما سمع عنه، أنه ارتكب معصية قط، ولا شرب خمرا، ولا ارتشى، ولا أتى مكروها. وكان محترما عند الملوك.
وأصله مملوك الصاحب عماد الدين، وزير صاحب الجزيرة. ثم أنتقل مع أستاذه فى أواخر الدولة الكاملية، وتقدم فى الدولة الصالحية وما بعدها، وولى الولايات. وكانت الولايات يومذاك لا يصل إليها إلا أكابر الأمراء وتقاتهم، رحمه الله «3» تعالى.
وفيها، فى العشرين الأخر، من شهر رمضان، توفى الأمير علاء الدين أيدكين الصالحى، نائب السلطنة بصفد بها، رحمه الله «4» تعالى.
وفيها، كانت وفاة الأمير سيف الدين قطز المنصورى. وكان من أكابر المماليك المنصورية، وأكابر الأمراء. وكانت وفاته بحمص. وكان مجردا بها، رحمه الله تعالى.(31/224)
واستهلت سنة إحدى وتسعين وستمائة [691- 1291/1292]
فى هذه السنة، فى يوم الجمعة، رابع عشر صفر، وقع بقلعة الجبل حريق عظيم فى بعض الخزائن، وأتلف شيئا كثيرا من الذخائر والنفائس والكتب «1» .
وفيها، فى يوم الخميس، حادى عشر شهر ربيع الأول، أمر السلطان أن يجمع القراء والعلماء والأكابر، بالقبة المنصورية، لقراءة ختمة شريفة، فاجتمع الناس لذلك. ونزل السلطان من الغد، لزيارة قبر والده، وتصدق بأموال جزيلة.
وفيها، فى تاسع عشرين شهر ربيع الأول، فى يوم الجمعة، خطب الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد، بجامع قلعة الجبل، خطبة بليغة، حث فيها على الجهاد، وأمر بالنفير، وصلّى بالناس الجمعة.
ذكر توجه السلطان إلى الشام «2»
وفى هذه السنة، فى الساعة الثامنة من يوم السبت، ثامن شهر ربيع الآخر استقل ركاب السلطان إلى جهة الشام، بجميع العساكر. فوصل إلى دمشق، فى يوم السبت سادس جمادى الأولى، وأمر بالنفقة على جميع العساكر فى ثامن(31/225)
الشهر، ووصل صاحب حماه لتلقى السلطان «1» . ثم عرض السلطان الجيوش، وقدمهم «2» أمام ركابه إلى جهة حلب، وتوجه هو من دمشق فى الساعة الخامسة من يوم الاثنين، سادس عشر جمادى الأولى، ووصل إلى حلب فى ثامن عشرين الشهر «3» .
ذكر فتوح قلعة الروم وتسميتها قلعة المسلمين «4»
كان فتوح هذه القلعة، فى يوم السبت، حادى عشر رجب، سنة إحدى وتسعين وستمائة. وذلك أن السلطان رحل من حلب بسائر العساكر المصرية والشامية، فى رابع جمادى الآخرة، ونزل على قلعة الروم، يوم الثلاثاء ثامن الشهر وحاصرها وضايقها، ونصب عليها عشرين منجنيقا، خمسة منها إفرنجية، وخمسة عشر قرابغا وشيطانية «5» . ورمى بالمجانيق، وعملت النقوب، فيسّر الله فتحها. وكانت مدة المقام عليها، إلى أن فتحت، ثلاثة وثلاثين يوما. وكان للأمير علم الدين الشجاعى فى فتحها النصيب الأوفى، فإنه تحيلّ فى عمل سلسلة بالقرب من شراريف القلعة، [وأوثق طرفها بالأرض، فتمسك الجند بها، وطلعوا إلى القلعة] «6» . وكان ممن طلع إلى القلعة، سيف الدين أقجبا، أحد مماليك(31/226)
الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، ولم يكن من أعيان مماليكه، بل كان فى خدمة ولده صلاح الدين خليل. فتحيل وطلع إلى سور القلعة، وقاتل قتالا شديدا، وجرح ثم رجع، والسلطان ينظر إليه. فسأل عنه، فعرف به، فأرسل إليه خلعة، وأنعم عليه بمال، ووعده بإقطاع، وأمر أستاذه الأمير بدر الدين، أن يذكر السلطان به، إذا عاد إلى حلب، فلم يفعل. ثم صار بعد ذلك، من جملة مقدمى الحلقة. وتأمّر بعد ذلك، فى سنة تسع عشرة وسبعمائة بطبلخاناة، وتولى عمل الفيوم من الديار المصرية. وفتحت القلعة عنوة «1» ، وقتل من كان بها من المقاتلة، وسبيت النساء والذرية، ووجد فيها بطرك الأرمن، فأخذ أسيرا. ومحا السلطان عن هذه القلعة، تسميتها بالروم، وسماها قلعة المسلمين.
ووصل إلى الزرد خاناة السلطانية، من الأسرى ألف أسير ومائتا أسير. واستشهد عليها من الأمراء: الأمير شرف الدين بن الخطير، وشهاب الدين بن ركن الدين أمير جاندار. ورتب السلطان الأمير علم الدين الشجاعى لعمارة القلعة، وأمره بإخراب ربضها وابعاده عنها. فتأخر لذلك، وصحبته عسكر الشام «2» .
ولماتم هذا الفتح، أنشئت كتب البشائر إلى الممالك. وكان مما كتب إلى دمشق، كتاب عن السلطان إلى قاضى القضاة شهاب الدين الخويى «3» ونسخته:(31/227)
بسم الله الرحمن الرحيم، أخوه خليل بن قلاوون.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامى، القاضى الأجل،- وذكر القابه ونعوته- خصه الله بأنواع التهانى، وأتحفه بالمسرات التى تعوّذ بالسبع المثانى.
وأورد على سمعه، من بشائر نصرنا وظفرنا، ما يستوعب فى وصفه ومدحه الألفاظ والمعانى.
نبشره «1» بفتح ما سطرت الأقلام إلى الأقاليم أعظم من بشائره، ولا نشرت برد المسرات، بأحسن من إشارته وأشائره. ولا تفوهت ألسنة خطباء هذا العصر على المنابر، بأفصح من معانيه، فى سالف الدهر وغابره، وهو البشرى بفتح قلعة الروم، والهنا لكل من رام بالإسلام نصرا ببلوغ مارام وما يروم. [ونقصّ «2» ] أحسن قصص هذا الفتح المبين، والمنح الذى تباشر به سائر المؤمنين، ونساوى فى الإعلان والإعلام به كل من قرّ عينا من الأبعدين والأفربين. ونخضّ بمصرى مبشراته الحكام ليعمّوا بنشرها عامة الناس. ونفرض لكل ذى مرتبة عليه منه نصيبا يجمع من الابتهاج والأنواع والأجناس. وذلك أنا ركبنا لغزوها، من مصر، وقد كان من قبلنا من الملوك، يستبعد مداها، ويناديها فلا يجيب إلا بالصد والإعراض صداها، ويسائل عن جبالها «3» ؛ فتحيل فى الجواب على النسور المهومة، ويستشير «4» أولى الرأى فى حصرها، فلا يسمع إلا الأقوال المثلوبة والأراء(31/228)
المتلومة، ومازلنا نصل السرى «1» ، ونرسل الأعنة إلى نحوها، فتمدّ الجياد أعناقها إليها مدا، ينقطع بين قوتها وقوته السير. واستقبلنا من جبالها «2» كل صعب المرتقى، وعر «3» المنتقى، شاهق لا يلقى «4» به مسلك ولا يلتقى. فما زالت العزائم الشريفة تسهل «5» حزونه، والشكائم تفجر «6» بوقع السنابك على حجارته «7» عيونه «8» ، والجياد المطهمة ترتقى، مع امتطاء متونها بدروع الحديد متونه. فلما أشرف عليها منا أشرف سلطان، جعل جبلها دكا، وحاصرناها حصارا ألحقها بعكا وأخواتها، وإن كانت أحصن من عكا. ونصبنا عليها عدة مجانيق تنقض حجارتها انقضاض النسور، وتقبض «9» الأرواح من الأجسام وإن ضرب بينها وبينهم بسور، وتفترس أبراجها بصقور صخور افتراس الأسد الهصور. هذا والبقوب تسرى فى بدناتها سريان الخيال، وإن كانت جفونها المسهدة، وعمدها الممددة وحفظنها المجندة، ورواسيها على جبل الفرات موطدة. وقد خندقوا عليها خندقا(31/229)
جرت فيه الفرات من جانت ونهر مرزبان من جانب، ووضعها واضعها على رأس جبل يزاحم الجوزاء بالمناكب، وسفح صرحها الممدد فكأنه عرش لها على الماء وإذا رمقها طرف رائيها اشتبهت عليه بأنجم السماء. وما زالت المضايقة تقص «1» من حبلها «2» أطرافه، وتستدر «3» بحلبها «4» أخلافه، وتقطع بمسائل جلاد معاولها وجدالها خلافه. وتورد عليها من سهامها كل إيراد لا يجاوب إلا بالتسليم، وتقضى عليها بكل حكم لا تقابل توبته إلا بالتحكيم.
ولما أذن الله بالفتح الذى أغلق على الأرمن والتتار أبواب الصواب، والمنح الذى أضفى «5» على أهل الإيمان من المجاهدين أثواب. الثواب. فتحت هذه القلعة بقوة الله ونصره، فى يوم السبت حادى عشر شهر رجب الفرد. فسبحان من صهل صعبها، وعجل كسبها، وأمكن منها ومن أهلها، وجمع شمل الممالك الإسلامية بشملها. فالمجلس السامى يأخذ خطه من هذه البشرى، التى بشرت بها ملائكة السماء، ملك البسيطة وسلطان الأرض. وتكاثر على شكرها كل من أرضى الله طاعة وأغضب من لم يرض، من ذوى الإلحاد «6» ، وممن حاد الله [و] حاد،(31/230)
وممن ينتظر من هذا الإيعاز «1» إنجاز الإيعاد، فلا ينجيه الإمضاء «2» هربا ولا الإبعاد.
فإنه بفتح «3» هذه القلعة وتوقلها «4» ، وحيازة ثغرها ومعقلها، تحقق من بسيحون وجيحون، أنهم بعد فتح باب الفرات، بكسر أقفال هذه القلعة لا يرجونّ أنهم ينجون «5» .
وما يكون بعد هذا الفتح، إن شاء الله إلا فتح المشرق والروم والعراق، وملك البلاد من مغرب الشمس إلى مطلع الإشراق. والله تعالى يمدنا من دعواته الصالحه، بما تعدو به عقود الآمال حسنة الانساق، إن شاء الله.
كتب يوم الفتح المبارك سنة إحدى وتسعين وستمائة، حسب المرسوم الشريف «6» .
وكتب عن الأمير علم الدين الشجاعى، نائب السلطنة بدمشق، إلى قاضى القضاة، شهاب الدين الخويى «7» أيضا. وهو من إنشاء الفاضل شرف الدين القدسى، ما مثاله بعد البسملة:(31/231)
ضاعف الله مسار الجناب العالى المولوى الفضائى الشهابى- وذكر القابه ونعوته- ولا زالت وفود البشائر إليه تنرى، وعقود النهانى تنص «1» إليه نظما ونثرا. وفواتح الفتح تتلى عليه لكل آية نصر يسجد لها القلم فى الطرس شكرا، وتشتمل على أسرار الظفر فيأنى الإسماع من غرابتها بما لم يحط به خبرا «2» .
وتتحفه «3» بظهور أثر المساهمة فتهدى إليه سرورا وأجرا.
المملوك يستفتح من حمد الله على ما منح من آلائه، وفتح على أوليائه، ووهب «4» من الإعداء على أعدائه، ويسرّ من الظفر الذى أيد فيه بنصره وأمدّ بملائكة سمائه، ما يستديم الإنجاد بحوله، ويستزيد به الأمداد من فضله وطوله. ويوالى «5» من الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما يستدر «6» به أخلاف الفتوح، ويسترهف بيمنه الصوارم التى هى على من كفر بالله ورسوله دعوة نوح. ويهدى من البشائر ما تختال به أعطاف المنابر سرورا، ويتعطر بذكره أفواه المحابر حبورا، وترشف «7» الأسماع موارد وارده، فيستحيل فى قلوب الأعداء(31/232)
نارا وفى قلوب الأولياء نورا. ويبادر مساهمة الحاضر فى استماعه كل باد «1» فينقلب إلى أهله مسرورا.
وينهى أنه أصدرها والنصر قد خفقت بنوده، وصدقت وعوده، وسار بمختلفات البشائر فى كل قطر بريده. والأعلام الشريفة السلطانية، قد امتطت من قلعة الروم صهوة لم تذلّ لراكب. وحلت من قنتها «2» وفلتها بين الذروة والغارب.
وأراقت أسنتها من دمائهم ما ترك الفرات «3» لا يحل «4» لشارب. ومدّ الأيمان بها أطنابه، وأعجلت السيوف المنصورة الشرك أن يضم للرحلة أثوابه. واستقرت بها قدم الإسلام ثابتة إلى الأبد، وقتّلت بأرجائها، سيوف أهل الجمعة، حتى رق أهل السبت لأهل «5» الأحد. وأذهب الله عنها التثليث حتى كاد حكم الثلاثة أن يسقط من العدد، وتبرأ منهم من كان يغرهم بامداده، حتى الفرات لمجاورتهم، ودّت النقص خوفا أن يطلق على زيادتها اسم المدد. ونطق بها الأذان فخرس «6» الجرس.
وعلت بها كلمة الإيمان، فأضحت لها بعد الإبتذال آية الحرس. وأسمعت دعوة الحق ما حولها من الجبال فسمعت وهى الصم، ولبت الداعى بلسان الصدى الناطق عن شوامخها الشم.(31/233)
وكانت هذه القلعة المذكورة للثغور الإسلامية بمنزلة الشجى فى الحلق «1» ، والغلة فى الصدر، والخسوف الطارئ على طلعة البدر. لا تخلو من غل تضمره، فى لين تظهره، وغدر تستره، فى عذر تورده وتصدره. وقد سكن أهلها إلى مخادعة الجار، وموادعة التتار، وممالاتهم على الإسلام بالنفس والمال، ومساواتهم لهم حتى فى الزى والحال. يمدونهم بالهدايا والألطاف، ويدلونهم على عورات الأطراف. وهم يتقون بمسالمة الأيام، ويدعون أن قلعتهم لم تزل من الحوادث فى زمام، ويغترون بها. ولولا السطوات الشريفة، لحق بمثلها أن يغتر.
ويسكنون إلى حصانتها كلما أو مض فى حلك «2» السحب برق ثغرها المفتر.
وهو حصن صاعد منحدر، بارزه مستدير، لا يطأ إليه السالك إلا على المحاجر، ولا تنظره العيون حتى تبلغ «3» القلوب الحناجر، كأنه فى ضمائر الجبال حب يقتل وهو كامن، ويجرف الظاهر وهو باطن. قد أرخت عليه الجبال الشواهق ذوائبها، ومدت عليه الغمائم أطنابها ومضاربها. وقد تنافست فيه الرواسى الرواسخ فأخفاه بعضها عن بعض وتقاسمته العناصر فهو للنكاية والرفعة والثبات ومجاورة الفرات مشترك بين النار والهواء والماء والأرض. وقد امتدت الفرات من شرقيها كالسيف فى كف طالب ثأر، واكتنفها من جهة الغرب نهر آخر استدار نحوها كالسور وانعطف معها كالسوار. وفى قنة «4» قلتها جبل يرد الطرف وهو كليل،(31/234)
ويصل «1» النظر إلى تخيل «2» هضابه فلا يهتدى إلى تصورها بغير دليل، وكذلك من شرقها وغربها، فلا تنظرها الشمس وقت الشروق «3» ، ولا يشاهدها [القمر] وقت الأصيل. وحولها من الأودية خنادق لا يعرف فيها الهلال إلا بوصفه، ولا الشهر إلا بنصفه.
وأما الطريق إليها فيزل «4» الذرّ عن متنها. ويكل طرف الطرف عن سلوك سهلها فضلا عن حزنها. «5» وبها من الأرمن عصب جمعهم التكفور «6» ، ومن التتار فرق زيادتهم للتغوير «7» ، قد بذلوا دونها النفوس، وتدرعوا للذب عنها لبوس.(31/235)
وأقدموا على شرب كأس الحمام، خوفا أن يكفرهم التكفور؛ ويحرمهم خليفتهم الحاكم بها، كتبغا نميكوس «1» . وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم، وفسح فى ميدان الضلالة آمالهم، فلما تراءت الفئنان، نكص على عقبية، وترك «2» كلا منهما «3» يعض من الندم يديه. وحين أمر مولانا السلطان، خلّد الله سلطانه، الجيوش المنصورة بالنزول عليها، والهجوم من خلفها ومن بين يديها، ذللت مواطىء جيادها صهوات تلك الجبال. وأحاطت بها من كل جانب إحاطة الهلال بالهلال. وسلكوا إليها تلك المخارم «4» ، وقد تقدمهم «5» الرعب هاديا وأقدموا على [قطع] «6» تلك المسالك والمهالك، بالأموال والأنفس، ثقة بأنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا. فلم يكن بأسرع من أن طار إليهم الحمام، فى أجنحة السهام. وخضّبت «7» الأحجار تلك الغاده العذراء «8» للضرورة،(31/236)
وللضرورات أحكام. وأزالت «1» النقابة عنها نقاب احتشامها. ودبّت فى مفاصلها دبييب السقم فى عظامها، مع أنها مستقرة على الصخر الذى لا مجال فيه للحديد، ولكن الله أعز بالنصر سلطاننا فجاءت أسباب الفتح على ما يريد. وأقيمت المجانيق المنصورة أمامها فأيقنوا بالعذاب الأليم، وشاموا بروق الموت من عواصف أحجارها التى ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وساهموها صلاة الخوف، فلسهامهم الركوع، ولبروجهم السجود، ولقلعتهم التسليم. ولم تزل تشن عليهم غارة بعد غارة، وتسقيهم على الظمأ صوب «2» أحجارها، وإن من الحجارة، وهى مع ذلك تظهر الجلد والجد، وتغضب غضب الأسير، على القد.
وتخفى ما تكابد من الألم، وتشكو بلسان الحال شكوى الجريح إلى العقبان والرخم، إلى أن جاءت «3» من الأنجاد «4» ما كانوا يأملون. وسطت مجانيقنا «5» على مجانيقهم فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون. وكلما سقطت أسوارها، وتهتكت بيد النقوب «6» أستارها، وتوهم الناظر أنها هانت، رآها المباشر فى تلك الحالة(31/237)
أشد ما كانت، وثبتت على الرمى والارتماء، وعزّت «1» على من اتخذ نفقا فى الأرض أو سلّما فى السماء، واستغنت بمكان السور، وانفضت أحجارها على أسوار الحرب انقضاض النسور.
وكان الفتح المبارك فى صباح يوم السبت، حادى عشر رجب الفرد، سنة إحدى وتسعين وستمائة بالسيف عنوة. فشفت «2» الصوارم من أرجاس الكفر العلل «3» بقمع «4» العدى وكبتها. وسطا خميس الأمة يوم السبت، على [أهل] «5» يوم الأحد، فبارك الله لخميس الأمة فى سبتها.
فليأخذ [القاضى] «6» من هذه البشرى، التى أصبح الدين بها عالى المنار، بادى الأنوار. ضارب مضارب دعوته على الأقطار، ذاكرا بموالاة «7» القتوح أيام الصدر الأول من المهاجرين والأنصار. وليشعها على رءوس الإشهاد(31/238)
ويجعلها فى صحف الفتوح السالفة بمنزلة المعنى فى القرينة والمثل فى الاستشهاد.
ويمدّ الجيش بهمته التى ترهف الهمم، وأدعيته التى تساعد الساعد وتؤيد اليد وتقدم القدم. ويشارك بذلك فى الجهاد حتى يكون فى نكاية الأعداء على البعد كسهم أصاب ورامية بذى سلم. ويستقبل من البشائر بعدها ما تكون له هذه بمنزلة العنوان فى الكتاب، والأحاد فى الحساب، وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأول قبل طلوع طلعة الشمس.
والله تعالى يجعل شهاب فضله لامعا، ونور علمه فى الأفاق ساطعا، ويتحفه من مفرقات «1» التهانى بكل ما يغدو «2» لشمل المسرات جامعا، إن شاء الله تعالى.
كتب فى يوم الفتح المذكور «3» .
وكتب غير ذلك من كتب البشائر، اقتصرنا منها على ما أوردناه «4» .
ثم رحل السلطان من قلعة الروم إلى حلب، فأقام بها بقية شهر رجب، ونصف شعبان. وعزل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى عن نيابتها.
ورتب بها الأمير سيف الدين بلبان الطباخى المنصورى. وجعل الأمير عز الدين أيبك الموصل شاد الدواوين.(31/239)
وقيل إنه ولاه قلعة الروم «1» وما جمع إليها، فامتنع من قبول هذه الولاية. فغضب السلطان وأمر بالقبض عليه، وفوض ذلك إلى الأمير جمال الدين أقش الفارسى فبقى بها أياما وتوفى، فأعاد السلطان الأمير عز الدين الموصلى. ورحل السلطان عن حلب إلى دمشق، فكان وصوله إليها، فى يوم الثلاثاء العشرين من شعبان فأقام بها بقية شعبان وشهر رمضان وبعض شوال.
وفيها، حصل لجمال العسكر مرض، سلّت منه حتى جانت الوطاقات منها. ولم يجد الأمراء من الجمال ما يحملون عليه أثقالهم، فحملوها على البغال والأكاديش.
ذكر توجه الأمير بدر الدين بيدرا وبعض العساكر إلى جبال الكسروان واضطراب العسكر
وفى هذه السنة، فى شعبان توجه الأمير بدر الدين بيدرا بمعظم العساكر المصرية، وصحبته من الأمراء الأكابر، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، والأمير بدر الدين بكتوت الأتابكى، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى وغيرهم، وقصد جبال الكسروان. وأتاهم من جهة الساحل، الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا؛ والأمير عز الدين أيبك الحموى وغيرهما. والتقوا بالجبل» وحضر [إلى] «2» الأمير بدر الدين بيدرا من أثنى «3» عزمه. وكسر حدته. فحصل الفتور فى أمرهم، حتى تمكنوا من بعض(31/240)
العسكر، فى تلك الأوعار، ومضايق الجبال، فنالوا منهم. وعاد العسكر شبه المنهزم، وطمع أهل تلك الجبال، فاضطر الأمير بدر الدين إلى إطابة قلوبهم والإحسان إليهم. وخلع على جماعة من أكابرهم، فاشتطوا فى الطلب، فأجابهم إلى ما التمسوه، من الإفراج عن جماعة منهم، كانوا قد اعتقلوا بدمشق، لذنوب وجرائم صدرت منهم. وحصل للكسروان من القتل والنهب والظفر، ما لم يكن فى حسابهم. وحصل للأمراء والعسكر من الألم لذلك، ما أوجب تصريح بعضهم بسوء تدبير الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، ونسبوه إلى أنه إنما أهمل أمرهم، وفتر عن قتالهم، حتى تمكنوا مما تمكنوا منه لطمعه، وأنه تبرطل منهم وأخذ جملة كثيرة، ولهج الناس بذلك. وتوجه الأمير بدر الدين بيدرا بالعساكر إلى دمشق. فتلقاه الملك الأشرف، وأقبل عليه وترجل لترجله عند السلام [عليه] «1» . فلما خلا به، أنكر عليه سوء اعتماده وتفريطه فى العسكر، فمرض لذلك، حتى أشاع «2» الناس أنه سقى. ثم عوفى فى العشر الأوسط من شهر رمضان، فتصدق السلطان بجملة كثيرة، شكرا لله تعالى على عافيته، وأطلق جماعة كثيرة ممن كان فى السجون. وتصدق هو أيضا بجملة، ونزل عن كثير مما كان قد اغتصبه من أملاك الناس، بالإيجار «3» الذى هو على غير الوجه الشرعى. وجمع العلماء والقضاة والقراء والمشايخ، فى العاشر من شهر رمضان، بالجامع بدمشق لقراءة ختمة. وأشعل «4» الجامع فى هذه الليلة، كما(31/241)
يشعل «1» فى نصف شعبان.
ذكر هرب الأمير حسام الدين لاجين والقبض عليه واعتقاله، والقبض على طقصوا «2»
وفى هذه السنة، فى ليلة عيد الفطر، هرب الأمير حسام الدين لاجين من داره بدمشق. فنودى عليه، من أحضره فله ألف دينار، ومن أخفاه شنق.
وركب السلطان فى خاصكيته وجماعة من الأمراء. وترك سماط العيد، وساق فى طلبه، وعاد بعد العصر، ولم يظفر به. «3»
واتفق أنه التجأ إلى طائعة من العرب كان يثق بصحبتهم. فقبضوا عليه وجىء به إلى السلطان فاعتقله. وقبض أيضا على الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا، وجهز إلى قلعة الجبل. وكان السبب فى القبض على طقصوا، أنه كان قد تكلم على الأمير بدر الدين بيدرا. وقال إنه ارتشى من الكسروان.
فوجد بيدرا عليه، وأسرها فى نفسه، وتربص به الدوائر. فلما قبض على الأمير حسام الدين لاجين، خاطب بيدرا السلطان فى القبض على طقصوا، لأن لاجين كان قد تزوج ابنته، فقبض عليه.
ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام والفتوحات وعود السلطان إلى الديار المصرية
وفى هذه السنة، فوض السلطان نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير عز الدين أيبك(31/242)
الحموى الظاهرى، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الشجاعى. وفوّض نيابة السلطنة بالفتوحات «1» للأمير سيف الدين طغريل الإيغانى «2» ، عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، بحكم انتقاله إلى نيابة السلطنة بالمملكة الحلبية كما تقدم «3» . ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل. وكان رحيله من دمشق، فى الثلث الآخر من ليلة الثلاثاء عاشر شوال. وكان قد رسم لأهل الأسواق بدمشق أن يخرج كل واحد منهم، وبيده شمعة يوقدها، عند ركوب السلطان، فخرجوا بأجمعهم.
ورتبوا من باب النصر [أحد أبواب دمشق] «4» ، إلى مسجد القدم. ولما ركب السلطان، اشتعلت تلك الشموع، وساق وهى كذلك إلى نهاية ذلك الجمع.
وكان وصول السلطان إلى قلعة الجبل، فى يوم الأربعاء ثانى ذى القعدة.
ذكر عدة حوادث كانت فى خلال فتح قلعة الروم وقبله وبعده
فى هذه السنة، فى أو آخر شهر ربيع الآخر، ورد البريد من الرحبة إلى دمشق، يخبر أن طائفة من التتار، أغادوا على ظاهر الرحبة، واستاقوا مواشى كثيرة. فجرد نائب السلطنة إليها جماعة من عسكر دمشق، فى ثامن عشرين الشهر «5»(31/243)
وفيها، فى العشر الأوسط من جمادى الأولى، تزوج الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، بابنة الصاحب شمس الدين بن السلعوس، على صداق مبلغه ألف دينار وخمسمائة دينار عينا، عجّل من ذلك خمسمائة دينار.
وفيها، بعد أن توجه السلطان إلى قلعة الروم بأيام يسيرة، تسوّر عبد أسود إلى أسطحة أدر الحرم السلطانية بقلعة دمشق. فأمسك وقررّ، فذكر أن أحد المؤذنين بجامع القلعة نصب له سلّما، وأصعده إلى هناك. فطولع السلطان بذلك، فورد المرسوم بقطع أطرافهما وتسميرهما، ففعل ذلك بهما «1» .
وفيها، فى شعبان طلّق الملك المظفر، صاحب حماه، زوجته، وهى ابنة خاله الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ابن الملك العزيز محمد، ابن الملك الظاهر غازى، ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعاب الناس عليه ذلك، واستقبحوه [منه] «2» . وتوجهت هى من حماه إلى الديار المصرية، فتوفيت بعد وصولها إليها بعشرين يوما.
وفيها، بعد أن توجه السلطان من دمشق إلى الديار المصرية، استعفى القاضى محيى الدين بن النحاس، من مباشرة نظر الدواوين بالشام، فأعفى من ذلك.
ورتب فى نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين بن هلال. ورتب فى نظر الدواوين جمال الدين إبراهيم بن صصرى.
وفيها، أفرج السلطان عن الأمير علم الدين سنجر الدوادارى، بعد عوده من قلعة الروم، وأمر بإحضاره من الديار المصرية إلى دمشق، فأحضر. فخلع عليه السلطان، واستصحبه معه إلى الديار المصرية وأمرّه.(31/244)
وفيها، رتب السلطان الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصورى، فى تقدمة المماليك السلطانية «1» .
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وجرمك الناصرى ووفاتهما، ووفاة طقصوا والإفراح عن الأمير حسام الدين لاجين
وفى هذه السنة، لما عاد السلطان إلى الديار المصرية، قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصرى. وأمر باعدامهما، وإعدام طقصوا ولاجين. فكان الذى تولى خلق لاجين، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، فتلطف به، وانتظر أن تقع به شفاعه.
فشفع فيه الأمير بدر الدين بيدرا، فأمر السلطان بالإفراج عنه، وهو يظن أنه قدمات «2» . فسلّمه الله تعالى، لما كان له فى طى الغيب ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى «3» . وقيل إن السلطان قبض على سنقر الأشقر من دمشق.
وفيها، فى منتصف شهر رمضان، توفى القاضى فتح الدين محمد ابن القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بسفح قاسيون. ومولده فى أحد الربيعين «4» ، سنة ثمان وثلاثين وستمائة. وكان قد تمكّن فى الدولة المنصورية، والدولة(31/245)
الأشرفية تمكنا كثيرا، وتقدم على أبيه وغيره. ولما اعتلّ، رحمه الله، كتب إلى أبيه:
إن شئت تنظرنى وتنظر حالتى ... قابل إذا هب النسيم قبولا
لتراه مثلى رقة ولطافة «1» ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا
وهو الرسول إليك منى ليتنى ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
ولما مات، أجرى السلطان الملك الأشرف جامكيته وجرايته وراتبه، على ولده القاضى، علاء «2» الدين على، واستقر فى جملة كتاب الإنشاء. وولىّ صحابة ديوان الإنشاء، بعد وفاة القاضى فتح الدين، القاضى تاج الدين أبو الظاهر أحمد ابن القاضى شرف الدين أبى البركات سعيد بن اشمس لدين أبى جعفر محمد ابن الأثير الحلبى التنوخى، فلم يلبث إلا شهرا أو قريبا من شهر، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وكانت وفاته، يوم الخميس تاسع عشر شوال من هذه السنة، بظاهر غزة، ودفن هناك رحمه الله تعالى. وولى بعده صحابة ديوان الإنشاء، ولده القاضى عماد الدين إسماعيل، واستمر إلى آخر سنة اثنتين وتسعين وستمائة «3» وفيها، فى يوم السبت العشرين من شوال، توفى الأمير سابق الدين الميدانى بدمشق، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى.(31/246)
واستهلت سنة اثنتين وتسعين وستمائة [692- 1292/1293]
فى هذه السنة، فى أولها فوض السلطان نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والحصون، إلى الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، عوضا عن الأمير سيف الدين طغربل الإيغانى «1» ، بحكم استعفائه من النيابة، وسؤاله. فوصل إلى دمشق فى سابع عشرين المحرم، وصحبته خمسة أمراء بطبلخاة، وتوجه إلى جهته.
وفيها، فى صفر، حصل ببلاد غزة والرملة ولد «2» والكرك «3» ، زلزلة عظيمة، كان معظمها بالكرك، فإنها هدمت ثلاثة أبراج من قلعتها. فندب الأمير علاء الدين أيدغدى الشجاعى من دمشق، وصحبته الصناع لعمارة ما انهدم بالكرك.
وفيها، أمر السلطان بالقبض على الأمير عز الدين أزدمر العلائى، أحد الأمراء بدمشق: فقبض عليه، وجهز إلى الأبواب السلطانية فى غرة شهر ربيع الأول «4»(31/247)
ذكر توجه السلطان إلى الصعيد
وفى هذه السنة، توجه السلطان إلى جهة الصعيد للصيد، واستصحب معه الصاحب شمس الدين [بن السلعوس] «1» ، وترك الأمير بدر الدين بيدرا بقلعة الجبل. وانتهى السلطان إلى مدينة قوص، وتصيد بها. وأمر الحجاب والنقباء أن ينادوا «2» فى العسكران يتجهزوا لغزو اليمن. ثم عاد السلطان إلى قلعة الجبل.
ولما كشف الصاحب شمس الدين [بن السلعوس] «3» الوجه القبلى فى هذه السفرة، وجدت الجهات الجارية فى ديوان الأمير بدر الدين بيدرا من الافطاعات والمشتروات «4» والحمايات «5» ، أكثر مما هو جار فى الخاص السلطانى.
ووجد الشون «6» السلطانية «7» بنواحى الوجه القبلى، خالية من الغلال والحواصل، وشون الأمير بدر الدين بيدرا مملوءة. فأنهى ذلك إلى السلطان وأطلعه عليه، فتغير السلطان على بيدرا. واتصل هذا الخبربه، فقصد تلافيه. وجهز للسلطان تقدمة عظيمة، كان من جملتها، خيمة أطلس معدنى أحمر، بأطناب ابريسم «8»(31/248)
بأعمدة صندل، محلاة ومفصلة «1» بالفضة المذهبة، وبسطها «2» ببسط الحرير، وما يناسب هذه الخيمة من التقادم. وضرب هذه الخيمة بالعدوية «3» ، فنزل السلطان بها ساعة من نهار، وما أظهر البشاشة للتقدمة «4» ، ولا استحسنها مع عظمها.
ثم ركب وطلع إلى قلعة الجبل، وارتجع بعض جهات بيدرا للخاص [السلطانى] «5»
ذكر توجه السلطان إلى الشام وأخذ بهسنا من الأرمن، وإضافتها الى الممالك الإسلامية
وفى هذه السنة، بعد عود السلطان من جهة الصعيد، تجهز بعساكره إلى إلى الشام. وأمر الأمير بدر الدين بيدرا، أن يتوجه بالعساكر إلى دمشق على الطريق الجادة «6» . وتوجه الصاحب بالخزانة إليها، وركب السلطان على الهجن، وفى خدمته جماعة من الأمراء والخاصكية. وتوجه إلى الكرك وشاهد حصنها ورتب أموالها، وتوجه منها إلى دمشق. فكان وصوله إليها، فى تاسع جمادى الآخرة. ووصل نائب السلطنة والصاحب قبله بثلاثة أيام.
ولما حلّ ركابه بدمشق، أمر بتجهيز العساكر إلى بلاد سيس، فوصل رسل صاحب سيس، يسألون مراحم السلطان وعواطفه، ويبذلون له الرغائب.(31/249)
فاتفق الحال على أن يسلموا لنواب السلطان بهسنا ومرعش وتل حمدون. فأعاد السلطان رسله، وصحبتهم الأمير سيف الدين طوغان والى بر دمشق، فتسلمها وبلادها. ووصل البريد بذلك فى العشر الأول من شهر رجب. ودقت البشائر لذلك. ورتب السلطان فى نيابة السلطنة ببهسنا «1» ، الأمير بدر الدين بكتاش المنصورى، وعين لها قاضيا خطيبا. واستخدم بها رجالا وحفظة. ثم وصل الأمير سيف الدين طوغان، وصحبته رسل سيس، بالحمل والتقادم. وكان وصولهم إلى دمشق، فى ثامن عشرين شهر رجب بعد عود السلطان، فتوجهوا إلى الديار المصرية.
وهذه بهسنا من أعظم القلاع وأحصنها، ولها ضياع كثيرة. وهى فى فم الدربند «2» ، وكانت بيد ملوك الإسلام بحلب، إلى أن ملك هولاكو حلب.
وكان النائب بها من جهة الملك الناصر، الأمير سيف الدين العقرب، فأباعها لصاحب سيس، بمائة ألف درهم، أعطاه منها ستين ألف درهم، وتسلمها الأرمن [أهل سيس] «3» ، وبقيت فى أيديهم إلى الآن «4» .
ذكر القبض على الأمير حسام الدين مهنا ابن عيسى وأخوته
وفى هذه السنة، فى ثانى «5» من شهر رجب، توجه السلطان من دمشق إلى(31/250)
حمص، بجماعة من العساكر، وأعاد ضعفة العساكر إلى الديار المصرية. ثم توجه السلطان من حمص إلى سلمية، فى ضيافة الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى.
فلما قدّم للسلطان ضيافته، أمر بالقبض عليه، وعلى إخوته فقبض عليهم «1» ، وهو على الطعام، وجهّزه تحت الاحتياط، صحبة الأمير حسام الدين لاجين، فوصل به إلى دمشق، فى يوم الأحد سابع شهر رجب. ووصل السلطان إلى دمشق، فى بقية النهار. وجعل السلطان إمرة العرب، بعد القبض على مهنا، لابن عمه الأمير محمد بن أبى بكر على بن حذيفة «2» . ثم أمر السلطان الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة، أن يتوجه بالعساكر إلى الديار المصرية، هو والصاحب شمس الدين والخزانة، كما حضرا [من حمص] «3» . فتوجها من دمشق فى يوم الخميس حادى عشرة شهر رجب. وتوجه السلطان بعدهما، ببعض الأمراء والخاصكية. وركب من دمشق فى الساعة السابعة من يوم السبت ثالث عشر الشهر. وأراد بذلك الانفراد بنفسه وخواصه، والأنفراد بهم «4» فى الصيد، وأن لا يشتغل بالعساكر. ووصل إلى غزة، فى بكرة يوم الأربعاء سابع عشر الشهر.
ووصل إلى القاهرة فى الثامن والعشرين من شهر رجب «5» .
ذكر هدم قلعة الشوبك
وفى هذه السنة، فى شهر رجب، أمر السلطان الأمير عز الدين أيبك(31/251)
الأفرم، أمير جاندار أن يتوجه إلى قلعة الشوبك ويهدمها، وذلك عند توجه السلطان من دمشق إلى حمص. فراجعه فى ذلك، وبيّن له فساد هذا الرأى، فانتهره، فتوجه إليها وهدمها، وأبقى القلة. وكان هدمها من الخطأ، وسوء التدبير، فإن الفلاع والحصون معاقل الإسلام، وذخائر المسلمين، وإليها يلجأون فى أوقات الشدائد والحصارات، ومنازلة الأعداء، وهو أمر لا يؤمن «1» .
[وبعد عود السلطان إلى الديار المصرية] «2» ، رسم السلطان للأمير سيف الدين طوغان، أن يتوجه إلى نيابة السلطنة، بقلعة المسلمين «3» ، عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى. وولى الأمير سيف الدين استدمر «4» كرجى بر «5» دمشق، عوضا عن طوغان.
ذكر حادثة السيل ببعلبك
وفى هذه السنة، فى رجب، وصل كتاب النائب ببعلبك، يخبر أنه وقع على مدينة بعلبك، أمطار وثلوج كثيرة جدا، وأن المطر كان ينزل [وكانه] «6» قد جبل بطين، وأن السيل وصل إلى باب بعلبك، المسمى بباب دمشق،(31/252)
وعلا حتى وصل إلى شرفات السور. ثم انحدر بعد ذلك، واقتلع كروما كثيرة، ونقل أحجارا وصخورا، وطم أكثر الطرقات، وأنه أحصى ما أفسد ببعلبك، وكانت قيمته تزيد على مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وفيها، أمر السلطان، بالقبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار، فقبض عليه فى شوال، ووقعت الحوطة على موجوده وحواصله بالديار المصرية والشام.
ذكر ختان الملك الناصر، وما حصل من الأهتمام بذلك
وفى هذه السنة، أمر السلطان بالأهتمام، لختان أخيه الملك الناصر، ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور، وأن ينصب القبق «1» تحت قلعة الجبل مما يلى باب النصر. فنصب فى العشرين من ذى الحجة، ورماه الأمراء والأكابر ومن له ولمثله عادة بذلك. وفرّق السلطان الأموال على من أصابه. وكان ممن(31/253)
أصابه الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى. فرماه ما لم يرمه «1» غيره قبله.
وذلك أنه كان قد اقترح سرجا وطىء الرادفة «2» جدا. فلما رآه السلطان، قال له قد كبرت يا أمير بدر الدين، فاقترحت هذا السرج. ليسهل عليك الركوب.
فقال: إن كان المملوك قد كبر، فقد رزقت ستة أولاد، وهم فى خدمة السلطان ولم أكن أفترح «3» هذا السرج إلا لأجل القبق، ثم ساق الأمير بدر الدين نحو صارى القبق. والعادة جارية أن الرامى لا يرميه إلا إذا صار بجانب الصارى، فساق إلى أن تعدى الصارى، فما شك الناس أنه فاته الرمى. ثم استلقى على ظهر فرسه، حتى صار رأسه على كفل الفرس، فرماه وهو كذلك، بعد أن تعداه، فأصاب القرعة وكسرها. فصرخ الناس لذلك واستعظموه. وظهرت للسلطان فائدة السرج، فأمر أن ينعم عليه بما بقى فى ذلك الوقت، من المال المرصد للإنعام فأعطيه، وكان خمسة وثلاثين ألف درهم. وخلع عليه، وعظم فى صدور الناس، زيادة عما عندهم من تعظيمه. وعلموا عجزهم عن الإتيان بما أتى به، وفعل ما فعله «4» ثم كان الختان المبارك، فى يوم الاثنين، الثانى والعشرين من ذى الحجة.
ونثر الأمراء الذهب الكثير فى الطشوت حتى امتلأت «5» .(31/254)
وفيها، فى ليلة الثلاثاء حادى عشر صفر، توفى الأمير الصالح شمس الدين أبو البيان، نبا ابن الأمير نور الدين أبى الحسن على ابن الأمير شجاع الدين هاشم ابن حسن بن حسين، أمير جاندار المعروف بابن المحفدار «1» ، بداره بالروضة، قبالة مصر، بعد أن صلى العشاء الآخرة، بسورة «2» (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)
فلما فرغ من الصلاة، سجد سجدة، فمات فى سجدته، وكانت عادته أن بسجد عقيب صلاته، ويدعو الله فى سجوده. ودفن من الغد فى القرافة بتربته، بقرب تربة الإمام الشافعى. وكان رحمه لله تعالى، دينا حسن السيرة والوساطة، احتوى «3» على أوصاف جميلة، يثق الملوك به ويعلمون خيره، وديانته، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى ليلة الأربعاء، ثانى عشر جمادى الآخرة، توفى الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، ابن الملك القاهر ناصر الدين محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى بن مروان، ببستانه المعروف ببستان سامه «4» ، بالسهم، ظاهر دمشق. وصلى عليه ظهر يوم الأربعاء بالجامع المظفرى، ودفن بتربته بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى «5» . ذكر وفاته «6» الشيخ شمس الدين الجزرى «7»(31/255)
وفيها، توفى القاضى محيى الدين عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر، كانت وفاته بالقاهرة فى يوم الأربعاء ثالث رجب الفرد، ودفن بالقرافة، رحمه الله تعالى. وفضائلة وشهرته بالرئاسة والآداب «1» ، تغنى عن شرح، وقد قدمنا من كلامه فى كتابنا هذا، ما يقف عليه فى مواضعه، وله شعر رقيق.
فمن شعره قوله:
ما غبت عنك لجفوة وملال ... يوما ولا خطر السلّو ببالى
يا مانعى طيب المنام وما نحى ... ثوب السقام وتاركى كالال
عن من أخذت جواز منعى ريقك ال ... عسول يا ذا المعطف العسال
عن ثغرك النظام «2» أم عن شعرك ال ... - فحام أم عن جفنك الغزالّى
فأجابنى أنا مالك شرع الهوى ... والحسن أضحى شافعى وجمالى
وشقائق النعمان أينغ نبتها ... فى وجنتى وحماه رشق نبالى
والصبر أحمد للمحبّ إذا ابتلا ... هـ الحب فى شرع الهوى بسؤال
وعلى أسارى الحبّ فى حكم الهوى ... بين الأنام عرفت بالقفّال «3»
وتفقّه العشاق فّى فكّل من ... نقل «4» الصحيح أجزته «5» بوصالى «6»(31/256)
وفيها، فى يوم الحميس، سابع عشر شعبان، كانت وفاة قاضى القضاة معز «1» الدين النعمان بن الحسن بن يوسف، قاضى الحنفية بالديار المصرية، ودفن يوم الجمعة بالقرافة. وولى قضاء الحنفية بعده، قاضى القضاة شمس الدين أحمد السروجى الحنفى.
وفيها، كانت وفاة الملك الأفضل نور الدين على ابن الملك المظفر محمود، وهو عم الملك المظفر ابن الملك المنصور صاحب حماه. وقد تقدم ذكر نسبه فى مواضع من كتابنا هذا «2» . وتوفى بدمشق فى يوم الاثنين، مستهل ذى الحجة.
وصلّى عليه بجامعها، فى الثالثة من النهار، ونقل لوقته إلى حماه، فدفن بها، رحمه الله. وهو والد الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماه فى وقتنا هذا «3» .
وفيها، كانت وفاة الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ابن الملك المسعود صلاح الدين أقسيس «4» ، ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد، ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب؛ قبل العصر من يوم الخميس، خامس شهر رجب من السنة.
ومولده بالكرك، بعد العشاء الآخرة، من ليلة الأربعاء سادس عشر شوال، سنة تسع وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى.(31/257)
واستهلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة [693- 1293/1294]
ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمهما الله تعالى
كان مقتله رحمه الله، فى يوم السبت ثانى عشر المحرم، سنة ثلاث وتسعين وستمائة. وذلك أنه توجه إلى الصيد بجهة البحيرة. وركب من قلعة الجبل فى ثالث المحرم، وعزم على قصد الحمامات الغربية. وتوجه الصاحب شمس الدين [ابن السلعوس] «1» إلى ثغر الإسكندرية، لتحصيل الأموال، وتجهيز تعابى «2» الأقمشة. فوجد نواب الأمير بدر الدين بيدرا بالثغر قد استولوا على المتاجر والاستعمالات «3» وغير ذلك. فكاتب السلطان بذلك، وعرفه أنه لم يجد بالثغر(31/259)
ما يكفى الإطلاقات «1» ، على جارى العادة. فغضب السلطان لذلك غضبا شديدا، واستدعى بيدرا بحضور الأمراء، وأغلظ له فى القول، وشتمه وتوعده. فتلطف بيدرا فى الجواب حتى خرج من بين يدى السلطان، وجمع أعيان الأمراء من خوشداشيته، وهم الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريان وغيرهما.
فاتفقوا على الوثوب به. وكان السلطان قد أعطى الأمراء الأكابر دستورا، أن يتوجهوا إلى إقطاعاتهم، وانفرد هو بخاصكيته. وفى أثناء ذلك، ركب السلطان فى نفر يسير من مماليكه للصيد بقرب الدهليز، بمنزلة تروجة «2» . فانتهز بيدرا الفرصة، وركب وصحبته لاجين وقراسنقر وبهادر، رأس نوبة، وأقسنقر الحسامى، وتوغيره «3» ، ومحمد خواجا، وطرنطاى الساقى، والطنبغا، رأس نوبة، ومن انضم إليهم.
وتوجهوا نحو السلطان، وكان بينهم وبينه مخاضة، فخاضوها وقدموا عليه. فقيل إن بيدرا ضربه بالسيف، فالتقاه بيده، فلم يعمل عملا طائلا. فسبّه لاجين، وضربه بالسيف ضربة هدلت كتفه، وأخذته السيوف حتى قتل، فى التاريخ الذى ذكرناه.(31/260)
وحكى عن شهاب الدين أحمد بن الأشل، أمير شكار، فى كيفية مقتل السلطان.
قال: لما رحل «1» الدهايز والعسكر، جاء الخبر إلى السلطان أن بنزوجة طيرا كثيرا، فساق، وأمرنى أن أسوق فى خدمته، فسقت معه. وقال لى: عجّل بنا، حتى نسبق الخاصكية. فسقنا فرأينا طيرا كثيرا، فصرع منه بالبندق. ثم التفت إلىّ، وقال لى: أنا جيعان، فهل معك ما آكل. فقلت: والله ما معى غير رغيف واحد وفروج فى صواقى «2» ، ادخرته لنفسى. فقال: ناولنيه، فتاولته له، فأكله جميعه.
ثم قال لى: امسك فرسى، حتى أنزل أبول. وكنت كثير البسط معه. فقلت:
ما فيها حيلة، السلطان راكب حصان، وأنا راكب حجر «3» ، وما يتفقان.
فقال لى: انزل أنت، واركب خلفى حتى أنزل أنا.
قال: فنزلت وناولته عنان فرسى، فامسكه. وركبت خلفه. ثم نزل وقعد على عجزه وبال، وبقى يعبث بذكره، ويمازحنى. ثم قام، وركب حصانه، ومسك فرسى حتى ركبت. فينما أنا وهو نتحدث، وإذا بغيار عظيم قد ثار نحونا. فقال لى السلطان: اكشف لى خبر هذا الغيار، ما هو. قال: فسقت وإذا أنا بالأمير بدر الدين بيدرا والأمراء معه. قسألتهم عن سبب مجيئهم.
فلم يكلمونى ولا التفتوا إلىّ، وساقوا على حالهم، حتى قربوا من السلطان.
فابتدره الأمير بدر الدين بيدرا، وضربه بالسيف. فقطع يده. ثم ضربه لاجين على كتفه فحله، وسقط إلى الأرض. وجاء بهادر، رأس نوبة، فوضع السيف(31/261)
فى دبره، [وأتكأ عليه] «1» حتى أطلعه من حلقه، واشترك من ذكرنا من الأمراء فى قتله «2» .
وهذه الحكاية تدل على أن السلطان، كان قد انفرد عن مماليكه، ولم يكن معه غير شهاب الدين أمير شكار، الحاكى. وبقى الملك الأشرف ملقى فى المكان، الذى قتل فيه يومين. ثم جاء [الأمير عز الدين ايدمر العجمى] «3» متولى تروجة وأهلها إليه، وحملوه إليها فى تابوت. وغسلوه فى الحمام وكفنوه، وجعلوه فى تابوت، ووضعوه فى بيت المال، فى دار الولاية بنزوجة، إلى أن حضر من القاهرة الأمير سيف الدين كوجبا «4» الناصرى. فنقله فى تابوته إلى تربته، التى أنشأها بظاهر القاهرة، بجوار مشهد السيدة نفيسة، ودفن بها فى سحر يوم الخميس «5» الثانى والعشرين من صفر، من هذه السنة. وكانت مدة سلطنته، ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام.
وكان رحمه الله تعالى، ملكا شجاعا كريما، خفيف الركاب، مظفرا فى حروبه. ولم يخلف ولدا ذكراه وإنما مات عن بنتين، وزوجته أردكين «6» أمهما(31/262)
ابنة الأمير سيف الدين نوكيه. وورثه معهن «1» أخواه السلطان الملك الناصر، ودار مختار الجوهرى.
ذكر خبر الأمير بدر الدين بيدرا ومن معه من الأمراء الذين وافقوه، وما كان منهم، ومقتل بيدرا.
قال: «2» ولما قتل السلطان الملك الأشرف، عاد الأمير بدر الدين بيدرا، ومن معه من الأمراء إلى الوطاق. فتقرر بينهم أن السلطنة تكون لبيدرا، ولقب الملك القاهر، وقيل «3» الملك الأوحد. ثم ركبوا وقبضوا على الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أمير جاندار، وقصدوا قتلهما. فشفع فيهما بعض الأمراء. وكان بالدهليز السلطانى من الأمراء: الأمير سيف الدين برلغى «4» ، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير بدر الدين بكتوت العلائى، وجماعة من المماليك السلطانية. فركبوا فى آثار بيدرا ومن معه. وكان الأمير زين الدين كتبغا المنصورى فى الصيد، فبلغه الخبر، فلحق بهم. وجدوا فى طلب بيدرا ومن معه «5»(31/263)
فلحقوه على الطرابة «1» . فلما التقى الجمعان، أطلق بيدرا الأميرين «2» اللذين «3» كان قد قبض عليهما، ليكونا عونا له، فكانا عونا عليه.
وتقدم الأمراء، وحملوا على بيدرا حملة منكرة، فاتهزم هو ومن معه، فأدركوه فقتل. وهرب لاجين وقراسنقر، قد خلا «4» القاهرة واختفيا بها «5» ، ثم ظهرا «6» بعد ذلك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وحكى الأمير سيف الدين أبو بكر بن الجمقدار «7» ، نائب أمير جاندار. قال: ارسلنى السلطان أول النهار، إلى الأمير بدر الدين بيدرا، ان يتوجه فى تلك الساعة، بالعسكر، ويسوق تحت الصناجق، فأتيته فأخبرته بما أمر به السلطان، فنفر فى [وجهى] «8» ، وقال(31/264)
السمع والطاعة. ثم قال: لم «1» يستعجلنى «2» ؟. ورأيت فى وجهه أثر الغيظ والغضب، وما لم أعهده منه. ثم تركته، وتوجهت إلى الزرد خاناة وحملتها، وحملت ثقلى.
وتوجهت أنا ورفيقى الأمير صارم الدين [الفخرى] «3» والأمير ركن الدين [بيبرس] «4» أمير جاندار. فبينما نحن سائرون «5» عند الماء، إذ نحن بنجاب سائق، فأخبرنا بمقتل السلطان. فتحيرنا «6» فى أمرنا، وإذا بالصناجق السلطانية قد لاحت وقربت.
والأمير بدر الدين [بيدرا] «7» تحتها، والأمراء محدقون به. فتقدمتا وسلمتا عليه.
فقال له الأمير ركن الدين بيبرس، أمير جاندار، ياخوند، هذا الذى فعلته كان بمشورة الأمراء. فقال: نعم، أما قتلته بمشورتهم وحضورهم، وهاكلهم حاضرون. وكان من جملة من معه، الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير بدر الدين بيسرى، وأكثر الأمراء سائقون معه.
ثم شرع يعدد مساوئ السلطان [الأشرف] «8» ومخازيه، واستهتاره بالأمراء، ومماليك أبيه، وإهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس. قال:
ثم سألنا، هل رأيتم الأمير زين «9» الدين كتبغا؟. قلنا: لا. فقال له بعض الأمراء:(31/265)
يا خوند، هل كان عنده علم من هذا الأمر الذى وقع؟ فقال: نعم، وهو أول من أشار به. فلما كان فى اليوم الثانى، إذا نحن بالأمير زين الدين كتبغا، قد جاء فى طلب كبير «1» ، فيه من المماليك السلطانية نحو ألفى فارس؛ وجماعة من العسكر والحلقة، والأمير حسام الدين أستاذ الدار؛ فالتقوه بالطرانة فى يوم الأحد أول النهار. ففوّق الأمير زين الدين كتبغا نحو بيدرا سهما، وقال له يا بيدرا، أين السلطان. ثم رماه به، ورمى جميع من معه. فقتل بيدرا، وتفرق جمعه. وكانت الإشارة أن أصحاب كتبغا، شدوا مناديلهم من رقابهم إلى تحت أباطهم، ليعرفوا من غيرهم. ثم حمل رأس بيدرا إلى القاهرة، وطيف به «2» .
هذا ما كان من خبر مقتل بيدرا.
ولما قتل السلطان، كان الأمير علم الدين سنجر الشجاعى نائب السلطنة، بقلعة الجبل، فاحترز على المعادى، وأمر أهلها أن لا يعدّوا بأحد من الجند من بر الجيزة إلى ساحل مصر «3» . ثم حضر الأمراء الذين قتلوا بيدرا، وهم الأمير زين الدين كتبغا، والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغى، والأمراء الخاصكية، وهم الأمير سيف الدين طغجى، والأمير عز الدين «4» طقطاى، والأمير سيف الدين قطبية، وغيرهم من المماليك السلطانية. فراسلوا الأمير علم الدين [سنجر] «5»(31/266)
الشجاعى فى طلب المعادى، فأرسلها إليهم، فعدّوا بجملتهم، وطلعوا إلى القلعة.
واجتمعوا وانفقوا كلهم مع الأمير علم الدين سنجر الشجاعى، على أن تكون السلطنة، للسلطان ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور. فنصبوه فى السلطنة، وكان ما نذكره.
ذكر أخبار السلطان الملك الناصر، ناصر الدين محمد، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى. وهو التاسع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.
وأمّه أشلون خاتون ابنة سكناى بن قراجين «1» بن جنكاى «2» نوين، ملك الديار المصرية والممالك الشامية والساحلية والحلبية والفراتية، وغير ذلك مما هو مضاف إلى هذه الممالك من القلاع والحصون والثغور والأعمال.
وجلس على تخت السلطنة بالديار المصرية، بقلعة الجبل، بعد مقتل أخيه، السلطان الملك الأشرف، صلاح الدين خليل، وذلك فى رابع عشر المحرم، سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره يومذاك تسع سنين سواء، فإن مولده فى يوم السبت، خامس عشر المحرم، سنة أربع وثمانين وستمائة كما تقدم، وذلك باتفاق الأمراء المنصورية، ومن بقى من الأمراء الصالحية النجمية وغيرهم، وإجماعهم على سلطنته «3»(31/267)
واستقر أن يكون الأمير زين الدين كتبغا المنصورى، نائب السلطنة الشريفة، والأمير علم الدين سنجر الشجاعى وزير الدولة ومدبّرها، والأمير ركن الدين بيبرس المنصورى الدوادار، وأعطى إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء فى المكاتبات والأجوبة والبريد. وحصلت النفقة فى العساكر، واستحلفوا للسلطان «1» الملك الناصر، فحلفوا بأجمعهم.
هذا ما كان بالديار المصرية ومقر السلطنة.
وأما الشام، فإنه كتب عن السلطان الملك الأشرف كتاب إلى نائب السلطنة بدمشق، وجهز مع الأمير سيف الدين ساطلمش، وسيف الدين بهادر التتارى. فوصلا به إلى دمشق، فى يوم الجمعة رابع عشرين المحرم من هذه السنة.
ومضمونه: أنا قد استنبنا أخانا «2» ، الملك الناصر، ناصر الدين محمدا، وجعلناه ولى عهدنا، حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدّو، يكون لنا من يخلفنا. ورسم فيه، أن يحلف الناس له، ويقرن اسمه باسم السلطان فى الحطبة. فجمع نائب السلطنة الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان، وحلفوا على «3» ذلك. وخطب له فى يوم الجمعة هذا بولاية العهد، بعد الملك الأشرف.
وكان ذلك بتدبير الأمير علم الدين الشجاعى. واستمر الحال على ذلك، والخطبة للملك الأشرف، [ثم] «4» من بعده لأخيه الملك الناصر، بولاية العهد، إلى حادى عشر(31/268)
شهر ربيع الأول فورد المثال السلطانى الناصرى بالخطبة له استقلالا بالسلطنة.
فخطب له فى دمشق، فى يوم الجمعة، الحادى عشر، من الشهر المذكور. وورد البريد إلى الشام، بإيقاع الحوطة على موجود الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير بدر الدين بيدرا وغيرهم من الأمراء [أصحاب بيدرا] «1» فى اليوم الثامن من ورود المرسوم الأول بالخطبة للسلطان بولاية العهد، فوقعت الحوطة على موجودهم وحواصلهم.
ذكر خبر الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل السلطان الملك الأشرف
لما استقر الحال فى سلطنة السلطان الملك الناصر، أمر بطلب الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل أخيه الملك الأشرف. فأول من وجد منهم، الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، والأمير جمال الدين آقش الموصلى الحاجب، فضربت رقبتاهما «2» وأحرقت جثتاهما بالمجاير «3» . ثم حصل الظفر بعد هما بسبعة من الأمراء وهم: طرنطاى الساقى، و [سيف الدين] «4» الناق [الساقى] «5» الحسامى [ويقال له عناق «6» ] السلاح دار، و [سيف الدين «7» ] اروس [الحسامى] «8» السلاح دار،(31/269)
و [شمس الدين «1» ] أقسنقر الحسامى، و [علاء الدين «2» ] الطنبغا الجمدار، [وناصر الدين «3» ] محمد خواجا، فاعتقلوا بخزانة البنود «4» . وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، يتوجه إليهم ويعاقبهم، ويقررهم على من باطنهم. واستمر ذلك إلى يوم الاثنين خامس صفر. ثم قطعت أيديهم وأرجلهم، وسمروا على الجمال، وطيف بهم، وأيديهم فى أعناقهم، وماتوا شرميتة. ثم وجدوا بعد قجقر الساقى، فشنق فى سوق الخيل. وأما الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر، فإنهما هربا واختفيا. وكان من أمرهما، ما نذكره إن شاء الله تعالى. هذا ما كان من أمر هؤلاء.
ذكر أخبار الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس الوزير وما كان من امره، منذ فارق السلطان الملك الأشرف إلى أن مات
كان الصاحب شمس الدين المذكور، قد توجه إلى تغر الإسكندرية كما ذكرنا، وطالع السلطان فى حق الأمير بدر الدين بيدرا، بما أوجب هذه الفتنة العظيمة. ولما وصل الصاحب «5» إلى الإسكندرية، ضيق على أهل الثغر، وشدّد(31/270)
عليهم الطلب. وعزم على مصادرة أعيانهم، وذوى الأموال منهم. وأمر بإيجاد مقارع لعقوبة أهل الثغر. فبقى الناس من ذلك فى شدة عظيمة، لا يرجون خلاصا إلا ببذل الأموال والأبشار؛ وأهان متولى الثغر.
فبينما الناس على مثل ذلك، إذ وقعت يطاقه لمتولى الثغر، فى عشية النهار، تنضمن خبر مقتل السلطان. فكتمها المتولى عن الصاحب وغيره، وصبر إلى أن دخل الليل، وجاء إلى باب الصاحب، واستأذن عليه، فأذن له. فوقف بين يديه على عادته. فقال له الصاحب: ما الذى جاء بك فى هذا الوقت، هل ظهرت لك مصلحة يعود نفعها؟ فقال: يا مولانا، لم يخف عن علمك أن أهل هذا الثغر غزاة مرابطون، وما قصد أحد أذاهم، فتم له مقصوده، والذى يراه المملوك، أن يحسن مولانا إليهم، ويطيب خواطرهم، ويفرج عنهم- هذا اللفظ أو معناه «1» - فسبه الصاحب أقبح سب. وهم أن يوقع به، والوالى لا يزيده أن يقول: مولانا يروض نفسه، فلا فائدة فى هذا الحرج. والصاحب يزيد فى سبه، والإغلاظ له، ويتعجب من إقدامه على مخاطبته بمثل هذه الألفاظ.
فلما أفرط [الصاحب] «2» فى سبه، وزاد به الحرج، تقدم إليه بالبطاقة. وقال يقف مولانا على هذه. فلما قرأها، سقط فى يده، وخاطبه بياخوند. فقال له المتولى: ما الذى تختار. فقال: الخروج من هذه الساعة. فلم يؤاخذه المتولى، بما صدر منه فى حقه وفتح له باب المدينة، وأخرجه وعرض عليه أن يجهز معه من يوصله القاهرة فامتنع. وخرج من الثغر فى ليلته. ولو أصبح به لقتله أهله.(31/271)
واستمر به السير إلى أن وصل إلى القاهرة ليلا. فبات بزاوية «1» الشيخ جمال الدين ابن الظاهرى، ولم ينم فى معظم الليل. وركب بكرة النهار من الزاوية، وجاء إلى داره، وهو على حاله وهيئته. وحضر للسلام عليه القضاة وأعيان الدولة ونظارها. فعاملهم بما كان يعاملهم به من الكبر، وعدم القيام لأكابرهم. ثم استشار بعض الناس فيما يفعل. فأشار بعضهم عليه، بالاختفاء إلى أن تسكن هذه الفتنة، وتستقر القاعدة، فقال هذا لا نفعله ولا نرضاه لعامل من عمالنا.
فكيف نختاره لأنفسنا. واستمر على ذلك خمسة أيام.
وكانت رسالة دور السلطان الملك الأشرف قد خرجت إلى الأمير زين الدين كتبغا، مضمونها الشفاعة فى أمره، وأنه لا يؤذى. وذكروه بمحبة السلطان له. وأنهم إنما قاموا فى طلب ثأر السلطان، وقتل أعدائه. و [أما] «2» هذا فهو أخلص أولياء السلطان بخدمته، وأدومهم على طاعته- هذا اللفظ أو معناه-.
فسكن أمره فى هذه الأيام الخمسة الماضية. فغضب الأمير علم الدين الشجاعى، واجتمع بالأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة وغيره من أكابر الأمراء.
وقال: هذا الصاحب هو الذى أوقع بين السلطان ومماليكه وأمرائه ونائبه. وإنما قتل السلطان بسبب هذا، فاتبّع رأيه فيه.(31/272)
فلما كان فى اليوم السادس، وهو اليوم الثانى والعشرين من المحرم، طلع [الصاحب شمس الدين بن السلعوس «1» ] إلى قلعة الجبل، فحضر إلى الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، فسلّمه للأمير علم الدين الشجاعى، فسلّمه الشجاعى للأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، وكان من أعدائه، ليطالبه بالأموال فضربه ضربا شديدا. فأنكر عليه الأمير علم الدين. ثم سيّره إلى الأمير بدر الدين المسعودى، شاد الدواوين، وهو نشو ابن السلعوس، فإنه كان قد طلب من دمشق للمصادرة، لما قتل مخدومه الأمير حسام الدين طرنطاى، وكان يتولى ديوانه بالشام. فأحسن الصاحب إليه، وأفرج عنه، وولاه شد الدواوين بالديار المصرية. فلما سلّم إليه، عاقبه واستصفى أمواله. وكان يجلس لمصادرته وعقوبته فى المدرسة الصاحبية «2» التى بسوبقة الصاحب بالقاهرة. ولم يزل يعاقبه إلى أن مات تحت الضرب، وقيل إنه ضرب بعد موته، ثلاثة عشر مقرعة، ولم يعلم أنه مات. وكانت وفاته فى يوم السبت عاشر صفر سنة ثلاث وتسعين وستمائة، ودفن بالقرافة «3» .
ذكر الخلف الواقع بين الأميرين علم الدين سنجر الشجاعى وزين الدين كتبغا، ومقتل الشجاعى.
كان الأمير علم الدين الشجاعى قد استمر فى الوزارة وتدبير الدولة، وأحكم(31/273)
أمرها، وهابه الناس. فلما كان فى يوم الخميس، ثانى عشرين صفر، من هذه السنة، اجتمع الأمراء بمساطب باب القلعة على العادة، ينتظرون فتح باب القلعة، ليزكبوا فى خدمة الأمير زين الدين كتبغا، نائب السلطنة. فلم يشعروا إلا وقد خرجت رسالة على لسان الأمير جاندار، يطلب جماعة من الأمراء، وهم سيف الدين قبجاق، وبدر الدين عبد الله السلاح دار، وسيف الدين قبلاى «1» ، وركن الدين عمر [السلاح دار] «2» أخوتمر، وسيف الدين كرجى، وسيف الدين طرقجى، فدخلوا إلى الخدمة السلطانية. وقام الأمراء للركوب، فبينما هم يسيرون تحت القلعة، بالميدان الأسود، جاء اثنان من ألزام الأمير علم الدين الشجاعى، وهما الأمير سيف الدين قنغر «3» ، وولده حاروشى «4» . فأخبرا الأمير زين الدين كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا اعتقلوا، وأن الشجاعى قد دبّر الحيلة عليك وعلى الأمراء، إذا طلعتم إلى القلعة، ودخلتم إلى الخوان أن يقبض عليكم. فعرّف كتبغا الأمراء الذين معه فى المواكب الصورة. فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة، وتوهموا أن الشجاعى اتفق مع الأمراء المنصورية والأمراء البرجية، والمماليك السلطانية. وكان بالموكب الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير سيف الدين برلغى، أمير مجلس، فأمسكوهما فى الموكب، وأرسلوهما إلى ثغر الإسكندرية.(31/274)
وأخبرنى الأمير ركن الدين «1» بيبرس، فى ليلة الثامن من شوال سنة سبع وسبعمائة، أنه ضرب على رأسه بدبوس، وأرانى «2» أثر الضربة.
وكان قد ذكر لى ذلك، فى أثناء ذكره لسالف خدمة السلطان، وما لقيه وقاساه.
ولما مسكا، حصلت مفاوضة بين الأمير علم الدين سنجر البندقدارى، وبين الأمير زين الدين كتبغا. فقال البندقدارى له: أين لاجين، أحضره.
فقال: ما هو عندى. فقال: بل هو عندك. فجرد البندقدارى سيفه ليضرب به كتبغا، فضربه بدر الدين بكتوت الأزرق، مملوك كتبغا بسيفه، حل كتفه ثم ألقوه عن فرسه، وذبح يسوق الخيل.
وتوجه الأمير زين الدين كتبغا ومن معه من الأمراء، إلى الباب المحروق وخرجوا منه ونزلوا بظاهر السور، وأمروا مماليكهم وألزامهم وأجنادهم أن يلبسوا عددهم. وأرسل الأمير زين الدين كتبغا نقباء «3» الحلقة، وطلب المقدمين فحضروا إليه، وراسل السلطان [الملك «4» الناصر] ، فى طلب الأمير علم الدين الشجاعى. وقال إن هذا قد انفرد برأيه فى القبض على الأمراء. وبلغنا عنه ما أنكرناه، ونختار حضوره ليحاقق عما نقل عنه. فامتنع عن الحضور. ثم(31/275)
طلع السلطان على البرج الأحمر، وتراءى للأمراء، فنزلوا وقيلوا الأرض من مواقفهم «1» . وقالوا نحن مماليك السلطان، ولم نخلع يدا عن طاعة، وليس قصدنا إلا حفظ نظام الدولة، واتفاق الكلمة، وإزالة أسباب المضار والفساد عن المملكة. واستمر الحصار سبعة أيام، وكان الشجاعى ينزل إليهم، ويناوشهم القتال، ومعه طائفة من الأمراء وهم: الأمير سيف الدين بكتمر، السلاح دار، وسيف الدين طفجى «2» ، وجماعة من المماليك السلطانية. ثم فارقة الأمراء والمماليك، فكانوا يتسللون عشرة عشرة. فلما رأى حاله انتهت إلى هذه الغاية، قال إن كنت أنا الغريم، فأنا أتوجه إلى الحبس طوعا منى، وأبرأ إلى الأمراء مما نقل إليهم عنى. وحضر إلى باب الستارة السلطانية، وحلّ سيفه بيده، وذهب نحو البرج. وتوجه معه الأمير سيف الدين الأقوش، والأمير سيف الدين صمغار، ليحبساه بالبرج الجوانى، فوثب عليه مملوك الأقوش، فقتله وحز رأسه. وأنزلوه إلى الأمير زين الدين كتبغا، وقد لفّ فى بقجة. فأمر بأن يطاف برأسه القاهرة ومصر، وظواهر هما. فطاف به المشاعلية على رمح، واشهروا «3» قتله. ثم طلع الأمير زين الدين كتبغا والأمراء إلى القلعة، فى يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر، وأفرج عن الأمراء الذين اعتقلوا. وجددت الأيمان، وأنزل من كان بالأبراج والطباق، من المماليك السلطانية، الذين اتهموا بهذه الفتنة. فأسكنت طائفة(31/276)
منهم فى مناظر الكبش، وطائفة فى دار الوزارة، وطائفة فى الميدان الصالحى والميدان الظاهرى. واعتقل منهم جماعة. وكان من خبرهم، بعد ذلك، ما نذكره فى سنة أربع وتسعين وستمائة.
ذكر عدة حوادث كانت فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة خلاف ما قدمناه، من ولاية وعزل وغير ذلك، والوفيات
فى هذه السنة، فى تاسع عشر صفر، عزل قاضى القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة الشافعى عن القضاء بالديار المصرية. وأعيد قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز إلى القضاء. واستقر قاضى القضاة بدر الدين فى تدريس مدرسة الشافعى ومشهد الحسين. فلم يزل كذلك، إلى أن توفى قاضى القضاة، شهاب الدين محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر الخويى «1» قاضى القضاة الشافعى بدمشق. وكانت وفاته بدمشق فى يوم الخميس، خامس عشر، شهر رمضان من هذه السنة. ومولده فى رابع عشرين شوال، سنة ست وعشرين وستمائة، وقيل فى رجب من السنة. ففوض [الملك الناصر محمد بن «2» قلاوون] ، القضاء بعد وفاته لقاضى القضاة، بدر الدين بن جماعة، فتوجه إلى الشام. وكان وصوله إلى دمشق فى رابع عشر ذى الحجة من السنة.
وفيها، فى تاسع عشرين صفر فوضت الوزارة للصاحب الوزير تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على، المعروف(31/277)
بابن حنا. وفوضت وزارة الصحبة، لابن عمه الصاحب عز الدين ابن الصاحب محيى الدين ابن الصاحب بهاء الدين، وكانا يجلسان جميعا فى شباك الوزارة، ويوقع الصاحب تاج الدين «1» .
وفيها، فى سلخ صفر. أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى.
وكان الملك الأشرف قد اعتقله، فى يوم السبت ثانى شوال، سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
وفيها، فى يوم عيد الفطر، ظهر الأمير حسام الدين لاجين، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوريان، من الاستتار «2» ، وكانا عند هربهما، أطلعا الأمير سيف الدين بتخاص الزينى، مملوك كتبغا على حالهما. فأعلم أستاذه بهما، ونلطف فى أمرهما. فتحدث الأمير زين الدين كتبغا مع السلطان، فعفا عنهما، وأمّرهما كما كانا أول مرة. وتلطّف كتبغا فى إظهار لاجين تلطفّا حسنا.
وهو أنه تحدث مع الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح فى إحضاره.
فركب معه، ووقف تحت قلعة الجبل، ولم يزل إلى أن أذن له، وأصلح بينه وبين الأمراء والمماليك السلطانية، وزال ما بينهم من الوحشة. وكان كتبغا فى أمر لاجين، كالباحث عن حتفه «3» بظفه «4» . فإنه فعل معه، ما نذكره إن شاء الله تعالى «5» .(31/278)
وفى هذه السنة، قصر النيل فلم يوف، وانتهت زيادته إلى خمسة عشر ذراعا، وثلث ذراع. فارتفعت بسبب ذلك الأسعار. وكان من الغلاء ما نذكره بعد «1» .
وفى هذه السنة، فى رابع عشرين ربيع الأول، كانت وفاة الملك شهاب الدين «2» غازى ابن الملك المعز مجير الدين يعقوب ابن السلطان الملك العادل سيف الدين ابى بكر محمد بن أيوب، بداره بالخور بدمشق، ودفن بتربتهم بقاسيون، رحمهم الله تعالى.
وفيها، كانت وفاة الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الأسعردى. وقد قدمنا ذكر وزارته مرة بعد أخرى. وكان إذ عزل عن الوزارة، أخذ دواته وعاد إلى ديوان الإنشاء، وكتب من جملة الكتاب. وأصله من المعدن «3» ، من أعمال أسعرد «4» . فلما فتح الملك الكامل آمد، كان ابن لقمان يكتب على عرصة الغلة، وينوب عن ناظر البيوت بها. وكان بهاء الدين زهير، صاحب ديوان الإنشاء للملك الكامل، وبعده للملك الصالح، وهو يومئذ وزير الصحبة. فكانوا يستدعون من صاحب أسعرد أصنافا، فتأتى الرسائل بالأصناف بخط ابن لقمان،(31/279)
فتعرض على بهاء الدين زهير، فيعجبه خطه وعبارته. فطلبه فحضر إلى خدمته، وتحدث معبه، فأعجبه كلامه، وسأله عن جامكيته. فقال دون دينارين فى الجهتين، فعرض عليه أن يسافر صحبته [إلى الديار المصرية «1» ] ، فأجاب إلى ذلك.
وسربه، فاستصحبه معه، وناب عنه بديوان الإنشاء إلى الأيام الصالحية.
ثم استقل بعد ذلك بصحابة ديوان الإنشاء، ووزر كما تقدم. ولما انفصل من الوزارة [قال] «2» : جاءت فما كثّرت، وراحت فما أثّرت. وله نظم حسن، وقد قدمنا ذكر شىء من كلامه، رحمه الله تعالى «3» .
وفيها، فى يوم الخميس، منتصف جمادى الآخرة، توفى الأمير بدر الدين بكتوت العلائى، وكانت وفاته بالقاهرة. وقد عظم شأنه، وسمت همته، حتى تعرض لطلب بعض الأكابر الأمراء الخاصكية الأشرفية، مقدمى «4» الألوف. فيقال أنه سقى سما فمات، سامحه الله تعالى.
وفيها، فى يوم الخميس، خامس شعبان، توفى الملك الحافظ غياث الدين أبو عبد الله محمد ابن الملك السعيد معين الدين بن شاهانشاه ابن الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهانشاه بن أيوب، وصلّى عليه بعد صلاة الجمعة بجامع دمشق، ودفن بتربة ابن المقدم، بمقبرة باب الفراديس، رحمه الله «5» .(31/280)
واستهلت سنة أربع وتسعين وستمائة [694- 1294/1295]
ذكر الفتنة التى قصد المماليك السلطانية إثارتها
لما كان فى ليلة العاشر من المحرم، من هذه السنة، تجمعت المماليك السلطانية، الذين فى الكبش، ومناظر الموادين «1» ، وحرقوا باب السعادة، ودخلو منه إلى المدينة. وطلبوا خوشداشيتهم المعتقلين [بها] «2» ، الذين بدار الوزارة، للركوب معهم، فما أجابوهم لذلك. فكسروا خزانة البنود، وأخرجوا من كان بها من خوشداشيتهم، ونهبوا الإسطبلات التى تحت القلعة. وركبوا الخيول، وداروا عليها تحت القلعة، من جهة سوق الخيل، طول الليل. فلما كان من الغد، ركب الأمراء الذين فى القلعة وقصدوهم، وتصافّوا واقتتلوا يسيرا. ثم جاء الأمير سيف الدين الحاج بهادر، السلاح دار، الحلبى، وهو يومئذ أمير حاجب، فهزمهم فتفرّقوا فى ضواحى القاهرة وشوارعها، فأخذوا وجئ بهم. وجلس الأمير زين «3» الدين كتبغا بباب القلعة، وضربت رقاب بعضهم بين يديه، وفرق بعضهم على الأمراء، وغرّق بعضهم سرا. وكانت هذه الحادثة سببا لحركة الأمير زين الدين وركوبه فى السلطنة.(31/281)
ذكر سلطنة السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وهو العاشر من ملوك دولة الترك بالديار المصرية.
كان جلوسه على تخت السلطنة فى يوم الأربعاء «1» ، حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان سبب ذلك، أنه لما ملك السلطان الملك الناصر، واستقر هو فى نيابة السلطنة كما تقدم، شرع يمهد القواعد لنفسه فى مدة نيابته، ويقرر «2» الأحوال، ويستميل الأمراء. فلما كان فى أول هذه السنة، انقطع فى دار النيابة، بقلعة الجبل، وادّعى الضعف. وإنما كان انقطاعه لتقرير أمر السلطنة له. وركب السلطان الملك الناصر، رجاء إلى دار النيابة للسلام عليه وعيادته فلما اتفقت فتنة المماليك المتقدمة، جلس [الأمير زين الدين كتبغا «3» ] فى اليوم الثانى منها، بدار النيابة. وجمع الأمراء، وذكر لهم أن ناموس السلطنة، وحرمة المملكة، لا يتم لصغر سن السلطان الملك الناصر. فاجتمعت آراء الأمراء على إقامة الأمير زين الدين كتبغا فى السلطنة. وحلفوا له، وقدم له فرس النوبة بالرقبة الملوكية، وعليها ألقابه. وركب من دار النيابة، قبل أذان العصر، من هذا اليوم. ودخل من باب القلعة «4» إلى الأدر السلطانية، والأمراء مشاة فى خدمته. ودخل على تخت السلطنة، ونلقب بالملك العادل. وحجب السلطان الملك الناصر، وجعله فى بعض القاعات هو وأمه. وعامله بما لا يليق أن يعامله(31/282)
به. فكانت مدة سلطنة السلطان الملك الناصر هذه- وهى السلطنة الأولى- سنة واحدة إلا ثلاثة أيام. ولم يكن له فى هذه المدة من الأمر شىء. وإنما جرى عليه أمر السلطنة، وخطب باسمه على المنابر، وضربت السكة باسمه. وأما غير ذلك من الأمر والنهى، والولاية والعزل، والإطلاق والمنع، والتأمير وإعطاء الإقطاعات، وغير ذلك من الأوامر، فللأمير زين الدين كتبغا النائب، الملقب الآن بالملك العادل «1» .
وفى يوم الخميس ثانى عشر المحرم، مد [الملك العادل زين الدين كتبغا «2» ] سماطا عظيما، وجلس على عادة الملوك. ودخل الأمراء إليه، وقبلوا يده، وهنوه بالسلطنة وخلع على الأمير حسام الدين لاجين المنصورى، وفوض إليه نيابة السلطنة، وجعل الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى، أمير جاندار، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى، أمير حاجب. وأمر أن تجهّز الخلع لسائر الأمراء والمقدمين، وللوزيرين الصاحب تاج الدين وابن عمه عز الدين، وقضاة القضاة وأرباب المناصب، ومن جرت عادتهم بالخلع، والمماليك السلطانية الذين كانوا بدار الوزارة، كونهم لم يوافقوا خوشداشيتهم، على إقامة الفتنة.
وركب الناس بالتشاريف، فى يوم الخميس، تاسع عشر المحرم. ولما جلس على تخت السلطنة، كتب إلى نائب السلطنة بدمشق، وسائر النواب بالممالك(31/283)
الشامية والأعمال، يخبرهم بخبر سلطنته، ويطلب منهم بذل اليمين. وكل أجاب بالسمع والطاعة، وبادر إلى الحلف، وما اختلف عليه اثنان.
ومن غريب ما حكى فى أمر الملك العادل هذا، أن هولاكو لما استولى على حلب، وملك الشام أجمع، كما تقدم، وعزم على تجريد العساكر إلى الديار المصرية، أحضر نصير الدين «1» الطوسى، وقال له: تكتب أسماء مقدمى عساكرى، وتنظر أيهم يملك مصر، ويجلس على تخت السلطنة بها. فكتب أسماءهم، وحسب ودقق النظر، فما ظهر له، أنه يملك الديار المصرية إلا كتبغا، فذكر ذلك لهولاكو. وكان كتبغا نوين صهر هولاكو، فقدّمه على العساكر وسيّره، فقتل فى وقعة عين جالوت، كما تقدم. وكان كتبغا هذا، فى عسكر كتبغا نوين، فسبى وهو شاب. ولعله كان فى سن بلوغ الحلم أو نحوه. وأخّر الله السلطنة بالديار المصرية لهذا الاسم. وكان بين الحادثين ست وثلاثون «2» سنة.
ولما ملك [كتبغا] «3» ، شرع فى تأمير مماليكه وتقدمتهم. فكان أول من أمر(31/284)
منهم أربعة، وهم سيف الدين بتخاص «1» ، وجعله أستاذ الدار، وسيف الدين أغرلو «2» وبدر الدين بكتوت الأزرق، وسيف الدين فطلوبك «3» . وركب هؤلاء بالإمرة فى يوم واحد. وركب هو بشعار السلطنة على عادة الملوك فى يوم الأربعاء، مستهل شهر ربيع الأول. وأقر نواب السلطنة على حالهم فى الأيام الناصرية وفوّض الوزارة بدمشق للصاحب تقى الدين توبة التكريتى على عادته، فى الأيام المنصورية. وكان وصوله إلى دمشق، لمباشرة هذه الوظيفة، فى سادس عشر صفر. وكتب السلطان له نوقيعا، برد ما أخذ منه، فى «4» الدولة الأشرفية.
ذكر تفويض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى
وفى يوم الثلاثاء، خامس عشرين جمادى الأولى «5» من هذه السنة، عزل السلطان الصاحب تاج الدين، وفوض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز بن الخليلى. وكان هذا الصاحب فخر الدين قد ولى نظر ديوان الملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور. فلما مرض(31/285)
واشتد به الوجع، دخل الصاحب فخر الدين عليه وبكى، وأظهر الألم الشديد وقال أخشى إن قدر الله تعالى أمرا محتوما، والعياذ بالله، أن أوذى، ويتمكن منى الأمير علم الدين الشجاعى. وطلب الملك الصالح والده السلطان الملك المنصور وأوصاه أن لا يتعرض إليه. ولا إلى أحد من ديوانه بأذية «1» ، وأن لا يمكن الأمير علم الدين الشجاعى منهم. فلما مات الملك «2» الصالح، أحسن السلطان [المنصور] «3» إليه، وولاه نظر النظار بالديار المصرية، ونظر الصحبة، ثم عزل فى الدولة الأشرفية. وباشر نظر ديوان الملك العادل، فى مدة نيابته عن السلطنة، وفوض إليه نظر الدواوين، ثم الوزارة «4» .
وفى هذه السنة، قصر النيل ولم يوف، فحصل الغلاء واشتد البلاء بالديار المصرية. وتوقف الغيث بالشام، فاستسقى الناس، مرة بعد أخرى. وأجدبت برقة وأعمالها، وبلاد المغرب ونواحيها. وعمّ الغلاء أكثر البلاد والممالك، شرقا وغربا وحجازا. واختصت مصر من ذلك البلاء العظيم. وبلغ سعر القمح عن كل أردب مائة درهم وخمسين درهما، والشعير مائة درهم. واستمر إلى سنة خمس وتسعين وستمائة «5» .(31/286)
وفيها، فوض السلطان قضاء العساكر بالشام، للقاضى نجم الدين محمد بن صصرى وكان بالديار المصرية. فعاد إلى دمشق متوليا هذه الوظيفة، وكان وصوله إليها فى يوم الثلاثاء سادس عشرين «1» شهر رمضان.
وفيها، فوض السلطان الملك العادل، الخطابة والإمامة، بالجامع الأموى بدمشق، لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، مضافا إلى ما بيده من القضاء والتدريس. فصلّى بالناس صلاة الظهر، من يوم الخميس الخامس من شوال، وخطب يوم الجمعة السادس من الشهر، واجتمع له القضاء والخطابة، ولم يجتمع ذلك لقاضى قبله بدمشق، فيما عرفناه. ونقل إلينا «2» .
ذكر القبض على الأمير عز الدين ايبك الخزندار نائب السلطنة بالفتوحات، وولاية الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى
وفى هذه السنة، رسم السلطان الملك العادل، بالقبض على خوشداشه، الأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، نائب السلطنة، بالفتوحات الطرابلسية.
وندب لذلك أمير بن، فتوجها إلى دمشق على خيل البريد، فوصلا إليها، فى تاسع عشرين شوال. وجرد من دمشق الأمير عز الدين أيبك كرجى، والأمير سيف الدين استدمر كرجى «3» بسبب ذلك. فلما توجهوا إليه، لم يمتنع عليهم، وقال: قد كنت عزمت على مفارقة هذه المملكة. والتوجه إلى باب «4»(31/287)
السلطان، فقبض عليه. وكان وصوله إلى الأبواب السلطانية، فى يوم الخميس حادى عشرين ذى القعدة من السنة، فاعتقل. واستمر فى الاعتقال، إلى يوم الخميس رابع عشرين صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ولما قبض عليه، فوضت نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات، للامير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى «1» .
وفيها أيضا، رسم بالحوطة على القاضى مجد الدين يوسف بن القباقبى ناظر المملكة الطرابلسية. وندب الأمير شمس الدين الأعسر لذلك. فتوجه إلى طرابلس، فى العشر الأوسط، من شوال، وأوقع الحوطة على موجوده. فيقال إنه وجد فى جشاره «2» ، ما ينيف على سبعين رأس بغالا واكاديش جياد. وجهز إلى الديار المصرية، فتكمل حمله، فيما أدعاه ألف ألف درهم. ثم أعيد بعد ذلك إلى نظر المملكة الطرابلسية، وكأنه لم يصادر. فبلغنى «3» أنه جلس ليلة، وهو يضحك مع أصحابه بطرابلس. فقال له بعضهم: أخذ منك ألف ألف درهم، وأنت تضحك. فقال: والله أقدر أنفق فى جيش مصر- وأرى أن هذا الكلام «4» ، إن كان قاله، فهو من التغالى فى القول- والله أعلم.(31/288)
ذكر وفاة الملك المظفر يوسف بن عمر صاحب اليمن
وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك المظفر شمس الدين أبى المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول، صاحب اليمن، فى شهر رمضان، بقلعة تعز. وكان جوادا شهما، عفيفا عن أموال الرعايا، قليل التطلع إلى ما بأيديهم، حسن السيرة فيهم، يمنع أصحابه من التطرق إلى ظلم أحد.
وكانت مدة ملكه، بالبلاد اليمانية، نحو «1» خمس وأربعين سنة.
وكان للملك المظفر من الأولاد خمسة، وهم الملك الأشرف ممهد الدين عمر، والملك المؤيد هزبر الدين داود، والواثق إبراهيم، والملك المسعود تاج الدين حسن، والملك المنصور زين الدين أيوب. وللملك المسعود هذا ولد اسمه أسد الإسلام محمد. وللملك المنصور ولد اسمه مأمور «2» الدين عيسى. ولما مات الملك المظفر هذا، ملك بعده ولده الملك الأشرف ممهد الدين عمر، وهو ولى عهده.
فلما ملك نازعه أخوه الملك المؤيد هزير الدين داود فى الملك. وكان المؤيد يوم ذاك ببلاد الشحر، فجمع جمعا من الجحافل، وتوجه إلى ثغر عدن، وحاصر الثغر ثلاثة عشر يوما. وكان متوليه الأمير سيف الدين بن برطاس، فملك المؤيد الثغر، واستولى على ما به. فاقترض أموال التجار وأموال الأيتام التى بمودع الحكم.
وتوجه من ثغر عدن نحو تعز. فجرد الملك الأشرف لقتاله الشريف على بن عبد الله، بجماعة من الجيش، وولده جلال الدين بن الأشرف. فتوجهوا والتقوا، فيما بين تعز وعدن، بمكان يسمى الدعيس. واقتتلوا فخذل الجحافل المؤيد، وتفرقوا عنه، وبقى فى نفر يسير. فتقدم إليه جلال الدين ابن أخيه، وأشار عليه بالدخول(31/289)
فى الطاعة، وحذر عاقبة المخالفة. وقال له: الملك الأشرف أخوك، ولا يقتلك، وأنت بينك وبين الأشراف حرب قبل هذا الوقت، فإن ظفروا بك قتلوك.
وأشار عليه بعض أصحابه بمثل ذلك، فرجع إلى قولهم، ورجع إلى الطاعة.
فأراد جلال الدين أن يتوجه به إلى والده [الملك الأشرف «1» ] على حاله. فامتنع عليه الشريف على بن عبد الله، وقال: إن أمر هذا الجيش إلىّ. وقيّد المؤيد، وحمله إلى قلعة تعز، فاعتقله بها إلى أن مات الملك الأشرف. وكانت وفاته فى سنة ست وتسعين وستمائة. فأخرج من الاعتقال ليلا، قبل دفن أخيه، فأمر بدفنه. وأصبح الحراس بالقلعة، فدعوا للملك المؤيد، وترحّموا على الملك الأشرف وكان ملك المؤيد باتفاق عمته الشمسية، وقيامها فى أمره. واستمر فى الملك إلى أن مات، فى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فى موضعه.
وفيها، فى يوم السبت، رابع شهر ربيع الأول، توفى الأمير بدر الدين بكتوت الأفرعى بدمشق، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفيها، كانت وفاة الصاحب عز الدين ابن الصاحب محيى الدين أحمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد، رحمهم الله تعالى.
وفيها، فى شهر رجب توفى بالقاهرة، الأمير بدر الدين بكتوت الفارسى الأتابكى، رحمه الله تعالى.(31/290)
وفيها، فى وقت السحر، من يوم السبت عاشر شعبان، توفيت ملكة خاتون، ابنة الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب. وهى زوجة الملك المنصور ابن الملك الصالح إسماعيل وأم ولديه. وهى التى كان ناصر الدين بن المقدسى أثبت سفهها فى الدولة المنصورية، واستعاد أملاكها من سيف الدين المسامرى وغيره، كما تقدم ذكر ذلك، رحمهما الله تعالى.(31/291)
واستهلت سنة خمس وتسعين وستمائة [695- 1295/1296]
فى هذه السنة، اشتد الغلاء بالديار المصرية، وكثر الوباء وانتهى سعر القمح إلى مائة درهم وسبعة وستين درهما، عن كل أردب، وقيل إنه بلغ مائة وثمانين. وأعقب ذلك وباء عظيم. وغلت الأسعار فى سائر الأصناف. وبلغ ثمن الفروج عشرين درهما. وسمعت أن بعض الناس اشترى فراريج لمريض عنده، فوزن لحمها، فكان بوزن «1» الدراهم التى اشتراها بها. فتقوّم عليه لحمم الفراريج، الدرهم بدرهم فضة. وبيعت البطيخة، الرطل بأربعة دراهم نقرة. وابيعت السفر جلة، بثلاثين درهما، هذا بالقاهرة ومصر. وأما الصعيد الأعلى، وهو عمل فوص وما يجاوره، فإن القمح لم يزد ثمنه، على خمسة وتسعين درهما الأردب. وأعقب هذا الغلاء بالقاهرة فناء عظيم. كان يحصر من يخرج من باب المدينة من الأموات فى اليوم الواحد، فيزيد على سبعمائة أو نحوها، هذا من داخل المدينة، من أحد الأبواب. والقاهرة بالنسبة إلى ظواهرها، كالشارع «2» الأعظم، والحسينية والأحكار، جزء لطيف. وعجز الناس عن دفن الأموات أفرادا، فكانوا يحفرون الحفرة الكبيرة، ويرص «3» فيها الأموات، من الرجال والنساء، ويجعل الأطفال بين أرجلهم، ويردم عليهم. وبعض الأموات(31/293)
لم يجدوا من يواريهم فى قبورهم، فأكلتهم الكلاب، وأكل الأحياء الكلاب.
وكان الفناء أيضا بالأعمال البرانية [عن القاهرة ومصر «1» ] ، حتى خلت بعض القرى وأطراف المدينة، لفناء أهلها بالموت.
ثم انحطت الأسعار بالديار المصرية فى شهر رجب، ونزل سعر القمح إلى خمسة وثلاثين درهما الأردب، والشعير بخمسة وعشرين [درهما الأردب «2» ] وكان أكبر أسباب هذا الغلاء وتزايده بالديار المصرية، خلو الأهراء «3» السلطانية من الغلال، وذلك أن السلطان الملك الأشرف، كان قد فرّق الغلال، وأخلى الأهراء منها بالإطلاقات للأمراء وغيرهم، حتى نفد ما فى الأهراء. وقصر النيل بعد ذلك، فاحتاج وزير الدولة إلى مشترى الغلال للمؤونة والعليق، فتزايدت الأسعار بسبب ذلك.
وفيها أيضا، قلّ المطر بدمشق وبلاد حوران، وجفّ الماء حتى شق ذلك على المسافرين. فكان المسافر يسقى دابته بدرهم، ويشرب بربع درهم. فلما اشتد ذلك على الناس، أشار قاضى القضاة، بدر الدين محمد بن جماعة، بقراءة صحيح البخارى بدمشق. وتقرر الاجتماع لسماعه بالجامع الأموى، تحت النسر فى سابع «4» صفر. وطلب الشيخ شرف الدين الغزارى لقراءته. فأنزل الله تعالى(31/294)
الغيث فى تلك الليلة قبل الشروع فى القراءة. ثم قرىء الصحيح، ووقع المطرفى آخر يوم من كانون الأول، واستمر يومين وبعض ليلة، فاستبشر الناس بذلك وترادف نحو جمعه. ثم جاء بعد ذلك ثلج كثير، فى مستهل شهر ربيع الأول.
ثم ارتفع السعر، وبلغ [سعر] «1» القمح، عن كل غرارة مائة درهم، وخمسة وستين درهما. [واشتد الغلاء بالحجاز «2» ] أيضا فأبيعت غرارة الشعير بالمدينة، بسبعمائة درهم، وغرارة القمح بألف [درهم] «3» . وأبيعت بمكة، شرفها الله تعالى، بألف درهم ومائة درهم. ثم جاء المطر بدمشق فى ثانى جمادى الآخرة.
ذكر حادثة عجيبة بالشام
وفى هذه السنة، فى العشر الأول من المحرم، استفاض بدمشق وشاع، وكثر الحديث عن قاضى جبة أعسال «4» ، من قرى دمشق، أنه تكلم ثور بقرية من قرى جبة أعسال. وهو أن الثور خرج ليشرب من ماء هناك، ومعه صبى فلما فرغ من شربه، حمد الله، فتعجب الصبى. وحكى ذلك لمالك الثور، فشك فى قوله. وخرج فى اليوم الثانى بنفسه، فلما شرب الثور، حمد الله. وحضر فى اليوم الثالث جماعة، وسمعوه يحمد الله، بعد شربه. فكلّمه بعضهم، فقال الثور: إن الله كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدباء ولكن بشفاعة النبى، صلى الله عليه وسلم، أبدلها الله بالخصب. وذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم،(31/295)
أمره بتبليغ ذلك، وأنه قال له يا رسول الله، ما علامة صدقى عندهم. قال:
«إنك تموت عقيب الأخبار» .- قال الحاكى لذلك- ثم تقدم الثور إلى مكان مرتفع فسقط ميتا. فأخذ أهل القرية من شعره للتبرك، وكفن ودفن. حكى هذه الحادثة، شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزرى فى تاريخه حوادث الزمان «1» ، والله علم.
وفيها، فى العشر الأوسط، من شهر ربيع الآخر، قتل بدمشق جماعة بالليل فى الدروب. ومعظم من قتل، من حراس الدروب، واستمر ذلك عدة ليال.
وفى كل يوم يوجد قتيل واثنان. ولم يعدم لأحد شىء «2» ، مع ذلك، ولا سرق منزل.
فاحترز متولى المدينة فى ذلك. وبقى يركب طول الليل، فى جماعة كثيرة، ويطوف البلد، والأمر يتزايد. فلما كان فى العشر الأوسط، من جمادى الأولى، ميسك فقير مولّه، فاعترف أنه هو الذى قتل الحراس، فسمر وبقى يومين، ثم خنق فى اليوم الثالث.
ذكر وفود الأويرانية من بلاد التتار
فى هذه السنة، وردت طائفة من التتار، تسمى الأويرانية، ومقدمهم(31/296)
طرغاى، ووصلوا إلى الشام. وكانوا على ما قيل، ثمانية عشر ألف بيت «1» .
وكان السبب فى هربهم «2» من بلادهم، أن طرغاى، هذا المذكور، كان متفقا مع بيدو ابن طرغاى على قتل كيختو. فلما صار الملك إلى غازان، خافه طرغاى على نفسه، أن يقتله بعمه كيخنو. وكان مقيما بتمانه «3» [بين بغداد والموصل «4» ] .
وكان اشتبغا مقيما بتمانه بديار بكر. فأرسل غازان بولاى ومعه تمان «5» إلى ديار بكر، عوضا عن اشتبغا، وأوصاه بحفظ الطرقات على طرغاى، وأن يساعد من يندب لقتله، ثم جهز غازان أميرا يسمى قطغوا فى ثمانين فارسا للقبض على طرغاى ومن معه، من أكابر قبيلة أو يرات. فاتفق طرغاى، ومن معه من ألأمراء، وهم ألوص وككباى «6» ، وقتلوا قطغوا ومن معه. وغيروا الفرات «7» إلى جهة الشام، فتبعهم بولاى يتمانه، فقاتلوه وهزموه، وقتلوا أكثر من معه.
ولما وردت مطالعات نواب الشام إلى السلطان الملك العادل بوصولهم، اهتم بأمرهم. وكتب إلى [نائب السلطنة بدمشق «8» ] ، أن يتوجه الأمير علم الدين(31/297)
سنجر الدوادارى، بجماعة إلى الرحبة لتلقبهم «1» . فتوجه من دمشق فى غرة شهر ربيع الأول. ثم توجه بعده، الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، شاد الدواوين بالشام، ليلقاهم أيضا. وجهّز السلطان أيضا، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، من الديار المصرية إلى دمشق، بسبب ذلك، فوصل إليها فى ثانى عشرين شهر ربيع الأول. ثم أردفه بالأمير سيف الدين بهادر الحاج الحلبى الحاجب، فأقاما بدمشق، إلى أن وصل أعيان الأويرانية إلى دمشق، صحبة الأمير شمس الدين الأعسر. وكان وصولهم فى يوم الاثنين، ثالث عشرين شهر ربيع الأول، وعدتهم مائة وثلاثة عشر نفرا، والمقدم عليهم طرغاى، ومن أكابرهم الوص وككباى. فتلقاهم نائب السلطنة والأمراء، واحتفل بقدومهم «2» احتفالا كبيرا. ثم توجه بهم الأمير شمس الدين قراسنقر، إلى الديار المصرية فى يوم الاثنين سابع عشر ربيع الأول. وتوجه بعده الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحاجب، على خيل البريد إلى الأبواب السلطانية، فى حادى عشر الشهر. ولما وصلوا إلى باب السلطان بالغ فى إكرامهم، وأحسن إليهم، وخلع عليهم، وأمّرهم بالطبلخاناة. وهم على دين الكفرة، ويأكلون فى شهر رمضان، ولا يذبحون الخيل ذبيحة ولا نحرا، بل يربطون الفرس، ويضربونه على وجهه حتى يموت، فيأكلونه بعد ذلك. وكانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلة، فأنفت نفوس الأمراء من ذلك وكرهوه، حتى أوجب ذلك خلع السلطان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(31/298)
وأما بقية الأويرانية، فإن السلطان كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى أن يتوجه بهم إلى الساحل فينزلهم به، فتوجه بهم. ولما مرّوا بدمشق، أنزلهم بالمرج، ولم يمكّن أحدا منهم من دخول المدينة. ورسم بإخراج الأسواق إليهم للبيع والشراء بالمرج، إلى الكسوة والصنمين «1» . وفعل ذلك فى كل منزلة إلى أن وصل بهم إلى أراضى عثليث، وامتدوا «2» فى بلاد الساحل.
ورسم «3» السلطان باقامة الأمير علم الدين [سنجر] «4» الدوادارى معهم، إلى أن يحضر السلطان إلى الشام، ومات منهم خلق كثير. وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكانوا من أجمل الناس، وتزوج الجند وغيرهم من بناتهم. ثم انغمس من بقى منهم فى العساكر، وتفرقوا فى الممالك الإسلامية، ودخلوا فى دين الإسلام.
وبقاياهم فى الخدمة إلى وقتنا هذا «5» .
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد.
وفى هذه السنة، فى يوم الخميس، سادس عشر جمادى الأولى، توفى(31/299)
قاضى القضاة، تقى الدين أبو القاسم عبد الرحمن ابن قاضى القضاة تاج الدين أبى محمد عبد الوهاب بن بنت الأعز، قاضى القضاة الشافعى، بالديار المصرية، ودفن بالقرافة، فى تربة والده، رحمهما الله. وفى يوم وفاته، توفى كاتبه نور الدين بن السوسى، وكان خصيصا به. وحملت جنازتاهما «1» معا.
وقد قدمنا من ذكر أخبار قاضى القضاة تقى الدين هذا وولاياته القضاء والوزارة ونظر الخزائن، ما نستغنى الآن عن إعادته، رحمه الله تعالى. ولما مات، فوّض السلطان قضاء القضاة بالديار المصرية، لشيخنا «2» الإمام العلامة، تقى الدين بقية المجتهدين أبى الفتح محمد ابن شيخ الإسلام مجد الدين على بن وهب بن مطيع القشيرى، المعروف بابن دقيق العيد. وكانت ولايته فى يوم السبت ثامن عشر الشهر المذكور. ولما ولى القضاء كان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال «3» البرانية. وكان يذكرهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات، من عواقب الغفلة والإهمال. فكان مما كتب به، إلى بعض نوابه، فى سنة سبع وتسعين.
وقيل إنه كتب إلى جميع النواب مثل ذلك. وكان مضمون كتابه الذى نقلت «4» نسخته هذه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الفقير إلى الله تعالى، محمد بن على.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ(31/300)
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)
«1» .
هذه المكاتبة إلى، فلان، وفقه الله لقبول النصيحة، وأتاه لما يقربه قصدا صالحا، ونية صحيحة. أصدرناها إليه، بعد حمد الله الذى (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)
«2» ، ويمهل حتى ينتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكّره بأيام الله، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)
«3» . وتحذره «4» صفقة من باع الآخرة بالدنيا، فما أحد سواه مغبون. عسى أن يرشده بهذا التذكار وينفعه وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار، فإنى أخاف أن يتردى، فيجز من ولاه، والعياذ بالله، معه.
والمقتضى لإصدارها ما لمحناه «5» من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يحب الرب على المربوب، ومن أنسهم بهذه الدار وهم يزعجون عنها، ومن علمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود، وهم لا يتحققون «6» منها، ولا سيما القضاة الذين يحملون عبء «7» الأمانة، على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم «8» نحيفة. والله إن الأمر العظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا(31/301)
أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة، اللهم [إلا] «1» رجلا «2» نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فغاية مطلبه «3» الحياة والمنزلة فى قلوب الناس وتحسين الزى «4» والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر «5» خيبة حاله، ولا ركاكة مقصده، فهذا لا كلام معه، فإنك لا تسمع الموتى، وما أنت بمسمع من فى القبور. فاتق الله الذى يراك حين تقوم؛ واقصر أملك عليه، فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر، إلا كما قال حبيب العجمى، وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق فقال قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفى عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا، أن تقضى من معرفته الوطر. فتأمل [من] «6» كلام النبوة القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقا عليه: لا تأمرن على اثنين، ولا تليّن مال اليتيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم «7» .
وما أنا والسير فى متلف ... يبرح بالذّكر الضابط
هيهات جف القلم، ونفذ أمر الله، ولا راد لما حكم. ومن هناك شمّ الناس فى الصّديق رضى الله عنه، راتحة الكبد المشوى. وقال الفاروق: ليت أم عمر(31/302)
لم تلده. واستسلم عثمان وقال من أغمد سيفه، فهو حر. وقال علىّ:- والخزائن بين يديه مملوءة- من يشترى منى سيفى هذا، ولو وجدت ما اشترى به رداء ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز، فمات من خشية العرض.
وعلق بعص السلف فى بيته سوطا، مؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدى؟
أو وضح إنا نحن المقربون وهم البعداء؟ وهذه أحوال لا توجد فى كتاب السلم ولا الإجارة «1» ولا الجنايات. نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمى عينك الهجوع. ومما يعينك على الأمر الذى دعوت إليه، ويزوّدك فى سيرك إلى الغرض «2» عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالفكر والتدبير، وأناة تجعلها معدة لجلاء قلبك. فإنه [إن] «3» استحكم صدأه، صعب تلا فيه «4» .
واعرض عنه من هو أعلم بما فيه، واجعل أكثر همومك لاستعداد المعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد. فإنه يقول (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)
«5» .(31/303)
ومهما وجدت من همتك قصورا، واستشعرت من نفسك عما بدا إليها نفورا، فاجأر إليه وقف ببابه واطلب منه، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا تعزب «1» عن علمه «2» خفايا الضمائر، ألا يعلم من خلق وهذه نصيحتى إليك، وحجتى بين «3» يدى الله، إن فرّطت، عليك، اسأل الله لى ولك، قلبا واعيا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة، بمنّه وكرمه.
وفى هذه السنة، عزل القاضى جمال الدين بن الشريشى نفسه من نيابة الحكم بدمشق، عن قاضى القضاة بدر الدين [بن جماعة «4» ] ، وذلك فى الجمعة، رابع عشرين شهر رجب. فوقع اختيار قاضى القضاة، بدر الدين [بن جماعة «5» ] فى النيابة عنه، على القاضى جمال الدين سليمان بن عمر بن سالم الأذرعى «6» ، المعروف بالزرعى قاضى زرع «7» . فاحضره منها واستنابه بدمشق، وذلك فى يوم الاثنين تاسع عشر شوال من السنة.
وفيها، قدمت والدة الملك العادل بدر الدين سلامش ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس من بلاد الأشكرى «8» ، إلى دمشق. وكان وصولها(31/304)
فى حادى عشر رمضان. ونزلت بدار الحديث الظاهرية بدمشق.
وأرسل إليها نائب السلطنة الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى، التحف والهدايا والألطاف، وخدمها أتم خدمة. ثم توجهت من دمشق إلى القاهرة فى عشية الجمعة، ثامن عشر رمضان.
ذكر توجه السلطان الملك العادل وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا «1» العادلى وغير ذلك
وفى هذه السنة، توجه السلطان الملك العادل إلى الشام بجميع العساكر.
وكان استقلال ركابه من قلعة الجبل، فى يوم السبت سابع عشر شوال، بعد الزوال. ووصل إلى دمشق فى الساعة الخامسة من يوم السبت، خامس عشر ذى القعدة، والأمير بدر الدين بيسرى حامل الجتر «2» على رأسه. وحضر فى خدمته نائب السلطنة، الأمير حسام الدين لاجين، والصاحب فخر الدين بن الخليلى ونزل(31/305)
الوزير بدار الملك الزاهر. وفى يوم وصوله إلى دمشق، توجه إلى زيارة قبر والده، الشيخ مجد الدين بجبل الصالحية. فلقيه القاضى تقى الدين سليمان الحنبلى، وسلّم عليه، فعرّف به. فأمر أن يركب بغلته الجنيب، فركبها، وحضر معه إلى تربة والده.
فلما فرغ من القراءة، ولّاه الصاحب قضاء القضاة على مذهبه، فقبل. وخلع عليه فى بكرة النهار، وعلى بقية القضاة. وكان قاضى الحنابلة قبله، القاضى شرف الدين الحسن ابن الشيخ شرف الدين عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسى قد توفى، وكانت وفاته فى أول ليلة الخميس، الثانى والعشرين من شوال، ودفن ضحى يوم الخميس، رحمه الله تعالى «1» .
ولما استقر السلطان بدمشق، خلع على الأمراء والمقدمين، وعلى الصاحب تقى الدين توبة، والشيخ نجم الدين بن أبى الطيب، وولّاه وكالة بيت المال، وعلى شهاب الدين الحنفى.
ثم شرع الصاحب فخر الدين فى مصادرات الولاة والمباشرين. ورسّم على الأمير شمس الدين الأعسر شاد الدواوين [بدمشق «2» ] ، وعلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «3» والى البر، وعزله عن ولاية البر. وولّى الأمير علاء الدين ابن الجاكى عوضه، وطلب منهما الأموال، ورسّم على سائر المباشرين، وطلب من كل منهم جامكية سنة. واستخرج من شهاب الدين بن السلعوس ثمانين ألف درهم، وكان الأمير شمس الدين سنقر الأعسر باقيا على ولايته، وهو الذى تولّى(31/306)
المستخرج من المصادرين، استدمر وغيره. وهو مع ذلك يحمل ما تقرر عليه من الأموال «1» .
وفى يوم الاثنين رابع عشر ذى القعدة، وصل الملك المظفر صاحب حماه إلى خدمة السلطان بدمشق، فتلقاه السلطان وأكرمه. ثم جرد السلطان جماعة من العسكر المصرى، وعسكر دمشق إلى جهة حلب «2» .
وفى يوم الجمعة، ثامن عشرين ذى القعدة، حضر السلطان إلى جامع بنى أمية وصلى به الجمعة. وخلع على الخطيب قاضى القضاة بدر الدين [بن جمامة «3» ] ، وزار مصحف عثمان.
وفى يوم الاثنين مستهل ذى الحجة، حضر الأمير عز الدين الحموى الظاهرى، نائب السلطنة بدمشق، إلى خدمة السلطان. فأنكر عليه سوء اعتماده، وطمع نفسه، وما بلغه عنه من بسط يده فى أخذ المصانعات «4» . وأخذ السلطان خيوله المسوّمة وأمواله وأقمشته، ثم عزله عن النيابة، وفوضها لمملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى، وباشر النيابة من يومه. ثم خلع بعد ذلك على الأمير عز الدين الحموى، وأنعم عليه بإقطاع أغرلوا بالديار المصرية. وانتقل الحموى عند عزله من دار السعادة، ونزل بداره المعروفة بالجيشى التى بالقصاعين.(31/307)
وفيها، فى ثامن ذى الحجة، فوض السلطان وزارة الشام، لوكيله شهاب الدين الحنفى، عوضا عن تقى الدين توبة، وكان قبل ذلك يلى الحسبة بدمشق. وخلع عليه خلعة الوزارة فى يوم عيد الأضحى. ثم توجه السلطان فى ثامن [عشر] «1» ذى الحجة، إلى جهة حمص، وتصيّد فى تلك الجهة. ودخل حمص فى تاسع عشر ذى الحجة، وحضر إليه نائب السلطنة بحلب، وبقية النواب. وانسلخت السنة، والسلطان بمخيمه على جوسيه «2» ، وهى قرية من قرى حمص، كان قد اشتراها.
وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى، أمير جاندار.
وكانت وفاته بمصر، فى يوم الأربعاء، السادس والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وستمائة. ودفن بتربته بالرصد وكان رحمه الله تعالى، كثير الخير والإحسان إلى خلق الله تعالى. وعمّر المدارس والمساجد والجوامع، وله بإسنا من عمل قوص، مدرسة موقوفة على طائفة الشافعية. وبقوص مدرسة على ساحل البحر كذلك، وبجوار المدرسة مسجد له، يجتمع فيه الفقراء الأعجام القرندلية «3» فى شهر رمضان من كل سنة، ويذبح لهم فى كل يوم رأس غنم،(31/308)
وما يحتاجون إليه من التوابل «1» والخبز. وله بمصر مدرسة، وبكرسى الجسر جامع، وبالرصد جامع، وغير ذلك من الأماكن الشريفة المبرورة. ووقف عليها الأوقاف المبرورة الوافرة، رحمه الله تعالى.
وتوفى أيضا بالديار المصرية جماعة من الأمراء، منهم الأمير بدر الدين بيليك الحسنى أبو شامة، وهو الذى كان يندب إلى الكشف بالوجه القبلى بالديار المصرية، فى الدولة المنصورية، وما بعدها، رحمه الله تعالى «2» .(31/309)
واستهلت سنة ست وتسعين وستمائة [696- 1296/1297]
والسلطان الملك العادل بمخيمه على جوسيه. ثم رحل منها وعاد إلى دمشق، فدخلها فى يوم الأربعاء ثانى المحرم. وفى يوم الجمعة، حضر السلطان إلى الجامع، وصلى بالمقصورة، وأخذ من الناس قصصهم. ورأى شخصا بيده قصة، فتقدم إليه بنفسه خطوات، وأخذ القصة منه «1» .
وفيها، أمّر السلطان الملك العادل، الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك السعيد ابن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الملك العادل سيف الدين بن أبى بكر محمد بن أيوب، وجعله من أمراء الطبلخاناة بدمشق، وذلك فى يوم الخميس سابع عشر المحرم.
وفيها، فى يوم الاثنين، حادى عشرين المحرم، قبض على الأمير سيف الدين استدمر كرجى «2» ، واعتقل بالقلعة، وعزل الأمير سيف الدين سنقر الأعسر، عن وظيفة الشد، وولى عوضه الأمير فتح الدين بن صبره.
ذكر عود السلطان الملك العادل إلى الديار المصرية وخلعه من السلطنة ورجوعه إلى دمشق
وفى بكرة نهار الثلاثاء، الثانى والعشرين من المحرم، توجه السلطان بعساكره(31/311)
نحو الديار المصرية، وقد أجمع أكابر الأمراء على خلعه. فلما انتهوا إلى منزلة «1» العوجا، جلس السلطان فى الدهليز، وحضر الأمراء إلى الخدمة، وطلب الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى طلبا مزعجا. وكان قد توجه إلى الزيارة، فلما حضر، لم يقم له على عادته. ويقال إنه كلمة بكلام غليظ، ونسبه إلى أنه كاتب التنار، وحصل بينهما مفاوضة، ثم نهض السلطان من المجلس.
وقام الأمراء، واجتمعوا فى خيمة الأمير حسام الدين لاجين، نائب السلطنة، وتكلموا فيما وقع. فسأل الأمير بدر الدين بيسرى، الأمير حسام الدين عن موجب إغلاظ السلطان له. فقال: إن مماليكه قد كتبوا عنك كتبا إلى التتار، وأحضروها إليه، ونسبوك إلى أنك كتبتها، ونيته إذا وصل إلى قلعة الجبل، أن يقبض على وعليك، وعلى أكابر الأمراء، ويقدم مماليكه. فأجمعوا عند ذلك على «2» خلعه.
وركب الأمير حسام الدين لاجين، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى الحاجب ومن انضم إليهم. واستصحبوا معهم حمل نقّارات «3» ، وساقوا إلى باب الدهليز. وحركت النقارات حربيا، وذلك فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة. فلما مروا بخيمة بكتوت الأزرق العادلى(31/312)
قتلوه. وركب بتخاص «1» العادلى، وتوجه إلى باب الدهليز فقتلوه أيضا. ولما شاهد الملك العادل ذلك، خرج من ظهر الدهليز، وركب فرس النوبة، وعبر على القنطرة التى على ماء العوجا، وساق ركضا، وأدركه خمسة أو ستة من مماليكه.
واستقر به السير إلى دمشق. ودخل قلعتها، فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى «2» .
ذكر سلطنة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى وهو السلطان الحادى عشر من ملوك الترك، بالديار المصرية.
وهو من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون. اشتراه فى زمن إمرته «3» مرتين. وكان من مماليك الملك المنصور نور الدين على ابن الملك المعز [أيبك «4» ] ، فلما سفّر إلى بلاد الأشكرى، تأخر بالقاهرة، فاشتراه السلطان الملك المنصور، فى أيام إمرته بسبعمائة وخمسين درهما. ثم تبيّن له بعد ذلك أنه من مماليك الملك المنصور ابن الملك المعز، وقيل له إنه غائب ولا يصح بيعه إلا من حاكم [شرعى] «5» ، فاشتراه ثانيا من قاضى القضاة، تاج الدين بن بنت الأعز،(31/313)
بما يزيد عن ألف درهم. وباعه على الغائب، بالغبطة له. وقد شاهدت أنا عهديته «1» فى جملة عهد المماليك المنصورية السيفية، وشدّ عنى تحقيق الثمن الثانى، إلا أنه يزيد على ألف درهم. ولعل ذلك ألف وخمسون درهما. وكان يوم ذاك يدعى شقير. كذا رأيت عهديته (لاجين المدعو شفير) ، وكان فى البيت المنصورى يعرف بلاجين الصغير. وتأمر وناب عن السلطنة بدمشق، وهو لا يعرف بين الناس إلا بلاجين الصغير «2» . وسألت بعض أكابر الأمراء من المماليك المنصورية، الذين كانوا فى خدمة السلطان، فى زمن إمرته، عن لاجين الكبير، الذى ميّز هذا بالصغير بسببه، فما عرفوه. ولعل هذه الشهرة وقعت عليه وقوع اللقب، والله أعلم.
وتنقل لاجين هذا فى خدمة السلطان الملك المنصور، من وظيفة الأوشاقية إلى السلاح دارية. ولما قبض عليه السلطان الملك الأشرف، بعد عزله من نيابة الشام، ثم أفرج عنه وجعله سلاح دارا كما كان، فى خدمة أبيه السلطان الملك المنصور، قبل أن يستنيبه بدمشق. وقد تقدم من أخباره وتنقلاته، ما نستغنى الآن عن إعادته «3» .
ملك بمنزلة العوجاء من بلاد الساحل. وذلك أنه لما هرب الملك العادل كتبغا من الدهليز، وتوجه إلى نحو دمشق، فى الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة، اجتمع الأمراء وتشاوروا فمن ينصب فى السلطنة.(31/314)
فاتفقوا على إقامته فى السلطنة، وتلقب بالملك المنصور. وشرط الأمراء عليه شروطا فقبلها والتزمها. منها أن يكون معهم كأحدهم، وأن لا ينفرد برأى دونهم، وأن لا يبسط أيدى مماليكه فيهم، ولا يقدمهم عليهم، وحلّفوه على ذلك، فحلف عليه. فقال له الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى:- وكان من جملة الأمراء المشار إليهم- نخشى أنك إذا جلست فى المنصب، تنسى هذا الذى تقرر بيننا وبينك، وتقدم مماليك، وتخوّل «1» منكوتمر. فكرر الحلف أنه لا يفعل [ذلك] «2» ، ولا يخرج عمّا التزمه. فعند ذلك، حلفوا له وركب بشعار السلطنة، وتوجه بالعساكر نحو الديار المصرية.
ولما وصل إلى غزة، حمل الأمير بدر الدين بيسرى الجتر على رأسه.
ثم رحل منها، وكان وصوله إلى قلعة الجبل، وجلوسه على تخت السلطنة، فى يوم الجمعة عاشر صفر، سنة ست وتسعين وستمائة. ثم ركب بشعار السلطنة، وشقّ المدينة فى يوم الخميس سادس عشر صفر «3» .
ورتب فى نيابة السلطنة [بالديار المصرية «4» ] مقر ملكه، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، وجعل الأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار أمير جاندار، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى حاجبا. واستمر الصاحب فخر الدين بن الخليلى فى الوزارة برهة،(31/315)
ثم عزله على ما نذكره إن شاء الله. وفوض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى.
هذا ما كان بالديار المصرية، فلنذكر أخبار الملك العادل [كتبغا «1» ]
ذكر أخبار الملك العادل وما اعتمده بدمشق «2» وما كان من أمره إلى أن انتقل إلى صرخد
لما فارق الملك العادل الدهليز والأمراء، توجه إلى دمشق. وقدم قبله أحد مماليكه ليعلم مملوكه الأمير سيف الدين أغرلوا نائب السلطنة بدمشق ما تجدد، ويخبره بوصول السلطان. فوصل [أمير شكار «3» ] فى بكرة نهار الأربعاء، سلخ المحرم. فجمع [نائب السلطنة بدمشق «4» ] الأمراء، وركب جماعة من العسكر، وأمرهم بالوقوف خارج باب النصر.
ثم وصل الملك العادل إلى دمشق، فى وقت العصر من اليوم المذكور، ومعه أربعة أو خمسة من مماليكه. ودخل إلى القلعة، واستقر بها، وحضر إلى خدمته الأمراء، وخلع على جماعة. وأمر بإيقاع الحوطة على حواصل الأمير حسام الدين لاجين ونوابه «5» . ثم وصل الأمير زين الدين غلبك العادلى «6» فى(31/316)
يوم الخميس، مستهل صفر، بجماعة يسيرة من المماليك العادلية. وجلس شهاب الدين الحنفى وزير الملك العادل فى الوزارة بالقلعة. ورتب أحوال السلطنة.
وأمرّ العادل جماعة من دمشق، ووضع بعض «1» المكوس، وقرىء بذلك توقيع فى يوم الجمعة سادس عشر صفر.
وفى يوم السبت رابع عشرين الشهر، وصل الأمير سيف الدين كجكن وجماعة من الأمراء، كانوا معه بالرحبة مجردين، فلم يدخلوا دمشق، وتوجهوا إلى جهة ميدان الحصا. وأعلن باسم السلطان الملك المنصور [حسام الدين لاجين «2» ] ، وخرج إليه الأمراء بدمشق، طائفة بعد طائفة. فلما علم الملك العادل بذلك، وتحقق انحلال أمره، وتخاذل الناس عنه، وثبات قدم الملك المنصور فى السلطنة، وانضمام الناس إليه، أذعن إلى الطاعة، والدخول فيما دخل الناس فيه. وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور، هو خوشداشى، وأنا فى خدمته وطاعته، وأنا أكون فى بعض القاعات بالقلعة إلى أن يكاتب السلطان، ويرد جوابه بما يقتضيه رأيه فى أمرى. فعند ذلك اجتمع الأمراء بباب الميدان، وحلفوا بأجمعهم للسلطان الملك المنصور، وكتبوا إليه بذلك.
وتوجه البريد إليه بالخبر، ودخل الأمير سيف الدين جاغان إلى القلعة ورتب من يحفظ الملك العادل بها، إلى أن يرد جواب السلطان [المنصور «3» ] فى أمره، وغلقت أبواب دمشق، فى يوم السبت خلا باب النصر. وركب عسكر دمشق بالسلاح، وأحاطوا بالقلعة حفظا لها، وخوفا أن يخرج الملك العادل منها،(31/317)
ويقصد جهة أخرى قبل ورود جواب السلطان فى أمره «1» . ثم دقت البشائر فى وقت العصر من يوم السبت المذكور، وأعلن باسم السلطان الملك المنصور.
وقرأ المؤذنون فى ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر بالمأذن (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)
«2» إلى آخر الآية. ودعوا للملك المنصور، ودعا له قارىء المصحف، بعد صلاة الصبح وضربت البشائر على أبواب الأمراء، وأظهروا الفرح والسرور بسلطنته، وفتحت أبواب البلد وزينت، وفتح «3» الناس حوانيتهم.
وفى يوم الأحد المذكور، اجتمع القضاة بدار السعادة، وحضر الأمراء والعساكر، وحلفوا للملك المنصور. وتولى النحليف القاضى شمس الدين بن غانم، بحضور الأمير سيف الدين أغرلوا، نائب السلطنة، وحلف هو أيضا، وأظهر السرور بسلطنة الملك المنصور. وقال: السلطان، أعز الله تعالى نصره، هو الذى عيننى لنيابة السلطنة، وأستاذى كان قد استصغرنى، فأشاد هو بى، فأنا نائب السلطان الملك المنصور. ثم توجه هو والأمير سيف الدين جاعان إلى الأبواب السلطانية «4» .
وخطب للملك المنصور حسام الدين لاجين، بجوامع دمشق، فى يوم الجمعة، مستهل شهر ربيع الأول، سنة ست وتسعين وستمائة. وكان الأمير شمس الذى سنقر الأعسر، قد حضر من جهة السلطان الملك المنصور إلى ظاهر(31/318)
دمشق، فى ليلة الأحد رابع صفر. وأرسل إلى الأمراء كتبا كانت معه، وحلف جماعة منهم. وتوجه إلى قارا «1» فى ليلته، وكان بها جماعة من الأمراء المجردين، فاجتمع بهم، وقرّر الأمر معهم، وكتب إلى السلطان بذلك. ثم رجع وأقام بلد بجماعته، حفظا للبلاد بتلك الجهة «2» . فلما بلغه «3» استقرار الأمور بدمشق، توجه إليها، ودخلها فى يوم الخميس، سابع عشرين صفر. فتلقاه الناس، واشتعلت الشموع لمقدمه نهارا، وحضر الأكابر والأعيان إلى خدمته. ونودى بدمشق، من له مظلمة، فليحضر إلى دار الأمير شمس الدين [سنقر الأعسر «4» ] .
ثم وصل الأمير حسام الدين أستاذ الدار إلى دمشق، بجماعة من العسكر.
وجمع الأمراء بدار السعادة، بحضور القضاة. وقرئ عليهم كتاب السلطان، يتضمن استقراره فى الملك، وجلوسه على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، واجتماع الكلمة عليه، وركوبه بالخلع الخليفية، والتقليد من أمير المؤمنين، الحاكم بأمر الله، أبى العباس أحمد «5» .
ثم وصل الأمير سيف الدين جاغان الحسامى، من الأبواب السلطانية، فى عشية يوم الاثنين، حادى عشر شهر ربيع الأول. ودخل فى بكرة نهار الثلاثاء،(31/319)
إلى قلعة دمشق، هو والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير سيف الدين كجكن، وقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، واجتمعوا بالملك العادل. فحلف للسلطان الملك المنصور يمينا مستوفاة مغلظة، أنه فى طاعة السلطان الملك المنصور وموافقته، وإخلاص النية له، وأنه رضى بالمكان الذى عينه له، وهو قلعة صرخد، وأنه لا يكاتب ولا يستفسد أحدا، إلى غير ذلك، مما اشترط عليه. ثم وصل الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، نائب السلطنة بالشام، إلى دمشق فى يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول، ونزل بدار السعادة، على عادة النواب «1» .
وخرج الملك العادل، من قلعة دمشق، وتوجه إلى صرخد، فى ليلة الثلاثاء تاسع عشر، شهر ربيع الأول. وتوجه معه مماليكه، وجرد معه جماعة من العسكر الشامى، إلى أن وصل إلى قلعة صرخد.
فكانت مدة سلطنة الملك العادل، منذ جلس على تخت السلطنة، بقلعة الجبل، فى يوم الأربعاء حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة، وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجا، وتوجه إلى دمشق، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم، سنة ست وتسعين وستمائة، سنتين وسبعة عشر يوما، وإلى أن خلع نفسه من السلطنة بدمشق، فى يوم السبت رابع عشرين صفر، شهرا واحدا، وأحد عشر يوما «2» .
ولما وصل الأمير سيف الدين جاغان إلى دمشق، أحضر على يديه توقيعا(31/320)
للصاحب تقى الدين توبة، بوزارة دمشق على عادته، وتوقيعا للقاضى أمين الدين بن حلال، بنظر الخزانة، عوضا عن تقى الدين توبة، وتوقيعا للشيخ أمين الدين العجمى بنظر الحسبة بدمشق. فباشر كل منهم ما فوض إليه. ثم خلع على الأمراء والمقدمين، والقضاة، وأعيان الدولة بدمشق، فى يوم الاثنين ثانى شهر ربيع الآخر. فيقال إن عدة التشاريف التى فرقت ستمائة تشريف «1» .
ذكر الإفراج عن جماعة من الأمراء
وفى هذه السنة، أفرج السلطان الملك المنصور عن جماعة من الأمراء المعتقلين، وهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير سيف الدين برلغى الأشرفى، والأمير شمس الدين الركن السلاح دار، وغيرهم من المماليك السلطانية. وأعطى الأمير ركن الدين بيبرس [الجاشنكير «2» ] إمرة بالديار المصرية، والأمير سيف الدين برلغى إقطاعا بدمشق، فتوجه إليها.
وفيها، أمّر السلطان الملك المنصور جماعة من مماليكه، وهم الأمير سيف الدين منكوتمر، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، والأمير سيف الدين بيدوا «3» ، والأمير سيف الدين جاغان، والأمير سيف الدين بهادر المعزى.
ذكر تجديد عمارة الجامع الطولونى وترتيب الدروس به، والوقف على ذلك
وفى هذه السنة، أمر السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين بتجديد(31/321)
عمارة الجامع الطولونى. وندب لذلك الأمير علم الدين سنجر الدوادارى. وأقر لعمارته من خالص ماله، عشرين ألف دينار عينا. فاهتم الأمير علم الدين، المشار إليه، بعمارته وعمارة أوقافه. وابتاع السلطان من بيت المال منية أندونه «1» ، من الأعمال الجيزية، ووقفها على المدرسين والمشتغلين وأرباب الوظائف بالجامع.
ورتب فيه درسا لتفسير كتاب الله العزيز، ودرسا لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودروسا للفقه على المذاهب الأربعة. وجعل لهذه الدروس مدرسا لكل طائفة، ومعيدين وطلبة. ورتب دروسا للطب «2» ، وميعادا «3» للرقائق «4» ، وشيخا للسبحة، ومكتب سبيل، وغير ذلك من أنواع البر. ورتب لهم الجامكيات المتوفرة، واستمر ذلك إلى الآن «5» .
وفى هذه السنة، نقل السلطان، الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس «6» أحمد(31/322)
العباس أمير المؤمنين، من البرج الذى كان يسكنه بقلعة الجبل إلى مناظر الكبش. وأجرى عليه وعلى أولاده الأرزاق الواسعة، ووصله بالصلات الجزيلة، وصار يركب معه فى الموكب. والتمس الخليفة من السلطان الإذن فى الحج، فأذن له فى سنة سبع وتسعين وستمائة، وجهزه بما يحتاج إليه «1» .
ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر
. وفى هذه السنة، حضر إلى الأبواب السلطانية جماعة من قضاة القضاة والأعيان بدمشق، منهم قاضى القضاة حسام الدين الحنفى الرومى، وقاضى القضاة جمال الدين المالكى، والقاضى إمام الدين القزوينى، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى وغيرهم. فلما وصلوا، أكرمهم السلطان، وأحسن إليهم، وخلع عليهم. وفوض إلى قاضى القضاة حسام الدين الحنفى قضاء القضاة بالديار المصرية، وعامله بمالم يعامل به أحدا من الإكرام، والتقريب والبر والتشاريف.
وأقر ولده القاضى جلال الدين على قضاء الشام. وفوض إلى القاضى إمام الدين القزوينى الشافعى، قضاء القضاة بدمشق على مذهب الإمام الشافعى. وكتب تقليده فى رابع جمادى الأولى، عوضا عن قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.
واستقر بيد القاضى بدر الدين الخطابة بالجامع الأموى بدمشق، وتدريس المدرسة القيمرية، وأعيد القاضى جمال الدين الزواوى المالكى إلى دمشق على عادته، وخلع عليهما، فكان وصولهما إلى دمشق فى ثامن شهر رجب. وجلس القاضى إمام الدين للحكم بالمدرسة العادلية، وامتدحه الشعراء. فكان ممن امتدحه الشيخ كمال الدين بن الزملكانى بقصيدته التى أولها:(31/323)
تبدّلت الأيام من عسرها يسرا ... فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى «1»
وأما الرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى، فإنه تأخر بالديار المصرية مدة، ثم عاد إلى دمشق، فوصلها فى الخامس والعشرين من شهر رمضان. وقد خلع عليه خلع الوزراء، تشريفا كاملا بطرحة ومنديل هنكرى «2» مزركش، وخلع على ولديه. واستعاد [له] «3» من ورثة السلطان الملك المنصور، ما كان قد صودر به، وأخذ منه فى «4» الأيام المنصورية. وأثبت ذلك فى وجه وكيل الورثة المنصورية، وتعويض عنها أملاكا، من الأملاك المنصورية. فذكر أن قيمتها أضعاف ما أخذ منه، منها حصة بقرية الرمثا «5» وغير ذلك.
وفيها، ولى الأمير سيف الدين جاغان الحسامى شد الشام، وباشر ذلك فى يوم الاثنين العشرين من شهر رجب، عوضا عن الأمير فتح الدين بن صبره «6» .
ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
وفى هذه السنة، تقدم أمر السلطان بطلب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورى، من دمشق، على خيل البريد. فركب منها فى سابع عشر جمادى الآخره. ووصل إلى الأبواب السلطانية فى الشهر المذكور، فأكرمه السلطان(31/324)
وأحسن إليه، وشرّفه وأمّره بالديار المصرية. ثم فوض إليه الوزارة، وتدبير الدولة، بالديار المصرية والممالك الشامية «1» .
وكان جلوسه فى دست الوزارة، فى السادس والعشرين، من شهر رجب.
وعزل الصاحب فخر الدين بن الخليلى، وسلّم إليه، ليستخرج منه «2» مالا. واستمر فى الوزارة إلى يوم السبت ثالث عشرين ذى الحجة، فقبض عليه لأمور أنكرها السلطان، وظهرت له منه.
ذكر القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة، وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمر.
وفى هذه السنة، فى يوم الثلاثاء منتصف ذى القعدة، قبض السلطان على نائبه وخوشداشه، الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى واعتقله. وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده وحواصله، بالديار المصرية والبلاد الشامية. وفوّض السلطان، بعد القبض عليه، نيابة السلطنة بمقر ملكه، لمملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامى «3» .
وفى هذه السنة، بعد القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، ركب السلطان الملك المنصور إلى الميدان، للعب بالكرة، فتقنطر به فرسه، فسقط إلى الأرض، وانكسر أحد جانبى يديه وبعض أضلاعه. ووجد شدّة(31/325)
عظيمة لذلك. واحتاج الجبرون إلى كسر عظم الجانب الآخر من يده، لأجل صحة الجبر، فإنه لا «1» يجبر أحد الجانبين، وإن انجبر قصر عن الجانب الآخر، فنعذّر «2» الانتفاع باليد، واضطرّ إلى ذلك، وتوقف عن الإجابة إليه. فدخل عليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر- وكان ذلك قبل القبض عليه- وقال له:
أنا حصل لى مثل هذا، فلما احتجت إلى كسر النصف الآخر، ضربته بدقماق حديد «3» ، فانكسر ثم جبر. وكلّمه فى ذلك بكلام فيه غلظ واستخفاف. ولم يسلك ما جرت العادة به من الآداب الملوكية. فكان هذا من أسباب القبض عليه كما تقدم.
واستمر السلطان على الانقطاع لهذه الحادثة، إلى أن كملت صحته، وصح ما جبر من يده وجسده. ثم ركب فى حادى عشر صفر، سنة سبع وتسعين وستمائة فاستبشر الناس بذلك، ودقّت له البشائر بمصر والشام.
وفى سنة ست وتسعين وستمائة، فى الحادى والعشرين من شهر ربيع الأول كانت وفاة الشيخ الإمام، السيد الشريف ضياء الدين مفتى المسلمين، أبى الفضل جعفر ابن الشيخ العارف القطب اتفاقا، عبد الرحيم بن أحمد بن مجنون الحسينى الشافعى، رحمه الله. وكان قد ولى وكالة بيت المال، فى أول الدولة المنصورية، مدة لطيفة، ثم عزل نفسه.(31/326)
وفيها، فى ليلة الثلاثاء، سادس عشرين ربيع الأول، توفى الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ محمد بن عبد الله الظاهرى، وولده محمد، عتيق السلطان الملك الظاهر غازى. ودفن بتربته بمقبرة باب النصر، ظاهر القاهرة، رحمه الله تعالى.
وفيها، فى يوم الاثنين ثامن عشر شعبان، توفى الصدر سيف الدين أحمد ابن محمد بن جعفر الساوى بدمشق، ودفن بداره، جوار المدرسة الكروسية، داخل دمشق. وكان كبير المحل فى النفوس، مشهور المكانة عند الخليفة المستعصم بالله وغيره. وقد تقدم ذكره فى الدولة المنصورية. وكان حسن الشعر إلا أنه كان كثير الهجاء. وأهاجيه مشهورة، منها الأرجوزة التى عملها فى مباشرى «1» الدولة المنصورية الناصرية بدمشق، وهى مشهورة.
وفيها، فى ليلة الخميس الثالث والعشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الأمير عز الدين أزدمر العلائى، أحد الأمراء بدمشق. وهو أخو الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى، رحمهما الله تعالى.
وفيها، كانت وفاة الصاحب محيى الدين أبى عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن النحاس الأسدى. وكانت وفاته ببستانه بالمزة، فى سلخ ذى الحجة ودفن فى مستهل المحرم. ولى الوزارة بالشام مرارا. ولما توفى، كان مدرسا بالمدرسة الريحانية والظاهرية وناظر الخزانة، رحمه الله تعالى.(31/327)
واستهلت سنة سبع وتسعين وستمائة [697- 1297/1298]
ذكر وصول الملك المسعود نجم الدين خضر ومن معه من القسطنطينية إلى الديار المصرية «1»
كان السلطان قد كتب إلى الأشكرى، صاحب القسطنطينية، فى سنة ست وتسعين وستمائة، إذ تجهّزوا أولاد الملك الظاهر إلى الديار المصرية مكرمين، هم ومن معهم. فجهز إليه الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته.
وأحضر الملك العادل سلامش فى تابوت مصبرا، وكان قد مات بالقسطنطينية.
وكان وصولهم فى هذه السنة، فأكرمهم السلطان، وأحسن إليهم. وكان قد تزوج إحدى بنات الملك الظاهر، فلذلك كتب بإحضارهم، ودفن الملك العادل بدر الدين سلامش. ثم استأذن الملك المسعود السلطان فى الحج، فأذن له، فحج فى هذه السنة. وجهزه السلطان بما يحتاج إليه. ولما عاد، سكن القاهرة المعزية.
وفى هذه السنة، كتب تقليد الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، بنيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، وجهزّ إليه إلى دمشق، فوصل إليه فى يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول، يزينه التشريف السلطانى والسيف والحياصه والفرس. ويقال إنه تولى نيابة دمشق فى هذه المدة الماضية بغير تقليد، فوصل(31/329)
إليه الآن، فجدّد الحلف للسلطان بحضور القضاة والأمراء. وركب بكرة نهار الخميس، وعليه التشريف، وقبّل عتبة باب السر بقلعة دمشق على العادة.
ذكر توجه الملك السلطان الناصر إلى الكرك وإقامته بها
وفى هذه السنة، جهز السلطان الملك المنصور حسام الدين [الملك السلطان الناصر «1» ] إلى الكرك، فتوجه إليها، وتوجه فى خدمته الأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، فوصل إليها فى رابع شهر ربيع الأول. فأخبرنى قاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى، عن خبر إرساله إلى الكرك. قال: طلبنى الملك المنصور حسام الدين، وقال لى: «إعلم أن السلطان الملك الناصر ابن أستاذى، وأنا والله فى السلطنة مقام النائب عنه. ولو علمت أنه الآن يستقل بأعباء السلطنة ولا تنخرم هذه القاعدة، ويضطرب الأمر، أقمته وقمت بين يديه. وقد خشيت عليه فى هذا الوقت، وترجح عندى إرساله إلى قلعة الكرك. فيكون بها إلى أن يشتد عضده، ويكون من الله الخير. والله ما أقصد بإرساله إليها إبعاده، ولكن حفظه، [وأما «2» ] السلطنة فهى له» . وأمثال هذا الكلام. قال: فشكرته على ذلك، ودعوت له. ولعل السلطان الملك المنصور، إنما قال هذا القول تطبيبا لقلب قاضى القضاة، لا حقيقة، وكان فى طى الغيب كذلك.
ولما توجه السلطان الملك الناصر إلى الكرك، توجه فى خدمته جماعة من مماليكه ومماليك أبيه السلطان الملك المنصور، منهم الأمير سيف الدين بهادر الحموى المنصورى وهو أكبرهم سنا. وهو القائم فى خدمته مقام اللالا، والأمير(31/330)
سيف الدين أرغون المنصورى الناصرى الدوادار، وكان قد تربى فى خدمة السلطان من صفره، وسيف الدين طيدمر جوباش «1» ، رأس نوبة الجمدارية وغيرهم.
وكان النائب بالكرك يوم ذاك، الأمير جمال الدين أقش الأشرفى المنصورى وكان فى خدمة السلطان الملك الناصر بالكرك، وهو باق على نيابته بها.
ذكر القبض على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره
وفى هذه السنة، فى سادس شهر ربيع الآخر، قبض السلطان على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى. واعتقله بالقاعة الصالحية، بقلعة الجبل.
وكان مكرما فى اعتقاله، وأحضر إليه زوجته المنصورية، والدة أحمد ابن السلطان الملك المنصور. وكان سبب ذلك أن السلطان ندبه فى هذه السنة لكشف جسور الجيزية واتقانها. وهذه الوظيفة بالنسبة له إطراح «2» كثير له ولعظامته «3» ، وإن كانت كثيرة فى حق غيره. فتوجه إلى الجيزية بسائر مماليكه وألزامه. فاجتمع معه جمع كثير، يقال إنهم كانوا نحو سبعمائة. وكان يحضر إلى الخدمة فى يومى الاثنين والخميس، ويعود إلى مخيمه. فلما تكامل اتقان الجسور، استأذن فى عمل ضيافة للسلطان هناك. فأذن له واهتم لها اهتماما كثيرا. وحصل بسببها جملة من الأغنام والأصناف وغير ذلك. وقرر مع السلطان أنه يحضر هذه الضيافة.
فأوهم نائبه الأمير سيف الدين «4» منكوتمر، السلطان من خروجه وحذره منه.(31/331)
وأحضر بهاء الدين أرسلان، أستاذ دار الأمير بدر الدين بيسرى، وهو ابن مملوكه بدر الدين بيليك، أمير مجلس. وكان قد ربى أرسلان هذا كالولد.
فلما كبر قدّمه على جماعة من أكابر مماليكه الذين كانوا فى منزلة أبيه، وجعله أستاذ داره، وأحسن إليه إحسانا كثيرا، فخدمه الأمير سيف الدين منكوتمر ولاطفه ووعده بإمرة طبلخاناة، إن هو أنهى إلى السلطان، أن مخدومه الأمير بدر الدين بيسرى يقصد اغتياله. فأطمعت أرسلان نفسه، بما وعده منكوتمر، ووافقه على ما قصده. وحضر إلى السلطان وأوهمه من أستاذه أنه إن حضر ضيافته قبض عليه وقتله. ثم عّضد ذلك أن الأمير بدر الدين بيسرى، أرسل إلى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطانى، لينصب فى مكان المهم، ولم يشعر بما وقع. فرسم بتسليم الدهليز لمماليك الأمير بدر الدين بيسرى، وأن يتوجه مقدم الفراشين السلطانية ومن معه لنصبه، ولم يطلع السلطان على ذلك.
فلما حمل الدهليز السلطانى على الجمال، ومرّبه المماليك والغلمان، تحت القلعة ليتوجهوا به إلى الجيزية، رآه السلطان من القلعة. فأرسل إلى الأمير سيف الدين منكوتمر، وسأله عن أمره، فأنكر أن يكون اطلع على شىء من حاله. وقال إن مماليك بيسرى أخذوه من الفراش خاناة السلطانية من غير استئذدان. ثم قال للسلطان، هذا مما يحقق صدق ما نقل عنه، وأغراه به. فأمر السلطان بإعادة الدهليز إلى الفراش خاناة «1» .
وكان الحامل للأمير سيف الدين منكوتمر على ذلك أن أستاذه الملك المنصور حسام الدين، كان قد عزم على أن يجعله ولىّ عهده بعده، كما فعل السلطان الملك المنصوره والملك الظاهر بأولادهما، ويقرن اسمه مع اسمه فى الخطبة، لأن لاجين لم يكن له ولد ذكر. فتحدث فى ذلك مع الأمير بدر الدين بيسرى، فأنكره غاية(31/332)
الإنكار، وأجاب عنه بأقبح جواب، وردّه بأشنع ردّ. فكان مما حكى أنه قال للسلطان: أعلم أن مملوكك هذا الذى أشرت إليه، لا يصلح للجندية، وقد أمرّته وقدمته، فصبر الناس لك على هذا. وجعلته نائب السلطنة، ومشيّت الأمراء والجيوش فى خدمته، فأجابوا إلى ذلك، طاعة لك، وطلبا لرضاك، مع ما تقدم من أيمانك عند السلطنة، أنّك لا تقدم مماليكك على الأمراء، ولا تمكنهم منهم. ثم لم تقنع له بما خوّلته فيه، ومكنته منه، ورفعته من قدره، حتى نقصد أن تجعله سلطانا مثلك، هذا لا يوافقك الناس عليه أبدا.
وحذره من ذلك غاية التحذير، ونهاه عنه، وعن الحديث فيه مع غيره. ولعمرى لقد بالغ فى النصحية «1» له. فأعلم السلطان منكوتمر، بما دار بينه وبين الأمير بدر الدين بيسرى فى أمره، وبما أجاب به فى معناه. فرأى منكوتمر أنه منعه ملكا عظيما، وسلبه أمرا جسيما. وعلم أنه لا يتم له هذا الأمر، الذى أشار به السلطان، ولا يتمكن منه، مع بقاء بيسرى وأمثاله من الأمراء. فشرع فى التدبير عليهم، وأغرى مخدومه بهم. وابتدأ بالتدبير على بيسرى. وعلم أنه إن ينقل «2» عنه أمرا، ربما أن السلطان لا يتلقاه بقبول، فأخذه من مأمنه. وتحيّل على أستاذ داره أرسلان، حتى أنهى عنه ما أنهاه. ثم عضد ذلك بواقعة الدهليز، فتحقق ما نقل عنه. ولما وقع ذلك، أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر، فراسلوا الأمير بدر الدين بيسرى، وأعلموه، بما اطلعوا عليه وكان ممن راسله فى ذلك، الأمير سيف الدين طقجى الأشرفى وغيره من الأمراء، وحذروه من السلطان، وحلفوا له على الموافقة والمعاضدة. فلم يرجع إلى قولهم، ولا أصغى(31/333)
إليهم. ثم أرسل إليه سيف الدين أرغون، أحد مماليك الملك المنصور، وخاصكيته وأقربهم عنده، يخبره أن السلطان قد عزم على القبض عليه، ويحذره من الحضور إلى الخدمة، وإنه إن حضر يكون فى أهبة واستعداد. وكان الحامل لأرغون على ذلك، أن أستاذه أمرّ غيره من مماليكه، ولم يؤمره بطبلخاناة مع اختصاصه به، وانما أعطاه إمرة عشرة «1» ، فوجد فى نفسه. ومن العجب أن كل واحد، من السلطان وبيسرى، أتى فى هذا الأمر من مأمنه، وأذاع سره أخص الناس به، فإن أرسلان كان من بيسرى بالمكان الذى ذكرناه، كأعز أولاده عنده، وأرغون هذا كان من أخص المماليك المنصورية الحسامية، حتى لقد بلغنى أنه أعطاه فى يوم واحد، سبعين فرسا، وغير ذلك. فحمل أرسلان الطمع بالإمرة، و [حمل] «2» أرغون الغيرة من تقديم أمثاله عليه. ففعلا ما فعلا، ونقلا ما نقلا.
وحضر الأمير بدر الدين بيسرى إلى الخدمة، فى يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الآخر. فأخبرنى ركن الدين بيبرس الجمدار، أحد المماليك «3» البدرية، الذين كانوا معه، يوم القبض عليه، أنه لما عبر إلى الخدمة، تلقاه السلطان قائما على عادته. وجلس إلى جانبه، وبالغ السلطان فى إكرامه. ولما قدم السماط، امتنع الأمير بدر الدين من الأكل، واعتذر بالصوم. فأمر(31/334)
السلطان برفع مجمع من الطعام لفطوره، فرفع له. وبقى السلطان يحادثه سرا، ويؤانسه ويشغله عن القيام، إلى أن رفع السماط. وخرج الأمراء، وقام الأمير بدر الدين معهم على عادته. فلما انتهى إلى بعض الإيوان، استدعاء السلطان، فعاد إليه. فقام له أيضا وجلس معه، وحدّثه طويلا. والحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج «1» . ثم قام [بيسرى] «2» ، فاستدعاه [السلطان] «3» أيضا، فعاد إليه. وقام السلطان له، وجلس معه وتحدثا.
قال الحاكى لى: ورأيت السلطان قد ناوله شيئا من جيبه، ما أعلم ما هو، فتناوله الأمير بدر الدين، ووضعه فى جيبه، وقبّل يد السلطان وفارقه. وقد خلى المجلس والدهاليز إلا من المماليك السلطانية. فلما خرج، أتاه الأمير سيف الدين طقجى، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير الحسامى، وعدلا به إلى جهة أخرى.
وقبض ايدغدى شقير على سيفه، وأخذه من وسطه، ونظر إليه طقجى وبكى عند القبض عليه. وتوجها به إلى المكان الذى جهز لاعتقاله به. ولم يزل الأمير بدر الدين معتقلا إلى أن مات، فى الدولة الناصرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى «4» .
وقبض السلطان أيضا على الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى الحاجب، ونقل الأمير سيف الدين كرد أمير آخور إلى الحجبة «5» . وقبض على الأمير شمس(31/335)
سنقر شاه «1» الظاهرى. وقبض أيضا فى أواخر السنة على الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى.
[وفى جمادى الأولى «2» ] ، أمر السلطان بمصادرة القاضى بهاء الدين بن الحلى ناظر الجيوش المنصورة، وأخذ خطه بألف ألف درهم، وعزله عن الوظيفة «3» .
أو حضر عماد الدين بن المنذر، ناظر جيش الشام، فولّاه النظر. وكان قد جلس فى نظر الجيش، فيما بين عزل بهاء الدين وحضور ابن المنذر، القاضى أمين الدين المعروف بابن الرقاقى. فلما وصل ابن المنذر، فوض إليه النظر. ومرض أمين الدولة، وانقطع فى داره لما حصل له من الألم «4» .
وفى هذه السنة، أقيمت الخطبة وصلاة الجمعة بالمدرسة المعظمية بسفح قاسيون، ولم تكن قبل ذلك، وخطب بها مدرسها شمس الدين بن الشرف بن العز الحنفى، فى يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، باتفاق الملك الأوحد ناظر المدرسة «5» .
ذكر إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى إلى الوزارة
وفى هذه السنة، فى جمادى الأولى، رسم السلطان بإعادة الصاحب الوزير فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلى إلى الوزارة فعاد،(31/336)
وصادر ألزام الأمير شمس الدين [سنقر] «1» الأعسر «2» .
ذكر تجريد العساكر إلى سيس وما فتح من قلاعها
وفى هذه السنة، جرّد السلطان الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى الصالحى أمير سلاح، والأمير حسام الدين لاجين الرومى، أستاذ الدار، والأمير شمس الدين آقسنقر كرتاى «3» ، ومن معهم من مضافيهم. وأمرهم أن يتوجهوا إلى بلاد سيس. فتوجهوا من القاهرة، فى جمادى الأولى، والمقدم على الجيش أجمع الأمير بدر الدين [بكتاش] «4» أمير سلاح.
وكان وصولهم إلى دمشق فى يوم الخميس، خامس جمادى الآخرة، وتوجهوا منها فى ثامن الشهر. وجرّد، معهم من عسكر دمشق، الأمير ركن الدين بيبرس العجمى الجالق، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصورى ومضافيهم «5» . وجرد العسكر الصفدى، ومقدمه الأمير علم الدين [ايدغدى «6» ] الإلدكزىّ «7» . وجرّد جماعة من العسكر الطرابلسى، والملك المظفر صاحب حماه بعسكرها.(31/337)
ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله إلى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأل مراحمه، فلم تجد «1» رسالته نفعا.
ووصلت هذه العساكر إلى حلب. وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدرادارى، أحد مقدمى العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعا، وأدرك الجيش بحلب. وجرد من العسكر الحلبى الأمير علم الدين المعروف بالزغلى و [الأمير علم الدين سنجر الحلبى «2» ] ، ومضافيهما. وتوجهت هذه الجيوش بجملتها إلى بلاد سيس. فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين. فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدى من عقبة بفراس إلى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون. وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدوادارى، والأمير شمس الدين آفسنقر كرتاى «3» ، وبقية الجيش من عقبة المريت «4» . وصار نهر «5» جهان بين الفريقين وكان دخولهم إلى در بند سيس، فى يوم الخميس، رابع شهر رجب.(31/338)
ولما صاروا ببلاد سيس، اختلف الأمير بدر الدين أمير سلاح، والأمير علم الدين الدوادارى، فأشار أمير سلاح بالحصار ومنازلة القلاع. وأشار الدوادارى بالإغارة والإفتصار عليها. وقال أنا المقدم على هذه الجيوش كلها، وأنا آخركم عهدا بالسلطان، وإنما رسم السلطان بالإغارة. فاضطر أمير سلاح ومن معه، لموافقة الدوادارى، وقطعوا جهات من مخاضة العمودين، وتوجهوا للإغارة. فتوجه صاحب حماه والدوادارى، ومن معهما إلى سيس نفسها. وتوجه أمير سلاح ومن معه إلى تاورزه «1» ، وأقاموا عليها يوما وليلة. ورحلوا إلى أذنة، واجتمعت الطائفتان «2» بها، بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن، واستاقوا ما مرّوا به من الأبقار والجواميس. وعادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الإغارة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، حتى نصبوا جسرا مرت العساكر عليه، ورجعوا إلى بغراس، ثم إلى مرج أنطاكية. وأقاموا ثلاثة أيام، ورحلوا إلى جسر الحديد بأرض الروج «3» ، عازمين على العود إلى الديار المصرية، بالعساكر «4» المصرية إلى مستقرها.
وكان الأمير بدر الدين أمير سلاح، لما نازعه الدوادارى فى التقدمة، ومنعه من الحصار، وصمم على الأقتصار على الإغارة، قد كتب إلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى، نائب السلطنة بالمملكة الحلبية، يعلمه بما وقع والتمس منه مطالعة السلطان بذلك. فطالع بصورة الحال، فورد الجواب من السلطان، والعساكر(31/339)
بالروج، يتضمن الإنكار على الأمير علم الدين الدوادارى، كونه ادّعى التقدمة على الأمير بدر الدين أمير سلاح، واقتصر على الإغارة، وأن الدوادارى إنما خرج مقدما على مضافيه خاصة، وإن التقدمة على سائر الجيوش للأمير بدر الدين أمير سلاح. ورسم السلطان أن العساكر لا تعود، إلا بعد فتح تل حمدون. وإن عادت قبل فتحها، فلا إقطاع لهم بالديار المصرية؛ إلى غير ذلك من الحث على فتحها. فعند ذلك، عطفت العساكر من الروج إلى جهة حلب، ووصلوا إليها، وأقاموا بها ثمانية أيام، وتجهّزوا منها بما يحتاجون إليه. ودخلوا إلى بلاد سيس بأثقالهم، وعبروا بجملتهم من عقبة بغراس. وجرّد الأمير بدر الدين [بكتاش] «1» أمير سلاح، الأميرين سيف الدين كجكن، وبهاء الدين قرا أرسلان، إلى إياس، فأكمن لهم الأرمن فى البساتين، فلم تتمكن العسكر من قتالهم، ورحلوا شبه المنهزمين، فأنكر أمير سلاح عليهم وسبّهم، فاعتذروا بضيق المسلك والتفاف الأشجار، وعدم التمكن من العدو. ثم رحل بجميع الجيش، ونزل على تل حمدون، فوجدها خالية، وقد أنتقل من بها من الأرمن إلى قلعة نجيمة، فتسلمها، فى سابع شهر رمضان، وسلمها للأمير علم الدين الشيبانى، النائب ببغراس.
ولما دخل الجيش إلى بلاد سيس، جرّد الأمير سيف الدين الطباخى، نائب السلطنة بحلب، طائفة من عسكرها، ومن انضم إليهم من التركمان وغيرهم، ففتحوا قلعة مرعش، فى عاشر شهر رمضان أيضا. ثم جاء الخبر إلى العسكر أن واديا تحت قلعة نجيمة وحموّص «2» قد امتلأ بالأرمن، وأن المقاتلة من قلعة(31/340)
نجمية يحمونهم. فندب إليه طائفة من العسكر، فرجعوا ولم يبلغوا غرضا.
ثم [سيّر] «1» طائفة ثانية، فرجعوا كذلك «2» . فرحل الأمراء بجملتهم فى نفر من أعيان الجيش وأقويائه، وقاتلوا أهل نجيمة، حتى ردوهم إلى القلعة.
ثم تقدم الجيش إلى الوادى، وقتلوا من به من الأرمن، وأسروا ونهبوا، ونازلوا قلعة نجيمة، ليلة واحدة. ثم خرج العسكر إلى الوطاة «3» ، وبقى صاحب حماه وأمير سلاح، فى مقابلة من بالقلعة، حتى خرج العسكر، خشية أن يخرج أهل نجيمة، فينالوا من أطراف العسكر. ثم خرجوا بجملتهم واجتمعوا بالوطاة. فوصل البريد بكتب السلطان، يتضمن أنه بلغه أن تل حمدون أخليت، وأنها أخذت بغير قتال ولا حصار، وانتقل من بها إلى قلعة نجيمة. وأمر بمنازلة قلعة نجيمة وحصارها، إلى أن تفتح، فعادت العساكر إليها وحاصروها. واختلف أمير سلاح والدوادارى أيضا، فقال الدوادارى: إن هذا الجيش بجملته إذا نازل هذه القلعة، لا يظهر من اجتهد وقاتل، ممن تخاذل وعجز. والقتال عليها إنما هو من وجه واحد. والرأى أن يتقدم فى كل يوم مقدم ألف، ويزحف بجماعته ليظهر فعله، واستقل القلعة واستصغرها وحقّر أمرها. وكان فى جملة كلامه أن قال:
أنا آخذ هذه القلعة فى حجرى. فاتفق الأمر على أن يتقدم الدوادارى بألفه، للزحف فى أول يوم. فزحف بمن معه حتى لا حف «4» السور. فأصابه حجر منجنيق فى مشط رجله، فقطعه وسقط إلى الأرض. فتبادر الأرمن بالنزول إليه،(31/341)
وكادوا يأسرونه. فحمل أمير سلاح بجماعته، حتى حجزهم عنه. وأخرج الدوادارى على جنوية «1» ، وحمل إلى وطاقه «2» . وعادوا إلى حلب، ثم توجه منها إلى الديار المصرية. وقد سكنت نفسه، ونقصت حرمته عما كانت عليه، وكان قبل ذلك له حرمة وافرة وقتل الأمير علم الدين سنجر طقصبا الناصرى، على هذه القلعة. وزحف الأمير شمس الدين آقسنقر كرتاى «3» فى اليوم الثانى، وانتهى إلى سور القلعة ونقيه، وخلّص منه ثلاثة أحجار. واستشهد من مماليكه وأجناده أحد عشر رجلا، ونفران من الحجارين.
ثم زحف أمير سلاح، وصاحب حماه، وبقية الجيش. ورتّبهم أمير سلاح طوائف، طائفة تتلو أخرى. وقرر معهم، أن يردف بعضهم بعضا. وتقدموا بالجنويات، حتى وصلوا إلى السور، وأخذوا مواضع النقوب «4» ، وأقاموا الستائر «5» .
ولازموا الحصار عليها واحدا وأربعين يوما. وقد اجتمع بها جمع كثير من الفلاحين والنساء والصبيان من أهل القرى المجاورة لها، فقلّت المياه بالقلعة.
فاضطر الأرمن إلى إخراجهم منها، فأخرجوهم فى ثلاث دفعات. فأخرجوا فى المرة الأولى مائتى رجل، وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبيا. فقتل العسكر الرجال، وتفرّقوا النساء والصبيان. ثم أخرجوا فى المرة الثانية مائة وخمسين(31/342)
رجلا، ومائتى امرأة، وخمسة وسبعين صبيا، ففعلوا بهم كذلك. ثم أخرجوا جماعة أحرى فى المرة الثالثة. ولم يتأخر بالقلعة الا المقاتلة، وقلّت عندهم المياه، حتى اقتتلوا بالسيف على الماء، فسألوا الأمان فأعطوه، وسلموا القلعة فى ذى القعدة من السنة. وخرجوا منها، وتوجهوا إلى مأمنهم «1» .
وفى أثناء هذا الحصار، وصلت إلى العسكر مفاتيح النقير «2» وحجر شغلان وسرقند كار وزنجفره وحموّص «3» ، وتتمة أحد عشر حصنا من حصون الأرمن.
وسلم الأمير بدر الدين أمير سلاح هذه «4» الفتوح إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «5» أحد الأمراء بدمشق، وجعله نائبا بها. فلم يزل [استدمر «6» ] بهذه الحصون، إلى أن بلغه حركة التتار وقربهم، فأباع ما بها من الحواصل وتركها خالية، فاستولى الأرمن عليها.
ولما تكامل هذا الفتح، عادت العساكر إلى حلب، ونزلوا بها، ليريحوا خيولهم. وترادف عليهم الأمطار وتزايدت، حتى سكنوا الخانات والدور. ثم أردفهم السلطان بتجريدة أخرى، من الديار المصرية، صحبة الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير سيف الدين طقطاى، والأمير مبارز الدين أوليا(31/343)
ابن قرمان، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير الحسامى. فوصلوا إلى دمشق، فى ذى القعدة، وتوجهوا إلى حلب، وأقاموا بها مع العسكر. وجهز صاحب سيس رسلا إلى الأبواب السلطانية يسأل عواطف السلطان ومراحمه «1» . واستمر العسكر بحلب ينتظرون ما يرد عليهم، من أبواب السلطان. فأقاموا عليها شهورا، إلا الأمير حسام الدين أستاذ الدار، فإنه توجه إلى الأبواب السلطانية، على خيل البريد. وكان عود هذا العسكر إلى الديار المصرية، ووصوله إلى القاهرة، فى منتصف شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة، بعد مقتل السلطان بثلاثة أيام على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل
وفى سنة سبع وتسعين وستمائة، فى العشر الأول، من جمادى الأولى «2» ، ورد على السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، مطالعة مضمونها: أن شخصا بقرية جينين «3» ، من الساحل الشامى، كانت له زوجة، فتوفيت إلى رحمة الله تعالى. فحملت بعد تغسيلها وتكفينها ودفنت. فلما عاد زوجها من المقبرة، تذكر أن منديله وقع فى القبر، وفيه جملة من الدراهم. فأتى إلى فقيه فى القرية، فاستفناء ف نبش القبر. فقال له فى ذلك يجوز نبشه وأخذ المال منه. ثم تداخل الفقيه المفتى فى ذلك شىء فى نفسه. فقام وحضر معه إلى القبر، فنبش الزوج القبر ليأخذ المال، والفقيه على جانب القبر. فوجد الزوج زوجته مقعدة «4»(31/344)
مكتوفة بشعرها، ورجليها مكتوفتين بشعرها، [فحاول حل كتافها «1» ] ، فلم ينحل له ذلك، فأمعن فى ذلك، فخف به وبزوجته. ولم يوجد أو لم يعلم للخسف منتهى. وأما الفقيه فإنه أقام مغشيا عليه يوما وليلة أو ليلتين.- نسأل الله أن يسترنا ولا يفضحنا، وأن لا يؤاخذنا بسوء أفعالنا-. ولما وردت المطالعة على السلطان بهذه الحادثة، عرضها على شيخنا قاضى القضاة تقى الدين ابن دقيق العبد وغيره. وكتب يستعلم عن سيرة هذه المرأة والزوج المخسوف بهما، فما علمت ما ورد عليه من الجواب فى ذلك «2» .
ذكر روك «3» الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة
وفى سنة سبع وتسعين وستمائة أيضا، رسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، بروك الإقطاعات والمعاملات والنواحى والجهات بالديار(31/345)
المصرية. وندب لذلك من الأمراء، الأمير بدر الدين بيليك «1» الفارسى الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، المعروف بالبريدى.
وتوجه الكشاف إلى الأقاليم البرانية، بالوجهين القبلى والبحرى، ومسحوا البلاد مساحة روك، وحرروا الجهات وعادوا. وانتصب لهذا جماعة من الكتاب، كان المشار إليه فيهم، تاج الدين عبد الرحمن المعروف بالطويل، وهو أحد مستوفيى «2» الدولة، من مسالمة «3» القبط، وممن يشار إليه فى معرفة صناعة الكتابة، ويعتمد على قوله، ويرجع إليه فيها، فرتب ذلك على حسب ما اقتضاه رأى السلطان فى تقريره.
واستقرّ فى الخاص السلطانى الأعمال الجيزية والأطفيحية وثغر الإسكندرية وثغر دمياط ومنفلوط وكفورها، وهو، والكوم الأحمر من الأعمال القوصية، وفى كل إقليم بلاد.
وتقرر إقطاع نيابة السلطنة من أعظم الإقطاعات وأكثرها متحصلا. فكان من جملته بالأعمال القوصية، مرج بنى هميم وكفورها، وسمهود وكفورها، ودواليبها ومعاصرها، وحرجة «4» مدينة قوص وأدفو. وهذه النواحى يزيد متحصلها(31/346)
من الغلال خاصة، على مائة ألف وعشرة آلاف أردب، خارجا عن الأموال والقنود «1» والأعسال والتمر والأحطاب وغير ذلك. وفى كل إقليم من الديار المصرية نواحى ومعاصر، فكان فى خاصه سبع «2» وعشرون «3» معصرة، لاعتصار قصب السكر.
وكان نجاز الروك فى ذى الحجة سنة سبع وتسعين وستمائة. واستقبل به سنة ثمان وتسعين الهلالية «4» . وحوّلت السنة الخراجية من سنة ست وتسعين إلى سنة سبع وتسعين. وهذا التحويل جرت به العادة، بعد انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، تحوّل سنة، وهو التفاوت فيما بين السنة الشمسية والقمرية. فيجمع من ذلك فى طول السنة، ما ينغمس به سنة. وهو حجة ديوان الجيش فى اقتطاع التفاوت الجيشى. وقيل إن قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)
«5» ، إن التسعة هى هذا التفاوت «6» ، ما بين السنتين، والله تعالى أعلم.
وهذا التحويل لا ينقص بسببه شىء من الأموال البتة، وإنما هو تحويل بالأقلام خاصة «7» .(31/347)
ولما نجز هذا الروك، أقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربسته «1» ، لم يستثن منها غير الجوالى «2» والمواريت الحشرية «3» ، فإن ذلك جعل فى جملة الخاص السلطانى.
واستثنيت الرزق الأحباسية «4» المرصدة لمصالح الجوامع والمساجد، والربط والزوايا، والخطباء والفقراء. واستقرت فى سائر البلاد على ما يشهد به ديوان الأحباس.
وما عدا ذلك من سائر الأموال وغيرها، دخل فى الإقطاع.
وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير عز الدين الجناجى، نائب السلطنة ومقدم العسكر بغزة. وكان قبل وفاته قد أودع عند فخر الدين الاعزازى التاجر بقيسارية الشرب بدمشق صندوقا، ولم يطلع على ذلك إلا خزنداره. وكان الصندوق المودع عنده قبل ذلك وديعه، عند بعض أصحاب الأمير المذكور، فأخذ منه، ثم أودعه عند فخر الدين. واتفقت وفاة خزندار الأمير، وهو الذى اطلع على الوديعة قبل وفاة مخدومه بأيام. ثم مات الأمير، فلما اتصلت وفاته بفخر الدين الاعزازى، اجتمع بقاضى القضاة إمام الدين الشافعى بدمشق، وعرفه خبر الوديعة. فأمره بالتأنى فى أمرها؛ حتى تثبت وفاة المذكور، ويتحقق أمر ورثته، ففعل ذلك. وفى أثناء ذلك، طلب الأمير سيف الدين جاغان؛(31/348)
شاد الدواوين بالشام، الوديع الأول وطالبه بما عنده من الوديعة. فادعى أن الجناجى استعاد ذلك منه، فلم يصدقه، وقصد ضربه وعقوبته، بسبب ذلك.
فأتاه فخر الدين المذكور واعترف أن الوديعة عنده، وأحضر الصندوق إلى الديوان السلطانى. وفتح واعتبر ما فيه، فكان فيه من الذهب اثنان وثلاثون «1» ألف دينار، ومائتا «2» دينار، وأربعة «3» وثلاثون دينارا، وحوائص ذهب، وطرز زركش بتتمة خمسين ألف دينار، هكذا نقل إلىّ ثقة.
وفيها، توفى الأمير سيف الدين بلبان الفاخرى، أمير نقباء العساكر المنصورة بالأبواب السلطانية، وكانت وفاته فى رابع عشر ربيع الآخر. وأعطى إقطاعه سيف الدين بكتمر الحسامى الطرنطاى أمير آخور. وكان السلطان، قبل ذلك أمرّه بعشرة طواشية، فنقله الآن إلى إمرة الطبلخاناة. ثم تنقّل بعد ذلك فى المناصب والنيابات عن السلطنة والوزارة وغير ذلك، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.
وفيها، فى يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، كانت وفاة الأمير سعد الدين كوجا الناصرى. وكان يتولى نيابة دار العدل، وتولى تغر الإسكندرية وكان بيده إمرة عشرة طواشية.(31/349)
وفيها، توفيت الخاتون الجليلة الكبرى، نسب خاتون، ابنة الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر أيوب، فى العشر الأوسط فى، شهر ربيع الأول. ودفنت عند والدها بقاسيون، رحمهما الله تعالى.(31/350)
واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698- 1298/1299]
فى هذه السنة، فى أولها جهز السلطان الأمير جمال الدين أقش الأفرم، والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى «1» إلى الشام، وأمرهما أن يتوجها إلى دمشق، ويخرجا نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجاق «2» وبقية العسكر إلى البلاد الحلبية. فوصلا إلى دمشق على خيل البريد، فى يوم الأربعاء سابع المحرم.
فتجهز الأمير سيف الدين قبجاق نائب السلطنة، وخرج بسائر عساكر دمشق حتى بحرية القلعة، وجماعة الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب القلعة، وتأخر بدمشق الأمير سيف الدين جاغان. وكان خروج نائب السلطنة من دمشق، فى عشية الأربعاء، رابع عشر المحرم، وبات بالميدان الأخضر. وركب فى بكرة النهار؛ وتوجه بالعساكر إلى جهة حمص. وكان سبب هذه الحركة ظاهرا، أن السلطان بلغه أن التتار قد عزموا على الدخول إلى البلاد الإسلامية بالشام.
وعلم الأمير سيف الدين قبجاق، أن الأمر ليس كذلك. فإن القصاد قبل ذلك بيسير، حضروا إليه من بلاد الشرق، وأعلموه أن التتار كانوا قد تجهزوا وعزموا على الحضور إلى الشام. فلما كانوا باثناء الطريق، وقعت عليهم صواعق كثيرة، وأهلكت منهم خلقا كثيرا، فتفرقوا فى مشاتيهم، ولم يرد خلاف ذلك.(31/351)
والقصاد لاتصل إلى الباب السلطانى بالديار المصرية، إلا بعد الإجتماع بنائب السلطنة بدمشق، فاستشعر الأمير سيف الدين قبجاق السوء، وعلم أن هذه الحركة إنما هى تدبير «1» عليه، وعلى غيره من الأمراء. فأوجب ذلك توجههم إلى التتار.
ذكر مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء الخدمة السلطانية، ولحاقهم بقازان ملك التتار
وفى هذه السنة، فى شهر ربيع الآخر، توجه الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أحد مقدمى الجيوش المنصورة المصرية، والأمير فارس البكى الساقى، نائب السلطنة بالمملكه الصفدية، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار [الصالحى «2» ] ، إلى بلاد التتار، والتحقوا بملكها قازان محمود.
وسبب ذلك أن الأمير سيف الدين منكوتمر، نائب السلطنة، ثقلت عليه وطأة الأمراء الأكابر. وقصد القبض عليهم أولا، وإقامة خوشداشيته ليصفو له الوقت، ويخلص له الأمر، ويتمكن السلطان بما قصده من تفويض ولاية العهد بعده له. فحسّن للسلطان القبض على من تقدم ذكرهم، فقبض عليهم. ثم شرع فى التدبير على من بالشام من الأمراء والنواب، الذين يعلم منهم الممالاة «3» والمناوأة. فجهز الأمير علاء الدين ايدغدى «4» شقير إلى حلب، كما تقدم، وأردفه بالأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى، وعلى يده كتاب إلى نائب السلطنة(31/352)
بالمملكة الحلبية، بالقبض على الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، [وعلى «1» ] الأمير فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين طقطاى، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين عزار. ومن يعذر عليه القبض عليه، يتحيّل فى سقيه.
فسقى الأمير سيف الدين طقطاى فمات بحلب، فى أول شهر ربيع الأول.
واتصل الخبر ببقية الأمراء، فاحتاطوا لأنفسهم، واحترزوا فى مأكلهم ومشربهم وملبسهم. وأعمل الأمير سيف الدين الطباخى الحيلة فى القبض عليهم، وذلك بعد خروجهم من سيس. فجهز سماطا، واحتفل به، وتحدث مع الأمراء أن يتوجهوا معه، ويحضروا السماط، فامتنعوا من ذلك، واعتذروا له، وتوجهوا إلى خيامهم.
فلم تجمع «2» هذه المكيدة. وكان السلطان قد كتب إلى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، أن يجهز طلبه وأثقاله إلى المملكة الطرابلسية، ويكون نائبا عن السلطنة بها، وذلك بعد وفاة الأمير عز الدين أيبك الموصلى. وأن يحضر هو بنفسه إلى الأبواب السلطانية، على خيل البريد، ليوصيه السلطان مشافهة.
فأظهر البشر لذلك، وعلم أنه خديعة.
ولما كان فى مساء النهار، الذى عمل الطباخى فيه السماط، اجتمع الأمير سيف الدين الطباخى النائب بحلب، والأمير سيف الدين كجكن، والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، وأرسلوا إلى الأمير بكتمر السلاح دار والبكى ومن معهما، يطلبونهم للحضور لمشورة. وأن سبب هذا الاجتماع، أن بطاقة وردت فى البيرة فى أواخر النهار، تتضمن أن التتار أغاروا على ما حول البيرة، فأجابوا بالأمتثال، وأنهم يحضرون إلى الخدمة فى إثره. فعاد، وركبوا فى الوقت على حميّة.(31/353)
فأما بزلار فإنه ساق هو وخمسة نفر، وعبر الفرات إلى رأس العين وانتهى إلى سنجار فتوفى بها. وأما الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الذين البكى، والأمير سيف الدين عزار، فإنهم توجهوا إلى حمص، واجتمعوا بالأمير سيف الدين قبجاق، وأطلعوه على جلية الحال، وحلفوه لأنفسهم، وحلفوا له. وكتب إلى السلطان يعلمه بما وقع من الاختلاف، وبوصول الأمراء إليه، ويسأل لهم الأمان» وأن يطيب السلطان خواطرهم.
وسيّر بذلك الأمير سيف الدين بلغاق «1» ابن الأمير سيف الدين كونجك الخوارزمى على خيل البريد. فوصل إلى دمشق، فى يوم السبت خامس شهر ربيع الآخر، وتوجه منها إلى باب السلطان.
وكتب الأمير سيف الدين قبجاق إلى الأمير سيف الدين جاغان، وهو بدمشق، يطلب منه أن يرسل إليه مالا وخلعا من الخزانة، لينفق المال على الأمراء، ويخلع عليهم، ويطيب خواطرهم. فلم يجب إلى ذلك. وكتب إليه يلومه على إغفاله أمر الأمراء، الذين وصلوا إليه، وهم طلبة السلطان، وكونه تمكن من القبض عليهم، ولم يفعل. وكتب إليه الأميران سيف الدين كجكن، وعلاء الدين ايدغدى شقير، وهما يلومانه وينكران عليه كونه أقر هؤلاء الأمراء عنده، مع تمكنه من القبض عليهم، وقد علم خروجهم على الطاعة وأغلظا له فى القول، وتواعداه، أنه متى لم يقبض عليهم، حضروا إليه، وقبضوا عليه وعليهم، وكاشفاه فى القول مكشفة ظاهرة. فتسلّل «2» عن الأمير(31/354)
سيف الدين قبجاق من معه من العسكر الشامى: وعادوا إلى دمشق، أولا فأولا. فكتب إلى جاغان فى ذلك، وأن يردّهم إليه، فلم يفعل. وشكر [جاغان «1» ] من حضر.
فرأى الأمير سيف الدين قبجاق أن أمره قد انتقص، وبلغه أن العسكر المجرد بحلب قد توجه نحوه. فركب فى ليلة الثلاثاء، ثامن شهر ربيع الآخر من حمص، هو والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين عزار، وقبضوا على الأمير علاء الدين أقطوان النائب بحمص، واستصحبوه معهم إلى القريتين، ثم أخذوا فرسه وأطلقوه.
وتوجهوا فى جماعة، يقال إن عدة من صحبهم من ألزامهم ومماليكهم خمسمائة فارس. وتوجهوا لا يلوون على شىء، وتعقبهم الأمير سيف الدين كجكن والأمير علاء الدين ايدغدى شقير، فى طائفة من العسكر إلى الفرات، فما أدركوهم، ووجدوا بعض أثقالهم فأخذوها «2» .
ثم ورد عليهم الخبر بقتل السلطان، فانحلت عزائمهم، وتفلّلت أراؤهم. وساق سيف الدين بلبان القصاص البريدى إلى رأس عين، ولحق الأمير سيف الدين قبجاق بها. وأعلمه بمقتل السلطان، وسأله الرجوع بمن معه. وحلف له على صحة ما أخبره به، فظن أن ذلك مكيدة. ثم تحقق الحال بعد ذلك وقد تورط، وصار فى بلاد العدو، فلم يمكنه الرجوع.
ولما وصل الأمراء إلى رأس عين، بلغ مقدم التتار بتلك الجهة خبر وصولهم، فخافهم. ثم تحقق أنهم حضروا إلى خدمة الملك قازان، فحضر إليهم وأكرمهم،(31/355)
وخدمهم صاحب ماردين، وقدّم لهم أشياء كثيرة. وقصد بولاى مقدم التتار، بتلك الناحية، أن الأمراء يتوجهون «1» إلى جهة فازان على خيل البريد. ويتأخر من معهم من أتباعهم وألزامهم عن الوصول إلى البلاد، حتى يرد المرسوم.
فامتنع قبجاق من ذلك، وأبى إلا الدخول بالطّلب «2» والجماعة الذين معه، فامتنع التتار عليه. فيقال إنه أخرج إليهم كتاب الملك قازان إليه، وهو فى بالشت «3» ذهب. فعند ذلك خضعوا له، ومكّنوه مما أراد، من الدخول بالطّلب.
وتوجهوا كذلك، ودخلوا إلى الموصل بطلبين «4» ، والتقاهم أهل البلد. وتوجهوا من الموصل، وانتهوا إلى بغداد. فخرج إليهم عسكر المغل والخواتين والتقوهم.
ثم توجهوا إلى قازان، وهو يومئذ بأرض السيب «5» من أعمال واسط. فأكرمهم وأحسن إليهم، وأوجب ذلك وصول قازان بجيوشه إلى الشام على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(31/356)
ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر
كان مقتلهما فى ليلة يسفر «1» صباحها عن يوم الجمعة، الحادى عشر من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وستمائة. وسبب ذلك، أن السلطان كان قد فوض الأمور إلى مملوكه نائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، وقصد التخلى والراحة والدعة، وعزم على أنه إذا خلى وجهه من الأمراء، وقبض على من يخشى غائلته منهم، فوّض إليه أمر السلطنة، واحتجب هو، على قاعدة الخلفاء.
وإنما كان يمنعه من ذلك، وجود أكابر الأمراء، الذين لا يوافقونه «2» على الرأى هذا. فلما قبض على من ذكرنا من أكابر الأمراء، وأبعد من بقى منهم بالتجريد إلى جهة الشام، استخف حينئذ منكوتمر، بمن بقى منهم، واستبد بالأمر. وآخر ذلك، أن السلطان رسم له أنه إذا كتب مرسوم سلطانى بإنعام أو غيره، بغير إشارته، يقطعه بعد العلامة السلطانية. فثقلت وطأته على الناس، وأنفت نفوس الأمراء من ذلك، وكرهوا بقاء الدولة، وأحبوا زوالها بسببه، مع إحسان السلطان إلى كثير منهم «3» . وكان الأمير سيف الدين كرجى، أحد الأمراء المماليك السلطانية، قد اختص بخدمة السلطان، وتقدم عنده، وجعله مقدما على المماليك السلطانية، على ما كان عليه الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، فى الدولة الأشرفية. فبقى كرجى هو الساعى فى مصالح المماليك(31/357)
السلطانية والمتلقى لمصالحهم، فانضموا إليه ودخلوا تحت طاعته، وقويت شوكته بهم، وشوكتهم به. فثقل ذلك على منكوتمر، وعمل على إبعاده.
وحسّن إلى السلطان أن يبعثه إلى نيابة السلطنة بالفتوحات ببلاد سيس «1» .
وكان قد تقدم من الأمراء، قبل كرجى، الأمير سيف الدين تمربغا، فعمل عليه منكوتمر وأبعده وأخرجه إلى الكرك. ثم نقله من الكرك إلى طرابلس، فى جملة الأمراء، فمات بها. فلما اتصل الخبر بكرجى، حضر إلى بين يدى السلطان، وتضرر واستعفى من هذه الولاية فأعفاه السلطان، وشرع فى العمل على منكوتمر. وأتفق أن الأمير سيف الدين طقطاى، أحد الأمراء الخاصكية، وهو نسيب الأمير سيف الدين طقجى، خاطب منكوتمر فى أمر فأغلظه فى القول، وسبّه، فشكا ذلك إلى الأمير سيف الدين طقجى «2» ، فأسّرها فى نفسه.
واجتمع هؤلاء الأمراء، وتشاكوا فيما بينهم، وذكروا سوء سيرة منكوتمر فيهم، وقبح فعله واستخفافه بهم، وعلموا أنهم لا يتمكنون «3» منه، مع بقاء السلطان مخدومه، فاجتمع رأيهم على اغتيال السلطان.
فلما كان فى هذه الليلة المذكورة، جلس السلطان يلعب الشطرنج مع إمامه [نجم الدين] بن «4» بن العسال، وكان قد تقدم عنده، وعنده قاضى القضاة(31/358)
حسام الدين الحنفى «1» ، وكانت له عادة بالمبيت عند السلطان فى بعض الليالى.
فدخل عليه كرجى على عادته، فسأله السلطان عما فعل. فقال: قد أغلقت على الصبيان فى أماكن مبيتهم، وكان قد رتب بعضهم فى أماكن من الدهاليز. فشكره السلطان، وأثنى عليه. وذكر للقاضى حسام الدين خدمته للسلطان، وملازمته الخدمة. فقبّل كرجى الأرض، ثم تقدم لإصلاح الشمعة التى بين يدى السلطان، فأصلحها وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاة «2» السلطان. وكان سلاح دار النوبة قد وافقه وباطنه على قتل السلطان. ثم قال كرجى للسلطان: ما يصلى مولانا السلطان العشاء، فقال نعم، وقام للصلاة. فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة. فعند ذلك، جرد كرجى سيفه، وضرب السلطان به على كتفه، فأراد السلطان أخذ النمجاه فلم يجدها. فقبض على كرجى، ورماه تحته، فضربه السلاح دار بالنمجاه على رجله، فقطعها. فانقلب [السلطان] «3» على ظهره، وأخذته السيوف، حتى قتل. وهرب ابن العسال الإمام إلى خزانة، وصرخ قاضى القضاة حسام الدين عند ضرب السلطان، لا يحل [هذا لكم «4» ] ، فهم كرجى بقتله. ثم تركه، وأغلق كرجى الباب عليه، وعلى السلطان.(31/359)
ثم خرج [كرجى] «1» . إلى الأمير سيف الدين طقجى، وقد استعد هو أيضا، وهو ينتظر ما يفعله كرجى، فأعلمه بقتل السلطان. ثم توجهوا إلى دار النيابة، وقد أغلقت. فطرق كرجى الباب، واستدعى الأمير سيف الدين منكوتمر برسالة السلطان، فأنكر حاله، واستشعر السوء، وامتنع من الإجابة. ثم قال له:
كأنكم فتلتم السلطان، فقال: نعم قتلناه، وسبّه. فعند ذلك ذلّ منكوتمر، وضعفت نفسه، واستجار بالأمير سيف الدين طقجى، فأجاره وحلف له أنه لا يؤذيه، ولا يمكن من أذاه، فاطمأن ليمينه وخرج إليهم. فأرسلوه إلى الجب، وأنزلوه إليه، فلما رآه الأمراء، قاموا إليه، وظنوا أن السلطان نقم عليه، وسألوه عن الخبر. فأخبرهم بقتل السلطان، فسبوه، وذكّروه بسوء فعله، وقصدوا قتله، ثم تركوه.
ثم رجع كرجى بعد اعتقال منكوتمر إلى مجلسه. وقال لطقجى: نحن ما قتلنا السلطان لإساءة صدرت منه إلينا، وإنما قتلناه بسبب منكوتمر، ولا يمكن ابقاءه. ثم قام، وتوجه إلى الجب، وأخرجه وذبحه من قفاه على باب الجب «2» .
فكانت مدة سلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين، منذ فارق الملك العادل الدهليز، وحلف الأمراء له بمنزلة العوجا، فى يوم الاثنين الثامن والعشرين من المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، وإلى أن قتل فى هذه الليلة، سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ومنذ خلع الملك العادل نفسه بدمشق، وحلف له، واجتمعت الكلمة عليه بمصر والشام، فى يوم السبت رابع عشرين صفر من السنة(31/360)
المذكورة إلى هذا التاريخ الذى قتل فيه، سنتين وشهرين إلا ثلاثة عشر يوما.
ودفن بتربته بالقرافة، ودفن نائبه منكوتمر بالتربة أيضا.
وكان رحمه الله تعالى ملكا عادلا، يحب العدل ويعتمده، ويرجع إلى الخير ويميل إليه، ويقرب أهله. وكان حسن العشرة، يجتمع بجماعة من المتعممين والعوام، ويأكل طعامهم. وكان أكولا، ولم يكن فى دولته وأيامه ما يعاب وينكر، إلا انقياده إلى مملوكه نائبه منكوتمر، والرجوع إلى رأيه، وموافقته على مقاصده حتى كان عاقبة ذلك قتلهما. واثرت موافقته له، من الفساد على العباد والبلاد وسفك دماء المسلمين، ما لم يستدرك. وذلك أن الأمراء الذين فارقوا الشام، وتوجهوا إلى التتار خوفا منه، أوجب توجههم إلى قازان، وصوله إلى الشام وخراب البلاد، وسفك الدماء، على ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله تعالى.
وبلغنى أن الملك المنصور هذا مازال يستشعر القتل، منذ قتل السلطان الملك الأشرف، وأنه فى يوم الخميس بعد العصر، العاشر من شهر ربيع الآخر، وهو اليوم الذى قتل فيه عشيته، أحضر إليه ندب نشاب «1» ميدانى، من السلاح خاناة السلطانية. فجعل يقلبه فردة فردة، ويقتل كل فردة منها، ويقول عند قتلها، من قتل قتل، وكرر هذا القول مرارا. فقتل بعد أربع ساعات من كلامه أو نحوها. وأجرى الله هذا الكلام على لسانه، والنفوس حساسة فى بعض الأحيان.(31/361)
وحكى لى بعض من أثق به، عن الأمير بدر الدين بكتوت العلائى حكاية عجيبة تتعلق به، وبالسلطان الملك الأشرف، أحبيت ذكرها فى هذا الموضع، فالشىء بالشىء يذكر.
قال بكتوت العلائى: كنت فى خدمة السلطان الملك الأشرف فى الصيد، وأنا يومئذ والأمير حسام الدين لاجين سلاح دارية، نحمل السلاح خلف السلطان. فاجتمعنا بحلقة صيد، وكانت النوبة فى حمل السلاح «1» خلف السلطان للأمير حسام الدين. وقد تقدمت إليه أنا، فى مكان من الحلقة، وإذ أنا بلاجين قد أدركنى، وأعطانى سلاح السلطان. وقال: خذ السلاح، وتوجه إلى السلطان، فإنه قد رسم بذلك. فأخذت السلاح، وتوجهت إلى خدمة السلطان. وساق لاجين فى مكانى الذى كنت به من الحلقة. فلما انتهيت إلى السلطان، وجدته وهو على فرسه، وقد جعل طرف عصا المقرعة على رأس النمازين «2» ، والطرف بجهته، وكأنه فى «3» غيبة من حسه. فلما جئت قال لى: يا بكتوت والله، التفت إلى ورائى، فرأيت لاجين خلفى، وهو حامل سلاحى، والسيف فى يدّه. فخّيل إلىّ أنه يريد أن يضر بنى به، فنظرت إليه، وقلت له يا أشقر «4» ، أعط السلاح لبكتوت يحمله، وتوجه أنت مكانه. قال بكتوت العلائى: فقلت للسلطان، أعيذ مولانا السلطان بالله، أن يخطر هذا بباله، ولاجين أقل من هذا، وأضعف نفسا أن يخطر هذا بباله، فضلا [عن] «5» أن يقدم عليه، وهو(31/362)
مملوك السلطان، ومملوك السلطان الشهيد، وتربية بيته الشريف. هذا معنى كلامه.
قال: وشرعت أصرفه عن هذا. فقال لى: والله ما عرفتك إلا ما خطر لى وتصورته. قال بكتوت العلائى: فخشيت على لاجين، كون هذا السلطان يتخيل هذا الأمر فيه، وينكفه عنه. وأردت أن أنصحه، فاجتمعت به فى تلك الليلة فى خلوة. وقلت له: بالله عليك، تجنب هذا السلطان، ولا تكثر من حمل السلاح، ولا تنفرد معه. فسألنى عن موجب هذا الكلام. فأخبرته بما ذكره السلطان لى، وبما أجبته. فشرع يضحك ضحكا كثيرا ويتعجب.
فقال، ما ضحكى إلا من إحساسه، والله لما نظر إلىّ، وقال لى يا اشقر «1» كنت قد عزمت على تجريد سيفه وقتله به. قال بكتوت العلائى: فعجبت من ذلك غاية العجب. ولنرجع إلى سياقة الأخبار بعد مقتلهما، إن شاء الله تعالى.
ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر
لما قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين، ونائبه الأمير سيف الدين منكوتمر، كان بالقلعة من الأمراء، غير طقجى وكرجى، الأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير [وسيف الدين سلار الأستادار «2» ] ، والأمير حسام الدين لاجين الرومى أستاذ الدار، وكان قد وصل(31/363)
على خيل البريد من حلب، بعد خروجه من بلاد سيس، والأمير جمال الدين آقش الأفرم، وكان قد عاد من دمشق، بعد إخراج نائبها والعسكر منها إلى حمص، كما تقدم، والأمير بدر الدين عبد الله السلاح دار، والأمير سيف الدين كرد «1» الحاجب، هؤلاء الأمراء المشار إليهم. فاجتمعوا، واتفقت آراؤهم على مكاتبة السلطان الملك الناصر وإحضاره من الكرك، وإعادة السلطنة إليه، وأن يكون الأمير سيف الدين طقجى الأشرفى نائب السلطنة، وانفصل الحال على ذلك.
ثم سمت بالأمير سيف الدين طقجى نفسه، إلى طلب السلطنة لنفسه، وتقرير النيابة لكرجى. وتأخر الإرسال إلى السلطان الملك الناصر. وركب الأمير سيف الدين طقجى فى يوم السبت حادى عشر «2» ، شهر ربيع الآخر، فى موكب النيابة، والأمراء فى خدمته. وعاد إلى القلاعة، وجلس. ومدّ السلطان السماط، وقد تفوه الناس له بالسلطنة، ولكرجى بالنيابة «3» .
حكى تاج الدين عبد الرحمن الطويل، مستوفى الدّولة، قال: طلبنى الأمير سيف الدين طقجى، وسألنى عن إقطاع نيابة السلطنة، فذكرت له بلاده(31/364)
وعبرها «1» ومتحصلاتها، وما انعقدت عليه جملة ذلك، فاستكثره، وقال هذا كثير، وأنا لا أعطيه لنائب. ورسم أن يوفّر منه جملة، تستقر فى الخاص.
ولم يبرز المرسوم بذلك. ثم خرجت من عنده، فطلبنى كرجى، وسألنى عن إقطاع النيابة، كما سألنى طقجى، فأخبرته بذلك. فاستقلّه، وقال أنا ما يكفينى هذا، ولا أرضى به. وشرع يسأل عن بلاد يطلبها زيادة على إقطاع منكوتمر.
قال: فعجبت من ذلك، كونهما جعلا فكرتهما وحديثهما فى هذا الأمر، قبل وقوع سلطنة هذا، ونيابة هذا «2» .
ذكر مقتل سيف الدين طقجى «3» وسيف الدين كرجى
كان مقتلهما فى يوم الإثنين، رابع عشر شهر ربيع الآخر، من السنة المذكورة. وذلك أن الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى، أمير سلاح، وصل من غزاة سيس، فى هذا اليوم، هو ومعه. وقد اتصل به خبر مقتل السلطان فاتفق الأمراء الأكابر على الخروج لتلقيه. وعرضوا ذلك على الأمير سيف الدين طقجى، وأشاروا أن يركب معهم. فامتنع من ذلك، وأظهر عظمة وكبرا.
فقالوا له إن عادة الملوك تتلّقى أكابر الأمراء، إذا قدموا من الغزاة، سيّما مثل هذا الأمير الكبير، الذى هو بقية الأمراء الصالحية. وقد طالت غيبته، وفتح هذه الفتوح. ولا طفوه، إلى أن ركب معهم، وخرج للقائه. فلما التقوا،(31/365)
سلّموا عليه، وسلّم عليهم. ثم قال الأمير بدر الدين [بكتاش] «1» ، أمير سلاح، للأمراء: «أنا عادتى إذا قدمت من الغزاة، يتلقانى السلطان. وكيف ما أجرانى على عادتى» . وكان قد علم بمقتل السلطان. وإنما أراد بذلك فتح باب للحديث. فقال له طقجى:- وهو إلى جانبه- «السلطان قتل» . فقال: «ومن قتله» . قال بعض الأمراء: «قتله كرجى، وهذا» .
- وأشار إلى طقجى- فقال: «لا بد من قتل قاتله» . ونفر فى طقجى، وقال له: «لا تسوق إلى جانبى» . فرفس طقجى فرسه، وبرز عنه. فحمل عليه أحد المماليك السلطانية، فضربه بسيفه، فقتل. واتصل خبر مقتله بكرجى، وكان قد تأخر فى طائفة من المماليك السلطانية، تحت القلعة. فهرب وقصد جهة القرافة فأدركوه عند قبور أهل الذمة، ببساتين الوزير، فقتل هناك، ولقى عاقبة بغيه «2» .
قضى الله أن البغى يصرع أهله ... وأن على الباغى تدور الدوائر
ولما قتل الأمير سيف الدين طقجى، توجه الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح إلى «3» داره بالقاهرة «4» ، واستقر بها. وكانت غيبته فى غزوة سيس هذه، أحد عشر شهرا وأياما. وحضر إليه بعض الأمراء الأكابر، واستشاره فى أمر السلطنة. فأشار بإعادة السلطان الناصر، ووافق رأيه رأيهم واتفقت الأراء على أن ترجع الحقوق إلى نصلبها، وتقرّ السلطنة الشريفة بيد(31/366)
من هو أحق وأولى بها، وتعود السلطنة إلى من نشأ فى حجرها وليدا، وتخول من منصبها الشريف طارفا وتليدا. وندبوا الأمير سيف الدين آل «1» ملك الجوكندار «2» ، والأمير علم الدين سنجر الجاولى، فتوجها إلى خدمة السلطان الملك الناصر بالكرك، على خيل البريد، لإحضاره. وطالعه الأمراء بما وقع، وما اجتمعت الأراء عليه.
وبقى الأمر بالديار المصرية مشتركا، يعد مقتل طقجى، بين الأمراء، إلى أن وصل السلطان الملك الناصر من الكرك. وكانت الكتب تصدر، وعليها خط ستة من الأمراء وهم: الأمير سيف الدين سلار، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، والأمير جمال الدين آقش الأفرم، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، والأمير سيف الدين كرد «3» الحاجب. وصدرت الكتب فى بعض الأوفات، وعليها خط ثمانية، خط هؤلاء الستة والأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار، والأمير بدر الدين «4» عبد الله السلاح دار.(31/367)
وجلس الأمير عز الدين أيبك الخزندار، فى ابتداء الأمر فى مرتبة النيابة.
فإن الأمراء دعوا له حق النقدمة فى خدمة البيت المنصورى. وكان له رأى فاسد فى مملوك، كان عند الأمير سيف الدين طقجى، اسمه تستاى «1» ، فطلبه وهو فى المجلس بالدركاه، بباب القلعة، وألحّ فى طلبه فأحضر إليه. فلما رآه، لم يتمالك عند رؤيته، أن لف شعره على يده، وقام من الدركاه، وخدم الأمراء، وتوجه بالصبى إلى داره. وكان غرضه من المناصب والتقدم فى الدولة، تحصيل هذا المملوك، فاشتغل به عما سواه، وفارق المجلس، وقد ظفر بما تمناه، فعلم الأمراء عند ذلك، سوء تدبيره، وقلة دينه، وأنه لا يعتمد عليه فى شىء، ولا يصلح للتقدم، وأنه لم يكن فيه من الصبر، عن غرضه الفاسد، التأنى بعض ساعة، حتى ينقضى ذلك المجلس، ويتفرق ذلك الجمع الكثير، وشاهدوا فعله بحضرتهم، وعدم تحاشيه منهم. فتقدم الأمير سيف الدين سلار عند ذلك وصار يجلس فى مرتبة النيابة، إلى أن حضر السلطان الناصر من الكرك.
هذا ملخص ما كان بالديار المصرية.
وأما دمشق وما اتفق بها، بعد توجه الأمير سيف قبجاق، نائب السلطنة بها، منها:
فإن الأمير سيف الدين بلغاق «2» الخوارزمى، لما توجه إلى الديار المصرية، من جهة الأمير سيف الدين قبجاق- كما قدمنا ذكر ذلك- وصل إلى القاهرة، فى يوم السبت ثانى عشر، شهر ربيع الآخر، بعد مقتل الملك المنصور [لاجين «3» ] ،(31/368)
فاجتمع بالأمير سيف الدين طقجى، وهو صاحب الأمر يومئذ، وأوصله ما كان على يده من المطالعات من جهة الأمير سيف الدين قبجاق، فقرئت عليه. وقال نكتب بإطابة قلبه، وقلوب الأمراء. ثم كان من قتل طقجى ما قدمناه. فكتب الأمراء الثمانية على يده إلى الأمراء بدمشق، بما وقع من قتل السلطان ونائبه منكوتمر، وطقجى وكرجى. وأن الحال قد استقر على عود الدولة الناصرية، وإطابة قلوب الأمراء. فوصل إلى دمشق فى يوم السبت، تاسع عشر الشهر، وكان المتحدث بها يومئذ الأمير سيف الدين جاغان والحسامى. فقبض الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصورى السيفى على جاغان وحسام الدين لاجين الحسامى، وكان قد ولى برّ دمشق، فى أوائل سنة ثمان وتسعين وستمائة، واعتقلهما بقلعة دمشق. وأوقع الحوطة على نواب الأمراء الأربعة المقتولين، وحواصلهم بدمشق. وجمع الأمراء بدمشق، وحلّفهم للسلطان الملك الناصر، وتحدّث بدمشق حديث نواب السلطنة. ولم تطل مدته، فإنه مات فى ثانى جمادى الأولى «1» ، فيقال إنه سقى.
ثم وردت كتب الأمراء، مدبرى «2» الدولة بالديار المصرية إلى دمشق، فى يوم السبت، رابع جمادى الأولى «3» ، وهى مؤرخة بالسادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، أن يستقر الأمير سيف الدين قطلبك «4» المنصورى السيفى، فى وظيفة الشد بالشام، عوضا عن جاغان. فباشر فى يوم الاثنين بعد العصر، وكان الملك المنصور لاجين قد جهّزه إلى حلب، يتحدث فى الأموال والحصون، ويشارك(31/369)
الأمير سيف الدين الطباخى فى الأمر، فوصل إلى دمشق، ونزل بالقصر الأبلق.
واتفق قتل السلطان وهو بدمشق، فلم يمكنه التوجه إلى حلب وأقام بالميدان.
فلما ورد هذا الكتاب، انتقل من القصر، وسكن دار الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وتحدث فى الأموال وغيرها. وبقى هو المشار إليه، إلى أن وصل إلى نائب السلطنة بدمشق.
ذكر عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى السلطنة ثانيا
قد ذكرنا أن الأمراء أرسلوا إلى خدمة السلطان الأمير بن سيف الدين آل «1» ملك الجوكندار «2» ، وعلم الدين سنجر الجاولى، فتوجها إلى السلطان، فوجداه يتصيد بجهة بحور الكرك. فلما شاهداه ترجلا، وقبلّا الأرض بين يديه، وقدّما إليه مطالعات «3» الأمراء، وأعلماه بهذه الحوادث. فركب من وقته وعاد إلى الكرك، وتجهز منها، وركب إلى الديار المصرية.
وكان وصوله إلى قلعة الجبل، فى يوم السبت الرابع من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة. وجلس على تخت «4» السلطنة، فى يوم الاثنين سادس الشهر(31/370)
المذكور، فكأنه المعنّى بقول القائل:
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به
ما كنت إلا السيف سلته بد ... ثم أعادته إلى قرابه
وركب فى ثانى عشر الشهر بشعار السلطنة. ولما جلس، استشار الأمراء الأكابر، فيمن يرتبه فى النيابة والوظائف. فوقع الأتفاق على أن يكون الأمير سيف الدين سلار المنصورى الصالحى نائب السلطنة بالأبواب الشريفة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار العالية، والأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصورى أمير جاندار، والأمير جمال الدين أقش الدوادارى الأفرم الحاجب، نائب السلطنة بالشام، والأمير سيف الدين «1» كرد الحاجب، نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية وما معها، عوضا عن الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى، وكان قد توفى إلى رحمة الله تعالى، فى صفر من هذه السنة. وأحضر الأمير سيف الدين قطلبك «2» المنصورى من الشام، ورتّب أمير حاجب بالأبواب السلطانية. وأقر السلطان الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليلى على وزارته. وخلع السلطان على الأمراء والأعيان، على جارى العادة.
وتوجه الأمير جمال الدين آقش الأفرم إلى دمشق، على خيل البريد، فكان وصوله إليها، فى يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى. وأفرج عن الأمير سيف الدين جاغان الحسامى، فى يوم الأربعاء، تاسع عشرين الشهر، حسبما رسم به من الأبواب السلطانية. فتوجه إلى الديار المصرية، فوجد البريد وهو فى أثناء الطريق، بإعادته إلى الأمرة بدمشق، فعاد واستقر.(31/371)
وفى يوم الخميس حادى عشر جمادى الآخرة، خلع على الأمراء والأعيان بدمشق، ولبسوا تشاريف السلطان. ووصل طلب نائب السلطنة، الأمير جمال الدين فى هذا اليوم، فتلقاه والأمراء فى خدمته، وعليه التشاريف، ودخل دخولا حسنا.
وفيها، فى شهر رجب، توجه الأمير سيف الدين كرد «1» الحاجب، لنيابة السلطنة الشريفة بالمملكة الطرابلسية.
وفيها، رسم السلطان بالقبض على الأمير سيف الدين كجكن، أحد الأمراء الأكابر المقدمين بدمشق. فقبض عليه فى يوم الجمعة، ثانى عشرين شهر رجب، واعتقل بقلعة دمشق. ثم جهّز إلى الأبواب السلطانية مقيدا، ثانى شهر رمضان، هو وحمدان وأخوه، ولدا صلغاى. وجرد معهم مائة فارس من عسكر الشام.
فوصلوا بهم إلى الأبواب السلطانية «2» .
ذكر الإفراج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتفويض الوزارة إليه
وفى هذه السنة، فى شهر رمضان، أفرج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر العزّى المنصورى، وفوض إليه وزارة المملكة الشريفة، وتدبير الدولة بالديار المصرية، وعزل الصاحب فخر الدين الخليلى «3»(31/372)
ذكر وفود سلامش بن أفال بن بيجو «1» وأخيه قطقطوا ومن معهما، وعود سلامش وقتله
كان سلامش هذا، قد جهزه قازان «2» ملك التتار إلى بلاد الروم، مقدما على تمان «3» ، وقيل بل كان معه خمسة وعشرون «4» ألف فارس. وأمره قازان أن يأخذ عساكر الروم، ويتوجه إلى الشام من جهة سيس، وأن قازان يحضر بنفسه، ببقية جيوشه من جهة الفرات، وأن يكون اجتماعهم على حلب، ثم يعبرون «5» بجملتهم إلى الشام. فلما وصل سلامش إلى بلاد الروم، خلع طاعة قازان، وحدثته نفسه بالملك، وكاتب ابن قرمان أمير التركمان، فأطاعه وانضم إليه فى عشرة آلاف فارس. وكتب إلى السلطان [المنصور لاجين «6» ] ، يستنجده على قازان. ووصل برسالته وكتبه إلى الأبواب السلطانية، مخلص الدين الرومى.
فكتب السلطان إلى دمشق بتجهيز العساكر لنصرته وإنجاده.(31/373)
ولما اتصل بقازان خبر خروجه عن الطاعة، انثنى عزمه عن قصد الشام، فى هذه السنة. وجرد العساكر إلى سلامش فى أوائل جمادى الآخرة، وكانوا خمسة وثلاثين ألفا، مع ثلاثة «1» مقدمين، ومرجعهم إلى بولاى «2» . فتوجهوا إلى سلامش، وكان قد جمع نحو ستين ألف فارس. وهو يحاصر سيواس، فإنها كانت قد عصت عليه. فأتته العساكر فى شهر رجب، والتقوا، ففارقه من كان معه من عسكر التتار، والتحقوا ببولاى، وكذلك عسكر الروم، ولحق التركمان بالجبال.
وبقى سلامش فى دون خمسمائة فارس، ففر من سيواس إلى بلاد سيس، ووصل إلى بهسنا «3» فى أواخر شهر رجب «4» ، ثم وصل إلى دمشق فى يوم الخميس، ثانى عشر شعبان، وصحبته الأمير بدر «5» الدين الذردكاش نائب بهسنا «6» ، فتلقته عساكر دمشق بأحسن زى صحبة نائب السلطنة بدمشق.
ثم توجه سلامش إلى الأبواب السلطانية، فى يوم الأحد خامس عشر شعبان، على خيل البريد، فوصل إلى الأبواب السلطانية، وهو وأخوه قطقطوا،(31/374)
فأكرمهما السلطان والأمراء، وأحسنوا إليهما. وخيّر [سلامش «1» ] بين المقام بالديار المصرية أو العود. فسأل أن يجرد السلطان معه جيشا، ليتوجه إلى بلاد التتار، ويأخذ عياله «2» ؛ ويرجع إلى خدمة السلطان. فجهزه السلطان إلى حلب.
ورسم أن يجرد معه الأمير سيف الدين بكتمر الجلمى «3» ، وأعانه «4» . فوصل إلى دمشق فى الحادى والعشرين من شهر رمضان. وتوجه فى الثالث والعشرين من الشهر، صحبة الأمير بدر الدين الذردكاش. ولما وصل إلى حلب، جرد معه الأمير سيف الدين بكتمر الجلمى حسب المرسوم. فساروا إلى بلاد سيس، فشعر بهم صاحبها والتتار الذين بتلك الأعمال. فأخذوا عليهم الطرق والمضايق، والتقوا واقتتلوا، فقتل الجلمى، ولجأ «5» سلامش إلى بعض القلاع. فأرسل قازان فى طلبه، واستنزله فحمل إليه فقتله.
واستقر قطقطو «6» ومخلص الدين الرومى فى الخدمة الشريفة السلطانية بالديار المصرية. فأنعم السلطان على قطقطو بإقطاع، وعلى مخلص الدين براتب.(31/375)
وفى هذه السنة، فى شهر رمضان، وصل رسول صاحب سيس ورسول صاحب القسطنطينية بتحف وهدايا، وتقادم للسلطان. فوصلوا إلى دمشق فى رابع الشهر، وتوجهوا منها إلى الأبواب السلطانية، فى سادسه «1» . ويقال إن مضمون رسالة صاحب القسطنطينية، الشفاعة فى صاحب سيس، والله أعلم.
ذكر وصول مراكب الفرنج إلى ساحل الشام وتكسير بعضها «2» ، ورجوع ما «3» سلم منها «4»
وفى هذه السنة، فى العشر الأخر من شعبان، وصل إلى بيروت مراكب كثيرة. وبطش «5» للفرنج فيها جماعة كثيرة من المقاتلة، يقال إن البطش كانت ثلاثين بطشة، فى كل بطشة منها، نحو سبعمائة. وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر، وتحصل إغارتهم على بلاد الساحل. فلما قربوا من البر، أرسل الله عز وجل عليهم ريحا مختلفة. فغرقت بعض هذه المراكب، وتكسر بعضها. ورجع من سلم منهم على أسوأ حال، وكفى الله تعالى شرهم. وحكى عن(31/376)
الرئيس ببيروت، أنه قال: والله لى خمسون «1» سنة، ألازم هذا البحر، فما رأيت مثل هذه الريح، التى خرجت على هذه المراكب، وليست من الرياح المعروفة عندنا «2» .
وفى هذه السنة، عزل قاضى القضاة حسام الدين الرومى الحنفى عن القضاء بالديار المصرية، وأعيد إلى القضاء بدمشق عوضا عن ولده القاضى جلال الدين.
وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الخميس، سادس ذى الحجة. ولما عزل فوض القضاء بالديار المصرية، على مذهب الإمام أبى حنيفة، للقاضى شمس الدين أحمد السروجى الحنفى، على عادته.
وفيها، كانت وفاة الأمير الزاهد بدر الدين الصوابى فجأة فى ليلة الخميس، تاسع جمادى الأولى، ودفن بسفح قاسيون بكرة النهار. وكان أميرا دينا صالحا، خيرا كثير البر والصدقة. وروى الحديث النبوى، وكان له فى الإمرة نحو أربعين سنة. وكان من مقدمى الألوف وأمراء المائة بالشام، رحمه الله تعالى.
وفيها، كانت وفاة بدر الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى، الأمير الكبير المشهور فى معتقله، بالفاعة الصالحية، بقلعة الجبل المحروسة، وأخرج ودفن بتربته. وكان الملك الناصر، لما عاد الى الملك، رسم بالإفراج عنه. فوقف الأمراء فى ذلك، وحسّنوا للسلطان «3» إبقاءه على ما هو عليه. فرجع إلى رأيهم وأبقاه «4» ، فمات بعد ذلك بمدة يسيرة. وكان رحمه الله تعالى، كريم النفس، عالى الهمة، يعطى الكثير ويستقّله، وكان عليه فى أيام إمرته لجماعة كثيرة من(31/377)
مماليكه وأولادهم، وخدامه، الرواتب الوافرة من اللحم والتوابل والجرايات والعليق. فرتب لبعضهم فى كل يوم سبعين رطلا من اللحم بالمصرى، وما يحتاج إليه من التوابل والخضراوات والحطب، وسبعين عليقة، ولأقلهم خمسة أرطال، وخمس علائق، ولبعضهم عشرين رطلا وعشرين عليقة، هذا زيادة من جهته على ما لهم من الإقطاعات السلطانية. وبلغ ما يحتاج إليه فى كل يوم بسماطه ودوره المرتب عليه فيما بلغنى، ثلاثة آلاف رطل لحم، وثلاث «1» آلاف عليقة. وكان ينعم بألف دينار عينا، وبألف أردب غلة، وبألف قنطار من العسل. ويتصدق على الفقراء بألف درهم وخمسمائة درهم. ولا يعطى أقل من ذلك إلا فى النادر عند التعذر. ولا يفعل ذلك عن امتلاء «2» ولا سعة. ما زال عليه لأرباب الديوان أربعمائة ألف درهم، وأكثر من ذلك. وإذا وفى دينا، اقترض خلافه، يتكرم بذلك. ولا يتجاسر أحد من مماليكه وألزامه أن يعدله عن ذلك، ولا يشافهه فى الإمساك عنه، والاختصار منه. وإن كلمه أحد منهم، أنكر عليه، وربما ضربه وأهانه، وعزله عن وظيفته، وإن كان أستاذ دار أو مباشرا عنده. وكانت مكارمه كثيرة مشهورة وعطاياه وصلاته وافره مذكورة، ما رأى أهل عصره من أمثاله فى المكارم والعطايا والإنفاق والهبات والصلات مثله، رحمه الله تعالى، ومات وعليه من الديوان، ما يزيد على أربعمائة ألف درهم، ورتب بعده من موجوده وأملاكه، رحمه الله تعالى «3»(31/378)
ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماه
وفى يوم الخميس، الحادى والعشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، بها. ودفن ليلة الجمعة، آخر الليل عنده أبيه رحمهما الله تعالى. ومولده فى الساعة العاشرة، من ليلة الأحد، خامس عشر المحرم، سنة سبع وخمسين وستمائة. وأمه عائشة خاتون بنت الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازى ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب. فيكون عمره، رحمه الله تعالى، إحدى وأربعين سنة وعشر أشهر وسبعة أيام، ومدة ملكه بحماه خمس عشرة سنة «1» وشهرا واحدا ويوما واحدا، رحمه الله تعالى. وانقطع ملك حماه بعده من البيت الأيوبى سنين «2» ، إلى أن أعاده السلطان الملك الناصر فى سلطنته الثالثة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه.
ولما مات، فوضت نيابة السلطنة بحماه إلى الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى، كما تقدم، وتداولها جماعة من النواب يأتى ذكرهم، إن شاء الله تعالى، فى مواضعه.
وفيها، توفى الملك الأوحد نجم الدين يوسف ابن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمهم الله تعالى، فى ليلة الثلاثاء الرابع والعشرين من ذى الحجة بالقدس الشريف، ودفن من الغد برباطه عند باب خطّه شمالى الحرم، وكان(31/379)
من المشهورين بالجلالة والتقدم فى المجالس، وعند الملوك، وكان كثير الإحسان إلى الضعفاء، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها، توفى نجم الدين أيوب ابن الملك الأفضل على ابن الملك الناصر داود بدمشق، وصلى عليه يوم الجمعة، رابع عشر ذى الحجة، رحمه الله تعالى.
وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام حجة العرب بهاء الدين أبى عبد الله محمد بن إبراهيم ابن محمد بن نصر بن النحاس الحلبى النحوى بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء سابع جمادى الأولى، فى الثالثة من النهار. وأخرج من الغد، ودفن بالقرافة، ومولده بحلب، فى يوم الأربعاء، سلخ جمادى الآخرة، سنة سبع وعشرين وستمائة، رحمه الله تعالى «2» .
وفيها، توفى تقى الدين توبة بن على بن مهاجر التكريتى، فى ليلة الخميس، ثانى جمادى الآخرة بدمشق. ودفن بتربته بسفح قاسيون رحمه الله تعالى «3» .
وفيها، كانت وفاة الأمير جمال الدين آفش المغيثى، متولى البيرة، وكان له بها نحو أربعين سنة «4» .
ذكر توجه السلطان إلى الشام
وفى هذه السنة، تواترت الأخبار بحركة التتار، فندب السلطان الجيوش المصرية وجردها. وكان قد جرد فى جمادى الآخرة، الأمير سيف الدين بلبان(31/380)
الجيشى ومضافيه، والأمير بدر الدين عبد الله السلاح دار ومضافيه، والأمير جمال الدين آقش الموصلى المعروف قتال السبع، والأمير مبارز الدين الرومى أمير شكار ومضافيه، فوصلوا إلى دمشق، فى سابع شهر رجب. فلما قويت الأجناد الآن، جرّد الأمير سيف الدين قطابك الحاجب ومضافيه، والأمير سيف الدين نوكيه التتارى ومضافيه، فوصلوا إلى دمشق فى يوم الاثنين رابع عشرين ذى الحجة. ثم توجه السلطان بعد ذلك، بالعساكر المنصورة. فاستقل ركابه الشريف من قلعة الجبل فى الرابع والعشرين من ذى الحجة. واستناب فى غيبته بقلعة الجبل المحروسة، الأمير ركن الدين بيبرس الدوادارى المنصورى.(31/381)
واستهلت سنة تسع وتسعين وستمائة [699- 1299/1300]
والسلطان الملك الناصر متوجه «1» بالجيوش إلى الشام، فوصل إلى غزة فى المحرم. ونزل بتل العجول.
ذكر الفتنة التى أثارها الأويرانية بهذه المدينة «2»
لما حل ركاب السلطان بمنزلة تل العجول، اتفق جماعة من الأويرانية، الذين وفدوا إلى الديار المصرية، فى الأيام العادلية الزينية، مع الأمير سيف الدين برلطاى «3» ، أحد الأمراء المماليك السلطانية الذين كانوا بدار الوزارة، على إثارة فتنة. فبينما الأمراء فى الموكب، لم يشعروا إلا وقد شهر برلطاى سيفه، وحمل نفسه، وكرّ صوب الدهليز المنصور السلطانى، فأمسك. وسيره السلطان إلى الأمراء، فقتل لوقته. وقبض على جماعة من المماليك السلطانية، وسيروا إلى قلعة الكرك، واعتقلوا بها. وقبض على جماعة من الأويرانية، فشنقوا بظاهر غزة. وكان من أنهم بمباطنتهم قطلو برس «4» العادلى، فطلب فلم يوجد. واختفى مدة، ثم حصل الظفر به، بعد ذلك، فشنق بسوق الخيل تحت القلعة.(31/383)
وأقام السلطان [الناصر»
] بهذه المنزلة مدة، ثم رحل منها، وتوجه نحو دمشق، فوصل إليها فى يوم الجمعة، ثامن شهر ربيع الأول، ونزل بقلعتها.
وهذه السفرة، هى أول وصول السلطان الملك الناصر إلى دمشق، وحال وصوله، أمر بخروج العسكر الشامى، فخرج من دمشق، وتلته العساكر المصرية. ثم توجه السلطان فى أعقابهم، إلى جهة حمص، لقتال التتر، ودفعهم عن الشام، وكان رحيله من دمشق، فى وقت الزوال، من يوم الأحد سابع عشر شهر ربيع الأول «2» .
ذكر وقعة غازان «3» ملك التتار بمجمع المروج «4» ببلاد حمص
كانت هذه الوقعة فى يوم الأربعاء، الثامن والعشرين، من شهر ربيع الأول، سنة تسع وتسعين وستمائة. وذلك أن السلطان الملك الناصر، لما رحل من دمشق، إلى جهة حمص، تواترت الأخبار بوصول التتار «5» إلى وادى الخزندار.
فسار السلطان إليهم، وحثّ السير. فقطع ثلاث مراحل، فى مرحلة واحدة، فأشرف على مجمع المروج، وقد تعبت خيول العساكر الإسلامية، وركب غازان فى جيوش التتار، ومن أنضم إليها من الكرج والأرمن وغيرهم، ومعه الأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير فارس(31/384)
فارس الدين البكى، والأمير سيف الدين عزاز «1» . والتقى الجمعان فى الخامسة من النهار المذكور. فحملت الميسرة الإسلامية على ميمنة التتار، فهزمتها أقبح هزيمة، وقتل من التتار خلق كثير. فلما عاين غازان انهزام ميمنته، اعتزل فى نحو ثلاثين فارسا، وعزم على الفرار. فمنعه الأمير سيف الدين قبجاق، وثبته ومناه بالظفر «2» .
وكان قصده بذلك، فيما قال بعد عوده، القبض على غازان عند استمرار الهزيمة بجيوشه.
ثم ركبت فرقة من التتار، كانت لم تشهد الحرب، واجتمعوا كراديس «3» ، وحملوا حملة منكرة. وقصدوا قلب العساكر الإسلامية، وضعفت الميمنة الإسلامية، عن لقاء ميسرتهم. فكان من الهزيمة ما كان، وذلك بعد العصر من اليوم المذكور.
ذكر تسمية من استشهد وفقد، فى هذه الوقعة من المشهورين
كان من استشهد وفقد من الأمراء والمشهورين، فى هذه الوقعة، الأمير سيف الدين كرد، نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير عز الدين أيدمر الحلبى، أحد الأمراء بالديار المصرية، والأمير سيف الدين بلبان التقوى، من أمراء طرابلس، والأمير ركن الدين بيبرس الغتمى «4» ، النائب بحصن المرقب، والأمير صارم الدين أزبك، النائب بقلعة(31/385)
بلاطنس، والأمير بدر الدين بيلبك المنصورى المعروف بالطيار، من أمراء دمشق، قتل فى عوده بعد الوقعة، والأمير سيف الدين نوكيه «1» التتارى، والأمير جمال الدين أقش كرجى الحاجب، والأمير جمال الدين أقش المطروحى، حاجب الشام «2» فقدوا نحو ألف فارس من الحلقة والمماليك السلطانية وأجناد الأمراء ومماليكهم. وهؤلاء الأمراء، منهم من استشهد فى المعركة، ومنهم من أصابته جراحة، فمات بعد انفصال الوقعة فيعد شهيدا «3» ، ومنهم من عدم ولم تتحقق وفاته.
وعدم قاضى القضاة حسام الدين الحنفى الرومى، والقاضى عماد الدين إسماعيل ابن الأثير «4» الموقع. وقتل من التتار فيما قيل نحو أربعة عشر ألف «5» .
ولما تمت الهزيمة، وشاهد غازان من قتل أصحابه وكثرتهم، وقلة من قتل من العساكر الإسلامية، بالنسبة إلى من قتل من التتار، ظن أن هذه الهزيمة مكيدة، واستجرار «6» لعساكره، فتوقف عن اتباع العساكر الإسلامية، حتى تبين له صحة الهزيمة. ثم سار من مكان الوقعة إلى حمص، وبها الخزائن السلطانية،(31/386)
فسلمها متوليها محمد بن الصارم، من غير ممانعة. ولا مدافعة «1» . ثم رحل عنها إلى جهة دمشق ونزل بالغوطة «2» .
ذكر ما اتفق بدمشق بعد الوقعة ومفارقة العساكر الإسلامية فى مدة استيلاء التتار عليها، إلى أن فارقوا البلاد، وعادوا إلى الشرق كانت «3» الأخبار وصلت إليهم بانهزام الجيوش الإسلامية، وتحققوا فى يوم السبت، مستهل شهر ربيع الآخر. فتوجه من أمكنه السفر إلى الديار المصرية فى هذا اليوم فكان ممن توجه قاضى القضاة إمام الدين الشافعى، وقاضى القضاة جمال الدين الزواوى المالكى، وابن الشيرازى، ومتولى مدينة دمشق، ومتولى برّها، ومحتسب المدينة، وجماعة كبيرة من أهل البلد، ممن قدر على الانتزاح.
وفى ليلة الأحد، أحرق المعتقلون بسجن باب الصغير بابه، وخرجوا منه، وكانوا نحو مائة وخمسين. وتوجهوا إلى باب الجابية، وكسروا الأقفال، وخرجوا منه وبقى البلد لا حامى له، ولا ممانع عنه. فاجتمع أكابر دمشق، فى يوم الأحد الثانى من الشهر، بمشهد علىّ بالجامع الأموى. وانفقوا على أن يتوجهوا إلى الملك غازان، ويسألوا «4» الأمان لأهل البلد. فتوجه قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة، وهو الخطيب يومئذ، والشيخ تقى الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقى، والقاضى نجم الدين بن صصرى، والقاضى(31/387)
شمس الدين الحريرى، والقاضى جلال الدين ابن القاضى حسام الدين، وفخر الدين ابن الشيرجى، وعز الدين بن الزكى، ووجيه الدين بن منجا، والرئيس عز الدين حمزة بن القلانسى، وابن عمه الصدر شرف الدين، وأمين الدين بن شقير الحرانى، والشريف زين الدين بن عدنان، ونجم الدين بن أبى الطيب، وناصر الدين بن عبد السلام، وشريف الدين بن الشيرجى، وشهاب الدين الحنفى، والشيخ محمد ابن قوام البالنى، وجلال الدين أخو القاضى إمام الدين، وجماعة كبيرة من القراء والفقهاء والعدول. وتوجهوا بعد صلاة الظهر، من يوم الاثنين، ثالث الشهر، واجتمعوا بالملك غازان، وهو عند النبك «1» ، وهو سائر. ونزلوا عن مراكيبهم. وقبلّ بعضهم الأرض، فوقف غازان بفرسه لهم. وترجل جماعة من التتار عن خيولهم. وتكلم الترجمان بينهم وبين الملك غازان، وسألوا الأمان لأهل دمشق. وكان المخاطب له عن أهل دمشق، فخر الدين بن الشيرجى.
فقال غازان: الذى حضرتم بسببه «2» من الأمان قد أرسلناه قبل وصولكم. وقدّموا ما كان معهم من المأكول، فلم يكن له وقع عندهم. وأذن لهم فى الرجوع إلى دمشق، فرجعوا. وكان وصولهم بعد صلاة العصر، من يوم الجمعة، سابع الشهر.
ولم يخطب فى هذه الجمعة لسلطان «3» .
وكان قد وصل إلى دمشق، فى يوم الخميس، سادس «4» الشهر أربعة من التتار،(31/388)
من جهة غازان، ومعهم الشريف القمّى «1» . وكان قد توجه قبل توجه الجماعة، هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان. فعاد وبيده أمان لأهل دمشق.
ثم وصل بعد صلاة الجمعة، الأمير إسماعيل وجماعة من التتار. فنزلوا بالبستان الظاهرى، بطريق القابون. ثم ركب [الأمير] إسماعيل فى يوم السبت، ودخل إلى دمشق، وجاء إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموى، لقراءة «2» الفرمان «3» .
وقرأه «4» أحد العجم الواصلين صحبة الأمير إسماعيل، وبلّغ عنه المجاهد المؤذن، ومضمونه:- بقوة الله تعالى، ليعلم أمراء التومان «5» والألوف والمائة، وعموم عساكرنا المنصورة، من المغول والتازيك «6» والكرج «7» وغيرهم، ممن هو داخل تحت زبقة(31/389)
طاعتنا. إن الله لما نوّر قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملة النبى، عليه أفضل الصلاة والسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
«1» .
ولما أن سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، ولا لأمورهم التئام ولا انتظام، وكان أحدهم إذا تولى، سعى فى الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومدّ الأيدى العارية، إلى حرمهم وأموالهم، والتخطى عن جادة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والإعساف، حملتنا الحمية الدينية، والحفيظة الإسلامية، على أن توجهنا إلى تلك البلاد، لإزالة هذا العدوان، وإماطة هذا الطغيان، مستصحبين الجم الغفير من العساكر.
ونذرنا على أنفسنا، إن وفقنا الله تعالى بفتح تلك البلاد، أزلنا العدوان والفساد، وبسطنا العدل والإحسان فى كافة العباد، ممتثلا للأمر الإلهى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
«2» . وإجابة لما ندب إليه الرسول، صلى الله عليه وسلم، «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الدين، يعدلون فى حكهم وأهليهم وما ولوا» . وحيث كانت طويتنا(31/390)
مشتملة على هذه المقاصد الحميدة والنذور «1» الأكيدة. منّ الله علينا بتبلّج «2» تباشير النصر المبين، والفتح المستبين. وأتمّ علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، فقهرنا العدو الطاغية، والجيوش الباغية، وفوّقناهم أيدى سبا، ومزقناهم كل ممزق، حتى جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فى زمرة من حبّب إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكّره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة.
فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثفة، والنذور المؤكدة. فصدرت مراسيمنا العالية، أن لا يتعرض أحد من العساكر المذكورة على اختلاف طباقاتها لدمشق وأعمالها، وسائر البلاد الإسلامية الشامية، وأن يكفوا أظفار التعدّى عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ولا يحوموا حول حماهم بوجه من الوجوه، حتى يشتغلوا بصدور مشروحة، وآمال «3» مفسوحة بعمارة البلاد، وبما هو كل واحد بصدده من تجارة وزراعة وغير ذلك. وكان هذا الهرج العظيم، وكثرة العساكر، فتعرّض «4» بعض نفر يسير من السلاحية وغيرهم، إلى نهب بعض الرعايا وأسرهم،(31/391)
فقتلناهم ليعتبر الباقون، ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر، وغير ذلك من الفساد. وليعلموا أنا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البته، وأن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان، على اختلاف أديانهم، من اليهود والنصارى والصائبة. فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم، من الوظائف الشرعية، لقول علىّ عليه السّلام: «إنما يبذلون الجزية، لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» . والسلاطين موصّون على أهل الذمة الطيعين «1» ، كما هم «2» موصون على المسلمين، فإنهم من جملة الرعايا.
قال صلى الله عليه وسلم: «الإمام الذى على الناس، راع عليهم وكل راع مسئول عن رعيته» .
فسبيل «3» القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء والشرفاء والأكابر والمشاهير وعامة الرعايا، الاستبشار بهذا النصر الهنى والفتح السنى، وأخذ الحظ الوافر من السرور، والنصيب الأكبر من البهجة والحبور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة، والمملكة الظاهرة، أناء الليل وأطراف النهار.
وكتب فى خامس ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة.
ولما قرىء هذا الفرمان، حصل للناس بعض الطمأنينة، وجلس التتار بالمقصورة إلى أن صلوا العصر، وعادوا إلى منزلتهم بالبستان الظاهرى. وأغلق الأمير علم الدين سنجر أرجواش أبواب قلعة دمشق، وامتنع بها فى أول هذه الحادثة.(31/392)
واجتمع أهل دمشق فى يوم الأحد تاسع الشهر بالقيمرية، واهتموا فى تحصيل الخيل والبغال والأموال، ليرضوا بها التتار، ونزل غازان ملك التتار بالغوطة، فى يوم الاثنين العاشر من الشهر، وأحدقت الجيوش بالغوطة، وقتلوا طائفة من أهل القرى.
ووصل الأمير سيف الدين قبجاق، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، وغيرهما فى هذا اليوم، ونزلوا بالميدان. ولما مروا بالقلعة، خاطبوا الأمير علم الدين سنجر أرجواش، نائب القلعة، وأشاروا عليه بتسليمها، فسبهم أقبح «1» سب.
وفى بكرة نهار الثلاثاء، حادى عشر الشهر، ورد مثال الأمير إسماعيل نائب التتار، يأمر العلماء والمشايخ والرؤساء، أن يتوجهوا إلى القلعة، ويتحدثوا مع نائبها فى تسليمها، وأنه متى امتنع من ذلك، دخل الجيش البلد ونهبها، وسفكت الدماء. فاجتمع جماعة كثيرة إلى باب القلعة، وسألوا الأمير علم الدين [سنجر أرجواش «2» ] ، أن يرسل إليهم رسولا، فامتنع وسبهم أقبح سب. وقال: قد وردت علّى بطاقة من السلطان، أنه جمع الجيوش بغزة، وكسر الطائفة التى اتبعتهم من التتار، والسلطان يصل عن قريب بعساكره «3» .
ثم دخل قبجاق دمشق فى يوم الأربعاء، ثانى عشر الشهر، وجلس بالمدرسة العزيزية، وأمر العلماء والأكابر بمراجعة أرجوش فى تسليم القلعة، فتوجهوا(31/393)
إليه، فلم يسمع كلامهم. وكتب فى هذا اليوم بالعزيزية فرامانات من شيخ الشيوخ [نظام الدين محمود بن على الشيبانى «1» ] ، ومقدم من مقدمى التتار، ذكر أنه رضيع الملك غازان، ومن قبجاق، فسلم تجد نفعا.
وفى يوم الجمعة رابع عشر الشهر [ربيع الآخر «2» ] خطب لغازان على منبر دمشق، بما رسم لهم به من الألقاب والنعوت وهى «مولانا السلطان، الملك الأعظم، سلطان الإسلام والمسلمين، مظفر الدنيا والدين، محمود غازان» . وصلى بالمقصورة جماعة من المغل. وحضر إلى المقصورة، عقيب الصلاة الأمير سيف الدين قبجاق، وصعد هو والأمير إسماعيل، إلى سدّة المؤذنين. واجتمع جمع كثير من عامة الناس تحت النصر «3» . وقرئ عليهم تقليد بتولية الأمير سيف الدين قبجاق الشام أجمع، وعيّن فيه مدينة دمشق وحلب وحماه وحمص وغير ذلك، من الأعمال والجهات. وجعل إليه، أن يولى القضاة، والحكماء والخطباء، وغيرهم.
ونثر على الناس الذهب والدراهم، فاستبشر الناس بولاية قبجاق، ظنا منهم أنه يرفق بهم. وحضر فى هذا اليوم شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيبانى، إلى المدرسة العادلية. وأحضرت إليه ضيافة، وأظهر العتب «4» على أهل البلد، كونهم لم يترددوا إليه. وذكر أنه يصلح أمرهم، ويتفق معهم، على ما يفعل، فى أمر القلعة. فقال بعض من حضر [إن] «5» الأمير سيف الدين قبجاق يخبر أمر «6»(31/394)
متولى القلعة. فقال [شيخ الشيوخ «1» ] : «خمسمائة من قبجاق ما يكونون فى خانمى» ، وعظّم نفسه تعظيما كثيرا.
وفى يوم السبت خامس عشر الشهر. ابتدئ بنهب جبل الصالحية، وما به من الندب والمدارس وغيرها. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية إلى شيخ الشيوخ، فركب إليهم فى يوم الثلاثاء. فلما وصل إلى جبل الصالحية، هرب من به من التتار، ودخل أهل الجبل إلى دمشق عرايا فى أسو أحال «2» .
وتوجه التتار إلى قرية المّزة «3» ، فنهبوها وسبوا أهلها. وتوجهوا إلى داريا «4» ، وفعلوا كذلك، وقتلوا جماعة من أهلها، وقتل أهلها جماعة من التتار. فتوجه الشيخ تقى الدين بن تيمية. يوم الخميس إلى الملك غازان، وهو بتل رأهط «5» ، فدخل عليه ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكّن «6» من ذلك. وقيل له: إن شكوت إليه أمرا، يقتل «7» بعض المغل. فيكون ذلك سبب الإختلاف، وتدور الدائرة على أهل دمشق. فعدل الشيخ عن الشكوى إلى الدعاء، وفارقه واجتمع بالوزير [ين] سعد الدين، ورشيد الدين، وتحدث معهما. فذكر «8» أن(31/395)
جماعة من المقدمين الأكابر، لم يصل إليهم من مال دمشق شىء، ولا بد من إرضائهم. وأمر الوزير بإطلاق الأسرى.
ثم اشتد الأمر على أهل دمشق، فى طلب الأموال وحصار القلعة. وجاء منجنيقى، فالتزم بأخذ القلعة. وقرر أن يكون نصب المجانيق عليها بالجامع الأموى. فأجمع أرجواش رأيه، أنه متى نصب المجانيق بالجامع، رمى عليها بمجانيق القلعة. وكان ذلك يؤدى إلى هدم الجامع. فانتدب رجال من أهل القلعة، بعد أن تهيأت أعواد المجانيق، ولم يبق إلا نصبها. وخرجوا بالحمية الإيمانية، وهجموا الجامع، ومعهم المناشير، فأفسدوا ما تهيأ من أعواد المجانيق. ثم جددوا غيرها، واحترزوا عليها. وحضر جماعة من المغل يبيتون بالجامع. فيقال إنهم انتهكوا حرمته، وارتكبوا فيه المحارم، من شرب الحمور والزنا، وطرح القاذورات والنجاسات، وقلّ حضور الناس فيه، حتى أنه لم تقم فيه صلاة العشاء الآخرة، فى بعض الليالى. ونهب التتار سوق باب البريد.
وتحول الناس من حول الجامع، وزهدوا فى قربه لمجاورة التتار. فانتدب رجل من أهل القلعة. وبذل نفسه، والتزم بقتل المنجنيقى. وخرج إلى الجامع، والمنجنيقى بين المغل، وهو فى ترتيب العمل. فتقدم إليه، وضربه بسكّين فقتله. وهجم رجال القلعة، فتفرق المغل عن القاتل، وحماه أصحابه، فلجأ «1» إلى القلعة، وبطل على التتار ما دبروه من عمل المجانيق. واضطر أرجواش إلى هدم ما حول القلعة، من المساكن والمدارس والأبنية ودار السعادة، وطواحين باب(31/396)
الفرج، وغير ذلك. كل ذلك احترازا على حفظ القلعة، وأن يتطرّق العدوّ إليها. وحصل من إفساد التتار والأرمن وإخرابهم الأماكن، بإفسادهم الصالحية، وحرق «1» جامع التوبة «2» بالعقيبة «3» وغير ذلك، ما بقيت آثاره، بعد ذهاب العدو زمنا طويلا. ثم أعاد المسلمون ذلك، والحمد لله تعالى، إلى أحسن ما كان.
واشتد الأمر على أهل دمشق فى طلب الأموال، فى أواخر شهر ربيع الآخر؛ وأوائل جمادى الأول، وطلب من البلد ما لا يتحمله أهله. وتولى استخراج الأموال، والمطالبة بها من أهل دمشق، صفى الدين السنجارى، وولد الشيخ محمد ابن الشيخ على الحريرى. وغلت الأسعار بدمشق هذه المدة «4» .
ثم رجع غازان إلى بلاد الشرق، فى يوم الجمعة، ثانى عشر جمادى الأولى ونزل قطلو «5» شاه نائبه بدمشق وجماعة كثيرة من التتار معه، وجعل نيابة الشام إلى الأمير سيف الدين قبجاق، ونيابة حلب وحمص إلى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، ونيابة صفد وطرابلس والسواحل إلى الأمير فارس الدين البكى ولما توجه غازان، استصحب الوزير معه، من أكابر دمشق بدر الدين(31/397)
ابن فضل الله، وعلاء الدين على ابن الصدر شرف الدين محمد بن القلانسى، وشرف الدين بن الأثير.
وفى يوم السبت ثالث عشر «1» جمادى الأولى، رسم التتار بإخلاء المدرسة العادلية، ووقف جماعة منهم على بابها يفتشون من يخرج منها، ويأخذون ما أحبوا من أمتعتهم، وعجز أهلها عن نقل أكثر أثاثهم. ودخل التتار إليها، عقيب خروجهم منها، وكسروا أبواب البيوت، ونهبوا ما بها، وأخلى التتار ما حول القلعة، وطلعوا إلى الأسطحة، ورموا منها النشاب على الفلعة. فعند ذلك، أمر أرجواش بإحراق ذلك كما تقدم. وكان إحراق المدرسة العادلية فى الحادى والعشرين من جمادى الأولى.
وفى يوم الجمعة تاسع عشر الشهر، قرىء «2» على سدة الجامع كتابان: أحدهما يتضمن تولية الأمير سيف الدين قبجاق النيابة بالشام «3» ، والثانى يتضمن تولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين شد الشام. وتضمن أحد الكتابين أن يصرف ما كان لخزائن السلاح، من مال الجامع فى مصالح السبيل إلى الحجاز الشريف. ويتضمن أيضا أن غازان يعود إلى الشام فى فصل الخريف «4» ، ويتوجه إلى الديار المصرية، وأنه توجه [إلى البلاد «5» ] ونزل نائبه قطلوشاه فى ستين ألف فارس لحماية الشام، إلى غير ذلك مما تضمنه.(31/398)
واستمر قطلوشاه بعد توجه غازان أياما يحاصر القلعة، فلم يتهيأ له منها ما يريد، فجمع له قبجاق مالا من أهل البلد، فأخذه وعاد إلى بلاد الشرق. وكان رحيله فى يوم الثلاثاء «1» الثالث والعشرين من جمادى الأولى. وتوجه الأمير سيف الدين قبجاق لوداعه. وعاد فى يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر، ودخل إلى دمشق، من باب شرقى، وشق البلد، وخرج من باب الجابية، وكانا مغلقين فى مدة مقام التتار، ففتحا له الآن، ونزل بالقصر الأبلق.
وعاد الأمير يحيى بن جلال الدين والصفى السنجارى بجماعة من التتار، وشقوا البلد، وتوجهوا إلى القصر أيضا. ثم نودى فى البلد، فى يوم الجمعة، أن يتوجه الناس إلى ضياعهم وقراهم. وكان قد نودى فى أول هذا النهار، أن لا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة «2» ، وأن لا يخاطر بنفسه، ولا يغرر بنفسه.
وفى تاسع عشر جمادى الأولى، دخل الأمير سيف الدين قبجاق، ومن معه إلى المدينة، ونزلوا بدار الأمير سيف الدين بهادر آص، وما يجاورها من الأدر، بقرب مأذنه فيروز.
وفى يوم الثلاثاء، مستهل جمادى الآخرة، وثانيه، نودى فى دمشق بأمر الأمير سيف الدين قبجاق أن يخرج الناس إلى «3» أما كنهم. وانضم إلى قبجاق(31/399)
جماعة من الجند فى أول هذا الشهر، يركبون فى خدمته، ويترجلون فى ركابه، وفتحت أبواب البلد، إلا ما بجوار القلعة منها.
وفى يوم الجمعة رابع الشهر، ضربت البشائر بالقلعة. وفى يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة، أمر الأمير سيف الدين قبجاق، أستاذ داره علاء الدين، وطاجار، وركبا بالشرابيش «1» والطبلخاناة «2» . ثم أمّر ثلاثة فى العشر الأوسط من الشهر، وركبوا بالشرابيش والطبلخاناة. وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جراده، فأظهرت الخمور والفواحش، وضمنت فى كل يوم ألف درهم «3» ، واستمر الحال على على ذلك بقية جمادى الآخرة وبعض شهر رجب.
وكان غازان قد جرد من عسكره عشرين ألف فارس، صحبة بولاى «4» ، وأشبقا «5» وحجك «6» وهو لاجو، فنزلوا بالأغوار. وشنوا الغارات ونهبوا، ووصلت غاراتهم إلى بلد القدس والخليل، ودخلوا إلى غزة، وقتلوا بجامعها خمسة عشر نفرا من(31/400)
المسلمين «1» ، ثم رجعت هذه العساكر إلى دمشق، وعادت إلى بلاد الشرق، فى ثانى شهر رجب، واستصحبوا معهم أمين الدين بن شقير الحرّانى.
وعاد التتار بجملتهم فى ثامن شهر رجب، لما بلغهم اهتمام السلطان، وخروج العساكر. ولم يفتح غازان شيئا من القلاع الشامية، بل امتنعت بجملتها، اقتداء بقلعة دمشق. وتمسك نواب القلاع من تسليمها، واعتذروا أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بعد تسليم قلعة دمشق، فسلمت القلاع بجملتها.
ثم توجه الأمير سيف الدين قبجاق والأمراء إلى خدمة السلطان الملك الناصر على ما نذكره.
ولما توجه قبجاق من دمشق، دبّر أمر البلد الأمير علم الدين أرجواش.
وأعيدت الخطبة بدمشق، باسم السلطان فى يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب. وكانت انقطعت من سابع شهر ربيع الآخر، فانقطعت مائة يوم.
وفى هذا اليوم أبطل ما كان جدّد من المنكرات، وأغلقت الخمارات، وأريق ما فيها، وكسرت المواعين، وشقت «2» الظروف. وتولى ذلك الشيخ تقى الدين بن تيمية وأصحابه.
هذا ما كان بدمشق، فلنذكر ما اعتمده السلطان عند عوده.
ذكر ما اعتمده السلطان الملك الناصر عند عوده إلى الديار المصرية من الاهتمام بأمر الجيوش والعساكر
لما كان من أمر هذه الحادثة ما قدمناه، رجع السلطان من مكان الوقعة(31/401)
إلى الديار المصرية. وتفرقت العساكر، فأخذت كل فرقة طريقا. وكان وصول السلطان إلى قلعة الجبل، فى يوم الأربعاء، ثانى عشر شهر ربيع الآخر ولم يصحبه فى هذه السفرة إلا بعض خواصه، والأمير سيف الدين بكتمر الحسامى أمير أخور، والأمير زين الدين قراجا، فى نفر يسير. وخدم الأمير سيف الدين بكتمر، المشار إليه، السلطان فى هذه السفرة أتم خدمة. فكان يركبه وينزله، ويشد خيله، ويشترى لها العليق، ويسقيها، إلى غير ذلك من أنواع الخدمة «1» .
ثم ترادفت الجيوش إلى الديار المصرية متفرقة. ووصل النواب بالممالك الشامية. وكان فيمن وصل الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى. فمشى فى خدمة نائب السلطنة الأمير سيف الدين سلار، وجلس بين يديه، وكان يرمّل علامته إذا كتب. ووصلت العساكر، وعدمت خيولهم وأقمشتهم وأموالهم، وأثقالهم وأسلحتهم. فجرد السلطان الأهتمام، وأخرج الأموال الكثيرة، وأنفق فى الجيوش، ووسع عليهم، وسلّم إلى كل نائب من نواب الشام نفقة عسكره.
فسلم إلى الأمير جمال الدين أقش الأفرم نفقة عسكر الشام، وإلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى نفقة عسكر حلب، وإلى الأمير سيف الدين كراى المنصورى نفقة عسكر صفد. وسلّم نفقة عسكر طرابلس «2» إلى الأمير شرف الدين قيران الدوادارى، ثم إلى الأمير سيف الدين قطلبك. وكانت النفقة فى الجيوش ذهبا.
ورخص سعر الذهب بالديار المصرية، حتى بلغ صرف الدينار سبعة عشر درهما وارتفعت أسعار العدد والسلاح والأقمشة والدواب. ومع ذلك فلم تمض الأيام(31/402)
القلائل على العسكر، حتى كملت عدتهم وخيولهم، وجميع ما يحتاجون إليه من الأسلحة والأقمشة «1» .
وجهّز السلطان إلى نواب الحصون بالشام أجمع القصاد بالملطفات يعلمهم ما هو عليه، من الاهتمام وصرعة حركة ركابه، ويحثهم على حفظ الحصون.
فوصلت القصّاد إليهم، فامتثلوا ذلك، وحفظوا الحصون، فحفظت وسلمت، ولله الحمد والمنة. وأحسن السلطان إلى نواب الحصون، وكافأهم على اهتمامهم بها وحفظها. ولما تكامل ما تحتاجه العساكر، توجه السلطان بهم، لقصد الشام.
ذكر توجه السلطان بالعساكر إلى جهة الشام، ووصوله إلى منزلة الصالحية وإرسال الجيوش إلى دمشق والممالك الشامية، وعود الأمراء إلى الخدمة السلطانية ورجوع السلطان إلى قلعة الجبل، وما تقرر من أمر النواب
وفى تاسع شهر رجب، من هذه السنة، توجه السلطان بجميع العساكر(31/403)
والنواب إلى الشام، لدفع التتار. فاتصل به عود التتار ومفارقتهم الشام، فأقام بالصالحية. وتوجه نائبه الأمير سيف الدين سلار، وأستاذ داره الأمير ركن الدين بيبرس إلى الشام، وصحبتهما سائر النواب والأمراء. ورحلوا من الصالحية فى الثانى العشرين من هذا الشهر. وكانت الملطفات «1» قد سيرت إلى الأمراء: سيف الدين قبجاق، وسيف الدين بكتمر، وفارس الدين البكى، بالحضور إلى الخدمة السلطانية، ومراجعة الطاعة، واستدراك ما فرط، فأجابوا بالسمع والطاعة.
وبادروا بالحضور إلى الخدمة الشريفة السلطانية، واجتمعوا بالأمراء بمنزلة سكرير «2» . وتوجهوا إلى خدمة السلطان، وهو مقيم بمنزلة الصالحية، وذلك فى العاشر من شعبان. فركب السلطان وتلقاهم وأكرمهم وأحسن إليهم، وعاد وهم فى خدمته إلى قلعة الجبل. وكان وصوله إليها فى رابع عشر شعبان، وأسكن الأمراء المذكورين بالقلعة، وأجرى عليهم الإقامات، وشملهم بالإنعام «3» .
وأما الأمير سيف الدين سلار والعساكر، فإنهم توجهوا إلى دمشق. وكان وصول الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بدمشق إليها بالعسكر «4» الشامى، فى يوم السبت عاشر شعبان.(31/404)
وفى يوم الأحد وصل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة بحلب بعساكرها، وكان قد فوض إليه نيابتها، والأمير سيف الدين قطلبك نائب الفتوحات الطرابلسية جميعا «1» .
وفى يوم الاثنين، ثانى عشر الشهر، وصلت ميسرة الجيوش المصرية، ومقدمها الأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار. وفى يوم الأربعاء، رابع عشر الشهر، وصل قلب الجيش، وفيه الأمير سيف الدين سلار، نائب السلطنة الشريفة.
والمماليك السلطانية، والعادل زين الدين كتبغا المنصورى فى خدمته. ونزلت العساكر بالمرج «2» .
وقرر الأمير سيف الدين سلار النواب بالممالك على ما رسم به السلطان له عند سفره. فأقر الأمير جمال الدين أقش الأفرم على عادته بدمشق. وفوض إلى الأمير زين الدين كتبغا الملقب- كان- بالملك العادل، نيابة السلطنة بالمملكة الحموية «3» ، عوضا عن الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى المذكور، وذلك بحكم أن الأمير سيف الدين بلبان الطباخى استعفى من النيابة بحلب واستقر فى جملة الأمراء المقدمين بالديار المصرية، على اقطاع الأمير شمس الدين آقسنقر كرتيه «4» ، بحكم وفاته. وفوض نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات إلى الأمير سيف الدين قطلوبك «5» المنصورى. وأعاد الأمير سيف الدين كراى المنصورى إلى نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية على عادته.(31/405)
وفّوض قضاء القضاة الشافعية بدمشق لقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الحموى، فى خامس شهر شعبان، بحكم وفاة القاضى إمام الدين عمر ابن القاضى سعد الدين بن الكرجى القزوينى القونوى. وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء خامس عشرين، شهر ربيع الآخر، ودفن بالقرافة. وفوّض قضاء القضاة الحنفية، لقاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الشيخ صفى الدين الحريرى، فى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من الشهر.
وفوّض شاد الدواوين بالشام، إلى الأمير سيف الدين أقجبا المنصورى. وولى بر دمشق للأمير عز الدين أيبك التجيبى. وفوّض حسبة دمشق لأمين الدين الرومى، إمام المنصور لاجين «1» .
وأقام الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس بدمشق، إلى أن استقرت أحوالها، وترتبت وظائفها. ثم رجعا إلى الديار المصرية. وكان رحيلهما من دمشق بالجيوش المصرية المنصورة، فى يوم السبت ثامن شهر رمضان. ووصلا إلى خدمة السلطان بقلعة الجبل، فى يوم الثلاثاء، ثالث شوال. ولما وصلا، فوّض إلى الأمير سيف الدين قبجاق نيابة السلطنة بالشوبك. وأعطى الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، بالديار المصرية، والأمير فارس الدين البكى الساقى، إمرة بدمشق.
واستقرت الحال على ذلك.(31/406)
ذكر ما اعتمده الأمير جمال الدين [أقش «1» ] نائب السلطنة بدمشق، بعد عود العساكر المصرية
. لما عاد الأمير سيف الدين سلار والعساكر المصرية من دمشق، وخلاوجه الأمير جمال الدين أقش الأقرم، نائب السلطنة بالشام، تتبع من أذى المسلمين عند التتار، وتجاهر بذلك. فعامل كلا «2» منهم بما نذكره، مما أدى إليه اجتهاده، واقتضاه رأيه وتدبيره. فكحّل الحاج مندوبه «3» ، وسمر الشريف «4» القمى، وابن العونى «5» البرددار، وابن خطلبشا «6» المزى، وحملهم على الجمال، ثم أطلق ابن العونى، بعد ثلاثة أيام. وشنق كانب مسطبة الولاية بدمشق، وإبراهيم مؤذن بيت لهيا «7» ، ورجلا من اليهود. وقطع لسان ابن طاعن، وقطع يد ورجل أحد من أمّرهم «8» قبجاق، فمات بعد ثلاثة أيام. وكحّل الشجاع همام، فمات بعد ليلة.
ثم توجه فى العشرين من شوال إلى جبال الكسر وان والدرزية «9» ، وقصد(31/407)
استئصال شأفتهم، لما عاملوا به العساكر الإسلامية، عند هزيمتها، من السلب والأذى. فالتزموا برد ما أخذوه من أقمشة العسكر، وحمل ما ترد عليهم، وعاد إلى دمشق، فى يوم الأحد ثالث ذى القعدة من السنة.
وألزم أهل دمشق أرباب الحوانيت بتعليق الأسلحة فى حوانيتهم، وأمروا برماية النشاب، ونودى بذلك. وحضرت رسالة قاضى القضاة بذلك إلى فقهاء المدارس. وعرض عوام البلد فى الحادى والعشرين من القعدة، فحضروا بالسلاح. وقدم على أهل كل سوق رجلا منهم. ثم عرض السادة الأشراف، فى يوم الخميس رابع عشرين الشهر، بالعدّة الكاملة، مع نقيبهم نظام الملك.
وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير الطواشى حسام الدين جلال المغيثى الجلالى، نسبة إلى الملك المغيث ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب. وكانت وفاته فى تاسع شهر ربيع الآخر، بمنزلة السوادة «1» ، وحمل إلى قطيا «2» ، ودفن بها. وكان قد مرض بدمشق، فأعيد، ولم يشهد الوقعة. وكان رحمه الله تعالى دينا خيرا.(31/408)
وفيها، توفى القاضى علاء الدين أحمد ابن قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن خلف بن بدر العلائى. وكانت وفاته............... ... «1»
وصليت عليه فيمن صلى، وكانت جنازته مشهودة، ودفن بتربتهم بالقرافة رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الأمير سيف الدين جاغان الحسامى بأرض البلقاء من الشام.
وفيها، توفى الأمير علم الدين سنجر الدوادارى بحصن الأكراد، فى ثالث شهر رجب وكان قد انصرف من الوقعة، والتحق بحصن الأكراد، فمات به، رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى والدى، رحمه الله تعالى، تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب ابن أبى عبد الله، محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكرى، النيمى القرشى المعروف بالنويرى. وقد تقدم ذكر باقى نسبه، عند ذكر مولدى فى سنة سبع وسبعين وستمائة «2» . وكانت وفاته رحمه الله، قبل أذان المغرب، من يوم الخميس الثانى والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وتسعين وستمائة، بالمدرسة الصالحية النجمية، بقاعة التدريس المالكية. وكان ابتداء مرضه، فى يوم الأربعاء، الرابع عشر من الشهر. ومولده بمصر بالمدرسة المعروفة بمنازل العز سنة ثمان عشرة وستمائة. ومات رحمه الله تعالى، ولم تفته صلاة. ولقد توضأ لصلاة(31/409)
العصر، من يوم وفاته أربع مرات، وكان به ذرب، ثم صلى صلاة العصر جالسا. ومات قبل أذان المغرب من يومه. وكان آخر كلامه، بعد أن دعا الله تعالى لى بخير، التلفظ بالشهادتين. ثم قبض رحمه الله تعالى، ودفن من الغد، فى يوم الجمعة الثالثة من النهار، بتربة قاضى القضاة زين الدين المالكى، بالقرافة، رحمه الله تعالى وإيانا.(31/410)
واستهلت سنة سبعمائة يوم الجمعة [700- 1300/1301]
والسلطان الملك الناصر بقلعة الجبل، ومدبر «1» والدولة، ونواب المملكة من ذكرناهم.
ذكر جباية المقرر على أرباب الأملاك والأموال بالديار المصرية والشام
وفى هذه السنة، فى أولها قرر ناصر الدين محمد [بن «2» ] الشيخى، أحد الأمراء بالديار المصرية، ومتولى القاهرة، أن يستخرج من أرباب العقارات والأموال مالا «3» سماه مقرر الخيالة «4» ، وانتصب لإستخراج ذلك بدار العدل، تحت قلعة الجبل.
وأحضر أرباب الأموال والأملاك، وقرر على كل منهم بحسب قدرته، واستخرج من ذلك تقدير مائة ألف دينار «5» . وتعدّى ضرره إلى سائر الناس، حتى أراد [أن «6» ](31/411)
يستخرج من العدول «1» الجالسين بسوق الوراقين، من كل عدل عشرين دينارا، ومن كل «2» عاقد أربعين دينارا. فنهض قاضى القضاة زين الدين المالكى فى ذلك، وتحدث مع الأمراء فى ذلك. وذكر ضرورة العدول وفاقتهم واحتياجهم، وأن جلوسهم فى سوق الوزاقين، لتحصيل أقواتهم، ولو قدروا على القوت ما جلسوا، وقام فى ذلك أتمّ قيام، حتى اندفعت عنهم هذه المظلمة، وأعفوا «3» منها. واستخرج من سائر الأعمال والبلاد والقرى بالديار المصرية أموال، قررت على كل بلد من البلاد المقطعة، واستخرجت الأموال من الرعايا والفلاحين.
وأما دمشق، فإنه رسم باستخراج أجرة أربعة أشهر من أرباب الأملاك والأوقاف التى بدمشق وظاهرها، ومن الضياع، التى ضمانها أكثر من أمدائها ثلث ضمانها. وإن كانت أمداؤها أكثر من ضمانها، استخرج عن كل مدى، ستة دراهم وثلثا درهم- والمدى أربعون ذراعا فى مثلها، يكون تكسيره ألف ذراع وستمائة ذراع، بذراع العمل «4» - فنال الناس من ذلك شدة. وكان المال المطلوب، عن ما تحصل فى سنة تسع وتسعين وستمائة.
وفيها، فى المحرم، كثرت الأراجيف بحركة التتار، فجفل أهل الشام أجمع، منهم من التجأ إلى الحصون، وأكثرهم وصلوا إلى الديار المصرية، حتى امتلأت(31/412)
القاهرة ومصر منهم. وكان سعر القمح، قبل وصول هذه الجفول، عن كل أردب عشرين درهما. فنزل إلى خمسة عشر درهما، على ما نذكره إن شاء الله تعالى «1» .
ذكر توجه السلطان الملك الناصر بالعساكر إلى الشام وعوده
لما كثرت الأراجيف وقويت الثناعة، بقرب التتار، توجه السلطان بالعساكر إلى الشام. واستقل ركابه من منزلة. مسجد التبن «2» ، وهى المنزلة الأولى من قلعة الجبل، فى يوم السبت ثالث عشر صفر، ووصل إلى غزة، ونزل بمنزلة بدعرش «3» ، وأقام بها. وتوالت الأمطار وكثرت، واشتد البرد، وانقطعت الأجلاب عن العسكر، حتى عدمت الأقوات. واستمر السلطان بهذه المنزلة إلى سلخ شهر ربيع الأخر. ثم عاد إلى القاهرة، فكان وصوله إلى قلعة الجبل فى يوم الاثنين، حادى عشر جمادى الأولى، بعد أن جرد من منزلته بدعرش «4» ، الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار ومضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزورى(31/413)
ومضافيه. فتوجهوا إلى دمشق بألفى فارس، فوصلوا إليها، فى سابع جمادى الأولى «1» .
ولما ظهر بدمشق عود السلطان إلى الديار المصرية؛ خرج من بقى من الدماشقة إلى الديار المصرية. وذلك أن متولى دمشق، كان يمر بالأسواق فيقول للناس: ما يجلسكم هاهنا، وأى شىء تنتظرون، وأشباه هذا الكلام «2» . ثم نودى بدمشق فى تاسع جمادى الأولى، من أقام، فدمه فى عنقه، ومن عجز عن السفر فليتحصن بالقلعة «3» .
وفى مدة مقام السلطان بمنزلة بدعرش، توفى الأمير سيف الدين بلبان الطباخى.
واستعفى الأمير سيف الدين كراى المنصورى «4» من نيابة السلطنة بصفد، فادفى منها؛ وأقطع إقطاع الأمير سيف الدين الطباخى بالديار المصرية. وفوضت نيابة المملكة الصفدية إلى الأمير سيف الدين بتخاص «5» المنصورى، أحد أمراء الشام.
ذكر وصول غازان إلى الشام وعوده وما فعلته جيوشه
كان من خبر غازان فى هذه السنة، أنه وصل بجيوشه إلى بلاد حلب،(31/414)
ونزل بقرون حماه إلى بلاد سرمين. وبعث معظم جيوشه إلى جبال أنطاكية وجبال السماق «1» . فنهبوا من الدواب والأغنام والأبقار شيئا كثيرا. وسبوا من النساء والصبيان وأسروا من الرجال خلفا كثيرا. وكانوا فى سنة تسع وتسعين وستمائة لم يصلوا إلى هذه الجهة، فظن الناس أنهم لا يقصدونها «2» فى هذه السنة.
فاجتمع بها خلق كثير، فقتلوا وأسروا وسبوا. ورخصت الأسرى من المسلمين، حتى أبيع الأسير والأسيرة بعشرة دراهم. واشترى الأرمن منهم خلقا كثيرا، وسيروا فى المركب إلى بلاد الفرنج. وأرسل الله تعالى على غازان وجيوشه أمطارا كثيرة وثلوجا، حتى هلك كثير منهم. فرجع بعساكره إلى بلاد الشرق، وقد نفق من خيولهم ما لا تحصى كثرة، فرجعوا شبه المكسورين. وعجزت كل طائفة من المسلمين والتتار، عن ملافاة الأخرى. وكان رجوعهم فى جمادى»
الآخرة. وغلت الأسعار فى هذه السنة بدمشق، فابيعت غرارة القمح بثلاثمائة درهم، ورطل اللحم بتسعة دراهم، ثم رخصت الأسعار «4» .
وفيها، استعفى الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى من نيابة المملكة الطرابلسية، فأعفى. وفوضت النيابة بها إلى الأمير سيف الدين استدمر كرجى «5» .(31/415)
وفيها، فنيت الأبقار بالديار المصرية فناء، لم يسمع بمثله. وحكى لى أن بعض مشايخ البلاد بأشموم طناح، كان يملك ألف رأس وأحد وعشرين رأسا من بقر الخيس «1» ، فمات منها ألف رأس وثلاثة وعوس، وبقى له ثمانية عشر رأسا، وغلت الأبقار بعد هذا الفناء، حتى كادت تعدم. وبيع الثور منها بألف درهم وما يقارب هذا الثمن. واستعمل الناس فى السواقى بالديار المصرية لإدارتها، الخيل والجمال والحمير «2» .
ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه
فى هذه السنة، وصل وزير بلاد المغرب «3» إلى الديار المصرية، بسبب الحج.
وتكلم مع الأمراء فى أمر أهل الذمة، وذكر ما هم فيه من الذل والصغار ببلاد المغرب، وأنهم لا يمكنونهم «4» من ركوب الخيل والبغال، ولا يستخدمونهم «5» فى المناصب، وذكر أشياء كثيرة من هذا القول. فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، وندب لذلك قاضى القضاة شمس الدين السروجى الحنفى، فجلس بالمدرسة الصالحية.
وحضر القاضى مجد الدين بن الخشاب، وكيل بيت المال، وجماعة من الفقهاء، وأحضر بطرك النصارى «6» وجماعة من أساقفتهم، وأكابر قسيسيهم، وأعيان ملتهم(31/416)
وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه فى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، من عقد الذمة. فلم يأتوا عن ذلك بجواب.
وبحث الفقهاء فى ذلك، فاقتضت المباحث الشريفة بين العلماء، أن يميز النصارى بلبس العمائم الزرق غير الشعرى «1» ، واليهود بلبس العمائم الصفر. وتميز نساء أهل كل ملة كذلك بعلامة تظهر. ولا يركبون «2» الخيول ولا يحملون «3» سلاحا، ويركبون الخيول الحمر بالأكف «4» عرضا من غير تربين لها ولا قيمة، ويتجنبون «5» أوساط الطرق للمسلمين فى مجالسهم «6» عن مراتبهم، ولا يرفعون «7» أصواتهم على أصوات المسلمين. ولا يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، ولا يظهرون «8» شعانيهم «9» ، ولا يضربون «10» بالنواقيس. ولا ينّصرون مسلما ولا يهودونه. ولا يشترون من(31/417)
الرقيق مسلما ولا من سباه مسلم، ولا من «1» جرت عليه سهام المسلمين. ومن دخل منهم الحمام يميز نفسه بعلامة عن المسلمين، بجرس فى حلقه. ولا ينقشون «2» فصوص خواتيمهم بالعربية «3» ، ولا يعلمون «4» أولادهم القرآن، ولا يستخدمون «5» فى أعمالهم الشافة مسلما، ولا يرفعون «6» النيران. ومن زنى منهم بمسلمة قتل.
وقال بطرك النصارى بحضرة جماعة العدول: «حرّمت على أهل ملتى وأصحابى مخالفه ذلك، والعدول عنه» . وقال رئيس اليهود وديانهم: «أوقعت الكلمة على أهل ملتى وطائفتى فى مخالفة ذلك، والخروج عنه «7» » .
ونظمت المكاتيب بذلك، ورسم بحمل الأمراء «8» على حكمها. وكتب إلى سائر أعمال الديار المصرية بإجرائهم على ذلك. وكتب إلى [أمراء «9» ] الشام بذلك، فالتزموا به فى شعبان من السنة.
وتقرر بدمشق أن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة العمائم الحمر. واستقر ذلك فى سائر المملكة. إلا بالكرك، فإن النائب بها الأمير جمال الدين آقش الأشرفى، رأى إبقاءهم على حالتهم. واعتذر أن أهل(31/418)
الكرك نصارى، وأن المسلمين بها قليل، وأن هذا القدر «1» يؤدى إلى ظهور كثرتهم للغريب، وما أشبه هذه الأعذار. فاستقر ذلك بالكرك والشوبك إلى الآن «2» .
وأخبرنى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى فى سنة إحدى وسبعمائة وهو يؤمئذ أستاذ الدار السلطانية وشاد الدواوين بدمشق، قال: ركبت فى الموكب مع الأمير جمال الدين آقش الأفرم، نائب السلطنة بها، فمر بنا طائفة من أهل الذمة، بالأقمشة النفيسة والعمائم اللانس «3» . قال: فشق ذلك علىّ كونهم لم يتميزوا بعلامة. فذكرت ذلك لنائب السلطان، وقررت معه أن يأمر بتغيير هيأتهم، وأن تلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر، والسامرة «4» العمائم الحمر. وتقرر أن يطالع فى ذلك، فورد مثال السلطان بذلك، قبل وصول المطالعة إليه، ووافق تاريخ تلبيسهم بالديار المصرية، التاريخ الذى حدثت نائب السلطان فيه بسببه. ولما منعوا من الاستخدام بالديار المصرية، أسلم جماعة كثيرة من أعيانهم، لأجل مناصبهم. فاستمروا بعد إسلامهم على ما كانوا عليه «5» .(31/419)
وقد وقفت على كتاب «الدر الثمين فى مناقب المسلمين ومثالب المشركين» ، تصنيف محمد بن عبد الرحمن بن محمد الكاتب «1» . وهو كتاب خدم به السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، رحمه الله تعالى «2» .
وقد رأيت أن أذكر منه نبذة فى هذا الموضع، لتعلفه به، فالشىء بالشىء يذكر. جاء «3» فى الكتاب المذكور، فى صدره، بعد تفويض السلطان الملك الناصر المشار إليه. نثرا، والاستشهاد بأبيات من الشعر فى معناه. ثم قال: وكان مولانا الملك الناصر، خلد الله ملكه، وأبقى دولته، لما ملكه الله الديار المصرية والشامية وما قاربها. ووعده على لسان عدله، أن يفتح على يديه مشارق الأرض ومغاربها. انتصر لله، وتعصب لدينه، واجتهد فى رضاه، والعمل بحكم كتابه، وسنة نبيه، ولحقته الحميّة الإسلامية، وسار السيرة العمرية. وأمر بصرف الذمة وأن لا يتصرفوا ما بقيت هذه الأمة. وسطرها الكاتبان «4» فى صحائف حسناته.
وأثبتها المؤرخون فى محاسن سيرته، ونظمها الشعراء فى مدائح عقد مدائحه.
وشغله النظر فى مصالح الإسلام، عن تميم هذا الاهتمام، والأعمال بخواتيمها.(31/420)
ونرجو من الله، أن يبادر بتكميلها وتتميمها. ولقد قيل إن الشريف مسعود بن المحسن المعروف بالبياضى، رؤى فى المنام بعد موته، فقيل له ما فعل الله بك.
قال: غفر لى بأبيات قلتها، وكتبت بها إلى الراضى وهى:
يا ابن الخلائف من قريش والاؤلى ... طهرت أصولهم من الأدناس
قلدت أمر المسلمين عدوهم ... ما هكذا فعلت بنو العباس
حاشاك من قول الرعية أنه ... ناس لقاء الله أو متناسى
ما العذر إن قالوا غدا هذا الذى ... ولّى اليهود على رقاب الناس
أتقول كانوا وفّروا أموالهم ... قبيوتهم قفر بلا آساس
لا تذكرن إحصاءهم ما وفّروا ... ظلما وتنسى محصى الأنفاس
وخف القضاء غدا إذا وافيت ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاس
فى موقف ما فيه إلا شاخص ... أو مهطع أو مقنع للراس
أعضاؤهم فيه الشهود وسحتهم ... نار وخازنهم شديد الباس
إن عطل اليوم الديون مع الغنى ... فغدا يؤديها مع الإنلاس.
لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الم ... تصرّفين الحذّق الأكياس
ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا ... فافعل وعّد القوم فى الأرماس،
ثم قال المصنف محمد بن عبد الرحمن: قرأت أن النصيحة من الدين.
وقرأت: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
«1» . ثم ذكر ما ورد فى كتاب الله تعالى(31/421)
من التحذير، فبدأ بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
«1» وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ
«2» وقوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
«3» .
ثم ذكر نسخة كتاب كتب إلى عمر بن الخطاب، عن أهل الذمة، فقال:
قال عبد الرحمن بن عثمان: كتبنا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى نصارى أهل الشام ومصر ما نسخته:
«هذا كتاب لعبد الله عمر، أمير المؤمنين، من نصارى أهل الشام ومصر.
لما قدمتم علينا، سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا، وأهل ملّتنا.
وشرطنا على أنفسنا، أن لا نحدث فى مدائننا، ولا فيما حولها، ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية «4» ، ولا صومعة لراهب «5» . ولا نجدد «6» ما خرب منها، ولا ما كان فى خطط(31/422)
المسلمين، وأن نوسع «1» للمارة ولبنى السبيل. وأن تنزل «2» من مربّنا من المسلمين ثلاث ليال، نطعمهم. ولا نأوى فى كنائسنا ولا فى منازلنا جاسوسا، ولا نكتم عينا على المسلمين. «3» ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدا.
ولا نمنع أحدا من ذوى قرابتنا الدخول فى دين الإسلام، إن «4» أراد. وأن نوقّر المسلمين، ونقوم لهم فى مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس. ولا نتشبه بهم فى شىء من ملابصهم، فى قلنسوة، ولا عمامة ولا نعلين، ولا فرق شعر. ولا نتسمى بأسمائهم، ولا نتكنى بكناهم. ولا نركب بالسروج «5» ، ولا نتقلد السيوف «6» ، ولا نتخد شيئا من السلاح ولا نحمله. ولا ننقش على خواتمنا «7» بالعربية. وأن «8» نجز مقادم رؤوسنا. ونلزم زيّنا حيث كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر صلياننا، ولا نفتح كتبنا «9» فى طرق «10» المسلمين ولا أسواقهم. ولا نضرب بنواقيسنا، فى كنائسنا، فى شىء من حضرة المسلمين. ولا نخرج [فى «11» ] شعانيننا، ولا طاغوتنا. ولا نرفع(31/423)
أصواتنا مع موتانا. ولا نوقد النيران فى طرق المسلمين ولا أسواقهم. ولا نجاورهم بموتانا. ولا نتخذ «1» من «2» الرقيق، من جرت عليه سهام المسلمين. ولا نطلع [عليهم] «3» فى منازلهم، ولا تعلو منازلنا منازلهم. فلما أتيت أمير المؤمنين عمر بالكتاب زاد فيه: «ولا نضرب أحدا من المسلمين» .
شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا فى شىء مما اشترطناه لكم علينا، وضمناه عن أنفسنا، وأهل ملتنا، فلا دية لنا عليكم، وقد حل بنا ما حل بغيرنا، من أهل المعاندة والشقاق. فكتب عمر رضى الله عنه: امض ما سألوه، والحق فيه حرفين، اشترطهما «4» عليهم، مع ما شرطوه، أنه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده «5» .
قال عبد الرحمن بن عثمان: وأجمع العلماء بعد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، على أنه متى نقض الذمى عهده، بمخالفة شرط من هذه الشروط(31/424)
المأخوذة عليهم، فالإمام مخيّر فيه بين القتل والأسر. ويلزمهم مع ذلك أن يتميزوا عن المسلمين فى اللباس والزى، ولا يتشبهون بهم «1» فى أمر من أمور زيهم. ويشدّون الزنانير «2» فى أوساطهم. ويكون فى رقابهم خواتم رصاص أو نحاس أو جرس، يدخل معهم فى الحمام. وليس لهم أن يلبسوا العمائم والطيلسان.
وأما المرأة فتشد الزنار من تحت الإزار، وقيل من فوق الإزار وهو الأولى.
ويكون فى عنقها خاتم رصاص، يدخل معها الحمام. ويكون أحد خفيها أسود، ليبقى مشتهرا ظاهرا، والآخر أبيض.
ويركبون الحمير بالأكف، ولا يركبون بالسروج. ولا يتصدرون فى المجالس ولا يبدأون بالسلام. ويلجأون إلى أضيق الطرق. ويمنعون أن يعلو بناؤهم على ابنية المسلمين، وتجوز المساواة، وقيل لا تجوز، بل يمنعون. ويجعل الإمام عليهم رجلا يكتب أسماءهم وحلاهم، ويستوفى عليهم ما يؤخذون «3» به من هذه الشرائط. وإن زنى منهم أحد بمسلمة، أو أصابها بنكاح، برئت منه الذمة.
وقال أبو هريرة: أمر أمير المؤمنين عمر بن خطاب، رضى الله عنه،(31/425)
بهدم «1» كل كنيسة استجّدت بعد الهجرة، ولم يبق إلا ما كان قبل الإسلام، وسيّر عروة بن محمد، فهدم الكنائس بصنعاء. وصانع القبط على كنائسهم بمصر، وهدم بعضها، ولم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. هذا آخر ما لخصناه من الكتاب المذكور «2» . فلنزجع إلى تتمة حوادث سنة سبعمائة.
ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من المكاتبة وما أجيبوا به
وفى هذه السنة، فى ذى القعدة، وصل رسل غازان إلى البلاد الشامية «3» ، وهم الأمير ناصر الدين على خواجا، والقاضى كمال الدين موسى بن يونس، ورفيقهما. فوصل البربد من حلب بوصولهم. فرسم بتوجه الأمير سيف الدين كراى المنصورى لإحضارهم. فتوجه على خيل البريد فأحضرهم إلى الأبواب السلطانية. وكان وصولهم إلى قلعة الجبل، فى ليلة الاثنين، خامس عشر ذى الحجة. وأحضروا بين يدى السلطان، فى عشية نهار الثلاثاء. فخطب كمال الدين خطبة فى معنى الصلح، واتفاق الكلمة، ورغب فيه. ثم أخرج كتابا نسخته «4» :
بسم الله الرحمن الرحيم. بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية فرمان السلطان محمود غازان.(31/426)
ليعلم السلطان الملك المعظم الناصر، أنه فى العام الماضى، بعض عساكرهم «1» المفسدة، دخلوا أطراف بلادنا، وأفسدوا فيها، لعناد الله وعنادنا، كماردين ونواحيها، وجاهدوا الله بالمعاصى فيمن ظفروا به من أهلها، وأقدموا على أمور بديعة، وارتكبوا آثما شنيعة، من محاربة الله وخرق ناموس الشريعة. فأنفنا من تهجمهم «2» ، وغرنا من تقحمهم «3» . وأخذتنا الحمية الإسلامية، فحدتنا «4» على دخول بلادهم، ومقاتلتهم على فسادهم. فركبنا بمن كان لدينا من العساكر، وتوجهنا بمن اتفق منهم أنه حاضر. وقبل وقوع الفعل منا، واشتهار الفتك عنا، صلكنا سنن سيد المرسلين، واقتفينا آثار المتقدمين «5» . واقتدينا بقول الله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
«6» . وأنفذنا صحبة يعقوب السكرجى، جماعة من القضاة والأئمة والثقات. وقلنا: (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ)
«7» .
فقابلتم ذلك بالإصرار، وحكمتم عليهم وعلى المسلمين بالأضرار، وأهنتموهم وسجنتموهم. وخالفتم سنن الملوك فى حسن السلوك. فصبرنا «8» على تماديكم فى غيّكم، وخلودكم إلى بغيكم، إلى أن نصرنا الله، وأراكم فى أنفسكم قضاه. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ(31/427)
اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ)
«1» . وظننا أنهم حيث تحققوا كنه الحال، وآل بهم الأمر إلى ما آل، أنهم ربما تداركوا الفارط فى أمرهم، ورتقوا ما فتقوا بغدرهم، وأوجه «2» إلينا وجه عذرهم، وأنهم ربما سيروا إلينا حال دخولهم إلى الديار المصرية، رسلا لإصلاح تلك القضية. فبقينا بدمشق غير متحثحثين، وتثبطنا تثبط المتملكين المتمكنين. فصدهم عن السعى فى صلاح حالهم التوانى، وعلّلوا نفوسهم عن اليقين بالأمانى.
ثم بلغنا، بعد عودنا إلى بلادنا، أنهم القوا فى قلوب العساكر والعوام، وراموا جبر ما أوهنوا من الإسلام، أنهم فيما بعد يلقوننا «3» على حلب أو الفرات.
وأن عزمهم مصر على ذلك لا سواه. فجمعنا العساكر وتوجهنا للقياهم. ووصلنا الفرات مرتقبين ثبوت دعواهم، وقلنا ولعلهم وعساهم «4» . فما طلع لهم بارق، ولا ذرّ شارق. فتقدمنا «5» إلى أطراف حلب، وتعجبنا من بطئهم غاية العجب.
فبلغنا رجوعهم «6» بالعساكر، وتحققنا نكوصهم عن الحرب. وفكرنا فى أنه متى تقدمنا بعساكرنا الباهرة وجموعنا العظيمة القاهرة، ربما أخرب البلاد مرورها، وباقامتهم فيها فسدت أمورها. وعم الضرر العباد، والخراب البلاد. فعدنا بقيا عليها، ونظرة لطف من الله إليها.(31/428)
وها نحن الآن [أيضا «1» ] مهتمون بجمع العساكر المنصورة، ومشحذون «2» غرار «3» عزماتنا المشهورة، ومشتغلون بصنع المجانيق وآلات الحرب، وعازمون بعد الإنذار (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
«4» .
وقد سيرنا حاملى هذا الفرمان: الأمير الكبير ناصر الدين على خواجه، والإمام العالم ملك القضاة، كمال الدين موسى بن يونس. وقد حملنا هما كلاما يشافهاهم «5» به. فليثقوا «6» بما تقدمنا به إليهما. فإنهما من الأعيان المعتمد عليهما، لنكون كما قال الله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)
«7» .
فيعدوا «8» لنا الهدايا والتحف. فما بعد الإنذار من عاذر. وإن لم يتداركوا الأمر، فدماء المسلمين وأموالهم مطلوله «9» بتدبيرهم، ومطلوبة منهم عند الله على طول «10» تقصيرهم.(31/429)
قليمعن السلطان لرعيته النظر فى أمره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ولاه الله أمرا من أمور هذه الأمة، واحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم.
احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره» . وقد أعذر من أنذر، وانصف من حذّر.
والسلام على من اتبع الهدى.
كتب فى العشر الأوسط من شهر رمضان سنة سبعمائة بجبال الأكراد، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا [محمد «1» ] المصطفى وآله الطاهرين «2» .
فقرئ كتابه، ورسم بإنشاء جوابه، فكتب. وهو من إنشاء المولى القاضى علاء الدين على ابن المولى المرحوم فتح الدين محمد ابن القاضى المرحوم محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر. وأعاد السلطان رسله، من غير أن تصحبّهم رسولا، بل استحضرهم بمنزلة الصالحية، وأنعم عليهم وجهزهم، فتوجهوا فى سنة إحدى وسبعمائة.
ونسخة الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، بقوة الله تعالى، وميامين الملة المحمدية.
أما بعد حمد الله، الذى جعلنا من السابقين الأوّلين، الهادين المهتدين، التابعين لسنة سيد المرسلين، بإحسان إلى يوم الدين. والصلاة على سيدنا محمد والسلام على آله وصحبه الذين فضل الله من سبق منهم إلى الإيمان فى كتابه(31/430)
المكنون: فقال سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)
«1» بإقبال دولة السلطان الملك الناصر.
كلام محمد بن قلاوون:
«ليعلم «2» السلطان المعظم، محمود غازان، أن كتابه ورد، فقابلناه بما يليق بمثلنا لمثله من الإكرام. ورعينا له حق القصد، فتلقيناه منّا بسلام. وتأملناه تأمّل المتفهم لدقائقه، المستكشف عن حقائقه. فألفيناه قد تضمن مؤاخذت «3» بأمور، هم بالمؤاخذه عليها أحرى، معتذرا فى التعدى بما جعله ذنوبا لبعض، طالب بها الكل. والله تعالى يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) *
«4» .
أما حديث إغارة من أغار على ماردين من رجّاله بلادنا المتطرفة، وما نسبوه إليهم من [الإقدام على «5» ] الأمور البديعة والآثام «6» الشنيعة، وقولهم: إنهم أنفوا من تهجمهم، وغاروا من تقحمهم، واقتضت الحميّة ركوبهم فى مقابلة ذلك، فقد تلمّحنا هذه الصورة التى أقاموها عذرا فى العدوان، وجعلوها سببا إلى ما ارتكبوه من طغيان. والجواب عن ذلك أن الغارات من الطرفين، لم يحصل من المهادنه [و «7» ] الموادعة، ما يكف يدها الممتدة، ولا يفتر هممها المستعدّة، وقد(31/431)
كان أباؤكم وأجدادكم على ما علمتم من الكفر والشقاق «1» ، وعدم المصافاة للإسلام والوفاق. ولم يزل ملك ماردين ورعيته «2» منقذين «3» ما يصدر من الأذى للبلاد والعباد عنهم، متولين كبر مكرهم، والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)
«4» .
«وحيث جعلتم هذا ذنبا، موجّبا للحميّة الجاهلية، وحاملا على الانتصار، الذى زعمتم أن همتكم به مليّة، فقد كان [هذا «5» ] القصد، الذى ادعيتموه «6» ، يتم «7» بالانتقام من أهل تلك الأطراف، التى أوجب ذلك فعلها، والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار اتباعا لقوله تعالى: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)
«8» ، لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملّفقة، على اختلاف الأديان وتطأوا «9» البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان، وتنتهكوا حرمة البيت المقدس، الذى هو ثانى بيت الله الحرام، وشقيق مسجد رسول الله، عليه الصلاة والسلام. وإن احتججتم أن زمام الغارة «10» بيدنا «11» ، وسبب تعدّيهم من سنّتنا. فقد أو ضحنا الجواب عن ذلك، وأن عدم الصلح والموادعة، أوجب سلوك هذه المسالك» .(31/432)
وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين واقتفاء آثار المتقدّمين، فى انفاذ الرسل أولا، فقد تلمحنا هذه الصورة، وفهمنا ما أوردوه من الآيات «1» المسطورة. والجواب عن ذلك أن هؤلاء الرسل ما وصلوا إلينا [إلا «2» ] وقد دنت الخيام من الخيام، وناضلت السهام السّهام، وشارف القوم القوم. ولم يبق للقاء إلا يوم أو بعض يوم، وأشرعت «3» الأسنّة من الجانبين، ورأى كلّ خصمه رأى العين. وما نحن ممن لاحت «4» له رغبة راغب، فتشاغل عنها ولهى، ولا ممن يسالم فيقابل «5» ذلك بجفوة النفار «6» ، والله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
«7» . كيف والكتاب بعنوانه. وأمير المؤمنين على بن أبى طالب، رضى الله عنه، يقول:
«ما أضمر إنسان شيئا إلا ظهر، فى صفحات وجهه وفلتات لسانه» .
ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعة فى أغمادها، والأسنة «8» مستكنّة فى أعوادها، والسهام غير مفوفة، والأعنة غير مطلقة، لسمعنا خطابهم وأعدنا جوابهم.(31/433)
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم «1» ، وأبدوه من غليظ كلمهم فى قولهم: فصبرنا على تماديكم فى غيكم، وإخلادكم إلى بغيكم. فأىّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحه، قبل إرسال رسل المصالحه، وجاس خلال الديار قبل ما زعمه من الإنذار والأعذار؟ وإذا فمكروا فى هذه الأسباب، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب، علموا «2» العذر فى تأخير «3» الجواب، وما يتذكر «4» إلا أولوا الألباب.
وأما ما تحججوا «5» به «6» مما اعتقدوه من نصره، وظنّوه من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب [فى] «7» كل كرة الكرة. فلو تأملوا ما ظنوه ربحا، لوجدوه هو الخسران المبين. ولو أنعموا النظر فى ذلك، لما كانوا به مفتخرين، ولتحقّقوا أن الذى اتفق لهم، كان غرما «8» لا غنما، وتدبروا معنى قوله تعالى، (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «9»
. ولم يخف عنهم من أبلته «10» السيوف الإسلامية منهم. وقد رأوا عزم من حضر من عساكرنا، التى لو كانت مجتمعه عند اللقاء، ما ظهر خبر عنهم.(31/434)
فإنا كنا فى مفتتح ملكنا، ومبتدإ أمرنا، حللنا بالشام للنظر فى أمور البلاد والعباد. فلما تحققنا خبركم، وقفونا أثركم، بادرنا «1» نقدّ أديم الأرض سيرا، وأسرعنا لندفع عن المسلمين ضررا وضيرا، ونؤدى من الجهاد السنة والفرض ونعمل بقوله تعالى: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)
«2» فاتفق اللقاء بمن حضر من عساكرنا المنصورة، وثوقا بقوله تعالى:
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)
«3» وإلا فأكابركم «4» يعلمون وقائع الجيوش الإسلامية، التى كم وطئت موطئا يغيظ الكفار. فكتب لها [به «5» ] عمل صالح، وسارت فى سبيل الله، ففتح الله عليها أبواب المناجح. وتعددت أيام نصرتها «6» ، التى لو دققتم الفكر فيها لأزالت ما حصل عندكم من لبس، ولما قدرتم [على «7» ] أن تنكروها، وفى تعب من يجحد ضوء الشمس. وما زال الله لنا نعم المولى ونعم النصير. وإذا راجعتموهم قصّوا عليكم نبأ الاستظهار، ولا ينهتك مثل خبير.
وما زالت تتفق الوقائع بين الملوك والحروب، وتجرى المواقف التى هى بتقدير الله؛ فلا فخر فيها للغالب، ولا عار على المغلوب. وكم من ملك استظهر عليه،(31/435)
ثم نصر «1» ، وعاوده التأييد. فجبر بعد ما كسر، خصوصا ملوك هذا الدين، فإن الله تكفل لهم بحسن العقبى. فقال سبحانه: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) *
«2» .
وأما إقامتهم الحجة علينا، ونسبتهم التفريط إلينا، فى كوننا لم نسيّر إليهم رسولا، عندما حلوا «3» بدمشق فنحن عند ما وصلنا إلى الديار المصرية، لم نزد على أن اعتددنا «4» وجمعنا جيوشنا من كل مكان. وبذلنا فى الاستعداد غاية الجهد والإمكان وأنفقنا جزيل الأموال فى العساكر والجحافل. ووثقنا بحسن الخلف، لقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ)
«5» .
ولمّا خرجنا من الديار المصرية، وبلغنا خروج الملك من البلاد، لأمر حال بينه وبين المراد، توقفنا «6» عن المسير، توقف من أغنى رعبه عن حث الركاب، وتثبتتا تثبت الراسيات (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)
«7» وبعثنا طائفة من العساكر لمقاتلة من أقام بالبلاد، فما لاح لنا منهم بارق ولا ظهر. وتقدمت فتخطفت من حمله على التأخر الغرر؛ ووصلت الفرات فما وقفت للقوم على أثر.(31/436)
وأما قولهم: أننا ألقينا فى قلوب العساكر والعوام، أنهم فيما بعد يلتقوننا «1» على حلب أو الفرات، وأنهم جمعوا العساكر ورحلوا «2» إلى الفرات وإلى حلب، مرتقبين وصولنا. فالجواب عن ذلك، أنه من حين بلغنا حركتهم، جزمنا، وعلى لقائهم عزمنا «3» ، وخرجنا وخرج أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواجب الطاعة عل كل مسلم، المفترض المبايعة والمتابعة على كل منازع ومسلم، طائعين لله ولرسوله فى أداء فرض «4» الجهاد، باذلين فى القيام بما أمرنا الله تعالى غاية الاجتهاد، عالمين أنه لا يتم أمر دين ولا دنيا إلا بمشايعته. ومن والاه «5» فقد حفظه الله وتولاه. ومن عانده أو عاند من أقامه، فقد أذله الله، فحين وصلنا إلى البلاد الشامية، تقدمت عساكرنا إلى «6» السهل والجبل، وتبلغ بقوة الله تعالى فى النصر الرجاء والأمل. ووصلت أوائلها إلى أطراف حماه وتلك النواحى «7» ، فلم يقدم أحد منهم عليها. ولا جسر أن يمد [حتى «8» ] ولا الطرف إليها. فلم نزل مقيمين، حتى بلغنا رجوع الملك إلى البلاد، وإخلافه موعد اللقاء، والله لا يخلف الميعاد. فعدنا لاستعداد جيوشنا التى لم تزل تندفع فى(31/437)
ولما اتصل خبر تجريد العسكر بصاحب سيس، جهز رسله إلى الأبواب السلطانية، يستعطف السلطان، ويسأل مراحمه، فلم تجد «1» رسالته نفعا.
ووصلت هذه العساكر إلى حلب. وأردف السلطان هذه العساكر بالأمير علم الدين سنجر الدوادارى، أحد مقدمى العساكر بالديار المصرية، ومضى فيه، فخرج مسرعا، وأدرك الجيش بحلب. وجرد من العسكر الحلبى الأمير علم الدين المعروف بالزغلى و [الأمير علم الدين سنجر الحلبى «2» ] ، ومضافيهما. وتوجهت هذه الجيوش بجملتها إلى بلاد سيس. فلما نزلوا بالعمق، افترقت العساكر فرقتين. فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش، أمير سلاح، والأمير حسام الدين أستاذ الدار، والأمير ركن الدين الجالق، والأمير بهاء الدين قرا أرسلان، والعسكر الصفدى من عقبة بغراس إلى باب اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون. وتوجه الملك المظفر صاحب حماه، والأمير علم الدين سنجر الدوادارى، والأمير شمس الدين آفسنقر كرتاى «3» ، وبقية الجيش من عقبة المريت «4» . وصار نهر «5» جهان بين الفريقين وكان دخولهم إلى دربند سيس، فى يوم الخميس، رابع شهر رجب.(31/438)
إلى أحد من المسلمين يد أضراره. هذه سنة أهل الإسلام، وفعل من يريد لملكه الدوام.
وأما ما أرعدوا به وأبرقوا، وأرسلوا به عنان قلمهم وأطلقوا، وما أبدوه «1» من الاهتمام بجمع عساكرهم، وتهيئة المجانيق، إلى غير ذلك مما ذكروه من التهويل، فالله تعالى يقول: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
«2» .
وأما قولهم: وإلا فدماء المسلمين مطلوله، فما كان أغناهم عن هذا الخطاب، وأولاهم بأن [لا «3» ] يصدر إليهم عن ذلك جواب، ومن قصد «4» الصلح والإصلاح، كيف يقول هذا القول، الذى عليه فيه من جهة الله، ومن جهة رسوله أى جناح؟. وكيف يضمر هذه النية، ويتبجح بهذه الطوية؟ ولم يخف مواقع الزلل [من «5» ] هذا القول وخلله، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول «نية المرء أبلغ من عمله» . وبأى طريق تهدر دماء المسلمين، التى من تعرض إليها، يكون الله له فى الدنيا والآخرة مطالبا وغريما، ومؤاخذا بقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)
«6» .
وإذا كان الأمر كذلك، فالبشرى لأهل الإسلام، بما نحن عليه من الهمم المصروفة إلى الاستعداد، وجمع العساكر التى يكون لها الملائكة الكرام،(31/439)
إن شاء الله تعالى من أنجاد، والاستكثار من الجيوش الإسلامية المتوفرة العدد، المتكأثرة المدد، الموعودة بالنصر، الذى يحفها فى الظعن والإفامة، الواثقة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على عدوهم إلى يوم القيامة» . المبلغة فى نصر دين الله آمالا، المستعدة لإجابة داعى الله إذا قال: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا)
«1» .
وأما رسلهم، وهم [فلان وفلان «2» ] ، فقد وصلوا إلينا، ووفدوا علينا، وأكرمنا وفادتهم، وغزرنا لأجل مرسلهم من الإقبال مادتهم، وسمعنا خطابهم، وأعدنا جوابهم هذا، مع كوننا لم يخف علينا انحطاط قدرهم، ولا ضعف أمرهم.
وأنهم ما دفعوا لأفواه الخطوب إلا لما ارتكبوه من ذنوب. وما كان ينبغى أن يرسل مثل هؤلاء لمثلنا من مثله. ولا ينتدب لهذا الأمر المهم إلا من يجمع على فصل خطابه وفضله.
وأماما بالتسموه من الهدايا والتّحف، فلو قدموا من هداياهم حسنة، لعوضناهم بأحسن منها. ولو أتحفونا بتحفة لقابلناهم «3» بأجمل عوض عنها. وقد كان عمّهم الملك احمد «4» ، راسل والدنا السلطان الشهيد وناجاه «5» بالهدايا [والتحف «6» ] من مكان بعيد. وتقرب إلى قلبه بحسن الخطاب، فأحسن له الجواب، وأتى البيوت من أبوابها، بحسن الأدب، وتمسك من الملاطفة بأقوى سبب.(31/440)
والآن، فحيث انتهت الأجوبة إلى حدها، وأدركت الأنفة من مقابلة ذلك الخطاب غاية قصدها، فنقول: إذا جنح الملك للسلم، جنحنا لها، وإذا دخل فى الملّة المحمدية، ممتثلا ما أمر الله به، مجتنبا ما عنه نهى، وانضم «1» فى سلك الإيمان، وتمسك بموجباته، تمسك المتشرف بدخوله فيه لا المنانّ، وتجنّب التشبه بمن قال الله عز وجل فى حقهم: (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ)
«2» . وطابق فعله قوله: ورفض الكفار الذين لا يحل له أن يتخذهم حوله، وأرسل إلينا رسولا من جهته يرتّل آيات الصلح ترتيلا؛ ويروق خطابه وجوابه، حتى يتلو كل أحد عند عوده (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)
«3» . صارت حجّتنا وحجّته المركبة «4» على من خالف ذلك، وكلمتنا وكلمته قامعة أهل الشرك فى سائر الممالك، ومظافرتنا له تكسب «5» الكافرين هوانا؛ والمشاهد لتصافينا يتلو قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)
«6» .
وينتظم إن شاء الله تعالى شمل الصلح، أحسن انتظام. ويحصل التمسك من الموادعة والمصافاة «7» بعروة ولا انفصال لها ولا انفصام. وتستقر قواعد الصلح، على ما يرضى الله ورسوله علية أفضل الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى.(31/441)
كتب فى ثامن وعشرين المحرم سنة إحدى وسبعمائة «1» .
وفى سنة سبعمائة، ولى الأمير الدين البكى الساقى نيابة السلطنة بحمص.
وفيها، توجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير الدولة ومدبّرها، إلى الممالك الشامية لكشفها، ووصل إلى المملكة الحلبية، وعاد إلى الديار المصرية، فى سنة إحدى وسبعمائة، وعزل عن الوزارة فى غيبته «2» .
وفيها، توجه الأمير سيف الدين بكتمر الجو كان دار، أمير جاندار؛ إلى الحجاز الشريف؛ وتصدق بصدقات عظيمة. فيقال إنه أنفق فى هذه السفرة خمسة وثمانين ألف دينار عينا. «3»
وفى هذه السنة، توفى الأمير عز الدين ايدمر الظاهرى؛ وهو الذى ناب عن السلطنة بالشام، فى الدولة الظاهرية والسعيدية. وكانت وفاته برباطه بجبل الصالحية، فى يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الأول ودفن هناك رحمه الله تعالى «4» .
وفيها، توفى الشيخ زين الدين عبد الرحمن ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، أخو قاضى القضاة بدر الدين. وكانت وفاته بحماه فى سابع(31/442)
واستهلت ثمان وتسعين وستمائة [698- 1298/1299]
فى هذه السنة، فى أولها جهز السلطان الأمير جمال الدين أقش الأفرم، والأمير سيف الدين حمدان بن صلغاى «1» إلى الشام، وأمرهما أن يتوجها إلى دمشق، ويخرجا نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجاق «2» وبقية العسكر إلى البلاد الحلبية. فوصلا إلى دمشق على خيل البريد، فى يوم الأربعاء سابع المحرم.
فتجهز الأمير سيف الدين قيجاق نائب السلطنة، وخرج بسائر عساكر دمشق حتى يخربة القلعة، وجماعة الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب القلعة، وتأخر بدمشق الأمير سيف الدين جاغان. وكان خروج نائب السلطنة من دمشق، فى عشية الأربعاء، رابع عشر المحرم، وبات بالميدان الأخضر. وركب فى بكرة النهار؛ وتوجه بالعساكر إلى جهة حمص. وكان سبب هذه الحركة ظاهرا، أن السلطان بلغه أن التتار قد عزموا على الدخول إلى البلاد الإسلامية بالشام.
وعلم الأمير سيف الدين قبجاق، أن الأمر ليس كذلك. فإن القصاد قبل ذلك بيسير، حضروا إليه من بلاد الشرق، وأعلموه أن التتار كانوا قد تجهزوا وعزموا على الحضور إلى الشام. فلما كانوا باثناء الطريق، وقعت عليهم صواعق كثيرة، وأهلكت منهم خلفا كثيرا، فتفرقوا فى مشانيهم، ولم يرد خلاف ذلك.(31/443)
كمل الجزء التاسع والعشرون من كتاب نهاية الآرب فى فنون الأدب وافق الفراغ من كتابته، فى يوم الاثنين السادس من شهر رمضان سنة ست وستين «1» وستمائة» على يد الفقير إلى الله تعالى عبد المنعم بن شرف الدين السنبلاوينى.
يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول السفر الموفى ثلاثين واستهلت سنة إحدى وستعمائة للهجرة النبوية والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل(31/445)
فهرس موضوعات الجزء الحادي والثلاثون
من كتاب نهاية الأرب للنويري
تقديم 5
ذكر أخبار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى 7
ذكر عزل الصاحب برهان الدين السنجارى عن الوزارة، وتفويضها للصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وغير ذلك 12
ذكر أخبار الأمير شمس الدين سنقر الأشقر وخروجه عن طاعة السلطان، وسلطنته بدمشق، وما كان من أمره إلى أن عاد للطاعة، ورجع إلى الخدمة السلطانية 14
ذكر التقاء العسكر المصرى والعسكر الشامى وانهزام عسكر الشام، وأسر من يذكر من أمرائه فى المرة الأولى 15
ذكر تجريد العساكر إلى دمشق، وحرب سنقر الأشقر وانهزامه، إخلائه دمشق، ودخول العسكر المصرى إليها 17
ذكر توجه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون وتحصنه بقلعتها 20(31/447)
ذكر انتظام الصلح بين السلطان الملك المنصور وبين سنقر الأشقر، وما استقر بينهما وانتقاض ذلك وأخذ صهيون منه 21
ذكر خبر الملك السعيد وما كان من أمره بالكرك واستيلائه على الشوبك واستعادتها منه 24
ذكر وفاة الملك السعيد، وقيام أخيه الملك المسعود خضر مقامه بالكرك 25
ذكر الصلح بين السلطان المسعود وانتقاض ذلك، وإخراجه من الكرك 27
ذكر الفتوحات والغزوات التى شهدها السلطان بنفسه والتى ندب إليها عساكره المؤيده ذكر عبور التتار إلى الشام، والمصاف الذى وقع بينهم وبين العساكر المنصورة بمحص وانهزام التتار 30
ذكر الميمنة المنصورة 33
ذكر الجاليش؛ وهو مقدمة القلب 33
ذكر فتوح قلعة قطبيا 37
ذكر فتوح ثغر الكختا 38
ذكر الإغارة على بلاد سيس 38(31/448)
ذكر فتوح حصن المرقب 39
ذكر غزوتى النوبة الأولى والثانية 39
ذكر تجريد الجيش فى المرة الثانية إلى النوبة 41
ذكر فتوح طرابلس الشام 46
ذكر أخبار طرابلس الشام، منذ فتحها المسلمون فى خلافة عثمان إلى وقتنا هذا 49
ذكر ما اتفق فى الدولة المنصورية على حكم السنين خلاف ما ذكرناه من إقامة النواب، ومهادنة الفرنج، والحوادث الغريبة، التى يتعين إيرادها، والوفيات سنة ثمان وسعبين وستمائة 61
سنة تسع وسبعين وستمائة 64- 72
ذكر ما تجدد بدمشق بعد أن فارقها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر 64
ذكر عزل قاضى القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان عن القضاة بدمشق، واعادته، وما اتفق فى هذه السنة الحادثه 65
ذكر تفويض السلطنة ولاية العهد للملك الصالح علاء الدين على ابن السلطان الملك المنصور 68
ذكر توجه السلطان إلى غزة، وعوده إلى الديار المصرية 69
ذكر توجه السلطان إلى الشام 70(31/449)
سنة ثمانين وستمائة 73- 86
ذكر ما تقرر من المهادنات مع الفرنج وبيت الاسبتار 73
ذكر حادثة الأمير سيف الدين كوندك ومن معه، والقبض عليه 77
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين رزين، وولاية القاضى وجيه الدين، واستعفائه من قضاء القاهرة، وولاية القاضى شهاب الدين الخوبى 82
سنة إحدى وثمانين وستمائة 87- 94
ذكر تفويض نيابة السلطنة بحلب للأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى 87
ذكر وصول رسل أحمد سلطان، وهو توكدار بن هولاكو، ملك التتار 89
ذكر الظفر بملك من ملوك الكرج وإمساكه 91
سنة اثنتين وثمانين وستمائة 95- 118
ذكر توجه السلطان إلى الشام وعوده 96
ذكر عزل قاضى القضاة عز الدين بن الصائغ الشافعى عن القضاء، وتولية قاضى القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكى 97
ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن ومن معه من جهة أحمد سلطان، ووفاة مرسلهم، وما كان من خبرهم 99(31/450)
ذكر عمارة التوبة المنصورية والبيمارستان ومكتب السبيل 105
العودة إلى بقية حوادث سنة اثنتين وثمانين وستمائة 113
سنة ثلاث وثمانين وستمائة 119- 124
ذكر توجه السلطان إلى الشام 119
ذكر حادثة السيل بدمشق 119
ذكر وفاة الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وشىء من أخباره، وأمر ولده الأمير حسام الدين مهنا 120
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حماه وولاية ولده الملك المظفر 121
سنة أربع وثمانين وستمائة 125- 128
ذكر مولد السلطان الملك الناصر 125
سنة خمس وثمانين وستمائة 129- 143
ذكر حادثة غريبة اتفقت بحمص 129
ذكر توجه السلطان إلى الكرك وما رتبه من أمر النيابة وعوده 132
ذكر وفاة القضاة وجيه الدين، وتفويض القضاة بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة تقى الدين بن بنت الأعز 133
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين بن شاس المالكى، وتفويض القضاة لقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكى 133
ذكر وفاة قاضى القضاة بهاء الدين بن الزكى، وشىء من أخباره 134(31/451)
سنة ست وثمانين وستمائة 145- 151
ذكر تفويض قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى برهان الدين السنجارى، ونقلة شهاب الدين الخوبى إلى الشام، ووفاة السنجارى، وإضافة قضاء القاهرة للقاضى تقى الدين بن بنت الأعز 145
ذكر خبر واقعة ناصر الدين بن المقدس وأعيان دمشق، ومصادرة أكابر دمشق، وتوكيل ناصر الدين بن المقدسى عن السلطان 147
سنة سبع وثمانين وستمائة 153- 161
ذكر عزل الأمير علم الدين سنجر الشجاعى عن الوزارة ومصادرته، وتفويض الوزارة لقاضى القضاة تقى الدين، ثم إلى الأمير بدر الدين بيدرا 153
ذكر توجه ناصر الدين بن المقدسى إلى دمشق وما فوض إليه من مناصبها، وما اعتمده 157
ذكر وفاة الملك الصالح وتفويض ولاية العهد إلى الملك الأشرف 159
سنة ثمانين وثمانين وستمائة 163- 165
ذكر ما اتفق بدمشق من المصادرات 163
سنة تسع وثمانين وستمائة 167- 185
ذكر إبقاع الحوطة على ناصر الدين المقدسى وشنقه 168(31/452)
ذكر وفاة قاضى القضاة نجم الدين المقدسى الحنبلى وتفويض القضاء بدمشق بعده للشيخ شرف الدين المقدسى 171
ذكر تسمية نواب السلطان الملك المنصور ووزرائه 174
ذكر أخبار السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحى 177
ذكر القبض على الأمير حسام الدين طرنطاى وقتله، وعلى الأمير زين الدين كتبغا واعتقاله 180
ذكر تفويض نيابة السلطنة الشريفة للأمير بدر الدين بيدرا المنصورى 183
سنة تسعين وستمائة 187- 224
ذكر تفويض الوزارة للصاحب شمس بن السلعوس وشىء من أخباره 187
ذكر القبض والإفراج على من نذكر من الأمراء 194
ذكر فتوح عكا وصور وصيدا وحيفا 195
ذكر القبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام 209
ذكر رحيل السلطان عن عكا ودخوله دمشق، وما قرره من أمر النيابة بها، وبالكرك وغير ذلك 210
ذكر فتوح برج صيدا 212
ذكر فتح بيروت 212(31/453)
ذكر إنفاذ ولدى السلطان الملك الظاهر ووالدتهما إلى بلاد الأشكرى 214
ذكر الإفراج عن الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، وغيره من الأمراء 214
ذكر عزل قاضى القضاة تقى الدين بن بنت الأعز عن القضاء ومصادرته 218
ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة الشافعى 220
ذكر متجدات كانت بدمشق 221
سنة إحدى وتسعين وستمائة 225- 246
ذكر توجه السلطان إلى الشام 225
ذكر فتوح قلعة الروم وتسميتها قلعة المسلمين 226
ذكر توجه الأمير بدر الدين بيدرا وبعض العساكر إلى جبال الكسروان واضطراب العسكر 240
ذكر هرب الأمير حسام الدين لاجين والقبض عليه واعتقاله، والقبض على طقصوا 242
ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام والفتوحات، وعود السلطان إلى الديار المصرية 242
ذكر عدة حوادث كانت فى خلال فتح قلعة الروم وقبله وبعده 243(31/454)
ذكر القبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وجرمك الناصرى ووفاتهما، ووفاة طقصوا، والإفراج عن الأمير حسام الدين لاجين 245
سنة اثنتين وتسعين وستمائة 247- 257
ذكر توجه السلطان إلى الصيد 248
ذكر توجه السلطان إلى الشام وأخذ بهسنا من الأرمن وإضافتها إلى الممالك الإسلامية 249
ذكر القبض على الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى وأخوته 250
ذكر هدم قلعة الشوبك 251
ذكر حادثة السيل بيعليك 252
ذكر ختان الملك الناصر، وما حصل من الاهتمام بذلك 253
سنة ثلاث وتسعين وستمائة 259- 280
ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون رحمهما الله 259
ذكر خبر الأمير بدر الدين بيدرا ومن معه من الأمراء الذين وافقوه وما كان منهم، ومقتل بيدرا 263
ذكر أخبار السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى 267
ذكر خبر الأمراء الذين وافقوا بيدرا على قتل السلطان الملك الأشرف 269(31/455)
ذكر أخبار الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس الوزير، وما كان من أمره منذ فارق السلطان الملك الأشرف إلى أن مات 270
ذكر الخلف الواقع بين الأميرين علم الدين سنجر الشجاعى وزين الدين كتبغا ومقتل الشجاعى 273
ذكر عدة حوادث كانت فى سنة ثلاث وتسعين وستمائة، خلاف ما قدمناه، من ولاية وعزل وغير ذلك والوفيات 277
سنة أربع وتسعين وستمائة 281- 291
ذكر الفتنة التى قصد المماليك السلطانية إثارتها 281
ذكر سلطنة السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وهو العاشر من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 282
ذكر تفويض الوزارة للصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى 285
ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك الخزندار نائب السلطنة بالفتوحات، وولاية الأمير عز الدين أيبك الموصلى المنصورى 287
ذكر وفاة الملك المظفر يوسف بن عمر صاحب اليمن 289
سنة خمس وتسعين وستمائة 293- 309
ذكر حادثة عجيبة بالشام 295
ذكر وفود الأويراتية من بلاد التتار 296
ذكر وفاة قاضى القضاة تقى الدين عبد الرحمن بن بنت الأعز، وتفويض القضاء للشيخ ابن دقيق العيد 299(31/456)
ذكر توجه السلطان الملك العادل، وعزل نائب السلطنة بدمشق الأمير عز الدين الحموى، وتولية الأمير سيف الدين أغرلوا العادلى، وغير ذلك 305
سنة ست وتسعين وستمائة 311- 327
ذكر عود السلطان الملك العادل إلى الديار المصرية وخلعه من السلطنة ورجوعه إلى دمشق 311
ذكر سلطنة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى 313
ذكر أخبار الملك العادل وما اعتمده بدمشق، وما كان من أمره إلى أن انتقل إلى صرخد 316
ذكر الإفراج عن جماعة من الأمراء 321
ذكر تجديد عمارة الجامع الطولونى، وترتيب الدروس به، والوقف على ذلك 321
ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية والشام لمن يذكر 323
ذكر تفويض الوزارة بالديار المصرية للأمير شمس الدين سنقر الأعسر 324
ذكر القبض على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب السلطنة، وتفويض نيابة السلطنة للأمير سيف الدين منكوتمر 325(31/457)
سنة سبع وتسعين وستمائة 329- 350
ذكر وصول الملك المسعود نجم الدين خضر ومن معه، من القسطنطينية إلى الديار المصرية 329
ذكر توجه الملك السلطان الناصر إلى الكرك وإقامته بها 330
ذكر القبض على الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى وغيره 331
ذكر إعادة الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلى إلى الوزارة 336
ذكر تجريد العساكر إلى سيس وما فتح من قلاعها 337
ذكر حادثة غريبة ظهر فيها آية من آيات الله عز وجل 344
ذكر روك الإقطاعات بالديار المصرية وتحويل السنة 345
سنة ثمان وتسعين وستمائة 351- 381
ذكر مفارقة من نذكر من نواب السلطنة والأمراء الخدمة السلطانية ولحاقهم بقازان ملك التتار 352
ذكر مقتل السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى ونائبه منكوتمر 357
ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر 363
ذكر مقتل سيف الدين طقجى وسيف الدين كرجى 365(31/458)
ذكر عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى السلطنة ثانيا 370
ذكر الإفراج عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وتفويض الوزارة إليه 372
ذكر وفود سلامش بن أفال بن بيجو وأخيه قطقطوا ومن معهما، وعود سلامش وقتله 373
ذكر وصول مراكب الفرنج إلى ساحل الشام وتكسير بعضها، ورجوع ما سلم منها 376
ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماه 379
ذكر توجه السلطان إلى الشام 380
سنة تسع وتسعين وستمائة 383- 410
ذكر الفتنة التى أثارها الأويرانية بهذه المدينة (تل العجول) 383
ذكر وقعة غازان ملك التتار بجمع المروج ببلاد حمص 384
ذكر تسمية من استشهد وفقد فى هذه الوقعة من المشهورين 385
ذكر ما اتفق بدمشق بعد الوقعة ومفارقة العساكر الإسلامية فى مدة استيلاء التتار عليها، إلى أن فارقوا البلاد وعادوا إلى الشرق 387
ذكر ما اعتمده السلطان الملك الناصر عند عوده إلى الديار المصرية من الاهتمام بأمر الجيوش والعساكر 401
ذكر توجه السلطان بالعساكر إلى جهة الشام ووصوله إلى منزلة الصالحية وإرسال الجيوش إلى دمشق والممالك الشامية، وعود الأمراء(31/459)
إلى الخدمة السلطانية، ورجوع السلطان إلى قلعة الجبل، وما تقرر من أمر النواب 403
ذكر ما اعتمده الأمير جمال الدين أقش نائب السلطنة بدمشق، بعد عود العساكر المصرية 407
سنة سبعمائة 411- 443
ذكر جباية المقرر على أرباب الأملاك والأموال بالديار المصرية والشام 411
ذكر توجه السلطان الملك الناصر بالعساكر إلى الشام وعوده 412
ذكر وصول غازان إلى الشام وعوده، وما فعلته جيوشه 413
ذكر خبر أهل الذمة وتغيير لباسهم وما تقرر فى ذلك، والسبب الذى أوجبه 641
ذكر وصول رسل غازان ملك التتار وما وصل على أيديهم من من المكاتبة وما أجيبوا به 426(31/460)
الجزء الثاني والثلاثون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد، فهذا هو الجزء الثانى والثلاثون من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة من الهجرة. وهو يؤرخ للحقبة الزمنية التى تبدأ من سنة إحدى وسبعمائة وتنتهى بنهاية سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. وفيها تقع أحداث دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية اعتبارا من السنة الرابعة من ولايته إلى منتصف شوال من سنة ثمان وسبعمائة، وأحداث دولة الملك المظفر بيبرس المنصورى الجاشنكير، والتى انتهت فى رمضان سنة تسع وسبعمائة. ثم دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة حتى نهاية السنة الحادية عشرة من ولايته وهى سنة عشرين وسبعمائة هذا فضلا عن الأحداث والحروب التى وقعت بين مملكة غرناطة الإسلامية بالأندلس، ومملكة قشتالة المسيحية فى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.
وكذلك أخبار إمارة الأشراف الحسنيين أولاد أبى نمىّ محمد بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة الحسنى وهم عز الدين حميضة، وأسد الدين رميثة، وعماد الدين أبو اليث، وسيف الدين عطيفة، والنزاع الذى وقع بينهم على تولى إمارة مكة. وموقف السلطنة فى مصر منهم، وتدخلها فى النزاع لضمان استتباب الأمن بمكة وبخاصة فى مواسم الحج وحماية للمجاورين من ظلم الأمراء وأتباعهم.(32/5)
وترجع أهمية هذا الجزء إلى أن النويرى عايش كل الأحداث التى وقعت فى هذه الحقبة إما من مشاهدة، أو سماع ممن شهدها أو نقل عن رسائل ممن شهدها، ويسر له ذلك ما كان يتولاه من أعمال تجعله قريبا من صناع القرار ومدبرى تلك الأحداث.
من ذلك أنه يقول فى أخبار سنة 107 هـ: رسم بتوجهى إلى دمشق المحروسة، لمباشرة الأملاك السلطانية بالشام، وتوجهت إلى دمشق فى جمادى الآخرة، وفيه وصلت إلى دمشق- وهو أول دخولى إليها.
ويقول فى أخبار حرب التتار سنة 702 هـ وفى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان اختبط الناس بدمشق. وجفلوا من الحواضر والقرى، وخرج أكابر أهل دمشق وأعيانها فى هذا اليوم منها. فمنهم من التحق بالحصون، ومنهم من توجه نحو الديار المصرية، وكنت يوم ذاك بدمشق، فخرجت منها بعد أن أعددت لأمة الحرب، والتحقت بالعسكر بعد الغروب إلى منزلة العسكر بميدان الحصا، فوجدتهم قد توجهوا إلى مرج الصفر، فلحقته الجيوش فى يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر- وهو سلخه- وأقمنا بالمرج يوم الخميس ويوم الجمعة.
ثم يسوق أخبار الحرب إلى أن انتهت بنصر جيوش السلطان على التتار.
ويقول فى أخبار سنة 703 هـ وقع فناء عظيم فى الخيول بالشام حتى كاد أن يأتى عليها، ونفقت أكثر خيول الناس، وكنت أملك عشرة أرؤس من الخيول الجياد أو أكثر، فنفقت كلها، واحتجت إلى ابتياع ما أركبه. ثم أخذ فى الحديث عن غلاء أسعار الخيل بعد أن كانت تدنت بعد الانتصار على التتار وأخذ خيولهم وأسلحتهم.
وفى هذه السنة يقول أيضا وفيها فى شهر رمضان توجهت من دمشق إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية مفارقا لمباشرة أملاك الخاص الشريف، وكان وصولى إلى القاهرة فى يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان بعد الظهر، وباشرت ديوان الخاص، والبيمارستان المنصورى وما معه من الأوقاف المنصورية فى بقية اليوم الذى وصلت فيه، ورفع إلىّ حساب المياومة قبل غروب الشمس.(32/6)
وفى أخبار سنة 709 هـ- بعد أن غادر الناصر محمد بن قلاوون قلعة القاهرة، وتوجه إلى قلعة الكرك ونزل بها هو وخواصه، وكتب إلى الأمراء بالقاهرة أنه تخلّى عن الملك- يقول النويرى: وفى أوائل شهر ربيع الآخر توجهت من القاهرة إلى الكرك، والتحقت بالأبواب السلطانية إلى أن عاد الركاب الشريف السلطانى الملكى الناصرى، وعدت إلى القاهرة في سلخ رمضان.
وفى أخبار سنة 710 هـ يقول: وفى هذه السنة رسم لى أن أتوجه إلى المملكة الطرابلسية صاحب الديوان بها، وكتب توقيعى، وهو من إنشاء شهاب الدين محمود الحلبى، بخط ولده، القاضى جمال الدين إبراهيم، وهو مؤرخ فى الخامس عشر من المحرم، وتوجهت فى مستهل صفر، ووصلت إلى طرابلس، وباشرت الوظيفة، ثم انتقلت إلى نظر الجيوش بها في مستهل شوال من السنة.
وفى أخبار سنة 712 هـ يقول: وفى هذه السنة حصل انفصالى من نظر الجيش بالمملكة الطرابلسية فى منتصف جمادى الأولى، وتوجهت إلى الديار المصرية، فكان وصولى إلى القاهرة فى العشرين من شهر رجب من السنة.
ثم إنه يتابع أخبار مواقف الإمام ابن تيمية منذ الخلاف الذى حصل بينه وبين الصوفية، أو بينه وبين قاضى قضاة المالكية وغيره، والطعن فى رأى ابن تيمية وفتاويه فى مسألة الطلاق، وقوله فى كلام الله تعالى وقدمه وهل هو بصوت أو بلا صوت. واستوائه تعالى على العرش، ومحاققته، والتحامل عليه، ومنعه من الفتوى فى موضوع الطلاق، وترحيله إلى القاهرة وسجنه إلخ.
كما يتابع أحداث النصيرية وآراءهم، وموقف السلطان منهم ومراسيمه فى شأنهم والقضاء عليهم وفتوى الإمام ابن تيمية بخروجهم من ملة الإسلام.
وفى عرض المؤلف للأحداث فى الأندلس سنة 719 هـ والحرب بين المسلمين والمسيحيين، وانتصار الجيوش الإسلامية فى وقائع متتالية يحرص النويرى على توثيق الأخبار حين يقول: كانت هذه الوقعة المباركة التى أجلت(32/7)
عن الظفر والغنيمة فى شهر ربيع الأول من سنة تسع عشرة وسبعمائة، ووصل الخبر بها إلى الديار المصرية فى سنة عشرين وسبعمائة، واجتمع بى من حضر هذه الوقعة، وقص على نبأها. وعلقت ذلك منه ثم فقدته، ورأيت هذه الوقعة قد ذكرها الشيخ شمس الدين الجزرى فى تاريخه عن الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن يحيى بن ربيع المالقى، وملخص ما نقله عنه ... وبعد سرده للملخص يقول: وقد ورد كتاب إلى الديار المصرية من أغرناطة من جهة الشيخ حسين بن عبد السلام تضمن من خبر هذه الغزاة. وسرد ما جاء بكتابه.
ومن هذه النقول يتضح حرص المؤلف على متابعة الأخبار التى عايشها بما يضفى أهمية كبيرة على تاريخ النويرى لتلك الحقبة ويجعل منه المصدر الموثوق به لدى المؤرخين فاعتمدوا على النقل منه- ليس من أرخوا لمصر والشام فقط ولكن من أرخوا للحجاز أيضا، وقد عايشت تاريخ مكة فى كتاب «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» للنجم عمر بن فهد المتوفى سنة 885 هـ، وكتاب «غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام» للعز عبد العزيز بن عمر بن فهد المتوفى سنة 922 هـ ورأيت مدى اعتمادهما على النقل من نهاية الأرب فيما يتصل بإمارة مكة المكرمة وعلاقتها بالسلطنة فى مصر. كما رأيت تقى الدين محمد ابن أحمد بن على الفاسى المتوفى سنة 832 هـ يعتمد عليه فى كتابيه «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» و «العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين» وهذا الجزء من كتاب نهاية الأرب يعتبر النص الأول الذى قمت بتحقيقه، وكان تقرير أستاذنا الكبير المرحوم الدكتور عبد العزيز الأهوانى- الذى كان لى شرف أن يراجع عملى فيه- دافعا قويا لى على مواصلة الاشتغال بتحقيق التراث التاريخى؛ ذلك لأنه أثنى على جهدى بقوله: إنه جهد باحث واعد فى تحقيق النصوص. وكان رحمه الله صاحب مدرسة فى التحقيق؛ كان لا يرضى أن يتجرأ محقق على انتقاص جهد الأساتذة الذين سبقوه فى هذا الميدان، وعاهدنى ألا أعرّض بخطأ أحد مهما كبر هذا الخطأ أو صغر، وقال: يكفيك أنك عرفت الصواب.(32/8)
ومضيت فى التحقيق لكتب التاريخ، وكنت أقدم له كل نص يطبع، وكان يذكرنى بما قاله فى تقريره عنى وعن جهدى.
وقد اختاره الله إلى جواره فى 13 مارس سنة 1979 م، وبفقده فقدنا عالما جليلا، يسابق أدبه علمه. كان أستاذا للأدب العربى بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم وكيلا لوزارة الثقافة، ثم رئيسا للهيئة المصرية العامة للفنون، وكنت من الذين يتمتعون بعطفه ورعايته وما أكثر مريديه الذين شاركونى فى هذا العطف وتلك الرعاية. فجزاه الله أجر ما قدم من فضل لأبنائه والعاملين معه وأسكنه فسيح جناته.
وقد تم تحقيق هذا الجزء فى سنة 1962 م وسلم للمؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، لدفعه إلى المطبعة. ولكنه بقى فى مخازن المؤسسة حتى سنة 1992 م. وعنّ لى أن أعود إليه مرة أخرى قبل دفعه للمطبعة- وبعد أن حققت منفردا ستة عشر مجلدا من التراث التاريخى وأربعة مجلدات بالاشتراك مع أساتذة أفاضل. وطلبت ذلك من مركز تحقيق التراث بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وتفضل المركز فوافق. وقد أضفت إلى جهدى فى التحقيق السابق كثيرا، وأعدت ضبط ما كنت ضبطته بالشكل لأن طول المدة أتى على الضبط ومحاه كله تقريبا. أما ما أضفته فأغلبه فى أخبار إمارة مكة، وأزمة الإمام ابن تيمية، وأخبار النصيرية، وتراجم بعض الأعلام.
وقد حظى هذا الجزء بما لم يحظ به غيره من الأجزاء إذ تفضل أستاذنا الجليل الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور بمراجعته- بعد إضافاتى الجديدة، وأضفى عليه من علمه وفضله ونظراته الثاقبة، فجزاه الله عنى خير الجزاء، ومد فى عمره حتى ينعم الكثير من أبنائه بأستاذيته الكريمة.(32/9)
وقد اعتمدت فى تحقيق هذا الجزء على مصورات ثلاث:
إحداها: مصورة مخطوطة «كوبريلى» ورقمها فى دار الكتب المصرية هو 549 معارف عامة وقد رمزت إليها بحرف «ك» وتقع هذه المصورة فى 142 لوحة، وقد تبين أنه يسقط منها ما يوازى 55 صفحة من المنسوخة عنها استكملتها من مصورة أخرى، وهى مكتوبة بخط نسخى جميل غير أنها كثيرة البياض فى صفحاتها الأخيرة وأكثر البياض عناوين، ولعلها كانت فى الأصل مكتوبة بقلم أحمر ولم تظهر فى التصوير، وقد ملأت هذا البياض من النسختين الأخريين.
والثانية: هى المصورة عن مخطوطة «أيا صوفيا» ورقمها فى دار الكتب المصرية 551 معارف عامة.
وقد رمزت إليها بالحرف «ص» ويرجح أن هذه النسخة بخط المؤلف، وتقع فى 241 لوحة مقسمة على ثلاثة أقسام، كل قسم فى مجلد، ويصل ترقيم اللوحات فى الأقسام الثلاثة إلى رقم 482، وهذه النسخة مصدرة بوقفية ومنهية بخاتمة، وتعتبر أتم النسخ الثلاث، وخطها نسخى معتاد، وقد استكملت الساقط فى «ك» منها.
والثالثة مصورة عن مخطوطة «الفاتيكان» ورقمها فى دار الكتب المصرية 592 معارف عامة وقد رمزت إليها بالحرف «ف» وهى تنقص مقدار 89 صفحة من المنسوخة، ويشتمل الساقط على بعض أحداث سنة 701، 702 وبينها وبين مخطوطة كوبريلى شبه كبير. لكنها تتميز بضبط بعض الكلمات بالشكل وخصوصا أسماء الأعلام.
وقد تم مقابلة المنسوخة على المصورات الثلاث، وعلقت على مواطن الاختلاف فى العبارة أو الفروق فى بعض الكلمات. مع إثبات الراجح فى متن المنسوخة قمت بضبط الألفاظ التى تحتاج إلى الضبط بالشكل، وخصوصا الأعلام، والمصطلحات الحضارية كالوظائف والآلات والصنائع والألفاظ(32/10)
المقحمة على اللغة العربية من الفارسية والتركية. وصوبت لغة الكتاب من حيث قواعد الإعراب. وسلامة الرسم الإملائى: ووضعت علامات الترقيم المتعارف عليها فى أماكن الحاجة إليها من أسلوب الكتاب.
وقابلت أحداث الجزء على التواريخ وغيرها من الفنون التى عالجت التأريخ لهذه الحقبة الزمنية، ووثقت الأحداث بما جاء فى تلك المراجع، وأثبت ما يكون من خلاف بينها في التعليقات على النص، وسيضمّن فهرس المراجع أسماء الكتب التى استعنت بها.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل، تحريرا فى 12 من رمضان سنة 1412 (16 مارس سنة 1992 م) المحقق فهيم محمد علوي شلتوت ولا يفوتنى أن أذكر ما قام به الأستاذ عز الدين محمد أبو الحسن والسيدة أسما محمود محمد من التصحيح الطباعى لهذا الجزء ومتابعته فى المطبعة من حيث سلامة التجارب بحيث أصبح هذا الجزء فى مستوى الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب فلهما الشكر على ما قاما به.
فهيم محمد علوي شلتوت(32/11)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية]
[ذكر ما اتفق بعد مقتل الملك المنصور ونائبه منكوتمر، من الحوادث والوقائع المتعلقة بأحوال السلطنة بمصر والشام، إلى أن عاد السلطان الملك الناصر]
واستهلت سنة إحدى وسبعمائة للهجرة النبوية بيوم الأربعاء فى هذه السنة
فى يوم الجمعة عاشر شهر [1] المحرم- فوّضت الوزارة وتدبير الدولة الشريفة الناصرية إلى الأمير عز الدين أيبك البغداديّ المنصورى [2] ، وجلس فى يوم السبت على قاعدة الأمير شمس الدين سنقر الأعسر المنصورى [3] . وكان الأمير شمس الدين قد توجه لكشف الممالك الشامية- كما تقدم- فعاد بعد عزله، واستقر فى جملة الأمراء المقدمين.
وفيها- فى العشرين من المحرم- توجّه السلطان إلى الصيد بجهة العباسة [4] ، وفى خدمته جماعة من الأمراء، وتصيّد بالبرية [5] ، وضرب الدّهليز فى منزلة الصالحية [6] ، ووصل السلطان إلى الدهليز بهذه المنزلة فى الثامن والعشرين من الشهر، وخلع على كلّ من كان فى خدمته من الأمراء، وأحضر السلطان رسل غازان [7] ليلا وخلع عليهم، وأمر بعودهم. وقد تقدم ذكر ما تضمنه الجواب السلطانى إلى غازان فى سنة سبعمائة عند ذكر كتابه، وعاد
__________
[1] هذا اللفظ إضافة من ص.
[2] هو عز الدين أيبك البغدادى المنصورى أحد الأمراء البرجية، وهو الرابع من الوزراء الأمراء بالديار المصرية. وأنظر النجوم الزاهرة 8: 140، 141 وحسن المحاضرة 2: 223، ابن حجر: الدرر الكامنة ج، ص 422 ترجمة 1105.
[3] هو سنقر المنصورى الأعسر، شمس الدين، أحد الأمراء الكبار، وكان مملوكا لعز الدين أيدمر الظاهرى نائب الشام، توفى سنة 709 هـ الدرر الكامنة 2: 273 والنجوم الزاهرة 8: 278 والدليل الشافى 1: 327.
[4] العباسة: قرية بنيت بأمر العباسة أخت أحمد بن طولون سنة 282 هـ فنسبت إليها ولا تزال موجودة إلى اليوم، وهى إحدى قرى مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية.
(خطط المقريزى، المسماة بالمواعظ والاعتبار 1: 232، ومعجم البلدان لياقوت 3: 599) .
[5] المراد هنا أرض الصحراء الشرقية- شرقى الدلتا-، وهى الجهات المتاخمة لبلاد مركزى الزقازيق وفاقوس، حيث توجد مناطق الصيد، وانظر النجوم الزاهرة 8: 142 تعليق 2.
[6] الصالحية: مدينة بناها السلطان الملك الصالح أيوب بأول الرعل، وجعلها سوقا جامعا ليكون مركزا لعساكره عند خروجهم من الرمل.
(السلوك للمقريزى 1: 33، محمد رمزى: القاموس الجغرافى ق 2 ج 1 ص 112.
[7] هو ملك التتار ويقال قازان، ويسمى محمودا، وقد أسلم. وانتصر على جيوش الناصر محمد بن قلاوون سنة 699 هـ، ومات سنة 703 هـ بعد هزيمة جيوشه فى وقعة شقحب سنة 1702 هـ أمام جيوش الناصر محمد ابن قلاوون ويقال إنه مات حزنا قهرا بسبب هزيمة جيشه أنظر ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر، ج 3، ص 212- 214 ترجمة 514.(32/13)
السلطان من الصالحية إلى بركة الجب [1] فى ثالث صفر والتقى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكان [2] دار وأمير جاندار عند عوده من الحجاز الشريف، ثم عاد السلطان إلى مقر ملكه بقلعة الجبل.
وفى هذه السنة توجه الأمير سيف الدين أسندمر كرجى [3] إلى نيابة السلطنة بالمملكة الطرابلسية والفتوحات، عوضا عن الأمير سيف الدين قطلوبك بحكم استعفائه من النيابة، وقد تقدم ذكر ذلك فى سنة سبعمائة، وكان عود الأمير سيف الدين قطلوبك إلى دمشق فى أوائل هذه السنة، وتوجه الأمير سيف الدين أسندمر من دمشق إليها فى يوم السبت حادى عشر المحرم.
وفيها فى شهر المحرم أيضا فوض شادّ الدواوين [4] والأستاداريّة [5] بالشام إلى الأمير سيف الدين بلبان الجوكاندار المنصورى عوضا عن الأمير سيف الدين أقجبا الناصرى، ونقل أقجبا إلى نيابة السلطنة، وتقدمة العسكر بغزة عوضا عن الأمير ركن الدين بيبرس [6] الموفّقىّ واستقر الموفقى [7] فى جملة الأمراء المقدمين بدمشق.
وفيها رمى فتح الدين أحمد بن البققى [8] الحموى بالزندقة، واعتقل بسجن الحكم، ونهضت البيّنة عليه، وسطّر محضر بما صدر منه من الألفاظ التى لا تصدر مع من شم رائحة الإيمان، ولا تخطر بباله، وشهد عليه جماعة من
__________
[1] بركة الجب: اسمها القديم بركة عميرة كما جاء فى كتاب البلدان لليعقوبى. ذكر المقريزى فى المواعظ 1: 489- أنها متنزه شمال شرقى القاهرة وكان يخرج إليه صلاح الدين ويقيم به أياما للصيد، وفعل ذلك الملوك قبله وبعده وقد تغير اسمها فى القرن الثامن الهجرى إلى بركة الحاج أو الحجاج؛ لأنهم كانوا ينزلون بها فى سفرهم من القاهرة وعودتهم إليها. وتعتبر أول منازل الحاج من القاهرة- أنظر (محمد رمزى القاموس الجغرافى، ق 2، ج 1، ص 31) .
[2] الجوكان دار: لفظ فارسى مركب من كلمتين: جوكان وهو المحجن الذى تضرب به الكرة، ويعبر عنه بالصولجان أيضا. والثائية دار ومعناها ممسك والمعنى الجملى ممسك الصولجان أو صاحب الصولجان.
(القلقشندى: صبح الأهشى 5: 458، السبكى (عبد الوهاب بن على) : معيد النعم ص 35) .
[3] له ترجمة فى الدرر الكامنة 1: 414، والوافى بالوفيات 9: 248، والدليل الشافى 1: 132، وشذرات الذهب 6: 25.
[4] شاد الدواوين، ويقال للوظيفة شد الدواوين: ويكون صاحبها رفيقا للوزير متحدثا فى استخلاص الأموال وما فى معنى ذلك، وعادتها إمرة عشرة (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 4، ص 22، 28، 186.
[5] الأستادارية: وظيفة موضوعها التحدث فى أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان وله تصرف تام فى استدعاء ما يحتاجه كل من فى بيت السلطان من النفقات والكساوى (القلقشدى: صبح الأهشى، ج 4 ص 20) . وانظر معيد النعم ص 26 وهامشها.
[6] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 43، والنجوم الزاهرة 8: 216.
[7] ما بين القوسين إضافة من ص.
[8] فى الأصول «البقى» وفى شذرات الذهب 6: 1 «الثقفى» والمثبت من السلوك 1: 923، والدليل الشافى 1: 87 وفيه «أحمد بن محمد البقى، فتح الدين بباء موحدة وبعدها قافان» .(32/14)
الشهود، تزيد عدتهم على ثلاثين نفرا، وثبت مضمون المحضر على قاضى القضاة زين الدين المالكى، فلما تكامل ذلك عنده أعذر إليه، فلما انقضت مدة الاعتذار حكم قاضى القضاة بإراقة دمه فى عشيّة نهار الأحد الثالث والعشرين من شهر ربيع الأوّل، وجلس قاضى القضاة فى بكرة نهار الاثنين الرابع والعشرين من الشهر بالمدرسة الصّالحية [1] النجمية بين القصرين بالشّبّاك الكبير الأوسط، وحضر المجلس قاضى القضاة شمس الدين الحنفى وجماعة من الأعيان والعدول، وأحضر الفتح بن البققى من الاعتقال، وهو يستغيث ويعلن بالشهادتين. فقال له قاضى القضاة شمس الدين الحنفى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
[2] وقال قاضى القضاة زين الدين له: إسلامك لا يفيدك عندى. ثم أمر بضرب عنقه، فتقدم إليه علاء الدين آقبرص الموصلى وضرب ضربتين فى عنقه بالسيف؛ ضربة بعد أخرى ولم يخلّص رقبته، ثم قطعها رجل من الضوية [3] بسكين فأبان رأسه عن بدنه ورفع رأسه على عصا من عصى النادشتية [4] ، وسحب بدنه إلى باب زويلة فصلب هناك، ثم دفن.
وقال علاء الدين أقبرص الموصلى، وحلف بالله أنه رافق ابن البققى فى سفرة سافرها من حماة، وأنه سمع منه ألفاظا من الزندقة حتى همّ مرارا أن يضرب عنقه، ثم قدر الله قتله بسيف الشرع بيده، وما اختلف أحد فى فساد عقيدته.
وفى هذه السنة فى شهر المحرم سقط برد ما بين حماه وحصن الأكراد، وفى بعضه صور تشبه صور بنى آدم من الذكور والإناث. وصور قرود وغيرها، وطولع السلطان بذلك.
__________
[1] المدرسة الصالحية النجمية: أنشأها الملك الصالح نجم الدين فى سنة 639 هـ وكان مكانها بين القصرين بشارع القاهرة الأعظم (المعز لدين الله الفاطمى حاليا، (المقريزى: كتاب المواعظ، ج 2، ص 374- 375) .
[2] سورة يونس آية 91.
[3] الضوية: هم الأشخاص المكلفون بأعمال الإضاءة، ويقال لهم أرباب الضوء، والمشاعلية. (زيادة: حاشية 2 فى كتاب السلوك 1: 525) ويفهم من عبارة معيد النعم ص 143: أنهم كانوا يكلفون يتنفيذ الإعدام، وأن عليهم أن يحسنوا القتلة، وهذا يفسر قيام أحدهم بالإجهاز على ابن البققى.
[4] عصا النادشتية أو النارشتية: فى السلوك 1: 925 «أن رأس البققى رفع على رمح» ولعل هذا يفسر هذه العصا، ولم أعثر على تعريف بها فى دوزى ولا فى المعجم الفارسى.(32/15)
ذكر توجه العساكر إلى الصعيد للإيقاع بالعربان
كانت عرب الوجه القبلى بالديار المصرية قد كثر فسادهم، وامتدت أيديهم، وقطعوا الطريق على المسافرين، واشتد طمعهم إثر وقعة غازان، فتوجه الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجماعة كثيرة من الأمراء بسبب ذلك فى أوائل جمادى الآخرة، وانقسم العسكر على ثلاث فرق، فرقة فى البر الشرقى، وفرقة فى البر الغربى، وفرقة سلكت الحواجر [1] من البر الغربى مما يلى الواحات، وضربوا على الوجه القبلى حلقة كحلقة الصيد، وبقى العرب فى وسطها، وأخذهم السيف من كل مكان، فتمهدت البلاد واطمأنت الرعايا، وزال الخوف وظهر الأمن بعد أن كان العرب قد كادوا يتجاهرون بالعصيان، وحمل من موجودهم وسيق خمسة آلاف فرس وعشرون ألف جمل ومائة ألف رأس من الغنم، وعدة كثيرة من الأبقار والجواميس والحمر، ومن السيوف والرماح عدة كثيرة، وعاد العسكر فى أواخر شعبان من السنة.
وفى هذه السنة رسم بتوجهى إلى دمشق المحروسة
لمباشرة الأملاك السلطانية بالشام، وكتب توقيعى [2] بذلك فى ثانى عشر جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، وهو من إنشاء المولى الفاضل العابد الصالح بهاء الدين ابن سلامة [3] كاتب الدرج الشريف [4] وخطّه، وشمل الخط
__________
[1] فى الأصول «الهواجر» والمثبت من النجوم الزاهرة والسلوك. والحواجر هى الطرق الواقعة على الجانب الغربى لوادى النيل، فى الحد الفاصل بين الأراضى الزراعية والصحراء بالوجه القبلى والفيوم وإقليم البحيرة (النجوم الزاهرة 8: 151 وهامشها، السلوك 1: 920 وهامشها) .
[2] الأصل فى هذا المصطلح التوقيع على حواشى القصصى بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو غيرهم بما يعتمد فى القضية التى رفعت القصة بسببها؛ ثم أطلق المصطلح على كتابه الإنشاء بوجه عام (القلقشندى: صبح الأعشى، ج 1، ص 52) .
[3] هو أحمد ابن أبى الفتح محمود بن أبى الوحش أسد بن سلامة بن فتيان المعروف بالقطار، كمال الدين، وليس بهاء الدين، أحد كتاب الدرج بدمشق توفى فى ذى القعدة سنة 702 (النجوم الزاهرة 8: 203 وهامشها) .
[4] كاتب الدرج الشريف: هو صاحب ديوان الإنشاء، وقد سمى بكاتب الدرج فى دولتى المماليك البحرية والبرجية سنة 647- 922 هـ.
(السلوك 1: 246 هامش الدكتور زيادة) .(32/16)
السلطانى الملكى الناصرى، وتوجهت إلى دمشق فى جمادى الآخرة، وفيه وصلت إلى دمشق وباشرت ما رسم لى بها، وهو أول دخولى إليها.
وفيها فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين جمادى الأولى وصل إلى دمشق الصدر علاء الدين بن الصدر شرف الدين محمد بن القلانسى من بلاد التتار بغتة، ووصل قبله رفيقه شرف الدين بن الأثير، وقد ذكرنا أن التتار لما دخلوا الشام استصحبهما الوزير معه، ثم هربا وسلما بعد مشقة عظيمة كثيرة، وتوجّها إلى الديار المصرية فى شهر رجب، وعادا وقد كتب فى ديوان الإنشاء بدمشق.
وفى هذه السنة فى رابع صفر توفّى السيد الشريف نجم الدين [1] أبو نمىّ، وأبو مهدى محمد بن أبى سعد الحسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن على بن أبى طالب، أمير مكة شرفها الله تعالى، ولى الإمارة بها نحوا من أربعين سنة، وخلف من الأولاد واحدا وعشرين ذكرا، واثنتى عشرة بنتا، وأربع نسوة، ولما مات وثب ولداه أسد الدين رميثة [2] وعز الدين حميضة [3] على أخويهما عطيفة [4] وأبى الغيث [5] واعتقلاهما، واستقلا بالأمر دونهما، واتفق فى هذه السنة أن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير توجّه إلى الحجاز هو وثلاثون أميرا، فجاء هؤلاء وشكيا من أخويهما، فأمسك حميضة ورميثه واعتقلهما لما صدر منهما من ذلك وغيره، ورتّب عطيفة وأبا الغيث فى الإمرة بمكة، وأحضر حميضة ورميثة صحبته إلى الأبواب السلطانية، فاعتقلا مدة ثم أفرج عنهما.
وفيها توفى الشيخ الأصيل شيخ الشيوخ فخر الدين يوسف [6] بن شيخ الشيوخ شرف الدين أبى بكر عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين أبى محمد
__________
[1] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 1: 456، وغاية المرام بأخيار سلطنة البلد الحرام 2: 9.
[2] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 4: 403، وغاية المرام 2: 78- 111، وقد توفى سنة 746 هـ.
[3] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 4: 232، وغاية المرام 2: 53- 78، وإتحاف الورى بأخبار أم القرى 2: 168، ومات قتيلا سنة 720.
[4] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 6: 95، وغاية المرام 2: 113- 129، وقد توفى بمصر سنة 743.
[5] وانظر ترجمته فى العقد الثمين 8: 79، وغاية المرام 2: 111- 113، وقد مات قتيلا فى سنة 714 هـ.
[6] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 4: 482، وقد ذكره النعيمى فى الدارس فى تاريخ المدارس 2: 156، وابن كثير فى البداية والنهاية 14: 17.(32/17)
عبد الله ابن شيخ الشيوخ عماد الدين أبى حفص عمر بن على بن محمد بن حمّوية الجوينىّ فى يوم الاثنين سابع عشرين شهر ربيع الأول بالخانقاه السميساطية [1] بدمشق، ودفن من الغد بسفح قاسيون، وولى مشيخة الشيوخ بعده قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة [2] ، وذلك باتفاق من الصوفية وسؤالهم، فاجتمع له بدمشق قضاة القضاة، وخطابة الجامع الأموى، ومشيخة الشيوخ وغير ذلك من الأنظار والتدريس.
وفيها كانت وفاة الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد العباسى فى ثامن عشر جمادى الأولى، وبويع ولده المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار الخلفاء العباسيين.
وفيها توفى الأمير علاء الدين مغلطاى التقوىّ المنصورىّ أحد الأمراء بدمشق فى رابع وعشرين شهر رجب، وأقطع خبره للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى أمير آخور [3] ، وكان أخرج من الديار المصرية فى هذه السنة لقربه من السلطان وخدمته له وتمكنه منه، فعزل من وظيفة أمير آخورية، ووليها الأمير علم الدين سنجر [4] الصالحى، ووصل الأمير سيف الدين بكتمر إلى دمشق بغير إقطاع، فلما مات التقوى أنعم عليه بإقطاعه، ثم كان من أمره وتنقّله ما نذكره.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام الشهيد شرف الدين أبى الحسين على بن الشيخ الحسن الإمام العلامة الحافظ تقى الدين أبى عبد الله محمد بن اليونينىّ [5] الحنبلى ببعلبك فى يوم الخميس حادى عشر شهر رمضان فى
__________
[1] الخانقاه السميساطية- نسبة إلى أبى القاسم على بن محمد السميساطى السلمى المعروف بالحبيش المتوفى بدمشق سنة 453 هـ وكان قد اشترى مكان هذه الخانقاه وبناها، (الدارس فى تاريخ المدارس 2:
151 وما بعدها، ياقوت: معجم البلدان مادة سميساط) .
[2] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 248، والوافى بالوفيات 2: 18، والدليل الشافى 2: 578 والبداية والنهاية 14: 163، وشذرات الذهب 6: 105، والنجوم الزاهرة 9: 298، وقد توفى سنة 733 هـ.
[3] أمير آخور: اسم فارسى لوظيفة يتولى صاحبها أمر الأشراف على اسطبل السلطان أو الأمير ورعاية ما فيه من خيل وحيوانات (كتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 438، حاشية 3 للدكتور زيادة) .
[4] هو علم الدين سنجر بن عبد الله المعروف بأرجواش المنصورى نائب قلعة دمشق، وسترد وفاته فى هذه السنة (النجوم الزاهرة 8: 198.
[5] انظر ترجمته فى الدرر الكامنة 3: 98، والبداية والنهاية 14: 20، والنجوم الزاهرة 8: 198، والدليل الشافى 1: 476.(32/18)
الساعة الثامنة من النهار شهيدا. وسبب ذلك أنه دخل فى يوم الجمعة خامس الشهر إلى خزانة الكتب التى بمسجد الحنابلة ببعلبك ليعزل كتبه من كتب الوقف وعنده خادمه الشجاع، فدخل عليه فقير اسمه موسى غير معروف بالبلد- قيل إنه مصرى- فضربه بعصا على رأسه عدّة ضربات، ثم أخرج سكينا صغيرة فجرحه فى رأسه، فاتقى بيده، فجرحه فى يده، ثم مسك ذلك الرجل وحمل إلى متولى بعلبك فضرب، فصار يظهر منه الاختلال فى الكلام، فحبس.
وأما الشيخ فحمل إلى داره، وتحدّث معه أصحابه على عادته، وأتمّ صوم يومه ثم حمّ واشتد به المرض فمات فى التاريخ المذكور، وجاوز الثمانين سنة- رحمه الله تعالى- روى عن جماعة منهم ابن الزّبيدى، واليها عبد الرحمن وابن الّلتّى، والإربلى، وجعفر الهمذانى، وابن رواحة، وابن الجمّيزىّ وغيرهم واجتهد فى خدمة الحديث النبوىّ وأسمعه كثيرا، واعتنى بصحيح البخارى من سائر طرقه، وحرّر نسخته تحريرا شافيا، وجعل لكل طريق إشارة، وكتب عليه حواشى صحيحة، وقد نقلت صحيح البخارى من أصله مرارا سبعة، وحرّرته كما حرّره وقابلت بأصله وهو أصل سماعى على الحجّار ووزيرة [1] .
وفى هذه السنة توفى الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى نائب السلطنة بقلعة دمشق، وكانت وفاته فى ليلة السبت ثانى عشرين ذى الحجة ودفن بسفح قاسيون وكانت له آثار جميلة فى حفظ قلعة دمشق لمّا ملك التتار دمشق، وبسبب حفظها حفظت سائر القلاع بالممالك الشاميّة، وخلّف من الورثة أربع بنات وابن معتقه السلطان [2] الملك الناصر، وترك دنيا عريضة، ولما مرض أحضر قاضى القضاة بدر الدين وجماعة من أكابر العدول، وأشهدهم على نفسه أن مجموع ما يخلفه من الذّهب أربعة عشر ألف دينار ومائتى دينار وستة
__________
[1] وزيرة هى أم محمد ست الوزراء ابنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية وتعرف بالوزيرة، وسترد ترجمتها فى وفيات سنة 716 هـ.
[2] أى والسلطان الملك الناصر ابن معتق الأمير علم الدين سنجر وهو السلطان المنصور قلاوون.(32/19)
وستين دينارا مصرية. وأربعين ألف درهم وحوايص [1] ذهب وكلوتات [2] زركش منحوا ألفى دينار، ووقع الإشهاد عليه فى سابع عشر ذى الحجة وأعتق مماليكه، وأوصى بحجة وصدقة وفكّ الحجر عن بناته، وأسند وصيّته إلى خوشداشه [3] الأمير سيف الدين بليان الجوكندار. ولما مات كنت ممن حضر تركته، واحتوت على أشياء كثيرة، كان فيها من القسىّ الحلق ما يزيد على ستمائة قوس، وكثير من الأقمشة والعدد والسلاح والأصناف فبيعت الأصناف وقسّمت بالفريضة الشرعية، وأمضى السلطان وصيّته- أثابه الله تعالى.
واستهلت سنة اثنتين وسبعمائة
فى هذه السنة وصل رسل غازان ملك التتار إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل فى ليلة ثانى المحرم، فقرئت كتبهم، وسمعت مشافهتهم، وكتب الجواب السلطانى إلى مرسلهم، وأمر السلطان بعودهم فعادوا من الديار المصرية وجهّز السلطان إلى جهته الأمير حسام الدين أزدمر المجيرىّ [4] ، والقاضى عماد الدين بن السكّرىّ [5] فوصلوا إلى دمشق فى ليلة الجمعة رابع عشرين شهر ربيع الأوّل، وكان خروجهم من القاهرة فى عاشر الشهر، وأقاموا بدمشق ثلاثة أيام، وتوجهوا واجتمعوا بغازان، ومنعهم من العود بسبب الوقعة الكائنة التى نذكرها إن شاء الله تعالى، واستمروا ببلاد التتار إلى أن هلك غازان وعادوا فى أيّام خربندا. [6]
__________
[1] الحوائص- جمع حياصه وهى حزام كان يسمى منطقة ثم أطلق عليه اسم حياصة، وكانت تصنع من معدن ثمين كالفضة، وأثمنها ما كان يصنع من الذهب، وقد تحلى بالجواهر (الملابس المملوكية ترجمة الأستاذ صالح الشينى صLSuPP.Dict.Ar.LDozy:.103،49،47
[2] الكلوتات- جمع كلوتة وهى غطاء للرأس تشبه الطاقية. وانظر أصلها وتاريخها وتطورها فى خطط المقريزى 2: 98، وصبح الأعشى 4: 5، 6، الملابس المملوكية ص 31، 42، 51، 52- 55.
[3] خوشداش، وخشداش: معرب اللفظ الفارسى «جوجاناش» أى الزميل فى الخدمة، والخشداشية هى رابطة الزمالة بين الأمراء الذى أنشئوا مماليك عند أستاذ أو سيد واحد وربطتهم رابطة الزمالة القديمة (النجوم الزاهرة 7: 330 هامش، والسلوك 1: 388، 389 حاشية للدكتور زيادة) .
[4] هو الأمير حسام الدين أزدمر المجيرى نسبة إلى مجير الدين، وهو التاجر الذى اشتراه (كنز الدرر لابن أيبك الدوادارى 9: 71، الدرر الكامنة لابن حجر، ج 1 ص 355) .
[5] هو عماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن، المعروف بالسكرى، توفى سنة 713 هـ (النجوم الزاهرة 9: 225، وشذرات الذهب 6: 32) .
[6] خربندا: هو اسم ملك التتار قبل أن يسلم فلما أسلم صار الاسم خدابندا وتسمى بمحمد وسترد وفاته فى سنة 716 من هذا الجزء، وانظر ترجمته فى النجوم الزاهرة 9: 238.(32/20)
ذكر فتح جزيرة أرواد [1]
وفى المحرم من هذه السنة جهزت الشوانى [2] من مصر إلى جزيرة أرواد وهى جزيرة تقابل مدينة انطرسوس، وكان قد اجتمع بها جمع كثير من الفرنج وسكنوها وأحاطوا بها سورا وحصنوها، وبقيت مضرّة على أهل ساحل طرابلس فجهّزت الشّوانى لقصدها صحبة الأمير سيف الدين كهرداش الناصرى، وجرّد من كل أمير جندى، ورسم لكل أمير أن يجهز جنديّة بما يحتاج إليه، فكان ممن جهّز من أصحابه الأمير جمال الدين آقش العلائى فامتنع من تجهيز جنديّة، فشكاه الجندى إلى الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة، فأرسل إليه نقيبا يأمره بتجهيزه، فشتم الجندىّ وضربه، فعاد إلى نائب السلطنة وأخبره، فغضب وطلب آقش وألزمه بالسّفر عوضا عن الجندىّ، فتوجه وسلّم إليه شانى وركب فيه، ولعبت الشوانى فانقلب الشينى الذى فيه آقش فغرق، ومرّ الشانى على الصنّاعة وهو مقلوب؛ فتطيّر الناس بذلك وظنّوا أن هذه الشوانى لا تفتح شيئا، فقال بعض أهل [3] الدين والخير: هذا أوّل الفتح بغرق آقش، وكان آقش هذا ظالما عسوفا قبيح السيرة، فكان ذلك أوّل الفتوح كما قال، وأصلح الشانى وتوجّهت الشّوانى إلى الجزيرة، وجهّز الأمير سيف الدين أسندمر الكرجى نائب السلطنة بالفتوحات مركبا فيه جماعة من الجند، وتوجّه هو بالعسكر الطرابلسىّ. ونزل قبالة الجزيرة بالبر الشرقى، وتوجهت الشوانى بالعسكر إليها، ففتحت فى يوم الأربعاء ثانى صفر، وقتل من كان بها من الفرنج، وأسر من بقى، وكان القتلى نحو ألفين، والأسرى نحو خمسمائة، وغنم العسكر جميع ما بالجزيرة، وجهّزت الأسرى إلى الأبواب السلطانية صحبة الأمير فلان الدين فلان الإبراهيمى [4] من أمراء طرابلس، فوصلوا إلى دمشق فى يوم الإثنين حادى عشرين صفر، وفرق بعضهم فى القلاع بالشام.
__________
[1] جزيرة أرواد: جزيرة صغيرة فى الجهة الشمالية من طرابلس الشام على بعد خمسين ك م، وطولها 800 متر، وعرضها 500 متر، وهى فى الجانب الغربى من انطرطوس على بعد ثلاثة كيلو مترات. وانظر ياقوت: معجم البلدان، النجوم الزاهرة 8: 11 هامش، 154- 157.
[2] الشوانى- جمع شينى أو شانى: وهو نوع من السفن الحربية الكبيرة، وكانت من أهم القطع التى يتألف منها الأسطول الإسلامى 1: 56 هامش الدكتور زيادة درويش النخيلى: السفن الإسلامية على حروف المعجم، ص 83) .
[3] كذا فى ك، وفى ص، ف «أهل الخير والدين» .
[4] كذا فى ك، وفى ص، بياض مكان كلمتى «فلان» ولعله الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمى؛ لأنه ليس من بين الأمراء فى تلك الحقبة من يسمى بالإبراهيمى غيره.(32/21)
ذكر وفاة قاضى القضاة [1] تقى الدين ابن دقيق العيد وتفويض القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة بدر الدين بن جماعة.
وفى يوم الجمعة حادى عشر صفر توفى شيخنا قاضى القضاة تقى الدين بقية المجتهدين أبو الفتح محمد بن الشيخ الزاهد العالم مجد الدين أبى الحسن على بن وهب بن مطيع ابن أبى الطاعة القشيرى المعروف بابن دقيق العيد، والذى جرى عليه هذا اللقب هو وهب جده، وذلك أنه لبس فى يوم عيد ثيابا بيضا، فرآه جماعة من أهل الريف، فقال قائل منهم: كأن ثيابه دقيق العيد، فلزمه هذا اللقب واشتهر به وكانت وفاته ببستان بظاهر القاهرة بقرب باب اللوق بعد صلاة الجمعة، وحمل يوم السبت وصلى عليه تحت القلعة وكانت جنازته مشهودة، ودفن بتربته بالقرافة، ومولده يوم السبت خامس عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بساحل ينبع من أرض الحجاز، ونشأ بمدينة قوص، وتفقّه بها على أبيه وبرع، وكان من أجل من [2] رأينا ديانة وعلما وورعا وتقشّفا، وكان شديد الاحتراس من النجاسة حتى أفرط به ذلك وانتقل من مدينة قوص إلى القاهرة، وله رحلة إلى دمشق بعد سنة ستين وستمائة، وولى مشيخة دار الحديث الكاملية [3] بالقاهرة، وولى غير ذلك. ثم فوض إليه قضاء القضاة كما تقدم فوليه، ثم عزل نفسه فسئل العود، فامتنع من القبول، وحضر إليه أكابر الأمراء بسبب ذلك وهو يمتنع، فتحيّل بعض أولاده عليه بأن قال له: إنه قد عيّن للقضاء عز الدين بن [4] مسكين إن أصررت على الامتناع، فقال: الآن
__________
[1] فى (ك) «القاضى» والمثبت من ص، وف. وانظر الوافى بالوفيات 4: 193، وفوات الوفيات 3:
442، والدرر الكامنة 4: 210، وشذرات الذهب 6: 5، والنجوم الزاهرة 8: 206.
[2] فى ك «ما رأينا» والمثبت من ص، وف.
[3] دار الحديث الكاملية: أنشأها السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب سنة 622 هـ، وهى ثانى دار أنشئت للحديث، وأول دار للحديث على وجه الأرض بناها الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكى بدمشق. ثم بنى الكامل هذه الدار ووقفها على المشتغلين بالحديث النبوى، وكانت بخط بين القصرين من القاهرة. (خطط المقريزى 2: 375) .
[4] إضافة من ص، وف.(32/22)
وجب علىّ قبول الولاية. فقبلها وعاد، وهو الذى نقل خلع القضاة من الحرير إلى الصوف، وكان يخلع على القضاة قبله الحرير الكنجى والصمت [1] وله رحمه الله تعالى فضائل كبيرة، ومناقب جمة مشهورة شهدها وعلمها من رآه. وهى أشهر من أن يأتى عليها، وأكثر من أن نسردها [2] .
ولما توفى اجتمعت الآراء على ولاية قاضى القضاة بدر الدين محمد بن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن جماعة الشافعى، وهو يومئذ قاضى القضاة بالشام، وخطيب الجامع الأموى، وشيخ الشيوخ، فبرزت المراسيم بطلبه، وتوجّه البريد لإحضاره، فوصل البريد إلى دمشق فى يوم الخميس سابع عشر صفر وتوجّه قاضى القضاة بدر الدين إلى الديار المصرية فى يوم السبت تاسع عشر الشهر على خيل البريد، ووصل إلى القاهرة فى يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول، وخلع عليه على عادة الشيخ تقى الدين، وفوض إليه القضاء بالديار المصرية، وجلس للحكم فى يوم السبت رابع الشهر [3] وأنعم عليه ببغلة من الإسطبلات السلطانية، وفرقت جهاته بدمشق.
ففوض قضاء القضاة بالشام لقاضى القضاة
نجم الدين أبى العباس أحمد بن صصرى [4] وكتب تقليده فى عاشر جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعمائة، وقرئ تقليده فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من الشهر بمقصورة الخطابة بجامع دمشق بحضور نائب السلطنة الشريفة، ثم [5] جلس فى الشباك الشمالى بالجامع وقرئ ثانيا.
__________
[1] الصمت: نوع من الثياب الحريرية به، ليس لها بطانة طيلسان، أو ثياب قطنية، أو صوفية ولكن بغير حشو (السلوك 1: 847 هامش) .
[2] فى ك، وص «يسيرها» والمثبت من ف.
[3] ما بين القوسين من ص.
[4] هو أحمد بن محمد بن سالم بن أبى المواهب الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن الحسن الربعى ابن صصرى نجم الدين الدمشقى. توفى سنة 723 هـ (فوات الوفيات 1: 125، ودول الإسلام الذهبى 2: 230، والدرر الكامنة 1: 280، وطبقات الشافعية للسبكى 9: 20، وشذرات الذهب 6: 58، والنجوم الزاهرة 9: 258 وكذلك اختلف فى صصرى فضبطها محقق النجوم الزاهرة بفتح الصاد الأولى، وضم الصاد الثانية، وتشديد الراء مع فتحها ج 8 ص 123 س 8. كما ضبطها بفتح الصاد الأولى، وإسكان الصاد الثانية. وفتح الراء ج 9 ص 258 س 11. كذلك اختلف الضبط فى السلوك ج 1 ص 929 س 11، ج 2 ص 18 س 15. وضبطها محقق كنز الدرر فى جميع المواضع بإسكان الصاد الثانية دون ضبط بقية الحروف.
[5] بياض فى ك، والمنيت من ص، وف.(32/23)
وولى الخطابة والإمامة لجامع دمشق الشيخ نجم الدين عبد الله بن مروان الشافعى الفارقى [1] ، وخطب فى يوم الجمعة الحادى والعشرين من الشهر المذكور.
وولى مشيخة الشيوخ القاضى جمال الدين الزّرعى [2] ولم تتم الولاية، ثم ولى ذلك الخطيب ناصر الدين أحمد بن الشيخ بدر الدين يحيى بن [3] شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام فى يوم السبت ثالث شعبان، ثم اجتمع الصوفية فى يوم الجمعة سادس شوال، وحضروا إلى نائب السلطنة فى الشباك بالجامع، وسألوا أن يولى عليهم الشيخ صفى الدين محمد الأرموى المعروف بالهندى [4] ، فأجيبوا إلى ذلك وولى عليهم فى التاريخ المذكور.
وفى هذه السنة ولى الأمير ركن الدين بيبرس التّلاوىّ [5] شاد الشام وأستاذ داريّه عوضا عن الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار، وخلع عليه فى يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى، ونقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى إلى نيابة السلطنة بقلعة دمشق، عوضا عن الأمير علم الدين سنجر أرجواش، وكان بالقلعة فى هذه المدة الأمير سيف الدين بلبان السنجرى، فخرج منها، وانتقل إليها الأمير سيف الدين الجوكندار فى الخامس والعشرين من الشهر.
وفيها فى جمادى الأولى وقع بيد نائب السلطان بالشام كتاب كتب على لسان قطز أحد مماليك الأمير سيف الدين قبجق مضمونه فضول نصيحة، منها:
__________
[1] هو عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروز بن الحسن الفارقى، المتوفى سنة 703 هـ (الدرر الكامنة) 2: 304، والبداية والنهاية 14: 30، وذيول العبر ص 25، وطبقات الشافعية 6: 107، مرآة الجنان 4: 239) وشذرات الذهب 6، 8 وفيها جميعها زين الدين. وليس كمال الدين.
[2] هو سليمان بن عمر بن عثمان الزرعى، توفى سنة 734 هـ (طبقات الشافعية 6: 105، والدرر الكامنة 2: 159، ودول الإسلام 1832، والبداية والنهاية 14: 167 ورفع الإصر 2: 250، والدليل الشافى:
1: 320، والنجوم الزاهرة 9: 304، وشذرات الذهب 6: 107) .
[3] فى الأصول «ناصر الدين أحمد بن الشيخ فلان الدين شيخ الإسلام» والمثبت عن البداية والنهاية 14:
56، وفيه مات يوم الأربعاء النصف من المحرم سنة 709 هـ.
[4] هو محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى، صفى الدين أبو عبد الله، توفى سنة 715 (شذرات الذهب 6: 37. والبداية والنهاية 14: 74 وذيول العبر ص 83 والدرر الكامنة 4: 14، ودول الإسلام 2: 169، وطبقات الشافعية 5: 240) .
[5] من هنا إلى قوله «يشبه بطن الشعبان» سقط فى ص.(32/24)
أن الشيخ تقى الدين بن تيمية [1] وقاضى القضاة شمس الدين بن الحريرى [2] يكاتبان مخدومه، ويؤثران أن يكون نائب السلطنة بالشام، وأن القاضى كمال الدين العطار، وكمال الدين بن الزملكانى كاتب الإنشاء يطالعانه بالأخبار، وأن جماعة من الأمراء فى هذا الأمر، حتى ذكر جماعة من مماليك نائب السلطنة وخواصه.
فلما قرأ الكتاب استراب به، وأطلع عليه بعض الكتّاب، وأمره بالفكرة فيمن اختلقه، فوقع الحدس على فقير يعرف باليعفورى كان ينسب إلى فضول وتزوير، فمسك فوجد معه منشورة بالكتاب، فضرب فأقرّ على إنسان يعرف بأحمد القبّارى، فأخذ وضرب فاعترف على جماعة، وأنّ الذى كتب الكتاب التاج بن المناديلىّ الناسخ، فلما كان فى يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة جرّسوا الثلاثة بدمشق، ثم أخرجوا إلى سوق الخيل، فأمر نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقش الأفرم أن يوسّط القبارىّ واليعفورىّ فوسّطا، وقطعت يد ابن المناديلى الناسخ.
وفى هذه السنة ظهر بنيل مصر دابة عجيبة
وهى التى تسمى فرس البحر، وكانت تطلع إلى البرّ وترعى البرسيم ثم تعود إلى البحر، فلما كان فى يوم الخميس رابع جمادى الآخرة صيدت ببلاد المنوفية. وصفتها أن لونها لون الجاموس، وهى بغير شعر، ولها آذان كآذان الجمل، وفرج مثل فرج الناقة تغطيه بذنب طوله شبر ونصف، طرفه كذنب
__________
[1] هو شيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة 728 هـ وانظر دول الإسلام 2: 180، والوافى بالوفيات 7: 15، والبداية والنهاية 14: 135، وذيل طبقات الحنابلة 2:
387، والدرر الكامنة 1: 154، وفوات الوفيات: 1: 35، وشذرات الذهب 6: 180، والنجوم الزاهرة 9: 271.
[2] هو قاضى القضاة شمس الدين محمد بن عثمان بن أبى الحسن بن عبد الوهاب الأنصارى الحنفى المعروف بابن الحريرى المتوفى سنة 728 هـ وانظر الوافى بالوفيات 4: 90، وذيول العبر ص 157، والدرر الكامنة 4: 158. والدليل الشافى 2: 653، وحسن المحاضرة 1: 468. وشذرات الذهب 6: 88.(32/25)
السمك، ورقبتها فى غلظ التليس المحشو، وفمها وشفتاها كالكربال [1] ، ولها أربعة أنياب طول كل ناب دون شبر فى عرض أصبعين، وفى فمها ثمانية وأربعون ضرسا ونابا وسنا مثل بيادق الشطرنج، وطول بدنها من بطنها إلى الأرض نحو الذراع، ومن ركبتها إلى حافرها يشبه بطن الثعبان [2] أصفر مجعد، ودور حافرها مثل الأسكرجة [3] بأربع أظفار كأظافير الجمل وعرض ظهرها تقريبا تقدير ذراعين ونصف، وطولها من فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، ووجد فى بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر زفر كزفرة السمك وغلظ جلدها أربع أصابع ما تعمل فيه السيوف، ولما صيدت سلخ جلدها [4] وحمل إلىّ بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وتبدّل على حمله لثقله خمسة أجمال، فلا يستطيع الجمل أن يحمله أكثر من ساعة، ولما صار [5] بين يدى السلطان حشى تبنا، وأقيم بين يديه، وهذا الحيوان لم يعهد ببحر النيل بمصر وإنما هو موجود ببلاد النّوبة، وأهل النوبة يتخذون من جلدة سياطا، يسوقون بها الجمال، وهى سياط سود إذا دهنت بالزّيت لا تكاد تنقطع والله أعلم.
ذكر وصول غازان ملك التتار إلى الرحبة [6]
ومحاصرتها، وانصرافه عنها، وتجريد عساكره إلى الشام، ووقعة عرض [7] .
فى هذه السنة تواترت الأخبار بحركة التتار، فأخذ السلطان فى الاستعداد والتأهّب للقائهم، ورسم للأمراء أن يستخدم كل أمير نظير الرّبع من عدّته من ماله، ووصل غازان إلى الرّحبة بجيوشه، ونازلها بنفسه وعساكره، وكان النائب
__________
[1] الكربال: فى اللغة الفارسية يعنى القوس الذى يندف به القطن (المنجد) .
[2] إلى هنا ينتهى السقط فى نسخة ص.
[3] الأسكرجة: إناء صغير توضع فيه الكوامخ ونحوها من المشهيات على المائدة (المعجم الوسيط) .
[4] ما بين القوسين من ص، وف.
[5] فى ك «ساد» خطأ من الناسخ.
[6] الرحبة: بلدة صغيرة ولها قلعة على تل تراب، وهى إحدى الثغور الإسلامية بين حلب ودمشق (معجم البلدان 4: 764) .
[7] عرض: بلد فى برية الشام من أعمال حلب بين تدمر والرصافة (النجوم الزاهرة 8: 158 هامش) .(32/26)
بها الأمير علم الدين سنجر الغتمى، فخرج إليه بالإقامات، وقال له: هذا المكان قريب المأخذ، والملك يقصد المدن الكبار، فإذا ملكت البلاد التى هى أمامك فنحن لا نمتنع عليك. فأخذ ولده ومملوكه رهنا على الوفاء بذلك؛ فرحل عنها، ثم عاد إليها وجرّد نائبه قطلو شاه فى اثنى عشر تمانا [1] ، وأمره بقصد الشام، وعاد غازان إلى بلاد الشّرق.
وأما العسكر الشامى فإن عسكر حلب جمعه الأمير شمس الدين قراسنقر [2] ، والعسكر الحموىّ مع الأمير زين الدين كتبغا الملقّب بالعادل وعسكر الساحل مع الأمير سيف الدين أسند مركرجى، وجماعة من عسكر دمشق مع الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين أنص [3] الجمدار ونزلت هذه العساكر بالقرب من حماه، وجاءت طائفة من التتار للإغارة فوصلوا إلى القريتين [4] وبها جمع من التركمان بحريمهم وأولادهم وأغنامهم فأوقع التتار بهم ونهبوهم، واتصل خبرهم بالأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة بالشام؛ فجرد طائفة من عسكر الشام صحبة الأمير سيف الدين قطلبك المنصورى، وركب معه الأمير ثابت بن يزيد، وتوجّهوا جرائد إلى القريتين فوجدوا التتار قد فارقوها، فعادوا ولم يظفروا بهم، واتّصل خبر هذه الطائفة من التتار بالأمراء المقيمين على حماه؛ فانتدب لذلك الأمير سيف الدين أسند مركرجى نائب السلطنة بالفتوحات، وانتدب معه من عسكر حلب الأمير سيف الدين كجكن، ومن عسكر الشام الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف
__________
[1] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 933 هامش للدكتور زيادة «تومان، والجمع توامين. وهى الفرقة التى يبلغ عدد أفرادها عشرة آلاف جندى» والرسم عشرة آلاف جندى الزاهرة 8: 138 «طومان» وعرفه المحقق بأنه مقدم عشرة آلاف جندى.
[2] ومعناه السنقر الأسود وقد تسمى به بعض الأمراء أخذا من اسم الطائر المسمى بالسنقر والذى كان يستعمله ملوك الشرق فى الصيد (الخطط التوفيقية 10: 78) .
[3] كذا فى الأصول، وقد رسمه النجوم الزاهرة «أنس» .
[4] القريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص فى طريق البرية، وتدعى «حوادين» وبينها وبين تدمر مرحلتان (معجم البلدان 3: 78) .(32/27)
الدين أنص الجمدار [1] والأمير سيف الدين أغرلو [2] من عسكر حماه، ومن انضم إليهم، وتوجّهوا فى ألف فارس وخمسمائة فارس لا يزيد على ذلك وساقوا فى البريّة إلى مكان يسمى عرض لقصد هذه الطائفة من التتار، فتوافوا بها- وعدة التتار عشرة آلاف من المغل [3]- فلما شاهدهم التتار أطلقوا من كان معهم من التركمان وحريمهم ومواشيهم؛ ليشغلوا العسكر بهم، فلم يعرّج العسكر عليهم، وحملوا على التتار حملة رجل واحد، واقتتلوا أشد قتال فنصر الله جيش الإسلام، وقتلوا من التتار خلقا كثيرا، وفرّ من بقى منهم، وذلك فى عاشر شعبان من هذه السنة، وكانت هذه الوقعة مقدمة النصر، واستشهد فى هذه الوقعة الأمير سيف الدين أنص الجمدار، ومن أمراء دمشق. وحضر إلى دمشق جماعة أسروا من أعيان التتار فى يوم الخميس منتصف شعبان. هذا ما كان بالشام.
ذكر توجه السلطان الملك الناصر من الديار المصرية
بالجيوش الإسلامية إلى الشام، والوقعة بمرج الصّفرّ [4] ، وانهزام التتار.
قد ذكرنا اهتمام السلطان واحتفاله وما رسم به من الاستخدام، ثم جرّد العساكر من مدنه [5] يتلو بعضها بعضا، فوصلوا إلى دمشق. فأوّل من وصل منهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين لاجين الرّومىّ والأمير سيف الدين كراى المنصورىّ، والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار ومضافيهم فى يوم الأحد ثامن عشر شعبان. ثم وصل الأمير بدر الدين بكتاش
__________
[1] الجمدار: هو الذى يتولى إلباس السلطان أو الأمير ثيابه، مركب من كلمتين فارسيتين «جاما» بمعنى الثوب، و «دار» بمعنى ممسك، وأكثر ما يكون الجمدارية من الصبيان الملاح المرد، ويتحلون بالملابس المزركشة أكثر مما تتحلى النساء (معيد النعم ص 35) .
[2] كذا فى الأصول وفى السلوك 1: 931، 932 «غزلوا» و «أغرلوا» فى النجوم الزاهرة 8: 158 «أغزلو العادلى» .
[3] المغل: هم المغول وهم التتار (النجوم الزاهرة 8: 317 هامش) .
[4] مرج الصفر: ضبطها محقق السلوك 1: 60 بتشديد الصاد وضمها وفتح الفاء، وهو أحد المروج الواقعة حول مدينة دمشق. وانظر معجم البلدان 4: 488.
[5] فى الأصول «من مدينة» والمثبت يقتضيه السياق.(32/28)
الفخرىّ أمير سلاح، والأمير سيف الدين بكتمر السّلاح دار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورى، والأمير بهاء الدين يعقوبا، ومضافيهم، واستقلّ ركاب السلطان من قلعة الجبل فى ثالث شعبان.
وأما التتار الذين سلموا من وقعة عرض فإنهم التحقوا بقطلو شاه وأخبروه أن السلطان لم يخرج من الديار المصرية، وأنه ليس بالشام غير العسكر الشامى؛ فأقبل قطلو شاه بعسكر التتار. فتأخّرت الجيوش التى بحماه، ونزلوا بالمرج بدمشق، ثم اجتمع الأمراء الذين بدمشق من العساكر المصرية والشامية، واتفقوا على أن يتأخروا عن دمشق إلى نهر الصّفّر ويقيموا به إلى أن يصل السلطان بعساكر الديار المصرية، بعد أن كانوا اتفقوا على لقاء العدوّ التتار إن تأخّر السلطان، ونقلوا حريمهم إلى قلعة دمشق، ثم لم يروا ذلك ووصل الجيش الذى كان بالمرج، ونزلوا بأجمعهم بميدان الحصا [1] فى يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان، واختبط الناس بدمشق وجفلوا من الحواضر والقرى إليها، وخرج أكابر أهل دمشق وأعيانها فى هذا اليوم منها فمنهم من التحق بالحصون، ومنهم من توجّه إلى نحو الديار المصرية، وكنت يوم ذاك بدمشق فخرجت منها بعد أن أعددت لأمة الحرب، والتحقت بالعسكر ووجدت الجفّال قد ازدحموا بالأبواب زحاما شديدا، وذهلوا عن أموالهم وأولادهم، ووصلت بعد المغرب إلى منزلة العسكر بميدان الحصا، فوجدتهم قد توجّهوا إلى مرج الصّفّر، فلحقت الجيوش فى يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر- وهو سلخه، وأقمنا بالمرج يوم الخميس والجمعة.
فلما كان فى ليلة السبت المسفرة عن ثانى شهر رمضان دارت النّقباء على العساكر، وأخبروهم أن العدوّ قد قرب منهم، وأن يكونوا على أهبة واستعداد فى تلك الليلة، وأنه متى دهمهم العدوّ يركبوا خيولهم، ويكون الاجتماع عند قرية المجّة بقرب خربة [2] اللصوص فبتنا فى تلك الليلة وليس
__________
[1] هو أحد ميادين دمشق القديمة (النجوم الزاهرة 7: 75) .
[2] خربة اللصوص: تقع على الطريق بين دمشق وبيسان (السلوك 1: 281 هامش) .(32/29)
منا إلا من لبس لأمة حربه، وأمسك عنان فرسه فى يده، وتساوى فى ذلك الأمير والمأمور، وكنت قد رافقت الأمير علاء الدين مغلطاى البيسرىّ أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، لصحبة كانت بينى وبينه، فلم نزل على ذلك وأعنة خيلنا بأيدينا حتى طلع الفجر فصلّينا وركبنا، واصطفّت العساكر إلى أن طلعت الشمس وارتفع النهار فى يوم السبت المذكور، ثم أرسل الله مطرا شديدا نحو ساعتين ثم ظهرت الشمس، ولم نزل على خيولنا إلى وقت الزّوال، وأقبل التتار كقطع اللّيل المظلم، وكان وصولهم ووصول السلطان بالعساكر المصرية فى ساعة واحدة.
ذكر خبر المصاف وهزيمة التتار
كان المصاف المبارك فى يوم السبت ثانى شهر رمضان المعظّم سنة اثنتين وسبعمائة، وهزيمة التتار فى يوم الأحد بعد الظهر، وذلك أن السلطان الملك الناصر- قرن الله مساعيه بالظفر، وحكمّ مرهفاته فى رقاب من طغى وكفر- حال وصوله إلى مرج الصّفّر بالقرب من شقحب [1] تولى [2] ترتيب عساكره فوقف- خلّد الله سلطانه- فى القلب وبإزائه الخليفة أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، وفى خدمته الأمير سيف الدين سلّار نائبه، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورىّ والأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جندار [3] ، والأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام، ومضافيهم، والمماليك السلطانية [4] هؤلاء فى القلب.
__________
[1] شقحب- ويقال تل شقحب: وهى قرية فى الشمال الغربى من غباغب. وهذه قرية فى أول أعمال حوران من نواحى دمشق، وبينهما ستة فراسخ (معجم البلدان 3: 871، وهامش النجوم الزاهرة 8: 159) .
[2] زيادة يقتضيها السياق.
[3] أمير جاندار: لفظ مركب من كلمتين «جان» بمعنى روح أو نفس، و «دار» بمعنى ممسك. والمعنى الجملى حارس وحافظ السلطان أو الأمير- أو الحارس الخاص- ويتولى الاستئذان لدخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان. (صبح الأعشى 4: 20) .
[4] المماليك السلطانية: فرقة من المماليك التى اشتراها السلطان أو جلبت إليه أو آلت إليه من مماليك من سبعة فى السلطنة ومرتبات هذه الفرقة من ديوان المفرد (السلوك 1: 22 هامش الدكتور زيادة) .(32/30)
ووقف فى الميمنة الأمير حسام الدين لاجين الرّومى أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقش الموصلىّ أمير علم [1] المعروف بقتّال السّبع، والأمير جمال الدين يعقوب الشّهرزورىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان ومضافيهم، وفى جناح الميمنة الأمير سيف الدين قبجاق، والعربان أجمع- والله أعلم.
ووقف فى الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى نائب السلطنة بالمملكة الحلبيّة، والأمير سيف الدين أسند مركرجى نائب السلطنة بالفتوحات، والأمير سيف الدين بتخاص [2] نائب المملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بكتمر السّلاح دار، والأمير سيف الدين طغريل الإيغانى [3] والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، والأمير ركن الدين بيبرس الموفقى، وغيره من مقدمى أمراء الشام، وكنت فى الميسرة. وأما غير هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمراء مقدمى الألوف من العساكر المصرية وغيرها فلم أتحقق مواقفهم [4] فأذكرها.
وأقبل التتار وفيهم من مقدمى التمانات قطلوشاه، وقرمشىّ [5] بن الناق، وسوتاى، وجوبان بن تداون، وأقطاجى، وبولاى [6] ، وطوغان، وسياومى بن قطلوشاه، وطغريل بن أجاى، وأبشقا، وأولاجقان، وألكان، وطيطق، وهم فى مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم. ولما جاوزوا منزلة الكسوة [7] طلّبوا تحت الجبل المسمى كنف المصرى، وحملوا على الميمنة فصدموها بمعظم جموعهم؛ فاضطربت وقاتل من بها قتالا شديدا، فاستشهد
__________
[1] أمير علم: هو الذى يتولى أمر الإعلام والسناجق والرايات السلطانية ويشترط فيه الدراية بنوع الإعلام اللازمة لكل موكب من المواكب السلطانية- انظر (القلقشندى: صبح الأعشى ج 4 ص 8، ج 5 ص 456- 458) .
[2] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 932 «بد خاص» .
[3] فى الأصول بدون نقط، والمثبت من السلوك 1: 932، والنجوم الزاهرة 8: 159، وجاء فى هامش النجوم «ورد فى الدرر الكامنة» طغريل الإتقانى وكان من مماليك إتقان الملقب «سم الموت» .
[4] فى ك «موافقتهم» والمثبت من ص، وف.
[5] كذا فى الأصول، وفى النجوم الزاهرة والسلوك 1: 933 «قرمجى» .
[6] فى الأصول «مولاى» والمثبت من المرجعين السابقين.
[7] منزلة الكسوة: منزلة وضيعة يمر بها نهر الأعرج، وبينها وبين النهر اثنا عشر ميلا، وهى أول منزلة للقوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر (النجوم الزاهرة 8: 124 هامش) .(32/31)
الأمير حسام الدين الرّومىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافرى، والأمير جمال الدين أقش الشمسى الحاجب، والأمير عز الدين أيدمر النقيب، والأمير عز الدين أيدمر الرّفّا، والأمير عز الدين أيدمر [1] الشمسى القشاش، والأمير علاء الدين على بن داود التركمانى والأمير حسام الدين على بن باخل، ونحو ألف فارس من مماليك الأمراء وأجنادهم، وانهزم بعض الأمراء، فكان منهم: الأمير سيف الدين برلغى الأشرفى. فأردف السلطان الميمنة بالقلب حتى ردّ التتار.
وأما الميسرة فقاتلها بولاى فى حماية من التتار، فلم تكن لهم طاقة بملاقاة من فيها من الجيوش؛ فهرب بولاى فى هذا اليوم بعد العصر فى نحو عشرين ألف فارس من غير طائل قتال، وتبعهم بعض الجيش الإسلامى وعادوا، ثم حجز الليل بين الفريقين، فلجأ التتار إلى الجبل، وأضرموا النيران، وأحاطت بهم العساكر الإسلامية طول الليل. فلما أسفر الصباح عن يوم الأحد ثالث شهر رمضان تقدّمت العساكر الإسلامية إلى الجبل، وضايقوهم أشدّ المضايقة، فكان ينزل من شجعانهم طائفة وتتقدّم إلى طلب [2] من أطلاب العساكر وتقاتل فيردها من يقابلها أقبح ردّ. وكان هذا اليوم بالحصار أشبه منه بالمصافّ، واستمر الحال على ذلك إلى وقت الظهر ففرّج لهم الأمير سيف الدين استدمر كرجى فرجة من رأس الميسرة، فلمّا رأوها بادروا بالفرار، وخرجوا على فرقتين، فالفرقة الأولى فيها جوبان فى نحو ثلاثين ألف فارس حتى أبعد. ثم تلاه قطلوشاه فى نحوها، وبقى منهم فرقة ثالثة فيها طيطق [3] فى زهاء عشرين ألف فارس، فلما فرّوا حملت العساكر عليهم وأبادوهم قتلا وأسرا، وتبعتهم العساكر بقيّة النهار إلى الليل.
__________
[1] هذا اللفظ من ص.
[2] الطلب لفظ كردى: كان يطلق على الأمير يقود مائتى فارس فى ميدان القتال، ويطلق أيضا على قائد المائة أو السبعين، وأول ما استعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام السلطان صلاح الدين الأيوبى. ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة أو الفرقة من الجيش. (السلوك 1: 248 حاشية للدكتور زيادة، والنجوم الزاهرة 7: 391 هامش) .
[3] فى ك «طيطلق» والمثبت من ص، وف.(32/32)
ولما كان فى يوم الإثنين رابع شهر رمضان جرّد السلطان الأمير سيف الدين سلّار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، وغيرهم من العساكر يقفّون آثارهم. ثم ركب السلطان فى يوم الإثنين من مكان الوقعة وبات بالكسوة ودخل إلى دمشق فى بكرة نهار الثلاثاء خامس الشهر، هو والخليفة، ونزل بالقصر الأبلق [1] ، ثم بالقلعة، ونزل الخليفة بالتّربة الناصرية [2] ، وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شوّال، ورحل من دمشق فى يوم الثلاثاء الثالث من شوال ووصل إلى القاهرة، ودخل فى الثالث والعشرين منه، وشقّ المدينة، ونزل بالمدرسة المنصورية؛ لزيارة قبر والده السلطان الملك المنصور، ثم ركب وطلع إلى قلعة الجبل، واحتفل الناس لمقدمه احتفالا عظيما، وزيّنت القاهرة بزينة لم يشاهد مثلها فيما مضى، واستمرت الزينة بها بعد وصول الأمير بدر الدين بكتوت الفتّاح بكتاب البشارة، فى يوم الأحد عاشر شهر رمضان، إلى أن قدم السلطان بعد ذلك بأيّام.
وقد ذكر الناس هذه الغزوة نظما ونثرا، ووقفت ممّا عمل فيها على أشياء كثيرة، وقد رأيت أن أورد من ذلك ما نقف عليه من النظم والنثر، فكان ممن عمل فى ذلك القاضى الرئيس الفاضل علاء الدين على بن عبد الظاهر [3] صنّف فى خبر هذه الوقعة جزءا سماه الرّوض الزاهر فى غزوة الملك النّاصر [4] ابتدأه بأن قال: الحمد لله الذى أيّد الدين المحمدى بناصره، وحمى حماه بمن مضى هو وسلفه بأداء فرض الجهاد فى أوّل الزمان وآخره، وجعل من الذرّيّة المنصورية من يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويسهر فى سبيل الله فيمنع طرف السيف أن يغفى [5] فى إغماده، ويقدم يوم الوغى والموت من بعوثه للعدى
__________
[1] القصر الأبلق: هو قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى أنشأه بظاهر غربى دمشق بين المبدأتين الأخضريين، وسمى بذلك لأن بناءه كان بحجارة مختلفة الألوان. وأنظر البداية والنهاية 13: 274، والدارس فى تاريخ المدارس 1: 350.
[2] التربة الناصرية: أنشأها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن غازى بن أيوب بجبل قاسيون على نهر يزيد وبجوارها خانقاه له أيضا (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 178.
[3] هو علاء الدين على بن محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر، توفى بمصر سنة 717 هـ (ذيول العبر ص 94، الدرر الكامنة 3: 109، حسن المحاضرة 1: 571، شذرات الذهب 6: 246.
[4] هذا الجزء ورد بنصه فى ملحقات السلوك 1: 1027 ملحق 16، وقد أشار الدكتور زيادة إلى نقله من نهاية الأرب للنويرى.
[5] يغطى: من أغفى بمعنى أخذه النوم أو النعاس (القاموس المحيط) .(32/33)
وأجناده نحمده على ما وهبنا من نصره، ونشكره على نعمه التى خوّلنا منها بأسا أذاق العدوّ وبال أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع منار هذا الدين، وتضاعف أجر المجاهدين الذين [10] أضحوا فى درج المتقين مرتقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه وضروع الكفر حوافل، وربوع البغّى أواهل. فلم يزل يجرّد الصّفاح من مقرّها، ويطلق جياد الغرم فى مجراها وصعاد الحزم فى بحرها، إلى أن أخمد نار الشرك والنفاق، وظهرت معجزاته بإطفاء نار فارس بالعراق، صلى الله عليه وعلى آله الذين جرّدوا بين يديه سيوف الحتوف، فاستغلقت الأعمار، وهاجروا إليه ونصروه فسموا المهاجرين والأنصار، وبعد: فإن الوقائع التى عظمت آثارها فى الآفاق، وحفظت بها دماء المسلمين من أن تراق، وبقى بها الملك والممالك، وأشرق بها سواد الخطب الحالك، وسطّرها الله تعالى فى صحائف مولانا السلطان الملك الناصر، وآتاه فيها من الملك ما لم يبلغه أحد، فأورثه به ظفرا مخلّدا لا يفنى وإن طال المدار والأمد، وأشبه فى ثباته ووثباته بها أباه رضىّ الله عنه، والشبل فى المخبر مثل الأسد، واستقر بها الملك فى مهاد السكون بعد القلق، وتبدلّت بها الملة الإسلامية الأمن بعد الفرق، وأضحى بها وجه الإسلام سافرا بعد تقطيبه، وطلع بها بدر السرور كاملا بعد مغيبه، وعمّت الأيام إحسانا من الملك وحسنى وعلّم المؤمنين بها تحقيق قوله عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
[1] حقها [2] أن يسطر فيها ما يعمر ربوع السرور ويؤنس معاهده، ويقف عليه الغائب فيكون كمن شاهده ويذيع أنباء هذه النّصرة فى الأقطار، ويتحقق أهل الإسلام أن لهم ملكا يناضل عن دين الله بالسّمر الطّوال والبيض القصار، وسلطانا ما أغمد سيفه فى جفنه إلا ليستجم لأخذ الثأر ممّن ثار.
__________
[1] سورة النور آية 55.
[2] زيادة يقتضيها السياق.(32/34)
ولما كانت هذه الغزاة المبرورة، والحركات التى عدت حسناتها فى صحائف القبول مسطورة، والسّفرة التى أسفرت بحمد الله عن الغنيمة والسلامة، وأعلمت الأمة بركة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتّى ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم القيامة» . وكنت ممن شملته نفحات الرحمة فيها، وهبّت عليه رياح النّصر التى كانت ترجّيها [1] ، وشاهدت صدق العزائم الملكية الناصرية، التى طلعت فى سماء النّقع نجوما وقّادة، وشهدت فى محضر الغزو على إقرار العدى بالعجز، وكيف لا وذاك الموطن محلّ الشهادة، ورأيت كيف أثبت السيف لنا الحقّ لأنه القاضى فى ذلك المجال، وكيف نفذت السهام لأجل تصميمه فى الحكم، فلم تمهل حتى أخذت دين الآجال وهو حالّ، وقد أحببت أن أذكر من أمرها ملحة تنشرح منها [2] الصدور، وآتى بلمعة تعرب عن ذلك النور، وها أنا أذكر نبأ السفر من افتتاحه، وأشرح حديث هذه الغزاة من وقت صباحه، فأقول:
ركب مولانا السلطان الملك [3] الناصر خلد الله ملكه- بنيّة صالحة أخلصها فى سبيل ربّه، وعزيمة ناجحة ماثلت فى المضاء سمر عواليه وبيض قضبه، من قلعة مصر التى هى كنانة الله فى أرضه، بجيوشه التى نهضت بسنن الجهاد وفرضه، تقدمها أمراؤه الذين كأنهم ليوث غاب، أو غيوث سحاب، أو بدور ليال، أو عقود لآل [4] معتضدا [5] ببضعة من الرسول، منتصرا بابن عمه، الذى لا يسمو أحد من غير أهل بيته لشرفه، ولا يطول، ملتمسا بركة هذا البيت الشريف الذى طالما كانت الملائكة من نجده وجنده، مسترسلا بيمنة الإيمان سحب كرمه، مستدعيا صادق وعده. وسار على اسم الله تعالى بالجاريات الجياد، التى تعدو فى سبيل الله النجاد، وتعلو الهضاب، وسرى يقطع المنازل، ويطوى المراحل طىّ السّجلّ للكتاب، والجيوش المنصورة قد أرهفت
__________
[1] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 1028 «تزجيها» .
[2] وفى ص «ينشرح بها» .
[3] الإضافة من السلوك 1: 1029.
[4] أى لآلىء.
[5] فى الأصول «مقتصدا» والمثبت من السلوك 1: 1029.(32/35)
حدّ سيوفها وأشرعت أسنة حتوفها، وهى تسير كالجبال، وتبعث كالصدى [1] ما يرهب من طيف الخيال.
فبينما الركاب قد استقلت فى السّرى، ورقمت [2] فى البيداء من أعناق جيادها سطور من قرأها استغنى بحسنها عن القرى، إذا بالبشير قد وفد ونجم المسرّة قد وقد، وأخبر بأن جمعا من التتار قصدوا القريتين للإغارة، ما علموا أن ذلك مبدأ خمولهم الذى فتح الله به للإسلام باب الهناء والبشارة، وغرتهم الآمال، وساقتهم الحتوف للآجال، فنهض بعض العساكر المؤيدة، فأخدتهم أخذ القرى وهى ظالمة، وأعلمتهم أن السيوف الإسلامية ما تترك لهم بعد هذا العام- بقولة يدا [3] فى الحرب مبسوطة، ولا رجلا فى المواقف قائمة، وأرى الله العدوّ مصارع بغيه، وعاقبة استحواذه، وتلا لسان الوعد الصادق على حزب الإيمان وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
[4] ، ووصل مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- غزّة، والإسلام بحمد الله قد زاد قوة وعزّة، ثم رحل بحمد الله- بعزم لا يفتر عن المسير، وجيش أقسم النصر أن لا يفارقه وأن يصير معه حيث يصير، إلى أن وصلوا يوم السبت الثانى من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعمائة، وهو أوّل أيام السعود، واليوم الذى جمع فيه الناس ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
[5] إلى مرج الصّفّر الذى هو موطن الظّفر، ومكان النصر الذى يحدّث عنه السّمار بأطيب سمر.
والسلطان بين عساكره كالبدر بين النجوم، والملائكة الكرام تحمى الجيوش المؤيدة بإذن الله، وطيور النصر عليها تحوم، وهو- خلّد الله ملكه- قد بايع الله على نصرة هذه الملّة التى لا يحيد عن نصرها ولا يريم، وعاهده على بذل الهمم التى انتظمت فى سبيل الله كالعقد النّظيم، وخضع لله فى طلب النصر
__________
[1] فى الأصول «كالعدى» والمثبت من المرجع السابق.
[2] فى الأصول «ورقت» والمثبت من السلوك 1: 1029.
[3] هنا انقطع الكلام فى ك بما يعادل منتصف صفحة 33 من ص إلى أول صفحة 63 وقد أكملت النص منها.
[4] سورة الفتح آية 20.
[5] سورة هود آية 103.(32/36)
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
[1] ، وقال: رب قد بذلت نفسى فى سبيلك فتقبّلها بقبول حسن، ونويت المصابرة فى نصرة دينك، وأرجو أن أشفع النّيّة بعمل يغدو لسان السّنان فى وصفه ذا لسن، وتلا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
[2] واهزم عدونّا فقد بايعناك على المصابرة وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
. [3] ، وابتهل إلى الله فى طلب التأييد، وتضرّع إليه فى ذلك الموقف الذى ما رآه إلّا من هو فى الآخرة شهيد، وفى الدنيا سعيد، هذا والسيوف قد فارقت الأغماد، وأقسمت أنها لا تقرّ إلا فى الرؤوس، والأسنة قد أشرعت وآلت أنها لا تروى ظمأها إلا من دماء النفوس، والسهام قد التزمت أنها لا تتخذ كنائنها إلّا من النّحور، ولا تتعوّض عن حنايا القسىّ إلا بحنايا الأضالع أو لترفّعها لا تحلّ إلّا فى الصدور، والدروع قد لزمت الأبطال قائلة: لا أفارق الأبدان حتى تتلى سورة الفتح المبين، والجياد حرّمت وطء الأرض وقالت لفرسانها: لا أطا إلّا جثث القتلى، ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرا من حديد، ولا تشاهد إلا لمع أسّنّة أو بروق سيوف تصيد الصيد [4] ، والسلطان قد أرهف ظباه [5] ليسعّر بها فى قلوب العدى جمرا. وآلى أنه لا يورد سيوفه الطلى بيضا إلا ويصدرها حمرا، والإسلام كأنه بنيان مرصوص، ونبأ النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص، والنفوس قد أرخصت فى سبيل الله، وإن كانت فى الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعدّ لها الدّرك الأسفل من النار، وأرواح المؤمنين فى جنة عالية.
ولما كان بعد الظهر أقدم العدو- خذله الله- بعزائم كالسيوف الحداد وجاء على قرب من مقدمنا، فكان هو والخذلان على موافاة، وجئنا نحن والنصر على ميعاد؛ وأتى كقطع الليل المظلم بهمم لا تكاد لولا دفع الله عن بزاتها
__________
[1] سورة آل عمران آية 126.
[2] سورة البقرة آية 250.
[3] سورة البقرة آية 249.
[4] الصيد: جمع أصيد، والمراد به البطل الشجاع (لسان العرب) .
[5] الظبا: حد السيف (محيط المحيط)(32/37)
تحجم [1] ، معتقدا أن الله قد بسط يده فى البلاد- ويأبى الله إلا أن يقبضها- متخيّلا أنّ هذه الكرّة مثل تلك- ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوّضها- متوهما أن جيشه الغالب، وعزمه القاهر، متحققا أنه منصور وكيف ذاك ومعنا الناصر!! والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها [2] فى الحرب نكول ولا تقصير، فكان جمعنا ولله الحمد جمع سلامة وجمعهم جمع تكسير؛ وحمى الوطيس، وحمل فى يوم السبت الخميس [3] على الخميس، ودارت رحا الحرب الزّبون [4] ، وغنّت السيوف بشرب الكماة كأس المنون، والسلطان قد ثبت فى موقف المنايا، حتى كأنه فى جفن الرّدى وهو نائم، ورأى الأبطال من أوليائه جرحى فى سبيل الله والأعداء مهزومين [5] . والوجه منه وضّاح والثغر باسم، وقابل العدوّ بصدره وقاتل حتى أفنى حديد بيضه وسمره، وخاطر بنفسه والموت أقرب إليه من حبل الوريد. ونكّب عن ذكر العواقب جانبا، ولم يستصحب إلا سيفه المبيد، واشتد أزرا بامرائه الذين رأوا الحياة فى هذا اليوم مغرما، وعدوّا الممات فيه مغنما وقالوا: لا حياة إلا بنصر الإسلام، ولا استقرار حتى تطأ بين يدى السلطان سنابك الخيول هذه الهام، وما أعددنا العزائم [35] إلا لهذا الموقف، ولا أحددنا الصوارم وخبأناها إلا لنبذلها فى السفك فنسرف [6] ، وهم بين يدى سلطانهم يحثّون جيوشهم على المصابرة، ويقولون: هذا يوم تصيبنا فيه إحدى الحسنيين: فإما سعادة الدنيا وإما جنة الآخرة، وقالت الملائكة للجيوش المنصورة: يا خيل الله اركبى ويا يد النصر اكتبى، وقامت الحرب على ساق وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ
[7] ، وأتى العدوّ جملة واحدة، وحمل حملة أمست بالنفوس جائدة، ونكب عن الميسرة وقصد الميمنة
__________
[1] كذا فى ف وفى ص «برأتها» .
[2] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1031 «لم ييئسها» .
[3] الخميس: الجيش (المعجم الوسيط) .
[4] الحرب الزبون: الشديدة (المعجم الوسيط) .
[5] كذا فى ف. وغير واضحة فى ص. وفى السلوك 1: 1031 «مهزومة» .
[6] كذا فى السلوك 1: 1031. وغير منقوطة فى ص، وف.
[7] سورة القيامة الآيتان 29 و 30.(32/38)
والقلب، وهاله جمع الإسلام فأراد أن يخلص بانحيازه من شدة ذلك الكرب، واستمرت المناضلة تمتد بين الفريقين وتنتشر، والمؤمنون قد وفّوا بما عاهدوا الله عليه. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
[1] ، ومولانا السلطان يردف مواكبه بحملاته، ويقدم فتخشى الأعداء مواقع مهابته وترجو الأولياء منافع هباته، ويرى غمرات الموت ثمّ يزورها، ويمر فى مجال المنايا فيحلوله مريرها ومزورها [2] ، ويقاسم سيوف العدى شرّ قسمة، فعلى عاتقه غواشيها [3] وفى صدورهم صدورها.
ولما كان وقت المغرب لجأوا- خذلهم الله [36]- إلى هضاب اعتقدوا أن فيها النجاة، وقالوا: نأوى إلى جبل يعصمنا من الموت ونسوا أنه لا عاصم اليوم من أمر الله.
راموا النجاة وكيف تنجو عصبة مطلوبة بالله والسلطان؟
وحصرتهم العساكر الإسلامية بعزائم كالشهاب أو النار [4] ، ودارت عليهم كالسّوّار والسّوار [5] ، وصيّرتهم بقدرة الله فى ربقة الإسار، وقاتلتهم الجيوش المنصورة غير مستجنّة بقرى محصّنة ولا من وراء جدار، تتلظى كبودهم عطشا وجوعا، ويكادون من شدة الهجير يشربون من سيل قتلاهم نجيعا [6] ، ويودّون لو كانوا أولى أجنحة، ويندمون حين رأوا صفقتهم خاسرة وكان ظنهم أنها تكون مربحة، ويأسفون على فوات النجاة، ويتحيّرون عند مواقعة الجيوش المؤيدة حيث رأوا ما شملها من نصر، ويتضرّمون بنار الخيبة على حركتهم التى أدبرت لهم مآبا، وينظرون فيما أسلفوه من ذنوب ولسان الانتقام يتلو عليهم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[7] .
__________
[1] سورة الأحزاب آية 23.
[2] كذا فى الأصل.
[3] غواشيها:/ جمع غاشية وهى غلاف السيف (لسان العرب) .
[4] فى ص، وف «النهار» والمثبت من السلوك 1: 1032.
[5] السوار- بكسر السين وضمها مع التشديد: حلية للمرأة. وبفتح السين مع التشديد والواو هو من الكلاب الذى يأخذ بالرأس، وأيضا الرجل يواثب نديمه إذا شرب، وهو سوار أى وثاب معربد (لسان العرب) .
[6] النجيع: هو الدم، وقيل دم الجوف خاصة، وقيل هو الطرى منه أو المصبوب (لسان العرب) .
[7] سورة النبأ آية 40.(32/39)
ودخلت ليلة الأحد وهم فى حصرهم وقد أوقعهم الله فى حبائل مكرهم، وأراهم من الحصر والضيق ما لا رأوه مدّة عمرهم، وأيقنوا بالهلاك [37] ، وتحققوا أن لا خلاص لهم من تلك الأشراك، ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة مظهرين، ولو علموا سوء صباحهم كفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى فى حقهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ
[1] وأصبح الإسلام يوم الأحد فى قوته المنيعة، وأرواح العدى فى أجسادهم وديعة، ومولانا السلطان يصطبح من دمائهم كما اغتبق، ويريهم عزما ينثر عقد اجتماعهم الذى انتظم واتّسق، ويفهمهم أنّه لا مردّ له عن مراد الصّوارم، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم، وأمراؤه- أعزّ الله نصرهم بين يديه- أولو همم فى الحرب وأولو عزائم، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
[2] يعدّون المصابرة فى طاعة الله وطاعة سلطانهم غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار؛ ويمتازون بأنّ منهم من هاجر إليه، ومنهم من نصره، فعدّوا- حقا- كونهم مع محمد تابعى المهاجرين والأنصار، وزحف السلطان وبين يديه أمراؤه وعساكره المؤيدة فضيقوا عليهم الخناق، وأحدقوا بهم إحداق الهدب بالأحداق، وراسلوهم بالسهام، وشافهوهم بالكلام لا الكلام، ورفعوا من راياتهم [38] المنصورة ما طاول المنشآت فى البحر كالأعلام، وحمل بها الأبطال، فكلما رآها العدى تهتزّ بتحريك نسيم النّصر سكنوا خوف الحمام، ثم فرّجوا لهم عن فرجة من جانب الجبل ظنّوها فرجا، وخيّل لهم أنّه من سلك تلك الفرجة سلك طريقا مستقيما، وما دروا أنه سلك طريقا عوجا، واستترت لهم الجيوش المنصورة إلى الوطاة لتمكّن سيوفها من سفكهم، ويقرب مدى هلكهم، وتسلمهم إلى الحمام الذى لا ينجى منه خيل ولا جبل، وتملأ الوطاة من دمائهم، فتساوى السهل من قتلاهم بالجبل، وحلّ الحمام بساحتهم، وامتدت الأيدى لاستباحتهم، وضاقت عليهم المسالك، وغلبوا هنالك، وأنزل الله نصره على المؤمنين وأيدهم بجنود لم يروها، واشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنة- فيا طيب ما شروها، وفرّت من العدو فرقة،
__________
[1] سورة الصافات آية 177.
[2] سورة المائدة آية 54.(32/40)
وضلّت فى حالة الحرب عن السيف فأدركهم العزم الماضى الغرار [1] وتلا عليهم لسان الحق قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ
[2] وما انقضى ظهر يوم الأحد إلا والنصر قد خفقت بنوده، والحق- سبحانه وتعالى- قد صدقت وعوده، وطائر الظفر قد رفرف بجناحه وطار باليمن والسرور [39] ونسيم الريح قد تحمّلت رسالة التأييد، فصارت إلى الإسلام بالصّبا وإلى العدوّ بالدّبور والألطاف- ولله الحمد- قد زادت للإسلام قوّة وتمكينا، ولسان النصر يتلو على السلطان إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[3] والسيف قد طهّر ديار الإسلام من تلك الأدناس ومولانا السلطان يتلو ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
[4] ، وأمست الوحوش تنوش أشلاءهم، والحوائم ترد دماءهم، والعساكر فى أعقابهم تقتل وتأسر، وتبدى فى استئصالهم [5] كل عزيمة وتظهر، وتنظم أسنتها برؤوس القتلى، وتعقد لها على عقائل النصر فتزفّ لديها وتجلى، إلى أن ناحتهم بالخيف [6] من مكان قريب، وبسطت فيهم السيف فسأل الأسر أن يسمح له بحظّ فأعطى أيسر نصيب، وملئت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثا فى الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار.
ثم رحل السلطان يوم الإثنين الرابع من شهر رمضان المعظم إلى منزلة الكسوة من مكان النصر، وبقاعه تنبئ [7] على معاليه، وتشهد بمضاء قواضبه ونفوذ عواليه، ودمشق قد أخذت زخرفها وازّيّنت، وتبرّجت محاسنها للنواظر، وما باتت بل تبيتت، وكادت جددها تسعى للقائه، لتؤدّي السّنّة من خدمته والفرض، غير أنها استنابت الأنهار فسعت وقبّلت بين يدى جواده الأرض.
__________
[1] الغرار: حد السيف (المعجم الوسيط) .
[2] بياض فى ص، وف. المثبت يقتضيه المعنى والسياق الذى التزمه المؤلف. والآية رقم 16 من سورة الأحزاب.
[3] سورة الفتح آية 1.
[4] سورة يوسف آية 38.
[5] فى ص، وف «إيصالهم» والمثبت يقتضيه السياق.
[6] الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن الوادى ومجرى السيل (لسان العرب) .
[7] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «تثنى» .(32/41)
ثم رحل فى يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان، ودخلها فى هذا اليوم والملائكة تحيّيه عن ربّه بتحيّة وإكرام، وتتلو عليه وعلى جيوشه ادْخُلُوها بِسَلامٍ [1] *
فى موكب كأنه نظام الدّرر، أو روضة كلها زهر، بل هو- حقا- هالة القمر، والدنيا قد تاهت به عجبا، والناس يدعون لسلطان قد شغفوا بدولته حبّا، ويتعجبون من نضارة ملكه الذى سرّ النواظر، ويرون أولياءه فى فلك إنعامه، فيقولون:
أبدّلت الأرض غير الأرض أو صارت سماء وإلا فما هذا القمر حوله النجوم الزواهر! وعادت المآتم بدمشق أفراحا وأعراسا، وربوع الهناء قد عوّضها أمن مقدمه عن الوحشة إيناسا، والقلعة بآلات حصارها مزينة قائلة:
كيف يستباح حماى وأنا بهذا السلطان محصّنة، وبشهادته [2] محصنة.
هذا والأنهار تساير ركابه وقد صبغت من دماء العدى بأحمر قان، والأشجار تميل طربا بالهناء كما يميل النشوان بين الأغانى، والحمام يطرب بحسن الألحان والتغريد، وقد أقسمت لا تنوح، وكيف تنوح وقد خضّبت كفّها وطوّقت الجيد، والناس يقولون: أيا عجبا فى أوّل رمضان يكون عيد، وفى آخره عيد؟! والعزائم للعدى تردى، وبنصر الله ترتدى، وتهتز [3] بردى تقول عند تغريد الحمامة:
«يا برد ذاك الذى قالت على كبدى» والأقاليم قد تاهت بسلطانها بهجة وسرورا، وهام الجوزاء تودّ لو كانت منبرا وسريرا، والرعايا تقول: هذا الملك الذى حمى الله بعزائمه الدّيار، وأدار العدى إلى دار البوار، ووقف لا يبتغى إلا وجه ربه، وقابل اليوم بنفسه وبكتائبه، وناضل الأمس بكتبه، والله لدعائهم سامع ومجيب، ومكافئه بكل فتح مبين ونصر قريب.
__________
[1] سورة الحجر آية 46.
[2] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «بسعادته» .
[3] فى ص، وف، والسلوك 1: 1034 «ونهر» .(32/42)
ووصل الميدان الأخضر وقد أذاق العدوّ الأزرق الموت الأحمر، فى يوم السعد الأبيض، بعلم النصر الأصفر- إلى القصر الأبلق، وقد طلع شمسا فى سماء الملك أنار به أفق الآفاق وأشرق، ففخر القصر بحلوله فيه، وقال: هذا اليوم الذى كنت أرتجيه، وهذا الوقت الذى ما برحت تبشّرنى به [43] نسمات البكر والأصائل. لأنها تمرّ لطيفة، فأعلم أن معها منه- خلّد الله ملكه- رسائل، وهذا الملك الذى أعرف فيه من الله شمائل؛ فغبطته القلعة المنصورة، وسألته [1] أن لا تبقى بغير الجسد محسورة [2] ، وفاخرت القصر بمالها من محاسن، وما شرفت به من إشراف على أنضر الأماكن، وامتازت به من حصانتها الذى ما امتطى سواه ذروتها، ولا علا غيره- خلّد الله ملكه- صهوتها، فأراد أن يعظم لقلعته الشأن- فحلّ بها مرة ثم بتلك أخرى، وطاب بحلوله الواديان.
ثم أذهب عن أوليائه وجيوشه مشقة التعب، ببذل الذهب، وأنسى بمكارمه حاتم طيئ، فلو عاش لا ستجدى ممّا وهب، وأمر بعود نوّاب ممالكه إلى أماكنهم المحروسة، وقال: قد خلت ربوعكم هذه المدّة.
وحيث حللنا بالبلاد نبتغى أن تكون مأنوسة، فتضاعف الشكر على إتمام هذه النعمة، وابتهلت الألسن بالمحامد، وكيف لا وقد طلع صبح النصر فجلّى ليل تلك الغمة، وشكر الناس منّة الله التى أعادت إليهم بالأمن الوسن [3] ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [4]
وأقام بدمشق [44] المحروسة يتبوّأ منها أحسن الغرفات، واستقر من بقاعها [5] فى جنّات، فحييت به بعد الممات، وعادت بمقدمه إلى جسدها الروح بعد المفارقة، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها الرائقة، وهو يحمى حماها، ويحلى مواطن ملكها الزواهر رباها، ويزيّنها بمواكبه التى ماثلت الكواكب فى سنائها وسناها، وتطأ سنابك جياده أرضها فيدانى الثريا فى الافتخار ثراها، إلى أن قضى شهر صيامه
__________
[1] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1035 «وسألت» .
[2] فى ص وف «محصورة» ونقل الصواب ما أثبته.
[3] الوسن: الحاجة والوطر، النوم والنعاس (لسان العرب) .
[4] سورة فاطر آية 34.
[5] كذا فى ص، وف. فى السلوك 1: 1035 «ويستقر من بقعتها» .(32/43)
المقبول. وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك آماله فى عز مستمر ونصر موصول، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج البحر، وتعدّدت لدولته المسرّات فى هذا الشهر الميمون، فآخره عيد فطر، وأوّله عيد نحر.
ثم رحل عن دمشق فى يوم الثلاثاء ثالث شوال، ويعزّ عليها أن تفارقه. أو تبعد عن محيّاه الذى أنار مغارب الملك ومشارقه، أو يسيّر عنها عزمه الذى إن غاب أغنت مهابته، أو حضر أرهف على العدو بوارقه، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه، وأوراق روحها تودّ لو كانت مكان أعلامه وخوافقه، وزهرها يتمنى لو كان وشيا [45] لحلل [1] جياده، وأرضها النضرة تكاد تنطوى بين يديه لتكون مراكز السعادة [2] ، وقصرها الأبلق يتوسّل إليه فى أن يتخذه بدل خيامه، وستائره ليسر مسكنه [3] فيه ومقامه، ومصر تبعث إليه مع النسيم رسائل، وتبذل له فى تعجيل عوده وسائل [4] ، وكرسىّ سلطنتها يودّ لو سعى من شوق إليه، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التى أتمّها الله عليه، فلبّى دعوتها ولم يطل جفوتها، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضّياء والنور، ووطئ بمواكبه الأرض فظهرت بها من مواطئ جياده أهلّة، ومن آثار أخفاف مطيّه بدور، ووصل ديار مصر المحروسة وقد زفّت عروسا تجلى فى أبهى الحلل، وجمعت أنواع المحاسن، فلا يقال لشىء منها كمل لو أنّ ذا كمل، وفضح الدجى إشراقها، وبهر العيون جمالها، فإلى أقصى حدائق حسنها. رنت أحداقها، وسبت النفوس منازلها، وكيف لا، وهى المنازل التى لم نزل نشتاقها، وشغلت القلوب أبياتها، وكيف لا وقد زانها ترصيعها وطباقها، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام محاقها، وأمست روضة أثمرت اللآلى والدرر، وفلكا زها بالمشرقات فيه، [46] وكيف لا وفى كل ناحية من وجهها قمر.
وحلّ- خلّد الله ملكه- بظاهر القاهرة فكادت تسير لخدمته بأهلها وجدرانها، غير أنّه أثقلها الحلى فأخّرها لتبدو إليه فى أوانها المراد، وما أحسن الأشياء فى أوانها، وهمّ نيلها أن يجرى فى طريقه لكنه أخّره النقص
__________
[1] فى ص، وف «لحلك» ولعل الصواب ما أثبته.
[2] كذا فى ص، وف. ولعلها «الصعاده» .
[3] فى ص، وف «ممكنه» ولعل الصواب ما أثبته.
[4] فى ص، وف «رتائل» والمثبت من السلوك 1: 1035.(32/44)
والتقصير، واستحيا أن يقابله وهو دون غاية التمام، أو يسير من مواكب أمواجه فى عدد يسير، وخشى أن يتخلّل السبل بين يديه فيحصل فى ريها الخلل، أو تظهر عليه- كونه فى زمن توحمه- حمرة الخجل، وكأنّ عمود مقياسه قد آلى أن لا يضع أصابعه فى اليّمّ إلا بإذن سلطانه، ولا يلبس ثوب خلوق إلّا ما يزره عليه ببنانه، ولا يأتى بزيادة إلا بعد مقدمه، وكيف لا ومدده من إحسانه؟! وركب سحر الإثنين الثالث والعشرين من شوال سنة اثنتين وسبعمائة من ظاهر القاهرة فى موكب حفّ به الظّفر، وأضحى حديثا للأنام وذكرى للبشر، وسيفه المنصور قد أذهب عن الملّة الإسلامية ليل الخطب ومحا، والأمة يترقبون طلوع فجر بدره، ولسان المسرّة يتلو عليهم مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [1]
ودخل البلد وقد تزايدت بمقدمه سرورا [47] وبشرا، وأنشدته:-
أنت غيث إذا وردت إلى الش ... ام ونيل إذا تيمّمت [2] مصرا
أطلع الشرق من جبينك شمسا ... ليس تخفى ومن محياك بدرا
كان أمر التتار مستصعب الح ... ال فصيّرت عسر ذلك يسرا
وفتحت له أبواب نصرها التى يفضى منها إلى نعمة ونعيم، وشاهدته [3] عيون أهلها. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [4]
والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين، والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [5]
وقد
__________
[1] سورة طه آية 59.
[2] فى ص، وف، والسلوك 1: 1036 «يممت» والوزن يقتضى ما أثبته.
[3] فى ص، وف والسلوك 1: 1036 «وشاهدت» .
[4] سورة يوسف آية 31.
[5] سورة يوسف آية 99.(32/45)
أظلتّه سماء أديمها الحرير، ونجومها الذهب، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون، وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون، وكوفئت عن وطء الأحجار بالأمس فى سبيل الله بوطء الديباج فى هذا اليوم، وكادت الأيدى تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذى حملت إليه أكرم قوم، فرأى فيها جنّة أوردت من مناهلها كوثرا، وكان قد أنهى بين يديه حديث زينتها [1] فوجد خبرها يجاوز خبرا، ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السّرى، وتبرّجت عقائلها نزها للنواظر [48] ، وتظهر كلّ واحدة منهن فى وشى أبهى من الزواهر، ولبست جدرانها حلل السرور النّضرة، وأبرزت بعولتهن ما فى ذخائرهم ولم يسألوا نظرة إلى ميسرة- وما ثنت [2] أعطافها- كما أمست وجوه التهانى بها ضاحكة مستبشرة، ولمّا مر بسبلها حلا له ذلك النّور، ولمّا سلك بين قصريها تحقق الناس أن أيامه زادت على أيام الخلفاء؛ فإنها أنشأت قصرين وهذا أنشأ لها قصورا ما بها من قصور، فمن بروج تمنّت البدور لو كانت لها منازل، ومن قلاع لو تحصّن بها جان لما دارت عليه دوائر الدهر الغوائل، ومن قباب علت وليس لها غير الهمم من عمد، وضربت على السماحة والنّدى فما عدم مشيّدها حسن البناء ولا فقد، ومن عقود عقد لها على عرائس السعود، وتمكّنت فى الصّعود، ومن حلى لو ظفر بها الحسن بن سهل لاتخذ منها لجهاز ابنته على المأمون ما لا ألف مثله فى زمنه ولا عهد، ولو [3] رآه ابن طولون لاعتضد به فى إهداء عقيلته للمعتضد، ومن أواوين تزرى بإيوان كسرى الذى [4] تعظّم بناؤه وتحمّد، ويستصغر فى عين من رأى إيوانا واحدا من هذه، وكيف لا وذاك هدم فى زمن [49] محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا عمّر لنصرة محمد، وذاك أهلك بانيه وزجر، وهذا أيّد بانيه ونصر، ومن سواق
__________
[1] فى ص، السلوك 1: 1037 «رتبتها» والمثبت من ف.
[2] كذا فى ص، وفى السلوك 1037 «وماست» .
[3] فى ص، وف «ولا رآه» والمثبت يقتضيه السياق.
[4] فى ص، ف «التى» .(32/46)
جوار وجوار سواق، وآلات تبهر عند رؤية حدائقها الأحداق، ومن عروش وأشجار، ورياض نضرة تبهت الأبصار، قد أخذت من كل المحاسن بشطر، وحلت مذاقا. وكيف لا وقد سقيت بالقطر؟! ومن سفائن قد ترفعت حتى مرت فى الجوّ من بحر النسيم فى لجج، ومن عجائب إذا حدّث المرء عنها قيل له:
حدّث عن البحر ولا حرج، ومن شخوص بالألحاظ تغازل، ودمى تسحر العقول بسحر بابل، وصور يخيّل للرائى أنها تنطق، وأشكال وضعت صفة للحرب التى أضحت رايتها فى الآفاق تخفق، ومن هيبة للعدى التى أبادتها الأبطال، وأعدمت حقيقتها فلم يبق منها إلا مثال يبزر فى خيال، ومن جتور [1] ظهرت بها آية ملكه لمّا مرّت بنفسها على رأسه الكريم مر السحاب، وسارت بين السماء والأرض فلم تحتج مع سعادته إلى عمد ولا إلى أطناب، ومن فوسان جمّلّت [2] الجيوش المنصورة حيث لبست لأمة حربها، وأعتقلت رماحها وبارزت الأقران [50] فكان النصر من حزبها.
ومن أنواع احتفال يعجز عن وصفها البديع الفطن ولولا خوف الإطالة [3] لقلت ومن ومن إلى أن تنفد كلمة ومن.
والأمة يبذلون فى خدمته الجمل والتفاصيل، ويصنعون له ما يريد من النّزه، ويعملون ما شاءوا من تماثيل، والأسارى قد جعلوا بين يديه مقرنين فى الأصفاد، يشاهدون مدينة ماثلت إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ
[4] وهو- خلدّ الله سلطانه- يسير الهوينا، وينظر بعين حبره هذا المحفل، ويقبل، وأسراؤه بين يديه كالليث أقبل للفريسة ينقل [5] ، وهم
__________
[1] جتور- جمع جتر وهو مظلة أو قبة من حرير تحمل على رأس السلطان فى موكب الصيد (القلقشندى:
صبح الأعشى، ج 4، ص 7- 8) .
[2] فى ص، وف «خلت» ولعل الصواب ما أثبته.
[3] سقط فى ص، وف. والإضافة عن السلوك 1: 1038) .
[4] سورة الفجر الآيتان 7، 8.
[5] كذا فى ص، وف. والمعنى غير مفهوم.(32/47)
يشكرون حلمه [1] على السلامة من ريب المنون والأفواه تنطق بشكر الله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [2]
وقد بهتوا لما رأوه من نعم الله التى تنوّعت له- خلد الله ملكه- حتى أتت كلّ نعمة فى وقتها، وعظمت فى عيونهم آيات الله سبحانه، ولسان الأقدار يتلو وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [3]
فلما نظروا بالأمس فى إنجاد الملائكة للعساكر المنصورة آية كبرى، شاهدوا اليوم من سعادة هذا الملك الذى بنت له الأقدار بين السماء والأرض [51] مدينة فقالوا: هذه آية أخرى، واستقلّوا ما مرّوا به من المدائن والأمصار، وغدوا وعيونهم فى جنة وقلوبهم فى نار، واستصغروا ملكهم المخذول وملكه، وقالوا: غير عجيب لمن أقدم على هذا الملك أن يبدد جمعه، ويفرط سلكه، وتحققوا أنه من أوتى هذا السعد لا يؤخّر- إن شاء الله- إمساك كبيرهم وهلكه، ونودوا أن شاطروه فى السلاسل والقيود، والسيف يقول: ليس الأمر لمن يسمى- خديعة- محمودا، محمود ووصل مولانا السلطان تربة والده السلطان الشهيد- قدس الله روحه- وأمراؤه قد بذلوا فى محبته نفائس النفوس، وجزيل الأموال، وأخاير الذخائر، وركبوا بالأمس للمناضلة عن دولته فى سبيل الله، وقد بلغت القلوب الحناجر، وترجّلوا اليوم فى خدمته تعظيما لشعائر سلطنته، وطلعوا فى سماء المعالى كالنجوم الزواهر، وصعد- خلد الله ملكه- تربة والده- رضى الله عنه- وأنوار النصر على أعطاف مجده لائحة، ودخلها فلولا خرق العوائد لنهض من ضريحه وصافحه، وشكر مساعيه التى اتصّلت بها أعماله، وكيف لا وهى أعمال صالحة [52] ، وقصّ مولانا السلطان- خلد الله ملكه- عند قبره المبارك من غزوته أحسن القصص، وأسهم من بركة جهاده أوفر الحصص، فلو استطاع- رحمه الله- أن ينطق لقال:
هذا الولد البار، والملك الذى خلفنى وزاد فى نصرة الإسلام وكسر التّتار،
__________
[1] كذا فى ص، ف.
[2] سورة غافر آية 71.
[3] سورة الزخرف آية 48.(32/48)
ولو تمكّن- رضى الله عنه- لأخبره بما وجده من ثواب الجهاد فى جنات وعيون، وبشره بما أعدّه الله لمن فقد من المجاهدين فى هذه الغزاة المبرورة بين يديه، وتلا عليه وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[1] ولأثنى على امرائه الذين فعلوا من المصابرة والمحافظة ما أوجبه حسن التهذيب منه- رحمه الله- وجميل التربية، وشكر عزائمهم التى ما ناداها أهل مملكة لكشف خطب إلا أجابوهم بمواقع التّلبية، واعتدّ بطاعتهم للميّت والحىّ، وموالاتهم التى ذاعت فى كل ناد وحىّ، والقرّاء حول ضريحه يتلون آيات الله التى كان- رضى الله عنه- بها عاملا، ولم يزل ربع تقواه بها آهلا، فشمل مولانا السلطان- خلد الله ملكه- الأنام بالصدقات المتوفرة، [53] وسمح من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرة، وازدحمت الأمانى على سيبه كما ازدحمت الأعادى على سيفه، فكان كما قيل:
(قدّاح زند المجد لا تنفكّ من ... نار الوغى إلّا إلى نار [2] القرى)
وركب من التّربة الشريفة والرعايا يدعون بدوام دولته التى أضحت قواعد الأمن بها متينة، ويرتعون بالمدينة فى لهو ولعب وزينة.
وسار جواده بين حلىّ وحلل، فاستوقف الأبصار، فى مسلك حفّت به غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الأنهار.
وعاد إلى قلعته ظافرا عود الحلى إلى العاطل، وغدت ربوعه الموحشة لبعده بقربه أواهل، وطلعها فى أيمن طالع لا يحتاج معه إلى اختبار ولا رصد، وحلّت شمس ملكه فى برجها وكيف لا وهو فى برج الأسد، فالله تعالى يمتع الدنيا بملك حمى شاما ومصرا، وأذاق التتار بعزائمه مصائب تترى.
__________
[1] سورة آل عمران آية 169.
[2] البيت من مقصورة ابن دريد.(32/49)
وحسبنا الله ونعم الوكيل
ولما صنّف المولى علاء الدين هذه الغزاة، وعرضت [54] على المسامع الشريفة السلطانية شمله الأنعام والتشريف السلطانى، ووفر حظّه من ذلك، وقد سمعت هذه الغزوة من لفظه، ونقلتها من خطه، وقد أتى فيما أورده بالواقعة المشاهدة، ووفّى بقوله: إن الغائب إذا وقف على خبره يكون كمن شاهده.
وقد وقفت أيضا على جملة مما صنّفه الفضلاء فى خبر هذه الغزاة، وهذا الذى أوردته أتمّها وأكملها وأكثرها استيعابا للواقعة من ابتدائها إلى انتهائها.
فلذلك اقتصرت على إيرادها دون ما سواه.
وعمل أيضا الشعراء قصائد كثيرة يطول الشرح بإيرادها، وها نحن نذكر منها قصيدة نظمها القاضى الفاضل جمال الدين أبو بكر عبد القاهر بن الشيخ نجم الدين أبى عبد الله بن محمد بن عبد الواحد بن محمد التبريزى الشافعى قاضى عجلون وخطيبها وهى [1] :
__________
[1] روجعت القصيدة على النص الوارد فى كتاب «كنز الدرر وجامع الغرر» لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى بتحقيق هانس روبرت هويمر ج 9 طبعة الخانجى (ص 93- 100) .(32/50)
الله أكبر جاء النّصر والظّفر ... والحمد لله، هذا كنت أنتظر
وأبرز القدر المحتوم بارئه ... سبحانه بيديه النفع والضرر
وهوّن الصّعب بالفتح المبين لكم ... ربّ يهون عليه المقفل العسر
ولم تزل شرعة الإسلام ظاهرة ... أجزم به فبهذا صحّح الخبر
أين النجوم وتأثير القران وما ... تخرّصوا فيه من إفك وما زجروا
قد دبّر الله أمرا غير أمرهم ... وخاب ما زخرفوا فينا وما هجروا
وأقبل العسكر المنصور يقدمه ... من الملائك جند ليس تنحصر
وقد أحفّوا به والأرض من زجل [1] ... ترتجّ إن سبّحوا لله أو ذكروا
كنانة الله مصر جندها ثبتت ... لا ريب فيه وجند الله تنتصر
ثاروا سراعا إلى إدراك ثأرهم ... وهجّروا فى طلاب المجد وابتكروا
وأسهروا أعينا فى الله ما رقدت ... أكرم بقوم إذا نام الورى سهروا
لله كم ديّنوا فى نصر دينهموا ... وأنفقوا فى سبيل الله ما ادّخروا
صانوا الجياد وسنّوا كلّ ذى شطب [2] ... وجدّدت للقسىّ النّبل والوتر
حماهم الله كم حاموا وكم منعوا ... وكم أغاثوا وكم آووا وكم نصروا
وخلّفوا خلفهم لذّات أنفسهم ... وهاجروا ولذيذ العيش قد هجروا
وأوجفوا نفرا بالخيل ملجمة ... وبالركاب وما [3] ملّوا ولا فتروا
حتى أتوا جلّقا [4] فى يوم ملحمة ... فيه الأسود أسود الغاب تهتصر
__________
[1] فى ص، وف «رجل» والمثبت من المرجع السابق.
[2] ذو شطب: يعنى السيف. (لسان العرب) .
[3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «ولا» .
[4] جلق: لفظ أعجمى، يطلق على كورة الغوطة كلها، وقيل يطلق على دمشق، وقيل موضع بقرية من قرى دمشق (معجم البلدان 6: 154) .(32/51)
لها السّنابك فى الميدان قد حنيت ... صوالجا [1] ولها روس [2] العدا أكر [3]
والجوّ أغبر والتاتار [4] زاحفة ... مثل الجراد على الدنيا قد انتشروا
وددت لو كنت بين الصف منجدلا ... قد ارتوت من دمى الخطية السّمر
وكوثر الحرب قد راقت مشاربه ... تحت العجاجة والأبطال تعتكر [56] [5]
والسيف ينشى بديعا من فواتره ... والرّمح ينظم والهامات تنتثر
والنّبل يخقط والأقلام كاتبة ... والضرب يعرب والأبدان تستطر
حتى إذا عبّ مثل البحر جحفلنا ... ومدّ فيضا على أعدائنا جزروا
أصلوهم جاحما يشوى الوجوه وقد ... حمى الوطيس ونار الحرب تستعر
وأحرقتهم سراعا كلّ صاعقة ... من السيوف بنيران لها شرر
لاذوا بشمّ شماريخ الجبال فما ... حمتهم قلل منها ولا مغر [6]
ومزّقوا شردا [7] بين الزحام فكم ... شلو تنازع فيه الذئب النّمر
أين المفر وقد حام الحمام بهم ... هيهات لا ملجأ يرجى ولا وزر
نادى بهم صارخ أغرى الفناء بهم ... فإن سألت فلا خبر ولا خبر
كم قد سهرتم دجى من خوفهم حذرا ... والآن ناموا فلا خوف ولا حذر
قولوا لغازان يا ذا ما لعلّك أن ... تروع من مخلب الرّئبال يا بقر
__________
[1] الصوالج:/ جمع صولج وهو مضرب تضرب به الكرة، ويقال صلج الكرة إذا ضربها (محيط المحيط) .
[2] أى رءوس وخففت للوزن.
[3] الأكر- جمع أكرة، وهى لغة فى الكرة، وتعرف اليوم باسم بولو وشغف بهذه اللعبة معظم سلاطين المماليك وأمرائهم (كتاب السلوك للمقريزى، ج 1 ص 444، حاسية 1 للدكتور زيادة) .
[4] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «والأتراك.
[5] تعتكر: تختلط وتتشاجر (محيط المحيط) .
[6] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «صور» . ولعل الشاعر جمع مغارة على مغر.
[7] شرد: جمع شارد (لسان العرب) .(32/52)
تلك الجموع التى وافى يدلّ بها ... تالله ما بلغوا سؤلا ولا نصروا
جاءوا وقد حفروا من مكرهم قلبا [1] ... ألقاهم الله قسرا فى الذى حفروا
وسكّروا فى أراضينا مباذرة ... والآن قد حصدوا أضعاف ما بذروا
وافى بهم أجل يمشى على مهل ... حتّى محاهم فلا عين ولا أثر
لم ينفروا خيفة من كل قسورة ... وفرّ جمعهم إلّا وهم حمر
أموا الفرات وقد راموا النجاة فكم ... حلّت بهم عبر فيها وما اعتبروا
مرائر القوم من خوف قد انفطرت ... والكلّ من قبل عيد الفطر قد نحروا [57]
جميعهم قتّلوا صبرا [2] وأعظمهم ... جميعها بضواحى جلّق صبروا
لم يقبروا فى نواويس [3] ولا جدث ... وإنما فى بطون الوحّش قد قبروا
والطير ترعى نهارا لحمهم فإذا ... ما الليل جنّ ففى أقحافهم تكر
فخذ عزاءك فيهم إنّهم أمم ... هم اللّعاوس [4] إن قلّوا وإن كثروا
كم كابروا الحسّ فى قصد الشّام وكم ... قد جرّبوا حظّهم بالشام واختبروا
فقاتلوهم جميعا إنّهم تتر ... كم أرسلوا رسلهم تترى وكم مكروا
هبّوا إلى سيس من أحلام رقدتكم ... وسارعوا فى طلاب الثّأر وابتدروا
بكلّ غيران أخذ الرّوح همّته ... فى غير نفس المردّى ما له وطر
أيرقد اللّيل فى أمن وفى دعة ... عن كيد قوم لهم فى شأنكم سهر
__________
[1] القلب:/ جمع قليب للبئر أو البئر القديمة، أو للحفرة (محيط المحيط) .
[2] قتلوا صبرا أمسكوا ونصبوا للقتل، يقال للرجل يقدم فيضرب عنقه قتل صبرا (لسان العرب) .
[3] النواويس: جمع ناووس. وهو صندوق من خشب أو نحوه، تضع فيه النصارى جثة الميت. كذلك يقال لمقبرة النصار ناووس (المعجم الوسيط) .
[4] اللعاوس: جمع اللعوس، وهو الأكول الحريص، ومنه قيل للذئب لعوس (لسان العرب) .(32/53)
إن تتركوهم فإنّ القوم ما تركوا ... يوما عليكم ولا أبقوا ولم يذروا
أما رأيتم وعاينتم وقد فعلوا ... فى الصّالحيّة ما لا تفعل التّتر
اشفوا صدوركم إن كنتم غيرّا ... على نسائكم يا قوم وادّكروا [1]
كم من عجوز ومن شيخ ومكتهل ... ومن فتاة نماها الحسن والخفر
بيضاء خرعوبة [2] بكر محجّبة ... لا الشمس تنظرها صونا ولا القمر
وذات بعل مخبّاة مخدّرة ... من دونها تضرب الأستار قد أسروا
ومطفل أثكلوا وجدا بمخولها [3] ... وحامل أجهضت خوفا وقد ذكروا
ومربع أقفروا من بعد ساكنه ... وعقد شمل نظيم جامع نثروا [58]
وكم أراقوا وكم ساقوا وكم هتكوا ... وكم تملّوا بما نالوا وكم فجروا
وحرّقوا فى نواحيها فواحربا ... وخرّبوا الشامخ العالى وكم دثروا
وجامع التوبة [4] المحروق مهجته ... يشير لا توبة للقوم إن ظفروا
إشارة تترك الأنفاس صاعدة ... لها الدّموع من الآماق تنحدر
لهم حزازات فى قلبى مخبّاة ... تكاد من حرّها الأكباد تنفطر
فما يثبّطكم [5] عن أخذ ثأركم ... هبّوا سراعا وخافوا اللّوم يا غير
وفّوهم الحرب إنصافا ومعدلة ... وحرّروا نوب الأيّام واعتبروا
__________
[1] ادّكروا: أى تذكروا واتعظوا (لسان العرب) .
[2] الخرعوبة: الشابة الحسنة الخلق، الرخصة البيضاء الجسيمة (محيط المحيط) .
[3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «بواحدها» .
[4] جامع التوبة: ويقع بالعقيبة، أنشأه الملك الأشرف أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر ابن أيوب فى سنة 632 هـ، وكان يعرف قديما بخان الزنجارى، وكان به كل مكروه من القيان وغيره (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 426) .
[5] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «فما قعادكم عن أخذ ثأركم» .(32/54)
لا يظلمن بعضكم بعضا بخردلة ... ولا يدع عنده حقّا ولا يذر
وسارعوا واقتلوهم إنّهم قتلوا ... وبادروا وأسروهم مثلما أسروا
جوسوا [1] ديارهم واسبوا حريمهم ... وأوقروا ضعف ما أوعوا وما وقروا
سجلا [2] بسجل فإنّ الدّهر ذو نوب ... من ذا يغالب ما يأتى به القدر
بزّوهم [3] الملك قهرا عن جواركم ... وخرّبوا كلّ ما شادوا وما عمروا
فما [4] يفكر فى أدبار عاقبة ... ويحزم الأمر إلّا من له نظر
ولا يعاف شراب الذّل عن ظمأ ... ويومق [5] العزّ إلّا من له خطر
فمهّدوا بالظّبا مجرى سوابقكم ... ما يرفع الذّكر إلا الصّارم الذكر
وخلّدوا فى المعالى ما نعنعنه [6] ... عنكم وتروى به الأخبار والسّير
فكلّ ذنب جناه الدهر معتمدا ... فى جنب ما أبقت الأيّام مغتفر [59]
يا أهل جلّق أمنا فى مساكنكم ... وعاملوا الله ربّ العرش وانزجروا
صوموا وصلّوا وزكّوا وارحموا وصلوا ... وابغوا النّجاة وحجّوا البيت واعتمروا
ذروا [7] التّكاثر فالدّنيا لمن زويت ... فى جنب ما وعد الرّحمن تحتقر
فالوقت أقرب والأنفاس سائرة ... والعمر [8] منصرم والمرء محتضر
ولا تخافوا من التاتار مجلبة ... من بعد ما ارتفع التدليس والغرر [9]
__________
[1] كذا فى ص، وف وفى كنز الدرر «وخربوا دارهم إلخ» .
[2] سجلا بسجل: أى نصيبا بنصيب، ومنه الحرب سجال (لسان العرب) .
[3] بزوهم: يقال بز الشئ إذا انتزعه وغصبه وسلبه (لسان العرب) .
[4] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «فما يفكر فى الأدبار عاقبة) .
[5] يومق: يرغب، يحب، يود (لسان العرب) .
[6] نعنعنه: عنعن الراوى قال فى روايته عن فلن عن فلان إلخ. (المعجم الوسيط) .
[7] كذا فى ص، وفى كنز الدرر «دعوا التكاثر» .
[8] كذا فى ص، وف كنز الدرر «والعيش منصرم والعمر مختصر» .
[9] الغرر: يعنى المخادعة «لسان العرب» .(32/55)
لم يطلبوا جلّقا بغيا بظلمهم ... إلا وردّوا على الأعقاب وانكسروا
حاشا دمشق من الأسواء [1] تطرقها ... أو أن تغيّرها عن وصفها الغير
ملائك الله تحميها وتحرسها ... تعاقبا ولها من ربّها خفر
وفى جوار خليل الله ما برحت ... وحضرة القدس قل لى: كيف تحتقر
بالله عدوى [2] على من رامها بأذى ... وبالخليفة والسلطان أنتصر
هما ملاذكم فى كلّ نائبة ... بالرّوح أفديهما والسمع والبصر
إذا [3] تأمّلت فحوى سر حكمهما ... لم تدر أيّهما فى عدله عمر
ولو رأيتهما يوما لخالك أن ... موسى بن عمران قد وافاك والخضر
هما رضيعا لبان عفّة وتقى ... وحسن ذكر شذاه فائح عطر
فذا [4] مليك لكم طابت أرومته ... وذا أمير بأمر الله يأتمر
أبو الربيع سليمان الذى شهدت ... بفضله المستفاض [5] البدو والحضر
وزمزم والصّفا والمأزمان [6] معا ... والبيت يعرفه والحجر والحجر [60]
خليفة الله فى الدنيا وطاعته ... فرض عليكم وهذا القول مختصر
ما زال مستكفيا بالله معتصما ... مستنصرا مستعينا وهو منتصر
لولاه فى الأرض قد مادت جوانبها ... وما سقاها إذا غيث ولا مطر
__________
[1] الأسواء- جمع السوء: وهو القبيح (المعجم الوسيط) .
[2] بالله عدوى: أى بالله مسعاى.
[3] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «لما تألمت» .
[4] كذا فى ص، وف. كنز الدرر «فذاك ملك» .
[5] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «المستقام» .
[6] المأزمان: تثنية مأزم. وهو مكان بمكة بين المشعر الحرام وعرفه، وقيل هما جبلا مكة (معجم البلدان) ويقول البلازرى فى معالم مكة ص 241 هو طريق ضيق بين الجيلين يأتى من المزدلفة من جهة عرفة، يدفع الحاج من عرفة إلى المزدلفة إلا منه.(32/56)
خليفة من بنى العباس باقية ... به إلى الله نستسقى فنمتطر
ضاهت يداه عهاد [1] الغيث فانهملت ... والغيث مندفق الشؤبوب [2] منهمر
لو مسّ عودا يبيسا بطن راحته ... أعاده وهو رطب يانع خضر
ماذا أقول بمدحيه وقد تليت ... فى مدح آبائه الآيات والسّور
جاءت بنعتهم التوراة معربة ... ومحكم الذّكر والإنجيل والزّبر
به إلى الله ضجّوا فى حوائجكم ... وبعده بالمليك الناصر انتصروا
ملك أعيد به عصر الشّباب لكم ... مسترغدا [3] صافيا واستؤنف العمر
ترى الملوك صفوفا حوله زمرا ... من فرط هيبته لا يرجع البصر
تذلّ أعناقهم صغرى لطاعته ... وليس يعصونه أمرا إذا أمروا
صونوا جيادكم اللّاتى بكم لجبت [4] ... فى بارق الحرب والرمضاء تستعر
إنّا لنرجوه من بغداد ينهلها ... بماء دجلة يرويها فتصطدر
ويجمع الشمل فى دار السّلام بمن ... يودّها ويؤدون الذى نذروا
يؤمّها وإمام المسلمين معا ... ثقوا بقولى فهذا منه منتظر
فالشام وافاه مع بغداد فى قرن [5] ... ومصر فى ملكه والبرّ والبحر [61]
والعرب والعجم فى ميمون قبضته ... ومن سطى بأسه قد حارت التتر
تنشّروا فى الفلا سود الوجوه وقد ... طوى بأبيضه البتّار ما نشروا
__________
[1] عهاد الغيث: المطر الأول (لسان العرب) .
[2] الشؤبوب: الدفعة من المطر (لسان العرب) .
[3] كذا فى ص، وفى. وفى كنز الدرر «مستوردا صافيا واستوفق العمر» .
[4] فى ص، وف «هميت» ولعل الصواب ما أثبته. واللجب صهيل الخيل.
[5] فى قرن: أى مجتمعة من قرى ى ى ى ى ى ى بالشئ إذا ضمهما بحبل ونحوه (لسان العرب) .(32/57)
فدام للدّين والدنيا يسوسهما ... فكنّ فيه له حزر ومستتر
وعمره الجمّ أعياد مجدّدة ... وأشهر بعزيز النصر تشتهر
على الدّوام ولا زالت مدائحه ... تفشى وغرّ القوافى فيه تبتكر
وافاكم بعزيز النّصر فى نفر ... وقاهم الله. ما أو فاهم نفر
قد [1] أيقنوا أنهم جادوا بأنفسهم ... من أجل ذا ظهر الإسلام مذ ظهروا
كم فرّجوا مأزقا ضنكا بمعترك ... وكابدوا فى مجال الموت واصطبروا
فبيّض الله منهم أوجها كرمت ... فإنّهم بالأيادى البيض قد غمروا
وحاطهم أين ما كانوا ولا برحوا ... فى ذمّة الله إن غابوا وإن حضروا
هذا ما كان من خبر هذه الغزوة المباركة ونبذة مما قيل فيها، فلنرجع إلى سياق حوادث سنة اثنتين وما وقع فيها خلاف ما قدمناه. وفى سنة اثنتين وسبعمائة صام الحنابلة من أول شهر رمضان على عادتهم فى الاحتياط، واستكمل الشافعية والمالكية عدّة شعبان [62] ، فلما مضى ثلاثون يوما من صوم الحنابلة لم ير الهلال فأفطروا تكملة للعدّة من يوم صيامهم، وأقاموا الخطبة، وصلّوا صلاة العيد، وصام من عداهم من الشافعية وغيرهم ذلك اليوم الذى عيّد فيه الحنابلة وعيّدوا فى اليوم الثانى. وأقاموا الخطبة، فحصل الإنكار الشديد من نائب السّلطنة فى الشام على متوّلّى نابلس، وهو يومئذ:
بدر الدين الصّوابى؛ كونه مكّن من ذلك ولم يجمع الناس على يوم واحد، ولم يسمع بمثل هذه الوقائع فى بلد واحد. وأما البلاد المتباعدة فقد تختلف مطالعها.
ومن غريب ما وقع فى شهر رمضان ما حكاه ناصر الدين محمد بن عليا بن محمود ابن سليمة الأغرناطى: أنّ أهل أغرناطة [2] صاموا فى بعض السنين
__________
[1] كذا فى ص، وف. وفى كنز الدرر «قد أبطنوا» .
[2] أغرناطة: هى غرناطة من أشهر مدن الأندلس وكانت مركزا حضاريا فى عهد حكامها وأعظمها وأحسنها وأحصنها، تقع فى كورة البيرة، ومن أهم أثارها العربية قصر الحمراء الذى يعد رائعة الأندلس (ياقوت:
معجم البلدان) .(32/58)
شهر رمضان ستة وعشرين يوما. وذلك أنّ الغيوم تراكمت عندهم عدّة شهور قبل شهر رمضان. فاستكملوا عدتها وصاموا شهر رمضان بعد استكمال شعبان وما قبله. ومن عادة أغرناطة أنّ أهلها يحتفلون فى ليلة السابع والعشرين [1] من شهر رمضان، يوقدون المآذن كما تفعل أهل مصر والشام فى نصف شعبان، فلما صعدوا ليوقدوا المآذن- على عادتهم- أقلعت الغيوم فرأوا الهلال وهو هلال شوال؛ فأفطر الناس وعيّدوا، وقضوا صيام أربعة أيام، وهذا أيضا غريب.
ومن غريب الاتفاق فى رؤية الهلال أن الناس بدمشق طلعوا إلى المئذنة لارتقاب هلال رمضان، والحاكم يومئذ بالشام قاضى القضاة شهاب الدين الحموى، وكانت الغيوم قد عمّت السماء، فطلع الناس للعادة مع تحقيقهم أنهم لا يرون شيئا، فاتفق عند ارتقابهم مطلع الهلال انفراج دائرة من الغيم ظهر من تحتها الهلال، فلما عاينه الناس التأم الغيم لوقته، وصام الناس عن رؤية ويقين، وما علمت كان هذا فى أى سنة وإنما نقله لى ثقة أرجع إلى نقله.
ذكر حدوث الزلزلة
وفى يوم الخميس الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة عند طلوع الشمس، حدثت زلزلة عظيمة بالقاهرة ومصر وأعمال الديار المصرية كلها، ودمشق والشام أجمع والسّواحل والجبال الشامية، وكان معظمها بالديار المصرية، فهدمت منائر كثيرة، منها: منائر الجامع الحاكمى وشعّثته، وهدمت بعض جدرانه، وتشقّقت مئذنة المدرسة المنصورية على عظمها، وإتقان بنائها، حتى دعت الضرورة إلى هدمها وإعادتها، وهدمت منارة الجامع الظافرى بالقاهرة [2] ومنارة الجامع الصالحى وغير ذلك، وشعثت جدر جامع عمرو بن العاص بمصر، وانهدم بسببها كثير من العمائر، وأقامت مقدار مضى خمس درج، وكانت مزعجة، وأثرّت بالإسكندرية أثرا عظيما هدمت أكثر المنارات وبعض الأسواق وغرق جماعة كثيرة عند مده وعوده وعدم قماش التجار وجزر
__________
[1] هنا ينتهى السقط فى ك.
[2] هذا اللفظ من ص.(32/59)
البحر الملح حال الزلزلة، وانطرد عن مكانه. ثم مدّ حتى دخل الصناعة، ووصل إلى الأسوار الذى كان عند القصارين بجملته، وأثرّت هذه الزلزلة بصفّد أثرا عظيما، وسقط جانب من قلعتها، وانطرد البحر بعكّا حتى انكشف ما بين عكّا وبرج الذّبّان [1] الذى بالبحر [2] ومسافته بعيدة، وظهر أنه كان [3] بساحلها أشياء مما ألقاه أهل عكّا فى البحر لما حاصرها المسلمون، فتبادر من كان هناك بالنزول لأخذ ما ظهر لهم، فجاء الماء أمثال الجبال فغرقوا، ووصل فى مدّه إلى قرب تل الفضول، وخربت دمنهور الوحش- وهذه مدينة أعمال البحيرة- خرابا شنيعا؛ وأبيارا [4] ، وغير ذلك من البلاد، ولعظم هذه الزلزلة بالديار المصرية أرّخ كثير من العوامّ بها فهم يذكرونها إلى وقتنا هذا.
ولمّا أثّرت هذه الزلزلة بالجوامع ما أثّرت، اهتمّ الأمراء بالديار المصرية بها، فعمرّ الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة ما تشعّث بجامع عمرو بن العاص بمصر، وعمّر ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، جامع الحاكم بالقاهرة، وجدد مآذنه وسقوفه، وبيّضه وبلّطه، وأصلحه إصلاحا جيّدا حتى عاد أحسن مما كان، ووقف عليه أوقافا متوفرة، ورتّب فيه من الدروس ووجوه البرّ والخير ما نذكره إن شاء الله تعالى فى سنة ثلاث وسبعمائة.
وأعيدت المئذنة المنصورية من مال الوقف ليصرفه، وصرف فى عمارتها فى نصفها الذى هدم وهو من سطح القبّة إلى انتهائها ما عدا ما يقارب تسعين ألف درهم، خارجا عمّا استعمل من أحجارها المنقوضة منها، وعن تفاوت أجر الأسرى وما حمل على ذوات [5] مرمات الوقف.
__________
[1] برج الذبان: برج فى وسط البحر مبنى على الصخر على جانبى ميناء يحرص به ومتى عبره الراكب أمن غائلة العدو (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لابن شداد ص 217) .
[2] فى ص، وف «فى البحر» .
[3] كذا فى ك، وف. وعبارة ص «وظهر لبعض من كان- إلخ» .
[4] أبيار: هى بلدة من بلاد محافظة الغربية، وتقع على بحر سيف شرقى كفر الزيات (على مبارك: الخطط التوفيقية 8: 28، محمد رمزى: القاموس الجغرافى، ج 2، ق 2، ص 119) .
[5] فى ك «دواب» والمثبت من ص، وف.(32/60)
وندب لعمارتها الأمير سيف الدين كهرداش الناصرى، وعادت أحسن ما كانت، وعمّر ما تشعّث من الجامع الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وعمّر الجامع الصّالحى الذى هو خارج باب زويلة، والجامع الظافرى من الأبواب السلطانية، وعمرت سائر الأماكن والمساجد [12] التى تهدمت بالقاهرة ومصر حتى عادت أحسن مما كانت والحمد لله وحده [1] .
وفى هذه السنة توفّى فارس الدين ألبكى الساقى المنصورى [2] ، نائب السّلطنة بحمص، فى يوم الثلاثاء ثامن ذى القعدة بها، وفوضّت نيابة السّلطنة بحمص بعده إلى الأمير عز الدين أيبك الحموى الظاهرى نقل إليها من صرخد.
وتوفّى الأمير سيف الدين سنقر العين تابى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق فى ليلة الجمعة ثامن عشر ذى القعدة، ودفق بسفح قاسيون رحمه الله، وتوفّى بدمشق الشيخ الفاضل كمال الدين أبو العباس أحمد بن أبى الفتح محمود الشّيبانى المعروف بابن العطار [3] ، أحد أعيان كتّاب الدّرج بدمشق، وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من ذى القعدة، وصلّى عليه بالجامع، الرابعة من النهار، ودفن بتربته بقاسيون، وكان رحمه الله تعالى فاضلا ديّنا خيّرا، سمع الكثير من الحديث النبوى، وله نظم ونثر.
ذكر وفاة الأمير زين الدين كتبغا المنصورى وهو الملك العادل [4]
كانت وفاته يوم الجمعة- رحمه الله تعالى- وهو يوم عيد الأضحى من سنة اثنتين وسبعمائة بحماه، ونقل منها ودفن بتربته بجبل الصالحية بدمشق،
__________
[1] فى ص «والحمد لله تعالى» .
[2] هو ألبكى بن عبد الله الظاهرى- الأمير فارس الدين (الوافى بالوفيات 9: 351، والدرر الكامنة 1: 432، والنجوم الزاهرة 8: 96، والدليل الشافى 1: 147) .
[3] وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 8: 167، والبداية والنهاية 14: 27، والنجوم الزاهرة 8: 203، والدليل الشافى 1: 88.
[4] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 27، والدرر الكامنة 3: 348، والنجوم الزاهرة 8: 55- 70، والدليل الشافى 2: 553، وشذرات الذهب 6: 5.(32/61)
وقد قدّمنا من أخباره وتنقلاته وتقلب الأيام به من الأسر فى حال شبيبته والمبيع، ثم الإمرة ونيابة السلطنة، ثم السّلطنة والخلع، والإمرة والنّيابة عن السّلطنة بحماه ما يستغنى عن إعادته.
ولمّا مات فوّضت نيابة السّلطنة بحماه بعده إلى الأمير سيف الدين فبجاق المنصورى، نقل إليها من نيابة الشوبك- والله أعلم.
واستهلت سنة ثلاث وسبعمائة.
ذكر الجلوس بالمدرسة الناصرية [1] والقبة وأوقاف ذلك وشروطه
فى هذه السنة فى أوّلها فتحت المدرسة المباركة النّاصرية، والقبّة الشريفة، وانتصب المدرسون والفقهاء بالمدرسة، والقراء بالقبّة، وجلس شيخ الحديث برواق القبة- وفوّض التدريس بالمدرسة لمن نذكرهم، وهم: قاضى القضاة زين الدين على المالكى [2] ، والطائفة المالكية جلسوا فى الايوان القبلى بالمدرسة بمقتضى شرط الواقف لهم، وقاضى القضاة شمس الدّين أحمد السروجى [3] الحنفى، والطائفة الحنفية جلسوا فى الإيوان الغربى، وقاضى القضاة شرف الدين عبد الغنى الحرانى الحنبلى [4] ، والطائفة الحنابلة بالايوان الشرقى وكان جلوسهما بهذين الإيوانين بخلاف شرط الواقف، فإنه جعل الإيوان
__________
[1] المدرسة الناصرية: نسبة إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان أصلها دارا عرفت بالأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، واشتراها الملك العادل كتبغا وشرع فى بنائها مدرسة ولكنه خلع قبل أن يتمها واشتراها الناصر محمد وأتمها، وعمل لها الأوقاف الجليلة. ومكانها حاليا بشارع المعز لدين الله الفاطمى بجوار مسجد ومستشفى قلاوون (المقريزى. المواعظ، ج 2، ص 382، الخطط التوفيقية، والسلوك 1: 951) .
[2] هو على بن مخلوف بن ناهض النويرى، زين الدين. توفى سنة 713 هـ على الخلاف، وانظر الدرر الكامنة 3: 202، والدليل الشافى 1: 484، وحسن المحاضرة: 1: 458 وشذرات الذهب 6: 49.
[3] هو أحمد بن إبراهيم بن عبد الغنى الحنفى، شمس الدين أبو العباس السروجى المتوفى سنة 710. (انظر البداية والنهاية 14: 60، والدرر الكامنة 1: 91، والطبقات السنية 1: 300، والدليل الشافى 1: 234) .
[4] هو عبد الغنى بن يحيى بن محمد بن أبى بكر بن عبد الله بن نصر بن محمد بن أبى بكر الحرانى الحنبلى، المتوفى سنة 709 هـ (انظر البداية والنهاية 14: 56، والدرر الكامنة 2: 498، وحسن المحاضرة 6: 481، 2: 191، والنجوم الزاهرة 8: 278، والدليل الشافى 1: 421) .(32/62)
الشرقى للحنفية، والإيوان الغربى للحنابلة، فجلسا على عكس الشرط، ولعل ذلك عن غير قصد، ثم انتقض ذلك على ما نذكره.
وجلست كل طائفة منها فى المكان المعيّن لها بشرط الواقف، وجلس القاضى صدر الدّين محمّد بن الشيخ زين الدين المعروف بابن المرحّل [1] ، والطائفة الشّافعية بالإيوان البحرى، وحضر درسه الأمير عز الدين أيبك البغدادى وزير الدّولة ومدبّرها.
وهذه المدرسة والقبة كان أنشأهما الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى فى أيام سلطنته، واشترى أرضهما، وكانت دارا تعرف بالرشيدى، وحمّاما ومساكن، [13] فابتاع ذلك وهدمه، وأنشأقبّة ومدرسة. وكملت عمارة القبة، وبنى من المدرسة إيوانها القبلىّ وبعض ما يليه، ثم خلع الملك العادل من السلطنة- كما تقدم- فغلّقت المدرسة وبطلت عمارتها، فلما عاد السلطان الملك النّاصر إلى السلطنة ثانيا فى سنة ثمان وتسعين وستمائة. حسّن له قاضى القضاة زين الدين المالكى ابتياعها وتكملة عمارتها وإتقانها، فابتاعها وعوّض الملك العادل، عن ثمنها حصصا من ضياع من أملاكه بدمشق، وحصل الشروع فى عمارتها، وعيّن لها من الأملاك السلطانية ما يوقف عليها، وكان المعيّن لذلك قاضى القضاة زين الدين المالكى، وهو يومئذ ناظر الأملاك السلطانية التى ورثها السلطان عن والده وإخوته، والمبتاعة من أجر أملاكه، وكانت أجرتها فى كل شهر بالقاهرة وظواهرها خاصة تزيد على ثمانية عشر ألف درهم.
ولما عزم السلطان على الحركة إلى الشام للقاء غازان وحزبه عند طروقه الشام وقف القبّة والمدرسة، ووقف على مصالحهما من أملاكه [2] ما يذكر،
__________
[1] هو محمد بن عمر بن مكى بن عبد الصمد صدر الدين ابن المرحل، المتوفى سنة 716 هـ (انظر الوافى بالوفيات 4: 264، وفوات الوفيات 4: 13، والدرر الكامنة 4: 234، والبداية والنهاية 14: 80، وطبقات الشافعية 9: 53، والنجوم الزاهرة 9: 233، وذيول العبر ص 90، والدليل الشافى 2: 668، وحسن المحاضرة 1: 419.
[2] «ومن أملاكه» ساقطة من ك، والمثبت من ص، وف.(32/63)
وذلك فى الثانى والعشرين من ذى الحجة سنة ثمان وتسعين وستمائة قبل استقلال ركابه الشريف إلى الشام بيومين، وكان قاضى القضاة زين الدين قد رتّب كتاب وقف [1] ، جعل النظر فيه على الوقف، والمدرسة والقبّة لنفسه أيام حياته، ثم من بعده للأرشد فالأرشد من أولاده وأولادهم وذريّتهم، ثم من بعدهم لقاضى القضاة المالكى، وشرط أيضا التدريس فى إيوان المالكية لنفسه ولأولاده من بعده، وكتب الكتاب ووقع الإشهاد على السلطان فيه بذلك، فضاق شهاب الدين أحمد بن عبادة من ذلك، وكان قاضى القضاة زين الدين قد استخدمه مشارفا بالديوان الناصرى، وتقدم عند السلطان، وأوضح للسلطان أمر الوقف وبيّنه له، وقال: إن قاضى القضاة إنّما جعل هذا لنفسه ولأولاده وذرّيّته ولم يجعل للسلطان ولا لعتقائه فى ذلك شيئا، وحسّن للسلطان تغيير كتاب الوقف، وأن يجعل النظر فيه لعتيقه الطواشى شجاع الدين عنبر اللّالا ومن بعده للأمثل فالأمثل من عتقاء الواقف، ثم عتقاء والده؛ ففعل ذلك، وجعل له أن يتناول من ريع الوقف المذكور فى كل شهر ثلاثمائة درهم نقرة [2] مدة حياته.
وجعل لمن يؤول النظر إليه بعده فى كل شهر مائتى درهم، وأبطل الكتاب الأوّل وثبّت الكتاب الثانى.
وسألت شهاب الدين بن عبادة عن السبب الحامل له على إخراج النظر عن قاضى القضاة ونقله إلى غيره. فقال: إنه جعل النّظر والتّدريس لنفسه ولأولاده من بعده، وما جعل لى منه نصيبا، ولا ذكر لى وظيفة، وكنت طلبت منه أن يجعلنى مشارفا بشرط الواقف فشحّ علىّ بذلك، فأخرجت النّظر عنه وعن ذرّيته.
وقد رأيت أن أذكر ملخّص ما تضمّنه كتاب وقف القبّة والمدرسة، وما رتب فيهما فيه من أرباب الوظائف، وما شرط لهم من المعلوم، وما شرط
__________
[1] كذا فى ص، وف وفى ك «وقفه» .
[2] الدراهم النقرة: الأصل فيها أن يكون ثلثاها من فضة، وثلثها من نحاس، وتضرب بدور الضرب وتطبع بالسكة السلطانية، وتكون منها دراهم صحاح، وفراضات مكسرة، والعبرة فى وزنها بالدراهم، وهو معتبر بأربعة وعشرين قيراطا وقدر بست عشرة حبة من حب الخروب، فتكون كل خروبتين ثمن درهم، وهى أربع حبات من حب البر المعتدل (صبح الأعشى 3: 443) .(32/64)
عليهم، والجهات الموقوفة على ذلك، وما يتحصل من أجورها فى كل شهر وألخص المقاصد فيه مع عدم الإخلال بها، ولا أحذف منها إلّا حشو الكتاب الذى لا يخل حذفه بالمعنى، وأورد ذلك بمقتضى كتاب الوقف وارتفاع الجهات الموقوفة بمقتضى حساب المباشرين، والذى حملنى على ذلك وأوجب لى إيراده فى هذا الكتاب مع ما فيه من الإطالة والخروج عن القاعدة التاريخية ما وقع فى مثل ذلك من إخفاء كتب الأوقاف إذا تطاول عليها المدد، وبعد العهد بالأوقاف والشروط، وتداولها النّظّار والمباشرون واستولوا على الأوقاف وغيّروا المصارف عن شروط الواقفين، ونسبوها إلى العادة، فيخرج عن شرط الواقف إلى رأى المباشرين [1] ، وعادة الصرف. ثم بعثنى على ذلك وأكّده عندى ما وقع فى هذه المدرسة المباركة فى ابتداء أمرها مع بقاء واقفها- خلد الله سلطانه- وتوفر الداعى على ملاحظتها، ونصب [2] قضاة القضاة وأعيان العلماء ونبلاء الفقهاء فى دروسها، ومع ذلك كلّه حصل الخروج فيها عن شرط واقفها فى كثير من أحوالها، واختصر المرتب عن شرط الواقف مع توفّر المال وزيادته عن كفاية الشروط، وإنما ظهر ذلك عند وفاة ناظرها الطواشى شجاع الدين فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وظهور كتاب الوقف، ولعلّ الناظر المذكور لم يفعل ذلك عن علم واطلاع على الشّروط، وإنما فعله عن اغفال وإهمال وجهل وعدم احتفال بإمعان النظر فيما أسند إليه، واعتمد فيه عليه [14] ، فلما أسند النّظر إلى أهله، وانتهى إلى من يتحرىّ الصّواب فى قوله وفعله، أجرى الأمور فيها على شرط واقفها، وصرف أموالها فى وجوه مصارفها، وما عدل عن شرط الواقف ولا خرج، ولا اعتمد ما يترتب عليه فيه أدنى حرج [3] ، والذى تضمنه كتاب الوقف الثانى الصادر عن مولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين أبى المعالى محمد بن السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الصالحى- خلد الله تعالى سلطانه، وأفاض على الكافة عدله وإحسانه- أنه وقف جميع المكان أرضا وبناء، وما هو من حقوقه،
__________
[1] فى ص «المباشر» .
[2] ما بين الرقمين بياض ك. وما أثبته من ص، وف والسلوك 1: 1042.
[3] فى ك، وف «إذا خرج» والتصويب من ص.(32/65)
والساحة التى هى أمام المكان المذكور التى هى من حقوقه، وذلك بعد أن كملت عمارة القبة، وقبل أن تكمل عمارة المدرسة، وشرط تكملة عمارتها وإنشاء المئذنة، فقال بعد الوصف لها والتحديد ما معناه [1] بعد ذكر ألفاظه وتحرير مقاصده:
أمّا القبّة فإنه وقفها للقرّاء بها، وشيخ الحديث
والإمام والمؤذنين والقومة والفراشين والخدّام والمترددين والمجتازين [2] لها للصلوات وأداء الفرائض والواجبات، وسماع [3] القرآن العظيم وحديث النبى- صلى الله عليه وسلم- خلا موضع الضّريح الذى بوسط القبة فإنّه مرصد للدّفن، وخلّى بينهم وبين القبّة المذكورة، وأذن لهم فى الدخول إليها والصلاة فيها على العادة فى مثل ذلك، فصار لا حقّ له فيها إلا كسائر الناس أجمعين، وجعل للناظر أن يرتّب بالقبة المذكورة إماما يؤمّ بالمسلمين فى الصلوات الخمس، ويفعل ما يفعله الأئمة على ما يراه الناظر من المذاهب، ويؤدى إليه اجتهاده، ويصرف له فى كل شهر- بالهلال- ثمانين درهما أو ما يقوم مقامها، ويرتّب فيها شيخا لإقراء الحديث النّبوى ينتصب فى المكان الذى يعيّنه الناظر منها فى الوقت الذى يجعله له لمن يقصده، ويشغل عليه به، أو لسماع الحديث وتصحيحه، ويصرف له من ريع الوقف فى كل شهر ثلاثين درهما نقرة ويرتب بها من القراء الحافظين لكتاب الله العزيز خمسة وعشرين نفرا على ما يراه فى ترتيبهم فى النوبة، يقرءون ما تيسر لهم قراءته ليلا ونهارا فى الوقت الذى يعيّنه لهم ويدعون عقيب قراءتهم للواقف ووالديه بالرحمة والرضوان وجميع المسلمين، ويصرف لهم فى كل شهر خمسمائة درهم بينهم على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويرتّب بالقبة والمدرسة من المؤذنين ثمانية نفر يجعل من العدد رئيسين [4] عارفين بالأوقاف يعلنون بالأذان الشرعى فى المئذنة التى تنشأ على الباب ليلا ونهارا وإقامة الصلوات والتسبيح، والتذكار فى الأسحار
__________
[1] كذا فى ك، وف. وفى ص «مع ذكر بعض ألفاظه» .
[2] فى ك «والمجتازين» والمثبت من ص، وف، والسلوك 1: 1043.
[3] كذا فى ك، وف. وفى ص «واستماع» .
[4] فى ك «رقيبين» والمثبت من ص، والسلوك 1: 1044.(32/66)
على ما يراه الناظر متناوبين أو مجتمعين، وعلى ما يراه من ترتيبهم فى القبة والمدرسة، ويصرف لهم فى كل شهر مائتى درهم وثلاثين درهما نقرة يصرف للرئيسين فى كل شهر ثمانين درهما على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويصرف للستّة الباقين فى كل شهر مائة درهم وخمسين درهما على ما يراه من التسوية والتفضيل، ويرتب بالقبة من القومة اثنين يقومان بخدمة القبة المذكورة والإيوان والساحة التى من حقوقها، ووقود مصابيحها، والكنس والتنظيف والغسل للصحن المرخم، ودائره والسقاية التى للقبّة وإماطة الأذى عن ظاهرها كعادة القومة فى مثل ذلك. ويصرف لهما فى كل شهر ثمانية وخمسين درهما نقرة أو ما يقوم مقامها على ما يراه من التسوية والتفضيل.
ويرتب بها ثلاثة من الفراشين الذين خبروا الخدمة، يقومون بفرش القبّة المذكورة، ورفع فرشها فى الأوقات المعهود ذلك فيها، ويفعلون ما يفعله مثلهم فى مثل ذلك، ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم وواحدا [1] وستين درهما نقرة، من ذلك ما يصرف للحاج صبيح القطبى أحد الفراشين مائة درهم نقرة فى كل شهر، أو ما يقوم مقامها من النقود مادام حيّا مباشرا، وباقيها لرفيقيه [2] بينهما على ما يراه الناظر من التسوية والتفضيل. فإن توفّى صبيح المذكور، أو تعذر مباشرته بسبب من الأسباب وزال استحقاقه عوّض الناظر مكانه غيره من شاء [3] ، ويصرف له أسوة برفيقيه [15] والباقى منه يعود فى مصالح الوقف.
ويرتب بها أربعة من الخدام من عتقاء الواقف، فإن لم يوجد من عتقائه فمن عتقاء والده. ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم وستين درهما على ما يراه الناظر من التسوية والتفضيل، فإن لم يوجد من عتقائه ولا عتقاء والده وتعذرت مباشرة الخدام بوجه من وجوه التّعذّرات رجع ما كان يصرف لهم على المصالح المذكورة.
__________
[1] فى الأصول «وأحد» .
[2] فى ك «لرفيقه» والتصويب من ص، والسلوك 1: 1044.
[3] فى ك «ما» والمثبت من ص، والسلوك 1: 1044.(32/67)
ويرتب بها بوّابا حافظا لها يحتاط فى الداخلين والخارجين، ويمنع المرتبات بهم، ومن يكثر الدخول لغير حاجة، ولا يترك الباب [1] إلا لعذر ويستخلف مكانه زمان [2] غيبته، ويصرف له فى كل شهر عشرين درهما أو ما يقوم مقامها.
ويصرف فى ثمن زيت يستصبح به بالقبة المذكورة وما حوته من الأماكن ما يراه، وفى ثمن حصر من العبادانى الأحمر أو الأبيض بحسب ما يراه، وفيما يحتاج إليه من القناديل والبصّاقات والسلاسل والأباريق والكيزان، وجميع ما يحتاج إليه ما يراه.
وأما الموضع الذى فيه الأواوين الأربعة وما به من البيوت السفلية والعلوية والقاعة المجاورة للإيوان القبلى وما حواه من الأبنية فإنه وقف ذلك على المدرسين بها، والمعيدين والفقهاء المتفقهين بها المشتغلين بالعلم الشريف على مذاهب الأئمة الأربعة، وعلى الإمام والمؤذنين والقومة والبوّاب بهذه المدرسة وغير ذلك، يسكن بها المدرسون والمعيدون والفقهاء والأئمة فى بيوتها للاشتغال بالعلم الشريف، ويؤدى كل واحد منهم ما يلزمه بهذه المدرسة على العادة فى مثلها وعلى المترددين بهذه المدرسة، والمجتازين للصلوات وأداء الفرائض، وخلّى بين المسلمين وبينها تخلية شرعية، وأذن لهم فى الصلاة فيها، وصار حكمها حكم سائر المدارس.
وجعل للناظر أن يرتب بالمدرسة المذكورة فى كل من أواوينها الأربعة مدرسيها على المذاهب الأربعة، ينتصب المدرس المالكى المذهب بالإيوان القبلى، والمعيدون المالكية والطلبة المالكية فى الوقت الذى يعين فيه، وهو ما بين طلوع الشمس إلى زوالها، أى وقت رآه المدرس من ذلك لإلقاء فروع مذهبه، وما تيسر له من إلقائه من تفسير وأصول وغير ذلك، بحيث يلازم الجلوس على العادة فى الوقت المعيّن بعد أن يتيمّن كلّ واحد من المدرسين هو وجماعته بقراءة ما تيسّر من القرآن الحكيم، إمّا من ربعة [3] أو من
__________
[1] كذا فى ص، وف. وفى ك «البيات» .
[2] فى ص «زمن» .
[3] الربعة: تطلق على المصحف المجزء إلى أجزاء كل جزء فى تجليدة خاصة مستقلة عن غيرها.(32/68)
صدورهم، ويدعون عقيب ذلك للواقف، وسائر المدرسين. ويعيّن من المعيدين المالكية ما يراه الناظر من العدد.
وكذلك ينتصب المدرس الشافعى المذهب بالإيوان البحرى كما حكى بأعاليه هو ومن يعيّنه الناظر من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور.
وكذلك ينتّصب المدرّس الحنفى المذهب ومن معه من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور فى الإيوان الشرقى وكذلك ينتصب المدرس الحنبلى المذهب ومن معه من المعيدين والطلبة فى الوقت المذكور بالإيوان الغربى، ويعين الناظر لكل مدرس منهم من المعيدين والطلبة ما يراه من العدد.
وينتصب كل معيد ممن عيّن فى جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج [1] الشرح درسه ويصحح له مستقبله [2] ، ويرغّب الطلبة فى الاشتغال، ولا يمنع فقيها أو مستفيدا ما يطلب من زيادة تكرار وتفهّم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة فى غير نوبته إلّا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما [3] يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث فى كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس فى طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء.
ويصرف لكل واحد من المدرسين ولمعيديه وطلبته، والداعى عنده والنقيب، فى كل شهر من شهور الأهلة ألف درهم نقرة، من ذلك ما يختص به المدرس عن التدريس مائتا درهم، والمعيدين والطلبة والداعى والنقيب ما يراه من التسوية والتفضيل.
ويرتب بالمدرسة المذكورة بالإيوان القبلى بها إماما [16] يؤم بالمسلمين فى الصلوات الخمس على أى مذهب كان من المذاهب الأربعة، يقوم بوظيفة الإمامة كجارى عادة المدارس، ويصرف له فى كل شهر ثمانين درهما.
__________
[1] فى ص «لن يحتاج» .
[2] مستقبله: أى ما سيتولى المدرس قراءته وشرحه بعد.
[3] فى ك «ما يختاره» والتصويب من ص.(32/69)
ويرتّب من المؤذنين الثمانية المشار إليهم من يختاره كما بين فيه، ويرتب بها أربعة من القومة العارفين بما يلزمهم، من ذلك يقومون بخدمة المدرسة، ووقود مصابيحها، وكنسها وتنظيفها، وتنظيف فسقيتها ودائرها، وتنظيف السقاية وغسل ما بظاهرها من الأوساخ كجارى عادة القومة فى مثلها، ويصرف لهم فى كل شهر مائة درهم بينهم على ما يراه من التسوية والتفضيل.
ويرتب بها شاهدا لخزانة الكتب يحفظ ما فيها [1] من الكتب، ويضبط ما يؤخذ منها للاشتغال بها، بحيث لا تخرج الكتب من المدرسة، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما أو ما يقوم مقامها من النقود.
ويرتب بالمدرسة بوابا بالباب الكبير الجامع للقبة والمدرسة حافظا محتاطا فى أمور المدرسة والقبة من الداخلين إليها والخارجين، مانعا من يرتاب به، ومن يكثر الدخول لغير حاجة، ويلازم حفظ الباب ليلا ونهارا، وفتحه وغلقه فى الأوقات المعهود ذلك فيها، ولا ينفصل عن الباب إلا بعذر، فإن اتفق له عذر استخلف فى موضعه من يختاره عنه حين غيبته، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما نقرة [2] وما يقوم مقامها من النقود ويرتب سوّاقا لإدارة الساقية، وإجراء الماء من البئر إلى الصحن أمام إيوان القبة، وإلى الفسقية التى بوسط المدرسة، وإلى الميضأة التى بالمدرسة، ويفعل ما جرت العادة فى مثل ذلك، ويصرف له فى كل شهر ثلاثين درهما، ويصرف فى ثمن ثور لإدارة الساقية المذكورة ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده، ويصرف فى ثمن ما تحتاج إليه الساقية من الخشب والآلات والنّجر والحديد ما يراه.
ويصرف فى ثمن زيت الزّيتون أو ما يقوم مقامه مما يستصبح به فى المدرسة المذكورة، والأواوين الأربعة والمطلع ولسكن الطلبة والميضأة ما يراه ويؤدى إليه اجتهاده.
__________
[1] فى ص «ما بها» .
[2] هذا اللفظ من ص.(32/70)
ويصرف فيما تحتاج إليه المدرسة المذكورة من الحصر والقناديل والبصاقات الزّجاج والأطباق النحاس والسلاسل والأباريق والجرار وجميع ما يحتاج إليه بالمدرسة المذكورة ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده.
ويصرف الناظر فى كل سنة فى ملء الصهريج من بحر النيل المبارك ثمن ستمائة راوية ما يراه ويؤدى إليه اجتهاده.
وجعل الواقف أعز الله نصره النظر فى هذا الوقف لعتيقه الطواشى شجاع الدّين عنبر بن عبد الله الحرّ الّلالا [1] أيام حياته، ثم من بعده يكون النظر للأمثل فالأمثل من عتقاء الواقف فإن استوى اثنان فأكثر قدّم الأكبر سنا مع ظهور الأهلية لذلك، فإن استووا أقرع بينهم ثم بعدهم يكون النظر لعتقاء والد الواقف للمذكور الأمثل فالأمثل صح منهم فإن استوى اثنان فأكثر قدّم الأكبر سنّا مع ظهور [2] أهليته لذلك، فإن استووا أقرع بينهم، فإن انقرض عتقاؤه وعتقاء والده أو تعذر نظر أحد منهم كان النظر فى ذلك والولاية عليه لحاكم المسلمين، فإن عاد إمكان نظر من تعذّر نظره عاد النظر إليه، فإن تعذر أيضا كان لحاكم المسلمين يجرى الحال فى ذلك أبد الآبدين.
وفى ظهر كتاب الوقف المذكور إسجال على قاضى القضاة شمس الدين أحمد السّروجى الحنفى، يتضمّن أن الحاكم الآيل النظر إليه يكون مالكّى المذهب. وشرط الواقف أن لكل من له وظيفة فى هذا الوقف المذكور أن يستنيب عنه عند ضرورة لسفر أو مرض، وأن لكلّ من المدرسين والطلبة والمعيدين البطالة المعروفة فى رجب وشعبان ورمضان وعشر ذى الحجة من كل سنة على جارى العادة فى مثل ذلك، وأن من شرط هذا الواقف أن يتعاهد إثباته عند الحكام، ويحفظ بتواتر الشهادات، كل ذلك بعد البدأة بعمادة الوقف ومرمّته وصلاحه وإصلاحه [3] وما فيه الإفضاء إلى بقاء عينه، ودوام منفعته، ونموّ غلّته، وما فضل بعد ذلك يصرف فى المصارف المعينة فيه على أنّ الناظر فيه يؤجّره وما شاء منه مدة سنة فمادونها بأجرة المثل فما فوقها،
__________
[1] اللالا: أى المربى.
[2] فى ك «من ظهور» وما أثبته من ص.
[3] فى ص «وإصلاحه وصلاحه» بالتقديم والتأخير.(32/71)
ولا يزيد على السنة إلّا لمصلحة ظاهرة للوقف، أو ضرورة لابد منها، ويؤجره إذ ذاك مدة تفى أجرتها بالضرورة، ويسلك فى ذلك الاستغلال الشرعى بحيث لا يفّرّط ولا يفرط، ولا يعدل عن السنن المتوسطة، ومهما حصل من ريع الوقف وهو ما ذكره ووصفه وحدّده.
ونحن الآن نذكر الوقف المذكور على القبة والمدرسة بمقتضى كتاب الوقف، ونذكر أجرة كل مكان منه بمقتضى حساب المباشرين، ثم نذكر ما تجدّد من الأماكن الجارية [17] فى الوقف المذكور بعد صدور كتاب الوقف المشروح على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى.
والأماكن الموقوفة بمقتضى الكتاب منها ما هو بالقاهرة المحروسة:
قيسارية أمير [1] . على بخط الشرابشيين [2] ظاهرها وباطنها، سفلها وعلوها ونربيعيتها، وسائر حقوقها وأجرة هذه القيسارية فى كل شهر على [3] ما استقر إلى آخر ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة ألف درهم وستمائة درهم وتسعة وخمسون درهما، والقاعة المجاورة للقيسارية المذكورة يتوصل إليها من الزقاق الشارع بدرب قيطون على يسرة السالك فيه إلى أقصاه، وأجرتها فى كل شهر ثمانية وأربعون درهما.
وجميع الرّبع المعروف بالدّهيشة [4] بخط باب زويلة [5] . فيما بين البابين
__________
[1] قيسارية أمير على: وكانت تقع بشارع القاهرة الأعظم، وكان يسمى قصبة القاهرة- حاليا يسمى شارع المعز لدين الله الفاطمى- بجوار قيسارية جهاركس، ويفصل بينهما درب قيطون عرفت بالأمير على بن عبد الملك المنصور قلاوون (الخطط للمقريزى 3: 140) .
[2] خط الشرابشيين: كان فى الشارع الأعظم فى المسافة المحصورة حاليا بين شارع الأزهر وبين عطفة البارودية، وكان تباع فيه الشرابيش وهى لباس الرأس، وأخذ منها لفظ الطربوش المعروف (الخطط للمقريزى 2: 99) .
[3] هذا الدرب يعرف حاليا بحارة البارودية (النجوم الزاهرة 8: 209، 9: 214) .
[4] ربع الدهيشة: هذا الربع ضمن أعيان وقف رضوان بك الغفارى تجاه جامع الصالح طلائع بن رزيق فى أول قصبة رضوان على اليمين من باب زويلة. وقد أنشئ على جزء من أرضه زاوية الدهيشة نقلا من مكانها الأصلى، لأنها كانت تزاحم الطريق العام أمام باب زويلة ونقلت بمعرفة مصلحتى التنظيم والآثار سنة 1342 هـ (خطط المقريزى 2: 212، وهامش النجوم الزاهرة 8: 210) .
[5] باب زويلة: بناه بدر الجمالى وزير الخليفة المستنصر الفاطمى سنة 484 هـ ورفع أبراجه، ولما أنشأ الملك المؤيد شيخ المحمودى، مسجده داخل باب زويله هدم الأبراج وأقام على أساسها مئذنتى مسجده، ولا يزال باب زويله موجودا إلى اليوم على رأس شارع المعز لدين الله الفاطمى الذى يوصل بين هذا الباب وباب الفتوح. والعامة يسمونه «بوابة المتولى» لأن متولى الحسبة فى الزمن الماضى كان يجلس بهذا الباب لتحصيل العوائد والرسوم من أصحاب الأملاك ومن التجار، وللنظر فيما يعرض عليه يوميا من قضايا المخالفات والفصل فيها (هامش النجوم الزاهرة 8: 47) .(32/72)
يعرف سفلها بسكن المجبرين والحريريين، يشتمل على ستة حوانيت ومقاعد فيما بين ذلك، وستة طباق علوية وأجرة ذلك فى كل شهر مائتا درهم وثمانية وستون درهما.
وجميع الحوانيت الثلاثة المتجاورة بخط باب الزهومة [1] ويعرف بسكن العطارين، والسيوفى، ويعلو الحوانيت طبقة ليست من الوقف، وإنما هى من حقوق المسجد المجاور للحوانيت وأجرة هذه الحوانيت فى كل شهر خمسة وسبعون درهما.
وجميع المسمط [2] والحوانيت التى بظاهره وعدتها سبعة وذلك بالقاهرة بخط باب الخوخة [3] ، وأجرة ذلك فى كل شهر خمسمائة درهم وخمسة وعشرون درهما.
وجميع الحمام المعروفة بالفخرية [4] بالقاهرة المحروسة وتجاور المدرسة السيفية [5] والدار الكبرى المعروفة بالسلطان الملك المنصور، والد الواقف، ويعرف قديما بالسيفى وأجرتها فى كل شهر أربعمائة درهم وتسعون درهما.
وجميع الحمامين المعروفين بالشيخ خضر بظاهر القاهرة بخط بستان ابن صيرم [6] والجامع الظاهرى، إحداهما لدخول الرجال، والأخرى للنساء وأجرتهما فى كل شهر ألف درهم وخمسمائة درهم وخمسون درهما.
__________
[1] خط باب الزهومة: عرف هذا الخط بذلك وكان هذا الباب فى آخر ركن القصر الكبير الشرقى، الذى كان يعرف بالقصر المعزى نسبه للمعز لدين الله الفاطمى. وسمى بذلك لأن اللحوم وحوائج الطعام كانت تدخل مطبخ القصر منه والزهومة معناها الزفر. (الخطط للمقريزى 2: 215، 297) .
[2] فى ك «الخط» التصويب من ص.
[3] باب الخوخة- هو أحد أبواب القاهرة مما يلى الخليج فى حد القاهرة البحرى يسلك إليه من سويقة الصاحب ومن سويقة المسعودى، وكان يعرف أولا بخوخة ميمون دبة، ويخرج منه إلى الخليج الكبير (خطط المقريزى 3: 72) .
[4] حمام الفخرية- بناه الأمير فخر الدين عبد الغنى بن عبد الرزاق بن أبى الفرج الأرمنى، وعرف بحمام الكلاب، ثم عرف بحمام البنات لأنه يجاور جامع البنات بشارع جامع البنات بالقاهرة، حاليا «بور سعيد» وقد هدم هذا الباب ودخل فى سراى أم حسين. بك، وهدمت هذه وأقيم محلها محال تجارية (هامش النجوم الزاهرة 8: 211) .
[5] المدرسة السيفية: كانت تقع فيما بين خط البندقانيين وخط الملحيين، وموضعها من جملة دار الديباج، وكانت دارا، فسكنها شيخ الشيوخ صدر الدين بن محمد بن حمويه، وبنيت فى وزارة صفى الدين عبد الله ابن على بن شكران سيف الإسلام، واسمه طغتكين بن أيوب ظهير الدين سيف الإسلام الملك المعز ابن نجم الدين أيوب بن شادى (خطط المقريزى 4: 200.
[6] خط بستان ابن صيرم: يقع خارج باب الفتوح مما يلى الخليج وزقاق الكحل، وكان من جملة حارة البيارة فأنشأ زمام القصر المختار الصقلبى بستانا، وبنى فيه منظرة عظيمة، فلما زالت الدولة الفاطمية استولى عليه الأمير جمال الدين سوينج بن صيرم، أحد أمراء الملك الكامل فعرف به، ثم اختط وصار من أجل الأخطاط يسكنه الأمراء والأعيان من الجند (الخطط للمقريزى 3: 57) .(32/73)
وجميع خان الطّعم [1] بظاهر دمشق المحروسة، وهو مشهور معروف، وقد وصفه وحدده هكذا «تضمن كتاب الوقف جميع الخان المذكور» وليس كذلك؛ فإن الخان المذكور من جملة الأملاك الموروثة عن السلطان الشهيد الملك المنصور والد السلطان الواقف- قدس الله روحه- والذى كمل للسلطان الملك الناصر- خلد الله ملكه- من الأملاك المخلفة عن والده السلطان الملك المنصور مما جرّه إليه الإرث عن والده السلطان المشار إليه وأخيه الأمير أحمد وأخته جهة عنبر الكمالى، وأخيه الملك الأشرف، وبنات أخيه الملك الأشرف، وأخته داره مختار الجوهرى، وما خصه من نصيب والدته الذى وهبته له ولأخيه الملك الأشرف ولأخته: داره مختار الجوهرى المذكورة، وذلك إلى حين صدور هذا الوقف سبعة عشر سهما ونصف سهم وثمن سهم وسدس عشر سهم وسدس ثمن عشر سهم- هذا الذى لا خلاف فيه ولا نزاع- وهذه الحصة المذكورة هى التى استقرّت فى الوقف من هذا الخان، وإطلاق الكاتب فى كتاب الوقف جميع الخان غلط وغفلة ممن أملاه، أو ذهول ممن عيّن ذلك من المباشرين. وأجرة هذا الخان بجملته فى كل سنة على ما استقر إلى آخر سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة تزيد على سبعين ألف درهم، يخص الوقف منها ما يزيد على خمسة وأربعين ألف درهم، ثم تجدد بعد كتاب الوقف المشروح فى الوقف المذكور زيادات منها المقاعد التى أنشئت بالساحة بباب المدرسة، وعدتها ثمانية، ومسطبة ومخزن، أجرتها فى كل شهر مائة درهم وأربعون درهما، ومنها ما اشترى من فائض ريع الوقف وألحق به، وهو نصف وربع وثمن طاحون بمصر.
وأجرة ذلك فى كل شهر سبعة وثمانون درهما، وإسطبل وطبقة بخان السبيل [2] أجرة ذلك فى كل سنة ستة عشر درهما.
__________
[1] خان الطعم: جاء فى صبح الأعشى 4: 187 «هذا الخان يعرف بدار الطعم، وكانت بدمشق بمثابة الوكالة بالديار المصرية وكان لها حشد يوليه نائب دمشق من بين أمراء العشرات أو مقدمى الحلقة أو الأجناد» وانظر السلوك 1: 768 هامش الدكتور زيادة.
[2] خان السبيل: كان خارج باب الفتوح، بناه الأمير بهاء الدين أبو سعيد قراقوش ابن عبد الله الأسدى، خادم أسد الدين شيركوه، وبه بئر ساقية وحوض. (خطط المقريزى 3: 150) .(32/74)
وجعل الواقف- خلّد الله سلطانه- للناظر فى الوقف المذكور أن يصرف لمباشرى الوقف واستخراجه وصرفه فى مصارفه، ولمباشرى العمارة بالمدرسة والأوقاف، والجابى، والمعمار وغير ذلك ما يراه، ويؤدى إليه اجتهاده. من عدد المباشرين وتسويتهم وتفضيلهم، وجعل للناظر أيضا أن يصرف من ريع الوقف إذا فضل عن المرتب المعين فيه فى ليالى الجمع والأعياد والمواسم وشهر رمضان ما يراه من التوسعة عليهم، فإن تعذّر الصرف لجهة من الجهات عاد الصرف [18] إلى باقيها، فإن تعذّر صرف ذلك للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا، فإن زال التعذر عاد على الحكم المذكور، فإن تعذر أيضا كان على الفقراء والمساكين كما تقدم، يصرفه الناظر فيهم على ما يراه من مساواة وتفضيل، وعلى ما يرى صرفه من نقد أو ثوب أو كسوة. أو غير ذلك مما يراه ويؤدى إليه إجتهاده.
ولما تم هذا الوقف وكملت عمارة المدرسة، وجلس المدرسون والمعيدون والفقهاء بالمدرسة، وانتصب كل من ذكر فى هذا الوقف وظيفته صرف الناظر للمدرسين خاصة معلومهم الشاهد به كتاب الوقف، وصرف للمعيدين والفقهاء بكل إيوان من الأواوين الأربعة على مذهبه من جملة ما شرط لهم فى كتاب الوقف. وهو ثمانمائة درهم فى كل شهر ثلاثمائة وخمسون درهما صرف منها لمعيدين لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، وصرف للطلبة والنقيب والداعى فى كل شهر مائتى درهم وسبعين درهما، وقطع من هذا المرتب المصروف [1] لهم فى كل [2] سنة ثلاثة شهور. واستمر ذلك مدة طويلة.
واتفق فى غضون ذلك أن باشرت ديوان الخاص السلطانى بالأبواب الشريفة وغيرها، وسكنت بالمدرسة الناصرية، وآطّلعت على متحصل جهات الوقف بالقاهرة وغيرها، ونظرت فى ذلك، فرأيته يفيض على المصروف فى كل
__________
[1] فى ك «المعروف» .
[2] هذا اللفظ من ص.(32/75)
سنة جملة كثيرة، فقمت فى ذلك قياما أدى إلى أن صرف لهم ذلك مكملا من غير اقتطاع ثلاثة شهور، واستمر الأمر على ذلك إلى أن توفّى الطواشى شجاع الدين ناظر الوقف فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وفوض الأمر إلى الأمير سيف الدين أرغون الناصرى نائب السلطنة الشريفة، فأظهر كتاب الوقف وأذاعه، وحمل الأمر على حكمه على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى- فى موضعه.
ونقل السلطان إلى القبة المباركة ما تحتاج إليه من البسط والشمعدانات الكفت [1] ، والأطباق النحاس، وغير ذلك من الآلات مما جعله فى حاصلها، ونقل والدته من مدفنها بالتربة المجاورة لمشهد السيدة نفيسة إلى مدفن هذه القبة، وذلك فى سنة ثلاث وسبعمائة، وهى أول من دفن بمشهد القبة، ثم دفن بعد ذلك ابنة له توفيت صغيرة- رحمها الله تعالى- وقد أخذ هذا الفصل حدّه من الإطالة، فلنذكر خلاف ذلك من الحوادث، والله أعلم.
وفى سنة ثلاث وسبعمائة أفرج عن الأميرين السيدين الشريفين عزّ الدين حميضة وأسد الدين رميثة ولدى الأمير نجم الدين أبى نمىّ وأعيدا إلى مكة- شرفها الله تعالى.
وفيها فوّضت نيابة السّلطنة يحمص إلى الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصورى، نقل من نيابة قلعة دمشق إليها عوضا عن عز الدين أيبك الحموى الظاهرى بحكم وفاته، وكانت وفاته فى يوم الأحد تاسع شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وتوجّه الأمير سيف الدين إليها فى ثامن [2] عشر جمادى الأولى وجعل نائب قلعة دمشق الأمير سيف الدين بهادر السنجرى.
__________
[1] الشمعدان الكفت: المصنوع من النحاس ومشغول بزخارف من سلوك الفضة أو الذهب، وانظر خطط المقريزى 2: 105.
[2] كذا فى ك، وف. وفى ص «ثانى عشر» .(32/76)
ذكر تجريد العساكر إلى بلاد سيس [1]
وفى هذه السنة جرّدت العساكر إلى بلاد سيس؛ وكان سبب ذلك أنّ طائفة من العسكر الحلبى دخلت إلى بلاد الأرمن للإغارة، فلما رجعوا كبسهم التّتار ببلاد سيس، وسلموا؛ فرسم بتجريد العساكر إليها، وجرّد من الديار المصرية فى شعبان الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، وهو المقدّم على الجيش، والأمير شمس الدين سنقر جاه المنصورى، والأمير علم الدين سنجر الصوابى ومضافيهم، فوصلوا إلى دمشق ودخلوا إليها فى ثلاثة أيام، أولها يوم السبت ثانى عشر شهر رمضان، وآخرها يوم الاثنين رابع عشره، وجرّد من دمشق الأمير سيف الدين بهادر آص ومن تبعه فى ألفى فارس، وتوجهوا بجملتهم فى يوم الخميس سابع عشر رمضان، وجرّد [19] الأمير سيف الدين قبجق بعسكر حماه، والأمير سيف الدين أسندمر كرجى بعسكر الفتوحات، والأمير سيف الدين بلبان الجوكندار بعسكر حمص، والعسكر الحلبى صحبة الأمير شمس الدين قراسنقر.
ولما وصل العسكر إلى حلب حصل للأمير فخر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح مقدم العسكر المصرى مرض منعه من الدخول إلى سيس؛ فأقام بحلب، وتوجّهت العساكر، وافترقوا فرقتين؛ فتوجّه الأمير سيف الدين فبجق بنصف العسكر من جهة قلعة [2] الرّوم إلى صوب ملطية [3] ، والفرقة الأخرى إلى دربند [4] فأغاروا ونهبوا وقتلوا وأسروا من ظفروا به، ثم رجعوا ونازلوا تل
__________
[1] بلاد سيس: دسيس هى عاصمة أرمينيات الصغرى، وكانت مدينة كبيرة ذات أسوار على جبل مستطيل، ولها بساتين ونهر صغير، وهى الآن بلدة فى جنوب شرق آسيا الصغرى- وأرمينية الصغرى تشمل إقليم قيليقية (هامش النجوم الزاهرة 7: 139، والمنجد فى الأعلام 37) .
[2] قلعة الروم: قلعة حصينة فى غربى الفرات مقابل البيرة، وبينها وبين سميساط كان معظم سكانها من الأرمن مع أنها وسط بلاد المسلمين، فتحها الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، وسماها قلعة المسلمين (ياقوت: معجم البلدان، صبح الأعشى 1194، 120.
[3] ملطية: مدينة شمالى حلب، وأعالى نهر الفرات، من بلاد الثغور، وعدها ابن حوقل من جملة بلاد الشام، وعدها أبو الفدا إسماعيل من بلاد الروم. وعمرها أبو جعفر المنصور ثانى خلفاء بنى العباس، وجعل عليها سورا محكما، وهى مدينة ذات فواكه وأشجار وأنهار، فتحها محمد الناصر يوم الأحد الحادى والعشرين من المحرم سنة 715 هـ (معجم البلدان 4: 633- 635، وهامش النجوم الزاهرة 9: 172) .
[4] الدربند: قرية على فم الطريق الجبلى بين نهر كوكو وأبلستين، وتطلق على المضايق والطرقات والمعابر الواقفة شمال البيرة والنهر الأزرق (معجم البلدان 2: 564، وصبح الأعشى 4: 364) .(32/77)
حمدون [1] وحاصروها، واستولوا عليها فى يوم الخميس ثالث عشر ذى القعدة، وملكت بالأمان، وكان قد اجتمع بها جماعة من أصحاب القلاع المجاورة لها، وسبب اجتماعهم بها أنّ صاحب سيس أرسل إليهم أن يجتمعوا بتلّ حمدون، ويقبضوا منها نفقة ويعودوا إلى قلاعهم ويحفظوها، ويقول لهم: إن هذه العساكر إنما دخلت للإغارة والعود. فاجتمعوا بتل حمدون لقبض النفقة، وجاء العسكر إليها وحاصرهم بها، فسألوا الأمان، فلما أطلقوا وصل رسول صاحب سيس إلى العسكر يقول: هؤلاء الذين بتّلّ حمدون هم ملّاك القلاع، فإن قبضتم عليهم وأردتم المال بذلوه لكم أو القلاع سلّموها إليكم. وشكا منهم أنهم لا يرجعون إليه ولا يسمعون منه ويخالفونه إذا قصد بذل الطاعة للسلطان، أو إرسال الحمول، ويقولون: إذا حضر العسكر خلّ بيننا وبينه. فعند ذلك أرسل الأمراء من أدركهم قبل وصولهم إلى مأمنهم، وقبضوا عليهم وقتل بقيتهم، وكان الذين قبض عليهم ثمانية من أصحاب القلاع المشار إليهم، منهم أمير اسمه السرمساق صاحب قلعة بخيمة، وبقيتهم لكل منهم قلعة. فلما تحقق السرمساق أن صاحب سيس عمل عليهم أسلم وتلفّظ بالشهادتين المعظمتين، وقال: أنا لى أخ فى خدمة السلطان، وأنا أسلّم قلاعى وألتزم للسلطان بفتح بلاد سيس بألفى فارس من نهر جهان [2] إلى بلاد [3] قرمان، فعاد العسكر به وببقية الواصلين، وكان وصولهم إلى دمشق فى الحادى والعشرين من ذى الحجة، ورحل العسكر المصرى منها فى تاسع عشرين الشهر، ووصلوا إلى الأبواب السّلطانية فى المحرم سنة أربع وسبعمائة.
وفى يوم الإثنين تاسع عشر شوال سنة ثلاث وسبعمائة فوضت الوزارة بالديار المصرية للأمير ناصر الدين محمد الشيخى، نقل من ولاية الجيزية إليها عوضا عن الأمير عز الدين أيبك البغدادى، فأحدث الشيخّى مظالم كثيرة، ولم تطل أيامه.
__________
[1] تل حمدون: بلدة من بلاد الروم تتاخم الشام (معجم البلدان 4: 633) .
[2] نهر جهان: هو نهر جيحان، وهو نهر المصيصة بالثغر الشامى، ومنيعه من بلاد الروم، ويمر حتى يصب فى مدينة تعر بكفر بيا بإزاء المصيصة (هامش النجوم الزاهرة 7: 168) .
[3] بلاد قرمان: هى دولة بآسيا الصغرى، نشأت أواسط القرن السابع الهجرى. (السلوك 1: 630 هامش) .(32/78)
وفى هذه السنة وصل إلى الخدمة السلطانية من بلاد الشرق الأمير بدر الدين جنكلى [1] بن شمس الدين المعروف بالبابا، وهو أحد مقدمى جيوش التتار، ووصل معه أحد عشر نفرا من ألزامه، منهم أخوه نيروز، ووصل الأمير بدر الدين بأهله، وكان مقامه ببلاد [2] آمد وكانت مكاتباته ترد على السلطان ببذل النصيحة للإسلام من مدة طويلة، ثم فارق الآن التتار وجاء، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الثلاثاء حادى عشر ذى القعدة، ثم توجه منها بمن معه ووصلوا إلى الأبواب السلطانية بقلعة الجبل، وأحسن السلطان إليهم، وشملهم بالخلع والإنعام، وأمّر الأمير بدر الدين جنكلى بطبلخاناه، واستمر من جملة الأمراء، وظهر للسلطان من أدبه وعقله وجميل نيته وحسن طاعته وصدق إخلاصه فى الموالاة [3] والمصافاة، وعدم اجتماعه واختلاطه بمن يرتاب منه من أهل الأهواء والفتن، وغير ذلك من الأوصاف الجميلة ما أوجب ترقّيه وانتقاله إلى إمرة المائة، وتقدّمة الألف، ثم إلى رتبة الخصوصية والتقريب والدنو، والجلوس فى مجلس السلطان بالقرب منه، واستشارته والرجوع إلى كثير من آرائه، وهو كذلك إلى الآن.
وفيها أيضا وصل إلى الأبواب السلطانية رسول من جهة الرندراكون [4] البرشنونى صاحب برشنونة يشفع فى النصارى بالديار المصرية [20] أن تفتح كنائسهم على عادتهم، فقبلت شفاعته، ورسم أن يفتح للطائفة اليعاقبة [5] من
__________
[1] كذا فى الأصول: والدليل الشافى 1: 251، والدرر الكامنة 2: 76. وذيول العبر ص 253، والنجوم الزاهرة 10: 143 وقد توفى سنة 746. والرسم فى السلوك 1: 95 «جنغلى» .
[2] بلاد آمد: وآمد بلد قديم حصين، مبنى بالحجارة على نشز دجلة وهو محيط بأكثر البلد فى استدارة كالهلال، ويعتبر أعظم مدن ديار بكر (معجم البلدان) .
[3] فى ك «الولاة» والتصويب من ص.
[4] الرندراكون: جاء فى هامش السلوك 1: 950 «وهذا اللفظ المركب هو Barcelona LAragon ElReyde أى ملك أراجون وبرسنونة هى برشلونة.
[5] اليعاقبة: نسبة إلى يعقوب البراذعى الذى تزعم فى القرن السادس للميلاد مذهبا فى الكنيسة الشرقية ينادى بأن للمسيح طبيعة واحدة تجمع بين صفاته جميعا. وقد تعرضت هذه الفرقة لاضطهاد شديد من جانب امبراطور الروم جستنيان. (سعيد عاشور: أوربا القصور الوسطى (خطط المقريزى 2: 481 وما بعدها) .(32/79)
النصارى كنيسة بحارة زويلة، وللملكيين [1] كنيسة بخط البندقانيين [2] ، وكتب جوابه وأعيد رسوله وسفر إليه من الأبواب السلطانية مع فخر الدين عثمان الأفرمى فتوجها من الأبواب السلطانية إلى ثغر الإسكندرية، وتجهزا منها وركبا فى المركب فى سنة أربع وسبعمائة، فلما عزما على الإقلاع تفاوضا مفاوضة أدّت إلى أنّ رسول البرشنونى طرح فخر الدين عثمان من المركب إلى القارب الذى خرج يشيعهم من الميناء هو وغلمانه، ولم يعطه شيئا مما كان معه، وأقلع من فوره، وعاد فخر الدين المذكور إلى الأبواب السلطانية فى سنة أربع وسبعمائة. والله أعلم.
وفى سنة ثلاث أيضا وقع فناء عظيم فى الخيول بالشام. حتى كاد يأتى عليها، ونفقت أكثر خيول الناس، وكنت يومئذ بدمشق، وكنت أملك عشرة أرؤس من الخيل الجياد أو أكثر، فنفقت بجملتها، واحتجت إلى ابتياع ما أركبه، وكانت الخيل قبل ذلك قد كثرت بالشام وهانت، وقلّت أثمانها، لما هرب التتار من مرج الصفر، حتى أبيع الإكديش [3] من خيل التتار فى موضع الوقعة بخمسة دراهم، ثم تزايد ثمنها، ثم أبيع الفرس منها بدمشق بثلاثين درهما، فلما فنيت الآن وارتفع الفناء غلت أثمانها بدمشق لقلتها.
وفيها فى شهر رمضان توجّهت من دمشق إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية مفارقا لمباشرة أملاك الخاص الشريف، وكان وصولى إلى القاهرة فى يوم الأحد السابع والعشرين من شهر رمضان بعد الظهر، وباشرت ديوان الخاصّ والبيمارستان المنصورى، وما معه من الأوقاف المنصورية فى بقية اليوم الذى وصلت فيه، ورفع إلىّ حساب المياومة قبل غروب الشمس من اليوم المذكور.
__________
[1] الملكيون، أو الملكية، أو الملكانية: هى الفرقة الثانية من المسيحيين الشرقيين الذين عارضوا مذهب الصبغة الواحدة وقالوا بأن للمسيح طبيعين (سعيد عاشور- أوربا العصور الوسطى (خطط المقريزى 2:
481 وما بعدها، وصبح الأعشى 13: 275 وما بعدها) .
[2] خط البندقانيين: من أكبر أخطاط القاهرة حيث يشمل المنطقة التى يخترقها اليوم سوق السمك القديم، وسوق الصيارف الكبير، وحارة السبع قاعات البحرية والقبلية، وما بين ذلك من شارع السكة الجديدة امتداد شارع الموسكى (هامش النجوم الزاهرة 4: 52) .
[3] الإكديش: نوع من الأفراس غير الجياد (فهرس كنز الدرر ج 9 والمنجد- كدش) .(32/80)
وفيها توجّه الأمير سيف الدين سلّار نائب السّلطنة إلى الحجاز الشريف، وتصدّق صدقات كثيرة بمكة والمدينة، سدّ بها حاجة ذوى الحاجات، ووسّع على المجاورين والمقيمين.
وفيها فى أواخر شهر رمضان ولد لمولانا السلطان الملك الناصر ولد من زوجته أردكين آبنة الأمير سيف الدين نوكيه، سمّاه عليّا، ونعت علاء الدين، ثم لقّب بعد بالملك المنصور.
وفى هذه السّنة كانت وفاة الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار الظاهرى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بالديار المصرية، وهو أحد من كان توجّه إلى غازان ملك التتار وعاد كما تقدم ذكر ذلك.
ذكر وفاة الشيخ زين الدين الفارقى وما اتفق بسبب مناصبه بدمشق.
وفى هذه السّنة فى يوم الجمعة تاسع عشر صفر توفى الشيخ الإمام العالم زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله الفارقى [1] الشافعى الخطيب بدمشق بقاعة الخطابة بالجامع الأموى، وجهّز وصلّى عليه فى بكرة نهار السّبت فى ثلاثة أماكن، فصلّى عليه بجامع دمشق قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى الشافعى، وصلّى عليه بسوق الخيل قاضى القضاة شمس الدين الحنفى، وصلّى عليه بباب جامع الجبل قاضى القضاة تقى الدين الحنبلى، ودفن بتربة أهله، وكانت جنازته مشهورة. ومولده فى المحرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكان بيده من المناصب خطابة الجامع الأموى، وتدريس دار الحديث [2] الأشرفية، ولى مشيختها سبعة وعشرين سنة، وتدريس المدرسة [3]
__________
[1] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 30، والدرر الكامنة 2: 304، وطبقات الشافعية 6: 107 وشذرات الذهب 6: 4، وذيول العبر ص 25.
[2] دار الحديث الأشرفية: بجوار باب قلعة دمشق الشرقى، غربى العصرونية وشمالى القيمازية، وكانت دارا للأمير قايماز النجمى فبناها الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن العادل أبى بكر بن أيوب بعد أن اشتراها، وكان افتتاحها فى ليلة النصف من شعبان سنة 630 هـ، وعين الشيخ تقى الدين بن الصلاح شيخا لها. (الدارس فى تاريخ المدارس: 1: 19) .
[3] المدرسة الشامية البرانية: من مدارس الشافعية بدمشق بمحلة العقيبة أنشأتها ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شادى، والدة الملك إسماعيل، المتوفاه سنة 616 هـ وتعرف بالحسامية لأن ابنها حسام الدين دفن فيها، كما أنها دفنت فيها أيضا، وهى الآن مدرسة ابتدائية للأيتام (خطط الشام لكرد على 6: 281) .(32/81)
الشامية البرانية، ولما مات- رحمه الله تعالى- كان نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقش الأفرم بالضّفة القبلية، فوصل إلى دمشق فى شهر ربيع الأوّل، فتكلم الناس معه فى مناصب الشيخ زين الدين المشار إليه، فعيّن الخطابة للشيخ شرف الدين الفزارى، [21] وتدريس المدرسة الشامية البرانية، ودار الحديث الأشرفية للشيخ كمال الدين الشريشى بحكم أن تؤخذ منه المدرسة الناصرية بدمشق فيليها الشيخ كمال الدين بن الزّملكانى [1] ، واستقر ذلك.
ولما اتصل خبر وفاته بالأبواب السلطانية سعى الشيخ صدر الدين محمد ابن الوكيل المعروف بابن المرحل فى مناصبه بالشام، وأن يعاد إليه معها ما كان بيده قبل انتقاله إلى الديار المصرية، وهو تدريس المدرسة [2] الشامية الجوانية، والمدرسة العذراوية [3] فأجيب إلى ذلك، وكتب توقيعه به.
وولى بعده تدريس المدرسة الناصرية بالقاهرة القاضى مجد الدين عيسى ابن الخشاب، وكان تدريسها قد عيّن له قبل تكملة عمارتها، ثم وليه الشيخ صدر الدين كما تقدم، فوليه القاضى مجد الدين بعده، وجهز توقيع الشيخ صدر الدين صحبة البريد إلى دمشق فزين مكاتبات من اعتنى به من الأمراء إلى نائب السلطنة بإمضائه، فوصل البريد بذلك إلى دمشق فى يوم الاثنين منتصف شهر ربيع الأول، فكتب نائب السلطنة عليه، وبطل ما كان قد تقرّر من الولايات لمن ذكرنا، ثم وصل الشيخ صدر الدين فى يوم الاثنين الثانى والعشرين من الشهر إلى دمشق على خيل البريد، وعلى يده أمثلة سلطانية، فاجتمع بنائب السلطنة، وأمضى ولايته، وركب من غده وجاء إلى الجامع الأموى بعد الظهر،
__________
[1] هو جمال الإسلام كمال الدين أبو المعالى محمد بن على بن عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكانى الشافعى، توفى بمدينة بلبيس فى سادس عشر رمضان سنة 727 هـ وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 4: 214، والبداية والنهاية 14: 131، والدرر الكامنة 4: 192، وطبقات الشافعية 9: 190، وشذرات الذهب 6: 78، والنجوم الزاهرة 9: 270.
[2] المدرسة الشامية الجوانية: وتقع قبلى البيمارستان النورى، من إنشاء ست الشام زمردة خاتون بنت أيوب، وقد خربت ولم يبق منها سوى بابها وواجهتها الحجرية، واتخذت دارا (خطط الشام 6: 81، 82) .
[3] المدرسة العذراوية: بحارة الغرباء داخل باب النصر المسمى الآن بباب دار السعادة بدمشق. وهى وقف على الشافعية والحنفية، أنشأتها الست عذراء بنت نور الدولة شاهنشاه بن أيوب أخى صلاح الدين الأيوبى فى شهور سنة 580 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 373) .(32/82)
ودخل دار الخطابة وصلّى بالناس صلاة العصر بالجامع [1] فتألم الناس لذلك تألما [2] شديدا لاجتماعهم [3] على الشيخ شرف الدين الفزارى، واتفق الأعيان على أنهم لا يصلّون خلفه، واجتمع جماعة كثيرة [4] فى يوم الأربعاء رابع عشرين الشهر مع الشيخ تقى الدين ابن تيمية وتوجهوا إلى نائب السلطنة، وتحدّثوا معه فى المطالعة إلى الأبواب السلطانية فى أمر صدر الدين وأن لا يخطب إلا بعد ورود الجواب، وثلبوه بأمور كثيرة، فأجاب نائب السلطنة سؤالهم، ومنع صدر الدين من الخطابة والإمامة حتى يرد جواب السلطان، وطالع فى أمره، وذكر ما قاله العلماء والأكابر وما صمّموا عليه من الامتناع عن الصلاة خلفه، وما شرطه الواقفان لدار الحديث الأشرفية، والشامية البرانية فى أمر التدريس، واستنيب فى الإمامة الشيخ أبو بكر الجزرى، وفى الخطابة الشيخ تاج الدين الجعبرى، وأمضى نائب السلطنة ولاية صدر الدين فيما عدا ذلك من المدارس، فجلس فى بكرة نهار الأحد الثامن والعشرين من الشهر، وألقى الدروس بالمدارس، وهى الشامية البرانية، والجوانية، ودار الحديث الأشرفية، والمدرسة العذراوية، وكانت مع جلال الدين القزوينى، والشامية الجوانية مع كمال الدين بن [5] الزملكانى، واستمر الحال على ذلك إلى يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر، فعاد البريد بالأجوبة أن يولّى الخطابة والإمامة بدمشق من يتّفق المسلمون عليه ويرضونه، وأن يسلك فى أمر الشامية ودار الحديث ما شرط واقفاها، فتولىّ تدريس الشامية البرانية الشيخ كمال الدين ابن [5] الزملكانى، وذكر الدرس فى مستهل جمادى الأولى، وفوّضت الخطابة للشيخ شرف الدين الفزارى، وخطب فى يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وخلع عليه فى يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة.
__________
[1] هذا اللفظ من ص.
[2] فى ص «ألما شديدا» .
[3] فى ص «لإجماعهم» .
[4] فى ص «كبيرة» .
[5] هذا اللفظ من ص.(32/83)
وفيها فى ليلة الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر توفى الصدر فتح الدين عبد الله ابن الصاحب معين الدين محمد بن أحمد بن أحمد بن خالد القيصرانى [1] بالقاهرة- رحمه الله تعالى.
وفيها فى يوم الاثنين تاسع شهر رجب الفرد الفرد توفى الأمير ركن الدين بيبرس التلاوى [2] أستاذ الدار العالية، وشاد الدواوين المعمورة بالشام، وكان ظالما عسوفا متكبّرا، فابتلاه الله تعالى- بالأمراض الشديدة، وكانت مدّة ولايته الوظيفة ثلاثة عشر شهرا وتسعة عشر يوما، مرض منها سبعة أشهر وأياما، ولما مات ولى شدا الشام بعده الأمير شرف الدين قيران الدوادارى، فى يوم الخميس حادى عشر شعبان، نقل من شدّ طرابلس إلى دمشق.
وفى هذه السنة توفى الشيخ الصالح العارف القدوة السيد الشريف أبو فارس عبد العزيز عبد الغنى بن سرور بن سلامة بن بركات بن داود بن أحمد ابن يحيى بن زكريا بن القاسم بن أبى عبد الله بن إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم، وهو المعروف بالمنوفى [3] وكانت وفاته بمصر فى ليلة الاثنين خامس عشر ذى الحجة، ودفن بكرة النهار بالقرافة، وكان من الصلحاء المعمرين، [22] مات عن مائة وعشرين سنة، وهو من أصحاب الشيخ أبى الحجاج الأقصرى، وله- رحمه الله تعالى- نظم حسن اجتمعت به فى سنة ست وتسعين وستمائة بمدينة قوص، وكان قد توجّه لزيارة شيخه الشيخ أبى الحجاج، ومرض بمدينة الأقصرين [4] فى هذه السفرة، فرآه القاضى جمال الدين يحيى بن يحيى الأرمنتى [5] أحد السعداء فى الصعيد فوجده قد أغمى عليه، فلما أفاق قال له جمال الدين: كيف تجدك؟ فأنشده:
هذى الجفون وإنما أين الكرى ... منها وهذا الجسم أين الرّوح
ومتّع- رحمه الله تعالى مع طول عمره- بعقله وحواسه.
__________
[1] القيصرانى: كذا ص ك، وفى ص، والسلوك، والنجوم الزاهرة «القيسرانى» وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 31، والدرر الكامنة 2: 389، وشذرات الذهب 6: 9، والنجوم الزاهرة 8: 213، والدليل الشافى 1: 390، وحسن المحاضرة 1: 387.
[2] فى الأصول «البلاوى» والمثبت من النجوم الزاهرة 8: 212، والدرر الكامنة 1: 508 وفيه «بيبرس التلاوى بكسر المثناة وتخفيف اللام، شاد الدواوين بدمشق، كان عسوفا، مات فى رجب سنة 703 هـ» .
[3] ترجم له فى الدرر الكامنة 2: 373، والسلوك 1: 957، والنجوم الزاهرة 8: 214، والدليل الشافي 1: 415.
[4] الأقصرين: كذا فى الأصول، والمراد الأقصر وهى مدينة سياحية بها كثير من الآثار الفرعونية، وتقع الضفة الشرقية للنيل وهى إحدى مدن محافظة قنا بصعيد مصر.
[5] فى ك «الأرمينى» والتصويب من ص.(32/84)
واستهلت سنة أربع وسبعمائة
فى هذه السنة عزل الأمير سيف الدين بنخاص من نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية، وأحضر إلى الأبواب السلطانية، واستقر فى جملة الأمراء مقدمى الألوف، وفوّضت نيابة السلطنة بالمملكة الصفدية للأمير شمس الدين سنقرجاه المنصورى، فتوجّه إليها، وكان من الأمراء مقدمى الألوف بالديار المصرية.
ذكر عمارة الجامع الحاكمى بالقاهرة وما رتّب فيه من الدروس والطوائف.
قد قدمنا أن الجامع الحاكمى بالقاهرة تداعت أركانه وسقط بنيانه، وأن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار العالية انتدب لعمارته، فحصل الشروع فيها فى أوائل سنة ثلاث وسبعمائة، ووقع الاهتمام بأمر العمارة حتى عاد أحسن ما كان، وانصرف عليه جملة كثيرة، وتكاملت عمارته فى هذه السنة، ووقف الأمير ركن الدين من أملاكه على مصالحه- التى تذكر- أملاكا يتحصل من ريعها جملة فى كل شهر، ورتّب به من الدروس والتصدرات وغير ذلك من جهات البرّ ما نذكره، وقدّر لهم من المعلوم، وهو: دروس الفقه على المذاهب الأربعة: الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنابلة، وولّى تدريس ذلك قضاة القضاة الأربعة وهم: قاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى [1] ، وقاضى القضاة زين الدين على بن مخلوف [2] المالكى، وقاضى القضاة شمس الدين أحمد السروجى [3] الحنفى، وقاضى القضاة شرف الدين عبد الغنى الحرّانى الحنبلى [4] ، ورتّب لكل واحد منهم عن وظيفة التدريس فى كل شهر مائة درهم وثلاثين درهما نقرة، وجعل لكلّ درس معيدين، ورتّب لكل واحد منهما فى كل شهر خمسين درهما، ورتّب للطلبة لكل مذهب فى كل شهر ثلاثمائة نقرة، ورتّب درس حديث فرض تدريسه للشيخ سعد الدين مسعود [5] الحارثى وجعل له ولمعيدين ولطلبة نظير ما لطائفة من الطوائف المذكورة.
ورتب فيه ميعادا للعامة جعل شيخه القاضى مجد الدين بن الخشاب، ورتب له
__________
[1] انظر مراجع ترجمته فى ص 7.
[2] انظر مراجع ترجمته فى ص 90.
[3] انظر مراجع ترجمته فى ص 91.
[4] انظر مراجع ترجمته فى ص 91.
[5] هو سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثى الحنبلى توفى سنة 711 هـ، وأنظر البداية والنهاية 14: 64، وذيول العبر ص 64، والسلوك 2: 113، وحسن المحاضرة 1: 358، وشذرات الذهب 6: 28.(32/85)
فى كل شهر مائة وثلاثين درهما. ورتّب متصدرين [1] لأقراء القرآن، لكل منهما ستون درهما. ورتّب متصدرين [1] لإلقاء العلوم وهما الشيخ علاء الدين القونوى [2] والشيخ زين الدين بن الكتانى [3] ورتّب لكل منهما فى كل شهر ستين درهما. ورتّب متصدرين لإلقاء النحو، وهما الشيخ أثير الدين [4] أبو حيّان، وتاج الدين محمد البار نبارى [5] . رتّب لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، ورتّب ملقّنين للقرآن العظيم، رتّب لكل منهما فى كل شهر ثلاثين درهما، ورتّب لعشرين متلقّن لكل واحد منهم فى كل شهر عشرة دراهم.
ورتّب عشرين مقرئا يتلون كتاب الله تعالى عقب صلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب، ورتّب لكل واحد منهم عشرة دراهم.
ورتّب ثلاثة أئمة على ثلاثة مذاهب: مالك بن أنس، وأبى حنيفة، وأحمد ابن حنبل، [23] يصلون بالجامع، ورتّب لكل واحد منهم فى كل شهر ثلاثين درهما.
__________
[1] فى ك «مصدرين» والمثبت من ص.
[2] فى ك «مصدرين» والمثبت من ص.
[3] هو علاء الدين بن إسماعيل بن يوسف القونوى الفقيه الشافعى ينسب إلى قونية من بلاد الروم، توفى سنة 729. وأنظر البداية والنهاية 4: 147، وذيول العبر ص 162، والدرر الكامنة 3: 24، والدليل الشافى 1: 451، وطبقات الشافعية 6: 144، وشذرات الذهب 6: 91، والنجوم الزاهرة 9: 279، ودول الإسلام 2: 181.
[4] هو عمر بن الجمال أبى الحزم بن عبد الرحمن بن يونس، الشيخ زين الدين المعروف بابن الكتانى الدمشقى الشافعى، توفى فى رمضان سنة 738 هـ، وأنظر ذيول العبر ص 203، والبداية والنهاية 14: 183، والسلوك 212: 456، وشذرات الذهب 6: 117، وطبقات الشافعية 6: 245، والدرر الكامنة 3: 161
[5] هو أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حيان الغرناطى المغربى المالكى ثم الشافعى، توفى فى صفر سنة 745 هـ، وأنظر الوافى بالوفيات 5: 267، وفوات الوفيات 4: 71، والنجوم الزاهرة 10: 111، وشذرات الذهب 6: 145.
[6] هو تاج الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم البارنبارى، توفى سنة 747 هـ وقيل سنة 756، وأنظر الوافى بالوفيات: 1: 249، والدرر الكامنة 4: 315، والسلوك 2: 673، والدليل الشافى 2: 695، والنجوم الزاهرة 10: 320.(32/86)
ورتّب فقيهين يعلمان عدّة من الصبيان الأيتام، ورتّب لهما فى كل شهر خمسين درهما. ولعدة من الصّبيان ما يكفيهم على العادة.
وأنشأ بالجامع خزانة كتب، وقف بها نحو خمسمائة مجلّد من كتب العلوم، والآداب، والتواريخ وغير ذلك، وختمات شريفة، وربعات، وغير ذلك، ورتّب لشاهدها فى كل شهر ثلاثين درهما، واستنسخ ختمة شريفة سبعة أجزاء، فى ورق بغدادى كامل كتبت بالذهب المحلول، بخط شرف الدين بن [1] الوحيد، حلّ له جملة من الذهب، وصرف عليها جملة فى أجرة كاتب وترميل [2] ، وتذهيب آيات وأعشار وسور وفواتح وتجليد، ووقفها بالجامع يقرأ منها فى كل جمعة قبل الخطبة، ورتّب للقارئ فى كل شهر معلوما.
ورتّب غير ذلك من وجوه البر والقربات، وجلس المدرسون المذكورون وغيرهم من أرباب الوظائف بالجامع الحاكمى المذكور فى أول شهر ربيع الأول من هذه السنة- أثابه الله تعالى- وكان الذي حسّن له ترتيب ذلك وحثّه عليه الشيخ العارف نصر المنبجى [3] نفع الله به- وكان الأمير ركن الدين لا يخرج عن إشارته.
وفى هذه السنة عاد الأمير سيف الدين قطايا بن يوسف [4] أمير بنى كلاب، وسلطان، وجماعة من مشايخهم إلى الخدمة السلطانية.
وكان قد خرج عن الطاعة من مدة طويلة، وتوجّه إلى بلاد الشرق، ولحق بالتتار، فعاد الآن بمن معه، فأحسن السلطان إليهم، وشملهم بالإنعام والإقطاعات، وفرقهم فى بلاد الشام وعفا عن ذنوبهم السالفة، ولم يؤاخذهم.
__________
[1] هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف بن الوحيد الزرعى، توفى سنة 711 هـ. وانظر الوافى بالوفيات 3: 150، وفوات الوفيات 3: 390، والدرر الكامنة 4: 73، والسلوك 2: 113، والدليل الشافى 2: 627.
[2] الترميل: مأخوذ من المرملة وهى إناء يوضع فيه نوع من الرمل لتجفيف الكتابة (دوزى 1: 509) .
[3] هو أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجى، الحنفى، توفى سنة 719 هـ، وكان محدثا فقيها عارفا بالقراءات، وانظر غاية النهاية 2: 335، والدرر الكامنة 4: 392، والدليل الشافى 2: 833، وشذرات الذهب 6: 136.
[4] كذا فى الأصول. وفى السلوك 2: 3 «سيف الدين قطايا بن سيفر. أو بن سعيد» كما جاء بهامشه.(32/87)
وفيها فى شهر ربيع الأول وصل رسل [1] الملك طقطاى صاحب صراى [2] وبلاد القبجاق [3] ، فأكرمهم السلطان وأحسن إليهم، وأنزلهم بمناظر الكبش، وأعادهم إلى مرسلهم صحبة رسوله إليه وهو الأمير سيف الدين بلبان الصّرخدى [4] وذلك فى شهر رجب.
وفيها فى جمادى الأولى وفد إلى الأبواب السلطانية جماعة من التتار نحو مائتى فارس بنسائهم وأولادهم، وكان وصولهم إلى دمشق فى تاسع الشهر، وقيل: إن منهم أربعة من سلاح سارية الملك غازان.
وفيها عاد القاضى بدر الدين محمد بن فضل الله العمرى [5] من بلاد التتار، وكان وصوله إلى دمشق فى يوم الأربعاء الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، وكان ممن استصحبه وزير غازان معه إلى بلاد الشرق فى سنة تسع وتسعين وستمائة فعاد الآن.
وفيها فى شهر رمضان عاد رسل السلطان الذين كانوا توجهوا إلى غازان، وهما: الأمير حسام الدين أزدمر المجيرى [6] ، والقاضى عماد الدين بن السكرى وصحبتهما رسول خربندا ملك التتار [7] القائم بعد أخيه غازان، وكان وصولهم إلى دمشق فى يوم الأحد رابع عشرين شعبان، فتلقاهم نائب السلطنة بالشام وسائر الجيش بظاهر دمشق بأحسن زينة وأفخر ملبوس. ثم توجهوا إلى الأبواب
__________
[1] فى الأصول «رسول» والمثبت يقتضيه السياق.
[2] صراى: مدينة عظيمة. وهى عاصمة بلاد التتار الشمالية، تقع غربى بحر الخزر وشماليه على نحو مسيرة يومين، على شط نهر الأثل (الفولجا) من الجانب الشمالى الشرقى، وهى فرصة عظيمة للتجار ورقيق الترك (السلوك 1: 395) (أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 216- 217) .
[3] بلاد القبجاق. وترسم القفجاق، والقيثاق. وهى عبارة عن الإمبراطورية التترية التى قسمها جنكيزخان بين أبنائه الأربعة، وأطلق على القسم الشرقى منها اسم القبشاق الشرقى، والقسم الغربى منها القيشاق الغربى (السلوك 1: 394، 395 هامش) .
[4] هو الأمير سيف الدين بلبان الصرخدى الظاهرى، توفى سنة 730 هـ (السلوك 2: 326) .
[5] هو أول بدر الدين من بنى فضل محمد بن فضل الله بن مجلس العمرى الدمشقى ذكر فى وفيات سنة 706 هـ، وأنظر الوافى بالوفيات 4: 328، والدرر الكامنة 4: 254، والنجوم الزاهرة 8: 224.
[6] فى الأصول «المحمدى» والمثبت من السلوك 1: 916، 927، 2: 16.
[7] هذا اللفظ من ص، وف.(32/88)
السلطانية فى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من الشهر، وكان مضمون رسالتهم- فيما بلغنى- طلب الصلح والموادعة، وكفّ الغارات من الجهتين، وانتظام الصلح، واجتماع كلمة الاتفاق. فأحسن السلطان إلى رسله وأكرمهم، وأعادهم صحبة رسوله علاء الدين على بن الأمير سيف الدين بلبان القليجى أحد مقدمى الحلقة المنصورة، والقاضى سليمان المالكى الشبرايريقى، وشيرايريق قرية من قرى الغربية بالديار المصرية، وهو أحد نوّاب الحكم، وتوجهوا فى ذى القعدة وعادوا فى شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة، ومعهم رسل الملك خربندا.
وفيها عزل الأمير ناصر الدين محمد الشيخى [1] عن الوزارة فى أواخر شعبان، ورسم بمصادرته، وصودر وضرب بالمقارع بين يدى عز الدين أيبك الشجاعى شاد الدواوين [2] إلى أن مات، وكان قد أحدث مظالم كثيرة وقصد تجديد ما هو أشنع منها وأفحش من المكوس المنكرة والحوادث التى ما سمع بمثلها، [24] فما أمهله القدر، وأخذه الله تعالى شر إخذة، وأراح الناس من شره.
وكان ناصر الدين فى ابتداء أمره يخيط الأقباع بالقاهرة فى كل يوم بنصف درهم، ثم خدم الأمير شمس الدين بن التيتى [3] وحضر معه من بلاد التتار فى الدولة المنصورية، ثم توصّل وخدم جنديا من الحلقة فأعطى إقطاعا بساحل الغلّة، فبذل فى شد الجهة بذلا ووليها، فظهر منه اجتهاد، ثم نقل إلى شدّ الدواوين مدة، ثم نقل إلى ولاية القاهرة، وتأمّر بطبلخاناه، ثم ولى الجيزية، ومنها إلى الوزارة.
__________
[1] هو محمد ويقال: ذبيان وفى الدرر الكامنة 2: 195، والدليل الشافى 1: 301 «ذبيان بن عبد الله المادى الشيخى، ناصر الدين. توفى سنة 704 وأنظر النجوم الزاهرة 8: 214.
[2] شاد الدواوين: هو متولى التفتيش على الدواوين، والشاد هو متولى الوظيفة المخصصة بالكلمة المضافة إليه، وكان عمل شاد الدواوين بمصر فى أيام الأيوبيين والمماليك هو معاونة الوزير فى مراقبة الحسابات ومراجعتها. (السلوك 1: 105 حاشية للدكتور زيادة) .
[3] ما بين الحاصرتين ساقط من ك. وهو الأمير شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبى سعيد بن التيتى الآمدى (السلوك 2: 13) وفى شذرات الذهب 6: 11 «هو الأمير الكبير الأديب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أبى سعد بن على بن المنصور بن محمد بن الحسين الشيبانى الآمدى- توفى سنة 704 هـ» .(32/89)
ولما عزل فوضت الوزارة إلى القاضى سعد الدين بن عطايا [1] ، وكان يلى نظر البيوت السلطانية [2] فنقل إلى الوزارة، وخلع عليه فى يوم الأربعاء ثانى عشر شهر رمضان، وكان الذى اعتنى بأمره وعيّنه لهذا المنصب الأمير علم الدين سنجر، الجاولى [3] أستاذ الدار العالية. ولقد شاهدت الصاحب سعد الدين هذا قبل وزارته بثلاثة أيام وهو قائم بين يدى الأمير علم الدين المذكور وهو يقرأ عليه ورقة حساب لعلها تتعلق بديوان البيوت، فلما ولى الوزارة حضر الأمير علم الدين معه إلى مجلس الوزارة، وجلس بين يديه ووقّع الصاحب، وكتب بالامتثال فرمّل على خطه فيما بلغنى.
وفى هذه السنة وصل رسول من جهة أبى يعقوب [4] المرينى صاحب بلاد المغرب: وهو علاء الدين الشهرزورى [5] وأصله من أولاد الشهرزورية الذين نفوا فى الدولة الظاهرية، وحضر صحبته هدايا جليلة كثيرة، كثير من الخيل والبغال بالسروج، وجملة من القماش والذهب على سبيل الهدية والأمداد، فقبلت هديّته، وأنعم على رسول له. فى سنة خمس، وأعيد إلى مرسله على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
[1] هو سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا، توفى سنة 730 هـ (السلوك 2: 327) .
[2] هى وظيفة من الوظائف الديوانية التى يتولاها عادة أرباب القلم، وعمل شاغلها مشاركة الاستدار فى إدارة بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه، والحاشية والغلمان (صبح الأعشى 4: 20، 31) .
[3] هو علم الدين سنجر بن عبد الله الجاولى أبو سعيد. من أمراء الملك الناصر محمد بن قلاوون. توفى سنة 745 هـ. (الدرر الكامنة 2: 226، والنجوم الزاهرة 8: 155 هامش، والدليل الشافى 1: 324، وشذرات الذهب 6: 142) .
[4] هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق محبوب أبى بكر المرينى، ملك المغرب. توفى سنة 706.
وأنظر الدرر الكامنة 4: 480، والنجوم الزاهرة 8: 225، والسلوك 2/1: 23، والدليل الشافى 2: 808 هـ وشذرات الذهب 6: 13.
[5] الشهرزورى: نسبة إلى شهرزور إحدى جهات كردستان، وتوجد بها مدينة تسمى شهرزور. وانظر صبح الأعشى 4: 373.(32/90)
وفيها وصل متملّك [1] دنقلة وبلاد النوبة إلى الأبواب السلطانية، وأحضر صحبته التّقدمة الجارى بها العادة، والبقط [2] من الرّقيق والهجن والثمار والسنباذج [3] وغير ذلك، وسأل السلطان معه عسكرا لينهض به على أعدائه الذين يؤخرون مطيعه؛ فجرّد معه الأمير سيف الدين طقصبا فى طائفة من العسكر فتوجّه بهم وأغار وأوغل فى بلاد النّوبة وعاد.
ذكر ما وقع فى هذه السنة بدمشق من الحوادث والولايات
كان مما وقع فى هذه السنة بدمشق أن نائب السلطنة بها الأمير جمال الدين آقش [4] الأفرم أمر بعقد مجلس لنجم الدين أبى بكر ابن القاضى بهاء الدين خلّكان، وسماع ما يدّعيه، وكان قد تكرر منه أنه حكيم الزمان، وأنه يخاطب بكلام يشبه الوحي بزعمه، وذكر ألفاظا يدّعى أنه خوطب بها وهى:
يا أيها الحكيم افعل كذا، وأشباه ذلك، وادعى أنّه قد آطلع على علوم كثيرة؛ منها: عمل طبل إذا ضرب به انهزم جيش العدوّ، وعمل طلسم إذا كان مع الملك وأحضر إلى مجلسه السّم حصل للملك أعراض، يعلم ذلك منها، وأشباه هذا من الأعمال، فأحضر بين يدى نائب السلطنة وحضر المجلس الشيخ صدر الدين ابن الوكيل [5] والشيخ كمال الدين بن الزملكانى [6] خاصّة، وطولب بإقامة البرهان على صّحة دعواه، فلم يأت بما يدل على ذلك، فاعتذر عنه عند
__________
[1] سماه المقريزى فى السلوك 2/1: 7 «أياى» ويذكر القلقشندى فى صبح الأعشى 5: 276 «أن ملك النوبة فى أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون رجل اسمه أمى. وقد توفى سنة 716 هـ.
[2] البقط: هو ما يقبض من سبى النوبة فى كل عام، ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم. وقد تقرر هذا البقط على النوبة فى عهد إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبى السرح بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين- وقيل سنة إحدى وعشرين من الهجرة. وكان البقط فى عهد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى سنة 674 هـ فى كل سنة ثلاثة أفيال، وثلاث زرافات، وخمسة فهود من إناثها، ومائة نجيب إصهيب وأربعمائة رأس من البقر المنتجة مع البقط القديم وهو أربعمائة رأس من الرقيق فى كل سنة وزرافة، على أن يدفع مقابل ذلك ألف إردب من القمح وثلاثمائة إردب. (خطط المقريزى 3: 352 وما بعدها ط بيروت) .
[3] السنباذج: هو مادة حجرية للجلاء. واللفظ فى السلوك 2/1: 8 وهامشها بدال غير منقوطة بدل الذال.
[4] وترسم «آقوش» كما فى النجوم الزاهرة 8: 105.
[5] لفظ «ابن» سقط من ك. وهو صدر الدين محمد بن عمر بن مكى بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل وبابن الوكيل- توفى سنة 716 هـ (السلوك 2/1: 65، 74، 167، وشذرات الذهب 6: 40، والنجوم الزاهرة 9: 233) .
[6] هو كمال الدين محمد بن علاء الدين على بن كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الزملكانى الشافعى. توفى سنة 727 هـ (البداية والنهاية 14: 131، والوافى بالوفيات 4: 214، والدرر الكامنة 4: 192، وطبقات الشافعية للسبكى 9: 190، والنجوم الزاهرة 9: 270، والسلوك 2/1: 290، وذيول العبر ص 154 وشذرات الذهب 6: 78) .(32/91)
نائب السلطنة أنّه من بيت رياسة، ورجل فقير، وأنه قليل الاجتماع بالناس، وأن هذا الذى يعرض له نوع من الوسواس، وتاب هو إلى الله تعالى مما كان يدّعيه، واستمر مدّة ثم عاد إلى ما كان عليه من الدعوى فعقد له مجلس فى ثالث شهر رمضان سنة سبع وسبعمائة بدمشق أيضا [25] بحضور نائب السلطنة المشار إليه وقضاة القضاة والعلماء، وحصل البحث فى أمره فأفتى بعض العلماء بقتله، وأفتى بعضهم باستتابته وتعذيره، فجدّد عليه مكتوب بالتوبة عن الكلام فى المغيّبات، واعتنى به الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب كما أخبرنى فأقامه من المجلس وقال: هذا رجل مجنون وأرسله إلى البيمارستان [1] النورى، فأقام به مدة ثم خرج منه، ثم عاد إلى ما كان عليه، وهذا المذكور مستمر على دعواه لا يرجع عنها إلى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وهو بالقاهرة لا يزال يذكر هذا القول ويلهج به ويدّعيه وحضر إلىّ مرارّا ونهيته عنه فلم ينته ولا يرجع، ويقول: إنه حكيم الزمان، وإنه يخاطب بما صورته بيأيها الحكيم، ويذكر السلطان الملك الناصر ويقول: إنّه أرسل إليه، وإنه إذا اجتمع به له من الأوفاق والطلمسات أشياء كثيرة ذكرها لي يطول شرحها، وهو يتردّد إلى قاضى القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعى، ويعرض عليه أقواله، ويسأله الحديث له مع السلطان، فيصرفه عن ذلك، ويصرف له من الصدقات الحكمية ما يرتفق به.
ولما تكرر هذا القول منه وشاع وذاع عنه اتّصل بالأمير سيف الدين ألجاى الدوادار الناصرى فى سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة وأحضره وطالبه بإقامة البرهان على صحة ما يدّعيه فذكر أن الذى يذكره إنما يظهر ويفيد بين يدي السلطان، فقال له: انا أجمع بينك وبين السلطان، فقال نجم الدين: إنما أمرت أن يتحدّث لى مع السلطان قضاة القضاة، ولم أومر بك، فقال، أنا أدع القضاة، يتكلّمون مع السلطان فى أمرك، وحصره وضايقه بكل طريق وأقام
__________
[1] البيمارستان النورى: بدمشق وينسب إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آقسنقر. أنشأه ضمن ما أنشأ من مدارس ودور العدل والخوانق والبيمارستانات والخانات سنة 563 هـ وبناه بمال افتدى به ملك الفرنج نفسه من الأسر ابن الأثير: التاريخ الباهرى الدولة الأتابكية، ص 170- 171 والنويرى:
نهاية الأرب ج 27، ص 167، أبو شامة: كتاب الروضتين ج 1 ق 1 ص 21.(32/92)
عنده بمنزله بالقلعة أياما ثم عرض عليه التوبة والرجوع عن هذه الأقوال فتاب ورجع عنها بحضوره، وأخذ منه كتابا كان يدّعى أنّه جميعه ممّا خوطب وأطلقه ثم اجتمع بى بعد ذلك فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة وهو باق على دعواه مصّر على مقالته- عافاه الله تعالى- وهذا الرجل كان قبل هذه الدعوى ينوب عن القضاة بالشام، وناب عن القاضى بدر الدين بن جماعة فى بعض الأعمال، فلما غلب عليه هذا الحال ترك الولايات الحكمية وأخذ فى هذا النوع.
وفى هذه السنة رسم للأمير ركن الدين بيبرس العلائى أحد الأمراء بالشام أن يكون حاجيا بدمشق رفيقا للأمير سيف الدين بكتمر الحسامى، فامتنع من ذلك، وسأل الإعفاء، ثم أجاب ولبس التشريف السلطانى ووقف فى الخدمة وآستمر فى الحجبة هو والأمير سيف الدين بكتمر وذلك فى منتصف جمادى الآخرة، وكانا حاجبين كبيرين.
وفيها فى يوم الإثنين سادس عشرين شهر رجب توجه الشيخ تقى الدين ابن تيمية وجماعة إلى مسجد التاريخ [1] ظاهر دمشق، وأحضر جماعة من الحجّارين وقطع صخرة هناك كان الناس يزورونها وينذرون لها، وكان للناس فيها أقاويل، فأزالها.
وفى يوم الثلاثاء خامس عشرين شهر رمضان ضرب عنق الكمال الأحدب رئيس قلعة جديا من غوطة دمشق، وسبب ذلك أنه حضر إلى قاضى القضاة جمال الدين المالكى مستفتيا [2] وهو لا [3] يعلم أنه قاضى القضاة فاستفتاه فى رجل خاصم رجلا فقال أحدهما للآخر: تكذب ولو كنت رسول الله فسأله القاضى، من قال هذا؟ قال: أنا. فأشهد عليه من حضر مجلسه وذلك فى يوم الإثنين رابع عشرين الشهر، وحكم فى يوم الثلاثاء بإراقة دمه فى دار العدل، فضربت عنقه بسوق الخيل، ثم غسّل وكفّن وصلّى عليه ودفن.
__________
[1] مسجد التاريخ، ويسمى مسجد الحجر؛ بحيث يوجد به حجر قيل عليه أثر قدم النبى صلى الله عليه وسلم. ويقع بظاهر دمشق قبلى مسجد المصلى، وفيه بئر وساقية، وله منارة (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 361) .
[2] فى ك «مستغيثا» والمثبت من ص، وف.
[3] «لا» ساقطة من ك.(32/93)
وفيها فى يوم الجمعة سادس عشرين من شوال حكم قاضى القضاة جمال الدين المالكى بدمشق بإراقة دم أبى السرور السامرى كاتب الأمير سيف الدين أسندمر كرجى نائب السلطنة بالفتوحات، وأن ماله فيئ للمسلمين، وأشهد على نفسه بذلك بعد أن شهد عنده على المذكور بما يقتضى الحكم عليه بذلك من العظائم، وكان هذا الكاتب المذكور قد تمكّن من الأمير سيف الدين أسندمر بطرابلس تمكنا عظيما، فكان يركب معه فى الموكب الخيل المسوّمة [26] بالسروج المذهبة، والكتابيش [1] الحرير، ويسايره فى المواكب، وإذا قرب من دار السلطنة وترجّل الأمراء فى الخدمة تقدّم هو بفرسه والأمراء وغيرهم مشاة، وهو مستمر الركوب إلى باب دار السلطنة، وقصد الأمير سيف الدين بالوج [2] الحسامى أحد [3] الأمراء بطرابلس قتله ورتّب له من يقتله، فضربه بالسيف بعد المغرب فوقعت عمامته، فظن الضارب أنه ضرب عنقه، وجرى فذلك أمور يطول شرحها أوجبت اعتقال بالوج.
ولما اتّصل خبره بالأبواب السلطانية رسم بطلبه فأخفاه مخدومه وادّعى هربه، وخشى أنه إن أرسله تكلّم عليه بما يؤذيه، فاقتضى رأيه أنه جهّزه إلى دمشق مختفيا صحبه عزّ الدين أيدمر أحد مماليكه، وأمره أنه إذا قرب من دمشق يقتله ليلا، ففعل ذلك ووجد مقتولا، وعرف بأثر كان فى جسده.
وفيها فى يوم الخميس ثانى ذى القعدة بعد العصر حكم قاضى القضاة جمال الدين المالكى أيضا بإراقة دم شمس الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الباجريقى [4] وعدم قبول توبته، وكان قد شهد عليه بأمور توجب ذلك، وكان الذين شهدوا عليه الشيخ مجد الدين التونسى، وعماد الدين محمد
__________
[1] كتابيش- جمع كتبوش- وهو البرذعة تجعل تحت السرج (محيط المحيط) ويقال هو الغاشية المطرزة توضع فوق البرذعة (هامش الدكتور زيادة على السلوك 1: 452) .
[2] فى ك، ص فى هذا الموضع «فالوج» وفى مواضع أخرى «وهو ما أقره السلوك 2/1: 423.
[3] هذا اللفظ ساقط من ك.
[4] الضبط بالشكل عن السلوك 2/1: 4. والباجريقى نسبة إلى باجريق بالعراق الأعلى بين البلقاء ونصيبين. وله ترجمة فى الدرر الكامنة 4: 12 وقد توفى سنة 724 هـ وأنظر شذرات الذهب 6: 64.(32/94)
ابن القاضى شرف الدين بن مزهر، والشيخ أبو بكر ابن شرف الصالحى، وجلال الدين ابن البخارى خطيب [1] الزنجيلية ومحيى الدين محمد الرفاعى، وإبراهيم ابن إسماعيل اللبنانى [2] فهرب المذكور خوفا من القتل، فلما كان فى السابع عشر من رمضان سنة ست وسبعمائة نهضت بينه عند القاضى تقي الدين سليمان الحنبلى أن بين شمس الدين المذكور وبين من شهد عليه عداوة توجب إسقاط شهادتهم فى حقه، وشهد بذلك الشيخ ناصر الدين ابن عبد السلام، والشريفان زين الدين ابن عدلان، وأخوه وقطب الدين بن شيخ السلامية، وشهاب الدين الرومى، وشرف الدين قيران الشمس وغيرهم، قريبا من عشرين شاهدا، فحكم القاضى تقي الدين عند ذلك بحقن دمه وإبطال ما حكم به فى حقه، ونفّذ حكمه القاضى شمس الدين الأذرعى الحنفى، فأنكر المالكي ذلك وأشهد على نفسه أنّه باق على حكمه بإراقة دمه، ولم يظهر ابن الباجريقىّ بسبب هذا الاختلاف.
وفى هذه السنة توفى السيد الشريف
عز الدين جمّاز [3] بن شيحة أمير المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان، قد أضر فى آخر عمره، وأقام بإمرة المدينة بعده ولده الأمير ناصر الدين منصور وتوفى الصاحب أمين الدين أحمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب الوزير بهاء الدين على بن محمد بن سليم المعروف جدّه بابن حنّا، وكانت وفاته فى ليلة الخميس ثامن صفر، وكان فقيها شافعيا ديّنا خيّرا كثير البر والصّدقة والمعروف والإيتار مع تخلّيه عن المناصب، ودفن فى قبر كان قد حفره لنفسه بقرب الشيخ ابن أبى حمزة- رحمهما الله تعالى [4] وتوفّى بدمشق فى يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادى الآخرة الأمير ركن الدين بيبرس الموفقى المنصورى [5] ، أحد الأمراء مقدمى الألوف بدمشق، وظهر بعد وفاته أنّ مماليكه خنقوه وهو سكران، ولم يخلف وارثا غير من يرثه
__________
[1] الزنجيلية: إحدى مدارس الحنفية- ويقال الزنجارية- وتقع خارج باب توما بدمشق وباب السعادة تجاه دار الأصعمة، وتنسب إلى الأمير عز الدين أبى عمرو عثمان بن الزنجبيلى صاحب اليمن بناها سنة 626 هـ (الدارس فى تاريخ المدارس 1: 526) .
[2] فى ك «اللبانى» والمثبت من ص، وف.
[3] فى الأصول «حماد» والمثبت من العقد الثمين 3: 436، والتحفة اللطيفة فى تاريخ المدينة الشريفة للسخاوى 1: 423، والنجوم الزاهرة 8: 58، والدليل الشافى 1: 250.
[4] انظر النجوم الزاهرة 8: 215، وفيه «زين الدين» .
[5] انظر الدرر الكامنة 2: 43، والنجوم الزاهرة 8: 216، والدليل الشافى 1: 205.(32/95)
بالولاية، فادعى أولاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر أنّه مملوك أبيهم باق على رقّه وأن عتق السلطان الملك المنصور له لم يصادف محلّا، فطولبوا بالإثبات فعجزوا عنه، وشهد الأمير شجاع الدين نقيب العساكر بدمشق أن ركن الدين المذكور كان مملوك الموفق نائب الرّحبة وأنّه جهزّه فى جملة تقدمة إلى السلطان الملك المنصور فى ابتداء سلطنته، فوصل إلى دمشق وقد استولى الأمير شمس الدين سنقر الأشقر عليها فوضع يده على التقدمة وأخذ بيبرس هذا فى جملة ما أخذ، فلما أخرج الأمير شمس الدين من دمشق استعيد بيبرس هذا، وأحضر إلى السلطان، وقال الموفق إنه إنما سيّره السلطان الملك المنصور فورثه السلطان الملك الناصر بالولاء الشرعى، ودفع أولاد سنقر الأشقر عن ميراثه.
وتوفى الأمير شمس الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبى سعد [1] الآمدى المعروف بابن التيتى فى أحد الجمادين وكان رجلا فاضلا سمع الحديث وأسمعه، وولى نيابة [27] دار العدل مدة فى الدولة المنصورية الحسامية، وفيها قتل الأمير سيف الدين بهادر شمس المنصورى [2] أحد الأمراء بدمشق، وكان قد توجه فى خدمة نائب السلطنة إلى الصيد بالمرج فكبسهم طائفة من عرب غزنة، ولم يعلموا أن نائب السلطنة بالعسكر، فركب بهادر سمز هذا وحمل، على العرب وجعل يرميهم بالنّشّاب ويقول أنا بهادر دمشق، فرماه بعض العرب بحربة وقال: خذها وأنا عصفور بن عصفور فقتله، وحمل إلى تربة قبر ابن الست [3] فدفن هناك، وقتل أكثر العرب، ولم ينج منهم الّا من أسرع به فرسه، ولما مات ورثه أخوه بهادر الجمالى مملوك نائب السلطنة أثبت أخوّته، ولم يحصل له من ميراثه إلّا نحو عشرين ألف درهم، فإنه ظهر عليه من الديون ما يقارب ثلاثمائة ألف درهم، فبيع موجوده ووفّيت ديونه وتسلم أخوه ما بقى.
__________
[1] كذا فى الأصول. وفى النجوم الزاهرة 8: 217 «أبى سعيد» كذلك فى السلوك 2: 13. وفى شذرات الذهب 6: 11 «أبى سعد» .
[2] هو الأمير سيف الدين بهادر بن عبد الله المنصورى، المعروف بسمز؛ أى السمين (الدرر الكامنة 2: 31، والبداية والنهاية 14: 34، والدليل الشافى 1: 201، والنجوم الزاهرة 8: 217) .
[3] فى ص، وفى ف «قبر الست» ، ولعلها ست الشام صاحبة المدرسة الشالية البرانية (خطط الشام 6: 281) .(32/96)
واستهلت سنة خمس وسبعمائة
فى هذه السنة عاد علاء الدين أيدغدى رسول المرينى ملك المغرب والحجاز [1] الشريف، وكتب جوابه وجهّز إلى مرسله، وأرسل معه الأمير علاء الدين أيدغدى التليلى والأمير علاء الدين أيدغدى الخوارزمىّ، وجهز معهما إلى الملك ما يليق به من الهدايا النّفيسة، وجهّز له خمسة عشر مملوكا من التتار الذين أسروا فى وقعة مرج الصّفّر وخمسة مماليك أتراكا وفيها وصل رسول الملك المؤيد هزبر الدين داود [2] وصاحب اليمن ومعه الهدايا والتقادم من البهار والقتا والأقمشة والتحف، وغير ذلك، فعرضت هديّته وقوبلت بما جرت العادة به من هديتهم فكانت أقلّ منها، فصدرت إليه الأمثلة السلطانية بالإنكار والتهديد والإغلاظ له فى القول [3] وأرسلت فعاد الرسول بغير جواب فأوجب ذلك ما نذكره من الاهتمام بقصد اليمن وإرسال الرسل والله أعلم.
ذكر الإغارة على بلاد سيس [4] وأسر الأمراء
وفى هذه السنة فى شهر المحرم أغارت العساكر الحلبية على بلاد سيس وكان الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى قد جرّد طائفة من العسكر الحلبى فى ذى الحجة سنة أربع وسبعمائة، وقدم عليهم مملوكه الأمير سيف الدين قشتمر، وكان ولد قطلوشاه بأطراف الروم فى ثلاثة آلاف فارس فأرسل إليهم صاحب سيس، وبذل لهم مالا جزيلا يقال إنه بذل لكل واحد سبعمائة درهم وكان عنده جمع من الفرنج فاجتمعوا هم والتتار فى ستة آلاف فارس، فلما كان فى مستهلّ هذه السنة بلغ العسكر الحلبى اجتماعهم، فذكر الأمراء ذلك لمقدمهم الأمير سيف الدين قشتمر وأشاروا عليه أنهم يرحلون بالغنائم قبل أن يلحقهم
__________
[1] هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المرينى. وانظر وفاته فى هذه السنة. وانظر فى النجوم الزاهرة 8: 215.
[2] هو الملك هزبر الدين داود بن يوسف بن عمر بن رسول التركمانى فى الأصل، ولى اليمن بعد أخيه الملك الأشرف فى المحرم سنة 696 هـ وتوفى سنة 721 هـ (فوات الوفيات 1: 428، والدرر الكامنة 2: 190، والدليل الشافى 1: 297، وشذرات الذهب 6: 55.
[3] وقد جاء فى النجوم الزاهرة 8: 217 «أن هذه الهدية قوبلت بالإنكار الشديد» .
[4] سيس: عاصمة أرمينية الصغرى، وموقعها بين أنطاكية وطربوس، وتقع فى جنوب تركيا الآسيوية (معجم البلدان 3: 217، والمنجد فى الأعلام 377) .(32/97)
العدو، فلم يرجع إلى رأيهم وقال: أنا بمفردى [1] ألتقى [2] هذا الجمع فراجعوه فلم يرجع، ففارقه بعض الأمراء فى نحو ربع [3] العسكر، وساق تلك الليلة جميعها ونجا بمن معه، وبقى بقية العسكر فجاءهم التتار ومن انضم إليهم من الأرمن، فانهزم من بقى من العسكر الحلبى من غير قتال، فأسر التتار منهم وقتلوا، وأسروا من الأمراء بحلب فتح الدين صبّرة المهمندار، وشمس الدين آقسنقر الفارسى، وسيف الدين قشتمر النّجيبى، وسيف الدين قشتمر المظفرىّ فى جماعة من العسكر وأرسلوا إلى الأردو [4] وسلم الأمير سيف الدين قشتمر الشّمسىّ مقدم الجيش فى جماعة، ووصلوا إلى حلب.
ولما وقع ذلك ندم صاحب سيس وخشى غائلة العساكر، وكتب إلى الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة بحلب يبذل له الطاعة والأموال، ويسأل الصفح عن ذنبه، وأنه يقوم بالقطيعة المقررة عليه، فطالع قراسنقر الأبواب السلطانية فى ذلك فأجيب سؤاله [28] .
وفى هذه السنة وصل إلى الأبواب السلطانية رسل ملك الكرج [5] وكان وصولهم من جهة القسطنطينيّة، وجهزهم الأشكرى صحبة رسله، فوصلوا إلى الأبواب السلطانية، وكان مضمون رسالتهم سؤال السلطان أن تعاد عليهم كنيسة معروفة بهم بالقدس تسمى المصالبة [6] كانت قد أخذت منهم فأعيدت إليهم وفيها وصل إلى الأبواب السلطانية من بلاد التتار سيف الدين حنا وفخر الدين داود إخوة، الأمير سيف الدين سلّار نائب السلطنة الشريفة، ووصلت والدته أيضا معهما فأنعم السلطان عليهما وأمرهما طبلخانات.
__________
[1] فى ص «بمنفردى» .
[2] كذا فى الأصول، والمعنى ألتقى هذا الجمع بمفردى.
[3] يقول ابن أيبك الروادارى فى كنز الدرر 9: 132 «أن الذى فارقه هو ابن حاجا فى أكثر من ثلث العسكر» .
[4] الأردو: لفظ مغولى معناه المعسكر. وقد استعمل فى المراجع العربية والفارسية للدلالة على معسكر رئيس المغول (ابن أبى الفضائل- النهج السديد 116، 117، 240، 273) .
[5] الكرج: جيل من الناس يدينون بالنصرانية، كانوا يسكنون فى جبال القيق، وبلد السرير، تقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب إليهم، وهى جورجيا من جمهوريات الاتحاد السوفييتى حاليا (النجوم الزاهرة 7: 163، والمنجد فى الأعلام 424) .
[6] كذا فى ك وف. وفى ص. والسلوك 2/1: 17 «المصلبة» .(32/98)
ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان [1] وإبادة من بها وتمهيدها
كان أهل جبال الكسروان قد كثروا وطغوا واشتدت شوكتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر الناصرى [2] عند انهزامه فى سنة تسع وتسعين وستمائة، وتراخى الأمر وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طغيانهم وأظهروا الخروج من الطاعة، واغترّوا بجبالهم المنيعة، وجموعهم الكثيرة، وأنه لا يمكن الوصول إليهم، فجهّز إليهم الشريف زين الدين بن عدنان، ثم توجّه بعده فى ذى الحجة سنة أربع وسبعمائة الشيخ تقى الدين ابن تيمية، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهرى، وتحدثا معهم فى الرجوع إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهة ومملكة من الممالك الشامية، وتوجّه نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من دمشق بسائر الجيوش فى يوم الإثنين ثانى المحرم وجمع جمعا كثيرا من الرجال فيقال إنه اجتمع من الرجالة نحو خمسين ألفا وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين [3] والجرديين وتوجه الأمير سيف الدين أسندمر بعسكر الفتوحات من الجهة التى تلى بلاد طرابلس، وكان قد نسب إلى مباطنتهم، فكتب إليه فى ذلك، فجرّد العزم وأراد أن يفعل فى هذا الأمر ما يمحو عنه أثر هذه الشناعة التى وقعت وطلع إلى جبل الكسروان [4] من أصعب مسالكه واجتمعت عليهم العساكر فقتل منهم خلق كثير، وتبدد شملهم وتمزقوا فى البلاد، واستخدم الأمير سيف الدين أسندمر جماعة منهم بطرابلس بجامكية وجراية من الأموال الديوانية، وسمّاهم رجال الكسروان [4] وأقاموا على ذلك سنين وأقطع بعضهم أخبارا من حلقة طرابلس، وتفرق بقيتهم فى البلاد واضمحل أمرهم وخمل ذكرهم، وعاد نائب السلطنة إلى
__________
[1] فى ك «الكيروان» والتصويب من ص والسلوك 2/1: 15، وهى جبال تتصل بسلسلة جبال لبنان ويسكنها الدروز (السلوك 1/2: 902 حاشية للدكتور زيادة) .
[2] فى الأصول «المنصورى» والصواب ما أثبته لأن هذا العسكر هو عسكر الناصر محمد بن قلاوون فى سلطنته الأولى.
[3] فى ك «الكيروانيين» والتصويب من ص والسلوك 2/1: 15.
[4] فى ك «الكيروان» .(32/99)
دمشق فى رابع عشر صفر من السنة وأقطع جبال الكسروانيين والجرديين لجماعة من الأمراء التركمان وغيرهم منهم: الأمير علاء الدين بن معبد البعلبكى وعز الدين خطاب، وسيف الدين بكتمر الحسامى، وأعطوا الطبلخانات وتوجّهوا لعمارة إقطاعهم وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت.
وفى هذه السنة فى شهر ربيع الأول نقل الأمير. سيف الدين بكتمر الحسامى الحاجب من الحجبة بدمشق إلى شد الدواوين وأستاذ الدارية بالشام فامتنع من ذلك ثم الزم فاشترط شروطا فطولع بها فأجيب إليها وباشر الوظيفة، وأوقعت الحوطة على الأمير شرف الدين قيران المشد وفيها أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبى وأنعم عليه بإمرة بدمشق، وتوجه إليها وكان فى الاعتقال من الأيام المنصورية الحسامية والله أعلم [29] .
وفى هذه السنة كانت بدمشق فتنة بين جماعة من الفقراء الأحمدية والشيخ تقى الدين بن تيمية وذلك أنهم اجتمعوا فى يوم السبت تاسع جمادى الأولى عند نائب السلطنة وحضر الشيخ تقى الدين فطلبوا منه أن يسلم إليهم حالهم وأن تقى الدين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم وأرادوا أن يظهروا شيئا مما يفعلونه فقال لهم الشيخ: إن اتّباع الشريعة لا يسع الخروج عنه، ولا يقرّ أحد على خلافه، وهذه البدع التى تفعلونها من دخول النار وإخراج الزبد من الحلق لها [1] حيل ذكرها وقال: من أراد منكم دخول النار فليغسل جسده فى الحمام ثم يدلكه بالخل ثم يدخل بعد ذلك فإن قدر على الدخول دخلت معه ولو دخل بعد ذلك لم يرجع إليه بل هو فعل من أفعال الدجال فانكسرت حدّتهم وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من أعناقهم، وعلى أن من خرج منهم عن الكتاب والسنة قوبل بما يستحقه وضبط المجلس المذكور وما وقع فيه وما التزم الفقراء الأحمدية الرفاعية به [2] ، وصنف الشبخ جزءا يتعلق بهذه الطائفة وأفعالهم.
__________
[1] فى ك «من الحلو» والمثبت من ص، وف.
[2] سقط هذا اللفظ من ك.(32/100)
ذكر حادثة الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية
وما اتفق لطائفة الحنابلة، واعتقال تقى الدين وما كان من خبره إلى أن أفرج عنه أخيرا كانت هذه الحادثة التى نذكرها فى سنة خمس وسبعمائة وانتهت فى أواخر سنة تسع وسبعمائة وكان لوقوعها أسباب وموجبات ووقائع اتفقت بالقاهرة ودمشق وقد رأينا أن نذكر هذه الواقعة ونشرح أسبابها من ابتداء وقوعها إلى انتهائها ولا نقطعها بغيرها وإن خرجت سنة ودخلت أخرى السبب المحرك لهذه الواقعة الموجب لطلب الشيخ تقى الدين المذكور إلى الديار المصرية فقد أطلعت عليه من ابتدائه وهو أن بعض الطلبة واسمه عبد الرحمن العينوسى [1] سكن بالمدرسة الناصرية التى تقدم ذكرها بالقاهرة وكنت بها وبها قاضى القضاة زين الدين المالكى وغيره، فاتفق اجتماعى أنا والقاضى شمس الدين محمد بن عدلان الكنانى القرشى الشافعى بمنزلى بالمدرسة المذكورية فى بعض الليالى وهو أيضا ساكن بالمدرسة ومعيد بها فحضر عبد الرحمن المذكور إلينا ومعه فتيا وقد أجاب الشيخ تقى الدين عنها فأخرجها من يده وشرع يذكر الشيخ تقى الدين وبسط عبارته وعلمه وقال هذه من جملة فتاويه ولم يرد فيما ظهر أذاه وإنما قصد والله أعلم نشر فضيلته فتناولها القاضى شمس الدين ابن عدلان منه وقرأها فإذا مضمونها.
بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضى الله عنهم أجمعين أن يبينوا ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلما بأوضح عبارة وأبينها من أن ما فى المصاحف هو كلام الله القديم أم هو [2] عبارة عنه لا نفسه وأنه هو حادث أو قديم وأن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
[3] هو استواء حقيقة أم لا؟ وأن كلام الله عز وجل بحرف وصوت أم كلامه صفة قائمة لا تفارق وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول [4] شيئا منه ويقول أو من به كما أنزل هل يكفيه ذلك فى الاعتقاد أم يجب عليه التأويل وأن السائل رجل متحير لا يعرف شيئا وسؤاله بجواب ليّن ليقلد قائله افتونا مأجورين رحمكم الله.
__________
[1] وفى ص «العنوسى» .
[2] سقط هذا اللفظ من ك.
[3] سورة طه آية 5.
[4] فى ك «يتناول» والمثبت من ص، وف.(32/101)
فأجاب الشيخ تقى الدين ما صورته: الحمد لله رب العالمين الذى يجب على الإنسان اعتقاده فى ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم وهو أن القرآن الذى أنزله الله على محمد عبده ورسوله كلام الله وأنه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه قرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وأنه قرآن مجيد [30] فى لوح محفوظ وأنه فى أم الكتاب لدى الله تعالى حفيظ وأنه فى الصدور كما
قال النبى- صلى الله عليه وسلم- «استذكروا القرآن فهو أشد تفلتا من صدور الرجال من النعم من عقلها»
وقال:
«الجوف الذى ليس فيه شئ من القرآن كالبيت الخرب» أن ما [1] بين لوحى المصحف الذى كتبه الصحابة كلام الله كما
قال النبى صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم»
فهذه الجملة [2] تكفى المسلم فى هذا الباب وما تفصيل ما وقع فى ذلك من النزاع فكثير منه [3] يكون كلام [4] الاطلاقين خطأ ويكون الحق فى التفصيل ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حق صاحبه وهذا من التفرق والاختلاف الذى ذمه الله ونهى عنه: فقال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ
[5] قال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
[6] وقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا
[7] وقال: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
[8] فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه الراشدين والسابقين [9] من الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فإن مواقع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن
__________
[1] فى ك «انما» .
[2] فى ك «الحكمة» والمنبت من ص، وف.
[3] ما بين القوسين ساقط من ك.
[4] فى ك «كلام» والمثبت من ص، وف.
[5] سورة البقرة آية 176.
[6] سورة آل عمران آية 105.
[7] سورة آل عمران آية 103.
[8] سورة البقرة آية 213.
[9] عبارة ص «السابقين الراشدين» .(32/102)
اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول من جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذى اتفق عليه العقل [1] والسمع وبيان ما يدخل فى هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط فى مواضع متعددة ولكن نذكر هنا جملة مختصرة بحسب حال السائل، والواجب أمر العامة بالحمل على الثابت [2] بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض فى التفصيل الذى يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله، والتفصيل المختصر [3] فنقول: من اعتقد أن المداد الذى فى المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهذا ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين وسائر علماء المسلمين ولم يقل أحد قط [4] من علماء المسلمين إن ذلك [5] قديم لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم [6] ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد ونحوهم فهو مخطئ فى هذا النقل أو متعمد الكذب بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أئمة أصحابه تبديع [7] من قال لفظى بالقرآن غير مخلوق كما جهموا من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروزى أخص أصحاب الإمام أحمد به فى ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال فى كتاب السنة الذى جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من السنة فى أبواب الاعتقاد وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظى بالقرآن غير مخلوق فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارا شديدا وبدع من قال ذلك وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك فكيف من يزعم أن صوت العبد قديم وأقبح من ذلك من يحكى عن بعض العلماء أنّ المداد الذى فى المصحف قديم، وجميع أئمّه أصحاب الإمام أحمد وغيره أنكروا ذلك، وما علمت أنّ عالما نقل ذلك إلّا
__________
[1] فى ك «بالقول» والمثبت من ص، ف.
[2] كذا عبارة ص، وف «بالجمل الثابتة» .
[3] فى ص «المختص» والمثبت من ص، وف.
[4] وفى ص «ولم يقل قط أحد» .
[5] فى ك «فى» والمثبت من ص، وف.
[6] كذا فى ك، وف. وفى ص «أصحاب الإمام أحمد ونحوهم» .
[7] أى نسبتهم إلى البدعة.(32/103)
ما بلغنا عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم وقد ميزّ الله- تعالى- فى كتابه بين الكلام والمداد، فقال: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً
[1] فهذا خطأ من هذا الجانب، وكذلك من زعم أنّ القرآن محفوظ فى الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه متلو بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب فى المصحف، كما أنّ الله مكتوب فى المصحف، وجعل ثبوت القرآن فى الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات [2] الله فى هذه المواضع، فهذا أيضا مخطئ فى ذلك، فإنّ الفرق بين ثبوت الأعيان فى المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بيّن واضح، فإن الأعيان لها أربع مراتب: مرتبه فى الأعيان، ومرتبه [31] فى الأذهان، ومرتبة فى اللسان، ومرتبة فى البيان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ، فإذا قيل: إن العين فى الكتاب كما فى قوله: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
[3] فقد علم أن الذى فى الزبر إنما هو الخط المطابق للفظ المطابق للعلم فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهى اللفظ والخط وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة غيرهما بل نفس الكلام يجعل فى الكتاب، وإن كان بين [4] الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من [5] غير وجه آخر الا إذا أريد أن الذى فى المصحف هو ذكره والخبر عنه، مثل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
[6] إلى قوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ
[7] فالذى فى زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد. إن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ولكن فى زبر الأولين صح ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد وخبره، كما أن أفعال العباد فى الزبر كما قال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
[8] فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء
__________
[1] سورة الكهف آية 109.
[2] فى ك «كتاب» والمثبت من ص، وف.
[3] سورة القمر آية 52.
[4] فى ك، وفى «من» والمثبت من ص.
[5] فى ك «عن» والمثبت من ص، وف.
[6] سورة الشعراء، الآيات 191- 192.
[7] سورة الشعراء 196- 197.
[8] سورة القمر آية 52.(32/104)
فى الزبر وبين كون الكلام نفسه فى الزبر، كما قال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.
فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ
[1] وقال: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
[2] فمن قال: إنّ المداد قديم فقد أخطأ، ومن قال: ليس فى المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذى هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن فى المصحف، كما أنّ سائر الكلام فى الأوراق كما عليه الأمة مجتمعة، وكما هو فى نظر المسلمين، فإنّ كلّ مرتبة لها [3] حكم يخصها، وليس وجود الكلام من الكتاب لوجود الصفة بالموصوف، مثل العلم والحياة بمحلها حتى يقال: إنّ صفة الله حلت بغيره أو فارقته، ولا وجوده فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على البارى تعالى، حتى يقال: ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله، بل هو قسم آخر ومن لم يعط كل مرتبة فيما يستعمل فيها أداء الطرق حقها فيفرق بين وجود الجسم فى الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، والصورة بالمرآة ويفرق بين رؤية الشئ بالعين يقظة ورؤيته بالقلب يقظة ومناما، ونحو ذلك، وإلا اضطرب عليه الأمر [4] ولذلك سؤال السائل عما فى المصحف، هل هم حادث أو قديم، سؤال مجمل. فإنّ لفظ القديم أولا مأثور عن السلف [ليس] [5] وأما الذى اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تلى وحيث كتب وهو قرآن واحد وكلام وإن تنوعت الصور التى يتلى بها، وتكتب من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام كلام من قاله مبتدءا، لا كلام من بلغه مؤديا، فإذا سمعنا محدثا يحدث
بقول النبى- صلى الله عليه وسلم- «إنما الأعمال بالنيات»
قلنا هذا كلام رسول الله لفظه ومعانيه، مع أن علمنا أن الصوت صوت المبلغ لا صوت رسول الله وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر ونحن إذا قلنا هذا كلام الله لما نسمعه من القارئ من قرأه فى المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع
__________
[1] سورة الواقعة الآيتان 77، 78.
[2] سورة البينة الآيتان 2، 3.
[3] فى ك «بها» والمثبت من ص، وف.
[4] فى ص «الأمور» .
[5] ما بين الحاصرتين ساقط فى الأصول، وبه يستقيم السياق. والمعنى.(32/105)
النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومداد الكاتب، فمن قال: صوت القارئ ومداد [1] الكاتب كلام الله الذى ليس بمخلوق فقد أخطأ، وهذا الفرق الذى بينه الإمام [أحمد] [2] لمن سأله وقد قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
[3] فقال:
هذا كلام الله غير مخلوق؟ فقال نعم فنقل السائل عنه أنه قال: لفظى بالقرآن غير مخلوق قد عابه أحمد وزبره زبرا [4] شديدا وطلب عقوبته وتعذيره [5] وقال: أنا قلت لك لفظى بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا ولكن قلت لى لما قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: فلم تنقل عنى ما لم أقله بين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما يسمعه من المبلغين والمؤذنين هذا كلام الله، فالإشارة إلى الحقيقة التى تكلم بها الله وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته فإذا أشار إلى شئ من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله وقال هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ، فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، والقرآن فى المصاحف كما أن سائر الكلام فى المصحف ولا يقال إن شيئا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومداد فى العالم فهو مخلوق، ويقال أيضا: القرآن الذى فى المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذى يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق.
وتبيين هذا الجواب عن المسألة الثانية [32] وهو قوله: أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا فإن [6] إطلاق الجواب فى هذه المسألة نفيا وإثباتا خطأ، وهى من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة لما قال قوم من متكلمة الصفاتية: إنّ كلام الله الذى أنزله على أنبيائه كالتوراة، والإنجيل والقرآن، والذى لم ينزله، والكلمات التى [7] كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره، ونهيه وخبره ليس إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرية [8] كانت
__________
[1] كذا فى ك، وف. وفى ص «المتكلم» .
[2] هكذا اللفظ ساقط فى ك.
[3] سورة الإخلاص آية 1.
[4] زبره بمعنى عزره (محيط المحيط) .
[5] فى ك «تقريره» والمثبت من ص.
[6] فى ك «فشأن» والمثبت من ص، وف.
[7] فى ك «الذى» والمثبت من ص، وف.
[8] فى ك «بالعربية» والمثبت من ص، وف.(32/106)
التوراة، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وأن الأمر [1] ، والنهى والخبر صفات لها لا أقسام لها وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله تعالى ولم يتكلم بها وليست كلامه؛ إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم، والصواب الذى عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخارى صاحب الصحيح فى كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع النصوص الثابتة وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله تعالى: حروفه ومعانيه ليس شيئا من ذلك كلاما لغيره ولكن أنزله على رسله وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعانى فقط بل مجموعهما كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك هو أصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره فإن الله ليس كمثله شئ لا فى ذاته ولا فى صفاته، ولا فى أفعاله، وكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد فى أسمائه وآياته، ومن حجد ما وصف به نفسه فقد ألحد فى أسمائه وآياته وقد بينت فى الجواب المبسوط مراتب مذاهب أهل الأرض فى ذلك وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا فى نفس الأنبياء تفيض عليهم المعانى من العقل الفعال فتصير فى نفوسهم حروفا كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث فى نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول [2] فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول لكنه كلام شريف صادر عن نفس
__________
[1] فى ص «الأمور» .
[2] فى ك «قوله» والمثبت من ص، وف. وانظر خبر الوليد المغيرة المخزومى فى تفسير القرآن العظيم لابن كثير، سورة المدثر من أولها إلى قوله تعالى إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
، ج 4: 469- 472.(32/107)
صافية، وهؤلاء هم الصابئة [1] فنفرت منهم الجهمية [2] فقالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه من الهواء أو غيره فأخذ بعض ذلك قوم من متكلمة الصفات [3] فقالوا: بل نصفه، وهو المعنى [4] كلام الله ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال: إنه قديم لم يزل لا متعلق المشيئة؟ أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء على قولين مشهورين فى ذلك وفى السمع والبصر ونحوهما ذكرهما الحارث المحاسبى عن أهل السنة، وذكرهما أبو بكر عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة فى جنس هذا الباب وليس هذا موضع بسط ذلك الفصل.
وأما سؤاله عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
[5] فهو حق أخبر الله به، وأهل السنة متفقون على ما قاله ربيعة بن أبى عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور فى سماء تظله أو أنه محصور فى شئ من مخلوقاته، أو أنه تحيط به جهة من جهات مصنوعاته فهو مخطئ ضال ومن قال إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ما هنا لك إلا العدم المحض والنفى الصرف فهو معطل جاحد
__________
[1] الصابئة: قوم دينهم التعصب للروحانيات: أى الملائكة. وضد الحلفاء الذين دعوتهم الفطرة، ومؤدى مذهبهم: أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالوسطاء المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة، وقالوا إن الأنبياء أمثالنا فى النوع، وأشكالنا فى القدرة، وأناس بشر مثلنا، فمن أين لنا طاعتهم، وبأية مزية لهم لزم متابعتهم إلخ. (دائرة المعارف لمحمد فريد وجدى مجلد «5» مادة صبأ) .
[2] الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان. قالوا: لا قدرة للعبد أصلا- لا مؤثرة ولا كاسبة- بل هو بمنزلة الجمادات. والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقى موجود سوى الله تعالى (التعريفات للشريف الجرجانى ص 55 ط مطبعة الاتحاد) .
[3] متكلمة الصفات: جماعة كبيرة كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام، والجلال والإكرام إلخ. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف تثبتها سمى السلف صفاتية، والمعتزلة معطلة. (دائرة المعارف لفريد وجدى المجلد «5» .
[4] فى الأصول «بمعنى» والمثبت «يقتضيه السياق.
[5] سورة طه آية 5.(32/108)
لرب العالمين مضاه [1] لفرعون الذى قال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
[2] بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته على عرشه بأين من مخلوقاته ليس فى ذاته شئ من مخلوقاته [33] ولا فى مخلوقاته [3] شئ من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفى أن يكون الله فوق السموات فهو جهمى ضال مضل.
وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين ولفظ الظاهر فى عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه علي الظاهر الذى هو فى خصائص المخلوقين حتى يشبه الله بخلقه فهذا ضلال بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شئ لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله بل قد قال ابن عباس رضى الله عنهما [4] ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء يعنى أن موعود الله فى الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن يخالف حقا بقية حقائق هذه الأمور الموجودة فى الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا تدركه العباد؛ إذ ليست حقيقته كحقيقة شئ منها وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر [الذى هو الظاهر] [5] فى عرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد فى أسماء الله تعالى ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجرى ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة فهذا مصيب فى ذلك وهو الحق وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها والله أعلم.
__________
[1] هذا اللفظ ساقط من ك.
[2] سورة غافر الآيتان 36، 37.
[3] عبارة الأصول «ليس فى ذاته شئ من مخلوقاته شئ من ذاته» والمثبت يستقيم معه الرأى» .
[4] الترضية ساقطة من ك.
[5] ما بين القوسين ساقط من ك.(32/109)
فلما وقف القاضى شمس الدين بن عدلان على هذه الفتيا أنكر منها مواضع وعرضها على القاضى زين الدين المالكى فقال قاضى القضاة أحتاج أن يثبت عندى أن هذا خط تقى الدين المذكور فإذا ثبت ذلك رتبت عليه مقتضاه، وانفصل المجلس فى تلك الليلة على هذا، ثم شهد جماعة عند قاضى القضاة أن الجواب المذكور بخط تقى الدين المذكور فثبت ذلك عنده وأشهد على نفسه به فى شعبان من السنة واجتمع قاضى القضاة زين الدين بالأمراء وعرفهم ما أنكره من فتياه فرسم بطلبه إلى الأبواب السلطانية وتوجه البريد بذلك فتوقف نائب السلطنة بالشام الأمير جمال الدين فى إرساله واتفق وصول الأمير سيف الدين الطنقش الجمالى أستاذ دار نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب السلطانية فى الشهر المذكور فى بعض المهمات وملك السلطان مخدومه من أملاكه بالشام أماكن أحتاج إلى إثباتها على قاضى القضاة زين الدين المالكى فاجتمع بى بسبب ذلك فدخلت على قاضى القضاة وعرفته مكانة سيف الدين المذكور ومنزلته من أرباب الدولة، ومحل مخدومه والتمست منه الإذن له فى الدخول وإكرامه إذا دخل عليه فأذن له فى الدخول فلما دخل عليه اطرحه ولم يكترت لدخوله وكلمه بكلام غليظ فكان مما قال له عند دخوله عليه: أنت أستاذ دار جمال الدين؟ قال: نعم: قال: لا بيّض الله وجهه. وحمله رسالة لمخدومه فقال: قل له عنى أنت تعرف كيف كنت، وأننى اشتريتك للسلطان الملك المنصور وكنت على حال من الضرورة فى جنديتك وإمرتك ثم خوّلك الله تعالى من نعمه وأفاض عليك منها ما أنت عليه الآن وألحقك بأكابر الملوك ونعتّ بملك الأمراء، ثم أنت تدافع عن رجل طلبته لقيام حق من حقوق الله عليه، والله لئن لم ترسله ليعجلن الله تعالى [1] هلاكك إلى غير ذلك مما قاله فى وقت خروجه فالتزم الأمير سيف الدين الطنقش أنه عند وصوله إلى دمشق لا يبيت ابن تيمية بها، ويرسله إليه، ثم لم يقنع قاضى القضاة بذلك إلى أن اجتمع بالأمراء، وجدد معهم الحديث فى أمر تقى الدين فاقتضى ذلك إرسال الأمير حسام الدين لاجين العمرى أحد الحجاب بالأبواب السلطانية إلى دمشق بمثال شريف سلطانى بطلبه فتوجه ووصل إليها فى خامس شهر رمضان.
__________
[1] ما بين القوسين ساقط من ك.(32/110)
هذا هو السبب الموجب لطلبه وانحمال [1] قاضى القضاة زين الدين المالكى عليه نقلته عن مشاهدة واطلاع واتفق [2] فى هذه المدة له وقائع بدمشق نحن نوردها ملخصة بمقتضى ما أورده الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم [3] الجذرى [34] فى تاريخه ليجمع بين أطراف هذه الحادثة وأسبابها بمصر والشام وهو أنه لما كان فى يوم الإثنين ثامن شهر رجب عقد مجلس بين يدى نائب السلطنة بدمشق حضره القضاة والعلماء والشيخ تقى الدين المذكور وسئل عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضر عقيدته الواسطية [4] وقرئت فى المجلس وحصل البحث فى مواضيع منها وأخرت مواضيع إلى مجلس آخر ثم اجتمعوا فى يوم الجمعة ثانى عشر الشهر وحصل البحث وسئل عن مواضيع خارجة عن العقيدة وندب للكلام معه الشيخ صفي الدين الهندى [5] ثم عدل عنه إلى الشيخ كمال الدين بن الزملكانى [6] فبحث معه من غير مسامحة فأشهد الشيخ تقى الدين على نفسه من حضر المجلس أنه شافعى المذهب يعتقد ما يعتقد الإمام الشافعى فحصل الرضى منه وعنه بهذا القول وانفصل المجلس ثم حصل بعد ذلك من بعض أصحاب الشيخ تقى الدين كلام وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا فأحضر الشيخ [7] كمال الدين القزوينى نائب قاضى القضاة نجم [8] الدين أحدهم إلى المدرسة العادلية وعزره وفعل قاضى القضاة الحنفى مثل ذلك باثنين من أصحابه فلما كان يوم الإثنين ثانى عشرين الشهر قرأ الشيخ جمال الدين المزى [9] فصلا فى الرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد من كتاب
__________
[1] فى ك «وأعمال» والمثبت من ص، وف.
[2] هذا اللفظ ساقط من ك.
[3] وانظر ترجمته فى الوافى بالوفيات 3: 22، والبداية والنهاية 14: 186، والسلوك للمقريزى 2/2: 471، والدرر الكامنة 3: 301، وشذرات الذهب 6: 124. وقد توفى سنة 739 هـ.
[4] الواسطية رسالة لابن تيمية نشرت فى كتاب طبع عدة مرات وآخرها نشرا كانت سنة 1380 هـ (1961 م) طبع بمطبعة المدنى بالقاهرة.
[5] هو صفى الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموى الهندى توفى سنة 715 هـ (البداية والنهاية 14: 74، وشذرات الذهب 6: 37) .
[6] هو كمال الدين محمد بن على بن عبد الواحد بن الزملكانى، توفى سنة 727 هـ (البداية والنهاية 14: 131، وشذرات الذهب 6: 78) .
[7] فى ك «كمال الدين» والمثبت من ص، والسلوك للمقريزى 2/1: 14- وهو محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزوينى. توفى سنة 739 هـ (البداية والنهاية 14: 185، وشذرات الذهب 6: 123.
[8] المقصود هو نجم الدين ابن صصرى أحمد بن محمد بن صصرى، توفى سنة 723 هـ.
[9] هو يوسف بن عبد الرحمن المزى الشافعى، الحافظ جمال الدين أبو الحجاج، توفى سنة 742 هـ والبداية والنهاية 14: 191، وشذرات الذهب 6: 136.(32/111)
البخارى وكان ذلك بالجامع الأموى تحت النسر [1] فى المجلس العام المعقود لقراءة صحيح البخارى فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقال نحن قصدنا بهذا التكفير فبلغ ما قاله قاضى القضاة نجم الدين الشافعى فأحضره ورسم باعتقاله فبلغ ابن تيمية الخبر فقام حافيا وتبعه أصحابه وأخرجه من الحبس فغضب القاضى [2] وتوجه إلى نائب السلطنة واجتمع هو وتقى الدين فاشتط تقى الدين عليه وذكر نائبه جلال الدين وأنه آذى أصحابه فرسم نائب السلطان بإشهار النداء فى البلد بالكف عن العقائد والخوض فيها، ومن تكلم فى ذلك سفك دمه ونهب ماله. وأراد بذلك تسكين هذه الفتنة ثم عقد مجلس فى ثانى يوم الثلاثاء سلخ رجب بالقصر الأبلق بحضور نائب السلطنة والقضاة والفقهاء وحصل البحث فى أمر العقيدة وطال البحث فوقع من الشيخ صدر الدين كلام فى معنى الحروف فأنكره الشيخ كمال الدين بن [3] الزملكانى فأنكر صدر الدين القول، فقال كمال الدين لقاضى القضاة نجم الدين بن صصرى: ما سمعت ما قال؟
فتغافل عن إجابته لتنكسر الفتنة فقال ابن الزملكانى ما جرى على الشافعية قليل إذ [4] صرت رئيسهم يريد بذلك ابن الوكيل فيما يزعم فظن قاضى القضاة أنه أراده بكلامه فأشهد عليه أنه عزل نفسه عن القضاء وقام من المجلس فرسم نائب السلطنة بعوده فأدركه الأمير ركن الدين بيبرس العلائى الحاجب وغيره من الأمراء وأعادوه إلى المجلس، وجرى كلام كثير ثم ولاه نائب السلطنة القضاء وحكم قاضى القضاة الحنفى بصحة ولايته ونفذها المالكى فلما وصل إلى داره انقطع عن الحكم وطالع نائب السلطنة فى أمره فعاد الجواب السلطانى باستمراره فى القضاة فى ثامن عشرين شعبان.
ثم وصل الأمير حسام الدين لاجين العمرى فى خامس شهر رمضان بطلب قاضى القضاة نجم الدين وتقى الدين بن تيمية وتضمن المثال السلطانى بأن [5] يطالع بما وقع من أمر تقى الدين المذكور فى سنة ثمان وتسعين وستمائة بسبب عقيدته وأن تكتب صورة العقيدتين الأولى والثانية فأراد نائب السلطنة
__________
[1] المراد قبة النسر بالمسجد الأموى، وانظر فيها الدارس فى تاريخ المدارس.
[2] أى نجم الدين بن صصرى.
[3] هذا اللفظ ساقط من ك.
[4] فى ك «إذا» والمثبت من ص، وف.
[5] كذا فى ك، وف. وفى ص «أن يطالع» .(32/112)
أن يدافع عنه ويكتب فى حقه فوصل مملوكه سيف الدين الطنقش من الديار المصرية وأخبر باشتداد الحال عليه وقيام الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وذكر له كلام قاضى القضاة زين الدين فعند ذلك أمر بإرساله وإرسال قاضى القضاة نجم الدين فتوجها فى يوم الإثنين ثانى عشر شهر رمضان فتوجه القاضى نجم الدين فى الخامسة من النهار وتوجه تقى الدين فى التاسعة وصحبته جماعة من أصحابه منهم تقى الدين بن سنقر [1] وزين الدين بن زين الدين بن منجا وشمس الدين التدمرى وفخر الدين وعلاء الدين أولاد شرف الدين الصايغ وابن بحبح وشرف الدين عبد الله أخو الشيخ وكان وصولهم إلى القاهرة فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر رمضان وعقد مجلس بدار النيابة بقلعة الجبل وحضره الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من الأمراء والقضاة والعلماء وذلك بعد صلاة الجمعة الثالث والعشرين من الشهر [35] فادعى القاضي شمس الدين محمد بن عدلان [2] دعوى شرعية على تقى الدين فى عقيدته عند قاضى القضاة زين الدين [3] فى المجلس وطالبه بالجواب فنهض تقى الدين قائما وقال: الحمد لله وأراد أن يذكر خطبة ووعظا، ويذكر عقيدته فى أثناء ذلك فقيل له أجب عما أدعى عليك به ودع هذا فلا حاجه لنا بما تقول فأراد أن يعيد القول فى الخطبة فمنع وطولب بالجواب فقال: عند من الدعوى علىّ؟ فقيل عند قاضى القضاة زين الدين المالكى فقال هو عدوى وعدو مذهبى فلم يرجع إلى قوله ولما لم يأت بجواب أمر قاضى القضاة زين الدين باعتقاله على رد الجواب فأقيم من المجلس واعتقل هو وأخواه شرف الدين عبد الله وعبد الرحمن وحبسوا فى برج فتردد إليه بعض الناس فاتصل ذلك بقاضى القضاة زين الدين فأمر بالتضييق عليه، فنقل إلى الجب فى ليلة عيد الفطر وكتب مثال شريف سلطانى وسير إلى دمشق فى أمر تقى الدين والحنابلة ونسخته [4] .
__________
[1] كذا فى ك. وفى ص، والسلوك 2/1/11 «ابن شقير» .
[2] أنظر ترجمته فى النجوم الزاهرة 9: 262، وذيول العبر ص 270، وشذرات الذهب 6: 164، والدرر الكامنة 3: 333. وقد توفى فى سنة 749 هـ.
[3] هو زين الدين على بن مخلوف بن ناهض النويرى قاضى الملكية بمصر، توفى سنة 718 هـ. «البداية والنهاية 14: 90، وشذرات الذهب 6: 49، والدرر الكامنة 3: 127، والسلوك للمقريزى 2/1: 179) .
[4] ورد نص هذا المثال السلطانى فى كتاب كنز الدرر وجامع الغرر ص 9: 140 وما بعدها وقد راجعت عليه النص المخطوط.(32/113)
(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذى تنزه عن التشبيه والتنظير، وتعالى عن المثيل فقال عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
[1] نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع فى أيامنا أسباب الشك والارتياب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير وينزه خالقه عن التحييز فى جهة لقوله عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
[2] ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى نهج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر فى آلآء الله، ونهى عن التفكر فى ذاته- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع، وبعد: فإن العقيدة الشرعية [3] وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية هى الأساس الذى يبنى عليه، والموئل الذى يرجع كل أحد إليه، والطريق الذى من سلكها فقد فاز فوزا عظيما ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف وتزان قواعد الأمة بالائتلاف وتغمد [4] بواتر البدع ويفرق من فرقها ما اجتمع، وكان التقى ابن تيمية فى هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه وتحدث فى مسائل الذات والصفات ونص فى كلامه على أمور منكرات وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون وفاه بما تجنبه السلف الصالحون وأتى فى ذلك بما أنكره أئمة الإسلام واتفق [5] على خلافه إجماع العلماء والحكام وشهر من فتاويه فى البلاد ما استخف به عقول العوام وخالف فى ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره وبعث رسائله إلى كل مكان وسمى فتاويه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
__________
[1] سورة الشورى آية 11.
[2] سورة الحديد آية 4.
[3] فى ك «العقد» والمثبت من ص، وف.
[4] فى الأصول «وتحمد» ولعل الصواب ما أثبته.
[5] كذا فى ك، وف. وفى ص «أئمة السلف وانعقد» .(32/114)
ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه مريدوه من هذه المسائل وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه حتى اتصل بنا أنهم صرحوا فى حق الله بالحرف والصوت والتجسيم قمنا فى الله تعالى مشفقين [1] من هذا النبأ العظيم وأنكرنا هذه البدعة وأنفنا [2] أن يشيع [3] عمن تضمه ممالكنا هذه السمعة وكرهنا ما فاه به المبطلون وتلونا قوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ*
[4] فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
[5] وتقدمت مراسمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى بابنا عندما سادت فتاويه شاما ومصر وصرّح فيها بألفاظ وضعها ذوقهم إلا وتلا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
[6] ولما وصل إلينا أمرنا بجمع أولى الحل والعقد وذوى التحقيق والنقد وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام وعلماء الدين وفقهاء المسلمين وعقد له مجلس شرع فى ملأ من الأئمة وجمع فثبت عند ذلك عليه جميع ما نسبه إليه [36] بمقتضى خط يده الدال على منكر معتقده وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه تالين سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ
[7] وبلغنا أنه كان استتيب فيما تقدم وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم ثم عاد بعد منعه ولم تدخل تلك النواهى فى سمعه ولما ثبت ذلك فى مجلس الحكم العزيز المالكى حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور ويمنع من التصرف والظهور ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به فى اعتقاد مثل هذا أو يغدو له فى هذا القول متبعا ولهذه الألفاظ مستمعا أو يسرى فى التجسيم مسراه أو أن يفوه بجهة العلو مخصصا أحد كما فاه أو يتحدث إنسان فى صوت أو حرف أو يوسع القول فى ذات أو وصف أو ينطق
__________
[1] فى كنز الدرر 9: 140 «مستعظمين لهذا النبأ.
[2] فى ك «وقرنا» وفى فرص، وف «وغرنا» والمثبت من كنز الدرر 9: 140.
[3] كذا فى الأصول. وفى كنز الدرر 9: 140 «أن تسمع» .
[4] سورة المؤمنون آية 91، وسورة الصافات آية 159.
[5] سورة الأنعام آية 103.
[6] سورة الكهف آية 74.
[7] سورة الزخرف آية 19.(32/115)
بتجسيم أو يحيد عن طريق الحق المستقيم أو يخرج عن آراء الأئمة أو ينفرد عن علماء الأمة أو يحيز الله فى جهة أو يتعرض إلى حيث أو كيف فليس لمن يعتقد هذا المجموع [1] عندنا إلا السيف فليقف كل أحد عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة أو الخروج من هذه المشتبهات الشديدة ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسك بمذهب أهل الإيمان الحميدة فإنه من خرج عن أمر الله تعالى فقد ضل سواء السبيل وليس له غير السجن الطويل من مستقر ولا مقيل.
رسمنا بأن ينادى فى دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك الجهات بالنهى الشديد والتخويف والتهديد لمن يتبع ابن تيمية فى الأمر الذى أو ضحناه ومن تبعه فيه تركناه فى مثل مكانه وأحللناه ووضعناه من عيون الأمم كما وضعناه ومن أصر على الدفاع وأبى إلا الامتناع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم وأن لا يكون لهم فى بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا رتبة ولا إقامة فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد وأبطلنا عقيدته التى أضل بها كثيرا من العباد أو كاد ولتكتب المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير إلينا بعد إثباتها على قضاة الممالك وقد أعذرنا وحذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر ليكون أبلغ واعظ وزاجر وأحمد ناه وآمر والاعتماد على الخط الشريف أعلاه وكتب فى ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة.
ولما وصل هذا المثال الى دمشق قرئ على المنابر كما رسم فيه وأشهر وأعلن [2] وأما قاضى القضاة نجم الدين ابن صصرى فإنه عومل بالإكرام وخلع عليه ونزل بدار الحديث الكاملية بقاعة التدريس بها وأذن له السلطان أن يحكم بالقاهرة فأثبت مكاتيب كثيرة وجلس كتاب الحكم بين يديه، وخرجت إسجالاته وشهدت عليه في بعضها، ثم عاد إلى دمشق على خيل البريد، وكان وصوله إليها فى يوم الجمعة سادس ذى القعدة وفى أثناء هذه الحادثة فى غضون هذه
__________
[1] لعل المقصود: المجموع من آراء ابن تيمية ومن شايعه.
[2] فى ص «وأعلى به» .(32/116)
المدة كان للحنابلة فى القاهرة مع قاضى القضاة زين الدين المالكى وقائع أهين فيها بعض أعيانهم واعتقل وعزر بعضهم.
وكان ممن تعصب لتقى الدين ابن تيمية فى هذه الواقعة بالشام قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن الحريرى الحنفى وأثبت محضرا له مما هو عليه من الخير وكتب فى أعلاه بخطه ثلاثة عشر سطرا يقول فى جملتها إنه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى الناس مثله وأرانى قاضى القضاة زين الدين المالكى هذا المحضر وغضب منه وسعى فى عزل قاضى القضاة الحنفية بدمشق شمس الدين ابن الحريرى [1] فعزل وفوض قضاء القضاة الحنفية بدمشق بعده لقاضى القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم الأذرعى الحنفى [2] مدرس المدرسة الشبلية فوصل تقليده إلى دمشق فى ثانى ذى القعدة [3] .
وأما تقى الدين فإنه استمر فى الجب بقلعه الجبل إلى أن وصل الأمير حسام الدين مهنا إلى [4] الأبواب السلطانية فى شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة فسأل السلطان في أمره وشفع فيه فأمر بإخراجه فأخرج فى يوم الجمعة [37] الثالث والعشرين من الشهر وأحضر [5] إلى دار النيابة بقلعة الجبل وحصل بحث مع بعض الفقهاء ثم اجتمع جماعة من أعيان العلماء ولم تحضره القضاة وذلك لمرض قاضى القضاة زين الدين المالكى ولم يحضر غيره من القضاة، وحصل البحث وكتب خطه ووقع الإشهاد عليه وكتب بصورة المجلس مكتوب مضمونه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
شهد من يضع خطه
__________
[1] هو محمد بن عثمان بن عبد الوهاب الأنصارى. شمس الدين ابن الحريرى، توفى سنة 728 هـ والوافى بالوفيات 4: 90، والبداية والنهاية 14: 142، والدرر الكامنة 4: 158، وشذرات الذهب 6: 88) .
[2] هو محمد بن ابراهيم بن داوود بن حازم الأذرعى ثم الدمشقى، توفى سنة 712 هـ (البداية والنهاية 14:
168، والجواهر المضيئة 2: 2، والدرر الكامنة 3: 246، والنجوم الزاهرة 9: 223، والدارس فى تاريخ المدارس 1: 528، والدليل الشافى 2: 575) .
[3] وفى ص «ثانى عشر ذى القعدة» .
[4] . هو حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا أمير آل فضل، توفى سنة 735 هـ (البداية والنهاية 14: 172، والدرر الكامنة 5: 138، وذيول العبر ص 187، والسلوك 2/2: 389، والدليل الشافى 2: 747، وشذرات الذهب 6: 112) .
[5] فى ك «فأحضر» والمثبت من ص، وف.(32/117)
آخره أنه لما عقد مجلس لتقى الدين أحمد بن تيمية الحرانى الحنبلى بحضرة المقر الأشرف العالى المولوى الأميرى الكبيرى العالمى العادلى السيفى ملك الأمراء سلار الملكى الناصرى نائب السلطة المعظمة أسبغ الله ظله، وحضر فيه جماعة من السادة العلماء الفضلاء أهل الفتيا بالديار المصرية بسبب ما نقل عنه ووجد بخطه الذى عرف به قبل ذلك من الأمور المتعلقة باعتقاده أن الله تعالى يتكلم بصوت وأن الاستواء على حقيقته وغير ذلك مما هو مخالف لأهل الحق، انتهى المجلس بعد أن جرت فيه مباحث معه ليرجع عن اعتقاده فى [1] ذلك إلى أن قال بحضرة شهود: أنا أشعرى ورفع كتاب الأشعرية على رأسه وأشهد عليه بما كتب به خطا وصورته: الحمد لله الذى أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، كتبه أحمد بن تيمية والذى أعتقده من قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى
[2] أنه على ما قاله الجماعة أنه ليس على حقيقته وظاهره ولا أعلم كنه المراد منه بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. كتبه أحمد بن تيمية، والقول فى النزول كالقول فى الاستواء أقول فيه ما أقول فيه ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى وليس على حقيقته وظاهره كتبه أحمد بن تيمية وذلك فى يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة.
هذا صورة ما كتب به خطه وأشهد عليه أيضا أنه تاب إلى الله تعالى مما ينافى [3] هذا الاعتقاد فى المسائل الأربع المذكورة بخطه وتلفظ بالشهادتين المعظمتين وأشهد عليه أيضا بالطواعية والاختيار فى ذلك ووقع ذلك كله بقلعه الجبل المحروسة من الديار المصرية حرسها الله تعالى بتاريخ يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه فى هذا المحضر جماعة من الأعيان المقنتين والعدول، وأفرج عنه واستقر
__________
[1] فى ك «وذلك» والمثبت من ص، وف.
[2] سورة طه آية 5.
[3] كذا فى ك، وف. وفى ص «عند ما» .(32/118)
بالقاهرة بدار شقير ثم عقد له مجلس ثالث بالمدرسة الصالحية [1] بالقاهرة فى يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر وكتب بخطه نحو ما تقدم ووقع الإشهاد فيه عليه أيضا وسكن الحال مدة ثم اجتمع جماعة من المشايخ والصوفية مع الشيخ تاج الدين بن عطاء الله [2] فى نحو خمسمائة نفر وتبعهم جمع كثير من العوام وطلعوا إلى قلعة الجبل فى العشر الأوسط من شوال من السنة واجتمع الشيخ المذكور وأعيان المشايخ بنائب السلطان وقالوا إن تقى الدين يتكلم فى حق مشايخ الطريقة وإنه يقول: لا يستغاث بالنبى صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إلى قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعى واقتضى الحال أن رسم بتسفيره إلى الشام على خيل البريد فتوجه وكان قاضى القضاة زين الدين المالكى فى ذلك الوقت فى حال شديدة من المرض وقد أشرف على الموت، فبلغه ذلك عقيب أفاقة من غشى كان قد حصل له فأرسل إلى الأمير سيف الدين سلار وسأله فى رده فأمر برده إلى القاهرة فتوجه البريد وأعاده من [3] مدينة بلبيس فوصل وقاضى القضاة زين الدين مغلوب بالمرض فأرسل إلى نائبه القاضى نور الدين الزواوى فحضر به إلى مجلس قاضى القضاة بدر الدين وحررت الدعوى عليه فى أمر اعتقاده وما وقع منه فشهد عليه الشيخ شرف الدين بن الصابونى، وقيل إن الشيخ علاء الدين القونوى يشهد عليه فاعتقل بسجن الحاكم [4] بحارة الديلم [5] وذلك فى ثامن عشر شوال سنة سبع وسبعمائة واستمر به إلى سلخ صفر سنة تسع وسبعمائه فأنهى عنه أن جماعة
__________
[1] هى إحدى المدارس الصالحية بين القصرين، عمرها السلطان الملك الصالح نجم الدين سنة 639 هـ ضمن المدارس التى عمرها بواسطة الأسرى الفرنج الذين أسرهم فى حربه مع الصالح إسماعيل والفرنج سنة 638. (السلوك 1: 305- 308) .
[2] هو تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندرى المالكى الصوفى، توفى سنة 709 هـ (الدرر الكامنة 1: 142، والنجوم الزاهرة 81: 280، وذيول العبر ص 48، وشذرات الذهب 6: 19) .
[3] فى ك «فى» والمثبت من ص، وف.
[4] كذا فى ك، وف. وفى ص «الحكم» .
[5] حارة الديلم: عرفت بذلك لنزول الديلم بها. والديلم طائفة من الترك الواصلين مع هفتكين الشرابى حين قدومه إلى مصر، ومعه أولاد مولاه معز الدولة البويهى، وجماعة من الديلم والأتراك فى سنة 368 هـ، وسكنوا تلك الحارة فعرفت بهم، وكانت تجاه الجامع الأزهر، وعرفت بدرب الأتراك وتقع فى المنطقة التى تشمل عدة طرق منها شارع حوش قدم، وحارة حوش قدم، وحارة الحمام، وعطفة السباعى، وشارع الكحكيين وغيرها بقسم الدرب الأحمر (النجوم الزاهرة 9: 64 هامش خطط المقريزى، ج 1 بولاق) .(32/119)
يحضرون إليه بالسجن وأنه يعظهم ويتكلم فى أثناء وعظه بما يشبه ما تقدم من كلامه، فأمر بنقله إلى ثغر الإسكندرية واعتقاله هناك فجهز إلى الثغر فى هذا التاريخ وحبس ببرج شرقى واستمر به إلى أن عادت الدولة الناصرية ثالثا فتحدث مع السلطان فى يوم السبت ثامن عشر شوال سنة تسع وسبعمائة فأكرمه السلطان وجمع القضاة وأصلح بينه وبين قاضى القضاة زين الدين المالكى فأشرط عليه قاضى القضاة أن يتوب عما تقدم الكلام فيه [38] ويتوب عنه ولا يعود إليه فقال السلطان: قد تاب وانفصل المجلس على خير وسكن الشيخ تقى الدين بالقاهرة ببعض القاعات وتردد الناس إليه واستمر إلى أن توجه السلطان إلى الشام فى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة، فتوجه بنية الغزاة، وأقام بدمشق إلى أن سطرنا هذه الأحرف فى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وكان له فى غضون هذه المدة بدمشق وقائع نذكرها [1] فى مواضعها إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى تتمة سياقة الحوادث فى سنة خمس وسبعمائة.
وفيها فى العشر الأوسط من ذى الحجة
وفر الأمير بدر الدين بكتاش البدرى الصالحى النجمى أمير سلاح من الخدمة، وقطع خبره وجعل له مرتب فى كل شهر وأقر مماليكه وأجناده على إقطاعاتهم، الشاهد بها مدرج [2] عرضه إلى آخر وقت وجعلوا فى جملة رجال الحلقة المنصورة، وأضيفوا إلى مقدمين من أعيانهم وارتجع خاصة إلى الخاص السلطانى، ورسم بمسامحته بما يلزمه من التفاوت فيما بين السنة الشمسية والقمرية وكان جملة كثيرة لو طولب لها استغرقت أمواله وموجوده ولم يف بها، وكا ولده الأمير ناصر الدين محمد قد علم عجز والده عن الخدمة وضعف نظره وتحقق من حال الأمراء أنهم عزموا على قطع خبزه فسعى هو معهم فى ذلك وذكر عجز والده فأجيب إلى ملتمسه وتألم [3] الأمير بدر الدين المذكور لذلك ألما [4] شديدا وسب ولده الأمير ناصر الدين والذى حضر بالرسالة أيضا، وهو
__________
[1] كذا فى ك، وف. وفى ص «وقائع تذكر فى موضعها» .
[2] المدرج، والدرج: الكتاب أو المرسوم الخاص بإقطاعهم، ومن شأنه أن يكتب على ورق خاص. وانظر صبح الأعشى 1: 138.
[3] فى ك «ما التمسه» والمثبت من ص، وف.
[4] فى ك «تألما» والمثبت من ص، وف.(32/120)
الأمير بدر الدين الوزيرى الحاجب وأرسل إلى الأمراء يقول: إننى لم أتاخر عن الخدمة ولا انقطعت عن مهمّ من مهمات السلطان وما زلت أتوجه إلى الغزوات والشباب من الأمراء موفرون من ذلك فأمسكوا عن جوابه ولم تطل مدة حياته بعد قطع خبزه فإنه مات فى حادى عشرين ربيع الآخر سنة ست وسبعمائة ودفن بتربته خارج باب النصر [1] رحمه الله تعالى.
وفى سنة خمس وسبعمائة أيضا توفى الملك الأوحد تقى الدين شادى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن ناصر الدين محمد ابن أسد الدين شيركوه ابن شادى بن مروان فى يوم الأربعاء ثانى [2] صفر بجبال الجرديين [3] وحمل إلى قاسيون فدفن بتربة والده، وكان من جملة أمراء الطبلخاناه بدمشق رحمه الله تعالى. وتوفى شيخنا الإمام الحافظ شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن الحسن بن العفيف بن شرف بن الخضر الدمياطى [4] وكانت وفاته بالقاهرة المحروسة فى يوم الأحد خامس عشر ذى القعدة سنة خمس وسبعمائة من غير مرض وذلك أنه حضر الميعاد بالقبة المنصورية على عادته ثم قام بعد الميعاد ومشى إلى منزله بالمدرسة الظاهرية فمات من ساعته- رحمه الله تعالى- ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته مشهودة وهو آخر من بقى من الحفّاظ ويقال: إنه ما رأى مثل نفسه [5] فى فنه وشهرته ومشايخه، ورحلته أشهر [6] من أن يأتى عليها وشرح ذلك يطول وفيما أشرت [7] إليه كفاية.
__________
[1] وانظر ترجمة بدر الدين بكتاش فى الدرر الكامنة 2: 14، والنجوم 8: 224.
[2] وانظر البداية والنهاية 14: 39، والدرر الكامنة 2: 281، والدليل الشافى 1: 339، والنجوم الزاهرة 8: 219.
[3] جبال الجرديين: وفى السلوك 2/1: 14، وكنز الدرر 9: 131 «أهل جبال كسروان وكسروان حاليا إحدى مقاطعات لبنان، ويقال: فضاء فى جبل لبنان، وكانت من مراكز الشبعة (المنجد الأعلام ص 589) .
[4] وانظر ترجمته فى البداية والنهاية 14: 40، وفوات الوفيات 2: 409، وطبقات الشافعية 6: 132 وشذرات الذهب 6: 12، وذيول العبر ص 33.
[5] كذا فى ص، وك. وفى ف «مثل تفنينه فى فنه» .
[6] هذا اللفظ سقط من ك.
[7] فى ص «أشرنا» .(32/121)
واستهلت سنة ست وسبعمائة
فى هذه السنة فى شهر المحرم عزل الأمير علم الدين سنجر الجاولى [1] أستاذ الدار من وظيفته وقطع خبزه وسفره إلى دمشق بغير إقطاع وذلك لتغير حصل من الأمير ركن [2] الدين عليه ثم أنعم عليه بعد وصوله إلى دمشق بإمرة طبلخاناه [39] .
وفيها عزل الصاحب سعد الدين عطايا [3] من الوزارة فى الشهر المذكور وصودر على مائة ألف درهم خرجت فى ديوان البيوت السلطانية فى مدة نظره، فحمل من ذلك الى بيت المال ثمانين ألف درهم وسومح بما بقى وأفرج عنه ولزم داره ولما عزل فوضت الوزارة لتاج الدين بن سعيد الدولة الناظر وألبس التشريف السلطانى على كره منه وجلس فى المجلس إلى آخر النهار وقام وتوجه إلى بيته بعد العصر ومنع من لهم عادة بالركوب فى خدمة الوزير من الركوب معه ولما وصل إلى داره حضر قضاة القضاة للسلام عليه وتهنئته بالوزارة فلم يأذن لهم فى الدخول، وخرج غلامه إليهم وإلى من حضر ببابه فقال:
من كان له حاجة فليطلع إلى القلعة. فانصرفوا من غير اجتماع به، وهرب هو في تلك الليلة واختفى وأعاد خلعة الوزارة واستمر فى اختفائه إلى أن رسم بإعفائه واستقراره على عادته وكان الحامل له على ذلك والذى أوجب له كراهة الوزارة أنه توهم من الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة كراهة ذلك فخاف عاقبته وكان الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار شديد الاعتناء به وفوضت الوزارة بعد ذلك للصاحب ضياء الدين أبى بكر بن عبد الله النشائى، وكان أحد [4] النظار فلم يكن له الوزارة إلا مجرد التسمية والمعلوم [5] وما عدا ذلك من الأمر والنهى والاستخدام والعزل فهو لتاج الدين بن سعيد الدولة لا يخرج عن إشارته ورضى بذلك.
__________
[1] له ترجمة فى الدرر الكامنة 2: 226، والدليل الشافعى 1: 324، والنجوم الزاهرة 10: 109.
[2] هو الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير البرجى، كان من مماليك المنصور قلاوون، وترقى حتى تولى السلطنة سنة 708 هـ ولقب بالملك المظفر حين تولى عن الملك الناصر محمد بن قلاوون. وقتل سنة 709 هـ وسيرد ذلك كله فى هذا الجزء- انظر كذلك ترجمته فى الدرر الكامنة لابن حجر ج 1 ص 502- 507 ترجمة رقم 1373.
[3] هو سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء الله الشهير بابن عطايا (حسن المحاضرة للسيوطى 2: 223) .
[4] كذا فى ك، وف. وفى ص «أحد نظار النظار» .
[5] فى ك «العلوم» والمثبت من ص، ولعل المقصود به راتب الوظيفة.(32/122)
وفى هذه السنة عادت رسل السلطان
الملك الناصر من عند الملك طقطاى [1] ملك التتار بالبلاد الشمالية: وهم الأمير سيف الدين بلبان الصرخدى، وسيف الدين بلبان الحكيمى وفخر الدين أمير آخور الشمسى وصحبتهم رسول من الملك طقطاى واسمه نامون فبولغ فى إكرامه وأعيد بالجواب وسفر مع الأمير بدر الدين بكتمش الخزندارى وفخر الدين محمود أمير آخور الشمسى وفيها في شهر ربيع الأول وصلت رسل صاحب سيس بالقطيعة المقررة عليه، وأطلق من أسرى المسلمين مائتين وسبعين أسيرا وأوصلهم إلى مدينة حلب.
وفى هذه السنة كتب تقليد شريف سلطانى لقاضى القضاة شمس الدين الحنفى الأذرعى [2] بدمشق وتوجه به البريد فوصل الى دمشق فى يوم العشرين من شهر ربيع الآخر فظن البريدى أن التقليد [3] للقاضى شمس الدين محمد بن الحريرى المعزول فتوجه به إليه إلى المدرسة الظاهريه، وشاع ذلك وحضر الناس لتهنئته بالعود واتصل ذلك بالقاضى شمس الدين الأذرعى وهو بمجلس حكمه ففارقه جميع من كان فى المجلس من الشهود وغيرهم والمتحاكمون والوكلاء والرسل ولم يبق عنده غير نقيبه، وتوجهوا كلهم إلى القاضى شمس الدين بن الحريرى فلما اجتمع الناس عنده أمر الشيخ علم الدين البرزالى بقراءة التقليد على من حضر من الناس فقرأه رافعا به صوته فلما انتهى إلى ذكر الاسم والنسب سكت فقال له النقيب اذكر ألقاب سيدنا قاضى القضاة ونعوته وقال له القاضى شمس الدين: اقرأ فقال: يا مولانا ما هو لك، هو للأذرعى وطواه وتفرق ذلك الجمع وأخذه البريدى وتوجه به إلى القاضى شمس الدين الأذرعى وهو بمجلس الحكم لم يقم منه وعاد إلى مجلسه من كان قد فارقه وغيرهم وحصل له جبر بعد كسر وخجل القاضى [40] شمس الدين بن الحريرى من الناس للمبادرة بقراءة التقليد قبل تحقيق الحال فيه.
__________
[1] فى الأصول «طقطا» والتصويب من النجوم الزاهرة 9: 226، وفيه توفى سنة 713 هـ.
[2] مرت مراجعته ...
[3] كذا فى ك، وفى ص «التقلد» .(32/123)
ذكر حادثه غريبة
وفى هذه السنة وردت مطالعة نائب السلطان بحماة تتضمن أن [1] أراضى بارين [2] من بلد حماه جبلين بينهما واد يجرى الماء فيه وانتقل [3] نصف الجبل الواحد من موضعه إلى الجبل الآخر والتصق ولم يسقط فى الوادى الذى بينهما شئ من حجارته وأن النائب بحماة كشفه بالقاضى ببارين وعمل به محضرا وطول النصف الذي انتقل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع وعرضه خمسة وخمسون ذراعا ومسافة الوادى الذى بين الجبلين مائة ذراع وقرئت المطالعة بمحضر نسخته بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
لما اشتهر فى البلاد وانتشر فى الحاضر والباد أن يعمل حصن الأكراد جبلا بوادى بارين قد أفضى بعضه الى التحويل ولم يكن ذلك فى القدرة الإلهية بمستحيل واتصل ذلك بالمسامع الشريفة المولوية السيفية كافل الممالك الشريفة الحموية شنفها الله تعالى بما تحب أن تسمع وطوقها بلطائف الخير أجمع فأحب- أعلى الله له شأنا وملا قلبه نورا وإيمانا- أن يعلم حقيقة ذلك إيقانا وأن يكشف كنهه وضوحا وبيانا انتدب لتحقيق هذه الصورة الجناب العالى الحسامى نقيب العساكر المنصورة وعلى يده المرسوم الكريم إلى المجلس العالى الشهابى متولى بارين المعمورة أن يخرجا والحاكم الذى سيضع خطه أعلاه ومعهم [4] من الشهود من سيرقم شهادته أدناه وأن ينتهوا إلى الوادى المشار إليه ويشاهدوا هذا الجبل ويقفوا عليه وأن يحققوا فى ذلك قصة الحال أحق ما قيل عنه أو محال؟ فبادروا الى امتثال [5] ما رسم لهم به مسرعين وخرجوا نحو الجبل مهرعين، وحضروا جميعا بقرية بقعبرا وسألوا أهلها ما حدث على الجبل وطرأ فإذا برجلين قد دخلا فى واد بين جبلين وقالا [6] هذا الجبل الذى نزل به ما نزل وفى قعر الوادى الماء
__________
[1] فى ك «بأن بأرضى» .
[2] بارين أو بعدين: بلدة صغيرة بها قلعة وعيون وبساتين وصفها ياقوت بأنها مدينة حسنة بين حلب وحماة من جهة الغرب (معجم البلدان) .
[3] فى ص «فانتقل» .
[4] فى ك «ومعه» والمثبت من ص، وف.
[5] هذا اللفظ ساقط من ك.
[6] فى ك «وقال» المثبت من ص، وف.(32/124)
يترقرق ويسيل ويتدفق ووقفوا عند عرقوب فى الجبل القبلى ناتئ مستعل صفته بين الانضمام والانسطاح وقد تحلق على صفحة الجبل المقابل له وطاح ولم يقع منه فى قعر المسيل الا النزر القليل مع أن أصله تراب أن هذا الشئ عجاب وبقى ما انسلخ منه متقعرا فى الجبل كهيئة محراب [1] وسفل الوادى على حاله لم يتغير والماء جار على العادة فيه يتكسر ويتحدر لم يحصل له سدة ولا احتقان ولا انتقل جريانه من مكان إلى مكان على أن ما انقلع منه طولا عشرة أذرع ومائة جملة وتفصيلا، وعرضا نصف ذلك قليلا، وعفا مثل نصف العرض تقريبا ومدي الحذف [2] كالطول أو يكون منه قريبا، وذكر من حضر من أهل المكان أن وقوع ذلك فى أواخر رجب وأوائل شعبان ومن وقف على أثر هذا المكان ورآه وعلم من هذا الكتاب فحواه وضع به خطه أدناه وكان ذلك فى نهار الخميس ثامن عشرين شعبان سنة ست وسبعمائة وبذيل المحضر خط شهود وما علاه خط الحاكم ببارين ومثاله: الحمد لله حمدا يرضاه وقفت على الوادى المذكور وشاهدت العرقوب الذى انقلع ونقل ترابه وفيه نبات وحجارة على صفحة الجبل الذى قابله والتأم فى ذرعه [3] وعدم وقع التراب فى مسيل الماء كما شرح فيه، كتبه أبو بكر بن نصر الهاشمى المعاد [4] الشافعى العباسى الحاكم ببارين- عفا الله عنه وفيها فى يوم الجمعة الرابع والعشرين من شوال خطب بالجامع الجديد الغربى بسفح جبل قاسيون الذى أنشأه الأمير جمال الدين آقش الأفرم نائب السلطنة الشريفة بالشام مقابل الرباط الناصرى وخطب فيه القاضى شمس الدين بن المعز الحنفى.
وفى هذه السنة ولى قاضى القضاة صدر الدين أبو الحسن على بن الشيخ صفى [41] الدين أبى القاسم بن محمد الحنفى البصروى [5] القضاء بدمشق عوضا عن القاضى شمس الدين الأذرعى الحنفى، وكان وصوله إلى دمشق فى تاسع عشرين ذى القعدة.
__________
[1] فى ك «المحراب» والمثبت من ص، وف.
[2] عبارة الأصول «مثل نصفه العرض بقربها ومعا للحذف» وليس لها بهذا الشكل أى معنى. ولعل الصواب ما أثبته.
[3] ذرعه: أى فى قياسه على رواية ص- أو فى جانبه- على رواية ك.
[4] كذا فى الأصول، ولعل المراد أن نسبه يعود إلى بنى هاشم.
[5] هو قاضى القضاة صدر الدين على بن محمد بن عثمان البصراوى، توفى سنة 727 هـ (شذرات الذهب لابن العماد الحنبلى 6: 78، والنجوم الزاهرة 9: 268) .(32/125)