ثلاث، فتقدم أحمد بن كيغلغ «1» فى جماعة من القوّاد، فلقيهم الخليجى بالقرب من العريش، فهزمهم أقبح هزيمة، فندب من بغداد جماعة من القوّاد فيهم إبراهيم بن كيغلغ «2» فخرجوا فى شهر ربيع الأول. واتّصلت الأخبار بقوة الخليجى حتى برز المكتفى بالله إلى باب الشماسيّة على عزم المسير إلى مصر، ثم التقى القوّاد بالخليجى، واقتتلوا قتالا شديدا عدة دفعات، كان آخرها أن انهزم الخليجى ودخل فسطاط مصر، واستتر عند رجل من أهلها، ودخل عسكر الخليفة فظفروا به وأخذوه هو والذى استتر عنده «3» وحبسوهما، وكتبوا بذلك إلى الخليفة، ووجه فاتك إبراهيم الخليجى إلى بغداد، فدخلها هو ومن معه فى شهر رمضان، فحبسهم المكتفى.
واستقر عيسى النوشرى بمصر إلى سنة سبع وتسعين ومائتين، فتوفى فى شعبان منها، وحمل إلى البيت المقدس فدفن به.
واستعمل المقتدر «4» على مصر تكين الخاصّة «5» فى منتصف شهر رمضان من السّنة.(28/38)
وفى سنة ثلاثمائة ندب تكين عسكرا وجعل مقدمه أبا النمر «1» أحمد بن صالح، فمضى إلى برقة والتقى مع عسكر حباسة قائد المهدى، وأبلى بلاء حسنا، ثم صرفه تكين وولى حر المنصورى فمضى إلى برقة فوجد أبا النمر موافقا لحباسة، فلمّا علم أبو النمر بعزله تخاذل حنقا «2» على تكين، فاغتنم حباسة الفرصة وحاربهما، فكسرهما، وعادا إلى مصر.
ذكر استيلاء حباسة على الإسكندريّة
[15] وفى المحرم سنة اثنتين وثلاثمائة سار حباسة قائد المهدى من برقة ودخل الإسكندرية وملكها، فوصل من بغداد أحمد بن كيغلغ، وأبو قابوس محمود بن حمد، والقاسم بن سيما، فى جمع من القواد والعساكر، وكان وصولهم فى العشرين من صفر، فخرج بهم تكين إلى الجيزة فى يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الأولى فعسكر بها، وسار حباسة من الإسكندرية بعسكر مستوفى، ونودى فى فسطاط مصر بالنّفير فى العشرين من الشهر، فخرج الناس إلى الجيزة، ولم يتخلف أحد من الخاصّة والعامّة، وتقدم حباسة فى جيوشه والتقى الفريقان وكثرت القتلى بينهم، فقتل أكثر رجال حباسة، وانهزم بمن بقى معه.
ثم قدم مؤنس الخادم من العراق فى منتصف شهر رمضان من السّنة، ومعه جمع من الأمراء، وأمر أحمد بن كيغلغ بالمسير إلى الشام، وصرف(28/39)
تكين الخاصّة عن ولاية مصر لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة. فكانت مدة ولايته خمس سنين وشهرين.
وفى سنة ثلاث وثلاثمائة قدم أبو الحسن ذكا «1» الأعور الرومى أميرا على مصر، وذلك لاثنتى عشرة ليلة خلت من صفر، وخرج مؤنس بجيوشه إلى العراق لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وخرج ذكا إلى الإسكندرية لإصلاحها، وجعل فيها ولده مظفرا وتتّبع من كان يذكر بمكاتبة المهدى، فحبس جماعة منهم، وقطع أيدى جماعة وأرجلهم.
ذكر وصول أبى القاسم بن المهدى إلى الدّيار المصريّه واستيلائه على الإسكندرية والفيّوم والأشمونين
وفى سنة سبع وثلاثمائة، فى الثانى من صفر، وصل أبو القاسم بن المهدى بجيوش المغرب إلى الإسكندريّة وملكها. وهى الدّفعة الثّانية، فإنه كان قد قدم فى سنة إحدى وثلاثمائة وملكها أيضا، ثم عاد إلى أفريقية.
ووافق وصوله الآن والجند مخالفون لذكا أمير مصر، فتقاعدوا عن الخروج معه للقاء عسكر المهدى، فخرج إلى الجيزة فى عسكر قليل فى النّصف من صفر، وابتنى حصنا بالجيزة، واحتفر خندقا على عسكره، ثم صرف ذكا، وتوفّى لليلة خلت من شهر ربيع الأول من السنة، وكانت مدة إمارته أربع سنين وأياما.(28/40)
وقدم أبو قابوس محمود بن حمد أمير الشام بعساكره نصرة لعساكر مصر، فكان قدومه لثمان خلون من شهر ربيع الأول، ونزل الجيزة، ثمّ قدم إبراهيم بن كيغلغ لسبع بقين من شهر ربيع الآخر. ودخل تكين الخاصّة متولّيا لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وثلاثمائة، ونزل الجيزة، وحفر خندقا ثانيا، وأقبلت مراكب المهدى صاحب إفريقيّة، وهى مائة مركب حربيّة «1» ، وعليها سليمان الحاكم «2» ، فبعث تكين إلى بمال الخادم أمير طرسوس أن ينجده، فحضر إليه فى مراكبه «3» ، وانتهى إلى ثغر رشيد، والتقت مراكبه بمركب المهدىّ لعشر بقين من شوال من السنة، وكان بينهم حرب شديدة، وهبّت ريح على مراكب المهدىّ فألقتها إلى البر، وتكسّر أكثرها، وأسر من فيها، وقتل منهم خلق كثير، ودخل من بقى منهم إلى الفسطاط، وهم سبعمائة نفر، فقتلوا عن آخرهم.
وقدم مؤنس الخادم من بغداد فى الخامس من المحرم سنة ثمان وثلاثمائة «4» ، وتولّى إمرة مصر من بغداد هلال بن بدر، ودخلها فى السّادس من ربيع الآخر سنة تسع وثلاثمائة، وأقام إلى سنة «5» عشرة،(28/41)
فشغب «1» عليه الجند، وكثر النهب والقتل والفساد بمصر فصرف هلال عن مصر فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. فكانت مدة ولايته نحو سنتين.
وتولى مصر أحمد بن كيغلغ فقدمها فى شهر رجب من السنة، فأقام بمنية الأصبغ «2» ، وأحضر الجند، ووضع العطاء فيهم، وأسقط كثيرا من الرّجاله، فسعت الرجال عليه، وخرجوا لقتاله، فانتقل إلى فاقوس وأقام بها إلى أن قدم رسول تكين الخاصّة بولاية مصر، وذلك فى ذى القعدة من السّنة.
وقدم تكين من العراق لعشر مضين من المحرم سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة، فكان بها إلى أن توفى فى السادس من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلى بيت المقدس فدفن هناك، فكانت مدة ولايته هذه تسع سنين وأربعة أشهر إلا أربعة أيام، واستخلف ابنه محمد، وكان الوزير بمصر والمتولّى لخراجها يومئذ محمد بن على الماذرائى «3» فوقع بينه وبين محمد(28/42)
ابن تكين فتنة لأربع بقين من الشهر، وانتشرت حتى قامت الحرب بينهما، وقتل فيها جماعة من الفريقين وأحرق دور الماذرائى الوزير وجماعة من أصحابه [16] وخرج محمد بن تكين هاربا من مصر، ودعى بمصر لمحمّد ابن طغج بن جفّ الإخشيدى فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من السّنة، ثم دعى لأحمد بن كيغلغ «1» فى شوال من السنة، ثم رجع محمد بن تكين إلى مصر فى يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وأقام بالجيزة أياما، ودخل دار الإمارة بمصر، واستقر بها لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ودعى له بالأمارة ثمّ وقع بينه وبين عرب المغاربة حرب انجلت «2» عن انهزامهم إلى الصّعيد، وأقام محمد بن تكين ثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما، ثم هرب مع جماعة من أصحابه لخمس خلون من شهر رجب. ودخل أحمد بن كيغلغ فى يوم السّبت السّادس من الشهر، ثم رجع محمد بن تكين لقتاله لثلاث بقين منه، وكان بينهما حرب انجلت «3» عن انهزام محمد بن تكين، ثم نفى بعد ذلك إلى الصعيد، فلم يزل هناك إلى أن جاء محمّد بن طغج.(28/43)
ذكر أخبار الدولة الإخشيدية وابتداء أمر من قام بها وكيف كان سبب ملكه وقيامه ومن ملك بعده إلى أن انقرضت أيامهم
كانت هذه الدّولة بمصر والشام، وهى من الدّول المشهورة. وأول من ولى من ملوكها الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج. واسم طغج عبد الرحمن ابن جفّ بن يلتكين بن فورى «1» بن خاقان الملك، وهو من فرغانة، وكان طغج من القواد الطّولونيّة، وتولّى لخمارويه بن أحمد [بن طولون] «2» دمشق والشام. ولما مات طغج ترك من الأولاد أبا بكر محمدا الإخشيد، وأبا القاسم عليّا، وأبا المظفر الحسين، وأبا الحسن عبيد الله، وكان أبو بكر أكبرهم فتولّى الولايات وتنقل فى المراتب إلى أن ملك مصر والشام.
وكان ابتداء ولايته الدّيار المصريه والدعاء له بها فى يوم الجمعة لاثنتى عشر ليلة خلت من شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما قدمناه، ولم تثبت ولايته هذه. ثم دعى لأحمد بن كيغلغ، وكان ما ذكرناه، ثم ولى مصر فى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فى خلافة الرّاضى بالله «3»(28/44)
وكانت هذه الولاية مفتعلة فى ابتدائها، وذلك أن التقليد من دار الخلافة ببغداد خرج باسم محمد بن تكين الخاصّة، وكان بن طغج بالسّاحل فقبض على الرّسول الواصل من دار الخلافة وأخذ منه التّقليد وكشط «تكين» وكتب «طغج» وأنفذ التقليد إلى مصر فورد فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان، فاعتزل أحمد بن كيغلغ النّظر، وامتنع محمد ابن على الماذرائى الوزير من التسليم له، وكان غالبا على أمر أحمد [بن كيغلغ] «1» ، وعزم على قتال محمد بن طغج، فبلغه ذلك، فبعث صاعد بن كلملم بمراكب كثيرة من ساحل الشام، وسار هو فى البرّ، فقدمت عساكره مصر برّا وبحرا، ووصل صاعد إلى الجيزة فى يوم الخميس لخمس بقين من شعبان، وأقام خمسة أيام، وأحرق الجسر، ووصل الإخشيد إلى مصر فلقيه محمد بن على الماذرائى الوزير وأحمد بن كيغلغ ومحمد بن عيسى النوشرى وبرزوا لقتاله. فلما تصافّوا للقتال انحاز أحمد بن كيغلغ وانضم إلى الإخشيد، وقاتل الماذرائى وابن النوشرى قتالا شديدا، ثم انهزما إلى الفيوم.
ودخل الإخشيد مصر بعد القتال فى يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان من السنة، فندب صاعدا لقتال الماذرائى وابن النوشرى، فوقع بينهما حرب انجلت «2» عن قتل صاعد وهرب النوشرى إلى برقة، وراسل القائم «3»(28/45)
صاحب إفريقية يطلب نجدة، فسير إليه عسكرا عليه أبو تازرت «1» فدخلوا الإسكندرية وملكوها، فخرج إليهم أبو المظفر الحسين بن طغج ومعه صالح ابن نافع، ووقع بينهم القتال، فانهزم النوشرى وعسكر المغاربة، وقتلوا أبو تازرت، وأسر عامر المجنون، وجماعة منهم. وأما محمد بن على الماذرائى الوزير فإنه استتر، ودام استتاره إلى أن دخل الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة وتلقاه الإخشيد، وزينت له مصر، فأخرجه. ثم وصل التقليد من دار الخلافة لمحمد بن طغج فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة نعت الخليفة الراضى بالله محمّد بن طعج بالإخشيد بسؤال منه فى ذلك. ومعنى الإخشيد ملك الملوك.
وفى سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة خرج الإخشيد إلى الشام واجتمع بالخليفة المتقى «2» بالله بالرّقة، وخدمه، ومشى بين يديه، وسأله المسير معه إلى مصر [17] وخوّفه من توزون التّركى، فلم يقبل منه. فضمّ إليه الإخشيد عسكرا وقائدا من قوّاده ورجع الإخشيد إلى الشام، ثم إلى مصر. وولّاه المتقى مصر والشام والحرمين، وعقد لولديه من بعده،(28/46)
أنوجور وعلى، على أن يكفلهما «1» كافور الخصىّ. وكان عود الإخشيد إلى مصر فى يوم الأحد الثالث عشر من جمادى الأولى، وأخذ البيعة على الناس لولده أبى القاسم أنوجور لليلتين بقيتا من ذى القعدة منها.(28/47)
ذكر مسير الإخشيد إلى الشام ووفاته وشىء من أخباره وسيرته
وفى خامس شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة خرج الإخشيد إلى الشام والتقى بأصحاب ابن حمدان «1» ، على لدّ «2» ، وهزمهم. ثم سار إلى حمص وقاتل سيف الدولة بن حمدان، ومضى إلى حلب. ثمّ وقع الصلح بينهما، وتسلم الإخشيد من سيف الدّولة حلب وحمص وأنطاكية «3» ، وتزوج سيف الدولة بنت عبيد الله بن طغج أخى الإخشيد. ثم عاد الإخشيد إلى دمشق فتوفّى «4» بها فى يوم الجمعة لثمان بقين من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان عمره ستّا وستين سنة وخمسة أشهر وسبعة أيّام، وكانت مدة ولايته الثانية «5» من لدن دخوله إلى مصر وإلى حين وفاته إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر إلّا يوما واحدا.
قال التنوخى «6» : وكان الإخشيد حازما شديدا، يتيقّظ فى حروبه،(28/48)
حسن التّدبير، مكرما للأجناد، أيدا «1» فى نفسه، لا يكاد يجرّ قوسه الأفذاذ من النّاس لقوثه، حسن السيرة فى رعيّته، وكان جيشه يحتوى على أربعة آلاف رجل، وله ثمانية آلاف مملوك، يحرسه فى كل ليلة منهم «2» ألفا مملوك.
وكان إذا سافر يتنقّل فى الخيام عند النّوم حتى كان ينام فى خيمة الفرّاشين.
قال وترك الإخشيد سبع بيوت مال، فى كل بيت مال منها ألف ألف دينار من سكّة واحدة.
أولاده: أبو القاسم أنوجور، أبو الحسن على.
كتّابه: أبو جعفر بن المنفق، وابن قوماقس، وابن الرودبارى.
ولما مات ملك بعده ابنه أنوجور.
ذكر ولاية أبى القاسم أنوجور
ومعنى أنوجور محمود؛ ابن أبى بكر محمد بن طغج، وهو الثانى من ملوك الدّولة الإخشيديّة.
كانت ولايته بالشام بعد وفاة أبيه لثمان بقين من ذى الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وبويع له بمصر عند ورود الخبر بوفاة الإخشيد فى اليوم الثانى من المحرّم سنة خمس وثلاثين، وعمره يومئذ اثنتا عشرة سنة. وقام ببيعته الوزير أبو بكر محمد بن على بن مقاتل «3» . وكان أبو المظفّر الحسن بن(28/49)
طغج بمصر فقبض على الوزير محمد بن على المذكور فى ثالث المحرّم، وعزله، وولّى الوزارة «1» محمد بن على الماذرائى، وحبس ابن مقاتل، فلم يزل فى الاعتقال إلى أن قدم كافور بالعسكر من الشام فأفرج عنه. وكان قدوم كافور بالعسكر فى يوم الثلاثاء لثمان مضين من صفر سنة خمس وثلاثين.
ثم خرج كافور بالعسكر إلى الشّام ومقدّمه أبو المظفّر بن طغج، أخو الإخشيد، وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأوّل. وكان سبب خروجه أن سيف الدّولة بن حمدان طمع فى ملك الشام لمّا توفى الإخشيد، فسار إلى دمشق وملكها، ثم سار إلى الرّملة فلقيه كافور بها وقاتله، وكانت الهزيمة على ابن حمدان. واستعاد الإخشيديّة ما كان سيف الدولة استولى عليه، وأقام كافور بالشّام.
ذكر قيام أبى نصر علبون بن سعيد المغربى وما كان من أمره
كان قيامه فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وكان يتولى عمل اسيوط وأخميم من صعيد مصر، فعزله [18] كافور عنهما وهو بالشّام، فامتنع، وطمع لخلوّ البلاد من الأستاذ كافور، فندب إليه عسكرا فهزمهم غلّبون، وهزم عسكرا ثانيا، وتقوّى بما أخذه منهم. ثم سار إلى الشّرقيّة فى أواخر السّنة ثم سار منها ونزل على بركة الحبش «2» فخرج إليه جماعة من الإخشيديّة(28/50)
فهزمهم. فرحل عند ذلك أبو القاسم أنوجور وأخوه وأهلهما «1» ، والوزير إلى الشام، وأخليت دار الإمارة، فدخل غلبون مصر وسيّر عسكرا إلى أبى القاسم فتبعه إلى مسجد تبر «2» . ومسك الوزير محمّد بن الماذرائى وجىء به إلى غلبون، فلما رآه أطلقه.
وسار أبو القاسم نحو الشّام، فلقيه مرتاح الشّرابى فى أثناء الطّريق، وقد قدم من قبل كافور فى جماعة من الإخشيديّة، فردّه. وعاد أبو القاسم إلى مصر بالعسكر فوجدوا غلبون وقد تفرّق عنه أصحابه فى البلد، فحاربهم فى نفر يسير، فانهزم. ودخلوا دار الإمارة، فوجدوا الوزير ابن الماذرائى، فهمّوا بقتله، فأخذه القائد منجح وخبأه عنده، ونهبت دوره وأحرق بعضها.
ووصل الخبر إلى كافور بالشّام فقبض على ولده، واستوزر عوضا عنه أبا الفضل جعفر «3» بن الفرات المعروف بابن حنزابة، ثم قدم الأستاذ كافور من الشّام فى شهر رمضان، سنة ست وثلاثين، فأطلق الوزير ابن الماذرائى وأكرمه، وردّ عليه ضياعه وأملاكه، واستوزر محمد بن على بن مقاتل.
وفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة لستّ خلون من صفر زلزلت مصر، وتتابعت الزّلازل بها، فتهدّم أكثر دورها، وسقط من الجامع العتيق بمصر(28/51)
قطعة، وتوالت الزّلازل فى سنة أربعين أيضا ثلاثة أيام متوالية، وخسف بعض القرى وهلك من كان بها.
فقال محمد بن عاصم من قصيدة مدح بها كافور جاء منها:
ما زلزلت مصر من سوء يراد بها ... وإنّما رقصت من عدله فرحا
وفى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة انقضّت نار من السّماء فأحرقت أكثر دور مصر.
ذكر وفاة الوزير أبى بكر محمد بن الماذرائى وشىء من أخباره ومآثره
وفى شوال من سنة خمس وأربعين وثلاثمائة مات الوزير أبو بكر محمد بن على بن أحمد بن إبراهيم الماذرائى، وزر «1» الخمارويه بن أحمد ولغيره من أمراء مصر، ومولده بالعراق سنة سبع وخمسين ومائتين، وكان له ضياع وأملاك، قيل إن مقدار ارتفاعها «2» فى كل سنة أربعمائة ألف دينار. وواصل الحجّ من سنة إحدى وثلاثمائة إلى سنة اثنتين وعشرين، وكان ينفق فى كل حجة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وكان يحمل معه أحواضا من الخشب على الجمال، مزروع فيها الخضروات، وكان لا ينصرف عن الحجاز إلا وقد استغنى فقراؤه. ثم واصل الحج من سنة نيّف وعشرين إلى سنة أربعين. وقام أربعين سنة يصوم.(28/52)
وقال المسبّحى فى تاريخه «1» : حبس هذا الوزير على مكة والمدينة ضياعا ارتفاعها نحو مائة ألف دينار فى كل سنة، منها كورة سيوط، ومنها نوير، ومنها بركة الحبش. وحبس أيضا عليهما بالشام. وقال فى كتب وقفه: من بدلها فرسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه. رحمه الله تعالى.
وفى سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة خالف شبيب العقيلى، وكان واليا على الرّملة والساحل، وسار إلى دمشق وفتحها، ودخل إليها من باب الجابية، فوقع عن فرسه ميّتا، واختلف فى موته، فقيل إن امرأة أرخت عليه حجر طاحون، وقيل بل مات حتف أنفه، واتّصل الخبر بالأستاذ كافور فسكن بعد قلق عظيم. والله أعلم.
ذكر وفاة أبى القاسم أنوجور وولاية أخيه أبى الحسن على بن الإخشيد
كانت وفاته لسبع «2» خلون من ذى القعدة سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وكانت مدّة وقوع اسم الملك عليه أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وأيّاما. وكان كافور هو الغالب على أمره والحاكم [19] فى دولته، وليس لأبى القاسم معه إلا مجرّد الاسم.(28/53)
ولما مات عقدت البيعة بعده لأخيه أبى الحسن علىّ فى يوم الأحد لثمان خلون من ذى القعدة، فجرى الأستاذ كافور معه على قاعدته مع أخيه، وزاد على ذلك بأن حجبه ومنعه من الظّهور إلى النّاس إلّا معه.
ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن توفّى لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين «1» وثلاثمائة، وكان مدة ملكه خمس سنين وشهرين وأيّاما، وقيل: إنّ وفاته كانت فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين، وكان مولده لأربع بقين من صفر سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، وخلّف ولدا واحدا وهو أبو الفوارس أحمد.
ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصىّ الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع
كانت ولايته بعد وفاة أبى الحسن على، ابن سيده، لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وقيل فى هذا التاريخ من سنة أربع وخمسين.
قال الفرغانى المؤرخ: لمّا توفى علىّ بن الإخشيد استدعانى كافور وقال لى: ما ترى أن أصنع؟ فقلت له: أيها الأستاذ إنّ للمرحوم عندك صنائع وآثارا تقتضى أن ينظر لعقبه؛ والرأى عندى أن تنصب أحمد بن الأمير علىّ مكان «2» أبيه، وتدبر أنت الدولة كما كنت. فاعتذر بصغره، فقلت: قد(28/54)
عقد لأبيه ولم يبلغ سنّه، وأجاز ذلك ثلاثة أئمّة: المتّقى والمستكفى «1» والمطيع «2» . فقال ننظر فى ذلك. وانصرفت. فبلغنى أنّه قال بعدى:
أبو محمد لا يشكّ فى ولائه «3» لكنه يميل إلى الفرغانيّة، ثم لم يقبل ما أشار به الفرغانى، بل وثب على الأمر وأنزل اسم مواليه عن المنابر، وأقام كذلك إلى أن توفّى فى يوم الثلاثاء لعشرين بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
وكان سبب وفاته أنه سمّ فى لوزينج «4» قدمته له إحدى جواريه وقد أتى من الميدان وهو جائع، فأكله ومات، وقتلت الجارية بعده، وكانت قد وضعت لذلك. ومات وله من العمر خمس وستون سنة على التّقدير، فإنه جلب فى سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة وعمره أربع عشرة سنة، وبيع بأثنى عشر دينارا «5» .
قال المؤرخ: وكان لكافور معروف فى كل سنة للحاج أكثر ما «6» ينفذ معهم مالا وكسوة وطعاما، ويبعث معهم صندوقين من كسوة بدنه تفرّق على الأشراف. وكان له من الغلمان الأتراك ألف وسبعون غلاما يغلق عليهم باب داره، وتمام الألفى غلام روم، سوى المولّدين والسّودان، يكون عدّة(28/55)
غلمانه أربعة آلاف غلام. وكان راتبه فى مطبخه فى كل يوم ألف وسبعمائة رطل لحما سوى الدّجاج والفراريج والخراف المشويّة والحلوى وغير ذلك.
وخطب له بالحرمين الشريفين، ونفذ حكمه فى الشّام والحجاز وطرسوس.
وكانت له خزانة شراب يفرّق منها فى كل يوم خمسون قرابة «1» من سائر الأشربة فى الحاشية. ولما مات كافور خلّف فى خزائنه عينا وجوهرا وثيابا وسلاحا بمبلغ ألف ألف دينار.
وحكى عنه أنه كان فى ابتداء أمره قبل اتصاله بالإخشيد لحقه جرب حتّى كان لا يقابل فطرده سيّده، وكان يمشى فى سوق بنى جاسة، وفيه طبّاخ يبيع الطبيخ، فطلب كافور منه أن يطعمه، فضربه بالمغرفة على يده، وهى حارّة، فسقط مغشيّا عليه؛ فأخذه رجل من المصريّين وداواه حتى وجد العافية فأتى إلى سيّده فقال له سيّده: خذ أجرة ما فعلت. فأبى؛ وقال:
أجرى على الله. وكان كافور كلما عزّت نفسه يذكّرها بضرب الطّباخ بالمغرفة، وربما يركب ويأتى ذلك الخطّ وينزل ويسجد شكرا لله عز وجل.
وحكى أيضا أنه اجتاز يوما بالنحّاسين وهو فى موكبه فوقف على حانوت هرّاس «2» ، وكان إلى جانبه الوزير ابن الفرات فبكى كافور بكاءا شديدا وكان يقول فى بكائه: فاز الجمال فاز الجمّال، وساق وهو على تلك الحال، فلمّا استقرّ بمكانه وسكن، سأله الوزير عن سبب بكائه، فقال: لمّا طلعت من المركب من بحر الحجاز، وكان يومئذ سيدى الذى جلبنى إبراهيم البلوقى،(28/56)
فركب الجمل وقصدنا قوص ونزلنا فى بعض الأيام وجلست مع الجمّال ورجل آخر كان معنا قد وصل من الحجّ، فقال الرجل: أشتهى على الله قدر هريسة قدّامى. فقلت: أنا أشتهى على الله ملك مصر، فقال الجمّال اشتهيت على الله الجنّة. وغاب عنى هذا الحديث. فاتّفق أنّ سيّدى إبراهيم باعنى لمحمد بن هاشم، ثمّ باعنى لأبى أحمد بن عيّاش، فوهبنى لجارية له، ثمّ وهب [20] أبو أحمد الجارية بعد مدّة الإخشيد، فطلبنى تكين الخاصّة من الإخشيد فأهدانى إليه، فلم أزل إلى أن ملكت مصر. وصاحب الحانوت الذى وقفت عنده هو الذى اشتهى القدر الهريسة؛ فعرفت أنّ ذلك الوقت وهب الله لكلّ منّا ما اشتهى، ففاز الجمّال بالجنة.
وحكى أبو جعفر المنطقى قال: دعانى كافور يوما وقال لى: أتعرف منجّمّا، كان يجلس عند دار فلان؟ فقلت: نعم. قال: ما صنع؟ قلت: مات منذ سنين كثيرة. فقال: مررت عليه يوما فدعانى وقال: أنظر لك؟ قلت:
افعل. فنظر، ثمّ قال: ستملك هذه المدينة وتأمر فيها وتنهى. وكان معى درهمين فدفعتهما إليه، وقلت: ما معى غيرهما. وقال: وأزيدك؛ ستملك هذه المدينة وغيرها وتبلغ مبلغا عظيما، فاذكرنى. فانصرفت. فلمّا نمت البارحة رأيته فى منامى وهو يقول لى: ما على هذا فارقتنى وأريد أن تمضى وتسأل عن حاله، وهل له ورثة؟ فسألت عنه فقيل: له ابنتان إحداهما بكر والأخرى متزوّجة، وأعلمته؛ فاشترى لهما دارا بأربعمائة دينار، ودفع للبكر مائتى دينار تتجهز بها.
وقال الحسن بن زولاق المصرى المؤرخ: كان الشريف عبد الله بن أحمد(28/57)
الحسينى، وهو ابن طباطبا، يرسل إلى كافور فى كل يوم جامين «1» حلوى «2» ورغيفا فى منديل مختوم، فخوطب كافور فى الرّغيف وقيل له الحلوى حسن فما تصنع بالرغيف؟ فأرسل إليه وقال: يجرينى الشريف فى الحلوى على العادة. ويعفينى من الرغيف، فركب الشّريف إليه وقال: أيّدك الله، أنا ما أنفذ الرغيف تطاولا ولا تعاظما وإنّما هى صبيّة حسنيّة تعجنه بيدها وتخبزه، فأرسله «3» على سبيل التبرّك؛ فإذا كرهته قطعناه. فقال: لا والله، ولا يكون قوتى سواه.
وقيل أنه ركب يوما فى موكبه والشّريف أبو جعفر «4» نقيب الطالبين يسايره، فوقعت مقرعته، فنزل الشريف فناوله إياها؛ فتذممّ كافور من ذلك وتأوّه وبلغ منه مبلغا عظيما. فلمّا نزل إلى داره أرسل إلى الشّريف جميع ما كان يملكه فى موكبه من مماليك ودوابّ وآلة واعتذر منه. قال التنوخى فى نشوار المحاضرة: وكان قيمة ما سيّره إليه خمسة عشر ألف دينار «5» .
وفى سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة قدم عليه أبو الطيب المتنبى «6» فأكرمه وخلع عليه، وأنزله بدار، وحمل إليه ألوفا من المال، فقال أبو الطيب(28/58)
قصيدته التى أولها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب «1» المنايا أن تكون أمانيا
تمنّيتها لما تمنّيت أن أرى ... صديقا، فأعيا أو عدوّا مداجيا
وجاء منها فى مدح كافور:
فجاءت «2» به إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا
فحسن موقعه عند كافور، ثمّ هرب منه وهجاه بما هو مسطور فى ديوانه «3» .
ولما مات كافور قام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد بن على بن الإخشيد محمد بن طغج بن جفّ، كانت ولايته بعد الأستاذ كافور لعشر بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وذلك أن القواد والغلمان الإخشيديّة اجتمعوا وتحالفوا ألّا يختلفوا، وعقدوا الرئاسة له،(28/59)
وهو ابن إحدى عشرة سنة، وجعلوا الخليفة عنه الحسن «1» بن عبد الله ابن طغج، وهو ابن عم أبيه؛ وردّوا تدبير العساكر والرجال إلى شمول «2» الإخشيدى، وتدبير الأموال إلى جعفر بن حنزابة «3» الوزير؛ وذلك كلّه قبل دفن كافور.؟
وأقام الأمر على ذلك ثلاثة أشهر وثمانية عشر يوما، واشترك معه ابن عمّ أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج، وكان يخطب لهما جميعا بمصر والشّام والحرمين، يبدأ فى الخطبة بأبى الفوارس ويثنّى بأبى محمد الحسن.
ثم سار الحسن إلى الشام لقتال القرامطة، وصادر الوزير جماعة من المصريين، وقبض على يعقوب بن كلّس وصادره على أربعة آلاف وخمسمائة دينار؛ وقبض على إبراهيم بن مروان النّصرانى، كاتب أنوجور وعلى ابنى الإخشيد وصادره على عشرة آلاف دينار. ولم يقدر الوزير على رضا الإخشيديّة والكافورية لتباين أغراضهم؛ فاضطرب التدبير على الوزير، واستتر مرّتين، ونهبت داره ودور أصحابه، فكتب جماعة من وجوه البلد إلى المعز «4» بإفريقية يستدعون منه إنفاذ العساكر.
وكان بمصر فى هذه السّنة غلاء شديد وفناء عظيم، فإن النيل انتهت زيادته فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة إلى اثنى عشر ذراعا وتسعة عشر(28/60)
أصبعا، ولم يوف فى السنة التى قبلها، فاشتد الغلاء، وكثر الوباء.
نقل بعض المؤرخين أنه أحصى من كفّن ودفن خارجا، عدا من رمى فى البحر، ستمائة ألف إنسان.
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم الحسن بن عبيد الله من الشّام [21] منهزما من القرامطة، ودخل مصر، وقبض على جعفر بن الفرات الوزير، واستوزر الحسن بن جابر الرياحى، ثم أطلق الوزير بن الفرات، بوساطة أبى جعفر مسلم الحسينى الشريف، وفوّض إليه الوزارة، ثم سار الحسن بن عبيد الله إلى الشّام فى مستهل شهر ربيع الآخر؛ وخرج جماعة من الأولياء والكتاب والأشراف إلى الشام، وخرج يعقوب «1» بن كلّس إلى الغرب مستترا، ثمّ صار منه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ تواترت الأخبار فى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أن المعزّ صاحب إفريقية قد جهّز عساكره مع غلامه جوهر إلى مصر، فجمع الوزير القوّاد ووقع رأيهم على تقديم نحرير سويران فاستدعوه من الأشمونين «2» ، وعقدوا له الرئاسة عليهم.
ووصل الخبر بوصول جوهر إلى برقة، فاجتمع رأى الجماعة على أن بعثوا الشريف أبا جعفر مسلما الحسنى وأبا إسماعيل بن أحمد الزينبى وأبا الطيب(28/61)
العباس بن أحمد العباسى والقاضى أبا ظاهر، وغيرهم، لتقرير الصلح بينهم وبين جوهر على تسليم البلاد له، فساروا فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فلقوه على تروجة «1» ، فأكرمهم وأجابهم إلى ما طلبوه ثم بعد انفصالهم اجتمع القواد على إبطال المصالحة وتجهّزوا للحرب، ورجع أولئك النّفر بكتاب الأمان، فلم يقبل القواد ذلك، وخرجوا إلى الجيزة بأجمعهم.
ووصل جوهر وابتدأ القتال يوم الخميس الحادى عشر من شعبان من السّنة، ثمّ سار جوهر بعد ذلك إلى منية شلقان «2» وملك المخايض، فبعث المصريون مزاحم بن أرتق لحفظها فلم يحفظها، وخامر عليهم، وعدى «3» جوهر، وانهزم الإخشيديون، ودخل جوهر مصر بعد العصر من يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان منها، وندب القائد جوهر المعزّىّ بعد ذلك جعفر بن فلاح إلى الشام، والتقى هو والحسن بن عبيد الله على الرملة فى شهر رجب سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، واقتتلا «4» فانهزم الحسن وأسر، وملك جعفر الشّام أجمع.
وانقرضت الدّولة الإخشيدية، وكانت مدتها خمسا وثلاثين سنة، وتسعة أشهر، وأيّاما.(28/62)
ذكر أخبار الدولة العبيديّة التى انتسب ملوكها إلى الشرف وألحقوا نسبهم بالحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما
هذه الدّولة من الدّول التى امتدّت أيامها واتّسعت ممالكها، واستولت ملوكها على كثير من الممالك المشهورة شرقا وغربا، ببلاد المغرب، والدّيار المصرية، والبلاد الشاميّة، والثّغور والعواصم، وغير ذلك.
وكان ابتداء ظهور هذه الدّولة ببلاد المغرب، وإنّما أوردناها فى أخبار ملوك الدّيار المصرية، وألحقنا ملوكها بملوك هذا الوادى لأن الدّيار المصرية قاعدة ملكهم وبها قام أكثر ملوكهم.
ولنبدأ بذكر أخبار ملوك هذه الدّولة وابتداء أمرهم، وما قيل فى نسبهم وإلى من ينسبون، وكيف تنقّلت «1» بهم الحال إلى أن ملكوا البلاد، واستولوا على الأقاليم. وهذه الدّولة أسباب ولوازم وشيعة، هم الذين مهّدوا لهم البلاد. ووطّنوا الممالك. وهزموا الجيوش، وفتحوا الأقاليم، وأبادوا الأبطال. حتى إستقر الملك لملوك هذه الدّولة وتسلّموه عفوا صفوا.(28/63)
لا بدّ لنا أن نبتدئ بذكر أخبارهم، وما فتحوه واستولوا عليه قبل ظهور المهدىّ الّذى هو أوّل ملوك هذه الدّولة، ثم نذكر عاقبة أمر من قرر لهم الملك معهم، ونذكر من ملك من ملوك هذه الدولة واحدا بعد واحد إلى أن انقرضت دولتهم وبادت أيّامهم.
فنقول وبالله التوفيق:
أوّل من ملك منهم عبيد الله المنعوت بالمهدىّ، ونسب نفسه أنه:
عبيد الله بن الحسن بن علىّ بن محمد بن علىّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، وأهل العلم بالأنساب من المحقّقين ينكرون ذلك وينفونه عن «1» الشّرف، ويقولون: اسم عبيد الله سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله القدّاح «2» بن أبى شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، صاحب كتاب «الميدان فى نصر الزّندقة» ، وهو من أهل رامهرمر «3» ، كورة من كور الأهواز، وكان من خرّميّة المجوس «4» ، ومن المؤرخين من زعم أن الحسين بن أحمد زوج أم سعيد وأن أبا سعيد يهودى.
وقال القاضى أبو بكر بن الطيّب «5» فى كتابه المسمّى بكشف الأسرار(28/64)
وهتك الأستار: إنّ سعيدا هذا كان قد رباه عمّه محمد بن أحمد المكنى بأبى الشلغلغ [22] وكانوا دعاة لمحمّد بن إسماعيل بن جعفر الصّادق، يأكلون البلاد باسمه ويدّعون أنّه حىّ يرزق إلى زمانهم، وفيه عمل ابن المنجم قصيدته التى يقول فيها:
فإنّك فى دعواك أنّك منهم ... كمن يدّعى أنّ النّحاس من الذّهب
متى كان مولى الباهليّين ملحقا ... بآل رسول الله يوما إذا انتسب
ولما ملك بهاء الدّولة أبو نصر [بن] «1» عضد الدّولة فناخسرو، ابن بويه، بغداد جمع الطالبيّين من آفاق العراق، وسألهم عنهم، فكلّهم أنكرهم ونفاهم، وتبرّأ منهم؛ فأخذ خطوطهم بذلك. وكان ممن شهد الشّريفان الرّضىّ «2» والمرتضى «3» وأبو حامد الأسفراينى «4» ، وأبو الحسين(28/65)
القدورى «1» ، وغيرهم «2» ، وذلك فى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة «3» بأمر القادر بالله «4» العباسىّ.
هذا مع ما ينسب إلى بنى بويه من التشيّع. فلنذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم.
ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم
قال أبو محمد عبد العزيز بن شدّاد بن الأمير تميم بن المعزّ بن باديس فى كتابه المترجم بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان: أوّل من قام منهم أبو شاكر ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان، وكان ممّن صحب أبا الخطّاب محمّد بن أبى زينب «5» مولى بنى أسد، فألقوا إلى كلّ من اختصّوا به أنّ لكل شىء من العبادات باطنا، وأنّ الله تعالى ما أوجب على أوليائه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجّا؛ ولا حرّم عليهم شيئا من المحرمات؛ وأباح لهم نكاح البنات والأخوات. وإنما هذه العبادات عذاب على الأمّة وأهل الظّاهر، وهى ساقطة عن الخاصّة. يقولون ذلك لمن يثقون به ويسكنون(28/66)
إليه. ويقولون فى آدم وجميع الأنبياء: كذّابون محتالون طلاب للرّئاسة.
فاشتدّت شوكة هؤلاء فى الدّولة العبّاسيّة، وتفرقوا فى البلاد شرقا وغربا، يظهرون التقشّف، والزّهد، والتصوّف، وكثرة الصّلاة والصّيام، يعرّفون الناس بذلك وهم على خلافه، ويذكرون أبا الخطاب إلى أن قامت البيّنة بالكوفة أنّ أبا الخطاب أسقط العبادات وأحلّ المحارم، فأخذه عيسى «1» بن موسى الهاشمى، مع سبعين من أصحابه، فضرب أعناقهم، فتفرّق بقيّة أصحابه فى البلاد، فصار قوم ممّن كان على مذهبه إلى نواحى خراسان، وقوم إلى الهند، وصار أبو شاكر ميمون بن سعيد إلى بيت المقدس مع جماعة من أصحابه، وأخذوا فى تعلم الشعبذة «2» والنارنجيات «3» والحيل ومعرفة الرّزق من صنعة النّجوم والكيمياء، ويحتالون على كلّ قوم بما يتّفق عندهم، وعلى العامّة بإظهار الزّهد والورع، ونشأ لأبى شاكر ابن يقال له عبد الله القدّاح، علّمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النّحلة، فتحذّق وتقدّم، وكانوا يظهرون التشيع والبكاء على أهل البيت ويزيدون أكاذيب خترعوها يخدعون بها ضعفاء العقول.
وكان من كبار الشعوبيّة «4» رجل يسمى محمد بن الحسين بن جهار نجار(28/67)
الملقب دندان «1» وهو بنواحى الكرج «2» وأصفهان له حال واسعة وضياع عظيمة، وهو المتولّى على تلك المواضع، وكان يبغض العرب ويذمّهم، ويجمع معايبهم، وكان كلّ من طمع فى نواله تقرّب إليه بذمّ العرب، فسمع به عبد الله بن ميمون القدّاح وما ينتحله من بغض العرب وصنعة النّجوم، فسار إليه، وكان عبد الله يتعاطى الطّب وعلاج العين، ويقدح الماء النّازل فيها، ويظهر أنه إنما يفعل ذلك حبسة وتقربا إلى الله عز وجلّ، فطار له هذا الاسم بنواحى أصفهان والجبل، فأحضره دندان وفاتحه الحديث، فوجده كما يحبّ ويهوى، وأظهر له عبد الله من مساوئ العرب والطعن عليهم أكتر مما عنده، فاشتدّ إعجابه به، وقال له. مثلك لا ينبغى أن يطبّ، وإنّ قدرك يرتفع ويجلّ عن ذلك، فقال: إنّما جعلت هذا ذريعة لما وراءه ممّا ألقيه إلى الناس وإلى من أسكن إليه على رفق ومهل، من الطّعن على الإسلام، وأنا أشير عليك ألّا تظهر ما فى نفسك إلى العرب، ومن يتعصّب لهذا الدّين، فإنّ هذا الدّين قد غلب على الأديان كلّها فما يطيقه ملوك الرّوم، ولا الترك، والفرس، والهند، مع بأسهم ونجدتهم، وقد علمت شدّة بابك صاحب الخرّمية «3» وكسرة عساكره، وأنّه لما أظهر ما فى نفسه من بغض الإسلام وترك التستّر بالتشيّع «4» [23] كما يقول أوّلا قلع أصله،(28/68)
فالله الله أن تظهر ما فى نفسك، والزم التشيّع والبكاء على أهل البيت، فإنّك تجد من يساعدك على ذلك من المسلمين، ويقول: هذا هو الإسلام [وسبّ أبا بكر وعمر] «1» وادّع عليهما عداوة الرّسول وتغيير القرآن وتبديل الأحكام، فإنك إذا سببتهما سببت صاحبهما «2» ؛ فإذا استوى لك الطّعن عليهما فقد اشتفيت من محمّد، ثم تعمل الحيلة بعد ذلك فى استئصال دينه.
ومن ساعدك على هذا فقد خرج من الإسلام من حيث لا يشعر، ويتم لك [الأمر] «3» كما تريد، فقال دندان «4» : هذا هو الرأى.
ثم قال له عبد الله القدّاح: إن لى أصحابا وأتباعا أبثّهم فى البلاد فيظهرون التقشّف والتصوّف والتشيع، ويدعون إلى ما تريده بعد إحكام الأمر. فاستصوب دندان ذلك وسرّ به، وبذل لعبد الله القدّاح ألفى ألف دينار. فقبل المال وفرّقه فى كور الأهواز والبصرة وسواد الكوفة، وبطالقان، وخراسان «5» ، وسلمية من أرض حمص.
ثم مات دندان فخرج عبد الله القدّاح إلى البصرة وسواد الكوفة، وبثّ الدعاة، وتقوى بالمال، ودبّر الأمر.(28/69)
وحكى الشّريف أبو الحسين محمّد بن على الحسين المعروف بأخى محسن «1» فى كتابه أن عبد الله بن ميمون هذا كان قد نزل عسكر مكرم «2» فسكن بساباط أبى نوح، وكان يتستّر بالتشيّع والعلم، فلمّا ظهر عنه ما كان يضمره ويسرّه من التّعطيل والإباحة، والمكر والخديعة، ثار النّاس عليه، فأول من جاءه «3» الشيعة، ثم المعتزلة وسائر الناس، وكبسوا داره، فهرب إلى البصرة ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازى، فنزل بباهلة على موال لآل عقيل بن أبى طالب، وقال لهم: أنا من ولد عقيل، وداع «4» إلى محمّد بن إسماعيل بن جعفر «5» . فلمّا أقام وانتشر خبره طلبه العسكريّون فهرب وأخد طريق الشام ومعه الحسين الأهوازى، فلما توسطا الشام عدلا إلى سلمية «6» ليخفى أمرهما فأقام بها عبد الله وخفى أمره.
نرجع إلى قول ابن شداد. قال: ثم مات عبد الله، وكان له جماعة من الولد فخلفه منهم ابنه «7» أحمد، فقام مقام أبيه، وجرى على قاعدته،(28/70)
وبثّ الدّعاة، واستدعى رجلا من أهل الكوفة يقال له أبو الحسين رستم بن الكرخيين بن حوشب بن زادان النجار؛ وكان هذا الرجل من الإماميّة الذين يقولون بإمامة موسى»
بن جعفر، فنقله إلى القول بإمامة إسماعيل «2» بن جعفر. وكانوا يرصدون من يرد من المشاهد وينظرون إليهم، فمن كان فيه مطمع وجهالة استدعوه، ولا يستدعون إلا الجهّال ومن له بأس وجلد، وعشيرة ومال، وعزّ ومنعة، ويتجنّبون الفقهاء والعلماء، والأدباء والعقلاء.
وكانوا يطلبون أطراف البلاد، فقال لهم بعض من ورد عليهم: إن بجيشان «3» والمدحرة والجند «4» من أرض اليمن رجلا جلدا كثير المال والعشيرة، يتشيّع، وبهذه الناحية شاعر يقال له ابن خيران يسبّ فى شعره أبا بكر وعمر، المهاجرين والأنصار، على مثل سبيل الحميرى الشاعر، فورد ذلك الرّجل المذكور، وهو أبو الخير محمد بن الفضل من أهل جيشان من اليمن، ودخل إلى الحيرة، فرأوه يبكى على الحسين بن على، فلما فرغ من زيارته أخذ الدّاعى يده وقال له: إنّى رأيت ما كان منك من البكاء والقلق(28/71)
على صاحب هذا القبر، فلو أدركته ما كنت تصنع قال: كنت أجاهد بين يديه، وأجعل خدّى أرضا يطأ عليها، وأبذل مالى ودمى دونه. فقال له:
أتظنّ أن ما بقى لله حجّة بعد صاحب هذا القبر؟ قال: بلى، ولكن لا أعرفه بعينه، قال: فتريده؟ قال: إى والله. فسكت عنه الدّاعى. فقال له محمد ابن الفضل: ما قلت لى هذا القول إلا وأنت عارف به. فسكت الداعى، فقوى ظنّ ابن الفضل أن هذا الرجل يعرف الإمام والحجّة، فألحّ عليه وقال له: الله الله فى أمرى، اجمع بينى وبينه، فإنى خرجت إلى الحجّ وجئت إلى هذه الزيارة أريد الله تعالى، فسكت الدّاعى، وازدادت رغبة ابن الفضل، فصار يتضرع إليه، ويسأله، ويقبّل يده. فقال له الدّاعى:
اصبر، ولا تعجل، وأقم، فهذا الأمر لا يتمّ بسرعة، ولا بدّ له من صبر ومهلة. فقال ابن الفضل لأصحابه ومن كان معه من جيشان: انصرفوا فلى بالكوفة شغل، فانصرفوا، وأقام هو واجتمع بالدّاعى، فقال له:
ما عملت فى حاجتى؟ فقال انتظرنى حتى أعود إليك، فانصرف عنه ومضى إلى أحمد بن القدّاح وعرّفه حال ابن الفضل وحرصه على لقاء الحجّة وإمام الزمان، وبقى الدّاعى يرقبه ويراه لا يكاد يبرح من المسجد من غير أن يعلم ابن الفضل به، فلمّا كان بعد أربعين يوما أتاه إلى المسجد وهو جالس، فقال له: أنت بعدها هنا؟ فقال: نعم؛ ولولا تحنّنى لأقمت فى هذا المسجد إلى أن أموت. فعلم الدّاعى أنه قد قصده، فأخذه وجمع بينه وبين أحمد بن عبد الله ابن ميمون [24] .
وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن على الحسينى فى كتابه الّذى صرّح فيه منفى هؤلاء عن النّسب إلى الحسين بن علىّ، رضى الله عنهما، واستدلّ(28/72)
على ذلك بأدلة يطول شرحها- أنّ أحمد بن عبد الله بن ميمون لمّا قام بالأمر بعد أبيه عبد الله بعث الحسين الأهوازى «1» من سلمية داعية إلى العراق، فلمّا انتهى إلى سواد الكوفة لقى حمدان بن الأشعث، وهو قرمط الذى ينسب إليه القرامطة، فصحبه، وأتبعه قرمط، وتابعه كثير من النّاس. فلما مات الأهوازى أسند الأمر من بعده إلى حمدان بن الأشعث، قرمط، وقد ذكرنا هذه القصّة فى أخبار القرامطة.
نرجع إلى قول ابن شداد. قال: وكان أحمد يقول للحسن ابن حوشب الكوفى النّجار: يا أبا القاسم هل لك فى غربة فى الله؟ فيقول: الأمر إليك يا مولاى، فلمّا اجتمع بابن الفضل قال له: قد جاء ما كنت تريد يا أبا القاسم، هذا رجل من أهل اليمن، وهو عظيم الشأن، كثير المال، ومن الشيعة، قد أمكنك ما تريد، وثمّ خلق من الشيعة، فاخرج وعرّفهم أنك رسول المهدىّ، وأنه فى هذا الزّمان يظهر فى اليمن. واجمع المال والرّجال، والزم الصوم والصّلاة والتقشف، واعمل بالظاهر ولا تظهر الباطن، وقل لكلّ شىء باطن، وإن ورد عليك شىء لا تعلمه فقل لهذا من يعلمه، وليس هذا وقت ذكره. وجمع بينه وبين ابن الفضل، وخرجا جميعا إلى أرض اليمن.
ونزل ابن حوشب بعدن، وكان فيها قوم من الشيعة يعرفون ببنى موسى، وخبرهم عند ابن ميمون، فنزل ابن حوشب بالقرب منهم، وأخذ فى بيع ما معه من القماش، ولزم الزّهد والتقشف. فقصده بنو موسى وقالوا له: فيم جئت؟ قال: للتجارة. قالوا: لست بتاجر، وإنّما أنت رسول المهدىّ،(28/73)
وقد بلغنا خبرك. وعرّفوه بأنفسهم، فأظهر أمره عليهم، وسار إلى عدن لاعة «1» . وسار ابن الفضل إلى بلده. ولما وصل ابن حوشب إلى عدن لاعة قوّى عزائمهم وقرّب أمر المهدىّ عليهم، وأنه من عندهم يخرج، وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح ولم يزل أمر ابن حوشب يقوى وأخباره ترد على من بالكوفة من الإمامية وطبقات الشيعة، فيبادرون إليه، ويقول بعضهم لبعض: دار الهجرة، فكبر عددهم واشتدّ بأسهم، وأغار على من جاوره ونهب وسبى، وجبى الأموال، وأنفذ إلى من بالكوفة من ولد عبد الله القدّاح أموالا عظيمة، وهدايا وطرفا، وكذلك لابن الفضل.
وكانوا نفذوا إلى المغرب رجلين، أحدهما يعرف بالحلوانى والآخر بأبى سفيان «2» ، وتقدّموا إليهما بالوصول إلى أقاصى المغرب، والبعد عن المدن والمنابر، وقالوا لهما ينزل كلّ واحد منكما بعيدا من الآخر، وقولا: لكلّ شىء باطن، ونحن فقد قيل لنا اذهبا فالمغرب أرض بور فاحرثاها واكرباها حتى يأتى صاحب البذر، فنزل أحدهما بأرض كتامة «3» بمدينة مرمجنه «4» والآخر سوق «5» حمار، فمالت قلوب أهل تلك النّواحى إليهما، وصارا يحملان(28/74)
التّحف التى تحمل إليهما إلى ابن القدّاح، ثم ماتا على قرب بينهما بعد أن أقاما سنين كثيرة.
فقال ابن حوشب لأبى عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا الشيعى، وكان قد هاجر إليه، يا أبا عبد الله أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلوانى وأبو سفيان وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادر إليها فإنها موطأة ممهدة لك، فخرج أبو عبد الله وأخرج ابن حوشب معه عبد الله بن أبى ملاحف، وأمدّه بمال، وأوصاه بما يعمل وكيف يحتال. وكان أبو «1» عبد الله قد شاهد أفعال ابن حوشب وعرف تدبيره، فسار إلى مكة، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما أحمد بن عبد الله بن ميمون فإنه لما قوى أمره، وكثرت أمواله، ادّعى أنه من ولد عقيل ابن أبى طالب، وهم مع هذا يسترون أمرهم، ويخفون أشخاصهم، ويغيّرون أسماءهم وأسماء دعاتهم، ويتنقلون فى الأماكن. ثم مات أحمد وصار الحسين إلى سلمية وله بها أموال من ودائع جدّه عبد الله القدّاح، ووكلاء، وأتباع، وغلمان. وبقى ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلغلغ «2» ، وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان، وهو مؤدب بآداب الملوك.
وكان الذى بسلمية يدّعى أنه الوصىّ وصاحب الأمر دون بنى القدّاح،(28/75)
ويكاتب الدّعاة، ويراسلونه من اليمن، والمغرب، والكوفة. واتفق أنه جرى بحضرته بسلمية حديث النّساء فوصفوا امرأة رجل يهودى حداد مات عنها زوجها، وأنها فى غاية الجمال، فقال لبعض وكلائه: زوّجنى بها، فقال إنها فقيرة ولها ولد، فقال: ما علينا من الفقر، زوّجنى بها فأرغبها وأبذل لها ما شاءت. فتزوّجها وأحبّها، وحسن موقعها عنده، وكان ابنها يماثلها فى الجمال، فأحبّه وأدبه، [25] وعلّمه، وأقام له الخدم والأصحاب فتعلّم الغلام، وصارت له نفس كبيرة وهمّة عظيمة.
فمن العلماء من أهل هذه الدّعوة من يقول: إن الإمام الذى كان بسلمية من ولد القدّاح مات ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودى الحدّاد، وهو عبيد الله الذى نعت بالمهدىّ، وأنه عرّفه أسرار الدّعوة من قول وفعل، وأعطاه الأموال، وتقدّم إلى أصحابه ووكلائه بطاعته، وخدمته ومعونته، وعرّفهم أنه الإمام والوصىّ، وزوجه ابنة عمّه أبى الشلغلغ.
هذا قول ابن القاسم الأبيض العلوى وغيره من العلماء بهذه الدعوة.
وبعض الناس، وهم قليل، يقولون إن عبيد الله هذا، المنعوت بالمهدىّ، من ولد القدّاح.
ومنهم من يقول فيه قولا آخر، نذكر إن شاء الله عزّ وجلّ.
فهذا ما حكى فى ابتداء أمرهم، فلنذكر أخبار الشيعىّ ببلاد المغرب، والله أعلم.(28/76)
ذكر أخبار أبى عبد الله الشّيعى «1» داعى المغرب وما كان من أمره وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب
قال أبو إسحاق إبراهيم «2» بن القاسم الكاتب المعروف بابن الرّقيق، فى تاريخ إفريقية، وغير ابن الرّقيق ممّن ذكر أخبار هذه الدّولة «3» : كان أبو عبد الله الشيعى من أهل الكوفة، وقيل من أهل صنعاء، واسمه الحسين ابن أحمد بن محمّد بن زكريّا، فاتصل بالذى يدّعى أنه الإمام، وهو ابن القداح الّذى ذكرناه المختلف فى نسبه، فأرسله إلى أبى القاسم الحسن بن حوشب «4» الكوفى النجار، وهو المعروف بالصّناديقى، داعيتهم باليمن وكتب إليه أن ينصره ويرشده، وقال لأبى عبد الله: امتثل سيرته، وانظر «5» إلى(28/77)
مخارج أفعاله فاعمل بها، ثم اذهب إلى المغرب. فخرج حتى انتهى إلى أبى القاسم، فأنزله وأكرمه، وأقام عنده من وقت انصراف الحاجّ من مكة إلى اليمن إلى وقت خروجهم فى العام المقبل. فخرج أبو عبد الله مع الحاجّ إلى مكة.
فلما قضى الناس حجّهم واستقرّوا بمنى جعل الشّيعى يمشى بمنى وينظر إلى الناس، فمرّ بجماعة من كتامة وهم فى رحالهم، وكانوا من الشّيعة الّذين تشيّعوا بسبب الحلوانى وفيهم حريث الجيملى وموسى بن وجاد «1» فسمعهما الشيعىّ يذكران لأصحابهما فضائل على بن أبى طالب، رضى الله عنه.
فجلس إليهما وذكر من ذلك شيئا، وأقبل على القوم وحدّثهم طويلا، ثم نهض ليقوم فقاموا معه، ومشوا بمشيه، وعرفوا مكانه. ثم أتوا من الغد فأوسع لهم فى الحديث، فزادهم ذلك فيه رغبة، وعليه إقبالا. ثم صحبهم فى طول الطريق بعد انصرافهم من الحج إلى أن وصلوا إلى مصر، وهم يبالغون فى خدمته، ويرحلون برحيله، وينزلون بنزوله، وهو يسألهم عن بلادهم فى خلال ذلك، وعن طاعتهم لملوكهم، فيقولون ما علينا طاعة لهم، وهو لا يعرّض لهم بقصده ولا رغبته فى بلادهم. فلما أتوا مصر أظهر أنه يريد الإقامة بها، فتألّموا لفراقه، وقالوا ما الذى تقصد بمقامك مصر؟
قال: التعليم. فسألوه أن يصحبهم إلى بلادهم وأنهم يوجبون له على أنفسهم أجرة فى كلّ سنة، وما أوجب. ولم يجبهم إجابة كلّية؛ ورغبتهم كلّ يوم تزيد فيه، فأجابهم إلى الخروج معهم، ففرحوا بذلك واستبشروا، وجعلوا يزيدون فى برّه، ويقولون له: عندنا كثير من إخوانك ومن يذهب إلى(28/78)
مذهبك، ولو رأوك ما رضوك إلّا إلى شيوخهم، فضلا عن صبيانهم؛ ولسنا نخلّيك للتعليم بل نعدّك لما هو أعظم منه.
فلما عزم على المسير معهم جمعوا له دنانير وأتوه بها، فامتنع من قبولها، وقال لم يكن منى ما يوجب ذلك؛ فعظم فى أنفسهم، وزادت هيبته فى صدورهم. وخرجوا به من مصر، وساروا حتى إذا كان بسوجمار «1» من أرض سماتة، تلقاهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبر الشّيعى، ونظروا إلى تعظيم الكتاميين له؛ فرغب كلّ واحد منهم أن يكون نزوله عنده، حتى رموا عليه السهام، فخرج سهم أبى عبد الله الأندلسىّ فنزل عنده، ونزل كل واحد على صاحبه. وأصاب أبو عبد الله عندهم من علم الشيعة أصلا قويّا، فزاد فى الكلام معهم، فأجلّوه.
ثم سار القوم فدخلوا حد كتامة يوم الخميس النّصف من شهر ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، ومعهم أبو عبد الله الأندلسى وأبو القاسم الورفجومى، فأراد كلّ واحد من الكتاميين نزول الشيعىّ عنده، وتنازعوا فى ذلك حتى خيّروه فى النزول، فقال أىّ موضع عندكم [26] فجّ الأخيار؟ فقالوا:
عند بنى سكتان فقال: فإيّاه نقصد، ثم نأتى كلّ قوم منكم فى موضعهم، ونزورهم فى بيوتهم، ولا نجعل لأحد منكم حظّا من نفسى دون أحد إن شاء الله تعالى، فأرضاهم كلّهم بذلك، وسار كلّ قوم إلى جهتهم، وسار الشّيعى مع موسى بن حريث وأبى القاسم الورفجومى وأبى عبد الله الأندلسى إلى(28/79)
إيكجان «1» موضع موسى من بنى سكتان. قال ولما نزل عبد الله بإيكجان ومضى كل معه من الحجيج إلى مرافقهم أخبروا من قدموا عليه من أصحابهم بخبر، ووصفوه لهم مع النّاس، فتسامع النّاس به، وأقبلوا إليه من كل ناحية؛ فكان يجلس لهم ويحدثهم [بظاهر] «2» فضائل على رضى الله عنه.
قال: فاتصل خبر الشيعى بابراهيم «3» بن أحمد صاحب إفريقية، فكتب إلى موسى بن عيّاش «4» يسأل عن خبره فضعّف موسى أمره فكتب إليه ثانيا وأرسل ابن المعتصم المنجم؛ وأمر إبراهيم بن أحمد موسى بن عيّاش أن يتلطّف فى اتصاله إلى أبى عبد الله، وأن يختبر أحواله، ويأتيه بصحيح خبره، وأوصاه بوصايا أمره أن يذكرها له.
فلمّا وصل إلى موسى أرسل إلى بنى سكتان يخبرهم أن إبراهيم قد بعث برجل إلى أبى عبد الله ليجتمع به. فرفع ذلك إلى أبى عبد الله، فأذن له.
فلمّا انتهى إليه قرّبه وأقبل عليه، فقال له ابن المعتصم: إن الأمير إبراهيم ابن أحمد وجّهنى إليك برسالة، فإن أذنت لى أدّيتها. فقال له: أدّ رسالتك قال: وأنا آمن؟ قال: نعم. فقال: يقول لك الأمير: ما حملك على التعرّض لسخطى، والوثوب فى ملكى، وإفساد رعيّتى، والخروج علىّ؛ فإن كنت تبتغى عرضا من أعراض الدنيا فإنك تجده عندى، وإن أنت(28/80)
تلافيت أمرك، ورجعت عن غيّك، فصر إلىّ وأنت آمن؛ فإن أردت المقام ببلدنا أقمت، وإن أحببت الانصراف انصرفت. وإن كان قصدك قصد من سوّلت له نفسه الخلاف على الأئمة، واستفساد جهلة الأمة، فلقد عرفت عواقب من تمنّيه نفسه أمنيتك، وسوّلت له ما سوّلت لك، من الهلاك العاجل، قبل سوء المصير فى الآجل. ولا يغرّنّك ما رأيت من إقبال هؤلاء الأوباش عليك، واتّباعهم إياك، فإنى لو صرفت وجهى إليك لأسلموك، وتبرّءوا منك. واعلم أنى إنّما أردت الإعذار إليك، لاستظهار الحجّة عليك. وهذا أوّل كلامى «1» وآخره، لا أقبل لك بعد هذا توبة، ولا أقيلك عثرة، ولا أجعل جواب ما يمكن منك إلا النّهوض إليك بنفسى، وجميع أبطال رجالى، وأنصار دولتى، وجملة أهل «2» مملكتى فعند [ذلك] «3» تندم حين لا ينفعك النّدم، ولا تقبل منك التّوبة. فانظر فى يومك لغدك، وقد أعذر إليك من «4» أنذر.
فقال له أبو عبد الله الشيعى: قد قلت فاسمع، وبلّغت فابلغ: ما أنا ممّن يروّع بالإيعاد، ولا ممّن يهوله الإبراق والإرعاد. فأما تخويفك إياىّ برجال مملكتك، وأنصار دولتك، أبناء حطام الدّنيا، الّذين يقتادون لكل سائق، ويجيبون كلّ داع وناعق، فإنى فى أنصار الدّين، وحماة المؤمنين، الذين لا تروعهم كثرة أنصار الباطل «5» ، مع قول الله تعالى، وهو أصدق(28/81)
القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
«1» فأمّا ما أطمع به من دنياه وعرضه من زبدها وحطامها، فلست من أهل الطّمع فأميل إليه، ولا ممن يرغب فيما عنده فيأتيه. وإنما بعثت «2» رسولا لأمر قد حمّ وقرب، فإن سوّلت له نفسه ما وعد به، ودعته «3» إليه، فسوف يعلم أنّ الله عز وجل من ورائه ولن تغنى عنه فئة شيئا ولو كثرت وأنّ الله مع المؤمنين «4» فهذا جواب ما جئت به، فبلّغه إن شاء الله.
قال «5» : ولما اشتهر أمر الشّيعى ببلد كتامة، ونظر رؤساء القبائل وولاة البلدان فلم يروا فى إبراهيم بن أحمد نهضة فى أمر، وخافوا على زوال الرئاسة من أيديهم، وتقديم من يسارع إلى أمره عليهم، ممّن كانوا يرونه دونهم، كتب بعضهم إلى بعض فى ذلك، فاجتمعوا وتعاقدوا. وكان ممن سعى فى ذلك موسى بن عياش صاحب ميلة «6» ، وعلى بن عسلوجة صاحب سطيف «7» وحى بن تميم صاحب بلزمة «8» وكلّ هؤلاء أمراء هذه المدن، وعندهم العدّة والعدّة والأموال الكثيرة والنّجدة، والقوّة، ومن مقدّمى(28/82)
كتامة وكبارهم وولاة أمورهم: فتح بن يحيى المشالى «1» ، وكان يقال له الأمير، ومهدى بن كناره «2» ، رئيس لهيصة، وقرح بن خيران «3» رئيس أجّاته، وثميل بن فحل «4» رئيس لطاية، واستعملوا آراءهم فى أخذ الشّيعى فعلموا، أنهم لا يقدرون عليه عنوة من أيدى بنى سكتان لأنّهم يمنعونه، ويجتمع عليهم جيملة وغيرها من قبائل كتامة، فتفرّق ذات البين، ويكون ذلك داعية إلى أن يجعلوا له أنصارا، وتصير كتامة فريقين، ولم يأمنوا سوء العواقب، فقصدوا بنان «5» بن صقلان، وهو من وجوه بنى سكتان، ولم يكن له يومئذ دخل فى أمر الشيعىّ، وأرسلوا جماعة منهم إليه، وبعثوا له أربعة أفراس وأغنما وهديّه. وقالوا له: إن هذا الرجل قد بدّل الدّين، وفرّق الجماعة، وشتّت الكلمة، وأدخل الاختلاف بين الأقارب [27] وقد قصدناك فى أمره، وأملكناك فى قطع هذا المكروه بأن تقبض على الشيعىّ وتخرجه من بلدنا، وتنفيه عنّا إن كرهت قتله، ونجعل لك بعد ذلك التّقدمة على جميع كتامة والعرب، فيكون لك شرف الدنيا وفخرها، وثواب الآخرة وأجرها، وتزيل عن أهل بيتك مكروها، وتقطع عنهم شرا. وأخذوا معه فى ذلك وحذّروه عواقب السلطنة.
فقال لهم بنان: هذا رجل صار بين أظهرنا، وهو ضيف عندنا، كيف ينبغى أن نفعل فيه مثل هذا الفعل. فتنازعوا فى ذلك طويلا، وكان آخر خطاب بنان لهم أن قال: الرأى أن نجمع العلماء إليه فيناظرهم، فإن كان(28/83)
على حقّ فما أولانا وإيّاكم بنصرته واتّباعه، وإن كان على باطل عرّفنا من اتّبعه أن يرجعوا عنه.
فانصرفوا إلى أصحابهم وأخبروهم بما كان من بنان، فخافوا أن تقوم حجّته، ويستحكم أمره، فتزول رئاستهم بسببه. فأجمعوا على أن يمضوا فى جماعة ويظهروا أنهم أثوا بالعلماء، فإذا خرج إليهم قتلوه، وانصرفوا على حميّة.
فاجتمعوا فى عدد عظيم من الخيل والرّجل؛ فلمّا رآهم بنو سكتان ركبوا خيولهم؛ والتقى الجمعان. فقالوا لبنان إنما أتيناك لما كان بيننا وبينك.
فقال: إنّما كان بيننا أن تأتوا بالعلماء، وقد أتيتم بالزّحف والعدّة، وعلا الكلام بينهم، فالتحم القتال، وتداعت جيملة من كلّ مكان؛ فانهزم القوم، وانصرف عنهم بنو سكتان. وكان الشيعىّ قد سيّر فى مبادئ هذا الأمر، وخاف عليه أصحابه.
ثم راسل الجماعة بنانا مرّة ثانية، وقالوا. قد كنّا أخطأنا فيما أتينا به من الجمع، ولم يكن ذلك عن قصد، ولكن تسامع النّاس بنا فتبعونا. وقد رجوناك لإصلاح جماعتنا، وقدّمناك، واخترناك لأنفسنا، لتحقن دماءنا، وتجمع ما تبدّد من شملنا، فقد عادى من أجل هذا الرّجل الأخ أخاه، والابن أباه، والقريب قريبه؛ وهذه فتنة قد بدت، وردّة قد ظهرت.
وهذا الرجل من أهل المشرق، وهم كما علمت شياطين. وعلماؤنا بربر، وقوم ليست لهم تلك الأذهان؛ فإنهم [إن] «1» ناظروه يظهر عليهم ولم يجدوا حجّة. يحتجون بها عليه. وقالوا له: أترى نحن وآباؤنا والنّاس كلّهم فى(28/84)
ضلالة، وهذا وحده على الحقّ والهدى. وكرّروا عليه ما وعدوه به من التّقدمة عليهم؛ فأصغى إليهم ووعدهم أن يتلطّف فى إخراجه. فجعل يتكلم فى ذلك ويحتجّ على أهل بيته، ويخوّفهم العواقب؛ فاتصل كلام بنان بالشيعىّ فانتقل عنهم.
ذكر انتقال أبى عبد الله الشّيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت «1»
قال: واتّصل هذا الخبر بالحسن بن هارون العصمى «2» ، وكان قد دخل فى هذا الأمر، وهو معروف بالأدب وكثرة النّعمة، وهو مطاع فى قومه. فأتى الشّيعى ورغب إليه فى الانتقال إلى مكانه، ووعده بالذّبّ عنه، والمدافعة بنفسه وأهله وماله؛ وذكر ذلك لأصحابه فأشاروا عليه به. وعظم ذلك على بنى سكتان وكرهوه، وقالوا له: نحن ندافع عنك بأنفسنا حتى نقتل كلّنا دونك. فشكر قولهم. وانتقل إلى الحسن بن هارون إلى تازرارت فتلقاه من بها من أصحابه وغيرهم. وقام «3» العصميون «4» بما احتاج إليه الشيعىّ وأصحابه، وقاسموه أموالهم. وأقبل أصحاب الشيعى من كلّ ناحية، وكلّ(28/85)
منهم يأتى بما يملكه، ويبذله بين يديه. فاجتمع أمره، وامتنع جانبه، واجتمعت عصمان على نصرته، وخلق كثير من قبائل كتامة، وندم بنان بن صقلان على ما كان منه فى حقه، وعظم شأن الحسن بن هارون بفعله.
وكان للحسن أخ هو أسنّ منه، اسمه محمود، فوجد فى نفسه من ذلك، وكان قبل ذلك مقدما على أخيه لسنّه، وكان أيضا مطاعا فى أهل بيته، فنكل بذلك، وفشا «1» عنه هذا والحسن يداريه ويستعطفه، خوفا من أن يفترق جماعة عصمان.
فلمّا صار أمر الشيعىّ. بتازرارت إلى ما صار إليه وانتهى ذلك إلى القوم الّذين كانوا تعاقدوا عليه أولا، فسقط فى أيديهم، وعظم أمره عليهم، فرجوا أن يصلوا من محمود بن هارون إلى ما يريدونه من أمر الشّيعى.
فاجتمعوا إلى مهدى بن أبى كتامة اللهيمى «2» . فذكروا له ما بلغهم عن محمود، وقالوا له: هذا جارك وصديقك، فلعلّك أن تستميله فتفرّق به جماعة عصمان، فيمكننا ما تريد.
فركب مهدى إلى محمود، وذكر له اجتماع وجوه كتامة وأنهم أرسلوه إليه وقالوا إنّه قد أجحف أخوك بنفسه وأهل بيته وجاء إلى عصمان ببليّة قد تعافى منها بنو سكتان، وتخلّصوا من شرّها [28] . وجعل يخوفه من سوء العواقب، ووعده عنهم «3» بالتّقدمة على أنفسهم. فاستماله بذلك مع ما(28/86)
داخله «1» من الحسد لأخيه والغيرة منه.
فقال: القول فى ذلك ما قلت، ولكنّه قد تمكّن وقوى وكثرت أتباعه، وليس هو الآن كما كان فى بنى سكتان، وقد أجابته عصمان وكثير من عامّة كتامة، فهم يقاتلون دونه؛ فمتى دعوت من يطيعنى من عصمان إلى أخذه صرنا فريقين، وأهلك بعضنا بعضا. وما أرى فى أمره إلّا ما رأى لى بنان «2» : أن يأتى بالعلماء إليه فيناظروه، فإن قامت حجّتهم عليه وجدنا السّبيل إليه، وإن كانت الأخرى دبّرنا رأيا آخر إن شاء الله تعالى.
وانصرف مهدى إلى القوم فأخبرهم. فقالوا: من الذى يناظره من علمائنا وأنت ترى الواحد من جهّالنا إذا دخل فى أمره ناظرهم فقطعهم، فكيف به فقال: قد رأيت من محمود شهوة فى قتله ومال إلى ما وعدناه به من التّقدمة، مع ما داخله من الحسد لأخيه؛ ولم أجد عنده غير ما فارقته عليه.
وما علينا أن نأتى بالعلماء فإذا هم أخرجوه وقعنا «3» عليه أسيافنا فقتلناه، ويكون بعد ما عساه أن يكون. فأرسلوا فى طلب العلماء من كلّ ناحية، وقالوا لا نأتيه فى احتفال كما فعلنا ببنى سكتان.
واتصل الخبر بالحسن بن هارون، وبالشّيعىّ، فقال لهم ليجتمع جماعة عصمان إلى محمود فيلاطفوه ويذكروا له ما اتصل بهم، ويحذّروه العار، والنّقص، وسوء العواقب، ويقدّموه على أنفسهم، ويعظّموه، ويرفعوا من شأنه. ففعلوا ذلك؛ ووافاه أخوه الحسن وجماعة عصمان، وقالوا: نحن(28/87)
أهل بيتك وعشيرتك وأنت أميرنا ومقدّمنا، وهذا الرّجل ضيفك وضيفنا، وقد رأيت ما لحق ببنى سكتان من النّقص فى إخراجه، وأنّهم ندموا عليه، وأن بنانا حاول ردّه إليه ليصلح ما أفسده على نفسه فلم يجبه إلى ذلك. فلا تجعل علينا عارا ولا نقصا. وحلفوا له وقدّموه على أنفسهم فمال إليهم.
فلما علم محمود ان أولئك القوم قربوا من تازرارت ركب فى جماعة وأركب الشّيعىّ أصحابه معه وقال لهم: إن قدرتم أن تلحموا الحرب «1» فافعلوا. فلمّا التقوا قالوا لمحمود: هؤلاء العلماء قد جئنا بهم؛ وعزلوهم ناحية: فقال لهم محمود: انصرفوا ودعوهم عندنا حتى نجمع بينهم وبين الرّجل، مع عشرة رجال من وجوهكم وخياركم، فى مجلس، فننظر ما يكون بينهم. فانحلّ ما عقدوه. فقالوا: وما عليكم أن تخرجوه إلى هاهنا ونشهد ما يكون منه ومن العلماء، فيكون ذلك أشهر وأقطع للأمر:
فقال لهم محمود: قد بلغنا عنكم أنّكم عقدتم أمرا وطمعتم أن تنزعوا ضيفنا من أيدينا بالتّغلّب.
فردّوا عليهم. فحمل عليهم هو وأصحابه، والتحم القتال، وقاتل محمود قتالا شديدا فجرح، ثم افترقوا، فمات محمود من جراحه، فسرّ أخوه والشّيعىّ بموته، وأظهروا الطّلب بدمه. واجتمعت عصمان ألّبا واحدا وصحّت الرئاسة للحسن بن هارون وولّاه الشّيعى أعنّة الخيل، وقوّده وعوّده على جميع أصحابه.
واشتعلت الحرب بين عصمان ولهيصة بسبب قتل محمود. واجتمع أمراء بلزمه وأكثر القبائل للشّيعىّ وأظهر نفسه، وكان يشهد الحرب ويباشرها.(28/88)
وطالت الحرب بينهم، ثمّ اصطلحت لهيصة وعصمان بعد أن قتل مهدى، وانضمّوا كلهم إلى الشّيعى، واشتدّ أمره، وحاربوا من بينهم من القبائل، وشنّوا الغارات على من بعد منهم. وبعث الشيعىّ خيلا مغيرة إلى مزاتة ورئيس مزاتة «1» يومئذ يوسف القنطاسى، وكان قدم على إبراهيم بن أحمد فوصله وحيّاه، وكساه، وأعطاه جارية؛ فكبسته خيل الشّيعى، وأخذوا جميع ما كان له، وسبوا الجارية، وقتلوا من قدروا عليه من أصحابه، واختفى هو فنجا، ووصلوا إلى الشّيعىّ بالغنيمة فاصطفى الجارية لنفسه وهى أمّ ولده.
فلما رأت القبائل ظهور الشّيعى واجتماع لهيصة له، وقتل مهدى، مشى بعضهم إلى بعض، وأرسلوا إلى مزاته، فاجتمع رأيهم على أن يدخلوا إليه بعيالاتهم ويحيطوا به من كلّ جانب، فتسلمه عصمان ولهيصة ومن معهم ويستأصلوهم. فانتهى الأمر إلى الشّيعى، فجمع أصحابه كلّهم بتازرارت، وجاءت كتامة من أطرافها وأحاطوا به. فخندق على نفسه، وأشار عليه وجوه أصحابه أن يعتزل الحرب وهم يقاتلون. فشكرهم على ذلك، وأبى أن يقبله. ووعدهم النّصر، وحثّهم على القنال؛ فأخرج كلّ واحد ما عنده من مال وسلاح وكراع، وتشاوروا فيه، وكمّلوا عدّتهم وعدّتهم، فبلغوا سبعمائة فارس، لا يزيدون ولا ينقصون، وألفى راجل. والتقوا بعد مراسلة لم تجد شيئا واقتتلوا قتالا شديدا. ودام القتال بينهم ثلاثة أيّام، ودام فى اليوم الثّالث إلى العصر، وكان الظّفر لأصحاب الشيعى. وانهزم أولئك، وتبعوهم وقد امتلأت أيدى أصحابه من الغنائم والأموال؛ وتفرّق ذلك الجمع. قال: فبيع الجمال كلّ عشرة بدينار [29] والحمار بعشر(28/89)
بصلات، وغنموا من الخيل ما لا يحصى. «1»
وانصرف الشيعىّ إلى تازرارت وابتنى بها قصرا يسكنه، واتخذها دار مقامه؛ وأقطع أصحابه دورا حول قصره. وارتحل إليه أصحابه من كلّ ناحية، وابتنوا وسكنوا، وقوى أمرهم. واستأمن إليه كثير من القبائل؛ وشنّ الغارات، وداوم الحرب، فأقبل النّاس إليه من كل جهة.
ولحق فتح بن يحيى بإفريقية «2» فقدم على أبى العبّاس [بن] «3» إبراهيم ابن أحمد، وهو يومئذ بتونس بعد خروج أبيه إبراهيم إلى صقلّية، فوصله وأدناه، وأكرمه، وسأله عن الشّيعىّ، فضعّف أمره، فقال: أليس قد اجتمعتم عليه فى عساكر عظيمة فلم تقدروا عليه؛ فقال: ليس أمرنا من أمرك فى شىء، إنّما نحن مقاتلة بغير رأس، ونقاتل من يعرفنا من أهل بلدنا، ولو جاءه عسكر من قبلك لكانت هيبته فى صدور النّاس. فأطمعه أبو العباس، ثم أمسك عنه.
قال: واستولى الشيعى على جميع بلد كتامة، وظهرت دعاته فى كلّ ناحية منها، وغلب عليها؛ وكانت وقائع كثيرة ببلد كتامة.
وأقام بعد انهزام الجمع نحو سنتين وهو يشنّ الغارات، ويغنم الأموال، حتّى أجابوه، وسلّموا الأمر إليه. ولم يبق إلّا المدينة الحصينة ومن فيها من(28/90)
أمرائها ومن انضمّ إليها من القبائل.
ذكر تغلّب أبى عبد الله الشيعى على مدينة ميلة
قال ابن الرقيق: كان سبب ذلك أن قيس بن أبى جرير «1» من وجوه أهل ميلة، وهم [من] «2» ربيعة وكان رئيسهم يومئذ حسن بن أحمد، فوصل إلى الشيعىّ سرا وأطلعه على أمر المدينة، فتقدّم الشيعىّ إليها وقاتل من بها، وغلب على جميع أرضها، فدخل جميع من كان بها إلى الحصن، ثم سألوا الأمان، فأمّنهم ما لم يحدثوا حدثا. ففتحوا أبواب المدينة ودخلها أصحاب الشيعى، وخرج إبراهيم بن موسى بن عيّاش مع جماعة منهم فى الليل، فهربوا إلى إفريقية، إلى أبى العبّاس بن إبراهيم، فأخبروه بالخبر، وضعّفوا عنده أمر الشيعىّ، وسألوه فى إخراج عسكر إليه، وضمنوا أمره.
فأمر بالحشد. وجمع وجوه رجاله، وأمّر عليهم ابنه محمّدا المعروف بأبى حوال «3» فاجتمع له عساكر عظيمة انتقى منها اثنى عشر ألف فارس. واتّصل الخبر بالشّيعىّ فاستعدّ للّقاء.(28/91)
ذكر الحرب بين أبى عبد الله الشّيعىّ وبين أبى حوال محمد بن أبى العباس
قال «1» : وخرج أبو حوال بالعسكر الّذى اختاره من مدينة تونس، فى سنة تسع وثمانين ومائتين، وكلّ من مرّ عليه من القبائل، بدأهم بالعطاء وخلع على وجوههم، وقصد إلى سطيف، فلم يصل إليها حتّى زاد فى عسكره مثله. وتلقّاهم بنو عسلوجة أصحاب سطيف «2» ، وبنو تميم أصحاب بلزمه، ومن حولهم ممّن لم يدخل فى طاعة الشيعىّ، فقتل من وجوههم قتلا ذريعا، وانتهب أموالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وقصد الشيعى بتازرارت، واتصل به الخبر، فبرز إليه بمن معه، والتقوا ببلد بلزمة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الشّيعىّ وأصحابه، واتّبعهم أبو حوال إلى الليل، ثم أصبح فلقوه واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الشيعىّ ثانية إلى تازرارت وجاءهم ثلج عظيم، فحال بينهم.
ولم ير الشيعىّ أن تازرارت تحصّنهم، فأخذوا ما قدروا عليه، وانضموا إلى إيكجان. فلمّا ارتفع الثّلج تقدّم أبو حوال إلى تازرارت فأخربها وهدم قصر الشيعى وسار إلى ميلة، ثم التقى هو والشيعىّ واقتتلوا إلى الليل، فانهزم أبو حوال إلى تونس، ورجع الكتاميّون إلى ميلة، واعتلّ الحسن بن هارون فمات بإيكجان، وسكنها الشيعىّ وابتنى بها قصرا.(28/92)
وجاء الخبر إلى الشيعىّ بوفاة إبراهيم بن أحمد وأنّ ابنه أبا العباس ولى الأمر بعده «1» ، وجلس فى المسجد وردّ على الناس ظلاماتهم، وأنّه يجلس على حصير وبين يديه الدّرّة، فاغتمّ لذلك لأن العوامّ مالت إليه. ثمّ أتاه الخبر بقتل أبى العبّاس، وأنّ ابنه زيادة الله «2» قتله وولى مكانه، وأنّه شرب الخمور وارتكب المحارم، وعكف على الملاهى، فسرّه ذلك، وقال لهم: قد زال عنكم ما كنتم تخافونه، وهذا آخر ما تحاربون، وسيصير الأمر إليكم.
قال: ثم خرج أبو حوال بالعساكر تانية قبل وفاة أبيه، فهزمه الشيعىّ واستولى على ميله، وعاد أبو حوال إلى بلاده وقد ملك زيادة الله، فقتله زيادة الله [30] وقتل إخوته، والله أعلم.
ذكر تغلّب أبى عبد الله الشيعىّ على مدينة سطيف
كانت مدينة سطيف لعلىّ بن حفص، المعروف بابن عسلوجة، وكان قد زحف مع أبى حوال لقتال الشّيعىّ. فلمّا استقام أمر الشيعىّ وأخذ ميلة ذهب بجموعه إلى سطيف وأقام عليها أربعين يوما وهو يقاتله، ثمّ انصرف إلى(28/93)
إيكجان فأقام بها شهرا، وجمع «1» من قدر عليه، وعاد إلى مدينة سطيف فأحاط بها، وقاتله علىّ بن عسلوجة، فهزمه الشيعىّ فتحصّن بالمدينة. وأقام أيّاما يحاصره، فمات على بن عسلوجة، هو وأخوه أبو حبيب. فى أيّام قلائل فاستولى الشيعىّ عليها «2» .
ذكر خروج إبراهيم بن حنبش إلى بلد كتامة
قال «3» : لمّا اتصل بالأمير زيادة الله أخبار الشيعىّ، وظهوره على بلد كتامة، وافتتاحه ميلة، ووصل إلى زيادة الله من كتامة من خاف على نفسه، وعرّفوه أنّه إن لم يعاجل الشيعىّ زاد أمره، أخذ زيادة الله عند ذلك فى الاحتشاد وزاد فى العطاء. فاجتمعت له عساكر عظيمة، فقدّم عليها إبراهيم بن حنبش «4» ، فبلغت عدّة من خرج معه أربعين ألفا، من فارس وراجل. وأخرج معه أموالا جليلة وسلاحا كثيرا، وعددا عظيمة، وأمر ببذل الأموال، وأخرج معه وجوه رجاله ومن وصل إليهم من كتامة.(28/94)
فسار إبراهيم بن حنبش حتى أتى قسطنطينية «1» ، وبينها وبين إيكجان الّتى بها الشيعىّ نحو مرحلتين، وأردفه زيادة الله بسديد بن أبى شدّاد «2» ، فاجتمع معه نحو مائة ألف. وأقام بقسطنطينية ستّة أشهر لا يتقدّم إليه الشيعى، فلمّا رأى ذلك زحف بعساكره كلّها، فندب الشيعىّ خيلا اختارها من كتامة ليختبروا بروز حنبش، فأتوه. فلمّا رأى الخيل قصدها بنفسه. هذا والأثقال على الدوابّ؛ فانتشبت الحرب، واقتتلوا قتالا شديدا. واتّصل الخبر بأبى عبد الله الشيعىّ، فزحف بمن معه، فوقعت الهزيمة على ابن حنبش وأصحابه، وأسلموا الأثقال، وتبعهم أصحاب الشيعىّ يومهم ذلك إلى الليل، ومن الغد، يقتلون ويغنمون. فقتلوا منهم كثيرا وغنموا من الأموال والأمتعة والسّلاح والكراع ما لا يحصى كثرة.
ووصل ابن حنبش إلى باغاية «3» وكتب كتابا بخطّه إلى زيادة الله يخبره بالخبر. ثم قدم إلى إفريقية، فاضطربت وما جت بأهلها، وعظم أمر الشيعىّ ثم غلب على مدينة طبنة «4» ثم على مدينة بلزمة، ثم مدينة تيجس «5» ، ثم(28/95)
مدينة باغاية «1» ، ثم قفصة «2» ، وقصطيلية «3» ، ثم مدينة الأربس «4» .
وكان له فى خلال هذه الفتوحات وقائع كثيرة كان آخرها مع إبراهيم بن أبى الأغلب لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ستّ وتسعين ومائتين، فانهزم إبراهيم إلى جهة القيروان واتّبعهم أصحاب الشيعىّ يقتلون ويغنمون ويأسرون «5» .
ذكر هرب زيادة الله إلى المشرق
قال «6» : ولمّا وصل خبر هذه الهزيمة إلى زيادة الله وهو برقّادة «7» ، وكان قد علم أنّه لا يقوم له أمر إذا انهزم إبراهيم، لأنّه آخر ما جمع من الجيوش واستنفذ فيه الوسع والطّاقة، فلمّا جاءه خبر الهزيمة أظهر أنّه جاءه الفتح، وأرسل إلى السّجون فأحضر رجالا منها فضرب أعناقهم، وأمر أن(28/96)
يطاف برءوسهم فى القيروان، وأخذ فى تجهيز أثقاله، وحملها وحمل أمواله، وأنذر خاصّته وأهل بيته بالخروج معه، وعرّفهم بالخبر؛ فأشار عليه ابن الصّائغ «1» بالمقام، فأبى ذلك، وخرج إلى مصر، كما ذكرناه «2» وأقبل النّاس فى صبيحة يوم هرب زيادة الله وانتهبوا رقّادة. والله أعلم.
[31] ذكر رجوع أبى عبد الله الشّيعىّ إلى إفريقية
قال: ولمّا وافاه الخبر بهرب زيادة الله أمير إفريقية، وهو بناحية سبيبة «3» رحل لوقته، وخرج إليه شيوخ القيروان، وتلقّوه، فأكرمهم، ودخل أبو عبد الله الشيعىّ رقّادة فى يوم السّبت غرّة شهر رجب، سنة ستّ وتسعين ومائتين، ونزل ببعض قصورها، وفرّق دورها على كتامة، ولم يكن قد بقى بها أحد من أهلها، وأمر مناديه فنادى فى القيروان بالأمان، فرجع(28/97)
النّاس إلى أوطانهم. وغيّر المنكرات، وولّى قضاء القيروان محمّد «1» بن عمر المروزىّ، وأمره، ورتّب الخطباء وأمرهم أن يصلّوا على: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ، والحسن والحسين وفاطمة، وأمر بضرب السّكّة، وأن ينقش على الوجه الواحد «بلغت «2» حجّة الله» . وعلى الوجه الآخر «تفرّق أعداء الله» ، ونقش على السلاح «عدّة لسبيل «3» الله» ، ونقش على خاتمه الّذى يطبع به الكتب (وتمّت كلمات ربّك صدقا وعدلا) «4» ورسم فى جلال الخيل «5» «الملك لله» .
ذكر خروج أبى عبد الله الشّيعىّ إلى سجلماسة «6»
قال «7» : ولمّا استقرّ أبو عبد الله الشيعى برقّادة، أتاه أخوه أبو العبّاس محمد ابن أحمد، فسرّ بمقدمه، وكان أسنّ من أبى عبد الله وأحدّ ذهنا،(28/98)
وكان الشيعىّ يعظّمه، فإذا دخل قام إليه، وإذا دخل هو على أبى العبّاس قبّل يده ووقف حتى يأمره بالجلوس فيجلس.
ولما وصل أبو العباس أراد أن ينفى من القيروان من خالف مذهبه، فقال له أبو عبد الله إن دولتنا دولة حجّة وبيان، وليست دولة قهر واستطالة، فاترك النّاس على مذاهبهم، فتركهم.
وأخذ أبو عبد الله فى الخروج إلى سجلماسة، فرحل إليها فى النّصف من شهر رمضان من السّنة، فى جيوش عظيمة، واستخلف على إفريقية ابا زاكى تمام ابن معارك وأخاه «1» أبا العباس.
قال: ولمّا خرج اهتز الغرب لخروجه وزالت زناتة «2» والقبائل عن طريقه، وأوقع بقبائل عرضت له فى الطّريق حتّى إذا قرب من سجلماسة راسل أميرها اليسع بن مدرار «3» ، وكان من أمره معه ما نذكره بعد فى أخبار المهدىّ عبيد الله إن شاء الله.
فهذه أسباب ظهور هذه الدّولة وقيامها وخبر شيعتها. فلنذكر أخبار المهدىّ وما كان من أمره. وخروجه من بلاد الشام، وما اتفق له فى مسيره إلى أن تسلم الملك من أبى عبيد الله الشيعىّ، بعد أن مهّد له القواعد وفتح(28/99)
البلاد. ثم نذكر فى أخبار عبيد الله، المنعوت بالمهدىّ، تتّمة أخبار أبى عبد الله الشيعىّ إلى أن قتل هو وأخوه أبو العبّاس محمد بن أحمد.
فنقول وبالله التوفيق.
ذكر ابتداء الدّولة العبيديّة وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشّام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعىّ
كان ابتداء ظهور هذه الدولة وقيامها ببلاد المغرب فى سنة ستّ وتسعين ومائتين، عند ظهور عبيد الله بن الحسن المنعوت بالمهدىّ، وخلاصه من سجن سجلماسة وقتله الحسن بن مدرار. ومنهم من يجعل ابتداءها عند وصول عبيد الله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ولنبدأ بأخبار المهدىّ فى رحلته إلى المغرب.
ذكر رحيل عبيد الله من الشام [32] ووصوله إلى سجلماسة
وكان سبب ذلك أن المعتضد بالله أبا العبّاس العباسىّ طلب عبيد الله هذا طلبا شديدا، فخاف على نفسه إن هو أقام بالموضع الذى هو فيه من أرض الشام، فخرج بنفسه وبولده أبى القاسم محمّد، وهو يومئذ غلام حدث وعبيد الله شابّ، وخرج معه خاصّته ومواليه، يريدون المغرب، وذلك فى خلافة المكتفى بالله العباسى، وأمير إفريقية يومئذ زيادة الله بن أبى العبّاس بن إبراهيم بن أحمد.(28/100)
فلما انتهى عبيد الله إلى مصر أراد أن يقصد اليمن، وكان بها أبو القاسم الحسن بن حوشب الكوفى الدّاعى كما ذكرنا، وقد استقام له الأمر وملك أكثر البلاد، ثم بعث بعده علىّ بن الفضل فاستحلّ المحارم ودعا النّاس إلى الإباحات، فلما اتّصل ذلك به كره دخول اليمن على هذه الحال، وبلغه ما فعل الشيعىّ بالمغرب، وما فتح على يديه فأقام بمصر مستترا فى زىّ التّجار، وعامل مصر يومئذ عيسى النوشرى بعد انقراض الدّولة الطّولونيّة؛ فأتته الكتب بصفته، وأمر بالقبض عليه.
وكان بعض خاصّة النّوشرى يتشيع، قيل إنّه ابن المدبّر، فبادر إلى عبيد الله وأخبره، وأشار عليه بالمسير؛ فخرج من مصر بمن صحبه. ففرّق النّوشرى الرّسل وذكر لهم صفته، ثم خرج بنفسه فأدركه وقد رحل من تروجة، وهى على مرحلة من الإسكندرية، فمشى النّوشرىّ فى القافلة التى عبيد الله فيها، وجعل ينظر إلى وجوه القوم، حتّى رأى عبيد الله على هيئته التى وصفت له، فقبض عليه وعلى من كان معه، وأطلق الرّفقة وعاد به إلى ببستان فنزل به، وأنزل عبيد الله ومن معه بمفردهم ووكل بهم. ثم خلا به وقال له أصدقنى عن أمرك فأنى ألطف فى خلاصك، فقد جاءت صفتك من قبل أمير المؤمنين وأمر بطلبك، وذكر أنّك تروم الخلافة. فقال عبيد الله «1» إنما أنا رجل تاجر، ولست أعلم شيئا ممّا نقول، وأنت غنىّ عن تقلّد إثمى.
فما زال يلاطفه يومه وليلته حتّى أطلقه وقال: امض إلى سبيلك وأنا أبعث معك خيلا تشيّعك. فشكره وقال: أنا أستغنى بنفسى وبمن معى، وانصرف. فرجع أصحاب النّوشرى عليه بالملامة، وقالوا له: ماذا صنعته(28/101)
بنفسك! عمدت إلى بغية أمير المؤمنين وطلبته فأطلقته. فندم على إطلاقه وهمّ أن يبعث إليه خيلا تردّه.
فلمّا سار عبيد الله أميالا افتقد أبو القاسم ابنه كلبة صيد كانت له، فبكى عليها فعرفّه عبيده «1» أنهم تركوها بالبستان؛ فرجع عبيد الله فى طلبها، فرآهم النّوشرى، فقال: من هؤلاء؟ فقال بعض أصحابه: الرّجل قد رجع.
فبعث غلمانه فسألوا أصحاب عبيد الله عن سبب رجوعه، فقالوا: افتقد ولد سيدنا كلبة، وهو عزيز على أبيه، فعاد معه فى طلبها بعد أن قطع أميالا كثيرة. فقال النّوشرى لأصحابه: قبّحكم الله! أردتم أن تحملونى على رجل حاله مثل هذه الحال أعتقله بشبهة. لو كان مرتابا لطوى المراحل وما عاد إلينا من مسافة بعيدة فى طلب كلبة صيد.
ورجع النّوشرى من وقته إلى مصر، وعاد المهدىّ ولحق برفقته. فلمّا انتهى إلى مدينة طرابلس، فارق من كان معه من التّجار، وقدّم أبا العبّاس محمّد بن أحمد بن محمّد بن زكريا، أخا أبى عبد الله الشيعىّ إلى القيروان ببعض ما كان معه، وأمره أن يلحق بكتامة. فلما وصل أبو العبّاس إلى القيروان وجد الكتب قد سبقت إلى زيادة الله فى أمر عبيد الله فأحضر الرّفقة وسألهم عنه، فأخبروه أنه تخلّف بطرابلس وذكروا أنّ أبا العبّاس من أصحابه؛ فأخذ وقرّر، فأنكر، فحبس.
واتصل الخبر بعبيد الله بطرابلس فصادف رفقة خارجة إلى قصطيلية، فخرج معهم، وأتى كتاب زيادة الله إلى طرابلس بصفته وطلبه، فكتب إليه عاملها أنه خرج من عمله، وسار عبيد الله حتى وصل إلى قصطيلية، ثم منها(28/102)
إلى سجلماسة، وصاحب سجلماسة يومئذ اليسع بن مدرار، فهاداه عبيد الله، فأكرمه اليسع وعظّمه. فلم يزل كذلك إلى أن أتاه كتاب زيادة الله يخبره أنه هو الّذى يدعو إليه الشيعىّ، فتغير اليسع عند ذلك عليه إلّا أنه لم يكن منه فى حقه ما يكره.
ثم كان من تغلّب الشيعىّ ما قدّمناه، وعلم بمكان عبيد الله، وكان يكاتبه فى السّرّ. فلمّا هزم الشيعىّ جيش إبراهيم بن حنبش كتب إلى عبيد الله يخبره بالفتح، فأرسل إليه مالا مع رجال من قبله من كتامة، وكان ذلك أول فتح ورد على عبيد الله، فسرّ به. ثم استولى الشيعىّ على ما ذكرناه، وهرب منه زيادة الله، وملك رقّادة والقيروان، وسار إلى سجلماسة فلما انتهى خبره إلى اليسع بن مدرار وقرب من سجلماسة سأله فحلف أنه ما اجتمع بالشيعىّ ولا رآه قطّ ولا عرفه، وقال: إنما أنا رجل تاجر فأغلط له فى القول فلم [يغير] «1» كلامه الأوّل ولم يخرج عنه. فجعله فى دار وجعل عليه حرسا، وجعل ابنه أبا القاسم فى دار أخرى، وفرّق بينهما. واختبر كلّ واحد منهما [33] فلم يجد بينهما خلافا، وامتحن رجالا كانوا معهما بالعذاب ليقرّوا فلم يعترفوا بشىء.
واتصل الخبر بالشّيعىّ فعظم عليه، وأرسل إلى اليسع بن مدرار يؤمّنه جانبه ويذكر أنّه إنّما قصد سجلماسة لحاجة وبعده الجميل والبرّ والإكرام، وأكد ذلك وبالغ فيه فلما وصلت رسل اليسع رمى بالكتب وقتل الرّسل، واتّصل ذلك بالشيعىّ فعاوده ولاطفه؛ كلّ ذلك خوفا منه أن يكون منه فى حقّ عبيد الله ما يكرهه؛ فقتل الرّسل أيضا فلمّا رأى الشيعىّ إصراره عبّأ(28/103)
عساكره ودنا من المدينة فخرج إليه اليسع بمن معه، فناوشهم القتال، فقتل من أصحابه جماعة وكان ذلك فى آخر النّهار، فحجز بينهما اللّيل.
فلما جنّ اللّيل هرب اليسع بن مدرار مع أهل بيته وبات الشيعىّ ومن معه فى غمّ عظيمّ تلك الليلة، لا يعلم ما صنع بعبيد الله وابنه، ولم يمكنه دخول المدينة، وما علم بهرب اليسع، حتى أصبح، فخرج إلى الشيعى وجوه أهل المدينة وأعلموه بهرب اليسع، فدخل إلى المكان الذى فيه عبيد الله فأخرجه وأخرج ولده أبا القاسم، وقرّب لهما فرسين وحفّت بهما العساكر، وسار الشّيعىّ والدّعاة بين يدى عبيد الله وهو يقول: هذا مولاى ومولاكم؛ حتى انتهى عبيد الله إلى فسطاط ضرب له، فدخله، وهو إذ ذاك شاب لم ينبذه الشّيب، وابنه حرطرّ شاربه.
هذا ما حكاه إبراهيم بين الرّقيق فى تاريخه.
وقال غيره إن اليسع بن مدرار لمّا أراد الخروج من سجلماسة أحضر الشخص الذى اعتقله وقتله قبل هروبه، وأن الشيعى لمّا دخل وعلم بقتل عبيد الله خاف من كتامة لأنه كان يعدهم بخروج المهدىّ وملكه الأرض على زعمه، وخشى أن يفتضح فيهلك ويزول ما حصل فى يده، فأخرج لهم رجلا يهوديّا كان يخدم الشّخص المقتول، وقال هذا إمامكم وإمام الاسماعيلية، وأركبه ومشى فى ركابه وانسلخ له من الأمر. وهذا فيه بعد، وأراه من التّغالى فى نفيهم عن النّسب؛ والذى حكاه ابن الرّقيق أشبه.
فلنرجع إلى ما حكاه إبراهيم بن الرّقيق.
قال: ولما استقرّ عبيد الله بالفسطاط أمر بطلب اليسع بن مدرار حيث كان، فخرجت الخيل فى طلبه، فأدركوه ومن معه من أهل بيته،(28/104)
فأخذوهم وأتوا بهم إلى عبيد الله، فأمر بضرب اليسع بالسياط، فضرب وطيف به فى بلاد سجلماسة؛ ثم أمر بقتله فقتل هو وكلّ من هرب معه من أهل بيته وغيرهم. وأمّن الناس بعد ذلك وسكّنهم، واستعمل عليهم عاملا، وأتته القبائل من كلّ ناحية فأكرمهم، ووعدهم بكل جميل.
وأقام بسجلماسة أربعين يوما، ثم سار يريد إفريقية. فلما حازى بلاد كتامة مال إليها، ووصل إلى إيكجان، وأمر بإحضار الأموال التى كانت مع الشيعىّ والشيوخ، فأحضرها وشدّها أحمالا وقدم بها. وكان وصوله إلى رقّادة فى يوم الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين.
وفى هذه السنة زال ملك بنى الأغلب وكان له بإفريقية مائة سنة واثنتا عشرة سنة. وزال بزواله ملك بنى مدرار وكان له بسجلماسة وما حولها مائة سنة وستون سنة. وزال ملك بنى رستم من تاهرت «1» وما حولها، وله مائة سنة وثلاثون سنة «2» .
قال: ولما قارب عبيد الله القيروان تلقّاه شيوخها ومشوا بين يديه، فجزاهم خيرا ونزل عبيد الله بقصر من القصور برقّادة، وأنزل العساكر بدورها ودعى له بالخلافة فى يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر من السّنة برقّادة والقيروان والقصر القديم «3» وأنفذ رسله ردعاته وأتته وفود البلدان.(28/105)
قال ثمّ عرض عليه الشيعىّ جوارى زيادة الله فاصطفى منهنّ لنفسه وأعطى ولده، وفرّق أكثرهنّ على وجوه كتامة؛ وقسّم عليهم أعمال إفريقية، واستعمل وجوههم على مدنها، وأمرهم بالتجمّل وحسن اللّباس، فلبسوا الثّياب الفاخرة وركبوا بالسّروج المحلّاة. ورتّب الدّواوين وأنعم على النّاس، فرفع إليه صاحب بيت المال ما أخرجه من الصّلات فى شهر رمضان، فبلغ مائة الف دينار واستكثره صاحب بيت المال فقال عبيد الله:
لو بلغت ما أؤمّله ما رضيت بمثل هذا المال لرجل واحد [من أوليائى] «1» .
ذكر أخبار أبى عبيد الله الشيعىّ وأخيه أبى العبّاس وما كان من أمرهما بعد قيام عبيد الله المهدىّ إلى أن قتلهما
قال: لمّا استقامت الأمور لعبيد الله المهدىّ داخل أبا العبّاس محمدا أخا الشّيعىّ فساد دينه «2» وسبب ذلك أنّ أخاه أبا عبد الله كان يعظّمه ويقوم له عن مجلسه ويقبّل يده [34] كما قدمناه، وكان لأبى عبد الله من الرئاسة ونفوذ الكلمة والغلبة على الأمر كلّه ما ذكرناه «3» . فلمّا صار الأمر لعبيد الله المهدىّ زالت تلك الرئاسة عن أبى عبد الله وأخيه، فداخله الحسد، فجعل يزرى على عبيد الله عند(28/106)
أخيه وأبو عبد الله ينكر ذلك على أخيه، وأبو العبّاس لا يرعوى، ويؤكّد أسباب النّفاق. ثم قال أبو العبّاس لأخيه: لقد ملكت أمرا عظيما وانطاع لك النّاس، فجئت بمن أزالك عنه وأخرجك منه، وكان الواجب عليه ألّا يهتضمك هذا الاهتضام. ولم يزل يغريه بمثل دلك إلى أن أثّر ذلك فيه، وحمله على مشافهة عبيد الله المهدىّ ببغضه، وأشار عليه بتفويض الأمور إليه والانقطاع فى قصره والاحتجاب عن الناس، وقال هذا أهيب لك وأشدّ لامرك. فردّ عليه فى ذلك ردّا لطيفا. وكان قد بلغ المهدىّ ما هو عليه، فحقّقه ولم يره أنّه اطّلع على شىء من ذلك. وعمد أبو العبّاس إلى الدّعاة، وكانوا يعظّمونه لما يرون من تعظيم أخيه أبى عبيد الله له، فجعل يرمز لهم، ثمّ صرّح، وطعن فى عبيد الله، وأدخل فيه الشّبهة. وكلّ ذلك يبلغ عبيد الله فيعرض عنه ويغضى عليه، هذا والشيعىّ فى ذلك مدار لم يبلغ حد النّفاق إلى أن فشا أنّ حال أبى العبّاس قد أنهيت إلى عبيد الله.
وما زال أبو العبّاس يتخيّل إلى أن قال للدّعاة إنّ الإمام هو الّذى ياتى بالآيات والمعجزات ويختم بخاتمه فى البلاط، فأمّا هذا فقد شككنا فيه.
فعند ذلك أرسل هارون بن يونس «1» أحد المشايخ إلى عبيد الله يقول: قد شككنا فى أمرك فأتنا بآية إن كنت المهدىّ كما قلت. فتعاظم ذلك وقال:
ويحكم إنكم كنتم قد أيقنتم والشكّ لا يزيل اليقين، فأبيتم إلّا الإصرار! ثمّ أمر من قتله. فلمّا علم أبو العبّاس والقوم الذين استزلّهم «2» بقتله جعلوا ذلك سببا لمباينة عبيد الله وأجمعوا على النّقض والإبرام فى دار ابى زاكى ابن معارك، وعزموا على الفتك بعبيد الله. واجتمع كتامة إلّا قليلا منهم؛(28/107)
وكان عزوية «1» بن يوسف يأتى بأخبارهم لعبيد الله، فجمع عبيد الله إليه من سلم من النّفاق والعبيد واستعدّ لهم، على كثرتهم وقلّة المبايعين له. فجمعوا له الجموع وأحاطوا بقصره ليوقعوا به، وهو فى ذلك جالس منتصب غير مكترث؛ فقذف الله فى قلوبهم الرّعب على كثرتهم وقلّة من معه، حتّى كانوا يعبرون وقد عزموا على الفتك به، فإذا قابلوه ملأت الهيبة قلوبهم فإذا انصرفوا ندموا على تركه لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا
«2» .
فنظر عبيد الله فى بعض الأيّام إلى أبى عبيد الله الشيعىّ وقد لبس توبه مقلوبا، ودخل عليه ثلاثة أيّام وهو على تلك الحال، فقال له فى اليوم الثّالث: يا أبا عبد الله؛ ما هذا الأمر الّذى شغلك وأذهلك عن أمر نفسك؟
فقال: وما هو يا مولاى؟ قال: إنّ ثوبك مقلوب عليك منذ ثلاثة أيّام ما اهتديت له، وما أحسبك نزعته. فنظر إليه وقال: والله يا مولاى ما علمت به. فقال: إنّ هذا لشغل عظيم؛ فأين تبيت منذ كذا من اللّيالى؟
فسكت. فقال: ألست تبيت فى دار أبى زاكى قال له: بلى. قال:
وما أخرجك من دارك التى أنزلتك بها؟ قال: يا مولاى خفت. قال:
وما يخاف المرء إلّا من عدوّه، والمؤمن لا يخاف وليّه «3» . فسكت أبو عبد الله وأيقن أنّ عورته قد بدت لعبيد الله، ووجبت حجّته عليه، وحلّ له قتله.
فانصرف وأعلم القوم بما جرى بينهما، فأمسكوا عن الدّخول إلى عبيد الله وخافوا على أنفسهم منه. ثمّ جاءوه بعد ذلك وأظهروا البراءة مما قيل فيهم،(28/108)
واعتذروا؛ فردّ عليهم ردّا جميلا، وأخرج جماعة منهم إلى البلدان، فتفرّقت جماعتهم. وأخرج فيمن أخرج أبا زاكى بن معارك «1» إلى طرابلس، وكان غزوية بن يوسف واليا عليها «2» ، فلمّا وصل إليه كتب إليه عبيد الله، فقتله وبعث برأسه إليه. وقتل جماعة منهم كذلك فى البلدان بصنوف من القتل.
وخرج أبو عبد الله فى بعض الأيام هو وأخوه أبو العبّاس يريدان قصر عبيد الله على العادة، فحمل غزوية بن يوسف «3» على أبى عبيد الله، وحمل خير بن ماشيت «4» على أبى العبّاس. فقال أبو عبد الله لابن غزوية: يا بنىّ لا تفعل. فقال: الّذى أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك. وقتلاهما فيما بين القصرين؛ وذلك فى يوم الاثنين، النّصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين؛ وأمر عبيد الله بدفنهما.
قال: وهذا اليوم هو اليوم الّذى قتل فيه أبو زاكى بطرابلس.
قال: ولما قتل أبو عبد الله وأبو العبّاس ثار جماعة من بنى الأغلب وأصرّوا على النّفاق، وكانوا بالقصر القديم، فأخرجوا منه الكتاميّين وقتلوا جماعة منهم، فأحاط به من حوله من كتامة، فقاتلهم بنو الأغلب، وقتل من(28/109)
الطّائفتين قتلى كثير. فبلغ ذلك عبيد الله فردّ كتامة وأنكر عليهم، فتفرّق بنو الأغلب وانصرفوا إلى دورهم، فتركهم عبيد الله ثم قبض عليهم فقتلوا على باب رقّادة؛ ثم تتبّع من بقى منهم فقتلهم. ولمّا استقامت الأمور لعبيد الله [35] عهد إلى ولده أبى القاسم، وخرجت كتبه: من ولىّ عهد المسلمين محمد بن عبيد الله.
ذكر أخبار من خالف على عبيد الله وما كان من أمرهم
قال: وبقيت «1» بقيّة من المنافقين عليه، فساروا «2» إلى بلد كتامة، فأقاموا غلاما حدثا من جبل أوراس من جهة أورسّه «3» . وزعموا أنّه المهدىّ، ثمّ نحلوه النّبوّة، وزعموا أنّ الوحى يأتيه، وقالوا: أبو عبد الله حىّ لم يمت؛ وأباحوا الزّناء، وأحلّوا المحارم. وزحفوا إلى ميلة فأخذوها.
فبلغ ذلك عبيد الله «4» فأخرج إليهم ولىّ العهد فى عسكر فحاصرها مدّة، ثم قاتلوه فهزمهم حتى انتهى بهم إلى البحر، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ الغلام الّذى نصبوه فأتى به إلى أبيه، فأمر بقتله، فقتل.
وخالف عليه أهل طرابلس، فأخرج إليهم عسكرا مع أبى يوسف، فحاصرها، ثمّ انصرف عنها ولم يفتحها، فخرج إليها بعد ذلك أبو القاسم، وقد قدّموا على أنفسهم ابن إسحاق القرشى، فكان خروجه يوم الأحد(28/110)
لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة ثلاثمائة. فحاصرها وضيّق على من بها حتى أكلوا الجيف، ففتحوا فى آخر شهر رجب من السّنة، فعفا عنهم، لكنّه غرّمهم جميع ما أنفق من مال وغيره، وكانت جملته ثلاثمائة ألف وأربعين ألف دينار، وحمل وجوه رجالهم معه إلى رقّادة رهائن، واستخلف عليها، وانصرف.
ذكر بناء مدينة المهديّة
وفى سنة ثلاثمائة «1» خرج عبيد الله إلى تونس وقرطاجنة وغيرها، يرتاد لنفسه موضعا على ساحل البحر يبتنى به مدينة، فاختار موضع المهديّة، فأمر ببنائها وتحصينها بالسّور وأبواب الحديد المحكم، فجعل فى كلّ مصراع من الحديد مائة قنطار. وكان ابتداء الشّروع فى بنائها فى يوم السّبت لخمس خلون من ذى القعدة «2» من السنة. وانتقل إليها فى سنة ثمان وثلاثمائة.
قال: ولمّا عزم على الانتقال إليها ثقل ذلك على جنده، فقال: نحن ننتقل إليها وندعكم بمكانكم، وعمّا قليل ستنتقلون. ففعلوا ذلك، فما كان إلّا أن أرسل الله عليهم أمطارا غزيرة، فهدمت مساكنهم، فسألوه النّقلة إليها فأذن لهم.
وفى سنة ثلاث وثلاثمائة خرج ولىّ العهد أبو القاسم إلى الدّيار المصريّة.(28/111)
وكان خروجه من رقّادة لستّ بقين من جمادى الآخرة منها «1» ؛ وكان من أمره وأمر حباسة بن يوسف ووصولهما إلى الإسكندرية ما قدّمناه فى الحوادث فيما كان بين الدّولة الطّولونيّة والدّولة الإخشيدية.
ولما وصل حباسة إلى عبيد الله أمر بقتله على ما كان من انهزامه.
ثم خرج أبو القاسم بابنه إلى الديار المصرية. وكان خروجه يوم الاثنين غرّة ذى القعدة، سنة ستّ وثلاثمائة، ووصل إلى الإسكندرية فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة، فخرج عنها عامل المقتدر، وملكها أبو القاسم. ثمّ ملك الفيّوم والأشمونين، وغير ذلك. وأقام نحو سنتين. ثمّ وقع الفناء فى عسكره، وماتت خيلهم؛ وجاء مؤنس من بغداد واجتمعت عليه العساكر كما ذكرنا، فعجز عن قتالهم، فرجع إلى أفريقية. وكان وصوله إلى المهديّة لعشر ليال مضين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثمائة.
ذكر خروج أبى القاسم إلى بلاد المغرب [36] وبنائه مدينة المسيلة
قال: وفى سنة خمس عشرة وثلاثمائة خرج أبو القاسم، ولىّ العهد، إلى بلاد المغرب فى عسكر عظيم وكان خروجه من المهديّة فى يوم الخميس لسبع مضين من صفر منها، ففتح مزاته، وهوارة، ومطماطة، ولماية،(28/112)
وكل من خالطهم من الصّفّريّة «1» والإباضيّة «2» وبلغ إلى ما وراء تاهرت «3» . ولمّا انصرف من سفرته اختط مدينة المسيلة «4» برمحه، وأمر علىّ بن حمدون الأويسى ببنائها، واستعمله على المحمدية فبناها وحصّنها، وكانت خطّة لبنى كملان فأخرجهم منها، وأمرهم أن يرتفعوا إلى فحص «5» القيروان، وانتقل الناس إليها وعظم أمرها.
ذكر وفاة عبيد الله المهدىّ وشىء من أخباره
كانت وفاته ليلة الثّلاثاء، النّصف من شهر ربيع الأول «6» ، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة؛ وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وكانت إمارته منذ وصل(28/113)
إلى رقّادة إلى يوم وفاته أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر «1» وعشرين يوما.
قال: ولمّا مات كتم ابنه أبو القاسم موته سنة حتى دبّر أمره.
أولاده: أبو القاسم عبد الرحمن، ولىّ عهده وتسمّى بالمغرب محمدا.
أبو علىّ أحمد، مات بمصر للنّصف من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة ودفن بالقصر.
أبو طالب موسى، مات بمصر فى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ودفن بالقصر.
أبو الحسين عيسى، توفّى برقّادة فى سنة. اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
أبو عبد الله الحسين، توفّى بالمغرب فى أيّام القائم.
أبو سليمان داود، توفّى بالمغرب فى أيام القائم.
وكان له سبع بنات، ومن السّرارى أمّهات الأولاد ستّة.
قضاته: أبو جعفر محمّد بن عمر»
المروروزى، مات بعد أن عزل فى سنة ثلاث وثلاثمائة، ثم إسحاق بن المنهال؛ ثمّ محمّد بن محفوظ المصمودى، مات فى المحرم سنة سبع وثلاثمائة؛ ثم محمّد بن عمران النفطى، مات فى سنة عشر وثلاثمائة، ثم إسحاق بن المنهال ثانيا.(28/114)
حاجبه: جعفر بن على.
حامل مظلّته: [مسعود الصقلبى، ثم غرس الصقلبى] «1»
ذكر بيعة القائم بأمر الله
هو أبو القاسم محمّد، وقيل أبو العبّاس، ويدعى نزارا، وكان اسمه بالمشرق عبد الرحمن فتسمى محمّد بن عبيد الله المهدىّ، وهو الثّانى من ملوك الدّولة العبيديّة؛ بايع له أبوه بولاية العهد كما تقدّم، ثم جدّدت له البيعة بعد وفاة أبيه بسنة، فإنّه كتم وفاته سنة كاملة، حتّى مهّد قواعد دولته، ثم أظهرها. واستقلّ بالأمر وهو ابن سبع وأربعين سنة، فقام مقام أبيه، واقتفى آثاره، وأظهر عليه من الحزن ما لم يسمع بمثله وواصل الحزن لفقده، ولم يرق «2» سريرا، ولا ركب دابة منذ أفضى إليه الأمر إلى أن مات إلّا مرّتين، مرّة صلّى على جنازة، ومرّة صلّى بالنّاس العيد. وافتتحت فى أيامه مدائن كثيرة من مدن الروم؛ وثار عليه عدّة ثوّار فتمكّن منهم؛ فكان ممّن ثار عليه ابن طالوت القرشىّ، فسار إلى ناحية طرابلس وزعم للبربر أنّه المهدىّ فقاموا معه واتبعوه، فزحف بهم على مدينة طرابلس فى عدد عظيم، ثم تبيّن للبربر أمره فقتلوه، وأتوا برأسه إلى أبى القاسم.
قال: وأوّل ما بدأ به أنه أمر باتّخاذ أنواع السّلاح فى سائر البلاد،(28/115)
وأخرج ميسور «1» الصقلبى فى عدد عظيم إلى المغرب، فانتهى إلى مدينة فاس، وهزم ابن أبى العافية، وأخذ ابنه الثورى أسيرا، وأخرج بعد ذلك يعقوب بن إسحاق على أسطول عظيم إلى بلد الرّوم، فافتتح بلد جنوة.
وكان ممّن خرج عليه أبو زيد مخلّد بن كيداد «2» ، فى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وهو رجل إباضىّ، يظهر الزّهد، وأنّه إنما قام عليهم غضبا لله. وكان لا يركب غير حمار، ولا يلبس إلّا الصّوف. وكان بينهما وقائع كثيرة، فملك أبو زيد جميع مدن القيروان، ولم يبق للقائم غير المهديّة، فحاصرها أبو زيد إلى أن هلك القائم. وكان بينه وبين ابنه المنصور ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة القائم بأمر الله [37] وشىء من أخباره
كانت وفاته بالمهديّة فى يوم الأحد الثّالث عشر من شوّال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. ومولده بسلمية التى بالقرب من مدينة حماة من الشّام فى المحرّم سنة ثمانين ومائتين «3» . وكان عمره أربعا وخمسين سنة وتسعة أشهر، ومدة ملكه ثنتى عشرة سنة وستّة شهور وأيّاما.
أولاده: كان له من الأولاد الذّكور سبعة، وهم: أبو الطاهر إسماعيل قام بالأمر بعده؛ وأبو عبد الله جعفر، توفّى فى أيّام المعزّ؛ وحمزة،(28/116)
وعدنان. وأبو كتامة قضوا بالمغرب؛ ويوسف، مات ببرقة سنة اثنتين وستّين وستّمائة؛ وأبو القران عبد الجبار، توفّى بمصر فى سنة سبع وستّين وثلاثمائة، وأربع بنات وسبع سرار.
قضاته: إسحاق بن أبى المنهال إلى أن توفّى؛ ثم أحمد بن بحر إلى أن قتله أبو زيد «1» لمّا فتح إفريقية فى صفر سنة ثلاثين؛ ثم أحمد بن الوليد، ولّته الرّعيّة فأقره.
حاجبه: جعفر بن على حاجب أبيه.
ذكر بيعة المنصور بنصر الله
هو أبو الظّاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله بن عبيد الله المهدىّ، وهو الثالث من ملوكهم. بايع له أبوه القائم بأمر الله فى حياته، وولّاه حرب أبى «2» زيد؛ وهلك أبوه القائم بأمر الله، فأخفى إسماعيل موته، وناصب أبا زيد حتّى رجع إلى المهديّة، وتوجّه أبو زيد إلى سوسة فحاصرها، فأدركه المنصور إسماعيل فطرده عنها؛ ووالى عليه الهزائم إلى أن أسره فى يوم الأحد لخمس بقين من المحرّم سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة؛ فمات بعد أسره بأربعة أيّام من جراحة كانت به، فأمر المنصور بسلخه، وحشى جلده قطنا وصلبه، وبنى مدينته المسمّاة بالمنصوريّة فى موضع الوقعة، واستوطنها فى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.(28/117)
وكان المنصور شجاعا بليغا يرتجل الخطب. حكى المروروذىّ قال:
خرجت مع المنصور يوم هزم أبو زيد، فسايرته وبيده رمحان «1» فسقط أحدهما مرارا وأنا أمسحه وأناوله إيّاه وتفاءلت له بذلك. فأنشدت:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فقال: ألا قلت ما هو خير من هذا وأصدق وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ
«2» .
ذكر وفاة المنصور بنصر الله وشىء من أخباره
كانت وفاته فى يوم الجمعة آخر شوّال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
وكان سبب وفاته أنّه خرج فى شهر رمضان من السّنة إلى جلولاء «3» ومعه جاريته قضيب، وكان يحبّها، فجاء مطر عظيم وريح شديدة بجلولاء واشتدّ البرد بها؛ فخرج منها على فرس وقضيب فى غمازيه وهو يريد المنصوريّة، ودام عليه المطر والبرد.
قال أبو الرّقيق: أخبرنى من كان معه، قال: كنّا ننظر إلى العبيد السّودان على الطريق قعودا فنتأمّلهم فنجدهم موتى، وقد جفّوا من البرد. ووصل المنصور إلى قصره آخر النّهار، فدخل الحمّام، فاعتلّ لوقته. وصلّى العيد(28/118)
بالنّاس فى مبادئ عّلته، ثم اشتدّت به، فمات فى التّاريخ [المذكور] «1» ، وأوصى ابنه أن يمنع من النّوح عليه.
وكان مولده بالقيروان، فى سنة اثنتين وثلاثمائة، وكان عمره أربعين سنة.
وقال ابن الرّقيق: إنّه ولد برقّادة فى سنة إحدى وثلاثمائة، وكان عمره أربعين سنة تقريبا. ومدّة ملكه سبع سنين وأيّام «2» .
أولاده الذكور خمسة، وهم: أبو تميم معدّ، وهاشم، وحيدرة، مات بمصر سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وأبو عبد الله الحسين، وأبو جعفر طاهر.
وكان له خمس بنات، وثلاث أمّهات أولاد.
قضاته: أحمد بن محمد بن الوليد، ثم محمد بن أبى المسطور، ثم عبد الله بن هاشم، ثم على بن أبى شعيب، على المنصوريّة. ثم أبو محمد زرارة بن أحمد، ثم أبو حنيفة النّعمان «3» بن محمّد التّيمى.
حاجبه: جعفر بن على، حاجب أبيه وجدّه.
[38] ذكر بيعة المعزّ لدين الله
هو أبو تميم معدّ بن المنصور بن القائم بن المهدىّ، وهو الرّابع من ملوك الدّولة العبيديّة. وأول من ملك مصر والشّام منهم.(28/119)
صار الأمر إليه ببلاد المغرب بعد وفاة أبيه المنصور، فى آخر شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فدبّر الأمور وأحكمها إلى يوم الأحد السّابع من ذى الحجة من السنة، فجلس على سرير الملك، ودل عليه الخاصّة وكثير من العامّة فسلّموا عليه بالخلافة، وتلقّب بالمعزّ لدين الله. ولم يظهر على أبيه حزنا؛ وكان عمره يوم ولى أربعا وعشرين سنة. وأرسل إلى جميع من بالمهديّة من عمومته وعمومة أبيه، فأتوه وسلّموا عليه بالإمارة، فأخذ عليهم البيعة، ومشوا بين يديه رجّالة، وأرضاهم بالمصلّاة. واستقام له الأمر.
وصلّى بالنّاس عيد الأضحى، ثم صرفهم إلى المهديّة.
ودخل فى طاعته من العصاة من عصى على غيره ممّن كان بجبل أوراس من بنى كملان ومليلة، وهما من قبائل هوّارة.
ثمّ بعث القائد جوهرا فى يوم الخميس لسبع خلون من صفر، سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فى جيش عظيم إلى المغرب، فسار حتّى بلغ البحر المحيط، فأمر أن يصاد من سمكه، وجعله فى قلّة وجعل فيها الماء، وحملها إلى المعزّ صحبة البريد؛ وجعل فى باطن كتابه من ضريع البحر.
وعاد وفتح فاس يوم الخميس لعشر بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة؛ واستخلف عليها وعلى سجلماسة وتاهرت وعاد جوهر من المغرب إلى رقّادة يوم الجمعة لاثنتى عشرة [ليلة] «1» بقيت من شعبان.
وفى سنة خمسين «2» وثلاثمائة، فى النّصف من المحرّم، غلبت الرّوم على(28/120)
جزيرة إقريطش «1» ، ففتحوا المدينة وقتلوا من أهلها مائتى ألف رجل وسبوا من النساء والصّبيان مثل ذلك، وحرّقوا المصاحف والمساجد؛ وكانوا قد أتوا فى سبعمائة مركب.
وفى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة بعث المعزّ لدين الله عمّاله من برقة إلى سجلماسة، إلى جزيرة صقلّية، وأمرهم أن يكتبوا جميع الأطفال الّذين فى أعمالهم من الخاصّة والعامّة ليختنوا مع أولاده، فبلغوا عدّة لا تحصى. فلمّا كان فى أول يوم من شهر ربيع الأول من هذه السنة ابتدأ بطهور أولاده وأهل بيته وأولاد خاصّته من الكتّاب ورجال الدّولة وغيرهم، وأعطاهم الصّلات والكساوى. قال: وازدحم النّاس فى يوم الاثنين لإحدى عشرة [ليلة] «2» خلت من شهر ربيع الأول فمات من الرّجال مائة وخمسون نفسا.
وفى سنة خمس وثلاثمائة أمر المعزّ لدين الله بحفر الآبار فى طريق مصر وأن يبنى له فى كلّ موضع يقيم به قصور، فأخذوا فى عمل ذلك، حتّى تمّ، وفى يوم الجمعة لليلة بقيت من جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسين، وردت النّجب من مصر بوفاة كافور الإخشيدى، وكانت وفاته لعشر بقين من جمادى الأولى. كما تقدم.(28/121)
ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الدّيار المصريّة
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة قدم القائد جوهر من المغرب بعسكر عظيم من كتامة والجند والبربر؛ فأمره المعزّ بالاستعداد والخروج إلى مصر. فأقام بقصر الماء بالقرب من المنصوريّة ليجتمع إليه الحشود؛ وفتح المعز بيت المال ووضع العطاء. وحشد من إفريقية من الكتاميين والزويليين والجند والبربر، وأعطى من مائة دينار إلى عشرين دينارا حتى عمّهم بالعطاء، وتصرفوا فى القيروان وصبره فى ابتياع ما يحتاجون إليه، ثم أمر المعزّ بالرّحيل، فرحل فى يوم السّبت لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول منها. وفارقه خمسمائة فارس من البربر، فجرّد خلفهم عدّة من الوجوه فلم يرجعوا؛ فقال المعز: الله أكرم أن ينصرنا بالبربر، ثم سار جوهر بجميع من معه من العساكر، ومعه ألف حمل من المال، ومن السلاح والعدد والكراع ما لا يوصف، وأغذّ السير حتى أقبل على الدّيار المصرية.
[39] ذكر خبر وصول جوهر القائد بالعساكر إلى الدّيار المصرية وما كان بينه وبين الإخشيدية والكافورية من المراسلة فى طلب الآمان وتقريره الصّلح ونكثهم وقتاله إياهم إلى أن ملك الدّيار المصرية واختط القاهرة.(28/122)
قال ابن جلب «1» راغب فى تاريخ مصر: وفى جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وردت الأخبار إلى مصر بقدوم القائد جوهر، فاضطرب المصريون لذلك اضطرابا شديدا، ووقع اتّفاق أرباب الدّولة بحضرة الوزير جعفر بن الفضل على مراسلته فى الصّلح وطلب الأمان، وإقرار ضياعهم وأعمالهم فى إيديهم. فراسلوه فى ذلك واشترط نحرير سويران «2» ألّا يجتمع مع القائد جوهر، وأن يكون له الأشمونين إقطاعا، وتقلّد مكّة والمدينة، ويتوجّه فيقيم بالحجاز، وسألوا الشّريف أبا جعفر مسلم الحسنى فى المسير برسالتهم إلى جوهر، فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من الأعيان، فجهّزوا معه أبا إسماعيل إبراهيم بن أحمد الزّينبى، وأبا الطّيب العباس بن أحمد العبّاسى والقاضى أبا طاهر، وغيرهم. وكتب الوزير كتابا بما يريد.
وسار أبو جعفر بمن معه فى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب من السّنة، وقيل لليلة بقيت منه، فلقى القائد جوهرا قد نزل بتروجه فاجتمعوا به فبالغ القائد فى إكرام الشّريف، وأدى الشّريف إليه الرسالة وأعطاه كتب الجماعة، وعرّفه ما التمسوه، فأجابهم إلى ذلك، وكتب كتابا بالأمان نسخته.
«بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من جوهر الكاتب، عبد أمير(28/123)
المؤمنين المعزّ لدين الله صلوات الله عليه، لجماعة أهل مصر من السّاكنين بها وبغيرها «1» .
إنّه قد ورد من سألتموه الترسّل إلىّ والاجتماع معى، وهم «2» : أبو جعفر الشّريف أطال الله بقاءه، وأبو طاهر إسماعيل الرئيس «3» ، أيّده الله، وأبو الطيب الهاشمىّ، أيّده الله، والقاضى أبو طاهر «4» أعزه الله، وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله.
فذكروا عنكم أنّكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم فى أنفسكم وأموالكم، وبلادكم ونعمكم «5» وجميع أحوالكم؛ فعرّفتهم ما تقدّم به أمر مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، من نصره لكم «6» .
لتحمدوا الله «7» تعالى على ما أولاكم وتحمدوه على ما حباكم «8» ، ولتدأبوا «9» فيما يلزمكم، وتسارعوا للطّاعة «10» العاصمة لكم، العائدة بالسّعادة عليكم، المقضية بالسلامة لكم «11» ، وهو أنّه صلوات الله عليه،(28/124)
لم يكن إخراجه هذه العساكر»
المنصورة، والجيوش المظفّرة، إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم، والجهاد عنكم؛ إذ قد تخطفتكم «2» الأيدى، واستطال عليكم المشرك «3» ، وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلادكم «4» [فى هذه السنة، والتغلب عليه، وأسر من فيه] «5» والاحتواء «6» على نعمكم وأموالكم، حسب ما فعله فى غيركم من أهل بلدان المشرق، وتأكّد عزمه واشتدّ كلبه، فعاجله مولانا وسيّدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، بإخراج العساكر المنصورة وبادره بإنفاذ الجيوش المظفّرة لتقاتله «7» دونكم، وتجاهده «8» عنكم وعن كافّة المسّلمين ببلد المشرق، الّذين عمّهم الخزى، وعلتهم «9» الذّلّة، واكتنفتهم المصائب، وتتابعت لديهم «10»
الرّرايا، واتّصل عندهم الخوف، وكثرت استغاثتهم، وعظم ضجيجهم، وعلا صياحهم «11» ، ولم يغثهم «12» إلّا من أرمضه «13» حالهم، وأبكى عنه ما نالهم، وأسهره «14» ما حلّ بهم، وهو مولانا وسيّدنا [فرجا بفضل الله،(28/125)
وإحسانه لديه، وما عوّده وأرجاه عليه، استنقاذ من أصبح منهم فى ذلّ مقيم، وعذاب أليم] «1» أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، وأن يؤمّن من استولى عليه المهل «2» ويفرخ روع من لم يزل فى خوف ووجل. وآثر إقامة الحجّ الذى تعطّل، وأهمل العباد فروضه وحقوقه، للخوف «3» المستولى عليهم، و [إذ] «4» لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم، [و] «5» إذ قد وقع «6» بهم مرّة بعد أخرى، فسفكت دماؤهم.
وأطال جوهر فى كتابه «7» ، وحضّهم على الطّاعة؛ وأشهد عليه الشّهود فيه، وخلع على الجماعة، وحملهم.
قال: ولما توجّه الشريف ومن معه إلى القائد جوهر، اضطرب بعده البلد اضطرابا شديدا، وأخذت الإخشيديّة والكافوريّة فى إخراج مضاربهم، وقام رجل من أهل بغداد، بعرف بابن شعبان، يوم الجمعة فى المسجد قبل الصّلاة فقال: أيها النّاس قد أظلّكم من أخرب فارس وسبى أهلها، وذكر ما حلّ بأهل بلاد المغرب منه، وقال: القوا الرّجل القليل المعرفة، يعنى الوزير جعفر ابن حنزابة، فإنّه قد شرع فى إتلاف بلدكم وسفك دمائكم بمراسلة هذا الرّجل، يعنى القائد جوهرا، فسمع النّاس كلامه،(28/126)
ورجعوا عما سألوه من الأمان. وبلغ الشّريف ومن معه انتقاض الإخشيديّة والكافوريّة، وعزمهم على القتال، فكتموه عن القائد جوهر خوفا أن يعتقلهم، وبادروا [40] بالعود وساروا. فبلغ القائد ذلك بعد رحيلهم، فردّهم، وقال: قد بلغنى أنّ القوم قد نقضوا ورجعوا، فردّوا علىّ خطّى فرفقوا به وداروه، وقالوا: إذا يظفرك الله وينصرك. فقال للقاضى:
ما تقول فيمن أراد [أن] «1» يشقّ مدينة مصر فيجعلها طريقا لجهاد المشركين والحجّ إلى بيت الله الحرام؟ فمنعوه، من الجواز له أن يقابلهم. فقال: نعم، اكتب خطّك بذلك «2» .
ثم سار الشريف ومن معه إلى مصر فوصلوها لسبع خلون من شعبان، فركب الوزير والنّاس إليهم، واجتمع الإخشيديّة والكافوريّة وغيرهم، فقرأ عليهم السّجل الذى كتبه القائد، وأوصل إلى كلّ واحد جواب كتابه بما أراد من الأمان والولاية والإقطاع. فلما قرءوا الكتب خاطبوا الشّريف بخطاب طويل؛ فقال نحرير ما بيننا وبينه إلّا السيف فقدّموا عليهم نحرير سويران، وعبأوا عساكرهم، وعدوّا إلى الجيزة والجزيرة، وحفظوا الجسور.
ووصل جوهر، وابتدأ القتال بينهم فى حادى عشر شعبان. ثمّ مضى القائد جوهر بعد ذلك إلى منية الصّيادين «3» ، وأخذ المخاضة بمنية شلقان واستأمن إليه جماعة من أهل مصر وغلمانهم فى مراكب، ووقع القتال،(28/127)
وزحف جعفر بن فلاح، بالرجال، وقاتل عساكر مصر، ووقع القتل فى الإخشيديّة والكافوريّة فانهزموا ليلا ودخلوا مصر وأخذوا ما فى دورهم، وساروا إلى الشّام.
قال: ولما انهزم ركب الناس إلى دار الشّريف أبى «1» جعفر مسلم وسألوه كتابا إلى القائد جوهر بإعادة الأمان عليهم؛ فكتب كتابا إليه يهنئه بالفتح، وسأله إعادة الأمان للمصريّين؛ فكتب القائد أمانا وبعثه إلى الشّريف، فقرأه على النّاس، وهو:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم. وصل كتاب الشّريف، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وتمكينه «2» ، يهنّئ بما هيأه الله «3» من الفتح المبارك «4» ، «وهو، أيّده الله، المهنأ بذلك لأنها دولته ودولة أهله، وهو المخصوص بذلك» «5» وأمّا ما سأل من الأمان وإعادة الأمان الأول، فقد أعيد إليه ما طلب، وجعلت إليه عن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، أن يؤمّن النّاس كيف شاء بما شاء «6» . وقد كتبت إلى الوزير، أيده الله، بالاحتياط على بيوت «7» الهاربين إلى أن يدخلوا فى الطّاعة، وما دخلت فيه(28/128)
الجماعة «1» ، ويعمل الشّريف أيّده الله، على لقائى فى يوم الأحد لأربع عشرة ليلة تخلو من شعبان»
بجماعة الأشراف والعلماء والثناء، وأهل البلدان إن شاء الله تعالى» .
فقرأ الشريف الكتاب على الناس وسكّنهم وهدّأهم، ففتحوا البلد، وأخذ النّاس فى التجهّز إلى لقاء القائد جوهر، وقتل نحرير وميسر وبلال ويمن الطويل. وجىء برءوسهم إلى القائد.
قال: وخرج النّاس إلى الجيزة والتقوا القائد، فنادى مناد ينزل النّاس كلّهم إلا الشّريف والوزير، ففعلوا ذلك، وسلّموا عليه واحدا واحدا، وأبو جعفر أحمد بن نصر يعرّفه بالنّاس، والشّريف أبو جعفر مسلم عن يمينه، وأبو الفضل الوزير عن يساره.
فلمّا فرغ السّلام انصرف النّاس، وابتدأ العسكر فى الدّخول منذ زوال الشّمس. فعبروا الجسر بالدّروع والجواشن «3» ، ودخل القائد جوهر إلى المدينة بعد العصر من يوم الثلاثاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان، سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، والبنود «4» والطّبول بين يديه، ونزل الموضع الذى اختطّ فيه القاهرة واختط القصر.(28/129)
وأصبح المصريّون حضروا إليه للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر فى تلك اللّيلة. قال: ولم يكن فى المكان عمارة ألبتّة إلّا بستان كافور. ولم يزل هذا البستان على حالته إلى سنة خمس وأربعين وستمائة فعمر مكانه مساكن وهو الخطّ الذى يعرف الآن بالكافورىّ «1» .
قال صاحب كتاب خطط «2» مصر: لمّا دخل جوهر القائد واختطّ القاهرة قرّر كلّ جانب منها على أمير من أمراء عسكره وأرصده لبناء تلك «3» الحارة حسبما أمره المعزّ لدين الله فسميت كلّ حارة باسم مقدّمها أو الطّائفة التى نزلت بها. وابتدأ بالعمارة فى شهر رمضان من السنة «4» .
قال المؤرخ: ودخل القائد جوهر مصر، وبين يديه ألف ومائتا صندوق مالا «5» ، وأقام عسكره يدخل سبعة أيّام. وبعث إلى مولاه المعزّ لدين الله يبشّره بالفتح.
قال: ولما دخل القائد مصر كان الغلاء بها، فنادى مناديه: من عنده قمح فليخرجه. وفرّق الصّدقات على النّاس، وأقرّ أبا الفضل على الوزارة،(28/130)
وجهّز جعفر «1» بن فلاح إلى الشّام.
ذكر إقامة الخطبة، وضرب السكة بمصر، [41] للمعزّ لدين الله وما قيل فى الدعاء له على المنبر، وما نقش على السّكة
وفى يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان من السّنة ركب القائد جوهر إلى المسجد الجامع العتيق «2» لصلاة الجمعة، ولإقامة الدّعوة. فى عسكر كثير.
وخطب هبة الله بن أحمد خليفة عبد السميع بن عمير العبّاسى، لغيبة عبد السميع. فخطب وعليه البياض، ودعا للمعزّ لدين الله. وقال فى دعائه فى الخطبة الثّانية:
اللهم صلّ على عبدك ووليّك، ثمرة النّبوّة، وسليل العترة الهادية المهديّة، عبد الله الإمام معدّ أبى تميم المعزّ لدين الله، أمير المؤمنين، كما صلّيت على آبائه الطاهرين وأسلافه المنتخبين «3» ، الأئمة الراشدين. اللهم ارفع درجته، وأعل كلمته، وأوضح حجّته، واجمع الأمّة على طاعته، والقلوب على موالاته [وصحبته] «4» ، واجعل الرّشاد فى موافقته، وورثّه مشارق الأرض ومغاربها، وأحمده مبادئ الأمور وعواقبها، فإنك تقول وقولك(28/131)
الحق وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«1» فلقد امتعض «2» لدينك، ولما انتهك من حرمتك «3» ، ودرس من الجهاد فى سبيلك، وانقطع من الحجّ إلى بيتك، وزيارة قبر رسولك صلى الله عليه [وسلم] «4» وأعدّ للجهاد «5» عدّته، وأخذ لكل خطب أهبته فسيّر الجيوش لنصرك «6» ، وأنفق الأموال فى طاعتك، وبذل المجهود فى رضاك، فارتدع الجاهل، وقصر المتطاول، وظهر الحقّ وزهق الباطل. فانصر اللهم جيوشه التى سيّرها، وسراياه التى انتدبها لقتال المشركين [وجهاد الملحدين، والذب عن المسلمين، وعمارة الثغور والحرم] «7» وإزالة الظّلم والتّهم «8» ، وبسط العدل فى الأمم. اللهم اجعل راياته عالية منشورة «9» ، وعساكره مؤيّدة منصورة «10» ، وأصلح به وعلى يديه، واجعل لنا منه واقية عليه.
وضربت السّكة على الدّنانير، وكان على الوجه الواحد لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، علىّ خير الوصيّين، ووزير خير المرسلين، محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره(28/132)
المشركون «1» . وعلى الوجه الآخر دعاء الإمام معدّ، لتوحيد «2» الإله الضّمد، المعزّ لدين الله، أمير المؤمنين. ضرب بمصر فى سنة ثمان وخمسين [وثلاثمائة] «3» .
قال: وأشرك القائد جوهر فى الدّواوين المصريّين والمغاربة، فجعل فى كلّ مكان مصريّا ومغربيّا.
وفى ذى الحجّة من السنة تكامل بمصر من الإخشيدية وقوّادهم خمسة آلاف فارس استأمنوا للقائد جوهر، وفيهم أربعة عشر رئيسا فأمّنهم، ثم قبض عليهم واعتقلهم، ثم سيّرهم إلى المعزّ بإفريقية.
وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، فى يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الآخر «4» ، صلّى القائد جوهر فى جامع ابن طولون وأذّن «حىّ على خير العمل» ، وهو أوّل ما أذّن به بمصر، ثم أذّن بذلك بالجامع العتيق بمصر فى الجمعة الثانية.(28/133)
ذكر خروج تبر الإخشيدى والقبض عليه
وفى شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ثار تبر الإخشيدى «1» بناحية أسفل الأرض، ودعا للخليفة المطيع لله، وكتب اسمه على البنود، فراسله جوهر، فلم يقبل؛ وكان معه أبو القاسم العلوى الأقطينى. فأنفذ القائد جوهر العساكر لقتاله برّا وبحرا، وكان قد كبس صهرجت «2» ونهبها، فأمر القائد بنهب دوره بمصر. وقبض على صهره فأغار تبر، ونهب ضياعا. فوافته العساكر بصهرجت، فانهزم إلى تنّيس، وركب البحر الملح يريد الشام، ثم إلى الروم، فأنفذ القائد جوهر أسطولا خلفه. فلما بلغ صور «3» دخل بها الحمّام، فقبض عليه وجماعة من أتباعه وغلمانه، وذلك فى شهر رمضان منها، وحمل إلى مصر، فقدمها لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، فأدخل على فيل وبين يديه رجل وخلفه رجل، وغلامه عجيب على جمل خلفه، ومعه قرد، وخلفه غلامه سرور على جمل، وجماعه على جمل منكّسى الرؤوس، ثم اعتقلوا واستصفى القائد أمواله وودائعه، وطولب بالأموال، فلما اشتد عليه الطلب جرح نفسه فمات بعد أيام فسلخ جلده وحشى تبنا وصلب جلده، وضرب شلوه «4» .(28/134)
ذكر فتوح الشام
[42] قد ذكرنا أن القائد جوهرا جهّز جعفر بن فلاح إلى الشام بالعساكر فى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فسار جعفر ولقى الحسن بن عبد الله بن طغج بالرّملة، وهو يومئذ صاحب الشام، فهزمه جعفر بن فلاح وأسره، وبعث به إلى مصر، ثمّ سار إلى دمشق فملكها فى سنة تسع وخمسين بعد حرب شديدة. فكتب إلى القائد جوهر بالفتح، واستأذنه فى المسير إلى غزو أنطاكية «1» ، فأذن له القائد فسار نحوها فى نحو عشرين ألف فارس.
فأقام مدة وكثرت جموعه وعساكره وانبسطت يده، ودانت له البلاد، فحاصر أنطاكية مدة إلى أن اتّصل به مسير مدد الرّوم إليها، فعاد عنها إلى دمشق «2»(28/135)
ذكر مقتل جعفر بن فلاح واستيلاء القرامطة على دمشق
وفى سنة ستين وثلاثمائة «1» وصل الحسن «2» الأعصم القرمطىّ إلى دمشق. وقيل إنه إنّما قدم بأمر الخليفة المطيع فخرج إليه جعفر بن فلاح وقاتله، وكان عليلا فقتل وانهزم أصحابه ونصب رأسه على دمشق.
وملك القرمطىّ دمشق والشام، وسار إلى الرّملة فانحاز عنه سعادة بن حيان «3» إلى يافا وتحصن بها، فسار إليه وحاربه، ثم سار يريد مصر، فتأهب القائد جوهر لذلك، وحفر خندقا «4» ، وبنى عليه بابا كبيرا، وركّب عليه الباب الحديد الذى كان على الميدان الإخشيدى، وبنى عليه بابين آخرين، وبنى القنطرة على الخليج، وجعلها ممرّا لمن يريد المقس «5» .(28/136)
وكاد القرمطى يأخذ القاهرة، ثمّ رجع عنها بغير سبب عليم «1» ، وكبس الفرما، ثم قاطع أهلها على مال فحملوه إليه، وأخذ عاملها عبد الله بن يوسف، وقيل إنّه كان معه خمسة عشر ألف بغل تحمل صناديق الأموال وأوانى الذهب والفضّة والسّلاح، سوى ما تحمل المضارب والخيام والأثقال «2» .
وفى سنة ستّين وثلاثمائة أيضا بنى جوهر سورا على القصور التى بناها فى سنة ثمان وخمسين وجعلها بلدا وسماها المنصورية، ولما استقرّ المعزّ سمّاها القاهرة.
وفى سنة إحدى وستّين وستمائة، فى المحرّم، كبس ياروق الفرما وأخرج منها ابن العمر القرمطىّ، وأرسل إلى مصر رؤوسا وأعلاما وغير ذلك. وفى هذا الشّهر عصى أهل تنيس وغيّروا الدّعوة، ودعوا للمطيع والقرامطة، وحاربوا ياروق. وفى صفر وصل ياروق منهزما من القرامطة وهم فى إثره، وأقبلت عساكر القرامطة حتى بلغوا عين شمس واستعدّ القائد [جوهر] «3» للقائهم، وأغلق الأبواب التى بناها.
وفى مستهلّ ربيع الأول جاءت مقدّمة القرامطة ووقفوا على الخندق،(28/137)
فقاتلهم القائد، واشتدّ القتال، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وأصبح النّاس متكافئين للقتال. وسار الأعصم القرمطىّ بجميع عسكره، ووقع القتال على الخندق والباب مغلق، وعمل القائد جوهر الحيلة فانهزم عن القرمطىّ، ودام القتال إلى الزّوال، ثم فتح القائد الباب وانتصب للقتال، وخرجت العبيد والمغاربة إلى القرامطة. واشتدّ القتال واضطرب النّاس فى المدينة وكثرت القتلى من الفريقين. وانهزم الأعصم القرمطى، وأراد المغاربة اتّباعه فمنعهم «1» القائد جوهر لدخول اللّيل، وخشية من مكيدة أو كمين.
ونهبت صناديق القرمطىّ ودفاتره، وفارق القرمطىّ من كان معه من الإخشيدية والعرب. قيل: وهذه أوّل هزيمة كانت للقرامطة «2» .
ثم وصل بعد الكسرة بيومين أبو محمد الحسن بن عمّار بمدد معه من جهة المعزّ، وهرب القرمطىّ الذى كان بتنّيس وعادت الدّعوة المعزّية بها.
وفى شهر ربيع الآخر قبض القائد على أربعمائة وأربعين رجلا من الإخشيديّة والكافوريّة وقيّدهم وحبسهم.
وفى شعبان منها ورد على القائد جوهر رسول من ملك الرّوم «3» برسالته وهديته.(28/138)
وفى شهر رمضان لسبع خلون منه كمل بناء الجامع بالقاهرة، وجمعت فيه الجمعة.
وفى شوّال منها ابتدأ القائد جوهر يحفر الخندق الذى كان عبد الرحمن ابن جحدم «1» ، خليفة عبد الله بن الزبير، حفره قبلىّ «2» مصر، ثم شقّ الخندق حتى بلغ قبر الإمام الشّافعى رحمه الله، فعدل به عنه، ثم شقّه مشرّقا إلى الجبل على المقابر، أراد بذلك أن يحفظ طريق الحج من ناحية القلزم.
وفى ذى القعدة منها خرج أبو محمد الحسن بن عمّار إلى تنّيس، فسار إليه أسطول القرامطة فواقعه وأسر منه سبع مراكب، وسيّرها إلى مصر ومعها خمسمائة رجل منهم «3» .
ذكر خروج المعز لدين الله من بلاد الغرب إلى الديار المصرية [43] وما رتّبه ببلاد المغرب قبل مسيره
وفى يوم الاثنين لثمان بقين من شوّال سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، رحل(28/139)
المعزّ لدين الله من المنصورية إلى سردانية «1» ومعه يوسف بن زيرى «2» بن مناد فسلّم إليه إفريقية وأعمالها وسائر أعمال المغرب، وذلك فى يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى الحجة منها، وأمر الناس بالسّمع والطّاعة له، وفوّض إليه أمور البلاد كلّها إلّا بلاد جزيرة صقليّة وطرابلس. وأقام المعز بسردانية أربعة أشهر، ورحل منها لخمس خلون من صفر سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وسار حتى أتى قابس، ثم وصل إلى طرابلس فأقام بها أيّاما، ورحل منها فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر منها، وسار فوصل إلى الإسكندرية فى يوم الجمعة لستّ خلون من «3» شعبان، ونزل تحت المنار، وأنزل النّاس حولها، وأتاه أهلها فسلّموا عليه، ووافى يوم الأحد أبو طاهر «4» قاضى مصر، ومعه العدول وقدم أبو عبد الرحمن بن أبى الأعز فى بنى عمّه وغيرهم من العرب، فركب لهم المعزّ فسلّموا عليه وانصرفوا.
ثم رحل من الإسكندرية يوم الاثنين لثلاث بقين من شعبان. فلما(28/140)
كان يوم السّبت لليلتين خلتا من شهر رمضان نزل المنية بساحل مصر، وهى بولاق، فأقام بها إلى يوم الاثنين؛ وخرج إليه الشريف أبو جعفر مسلم الحسنى قبل وصوله فى جماعة الأشراف ووجوه البلد، فرأى المعزّ وهو سائر والمظلّة على رأسه، فنادى مناد: يتقدم الشّريف أوّل الناس، فقتدّم وسلّم على المعز. ثم تقدّم النّاس كلّهم وسلّموا عليه واحدا بعد واحد حتى فرغوا، وهو واقف على دابّته؛ ثم سار والشريف يحادثه.
قال: وأخذ الناس فى التّعدية بعيالاتهم وأثقالهم فى هذه الأيام إلى ساحل مصر، وتفرق النّاس فى الدّور بمصر والقاهرة، وأكثرهم فى المضارب فيما «1» بين القاهرة ومصر.
ثم عبر المعزّ لدين الله إلى القاهرة يوم الثلاثاء لخمس خلون «2» من شهر رمضان، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ولم يدخل إلى مصر ودخل إلى قصره.
فلما انتهى إلى الإيوان الكبير خرّ ساجدا لله تعالى، وجلس على سرير الجوهر «3» الذى صنعه له القائد جوهر، وقبل الهناء، ومدحه الشعراء.
قال: وكان تلقّى القائد جوهر له عند جوازه من الجسر الثّانى، فكانت مدّة تدبير جوهر الديار المصرية إلى أن قدم المعز، أربع سنين وعشرين يوما.(28/141)
وحكى بعض المؤرخين أنّه لما وصل المعزّ وخرج الأشراف للقائه، قال له أبو [محمد] «1» عبد الله بن أحمد بن طباطبا الحسينى، من بينهم يا مولانا، إلى من تنتسب؟ فقال المعزّ: سنقعد لكم ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا.
فلما استقرّ فى قصره جمع النّاس فى مجلس عامّ وقال: هل بقى من جماعتكم أحد؟ فقالوا: لم يبق منا معتبر فجرّد عند ذلك سيفه إلى نصفه وقال هذا نسبى وفرّق المال وقال: هذا حسبى. فقالوا: سمعنا وأطعنا.
وكان الخليق بما قيل:
جلوا صارما وتلوا باطلا ... وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم!
وقال ابن جلب راغلب فى تاريخه: إنّ المعزّ لمّا قدم صعد المنبر وخطب خطبة بليغة، وذكر نسبه إلى علىّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، فكتب إليه بعض المصريين ورقة ولصقها بالمنبر فيها:
إنّا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر فى الجامع
إن كنت فيما تدّعى «2» صادقا ... فاذكر أبا بعد الأب الرّابع(28/142)
أو فدع «1» الأنساب مستورة ... وادخل بنا فى النّسب الواسع
أو كنت فيما تدّعى صادقا ... فانسب لنا نفسك كالطّائع «2»
قال: وكان يتظاهر بذكر الماجريات قبل وقوعها لاطلاعه على علم النّجامة ولكتب كاتب عنده يستدلّ، فكتب إليه بعض المصريين ورقة وطرحها فى مجلسه، فيها:
بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أوتيت «3» علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة «4»
وقال بعض المؤرخين: لمّا قدم المعزّ إلى مصر أحضر معه توابيت آبائه.
وكان معه خمسة عشر ألف رجل تحمل صناديق الأموال والسّلاح وغير ذلك، وكان معه مائة جمل تحمل شبه الطّواحين من الذهب، وثلاثة آلاف جمل على كل جمل صندوقان وألف وثمانمائة بختى محملة، وثلاثمائة جمل تحمل الخركاهات وجملان يحملان «5» الإكسير الذى يصنع به الكيمياء [44](28/143)
وثلاثة آلاف شينى وغراب «1» فى البحر تحمل الموجود. ومن الرجال المقاتلة من قبيلة كتامة مائة ألف، ومن البربر أربعون ألفا، ومن الرموح ستون ألفا، وغير هؤلاء من قبائل العرب والمغاربة، وهو مع ذلك شديد الخوف من القرمطّى.
قال ابن زولاق»
فى تاريخ مصر: ولما انقضى شهر رمضان ركب المعزّ لصلاة العيد وصلّى بالناس، وكان القاضى ابن النعمان «3» يبلّغ عنه فى التكبير.
وقرأ فى الأولى بعد الفاتحة «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ»
، وفى الثانية بعد الفاتحة بسورة الضّحى، ثم صعد المنبر وخطب بعد أن سلّم على الناس يمينا وشمالا، وذلك بالمصلى الذى بناه القائد جوهر «4» قال: وأقام المعزّ بعد مقدمه أيّاما وعزل القائد جوهرا من جميع ما كان إليه من النّظر على الدّواوين وجباية الأموال، وتدبير الأمور، وغير ذلك.
والله أعلم «5» .(28/144)
ذكر مكاتبة المعزّ لدين الله القرمطىّ وجواب القرمطىّ له
قال بعض المؤرخين: لما استقر المعز بالقاهرة أهمه أمر الأعصم القرمطىّ فرأى أن يكتب إليه كتابا يعلمه فيه أن المذهب واحد. وأن القرامطة [منهم] «1» استمدّوا وهم سادتهم فى هذا الأمر. وبهم وصلوا إلى هذه الرتبة، فكتب إليه المعز كتابا مشحونا بالمواعظ وضمّنه من أنواع الكفر ما لا يصدر إلا عن مارق من الدين.
كان عنوان الكتاب:
«من عبد الله ووليّه، وخيرته وصفيّه، معدّ أبى تميم بن إسماعيل، المعزّ لدين الله أمير المؤمنين، وسلالة خير النّبيين، ونجل [على] «2» أفضل الوصيّين إلى الحسن بن أحمد.
وأول الكتاب:
«رسوم النطقاء، ومذاهب الأئمة والأولياء «3» ، ومسالك الرّسل والأنبياء «4» ، السّالف منهم والآنف «5» ، صلى الله «6» علينا وعلى آبائنا أولى الأيدى والأبصار، فى متقدّم الدهور والأكوار، وسالف الزمان والأعصار.(28/145)
عند قيامهم بأحكام الله وانتصابهم لأمر الله، الابتداء بالإعذار، والانتهاء إلى الإنذار «1» ، قبل نفاذ الإنذار «2» فى أهل الشقاق والإصرار «3» ، ولتكون الحجّة على من خالف وعصى والعقوبة على من باين وغوى، حسبما قال الله تعالى «4» : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
«5» ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
«6» .
وقد ذكرنا فى أخبار القرامطة جملة من مواعظ هذا الكتاب على ما نقف عليه هناك «7» . ومن جملة ما لم نذكره هناك.
أما علمت أنّى «8» نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ
«9» أعلم خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ
«10» وحشاه بأنواع من الكفر وحضّه «11» على اقتفاء آثار آبائه وعمومته وموالاتهم، فقال: إن آباءك كانوا أتباع آبائى. ثم قال فيه بعد الإطالة:
وكتابنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت(28/146)
مذكور، لا نرفع قدما ولا نضع قدما إلا بعلم مصنوع، وعلم مجموع، وأجل معلوم» . ثم قال فيه: «وأما أنت أيّها الغادر [الخائن] «1» النّاكث المباين «2» عن هدى «3» آبائه وأجداده، المنسلخ من دين أسلافه وأنداده، الموقد لنار الفتنة، الخارج عن الجماعة والسّنة، لم أغفل أمرك، ولا خفى علىّ خبرك، وإنّك منّى بمنظر وبمسمع، قال الله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى
«4» ، ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
«5» فعرّفنا على أىّ رأى ضللت «6» وأىّ طريق سلكت.
وقال فى فصل منه: «إنّا لسنا مهمليك ولا ممهليك إلّا ريثما يرد به كتابك والوقوف على مجرى جوابك، فانظر لنفسك ما يبقى ليومك ومعادك، قبل انغلاق باب التّوبة، وطول وقت النّوبة. حينئذ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً
«7» . ثم ختمه بأن قال: «فما أنت وقومك إلّا كمناخ نعم، أو مراح غنم» . فأمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
«8» ، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ
«9» .
هكذا رأيت. والتّلاوة فى سورة يونس «10» أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا(28/147)
مَرْجِعُهُمْ*
«1» فعندها تخسر الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
»
. وأنذرتهم ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
«3» . يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ
«4» . فليتدبّر من كان ذا نذير.
وليتفكّر من كان ذا تفكير؛ وليحذر يوم القيامة، يوم الحسرة والنّدامة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ
«5» . ويا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا
«6» . ويا ليتنا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
«7» . وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى
«8» . وسلم من عواقب الرّدى. وهو حسبنا ونعم الوكيل قال: فلما وقف الحسن «9» بن أحمد القرمطى [على] «10» هذا الكتاب المطوّل «11» كتب جوابه بعد البسملة: «وصل كتابك الّذى كثر تفصيله(28/148)
وقلّ تحصيله؛ ونحن سائرون على إثره. والسّلام» «1» وقيل إنّه كتب: «والجواب ما تراه دون ما تسمعه» «2» .
وقيل [45] إنّه كتب إليه:
ظنّت رجال الغرب أنّ سهولتى ... بمحالها، وأخو المحال ذليل
إن لم أروّ النيل من دمهم، فلا ... نلت المراد، ولا سقانى النيل
وفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. فى شعبان، بلغت تقدمة القرامطة إلى أرياف مصر وأطراف المحلة «3» . فنهبوا، واستخرجوا الخراج؛ واشتهر الأعصم القرمطىّ ببلبيس فتأهّب المعزّ للقائه، وعرض العساكر، وفرّق فيهم الأموال والسّلاح.
وسيّر جيشا قدّم عليه ولده الأمير عبد الله «4» ، فالتقى مع الأعصم، فانهزم القرمطىّ وأسر جماعة من رجاله، وجهّز جيشا آخر قدّم عليه ريان الصقلبى فى أربعة آلاف فارس. فأزال القرامطة عن المحلة ونواحيها.(28/149)
وفى هذا الوقت ورد الخبر من الصّعيد الأعلى أن عبيد الله «1» أخا الشريف مسلم أوغل فى الصّعيد واستخرج الأموال، وقتل ألفا من المغاربة.
وفى هذه السنة، فى المحرّم منها، انبسطت المغاربة فى نواحى القرافة، ونزلوا فى الدّيور، وأخرجوا النّاس من أماكنهم، وشرعوا فى السّكن فى المدينة، وكان المعزّ أمرهم أن يسكنوا أطراف المدينة، فاستغاث النّاس إلى المعزّ فأمر أن يسكنوا نواحى عين شمس، وركب بنفسه وشاهد المكان، وأخبرهم بالبناء فيه، وهو الموضع المعروف الآن بالخندق «2» ، وجعل لهم واليا وقاضيا، ثم سكن أكثرهم بالمدينة مخالطين للناس.
ذكر فتوح طرابلس الشام
كان فتوحها فى سلخ شهر ربيع الآخر سنة أربع وستّين وثلاثمائة، على يد ريّان الخادم غلام المعز، وهرب ابن الزّيّات بعد أن كان نصب عليها الصّلبان وجعلها للرّوم.
وفى جمادى الأولى منها سار نصير الخادم غلام المعزّ فى عسكر كثير، ودخل إلى بيروت، وتواقع مع الرّوم على طرابلس وهزمهم، وكانت الوقعة فى نصف شعبان.(28/150)
وفى هذا الشّهر وصل الخبر إلى المعز بوصول أفتكين التركى من بغداد إلى دمشق بقصد مصر. فشرع المعزّ فى تجهيز العساكر.
وفى شهر رمضان منها كثرت الأراجيف بمسير الرّوم إلى الشام لأن أفتكين التّركى كاتب ابن السنهسكى «1» فسار بالرّوم إلى بيروت، فلقيهم نصير غلام المعزّ فهزموه وأسروه. وتوجّهوا إلى صيدا فخرج إليهم أفتكين التّركى وقبّل الأرض لابن السنهسكى وهادنه على دمشق؛ وسار ابن السنهسكى إلى طرابلس، فخرج إليه ريّان الخادم بعساكر المعزّ فقاتله وهزمه، وقتل مقتلة عظيمة من عامّة عسكره. وانصرف ابن السنهسكى معلولا، فسرّ المعزّ بذلك. وهنأه النّاس بهذا الفتح، ومدحه الشّعراء «2» .
ذكر وفاة المعز لدين الله وشىء من اخباره
كانت وفاته بالقاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة؛ وقيل فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة بقيت من الشهر «3» .
وكانت مدة حياته خمسا وأربعين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، ومدّة مقامه بمصر سنتين وسبعة أشهر وأيّاما.(28/151)
وكان نقش خاتمه: بنصر العزيز العليم ينتصر الإمام أبو تميم. وقيل: كان لتوحيد الإله الصّمد دعاء الإمام «1» معدّ. وقيل: لتوحيد الإله العظيم دعاء الإمام «2» أبو تميم.
أولاده: أبو المنصور نزار تميم الظّاهر «3» ، وبه كنى، توفّى بمصر فى ذى القعدة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة؛ الأمير عقيل، توفّى فى شعبان من السنة؛ وسبع بنات.
قضاته: قاضيه الواصل معه من المغرب أبو حنيفة النّعمان بن محمّد الدّاعى، مات بمصر فى سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وستّين وثلاثمائة، ولم يل القضاء بها؛ واستقضى بالمغرب أبا طالب أحمد بن القائم «4» بن محمد بن المنهال؛ ولمّا وصل إلى مصر وجد القائد جوهرا قد استخلف على القضاء أبا طاهر محمّد بن أحمد بن عبد الله الذهلى البغدادى، وهو القاضى على أيام كافور، فأقرّه، وكان أبو سعيد عبد الله «5» بن محمّد بن أبى ثوبان حكم بمصر بين المغاربة الجند والتجار إلى أن مات فى شهر ربيع الأول سنة خمس وستين؛ فتولّى القضاء أبو الحسن علىّ بن النعمان على قاعدته إلى أن مات [46] أبو طاهر، فقضى أبو الحسن على الجميع.
كتّابه: كان جوهر قد فوض تدبير الأموال فى أيامه إلى علىّ ابن العرمرم(28/152)
وأبى محمد الرودبارى، ورجاء بن صولات «1» ، وعبد الله بن عطاء الله، وأبى الحسن الكرجى «2» ؛ وردّ تدبير هؤلاء الكتاب إلى الوزير أبى الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات. واستقرّ الأمر بعد وصول المعزّ على عسلوج، ويعقوب بن يوسف.
وممّن وزر للمعزّ يعقوب بن كلّس، وهو أول وزراء دولتهم بمصر، وهو من جملة كتاب الدّولة الإخشيدية. وسنذكر خبره إن شاء الله مستوفى فى أخبار العزيز.
حاجبه: جعفر بن علىّ إلى أن توفّى، فولى عمّار بن جعفر؛ والله أعلم بالصواب.
ذكر بيعة العزيز بالله
وهو أبو المنصور «3» نزار «4» بن المعزّ بن المنصور بن القائم بن المهدىّ، وهو الخامس من ملوك الدولة العبيديّة، والثانى من ملوك مصر والشام منهم.
كان قد ولى العهد من أبيه فى حياته، ثم بايعه النّاس فى يوم وفاة أبيه، لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستّين وثلاثمائة.(28/153)
حكى الرئيس ابن القلانسى فى تاريخ الشام فى سبب بيعة العزيز الأولى أن أباه المعزّ لدين الله كان مغرما بعلم النّجوم والنّظر فيما تقتضيه أحكام مولده، فحكم له بقطع، فاستشار منجمه فيما يزيله عنه، فأشار عليه أن يعمل له سردابا تحت الأرض ويتوارى فيه مدّة إلى حين زوال ذلك القطع.
فصنع ذلك وأحضر وجوه دولته، وقال لهم: إنّ بينى وبين الله عهدا وعدنيه قد قرب أوانه، وقد جعلت عليكم ولدى نزارا، ولقّبته بالعزيز بالله، واستخلفته عليكم وعلى تدبير أحوالكم مدّة غيبتى؛ فالزموا الطّاعة والمناصحة له. فقالوا: نحن عبيدك وخدمك. فأخذ البيعة له ووصّاه بما أراد، وجعل القائد جوهرا مدبّرا لأموره، ونزل السّرداب الّذى اتخذه، وأقام به سنة. فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجّلوا على الأرض وأرموا بالسّلام عليه. ثمّ خرج بعد ذلك، وجلس النّاس، فدخلوا على طبقاتهم وسلّموا عليه؛ ولم يلبث بعد ذلك إلّا مدّة يسيرة، واعتلّ فمات «1» .
ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله
ولنذكر ابتداء أمر أفتكين «2» لتأتى أخباره بسياقه.
هو أبو المنصور أفتكين المعزّى، أحد مماليك معزّ الدولة بن بويه «3» وكان سبب وصوله إلى الشام أنه لما وقعت الفتنة بين الترك والديلم ببغداد(28/154)
وخلع المطيع «1» كما ذكرناه، وتوالت تلك الفتن، انفصل أفتكين عن بغداد فى سنة ثلاث وستّين وثلاثمائة فى ثلاثمائة غلام، وسار حتّى قدم حمص فأقام أيّاما يسيرة، وسار منها إلى دمشق، فوجد أحداث البلد قد تحكّموا فيها والفتن بين أهلها وبين عسكر المغاربة. فخرج إليه شيوخ دمشق وأظهروا السّرور به، وسألوه أن يتولّى عليهم، ويكفّ أيدى المفسدين، وتوثّقوا منه وتوثّق منهم بالأيمان، ودخل البلد وأصلح أمره، وأحسن السّيرة، وكفّ المفسدين، فاستقام له الأمر وثبت قدمه «2» . فاضطر إلى مكاتبة المعزّ لدين الله بمصر فكاتبه وخادعه، وغالطه، وأظهر الانقياد إليه والطاعة لأمره.
فأجابه المعزّ يستدعيه إلى حضرته ليشاهده، ويصطفيه لنفسه، ويعيده إلى ولايته؛ فلم يثق إلى ذلك وامتنع من الإجابة. ووافق ذلك علّة المعزّ ووفاته.
وكتب أفتكين فى أثناء هذه القضيّة إلى مولاه ببغداد يقول إنّ الشام قد صفا فى يدى، فإن سيّرت إلىّ عسكرا ومالا وسلاحا فتحت ديار مصر، فبعث إليه الجواب: غرك عزك فصار قصار ذلك ذلّك فاخش فاحش فعلك، فعلّك تهدأ بهذا. فلما أيس أفتكين من إنفاذ العساكر إليه من بغداد اضطرّ عند ذلك إلى مكاتبة القرامطة، فقصدوه ووافوه فى سنة خمس وستّين وثلاثمائة؛ وكان الذى أتاه منهم إسحاق، وكسرى، وجعفر؛ فنزلوا بظاهر دمشق، ووافاه معهم كثير من العجم. فأكرمهم أفتكين وحمل إليهم الميرة، فأقاموا أيّاما وتوجّهوا إلى الرّملة، فخرجت إليهم عساكر السّاحل، واقتتلوا، فهزمهم أفتكين، وقتل منهم مقتلة عظيمة.(28/155)
وكان على السّاحل ظالم بن موهوب العقيلى، فانهزم إلى صور. وأحصيت القتلى فجاءوا أربعة آلاف فارس، فكاتب العزيز بن المعزّ أفتكين واستماله ووعده إن وطئ بساطه أن يرفع منزلته. فأبى إلّا مخالفته، وأغلظ له فى الجواب. فاستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلّس فيما يفعله فأشار عليه بإخراج [47] جوهر القائد إليه بالعساكر؛ فشرع العزيز فى ذلك وجهّز جوهرا، فلما سمع أفتكين ذلك عاد إلى دمشق واستشار أهلها، وقصد التّوجّه لبلاد الرّوم؛ وكان أهل دمشق يكرهون المغاربة لمخالفتهم لهم فى الاعتقاد، فطمأنوه، وثبّتوه للقاء عساكر مصر. وخرج جوهر فى العساكر العظيمة بعد أن استصحب أمانا من العزيز لأفتكين «1» فلما وصل جوهر إلى الرّملة كاتب أفتكين ولاطفه، وعرّفه ما معه له من الأمان؛ فلاطفه أيضا أفتكين فى الجواب واعتذر إليه بأهل دمشق، فعلم جوهر أنّه لا بدّ من الحرب. فسار إليه ونزل بالشماسية «2» فبرز إليه أفتكين؛ ونشبت الحرب بين الفريقين مدّة شهرين، وقتل من الطائفتين عدد كثير.
وظهر من شجاعة أفتكين ما عظم به قدره فى النّفوس، فأشار عليه أهل دمشق بمكاتبة أبى محمد الحسن بن محمد القرمطىّ واستدعائه لدفع عساكر مصر، فكاتبه فأتاه القرمطىّ، فعلم جوهر أنه إن أقام استظهر أفتكين عليه، فرجع إلى طبريّة وتبعه أفتكين والقرمطىّ فقاتلاه؛ فانهزم إلى عسقلان فتبعه أفتكين وحصره بها حتى أشرف جوهر على الهلاك، فصالحه، ووقع الصّلح(28/156)
بينهما على أن يخرج جوهر وأصحابه حفاة عراة لا شىء يستر عوراتهم «1» .
وكان العزيز قد خرج من الدّيار المصريّة لإغاثة جوهر، فلقيه فى الطريق على تلك الحال، فاخبره جوهر أن كتامة خذلوه فقبض عليهم، ثم أظهر الغضب على جوهر وعزله عن الوزارة.
ذكر حرب أفتكين وأسره
وفى سنة ثمان وستين وثلاثمائة، فى المحرّم منها، وصل العزيز بالله إلى الرّملة وأفتكين وعسكره بالطّواحين، ووقع المصافّ بينهما، ونشبت الحرب فى يوم الخميس سابع الشهر. فانهزم أصحاب أفتكين وقتل عامتهم وشوهد العزيز فى هذا اليوم وقد انفرد عن عسكره وصلى على الأرض وهو يقول: اللهم ارحمنى وارحم من ورائى من هذه القبلة، وانصرنى، فما أستمدّ النّصر إلّا منك، وهو يعفّر وجهه على التّراب ويبكى، ثمّ ركب وقد انتصر عسكره، وجىء إليه بأفتكين أسيرا، اسره مفرج بن دغفل ابن الجرّاح الطائى «2» أمير طيئ، فجاء به وفى عنقه حبل، فأحسن إليه العزيز لما رأى من شجاعته، ومنّ عليه، ورجع به إلى مصر؛ فأقام بها إلى أن مات فى سنة سبعين وثلاثمائة، والحجّاب والأكابر يركبون إلى داره.
ولما رجع العزيز هنأه الناس بهذا الفتح، ومدحه الشعرا. فمنهم الحسين(28/157)
ابن عبد الرحيم الزلالى بقصيدته التى أولها:
لاح للحقّ شهاب فوقد ... فرأى قاصده أين قصد
بالعزيز بن المعزّ اعتضدت ... دولة الحقّ، وبالله اعتضد
يا أمير المؤمنين المرتضى ... وعماد الدّين، والرّكن الأسدّ
بنزار بن معدّ، وهما ... خير أبناء نزار بن معد «1»
ومنها:
أصلح الشّام بما دبّره ... وتلافاه، وقد كان فسد
أطفأ الفتنة فيه، بعد ما ... أيرق التركىّ فيها ورعد
وكان عود العزيز إلى مصر ووصوله إليها فى يوم الاثنين لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وستّين وثلاثمائة.
وفى سنة تسع وستين وثلاثمائة، فى ثامن عشر شهر ربيع الأول، تزوّج العزيز بابنة «2» عمه، وأمهرها مائتى ألف دينار عينا.
ذكر فتوح اللاذقية
وفى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، فى حادى عشر شهر ربيع الأول، ورد كتاب نزال «3» يذكر فيه أنه واقع الرّوم بساحل الشّام، وكسرهم، وأخذ(28/158)
اللاذقية. ثم ورد نزال من الشّام فى العاشر من جمادى الآخرة، ومعه نحو خمسمائة نفر من الرّوم أسرى فى السّلاسل.
وفى هذه السّنة وصل من تنّيس رجل وامرأة بمولودة لها رأسان ووجهان وأربع أيد كاملة الخلق فى جسد واحد، وسنها دون الشهرين.
وفيها كان النّوروز لسبع خلون من شهر ربيع الأول وأكل الناس [48] الرّطب قبل النّوروز على عادتهم، وأصرمت النّخل «1» ، ولم يبق عليها شىء ألبتّه، ثم حمل النخل ثانيا، فأكل الناس البلح والبسر مرة ثانية؛ ولم يتّفق مثل ذلك فى زمن من الأزمنة.
ذكر فتح قنّسرين وحمص
وفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، فى شهر ربيع الأول منها، دخلت عساكر العزيز إلى قنّسرين وحمص، وأقاموا الدعوة له بها.
وفيها فى ثامن شوّال صرف العزيز وزيره يعقوب بن كلّس واعتقله، وحمل من ماله خمسمائة ألف دينار؛ ثم افرج عنه بعد ذلك، وأعاده إلى الوزاره، فى سنة أربع وسبعين، ووهب له العزيز مالا كثيرا وألفا وخمسمائة غلام تكون فى خدمته، وإليهم تنسب حارة الوزيرية «2» بالقاهرة.(28/159)
وفى هذه السّنة اشتد الغلاء بمصر وبلغت حملة الدّقيق الجشكار «1» أحد عشر دينارا والعلامة اثنى عشر دينارا؛ والحملة ثلاثمائة رطل بالمصرى.
وفيها فى العشرين من ذى القعدة ورد الخبر أنّ ابن حمدان «2» خطب للعزيز بحلب والجزيرة كلّها.
وفى سنة ستّ وسبعين وثلاثمائة خطب للعزيز بمعرّة النّعمان.
وفى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة استجدّ العزيز فى جامع مصر «3» العين الفوّارة، ودامت إلى أيّام العاضد، فحربت فى الحريق فى سنة أربع وستين وخمسمائة؛ ثم جدّدها الملك العادل أبو بكر بن أيوب وفيها لاعن القاضى محمّد بن النّعمان بين رجل من لدن عقيل وامرأته.
وفى سنة ثمانين وثلاثمائة اختطّ العزيز الجامع بالقاهرة، وهو الجامع المعروف بالحاكم «4» بباب الفتوح.
وفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة خرج منير والى دمشق على العزيز بالله «5» ، وقتل ابن أبى العواد «6» الكاتب ولحقه بشارة الإخشيدى، فسار(28/160)
نزال والى الرّملة إلى دمشق، فحاربه منير، فهزمه نزال. وكانت الوقعة بمرج عذراء «1» فى تاسع شهر رمضان وهرب منير يريد حلب، فأخذه العرب وأحضروه إلى دمشق لنزال، فوجدوا منجوتكين «2» قد وصل إليها فأخذ منيرا وحرسه على جمل وإلى جانبه قرد وعليه طرطور.
وأقام منجوتكين بدمشق بقية سنة إحدى وثمانين. وأمده العزيز فى سنة اثنتين [وثمانين] «3» بخمسمائة فارس وخزانة وسلاح صحبة صالح بن على وجيلين التركى، فاشتمل عسكر منجوتكين على ثلاثة عشر ألف فارس فطمع فى ملك حلب بحكم وفاة صاحبها سعيد الدولة «4» بن حمدان فحشد وخرج إليها فى ثلاثين ألف فارس ونازلها، وفتحها فى شهر ربيع الآخر.
وبقيت القلعة بيد أبى الفضل بن سعيد الدولة بن حمدان ولؤلؤ، فكاتبا بسيل «5» ملك الرّوم، فكتب لصاحب أنطاكية، وهو من قبله، بأن يجمع العساكر ويتوجّه إلى حلب لنصرة صاحبها، ودفع المغاربة عنها، فسار إليها فى خمسين ألف راجل.
وقال المسبّحى: كان عسكر الرّوم سبعين ألفا وعسكر منجوتكين خمسة وثلاثين ألفا.(28/161)
فنزل الرّوم على جسر الحديد بين أنطاكية وحلب، فأشار أصحاب منجوتكين عليه بقصد الرّوم، فتوجه نحوهم «1» وانضم إليه جماعة من بنى كلاب، فالتقوا فانكسرت عساكر الرّوم، وغنم منجوتكين ومن معه الغنائم الجزيلة، وجمع من رؤوس الرّوم مقدار عشرة آلاف رأس، فسيّرها إلى مصر.
وتبع منجوتكين الرّوم إلى أنطاكية، وأحرق ضياعا، ونهب رساتيقها «2» ، ورجع إلى حلب. فعمل لؤلؤ مقدم حلب على رجوع منجوتكين عن بلده، فكاتب أبا الحسن بن المغربى وزير منجوتكين وخواصّه أن يحسّنوا «3» له الرجوع إلى دمشق والعود إلى حلب فى العام المقبل، ووعدهم على ذلك بالأموال الجزيلة. فذكروا ذلك لمنجوتكين فصادف هذا الرأى منه موقعا لسوقه إلى دمشق، فرجع عن حلب.
ولمّا بلغ العزيز رجوعه عنها انزعج لذلك وعلم أنه بتدبير وزيره ابن المغربى، فعزله عن وزارة منجوتكين، وولى صالح بن على الرّوذبارى.
وفى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ظهر من الجراد والكمأة «4» على جبل المقطم بمصر ما لم يعهد مثله، فخرج النّاس إليه وجعلوا يدخلون القاهرة(28/162)
ومصر فى كلّ يوم، فبيع الجراد أربعة أرطال بدرهم، والكمأة سبعة أرطال بدرهم.
وفيها فى يوم الجمعة ثامن عشر جمادى الآخرة احترقت صناعة الإنشاء «1» بمصر بما فيها من المراكب الحربية وآلات السلاح وغير ذلك، فاتّهم الأمراء بذلك، فقتل منهم مائة وسبعة نفر، ثم أحضر عيسى ابن نسطورس من بقى من الرّوم فاعترفوا بذلك، فأمر العزة بالله أن تنهب كنيسة الرّوم، فنهبت وأخذ منها ما ينيف عن تسعين ألف درهم.
[49] ذكر وفاة العزيز بالله وشىء من أخباره وأخبار وزيره يعقوب بن كلّس ومن ولى بعده
كانت وفاة العزيز بالله بعد الظهر من يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة بمدينة بلبيس فى مسلخ الحمام بعلتى القولنج والحصاة «2» .
وكان مولده بالمهديّة فى يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.(28/163)
وكانت مدّة حياته اثنتين وأربعين سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، ومدّة ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا «1» .
وكان أسمر، طويلا، بدينا، أشهل، أعين، أصهب الشّعر، عريض المنكبين. وكان لا يؤثر سفك الدماء.
قال المؤرخ: وجدّد فى أيام العزيز من الأبنية قصر الذّهب «2» ، وجامع القرافة «3» والفوّارة وبستان السردوس «4» ، وقصور عين شمس، والمصلى الجديد بالقاهرة. وهو أوّل من بنى دار الفطرة»
، وقرر الرّواتب، وسنّ إعطاء الضّحايا للأولياء. وكان قريبا من الناس، بصيرا بالخيل والجوارح والصّيد.
ولده: أبو على المنصور، وهو الحاكم بأمر الله.(28/164)
ذكر أخبار الوزير يعقوب بن كلّس
وكنيته أبو الفرج؛ وهو أوّل من خوطب بالوزارة فى دولتهم. وكان يهوديّا من أهل بغداد، فهاجر منها إلى الشام ونزل الرّملة، فجلس وكيلا للتّجار بها، فاجتمع عنده مال فاكتنزه، وسافر إلى مصر. واتّصل بخدمة كافور، فتاجر فى متاع كان يحيله بثمنه على الضياع، فكان إذا احتيل على عمل بمال لا يخرج منه حتى يعلم مستخرجه ونفقته وارتفاعه، فعلم أحوال ديار مصر، فأخبر كافور به، فقال: لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا.
فبلغه ذلك، فأسلم على يدى كافور، فى يوم الجمعة فى الجامع العتيق، فى سنة خمسين وثلاثمائة.
ثم تعلّقت به مطالبات ديوانيّة فى الدولة الإخشيدية فهرب بسببها من مصر، فلقى العسكر المغربىّ قاصدا مصر فعاد فى صحبته، فلمّا ملك القائد جوهر مصر تصرّف ابن كلّس فى الأمور الدّيوانيّة مدّة أيام المعز، ثم انتقل إلى خدمة ولده العزيز، فاختصّ به وتمكّن منه، واقتنى الأموال، فاستوزره فى يوم الجمعة ثامن عشر شهر رمضان سنة ثمان وستين «1» وثلاثمائة؛ وأقطعه بمصر والشام فى كلّ سنة ثمانية آلاف دينار- وبسط يده فى الأموال، وكتب اسمه على الطّرز «2» ، وابتدأ بنفسه فى المكاتبات والعنوانات. من يعقوب بن يوسف وزير أمير المؤمنين.(28/165)
وتمكن من الدولة حتى أسقط المغاربة، واستخدم المشارقة، فى سنة سبعين وثلاثمائة، من التّرك والإخشيدية. وأذل جوهرا الرّومى غلام المعزّ وجعله على المرمّة. وكان [جوهر] «1» يقول: قبح الله طول هذا العمر الذى أحوج لمثل هذا.
ثم نكبه العزيز النكبة التى ذكرناها فى سنة ثلاث وسبعين، ثمّ أطلقه وأعاده إلى الوزارة، وقال له: عزلت بالإغراء، ورددت بصمم الآراء.
ووهب له ألفا وخمسمائة غلام كما ذكرنا «2» .
ولم يزل ابن كلس على ذلك إلى أن توفى لستّ خلون من ذى الحجة، سنة ثمانين وثلاثمائة.
ولمّا مرض مرضته التى مات فيها ركب العزيز إليه، وعاده، وقال له:
وددت أنّك تباع فأبتاعك بملكى وولدى.
ولمّا مات أمر العزيز أن يدفن فى داره فى قبة كان بناها لنفسه؛ وحضر جنازته وصلّى عليه، وألحده فى قبره.
وبلغ قيمة الكفن الذى أنفذه العزيز له، وهو خمسون ثوبا مثقلة سبعة آلاف دينار. وانصرف من دفنه، وأظهر الحزن وأغلق الدّواوين ثمانية عشر يوما، وعطّل الأعمال أياما، واشتملت تركته على مال عظيم.
ولم يستوزر [العزيز] «3» بعده أحدا بل ضمن أموال الدّولة بجماعة من المستخدمين وجعل الغالب عليهم عيسى بن نسطورس النّصرانى، فمال إلى(28/166)
النّصارى وقلدهم الأعمال. واستناب بالشام منشا بن إبراهيم اليهودىّ فقدّم اليهود ومال إليهم، واطّرح المسلمين، فوقفت للعزيز امرأة بيدها قصّة مكتوب فيها: يا أمير المؤمنين بالّذى أعزّ النّصارى بابن نسطورس وأعزّ اليهود بمنشّا بن إبراهيم وأذلّ المسلمين بك إلا ما نظرت فى أمرى وكشفت ظلامتى «1» ! فقبض العزيز على عيسى، وكتب بالقبض على منشّا بالشام، ثم شفعت ستّ الملوك ابنة العزيز فى عيسى فردّه إلى ما كان عليه، وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وشرط عليه استخدام المسلمين فى دولته وأعماله.
قضاته: أبو طالب محمد بن أحمد البغدادى إلى أن استعفى، ثم على بن النعمان إلى أن توفّى فى شهر رجب سنة أربع وسبعين، فردّ القضاء إلى أخيه أبى عبد الله محمّد بن النّعمان.
حجّابه: الأمير منجوتكين [50] ، القائد باروخ.
ولمّا مات العزيز قام بالأمر بعده ولده أبو على المنصور.
ذكر بيعة الحاكم بأمر الله
وهو أبو على المنصور بن العزيز بالله نزار، بن المعز لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، بن القائم بأمر الله أبى القاسم محمد، بن المهدى عبيد الله. وهو السادس من ملوك الدّولة العبيدية، والثالث من ملوك مصر والشام منهم.
بايع له أبوه العزيز قبل وفاته ببلبيس، وكان ولّى قبله ابنه محمدا فهلك فى حياة أبيه العزيز، ثم جدّدت البيعة للحاكم بأمر الله صبيحة وفاة أبيه فى(28/167)
يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولبس أثواب الخلافة، وتعمّم بعمامة عليها الجوهر، وعمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة وستة أشهر «1» . وتولّى كفالته برجوان «2» الخادم، وقام بأمر الجيوش وتدبير الدّولة أبو محمد الحسن بن عمّار ابن أبى الحسين، وتلقب بأمين الدّولة، وهو أول من لقب فى دولتهم بمصر، وكان ذلك بوصية من العزيز.
قال: وكان الكتاميون قد أضعفهم الوزير ابن كلّس، فأظهرهم ابن عمّار وردّهم إلى ما كانوا عليه.
ذكر القبض على الوزير عيسى بن نسطورس النصرانى وقتله
كان القبض عليه فى تاسع شوال سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة: وذلك أن ابن عمار اتّهمه بالإغراء عليه ومباطنة منجوتكين، فبسط عليه العذاب، واستخرج منه سبعمائة ألف دينار، ثم أخرجه لثلاث بقين من المحرم سنة سبع وثمانين على حمار، إلى المقس، وضرب عنقه هناك. رحم الله ابن عمار الآمر بقتله، فلقد حكى عنه من جوره على المسلمين واطّراحه لهم ما لا مزيد عليه.
حكى الأثير بن بيان المصرى أنّ بعض رؤساء المصريّين كتب ورقة يعاتب فيها عيسى على قبح فعله مع المسلمين وبالغ، فيها فأجابه عيسى عنها يقول:(28/168)
«إن شريعتنا متقدّمة، والدّولة كانت لنا ثم صارت إليكم، فجرتم علينا بالجزية والذّلّة، فمتى كان منكم إلينا إحسان حتى تطالبونا بمثله!. إن ما نعناكم قاتلتمونا، وإن سالمناكم أهنتمونا، فإذا وجدنا لكم فرصة فماذا تتوقّعون أن نصنع بكم» . ثم تمثل فى آخرها ببيتين:
بنت كرم غصبوها أمّها ... ثم داسوها، هوانا، بالقدم
ثم عادوا حكّموها فيهم ... وأناهيك بخصم قد حكم!
ذكر مخالفة منجوتكين بدمشق وحربه وأسره وسبب ذلك
كان سبب ذلك أن ابن عمار أظهر الكتاميين وبالغ فى الإحسان إليهم، وخوّلهم فى الأموال وبسط أيديهم، وفرّق فيهم ما خلّفه العزيز.
قال بعض المؤرخين: إن العزيز كان عنده عشرون ألف عليقة ما بين فرس وبغل، وجمل وحمار، ومن الأموال ما لا يدخل تحت الإحصاء؛ ففرّق ابن عمار ذلك فيمن أراد اصطناعه. فلما كان فى سنة سبع وثمانين ومائتين انبسطت يد كتامة وجاروا على النّاس بديار مصر، وامتدّوا لأخذ أموالهم، ثم اجتمع مشايخهم وحسّنوا للحسن بن عمار قتل الحاكم. فعلم برجوان بذلك، فبالغ فى حفظ الحاكم وضم إليه شكر العضدى من غلمان عضد الدّولة بن بويه. وكاتبا منجوتكين أمير دمشق يعرّفانه ما عزم عليه ابن عمّار، وأنه بسط يد كتامة فى الأموال ومكنهم من الجور وأنهم حصروا الحاكم بقصره، وأشارا عليه أن يقصد مصر ليكون عوضا عن الحسن بن عمّار.(28/169)
فلما قرأ منجوتكين الكتاب جمع القوّاد والأجناد وغيرهم بجامع دمشق، وعرّفهم ما جرى من كتامة، وبكى، وخرّق ثيابه؛ فأطاعه النّاس وحلفوا له على طاعة الحاكم وقتال ابن عمار. فأنفق فيهم الأموال ووثّق منهم؛ وبرز من دمشق فى ستة آلاف فارس.
فلما اتّصل ذلك بابن عمار عظم عليه وجمع وجوه كتامة وعرّفهم الحال، فقالوا: [51] نعرّف الناس أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وخالف عليه، وخرج عنه، ليبالغوا فى قتاله؛ ففعل ذلك وأظهره، وفرّق الأموال فى وجوه الدّولة. ثم أحضر برجوان وشكر العضدى وقال لهما: أنا شيخ كبير وقد كثر الكلام علىّ والقول فىّ، وليس لى غرض إلّا فى حفظ الإمام الحاكم. وسألهما أن يحلفا له على المساعدة فما وسعهما إلا أن حلفا «1» له.
وندب من وقته أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه على العسكر، وأمره بالمسير إلى الشام، فخرج فى ستة عشر ألف فارس وراجل. فسار سليمان فى ثانى صفر، ورحل منجوتكين إلى الرّملة فملكها ومعه مفرّج بن دغفل بن جراح؛ وسار سليمان حتى نزل بظاهر عسقلان.
وتقابل الجيشان بعد ثلاثة أيّام؛ وكان المصافّ فى يوم الجمعة لأربع بقين من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فاستأمنت العرب من أصحاب دغفل وغيرهم إلى سليمان، فاستظهر، وقتل من أصحاب منجوتكين أربعة قوّاد. وانهزم منجوتكين وأحصيت القتلى من أصحابه فجاءت ألفى فارس، وامتلأت أيدى أصحاب سليمان. وبذل سليمان لمن(28/170)
يحضر منجوتكين عشرة آلاف دينار ومائتى ثوب، فأسره على بن الجرّاح وحمله إلى سليمان، فسيّره إلى مصر. فاصطنع الحسن بن عمّار منجوتكين، وسار سليمان ونزل طبريّة.
فلما بلغ أهل دمشق ما اتفق لمنجوتكين نهبوا داره. وبعث سليمان أخاه إلى دمشق فى خمسة آلاف فارس، فلمّا وصلها أغلقوا دونه الأبواب، فكتب إلى أخيه بذلك، فسار إلى دمشق وتلطّف بأهلها، وطيّب قلوبهم، ففتحوا له الأبواب. ودخل البلد واستقر أمره، وثبت قدمه، واستتبّ له الأمر، فنظر فى أمر السّاحل واستبدل بولاية الجابرين، وعزل [الأمير] «1» جيش بن الصّمصامة من طرابلس الشام واستعمل عليها أخاه، فحضر جيش إلى مصر ولم يجتمع به.
ذكر الفتنة بين المشارقة والمغاربة وهرب ابن عمار وما كان من أمره
كان سبب ذلك أنّ سليمان بن جعفر لما عزل جيش بن الصّمصامة عن طرابلس حضر [جيش] «2» إلى مصر واجتمع بشكر الخادم وبرجوان سرّا وعرّفهما بغض أهل الشّام فى المغاربة؛ وكان جيش أيضا من كتامة وبينه وبين سليمان عداوة متمكنة، فحسّن لهما الفتك بالحسن بن عمّار، فوقع هذا الكلام من برجوان بالموقع العظيم مع ما تقدّم بينهما من الوحشة. وعلم برجوان أن القاهرة ومصر قد خلتا من المغاربة ولم يبق فيهما إلّا العدد القليل،(28/171)
وأمكنته الفرصة فانتهزها، وراسل الأتراك والمشارقة فى القبض على الحسن ابن عمّار.
وأحسّ ابن عمار بذلك فقصد المبادرة بالإيقاع ببرجوان وشكر، ورتّب جماعة فى دهليز داره، وقرر معهم الفتك بهما إذا دخلا إليه. وكان لبرجوان عيون كثيرة فاطّلعوا على ما دبّره ابن عمار عليه. واتفق أنّ الحسن استدعاه [ومعه شكر] «1» فركبا إلى داره، وكانت فى آخر القاهرة مما يلى الجبل، ومعهما جماعة من الغلمان. فلمّا وصلا إلى باب الدّار ظهرت لهما عين القضيّة فعاد إلى القصر بسرعة، وجرّد الغلمان سيوفهم، فدخلا قصر الحاكم.
فثارت الفتنة، واجتمع الأتراك والدّيلم والمشارقة وغيرهم على باب القصر، وبرجوان يبكى، وهم يبكون لبكائه، وهو يحرّضهم على القيام بواجب خدمة الحاكم.
وركب الحسن بن عمّار فى كتامة إلى الجبل، وتبعه وجوه الدّولة، فصار فى عدد كثير. وفتح برجوان خزائن السّلاح وفرّقها على الغلمان وغيرهم، وأحدقوا بالقصر، فبرز منجوتكين وفارحتكين وينال الطويل فى خمسمائة فارس من الأتراك. ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن بن عمّار إلى وقت الظهر من يوم الخميس سلخ شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فانهزم ابن عمّار، ورجعت العامّة إلى داره فنهبوها ونهبوا خزائنه؛ واستتر عند بعض العوامّ وتفرّقت عنه جموعه «2» .
وفتح برجوان باب القصر، وأجلس الحاكم، وأوصل إليه النّاس،(28/172)
وجدّد له البيعة على الجند، فلم يختلف عليه أحد؛ وكتب الأمانات لوجوه كتامة وقوّاد الدّيلم وراسلهم بما يطيّب قلوبهم فأتوه. واستقام أمر برجوان وكتب إلى أهل دمشق يطيّب قلوبهم ويأمرهم بالقيام على سليمان والإيقاع به؛ فثار أحداث «1» دمشق وقصدوا دار أميرها سليمان، فوجدوه وقد التهى بالشّرب وانهمك على لذّاته، فهرب على ظهر فرسه ونهبت خزائنه [52] وأمواله. وجعل برجوان الحسين بن القائد جوهر قائد القوّاد، وبعث جيش ابن محمد بن الصّمصامة إلى دمشق، وتلطّف فى إخراج الحسن بن عمّار من استتاره، فخرج، فأعاد برجوان عليه ما كان بيده من الإقطاعات وحلّفه ألّا يخرج من داره.
وفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة عصى أهل صور على الحاكم بسبب فتنة برجوان وابن عمار وقتلوا جماعة من جند المصريّين، وثار بعض الملاحين من أهلها، ويعرف بالعلاقة، فملك البلد.
وثار مفرج بن دغفل الجراحى بالرّملة ونهبها.
فندب برجوان إلى الشام أبا الحسن عبد الصّمد ابن أبى يعلى، وضمّ إليه عسكرا، فسار من القاهرة لأربع عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، سنة ثمان وثمانين «2» . فلمّا وصل إلى الرّملة حضر إليه من جند السّاحل خمسة آلاف(28/173)
فارس، ووجد سليمان بن جعفر [بن] «1» فلاح بها فقبض عليه وسيّره إلى مصر. وسيّر إلى صور أبا عبد الله الحسن بن ناصر الدّولة وياقوتا الخادم ومن معه من عبيد الشّراء، فوقعت الحرب بينهم وبين أهل صور؛ ثم طلبوا الأمان فأمّنوا. وأسر العلاقة الثائر، وكان قد استنصر بالروم، فسلخ وهو حىّ، وحشى جلدة تبنا وصلب. وكان قد ضرب على الدينار بصور «عزّ بعد فاقة، وشطارة بلباقة، للأمير العلاقة» .
وفيها فى شعبان ورد الخبر بفتح أنطاكية على يد [الأمير] «2» جيش بن محمد ابن الصّمصامة.
ذكر قتل برجوان الخصىّ
كان مقتله فى ثالث عشر «3» شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلاثمائة.
وسبب ذلك أنه كان لفرط إشفاقه على الحاكم منعه من الرّكوب خوفا عليه، ومنعه من العطاء لغير مستحقّ، فثقل على الحاكم، ولم يبق للحاكم فى الأمر غير الاسم، واستبدّ برجوان بالأمر. وكان عند الحاكم خادم اسمه ريدان الصقلبى قد اختصّ به وأنس إليه، فشرع فى إغراء الحاكم على برجوان. وكان من جملة ما قال له: إن هذا يقصد أن يفعل بك كما فعل كافور الإخشيدى مع أولاد سيّده، فباطن الحاكم الحسين بن جوهر قائد(28/174)
القواد على قتل برجوان، ووعده أن يفوّض إليه تدبير الأمر بعده. ثم ركب الحاكم وبرجوان فى بعض الأيام إلى بستان اللّؤلؤة «1» على عادته، فمال عليه ريدان بسكين فضربه بها فى ظهره وأخرجها من صدره. فقال برجوان للحاكم: غدرت. فزعق على الخدّام فاحتزّوا رأسه؛ فانزعج النّاس لذلك ولبسوا السلاح، فسبق الحاكم ودخل القصر. وحضر شكر الخادم والجند وأحاطوا بالقصر ظنّا منهم أن الحسن بن عمار تمّم على الحاكم حيلة. فلما رأى الحاكم ذلك تراءى للنّاس فترجلوا وقبّلوا الأرض، وسكنت الفتنة.
ثم فتح الحاكم القصر واستدعى أكابر النّاس وقال لهم: أنكرت على برجوان حاله وقتلته، واستدعى الحسين بن جوهر وأمره بصرف الناس إلى منازلهم، فصرفهم.
وركب مسعود الحاكمى إلى دار برجوان فأحاط على ما فيها، وكان من جملة ما وجد له ألف سروال «2» دبيقى بألف تكّة حرير، وناهيك بموجود يكون هذا من جملته.
وإلى برجوان هذا تنسب حارة برجوان «3» التى بالقاهرة.
واستقرّ الحسين بن جوهر فى تدبير الدّولة فى ثالث جمادى الأولى من السنة.
وقتل فى أثناء هذه الفتنة الحسن بن عمّار الكتامى. وتوفّى جيش ابن محمد بن الصّمصامة أمير الشام بدمشق فى ثالث عشر ربيع الأول منها،(28/175)
وندب الحاكم لولايتها القائد تميم بن اسماعيل المعزّى الملقب بفحل.
ذكر ما فعله الحاكم بأمر الله وأمر به من الأمور الدالّة على اضطراب عقله بعد أن استقل بالأمر بمفرده
كان أول ذلك أنه نهى فى سادس شهر رجب سنة تسعين وثلاثمائة أن يخاطب الناس بعضهم بعضا بسيدنا أو مولانا، وألّا يخاطب بذلك غيره «1» .
وفى سنة إحدى وتسعين، فى شهر المحرم، أمر أن تزيّن مصر ويفتح الناس دكاكينهم ليلا؛ ولازم الركوب بالليل، وكثر ازدحام النّاس، وصار البيع باللّيل أكثر من النهار، وأكثر الناس الوفود. وغلب النساء على أزواجهم على الخروج، فأمر فى رابع عشر الشّهر ألّا تخرج أمرأة من العشاء لهذا السبب، فلم يخرجن بعد أمره «2» .
وفى سنة ثلاث وتسعين حصل للحاكم مرض المانخوليا، فأخذ فى قتل أرباب الدّولة وذوى المناصب وغيرهم، وصدر عنه من الأفعال [53] ما نذكره إن شاء الله تعالى بتواريخه على حكم السّنين.
ذكر بناء الجامع المعروف بجامع راشده
كان ابتداء عمارته فى سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. وكان سبب إنشائه أن أبا المنصور الزيات الكاتب زرع هذا الموضع(28/176)
وبنى للنّصارى فيه كنيسة فرفع أمره للحاكم، فأمر بهدم الكنيسة وأن يجعل موضعها مسجدا، ثم أمر بالتوسعة فيه، فخربت مقابر اليهود والنّصارى؛ وجمع فيه الجمعة لليلتين بقيتا من الشهر، وبنى فيه منبر من الطّين، وصلّى فيه ابن عصفورة القارئ. ثم ظهر بعد ذلك أن المحراب وضع على غير صحّة فهدم ما كان ارتفع من البناء، ثم بنى عليه ما هو عليه الآن «1» .
ذكر بناء الجامع المعروف بالحاكم الذى هو بين باب النصر و [باب] «2» الفتوح بالقاهرة
قد ذكرنا أن العزيز بالله كان قد اختطّه فى سنة ثمانين وثلاثمائة، ومات العزيز بالله ولم تكمل عمارته «3» .
فلما كان فى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، أمر الحاكم بالله بإتمامه. وقيل إن الوزير يعقوب بن كلّس، وزير العزيز، هو الذى كان بدأ بعمارته وقدّر له أربعين ألف دينار، فأخرج له خمسة آلاف دينار ومات ولم يكمل، فابتدئ بعمارته فى هذا التاريخ.
وفى هذه السنة قتل الحاكم مقداد ابن حسن كاتب جوهر، ضرب عنقه وأحرق بالنار، وفيها لليلتين خلتا من ذى الحجة قتل ريدان الصقلبى(28/177)
الخادم، وكان خصيصا به مكينا عنده، وإليه ينسب الريدانية التى هى بظاهر القاهرة خارج باب النّصر. وفيها قتل منجمه العكبرى صاحب الرّصد الحاكمى وكان شديد الاختصاص به. ونادى مناديه بإباحة دم المنجّمين وأنهم كفار، فهربوا ولم يبق بالديار المصرية منجم.
وفى سنة أربع وتسعين وثلاثمائة اشتدت السّوداء على الحاكم، فصار يركب فى الهاجرة حمارة بلقاء والسّياف بين يديه، فيقتل من يخطر بخاطره قتله. فقتل خلقا كثيرا وغرّق وأحرق، حتى قتل الركابية «1» وأصحاب السّتر والوزراء والقضاة؛ واستمرّ به هذا الحال.
وفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، فى رابع عشرى المحرم قرئ سجل من الحاكم بمنع الملوخيا «2» والمتوكلية «3» والترمس المعفن والدّليس «4» وعمل الفقاع «5» ، وعن ذبح البقر «6» ، وألا يدخل أحد الحمّام إلّا بمئزر، ولا تكشف امرأة وجهها فى طريق ولا خلف جنازة، وألا يباع من السّمك ما ليس له قشر.(28/178)
وفى رابع صفر منها كتب على المساجد بسب الصحابة رضى الله عنهم، وعلى حيطان الشوارع والقياسر «1» ، ثم نهى عن ذلك فى سنة سبع وتسعين.
وأمر اليهود والنصارى الا الحبابرة بلبس السّواد «2» ، وأن يحمل النّصارى الصّلبان على أعناقهم، وأن يكون طول الصليب ذراعا وزنته عشرة «3» أرطال، وعلى أعناق اليهود قوامى الخشب والجلاجل، وألا يركبوا شيئا من المراكب المحلّاة، وأن يكون ركبهم من الخشب وألا يستخدموا أحدا من المسلمين ولا يركبوا حمارا لمكّار مسلم.
وفى سابع عشرى صفر منها نودى بالقاهرة ألا يخرج أحد بعد عشاء المغرب إلى الطريق ولا يظهر بها.
وفى سادس عشر شهر ربيع الآخر منها أمر بقتل الكلاب فقتلت عن آخرها «4» .
وفى تاسع عشر جمادى الآخرة فتحت دار بالقاهرة وسميت دار الحكمة «5» ، وجلس فيها الفقهاء وحملت إليها الكتب من خزائن القصور، ونسخ النّاس من الكتب ما اختاروه؛ وجلس فيها القرّاء والفقهاء والنّحاة واللّغويون، والأطباء والمنجّمون، بعد أن فرشت وزخرفت، وعلّقت السّتور على جميع أبوابها وممرّاتها، وجعل لها قوّام وخدّام. وحصل فى هذه الدّار من الكتب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله، وأجريت بها الأرزاق.(28/179)
وفى هذا الشهر منع الناس من العبور إلى القاهرة ركّابا مع المكّارية، ومنع من الجلوس على باب الزّهومة «1» إلى أقصى [54] الباب [المعروف] «2» بباب الزمرد.
وفى سنة ستّ وتسعين وثلاثمائة ركب الحاكم فى موكبه ومعه أرباب دولته فمرّ على الموضع الذى يباع فيه الحطب وقد تراكمت الأحطاب فيه بعضها على بعض، فوقف وأمر أن تؤجّج النّار فى بعضها؛ ثم أمر بقاضى القضاة بمصر، وهو الحسين بن على بن النعمان، فأنزل عن دابّته ورمى به فى تلك النّار حتى هلك «3» ، ولم يتقدّم له مقدّمة توجب ذلك «4» . ثم مرّ كأن لم يصنع شيئا.
ذكر أبى ركوة وظهوره وما كان من أمره إلى أن قتل
كان ظهوره فى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وادّعى أنه الوليد بن هشام «5» بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموى، وتلقّب بالثائر بأمر الله(28/180)
والمنتقم من أعداء الله. ونحن الآن نذكر أخباره وابتداء أمره، وكيف تنقّلت به الحال إلى أن كان منه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
كان مولده بالأندلس ونشأ بها ثم خرج منها بحال سيّئة يجوب البلاد إلى أن وصل إلى القيروان، ففتح بها مكتبا يعلّم الصبيان فيه القرآن، ثم توجه منها إلى الإسكندرية ومنها إلى مصر فأقام بها وبأريافها يعلم الصبيان، ثم توجه إلى الفيّوم وعلّم بها الصبيان أيضا، وعاد إلى مصر، وخرج إلى سبك الضحاك «1» فنزل به على رجل يعرف بأبى اليمن، ثم نزل بقرنفيل «2» وسار منها إلى البحيرة فنزل على بنى قرة. وكان الحاكم قبل ذلك فى سنة خمس وتسعين قد بعث إليهم جيشا مقدّمه أبو الفتيان التّركى وقتل الحاكم بعضهم وحرّقهم بالنّار، فوجدهم قد أجمعوا على أن يلتقوه بجموعهم ويحاربوه، ولم يعلموا من يقدّمونه عليهم، فعرّفهم أبو ركوة «3» أنّه من بيت الخلافة، فانقادوا إليه وبايعوه بالخلافة، ونعت «4» بأمير المؤمنين، وانضاف إليهم من لوانة ومزاتة وزناتة جمع كثير، وجاءوا إلى مكان بالقرب من برقة.
فلمّا بلغ الحاكم أمره جهز العساكر لقصده؛ فأول من خرج بها ينال الطّويل التركى فى منتصف شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، فالتقوا(28/181)
واقتتلوا، فقتل ينال وعامّة من معه من العساكر، وغنموا ما معهم.
وسار أبو ركوة إلى برقة وأخذها بعد حصار، فاستفحل أمره.
وشرع الحاكم فى تجريد العساكر إليه، فجهّزها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين وعليها ابن الأرمنية، فسار إلى المكان المعروف بالحمام «1» ، فلقيه بنو قرّة فى جماعتهم فهزموه وقتلوه وانتهبوا ما كان معه.
فندب الحاكم عسكرا وقدّم عليه أبا الحسن ابن فلاح وجلين وإبراهيم بن الأفرنجية؛ ثم ندب القائد أبا الفتوح فضل بن صالح لقتاله، فخرج إلى أرض الجيزة فى رابع شوال وأنفق فى العساكر، وكوتب على بن الجرّاح بالوصول إلى الحضرة، فورد من الشام فى سابع عشر شوّال. وورد الخبر بنهب الفيوم، فبعث الحاكم سريّة لحفظه، وسار الفضل بن صالح عن مكانه إلى ذات الكوم «2» فى رابع ذى القعدة، وكسر أبو ركوة عسكر ابن فلاح ونهب سواده والخزائن التى معه، وقتل من أصحابه جماعة؛ فاضطرب النّاس واشتد خوفهم، وباتوا فى الدكاكين والشوارع. وتوجّه القائد فضل للقاء أبى ركوة، فالتقيا بموضع يعرف برأس البركة، على نصف مرحلة من مدينة الفيوم، لثلاث خلون من ذى الحجّة. واقتتل العسكران قتالا شديدا وانجلت الحرب عن قتل عامّة عسكر أبى ركوة. وانهزم أبو ركوة إلى بلاد النّوبة وتبعه الفضل إلى الأعمال القوصية.(28/182)
وذكر بعض المؤرخين أن الحاكم لمّا أعياه أمره دسّ إليه جماعة من أولياء دولته وأمرهم بطاعته، وأن يذكروا انحرافهم عن الحاكم بسبب قتله لهم؛ ففعلوا ذلك، فاغترّ به «1» ، ووصل معهم إلى أوسيم على ثلاثة فراسخ من القاهرة، فالتقى هو والفضل كما ذكرنا، واتّبعه، فبلغه أنه وصل إلى بلاد النوبة فكتب إلى متملكها يقول إن عدوّ أمير المؤمنين الحاكم فى بلادك، وكتب إلى صاحب الجبل وهو نائب صاحب دنقلة ومقره ببلد الدّو «2» فيما بين دنقلة وأسوان. وندب الفضل من العسكر من توجّه لقبضه، وكان المساعد على مسكه الشيخ أبو المكارم هبة الله، شيخ بنى ربيعة وقيل إنه وجد فى دير يعرف بدير أبى شنودة فى أطراف النوبة، فمسك. وكان الطعن به فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.
وعاد القائد فضل إلى القاهرة فوصل إلى بركة الحبش فى يوم الجمعة، النّصف من جمادى الآخرة منها، وتلقّاه أكابر الدّولة الحاكميّة؛ وركب فى سابع عشر الشّهر وأبو ركوة على جمل وعلى رأسه طرطور، وطيف به على هذه الصفة وخلفه قرد يصفعه «3» ، ثم صلب [55] وضربت عنقه وجهّزت(28/183)
رأسه إلى البلاد.
ونقل بعض المؤرخين أنه اعتبرت الأكياس التى خرجت مع القائد فضل لمّا خرج للقاء أبى ركوة، وكان زنتها فوارغ خمسة وعشرين قنطارا. وقيل إنّ جملة ما أنفق ألف ألف دينار والله أعلم.
وفى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة أمر الحاكم بقتل أصحاب الأخبار حيثما وجدوا؛ وذلك أن كان قد قتل خلقا كثيرا لسعايتهم، ثم اطّلع على خيانتهم وأنهم ضيّروا ذلك معيشة، فقتلهم عن آخرهم.
وفيها أمر بهدم كنيسة قمامة بالبيت المقدس، فكتب ابن خيران صاحب ديوان الإنشاء فى ذلك «خرج أمر الإمامة بهدم كنيسة قمامة «1» ، فليصيّر طولها عرضا، وسقفها أرضا» .
وفى سنة ثمان وتسعين أيضا، فى سابع عشرى «2» شعبان، عزل القائد حسين بن جوهر عن جميع ما كان يتولّاه، وكتب سجل بتوليته صالح بن على بن صالح الروزبارى فانصرف الحسين إلى داره وأمر بلزومها، ثم خلع عليه وركب فى رابع عشر جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة «3» .
وفى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فى يوم الجمعة التاسع من شهر رمضان، حضر النّاس إلى القصر وقرئ سجل لصالح بن علىّ لقب فيه بثقة الثقات للسّيف والقلم، وخلع عليه، وقيّد بين يديه بغلات وخيل.(28/184)
وفيها مرض الحاكم فداواه بن معشر، فأعطاه عشرة آلاف دينار.
وفيها سخط الحاكم على وزيره ابن المغربى وقتله، وقتل أخاه وابنه، وهرب ابنه الآخر إلى الشام.
وفيها فى تاسع عشر ذى الحجّة أمر الحاكم بهدم كنائس القنطرة التى فى طريق المقس وكنائس حارة الرّوم، فهدم جميع ذلك.
وفى سنة أربعمائة، فى يوم الخميس حادى عشر شهر رمضان، جمع الأولياء. وأصحاب الدواوين فى صحن الإيوان بالقصر، وخلع على أبى نصر بن عبدون، وقرئ سجله، ولقّب بالكافى، وولى مكان صالح بن على بن صالح الروزبارى. وكانت مدّة ولاية صالح سنتين وأربعة عشر يوما.
ذكر خروج آل الجرّاح على الحاكم ومتابعتهم لأبى الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى وما كان من أمرهم
كان سبب ذلك أنّ نصر بن عبدون كان بينه وبين بنى المغربى عداوة متمكنة، فسعى بهم عند الحاكم وأغراه، إلى أن أمر بضرب أعناقهم، وذلك فى ثالث ذى القعدة سنة أربعمائة؛ فقتل أخوى الوزير وولده وثلاثة من أهل بيته، واستتر الوزير أبو القاسم بن المغربى وهرب إلى الشام، فى تاسع ذى القعدة منها، والتجأ إلى حسّان بن المفرج بن دغفل بن الجرّاح، واستجار به فأجاره؛ وأنشده عند دخوله عليه:(28/185)
أمّا وقد خيّمت وسط الغاب ... فليقسونّ على الزّمان عتابى
يترنّم الفولاذ دون مخيّمى ... وتزعزع الخرصان دون قبابى
وإذا بنيت على الثّنيّة خيمة ... شدّت إلى كسر القنا أطنابى
وهى قصيدة مطولة مدح بها آل الجرّاح. فلما سمعها حسّان هشّ لها وجدّد من القول ما طاب به قلب الوزير وسكن جأشه.
ثم حسّن ابن المغربى لبنى الجراح أنّ يخرجوا عن طاعة الحاكم، فوافقوه على ذلك، وقتلوا نارتكين أحد الأمراء الحاكميّة المقيم بالرّملة؛ ثم حسّن لهم أن يقيموا أبا الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى خليفة، وهو أمير الحرمين يومئذ «1» ، وأن يحضروه من مكّة؛ فأجابوه إلى ذلك، وأسلوا إلى مكّة وأحضروه إليهم. فلمّا قرب أبو الفتوح من ديار بنى الجرّاح خرجوا إليه وتلقّوه، وقبّلوا الأرض بين يديه، وبايعوه بالخلافة ولقبوه الرّاشد بالله.
فحينئذ صعد أبو القاسم بن المغربى المنبر وخطب خطبة يحرّض الناس فيها على الخروج على الحاكم، فأشار إلى مصر وقرأ: طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي(28/186)
الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما [مِنْهُمْ] «1» ما كانُوا يَحْذَرُونَ
«2» .
فلمّا سمع الحاكم ذلك أزعجه، فندب الجيوش لقتالهم، مع ياروخ تكين العزيزى، فاعترضه حسّان بين رفح والدّاروم «3» ، والتقوا واقتتلوا، فانهزمت أصحاب ياروخ تكين، وأسر هو ونقل إلى الرّملة، وسمع غناء جواريه وحظاياه بحضوره وهو مقيّد معه فى المجلس، وارتكب معه الفواحش العظيمة، ثم قتله صبرا بين يديه.
وبقى الشّام لبنى الجرّاح. فشرع الحاكم [56] يأخذهم بالملاطفة، وراسلهم، وبذل لهم الرّغائب والأموال، والأقمشة والجوارى، وقرّر لكلّ واحد منهم خمسين ألف دينار عينا، واستمالهم عن أبى الفتوح. فاتصل ذلك بأبى الفتوح، فقال لهم: إن أخى قد خرج بمكة، وأخاف أن يستأصل ملكى بها. فأعادوه إلى مكّة فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة. وكان الحاكم قد أرسل إلى الوزير أبى القاسم بن المغربى وكتب له أمانا واستماله، وبنى على أهله تربا فى القرافة وهى «4» ستّ ترب، وتعرف بالسبع قباب إلى هذا الوقت.
ولما ورد أمان الحاكم على أبى القاسم وهو مقيم عند بنى الجراح أجابه برسالة وضمّن أولها بيتين:(28/187)
وأنت، وحسبى أنت، تعلم أنّ لى ... لسانا أمام المجد يبنى ويهدم «1»
وليس كريما «2» من تباس يمينه ... فيرضى، ولكن من يعضّ فيحلم
وسأل آل الجرّاح أن يجهّزوه إلى العراق فجهّزوا معه من أخرجه من بلاد المغاربة؛ وعاد بنو الجرّاح إلى طاعة الحاكم. وأقام ابن المغربى بالعراق إلى أن توفى بميّافارقين «3» فى سنة ثمان عشرة وأربعمائة؛ وحمل إلى الكوفة فدفن بها. ولمّا فارق آل الجراح قدم بغداد وتقلد الوزارة لمشرف الدولة بن بويه كما ذكرنا ذلك فى أخبار الدّولة البويهيّة «4» .
ذكر تفويض السّفارة والوساطة لأحمد بن محمد القشورى وقتله
وفى سنة إحدى وأربعمائة فى يوم الخميس رابع المحرّم استدعى الحاكم النّاس على طبقاتهم إلى القصر فركبوا «5» معه إلى خارج باب الفتوح، ثمّ عاد إلى قصره وأمر من مكان بالموكب بالنّزول إلى القصر، فنزلوا وحضروا فى الإيوان. فخرج من عند الحاكم خادم فأخذ بيد أحمد بن محمد المعروف بالقشورى «6» الكاتب وأخرجه من بين القوم، ثم عاد القشورى وقد خلع(28/188)
عليه وبيده سجلّ، فأخذه أبو على العبّاسى الخطيب وقرأه على النّاس، فإذا هو يتضمّن تقليده السّفارة والوساطة بين النّاس وبين الحاكم، وتفويض الأمور إليه. وصرف ابن عبدون. وأقام [القشورى] «1» إلى الثالث عشر من الشّهر، فقبض عليه وقت الظّهر وهو فى مجلس ولايته، وضربت رقبته، ولفّ فى حصير ورمى. فكانت ولايته عشرة أيام. وكان سبب ذلك إكرامه للقائد حسين بن جوهر وتعظيمه له وكثرة سؤاله الحاكم فى معناه.
وفوضت هذه الوظيفة فى يوم الأحد رابع عشر الشّهر لأبى الخير زرعة «2» ابن عيسى بن نسطورس النصرانى الكاتب، على عادة من تقدّمه، ولم يخلع عليه إذ ذاك، ثم خلع عليه فى سابع عشر شهر ربيع الآخر منها.
وفى السادس والعشرين منه قرئ بجامع مصر سجلّ يتضمّن النّهى عن معارضة الحاكم فيما يفعله، وترك الخوض فيما لا يعنى، وإعادة حىّ على خير العمل فى الأذان، وإسقاط الصّلاة خير من النّوم، والنّهى عن صلاة التراويح والضّحى.
وفى ثانى عشر شهر جمادى الآخرة دخل قائد القواد الحسين بن جوهر، والقاضى عبد العزيز بن النعمان إلى القصر، وكان قد خلع عليهما فى ثانى صفر، فلمّا أراد الانصراف بعث إليهما زرعة بن نسطورس يقول إن الخليفة يريدكما لأمر يختاره. فجلسا حتى انصرف النّاس، فقتلا وقتل معهما أبو على أخو الفضل بن صالح، ووقعت الحوطة على دارهم.(28/189)
وفى سنة إحدى واربعمائة قامت دعوة الحاكم بالمدائن، وهى على نصف مرحلة من بغداد، وخطب له بمدينة الأنبار وقصر ابن هبيرة «1» من العراق بدخول مالك بن عقيل بن قراوش بن المقلد «2» فى طاعته وإظهار تشيّعه، وذلك فى أيام الخليفة القادر العباسى «3» . ثم بلغ قراوش بن المقلّد اختلال أمر الحاكم وقتله أرباب دولته وأن المانخوليا غلبت عليه، فأعاد الخطبة العباسيّة.
وفيها قام بدعوة الحاكم بمدينة الجامعين وهى الحلة «4» وما جاورها من العراق الأمير على «5» بن مزيد الأسدى، وكان قد هزم خفاجه واستولى على بلادهم وخطب فيها للحاكم.
وفى سنة اثنتين وأربعمائة تاب الحاكم ونهى عن شرب الخمر وعن كلّ ما يعمل منه، كالزبيب والعسل؛ ونفى المغانى، وحرّم الملوخيا، ومنع أن تقبّل الأرض بين يديه، وأن تقبّل يده، وأن يخاطب بمولانا؛ واقتصر على قولهم السّلام على أمير المؤمنين.(28/190)
وفى سنة ثلاث وأربعمائة قطعت كروم العنب بأسرها ورميت إلى الأرض ودرست بالبقر، وجمع ما كان من الخمر بالمخازن وأهريق فى البحر. وفيها كسرت جرار العسل؛ وأمر اليهود والنّصارى بلبس العمائم السّود إلا الجبابرة، ومنعوا أن يستخدموا [57] المسلمين؛ وأن يركبوا مع المكّارية؛ وإذا دخل النّصرانى الحمّام يكون الصليب فى عنقه، واليهودى الجلجل؛ ثم أفرد بعد ذلك حمّامات للنّصارى وحمامات لليهود؛ وأسلم جماعة من النصارى فى شهر ربيع الأول.
وفيها فى شهر ربيع الآخر شدّد الحاكم على النّصارى واليهود فى حمل الصّلبان، وأن يكون الصّليب فى طول ذراع وزنته خمسة أرطال «1» ، فلما أضرّ ذلك بهم دخلوا فى دين الإسلام.
وفيها فى شهر رمضان أمر الحاكم ببناء مصلّى العيد «2» بسفح المقطّم وأحسن بناءه، وكان قبل ذلك ضيّقا صغيرا، فهدمه الحاكم وبناه على ما هو عليه الآن.
ذكر هدم كنائس الدّيار المصرية
وفى العشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة أمر الحاكم بهدم جميع الكنائس بالديار المصرية فسأل جماعة من النّصارى أن يتولّوا هدم كنائسهم بأيديهم وأن يبنوها مساجد؛ فوهب الحاكم جميع الكنائس بجميع(28/191)
ما فيها من أوانى الذّهب والفضة وغيرها من الحواصل والمآكل ومالها من رباع وأملاك لجماعة من الصّقالبة والفرّاشين والسعدية، ولم يردّ من سأله شيئا منها، وكوتب كلّ متصرّف فى عمل من الأعمال بهدم ما فى عمله من الكنائس، فهدمت من جميع أعمال الديار المصرية.
وفى ثالث شهر رجب منها قرئ سجل بتحبيس ضياع ومواضع على الفقراء والفقهاء والمؤذّنين بالجوامع.
وفى رابع عشر جمادى الآخرة منها أمر الحاكم بعمل رصد «1» بالقرافة، فنزل القاضى مالك بن سعد وأشرف على الرّصد وابتدأ بعمله ولم يتم.
ذكر البيعة بولاية العهد لأبى القاسم عبد الرحيم
وفى ثالث شهر ربيع الأوّل، سنة أربع وأربعمائة «2» عهد الحاكم بولاية العهد بعده لابن عمّه أبى القاسم عبد الرّحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدى، فبويع بولاية العهد، وكتب اسمه على السّكة، ودعى له على المنابر.
وفيها منع الحاكم النّساء من الخروج مطلقا ليلا أو نهارا، ومن دخول الحمّامات، وطلوع الأسطحة، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف لهنّ، وشدّد فى ذلك، فشكى إليه التّجار من ذلك، فأمرهم أن يحملوا ما يبيعونه(28/192)
فى الأسواق ويطوفوا به فى الدّروب ويبيعوا النساء، وأن يكون للمرأة شىء مثل المغرفة بساعد طويل تتناول به ما تبتاعه من الرّجل. ثمّ أمر بإطلاق العجائز والإماء فى يوم الخميس تاسع شهر رمضان منها، فخرج بعض النّساء إلى القصر داعيات للحاكم، فعلم بهنّ فأعاد المنع والتشديد فى يومه، ولم يسمح إلا للنّساء المتظلمات للشّرع، والخارجات للحجّ، والإماء للبيع، والأرامل، وغواسل الأموات، والأرامل اللّواتى يبعن الغزل.
ذكر إحراق مصر وقتال أهلها.
كان سبب ذلك أن الحاكم ركب فى ذى القعدة سنة عشر وأربعمائة، فوجد صورة امرأة متردّية عملت من قراطيس، وفى يدها جريدة عليها ورقة فيها سبّ للحاكم وأسلافه وذكره بقبيح الفعال. فلمّا وقف عليها أمر بنهب مصر وحرق بعض دورها، وفرّق السلاح على السّودان والعبيد، فتبادروا إليها وفعلوا ما أمرهم به. فقام أهلها وقاتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيّام، ثم أرسلوا إلى الحاكم يستقبلون فلم يقلهم، فعاودوا القتال؛ وأحرق من مصر جانب جيد. فلما رأى الحاكم أن الأمر يؤول إلى التّلاف كفّ عنهم بعد أن تلف من العقار ما لا تحصى قيمته، وسيّر عيادا الصقلبى إليها فى جماعة من الجند لنسكين الفتنة، فشاهد أمرا عظيما، فعاد إلى الحاكم وذكر له قبح النّازلة وعظم الفادحة وقال: لو أن بسيل ملك الروم دخل مصر لما استحسن أن يفعل فيها هذا الفعل. فغضب الحاكم من كلامه وأمر بقتله، فقتل.
وفى سنة عشر وأربعمائة أمر الحاكم وولىّ العهد، عبد الرّحيم بن إلياس، بالخروج إلى دمشق واليا عليها، ثم عزله فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وأربعمائة.(28/193)
وفى شهر رجب [58] منها اشتدّ غضب الحاكم على أهل مصر فأحرق السّاحل، ووقع النّهب فى الأسواق والقياسر «1» .
وسنذكر إن شاء الله السّبب الذى أوجب خروج الحاكم على أهل مصر إلى أن فعل بهم ما فعل.
ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه والسّبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم
قال المؤرخ: لمّا كان فى آخر ليلة الاثنين السّابع والعشرين من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ركب الحاكم حماره وخرج على جارى عادته، فأصبح عند قبر الفقاعىّ «2» بقرافة مصر وردّ من كان معه، ففقد من ذلك الوقت. ولم يزل النّاس يخرجون ويلتمسون رجوعه إلى يوم الخميس سلخ الشهر؛ ثم خرج مظفّر حامل المظلّة فى يوم الأحد الثّالث من ذى القعدة ومعه جماعة الأمراء والكتاميين إلى حلوان، وأمعنوا فى الكشف. فبينما هم كذلك إذ بصروا بالحمار الّذى كان الحاكم قد خرج عليه وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بالسيف فأثر فيهما، فتتبّع الأثر فإذا أثر الحاكم وأثر آخر خلفه وآخر أمامه، فقصّوه حتى انتهوا إلى بركة القصب شرقىّ حلوان، فأنزلوا(28/194)
رجلا من الرّجالة فوجد ثياب الحاكم فى البركة، وهى سبع جباب «1» مزرّرة لم تحلّ أزرارها، وفيها آثار السكاكين، فعادوا إلى القصر ولم يشكّوا فى قتله.
وأما السبب الذى نقل فى إعدامه فقالوا: كان السّبب فى ذلك أنّ ستّ لملك أخت الحاكم وقع بينها وبينه، فتنكّر لها وهمّ بقتلها. وكرهت أمورا صدرت منه منها أنه رأى بعض قهارمتها داخلة إلى القصر، فقال لها: قد سمعت أنّكم تجمعون الجموع وتدخل إليكم الرّجال؛ والله لأقتلنّكم أجمعين. «2» وتكرر هذا القول منه، فأعملت ستّ الملك الحيلة فى إعدامه، وخرجت ليلا إلى دار الأمير سيف الدّين حسين ابن دوّاس «3» ، فدخلت عليه واختلت به وعرّفته بنفسها أنها ابنة العزيز بالله أخت الحاكم؛ فعظّمها، وبالغ فى إكرامها. فقالت له: إنّك قد علمت ما فعل أخى وما صدر منه من سفك الدّماء وقتل الأولياء ووجوه الدّولة بغير سبب، وقد عزم على قتلك وقتلى. فقال لها: فكيف الحيلة فى أمره، فأشارت: أن تجهّز إليه رجالا يقتلونه إذا خرج إلى حلوان فإنه ينفرد بنفسه هناك، ووعدته أن يكون هو المدبّر لدولة ولده والوزير لها. فاتّفقا على ذلك وتحالفا عليه، ورجعت هى إلى قصرها.
فلمّا ركب الحاكم وانفرد عند وصوله إلى المقطّم على عادته، كان ابن دوّاس قد أحضر عشرة من العبيد، وأعطى كلّ واحد منهم خمسمائة دينار، وحلّفهم، وعرّفهم كيف يقتلونه. فسبقوه إلى الجبل فى تلك اللّيلة؛ فلمّا(28/195)
انفرد خرجوا عليه وقتلوه بالمكان الّذى ذكرناه، وخرج الموكب لتلقّيه على العادة، فطال انتظارهم له فلم يرجع، فعادوا؛ ثمّ خرجوا ثانيا وقصّوا الأثر، فوجدوا حماره وثيابه، كما ذكرناه، فعادوا إلى القصر وطلبوه من أخته ستّ الملك وقالوا: إن مولانا ما جرت عادته بهذا. فقالت لهم: إن رقعته قد وصلت إلينا أنه يأتى بكرة الغد. فتفرّقوا. فبعثت الأموال إلى وجوه الدّولة والقوّاد على يد ابن دوّاس، وبقى الأمر مستمرّا والحال متماسكا إلى عاشر ذى الحجة من السنة، فجرى بين العساكر وبين ستّ الملك كلام كثير أوجب أنها أخرجت إليهم ولده أبا الحسن عليّا فى يوم الأضحى فبايعه الناس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره، هذا ما حكى فى سبب إعدامه.
وأما سيرته وأفعاله وأخباره، فقد قدّمنا منها على حكم السنين ما قدمنا، فلنذكر خلاف ذلك.
قال المؤرخ: كان الحاكم سيئ الاعتقاد، كثير التنقّل من حال إلى حال. كان فى ابتداء أمره يلبس الثّياب الفاخرة والمذهبة، والعمائم المنظومة بالجوهر النّفيس، ويركب فى السّروج المحلّاة، ثم ترك ذلك على تدريج أن ينتقل منه إلى لباس المعلم غير المذهب، ثم لباس الساذج؛ ثم زاد به الأمر حتى لبس الصّوف والشواشى وركب الحمير، وأظهر الزّهد، وكثر استطلاعه على أخبار النّاس، فلم يخف عليه خبر رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيّته وكان يأخذ بيسير الذّنوب، ولا يملك نفسه عند غضبه؛ أفنى خلقا كثيرا، وأقام هيبة عظيمة. وكان مع طعيانه المستمرّ وفتكه، وسفكه للدّماء، وظلمه، يركب وحده تارة وفى الموكب أخرى، وفى المدينة طورا وفى البرّيّة آونة، والنّاس كافّة على غاية الهيبة له والخوف منه، وهو بينهم كالأسد(28/196)
الضارى «1» ثم عنّ له أن يدّعى الإلهية، ويصرّح بالحلول والتّناسخ، ويحمل النّاس عليه. وألزم النّاس أن يسجدوا له مدة إذا ذكر؛ فلم يذكر فى محفل أو غيره إلّا سجد من سمع بذكره، وقبّل الأرض إجلالا له [59] . ثم لم يرضه ذلك «2» فلمّا كان فى شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن ابن حيدرة الفرغانى الأخرم يرى حلول الإله فى الحاكم ويدعو إلى ذلك، ويتكلّم فى إبطال النّبوّة «3» ، ويتأوّل جميع ما وردت به الشريعة «4» . فاستدعاه الحاكم [وقد كثر تبعه] «5» وخلع عليه خلعا سنيّة، وحمله على فرس بسرجه ولجامه، وركّبه فى موكبه [وذلك] «6» فى ثانى شهر رمضان منها.
فبينما هو يسير فى الموكب فى بعض الأيام تقدّم إليه رجل من الكرخ [وهو على جسر طريق المقس] «7» فألقاه عن فرسه، ووالى الضّرب عليه حتى قتله [وارتج الموكب] «8» ، وأمسك الكرخى فأمر الحاكم بقتله، فقتل لوقته ونهب الناس دار الأخرم فى القاهرة. وكان بين الخلع عليه وقتله ثمانية أيام «9» .
ثم ظهر رجل من دعاته فى سنة عشر وأربعمائة يقال له حمزة اللباد، أعجمى من الزّوزن، ولازم الجلوس فى المسجد الذى عند سقاية ريدان خارج باب(28/197)
النصر، وأظهر الدعاء إلى عبادة الحاكم وأنّ الإله حلّ فيه. واجتمع إليه جماعة من غلاة الإسماعيليّة، وتلقّب بهادى المستجيبين. وكان الحاكم إذا ركب إلى تلك الجهة خرج إليه من المسجد وانفرد به وحادثه، وتمادى على ذلك وارتفع شأنه؛ واتّخذ لنفسه خواصّ لقّبهم بألقاب، منهم رجل لقّبه بسفير القدرة وجعله رسولا له، وكان يرسله لأخذ البيعة على الرؤساء على اعتقاده فى الحاكم، فلم يمكنهم مخالفته خوفا على نفوسهم من بطشه «1» .
ثم نبغ شابّ من مولّدى الأتراك اسمه أنوشتكين النجارى «2» ، ويعرف بالدّرزى، فسلك طريق الزّوزنى وكثرت أتباعه. وكان الحاكم أيضا يقف معه ويخلو به؛ وسمّى نفسه سند الهادى «3» وحياة المستجيبين. واستمر الأمر على ذلك إلى الثّانى عشر من صفر، سنة إحدى عشرة «4» وأربعمائة، فاجتمع جماعة من أصحاب حمزة الزّوزنى على خيول وبغال، ودخلوا الجامع العتيق ركبانا وهم يعلنون بمذهبهم، وجاء ثلاثة منهم إلى الموضع الذى يجلس فيه قاضى القضاة، والمتحاكمون جلوس، ينتظرونه، فتكلّموا بكلام أنكره الناس وضجّوا بالتكبير والتهليل والثناء على الله عزّ وجلّ، واجتمع أهل مصر بالجامع من كلّ جهة، ومضى بعض الناس للقاء القاضى فلقوه وعرّفوه ما جرى، فجاء إلى المجلس، فتقدّم إليه أحد الثّلاثة فناوله رقعة من الزوزنى «5» فى أولها: «بسم الحاكم الله الرّحمن الرّحيم» يأمره فيها بالاعتراف(28/198)
بإلهيّة الحاكم. فلم يجبه القاضى بشىء سوى أن قال حتى أدخل إلى حضرة مولانا. فطاوله الكلام، فقتله العوامّ وقتلوا رفيقيه والجماعة الّذين بالجامع أبرح قتل. ووثب العوامّ على قوم كانوا يعرفونهم بهذا المعتقد فقتلوا من وجدوه منهم وحرّقوهم «1» .
فلمّا اتّصل ذلك بالحاكم أمر بعزل أصحاب الشّرط وولّى غيرهم، وأمرهم بطلب من اعتدى على أصحاب الزّوزنى، فقبضوا على جماعة منهم يناهزون الأربعين، فقتلوا فى أوقات متعدّدة. واجتمع الأتراك وقصدوا دار الزّوزنى فغلّقها عليه وعلى من عنده، وقاتلهم من أعلاها، فهدموها ونهبوا ما فيها، وقتلوا نحوا من الأربعين رجلا ممّن كان معه فيها. وفرّ الزّوزنى فلم يقدر عليه، ودخل إلى القصر، فأخفاه الحاكم فيه. فاجتمع الأتراك ولبسوا سلاحهم وطلبوه من الحاكم، فوعدهم بتسليمه لهم، فانصرفوا. ثمّ ركبوا فى اليوم الثّانى وطلبوه منه، فخرج جوابه لهم أنّه قتل؛ فرجعوا إلى ريدان فى طلب الزّوزنى فلم يجدوه. وأظهر الحاكم الغضب على كافّة الجند طول شهر ربيع الأول، ثم رضى عنهم فى الرّابع من شهر ربيع الآخر.
وتحقق [الحاكم] «2» أنّ أوّل من جرّأ عليه العسكر وحملهم على قتل دعاته أهل مصر، فأمهلهم حتّى دخل جمادى الآخر، ثم ابتدأ فى التّدبير عليهم.
فأوّل ما عمل أن سلّط عليهم الرّجّالة ومقدّمى السّودان وغيرهم، وقرّر(28/199)
معهم أن ينزلوا إلى مصر على هيئة المناسر «1» ، فيكبسون الحمّامات ومنازل أهل مصر؛ فكانوا يفعلون ذلك نهارا. وتكرّر ذلك منهم، فاجتمع النّاس ووقفوا للحاكم وسألوه أن يكفّ عنهم أيديهم، فما أجابهم بجواب فتزايد بهم الضّرر إلى أن بقيت الرّجّالة تكبس مساكنهم ويأخذون ما فيها، ويعرّونهم فى الطّرقات، ويفتحون دكاكين البزّازين وغيرهم، وينهبون ما فيها ويحرقون أبوابها بعد ذلك، والنّاس يستغيثون فلا يغاثون. ثم نزل بعد ذلك جمع كثير بعد أن غلّقت الدّروب، وكانت بقيت تغلق قبل الغروب، وتخلّلوا البلدان، وفتحوا ما وراء الجامع من النّحاسين والأبزاريين «2» والسّكريّين ودار الشّمع، وغير ذلك مما يقرب من هذه الأسواق، وأخذوا ما أرادوا منها، وأفسدوا بقيّة ما فيها؛ فكانوا يخلطون العقاقير والأصناف بعضها ببعض، والمياه المختلفة بالزّيت؛ ويفسدون ما لا يمكنهم حمله. وطرحوا النّار فى أبواب القياسر «3» المجاورة للجامع بعد ذلك، فأخذ النّاس فى الانتقال إلى القاهرة، وضجّوا بالابتهال إلى الله تعالى فى كشف ما بهم من «4» البلاء.
قال: وكان الحاكم قبل ذلك قد ضيّق على النّصارى واليهود كما [60] قدمناه، وأمرهم بالتّظاهر بالإسلام؛ فأسلم بعضهم وهرب بعضهم إلى بلاد الروم؛ وهدم جميع الكنائس. فلمّا كان فى شهر جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وأربعمائة، أذن لهم بالرّجوع إلى دينهم، فارتدّوا، وأذن لهم(28/200)
ببناء الكنائس فأعادوها. فاشتدّ غضب العسكر وحنقهم، فاجتمع الأتراك والكتاميّون وتحالفوا على قتل الرّجّالة الّذين فعلوا بالمصريين ما فعلوا، فوقع القتال بينهم، فقتل الرّجّالة أبرح قتل، ورأى أهل مصر فيهم وفى حرمهم ومنازلهم ما أسلاهم «1» عما جرى عليهم.
وتمادى الحال على ذلك والحرب قائمة بينهما، والحاكم على حاله فى ركوبه وهيبته، فإذا بلغه ركوبهم للحرب تركهم تارة وجاء أخرى، فإذا رأوه تفرّقوا لهيبته. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن فقد الحاكم فى التّاريخ الّذى ذكرناه.
ذكر مولد الحاكم ومدّة عمره وملكه وأولاده وكتّابه ووسائطه وقضاته ونقش خاتمه
كان مولده بالقاهرة فى يوم الخميس لستّ بقين من شهر ربيع الآخر «2» ، سنة خمس وسبعين وثلاثمائة. فكانت مدّة عمره ستّا وثلاثين سنة وستة أشهر ويومين؛ ومدّة ولايته خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا إلّا ثلاثة أيام إلى يوم ركوبه الذى عدم فيه.
أولاده: أبو الحسن على، وهو الظاهر أبو الأشبال الحارث؛ مات فى حياته لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربعمائة.
كتّابه ووسائطه: أمين الدّولة أبو محمد الحسن بن عمّار «3» ، ثم الأستاذ(28/201)
برجوان «1» الخصىّ إلى أن قتل؛ ثم استقل الحاكم بالأمر وولّى من ذكرناهم وغيرهم. وكتب له أبو العلاء فهد بن إبراهيم النّصرانىّ.
قضاته: أبو عبد الله محمّد «2» بن النّعمان إلى أن توفّى فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة؛ وأقام النّاس بغير قاض تسعة عشر يوما؛ ثم ولّى أبا عبد الله الحسن «3» ابن علىّ بن النّعمان إلى أن صرفه فى شهر رمضان سنة أربع وتسعين؛ وولّى أبا القاسم عبد العزيز «4» بن محمّد بن النّعمان ثم صرفه فى شهر رجب سنة ثمان وتسعين؛ وولّى مالك «5» بن سعيد إلى أن قتله فى سنة خمس وأربعمائة، لأربع بقين من شهر ربيع الآخر. وأقام النّاس بغير قاض إلى أن ولّى أبا العبّاس أحمد «6» بن محمّد بن عبد الله بن أبى العوام فى يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة منها إلى آخر وقت.
نقش حاتمه: بنصر العلىّ الولىّ ينتصر الإمام أبو علىّ «7» .
ذكر بيعة الظّاهر لإعزاز دين الله
هو أبو هاشم، وقيل أبو الحسن، علىّ بن الحاكم؛ وهو السّابع من ملوك الدولة العبيديّة. بويع له بعد أن نحقّق الناس عدم الحاكم بأمر الله فى(28/202)
يوم الأضحى من سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وأقام النّاس منذ فقد الحاكم فى سابع عشر شوّال منها إلى هذا التّاريخ بغير خليفة، وستّ الملك، ابنة العزيز وأخت الحاكم، تدبّر أحوال الدّولة، وتسكّن الجيوش، وتفرّق الأموال على يد الأمير سيف الدّين الحسين بن دوّاس. ثمّ جرى بينهما وبين العساكر كلام كثير أوجب أنها أخرجت إليهم أبا هاشم هذا وقت الظّهر من يوم الأضحى، فبايعه النّاس وازدحموا عليه، فركب تحت الأرض فى السّرداب إلى قصر الذّهب، وخرج من بابه إلى باب العيد، فأجلسته وقالت: هذا خليفتكم. فلما رآه ابن دوّاس قبّل الأرض، وسلّم عليه بالخلافة، فبايعه الأمراء والأجناد، ولقّب الظّاهر لإعزاز دين الله «1» وكتبت الكتب لسائر الأعمال بأخذ البيعة؛ وجمعت ستّ الملك الأجناد وأحسنت إليهم، ورتّبت الأمور أحسن ترتيب، وعدلت عن ولىّ العهد إلياس «2» بن داوود بن المهدىّ وجىء به فبايع والسّيف على رأسه، وحبس، وكان آخر العهد به. وكان يشار بالخلافة إلى عبد الرحيم بن إلياس ابن أحمد بن المهدىّ، فأدخل عليه الشّهود وهو يتشحّط «3» فى دمه فأشهدهم أنه فعل ذلك بنفسه، ثم قضى نحبه. وقام ابن دوّاس بتدبير الدّولة هو والعزيز عمار بن محمد؛ وكانا لا يصدران إلّا عن رأى ستّ الملك عمة الظاهر.(28/203)
ذكر مقتل الحسين بن دوّاس
قال: لمّا استقرّ أمر الظّاهر لإعزاز دين الله وسكنت الأحوال خرج من القصر خصىّ وبيده سيف مجرّد، واستدعى وجوه الدّولة، والوزير فى دسته والحسين بن دوّاس قائد القوّاد إلى جانبه. فقال الخصىّ أمر مولانا أن يقتل بهذا السّيف [61] قاتل مولانا الحاكم، فنادوا السّمع والطاعة فصبّه على ابن دوّاس فقتله، ولم يختلف اثنان «1» .
وقيل إنه إنما قتل فى شهر رجب سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. والله أعلم.
وباشرت السيّدة ستّ الملك للأمور بنفسها وقامت هيبتها عند الناس.
وفى ثالث عشر ذى الحجّة من السّنة، فى اليوم الرابع من بيعة الظّاهر، قرئ سجل لأصحاب الأخبار أنّهم لا يرفعون ما لا فائدة فيه ممّا كان ينهى إلى الحاكم.
وفى يوم الاثنين سابع عشر ذى الحجّة منها ركب القاضى عبد العزيز بن النّعمان ومعه جماعة وتوجّهوا نحو الجبل لافتقاد الحاكم وعادوا.
وفى يوم الخميس لعشرين منه أقيمت المآتم فى القصر وسمع الصّراخ واتّصل، وارتجّ البلد فى تلك اللّيلة بالصّراخ إلى أن مضى وقت كثير من اللّيل، وأصبح النّاس على وجل، وأغلقت أبواب القاهرة.
وفى المحرّم سنة ثنتى عشرة وأربعمائة سومح بمكس الفقاع. وكان مبلغه فى الشهر سبعمائة دينار.(28/204)
وفى حادى عشر ذى القعدة، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، توفّيت ستّ الملك ابنة العزيز؛ وكان مولدها فى ذى القعدة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببلاد المغرب، وكانت من الدّهاة.
وفى سنة أربع عشرة وأربعمائة ظهر ببلاد الفيوم بركة ينصبّ إليها الماء، فاستخرج منها سمك بلطىّ، ومقدارها أربعة آلاف فدان.
وفى شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة ورد الخبر بإقامة الدّعوة الظاهرية بالموصل والبصرة والكوفة وأعمال الشرق.
وفيها وردت الأخبار أن سنان بن صمصام الدّولة وصالح «1» بن مرداس جمعا العساكر وحشدا «2» العربان لحصار دمشق، وأنّهم حاصروها وقطعوا أشجارها، وقتلوا فلّاحى الضّياع. وتقرّر الحال أن يقاتل العوام يوما وعسكر السّلطان يوما؛ واتّصلت الحرب بينهم وقتل جمع عظيم. وحاصر صالح بن مرداس حلب؛ واضطربت أحوال الشّام بأسره، وتغلّبت الحرب عليه.
وطلب سنان من أهل دمشق ثلاثين ألف دينار ويرتحل عنهم، فأجابه أهل البلد لذلك، فمنعهم الشّريف ابن الحسن وأشار بنفقتها فى عيّارى البلد، فأنفقوها «3» وقاتلوا قتالا شديدا، فقتل من العرب جمع كثير. وطلب العرب الصّلح فأجيبوا إليه، ثم عادوا إليها فى الوقت برأى ابن الجرّاح ...
ووصل الخبر من جهة بنى قرة، عرب البحيرة، أنهم أقاموا عليهم إنسانا(28/205)
ببرقة ولقّبوه بأمير المؤمنين.
وفى الحادى والعشرين من ذى الحجّة سنة خمس عشرة وأربعمائة اجتمع من العبيد ألف عبد عند سفح المقطّم وقصدوا نهب مصر، فأركب الظّاهر لإعزاز دين الله من حفظها، وأمر أهل مصر بقتل من ظفروا به منهم، ونهبوا فى اليوم الثانى أطراف مصر، فقاتلهم النّاس فانهزموا.
وفى سنة سبع عشرة وأربعمائة جرّد الظّاهر أمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى «1» من مصر بعساكر كثيرة لدفع العرب «2» عن الشّام، وخرج الظّاهر لتوديعه. وسار فى سبعة آلاف فارس غير العرب، وعيّد عيد الأضحى فى الرّملة، وجمع العساكر. فلما بلغ حسّان بن مفرّج «3» خروجه بعث إلى صالح بن مرداس «4» فأتاه من حلب فى بنى كلاب. ووقعت الحرب بينهم بالأقحوانة «5» من عمل طبريّة يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة عشرين وأربعمائة. فطعن صالح بن مرداس، فسقط عن فرسه، فقتل، وحمل رأسه إلى أمير الجيوش. فعندها انهزم حسّان. وقتل من أصحابهم مقتلة عظيمة، وهرب أصحاب صالح إلى بعلبك وحمص وصيدا وحصن عكّار «6» . واستولى نصر بن صالح وأخوه ثمال على حلب وأعمالها(28/206)
وبالس «1» ، ومنبج «2» . وسار الدّزبرى حتى أتى دمشق، ثم إلى حلب، فظفر بشبل الدّولة»
نصر بن صالح فقتله. ثم عاد إلى دمشق فأقام بها وعلت منزلته.
ذكر وفاة الظاهر لإعزاز دين الله على ابن الحاكم بأمر الله وشىء من أخباره
كانت وفاته فى ليلة الأحد النّصف من شعبان المكرّم من شهور سنة سبع وعشرين وأربعمائة ببستان الدكة بالمقس «4» ، فركب الوزير صفىّ الدين أبو القاسم على الجرجرائى «5» إلى البستان، وحمل الظّاهر منه إلى القصر.
وكان مولد الظّاهر فى يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان المعظّم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. وكانت مدّة عمره إحدى وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيّام، ومدة ملكه خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وستّة(28/207)
أيام. وكان أجمل النّاس صورة. وتولّى غسله قاضى القضاة عبد الحاكم، ومعه ظاهر بن عبد الخالق بن أحمد ابن المهدى شيخ القرافة؛ وصلّى عليه قاضى القضاة وأخذ سلبه. قال واستمرّت النّوائح تنحن عليه مدّة شهر.
وكان كريما مشتغلا [62] بلذّاته معوّلا على وزيره.
ولده أبو تميم معدّ المستنصر بالله، وهو الّذى ولى الأمر من بعده على ما نذكره.
وزراؤه ووسائطه: أبو الحسين عمّار «1» بن محمد، أحد وسائط أبيه الحاكم بأمر الله، إلى أن زال أمره فى ذى القعدة سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، ثم قتل؛ وتولّى الوساطة أبو الفتوح موسى «2» بن الحسن، وذلك فى المحرّم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، إلى أن قبض عليه فى العشرين من شوّال وقيل صبيحته؛ وتولى الوساطة أبو الفتح مسعود «3» بن ظاهر الوزّان إلى أن عزل؛ وتولّى الوزارة عميد الدّولة أبو محمد «4» الحسن ابن صالح الروذبارى، أحد وسائط الحاكم بأمر الله؛ ثم عزل فى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة بالوزير أبى القاسم على «5» بن أحمد الجرجرائى إلى آخر المدّة، ولقب بالوزير الأجلّ الأوحد صفىّ الدّين؛ وكان أقطع اليدين؛ وتمكّن من الظاهر تمكّنا عظيما.
حكى من تمكّنه أنّه كان بينه وبين خليل الدولة بن العدّاس عداوة، فاتّفق(28/208)
أن خليل الدّولة سأل الظّاهر لإعزاز دين الله أن يشرّفه بزيارته ببركة الحبش فأجابه الظّاهر إلى ذلك وحضر عنده، فاغتنم ابن العدّاس الفرصة وجعل يذكر للظاهر مثالب الوزير. فسدّ الظّاهر مسامعه وقال لابن العداس: إنّى وإن رعيت حقّ تشريفى إياك بزيارتى فما أترك حقّ من أرتضيه لوزارتى، ولا بدّ أذكر له طرفا من ذلك، فاذكر خيرا لأحكيه له. فرجع عن ذكر مثالبه وأثنى عليه، فذكر الظّاهر للوزير عنه خيرا، فكان ذلك سبب الصّلح بينهما. وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبار الوزير الجرجرائى مستوفاة عند ذكر وفاته فى سنة ستّ وثلاثين فى أخبار المستنصر.
ذكر بيعة المستنصر بالله
هو أبو تميم معدّ «1» ؛ بن الظّاهر لإعزاز دين الله أبى هاشم علىّ. بن الحاكم بأمر الله أبى علىّ المنصور، بن العزيز بالله أبى المنصور نزار، بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، بن القائم بأمر الله أبى القاسم محمّد، بن المهدىّ عبيد الله.
وهو الثّامن من ملوك الدّولة العبيديّة وهو الخامس من ملوك مصر والشّام منهم.(28/209)
بويع له صبيحة يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان «1» سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وذلك أنّ الوزير الجرجرائى أحضر وجوه القبائل من الكتاميين، وغيرهم من الأتراك، فلمّا اجتمعوا قال لهم: مولانا ضعيف والآجال بيد الله سبحانه، فإن قضى الله بانتقاله ما تقولون فى ولده الأمير معدّ؟ قالوا: الذى يقوله الوزير نحن به راضون، وله سامعون. فلمّا رتّب هذا الأمر استدعى الوزير، فنهض قائما ودخل إلى قاعة من قاعات القصر، ثم أحضر الجماعة، فوجدوا الأمير معدّا على سرير الملك وعليه التاج؛ فقال: هذا مولاكم، سلّموا عليه بالخلافة. فسلّموا عليه وانصرفوا؛ ولقّب المستنصر بالله، وكان عمره إذ ذاك سبع سنين.
فلمّا كان فى صبيحة يوم مبايعته، وهو يوم الخميس، وقف الكتاميّون وعبيد الشّراء «2» وغيرهم بباب القصر، وأغلظوا فى الكلام وطلبوا أرزاقهم واستحقاقاتهم من الوزير، فقال: أنا كنت وزير الظّاهر لإعزاز دين الله وقد توفّى، وأنا أحمل إليكم جميع ما فى دارى. وأصبح حمل جميع ما فى داره إلى القصر، فغضب له الأتراك، وأعادوا ما أحضره إلى مكانه. وتقرّر اجتماعه يوم السّبت، فاجتمع الأتراك والدّيلم وعليهم السّلاح، وجاء الكتاميّون، فلما اجتمعوا بباب القصر خرج إليهم [أحد] «3» الخدم وقال:
ليدخل من كلّ طائفة عشرة أنفس، فدخل جماعة، فقال لهم الوزير:(28/210)
مولانا يقرئكم السّلام ويقول لكم: إذا كان مستهلّ شهر رمضان أمر بالنّفقة فيكم. فانصرفوا، وجلس قاضى القضاة عبد الحاكم يحلّف النّاس للمستنصر بالله. فلمّا استهلّ شهر رمضان أنفق فى الاشراف والكتاميّين والعرب والدّيلم وغيرهم لكلّ واحد منهم ثلث رزقه، فلم يرضوا بذلك.
ودامت النّفقة إلى العشر الأوسط من شوّال فتحالف الكتاميون والأتراك أن يكونوا عصبة واحدة فى طلب واجباتهم. واجتمعوا بباب القصر، فخرج إليهم الأمير أن احضروا بكرة الغد، فحضروا، وركب المستنصر إلى أن بلغ باب البحر «1» ، فرموه بالحجارة وصاحوا عليه، ورماه أحد العبيد بحربة فلم يصبه، فرمى نفسه عن دابّته ودخل من باب البحر إلى القصر. وانصرف النّاس، وعادوا بكرة نهار الغد، فدخل من كلّ طائفة مائة نفر، ووقع كلام كثير، وتقرّر فى آخر الأمر أن يحضروا [63] البغاة منهم، وخرجوا على مثل ذلك؛ ثم عادوا بعد ذلك وتنصّلوا من ذنوبهم. وسكّن الوزير جميع الطّوائف، واختلف بنو قرّة مع كتامة بالجيزة، فأخرج الوزير عسكرا فأصلح بينهم، واستقرّت الأمور.
وركب المستنصر فى مستهلّ المحرّم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة من باب العيد «2» إلى باب الذّهب «3» ؛ ومشى النّاس كافّة بين يديه، والوزير راكب(28/211)
خلفه. وتفرّق النّاس، ودخل الوزير إلى مكانه، فدخل عليه جماعة من الأتراك الصّغار وطلبوا أرزاقهم وأغلظوا له فى القول، وقصدوا قتله؛ فدخل بعض الأمراء الكبار فخلّصه منهم.
ذكر عود حلب إلى ملك ملك الدّيار المصرية
وفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة ملكت حلب على يد أمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى أمير الشام، وذلك بعد أن التقى هو ونصر بن صالح بن مرداس، صاحب حلب، يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة فانهزم عسكر ابن صالح. ثمّ كانت وقعة ثانية، فانهزم ثمال بن صالح وأخوه نصر، فبادر ثمال بدخول البلد، وأخذ من قلعة حلب أموالا وتحفا، واستخلف بها عمّه مقلّد بن كامل بن مرداس، وسار يستنجد بأخواله بنى خفاجة «1» ، فثار العوامّ ونهبوا حلب. ووافى طغان، أحد الأمراء الّذين مع أمير الجيوش، فدخل حلب بموافقة من أهلها. ثمّ وصل أنوشتكين الدّزبرى إليها فى يوم الثّلاثاء لثمان خلون من شهر رمضان، وأقام بها إلى آخر السّنة، ورجع إلى دمشق فى تاسع عشرى «2» الحجّة منها.
ذكر الوحشة الواقعة بين الوزير أبى القاسم الجرجرائى وأمير الجيوش أنوشتكين الدّزبرى
قال المؤرخ: كان ابتداء الوحشة بينهما فى سنة ثلاثين وأربعمائة. وسبب ذلك أن شبيب بن وثّاب النّميرى صاحب الجزيرة توفّى، فقصد أمير(28/212)
الجيوش [أنوشتكين] أن يزوّج ابنته لولد أبى نصر أحمد بن مروان ليكون له عونا على بنى نمير أصحاب الجزيرة؛ وكتب أمير الجيوش إلى مصر يستدعى ابنته، فلم يطلقها الوزير ولا رأى إتمام الزّواج لانضمام ابن مروان إلى الدّولة العبّاسية وتظاهره بموالاتها. وكتب لولاة الشام ألّا يمتثلوا أمر أمير الجيوش.
فوقعت الوحشة بينهما، وأطلق أمير الجيوش لسانه فى الوزير، وسبّه.
ودامت الوحشة إلى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، فصرفه الوزير عن دمشق، واستعمل عليها ناصر الدّولة الحسن بن الحسين بن حمدان. فلمّا علم بذلك أهل دمشق تنكّروا على أميرهم، وحاصروه بقصره ظاهر دمشق، فى سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين، فهرب إلى حلب، وقاسى مشقّة عظيمة فى طريقه، ونهبت أمواله. فلمّا دخل حلب أقام بها ثلاثة أيّام ومرض، فتوفّى يوم الأحد النّصف من جمادى الأولى، ووصل سجلّ إلى ثمال بن صالح بن مرداس بولاية حلب، وذلك قبل وفاة أنوشتكين أمير الجيوش.
ذكر ظهور سكين المشبه بالحاكم وقتله
وفى شهر رجب سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ظهر بالقاهرة رجل يسمى سكين «1» يشبه الحاكم وكان بمصر أقوام يعتقدون أنّ الحاكم حىّ وأنّه غاب لرأى رآه. وهذه الطّائفة باقية إلى وقتنا هذا، ويحلفون فيما بينهم فيقولون:
وحقّ غيبة الحاكم، إلّا أنّهم لا يتظاهرون بذلك لكلّ حد. قال: فلمّا كان فى هذه السّنة ظهر هذا الرّجل، فاجتمع عليه القائلون بغيبة الحاكم(28/213)
وزفّوه إلى القصر، وأدخلوه إيّاه، وقد دهش النّاس، فأدّى الأمر إلى أن حاربهم أولياء الدّولة، وركب الوزير، فأخذوا جميعا وصلبوا أحياء، ورشقوا بالسّهام حتى هلكوا.
ذكر وفاة الوزير صفىّ الدّين أبى القاسم أحمد بن على الجرجرائى وشىء من أخباره
كانت وفاته لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ستّ وثلاثين وأربعمائة، [64] وأوصى أن يدفن فى داره فى المكان الّذى كان يجلس فيه؛ فأخرج وصلّى عليه المستنصر فى الإيوان، وأعيد إلى داره فدفن بها، ثمّ نقل إلى تربته بالقرافة.
وكانت وزارته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما.
وهذه النسبة إلى جرجرايا، قرية من قرى العراق.
قدم إلى مصر هو وأخوه أبو عبد الله محمد، فتنقلت به الحال إلى أن خدم فى الصّعيد، فكثرت فيه المرافعات فى أيام الحاكم، فاعتقله فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعمائة، ثم أمر بقطع يده، فأخرج اليسار عوضا عن اليمين فقطعت؛ فقيل ذلك للحاكم فقال: إنما أنا أمرت بقطع يمينه؛ وأمر بقطع اليمين، فقطعت على باب القصر المعروف بباب البحر، وهو الباب الّذى مقابل دار الحديث الكاملية «1» فى وقتنا هذا. وكان قطّعهما فى ثامن عشر شهر ربيع الآخر منها.(28/214)
قال: ولما قطع الحاكم يديه مضى من وقته وجلس فى ديوانه، فقيل له فى ذلك، فقال: إنّ أمير المؤمنين أدّبنى وما صرفنى. فبلغ الحاكم ذلك، فأمر باستمراره. ثمّ صرفه وولّاه ديوان النفقات «1» فى سنة ستّ وأربعمائة، ثم رتّب أن يكون واسطة فى نظر الدّواوين مع أبى عبيد الله محمد بن العدّاس، فى سنة ثنتى عشرة وأربعمائة. ثم وزر للظّاهر لإعزار دين الله فى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، فاستكتب أبا الفرج البابلى وأبا علىّ الرّئيس.
وكان القاضى أبو عبد الله القضاعى صاحب كتاب الشّهاب يكتب عنه العلامة «2» وهى: «الحمد لله شكرا لنعمه» . وكانت أيامه تسمى الأعراس لطيبها. وضبط الأمور أحسن ضبط واستعمل الأمانة التامة، وتمكن فى الدّولة الظّاهرية، على ما قدّمناه.
قال: وهجاه جماعة من الشعراء. فمن ذلك قول أبى الحسن علىّ بن عبد العزيز الجلبى المعروف بالفكيك ويعرف بجاسوس الفلك:
يا جرجرائىّ اتئد ... وارفق، ودع عنك التّحامق
أزعمت أنك فى الثّقا ... ة، فهبك فيما قلت صادق
أعلى الأمانة والتّقى ... قطعت يداك من المرافق!
قال: ولمّا مات أوصى أن تفوّض الوزارة بعده لأبى نصر صدقة «3» بن(28/215)
أبى الفضل يوسف ابن على الفلاحىّ، فخلع عليه خلع الوزارة. وكان يهوديّا، ولقّب بالوزير الأجلّ تاج الرئاسة فخر الملك مصطفى أمير المؤمنين، ثمّ أسلم بعد الوزارة.
ذكر مقتل أبى سعيد التّسترى وعزل الوزير وقتله ووزارة ابن الجرجرائى
وفى سنة تسع وثلاثين وأربعمائة قتل أبو سعيد «1» التّسترى اليهودىّ، وكان يتولّى ديوان والدة المستنصر. وذلك أنها كانت جاريته، فأخذها منه الظّاهر واستولدها فولدت المستنصر بالله. فلمّا أفضت الخلافة إلى ولدها فوّضت إليه أمر ديوانها، فعظم أمره وانبسطت كلمته بعد وفاة الجرجرائى الوزير حتّى لم يبق للوزير الفلاحىّ معه إلا اسم الوزارة، فدبّر الفلاحى فى قتله فقتل.
وقيل بل كان السّبب فى قتله أنّ عزيز الدّولة ريحان الخادم كان قد خرج فى هذه السنة إلى بنى قرّة، عرب البحيرة، لما أفسدوا فى البلاد، فظفر بهم وقتل منهم. وعاد إلى القاهرة وقد عظم قدره وزاد إدلاله، فثقل أمره على أبى سعيد.
واستمال المغاربة وزاد فى أرزاقهم ونقص من أرزاق الأتراك ومن ينضاف إليهم. فجرى بين الطّائفتين حرب بباب زويلة.(28/216)
ومرض إثر ذلك عزيز الدّولة ومات فاتّهم أبو سعيد أنّه سمّه. فلما كان فى يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأولى ركب أبو سعيد من داره فى موكب عظيم وتوجّه إلى القصر على عادته، فاعترضه ثلاثة من الغلمان الأتراك واختلطوا فى الموكب وقتلوه. فاجتمعت الطّوائف إلى المستنصر بالله وقالوا:
نحن قتلناه. وقطّع لحمه، فاشترى أهله ما وصلوا إليه من أعضائه، وأحرق ما بقى، وضمّ أهله ما اشتروه منه فى تابوت وغطّوه بستر، وأوقدوا أمام التابوت الشموع ووضعوه فى بيت مفرد. وزرّوا البيت بالسّتور، فوصل لهب النّار إلى بعض السّتور فاحترق، وقويت النّار فأحرقت التّابوت بما فيه.
قال: وكان التّسترى قد زاد أذاه فى حقّ المسلمين حتى كانوا يحلفون:
وحقّ النّعمة على بنى إسرائيل.
ولما قتل ولى مكانه فى نظر ديوان والدة المستنصر بالله أبو محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن اليازورى.
وحقدت والدة المستنصر بالله [65] على الوزير الفلاحىّ وتحقّقت أنّه تسبّب فى قتله، فقبضت عليه وصرفته عن الوزارة فى هذه السّنة، واعتقلته بخزانة البنود «1» ؛ ثم قتل بعد ذلك «أبو منصور صدقة» «2» ودفن بخزانة البنود، وذلك فى سنة أربعين وأربعمائة.(28/217)
ووالد هذا الوزير هو أبو الفضل يوسف بن على الذى هجاه الواسانى «1» بقصيدته المشهورة التى أولها:
يا أهل جيرون هل لسامركم ... إذا استقلّت كواكب الحمل
وقد أوردنا أكثر هذه القصيدة فى الباب الثانى من القسم الثّالث من الفنّ «2» الثانى.
ولمّا قبض عليه ولى الوزارة أبو البركات الحسين «3» بن محمد بن أحمد الجرجرائى، ابن أخى الوزير صفىّ الدّين.
وفى سنة أربعين وأربعمائة صرف ناصر الدّولة الحسن «4» بن حمدان عن ولاية دمشق، وأحضر تحت الحوطة وولى مكانه القائد طارق، ثمّ أطلق ابن حمدان فى سنة إحدى وأربعين.
وفى سنة إحدى وأربعين صرف أبو البركات الحسين بن الجرجرائى عن الوزارة ونفى إلى صور واعتقل بها، ثم أطلق، فسار إلى دمشق. ونظر فى الدّواوين بعده عميد الدّولة أبو الفضل «5» صاعد بن مسعود. ثم فوضت(28/218)
الوزارة لأبى محمد الحسين «1» بن على بن عبد الرحمن اليازورى.
وفى سنة ثلاث وأربعين أظهر المعزّ»
بن باديس الصّنهاجى، صاحب إفريقية، الخلاف على المستنصر بالله؛ وقد ذكرنا سبب ذلك فى أخبار ملوك إفريقية «3» . وكتب المعزّ إلى بغداد، فأجيب عن رسالته على لسان رسول من بغداد، يعرف بأبى غالب الشّيرازى، وسيّر إليه صحبته عهدا بالولاية ولواء أسود وخلعة فاجتاز أبو غالب ببلاد الرّوم فقبض عليه صاحب القسطنطينية «4» وبعثه إلى المستنصر بالله؛ فقدم الرّسول إلى مصر وهو مجرّس «5» على جمل، وحفر بين القصرين حفيرة، وحرق فيها العهد والخلع واللّواء.
وفيها فى ذى القعدة عصى بنو قرّة، عرب البحيرة، على المستنصر بالله.
وكان سبب ذلك أنّ الوزير اليازورى قدّم عليهم رجلا يقال له المقرّب، فنفروا منه واستعفوا منه، فلم يجب الوزير سؤالهم؛ ثم دخلوا على الوزير وطالبوه بواجباتهم، وأغلظوا له فى القول، فتوعّدهم باستئصال شأفتهم.
ففارقوه وأظهروا العصيان، واجتمعوا بالجيزة فى جمع كثير؛ فندب الوزير(28/219)
عسكرا لقتالهم فكسروه، فندب عسكرا ثانيا فهزمهم وقتل منهم قتلى كثيرة.
وحمل إلى الخزانة المستنصرية من أموالهم جملة عظيمة، فهربوا إلى برقة.
وفى سنة ثمان وأربعين بعث المستنصر بالله ووزيره اليازورى خزائن الأموال إلى أبى الحارث «1» أرسلان البساسيرى ليقيم الدّعوة المستنصريّة ببغداد واستنفد ما كان بالقصر من الأموال. وكان من أمر البساسيرى وقيامه، والخطبة للمستنصر هذا ببغداد، ما قدّمناه فى أخبار الدّولة العباسية «2» ولمّا خطب للمستنصر ببغداد فى سنة خمسين وأربعمائة، ورد الخبر إلى مصر بذلك فزيّنت القاهرة.
وكان عند المستنصر مغنّية تغنى بالطّبل «3» ، فدخلت عليه وغنّته فى ذلك اليوم:
يا بنى العبّاس ردّوا «4» ... ملك الأمر معدّ
ملككم ملك معار «5» ... والعوارى تستردّ(28/220)
فقال لها: تمنّى. فقالت: أتمنى الأرض المجاورة للمقسم. فقال: هى لك. فعرفت الأرض بأرض الطبّالة «1» إلى وقتنا هذا.
ذكر القبض على الوزير أبى محمد الحسن «2» بن على ابن عبد الرّحمن اليازورى وقتله وشىء من أخباره
وفى المحرّم سنة خمسين وأربعمائة سعى بالوزير المذكور عند المستنصر بالله أنّه كاتب السّلطان طغرلبك السّلجوقى وحسّن له قصد الدّيار المصريّة، فقبض عليه وجهّزه إلى تنّيس، ثم أمر بقتله، فقتل فى الثانى والعشرين من صفر «3» منها. وكان من أكابر وزراء ملوك هذه الدّولة.
قال المؤرخ: كان والد اليازورى قاضى يازور، وهى قرية من أعمال الرّملة، فلمّا توفّى خلفه ولده الحسين المذكور، ثمّ عزل عنها، فقدم مصر وسعى فى إعادته لحكم يازور، فرأى من قاضى مصر اطّراحا لجانبه، فصحب رفق المستنصرىّ- وكان خصيصا بوالدة المستنصر، فكلّم القاضى فى أن يسمع قوله بمصر ففعل. فلمّا قتل أبو سعيد التّسترى أشار رفق على [66] والدة المستنصر أن يكون اليازورى وزيرها، فرتّبته فى وزارتها، فخافه الوزير أبو البركات الجرجرائى أن يلى الوزارة، فسعى له فى الحكم(28/221)
ليشغله عن الوزارة، فامتنع اليازورى من ذلك، فأشارت عليه والدة المستنصر بقبول الولاية فقبل. ولم تمض إلّا مدّة يسيرة حتى صرف ابن الجرجرائى عن الوزارة وفوّضت الوزارة إلى اليازورى «1» مضافة لما بيده من قضاء القضاة وديوان والدة المستنصر بالله.
قال القاضى أبو الحسين أحمد الأسوانى فى تاريخه: حدّثنى القاضى إبراهيم ابن مسلم الفوّى قال: شهدت خطير الملك، ولد «2» اليازورى الوزير، وكان قد ناب عن والده فى قضاء القضاة والوزارة وغير ذلك، وسار إلى الشام بعساكر عظيمة فأصلح أمره. ورأيته بعد ذلك بمسجد فوّة «3» وهو يخيط للنّاس بالأجرة وهو فى حال شديدة من الفقر والحاجة، فرأيته ذات يوم وهو يطالب رجلا بأجرة خياطة خاطها له، والرّجل يدافعه ويماطله، وهو يلحّ فى الطلب. فلمّا ألح عليه قال له الرجل: يا سيّدنا، اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك فى السّفرة الشامية. فقال:
دع ذكر ما مضى. فسألته عن ذلك فلم يحدّثنى بشىء، وسألت غيره فقال:
الذى ذهب منه فى سفرته فى نفقات سماطه ستّة عشر ألف دينار.
قال المؤرخ: وكان اليازورى سيئ التّدبير، أوجب سوء تدبيره خروج إفريقية وحلب عن المستنصر بالله.(28/222)
قال: ولما قبض على اليازورى ولى الوزارة بعده صاحبه أبو الفرج عبد الله «1» بن محمد البابلى، وكان خصيصا به، فلما ولى الوزارة بعده سعى فى قتله كلّ السّعى، ويقال إنّه جهّز إليه من قتله بغير أمر المستنصر، فلما اطّلع على ذلك عظم عليه. وعزل البابلى فى شهر ربيع الأوّل منها. واستوزر أبا الفرج محمد «2» بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين المغربى، ثم صرفه فى شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأعيد البابلى.
وفى سنة خمسين وأربعمائة استعمل ناصر الدّولة بن حمدان على ولاية دمشق.
وفى سنة ثلاث وخمسين، فى المحرّم، صرف البابلىّ عن الوزارة ووليها عبد الله «3» بن يحيى بن المدبّر، ثم صرف فى بقية السنة وولى أبو محمد عبد الكريم «4» بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقىّ فى شهر رمضان من السنة؛ فقال أبو الحسن على بن يسر الرحمن بن بشر الصقلى يخاطب ابن المدبر:
لا تجزعنّ عن الأمور إذا التوت ... وابشر بلطف مسبّب الأسباب
ما كنت إلّا السّيف، جرّد ماضيا ... وأقرّ مذخورا ليوم ضراب
لله سيرتك الّتى ما سرتها ... إلا بأقوم سنّة وكتاب
شيّدت للوزراء يا ابن مدبّر ... شرفا لهم يبقى على الأعقاب
وجمعت بين طهارة الأعراق، وال ... أخلاق، والأفعال، والأثواب(28/223)
جعل الإله لكلّ قوم سادة ... وبنو المدبّر سادة الكتّاب
وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة فى المحرم توفّى الوزير أبو محمد عبد الكريم، فردّت الوزارة إلى أخيه أبى على أحمد «1» بن عبد الحاكم، وكان يلى قضاء القضاة؛ وصرف عن الحكم فى صفر، ثم صرف عن الوزارة، وقيل إنه صرف عنها بعد سبعة عشر يوما من ولايته. وأعيد البابلى مرة ثالثة فى شهر ربيع الأول من السنة، واستعفى بعد خمسة أشهر، فاستوزر المستنصر سديد الدّولة أبا عبد الله الحسين «2» بن على الماسكى، وكان يلى نظر الدّواوين بدمشق، ثم صرف فى شوال وأعيد البابلىّ.
ذكر الفتنة الواقعة التى أوجبت خراب الديار المصرية
كان ابتداء هذه الفتنة فى سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وسببها أنّ المستنصر بالله كان فى كلّ سنة يركب على النّجب ومعه النّساء والخمر «3» إلى المكان المعروف بجبّ عميرة «4» ، وهو موضع نزهة. ويذكر أنّه خرج يريد(28/224)
الحجّ، على سبيل الاستهزاء والتهكّم، ومعه الخمر فى الرّوايا بدلا عن الماء، يسقيه للنّاس كما يسقى الماء فى طريق مكّة [67] ، شرّفها الله تعالى. فلمّا كان فى هذه السّنة خرج على عادته فى جمادى الآخرة؛ فاتّفق أن بعض الأتراك جرّد سيفا على سكر منه على بعض عبيد الشّراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد وقتلوه، فجاء الاتراك إلى المستنصر وقالوا: إن كان هذا عن رضاك فالسّمع والطاعة، وإنّ كان عن غير رضاك فلا نصبر عليه. فأنكر المستنصر ذلك؛ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد قتال شديد على كوم شريك «1» . وكانت والدة المستنصر تعين العبيد بالأموال والسّلاح، فاطّلع بعض الأتراك على ذلك، فجمع طائفة كثيرة من الأتراك ودخل على المستنصر بهم، وأغلظوا له فى الكلام؛ فحلف أنّه لم يكن عنده علم من ذلك. ودخل على والدته وأنكر عليها؛ وصار السّيف بين الطّائفتين. ثمّ سعى أبو الفرج بن المغربى، الّذى كان يلى الوزارة، وجماعة معه، فى الصّلح بين الطّائفتين، فاصطلحوا؛ ولم تصف طائفة منهم للأخرى.
ثمّ اجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرا دمنهور «2» فى جمع كثير.
وكان سبب كسرتهم أنّ والدة المستنصر لمّا قتل سيدها ووزيرها أبو سعيد التّسترى اليهودىّ غضبت لقتله، وشرعت فى شراء العبيد السّودان واستكثرت منهم، وجعلتهم طائفة لها؛ فاشتدّ أمرهم إلى أن صار العبد منهم يحكم(28/225)
حكم الولاة. فلمّا ولى أبو البركات بن الجرجرائى أمرته أن يغرى العبيد بالأتراك، فخاف العاقبة فلم يفعل؛ فصرفته وولّت وزيرها اليازورى وأمرته بذلك، فلم يقبل منها، ودبّر الأمر وساسه إلى أن قتل. ووزر البابلىّ فأمرته بذلك، ففعل، ووقع بين الطائفتين.
قال: فلمّا خرج العبيد إلى شبرا دمنهور قويت شوكة الأتراك وطلبوا الزّيادات فى أرزاقهم إلى أن خلت الخزائن من الأموال وضعفت الدّولة، والعبيد على حال من الضرورة وهم يتزايدون عدّة، فتكامل منهم ما بين فارس وراجل خمسون ألفا.
فبعثت والدة المستنصر لقوّاد العبيد، فى سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وأغرتهم بالأتراك؛ فاجتمعوا ووصلوا إلى الجيزة، فخرج الأتراك لقتالهم، والمقدّم عليهم ناصر الدّولة الحسن «1» بن حمدان، فلقيهم فكسره العبيد ونهبوا عسكره، واشتغلوا بالنّهب، فعطف عليهم ابن حمدان وهزمهم إلى الصّعيد، وعاد إلى القاهرة وقد قويت شوكته.
ثمّ تجمّع العبيد فى الصّعيد فى خمسة عشر ألف فارس وراجل، فقلق الأتراك لذلك قلقا شديدا، وحضر المقدّمون إلى المستنصر ليشكوا ذلك إليه، فأمرت والدته من عندها من العبيد والخدم بالهجوم عليهم «2» وقتل الأتراك، ففعلوا ذلك. وسمع ناصر الدّولة ابن حمدان بالخبر، فركب إلى ظاهر القاهرة واجتمع إليه من بقى من الأتراك ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد المقيمين بمصر والقاهرة، ودامت بين الفريقين أيّاما. فانتصر ناصر(28/226)
الدّولة والأتراك على العبيد، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة؛ ولم يبق منهم بالقاهرة ومصر إلّا القليل.
وبقى العبيد المقيمون بالصّعيد على حالهم. وكان بالإسكندريّة منهم جماعة. فسار ناصر الدّولة إليهم، فسألوا الأمان، فأمّنهم؛ ورتّب بالإسكندرية من يثق به. وانقضت سنة تسع وخمسين فى حربهم.
وقويت شوكة الأتراك فى سنة ستين وأربعمائة، وطمعوا فى المستنصر بالله، وقلّ ناموسه عندهم. وكان مقرّرهم فى كلّ شهر ثمانية وعشرين ألف دينار، فصار فى كلّ شهر أربعمائة ألف دينار. وطالبوا المستنصر بالأموال، فاعتذر أنّه لم يبق عنده شىء منها؛ فطالبوه بذخائره فأخرجها إليهم، وقوّمت بأنجس الأثمان.
وخرج ناصر الدّولة بن حمدان فى جماعة من الأتراك إلى الصّعيد لقتال من فيه من العبيد، وكان قد كثر فسادهم، فالتقوا واقتتلوا، فكانت الهزيمة على ناصر الدّولة والأتراك، فعادوا إلى الجيزة. فاجتمع على ناصر الدّولة من سلم من عسكره، وشغبوا على المستنصر بالله، واتّهموه أنه يمدّ العبيد بالنّفقات سرّا، فحلف لهم على ذلك.
ثمّ خرج الأتراك إلى العبيد وقاتلوهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة ولم ينج منهم إلّا القليل. وزالت دولة العبيد، وعظم أمر ناصر الدّولة بن حمدان.
ذكر الوحشة الواقعة بين ناصر الدّولة والأتراك
وفى سنة إحدى وستين وأربعمائة ابتدأت الوحشة بين ناصر الدّولة بن حمدان وبين الأتراك. وسبب ذلك أنّ ناصر الدّولة قوى واشتدّت شوكته، وانفرد بالأمر دون قوّاد الأتراك، فعظم ذلك عليهم وفسدت نياتهم(28/227)
[68] ، وشكوا ذلك إلى الوزير الخطير «1» ، وقالوا: كلّما خرج من الخزانة مال أخذ ناصر الدّولة أكثره وفرّقه فى حاشيته، ولا يصل إلينا منه إلّا القليل. فقال: ما «2» وصل إلى هذا الأمر وغيره إلا بكم، ولو فارقتموه لم يتمّ له أمر. فاتّفق أمرهم على محاربته وإخراجه من ديار مصر، فاجتمعوا وذكروا ذلك للمستنصر، وسألوه أن يخرجه عنهم؛ فأرسل إليه يأمره بالخروج ويتهدّده إن لم يفعل. ففارق ناصر الدّولة القاهرة وغدا إلى الجيزة، ونهبت دوره ودور حواشيه وأصحابه.
فلمّا جاء الليل دخل ناصر الدّولة، واجتمع بالقائد تاج الملوك شادى، وقبّل رجليه. وسأله أن يعينه على إلدكز «3» والوزير الخطير. قال: وكيف الحيلة فى ذلك؟ قال: تركب أنت وأصحابك وتسير بين القصرين، فإذا أمكنتك الفرصة فاقتلهما. فأجابه إلى ذلك.
وركب شادى من بكرة الغد للتسيير فعلم إلدكز بمراده، فهرب إلى القصر واستجار بالمستنصر فسلم. وأقبل الوزير فى موكبه فقتله شادى، وسيّر إلى ناصر الدّولة يأمره بالحضور؛ فعدّى من الجيزة إلى القاهرة. فأشار إلدكز على المستنصر بالرّكوب، وقال: متى لم تركب هلكت «4» وهلكنا معك. فلبس(28/228)
سلاحه وركب، وتبعه خلق من عامّة النّاس والجند، واصطفّوا للقتال.
فحملت الأتراك على ناصر الدّولة فانهزم، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ومضى لا يلوى على شىء وتبعه بعض أصحابه فالتحق ببنى سنبس بالبحيرة فأقام عندهم وصاهرهم، وتقوّى بهم.
ولما تحقّق ناصر الدّولة ميل المستنصر عنه قصد إبطال دعوته، وكتب إلى السّلطان ألب «1» أرسلان السلجوقى «2» ملك خراسان والعراق يسأله أن يسيّر إليه عسكرا يفتح له مصر ويقيم الدّعوة العبّاسية بها. فتجهز ألب أرسلان من خراسان بعساكره، وكتب إلى صاحب حلب «3» يأمره بقطع دعوة المستنصر وإقامة الدّعوة العباسية، ففعل ذلك، وانقطعت دعوة المستنصر «4» من حلب؛ ثمّ ملكها ألب أرسلان؛ كما ذكرناه فى أخبار الدّولة السلجوقية «5» ؛ ثم ملكت عساكره دمشق «6» .(28/229)
ذكر الحرب بين ناصر الدّولة والأتراك
قال: ولما اتّصل بالمستنصر ما فعله ناصر الدّولة من مكاتبة ألب «1» أرسلان جرّد عسكرا لقتاله من الأتراك، فساروا ثلاث فرق. فأراد أحد المقدّمين أن يلقاه ليكون الظّفر له دون رفيقيه، فتقدّم والتقى بناصر الدّولة، فهزمه ناصر الدّولة وقتل جماعة من أصحابه وأسره. ثمّ التقى العسكر الثّانى ولم يعلموا بما جرى على الأوّل، فهزمهم أقبح هزيمة؛ وهرب العسكر الثّالث.
وقوى ناصر الدّولة بهذا الظّفر، وقطع الميرة عن القاهرة ومصر، ونهب أكثر الوجه البحرى، وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط والوجه البحرى، وخطب للقائم بأمر الله «2» العبّاسى. وعدمت الأقوات بالقاهرة ومصر، واشتدّ الغلاء، وكثر الوباء، وامتدّت أيدى الجند إلى نهب العوامّ.
ذكر الصّلح بين ناصر الدّولة والأتراك
وفى المحرّم سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقع الصّلح بين ناصر الدّولة بن حمدان والأتراك. وسبب ذلك أنّ المستنصر بالله والأتراك اشتدّت بهم الضّائقة لقطع الميرة، فاضطرّوا إلى مصالحته، فصالحوه على أن يكون مقيما بمكانه ويحمل إليه مال قرّره المستنصر، ويكون تاج الملوك شادى نائبا عنه.
فرضى بذلك وسيّر الغلال إلى مصر. ثمّ وقع الخلاف بينهم بعد شهور، فجاء(28/230)
ناصر الدّولة من البحيرة، وعساكر كثيرة، وحاصر مصر فى ذى القعدة من السّنة، ودخل أصحابه فنهبوا شطرا منها، وأحرقوا دور السّاحل؛ ثم عادوا إلى البحيرة. والله أعلم «1» .
ذكر الحرب بين ناصر الدّولة وتاج الملوك شادى وما كان من أمر ناصر الدّولة إلى أن قتل
وفى سنة أربع وستّين وأربعمائة جمع ناصر الدّولة جموعه من العربان وجاء إلى الجيزة، واستدعى إليه تاج الملوك شادى وبعض المقدّمين، فخرجوا للقائه، فقبض عليهم ونهب مصر [69] وأحرقها.
وكان سبب ذلك أنّ شادى كان قد قطع عن ناصر الدّولة ما كان قد تقرّر حمله إليه من المال، ولم يوصّل إليه إلّا اليسير منه. فلمّا قبض عليهم سيّر المستنصر إليه عسكرا كثيفا، فهزموه، فهرب إلى البحيرة وجمع جموعه من العربان وغيرهم، وقطع خطبة المستنصر وأبطل ذكره. ثم قدم ناصر الدّولة فى شعبان من السنة ودخل إلى مصر وحكم بها، وأرسل إلى المستنصر يطلب منه المال؛ فرآه الرّسول وهو جالس على حصير وحوله ثلاث خدم، ولم ير شيئا آخر من آثار المملكة. فلمّا ذكر الرّسول رسالته للمستنصر قال: ما يكفى ناصر الدّولة أن أجلس فى مثل هذا البيت على هذه الحال! فبكى الرّسول، وعاد إلى ناصر الدّولة وذكر له الحال؛ فأطلق ناصر الدّولة للمستنصر بالله فى كلّ شهر مائة دينار، وحكم فى القاهرة، وبالغ فى إهانة المستنصر، وقبض(28/231)
على والدته وعاقبها، وأخذ منها الأموال. وتفرّق عن المستنصر جميع أقاربه وأولاده، ومضوا إلى بلاد المغرب والعراق «1» .
وعمل ناصر الدّولة على إقامة الدّولة العبّاسية. فنهض إلدكز أحد الأمراء، ويلدكوز، واجتمعا بمن بقى من الأتراك، واتّفقوا كلّهم على قتل ناصر الدّولة، وكان قد أمن وترك الاحتراس لقوّته وسطوته، وظنّ أنّ الدّنيا صفت له. فتواعد الأتراك وركبوا إلى داره، فى شهر رجب سنة خمس وستين وأربعمائة، وهو إذ ذاك بمصر بمنازل العزّ «2» ، فدخلوا عليه من غير استئذان إلى أن بلغوا صحن الدّار، فخرج إليهم فى رداء، فقتلوه وأخذوا رأسه. وكان الّذى تولى قتله إلدكز، وقتل أخوه فخر العرب وأخوهما تاج المعالى وجماعة من أهل بيته. وانقطع ذكر آل حمدان، ولم يبق بمصر لهم ذكر «3» .
وناصر الدّولة هذا هو الحسن بن الحسين بن ناصر الدّولة الحسن بن عبد الله بن أبى الهيجاء حمدان بن حمدون.
نرجع إلى حوادث الدّولة المستنصريّة.
وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة ندب أمير الجيوش بدر الجمالى لولاية دمشق على حربها «4» ، وفوّض إليه فى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ولاية(28/232)
الشّام بأسرها «1»
ذكر الغلاء الكائن بالدّيار المصريّة
كان ابتداؤه فى سنة سبع وخمسين وأربعمائة واشتدّ من سنة إحدى وستّين، وقلّت الأقوات فى الأعمال حتّى أكل النّاس الميتة؛ وتزايد فى سنة اثنتين وستّين: وكثر الوباء بالقاهرة ومصر حتّى إنّ الواحد كان يموت فى البيت فيموت فى بقيّة اليوم أو اللّيلة كلّ من بقى فيه. وخرج من القاهرة ومصر جماعة كثيرة إلى الشّام والعراق؛ وأكل بعض النّاس بعضا. ودام ذلك إلى سنة أربع وستّين. وشبّهت هذه السّنين بسنى يوسف عليه السلام.
قال ابن الهمذانى فى تاريخه «2» : وفى سنة اثنتين وستّين وأربعمائة ورد إلى بغداد من مصر الرّجال والنساء هربا من الجوع والفتنة، وأخبروا أنّ بعضهم أكل بعضا. وورد التّجار ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته وذخائره؛ وكان معهم أشياء كثيرة نهبت عند القبض على الطّائع، فى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة؛ وما نهب فى وقعة البساسيرى «3» .
قال: وخرج من خزانة المستنصر بالله أشياء عظيمة، من جملتها ثلاثون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف ثوب ديباج خسروانى «4» ،(28/233)
وأحد عشر ألف «1» درع، وعشرون ألف سيف محلاة، وغير ذلك.
قال المؤرخ: ومن جملة ما بلغ من أمر الغلاء أنّ امرأة كان لها حلى باعت ما يساوى ألف دينار بثلاثمائة دينار واشترت به حنطة، فنهبت منها فى الطّريق، فنهبت مع من نهب، فحصّل لها ما جاء رغيفا واحدا «2» .
وحكى أنّ بعض أهل اليسار وقف بباب القصر وصاح واستصرخ إلى أن أحضر بين يدى المستنصر، فقال له: يا مولانا، هذه سبعون قمحة وقفت علىّ بسبعين دينارا، كلّ قمحة بدينار، فى أيامك؛ وهو أنى اشتريت أردبّ قمح بسبعين دينار، فنهب منّى فنهبت مع من مهب، فوقع فى يدى هذه؛ فكلّ قمحة بدينار. فقال المستنصر الآن فرّج الله عن النّاس فإنّ أيّامى حكم لها أنّ القمحة تباع بدينار «3» .
قالوا: ولم يكن هذا الغلاء عن نقص النّيل، وإنّما كان لاختلاف الكلمة وحروب الأجناد، وتغلّب المتغلّبين على الأعمال. وكان النّيل يزيد ويهبط فى كلّ سنة، ولم يجد من يزرع الأراضى؛ وانقطعت الطّرقات برّا وبحرا إلّا بالخقارة الكثيرة، وأبيع الرّغيف الخبز بأربعة عشر دينارا أو درهما. قال الحوانى: وأبيع الأردبّ القمح بمائتى دينار.
[70] ذكر قدوم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر واستيلائه على الدولة
كان تقدّمه فى سنة ست وستّين وأربعمائة. وسبب ذلك أنّ المستنصر(28/234)
تواترت «1» عليه الرّزايا وحصره ابن حمدان كما ذكرنا فلمّا قتل ابن حمدان استطال إلدكز والأتراك والوزير ابن أبى كدينة «2» ، فضاق المستنصر ذرعا، وكاتب أمير الجيوش بدر الجمالى «3» وحسّن له أن يكون المتولّى لأمر دولته، فأعاد الجواب واشترط أن يستخدم معه عسكرا، وألّا يبقى على أحد من عسكر مصر. فأجابه إلى ذلك. فاستخدم العساكر وركب فى البحر الملح، وكان إذ ذاك بعكّا. وسار فى مائة مركب فى أوّل كانون، وهو وقت لم تجر العادة بركوب البحر فى مثله، فوصل دمياط، وركب منها. وسار إلى أن نزل بظاهر قليوب. وأرسل إلى المستنصر بالله أن يقبض على إلدكز «4» ، فقبض عليه، ودخل أمير الجيوش إلى القاهرة فى شهر ربيع الآخر منها، وقيل فى جمادى الأولى. فما لبث أن بعث كل أمير من أمرائه إلى قائد من قوّاد الدّولة ليلا وأمره أن يأتيه برأسه؛ فأصبح وقد أحضر إليه من رءوس قوّاد الدّولة شىء كثير. وقبض على الأتراك وقويت شوكته، وقمع كلّ مفسد، حتى لم يبق أحد منهم بمصر والقاهرة. وخلع المستنصر «5» بالله على بدر الجمالى بالطّيلسان، وصار أمر المستخدمين فى حكمه، والدّعاة والقضاة نوّابه.
قال: ولمّا قدم مصر حضر إليه المتصدّرون بالجامع، فقرأ ابن(28/235)
العجمى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ»
«1» وسكت عن تمام الآية. فقال له بدر: والله لقد جاءت فى مكانها، وسكوتك عن تمام الآية أحسن «2» ؛ وأحسن إليه. وقيل: بل قال له: لم لا قرأت «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ»
«3» .
وقتل أمير الجيوش من أماثل المصريين ووزرائهم وحكامهم جماعة، وشرع فى إصلاح الأعمال وقتل المفسدين.
وفى سنة ثمان وستّين وأربعمائة خطب للمستنصر بمكّة والمدينة، وكانت الخطبة بهما قد انقطعت منذ خمس «4» سنين.
وفيها حاصر أتسيز «5» دمشق وملكها، على ما ذكرناه فى الباب العاشر من القسم الخامس من هذا الفنّ فى أخبار الدّولة السلجقية. وانقطعت خطبة المستنصر من الشّام.
ذكر هلاك عرب الصعيد وقتل كنز الدولة
وفى سنة تسع وستين وأربعمائة اجتمع جماعة كثيرة من عرب جهينة(28/236)
والجعافرة والثعالبة وغيرهم بمدينة طوخ «1» العليا من صعيد مصر، واتّفقوا على قتال أمير الجيوش، فخرج إليهم. فلمّا قاربهم هجم عليهم فى نصف اللّيل، فهزمهم وأبادهم بالقتل، وغرق خلق كثير منهم، وغنم أموالهم وحملت إلى المستنصر.
وكان كنز الدّولة «2» محمّد قد تغلّب على ثغر أسوان ونواحيها وعظم شأنه وكثرت أتباعه؛ فقاتله أمير الجيوش وقتله، وبنى فى المكان مسجدا سمّاه مسجد النّصر. وكانت هذه الوقعة آخر إصلاح حال مصر وعربانها. وقيل كان قتل كنز الدّولة فى سنة خمس وسبعين والله أعلم.
وفى غيبة أمير الجيوش [هجم] »
أتسيز على الدّيار المصريّة، وكان ابن يلدكوز قد التحق به وأهدى له تحفا جليلة المقدار، منها ستّون حبّة لؤلؤ مدحرج «4» تزيد كلّ حبة على مثقال، وحجر ياقوت زنته سبعة عشر مثقالا، وغير ذلك، وأطمعه فى ملك الدّيار المصريّة، وملك ما وصل إليه. فجمع أمير الجيوش عساكره وخرج إليه، وقاتله وهزمه، وقتل خلقا كثيرا من أصحابه بعد أن أقام بأرياف مصر جماديين وبعض شهر رجب «5»(28/237)
وفيها خرج على أمير الجيوش عرب قيس وسليم وفزارة، فخرج إليهم وقاتلهم، وهزمهم، وطردهم إلى برقة «1» .
وفى سنة سبعين وأربعمائة فوّض لأمير الجيوش بدر الجمالى قضاء القضاة، ونعت بكافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين.
وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة خالف الأوحد بن أمير الجيوش على والده، واجتمع معه جماعة من العربان وغيرهم، واستولى على الإسكندريّة. فسار إليه والده وحاصره بها، وفتحها، وقبض على ولده:
وبنى أمير الجيوش الجامع المعروف بجامع العطّارين بالإسكندرية «2» من أموال أخذها من أهل البلد؛ وكانت عمارته فى شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين. وقامت الخطبة بهذا الجامع إلى آخر أيّام العاضد «3» .
وفى سنة اثنتين وثمانين [71] وأربعمائة ندب أمير الجيوش بدر الجمالى عسكرا إلى السّاحل ففتح صور وصيدا، وصارا بيد نوّابه. ثم سار بعد ذلك وفتح جبيل وعكّا. وكان ذلك فى يد تاج الدولة تتش «4» صاحب دمشق.
ذكر بناء باب زويلة بالقاهرة
وفى سنة خمس وثمانين وأربعمائة أمر أمير الجيوش بدر الجمالى ببناء باب(28/238)
زويلة الكبير، الذى هو الآن باق، وعلّى أرضه «1» ، وأراد أن يجعل له عطفة على عادة أبواب الحصون حتّى لا تهجم عليه العساكر فى أوقات الحصار، ويتعذّر دخولها جملة؛ فأشار عليه بعض المهندسين أن يعمل فى بابه زلّاقة من حجارة الصّوّان، فعمله على هذا الحكم. ولم يزل كذلك إلى أن دخل منه السّلطان الملك الكامل «2» بن الملك العادل، فزلق فرسه، فرسم أن يخفّف من حجارته، فخفّف منها، ولم يبق إلّا القليل على ما هو عليه الآن «3» .
وفى سنة ستّ وثمانين وأربعمائة ملك تاج الدّولة تتش ثغر صور بمواطأة من نائب بدر بها.
ذكر وفاة أمير الجيوش بدر الجمالى وولاية ولده الأفضل
كانت وفاته فى شهر ربيع الأول «4» ، وقيل فى جمادى الأول، سنة سبع وثمانين «5» وأربعمائة. وكان حكمه بديار مصر حكم الملوك ولم يبق للمستنصر بالله أمر، بل سلّم الأمور إليه فضبطها أحسن ضبط. وكان شديد الهيبة،(28/239)
سريع البطش؛ قتل خلقا كثيرا من أكابر المصريّين وقوّادهم وكتّابهم؛ وعلى يديه صلحت الدّيار المصريّة بعد أن خربت. وكان له نحو الثّمانين سنة.
وكان أرمنىّ الجنس مملوكا لجمالىّ الدّولة بن عمار وإليه ينسب. وتولّى إمرة الشّام والسّاحل.
ولما كان يلى دمشق جرت فتنة من عسكره وأحداث البلد خرب بسببها قصر الإمارة والجامع الأموى.
ذكر وفاة المستنصر بالله وشىء من أخباره
قال المؤرخ: ولمّا ولى مصر أطلق الخراج للمزارعين ثلاث سنين إلى أن تمّت أحوالهم واتّسعت أموالهم. وكانت إمارته بمصر إحدى وعشرين سنة.
ولمّا توفى ولى بعده الوزارة ولده الأفضل، ونعت بنعوت أبيه، وقبض على جماعة من الأمراء كانوا قد ثاروا عليه.
كانت وفاته فى ليلة الخميس الثامن عشر من ذى الحجّة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، ومولده فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربعمائة، فكانت مدّة حياته سبعا وستين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام، ومدة ولايته ستّين سنة وأربعة أشهر.
ولقى فى ولايته أهوالا عظيمة وشدائد كثيرة وفاقة متمكّنة حتى جلس على نخّ «1» وكانت أيّامه ما بين غلاء ووباء وفتن، على ما نذكره. وكان قد عتا وتجبّر واشتهر، وذلك أنه اشتهر عنه أنه نصب خركاه فى القصور التى بعين(28/240)
شمس وبنى فسقيّة عظيمة وحمل إليها الخمر فى الرّوايا وأخرج جميع من فى قصره من الملاهى والقيان إلى الخركاة وهم يغنون بأصوات مرتفعة ويستقون من فسقيّة الخمر، ويطوفون بالخركاة، يضاهون بذلك البيت المعظّم وزمزم، ويقول: هذا أطيب من زيارة حجارة، وسماع صوت كريه، وشرب ماء آسن. فآخذه الله تعالى وعجّل العقوبة، وأراه الذّلّ مع قيام سلطانه، وسلّط عليه أنصار دولته حتّى نهبوا أمواله واستولوا على قصره، ولم يبق له إلّا بساط فجذبوه من تحته. وصار إذا ركب لا يجد ما يركبه حامل مظلّته إلّا أن يستعار له بغلة ابن هبة، صاحب ديوان الإنشّاء، وكلّ خواصّه مشاة ليس لهم دواب يركبونها؛ وكانوا إذا مشوا يتساقطون فى الطّرفات من الجوع. وكانت ابنة بابشاذ تبعث إليه برغيفين فى كلّ يوم «1» . وهذه عاقبة الطغيان والاستهتار.
وكان له أولاد منهم: أبو القاسم أحمد، وأبو المنصور نزار، وأبو القاسم محمد، وأبو الحسين جعفر «2» ، وغيرهم.
ووزر له جماعة «3» وهم: أبو القاسم الجرجرائى الأقطع، وزير والده، إلى أن توفّى، فاستوزر من ذكرناهم [72] إلى آخر سنة أربع وخمسين.
وتكرّر بعضهم فى الوزارة مرارا واستوزر ابا غالب عبد الظّاهر بن فضل العجمى غير مرّة، دفعة فى جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وصرف بعد(28/241)
ثلاثة أشهر، ودفعة فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ وخمسين وصرف بعد ثلاثة وأربعين يوما، ثم وليها ثالثة فى أيام الفتنة ولقّب تاج الملوك شادى، وقتل فى سنة خمس وستين. وولى له الحسن بن ثقة الدولة بن أبى كدينة القضاء والوزارة، كلّ منصب منها خمس دفعات، ويقال إنه من ولد عبد الرحمن ابن ملجم قاتل على بن أبى طالب رضى الله عنه. ولمّا وصل أمير الجيوش بدر الجمالى أرسله إلى دمياط وأمر بضرب عنقه، فدخل عليه السيّاف بسيف كليل «1» فضربه عدّة ضربات حتى أبان رأسه، وكان عدّة ما ضربه عدّة ولاياته الحكم والوزارة. وولى أبو المكارم أسعد ثم قتله أمير الجيوش، ووزر بعده أبو على الحسن بن أبى سعد إبراهيم بن سهل التّسترى عشرة أيام ثم استعفى، وكان يهوديا فأسلم، وولى أبو القاسم هبة الله محمد الرعبانى دفعتين كلّ دفعة عشرة أيام. ووزر الأثير أبو الحسن بن الأنبارى أياما وصرف، ووزر أبو على الحسين بن سديد الدولة الماسكى مرة ثانية أيّاما ثم صرف، ووزر أبو شجاع محمد بن الأشرف بن فخر الملك، وفخر الملك هو الذى وزر لبهاء الدولة ابن بويه، فصرف وسار إلى الشّام فقتله أمير الجيوش فى مسيره.
واستوزر أبا الحسن طاهر ابن الوزير الطرابلسى، من طرابلس الشّام، ثم صرفه، وكان أحد الكتّاب بديوان الإنشاء، واستوزر أبا عبد الله محمد بن أبى حامد السيسى يوما واحدا ثم قتل، فاستوزر أبا سعد منصور بن أبى اليمن سورس بن مكرواه بن زنبور. وكان نصرانيّا ثم أسلم، والنصارى ينكرون إسلامه. واستوزر أبا العلاء عبد الغنى بن نصر بن سعيد وصرف وبقى أيّاما وقتله أمير الجيوش. ثم قدم أمير الجيوش بدر الجمالى من عكا ووزر(28/242)
للسّيف والقلم والحكم إلى أن مات، ثم ولده الأفضل بعده «1» .
قضاته: كان منهم جماعة من الوزراء قد ذكرناهم، ومن لم يل الوزارة عبد الحاكم بن سعيد الفارقى فى أوّل خلافته، ثم القاسم بن عبد العزيز بن النعمان. وفى ولاية أمير الجيوش أبو يعلى العرقى إلى أن مات، فولى أبو الفضل القضاعى. ثم جلال الدّولة أبو القاسم على بن أحمد بن عمار، ثم صرفه وولّى أبا الفضل بن عتيق، ثم أبا الحسن على بن يوسف الكحال النابلسى؛ ثم فخر الأحكام محمد بن عبد الحاكم «2» .
وكان نقش خاتم المستنصر بالله «بنصر السّميع العليم ينتصر الإمام أبو تميم» «3»
ذكر بيعة المستعلى بالله
هو أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبى تميم معدّ، وهو التّاسع من ملوك الدّولة العبيديّة، والسادس من ملوك مصر منهم. بويع له فى بكرة نهار الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
وذلك أن المستنصر بالله لما توفى بادر الأفضل أمير الجيوش بدخول القصر وأجلسه على تخت المملكة، وسيّر إلى إخوته نزار وعبد الله وإسماعيل،(28/243)
وأعلمهم بوفاة أبيهم، وأمرهم بسرعة الحضور. فلمّا حضروا شاهدوا أخاهم الصّغير وقد جلس على سرير الخلافة، فامتعضوا من ذلك، فقال لهم الأفضل: تقدّموا وقبّلوا الأرض لله تعالى ولمولانا المستعلى بالله وبايعوه، فهو الذى نصّ عليه الإمام المستنصر بالله قبل وفاته بالخلافة من بعده. فقال نزار: لو قطّعت ما بايعت من هو أصغر منّى سنّا، وخطّ والدى عندى بولاية العهد، وأنا أحضره. وخرج مسرعا ليحضر الخطّ فمضى إلى الإسكندريّة، فسيّر الأفضل خلفه من يحضره، فلم يعلم أحد أين توجّه ولا كيف سلك، فانزعج الأفضل «1» لذلك.
وقيل إنّه لمّا توفى المستنصر بالله جلس بعده ولده أبو منصور نزار، وهو ولىّ العهد وأراد أخذ البيعة لنفسه فامتنع الأفضل أمير الجيوش من ذلك لكراهته فيه «2» واجتمع بجماعة الأمراء والخواصّ وقال لهم: إن هذا كبير السّن ولا نأمنه على نفوسنا، والمصلحة أن نبايع لأخيه الصغير أبى القاسم أحمد. فوافقوه على ذلك إلا محمود بن مصال اللكى «3» ، فإن نزارا كان قد وعده بالوزارة والتّقدمة على الجيوش مكان الأفضل. فلمّا علم ابن مصال الحال أطلع نزارا عليه.
وبادر الأفضل وبايع أحمد الخلافة، ونعته بالمستعلى بالله وأجلسه على(28/244)
سرير الملك، [73] وجلس الأفضل على دكّة الوزارة. وحضر قاضى القضاة نصر الإمام على بن الكحال ومعه الشّهود، وأخذ البيعة على مقدّمى الدّولة ورؤسائها وأعيانها، ثم مضى إلى إسماعيل وعبد الله، وهما بالقصر فى المسجد وعليهما التوكيل، فقال لهما: إن البيعة قد تمّت لمولانا المستعلى بالله، وهو يقرئكما السّلام ويقول لكما: تبايعانى أم لا؟ فقالا: السمع والطاعة؛ إن الله اختاره علينا. وبايعاه، وكتب بذلك سجلّ قرأه على الأمراء الشّريف سناء الملك محمد بن محمد الحسنى الكاتب بديوان الإنشاء. وبادر نزار وأخوه عبد الله ومحمود بن مصال إلى الإسكندرية، وعليها ناصر الدّولة «1» أفتكين التّركى، أحد مماليك أمير الجيوش بدر الجمالى، فعرّفوه الحال ووعدوه بالوزارة، فبايعه، وبايعه أهل الثّغر، ولقّب بالمصطفى لدين الله.
ذكر ما اتّفق لنزار ومن معه
قال: وفى المحرّم سنة ثمان وثمانين وأربعمائة خرج الأفضل أمير الجيوش بعساكره إلى الإسكندرية لقتال نزار وأفتكين وابن مصال. فلمّا قرب منها خرجوا إليه، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الهزيمة على الأفضل ومن معه، فرجع إلى مصر ونهب نزار ومن معه من العرب أكثر بلاد الوجه البحرى.
ثم خرج الأفضل ثانيا وحاصر الإسكندرية، واشتدّ الحصار إلى ذى القعدة. فلمّا اشتد الحال رأى ابن مصال مناما، فلمّا أصبح أحضر رجلا أعجميّا وقال له: رأيت كأنّى راكب فرسا وكأنّ الأفضل يمشى فى ركابى.(28/245)
فقال له العجمىّ: الماشى على الأرض أملك لها. فلمّا سمع منه ذلك جمع أمواله وهرب إلى لكّ قرية من قرى برقة. فعند ذلك ضعفت قوّة نزار وأفتكين، فاضطرّ إلى مسالمة الأفضل [وبعثا] «1» يطلبان الأمان، فأمّنهما وفتحت البلد.
ودخل الأفضل الإسكندرية وقبض على نزار وأفتكين، وسيّرهما إلى مصر، وكان آخر العهد بنزار. قيل إنّه جعله بين حائطين إلى أن مات. وكان مولده فى عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. وأمّا أفتكين فإنه أظهر قتله بعد ذلك للناس. وأمّا محمود بن مصال فكاتبه الأفضل ورغّبه فى العود، فعاد إلى مصر، فأكرمه الأفضل.
وفى سنة تسعين وأربعمائة خطب الملك رضوان «2» صاحب حلب للمستعلى بالله أربع جمع «3» ، ثم قطع خطبته، على ما ذكرناه «4» فى أخبار الدولة السلجقية والله أعلم.
ذكر استيلاء أمير الجيوش على البيت المقدّس
وفى شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة خرج الأفضل أمير الجيوش بعساكره إلى الشام ونزل على البيت المقدس، وهو فى يد الأمير سقمان(28/246)
وإيلغازى، ابنى أرتق «1» ، وجماعة من أقاربهما وخلق كثير من الأتراك.
فراسلهما يلتمس منهما تسليم البيت المقدّس من غير حرب ولا سفك، فلم يجيباه لذلك. فنصب المجانيق وهدم منه قطعة، وقاتل، فاضطرّا لتسليمه فسلّماه له، فخلع عليهما وأطلقهما. وعاد الأفضل إلى مصر «2» .
ونقل محمد بن على بن يوسف بن جلب راغب فى تاريخ مصر أن الأفضل لمّا رجع من بيت المقدس مرّ بعسقلان، وكان فى مكان دارس بها رأس الحسين بن على، رضى الله عنهما، فأخرجه وعطّره وطيّبه، وحمل فى سفط إلى أجلّ دار بها، وعمر المشهد، ولما تكامل حمل الأفضل الرأس على صدره وسعى ماشيا إلى أن ردّه إلى مقره، ثم نقل إلى مصر على ما نذكره إن شاء الله. وقيل إن المشهد [بعسقلان] «3» ابتدأ بعمارته بدر الجمالى وكمّله الأفضل «4» .
ذكر استيلاء الفرنج على ما نذكره من البلاد الإسلامية بالساحل والشام والبيت المقدس
لم يكن جميع ما استولوا عليه مما نذكره داخلا فى ملك الدولة العبيديّة، بل كان منه ما هو فى أيدى نوّاب المستعلى وما هو بيد الملوك الذين تغلّبوا على الأطراف، ولم يكن أيضا فى أيام المستعلى خاصّة. وإنما وردناه بجملته فى(28/247)
هذا الوضع لتكون الأخبار متتابعة ولا تنقطع بالسنين والدول. وقد نبّهنا عليه فيما تقدم من أخبار الدولة العباسية «1» .
والذى نذكره الآن فى هذا الموضع هو ما استولوا عليه [74] من سواحل الشام سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وما بعدها.
وكان ابتداء ظهورهم وامتدادهم وتطرّقهم إلى البلاد الإسلامية فى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وذلك أن بلاد الأندلس «2» لما تقسّم ملوكها بعد بنى أمية وصارت كلّ جهة بيد ملك، وأنفت نفس كل واحد أن ينقاد إلى الآخر، ويدخل تحت طاعته، فكانوا كملوك الطوائف فى زمن الفرس، وعجز كلّ واحد عن مقاومة من يليه أو يقصده من الفرنج، أدى ذلك إلى اختلال الأحوال، وتغلب الأعداء على البلاد الإسلامية. فأول ما استولوا عليه مدينة طليطلة من الأندلس، على ما ذكرناه «3» فى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، ثم ملكوا جزيرة صقليّة فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وتطرّقوا إلى أطراف أفريقية فملكوا منها شيئا ثم استرجع منهم، على ما قدّمناه «4»
ذكر ملكهم مدينة أنطاكيّة
كان استيلاء الفرنج خذلهم الله تعالى، على مدينة أنطاكيّة فى جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. وكانت بيد ملوك الرّوم من سنة ثمان(28/248)
وخمسين وثلاثمائة إلى أن افتتحها الملك سليمان «1» بن شهاب الدين ولد قتلمش السلجقى، صاحب أقصرا وقونية وغير ذلك من بلاد الروم فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة، على ما ذكرناه فى أخبار الدولة السّلجقية «2» ، وبقيت فى يده إلى أن قتل. وتداولتها أيدى المتغلّبين من ملوك الإسلام وأمرائهم إلى أن استقرت بيد ياغى سيان وهو يخطب فيها للملك رضوان ابن تتش صاحب حلب، ولأخيه الملك دقاق صاحب دمشق.
فلمّا كان فى سنة تسعين وأربعمائة جمع بغدوين «3» ملك الفرنج جمعا كثيرا من الفرنج، وكان تسيب رجار «4» الفرنجى صاحب صقلّية، فأرسل إليه بغدوين يقول: قد جمعت جمعا كثيرا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورا لك.
فجمع رجار أصحابه واستشارهم فقالوا كلّهم: هذا جيد لنا ولهم، وتصبح البلاد كلّها للنصرانية. فلمّا سمع رجار كلامهم وما اجتمعوا عليه، رفع رجله وحبق حبقة قوية، وقال: وحقّ دينى هذه خير من كلامكم.
قالوا: وكيف ذلك؟ قال إذا وصلوا إلىّ احتجت إلى كلفة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من جهتى معهم، فإن فتحوا البلاد وكانت(28/249)
لهم وصارت مؤونتهم من صقلّية وينقطع عنى ما يصل إلىّ من المال من ثمن الغلّات فى كل سنة، وإن لم يفتحوها رجعوا إلى بلادى وتأذّيت بهم، ويقول تميم «1» ، صاحب إفريقية غدرت بى ونقضت عهدى، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبين بلاد إفريقية، وإفريقية باقية متى وجدنا قوة أخذناها بها.
ثم أحضر رسوله وقال له إذا عزمتم على جهاد المسلمين فاقصدوا بذلك فتح بيت المقدس وخلّصوه من أيديهم، ويكون لكم الفخر، وأمّا إفريقية فبينى وبين أهلها أيمان وعهود، فاخرجوا إلى الشام. «2»
وقيل إنّ المستنصر، أو المستعلى، لمّا رأى قوة الدولة السلجقية وتمكّنها، وأنهم استولوا على ملك بلاد الشام [إلى] «3» غزّة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم، راسل الفرنج يدعوهم إلى الخروج إلى الشّام، ليملكوه، ويكونوا بينه وبين المسلمين. والله تعالى أعلم «4» .
قال فلمّا عزم الفرنج على قصد الشّام ساروا إلى قسطنطينية ليعبروا المجاز إلى بلاد الإسلام ويسيروا فى البرّ فيكون أسهل عليهم. فمنعهم ملك الروم «5» من ذلك، ولم يمكّنهم أن يمرّوا ببلاده، وقال: لا أمكّنكم من العبور إلّا أن تحلفوا أنكم تسلمون إلىّ أنطاكية. وكان قصده أن يحثّهم على(28/250)
الخروج إلى بلاد الإسلام ظنّا منه أن الترك لا يبقون منهم أحدا لما أرى من صرامتهم وملكهم «1» البلاد.
فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج فى سنة تسعين وأربعمائة. ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان «2» بن سليمان بن قتلمش، فلقيهم فى جموعه ومنعهم، فقاتلوه وهزموه، وذلك فى شهر رجب منها. ومرّوا فى بلاده إلى بلاد ابن ليون الأرمنى، فسلكوها وخرجوا منها إلى أنطاكيّة، فحصروها. «3»
قال المؤرّخ «4» : فلمّا سمع صاحبها ياغى سيان بتوجّههم إليها خاف من النّصارى الذين بها، فأخرج من بها من المسلمين بمفردهم فى أول يوم وأمرهم أن يحفروا الخندق، ثم أخرج النصارى من الغد لذلك. فعملوا فيه إلى العصر، فلمّا أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم فهبوها لى حتى أنظر ما يكون بيننا وبين الفرنج. فقالوا: من يحفظ أولادنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم «5» فأمسكوا ثم صاروا فى عسكر الفرنج.
وحصرت أنطاكية تسعة أشهر، وظهر من حزم ياغى سيان واحتياطه وجودة رأيه ما لم يشاهد مثله، وهلك [75] أكثر الفرنج موتا وقتلا، وحفظ ياغى سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكفّ الأيدى عنهم.(28/251)
فلمّا طال مقام الفرنج عليها راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو ذراد، ويعرف بروزبة «1» ، وبذلوا له مالا وإقطاعا، وكان يتولى حفظ برج يلى الوادى، وهو مبنى على شباك فى الوادى.
فلمّا تقرّر الأمر بينهم وبينه، جاءوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة منهم بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة، ضربوا البوق وذلك عند السّحر وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ ياغى سيان وسأل عن الحال فقيل له: هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد أخذت. ولم يكن من القلعة وإنما من ذلك البرج. فداخله الرّعب؛ ففتح باب البلد وهرب فى ثلاثين غلاما، وجاء نائبه ليحفظ البلد، فقيل له: إنه قد هرب، فخرج من الباب الآخر هاربا. وكان ذلك إعانة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا.
ثم إن الفرنج دخلوا البلد من بابه، ونهبوا وقتلوا من فيه من المسلمين.
وأما ياغى سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إلى عقله وكان كالولهان.
فرأى نفسه وقد قطع عدّة فراسخ؛ فقال لمن معه: أين أنا؟ فقالوا: على أربعة فراسخ من أنطاكية. فندم كيف خلص سالما ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل.
وجعل يتلهّف على ترك أهله وأولاده والمسلمين، ويسترجع؛ فسقط عن فرسه لشدة ما ناله، وغشى عليه. فأراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه(28/252)
مسكة، وكان قد قارب الموت، فتركوه وساروا عنه. فاجتاز به إنسان أرمنى كان يقطع الحطب وهو بآخر رمق فقتله، وحمل رأسه إلى الفرنج بأنطاكيّة «1»
ذكر مسير المسلمين لحرب الفرنج وما كان من أمرهم
قال «2» : ولما اتصل خبر أنطاكيّة بالأمير قوام الدّين كربوقا صاحب الموصل «3» جمع العساكر وسار لحربهم واجتمع معه الملك دقاق صاحب دمشق وصاحب حمص وصاحب سنجار «4» . فلمّا بلغ الفرنج اجتماعهم عظمت عليهم المصيبة وداخلهم الخوف؛ لما هم فيه من الوهن وقلّة الأقوات. وسار المسلمون حتى نازلوا أنطاكيّة، فأساء كربوقا السيّرة فيمن معه من المسلمين، فأغضب الأمراء وتكبّر عليهم، ظنّا منه أنّهم يقيمون معه على هذه الحال. فأغضبهم ذلك وأضمروا فى أنفسهم الغدر به إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند الصّدمة «5» .(28/253)
قال: وأقام الفرنج بانطاكيّة بعد أن ملكوها ثلاثة «1» عشر يوما ليس لهم ما يأكلونه؛ فتقوّت الأقوياء بدوابّهم والضّعفاء بالميتة وورق الشّجر. فلمّا انتهت حالهم إلى ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم، وقال: لا تخرجون منه إلّا بالسّيف.
وكان معهم من الملوك بغدوين وصنجيل وكندفرى والقمص صاحب الرّها وبيمند صاحب أنطاكيّة «2» وهو مقدّم العسكر. وكان معهم راهب مطاع فيهم «3» فقال لهم: إن المسيح عليه السّلام كان له حربة مدفونة بالقسيان «4» الّذى بأنطاكيّة، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنّكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقّق.
وكان هو قد دفنها قبل ذلك وعفّى أثرها. وأمرهم بالصّوم ثلاثة أيّام والتّوبة؛ ففعلوا ذلك. فلمّا كان فى اليوم الرّابع أدخلهم جميعهم وجميع عامّتهم والصّنّاع، وحفروا عليها فى ذلك المكان فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظّفر. فخرجوا فى اليوم الخامس من الباب من خمسة وستّة ونحو ذلك؛ فقال المسلمون لكربوقا: ينبغى أن نقف على الباب فقتل كلّ من يخرج فإنّ أمرهم الآن سهل. فقال: أمهلوهم حتى يتكاملوا؛ ولم(28/254)
يمكّن من معاجلتهم؛ فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم بنفسه ومنعهم.
فلمّا تكامل خروج الفرنج ولم يبق منهم أحد بأنطاكية ضربوا مصافّا عظيما، فانهزم العسكر الإسلامى لما عاملهم به كربوقا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم، فتمّت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم. وآخر من انهزم سقمان بن أرتق وجناح الدولة، لأنهما كانا فى الكمين؛ وانهزم كربوقا معهم. فلمّا رأى الفرنج ذلك ظنّوه مكيدة، فخافوا أن يتبعوهم؛ وثبت جماعة من المجاهدين وقاتلوا حسبة ورغبة فى الشّهادة فقتل الفرنج منهم ألوفا، وغنموا ما فى العسكر من الأقوات والأموال والآلات والدّوابّ، وغير ذلك؛ فصلحت حالهم وعادت إليهم قوّتهم.
ذكر ملكهم معرة النعمان
[76] قال المؤرّخ. ثم سار الفرنج إلى معرة النّعمان «1» ، فنازلوها وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالا شديدا، فرأى الفرنج منهم شدّة ونكاية عظيمة. فعمل الفرنج عند ذلك برجا من خشب يوازى سور المدينة، ووقع القتال عليه، فصبر المسلمون على القتال إلى اللّيل. ثمّ خاف قوم منهم وفشلوا، وظنّوا أنهم إذا تحصّنوا ببعض الدّور الكبار امتنعوا بها. فنزلوا عن السّور وأخلوا مكانهم الذى كانوا يحفظونه، وفعلت طائفة أخرى مثل ذلك.(28/255)
ولم تزل كلّ طائفة منهم تتبع الأخرى حتّى خلا السّور، فصعد الفرنج إليه على السّلاليم. فلمّا علوه تحيّر المسلمون ودخلوا دورهم، ووضع الفرنج فيهم السّيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبّوا السّبى الكثير.
وأقاموا بها أربعين يوما وساروا إلى عرقة «1» ، فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدّة نقوب ولم يقدروا عليها. وراسلهم ابن منذر «2» صاحب شيزر، وصالحهم عليها. ثم ساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدّولة. وخرجوا على طريق النّواقير «3» إلى عكا فلم يقدروا عليها «4» ؛ فساروا إلى البيت المقدّس.
ذكر استيلائهم خذلهم الله تعالى على البيت المقدس
كان استيلاء الفرنج، خذلهم الله تعالى، على البيت المقدّس فى يوم الجمعة، ضحى، لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وكان إذ ذاك بيد افتخار الدّولة نيابة عن المستعلى بالله. فإنه كان بيد تاج الدّولة تتش السّلجقى صاحب الشّام، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التّركمانى، فجاءه الأفضل أمير الجيوش واستولى عليه «5» ، وبقى بيد نوّابه إلى الآن.(28/256)
فقصده الفرنج عند عجزهم عن فتح عكّا، وحصروه نيّفا وأربعين يوما، ونصبوا عليه برجين، أحدهما من ناحية صهيون «1» ، فأحرقه المسلمون وقتلوا جميع من فيه من الفرنج.
فلمّا فرغوا من ذلك أتاهم الصّارخ أن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وهو الجانب الشّمالى، وركب النّاس السيف ولبث الفرنج أسبوعا يقتلون فيهم.
واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلّموه إليهم، فوفوا لهم؛ وخرجوا ليلا إلى عسقلان وأقاموا بها.
وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعبّادهم وزهّادهم، ممّن فارق أهله، ووطنه وجاور بذلك الموضع الشّريف. وأخذوا منّ عند الصّخرة نيّفا وأربعين قنديلا من الفضّة، زنة كلّ قنديل [ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورا من فضة وزنه] «2» أربعون رطلا بالرّطل الشامى «3» ؛ وأخذوا من القناديل الصّغار مائة وخمسين قنديلا من الفضّة؛ ومن الذهب نيّفا وعشرين قنديلا. وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء.(28/257)
وورد إلى بغداد القاضى سعيد القروى «1» فى شهر رمضان، ومعه جماعة، يستنفرون النّاس، وأوردوا فى الدّيوان كلاما أبكى العيون، وصدع القلوب واستغاثوا بالجامع يوم الجمعة، وبكوا، وذكروا ما نزل بالمسلمين من البلاء، وما حلّ بهم من المصيبة. فأمر الخليفة أن يسير القاضى أبو محمد الدّامغانى، وأبو بكر الشّاشى، وغيرهما «2» ، إلى السّلطان «3» بسبب ذلك، فاتّفق ما ذكرناه من الاختلاف الذى وقع بين الملوك السّلجقية «4» ؛ فتمكّن الفرنج من البلاد.
قال: ولمّا اتّصل خبر هذه الحادثة العظيمة بالأفضل أمير الجيوش جمع العساكر وخرج إليهم، فقاتلهم فى شهر رمضان من السّنة. ثمّ كبسه الفرنج هو ومن معه، وهم على غير تعبئة، فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وحاصر الفرنج عسقلان، فصالحهم أهلها على عشرة آلاف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، فعادوا إلى القدس.
قال: وكان الذى ملك البيت المقدّس من الفرنج كندفرى «5» .(28/258)
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج
قال المؤرخ «1» : وفى ذى القعدة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة لقى كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وهو صاحب ملطية وسيواس، بيمند الفرنجى بالقرب من ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه واستقدمه عليه، فورد عليه [77] فى خمسة آلاف؛ فلقيهم ابن الدّانشمند، وقاتلهم، فهزم بيمند وأسر.
ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، فأرادوا خلاص بيمند، فأتوا إلى قلعة أنكورية «2» فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين؛ وساروا إلى قلعة أخرى فحصروها وفيها إسماعيل بن الدّانشمند، فجمع الدّانشمند جمعا كثيرا، ولقى الفرنج، وجعل له كمينا؛ فقاتلهم وخرج عليهم الكمين فقتلهم. وكانوا ثلاثمائة ألف لم يفلت منهم غير ثلاثة آلاف «3» هربوا.
وسار ابن الدّانشمند إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها.
قال ابن الأثير الجزرى: وكانت هذه الوقائع فى شهور «4» قريبة.
قال: ولم يزل بيمند فى أسره إلى سنة خمس وتسعين، فأخذ منه مائة(28/259)
ألف دينار وأطلقه «1» .
ذكر قتل كندفرى وملك أخيه بغدوين وما استولى عليه الفرنج من البلاد وهى: حيفا. وأرسوف. وقيسارية. والرها. وسروج
وفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة سار كندفرى صاحب البيت المقدّس إلى عكّا، فحاصرها، فأصابه سهم فقتله «2» . وكان قد عمّر مدينة يافا وسلّمها إلى قمص من الفرنج اسمه طنكرى «3» . فلما قتل كندفرى سار أخوه بغدوين «4» إلى البيت المقدّس فى خمسمائة فارس وراجل، فبلغ ذلك الملك شمس الملوك دقاق صاحب دمشق، فنهض إليه فى عسكره ومعه الأمير جناح الدّولة فى جموعه فقاتله، فنصر على «5» الفرنج.
وفى هذه السنة ملك الفرنج مدينة حيفا عنوة وهى على ساحل البحر بالقرب من عكّا، وملكوا أرسوف بأمان وأخرجوا أهلها منها، وملكوا قيساريّة بالسيف وقتلوا أهلها. وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، وكانوا قبل ذلك قد ملكوا الرّها بمكاتبة من أهلها لأن أكثر أهلها(28/260)
أرمن. فلمّا كان الآن جمع الأمير سقمان بن أرتق جمعا عظيما من التّركمان وزحف بهم إليهم، فلقوه وقاتلوه؛ فهزموه فى شهر ربيع الأول. فلمّا تمّت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج، فتسلّموها، وقتلوا كثيرا من أهلها وسبوا حريمهم، ونهبوا أموالهم، ولم يسلم منهم إلّا من انهزم «1» .
ذكر أخبار صنجيل الفرنجى وما كان منه فى حروبه وحصار طرابلس وألطوبان وملك أنطرسوس
وفى سنة خمس وتسعين وأربعمائة لقى صنجيل «2» الملك قلج أرسلان صاحب قونية، وصنجيل فى مائة ألف مقاتل وقلج فى عدد يسير، واقتتلوا؛ فانهزم الفرنج وأسر كثير منهم، وفاز قلج بالظّفر والغنيمة «3» . ومضى صنجيل مهزوما فى ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمّار «4» صاحب طرابلس إلى الأمير جناح الدّولة «5» بحمص وإلى الملك دقاق بدمشق يقول: من الصّواب معاجلة صنجيل إذ هو فى العدد اليسير.(28/261)
فخرج إليه جناح الدّولة بنفسه «1» وسيّر دقاق ألفى مقاتل؛ وأتتهم الأمداد من طرابلس. وصافّوا صنجيل فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس ومائة إلى عسكر دمشق وخمسين إلى عسكر حمص وبقى هو [فى] «2» خمسين.
فأما عسكر حمص فانهزموا عند المشاهدة وتبعهم عسكر دمشق.
وأما عسكر طرابلس فإنهم قتلوا المائة الذين قاتلوهم، فحمل صنجيل فى المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل.
ونازل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصرها، هم وأهل السّواد، لأن أكثرهم نصارى. فقاتل من بها أشدّ قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة: ثم هادنهم ابن عمّار على مال وخيل، فرحل صنجيل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، «3» وهى من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها «4» ، وقتل من بها من المسلمين.
ورحل إلى حصن ألطوبان «5» ، ومقدّمه ابن العريض، فقاتلهم فنصر(28/262)
عليهم وأسر فارسا من أكابر فرسانهم، فبذل فيه صنجيل عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
ثمّ سار صنجيل إلى حصن الأكراد «1» فحصره، فجمع الأمير جناح الدّولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطنىّ بالمسجد الجامع. فلما قتل صبّح صنجيل حمص من الغد ونازلها وملك أعمالها.
[78] ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا
وفى سنة سبع وتسعين وأربعمائة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة لاذقيّة، فيها التّجّار والمقاتلة والحجّاج وغيرهم؛ فاستعان بهم صنجيل الفرنجى على حصار طرابلس فحاصروها معه وضايقوها، فلم يروا فيها مطمعا، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل «2» فحصروها وقاتلوا عليها قتالا شديدا. فلمّا رأى أهلها عجزهم عن الفرنج طلبوا الأمان على تسليمها، فبذل لهم صنجيل الأمان، وتسلّم البلد منهم فلم يف لهم. وأخذ الأفرنج أموالهم وعاقبوهم عليها بأنواع العذاب. ثم ساروا إلى عكّا نجدة لبغدوين، صاحب القدس، على حصارها؛ فنازلوها وحصروها فى البر والبحر، وعليها زهر الدّولة «3» الجيوشى، فقاتلهم أشدّ قتال. فلمّا عجز عن حفظ البلد فارقه؛ وملك الفرنج عكّا بالسّيف، وفعلوا بأهلها الأفعال الشنيعة. وساروا منها إلى دمشق ثم إلى مصر.(28/263)
وفى سنة تسع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج حصن أفامية وسرمين من أعمال حلب.
وفى سنة اثنتين وخمسمائة فتح السردانى «1» عرقة، وذلك أنّها كانت بيد غلام فخر الملك بن عمّار وقد عصى على مولاه، فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة، فكاتب طغزتكين «2» صاحب دمشق أن يرسل إليه من يتسلّم الحصن لعجزه عن حفظه. فبعث إليه طغزتكين صاحبا له اسمه إسرائيل فى ثلاثمائة، فتسلّم الحصن. فلمّا نزل غلام ابن عمّار رماه إسرائيل بسهم فقتله فى الاختلاط «3» طمعا فى المال الذى بعرقة لئلا يطّلع طغزتكين عليه.
قال وأراد طغزتكين أن يشحن الحصن بالعساكر والأقوات، فتوالت الأمطار [والثلج] «4» مدّة شهرين، فعجز عن ذلك. فلمّا انقطع المطر ركب أربعة آلاف فارس وجاءوا إلى عرقة، فتوجّه إليه السّردانى وهو يحاصر طرابلس ومعه ثلاثمائة فارس، فانهزم عسكر طغزتكين عند ما أشرفت الخيل من غير قتال، فأخذ السّردانى أثقالهم وتسلّم الحصن بأمان، وقبض على إسرائيل، وقال لا أطلقه إلا بفلان وهو من أكابر الفرنج كان أسيرا، ففودى به.
ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت
كان صنجيل لمّا ملك مدينة جبيل، كما ذكرنا، حصر طرابلس، فلمّا(28/264)
لم يتمكّن منها وعجز عن الاستيلاء عليها بنى بالقرب منها حصنا وجعل تحته ربضا، وأقام يرصدها ينتظر فرصة، فخرج فخر الملك أبو على بن عمّار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه؛ فوقف صنجيل على سقوفه المحترقة، ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فانخسف بهم. فمرض صنجيل عشرة أيّام، ومات، وحمل إلى القدس فدفن هناك. وذلك فى سنة تسع وتسعين وأربعمائة «1» .
ودامت الحرب على طرابلس خمس سنين. فسار فخر الملك ابن عمّار إلى بغداد يستنجد بالخليفة والسّلطان على الفرنج، على ما ذكرناه، وعاد من بغداد فى منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسمائة وتوجه إلى جبيلة «2» فدخلها وأطاعه أهلها.
وأما طرابلس فإن ابن عمّار لمّا فارقها راسل أهلها الأفضل أمير الجيوش يلتمسون منه واليا يكون عندهم ومعه الميرة فى البحر، فسيّر إليهم الأفضل شرف الدّولة بن أبى الطّيّب واليا، ومعه الغلال وغيرها. فلمّا صار إليها قبض على جماعة من أهل ابن عمّار واستولى على ما وجده من أمواله وذخائره «3» .
فلمّا كان فى شعبان سنه ثلاث وخمسمائة وصل أسطول كبير من بلد(28/265)
الفرنج، مقدّمه قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل «1» ، ومراكبه مشحونة بالرّجال والسلاح والميرة وليس ريمند هذا ابن صنجيل صاحب الحصن «2» المقدم ذكره. فنزل على طرابلس وكان السّردانى وهو ابن اخت صنجيل محاصرا لها قبله، فجرت بينهما فتنة أدّت إلى الشرّ والقتال فوصل تنكرى صاحب أنطاكيّة إليها إعانة للسّردانى، ووصل بغدوين صاحب البيت المقدّس فى عسكره، فأصلح بينهم «3» ونزل الفرنج بأجمعهم على طرابلس وضايقوها، وذلك [79] فى شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها. فلمّا شاهد الجند وأهل البلد ذلك سقط فى أيديهم، وذلّت نفوسهم، وزادهم ضعفا. فتأخر الأسطول المصرىّ عنهم بالميرة والنّجدة؛ وداوم الفرنج القتال والزّحف إلى أن ملكوا البلد عنوة؛ وذلك فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة، سنة ثلاث وخمسمائة «4» . ونهبوا ما فيها، وأسروا الرجال، وسبوا النّساء والذّرّية، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة(28/266)
وكتب العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يوصف.
وكانت طرابلس من أعظم البلاد وأهلها من أكثر الناس أموالا.
وسلم الوالى الذى كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق؛ وعاقب الفرنج أهل طرابلس بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم «1» .
ووصل الأسطول المصرى بالرجال والغلال وغيرها، ما يكفيهم سنة، وكان وصول الأسطول إليها بعد أن ملكت بثمانية أيام؛ ففرّق ما فى الأسطول على الجهات المجاورة لها: صور وصيدا وبيروت.
ذكر ملك الفرنج جبلة وبلنياس
قال: ولما فرغ الفرنج من طرابلس سار تنكرى صاحب أنطاكية إلى بلنياس «2» فافتتحها وأمّن أهلها؛ ونزل على مدينة جبلة «3» وبها فخر الملك ابن عمّار، وكان القوت قد قلّ بها، فقاتل من بها إلى أن ملكها فى الثانى والعشرين من ذى الحجة بالأمان.
وخرج فخر الملك ابن عمّار وقصد شيزر، فأكرمه صاحبها الأمير سلطان ابن علىّ بن منقذ الكنانى. ثمّ سار إلى دمشق فأكرمه طغزتكين(28/267)
صاحبها، وأجزل له فى العطيّة وأقطعه أعمال الزّبدانى؛ وذلك فى المحرم سنة أربع وخمسمائة «1» .
ذكر ملكهم مدينة صيدا
وفى جمادى الأولى «2» سنة أربع وخمسمائة ملك الفرنج مدينة صيدا، وكانت من جملة ما هو بيد طغزتكين صاحب دمشق. وذلك أنّه وصل فى البحر ستّون مركبا للفرنج مشحونة بالرّجال والذّخائر مع بعض ملوكهم «3» ، ليحجّ إلى القدس ويغزو «4» المسلمين بزعمه؛ فاجتمع به بغدوين صاحب القدس وقرّر معه الغزو فنزلوا «5» على مدينة صيدا فى ثالث شهر ربيع الآخر، وضايقوها فى البرّ والبحر، ومنعوا الأسطول المصرىّ من الوصول إليها، وكان بساحل مدينة صور، فعمل الفرنج برجا من الخشب وأحكموه، وجعلوا عليه ما يمنع النّار والحجارة عنه، وزحفوا به. فلمّا عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت؛ فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا الأمان، فأمّنهم على نفوسهم وأموالهم والعسكر الّذى عندهم، ومن أراد المقام بها «6» عندهم أمّنوه،(28/268)
ومن أراد المسير عنهم لا يمنعونه؛ وحلفوا لهم على ذلك فخرج الوالى وجماعة كثيرة معه تحت الأمان؛ وكانت مدّة الحصار سبعة وأربعين يوما.
ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثمّ عاد إليها بعد مدّة يسيرة يقرّر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فاستغرق أموالهم وأفقرهم.
ذكر استيلائهم على حصن «1» الأثارب وحصن زردنا
وفى سنة أربع وخمسمائة جمع صاحب أنطاكيّة الفارس والرّاجل، وسار إلى حصن الأثارب، وهو على ثلاث فراسخ من حلب، فحصره ومنع الميرة عمّن فيه؛ فضاق الأمر عليهم. فنقب المسلمون من القلعة نقبا وقصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكيّة فيقتلوه. فلمّا فعلوا ذلك استأمن إليه صبىّ أرمنىّ فعرّفه الحال، فاحتاط لنفسه واحترز؛ وجدّ فى قتالهم حتى ملك الحصن عنوة، وقتل من أهله ألفى رجل «2» وسبى.
ثم سار إلى حصن زردنا «3» ، فحصره وفتحه، وفعل باهله مثل ذلك.
فلمّا سمع بذلك أهل منبج فارقوها خوفا من الفرنج، وكذلك أهل بالس «4» ، فطلب أهل الشّام الهدنة، فامتنع الفرنج ثمّ أجابوا. فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنتين [80] وثلاثين ألف دينار، وخيول وثياب، وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار،(28/269)
وصالحهم علىّ الكردى صاحب حماة على ألفى دينار. وكانت عدة الهدنة إلى إدراك المغلّ وحصاده «1» . ثمّ جاءت العساكر من العراق ولم يبلغوا غرضا.
ذكر حصر مدينة صور وفتحها
كان استيلاء الفرنج، خذلهم الله تعالى، على مدينة صور فى الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة. وكان ابتداء الحصار فى سنة خمس وخمسمائة؛ وذلك أن الفرنج فى هذه السّنة اجتمعوا مع بغدوين صاحب القدس على حصارها، وكانت إذ ذاك بيد نوّاب الآمر بأحكام الله «2» وبها من قبله عز الملك الأعز، فحصروها فى الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السّنة، وعملوا ثلاثة أبراج من الخشب علوّ البرج سبعون ذراعا فى كلّ برج ألف رجل؛ ونصبوا عليها المجانيق. وألصقوا أحد الأبراج بسور صور، فجمع عزّ الملك أهل البلد واستشارهم فى حيلة يدفعون بها شرّ الأبراج. فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن إحراقها، وأخذ ألف رجل بالسّلاح التام، ومع كلّ رجل حزمة حطب؛ فقاتلوا الفرنج حتّى وصلوا إلى البرج الملتصق بالسّور وألقوا الحطب من جهاته، وأشعلوا فيه النار. ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين فى الأبراج بإطفاء النّار، فرماهم بجرار مملوءة بالعذرة كان قد أعدّها لهم فلمّا سقطت عليهم اشتغلوا بما نالهم من الرّائحة الكرهة،(28/270)
فتمكّنت النار من البرج. وأحرق المسلمون البرجين [الآخرين] «1» أيضا.
وكاتب عزّ الملك طغزتكين، صاحب دمشق، فأنجده بالرّجال، وأرسل أصحابه للإغارة على بلاد الفرنج، فرجعوا من حصار مدينة صور فى شوّال من السّنة.
ثم عادوا فى سنة ستّ وخمسمائة إلى الحصار، وضايقوا البلد، فأرسل أهل صور إلى طغزتكين صاحب دمشق يطلبون منه أن يرسل إليهم من جهته من يتولّى أمرهم ويحميهم، وتكون البلد له. فسيّر إليهم عسكرا، وجعل عندهم واليا اسمه مسعود، وكان شهما شجاعا عارفا بالحرب ومكايدها، وأمدّه بالعساكر والميرة؛ فطابت قلوب أهل البلد. ولم يقطع خطبة الآمر بأحكام الله ولا غيّر سكّته؛ وكتب إلى الأفضل أمير الجيوش يعرّفه ما عمل ويقول: متى وصل من مصر من يتولّاها ويذبّ عنها سلّمتها إليه؛ وطلب منهم ألّا ينقطع الأسطول عنها بالرّجال والميرة. فأجابه الأفضل إلى ذلك، وشكره على ما فعل، وجهّز أسطولا إليها، فاستقامت أحوال أهلها.
ولم يزل كذلك إلى سنة ستّ عشرة وخمسمائة، بعد قتل الأفضل أمير الجيوش. وذلك أن المأمون بن البطائحى لمّا ولى إمرة الجيوش بعد قتل الأفضل سيّر إلى مدينة صور أسطولا على العادة، وأمر المقدّم عليه أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود، الوالى من قبل طغزتكين، ويقبض عليه، ويتسلم البلد منه. وكان سبب ذلك أنّ أهل صور شكوا منه إلى الآمر بأحكام الله.
فلمّا وصل الأسطول وجاء الأمير مسعود ليسلّم على المقدّم قبض المقدّم عليه(28/271)
واعتقله، وحمله إلى الآمر؛ فأكرمه وأعاده إلى صاحبه بدمشق. واستولى مقدّم الأسطول على مدينة صور، وراسل الأمير طغزتكين بالخدمة، واعتذر إليه، فقبل عذره «1» ، ووعده المساعدة.
فلمّا سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها، وشرعوا فى الجمع؛ واتّصل خبرهم بواليها، فعلم أنّه لا قوّة له ولا طاقة بهم، لقلّة من بها من الجند والميرة، وأرسل إلى الآمر بذلك؛ فرأى أن يردّ ولاية صور إلى طغزتكين، فأرسل إليه بذلك، فملكها ورتّب بها الجند وغيرهم.
وسار الفرنج إلى صور، ونازلوها فى شهر ربيع الأول سنة ثمانى عشرة، وضيّقوا عليها ولازموا القتال؛ فقلّت الأقوات، وسئم من بها القتال، وضعفت نفوسهم. وسار طغزتكين إلى بانياس ليقرب منهم ويذبّ عن البلد، وأرسل إلى الآمر يستنجده، فلم ينجده؛ وأشرف أهلها على الهلاك.
فحينئذ راسل طغزتكين الفرنج على أن يسلّم إليهم البلد ويمكّنوا من بها من الجند والرّعية من الخروج بما قدروا عليه من أموالهم وغيرها فاستقرّت القاعدة على ذلك، وفتحت أبواب البلد، وفارقه أهله، وحملوا ما أطاقوا وتفرّقوا فى البلاد، ولم يتعرّض الفرنج إليهم. وملك الفرنج البلد فى التّاريخ [81] الذى قدّمناه، ولم يبق بصور إلّا ضعيف عاجز عن الحركة «2» .
وفى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ملك الفرنج حصن القدموس «3» من المسلمين، وملكوا بانياس بمراسلة إسماعيل الإسماعيلى ورغبته فى ذلك،(28/272)
وانضمامه إلى الفرنج، على ما قدّمنا ذكره «1» فى أخبار تاج الملوك طغزتكين صاحب دمشق.
هذا ما استولى عليه الفرنج من البلاد الإسلامية. فلنرجع إلى أخبار الدّولة العبيديّة.
ذكر وفاة المستعلى بالله
كانت وفاته فى يوم الثّلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر «2» سنة خمس وتسعين وأربعمائة.
ومولده لعشر بقين من المحرّم سنة سبع وستين «3» وأربعمائة؛ وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة «4» وثمانية وعشرين يوما.
ومدّة ولايته سبع سنين وشهرا واحدا وثمانية وعشرين يوما.
ولم تكن له سيرة تذكر، فإن الأمر كان للأفضل أمير الجيوش، لم يكن للمستعلى معه من الأمر إلّا الاسم، والرّسم للأفضل.(28/273)
وكان للمستعلى من الأولاد أبو على المنصور، وجعفر، وعبد الصّمد.
وزيره الأفضل أمير الجيوش.
قضاته: أبو الحسن بن الكحّال النابلسى؛ ثم أعاد بن عبد الحاكم، ثم أبو طاهر محمد بن رجاء، ثم أبو الفرج محمد بن جوهر بن ذكا النابلسى.
ذكر بيعة الآمر بأحكام الله
هو أبو على المنصور بن المستعلى بالله؛ وهو العاشر من ملوك الدّولة العبيديّة والسّابع من ملوك الدّيار المصريّة منهم.
قال المؤرخ: لمّا مات المستعلى بالله أجلس الأفضل أمير الجيوش ولده أبا على هذا على سرير الخلافة، وذلك فى يوم الثّلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة؛ وبايع له النّاس ولقّبه بالآمر بأحكام الله وله من العمر خمس سنين وشهر واحد وأيام.
قال: ودبّر الأفضل الأمر على ما كان عليه فى أيام أبيه المستعلى «1» .
وفى سنة خمسمائة بنى الأفضل أمير الجيوش الدّار المعروفة بدار الملك «2» على شاطئ النيل بمصر، وكملت عمارتها فى سنة إحدى وخمسمائة، وسكنها.(28/274)
ومدحه الشّعراء. فمن مدحه أبو الفضل بن أمية المغربى من قصيدة جاء منها:
دار هى الفلك الأعلى، وأنت بها ... شمس الضّحى، وبنوك الأنجم الزّهر
ودار الملك هذه هى دار الوكالة الآن «1» ؛ وكان موضعها أخصاص موقوفة على الأشراف، فأمر أن يؤخذ ما كان لهم من الحكر على الأخصاص من مال الرّياع السّلطانية.
ذكر إنشاء ديوان التحقيق
وفى سنة إحدى وخمسمائة جدّد الأفضل ديوانا وسمّاه ديوان التحقيق «2» ، واستخدم فيه أبا البركات يوحنّا بن أبى اللّيث النّصرانى؛ وبقى فيه إلى أن قتل فى سنة ثمان وعشرين «3» . واستمرّ هذا الديوان إلى أن انقرضت الدّولة العبيديّة وانقطع، ثم أعاده السّلطان الملك الكامل بن الملك العادل فى سنة أربع وعشرين، واستخدم فيه أبو كوجك «4» اليهودى. ثمّ أبطل فى سنة ستّ وعشرين وستمائة فلم يعد. واستخدم فى أيام السلطان(28/275)
الملك المعزّ أيبك صفىّ الدّين عبد الله بن على المغربى فى استيفاء مقابلة الدواوين، وهو نوع منه «1» .
ذكر حل الإقطاعات وتحويل السنة
وفى سنة إحدى وخمسمائة كثرت شكاوى الأجناد وطوائف العساكر المصريّة بسبب إقطاعاتهم، وأنّها خربت وقلّ ارتفاعها، وأنّها لا تقوم ببعض كلفهم، وأن الإقطاعات التى بيد الأمراء زائدة عن الارتفاع.
فأحضر الأفضل محمد [82] بن فاتك البطائحى «2» ، وهو وزيره وأستاذ داره، واستشاره فيما يفعل فى ذلك؛ فأشار عليه بحلّ جميع الإقطاعات التى بيد الأمراء وغيرهم، وأن يجمع الأمراء والطّوائف للمزايدة فيها. فاتّفق الرأى على ذلك.
وأحضر الأمراء والأجناد فى دار الوزارة، وتحدّث معهم فى ذلك؛ فقال الأمراء: لنا فى إقطاعاتنا أملاك وبساتين ومعاصر وغيرها. فقال الأفضل: الأملاك لملّاكها على حالها يتصرّفون فيها بالبيع والإيجار.
ثم حلّ الإقطاعات ووقعت الزّيادة فيها، وتميّز لكلّ منهم إقطاع، وكتبت المناشير بذلك. ثم شكى إليه كثرة عبرة البلاد «3» وأنّ متحصّلها لا يفى بالعبرة.(28/276)
وحصل للديوان ضياع مفردة «1» عبرتها خمسون ألف دينار فى كلّ سنة.
ونقلت السّنة الشمسية الخراجيّة إلى الهلاليّة؛ وكانت سنة إحدى وخمسمائة الهلالية وسنة سبع وتسعين وأربعمائة الخراجيّة فنقلت إلى سنة إحدى وخمسمائة «2» .
ذكر أخذ الفرما وهلاك بغدوين الفرنجى صاحب القدس
وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة «3» أغار بغدوين ملك الفرنج على الفرما «4» وقتل جميع من بها، وأحرق جامعها ومساجدها، وذلك بعد أن حاصرها أياما والفرما كانت بلدة بين القصير والغرابى من منازل الرّمل، وهى الآن خراب. وقصد بغدوين مصر فرحل عن الفرما. ورجع إلى البيت(28/277)
المقدّس، وهو مثقل بالمرض، فهلك بموضع يقال له جور قبل وصوله إلى العريش. فشقّ الفرنج بطنه وألقوا مصارينه هناك، فهى ترجم إلى وقتنا هذا، ودخلوا بجثته، فدفنوها بقمامة بالبيت المقدس.
وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة رتّب ذخيرة الملك جعفر فى ولاية القاهرة، ونظر الحسبة وظلم وعسف؛ وهو الّذى بنى المسجد بسوق الخيل المعروف: بالذّخيرة، ومسجد «لا بالله» «1» ، وسبب تسميته بذلك أنّه كان يقبض النّاس من الطّريق ويعسفهم، فيقولون له: لا بالله، فيقيّدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة. ولم يعمل فيه صانع إلّا وهو مكره مقيّد. فابتلى الله ذخيرة الملك بأمراض شديدة، ولمّا مات تجنّب النّاس الصلاة عليه وتشييعه.
ذكر نهب ثغر عيذاب
وفى سنة ثنتى عشرة وخمسمائة عمّر الشريف أبو محمد قاسم بن أبى هاشم «2» ، أمير مكة، مراكب حربية وشحنها بالمقاتلة وسيّرهم إلى عيذاب «3» ، فنهبوا مراكب التّجار وقتلوا جماعة منهم. فحضر من سلم من(28/278)
الجار إلى باب الأفضل وشكوا ما حلّ بهم فأمر بعمارة حراريق «1» لجهّزها، ومنع الناس أن يحجّوا فى سنة أربع عشرة، وقطع الميرة عن الحجاز، فغلت الأسعار. وكان الأفضل قد كتب إلى الأشراف بمكة يلومهم على فعل صاحبهم، فكتب الشريف إلى الأفضل يعتذر، والتزم بردّ المال إلى أربابه، ومن قتل من التّجار فماله لورثته. وأعاد الأموال فى سنة خمس عشرة «2» .
ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش ابن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره
كان مقتله فى يوم الأحد سلخ شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقد ركب من دار الملك بمصر فقتل عند كرسى الجسر «3» ،؟؟؟ تلة الباطنية. قيل بمواطأة من الآمر لأنه كان قد ضاق منه لتحكّمه عليه ومنعه من شهواته، فقصد اغتياله إذا دخل عليه للسلام، فمنعه أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم، ابن عمه، وقال: إنّ هذا الأمر فيه من قبح الأحدوثة وسوء الشّناعة ما لا تحمد عاقبته، لأنّ هذا الرجل ما عرف له ولا لأبيه إلّا المودّة فى خدمة هذا البيت والذّب عنه، وإن قتلناه غيلة لا غنية أن(28/279)
نولّى منصبه لغيره، فيكون المتولّى بعده على وجل واحتراس. وإنّما الرأى أن ندبّر عليه. فدبّر عليه حتى قتل. هذا أحد الأقوال فى قتله.
قال: ولما وثب الباطنية عليه ضرب ثمانى ضربات، فمات لوقته، وحمل على أيدى مقدّمى ركابه، والقائد الميمون محمد وأخوته لا يمكّنون أحدا من الدنوّ منه، وهم [83] يبشرون النّاس بسلامته، حتى وضعوه على سريره وغطّى. ونفّذ المأمون أخاه حيدرة إلى الآمر يقول له: أدركنى وتسلّم ملكك لئلا أغلب عليه أنا وأنت؛ وأوصاه أن يهنّئ من وجده بسلامة الأفضل. ففعل حيدرة ذلك، وهنّأ حرم الأفضل وغيرهم. فعزم أولاده على إثارة فتنة وأنهم يطلبون الأمر لأخيهم تاج المعالى؛ فأمر الآمر بحمل أولاد الأفضل إلى الإعتقال بخزانة البنود، فحملوا إليها، وبات الأمر بدار الملك.
قال: وكان الأفضل حسن الاعتقاد فى مذهب السنّة، جميل السيّرة، مؤثرا للعدل، صائب الرأى والتّدبير، حسن الهمّة، كريم النّفس، صادق الحديث.
ونال النّاس بعد قتل الأفضل من الظّلم والجور والعسف ما لا يعبّر عنه.
فجاء النّاس إلى باب الآمر واستغاثوا، ولعنوا الأفضل وسبّوه أقبح سبّ؛ فخرج إليهم الخدم وقالوا: مولانا يسلّم عليكم ويقول لكم: ما السّبب فى سبّ الأفضل وقد كان قد أحسن إليكم وعدل فيكم؟ فقالوا: إنّه عدل وتصدّق وحسنت آثاره، ففارقنا بلادنا حبّا لأيّامه، وأقمنا فى بلده، فحصل بعده هذا الجور؛ فهو السّبب فى خروجنا عن أوطاننا واستقرارنا ببلده.(28/280)
قال المؤرخ: لما قتل الأفضل أحضر الآمر وزيره الشيخ أبا الحسن على الحلبى والقائد أبا عبد الله محمدا وسألهما عن الأموال، فقال القائد: أمّا السّر فأعلمه وأمّا الظاهر فالوزير يعلمه؛ وأخبراه بذخائره وأمواله. وأقام الآمر فى دور الأفضل، وهى دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة، وغيرهما، أربعين يوما، والكتّاب بين يديه يكتبون ما ينقلونه إلى القصور؛ فوجد له من الذّخائر النفيسة ما لا يحصى «1» .
وذكر أن الذى وجد له من الأموال ستّة آلاف ألف دينار عينا؛ وفى بيت الخاصّة ثلاثة آلاف ألف دينار، وفى البيت البرّانى ثلاثة آلاف [ألف] «2» ومائتان وخمسون دينارا، وخمسون أردبا دراهم [ورق] «3» وثلاثون راحلة من الذّهب العراقى المغزول برسم الرّقم؛ وعشرة بيوت فى كلّ بيت منها عشرة مسامير من الذهب «4» ، زنة كلّ مسمار مائتا مثقال، عليها العمائم المختلفة الألوان مغطاة بالمناديل المزركشة، وتسعمائة ثوب من الدّيباج الملوّن، وخمسمائة صندوق من دقّ دمياط وتنيس برسم كسوة جسده، ولعبة من العنبر على قدر جسده برسم ثيابه توضع ثيابه عليها لتكتسب رائحتها. وترك من الطّيب والآلات والنّحاس ما لا يحصى.
وترك من الأبقار والجواميس والأغنام ما بلغ ضمان ألبانها ونتاجها أربعين ألف دينار فى السنة. وكانت الدّواة التى يكتب منها مرصّعة بالجواهر، فقوّم ما عليها من الجواهر باثنى عشر ألف دينار. وخلّف من الكتب(28/281)
خمسمائة ألف مجلد «1» وحكى القاضى زكىّ الدين أبو زكريّا يحيى بن على الدّمشقى فى تاريخه عما خلّفه الأفضل فقال: خلّف. جملة لم يسمع أنّ أحدا من الملوك والخلفاء فى هذا الزّمان جمع مثله ولا ادّخر مثل بعضه: وأن الآمر بأحكام الله شرع فى حمل ما فى دوره إلى القصر، فحمل على عدّة كثيرة من الجمال والبغال، ونقل فى شهرين وأيّام.
قال: وحكى الدينبلى التاجر الآمدى أن متولّى الخزانة بالقصور ذكر له جملا ممّا حمل من موجوده فى الدّار، منها ستّة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن الورق ما قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار، ومن أطباق الذهب والفضة سبعمائة طبق «2» ، ومن الآلات مثل أتوار واصطال وصحاف وشربات وأباريق وزبادى وقدور وقطع من الفضة والذهب مختلفة الأجناس ما لا يحصى كثيرة؛ وبرانى «3» صينى كبار؛ وعيبات مملوءة جواهر، ومن أصناف الدّيباج والعتابى وغيره تسعون ألف ثوب، وثلاث خزائن مملوءة صناديق كلّها من الدّبيقى والشرب استعمال تنيس ودمياط، وخزانة الطّيب مملوءة أسفاطا، وعود، وبرانى مسك ونوافج، وبرانى زجاج مملوءة من(28/282)
الكافور القنصورى، غير مصاعد، ومن العنبر ما لا يحصى كثرة «1» .
وكان له مجلس يجلس فيه للشراب فيه صور ثمانى جوارى متقابلات، أربع منهنّ بيض من كافور، وأربع سود من عنبر، قيام فى المجلس، عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى وأحسن الجواهر، فكان إذا دخل باب المجلس نكّسن رءوسهنّ خدمة له، فإذا جلس فى صدر المجلس استوين قائمات.
ووجد له من المقاطع والسّتور، والدّيباج والدّبيقى الحريرى، والذهب، والفرش، والمخادّ والمساند على اختلاف أجناسها، كلّ حجرة مملوءة من ذلك، وعدّة صناديق مملوءة حقاق ذهب عراقىّ برسم الاستعمال. ووجد له ثمانمائة جارية [84] منهن حظانا خمس وستون، لكلّ جارية حجرة وخزانة مملوءة من الكساوى والآلات الدّيباج والذّهب والفضة. ومن كل صنف. «2»
قال الخازن: هذا ما حضرنى حفظه ممّا فى داره. وأما ما كان فى مخازنه وتحت يد عمّاله وجباته وضمّان النّواحى فما لا يحصى كثرة، من الأموال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والأخشاب وغير ذلك.
وكلّ نوع منه ما يجاوز الحدّ والإحصاء، ولا يمكن تحرير حسابه إلّا فى المدة الطويلة «3» .
وأمّا العدد والخيول والسلاح والبقر والغنم والخيام، فقال الخازن لم تتحرّر(28/283)
لكثرتها. وقال حمل من داره أربعة آلاف بساط، وستّون حمل «1» طنافس، وخمسمائة قطعة بلور كبار وصغار، وخمسمائة قطعة محكم، وألف عدل من متاع اليمن والإسكندرية والغرب، وسبعة آلاف مركب «2» من أصنافها.
وأمّا ما عمّره من المساجد فمنها: جامع الفيلة «3» ، وقيل إنّه لم يكمله.
وحكى الشريف محمّد بن أسعد الجوانى فى كتابه المترجم بالنقط فى ذكر الخطط أن جامع الفيلة بناه الأفضل فى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأنّ الأفضل مات ولم يكمّله فكمّله المأمون فى وزارته، وولّى خطابته الشّريف أمين الدّولة أبا جعفر، محمد بن محمد بن هبة الله الحسينى الطرابلسى النّسابة، وأمر أن يحضر جميع وجوه الدّولة والرؤساء فى أوّل جمعة، فحضروا. فلمّا رقى الشّريف المنبر قال: «الحمد لله» ، وأرتج عليه ودهش، فلم يزل يكرّرها إلى أن أضجر النّاس، ونزل وقد همّ، ومضى إلى داره، فاعتلّ ومات فى سنة سبع عشرة وخمسمائة. ومنها المسجد الّذى على جبل المقطّم. وبنى فى جامع عمرو بن العاص المئذنة الكبيرة والمئذنة السعيدية «4» والمئذنة المستجدة [به أيضا] «5» وجامع الجيزة. وغير ذلك.
وهو الّذى أنشأ التّاج والخمسة وجوه.(28/284)
قال ناظم سيرة المأمون: وعمل الأفضل خيمة سماها خيمة الفرج، ثم سمّيت بالقاتول لأنها كانت إذا نصبت يموت تحتها من الفرّاشين رجل أو رجلان «1» . اشتملت على ألف ألف ذراع [وأربعمائة ألف ذراع] «2» وكان ارتفاعها خمسين ذراعا بذراع العمل «3» ، أنفق عليها عشرة آلاف ألف دينار.
ومدحه جماعة من الشعراء وذكروا هذه الخيمة، منهم أبو جعفر محمد بن هبة الله الطرابلسى بقصيدته التى يقول فيها:
ضربت خيمة عزّ فى مقرّ علا ... أوفت على عذبات الطّود ذى القنن «4»
جاءت مدى الطّرف، حتى خلت ذروتها ... تأوى من «5» الفلك الأعلى إلى سكن
أقطارها ملئت من منظر عجب ... يهدى «6» إليك ذكاء الصّانع الفطن
فمن رياض سقاها القطر صيّبه ... فما بها ظمأ يوما إلى المزن
وجامح فى عنان لا يجاذبه ... وطائر غير صدّاح على فنن
وأرقم لا يمجّ السّم ريقته ... وضيغم ليس بالعادى ولا الوهن
ومائلين صفوفا فى جوانبها ... لو يستطيعون خرّ الجمع للذّقن(28/285)
زينث بأروع، لا تحصى فضائله ... ماض من المجد والعلياء فى سنن
وأطلع الدّست فيها شمس مملكة ... يرى «1» التّأمّل فضل العين والأذن
وعد على السّعد أنّ النّصر يضربها ... بالصّين، بعد فتوح الهند واليمن
وقال أبو على حسن بن زيد الأنصارى، الكاتب بديوان المكاتبات، يصفها ويمدح الأفضل:
مهلا، فقد قصرت عن شأوك الأمم ... وأبدت العجز منها هذه الهمم
أخيمة ما نصبت اليوم، أم فلك؛ ... ويقظة ما نراه منك، أم حلم؟
ما كان يخطر فى الأفكار قبلك أن ... تسمو علوّا على أفق النّهى الخيم
حتى أتيت بها شمّاء شاهقة ... فى مارن الدّهر من تيه بها شمم
إنّ الدّليل على تكوينها فلكا ... أن احتوتك، وأنت النّاس كلّهم
ومنها:
[85] لديك جيش، وجيش فى جوانبها ... مصوّر، وكلا الجيشين مزدحم
إذا الصّبا حرّكتها ماج موكبها ... فمقدم منهم فيها ومنهزم
أخيلها خيلك الّلاتى تغير بها ... فليس تنزع «2» عنها الحزم والّلجم
علّمت أبطالها أن يقدموا أبدا ... فكلّهم لغبار الحرب مقتحم
أمّنتهم أن يخافوا سطوة لردى ... فقد تسالمت الأسياف والقمم «3»
كأنّها جنّة، والقاطنون بها ... لا يستطيل على أعمارهم هرم(28/286)
علت، فخلنا لها سرّا تحدّثه ... للفرقدين وفى سمعيهما صمم
إن أنبتت أرضها زهرا، فلا عجب ... وقد همت فوقها من كفّك الدّيم
قال المؤرخ: وكان للأفضل شعر حسن، فمن قوله فى غلامه المعالى:
أقضيب يميس، أم هو قدّ ... أم شقيق يلوح، أم هو خدّ
أنا مثل الهلال سقما عليه «1» ... وهو كالبدر حين وافاه سعد «2»
وكانت ولاية لأفضل سبعا وعشرين سنة وخمسة أشهر.(28/287)
ذكر تفويض أمور الدّولة وإمرة الجيوش للمأمون البطائحى
قال المؤرخ: وفى الخامس من ذى الحجة من سنة خمس عشرة وخمسمائة فوّض الآمر بأحكام الله أمور الدّولة وإمرة الجيوش للقائد أبى عبد الله محمّد بن الأمير ثقة الدّولة أبى شجاع فاتك بن الأمير منجد الدّولة أبى الحسن مختار المستنصرىّ المعروف بابن البطائحى «1» ، وكان قبل ذلك عند الأفضل أستاذ داره «2» . واستقرّت نعوته فى سجلّه المقروء على كافة الأمراء والأجناد بالأجلّ المأمون، تاج الخلافة، وجيه الملك، فخر الصنّائع، ذخر أمير المؤمنين. ثمّ نعت بعد ذلك بالأجلّ المأمون، تاج الخلافة، عزّ الإسلام، فخر الأنام، نظام الدّين والدعاة. ثمّ نعت بعد ذلك بنعوت الأفضل وهى: السّيّد الأجل المأمون، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الأنام، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين «3» .
قال ناظم سيرة المأمون: ولما كان يوم الثلاثاء الثالث عشر من ذى الحجة من السّنة، وهو يوم الهناء بعيد النّحر، جلس المأمون فى داره وقت أذان(28/288)
الفجر، وجاء النّاس لخدمته للهناء على طبقاتهم فى أرباب البيوت والأقلام، ثم الشّعراء، وركب إلى القصور، فأتى باب الذّهب، فوجد المرتبة المختصّة بالوزارة قد هيّئت له فى موضعها الجارى به العادة، وأغلق الباب الّذى عندها على الرّسم المعتاد لوزير السّيف والقلم، وهذا الباب يعرف بباب السّرداب. فلما شاهد المرتبة توقّف عن الجلوس عليها لأنّه لم يذكر له ذلك قبل حضوره، ثم ألجأته الضّرورة، لأجل حضور الأمراء، إلى الجلوس عليها فجالس وأولاده الثّلاثة عن يمينه، وأخواه عن يساره، والأمراء المطوّقون «1» خاصّة قائمون بين يديه، ومن عداهم لا يصل إلى هذا الموضع. فما كان بأسرع من أن فتح الباب وخرج عدّة من الأستاذين المحنكين «2» وخرج إليه الأمير الثّقة متولّى الرّسالة وزمام القصور «3» ، فوقف أمام المرتبة وقال: أمير المؤمنين يردّ على السّيّد الأجلّ المأمون السّلام. فوقف المأمون عند ذلك وقبل الأرض، وجلس فى موضعه، وتأخر الأمير الثّقة حتى نزل من على المصطبة التى عليها المرتبة وقبّل الأرض ويد المأمون، ودخل من فوره من الباب، وأغلق الباب، على [حاله على] «4» ما كان عليه الأفضل.(28/289)
قال: وكان الأفضل يقول: ما أزال أعدّ نفسى سلطانا حتى أجلس على تلك المرتبة ويعلق الباب فى وجهى والدّخان فى أنفى؛ لأن الحمّام كانت خلف الباب فى السّرداب.
قال: ثم فتح الباب وعاد الثّقة وأشار بالدّخول إلى القصر؛ فدخل المأمون إلى المكان الذى هيّئ له، ودعى لمجلس الوزارة. وبقى الأمراء بالدّهاليز إلى أن جلس الخليفة واستفتح المقرئون. واستدعى المأمون فحضر بين يديه وسلّم عليه أولاده وإخوته «1» ؛ ثم دخل الأمراء وسلّموا على طبقاتهم، ثمّ الأشراف وديوان المكاتبات والإنشاء، ثمّ قاضى القضاة [86] ، والشهود، والداعى، ثم مقدّموا الرّكاب ومتولّى ديوان المملكة.
ثمّ دخل الأجناد من باب البحر، وهو الباب الذى يقابل المدرسة الكامليّة الآن، ثمّ دخل والى القاهرة ووالى مصر وسلّما ببياض أهل البلدين، ثم البطرك والنّصارى والكتّاب منهم، وكذلك رئيس اليهود.
ودخل الشّعراء على طبقاتهم، وأنشد كلّ منهم ما سمحت به قريحته.
وكانت هذه عادة السّلام على ملوك هذه الدّولة، وإنما أوردنا ذلك ليعلم منه كيف كانت عادتهم «2» .
وفى سنة سبع عشرة وخمسمائة ورد إلى الدّيار المصريّة طائفة كثيرة من عرب لواته من جهة المغرب، وانتهوا إلى الإسكندريّة وأعمالها، وأفسدوا فسادا متحكّما. فندب المأمون إليهم أخاه نظام الملك «3» حيدرة، الملقّب بالمؤتمن، فقاتلهم وهزمهم، وغنم أموالهم. وتوجّه إلى الإسكندرية(28/290)
ودخلها، فصادف مراكب البنادقة قد هجموا على ساحل الثغر وأسروا، فخرج إليهم، وحاربهم وهزمهم، فعادوا. «1»
ذكر القبض على المأمون
قال: وفى سنة تسع عشرة وخمسمائة فى يوم السّبت لأربع خلون من شهر رمضان قبض الآمر بأحكام الله على وزيره المأمون أبى عبد الله محمّد وعلى أخوته [الخمسة] «2» وثلاثين نفرا من خواصّه وأهله، واعتقله، ولم يزل فى اعتقاله إلى سنة اثنتين وعشرين، فصلبه مع أخوته.
وقيل فى سبب ذلك إنّ المأمون راسل الأمير جعفرا، أخا الآمر، وأغراه بقتل أخيه وأنّه يقيمه مكانه فى الخلافة، واستقرّت القاعدة بينهما على ذلك، واتّصل ذلك بالشيخ أبى الحسن على بن أبى أسامة، متولّى ديوان المكاتبات، وكان خصيصا بالآمر قريبا منه، وناله من المأمون أذى كثير، فأعلم الآمر بالحال. وكان المأمون كثير التطلّع لأخبار النّاس والبحث عن أحوالهم، وكثرت الوشاة فى أيّامه.
قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل: كان ابتداء حال المأمون أن والده كان من جواسيس الأفضل بالعراق، فمات ولم يخلّف شيئا، فتزوّجت أمّه وتركته فقيرا فاتصل ببعض البنائين بمصر، ثم صار يحمل الأمتعة بالسّوق الكبير. فدخل مع الحمّالين إلى دار الأفضل مرّة بعد أخرى فرآه الأفضل خفيفا رشيقا، حسن الحركة، حلو الكلام والحجّة؛(28/291)
فسأل عنه؛ فقيل هو ابن فلان؛ فاستخدمه مع الفرّاشين. ثم تقدّم عنده وكبرت منزلته وعلت درجته، إلى أن انتهى إلى ما ذكرنا «1» . قال محمد بن على بن يوسف بن جلب راغب»
فى تاريخ مصر: إن ابن الأثير وهم فى وفاة والد المأمون، وأن والده مات فى سنة ثنتى عشرة وخمسمائة، والمأمون إذ ذاك مدبّر دولة الأفضل «3» . وأكثر النّاس يذكرون ما ذكره ابن الأثير.
وقال صاحب كتاب البستان فى حوادث الزّمان: إن المأمون كان يرشّ بين القصرين، وجدّه من غلمان المستنصر بالله. والله أعلم «4» .
ذكر أخبار أبى نجاح بن فنا النصرانى الراهب وقتله
كان هذا الرّاهب من أهل أشموم طنّاح «5» . وكان قد خدم ولىّ الدّولة يحنّا بن أبى الليث، ثم اتّصل بالخليفة الآمر بعد القبض على المأمون. وبذل فى مصادرة قوم من النّصارى مائة ألف دينار، فأطلق يده فيهم. وتسلسل الأمر إلى أن عمّ البلاء منه جميع رؤساء الدّيار المصريّة وقضاتها وكتّابها وغيرهم. ولم يبق أحد إلا ناله منه مكروه من الضّرب والنهب وأخذ المال. وارتفع شأنه عند الآمر حتى كان يعمل له «6» ملابس(28/292)
مخصوصة به بدمياط وتنّيس من الصّوف الأبيض المنسوج بالذّهب، فكان يلبسها ويلبس من فوقها الغفافير الدّيباج «1» . وكان يتطيب فى كلّ يوم بعدة مثاقيل من المسك. وكان يركب الحمير بالسّروج المحلّاة بالذهب والفضة، ويجلس فى قاعة الخطابة بالجامع العتيق بمصر ويستدعى النّاس للمصادرة. فاستدعى فى بعض الأيام رجلا يعرف بابن الفرس، وكان من أكابر العدول ذوى الهيئات والدّيانة، والناس يعظمونه ويبجّلونه- وأوقع به الإهانة والإخراق؛ فخرج من عنده ووقف فى الجامع يوم الجمعة وقال: يا أهل مصر، انظر واعدل مولانا الآمر فى تمكينه هذا النّصرانى من المسلمين! فارتجّ الناس لكلامه وكادت تكون فتنة؛ فدخل جماعة على الآمر وخوّفوه العاقبة، وعرّفوه ما حلّ بالمسلمين منه [87] فاستدعاه، وكان فى المجلس رجل من الأشراف «2» ، فأنشد الآمر أبياتا منها:
إن الّذى شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب
فقال له الآمر: ما تقول يا راهب؟ فمسكت. فأمر به فقتل. وكان الّذى تولّى قتله الأمير مقداد والى «3» مصر، وصلبه على الجسر. ثم أنزل وربط على خشبة ورمى فى بحر النيل وخرجت الكتب إلى الأعمال البحريّة أنّه إذا ألقاه الماء إلى جهة أخرجوه عنها حتّى ينتهى إلى البحر المالح.(28/293)
ولما قتل هذا الرّاهب وجدوا له مقطعا فيه ثلاثمائة طرّاحة «1» سامان محشوة، جددا، لم تستعمل. هذا من هذا النّوع، خلا ما وجد من الذّهب والفضة والأقمشة والديباج «2» .
ذكر مقتل الآمر بأحكام الله وشىء من أخباره
كان مقتله فى يوم الثلاثاء لليلتين خلتا «3» من ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بجزيرة مصر «4» بالقرب من المقياس. وثب عليه عشرة نفر من النّزارية وقتلوه، فحمل فى جل «5» إلى الجامع، ونقل فى مركب عشارى «6» ، وأحدر إلى اللؤلوة فى الخليج، ثم حمل إلى القصر؛ فتوفّى بقية يومه. وقتل القوم الذين قتلوه.(28/294)
وكان مولده فى يوم الثلاثاء لليلة خلت من المحرّم «1» سنة تسعين وأربعمائة وقتل فى يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم «2» منها، فكان عمره أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وولايته تسعة وعشرين سنة وثمانية أشهر ونصف شهر. وكان محكوما عليه إلى أن قتل الأفضل وتولّى المأمون فظهر أمره، وصار يتصرّف [ويركب] «3» فى يوم الجمعة ويوم السّبت ويوم الثلاثاء وإذا لم يركب فى يوم منها ركب فى غيره. ولم يستوزر بعد المأمون وزيرا للسّيف والقلم، بل استبدّ بأموره وباشرها بنفسه.
وكان قبيح السّيرة فى رعيّته، يظلمهم ويأخذ أموالهم ويغتصب أملاكهم؛ وسفك دماءهم، وارتكب المحذورات، واستحسن القبائح.
ويكفى من سوء سيرته تمكينه الرّاهب من المسلمين، وقد تقدم خبره. «4»
وولد للآمر فى هذه السنة ولد سمى أبا القاسم الطّيب وجعله ولىّ عهده «5» ، فأخفاه الحافظ.
وزراؤه: الأفضل؛ ثم المأمون.
قضاته: ابن ذكا النابلسى إلى أن رفع إبراهيم حمزة الشاهد إلى الأفضل أمير الجيوش أنه أحدث فى مجلس الحكم فعزله؛ وولّى أبا الفضل نعمة بن بشير الجليس النابلسى إلى أن استقال؛ فولّى الرشيد أبا عبد(28/295)
الله محمد بن قاسم الصقلى إلى أن توفى؛ فأعاد الجليس ثم صرفه؛ وولّى أبا الفتح مسلم، فبقى إلى أن تولى المأمون فعزله ونفاه لمّا أخطأ فى قراءته؛ وولّى أبا الحجاج يوسف بن أيوب الأندلسى إلى أن توفى فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة؛ فولّى الآمر أبا عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسّر القيسرانى، فاستمر إلى أن قتل الآمر بأحكام الله «1» .
ذكر بيعة الحافظ لدين الله
هو أبو الميمون عبد المجيد بن محمّد بن المستنصر بالله، وهو الحادى عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والثّامن من ملوك الدّيار المصريّة منهم.
بويع له بعد مقتل ابن عمّه الآمر، فى يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من ذى القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بولاية العهد إلى أن يستبرئ نساء الآمر وهل فيهنّ من هى مشتملة على حمل أم لا.
ذكر قيام أحمد بن الأفضل الحافظ وما كان من أمر أحمد إلى أن قتل
قال المؤرّخ: لما بويع الحافظ لدين الله ثار الجند الأفضليّة وأخرجوا ابن مولاهم، أبا علىّ أحمد بن الأفضل، الملّقب بكتيفات، وولّوه إمرة الجيوش؛ وذلك فى يوم الخميس السّادس «2» من ذى القعدة منها، فحكم، واعتقل الحافظ صبيحة يوم بيعته، ودعا للإمام المنتظر؛ وقوى أمر ابن الأفضل.(28/296)
وفى سنة خمس وعشرين رتّب أحمد بن الأفضل فى الأحكام أربعة قضاة: الشّافعية والمالكية والإسماعيلية [88] والإمامية، يحكم كلّ قاض بمقتضى مذهبه ويورّث بمقتضاه، فكان قاضى الشافعيّة الفقيه سلطان «1» ، وقاضى المالكية الّلبنى «2» ، وقاضى الإسماعلية أبو الفضل «3» ابن الأزرق، وقاضى الإمامية ابن أبى كامل «4» .
وسار أحمد بن الأفضل سيرة جميلة بالنّسبة إلى أيّام الآمر، وردّ على الناس بعض مصادراتهم، وأظهر مذهب الإمامية الاثنى عشرية، وأسقط من الأذان قولهم «حىّ على خير العمل» ، وأمر بالدّعاء لنفسه على المنابر بدعاء اخترعه لنفسه وهو: «السّيد الأجلّ الأفضل، مالك أصحاب الدّول، والمحامى عن حوزة الدّين، وناشر جناح العدل على المسلمين، الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحقّ فى حالتى غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضى سيفه، وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادى القضاة إلى اتّباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولى النعم، ورافع الجور عن الأمم، ما لك فضيلتى السّيف والقلم؛ أبو على أحمد بن السيد الأجلّ الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش «5» » .(28/297)
واستمر أمره إلى يوم الثّلاثاء سادس عشر المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمسمائة. فاتّفق ركوبه فى هذا اليوم إلى الميدان بالبستان الكبير «1» ظاهر القاهرة، للّعب بالأكرة «2» على جارى عادته، فوثب عليه مملوك رومىّ، وقيل بل من صبيان الخاصّة «3» ، فطعنه طعنة ألقاه بها عن فرسه، ونزل واحتزّ رأسه، ومضى به إلى القصر؛ وذلك بموافقة من الأجناد. فكانت مدّة تغلّبه على الأمر سنة واحدة وشهرين وثلاثة عشر يوما؛ ودفن بتربة أبيه خارج باب النصر «4» .
ذكر بيعة الحافظ لدين الله الثانية
قال: ولما قتل أحمد بن الأفضل بويع الحافظ بالخلافة بيعة عامّة، وظهر الحمل المنتظر بنتا، فانتقلت الخلافة إليه، وأمر أن يدعى له على المنابر: اللهم صلّ على الذى شيّدت به الدّين بعد أن رام الأعداء دثوره، وأقررت الإسلام بأن جعلت طلوعه على الأمّة وظهوره، وجعلته آية لمن يدبّر الحقائق بباطن البصيرة، مولانا وسيّدنا وإمام عصرنا وزماننا، عبد المجيد أبى الميمون، وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، صلاة دائمة(28/298)
إلى يوم الدين «1» .
قال: ولما تم أمر الحافظ استوزر أبا الفتح يانس، وهو رومّى من مماليك الأفضل، ولقبه بأمير الجيوش؛ فقتل الطّائفة المعروفة بصبيان الخاصّ، ومن جملتهم قاتل أحمد بن الأفضل. وكان عظيم الهيبة، بعيد الغور، فخافه الحافظ وتخيّل منه، وتخيّل يانس أيضا من الحافظ، فدبّر كلّ واحد منهما على صاحبه، فسبق تدبير الحافظ فيه فسمّه فى إبريق استعمل الماء منه عند الطّهارة فعولج وكاد أن يبرأ. فكلّم الحافظ بعض الأطباء، فقال له الطبيب: إن رأى مولانا أمير المؤمنين أن يمضى إليه ويزوره ويهنّئه بالعافية فإنّه لا بدّ أن ينهض إليك ويمشى، فإذا مشى لا يكاد يعيش أبدا. فمضى إليه الحافظ فقام إليه وتلقّاه، فمات فى ليلته؛ وذلك فى السّادس والعشرين من ذى الحجة «2» فكانت مدة وزارته تسعة أشهر.
ذكر الخلف بين ابنى الحافظ لدين الله
قال المؤرخ: وفى شعبان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة جرى بين أبى نزاب حيدرة وحسن، ولدى الحافظ، حرب شديدة، وافترقت العساكر على فرقتين، وهما الرّيحانية والجيوشية، وكان بينهما وقعة فى خامس شهر رمضان ووقع الحرب بينهما بين القصرين؛ وقتل من الطّائفتين تقدير عشرة آلاف إنسان. وكان سبب ذلك أن الحافظ جعل ولده حيدرة ولىّ عهده من بعده، فلم يرض حسن بذلك، فوقع الاختلاف والحرب بينهما.
واستظهر حسن على أخيه حيدرة، فهرب حيدرة إلى أبيه، فأرسل الحافظ إلى ابنه حسن ليدخل إليه، فامتنع وضايق القصر، وطالبه بأخيه(28/299)
حيدرة، فتلافاه الحافظ وجعله ولىّ عهده من بعده. وتمكّن حسن من الدّولة والتصرف فيها بحسب رأيه، ولم يبق للحافظ معه حكم «1» .
[89] ذكر مقتل حسن بن الحافظ
كان مقتله فى يوم الثّلاثاء الثّالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة وذلك أنه لمّا استقر فى ولاية العهد والوزارة والتدبير واستبدّ بالأمر، قبض على جماعة من الأمراء وقتلهم، بسبب قيامهم مع أحمد بن الأفضل، وأقام غيرهم؛ فخافه من بقى من الأمراء العتق، وأجمعوا على خلع أبيه من الخلافة وولده حسن من الوزارة فاجتمعوا بين القصرين، وراسلوا الحافظ، وأعلموه بما أجمعوا عليه، فاستعطفهم الحافظ واعتذر إليهم؛ وهرب حسن إلى أبيه، فقبض عليه وقيّده، وذكر ذلك للأمراء، فقالوا: لا بدّ من قتله، فسقاه أبوه سمّا فمات، وجعله على سرير، وأمر الأمراء بمشاههدته، فدخلوا عليه وورأوه فسكتوا. وقيل إن قيام الأمراء «2» كان بتدبير الحافظ.
ذكر وزارة بهرام الأرمنى
وفى يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة، وقيل لإحدى عشرة ليلة خلت منه، استوزر الحافظ بهرام الأرمنى النّصرانى، ونعته بسيف الإسلام تاج الملوك «3» وكان بهرام المذكور قد وصل إلى الدّيار المصريّة(28/300)
واجتمع بالحافظ، فرأى منه عقلا وافرا وإقداما فى الحرب وحسن تدبير «1» .
وكان سبب وصوله من بلاده أنّ القائم بأمر الأرمن مات، وكان بهرام أحقّ بمكانه من غيره فعدل الأرمن عنه وولّوا غيره، فغضب لذلك وخرج من تلّ باشر «2» وقدم مصر؛ فعيّنه الحافظ للوزارة. واستشار بعض أهله وأكابر دولته فيه، فكلّهم كره ذلك وأشار عليه ألا يفعل، وقالوا:
إنّه نصرانى لا يرضاه المسلمون، وإنّ من شروط الوزارة أنّ الوزير يرقى المنبر مع الإمام فى الأعياد ليزرّ عليه المزرة الحاجزة بينه وبين الناس؛ وأنّ القضاة هم نواب الوزراء، من زمن أمير الجيوش. بدر الجمالى، ويذكرون فى النّيابة عنهم فى الكتب الحكمية النّافذة عنهم إلى الآفاق وكتب الأنكحة. فقال الحافظ: إذا رضيناه نحن فمن يخالفنا، وهو وزير السيف؟ وأمّا صعود المنبر فيستنيب عنه فيه قاضى القضاة، وأمّا ذكره فى الكتب الحكميّة فلا حاجة إلى ذلك. واستوزر والنّاس ينكرون ذلك عليه «3» .
وقال بعض المؤرخين: إن بهرام كان والى الغربيّة يومئذ وإنّه سار منها مجدّا إلى أن وصل إلى القاهرة وحاصرها يوما واحدا ودخلها. فلمّا ولى الوزارة وثبتت بها قدمه سأل الحافظ أن يسمح له بإحضار إخوته وأهله، فأذن له فى ذلك. فأرسل إليهم وأحضرهم من تلّ باشر، فتواصلوا حتى كمل منهم ومن غيرهم من الأرمن تقدير ثلاثين ألف إنسان؛ فاستطالوا على المسلمين. وبنيت فى أيّامه كنائس كثيرة وديرة(28/301)
حتى إن كل رئيس من أهله بنى له كنيسة؛ وخاف أهل مصر منهم أن يغيّروا الملّة الإسلاميّة. وكثرت الشّكايات فيه. وكان أخوه المعروف بالباساك، وإليه تنسب المنية «1» التى بالقرب من إطفيح «2» ، قد ولى الأعمال القوصيّة فجار فيها جورا عظيما واستباح الأموال، فعظم ذلك على النّاس.
ذكر خروج بهرام «3» من الوزارة ووزارة رضوان ابن الولخشى
قال: ولما ثقلت وطأة بهرام على النّاس اجتمع الأمراء وكاتبوا رضوان بن الولخشى، وذلك فى صفر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، وكان يومئذ متولى الغربيّة ولاه بهرام إيّاها إبعادا له، فلمّا أتته كتب الأمراء نهض فى طلب الوزارة، ورقى المنبر، وخطب خطبة بليغة حرّض النّاس فيها على الجهاد. فأجابوه. وحشد العربان وقدم إلى القاهرة. وكان الأمراء قد كاتبوه وقالوا: إذا وقع الوجه فى الوجه ارفع المصاحف على الرّماح فإنّا ننحاز إليك؛ ففعل ذلك. وخرج بهرام إليه لمّا قرب من القاهرة؛ فلمّا عاين الأمراء [90] والجند المصاحف التحقوا جميعهم برضوان، وبقى بهرام فى الأرمن خاصّة. فراسل الحافظ وقال: أنا ألقاهم بمن معى. فخاف الحافظ عاقبة ذلك، فأمره أن يتوجّه إلى قوص ويقيم عند أخيه الباساك إلى حين يدبّر أمرا. فعاد بهرام إلى القاهرة،(28/302)
وأخذ ما خفّ حمله، وخرج من باب البرقيّة فى حادى عشر جمادى الأولى؛ وتوجّه إلى الأعمال القوصيّة.
قال: ولما انفصل عن القاهرة أتت العوامّ منازل الأرمن، وكانوا قد نزلوا الحسينيّة «1» وعمروها دورا. ولمّا اتصل بأهل قوص انهزام بهرام ثاروا بأخيه الباساك وقتلوه ومثّلوا به، وربطوا فى رجله كلبا ميّتا، ورموه على مزبلة. فقدم بهرام بعد ذلك بيومين، ومعه طائفة من أقاربه، فرأى الباساك على هذه الحال، فقتل جماعة من أهل قوص بالسّيف ونهبها وسار إلى أسوان. ثمّ رجع ونزل بالدّيرة البيض «2» ، وهى من أعمال أخميم بالجانب الغربى.
قال: ولمّا فارق بهرام القاهرة دخلها رضوان ووقف بين القصرين، واستأذن الحافظ فيما يفعله؛ فأمره بالنّزول بدار الوزارة، فنزلها، وخلع عليه خلع الوزارة، ونعته بالأفضل. وندب رضوان جماعة من العسكر مع أخيه ناصر الدّين، فتوجّهوا إلى بهرام، فاستقرّ الأمر بينهم أن يقيم بالدّيرة البيض؛ وعاد الجند الّذين مع بهرام إلى مصر.
ودبر رضوان الأمر أحسن تدبير، وصادر جماعة من أصحاب بهرام وشدّد عليهم الطّلب، وقتلهم بالسيف.
وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة أحضرت «3» من تنّيس امرأة بغير يدين، وموضع يديها مثل الحلمتين، فجىء بها إلى مجلس الوزارة بين يدى رضوان، فعرّفته أنّها تعمل برجليها ما يعمله الناس باليدين من خطّ ورقم وغير ذلك. فأحضر لها دواة، فتناولت الأقلام(28/303)
برجلها اليسرى وتأمّلتها قلما قلما فلم ترض شيئا منها؛ فأخذت السّكين وبرت لنفسها قلما وشقّته وقطّته، واستدعت ورقة فأمسكتها برجلها اليمنى، وكتبت باليسرى بأحسن خطّ ما تكتب النّساء بأيديهنّ مثله، وحمدت الله فى آخر الرّقعة، وناولتها للوزير. فتناولها فوجدها قد سألته الزّيادة فى راتبها؛ فزادها، وأعادها إلى بلدها «1» .
وفيها بنى رضوان المدرسة المعروفة به بالإسكندريّة «2» ، واستدعى الفقيه أبا طاهر بن عوف «3» إلى حضرته وأسند إليه تدريسها.
ذكر خروج رضوان من الوزارة وما كان من أمره إلى أن قتل
وفى شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة أحضر الحافظ بهرام الأرمنى من الصّعيد، وأسكنه فى القصور وأكرمه، فعظم ذلك على الأفضل رضوان، فشغب الحافظ عليه الجند، فقام بعضهم عليه، وجرت بينهم حرب بالقاهرة. وطلب رضوان أن يسكن مع الحافظ فى القصور، فلم يمكّنه. فتزايد الحال على الأفضل وضعفت قدرته عن لقاء العساكر، فهرب إلى الشام، وذلك فى منتصف شوال منها، وقصد(28/304)
كمشتكين والى صرخد «1» ، فأقام عنده فأكرمه «2» . ثمّ عاد إلى مصر فى سلخ المحرّم سنة أربع وثلاثين وقد جمع جمعا صالحا من الجند، فخرج إليه العسكر وحاربوه عند باب الفتوح، فمضى ونزل عند الرّصد، ثم مضى إلى الصّعيد. فندب اليه الحافظ الأمير سيف الدّولة أبا الفضل «3» بن مصال بأمان؛ فسار إليه وتلطّف به، إلى أن أحضره إلى القصر، فى رابع شهر ربيع الآخر من السّنة، فاعتقله فى بعض قاعات القصور. فأقام فى الاعتقال إلى سنة اثنتين وأربعين، فخرج من نقب نقبه فى القصر، وذلك فى ليلة الثّلاثاء لسبع بقين من ذى القعدة منها.
وركب وحوله جماعة ممن كان يكاتبه، وتوجّه إلى الجيزة، ولقى عسكر الحافظ وقاتلهم عند جامع ابن طولون، فهزمهم. ودخل القاهرة، ونزل بالجامع الأقمر «4» ، وأغلق الحافظ باب القصر فى وجهه؛ فاستحضر رضوان أرباب الدّولة والدّواوين، وأمر ديوان الجيش بعرض الجند، فعرضهم، وأخذ أموالا كثيرة خارجة عن القصر كانت فى الدّواوين، وأنفق؛ وأرسل إلى الحافظ فى طلب المال، فأرسل إليه عشرين ألف دينار. وأمر الحافظ مقدّمى السّودان بالهجوم على رضوان وقتله، فهجموا عليه، فهمّ بالركوب، فاعجلوه عن ذلك، وضربه بعضهم بسيف فقتله. وقتل معه أخوه، وأحضرت رأساهما إلى الحافظ.(28/305)
وسكنت الفتنة، وأرسل الحافظ الرأس [91] لزوجة رضوان فلمّا وقع فى حجرها قالت: هكذا تكون الرجال. فلم يكن فى وقت رضوان أسمع «1» منه.
وكان مولده فى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وأوّل ولاية وليها الأعمال القوصيّة والأعمال الإخميمية فى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
ذكر وفاة بهرام الأرمنى
كانت وفاته لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بالقصور، وكان الحافظ قد أسكنه بدار بها ولم يمكّنه من التصرف، وكان يشاوره فى تدبير الدّولة والأمور ويصدر عن رأيه. فلمّا هلك حزن عليه حزنا شديدا، وأمر بغلق الدّواوين ثلاثة أيام.
وأحضر الحافظ بطرك الملكية بمصر، وأمره بتجهيزه، فجهّزه.
وأخرج وقت صلاة الظّهر فى تابوت عليه الدّيباج، وحوله جماعة من النّصارى يبخّرون باللّبان والسّندروس والعود؛ وخرج النّاس كلّهم مشاة ولم يتخلّف عن جنازته أحد من الأعيان. ثمّ خرج الحافظ على بغلة خلف التّابوت وعليه عمامة خضراء وثوب أخضر بغير طيلسان. ولم تزل النّاس مشاة والقسوس يعلنون بقراءة الإنجيل، والحافظ على حالته إلى دير الخندق «2» بظاهر القاهرة؛ وقيل بل فى بستان الزّهرى(28/306)
فى الكنيسة المستجدة «1» . ونزل الحافظ عن بغلته، وجلس على شفير القبر، وبكى بكاء «2» كثيرا.
وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة طلع النّيل حتى بلغ تسعة عشر ذراعا وأربع أصابع «3» ، ووصل الماء إلى الباب الجديد «4» أوّل الشارع الأعظم بالقاهرة، وصار النّاس يتوجّهون من القاهرة إلى مصر من جهة المقابر. ولمّا وصل الماء إلى الباب أظهر الحافظ الحزن والانقطاع، فدخل عليه بعض خواصّه وسأله عن السّبب، فأخرج له كتابا وقال له:
انظر هذا السّطر؛ فقرأه، فإذا فيه، إذا وصل الماء إلى الباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد. وقال: هذا الكتاب الذى تعلم منه أحوالنا وأحوال الدّولة وما يأتى بعدها «5» .
ذكر وفاة الحافظ لدين الله وشىء من أخباره
كانت وفاته فى ليلة الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ومولده فى المحرّم سنة أربع وستّين(28/307)
وأربعمائة، وقيل فى المحرّم سنة ثمان وستين «1» . فكانت مدّة عمره ستّا وسبعين سنة وشهورا، ومدّة ولايته منذ بويع البيعة العامّة الثانية، بعد قتل أحمد بن الأفضل، ثمانى عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما.
قال المؤرخ: وكان الحافظ موصوفا بالبطش والتيقّظ؛ وكان شديد المناقشة. وهو الذى عمل طبل القولنج الذى كسره الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف؛ وكان هذا الطّبل قد عمل من سبعة معادن والكواكب السبعة فى إشراقها. وكان خاصّته أنه كلّما ضرب به ضربة خرج الرّيح من مخرج الضّارب «2» .
قال بعض المؤرخين: إنّ الحافظ خطر بباله أن ينقل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إلى القاهرة، وكانت المدينة إذ ذاك يخطب بها لبنى العبّاس، لظهور ملوك الدّولة السّلجقية؛ فأرسل نحوا من أربعين رجلا من أهل النّجدة والقدرة، فتوجّهوا إلى المدينة وأقاموا بها مدّة، وتحيّلوا بأن حفروا سربا من مكان بعيد، وعملوا حساب الخروج فى المكان المقصود. فعصم الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلّم من أن ينقل من المكان الذى اختاره له؛ فيقال إن السّرب انهار عليهم فهلكوا؛ وقيل بل سعى بهم فأهلكوا.
وكان للحافظ من الأولاد: أبو علىّ حسن؛ هلك كما ذكرنا؛ وعبد الله، هلك فى حياته أيضا؛ وأبو المنصور إسماعيل؛ وأبو الأمانه جبريل؛ ويوسف.(28/308)
ووزراؤه: تقدّم ذكرهم. ولمّا قتل رضوان بن الولخشى لم يستوزر بعده أحدا، وإنما كانوا كتّابا. فمن أشهر كتابه أبو على حسن الأنصارى كان [القاضى] «1» الفاضل يقول: لم يسمح الزّمان يمثله.
ومن أشهر شعرائه الشّريف أبو الحسن الأخفش المغربى، فى جملة شعره فى قصيدة:
ذكر الدّوح وشاطى بردى ... وحبابا فيه يحكى بردا
[92] والصّبا يمرح فى أرجائه ... وتحوك الرّيح منه زردا
ينثر الدّرّ عليه فضّة ... وتذيب الشمس فيه عسجدا
ورشألو لم تكن ريقته ... خمرة صافية ما عر بدا
قضاته: لمّا غلب أحمد بن الأفضل على الآمر، أبقى محمد ابن هبة الله ابن ميسّر القيسرانى على القضاء، ثم صرفه الحافظ واستقضى أبا الفخر صالح بن عبد الله بن أبى رجاء؛ ثم قبض عليه الوزير يانس الرّومى وقتله، فولّى سراج الدّين أبو الثّريّا نجم من جعفر، مضافا إلى الدّعوة، إلى أن قتل فى ذى القعدة سنة ثمان وعشرين؛ فأعيد سناء الملك بن ميسّر، فأقام إلى أن قبض عليه فى يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين، وسيّر إلى تنّيس فقتل بها. وولى بعده القاضى الأعزّ أبو المكارم أحمد بن عبد الرّحمن بن محمد بن أبى عقيل، إلى أن توفى فى شعبان سنة ثلاث(28/309)
وثلاثين. وأقام الناس بغير قاض ثلاثة أشهر، ثم ولى أبو الفضائل هبة الله بن عبد الوارث الأنصارى لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة منها. ثمّ جرت مفاوضة بينه وبين «النبيه» «1» أبى الحسن على بن «اسماعيل» «2» ، قيل أدّت الى مصافعة خرج فى أثنائها القاضى إلى القصر وهو مخرّق الأثواب وقد تحلّقت عمامته فى حلقه، فعظم على الحافظ خروجه على هذه الهيئة وغرّمه مائتى دينار؛ واستناب أبا طاهر إسماعيل ابن سلامه الأنصارى، فأقام فى النّيابة إلى مستهلّ المحرّم سنة خمس وثلاثين، فوفّر جارى القضاء، وهو أربعون دينارا فى كل شهر، وخدم لجارى التّقدمة فى الدّعوة، وهو ثلاثون دينارا، فى الوظيفتين؛ فأجيب إلى ذلك وأقام إلى أن صرف لسبع خلون من صفر سنة ثلاث وأربعين، وبقى على الدّعوة. وولى القضاء أبو الفضائل يونس بن محمد بن الحسين المقدسى إلى آخر المدّة «3» .
ذكر بيعة الظّافر بأعداء الله
هو أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله، وهو الثّانى عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والتّاسع من ملوك الدّيار المصريّة منهم. بويع له بعد وفاة أبيه لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. واستوزر الأمير نجم الدّين أبا الفتح سليم بن محمّد بن(28/310)
مصال، ونعته بالسيّد الأجل المفضّل أمير الجيوش؛ وكان إذ ذاك من أكابر أمراء الدّولة.
وفى الرابع من شعبان من السّنة اجتمع السودان وجماعة من المفسدين بالبهنسانية «1» ، فخرج إليهم الوزير فحاربهم وهزمهم.
ذكر قيام العادل بن السّلار ووزارته ومقتل ابن مصال
فى هذه السنة ثار الأمير المظفّر أبو الحسن على «2» بن السّلار والى الإسكندرية وخرج وحشد وتقدّم بمن معه، ودخل القاهرة فى يوم الأربعاء سابع شعبان، ووقف على باب القصر، وراسل الظافر والمدبّر له من النساء؛ فراجعت فى ذلك وفاء لابن مصال، ثم أجيب إلى ما سأله. وفتح باب القصر، وخلع على المظفّر خلع الوزارة ولقّب بالعادل. فلمّا اتصل ذلك بابن مصال جمع عربان البلاد، ووافقه بدر بن رافع مقدّم العربان بتلك البلاد؛ وقصد ابن السّلار فندب إليه ربيبه عبّاس بن يحيى بن تميم بن المعّز بن باديس بعسكر معه. فعسكر ببركة الحبش. فندب ابن مصال لحربه الأمير الماجد فجدّ فى السّير وكبس عسكر عباس، فأثحنهم جراحا وقتلا؛ فانهزم عباس.(28/311)
واجمع ابن مصال رأيه على قصد بلاد الصّعيد، فعاجله ابن السّلار وأمدّ ربيبه بالعساكر وأمره بمعاجلته قبل الجمع، فأدركه بالقرب من دلاص «1» . والتقوا بينها وبين مهد، وهى قرية هناك، واقتتلوا؛ فانجلت الحرب عن قتل ابن مصال وبدر بن رافع. وكانت هذه الوقعة فى يوم الأحد تاسع عشر شوال. وحمل رأس ابن مصال إلى القاهرة، وطيف به، وخلع على العادل فى ذلك «2» اليوم.
وفى السّادس والعشرين من شهر رمضان أغلق العادل أبواب القاهرة والقصور، وقبض على صبيان الخاصّ وقتلهم، وكانوا جمعا كثيرا وهم أولاد الأجناد والأمراء وعبيد الدّولة فكان الرجل إذا توفّى وخلّف أولادا حملوا إلى حضرة الخلافة وأودعوا فى أماكن مفردة لهم، ويؤخذ فى تعليمهم الفروسية وغير ذلك؛ وتسمّوا صبيان الخاص. وكان سبب إيقاع العادل بهم أنه بلغه أنهم تعاقدوا على قتله، فبادر بهم، وقبض عليهم، وقتل أكثرهم، وجعل من بقى منهم فى المراكز بالثغور «3» .
وفى يوم الجمعة لأربع خلون من شوّال من السّنة قتل العادل أبا المكرّم الموفّق محمّد بن معصوم التنّيسى ناظر الدّواوين، وكان سبب ذلك أن العادل فى مبدأ أمره كان من صبيان الحجر وكان يتكرر [دخوله] «4» إلى الموفق برسائل ويكلّمه بكلام غليظ، فكرهه(28/312)
الموفّق، ثم كتب بعد ذلك لابن السّلار منشور بإقطاع، فدخل به إليه، فتغافل عنه وأهمل أمره؛ فقال له ابن السّلار: ما تسمع؟ فقال: كلامك ما يدخل فى أذنى أصلا. فأخذ ابن السّلار منشوره وخرج من حيث أتى. فلمّا ولى أمر الدّولة دحل عليه الموفّق وسلّم عليه، فقال له:
ما أظنّ كلامى يدخل فى أذنك. فتلجلج بين يديه وقال له: عفو السّلطان. فقال: قد استعملت للعفو من حين خروجى من عندك، ما أتيتك به. وأشار لبعض خدمه فأحضر مسمارا من حديد عظيم الهيئة «1» ، وقال: هذا والله أعددته لك من ذلك الوقت. وضرب المسمار فى أذنه حتى نفذ من الأخرى، وحمل إلى باب زويلة الأوسط ودقّ المسمار فى خشبة، وعلّق عليها وقد مات.
ذكر ما فعله الفرنج بالفرما وما جهّزه العادل من الأسطول إلى بلادهم
وفى شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة أغار الفرنج على الفرما فنهبوها وأحرقوها «2» وعادوا إلى بلادهم. فجهّز العادل المراكب الحربيّة وشحنها بالرّجال وسفّرها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وأربعين، فمضت إلى يافا وقاتلوا من بها فى المراكب، واستولوا على عدّة كثيرة من مراكب الفرنج، وأحرقوا ما عجزوا عن أخذه، وقتلوا خلقا كثيرا. ثم امتدّوا إلى ثغر عكّا وفعلوا فيه كفعلهم بيافا. وكذلك فعلوا بصيدا وبيروت وطرابلس. وأنكوا فى الفرنج نكاية عظيمة.(28/313)
ووجدوا طائفة كثيرة من حجّاج الفرنج فقتلوهم عن اخرهم. وكان جملة ما أنفق فى هذا الأسطول ثلاثمائة ألف «1» دينار.
وفى سنة ستّ وأربعين قطعت جميع الكساوى المرتّبة للأمراء والدّواوين عن أربابها، وتوفّرت.
ذكر مقتل العادل بن السّلار وسلطنة ربيبه عبّاس
كان مقتله فى السّادس من المحرّم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
وكان سبب ذلك أن العادة كانت جارية بتجريد عسكر من مصر فى كلّ سنة لحفظ عسقلان من الفرنج، وكان الفرنج قد حاصروها فى سنة سبع وأربعين. فلمّا كان فى هذه السنة وقعت القرعة فى البدل على عبّاس ربيب العادل، وهو ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، فجرّده العادل بالعساكر، وقال له: هذا الثّغر قد نازله الفرنج، ولا غنية أن تتوجّه بالعساكر إليه لتدفعهم عنه. فخرج عباس من القاهرة ومعه جماعة من أكابر الأمراء، منهم أسامة بن منقذ، وكان خصيصا بعبّاس فلمّا وصلوا إلى بلبيس تذاكر عبّاس وأسامة القاهرة وطيب المقام بها وما خرجا إليه، وما يلقيانه من الشّدائد ولقاء العدوّ؛ فتأوّه عبّاس لذلك ولام عمّه كونه جرّده، فقال له أسامة: لو أردت أنت كنت سلطان مصر.
قال: وكيف الحيلة فى ذلك؟ فقال: هذا ولدك نصر «2» ، بينه وبين الظّافر مودّة عظيمة، فأرسله إليه وخاطبه على لسانه أن تكون أنت(28/314)
السّلطان مكان عمّك، فهو يختارك ويكره العادل. فإن أجابك لذلك فاقتل عمّك.
فجهّز عبّاس ابنه وعرّفه ما تقرّر مع أسامة. فدخل إلى القاهرة على حين غفلة من العادل؛ واجتمع بالظّافر وأعلمه الحال؛ فأجاب لما طلب.
ثمّ مضى نصر إلى عند جدّته، زوجة العادل «1» ، وأعلم العادل أنّ والده أعاده شفقة عليه من السّفر. ومضى العادل إلى مصر وجهّز المراكب الحربية، وأنفق فى رجالها ليلحق عبّاسا، وأقام طول نهاره فى العرض [94] والنّفقة على رجالها، وعاد إلى داره بالقاهرة وهو على غاية من التّعب. فلمّا نام على فراشه احتزّ نصر بن عبّاس رأسه، ومضى به إلى القصر، ودخل إلى الظّافر، وجهّز إلى أبيه، فركب لوقته؛ ودخل القاهرة صبيحة نهار الأحد الثّانى عشر من المحرّم، فوجد جماعة من الأتراك، كان العادل قد اصطنعهم لنفسه، قد ثاروا لذلك، فلا طفهم وطمّنهم؛ فلم يطمئنوا. ومضوا إلى دمشق.
وكانت وزارة العادل ثلاث سنين ونصف سنة تقريبا؛ وكان من الأكراد الزرزارية. ولمّا قتل طيف برأسه فى القاهرة جميعا. ونصب الظّافر عبّاسا فى السّلطنة «2» .
ذكر مقتل الظّافر بأعداء الله وأخويه
كان مقتله فى ليلة الخميس سلخ المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وذلك أنه خرج ليلا متنكّرا ومعه خادمان وجاء إلى دار نصر(28/315)
ابن عبّاس، وهى الدّار المعروفة قديما بدار جبر بن القاسم ثم عرفت بسكن المأمون بن البطائحى، وهى المدرسة المعروفة بالسّيوفيّة «1» فى وقتنا هذا، المقابلة لحافر الدبابله. بخط سوق السّيوفيين بالقاهرة وهى لطائفة الفقهاء الحنفيّة. فلمّا جاء الظّافر إليه قتله نصر بن عبّاس، وحفر له تحت لوح رخام ودفنه «2» ، وقتل أحد الخادمين وهرب الآخر.
وكان سبب ذلك أنّ الأمراء استوحشوا من أسامة بن منقد لمّا حسّن لعبّاس قتل عمّه العادل، وقصدوا قتل أسامة. فلمّا علم بذلك اجتمع بعبّاس وقال له: كيف تصبر على ما يقوله النّاس فى ولدك واتّهامهم أنّ الخليفة الظّافر يفعل به ما يفعله مع النساء! فعظم ذلك على عبّاس. وقيل بل كان الظّافر قد أنعم على نصر بن عبّاس بقليوب، فجاء نصر إلى والده وأعلمه بذلك، فقال له أسامة: ما هى بمهرك غالية.
فقال عبّاس لأسامة: كيف تكون الحيلة على هذا الأمر؟ فقال: إنّ الخليفة فى كلّ وقت يأتى لولدك فى هذه الدّار خفية، فإذا أتاه فأمره بقتله. فأوصى عبّاس ابنه بذلك؛ فلما جاءه قتله نصر «3» .
قال: ولمّا كان صبيحة يوم قتله ركب عبّاس وولده على العادة وأتى إلى القصر؛ فقال لبعض الخدم: أعلم مولانا ليجلس للاجتماع معه.(28/316)
فدخل وأعلم أهل القصر بما التمسه عبّاس من الاجتماع بالخليفة.
فقالوا: قل له إنّه خرج البارحة ولم يعد. فجاء الخادم إليه وأعلمه الخبر؛ فشدّد عبّاس فى طلب الظّافر، ودخل إلى القاعات ومعه أكابر الخدم، وقال: لا بدّ من مولانا. فقيل له عند دلك: أنت أعلم بحاله. فأحضر أخويه يوسف وجبريل وقال لهما: أنتما قتلتما مولانا. فأنكرا ذلك وحلفا عليه الأيمان المغلّظة. وأحضر القاضى وجماعة من الأعيان أهل الفتيا وداعى الدّعاة وقال: قد صحّ عندى أنّ أخوى الظّافر قتلاه. فأفتوه بقتلهما؛ فقتلا بين يديه وقيل إنّه قتل معهما أبا البقاء ابن حسن بن الحافظ، وصارم الدّولة، مصلح، زمام القصر «1» قال: وكان الظافر من أحسن خلق الله وجها. وكان مولده يوم الأحد، النّصف من شهر ربيع الآخر «2» سنة سبع وعشرين وخمسمائة؛ فكانت مدّة عمره إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر وخمسة عشر يوما؛ ومدّة ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وخمسة أيام «3» ولده: أبو القاسم عيسى.
وزراؤه: تقدّم ذكرهم.
قضاته: أبو الفضائل يونس، إلى أن صرفه العادل بن السّلار فى سنة سبع وأربعين؛ وولّى أبا المعالى مجلى «4» بن نجا المخزومى، فأقام إلى آخر الدّولة.(28/317)
ذكر بيعة الفائز بنصر الله
هو أبو القاسم عيسى بن الظّافر بأعداء الله؛ وهو الثالث عشر من ملوك الدّولة العبيديّة والعاشر من ملوك الدّيار المصرية منهم. بويع له بعد مقتل والده فى يوم الخميس سلخ المحرّم سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وعمره خمس سنين. وذلك أنّه لما قتل الظّافر استدعى عبّاس ابنه أبا القاسم عيسى هذا وحمله على كتفه، ووقف فى القاعة، وأمر أن تدخل الأمراء، فدخلوا؛ فقال: هذا ولد مولاكم وقد قتل أبوه وعمّاه كما ترون، والواجب الطّاعة لهذا الطفل. فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا؛ وصاحوا صيحة عظيمة زلّ منها عقل الصّبى واختل. ثمّ سيّره [95] إلى إمّه ولقّب بالفائز؛ فأقام يصرع فى كلّ يوم «1» .
وانفرد عبّاس بالوزارة وبتدبير الأمور، ولم يبق على يده يد، وظنّ أن الأمر استقام له.
ذكر خروج عبّاس من الوزارة وما آل إليه أمره
قال المؤرخ: لما قتل الظّافر بأعداء الله أكثر أهل القصر النّواح عليه، وشرعوا فى إعمال الحيلة على عبّاس، ووافق ذلك نفور الأمراء منه لإقدامه على القتل: فاختلفت الكلمة عليه، وهاجت العساكر.
وتفرّقت الفرق، ولبسوا السّلاح. فخرج إليهم عبّاس فى يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول من السنة، فقاتلهم وهزمهم، وقتل جماعة منهم.(28/318)
فأرسلت عمّة الفائز أخت الظّافر شعور أهل القصر طىّ الكتب إلى الأمير طلائع ابن رزّيك، وهو إذ ذاك متولّى الأعمال السّيوطية، وقيل كان متولّى منية بنى خصيب «1» ، وسألوه الانتصار لمولاه فجمع العربان والأجناد ومقطعى البلاد، وسار إلى القاهرة، فوصل إليها فى تاسع عشر شهر ربيع الأول من السّنة، وخرج النّاس للقائه.
فاستشار عبّاس أسامة بن منقد فأشار عليه باللّحاق بالشّام. فدخل إلى القصر وأخذ فى [جمع] «2» تحفه وحمل أمواله، وسار هو وأسامة بن منقذ إلى الشّام على طريق أيلة. فأرسلت عمّة الفائز إلى الفرنج بعسقلان رسلا على البريد تعلمهم الحال وتبذل لهم الأموال فى الخروج على عبّاس وأخذ ما معه. فخرجوا إليه وقاتلوه، فتخاذل عنه أصحابه، ونهبوا ما معه فأسره الفرنج وحملوه إلى عسقلان؛ ونجا أسامة إلى دمشق «3» .
وقيل إن الفرنج قتلوا عبّاسا وأسروا ابنه نصرا ففداه الصّالح بن رزّيك، وأحضره إلى القاهرة وضرب عنقه.
ذكر وزارة الصّالح أبى الغارات طلائع بن رزيك
قال المؤرخ: لمّا توجّه عبّاس نحو الشّام وافق ذلك قدوم طلائع بن رزيك، فخرج الأمراء والعساكر إليه. فمن الأمراء من شهر سلاحه(28/319)
وقاتله، ومنهم من التحق به؛ ثم انجلى الأمر بعد ساعة عن دخول طلائع إلى القاهرة والعساكر بين يديه. وشقّ القاهرة وهو لابس السّواد، وأعلامه سود كذلك حزنا على الظّافر، وشعور نساء القصر التى سيّرت إليه على الرّماح «1» .
ونزل طلائع دار المأمون الّتى كان بها نصر بن عبّاس، وأحضر الخادم الذى كان مع الظّافر لمّا قتل وأعلمهم بمكانه، فأخرج وغسّل وكفّن، وحمل فى تابوت على أعناق الأمراء والأستاذين، وابن رزّيك يمشى أمام التّابوت. وأتوا به إلى القصر فصلّى عليه ابنه الفائز ودفن فى تربتهم بالقصر وجلس الفائز فى بقيّة النّهار، وخلع على ابن رزّيك بالموشّح والعقد، وعلى ولده وإخوته وحاشيته، وقرئ سجلّه «2» بالوزارة، ونعت بالملك الصّالح. وقبض على جماعة من الأمراء وقتلهم، فى ثالث عشرى شهر ربيع الأول من السنة وفى سنة خمسين وخمسمائة خرج الأمير تميم «3» ، متولّى إخميم وأسيوط، على الصّالح، وجمع جمعا صالحا «4» ، فأخرج إليه الصّالح عسكرا، فالتقوا واقتتلوا، فقتل تميم فى سابع عشر رجب.
وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة انفسخت الهدنة بين الصّالح بن رزّيك والفرنج، فجهّز الصّالح الجيوش والسّرايا إلى بلاد الفرنج.
فوصلت سريّة إلى عسقلان وغنمت وعادت سالمة. وجهّز المراكب فى(28/320)
البحر إلى نحو بيروت، فأوقعت بمراكب الفرنج. وجهّز سريّة إلى جهة الشّوبك «1» فعاثوا فى تلك النّواحى، وعادوا سالمين بالغنائم والأسرى.
وفى يوم الثلاثاء تاسع عشر ذى الحجّة سنة اثنتين وخمسين قبض الصّالح ابن رزّيك على الأمير ناصر الدّولة ياقوت وأولاده واعتقلهم؛ وسبب ذلك أنّه بلغه أنّه كاتب أخت الظّافر وقصد القيام على الصّالح، وكان واليا عاملا على الأعمال القوصيّة، وهو بالقاهرة. ولم يزل فى حبسه إلى أن توفى فى شهر رجب سنة ثلاث وخمسين.
وفى سنة أربع وخمسين ثار على الصّالح طرخان بن سليط بن ظريف، متولّى الإسكندريّة، وجمع جموعا من العربان وغيرها؛ وتقدّم بها لحربه؛ فندب الصّالح إليه الأمير عزّ الدّين حسام بن فضّة بعسكر، فالتقوا واقتتلوا، فهزم حسام جيوشه وظفر به؛ فاعتقله الصّالح.
فلمّا كان فى المحرّم سنة خمس وخمسين ثار أخوه إسماعيل طلبا لثأره، وتلقّب بالملك الهادى؛ فندب الصّالح [96] إليه الجيوش. فلمّا هجمت عليه هرب وأتى الجيزة، واستتر عند بعض العربان. فلمّا كان فى يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر هرب طرخان من الاعتقال هو والموكل به، فقبض عليه فى السّادس من الشهر وصلب على باب زويلة، ورمى بالنشّاب، ثم مسك أخوه إسماعيل وصلب إلى جانبه بعد ضرب عنقه «2» .
وفى سنة أربع وخمسين بنى الصّالح حصنا من اللبن على مدينة بلبيس «3» .(28/321)
ذكر وفاة الفائز بنصر الله
كانت وفاته فى ليلة الجمعة السّابع عشر من شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة؛ وقيل لليلة بقيت منه؛ وكان مولده فى يوم الجمعة لتسع بقين من المحرّم سنة أربع وأربعين، فكان عمره إحدى عشرة سنة وستّة أشهر وأيّاما، ومدّة ولايته ستّ سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما «1» .
وزراؤه: الأفضل عبّاس بن يحيى بن تميم؛ ثم الصّالح طلائع بن رزّيك.
قضاته: أبو المعالى مجلّى بن نجا القرشى المخزومىّ؛ ثمّ صرف فى أوّل وزارة الصّالح، وأعيد أبو الفضائل يونس؛ ثم صرف بالقاضى المفضّل أبى القاسم هبة الله بن كامل.
ذكر بيعة العاضد لدين الله
هو أبو محمد عبد الله بن يوسف، بن الحافظ عبد المجيد، بن محمد، ابن المستنصر بالله أبى تميم معدّ، بن الظّاهر لإعزاز دين الله أبى هاشم على، بن الحاكم بأمر الله أبى على المنصور [بن العزيز بالله] «2» نزار، بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ، بن المنصور بنصر الله أبى طاهر إسماعيل، ابن القائم بأمر الله أبى القاسم محمد، بن المهدىّ عبيد الله. وهو الرابع عشر من ملوك الدولة العبيدية، والحادى عشر من ملوك الديار المصرية(28/322)
منهم؛ وعليه انقرضت دولتهم. بويع له بعد وفاة الفائز بنصر الله فى يوم الجمعة السّابع عشر من شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وكان الملك الصّالح طلائع قصد أن يبايع لشخص من أقارب العاضد، فقال له بعض أصحابه لا يكن عبّاس أحزم منك حيث اختار صغيرا وترك من هو أسنّ منه، واستبدّ هو بالأمر. فعدل الصّالح إلى العاضد، وبايع له وهو مراهق البلوغ؛ فكانت الخلافة للعاضد اسما وللصّالح رسما «1» .
ويوسف أبو العاضد هو أحد الأخوين «2» اللذين قتلهما عبّاس بعد قتل الظافر.
وفى سنة ستّ وخمسين تزوّج العاضد لدين الله بابنة الملك الصّالح بن رزّيك؛ وكان العاضد توقّف عن زواجها، فجبره الصّالح على ذلك واعتقله إلى أن تزوّجها؛ وقصد بذلك أن يرزق العاضد منها ولدا فتحصل الخلافة والملك لبنى رزّيك، فجاء بخلاف ما قصد «3» .(28/323)
ذكر مقتل الملك الصّالح طلائع بن رزّيك وقيام ولده الملك العادل رزّيك
كان مقتله فى السّابع عشر من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة. وذلك أنّه ركب فى هذا اليوم من دار الوزارة إلى القصر، وجلس على مرتبته على عادته؛ فلمّا انقضى المجلس خرج؛ فبينما هو فى دهاليز القصر وثب عليه جماعة فضربوه بالسّكاكين عدّة ضربات مهلكة.
وكان سبب ذلك أنّه تحكّم فى الدّولة لخلوّها من الأمراء وصغر سنّ العاضد، وكان قد فرّق الأمراء وقتل بعضهم؛ فبعثت ستّ القصور عمّة العاضد الأموال إلى بعض الأمراء وأغرتهم به، فرتبوا ذلك. قال: ولمّا ضرب بالسّكاكين ألقى ابن الزّبد نفسه عليه وقاتل دونه ودخل بقيّة الأمراء فخلّصوه فركب وبه بعض رمق. فلمّا رأته ستّ القصور وقد ركب أيقنت بالهلاك. قال: ولمّا استقرّ فى منزله أرسل إلى العاضد يعاتبه على ما كان منه، فحلف وأنكر أن يكون اطّلع «1» على هذا الأمر قبل وقوعه فأرسل إليه أن يبعث إليه عمّته ستّ القصور، فتوقّف العاضد عن ذلك، فأرسل الصّالح إلى [ست] «2» القصور وأخرجها؛ فلما جاءت إلى منزله أمر [97] بخنقها، فخنقت بين يديه حتّى ماتت. ومات الصّالح فى بقيّة ليلته.
قال: وكان الصّالح شديد التّشيّع متغاليا فى مذهب الإماميّة؛ وكان يكره أهل السّنّة. وقيل إنّه كان يسبّ الصّحابة، رضى الله عنهم،(28/324)
وغضب على من يتنقّصهم. وكان فيه بخل وحسد. ومنع فى أيّامه من بيع الغلال حتى غلت الأسعار. وكان كثير التّطلّع إلى ما فى أيدى النّاس، وصادر جماعة ليس لهم تعلّق بالدّولة وأفنى الأمراء قتلا واعتقالا. وهو أوّل من خوطب بالملك فى الدّيار المصريّة «1» .
وقال ابن الحباب فى سيرته: إنّه من ولد جبلة بن الأيهم الغسّانى الذى ارتدّ عن الإسلام فى خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. قال المؤرخ: وكان والد الصّالح يسمى أسد رزّيك، قدم مع أمير الجيوش بدر الجمالى.
قال: وكان الصّالح مع ذلك حازما ضابطا لأمور دولته شاعرا أديبا.
قال القاضى الأرشد عمارة اليمنى «2» ، دخلت على الصّالح قبل وفاته بليلتين فناولنى رقعة وقال: قد عملت هذين البيتين فى هذه السّاعة؛ فإذا فيها:
نحن فى غفلة ونوم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا ... ليت شعرى! متى يكون الحمام!!(28/325)
فقلت: هما صالحان، وقمت، فكان آخر عهدى به «1» .
قال المؤرخ: وكان الصّالح يقطع اللّيل أثلاثا: فالثّلث الأوّل مع أمراء دولته ووجوهها؛ والثّلث الثّانى مع جلسائه وندمائه وشعرائه؛ والثّلث الثالث مع خواصّ نسائه. فكان يسمّى: أبو العمرين قالوا:
وكذلك كان أمير الجيوش بدر الجمالى:
ومن شعر الصّالح قوله:
يا مريض القلب بالذّن ... ب، متى بالعفّو تبرا
كلّما جدّدت يوما ... توبة ضيّعت أخرى
تشتهى الأجر ولا تف ... عل ما يكسب أجرا
أترى بعد ذهاب ال ... عمر تستأنف عمرا
وقوله:
يا ماشيا فوق الثّرى ... رفقا، فسوف تصير تحته
إن قلت إنّى أعرف ال ... مولى القدير، فما عرفته
إن كنت تعبد للمخا ... فة والرّجاء، فما عبدته «2»
والصّالح هو الذى بنى الجامع «3» خارج باب زويلة المعروف به.
وكان يقول: ندمت على ثلاثة: أحدها أننى بنيت الجامع بظاهر القاهرة وجعلته عونا على باب زويلة فيضرّها وقت الحصار؛ والأخرى توليتى شاور أعمال الصّعيد، والله لا كان خراب دولة بنى رزّيك إلا على يديه؛(28/326)
والثّالثة أنّنى أنفقت فى العساكر مائتى ألف دينار لأجل فتح بيت المقدس فتأخّرت عن ذلك «1» .
قال: ولمّا توفى دفن بدار الوزارة ثمّ نقل إلى تربته الّتى بقرافة مصر.
قال: ولمّا حضرته الوفاة أحضر ولده رزّيك وأوصاه بوصايا كثيرة، من جملتها أنّه لا يعزل شاور ولا يغيّر عليه مغيّرا.
قال: ورثاه الشّعراء بقصائد كثيرة، فيها ما قاله القاضى الأرشد عمارة اليمنى:
أفى أهل ذا النّادى عليم أسائله ... فإنّى لما بى، ذاهب العقل ذاهله «2»
سمعت حديثا أحسد الصّمّ عنده ... ويذهل واعيه، ويخرس قائله
ومنها:
وقد رابنى من شاهد الحال أنّنى ... أرى الدّست منصوبا وما فيه كافله
وأنّى أرى فوق الوجوه كآية ... تدلّ على أنّ النّفوس ثواكله
دعونى. فما هذا أوان بكائه «3» ... سياتيكم طلّ البكاء ووابله
وهى قصيدة طويلة أتى فيها بكل عجيب قال: ولمّا مات الصّالح خرجت الخلع من القصر لولده، وتلقّب بالملك العادل مجد الإسلام «4»(28/327)
[98] ذكر ظهور حسين بن نزار وقتله
وفى شهر رمضان سنة سبع وخمسين وخمسمائة ورد حسين بن نزار، بن المستنصر بالله ابن الظّاهر لإعزاز دين الله من بلاد المغرب، وقد جمع جمعا عظيما وتلقب بالمنتصر بالله؛ فخرج إليه الأمير عزّ الدين حسام بن فضّة ابن رزّيك على صورة الانضمام إليه واللّحاق به.
فلمّا صار عنده فى خيمته غدر به وقتله، وحمل رأسه إلى العاضد لدين الله.
وفيها بنى الأمير أبو الأشبال ضرغام البرج المعروف به بثغر الإسكندرية.
ذكر انقراض دولة بنى رزيك
قد ذكرنا أن الملك الصّالح بن رزّيك، والد العادل، لمّا حضرته الوفاة أوصى ابنه العادل بوصايا كثيرة منها أنّه لا يعزل شاور من عمله ولا يحرّكه؛ وحذّره من ذلك فلمّا كان فى سنة سبع وخمسين اجتمع أقارب العادل وحسّنوا له عزل شاور عن ولاية الصّعيد، فذكّرهم بوصيّة أبيه، فأصروا على عزله، وكان أشدّهم فى ذلك الأمير عزّ الدّين حسام ابن فضّة، فألزم العادل إلى أن كتب كتابا يستدعى فيه شاور ويأمره بالحضور إلى القاهرة فكتب إليه شاور يستعطفه ويظهر الطّاعة والإدلال لسابق الخدمة لأبيه، ومناصحته فى القيام بأمور الدّولة، ثمّ قال فيه إن كان القصد أن يلى الأعمال أحدكم فليرسل السّلطان من يتسلّمها غير عزّ الدين حسام؛ وإن كان غيركم من الأمراء فأنا أحق به من سواكم؛ وقد سمعتم وصيّة أبيكم الصّالح فى حقّى وما كرّره عليكم فى أمرى(28/328)
وإقرار أعمال الصّعيد فى يدى. وأرسل الكتاب إلى العادل، فوقف عليه، وأوقف عليه أقاربه وأهله. فقالوا: إن أبقيته طمع فى البلاد ولا يحمل إليك مالا. فقال العادل لهم: المصلحة تركه. فصمّموا على عزله.
فأحضر العادل نصير الدّين شيخ الدّولة، وهو من أقاربه، وخلع عليه وولّاه الأعمال القوصيّة، وكتب على يده إلى شاور بتسليم الأعمال إليه ووصوله إلى القاهرة. وتوجّه نصير الدّين. فلمّا وصل إلى إخميم أقام بها وأرسل الكتاب إلى شاور طىّ كتابه؛ فلمّا وقف شاور على الكتاب أرسل إلى نصير الدّين رسولا من جهته برسالة يقول له: إنّ بينى وبينك صحبة ولا تغترّ بقول حسام، وارجع من حيث أتيت فهو خير لك. فرجع نصير الدّين إلى القاهرة ولم يعاوده.
وأظهر شاور العصيان على الدّولة، وأحضر جماعة من العربان من بنى شيبان وغيرهم، وتوجّه من الأعمال القوصية، وجعل طريقه على الواحات، وخرج منها إلى تروجة، وحشد العربان وأنفق فيهم الأموال؛ فوافقوه وانطاعوا له؛ فسار بهم نحو القاهرة. فندب العادل لحربه سيف الدّين حسينا، صهره، ومعه جماعة من الأمراء. فراسلهم شاور واستمالهم، وبذل لهم الأموال الجمّة، فمالوا إليه فلمّا التقوا انحازوا إلى جماعته وفارقوا مقدّمهم، فانهزم حسين واستجار بظريف ابن مكنون أمير جذام فأجاره، وحمله فى البحر؛ فمضى إلى مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم فمات هناك فندب إليه العادل عزّ الدّين حساما، فانهزم منه أيضا.
فعند ذلك خرج العادل من القاهرة وتوجّه إلى إطفيح، واستصحب أهله وذخائره. واستجار بسليمان بن الفيض اللّخمى، وكان من(28/329)
أصحاب أبيه الصّالح، فأنزله عنده؛ ومضى من وقته إلى شاور وأخبره بخبر العادل، فندب إليه جماعة فأخذوه أسيرا هو ومن معه، ونهب أصحاب ابن الفيض ما كان معه. وحمل إلى شاور فوصل إليه فى ليلة الجمعة لثلاث بقين من المحرّم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فأمر شاور باعتقاله؛ وقال لسليمان بن الفيض: لقد خبأك الصّالح ذخيرة لولده حين استجار بك فأسلمته لى، وأنا أخبئك ذخيرة لولدى. ثمّ أمر به فشنق. وسمّيت فرقة ابن الفيض غمازة من ذلك اليوم، فهى تعرف الآن بهذا الاسم. فكانت أيام العادل سنة واحدة وثلاثة أشهر وأيّاما.
وجميع دولة بنى رزّيك تسع سنين تقريبا.
[99] ذكر وزارة شاور الأولى وخروجه منها
كانت وزارته فى يوم الأحد لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وذلك أنّه لما انهزمت جيوش العادل بن رزّيك وهرب هو إلى إطفيح خلت القاهرة منهم؛ فدخلها شاور، وحضر بين يدى الخليفة العاضد لدين الله، فخلع عليه خلع الوزارة، وسلطنه، ولقّبه بأمير الجيوش. وأطلق شاور لأهل القصور الإطلاقات الكثيرة، وزادهم على مقرّراتهم فى أيّام بنى رزّيك واستدعى أموال بنى رزّيك وودائعهم.
وبسط العدل أيّاما، ثم شرع فى ظلم النّاس؛ وبسط يده ويد أولاده فى الدّولة؛ وقطع أرزاق الأمراء والجند واستخفّ بهم وبالعاضد. وعتا ولده الكامل وتجبّر، ولبس رداء الكبر، وبذخ فى الأموال، وصرفها فى غير وجوه مصارفها «1» .(28/330)
وساءت سيرته فى الأمراء فأجمعوا على إخراج العادل من الاعتقال ونصبه فى الوزارة. فاتّصل ذلك بالكامل بن شاور؛ فأشار على أبيه بقتل العادل، فامتنع من ذلك وقال: إنّه أولانى خيرا فلا أقتله، فقتله الكامل من غير إذن أبيه. فعظم ذلك على شاور وعلى الأمراء، وغضب الأمراء لقتل العادل، وخرجوا عن شاور، وافترقوا على فرقتين: فكان الضّرغام وإخوته وأهله فرقة، والظّهير عزّ الدين مرتفع وعين الزّمان وابن الزّبد فرقة.
وكان الضّرغام ومن معه أظهر الفرقتين. فخرج على شاور وحاربه، فجمع شاور أمواله وذخائره وغلمانه، وخرج ليلا من القاهرة، فركب الضّرغام فى إثره فلحقه عند باب النصر؛ فقاتله طىّ بن شاور، فقتل طىّ، وأسر أخوه الكامل؛ ومضى شاور إلى الشّام. وذلك فى صبيحة يوم الجمعة، لثلاث بقين من شهر رمضان من السّنة. فكانت وزارته ثمانية أشهر وخمسة أيّام «1» . والله أعلم.
ذكر وزارة الضّرغام بن سوار
قال: ولمّا توجّه شاور إلى الشّام عاد الضّرغام إلى القصر وأرسل إلى العاضد بما كان من أمر شاور، ومضى إلى داره بقيّة ليلته. وجاء إلى القصور من بكرة النّهار، فاستدعاه العاضد لدين الله، وولّاه الوزارة، ولقّبه بالملك المنصور، واستحلف له الأمراء.(28/331)
وأرسل علم الملك بن النحاس إلى الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، صاحب الشّام، يقبض على شاور. فأظهر نور الدّين الإجابة لذلك، وباطنه بخلاف ظاهره «1» .
قال: ولمّا ولى الضّرغام الوزارة خرج عليه الأمير على بن الخوّاص، فظفر به الضّرغام، فأشهره بالقاهرة، وصلبه. وأحضر جماعة من الأمراء إلى داره لدعوة عملها، فلما حضروا إليه قبض عليهم وقتلهم «2» .
ذكر قدوم شاور من الشّام وعوده إلى الوزارة ثانيا وقتل الضّرغام
كان قدومه فى جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
وذلك أنّه لمّا توجه إلى دمشق اجتمع بالملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، وحسّن له أن يجهّز معه جيشا يفتح به مصر؛ ووصفها له ورغّبه فيها، والتزم أنّه يحمل خزائنها «3» إليه يستعين بها على قتال الفرنج. فمال إليه، وجهّز معه أسد الدّين شيركوه بعساكر. فلمّا قاربوا مصر ندب إليهم الضّرغام عسكرا وقدّم عليه أخاه ناصر المسلمين، فلقيهم على بلبيس، فانهزم العسكر المصرىّ وعاد إلى القاهرة.(28/332)
وسار شاور والعساكر الشّاميّة، فنزل بظاهر القاهرة فى آخر الشّهر، واجتمع معه خلق كثير من العربان. فعلم الضّرغام أنّه لا قبل له بما دهمه؛ فركب إلى القصر، وطاف به، وجعل ينادى العاضد، وهو يخاف أن ينزل إليه. فأرسل إليه العاضد يقول: أنج بنفسك. فخرج من القاهرة يريد مصر، ودخل شاور وشيركوه إلى القاهرة، وندب جماعة فى إثر الضرغام فأدركوه عند مشهد السّيدة نفيسة، فقتلوه هناك فى يوم الجمعة، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. وطيف برأسه القاهرة [100] على رمح، وبقيت جثّته ملقاة بين الآكام ثلاثة أيّام حتى أكلتها الكلاب.
ودفن ما بقى منه عند بركة الفيل، وعمل عليه قبّة، فكانت مدّة ملك الضرغام تسعة أشهر «1» .
وكان فارسا بطلا، كريما، عاقلا، أديبا، يحبّ العلماء ويقرّبهم؛ وله مجلس يجتمع فيه أهل العلم والأدب دون غيرهم. وكان حسن الخطّ. يقال إنّه كان يحاكى ابن البوّاب «2» فى خطّه.
قال: ودخل شاور إلى العاضد لدين الله فى مستهلّ شهر رجب، فعاتبه على ما كان منه فى إحضار العسكر الشّامىّ، وحذّره عاقبة ذلك؛ فوعده أنّه يصرفهم إلى بلادهم، فقبل ذلك منه، وخلع عليه خلع الوزارة.(28/333)
ذكر غدر شاور بشيركوه
قال: ولما انتصب شاور فى الوزارة وتمّ له ما أراد، أخذ فى التّدبير على العسكر الشّامى، وحلّف الأمراء، وتخاذل عن شيركوه؛ وصار يخرج إليه بوجه عليه آثار الغضب. ففهم أسد الدّين شيركوه عنه، وعلم شاور أنّه لا قبل له بشيركوه، فاستعان بالفرنج «1» واستدعاهم من السّاحل لنصرته، ووعدهم بالأموال. واتّصل ذلك بأسد الدّين فحاصر القاهرة.
واتّصل خبر شاور بالملك العادل نور الدّين، فكتب إلى أسد الدين وأعلمه بما بلغه من مباطنة الفرنج، وأمره بالخروج عن الدّيار المصريّة.
فأبى ذلك وتوجّه إلى بلبيس، واحتوى على بلاد الحوف، وجعل مدينة بلبيس ظهره. فاجتمعت العساكر المصريّة ومن أتاهم من الفرنج، ونازلوا أسد الدّين، وحصروه ببلبيس ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها لم يبرز إليهم، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر على الفرنج أنّ نور الدّين ملك حارم «2» وسار إلى بانياس، فراسلوا شيركوه يسألونه الصّلح؛ فأجابهم إلى ذلك؛ وخرج من مدينة بلبيس «3» ، فلمّا صار بظاهرها أشار شاور على تلك الفرنج بمهاجمته وقبضه فامتنع مرّى «4» ، ملك الفرنج، وأبى إلّا الوفاء بيمينه لشيركوه.
وسار أسد الدّين إلى الشّام، وعاد شاور إلى القاهرة، ومعه طائفة من الفرنج يتقوّى بهم. وكان قد بذل لهم على نصرته أربعمائة ألف دينار، ويهادنهم خمس سنين.(28/334)
وكان دخول شاور إلى القاهرة لستّ مضين من ذى الحجة من السّنة؛ واستمرّ بمصر من غير منازع، إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
ذكر عود أسد الدّين شيركوه إلى الدّيار المصرية بالعساكر الشاميّة وانفصاله
قال المؤرخ: لمّا انفصل أسد الدّين شيركوه عن الدّيار المصريّة فى سنة تسع وخمسين، بقى عنده منها أمر عظيم. وكان إذا خلا بنور الدّين الشّهيد يرغّبه فيها. فجهّزه بالعساكر والحشود، فسار من الشّام فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وستّين وخمسمائة، فاتّصل ذلك بشاور، فراسل الفرنج وانتصر بهم. فخرج الفرنج ووقفوا على الطّريق الّتى يسلكها شيركوه إلى الدّيار المصريّة، فعدل شيركوه عن تلك الطّريق وجعلها عن يمينه، وسار حتى نزل إطفيح، فى سادس شهر ربيع الآخر. وعبر النّيل إلى الجانب الغربىّ، ونزل الجيزة، وأقام عليها إلى العشرين من جمادى الأولى. واستولى على الغربية وغيرها. فأرسل شاور إلى الفرنج يستحثّهم، فأتوه على الصّعب والذّلول، وقد طمعوا فى ملك الدّيار المصريّة «1» .
فلما تكاملوا بالقاهرة توجّه أسد الدّين شيركوه نحو الصّعيد، وسار شاور والفرنج فى آثارهم. فجمع أسد الدّين الأمراء واستشارهم [فى] «2» العبور إلى الجانب الشّرقى والعود إلى الشّام، فوافقوه على ذلك؛ فنهض(28/335)
شرف الدّين بزغش، أحد الأمراء المماليك النّوريّة، وكان شجاعا مقداما، وأنكر ذلك كلّ الإنكار، وامتنع من الموافقة، وقال: من خاف من الأسر أو القتل فلا يخدم الملوك «1» ويأكل رزقهم، ويكون فى بيته عند امرأته. وقال: والله لا نزال نقاتل إلى ان نقتل عن آخرنا أو ننتصر.
فوافقه أسد الدّين، وجمع عسكره ورتّبهم، وجعل أثقاله فى القلب ليكثر بها السّواد ولئلّا ينهبها أهل البلاد.
فبينما هم فى التّعبئة إذا بشاور والفرنج قد أقبلوا، ورتّبهم واقتتلوا، فكانت الهزيمة على شاور والفرنج «2» وتوالت عليهم الحملات من العسكر الشّامى، فتمادت بهم الهزيمة إلى الجيزة، وشيركوه فى آثارهم. وقتل منهم خلق وغرق كثير منهم. وأسر أسد الدّين [101] صاحب قيسارية «3» .
ودخل شاور والفرنج إلى القاهرة، وملك أسد الدّين البرّ الغربى بكماله؛ وقصد الإسكندريّة ليحاصرها. فلمّا قرب منها خرج إليه أهلها وسلّموها إليه من غير ممانعة؛ وكان والى الثّغر يوم ذاك نجم الدّين بن مصال. فدخل شيركوه البلد، وأقام بها أيّاما قلائل، واستناب بها صلاح الدّين يوسف بن أبيه نجم الدّين أيوب، وتركه بها ومعه ألف فارس.
وتوجّه هو إلى الصّعيد فاستولى عليه، واستخرج أمواله؛ وصام شهر رمضان بمدينة قوص.
هذا وشاور يتجهّز للخروج ويرتّب أحواله وأحوال الفرنج ويرمّ ما تلف لهم. فلمّا تكامل ما يحتاج إليه قصد الإسكندريّة، فأخرج أهلها(28/336)
الأموال وأنفقوها، واستعدّوا للحصار؛ فكان فى جملة ما أخرجوه للحصار أربعة وعشرون ألف قوس زنبورك وما يناسب ذلك من الآلات.
وسار شاور ومرّى ملك الفرنج، فنازلوا الإسكندريّة. فلمّا رأوا شدّة أهلها واجتماعهم على الحصار، تقدّم شاور إليهم وقال: سلّموا إلىّ صلاح الدّين ومن معه وأضع عنكم المكوس، وأعطيكم الأخماس. فامتنعوا وقالوا: معاذ الله أن نسلم المسلمين إلى الفرنج والإسماعيلية. فعند ذلك وقع الحصار واشتدّ على أهل الإسكندرية إلى أن قلّت الأقوات.
وبلغ ذلك أسد الدّين فسار من الصّعيد وجدّ فى السّير إلى الإسكندرية، وكان شاور قد أفسد التّركمان الذين مع أسد الدين فصاروا معه؛ واجتمع لشيركوه طائفة كبيرة من العربان، فلمّا علم شاور بقربه خافه وراسله فى طلب الصّلح، وبذل له خمسين ألف دينار، سوى ما أخذه من خراج البلاد، على أن يفارق الدّيار المصريّة. فأجاب أسد الدّين إلى ذلك «1» ، وشرط عليهم أن يرجع هو إلى الشّام ويرجع الفرنج إلى بلادهم. فاستقرّت هذه القاعدة، وحلف الفرنج عليها.
ففتحت الإسكندريّة عند ذلك، وخرج صلاح الدّين يوسف إلى مرّى ملك الفرنج وجلس إلى جانبه. فدخل شاور عليهما، فقال لمرّى: سلّمه إلى وأعطيك فى كلّ سنة خمسين ألف دينار. فقال مرّى: نحن إذا حلفنا(28/337)
لا نغدر؛ ووبّخه. وكان أسد الدّين قد شرط على شاور أنّ الفرنج يرحلون ولا يلتمسون من البلاد درهما ولا ضيعة ولا غير ذلك.
قال: وارتحل أسد الدّين، ودخل مصر برضاء أهلها، وسار إلى بلبيس. وأرسل إلى ابن أخيه يوسف أن يتوجّه فى المراكب إلى عكّا، هو ومن معه من العسكر، وما معه من الأثقال؛ ففعل ذلك، وركب من عكّا إلى دمشق.
هكذا حكى ابن جلب راغب فى تاريخه. قال: وارتحل أسد الدّين من بلبيس فى نصف شوّال، ودخل شاور إلى الإسكندريّة، ثمّ خرج منها وعاد إلى القاهرة، فدخلها فى مستهلّ ذى القعدة، وتلقّاه العاضد لدين الله.
وأمّا الفرنج، فاستقرّ بينهم وبين شاور أن يكون لهم شحنة «1» بالقاهرة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم فى كلّ سنة مائة ألف دينار.
وفى سنة ثلاث وستّين وخمسمائة خرج يحيى بن الخياط على شاور وطلب الوزارة؛ فندب شاور عسكرا لحربه، فانهزم ومضى إلى بلاد الفرنج «2» .(28/338)
ذكر وصول الفرنج إلى القاهرة وحصارها وحريق مصر
قال المؤرخ: وفى سنة أربع وستّين وخمسمائة عاد الفرنج إلى القاهرة. وذلك أنهم لمّا توجّهوا فى سنة اثنتين وستّين رتّبوا فى القاهرة جماعة من أبطالهم وشجعانهم وفرسانهم ليحموها من عسكر يأتى إليها من الشّام؛ فلمّا رأوا خلوّ مصر من الأجناد راسلوا ملكهم مرّى واستدعوه، وكان من الشّجاعة والمكر على أمر عظيم. فامتنع وقال: الرّأى ألا نقصدها فإنّها طعمة لنا، وأموالها تحمل إلينا نتقوّى بها على قتال نور الدّين؛ وإن قصدناها حمل أصحابها الخوف على تسليمها لنور الدّين، وإن أخذها وجعل فيها مثل أسد الدّين شيركوه فهو هلاك الفرنج وخروجهم من الشام. فلم يقبلوا رأيه، وقالوا: ما يصل عسكر نور الدّين إلينا إلا وقد ملكناها. وغلبوا على رأيه.
فتجهّز الفرنج وساروا حتّى وصلوا إلى مدينة بلبيس ونازلوها؛ فوقع الإرجاف بمصر؛ وشرع شاور فى إنشاء حصن على مصر واستعمل فيه النّاس، فلم يبق أحد إلا وعمل فيه؛ وحفر خندقا. وملك الفرنج بلبيس عنوة وسبوا وقتلوا خلقا كثيرا «1» . وكان معهم بعض الأمراء المصريّين ممّن هرب من شاور، منهم يحيى بن الخياط.
ثمّ ساروا [102] إلى القاهرة وأحاطوا بها، وذلك فى العاشر من صفر، فخاف أهلها إن أهملوا القتال أن يحلّ بهم ما حلّ بأهل بلبيس، فجدّوا فى القتال والاحتراز.(28/339)
قال: ولمّا قرب الفرنج من القاهرة أمر شاور بنهب مصر وإحراقها، فأحرقت فى تاسع صفر، ونهبت؛ وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة، فانتقل بعضهم، وتحصّن البعض بالجزيرة، وتوجّه آخرون فى المراكب إلى ثغرى الإسكندريّة ودمياط، وطائفة إلى الوجه القبلى؛ وتفرّقوا وذهبت أموالهم. كلّ ذلك قبل نزول الفرنج على القاهرة بيوم.
قال: وبقيت النّار تعمل فيها أربعة وخمسين يوما؛ إلى حادى عشر شهر ربيع الآخر.
قال: ولمّا علم العاضد لدين الله عجز أهل القاهرة عن مقاومة الفرنج أرسل إلى الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى يستغيث به، وسيّر إليه شعور نسائه فى طىّ الكتب.
وقيل إن شاورا أرسل إلى نور الدّين أيضا.
وأرسل شاور إلى مرّى ملك الفرنج يذكّره بسابق الصحبة والعهود القديمة، وقرّر أن يحمل إليه ألف ألف دينار؛ فأجاب مرّى إلى ذلك وقال لأصحابه: نأخذ المال ونتقوّى به ونمضى ثمّ نرجع فلا نبالى بعد ذلك بنور الدّين. فاستوثق شاور منه بالأيمان وعجّل له مائة ألف دينار، وماطله بالبقيّة؛ وشرع يجمع له من أهل القاهرة المال، فلم يحصل له من جهتهم غير خمسة آلاف دينار لضعفهم.
هذا والرّسل تتتابع إلى الملك العادل ويستغيثون به. وقرّر له ثلث الدّيار المصرية.
قال: ولما وصلت الكتب إليه طلب أسد الدّين شيركوه من حمص، فسار منها إلى حلب فى ليلة واحدة، فجهّزه نور الدّين وأعطاه مائتى ألف دينار سوى الثّياب والسّلاح وغير ذلك. فاختار أسد الدّين من العسكر ألفى فارس من الأقوياء، وستّة آلاف من بقيّة العسكر. وأنفق نور(28/340)
الدّين لكلّ فارس عشرين دينارا. ثمّ سار شيركوه، فكان خروجه من دمشق فى منتصف شهر ربيع الأول؛ وأردفه نور الدين بجماعة من الأمراء، منهم مملوكه عز الدين جرديك، وشرف الدين بزغش وعين الدّولة الياروقى، وناصح الدّين خمارتكين، وقطب الدين ينال بن حسّان المنبجى، وغيرهم «1» . والله أعلم.
ذكر قدوم أسد الدّين شيركوه إلى الدّيار المصرية ورحيل الفرنج عنها
قال: وقدم أسد الدّين شيركوه بالعساكر، فكان وصوله إلى مصر فى يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين وخمسمائة.
ولمّا بلغ الفرنج قربه عادوا عن القاهرة إلى بلادهم، وكان رجوعهم فى يوم السّبت ثالث شهر ربيع الآخر، ومعهم من الأسرى اثنا عشر ألف نفس. ودخل أسد الدّين القاهرة فى سابع شهر ربيع الآخر، وخرج إليه العاضد لدين الله وتلقّاه. وحضر يوم الجمعة التاسع من الشّهر إلى الإيوان وجلس إلى جانب العاضد، وخلع عليه؛ وفرح النّاس بقدومه.
وعاد أهل مصر إليها، وشرعوا فى إطفاء النّيران وإصلاح ما تشعّث.
وكانت سقوف جامع عمرو بن العاص بمصر قد احترقت فجدّده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف.
قال: وأمر العاضد أسد الدّين بالنّزول على شاطىء النّيل بالمقس، ورتّب له شاور ولمن معه الإقامات الوافرة، وأظهر له ودّا كثيرا، وصار يتردّد إليه فى كلّ يوم. فطلب أسد الدّين من شاور ما لا ينفقه فى عسكره، فمطله(28/341)
فسيّر إليه شيركوه الفقيه عيسى الهكّارى يطالبه بالنّفقة ويقول له: إن العسكر قد طال مقامهم وطالبوا بالنّفقة وتغيّرت قلوبهم عليك، وإنّى أخشى عليك منهم. فلم يكترث شاور بذلك، وشرع فى المماطلة فيما كان قرّره لنور الدّين.
وعزم شاور على أن يصنع دعوة ويحضر أسد الدّين وجماعة الأمراء الذين معه إلى داره، ويقبض عليهم، ويستخدم من معه من الجند فيمتنع بهم من الفرنج. فنهاه عن ذلك ولده الكامل، وحلف أنّه إن صمّم على هذا الأمر عرّف به شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم تفعل هذا قتلنا عن آخرنا. فقال الكامل لأبيه: صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنّه ليس بينك وبين [عود] «1» الفرنج إلا ان يسمعوا أنّ أسد الدّين قد قبض عليه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدّين ما أغاثه، ويملكون البلاد. فترك ما عزم عليه «2» .
واتّصل ذلك بالعاضد فأعلم شيركوه.
[103] ذكر مقتل شاور
كان مقتله فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر من السنة.
وذلك أنّ الأمراء النّوريّة لمّا رأوا مماطلته بالنّفقة وبلغهم أنّه قد عمل على القبض عليهم اتّفق صلاح الدّين يوسف وعزّ الدين جرديك، وغيرهما، على قتله وأعلموا أسد الدّين بذلك؛ فنهاهم عنه. واتّفق أنّ شيركوه خرج لزيارة قبر الإمام الشّافعى هذا اليوم، وحضر شاور له على عادته، فقيل إنّه توجّه للزّيارة؛ فقال: نتوجّه إليه. فتوجّه ومعه يوسف(28/342)
وجرديك وهما يسايرانه، فأنزلاه عن فرسه، وكتّفاه، فهرب عنه أصحابه. فجعلاه فى خيمة، وأحاط بها جماعة ولم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدّين «1» . فحضر من القصر جماعة من قبل العاضد، يستحثّ على قتله، وحضر أسد الدّين إلى المخيّم ورسل العاضد تتواتر لأسد الدّين يأمره بقتله. فقتل، وأرسل رأسه إلى العاضد على «2» رمح.
ومضى أولاده إلى القصور واستجاروا بالعاضد، فقتلوا بعد العقوبة الشّديدة، فى يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأولى منها. وهم:
الكامل، والمعظّم، وركن الإسلام. وتأسّف شيركوه بعد ذلك على الكامل لأنه بلغه ما جرى بينه وبين أبيه.
قال: ولما قتل شاور استدعى العاضد أسد الدّين شيركوه، فدخل إلى القاهرة فى السّاعة الّتى قتل فيها شاور، فرأى العوامّ وقد اجتمعوا، فهاله ذلك، فقال لهم: إنّ مولانا العاضد لدين الله أمير المؤمنين يأمركم أن تنهبوا دور شاور. فتفرّق النّاس عنه، ونهبوها. ودخل شيركوه إلى القصر، فتلقّاه العاضد، وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه الملك المنصور أمير الجيوش «3» . ولم تطل مدّته فى الوزارة حتّى توفى إلى رحمة الله تعالى بعد خمسة وستّين يوما؛ وقام بالأمر بعده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدّولة الأيّوبيّة.(28/343)
ذكر انقراض الدّولة العبيديّة والخطبة للمستضىء بنور الله العبّاسى
كان انقراض هذه الدّولة عند خلع العاضد لدين الله، وذلك فى يوم الجمعة لسبع مضين من المحرّم سنة سبع وستّين وخمسمائة.
وكان سبب ذلك أنّ صلاح الدّين يوسف لمّا ثبتت قدمه فى ملك الدّيار المصريّة واستمال النّاس بالأموال قتل مؤتمن الخلافة جوهرا، زمام القصور، ونصب مكانه قراقوش الأسدىّ الخصىّ خادم عمه، ثمّ كانت وقعة السّودان فأفناهم بالقتل، على ما نذكره إن شاء الله مستوفى فى أخباره. ثمّ أسقط من الأذان قولهم: «حىّ على خير العمل» ؛ وأبطل مجلس الدّعوة؛ وضعف أمر العاضد معه إلى الغاية فعند ذلك كتب الملك العادل نور الدّين إلى الملك النّاصر صلاح الدّين يأمره بالقبض على العاضد وأقاربه، والخطبة للخليفة المستضىء بنور الله «1» ، وكان المستضىء قد راسله فى ذلك. فامتنع صلاح الدّين، وكره إزالة هذه الدّولة. فكتب إلى الملك العادل يعتذر، وقال: إن فعلنا هذا الأمر لا نأمن من قيام أهل مصر علينا لميلهم إلى هذه الدّولة. وكان قصد صلاح الدّين أن يتفوّى بالعاضد على نور الدّين إن هو أراد الدّخول إلى الديار المصريّة «2» .
فلما ورد جوابه على نور الدّين بالاعتذار انزعج لذلك، ورادف رسله إليه يأمره بخلع العاضد والقبض عليه «3» .(28/344)
فاستدعى الملك الناصر الأمراء واستشارهم فى ذلك، فمنهم من حذّره، ومنهم من هوّنه عليه. فأحضر الفقيه اليسع بن يحيى بن اليسع، وعرّفه الحال. فلمّا كان فى هذه الجمعة صعد إلى المنبر بجامع مصر قبل طلوع الخطيب، ودعا للمستضىء بنور الله؛ فلم ينكر عليه أحد. فلمّا كان فى الجمعة الثّانية أمر الملك النّاصر الخطباء بمصر والقاهرة أن يخطبوا للمستضىء بنور الله أبى محمد الحسن، بن المستنجد بالله العباسى؛ فخطبوا له.
ثمّ توفى العاضد لدين الله إثر هذا الخلع، فى يوم عاشوراء من السّنة، بعد ثلاثة أيّام من خلعه. وكان ضعيفا لمّا قطعت خطبته، فقال صلاح الدّين: لا تعلموه، فإن عوفى أعلمناه، وإن توفى فلا نفجعه بهذه الحادثة.
وقال [104] بعض المؤرخين: إنّ صلاح الدين لمّا قطع خطبته دخل عليه وقبض عليه واعتقله، فلمّا رأى ذلك كان فى ذخائره فصّ فى خاتم، فمصّه، فمات لوقته. فكان صلاح الدّين يقول: ندمت [على] كونى دخلت على العاضد وفعلت به ما فعلت، وكان أجله قد قرب.
ولمّا مات جلس الملك النّاصر للعزاء به. فكانت مدّة ولايته إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما، ومولده فى يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرّم سنة ستّ وأربعين وخمسمائة؛ فعمره على هذا إحدى وعشرون سنة إلّا أحد عشر يوما.
وكان له من الأولاد ثلاثة عشر وهم علىّ؛ وموسى؛ وعبد الكريم؛ وأبو الحجّاج يوسف؛ وأبو الفتوح؛ وإبراهيم؛ وجعفر؛ ويحيى؛ وعبد القوى؛ وعبد الصّمد؛ وأبو البشر؛ وعيسى. فاعتقلهم الملك النّاصر بأجمعهم، واستمرّوا فى الاعتقال إلى سنة اثنتين وستّمائة، فكان من أمرهم ما نذكره فى أخبار الدّولة الأيوبية.(28/345)
ووزرله من ذكرنا أخبارهم، وهم: الصّالح أبو الغارات طلائع بن رزّيك؛ ثم ولده العادل رزّيك، ثمّ شاور؛ ثمّ الضّرغام؛ ثم عاد شاور؛ ثمّ أسد الدّين شيركوه؛ ثمّ الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف.
قضاته: أبو القاسم هبة الله بن كامل؛ وأبو الفتح عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى؛ ثمّ الأعز أبو محمّد الحسن بن على بن سلامة؛ ثم أعيد عبد الجبّار؛ ثم أعيد ابن كامل، ثمّ صرف على أيام الملك النّاصر بالقاضى صدر الدين أبى القاسم عبد الملك بن درباس «1» .
وكان العاضد شديد التشيّع متغاليا فى سبّ الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين. إذا رأى سنّيّا استحلّ دمه.
جامع أخبار الدّولة العبيديّة ومدّتها ومن ملك من ملوكها
كانت مدّة تغلّب ملوك هذه الدّولة على البلاد منذ أخرج أبو عبد الله الشيعىّ عبيد الله، المنعوت بالمهدىّ، من سجلماسة، من سجن اليسع ابن مدرار إلى أن مات العاضد هذا مائتى سنة وسبعين سنة وشهورا «2» .
منها ببلاد الغرب، منذ دخل عبيد الله المهدى رقّاده إلى أن وصل المعزّ لدين الله إلى القاهرة أربع وستون سنة وعشرة أشهر وخمسة وعشرون(28/346)
يوما «1» . وباقى هذه المدّة بمصر والشّام، إلى أن انقطعت دعوتهم.
بخروج عسقلان عن يد المسلمين واستيلاء الفرنج عليها، فى جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فى أيام الظافر بأعداء الله فى وزارة عبّاس بن يحيى بن تميم.
وعدّة من ملك منهم أربعة عشر ملكا تسمّوا كلّهم بالخلافة؛ وهم: عبد الله المنعوت بالمهدىّ؛ ثم ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد؛ ثمّ ابنه المنصور بنصر الله أبو الظاهر إسماعيل؛ ثم ابنه المعزّ لدين الله أبو تميم معدّ، وهو أوّل من ملك الدّيار المصريّة والبلاد الشامية منهم، وإليه تنسب القاهرة المعزيّة؛ ثم ابنه العزيز بالله أبو المنصور نزار؛ ثمّ ابنه الحاكم بأمر الله أبو على المنصور؛ ثمّ ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبو هاشم، وقيل أبو الحسن، علىّ؛ ثم ابنه المستنصر بالله أبو تميم معدّ؛ ثم ابنه المستعلى بالله أبو القاسم أحمد؛ ثم ابنه الآمر بأحكام الله أبو على المنصور؛ ثم ابن عمّه الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد بن محمّد بن المستنصر بالله؛ ثم ابنه الظّافر بأعداء الله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ؛ ثم ابنه الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر؛ ثم ابن عمّه العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر؛ وعليه انقرضت دولتهم، وانتهت أيّامهم، وباد ملكهم، فلم يعد إلى وقتنا هذا.
قال المؤرخ: ولما خلع العاضد ومات واعتقل الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف أولاده بالقصور مرّ القاضى الأرشد عمارة اليمنى الشّاعر بالقصور، وهى مغلّقة الأبواب، مهجورة الجناب، خاوية على عروشها، خالية من أنيسها؛ فأنشأ قصيدته المشهورة التى رثى بها القصور وأهلها،(28/347)
وهى من عيون المراثى [105] وأوّلها «1» :
رميت يا دهر كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلى «2» بالعطل
سعيت فى منهج الرّأى العثور، فإن ... قدرت من عثرات الدهر «3» فاستقل
هدمت قاعدة المعروف «4» عن عجل ... سقيت مهلا، أما تمشى على مهل!
لهفى ولهف بنى الآمال قاطبة ... على فجيعتنا «5» فى أكرم الدّول
قدمت مصر فأولتنى خلائفها ... من المكارم ما أربى على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... جمالها «6» أنّها جاءت ولم أسل
منها:
يا عاذلى فى هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت فى عذلى(28/348)
بالله زرساحة القصرين، وابك معى ... عليهما، لا على صفّين والجمل
وقل لأهلهما: والله ما التحمت ... فيكم جراحى، ولا قرحى بمندمل «1»
ماذا ترى «2» كانت الإفرنج فاعلة ... فى نسل آل أمير المؤمنين على
هل كان فى الأمر شىء غير قسمة ما ... ملّكتم بين حكم السّبى والنّفل
وقد حصلتم عليها واسم جدّكم ... محمّد، وأبيكم غير منتقل
مررت بالقصر، والأبواب خالية ... من الوفود، وكانت قبلة القبل
فملت بوجهى خوف منتقد ... من الأعادى، ووجه الودّ لم يمل
أسلت من أسفى «3» دمعى غداة خلت ... رحابكم، وغدت مهجورة السّبل
أبكى على مأثرات «4» من مكارمكم ... حال الزّمان عليها، وهى لم تحل(28/349)
وهى قصيدة مشهورة مطوّلة.
ولمّا انقرضت هذه الدّولة قامت الدّولة الأيوبيّة على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار ملوكها والله أعلم.(28/350)
ذكر أخبار الدولة الأيوبية
وهى دولة السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيوب وأولاده، ودولة أخيه الملك العّادل سيف الدّين أبو بكر وأولاده، رحمهم الله تعالى.
ولنبدأ بذكر نسب نجم الدين أيّوب والد ملوك الدّولة الأيّوبيّة وابتداء حاله وحال أخيه أسد الدّين، وكيف تنقّلت بهم الحال إلى أن ملك أسد الدّين شيركوه الدّيار المصريّة، وكيف انتقل الملك من بعده إلى ابن أخيه الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف. ثمّ نذكر أخبار من ملك من أولاده وأخيه الملك العادل وأولاده فى حربهم وسلمهم إلى حين انقراض دولتهم.
وبالله التوفيق
ذكر نسب الملك الأفضل نجم الدّين
هو [أبو] «1» سعيد أيوب بن شادى بن مروان. هذا هو المقطوع به الذى لا نزاع فيه، ولا خلاف بين أحد من المؤرخين ونقلة أخبارهم.
وقال الملك الأمجد مجد الدّين أبو محمد الحسن، ابن السلطان الملك النّاصر صلاح الدين أبى المفاخر داود، ابن السلطان الملك المعظّم شرف الدّين أبى المظفر عيسى، ابن السلطان الملك العادل سيف الدّين أبى بكر محمد، ابن الملك الأفضل نجم الدّين أبى سعيد أيوب، رحمهم الله تعالى، فى كتابه المترجم بالفوائد الجليّة فى الفرائد النّاصريّة: سمعت من يقول:
مروان بن محمد؛ وقال بعض النّاس محمد بن يعقوب.(28/351)
وقال شهاب الدّين أبو شامة عبد الرحمن فى كتابه المترجم بالرّوضتين فى أخبار الدّولتين سمعت من يقول: مروان بن يعقوب «1» .
وقال [106] الملك الأمجد: وقد اختلف فى نسبهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ما قاله عز الدّين على بن الأثير الجزرى المؤرخ أنّ نجم الدين أيوب من بلد دوين «2» من أذربيجان، وأصله من الأكراد الرّواديّة؛ وهذا القبيل هم أشرف الأكراد «3» .
قال الملك الأمجد: وهذا شىء يجرى على ألسنة كثير من النّاس، ولم أر أحدا ممّن أدركه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا النّسب، لكنّهم لا ينكرون أن نجم الدّين كان بدوين.
قال: والمشهور عند بيتنا أنّ جدنا نزل على الأكراد وتزوّج منهم، فصارت بيننا وبينهم خؤولة لا غير. ويدلّ على ذلك أن السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف لمّا ملك البلاد تقدّم فى دولته جماعة من الأكراد، فلم يبق أحد منهم إلا جاء بنو عمّه وأقاربه، حتى صار فى عصبة من أهله؛ والسّلطان رحمه الله لم يأت إليه من يمتّ بقرابة إلا من جهة النّساء فقط؛ ولو كان من الرّواديّة لكان جميع القبيلة أولاد عمه وإن لم يكن له ابن عمّ قريب فيكون ابن عمّ بعيد قطعا لأن القبيلة كلّها أولاد رجل واحد. ولا شكّ أنّ الدّواعى تتوفّر على الانتماء إلى الملك ما لا تتوفّر على الانتماء إلى الأمراء.
القول الثانى: أنهم من أولاد مروان بن محمد الأموى، آخر خلفاء الدولة الأموية.(28/352)
قال الملك الأمجد: وهذا شىء ادّعاه الملك المعزّ فتح الدين أبو الفداء إسماعيل بن الملك العزيز ظهير الدين أبى الفوارس سيف الإسلام طغتكين، ابن أيوب، باليمن، لما ملكه بعد أبيه، وتلقّب بالإمام الهادى بنور الله المعز لدين الله أمير المؤمنين. وقال يحيى بن حميد بن أبى طىّ: قد نقّبت عن ذلك فأجمع الجماعة من بنى أيوب على أنهم لا يعرفون جدّا فوق شادى» .
القول الثالث: ما ذكره حسن بن عمران الجرشى فإنه جاء إلى الملك المعظم وعمل شجرة لنسب بنى أيوب، فوصله بعلىّ بن أحمد المرّى «2» ممدوح أبى الطيب المتنبى الذى يقول فيه:
شرق الجوّ بالغبار إذا سا ... ر على بن أحمد القمقام
وقال أيضا فى مدحه:
إنما بن عوف بن سعد ... جمرات لا تشتهيها النعام
ولم ينكر الملك المعظّم عليه ذلك بل قبل منه.
قال: وهذا سرد النّسب الذى عمله الجرشىّ، وهو: أيّوب بن شادى ابن مروان بن أبى على.
قال الملك الأمجد: قلت: ويحتمل أن يكون أبو على هذا هو محمد المقدم ذكره- وأبو على كنية له- ابن عنترة بن الحسن بن على بن أحمد ابن أبى على بن عبد العزيز بن هدية بن الحصين بن الحارث بن سفيان بن عمرو بن مرة بن شبة بن غيظ بن مرّة بن عوف بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانه بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبقية النسب معروف. هذا ما قيل فى نسبه. وأما ابتداء حاله:(28/353)
ذكر ابتداء حال الملك الأفضل نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه
قال المؤرخ: قدم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدّين شيركوه من بلد دوين إلى العراق فى خلافة المسترشد بالله «1» ، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدّين عقلا ورأيا وحسن سيرة، وكان أسنّ من أخيه أسد الدّين، فجعله مجاهد الدين دزدارا «2» بقلعة تكريت «3» ، وكانت له، فسار إليها ومعه أسد الدّين.
وقيل بل كان نجم الدّين قد خدم السّلطان محمد بن ملكشاه السّلجقى «4» ، فرأى منه أمانة وعقلا، وسدادا وشهامة، فولّاه قلعة تكريت، فقام بها أحسن قيام. فلمّا ولى السّلطان مسعود «5» أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز، فأقرّ نجم الدّين فى الولاية. وكان أتابك عماد الدّين زنكى بن آق سنقر، والد السّلطان الشّهيد نور الدّين لمّا انهزم من قراجا السّاقى فى سنة ستّ وعشرين وخمسمائة، كما ذكرناه «6» ، بلغت به الهزيمة إلى تكريت، فقام نجم الدّين بخدمته أتمّ قيام، وأقام له(28/354)
السّفن إلى أن عبر دجلة، فكان ذلك سبب وصلته بالبيت الأتابكى [107] وتقدّمه.
قال: ثمّ اتفق بين أسد الدّين وبين قوارص النّصرانى، كاتب بهروز، مشاجرة فى بعض الأيام، فكلّمه النّصرانى بكلمة أمضّته، فضرب عنقه بيده، ورماه برجله «1» فلمّا اتصل الخبر ببهروز وحضر عنده من حذّره من جرأة شيركوه وتمكين نجم الدّين واستحوازه على قلوب الرّعايا خاف عاقبة ذلك، وكتب بالإنكار عليه بسبب ما كان من أخيه، وعزله. فسار نجم الدّين أيوب وشيركوه إلى عماد الدين زنكى فى الموصل، فلمّا وصلا إليه سرّ بهما وأحسن إليهما، فأقطعهما الإقطاعات الجليلة، وشهدا معه حروب الكفار وقتال الفرنج.
فلمّا ملك زنكى قلعة بعلبك، فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة جعل نجم الدّين دزدارا بها؛ فأقام بها إلى أن قتل عماد الدين زنكى، فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وحاصر معين الدّين أنر، صاحب دمشق قلعة بعلبك، حتّى ضاق الأمر على نجم الدّين، فاضطر إلى تسليمها إليه، وتعوّض عنها إقطاعا وأملاكا؛ وكان عنده من الأكابر الأمراء. واتّصل أسد الدين شيركوه بخدمة الملك العادل نور الدّين محمود بن زنكى، فجعله مقدّما على عسكره، وجعل له حمص والرّحبة وغيرهما.
فلما تعلقت همّة نور الدّين بملك دمشق أمر أسد الدين بمكاتبة أخيه نجم الدّين أيوب فى ذلك، فراسله، فأعان نور الدّين على فتح دمشق؛ فعظم محلّهما عند نور الدّين. فكان نجم الدين إذا دخل عليه جلس من غير أن يؤذن له فى الجلوس، ولم تكن هذه الرّتبة لغيره من سائر الأمراء.
فلمّا كان من أمر شاور ما قدّمناه وقصد نور الدّين محمود أو استغاث به،(28/355)
أرسل معه أسد الدّين بالعساكر؛ وكان من أمره فى المرّة الأولى، فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، والمرّة الثانية، فى سنة اثنتين وستّين، والمرّة الثالثة فى سنة أربع وستّين وخمسمائة [على] ما قدّمنا ذكره فى أخبار الدّولة العبيديّة فى أيّام العاضد لدين الله.
ذكر وزارة الملك المنصور أسد الدّين شيركوه بالدّيار المصريّة ووفاته
كانت وزارته للعاضد لدين الله فى يوم السّبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستّين وخمسمائة.
وذلك أنّه لما كان من أمر شاور ومقتله ما ذكرناه آنفا استدعى العاضد لدين الله أسد الدّين شيركوه، فدخل إلى القاهرة فى السّاعة التى قتل فيها شاور، فرأى من اجتماع العوام ما هاله، فخاف على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين يأمركم بنهب دار شاور. فقصدها النّاس ونهبوها، وتفرّقوا عنه. ولمّا نزل أسد الدّين بدار شاور، وهى دار الوزارة، لم يجد فيها ما يجلس عليه «1» .
قال: ولمّا تفرق الناس للنهب دخل أسد الدّين على العاضد لدين الله، فتلقّاه وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه بالملك المنصور أمير الجيوش، وكتب له تقليد الوزارة، وكتب عليه العاضد بخطه عهدا:
(عهد لم يعهد لوزير بمثله، وتقليد أمر رآك أمير المؤمنين أهلا لحمله.
والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتززت بخدمتك من(28/356)
النّبوة «1» ؛ واتّخذ الفوز سبيلا «وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا)
«2» .
وخرج من عند العاضد وركب إلى دار الوزارة وسكنها، واستقلّ بالأمر. واستعمل على الأعمال من يثق به من كفاة أصحابه، وأقطع البلاد لعساكره. وأرسل إلى ديوان الإنشاء بالقصر يطلب من يكتب بين يديه، فأرسل إليه متولى الديوان القاضى الفاضل عبد الرّحيم البيسانى؛ وظن رؤساء ديوان المكاتبات أنّ هذا الأمر لا يتمّ، وأن «3» أسد الدّين يقتل عن قريب كما قتل غيره، فأرسلوا إليه القاضى الفاضل وقالوا لعلّه يقتل معه. فكان من أمره ما كان.
ولم تطل مدّة أسد الدّين فى الوزارة بل انقضت أيامه، وفاجأه حمامه، فتوفّى فى يوم السّبت لثمان بقين من جمادى الآخرة من السّنة.
واختلف فى سبب وفاته، فقيل إنّه مات فجأة، وقيل بعلّة الخوانيق، وقيل بل سمّ. فكانت مدّة وزارته خمسا وستّين يوما «4» ؛ وعمل عزاؤه ثلاثة أيام، وحمل إلى المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصّلاة(28/357)
والسّلام؛ ودفن هناك برباط الوزير [108] جمال الدّين وزير الموصل «1» .
ولمّا مات أسد الدّين شيركوه استقرّ فى الوزارة بعده الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب.
ذكر أخبار الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف ابن الملك الأفضل نجم الدّين أيّوب ووزارته بالدّيار المصريّة
كانت وزارته بالدّيار المصرية عقب وفاة عمّه الملك المنصور أسد الدّين شيركوه وقد تطاول «2» جماعة من الأمراء النّورية للوزارة؛ منهم عين الدولة الياروقى، وقطب الدّين قايماز، وسيف الدّين المشطوب الهكّارى، وشهاب الدّين محمود الحارمى، وهو خال صلاح الدّين؛ وخطبها كلّ منهم لنفسه. فأشار جماعة من المصريّين وخواصّ العاضد لدين الله على العاضد أن يولّى صلاح الدّين، وقالوا: إنه أصغر الجماعة سنّا ولا يخرج من تحت أمر أمير المؤمنين. فإذا استقرّ وضعنا على العساكر من يستميلهم «3» إلينا، فيبقى عندنا من الجند من نتقوى(28/358)
به، نم نأخذ يوسف بعد ذلك أو نخرجه فإنّ أمره أسهل من غيره، فاستدعاه العاضد لدين الله، وخلع عليه خلع الوزارة. ولقّبه بالملك النّاصر «1» ، فلم يطعه أحد من الأمراء الذين كانوا تطاولوا للوزارة ولا خدموه.
وكان الفقيه عيسى الهكّارى «2» معه، فسعى مع الأمير سيف الدّين على بن أحمد المشطوب حتّى استماله إليه، وقال له: إنّ هذا الأمر لا يصل إليك مع الياروقى والحارمى وغيرهما. ثمّ اجتمع بالحارمى وقال له مثل ذلك، وقال له: إن صلاح الدّين ولد أختك، وعزّه وملكه لك، وقد استقام له الأمر، فلا تكن أوّل من سعى فى إخراج الأمر عنه.
واجتمع بالأمراء واستمالهم. فأطاعه بعضهم وعصى بعضهم.
فأمّا الياروقى فإنه قال: لا أخدم يوسف أبدا، وعاد إلى الملك العادل نور الدّين هو وجماعة من الأمراء. وصار صلاح الدّين نائبا عن الملك العادل نور الدّين، والخطبة لنور الدّين ولا يكاتبه إلا: «بالأمير الأسفهسلار «3» صلاح الدّين وكافة الأمراء بالدّيار المصرية. يفعلون كذا وكذا» . ويفعل علامته فى الكتب، عظمة أن يكتب اسمه.
ولمّا وزر صلاح الدين ثبت قدمه، واستمال قلوب الناس بالأموال فمالوا إليه فقوى أمره، وضعف أمر العاضد.(28/359)
ذكر مقتل مؤتمن الخلافة جوهر، زمام القصور وانتقال وظيفته إلى قراقوش الأسدى وحرب السودان
كان مقتل مؤتمن الخلافة فى يوم الأربعاء لخمس بقين من ذى القعدة، من سنة أربع وستين وخمسمائة.
وسبب ذلك أن الملك الناصر شرع فى نقض «1» إقطاع المصريين، فاتفق هذا الخادم مع جماعة من الأمراء المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى الديار المصرية، والاعتضاد بهم على صلاح الدين ومن معه؛ وأرسل الكتب مع إنسان، فجعلها فى نعل ولبسه، وسار على أنه فقير رثّ الهيئة. فلما وصل إلى البيضاء «2» وجده تركمانى، فأنكر حاله إذ هو رثّ الهيئة جديد المداس. فأخذ مداسه وفتقه، فوجد الكتب فيه، فحمله بها إلى الملك النّاصر، فوقف عليها، وكتم الأمر، وقرّر الرجل بالعقوبة، فأقرّ أنّ الكتب بخط رجل يهودى، فاستحضره، فأقرّ بها. ثم قتل صلاح الدّين القاصد. واستشعر مؤتمن الخلافة من الملك النّاصر، فلزم القصور واحترز على نفسه، فكان لا يخرج منها.
فلمّا طال ذلك عليه خرج فى هذا اليوم لقصر «3» له بالخرقانيّة، فأرسل إليه الملك النّاصر جماعة فقتلوه، وأتوه برأسه، فرتّب حينئذ على أزمّة(28/360)
القصور قراقوش الخصىّ، وكان من مماليك عمّه أسد الدين ليطالعه بما يتجدّد بالقصور.
قال: ولما قتل مؤتمن الخلافة ثار السّودان لذلك وأخذتهم الحميّة، وعظم عليهم قتله، لأنّه كان رأسهم ورئيسهم، فحشدوا واجتمعوا، فزادت عدّتهم على خمسين ألف عبد؛ وكانوا أشدّ على الوزراء من العسكر. فندب الملك الناصر العسكر لقتالهم، وقدّم على العسكر أبا الهيجاء السّمين؛ فالتقوا بين القصرين واقتتلوا، فقتل من الفريقين جمع كثير. [109] فلمّا رأى الملك النّاصر قوّتهم وشدة بأسهم أرسل إلى محلّتهم المعروفة بالمنصورة «1» ، خارج باب زويلة، فأحرقها؛ فاتّصل ذلك بهم، فضعفت نفوسهم، فانهزموا إلى محلّتهم فوجدوا النّيران تضرم فيها. واتّبعهم العسكر فمنعهم من إطفائها «2» . ودام [القتال] «3» بينهم أربعة أيّام، نهارا وليلا، إلى يوم السّبت الثامن والعشرين من ذى القعدة؛ فخرجوا بأجمعهم إلى الجيزة وقد أيقنوا بالهلاك، وخرج إليهم تورانشاه أخو الملك النّاصر فقتلهم، ولم ينج منهم إلا اليسير. وكتب الملك الناصر إلى ولاة البلاد بقتل من يجدونه منهم، فقتلوا من عند آخرهم.
وبقى الملك النّاصر يخشى من أهل القصر لما فعله بمؤتمن الخلافة جوهر، فكان جوهر هذا سبب زوال ملك الدّولة العبيديّة وجوهر القائد سبب ملك المعزّ للبلاد؛ فشتان بين الجوهرين.(28/361)
ذكر الحوادث فى الأيام النّاصريّة غير الفتوحات والغزوات
لم نقدّم هذه الحوادث التى نذكرها الآن على الغزوات والفتوحات إلا أنها سابقة على ذلك فى التّاريخ، ولأنّا أردنا أن نفرد غزواته وفتوحاته ليأتى الكلام عليها سياقة يتلو بعضه بعضا، ولا ينقطع بغيره، فكان ممّا نذكره:
ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدّين أيّوب والد الملك النّاصر إلى الديار المصرية
كان الملك النّاصر قد كتب فى طلب والده، رحمهما الله تعالى، فوصل بأولاده وأهله إلى القاهرة فى السّابع والعشرين من شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة؛ ولمّا وصل تلقّاه الخليفة العاضد لدين الله بظاهر باب الفتوح عند شجرة الإهليلج «1» ، ولم تجر بمثل ذلك عادة، فكان يوما مشهودا. وخلع العاضد عليه، ولقّبه الملك الأفضل، وحمل إليه من أنواع التحف والألطاف شيئا كثيرا؛ وأقطعه الإسكندريّة ودمياط والبحيرة، وأقطع ولده شمس الدولة، أخا النّاصر، قوص وأسوان وعيذاب، وكانت عبرتها يوم ذاك مائتى ألف وستّة وستّين ألف دينار «2» .
ذكر إبطال الأذان بحىّ على خير العمل
قال المؤرخ: ولعشر مضين من ذى الحجّة سنة خمس وستّين وخمسمائة أمر الملك النّاصر أن يسقط من الأذان قولهم «حىّ على(28/362)
خير العمل، محمّد وعلىّ خير البشر» . وكانت أوّل وصمة دخلت على الشّيعة والدّولة العبيديّة؛ ويئسوا بعدها من خير يصل إليهم من الملك النّاصر. ثم أمر أن يذكر فى الخطبة بكلام مجمل، ليلبس على الشّيعة والعامّة: اللهم أصلح العاضد لدينك «1» .
ذكر ما أنشأه الملك النّاصر صلاح الدّين بالقاهرة ومصر من المدارس والخوانق
قال المؤرخ: وفى أوّل سنة ستّ وستين وخمسمائة أمر الملك النّاصر بهدم دار المعونة «2» المجاورة للجامع العتيق بمصر. ودار المعونة هى المكان الذى يعتقل فيه النّاس. وأمر ببنائها مدرسة لطائفة الفقهاء الشافعية، وتعرف هذه المدرسة بابن زين التجّار «3» . وإنّما عرفت به لأنه درس بها.
ثم عمر دار الغزل المجاورة لباب الجامع المعروف بباب الزكخته مدرسة للطائفة المالكيّة»
ودرس فيها ابن أبى المنصور.
وفيها اشترى تقىّ الدّين عمر بن شاهنشاه، ابن أخى صلاح الدّين، الدّار المعروفة بمنازل العّز «5» بمصر، وبناها مدرسة للطائفة الشافعيّة.(28/363)
وكانت هذه الدّار يسكنها الأمير ناصر الدولة بن حمدان فى الأيّام المستنصرية؛ وقد تقدّم ذكر ذلك.
ثم أمر الملك النّاصر ببناء مدرسة الشافعىّ والبيمارستان، وعمّر الخانقاه المعروفة بسعيد السعداء على ما يأتى ذكر ذلك.
وفى [هذه] «1» السّنة أيضا أبطل الملك النّاصر مجلس الدّعوة من الجامع الأزهر وغيره، وكان [110] من سنّة الدّولة العبيديّة أن يقيموا لهم دعاة كالخطباء والله أعلم.
ذكر تفويض القضاء بالدّيار المصريّة للقاضى صدر الدّين بن درباس
وفى سنة ستّ وستّين وخمسمائة فى ثامن عشرى جمادى الآخرة فوّض السّلطان الملك النّاصر القضاء بالدّيار المصريّة إلى القاضى صدر الدّين أبى القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الماردانى، فاستمرّ إلى آخر الأيّام النّاصرية.
وفى سنة سبع وستين وخمسمائة، فى سابع المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله، ومات فى يوم عاشوراء كما قدّمناه.
وفيها فى الثّالث عشر من جمادى الأولى كشف حاصل الخزائن بالقصور، فوجد فيها ما يزيد على مائة صندوق، ومن الذّخائر النّفيسة ما لا مزيد عليه.
وفيها فى صفر أمر الملك النّاصر بإبطال المكوس بالقاهرة والأعمال عن التّجار المتردّدين إليها وإلى ساحل المقسم صادرا وواردا، فكان مبلغ ذلك مائة ألف دينار عينا.(28/364)
وفيها رسم بتحويل سنة خمس وستّين الخراجية إلى سنة سبع وستين الهلاليّة، وكانت قد حوّلت فى سنة خمسمائة فى أيام الأفضل أمير الجيوش «1» .
ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب
كانت وفاته رحمه الله تعالى فى يوم الثّلاثاء السّابع والعشرين «2» من ذى الحجة سنة ثمان وستّين وخمسمائة. وذلك أنّه ركب من داره، فلمّا انتهى إلى باب القصر فى وسط المحجة شبّ به فرسه فسقط عنه، فحمل إلى منزله، فعاش ثمانية أيّام ومات فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدّين فى الدّار السّلطانية، ثم نقلا إلى المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصّلاة والسّلام، وقبرا فى تربة الوزير جمال الدين الأصفهانى وزير الموصل رحمه الله.
وفى سنة تسع وستّين وخمسمائة أمر الملك النّاصر ببيع الكتب التى بخزانة القصر «3» ، فكانت أكثر من مائة ألف كتاب من سائر المصنفات، فأبيعت بأخسّ الأثمان.
ذكر عمارة قلعة الجبل والسّور
وفى سنة تسع وستين وخمسمائة أيضا أمر الملك النّاصر بعمارة قلعة الجبل والسّور الدائر على القاهرة ومصر، وجعل مبدأه من شاطىء(28/365)
النّيل إلى شاطئه. فكان دور السّور على القاهرة ومصر والقلعة تسعة وعشرين ألف ذراع، وثلاثمائة ذراع وذراعين. من ذلك ما بين قلعة المقسم والبرج بالكوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع؛ ومن القلعة بالمقسم إلى حائط قلعة الجبل ثمانية آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع واثنان وتسعون ذراعا؛ ومن حائط قلعة الجبل إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع. ودائر قلعة الجبل ثلاثة آلاف ومائتا ذراع وعشرة أذرع، كل ذلك بالذراع الهاشمى. وتولّى عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، وحفر فى رأس الجبل بئرا يتوصل إلى مائها المعين من درج منحوتة من الجبل؛ وتوفى الملك الناصر قبل أن تكمل عمارته «1» .
وفيها أمر ببناء المدرسة عند تربة الإمام الشّافعى رحمه الله، وتولاها الفقيه الزاهد نجم الدين الخبوشانى.
وأمر باتّخاذ دار فى القصر بيمارستانا للمرضى، ووقف على ذلك وقوفا. وهذا البيمارستان يسمّى فى وقتنا هذا البيمارستان العتيق «2» .
وفيها أسقط مكوس مكّة، شرّفها الله تعالى، المقررة على الحاج وعوض أميرها عن ذلك فى كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحا تحمل إلى ساحل جدة، وعيّن لذلك ضياعا بالدّيار المصرية وقرّر أيضا حمل غلّات إلى المجاورين بالحرمين الشريفين والفقراء؛ فقال الشيخ أبو(28/366)
الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسى «1» فى ذلك من قصيدة يمدح بها الملك الناصر:
رفعت مكارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشّامل الغامر
وأمّنت أكناف تلك البلاد ... فهان السّبيل على العابر
وسمت أياديك فيّاضة ... على وارد وعلى صادر
فكم لك بالشّرق من حامد ... وكم لك بالغرب من شاكر
ذكر قتل جماعة من المصريين
وفى سنة تسع وستين وخمسمائة أيضا، فى ثانى شهر رمضان صلب جماعة ممّن أراد الوثوب بمصر من أصحاب الخلفاء العبيديّين. وسبب ذلك أن جماعة من شيعتهم، منهم عمارة اليمنى الشاعر، وعبد الصّمد الكاتب، والقاضى الأعزّ سلامة المعروف بالعوريس «2» ، والقاضى ضياء الدّين نصر بن عبد الله بن كامل، وداعى الدعاة، وغيرهم من جند العبيديين ورجال السّودان وحاشية القصر ومن وافقهم من الأمراء الصّلاحية والجند- اتّفق رأيهم على استدعاء الفرنج من جزيرة صقليّة ومن سواحل الشّام إلى الديار المصريّة على شىء بذلوه لهم من المال والبلاد، وقرّروا أنّ الملك الناصر إذا خرج إليهم بنفسه ثار هؤلاء بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العبيديّة، العلوية بزعمهم، ويعود من معه من العساكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام بالبلاد. وإن أقام هو وأرسل العساكر إليهم ثاروا به فأخذوه باليد. وقال لهم عمارة: وأنا فقد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفا أن يسدّ مسدّه، وتجتمع الكلمة عليه بعده.
وأرسلوا إلى الفرنج وتقرّرت هذه القاعدة بينهم.(28/367)
قال: وكان ممن أدخلوه معهم فى هذا الأمر زين الدّين علىّ «1» بن نجا الواعظ، وهو القاضى ابن نجيّة، ثمّ اختلفوا فى وزارة الخليفة؛ فقال بنو رزّيك: يكون الوزير منّا. والقاضى؛ وقال بنو شاور: بل يكون الوزير منّا فحضر ابن نجا إلى الملك النّاصر وأعلمه بصورة الحال، فأمره بمباطنتهم وموافقتهم، ومطالعته بأحوالهم. ففعل ذلك.
ثم وصل رسول من ملك الفرنج إلى الملك النّاصر بهدايا، وهو فى الظّاهر له وفى الباطن لهؤلاء، فوضع الملك النّاصر عليه من النّصارى من داخله وباطنه؛ فذكر له الحال على جليّته، فأعلم به الملك النّاصر. فلما تحقّقه قبض على هؤلاء وصلبهم، فكان ممن صلب عمارة اليمنى، وعبد الصّمد الكاتب، والقاضى الأعز العوريس، وغيرهم «2» .
وجاء عمارة إلى باب القاضى الفاضل لمّا مسك، فاحتجب عنه، فقال عمارة:
عبد الرّحيم قد احتجب ... إنّ الخلاص من العجب «3»
ونودى فى أجناد المصريين بالرّحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصى الصّعيد، واحتاط الملك النّاصر على من بالقصر من سلالة العاضد(28/368)
وأهله. وأمّا من كان قد وافقهم من أصحابه فلم يخاطبهم فى ذلك ولا أوهمهم أنّه علم به. وبلغ ذلك فرنج السّاحل فلم يتحركوا من أماكنهم، وأما فرنج صقليّة فإنهم قصدوا ثغر الإسكندريّة على ما نذكره.
وفى سنة سبعين وخمسمائة، فى أوائلها، خالف الكنز «1» ، أمير العرب، على الملك النّاصر بصعيد مصر، واجتمع معه جماعة كبيرة من رعايا البلاد والعربان والسّودان وغيرهم، وقتل أخا الأمير أبى الهيجاء السّمين، وكان قد توجّه لإقطاعه بالصّعيد. فعظم قتله على أخيه، وكان من أكابر الأمراء النّاصريّة، فسار إلى قتال الكنز. وندب معه الملك الناصر جماعة من الأمراء والعسكر، فوصلوا إلى مدينة طود، وهى على مسافة يوم من مدينة قوص إلى جهة الصّعيد، فامتنع من بها عليهم، فقاتلوهم وظفروا بهم وقتلوا كثيرا منهم، وأخربوا البلد، فهى إلى وقتنا هذا تعرف بطود الخراب، وغيطانها عامرة. ثمّ سار العسكر منها إلى الكنز، فقاتلوه، فقتل هو ومن معه من الأعراب، وأمنت البلاد واستقرّ أهلها «2» .
وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة ظهر بالدّيار المصرية فأر كثير جدّا.
قال القاضى الفاضل عبد الرحيم: حدّثنى من شاهد هذا الفأر وهو يرحل من بقعة إلى أخرى فيغطّى الأرض بكمالها حتى لا يظهر منها شىء ألبتّة(28/369)
وأنه شاهد يمرّ بأماكن فلا يلمّ بها ولا يخرج عليها والزّروع بها محصورة، ويمرّ بأخرى فلا يلبث أن يفسد جميع ما فيها ولا يرتحل عنها وبها شىء من الزّرع ولا المقات بالجملة.
وفى سنة تسع وسبعين وخمسمائة [112] ظهر بأبو صير السدر «1» من أعمال الجيزة بيت أشاع النّاس أنّه بيت هرمس، ففتح بحضور القاضى نظام الدّين بن الشّهرزورى وأخرج منه أشياء، من جملتها صور كباش وضفادع بأزهر، وقوارير دهنج، وفلوس من فضّة ونحاس، وأصنام نحاس وياقوت، وغير ذلك من الذّهب والفضة والتّحف القديمة ووجد فيه خلق كثير من الأموات.
وفى سنة ثمانين وخمسمائة فى يوم الاثنين مستهلّ المحرم درّس فى المدرسة الفاضلية «2» الّتى أنشأها القاضى الفاضل عبد الرّحيم بالقاهرة بدرب ملوخيّا؛ ورتّب فيها لإقراء كتاب الله تعالى الشيخ الإمام العالم الزّكى أبو [محمد] «3» القاسم بن فيرّه الرّعينى الشّاطبى؛ وفى التّدريس على مذهبى الشّافعى ومالك الفقيه أبو القاسم عبد الرحيم بن سلامة الإسكندرى، رحمهما الله تعالى.
وحيث ذكرنا هذه النّبذة من الحوادث الّتى اتّفقت فى خلال دولته، فلنذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلاميّة.(28/370)
ذكر ما استولى عليه الملك الناصر من البلاد الإسلامية بنفسه وأتباعه
كان من البلاد التى خطب بها للملك النّاصر صلاح الدّين يوسف طرابلس الغرب وبعض بلاد إفريقية، منها مدينة قابس «1» .
وسبب ذلك أن شرف الدين قراقوش مملوك تقىّ الدين عمر «2» ، ابن أخى الملك النّاصر، توجّه فى سنة ثمان وستين وخمسمائة فى طائفة من الأتراك إلى جبال نفوسة «3» ، واجتمع به مسعود بن زمام المعروف بالبلاط، وهو من أعيان أمراء تلك النّاحية، وكان خارجا عن طاعة [ابن] «4» عبد المؤمن. فاتّفقا وكثر جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب، فحاصراها مدّة وضيّقا على أهلها، ثمّ فتحاها، فاستولى قراقوش عليها، وأسكن أهله بقصرها. ثمّ ملك كثيرا من بلاد أفريقية إلا المهديّة وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع. وكثر جمع قراقوش، فحكم على تلك البلاد، وجمع أموالا عظيمة وجعلها بمدينة قابس، وقويت نفسه، وطمع أنّه يستولى على جميع أفريقيّة لبعد ابن عبد المؤمن عنها واشتغاله بجهاد الفرنج. ثم جاء نورا به مملوك تقىّ الدين أيضا، بطائفة من التّرك فزاد بهم قوّة إلى قوّتة. ثم اجتمع الأتراك وعلىّ(28/371)
ابن إسحاق الملثّم [المعروف بابن غانية] «1» وملكوا بجاية فى سنة ثمانين، وانقادوا إلى الملثّم واستعانوا به، لأنّه من بيت المملكة والرئاسة القديمة، ولقّبوه بأمير المسلمين؛ وقصدوا بلاد أفريقية فملكوها شرقا وغربا إلا تونس والمهديّة فإنّ الموحّدين حفظوها.
ولمّا حصل استيلاؤهم على بلاد أفريقية قطعت خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للنّاصر لدين الله العبّاسى؛ وقصدوا مدينة قفصة فتسلّموها فى سنة اثنتين وثمانين؛ وأقام بها طائفة من الملثمين والأتراك.
فلمّا اتّصلت هذه الأخبار بالأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن «2» اختار من عسكره عشرين ألف فارس من الموحّدين، وسار بهم فى صفر سنة ثلاث وثمانين، فوصل إلى مدينة تونس. وأرسل ستّة آلاف مع ابن أخيه فساروا إلى الملثم والأتراك بقفصة، فهزمهم الملثم ومن معه فى شهر ربيع الأول من السّنة. فجاء يعقوب بن يوسف بمن معه فى نصف شهر رجب منها، والتقوا على مدينة قابس، فانهزم الأتراك والملثم، وقتل كثير منهم. وفتح يعقوب قابس، وأخذ أموال قراقوش وأهله وحملهم على مراكش. وحصر مدينة قفصة ثلاثة أشهر وبها التّرك، فطلبوا الأمان لهم ولأهل البلد، فأمّنهم وسيّر الأتراك إلى الثّغور لما رأى من شجاعتهم.
هذا ما اتّفق لهذه الطائفة، وإن كانت هذه الفتوحات لا تختصّ كلّها بالدّولة الأيوبية، إلا أنهم كانوا سببا، وهم الّذين استولوا على البلاد كما ذكرنا فأوردناها فى أخبارهم.(28/372)
[113] ذكر استيلائه على اليمن
وفى سنة تسع وستّين وخمسمائة جهّز الملك النّاصر أخاه الملك المعظّم شمس الدّولة تورانشاه «1» إلى اليمن، فسار فى مستهلّ شهر رجب.
وكان عمارة اليمنى الشّاعر يذكر له البلاد ويحسّنها له ويحثّه على قصدها، ويعظّم مملكتها. فسار ووصل إلى مكة شرّفها الله تعالى، ومنها إلى زبيد «2» وبها صاحبها عبد النبىّ المتغلب عليها «3» . فلمّا قرب منها ورأى أهلها انهزموا، فوصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا عليه من يمانع عنه، فنصبوا السّلاليم وصعدوا عليها إلى السّور فملكوا البلد عنوة ونهبوه، وأسر المتغلب عليها عبد النّبىّ وزوجته المدعوة بالخيرة، وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة. وسلّم شمس الدّولة عبد النّبى إلى سيف الدّولة مبارك بن كامل بن منقذ، وهو من أمرائه، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فاستخرج منه شيئا كثيرا وأظهر دفائن كانت له. ودلّتهم الخيّرة على ودائع لها كثيرة. ثم أصلح أمر زبيد وخطب بها للنّاصر لدين الله «4» .
ثم سار إلى ثغر عدن، وهى فرضة «5» الهند والزّنج والحبشة وعمان وكرمان وكشّ وفارس وغير ذلك؛ وهى من جهة البرّ من أمنع البلاد(28/373)
وأحصنها. وصاحبها يومئذ رجل اسمه ياسر «1» ، فخرج إليه وقاتله، فانهزم هو ومن معه؛ فسبقه بعض عسكر الدّولة فدخلوا البلد قبل أهله وملكوه، وأسر صاحبه. وقصد العسكر نهب البلد، فمنعهم شمس الدّولة، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وإنّما جئنا لنملكها ونعمّرها وننتفع بها. ثمّ عاد إلى زبيد وحصر ما فى الجبل من الحصون فملك قلعة تعزّ واسمها الدّمولة، وهى من أحصن القلاع، وبها تكون خزائن صاحب اليمن. وملك غيرها من الحصون والمعاقل، واستناب بثغر عدن عزّ الدين عثمان الزّنجيلى، وبزبيد سيف الدّين مبارك بن كامل بن منقذ. وجعل فى كلّ حصن نائبا من أصحابه.
وأحسن شمس الدّولة إلى أهل البلاد؛ وعادت زبيد إلى أحسن ما كانت عليه من العمارة والأمن. ثمّ عاد شمس الدولة من اليمن، وقدم إلى دمشق بعد أن ملكها الملك الناصر، فوصل إليها فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
ذكر ملكه مدينة دمشق
قال المؤرخ: لمّا توفى الملك العادل نور الدّين الشهيد محمود»
ابن زنكى رحمه الله، كما قدّمناه «3» فى أخباره، وولى بعده ولده الملك الصّالح إسماعيل أقرّ الملك النّاصر الخطبة باسمه بعد أبيه، ولم يخطب لنفسه. ثم اتّفق ما ذكرناه من نقلة الملك الصّالح من دمشق إلى حلب، ولم يستأذن الملك النّاصر فى ذلك ولا كتب له فيه؛ فسار(28/374)
[الملك الناصر] «1» من الدّيار المصريّة إلى الشام فى شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة، ووصل إلى دمشق فى يوم الاثنين سلخ الشهر- وقال ابن شدّاد فى سلخ شهر ربيع الآخر «2» - وتسلّم دمشق من الأمير شمس الدّين بن المقدّم ونزل بدار العقيقى، وكانت سكن أبيه، وأحسن إلى الأمراء وأكرمهم، وأظهر أنّه إنّما حضر إلى الشّام نصرة للملك الصّالح، وليعيد عليه ما أخذه ابن عمه سيف الدّين غازى «3» من بلاده. وأقرّ خطبته ولم يقطعها ولا خطب لنفسه.
ذكر ملكه مدينة حمص وحماه
قال المؤرخ: ولمّا ملك دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام «4» طغزتكين بن أيوب، وتوجّه إلى مدينة حمص فى مستهلّ جمادى الأولى، فنازلها، فملك المدينة ولم يشتغل بالقلعة؛ وترك بالمدينة من يحفظها ويمنع من [فى، «5» القلعة من التصرّف.
وسار منها فوصل إلى مدينة حماة فى مستهلّ جمادى الآخرة؛ وكان بقلعتها الأمير عزّ الدّين جرديك، وهو من المماليك النوريّة، فامتنع من تسليمها. فأرسل إليه يعرّفه ما هو عليه من الطّاعة للملك الصّالح، فاستحلفه جرديك على ذلك، وخرج إليه، وترك أخاه بالقلعة ليحفظها.
وتوجّه عزّ الدّين جرديك إلى حلب ليكون سفيرا [114] بين الملك الناصر وبين كمشتكين فاعتقل بحلب فلما بلغ أخاه ذلك سلم القلعة إلى الملك الناصر فملكها.(28/375)
ذكر حصره حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك
قال: ولمّا بلغ الملك النّاصر خبر عزّ الدين جرديك والقبض عليه، توجّه إلى حلب وحصرها فى جمادى الآخرة من السّنة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصّالح وهو صبىّ وعمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل حلب، وذكّرهم بإحسان والده إليهم، واستنصر بهم فى دفع صلاح الدّين، فبكوا وحلفوا له على بذل النّفوس والأموال، وقاتلوا أشدّ قتال. وأرسل سعد الدّين كمشتكين إلى سنان، مقدّم الإسماعلية، مالا كثيرا على قتل الملك النّاصر؛ فسيّر إليه جماعة، فظفر صلاح الدّين بهم وقتلهم. ورحل عن حلب فى مستهلّ شهر رجب من السنة.
وكان سبب رحيله أنّ كمشتكين أرسل إلى القومص ريمند «1» الصّنجيلى، صاحب طرابلس، أن يجهّز إلى بلاد صلاح الدّين من الفرنج من يمنعه من الوصول إليها. فلمّا بلغه ذلك فارق حلب وعاد إلى حماة فى ثامن الشهر، بعد نزول الفرنج على حمص بيوم. فلمّا سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص، ووصل صلاح الدّين إلى حمص، وملك القلعة بعد حصار. وكان ملكه لها فى الحادى والعشرين من شعبان من السّنة.
ثمّ سار منها إلى بعلبك، وكان بها يمن الخادم متوليها من أيّام نور الدّين، فحصرها الملك النّاصر، فطلب يمن الأمان، فأمّنه وتسلّم القلعة فى رابع شهر رمضان.(28/376)
ذكر انهزام عسكر سيف الدين غازى من الملك الناصر وحصره حلب ثانيا
قال المؤرخ. كان الملك الصّالح كتب إلى عمه سيف الدّين غازى يستنجده على قتال صلاح الدّين ودفعه فجهّز العسكر صحبة أخيه عزّ الدين مسعود، وتأخّر هو لما وقع بينه وبين أخيه عماد الدّين من الاختلاف الذى قدمناه فى أخبار الدولة الأتابكية «1» فسارت العساكر السّيفيّة، واجتمع معها العسكر الحلبىّ، وساروا كلّهم لقتال الملك النّاصر فأرسل إلى سيف الدّين يبذل له تسليم حمص وحماة وأن يقرّ بيده مدينة دمشق نيابة عن الملك الصالح؛ فلم يجب إلى ذلك وقال:
لا بدّ من تسليم جميع ما أخذه من بلاد الشام ويعود إلى مصر.
فلما امتنع سيف الدّين من إجابته تجهّز عند ذلك للقاء عزّ الدين مسعود ومن معه وقتالهم، فالتقوا فى تاسع عشر شهر رمضان بقرون حماة «2» ، فلم تثبت عساكر سيف الدّين وانهزموا لا يلوى بعضهم على بعض. وتبعهم الملك النّاصر وغنم معسكرهم، ووصل إلى حلب وحاصرها، وقطع خطبة الملك الصالح، وأزال اسمه.
فلمّا طال الحصار على من بحلب راسلوه فى الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشّام ولهم ما بأيديهم منها؛ فأجابهم إلى ذلك، وانتظم الصّلح. فرحل عن حلب فى العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة، ووصلت إليه بها رسل الخليفة المستضىء بنور الله، ومعهم الخلع والأعلام السّود وتوقيع من الدّيوان العزيز بالسّلطنة ببلاد مصر والشام.(28/377)
وفيها ملك قلعة بعرين «1» فى العشر الأول من شوال من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزّعفرانى، وكان من أكابر الأمراء النّورية، فجاء إلى خدمة الملك النّاصر، وظن أنّه يكرّمه ويقرّبه، فلم ير من ذلك شيئا، ففارقه وعاد إلى قلعته. فلما استقرّ الصّلح بين الملكين النّاصر والصّالح نازل [الناصر] «2» بعرين ونصب عليها المجانيق وملكها.
ذكر الحرب بين الملك النّاصر وسيف الدين غازى وانهزام غازى
قد قدّمنا انهزام عزّ الدين مسعود بالعسكر السّيفى من الملك النّاصر فى سنة سبعين وخمسمائة. فلمّا كان فى سنة إحدى وسبعين جمع سيف الدّين غازى جميع عساكره وفرّق فيهم الأموال، واستنجد بصاحب حصن كيفا «3» وصاحب ماردين «4» وغيرهما، وسار إلى حلب، واستصحب سعد الدّين كمشتكين مدبّر دولة الملك الصّالح والعسكر الحلبىّ.
وكان صلاح الدّين فى قلّة من العسكر لأنّه جهّز أكثر عساكره إلى الدّيار المصريّة فلمّا بلغه ذلك [115] أرسل يستدعى عساكره، فلم تلحقه؛ وأعجلته الحركة، فسار من دمشق إلى حلب للقاء غازى ومن معه، فالتقى العسكران بتلّ السّلطان بالقرب من حلب، فى عاشر شوال من السّنة.(28/378)
وكان عزّ الدين زلفندار مقدّم العسكر الموصلى قليل المعرفة بالحروب، فجعل أعلام صاحبه فى وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها فلما لم يرها النّاس ظنّوا أن سيف الدّين غازى قد انهزم، وانهزموا لا يلوى الأخ على أخيه. ولم يقتل من العسكر على كثرته غير رجل واحد. وانهزم سيف الدّولة إلى الموصل وترك أخاه عزّ الدّين بحلب «1» .
قال العماد الأصفهانى: إن سيف الدّين غازى كان فى عشرين ألف فارس؛ وخطّأه ابن الأثير الجزرى فى ذلك وقال إن أخاه مجد الدّين أبا السّعادات المبارك كان يتولّى كتابة الجيش، وأنه وقف على جريدة العرض فكانت ستّة آلاف «2» .
وإن جمعنا بين قوليهما فنقول: إنّ الجريدة الّتى وقف عليها ابن الأثير كانت للجيش المختصّ بسيف الدّين غازى خاصّة، والّذى نقله العماد الأصفهانى عن جميع ما صحبه من سائر الجيوش الحلبية والحصفية، والماردينيّة، والله أعلم.
ذكر ما ملكه الملك الناصر من بلاد الملك الصالح بعد هذه الوقعة
قال المؤرّخ: لمّا استولى الملك النّاصر على أثقال العسكر الموصلىّ وغنمها، واتّسع هو وعسكره بها، سار إلى بزاعة «3» ، فحصرها وملكها «4» بعد قتال من بقلعتها، وجعل بها من يحفظها. ثمّ(28/379)
سار إلى منبج «1» فحصرها فى آخر شوّال، وبها صاحبها قطب الدّين ينال بن حسّان المنبجى، وكان شديد العداوة للملك النّاصر والتّحريض عليه؛ فملك المدينة وحاصر القلعة وملكها عنوة، وأسر صاحبها ينال، ثم أطلقه، فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدّين غازى مدينة الرّقة.
ثم سار إلى قلعة عزاز «2» فنازلها فى ثالث ذى القعدة ونصب عليها المجانيق، ولازم الحصار ثمانية وثلاثين يوما وتسلّمها فى حادى عشر ذى الحجّة من السّنة «3» .
ووثب عليه فى مدّة الحصار باطنىّ «4» فضربه بسكّين فى رأسه، فردّ عنه المغفر «5» ، وضربه عدّة ضربات وقعت فى زيق كزاغنده «6» .(28/380)
ذكر حصره مدينة حلب والصلح عليها
قال: ثمّ رحل الملك النّاصر عن أعزاز ونازل حلب فى نصف ذى الحجة، وحصرها إلى العشرين من المحرّم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وتردّدت الرّسائل بينهم فى الصّلح، فاستقرّت القاعدة بين الملك النّاصر وسيف الدّين غازى والملك الصّالح وصاحب ماردين وصاحب حصن كيفا، وتحالفوا أن يكونوا كلّهم عونا على النّاكث منهم. فتمّ الصّلح، وأعاد الملك النّاصر إليهم قلعة أعزاز، ورجع عن حلب.
ذكر نهبه بلاد الإسماعيلية
قال: لمّا عاد الملك النّاصر من حلب قصد بلاد الإسماعيليّة فى شهر المحرّم سنة اثنتين وسبعين لقتالهم، لأنّهم أرادوا قتله؛ فنهب بلادهم وخرّ بها؛ ونازل قلعة مصياف «1» . فأرسل سنان مقدّم الإسماعيليّة إلى الأمير شهاب الدّين الحارمى صاحب حماة، وهو خال الملك النّاصر، يطلب منه الدّخول بينهما فى الصّلح والشّفاعة، وتهدّده بالقتل إن لم يفعل.
ففعل ذلك، وتمّ الصلح. وتوجّه الملك النّاصر إلى دمشق، ثم رحل منها إلى الدّيار المصريّة لأربع خلون من شهر ربيع الأول، ووصل إلى القاهرة لأربع بقين منه.
ذكر عبوره الفرات وملكه الديار الجزيرية
وفى سنة ثمان وسبعين «2» وخمسمائة كان الملك الناصر يحاصر بيروت، فأتته كتب مظفّر الدّين كوكبرى بن زين الدّين على بن(28/381)
تكين «1» مقطع حرّان يطلبه إلى البلاد ويعده المساعدة. فسار وعبر الفرات، وكاتب ملوك الأطراف [116] ووعدهم، وبذل لهم البذول على نصرته فأجابه نور الدّين محمد صاحب حصن كيفا. فسار الملك النّاصر إلى مدينة الرّها فحصرها فى جمادى الأولى، وداوم الحصار، فطلب صاحبها فخر الدّين مسعود الزّعفرانى الأمان، فأمّنه وتسلّم البلد، وصار صاحبها فى خدمته؛ وتسلّم القلعة. فلما ملكها سلّمها لمظفّر الدّين صاحب حرّان. ثم سار عنها إلى الرّقّة وكان بها مقطها قطب الدّين ينال بن حسان المنبجى، فملكها، وسار صاحبها إلى عز الدّين أتابك. وسار إلى الخابور فملكه. بكماله. ثمّ سار إلى نصيبين، فملك المدينة لوقته، وحصر القلعة عدّة أيّام، فملكها؛ وأقطعها للأمير أبى الهيجاء السّمين، وهو من أكابر الأمراء، وسار عنها، ومعه نور الدّين صاحب الحصن، فحاصر الموصل فلم يظفر منها بشىء لحصانتها وكثرة من بها.
ذكر ملكه مدينة سنجار
قال: ثم سار الملك النّاصر من الموصل إلى سنجار، فسيّر مجاهد الدّين قايماز إليها نجدة من العسكر، فمنعهم الملك النّاصر الوصول إليها، وأوقع بهم وأخذ سلاحهم ودوابّهم، وسار إليها ونازلها وبها شرف الدّين أمير أميران أخو عز الدّين صاحب الموصل، فملكها بأمان بعد حصار عظيم. وسار شرف الدّين ومن معه إلى الموصل.
واستقرّ للملك النّاصر جميع ما ملكه فى هذه الوقعة بملك سنجار «2» واستناب بها سعد الدّين بن معين الدّين أنر، وهو من أكابر الأمراء،(28/382)
وأحسنهم صورة ومعنى. وعاد إلى نصيبين، فلقيه أهلها وشكوا إليه من أبى الهيجاء السّمين فأنكر عليه وعزله.
وسار إلى حرّان فوصل إليها فى أوائل ذى القعدة، فكاتب عزّ الدّين صاحب الموصل صاحب خلاط، وهو شاه أرمن «1» ، واستنجد به على حرب الملك النّاصر. فلمّا بلغه اجتماعهما سار إلى بحرزم «2» بالقرب من ماردين.
ذكر ملكه مدينة آمد وتسليمها إلى صاحب حصن كيفا
قال: ثم سار من هذه الجهة الى آمد فوصل إليها فى سابع عشر ذى الحجة «3» فنازلها وحاصرها، ونصب عليها المجانيق. وهى من أحصن البلاد، يضرب المثل بحصانتها، وكان صاحبها ابن نيسان فى غاية الشّح يبخل ببذل المال، فملّه أصحابه وتخاذلوا عنه. فأخرج نساء إلى القاضى الفاضل «4» وسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله، وأن يؤخّر ثلاثة أيام حتى ينقل ماله بالبلد من الأموال والذّخائر.
فأجابه الملك الناصر إلى ذلك، وتسلّم البلد فى العشر الأول من المحرّم سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وانقضت الأيّام الثّلاثة قبل فراغه من نقل أمواله، فمنع مما بقى. وسلّم الملك النّاصر البلد بما فيه إلى نور الدّين صاحب الحصن، وكان فيه من الذخائر ما تزيد قيمته على ألف ألف دينار «5» .(28/383)
ذكر ملكه تل خالد وعين تاب
قال: ثمّ سار الملك النّاصر إلى تلّ خالد من أعمال حلب فحصرها ورماها بالمجانيق، فطلب أهلها الأمان، فأمّنهم، وتسلّمها فى المحرّم أيضا.
وسار منها إلى عين تاب، وبها ناصر الدّين محمد [بن خمارتكين] «1» من أيّام نور الدّين الشّهيد، فحصرها، فراسله فى طلب الأمان على أن يكون الحصن بيده ويكون فى خدمته. فأجابه إلى ذلك وحلف له عليه، فنزل إليه واتصل بخدمته «2» .
ذكر ملكه حلب
قال: ثمّ سار من عين تاب إلى حلب فى المحرّم أيضا ونزل بالميدان [الأخضر] «3» عدّة أيّام ثم انتقل إلى جبل جوشن «4» ؛ فنزل بأعلاه وأظهر أنّه يريد [أن] «5» يبنى مساكن لنفسه ولأصحابه وعساكره، وأقام أيّاما والقتال بين العسكرين فى كلّ يوم.
وكان صاحبها عماد الدّين زنكى بن مودود بن زنكى مجدّا فى القتال، فطالبه بعض الجند بأرزاقهم، [117] فاعتذر بقلّة المال عنده؛ وكان قد شحّ بإخراجه، فقال له من يريد حفظ حلب يخرج الأموال ولو باع حلىّ نسائه. فجنح إلى تسليمها، فراسل الملك النّاصر فى طلب العوض عنها: سنجار ونصيبين والخابور والرّقّة وسروج.(28/384)
فسلّم «1» مثل حلب وأعمالها وتعوّض عنها قرى ومزارع، وجرت الأيمان على ذلك. وتسلّمها الملك النّاصر فى ثامن عشر صفر.
فسبّ النّاس عماد الدّين زنكى وأسمعوه المكروه على فعله.
واستقرّت الحال بينهما أنّ عماد الدّين يحضر إلى خدمة الملك النّاصر متى استدعاه بنفسه وعسكره ولا يحتجّ بحجة.
قال: ولما تسلّم الملك النّاصر حلب امتدحه القاضى محيى الدين ابن الزّكى، قاضى دمشق، بقصيدة جاء منها:
وفتحكم حلبا بالسّيف فى صفر ... مبشّر بفتوح القدس فى رجب «2»
فكان كذلك.
ونقل الملك النّاصر أخاه الملك العادل من نيابة الدّيار المصرية إلى حلب، فى سنة تسع وسبعين، وأعطاه حلب وقلعتها وأعمالها ومنبج وما يتعلّق بها؛ وسيّره فى شهر رمضان.
ذكر فتح الملك النّاصر حارم
قال: ولمّا فتح الملك النّاصر حلب كان بقلعة حارم «3» سرخك، وهو من المماليك النّورية، فامتنع من تسليمها، فراسله فى ذلك وخيّره فيما يريد من القلاع، ووعده الإحسان؛ فاشتطّ فى الطّلب. فتردّدت الرّسائل بينهم، فراسل سرخك الفرنج ليحتمى بهم، فبلغ ذلك من معه من الأجناد فخافوا أن يسلّمها للفرنج، فقبضوا عليه واعتقلوه، وراسلوا الملك النّاصر فى طلب الأمان، فأجابهم وتسلّم الحصن ورتّب(28/385)
فيه دزدارا من بعض خواصّه «1» ، وأقام الملك النّاصر بحلب إلى أن قرّر قواعدها وأقطع أعمالها.
ذكر حصار الموصل
وفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حاصر الملك النّاصر الموصل. وذلك أنّه سار من دمشق فى ذى القعدة سنة ثمانين لقصد حصارها فلمّا وصل إلى مدينة بلد «2» سيّر إليه عز الدّين صاحب الموصل والدته وابنة عمه «3» الملك العادل نور الدّين الشهيد وغيرهما من النّساء فى جماعة من أعيان الدولة يسألونه المصالحة، وبذلوا موافقته وإنجاده بالعساكر متى طلبها، ليعود عن قصد الموصل. وإنّما أرسلهنّ ظنّا منه أنّه لو سيّر ابنة نور الدّين إلى الملك النّاصر فى طلب الشّام أعطاه لأنّها ابنة مخدومه. فتلقّاهنّ بالإكرام، وأحسن إليهن، واستشار أصحابه فى ذلك، فكلّ أشار عليه بموافقتهنّ.
فقال له الفقيه عيسى الهكّارى وعلىّ المشطوب: مثل الموصل لا تترك لامرأة، وإنّ عزّ الدّين ما أرسلهنّ إلّا وقد عجز عن الحرب.
فوافق ذلك هواه فردّهنّ خائبات، واعتذر بأعذار غير مقبولة، وقصد الموصل وحاصرها، وكان بينهم مناوشات فلم يتمكّن منها، فندم حيث(28/386)
لم يحبس النّساء. ففى أثناء ذلك توفى شاه أرمن «1» صاحب خلاط، فأشار عليه أصحابه بمفارقة الموصل وقصد خلاط، ففارقها.
ذكر ملكه ميّافارقين
قال: ولمّا سار الملك النّاصر إلى خلاط جعل طريقه ميّافارقين «2» وكان صاحبها قطب الدّين صاحب ماردين قد توفى «3» وملك بعده ابنه وهو طفل وكان حكمها إلى شاه أرمن وعسكره بها؛ فتوفى شاه أرمن أيضا، فطمع فى أخذها ونازلها. فرآها مشحونة بالرّجال، وفيها زوجة قطب الدّين المتوفّى وبناته، والمقدّم على جيشها أسد الدّين برتقش «4» ، وكان فيه شجاعة وشهامة. فحصرها الملك النّاصر من أوّل جمادى الأولى، ونصب عليها المجانيق والعرّادات؛ واشتدّ القتال فلم يظفر منها بشىء؛ فرجع عن القوّة إلى إعمال الحيلة. فراسل امرأة قطب الدّين المقيمة بالبلد يقول إنّ أسد الدّين قد مال إلينا فى تسليم البلد، ونحن نرعى حقّ أخيك نور الدّين فيك بعد وفاته، ونريد أن يكون لك نصيب، وأنا أزوّج بناتك بأولادى، وتكون ميّافارقين وغيرها لك وبحكمك، [118] ووضع من أرسل إلى أسد الدّين يعرّفه أنّ الخاتون قد مالت للانقياد إلى تسليمها، وأنّ من بخلاط قد كاتبوه ليسلّموها إليه. فسقط فى يده، وضعفت نفسه، وأرسل إلى الملك النّاصر يقترح إقطاعا ومالا، فأجيب إلى ذلك. وسلّم البلد فى سلخ جمادى الأولى، وعقد نكاح بعض أولاده على بعض البنات.(28/387)
ذكر عوده إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين صاحبها
قال: ولمّا تسلّم الملك الناصر ميّافارقين وفرغ من أمرها وتدبير أحوالها، عاد إلى الموصل لحصارها. فتردّدت الرّسائل بينه وبين عزّ الدين صاحبها، ووقع الاتّفاق على أن يسلّم للملك النّاصر شهرزور وأعمالها، وولاية القرابلى، وجميع ما وراء الزّاب، وأن يخطب له على منابر بلاده، ويضرب السّكّة باسمه؛ وتحالفا على ذلك. فتسلّم الملك النّاصر البلاد، وسكنت الدّهماء.
ورحل إلى حرّان فمرض بها وطال مرضه حتى أيس منه؛ ثمّ عوفى. وعاد إلى دمشق فى المحرّم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
قال: ولمّا كان الملك النّاصر مريضا بحرّان كان عنده ابن عمه ناصر الدّين محمد [بن] «1» شيركوه، وله من الإقطاع حمص والرّحبة، فسار إلى حمص واجتاز بحلب، وأحضر جماعة من أحداثها، ووعدهم، وأعطاهم مالا؛ ثمّ وصل إلى حمص وراسل جماعة من الدّماشقة على تسليم البلد إذا مات الملك النّاصر. وأقام ينتظر موته؛ فتوفّى ناصر الدّين ليلة عيد الأضحى سنة إحدى وثمانين، وعوفى الملك الناصر.
[وكان الملك الناصر] «2» لما بلغه ما اعتمده ناصر الدّين بحلب ومراسلته للدّماشقة، وضع عليه النّاصح بن العميد سقاه سمّا فمات، وطلب ابن العميد من الغد فلم يوجد؛ وسار من ليلته إلى الملك النّاصر؛ فقويت الظّنّة «3» بذلك.(28/388)
ولمّا توفى أعطى الملك النّاصر إقطاعه لولده شيركوه، وعمره اثنتا عشرة سنة. وخلّف ناصر الدّين من الأموال والخيول والآلات شيئا كثيرا، فحضر الملك النّاصر إلى حمص وعرض تركته، وأخذ أكثرها، واستعان به على الجهاد، ولم يترك إلّا ما لا خير فيه.
وحضر شيركوه عند الملك النّاصر [بعد موت أبيه بسنة] «1» ، فأجلسه فى حجره وسأله إلى أين انتهى من القرآن، فقال إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
«2» ، فاضطرب الملك النّاصر لذلك وظنّ أنّه عرّض بفعله، وطلب مؤدّبه ولوحه فوجده كذلك.
فعوّضه عمّا أخذه من مال أبيه الضّياع الخراب بالشّام فى ذلك الوقت، وهو الذى يعرف إلى زماننا هذا بالخراب الأسدىّ: وورثته إلى هذا التّاريخ يبيعون خراب ضياع الشّام والسّواد والبلقاء وغير ذلك.
واستولوا من الخراب على ما ليس فى كتابهم، وأباعوا مالا هو لهم، فإنّه قيل إن الذى اشتمل عليه كتاب المبايعة أربعمائة ضيعة، وهى الّتى كانت قد استولى عليها الخراب فى ذلك الوقت، فأباع ورثته جميع ما خرب بعد ذلك ممّا لم يتضمّنه كتابهم وأعانهم على ذلك أنّهم يبيعونه لأرباب الجاهات بأحسن الأثمان. وأعرف بلدا يسمّى رمدان من بلاد البلقاء بالقرب من الرّقيم والجادية وسنجاب «3» اشتراها الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصورى «4» لمّا كان ينوب عن السّلطنة بالشام،(28/389)
من الورثة الأسديّة بسبعمائة درهم؛ فلمّا مات وانتقل بعض ميراثه إلى السلطان الملك النّاصر «1» بالولاء الشّرعى. وكنت أباشر ديوانه بالشام، حصّلت من مغلّ هذه البلدة فى سنة إحدى وسبعمائة ما أبيع بنيّف وعشرين ألف درهم. فانظر إلى هذا التّفاوت العظيم.
ذكر غزوات الملك النّاصر وما افتتحه من بلاد الفرنج
وقد رأيت أن أفرد غزوات الملك النّاصر وفتوحاته ونكاياته فى الفرنج، ولا أضمّ ذلك إلى غيره من أخباره، لأنّ فيه ما يدلّ على قوّة الإسلام، وأنّ الله تعالى لم يزل يؤيّد هذا الدّين من عباده بمن يناضل عنه، ويحمى حوزته، ويذب عن أهله، ويستأصل شأفة عدوهم.
ونذكر ذلك على التّرتيب.
فكان أول ذلك وصول الفرنج إلى ثغر دمياط ورجوعهم عنه.
كان وصول الفرنج، خذلهم الله تعالى، إلى ثغر دمياط فى صفر سنة خمس وستين وخمسمائة، [119] فحاصروا الثّغر. وكان سبب ذلك أنّ أسد الدّين شيركوه لمّا ولى الوزارة للخليفة العاضد لدين الله خافه فرنج السّاحل، فكاتبوا أهل صقليّة والأندلس من الفرنج يستمدّونهم ويخبرونهم أن أسد الدّين قد ملك الدّيار المصرية، وأنهم لا يأمنونه على البيت المقدّس. فأمدّوهم بالمال والرّجال والسّلاح، فنازلوا دمياط وضيّقوا على أهلها. فأرسل الملك النّاصر إليهم العساكر برّا وبحرا، وكتب إلى الملك العادل نور الدّين الشّهيد بذلك، ويعرّفه «2»(28/390)
أنّه لا يمكنه الخروج من القاهرة لأنه لا يأمن أمر الشّيعة وأنّهم يثورون بعده، فيبقى الفرنج أمامه والمصريّون خلفه. فأمدّه نور الدّين بعسكر، وخرج نور الدّين بنفسه إلى بلاد الفرنج للإغارة عليها؛ فاستباح أموالها لخلوّ البلاد السّاحلية منهم فلمّا بلغهم ذلك رجعوا إلى بلادهم بساحل الشام بعد مقامهم على دمياط نيّفا وخمسين يوما، ولم يظفروا منها بشىء. وأخرج العاضد للملك النّاصر فى هذه الغزاة ألف ألف دينار مصريّة، سوى الثّياب والأسلحة.
ذكر غزوه بلاد الفرنج وفتح أيلة
وفى سنة ستّ وستّين وخمسمائة سار الملك النّاصر عن القاهرة وأغار على أعمال عسقلان والرّملة، وهجم على ربض غزّة فنهبه. وأتاه ملك الفرنج «1» فى قلّة من العسكر ليردّه، فهزمه الملك النّاصر بعد أن أشرف على أسره، وعاد إلى القاهرة، وعمل مراكب مفصّلة ونقلها على الجمال إلى البحر، فجمع قطعها وشدّها، وألقاها فى الماء. وحصر أيلة برّا وبحرا، وفتحها فى العشر الأول من شهر ربيع الآخر، واستباح أهلها وما فيها؛ وعاد إلى الدّيار المصريّة «2» .
ذكر محاصرة الشوبك وعوده عنها
قال المؤرخ: وفى صفر سنة سبع «3» وستين توجّه الملك النّاصر إلى حصن الشّوبك ونازله، وحصره، وضيّق على من به من الفرنج.
ودام القتال، فطلب أهله الأمان، واستمهلوه إلى عشرة أيّام فأجابهم(28/391)
إلى ذلك. ثمّ بلغه أنّ الملك العادل نور الدّين جاء من دمشق إلى الشّوبك من الجانب الآخر، فخاف أنّ نور الدّين متى ملك الشوبك قبض عليه، فعاد إلى الدّيار المصريّة، وكتب إلى نور الدّين يعتذر بمرض أبيه بمصر، فقبل عذره ظاهرا، ووقعت الوحشة بينهما باطنا
ذكر وصول [أسطول] «1» صقلية إلى ثغر الإسكندرية وانهزامه
كانت هذه الحادثة فى سنة سبعين وخمسمائة، ولم يكن للملك النّاصر بها غزاة بنفسه ولا مباشرة للحرب. وكان سبب وصول هذا الأسطول إلى الثّغر ما قدّمناه من مكاتبة المصريّين الذين صلبهم صلاح الدّين الفرنج. فوصل من صقلية مائتا شينى تحمل الرجال، وستّ وثلاثون طريدة «2» تحمل الخيل، وستّ مراكب تحمل آلة الحرب، وأربعون مركبا تحمل الأزواد. وفى المراكب من الرجال: خمسون ألفا ومن الفرسان ألف فارس وخمسمائة فارس. وكان المقدّم عليهم ابن عمّ صاحب صقليّة. فوصلوا إلى الثّغر فى السّادس والعشرين من ذى الحجة سنة تسع وستّين على حين غفلة، فخرج إليهم أهل الثّغر بعددهم وأسلحتهم، فمنعهم المتولّى عليهم، وأمرهم أن يقاتلوا من وراء السّور. وطلع الفرنج إلى البرّ ونصبوا الدبّابات «3» وقاربوا السّور؛ وقاتلهم أهل البلد قتالا شديدا. وجاء إلى الإسكندرية من كان إقطاعه بالقرب منها.(28/392)
وكتب إلى الملك النّاصر بذلك؛ فتجهّز بنفسه؛ وقدّم من يعلم أهل الثّغر بوصوله، وكان أهل الثّغر قد أنكوا فى الفرنج، وقتلوا وجرحوا كثيرا منهم، وحرقوا الدّبابات.
ولمّا علم الفرنج بمقدم الملك النّاصر جنحوا إلى الهرب، وأخذتهم سيوف أهل الثّغر، وحرقوا بعض مراكبهم، ونهبوا خيامهم، وأخذوا سلاحهم؛ وكثر القتل فيهم، وهرب من بقى؛ واحتمى ثلاثمائة من الفرسان على تلّ، فقاتلهم المسلمون طوال الليل إلى ضحى الغد، فأخذوا بين أسير وقتيل.
[120] ذكر مسيره إلى عسقلان وغيرها وانهزام عسكره وعوده
وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة خرج الملك النّاصر إلى غزّة وعسقلان.
وكان رحيله من القاهرة بعد صلاة الجمعة لثلاث ليال خلون من جمادى الأولى من السّنة، فوصل إلى عسقلان فى يوم الأربعاء لليلة بقيت من الشهر، فسبى وسلب، وضرب أعناق الأسرى؛ وتفرّق عسكره للإغارة على الأعمال.
ثمّ سار إلى الرّملة فى يوم الجمعة مستهلّ جمادى الآخرة، فاعترضه الفرنج وقد جمعوا جموعا كثيرة؛ فكان بينهما وقعة عظيمة استشهد فيها أحمد ولد الملك المظفّر تقى الدين [عمر] »
، وأسر ولده الثّانى شاهنشاه، وأقام فى الأسر سبع سنين حتى افتكّه السّلطان بمال كثير. وأسر الفقيه عيسى الهكّارى.(28/393)
ثم كانت على المسلمين. وذلك أنّ العساكر كانت قد تعبّت للحرب، فلما قاربهم العدوّ أراد بعض الأمراء أن ينقل الميمنة إلى الميسرة والميسرة إلى القلب، فلمّا اشتغلوا بهذه التّعبئة هجم عليهم الفرنج، فانكسروا وطلبوا الدّيار المصرية، وضلّوا فى الطّريق. وعاد السّلطان ومن معه إلى القاهرة فى يوم الخميس منتصف الشهر «1» .
ذكر وقعة مرج عيون وانهزام الفرنج وأسر ملوكهم
كانت هذه الوقعة فى يوم الأحد لثمان خلون من شهر المحرّم سنة خمس وسبعين وخمسمائة؛ وكان الفرنج فى عشرة آلاف مقاتل. فلمّا التقوا مع المسلمين انهزم ملكهم «2» مجروحا عند اللقاء وأسر منهم جماعة، منهم: مقدّم الدّاوية «3» . ومقدّم الأسبتارية، وصاحب طبريّة، وأخو صاحب جبيل «4» ، وابن القومصيّة «5» ، وابن بارزان «6» صاحب الرّملة، وصاحب جينين، وقسطلان يافا، وابن صاحب مرقيّة وعدّة من خيّالة القدس وعكّا. وغيرهم من المقدّمين الأكابر زادت عدّتهم على مائتين وسبعين، سوى غيرهم، فنقلهم السّلطان إلى دمشق.
فأمّا ابن بارزان فإنّه بذل فى نفسه مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار صوريّة، وإطلاق ألف أسير من المسلمين، والتزم بفكاك الفقيه عيسى الهكّارى. وأما ابن القومصية فافتكّته أمّه بخمسة وخمسين ألف(28/394)
دينار صوريّة. وأما مقدّم الداويّة فإنه هلك، فطلبت جثته بإطلاق ألف أسير من مقدّمى المسلمين «1» .
قال: وفى هذا اليوم ظفر الأسطول المصرىّ ببطشة «2» كبيرة للفرنج، فاستولى عليها وعلى أخرى، وعاد إلى الثّغر بألف أسير. والله أعلم.
ذكر هدم بيت الأحزان
كان الفرنج قد عمروا حصن بيت الأحزان فى مدّة مقام الملك النّاصر على بعلبك واشتغاله بأمرها؛ فبنوه على مخاضة بيت الأحزان، وبينه وبين صفد وطبريّة نصف يوم.
وكان فى بنائه ضرر عظيم على المسلمين، فبذل لهم الملك النّاصر فى هدمه مائة ألف دينار، فأبوا ذلك. فجهّز إليه الجيش، فوصل إلى المخاضة يوم السّبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين، والحصن مبنىّ دونها من الغرب. فنصبوا عليه المجانيق بعد العصر من يوم الأحد، فما جاء اللّيل إلّا وقد استولوا على الباشورة «3» . ثم أدار حوله النّقوب، فاستمرّت إلى يوم الخميس، لستّ بقين من الشهر، فهدم الجدار، ودخل العسكر الحصن وغنموا ما فيه؛ فكان ما غنموه من أنواع السّلاح الجديدة مائة ألف قطعة؛ وأسروا سبعمائة أسير، ومن أسرى المسلمين مائة. ثم هدم الحصن إلى الأساس، وكان سمكه عشرة أذرع «4» .(28/395)
قال: ولمّا عمر الفرنج بيت الأحزان قال النشو أحمد الدّمشقى:
هلاك الفرنج أتى عاجلا ... وقد آن تكسير صلبانها
ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها «1»
ذكر مسير الملك الناصر إلى بلاد الأرمن
[121] وفى سنة ستّ وسبعين وخمسمائة، توجّه الملك النّاصر إلى بلاد الأرمن. وذلك أن ابن لاوون «2» ملك الأرمن كان قد استمال قوما من التّركمان، فلمّا أتوه وهم آمنون أسرهم. فدخل الملك النّاصر إلى بلاده واستولى على قلعة تعرف بالمانقير «3» ، وهدمها إلى الأساس، وأخذ ما فيها من الآلات. ووجد المسلمون فى أرضها صهريجا مملوءا من الآلات الذّهب والفضّة والنّحاس. فبذل ابن لاوون جملة من المال، وأنّه يطلق الأسرى، ويشترى خمسمائة أسير من بلاد الفرنج ويطلقهم. فأجابه السّلطان إلى ذلك، وأخذ رهينة عليه. ثمّ عاد إلى الدّيار المصريّة، وأقام بها إلى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة «4» .
ذكر مسيره إلى الشام والإغارة على طبرية وبيسان وما كان من الظفر بمراكب الفرنج ببحر عيذاب
وفى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة توجّه السّلطان الملك النّاصر لقصد الشام عند وفاة الملك الصّالح بن الملك العادل نور الدّين. فأغار(28/396)
على طبريّة وبيسان فى العشر الأوسط من شهر ربيع الأوّل، فانتصر بعد قتال.
وفيها كان الظفر بالفرنج ببحر عيذاب «1» . وذلك أنّ البرنس صاحب الكرك «2» عمل أسطولا بالكرك، ونقل قطعه إلى بحر أيلة، وجمعها وألقاها فى البحر، وشحنها بالمقاتلة، فساروا فى البحر وافترقوا فرقتين: فرقة حصلت أيلة، وفرقة توجّهت إلى عيذاب. وأفسدوا السّواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوه من المراكب الإسلامية ومن فيها من التّجار. وجاءوا على حين غفلة، فرأى النّاس ما لم يعهدوه، فإنّ هذا البحر لم ير النّاس فيه فرنجيّا قطّ، لا تاجرا ولا مقاتلا قبل هذا الوقت.
وكان الملك العادل ينوب عن أخيه الملك النّاصر بالدّيار المصريّة، فعمر أسطولا وجهّز فيه جماعة من المسلمين، ومقدّمهم حسام الدّين لؤلؤ الخاص، فسار فى طلبهم. وابتدأ بالمركب التى على أيلة، فظفر بها، وقتل بعض من فيها وأسر بعضهم. وتوجّه لوقته بعد ظفره بهم إلى الذين توجّهوا إلى عيذاب، وكانوا قد عزموا على الدّخول إلى الحجاز وأخذ الحاج، والدّخول بعد ذلك إلى اليمن، فوصل لؤلؤ إلى عيذاب فوجدهم قد نهبوا ما وجدوه بها وتوجّهوا، فسار فى أثرهم، فبلغ رابغ والحوراء فأدركهم بها، وأوقع بهم. فلمّا تحقّقوا العطب خرجوا إلى البرّ واعتصموا ببعض تلك الشّعاب، فنزل من مراكبه وقاتلهم فى البرّ أشدّ قتال، وأخذ خيلا من الأعراب الذين هناك فركبها، وقاتلهم، فظفر بهم وقتل أكثرهم؛ وأسر من بقى، وأرسل(28/397)
بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لهم على قصدهم البيت الحرام.
وعاد إلى مصر ببقية الأسرى، فقتلوا «1» .
ذكر الإغارة على الغور
قال: ولمّا ملك الملك النّاصر حلب وعاد إلى دمشق ثم رحل منها فى ثامن جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وخمسمائة نزل على بيسان فوجد أهلها قد ارتحلوا عنها، فنهبها العسكر النّاصرى وتقوّوا بما فيها، وحرقوا ما لم يمكنهم أخذه. وسار بهم حتى أتى الجالوت، وهى قرية عامرة وعندها عين جارية، فعبّأ أصحابه عندها للقتال، ورحل إلى الفولة «2» ، ووقع القتال بينه وبين الفرنج، وكان الظّفر له. ثمّ عاد إلى دمشق، فوصل إليها فى يوم الخميس الرّابع والعشرين من جمادى الآخرة من السّنة.
وتوجّه إلى الكرك فى هذه السّنة، وعاد.
ثمّ جمع العساكر المصريّة والحلبيّة وغيرها وقصد الكرك فى سنة ثمانين وخمسمائة، وهى الدّفعة الثانية؛ فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم للذّبّ عنها، ففارقها السّلطان، وجهّز طائفة إلى نابلس فنهبوها وعادوا إليه «3» .
ذكر غزوة الكرك والشوبك وفتح طبرية ومجدل يابا ويافا
قال العماد الأصفهانى فى البرق الشامى: وفى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة برز الملك النّاصر من دمشق فى أول المحرّم، فى العسكر(28/398)
العرمرم، ومضى بأهل الجنّة لجهاد أهل جهنم. فلمّا وصل إلى رأس الماء «1» أمر ولده الأفضل بالمقام عندها ليجتمع عنده الأمراء الواصلون من الجهات. وسار السّلطان [122] إلى بصرى، ثمّ منها إلى الكرك، ورعى الزّروع وقطع الأشجار. ثمّ سار إلى الشّوبك وفعل مثل ذلك.
ووصل إليه العسكر المصرىّ ففرّقه على قلعتى الكرك والشّوبك. وأقام إلى أن انقضى من السّنة شهران، والملك الأفضل مقيم برأس الماء، وقد اجتمعت عنده العساكر، فتقدّم إلى سريّة منهم بالغارة على أعمال طبريّة، فانتهوا إلى صفّوريّة «2» فخرج إليهم الفرنج فقاتلوهم، فكان الظّفر للمسلمين، وهلك مقدّم الأسبتار؛ وعادوا إليه فكانت مقدّمة النّصر المبين.
وانتهت البشائر إلى الملك النّاصر وهو بنواحى الكرك والشّوبك، فسار بمن معه فى يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل، وعرضهم فى اثنى عشر ألف فارس. وعزم على دخول السّاحل، فانتهى إلى ثغر الأقحوانة «3» فاجتمعت الفرنج فى زهاء خمسين ألفا، ونزلوا على مرج صفّوريّة بأرض عكّا، فلم يتقدّموا عنها. فتقدّم السّلطان إلى الأمراء أن يقيموا فى مقابلتهم، ونزل هو بمن معه من خواصّه على طبريّة وشرع فى نقب سورها، فهدموه فى ساعة من نهار، وامتنعت القلعة بمن فيها.
فلمّا اتّصل بالفرنج فتح طبريّة تقدّموا، وذلك فى يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر، فترك السّلطان على طبريّة من يحفظ قلعتها، وتقدّم بالعسكر، فالتقيا على سطح جبل طبريّة الغربىّ منها. وحال(28/399)
بينهما اللّيل، فباتا إلى صبيحة يوم الجمعة، فتصادما بأرض قرية اللّوبيا؛ واستمرّت الحرب بينهما إلى الليل فكانت من أعظم الحروب. ثمّ باتا إلى صبيحة يوم السّبت، فالتقيا.
فلمّا عاين القومص «1» أنّ الدائرة تكون على طائفته هرب فى أوائل الأمر قبل اشتداده، وسار نحو صور، فتبعه جماعة من المسلمين، فنجا بمفرده. ثمّ انهزمت طائفة أخرى فتبعها أبطال المسلمين، فلم ينح منها واحد. واعتصمت الطّائفة الأخرى بتل حطّين، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النّيران، فقتلهم العطش، فأسر مقدّمهم، وقتل الباقون وأسروا، وألقى الله عليهم الخذلان.
قال القاضى أبو المحاسن ابن شداد: لقد حكى لى من أثق به أنّه لقى بحوران شخصا واحدا ومعه طنب خيمة فيه نيّف وثلاثون أسيرا «2» .
وأمّا القومص الذى هرب فإنّه وصل إلى طرابلس، وأصابه ذات الجنب، فأهلكه الله.
قال: وبات السّلطان بالمنزلة، ونزل يوم الأحد على طبريّة وتسلّم قلعتها فى بقيّة يومه، وأقام بها إلى يوم الثّلاثاء.
قال: ولمّا يسر الله هذا الفتح كتب السّلطان إلى أخيه الملك العادل سيف الدّين بمصر يبشّره به، وأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقى عنده من العساكر، ومحاصرة ما يليه منها؛ فسارع إلى ذلك، وسار ونازل حصن مجدليابة «3» وفتحه، وغنم ما فيه، ثم سار إلى يافا وفتحها عنوة، وقتل وسبى، وأسر وغنم ...(28/400)
ذكر فتح عكا ونابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والنّاصرة ومعليا والفولة والطور والشّقيف وغير ذلك
قال ابن شدّاد: ثمّ رحل السّلطان طالبا عكّا. وكان نزوله عليها فى يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين، وقاتلها بكرة الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذها، واستنقذ من كان فيها من الأسارى، وكانوا زهاء أربعة آلاف؛ واستولى على ما فيها من الأموال والذّخائر.
ثم تفرّقت العساكر فى بلاد السّاحل فأخذوا نابلس، وحيفا، وقيساريّة، وصفّوريّة، والنّاصرة، ومعليا، والفؤلة، والطّور، والشّقيف وقلاعا تلى هذه كثيرة؛ وكان ذلك لخلوّها من الرّجال فإنّهم عمّهم القتل والأسر «1» .
ذكر فتح تبنين وصيدا وصرفند وبيروت وجبيل
قال: ثم أرسل السلطان [ابن] «2» أخيه تقى الدين إلى تبنين، فضايقها، وكتب إلى السلطان أن يأتيه بنفسه، فوصل إليها ونازلها يوم الأحد الحادى عشر من جمادى الأولى، فسأل من بها الأمان واستمهلوا خمسة أيام لينزلوا بأموالهم، وأطلقوا الأسارى، فخرجوا إليه، فسرّ بهم وكساهم. وخلص فى تلك السنة [123] من الأسرى أكثر من عشرين ألف أسير، ووقع فى أسره من الكفار مائة ألف.
قال: ثم رحل السّلطان من تبنين إلى صيدا، فاجتاز فى طريقه بصرفند فأخذها بعد قتال.(28/401)
ثم سار إلى صيدا، ففارقها صاحبها وتركها خالية، فتسلّمها ساعة وصوله إليها لتسع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وسار من يومه نحو بيروت فقاتل أهلها على سورها وظنّوا أنهم قد قدروا على حفظه، فدخلها المسلمون من الجانب الآخر، فسألوا الأمان فأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، وتسلّمها فى التاسع والعشرين من الشهر.
وأمّا جبيل فكان صاحبها فى جملة الأسرى الذين نقلوا إلى دمشق، فسأل إطلاقه وتسليمها، فأحضره مقيّدا، فسلّم البلد وأطلق أسرى المسلمين، وأطلقه السّلطان.
ذكر فتح عسقلان وما يجاورها
قال: وسار السّلطان إلى عسقلان والرملة وغزة والدّاروم وغير ذلك.
فنزل على عسقلان فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، ونصب عليها المجانيق، فسلّموها على خروجهم بأموالهم سالمين؛ وذلك فى يوم السبت سلخ جمادى الآخرة «1» .
ثم تسلّم حصون الدّاويّة وهى غزّة، والدّاروم، والرّملة، وتبنى، وبيت لحم، ومشهد الخليل، ولدّ، وبيت جبريل «2» .
قال: وكان بين فتح عسقلان وأخذ الفرنج لها من المسلمين خمس وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ استولى عليها فى السّابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.(28/402)
قال العماد: وفوّض السّلطان القضاء والحكم والخطابة وجميع المناصب الدينيّة بمدينة عسقلان وأعمالها إلى جمال الدّين عبد الله بن عمر الدّمشقى، وهو المعروف بقاضى اليمن.
ذكر فتح البيت المقدس
قال المؤرخ: لمّا فرغ السّلطان الملك النّاصر من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى البيت المقدّس، فكان وصوله إليه فى يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وكان به البطرك المعظّم عندهم، وهو أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا ياليان بن بارزان صاحب الرّملة ومن خلص من فرسان الفرنج من حطّين، واجتمع به أهل عسقلان وغيرها، كلّهم يرى الموت عليه أهون من أن يملك البيت المقدّس.
فنزل السّلطان بالجانب الغربىّ وأقام خمسة أيّام يطوف حول البلد لينظر من أين يقاتله. ثمّ انتقل إلى الجانب الشّمالىّ يوم الجمعة، العشرين من الشّهر، وكانت عدّة من به من المقاتلة ستّين ألفا غير النّساء والصّبيان فنصب السّلطان المجانيق فى تلك اللّيلة، ونصب الفرنج على السّور مجانيق أيضا، وقاتلوا أشد قتال رآه النّاس لأنّ كلّا من الفريقين يرى ذلك عليه من الواجبات لا يحتاج فيه إلى سلطان.
وكانت خيّالة الفرنج يخرجون فى كلّ يوم إلى ظاهر البلد فيقاتلون ويبارزون. وتوالى الزّحف، ونقب المسلمون السّور مما يلى وادى جهنّم.
فلما رأى الفرنج ذلك أخلدوا إلى طلب الأمان، وبعثوا جماعة من أكابرهم فى ذلك؛ فامتنع الملك النّاصر من ذلك وقال: لا أفعل بكم إلّا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة من(28/403)
القتل والسّبى. فلما رجع الرّسل إليهم، أرسل باليان بن بارزان يطلب الأمان لنفسه ليحضر إلى الملك النّاصر، فأمّنه، فحضر إليه وسأله الأمان، فلم يجبه، واستعطفه فلم يتعطّف، واسترحمه فلم يرحمه. فلمّا أيس منه قال له ما معناه: أيها السّلطان، اعلم أنّنا فى هذه المدينة فى خلق كثير لا يعلمهم إلّا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، وهم يكرهون الموت ويرغبون فى الحياة؛ فإذا رأينا أنّ الموت لا بدّ منه والله لنقتلنّ أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، فلا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما، ولا تسبون ولا تأسرون رجلا ولا امرأة. [124] فإذا فرغنا من ذلك أخرجنا الصّخرة والمسجد الأقصى؛ وغير ذلك من المواضع الشّريفة؛ ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، وهم خمسة آلاف، ولا نترك لنا دابّة ولا حيوانا إلا قتلناه. ثمّ نخرج إليكم، كلّنا، فنقاتلكم قتال من يريد يحمى دمه ونفسه، فلا يقتل الرّجل منا حتى يقتل؛ فإمّا أن نموت أعزاء أو نظفر كراما.
فلمّا سمع الملك النّاصر كلامه استشار عند ذلك أصحابه، فأشاروا عليه بموافقتهم.
ووقع الصّلح على أن يسلّموا أسرى المسلمين، ويبذلوا عن كلّ رجل من الفرنج عشرة دنانير، وعن كلّ امرأة خمسة، وعن كلّ طفل وطفلة دينارين، يستوى فى ذلك الغنىّ والفقير. وبذل ابن بارزان فى الفقراء ثلاثين ألف دينار من ماله، وعلى أن تكون المدّة أربعين يوما، فمن أدّى ذلك قبل المدّة خلص ومن تأخّر استرقّ.
وتسلّم السّلطان المدينة فى يوم الجمعة السّابع والعشرين من شهر(28/404)
رجب. وكان يوما مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على الأسوار «1» ، ورتّب السّلطان على أبواب البلد أمناء من الأمراء يأخذون من أهله ما استقرّ عليهم، فخانوا، ولو أدّوا الأمانة لامتلأت الخزائن.
قال: وصلّى الملك النّاصر الجمعة الثّانية فى رابع شعبان فى قبّة الصّخرة، وكان الخطيب والإمام القاضى محيى الدّين ابن الزّكى قاضى دمشق «2» .
ثم رتّب له خطيبا وإماما ونقل إليه المنبر الذى كان عمله الملك العادل نور الدّين بحلب برسم البيت المقدّس إذا فتحه. وكان بين عمله وفتح البيت المقدّس ما يزيد على عشرين سنة.
ثمّ تقدّم أمر السّلطان بعمارة المسجد الأقصى ومحو ما كان الفرنج صنعوه من الصّور على عادتهم، ونقل إليه المصاحف، وطهّره من أدناس الكفر، رحمه الله تعالى، وتقدّم بعمل الرّبط والمدارس، وجعل دار الأسبتار مدرسة للشّافعيّة» .
ذكر رحيله ومحاصرة صور
قال المؤرّخ: وأقام السّلطان الملك النّاصر بالبيت المقدّس إلى الخامس والعشرين من شعبان من السّنة، ثمّ سار لقصد محاصرة صور وقد اجتمع فيها خلق كثير من الفرنج. وقدم إليها المركيس «4» فى(28/405)
البحر بأموال عظيمة؛ وكانت عادته أن يحضر إلى البيت المقدّس بأموال يفرّقها، فلمّا حضر فى هذا الوقت ووصل عكّا فرآها قد خرجت عن أيدى الفرنج سار إلى صور فملكها، وأنفق ما معه على من بها، فقوى أمره وانحاز إليه جميع من خلص بالأمان من سائر البلاد. فأنفق على سور صور وخنادقها، وعمّقها، فصارت كالجزيرة فى البحر لا يمكن الوصول إليها.
فوصل الملك النّاصر إلى عكّا فى مستهل شهر رمضان، فأصلح من شأنها، ثم رحل عنها ونازل صور فى تاسع شهر رمضان ونزل على نهر بالقرب من البلد؛ ثمّ نزل على تلّ يقارب صور فى الثّانى والعشرين من الشّهر، وقسّم القتال على العسكر لكلّ جمع منهم وقت معلوم.
واستدعى الأسطول المصرىّ، وكان بعكّا، فجاءته عشر شوان، وكان للفرنج فى البحر مراكب فيها رماة الجروخ «1» والزنبوركات «2» يرمون من دنا من البحر. فاستطال الأسطول عليها، وأحاط بهم المسلمون وقاتلوا برّا وبحرا؛ ثمّ أغفلوا أمرهم فملك الفرنج من الشوانى خمسة وأسروا مقدّمها «3» .
ثمّ كانت حروب كثيرة ووقائع.
ثمّ رحل السّلطان عنها فى آخر شوّال، وهو أول كانون «4» ، وسار إلى عكّا، وأذن للعساكر بالعود إلى أوطانهم للرّاحة فى الشتاء والعود فى الربيع، فعادت عساكر الشّرق والموصل والشّام ومصر، وبقى(28/406)
السّلطان فى عكّا فى حلقته وخاصّته، وردّ أمرها إلى الأمير عز الدّين جرديك «1» .
ذكر فتح هونين
قال المؤرخ: كان السّلطان لمّا فتح تبنين امتنع من بهونين من تسليمها، وهى من أحصن القلاع وأمنعها، فرتّب عليها من يحصرها؛ فطلب من بها الأمان لمّا كان السّلطان يحاصر صور، فأمّنهم، ونزلوا منها وتسلّمها. «2»
[واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع كثرتها، كان فى ست جمع مع أنها فى أيدى أشجع الناس] «3» [125] وأشدهم عداوة للمسلمين، فيسر الله فتحها فى أيسر مدة.(28/407)
ذكر فتح حصن برزية
قال: ولما رحل السلطان من قلعة الثغر سار إلى قلعة برزية «1» ، وبحصانتها يضرب المثل، وهى تقابل حصن أفامية «2» وتناصفها فى أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصى، ومن عيون تنفجر من جبل برزية وغيره.
وكان أهلها أضر شىء على المسلمين يقطعون الطّريق ويبلغون فى الأذى.
فنزل السّلطان شرقيّها فى رابع عشرى الشّهر «3» ، وركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه، فلم يجده إلا من جهة الغرب.
وهذه القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهتى الجنوب والشّمال ألبتّة، فإنّ جبلها لا يصعد إليه من هاتين الجهتين؛ وأمّا الجانب الشرقىّ فيمكن الصّعود منه لغير مقاتل لصعوبته وارتفاعه؛ وأما جهة الغرب فإنّ الوادى المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعا كثيرا حتّى قارب القلعة بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسّهام. فنزله المسلمون ونصبوا المجانيق، ونصب أهل القلعة منجنيقا، فرأى السّلطان المجانيق لا تفيد، فتركها وعزم على الزّحف ومكاثرتها بالرّجال؛ فقسّم العسكر ثلاثة أقسام، يزحفون بالنّوبة. فطال ذلك على أهلها وعجزوا عن مقاتلتهم فملكها المسلمون عنوة ونهبوا وأسروا وسبوا، وأخذوا صاحبها وأهله، وأمست خالية خاوية. وألقى المسلمون النّار فى بعض البيوت فاحترقت «4» .(28/408)
ذكر فتح قلعة دربساك
قال: ثمّ رحل السّلطان بعد فتوح برزيّة من الغد فأتى جسر الحديد، وهو على العاصى بالقرب من أنطاكيّة، فأقام هناك حتّى وافاه من تخلّف عنه من عسكره ثمّ سار إلى قلعة دربساك، فنزل عليها فى ثامن شهر رجب سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وهى من أحصن معاقل الدّاويّة وقلاعهم التى يدّخرونها عند نزول الشدائد بهم. فنصب عليها المجانيق، وتابع الرّمى بالحجارة، فهدم قطعة يسيرة من سورها؛ ثمّ أمر بالزّحف عليها ومهاجمتها؛ فتوالى الزّحف والقتال، وتقدّم النّقّابون فنقبوا منها برجا وعلقوه فسقط، وطلب أهله الأمان فأمّنهم على ألا يخرجوا منها بغير ثيابهم خاصّة، فخرجوا كذلك، وتوجهوا إلى أنطاكيّة، وتسلّمه فى تاسع عشر شهر رجب «1» .
ذكر فتح قلعة بغراس
قال: ثمّ سار عن دربساك إلى قلعة بغراس، فحصرها بعد أن اختلف أصحابه فى حصرها، فمنهم من أشار به، ومنهم من نهى عنه وقال هو حصن حصين، وقلعة منيعة، وهو بالقرب من أنطاكية. فسار إليها وجعل أكثر عسكره مقابل أنطاكية يغيرون على ضياعها، وبقى هو فى بعض أصحابه على القلعة ونصب عليها المجانيق فلم يؤثّر فيها، فغلب على الظّنون تعذّر فتحها. فبينما هم فى ذلك إذ جاء رجل من القلعة يطلب الأمان لرسول، فأعطيه، وجاء رسول يطلب الأمان لأهلها، وسلّموها على قاعدة دربساك، فأجابهم إلى ما طلبوا. وعاد(28/409)
الرّسول ومعه الأعلام السّلطانيّة فرفعت على رأس القلعة، وتسلّمها السّلطان وأمر بتخريبها فخربت «1» .
ذكر الهدنة بين المسلمين وبين صاحب أنطاكية
قال: ولمّا فتح السّلطان بغراس قصد حصار أنطاكيّة فجاءته رسل بيمند تسأله الهدنة ثمانية أشهر بحيث يطلق جميع من عنده من أسرى المسلمين. فاستشار السّلطان أصحابه، فأشار أكثرهم بذلك ليستريح العسكر ويجدّدوا [126] ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك ووقعت الهدنة ثمانية أشهر أولها تشرين الأول «2» .
وتوجّه السّلطان إلى حلب فوصل إليها فى ثالث شعبان، وفرّق العساكر الشّرقية: عماد الدّين زنكى بن مودود صاحب سنجار، وعسكر الموصل، وغيرهما. ثمّ رحل إلى دمشق فدخلها فى أول شهر رمضان من السّنة.
ذكر فتح الكرك والشوبك وما يجاورهما
قد ذكرنا أنّ السّلطان كان قد جعل على الكرك من يحصره، وهو سعد الدّين كمشبه «3» ، فى أوّل سنة أربع وثمانين؛ فلازم الحصار هذه المدّة الطويلة حتى نفذت ذخائر الفرنج، وأكلوا دوابّهم. فراسلوا الملك العادل أخا السّلطان، وكان السّلطان قد جعله بتلك النّواحى فى مجمع من العسكر، وسألوه الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إلى سعد الدّين مقدّم العسكر فتسلّم القلعة منهم وأمّنهم.(28/410)
وتسلّم أيضا ما قارب هذا الحصن من الحصون وهو الشوبك، وهرمز، والوعيرة، والسلع فأمنت القلوب من تلك الجهة «1» .
ذكر فتح قلعة صفد
قال: ولمّا وصل السّلطان إلى دمشق أشير عليه أن يفرّق العساكر، فقال: إنّ العمر قصير والأجل غير مأمون، وقد بقى بيد الفرنج هذه الحصون: صفد والكوكب، ولا بدّ من الفراغ من ذلك فإنّهما فى وسط بلاد الإسلام. وأقام بدمشق إلى منتصف شهر رمضان من السّنة، وسار إلى قلعة صفد، فحصرها ونصب عليها المجانيق، وداوم الرّمى ليلا ونهارا، فسألوا الأمان، فأمّنهم وتسلّمها، وخرج أهلها إلى صور «2» .
ذكر فتح كوكب
قد قدّمنا «3» أنّ السلطان كان قد جعل على كوكب الأمير قايماز النّجمى «4» . فلمّا حصر السّلطان صفد أرسل من بصور من الفرنج نجدة من جهاتهم إلى كوكب، وهم مائتا رجل من الشّجعان، فظفر بهم قايماز فقتلهم عن آخرهم، وأرسل إلى السلطان المقدّمين عليهم، وهما رجلان من فرسان الأسبتار، فأمر بقتلهما، فقال أحدهما ما أظن أنّنا ينالنا سوء بعد أن رأينا وجهك الصّبيح. فعفا عنهما واعتقلهما.
ولما ملك صفد سار عنها إلى كوكب وشدّد الحصار ووالى الزّحف، وأشرف على أخذها، فسأل الفرنج الأمان فأمّنهم وأطلقهم، وتسلّم(28/411)
الحصن فى منتصف ذى القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
فالتحق من كان به بصور فقويت شوكتهم وكثروا، لأنه اجتمع عندهم شجعان الفرنج وكماتهم. وتابعوا الرّسل إلى ملوك الفرنج بالأندلس وصقليّة والجزائر يستغيثون بهم ويسألون الأمداد، فكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: ثمّ سار السّلطان إلى البيت المقدّس فعيّد فيه عيد الأضحى.
ثمّ سار منه إلى عكّا وأقام بها إلى أن انسلخت السنة «1» .
وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثار بالقاهرة اثنا عشر رجلا من الشّيعة، ونادوا بشعار العلويّين، وصاحوا: يا لعلىّ «2» وسلكوا الدّروب ينادون، ظنّا منهم أن أهل البلد يلبّون دعوتهم ويخرجون معهم، فيعيدون الدولة العبيديّة ويملكون البلد ويخرجون من بالقصر من العلويين؛ فلم يجبهم أحد من الناس.
فلمّا خاب سعيهم تفرّقوا فأخذوا. وكتب بذلك إلى السّلطان فأهمّه وأزعجه.
فقال له القاضى الفاضل عبد الرّحيم: ينبغى أن يفرح السّلطان بذلك ولا يحزن، حيث علم من بواطن رعيّته المحبّة له والنّصيحة، وترك الميل إلى عدوّه. ولو وضع السّلطان جماعة يفعلون مثل هذه الحالة ليعلم بواطن أصحابه ورعيّته وخسر الأموال «3» الجلية لكان قليلا فسرّى عنه.(28/412)
[127] ذكر فتح شقيف ارنوم
وفى شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين وخمسمائة سار السّلطان إلى شقيف أرنوم «1» ، وهو من أمنع الحصون، ليحصره، ونزل بمرج عيون فنزل صاحب الشّقيف، وهو أرناط «2» صاحب صيدا، إلى السّلطان؛ وكان من أكثر النّاس دهاء ومكرا فقال: أنا محب لك ولدولتك، ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يطّلع المركيس على ما بينى وبينك فينال أولادى وأهلى منه أذى، فإنّهم عنده بصور؛ وأحبّ أن تمهلنى حتى أتوصّل إلى تخليصهم من عنده، وحينئذ أحضر أنا وهم إلى عندك ونسلّم الحصن إليك، ونكون فى خدمتك، نقنع بما تعطينا من الإقطاع. فأجابه السلطان إلى ذلك وظنّ صدقه، واستقرّ الأمر بينهما أن يسلّم الشّقيف فى جمادى الآخرة.
وأقام السّلطان بمرج عيون ينتظر الأجل وهو قلق مفكر لقرب انقضاء الهدنة بينه وبين صاحب أنطاكية فأمر تقى الدّين ابن أخيه أن يسير فيمن معه من عساكره ومن يأتيه من بلاد الشّرق ويكون مقابل أنطاكيّة لئلا يغير صاحبها على ما يجاوره من بلاد الإسلام عند انقضاء الأجل.
وكان السّلطان أيضا منزعج الخاطر لما بلغه من اجتماع الفرنج بصور وما يصل إليهم من الأمداد، وأنّهم اجتمعوا فى خلق كثير وخرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها؛ فخاف أن يترك الشّقيف وراء ظهره. وكان أرناط فى هذه المدّة يشترى الأقوات من سوق العسكر، والسّلاح، وغير ذلك مما يحصّن به شقيفه، فيبلغ السّلطان فلا ينكره بحسن ظنّه. وكان قصد أرناط المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور.(28/413)
فلما قارب الأجل تقدّم السلطان إلى الشّقيف، واستدعى أرناط وقد بقى من الأجل ثلاثة أيّام، فجاءه، فتحدّث معه فى تسليم الحصن، فاعتذر بأولاده وأهله وأنّ المركيس لم يمكّنهم من المجىء إليه، وطلب المهلة مدّة أخرى. فحينئذ تحقق السّلطان مكره وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمره بتسليم الشقيف فطلب قسّيسا وحمّله رسالة سرّا، وأظهر أنّه أمره بتسليمه؛ فامتنع من بالحصن من تسليمه: فسرّ أرناط إلى دمشق وسجنه، وتقدّم إلى الشّقيف وضيّق على من به، وترك عليه من يحفظه ويمنع من الوصول إليه. فتسلّمه فى يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين، وأطلق صاحبه «1» .
ذكر مسير السلطان من مرج عيون إلى صور وما كان عليها من الوقائع
قال: وجاءت السّلطان كتب أصحابه الذين جعلهم يزكا «2» فى مقابلة الفرنج على مدينة صور يخبرونه أنّ الفرنج قد اجتمعوا على عبور الجسر الذى لصور، وعزموا على حصار صيدا. فسار جريدة فى شجعان أصحابه، فوصل إليهم بعد أن كانت الوقعة بين الفرنج وبين اليزك.
وذلك أن الفرنج خرجوا من مدينة صور، فلقيهم اليزك على مضيق وقاتلوهم ومنعوهم، وكانت حربا شديدة، وأسر من الفرنج جماعة، منهم سبعة رجال من فرسانهم المشهورين، وقتل من المسلمين(28/414)
جماعة. ثم عجز الفرنج عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى صور والله أعلم «1» .
ثم كانت لهم وقعة ثانية بعد وصول السّلطان مع المتطوّعة.
وذلك أن السّلطان لما جاء إلى صور أقام مع اليزك فى خيمة صغيرة ينتظر عودة الفرنج للخروج؛ فركب فى بعض الأيام فى عدّة يسيرة لينظر إلى مخيّم الفرنج من الجبل، فظنّ من هناك من المتطوّعة أنّه قصد الغزاة، فساروا مجدّين وأوغلوا فى أرض العدوّ وبعدوا [128] عن العسكر، وخلّفوا السّلطان وراء ظهورهم؛ فبعث من يردّهم فلم يرجعوا. وظنّ الفرنج أنّ وراءهم من يحميهم فأحجموا عنهم؛ فلمّا علموا بانفرادهم حملوا عليهم حملة رجل واحد، فقتل منهم جماعة من المعروفين؛ فشقّ ذلك على السّلطان والمسلمين. وكانت هذه الوقعة فى تاسع جمادى الأولى.
فلمّا رأى السّلطان ذلك انحدر من الجبل بمن معه، وحمل على الفرنج فردّهم إلى الجسر، فرموا بأنفسهم فى الماء، فغرق منهم مائة دارع سوى من قتل. وعادوا إلى مدينة صور، فعادا السّلطان إلى تبنين ثم إلى عكا.
ثم كانت وقعة ثالثة فى يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة صبر فيها الفريقان «2» .
ذكر مسير الفرنج إلى عكّا ومحاصرتها
قال المؤرخ: لما كثر جمع الفرنج بصور، على ما ذكرناه من أنّ السّلطان كان كلّما فتح حصنا أو مدينة بالأمان سار أهلها إلى صور(28/415)
بأموالهم وأهليهم، اجتمع بها منهم عالم كثير لا يحصون، وأموال كثيرة، ثم إنّ الرّهبان والقسوس لبسوا السواد وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدّس عنهم، وتابعهم جماعة من المشهورين.
فأخذهم البطرك «1» ودخل بهم إلى بلاد الفرنج يطوفها بهم ويستنجدون أهلها ويستجيرون بهم، ويحثّونهم على الأخذ بثأر البيت المقدّس.
وصوّروا صورة المسيح عليه السّلام وصورة رجل أعرابى والعربىّ يضربه بين جماعة، وقالوا: هذا المسيح يضربه محمّد نبى المسلمين، وقد جرحه وقتله «2» .
فعظم ذلك على الفرنج وحشدوا، حتّى النساء، فإنّهم كان معهم على عكّا عدّة من النساء يبارزن الأقران. ومن لم يستطع أن يخرج استأجر عنه أو يعطيهم مالا. فاجتمع لهم من الرّجال والأموال مالا.
يحصى كثرة.
واجتمعوا بصور والبحر يمدّهم بالأموال والأقوات والعدد والذّخائر، فضاقت عليهم مدينة صور، باطنها وظاهرها؛ فأرادوا قصد صيدا، فكان من ردّهم ما ذكرناه.
فاتّفقوا على قصد عكّا ومحاصرتها؛ فساروا إليها بفارسهم وراجلهم، ولزموا البحر فى مسيرهم، لا يفارقونه فى السّهل والوعر، ومراكبهم تسايرهم وفيها السّلاح والذّخائر. فكان رحيلهم من مدينة صور فى ثانى شهر رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ونزولهم(28/416)
على عكّا فى منتصف الشّهر. فتخطّف المسلمون منهم فى مسيرهم وأخذوا من انفرد.
وجاء الخبر إلى السّلطان برحيلهم، فسار حتى قاربهم. ثمّ نزلوا على عكّا قبل وصوله إليها، ونازلوها من سائر جهاتها برّا وبحرا، فلم يبق للمسلمين إليها طريق. ونزل السّلطان عليهم وضرب خيمته على تلّ كيسان «1» وامتدّت ميمنته إلى تلّ العياضيّة وميسرته إلى النّهر الجارى «2» ، ونزلت الأثقال بصفّوريّة. وسيّر الكتب إلى الأطراف يستدعى العساكر، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار، وغيرها من بلاد الجزيرة. وأتاه تقىّ الدّين ابن أخيه، ومظفّر الدّين بن زين الدين صاحب حرّان والرّها. فكانت الأمداد تأتى المسلمين فى البرّ وتأتى الفرنج فى البحر.
وكان بين الفريقين مدّة مقامهم على عكّا حروب كثيرة.
نحن نذكر المشهور منها على سبيل الاختصار؛ وأمّا الحروب التى تكون بين بعض هؤلاء وبعض هؤلاء، والمناوشات، فلو شرحناها لطال بها الكتاب لأن مدّة هذا الحصار كانت ثلاث سنين وشهرا.
وكان ابتداء القتال فى مستهل شعبان من السّنة. فقاتلهم السّلطان فى ذلك اليوم ولم يبلغ منهم غرضا؛ ثم باكرهم القتال واستدار عليهم من سائر جهاتهم إلى أن انتصف النّهار، وصبر الفريقان أعظم صبر. فحمل تقىّ الدّين من الميمنة على من يليه منهم وأزاحهم عن مواقفهم، فركب بعضهم بعضا لا يلوى الأخ على أخيه، والتجأوا إلى من يليهم من أصحابهم. وانكشف نصف البلد، وملك تقىّ الدّين مكانهم، ودخل(28/417)
المسلمون البلد وخرجوا منه، واتصلت الطريق وزال الحصار. وأدخل السّلطان إلى البلد [129] من أراد من الرّجال، وما أراد من الذّخائر، والأموال، والسّلاح؛ فكان من جملة من أمره السلطان بالدّخول إليها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السّمين. وقتل من الفرنج فى هذا اليوم خلق كثير.
ثم كانت بينهم وقعات فى ثامن شعبان، وتاسعه، وعاشره، وحادى عشره. ثمّ كانت وقعة فى تاسع عشر شعبان بين أهل عكّا والعدوّ فقتل من فى الطّائفتين وجرح.
ثم كانت الوقعة الكبرى فى الحادى والعشرين من شعبان وذلك أن الفرنج اجتمعوا وتشاوروا، وقالوا إن العسكر المصرىّ إلى الآن ما قدم وهذا فعل السّلطان، فكيف إذا قدمت عساكره فأجمعوا رأيهم على مناجزة الحرب. وكانت عساكر السّلطان متفرّقة: منها طائفة فى مقابلة أنطاكية تمنع صاحبها من الإغارة على الأعمال الحلبيّة؛ وطائفة على حمص فى مقابلة طرابلس؛ وطائفة تقاتل من بقى بصور؛ وطائفة بالدّيار المصرية لحماية ثغرى الإسكندرية ودمياط، ومن بقى من العسكر المصرى إلى الآن لم يصل؛ وهذا ممّا أطمع الفرنج فى الظّهور.
قال: وأصبح المسلمون فى هذا اليوم على عادتهم، منهم من يتقدّم إلى القتال ومنهم من هو فى خيمته، ومنهم من قد توجه فى حاجته. فخرج الفرنج من معسكرهم كالجراد المنتشر قد ملأوا الأرض، فكانت وقعة عظيمة ابتداؤها على المسلمين، ثم أنزل الله نصره عليهم، فهزموا الفرنج أقبح هزيمة، وقتل منهم من رؤسائهم عشرة آلاف، وقتل من المسلمين فى هذه الموقعة من الغلمان ومن لم يعرف مائة وخمسون، ومن المعروفين الأمير مجلى بن مروان،(28/418)
والظّهير أخو الفقيه عيسى [الهكارى] «1» ، وكان والى البيت المقدّس، جمع العلم والدّين والشجاعة، والحاجب خليل الهكّارى، وجمال الدّين بن رواحة الحموىّ، ولم يكن بالمصافّ. وأسر من الفرنج مقدّم الدّاويّة! وكان السّلطان قد أسره فيما تقدّم وأطلقه، فقتله الآن.
قال: وأمر السّلطان بجمع القتلى وإلقائهم فى النّهر الذى يشرب منه الفرنج.
قال العماد الأصفهانى رحمه الله: ومن العجب أنّ الذين ثبتوا فى هذه الوقعة لم يبلغوا ألفا، ردّوا مائة ألف، وآتاهم الله قوة بعد ضعف.
قال ابن الأثير: وأخذ فى جملة الأسرى ثلاث نسوة فرنجيّات كنّ يقاتلن على الخيل، فلما أسرن وألقى عنهنّ السلاح عرفن «2» .
ذكر رحيل السّلطان عن منزلته وتمكّن الفرنج من حصار عكّا
كان رحيله فى رابع شهر رمضان من السّنة. وسبب ذلك أنه لما قتل من الفرنج هذه المقتلة العظيمة جافت الأرض منهم وتغيّر الهواء، وحدث للأمزجة فساد، وحصل للسّلطان مرض القولنج، وكان يعتريه، فأشار عليه الأمراء والأطباء بالانتقال، وقالوا لو أراد الفرنج أن ينصرفوا لما قدروا فإنّا قد ضيقنا عليهم؛ والرأى أن ينثقل عن هذه المنزلة، فإن رحلوا فقد كفينا شرّهم، وإن أقاموا عدنا إلى القتال، فوافقهم. وكان بئس الرّأى.(28/419)
ورحل السّلطان إلى منزلة الخرّوبة «1» ، وكتب إلى أهل عكّا يعلمهم بسبب رحيله ويحثّهم على حفظ البلد وغلق أبوابها.
قال: ولما رحل السلطان بعساكره عن تلك المنزلة أمن الفرنج وانبسطوا، وانبثّوا، وعادوا إلى حصار عكّا فى البرّ والبحر، وشرعوا فى حفر خندق عليهم يكون بينهم وبين المسلمين إن قصدوهم وعملوا سورا من تراب، وجاءوا بما لم يكن فى الحسبان. هذا والسّلطان قد اشتدّ به المرض فلم يستقل منه إلى أن تكامل حفر الخندق وعمل السّور من ترابه.
ذكر وصول العسكر المصرىّ فى البر [130] والأسطول فى البحر
قال: وفى منتصف شوال سنة خمس وثمانين وصلت العساكر المصرية ومقدّمها الملك العادل سيف الدّين. فلما وصلت قويت قلوب النّاس، وأحضر من آلات الحصار شيئا كثيرا. ثم وصل بعده الأسطول المصرى فى خمسين قطعة ومقدّمهم الأمير حسام الدّين لؤلؤ، وكان شهما شجاعا، مقداما ميمون النقيبة، خبيرا بقتال البحر؛ فوصل بغتة، فوقع على بطشة كبيرة للفرنج، فغنمها وأخذ ما فيها من الأموال الكثيرة والميرة، وعبر بذلك إلى عكّا؛ فسكنت نفوس النّاس بذلك.
وقال العماد: إنه ظفر ببطشتين «2» .(28/420)
ذكر خبر ملك الألمان وما كان من أمره إلى نهايته
قال العماد الأصفهانى: ونمى الخبر بوصول ملك الألمان «1» إلى قسطنطينية فى ثلاثمائة ألف مقاتل على قصد العبور إلى بلاد الإسلام.
فاستنفر الملك الناصر الجيوش والعساكر من كلّ جهة، وجهّز القاضى بهاء الدين شدّاد وأمره بالمسير إلى الدّيوان العزيز ببغداد «2» وأن يمرّ على صاحب سنجار «3» ، وصاحب الموصل «4» ، وصاحب إربل «5» ، ويستدعيهم بأنفسهم وعساكرهم.
قال ابن شدّاد: فسرت فى حادى عشر شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وأبلغت الرّسائل، فأجابوا إلى ذلك، فعدت فى خامس شهر ربيع الأول سنة ستّ وثمانين، وسبقت العساكر «6» .
ثم وصلت العساكر عند انقضاء الشتاء فى شهر ربيع الأول وأمده الخليفة بحمل من النّفط الطّيّار وحملين من القنا، وتوقيع بعشرين ألف دينار يقبض على الدّيوان العزيز من التجار، وخمسة من الزّرّاقين.(28/421)
وكان العدوّ قد اصطنع ثلاثة أبرجة من الخشب والحديد كالجبال وألبسها الجلود المسقاة بالخل، فيسّر الله تعالى على المسلمين إحراقها، وذلك فى الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول.
قال: وكان السّلطان قد كتب إلى مصر بعمارة الأسطول وإحضاره إلى عكّا، فوصل فى يوم الخميس ثامن الشهر، فكانت الحرب فى هذا اليوم فى ثلاثة مواضع فى البحر، والحصار فى البحر، وكان النّصر بحمد الله للمسلمين.
هذا ما كان من أمر السّلطان لمّا بلغه خبر ملك الألمان.
وأما ملك الألمان فقال ابن الأثير فى تاريخه الكامل:
وفى سنة ست وثمانين وخمسمائة خرج ملك الألمان من بلاده، وهم طائفة من الفرنج من أكثرهم عددا وأشدّهم بأسا، وكان قد أزعجه ملك المسلمين البيت المقدّس، فجمع عساكره وسار بهم، وطريقه فى مسيره على القسطنطينيّة. فأرسل ملك الرّوم «1» بخبره إلى السّلطان، ووعده أنّه لا يمكّنه من العبور إلى بلاده. فلمّا وصل ملك الألمان إلى القسطنطينيّة عجز ملكها عن منعه من العبور لكثرة جموعه، لكنّه منع عنهم الميرة، فقلّت أزواده؛ وساروا حتّى عبروا خليج القسطنطينية، وصاروا على أرض بلاد الإسلام، وهى مملكة الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجقى «2» . فلمّا وصلوا إلى أوائلها ثار عليهم التّركمان [فما زالوا] «3» يسايرونهم، فيقتلون من انفرد منهم ويسرقون ما قدروا(28/422)
عليه؛ فنالهم لذلك مشقّة عظيمة، وهلك كثير منهم من الجوع والبرد وكثرة الثّلوج.
فلمّا قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان [ليمنعهم] «1» فعجز عن ذلك، فعاد إلى قونية، فأسرعوا السّير فى أثره فنازلوا قونية وأرسلوا إليه هدية وطلبوا منه أن يأذن للرّعيّة فى بيع الأقوات عليهم، فأذن فى ذلك.
وطلبوا من الملك قطب الدّين أن يأمر رعيّته بالكفّ عنهم وأن يجهّز معهم جماعة من أمرائه رهائن، فخافهم، وسلّم إليهم نيّفا وعشرين أميرا كان يكرههم. فساروا بهم معهم، ولم يمتنع اللّصوص وغيرهم من أذاهم؛ فقبض ملك الألمان على من معه من الأمراء وقيّدهم، فمنهم من مات فى أسره ومنهم من فدى نفسه «2» .
قال ابن شدّاد: وأعوزهم الزّاد وعراهم جوع عظيم، وعجزوا عن حمل أقمشتهم، فجمعوا عددا كثيرة وسلاحا [131] وجعلوا ذلك بيدرا «3» وأضرموا فيه النّار، لعجزهم عن حمله، ولئلّا ينتفع به غيرهم.
قال: وبقيت بعد ذلك رابية من حديد «4» .
قال ابن الأثير: ثمّ سار إلى أن أتى إلى بلاد الأرمن، وصاحبها يومئذ لافون «5» بن اصطفانه بن ليون الأرمنى، فأمدّهم بالأقوات والعلوفات، وحكّمهم فى بلاده، وأظهر الطّاعة لهم. ثمّ سار إلى(28/423)
أنطاكيّة، وكان فى طريقهم نهر «1» فنزلوا عنده، وعبر ملكهم إليه ليغتسل فيه، فغرق فى مكان لا يبلغ الماء وسط الرّجل فيه. وكفى الله شرّه «2» .
وقال ابن شدّاد: إنه لمّا وصل إلى طرسوس سبح فى النّهر فمرض من شدّة برد الماء فمات؛ ولمّا مات سلقوه فى خلّ وجمعوا عظامه فى كيس ليحملوها إلى القدس ويدفنوها به «3» .
قال ابن الأثير: وكان معه ولد كبير فملك بعده وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابه عليه؛ وأحبّ بعضهم العود إلى بلاده فتخلّف عنه، ومال بعضهم إلى تمليك أخ له فعاد أيضا، وسار هو فيمن بقى معه، فعرضهم، وكانوا نيّفا وأربعين ألفا وقع فيهم الوباء والموت، فوصلوا إلى أنطاكيّة وكأنّهم قد نبشوا من القبور فتبرّم بهم صاحبها وحسّن لهم المسير إلى عكّا. فساروا على اللاذقية وجبلة وغيرهما من البلاد التى ملكها المسلمون؛ وخرج أهل حلب وغيرها إليهم وأسروا منهم خلقا كثيرا، ومات أكثر ممّن أسر «4» .
قال: وبلغوا إلى طرابلس وأقاموا بها أيّاما فكثر فيهم الموت، فلم يبق منهم إلّا نحو ألف رجل، فركبوا فى البحر إلى الفرنج الذين على عكّا.
ولمّا وصلوا ورأوا ما نالهم فى طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكب، فلم ينج منهم أحد «5» .(28/424)
وقال ابن شدّاد: إنّهم لمّا وصلوا إلى أنطاكية طلب ابن ملكهم من صاحبها قلعتها لينقل إليها أمواله وخزائنه وأثقاله، فسلّمها إليه طمعا فى ماله، وكان كذلك، فإنّه لم يعد إليه واستولى الإبرنس على ما فيها «1» .
قال: وجاءت فرقة منهم إلى حصن بغراس وظنّوا أنّه للفرنج، ففتح لهم والى الحصن الباب وتسلّم منهم الأموال، وأسر جماعة منهم وقتل. وخرج إليهم العسكر الحلبىّ فقتل منهم وأسر. ثمّ أخذ من بقى منهم على طريق طرابلس فخرج عليهم من باللاذقية وجبلة، فقتلوا منهم وأسروا.
ثم ركب ملك الألمان فى البحر من طرابلس بمن بقى معه لقصد عكّا، فى أواخر شعبان، فثارت عليهم ريح كسرت منهم ثلاث مراكب، ووصل الباقون إلى صور ثمّ إلى عكا فى سادس شهر رمضان سنة ستّ وثمانين؛ وكان لقدومهم وقع عظيم «2» .
وسيأتى ذكر ما تجدّد بعد وصولهم إلى عكّا إن شاء الله تعالى.
فلنذكر ما كان قبل وصولهم من الوقائع.
ذكر الوقعة العادليّة على عكّا
كانت هذه الوقعة فى يوم الأربعاء العشرين من جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين.
قال ابن شدّاد: لمّا بلغ السّلطان وصول ملك الألمان إلى بلاد الأرمن جهّز بعض العساكر إلى البلاد المتاخمة لطريق عسكر العدوّ،(28/425)
وتقدّم أمره بهدم سور طبريّة وهدم يافا وأرسوف وقيساريّة، وهدم سور صيدا وجبيل ونقل أهلها إلى بيروت. فلمّا علم الفرنج أنّ العساكر قد تفرّقت نهضوا للقتال بغتة وهجموا على الميمنة وفيها مخيّم الملك العادل، فلما بصر بهم ركب فيمن معه، وتلاحقت به العساكر، واقتتلوا، فكانت من أعظم الوقائع، قتل فيها خلق كثير من الفرنج.
قال: ولقد خضت فى الدّماء بدابّتى واجتهدت أن أعدّهم فما قدرت على ذلك لكثرتهم وتفرّقهم؛ وشاهدت منهم امرأتين مقتولتين.
وكانت هذه الوقعة فيما بين الظّهر والعصر فى الميمنة وبعض القلب، ولم نفقد من المسلمين فيها غير عشرة غير معروفين «1» .
قال: ولمّا أخبر من بعكّا من المسلمين بهذه الوقعة خرجوا إلى مخيّم العدوّ من البلد، وجرى بينهم مقتلة عظيمة انتصر فيها المسلمون، ونهبوا ما كان بخيام الفرنج من الأقمشة وغيرها، حتى الطّعام الذى فى القدور، وسبوا النّساء.
قال: واختلف النّاس فى عدد من قتل من الفرنج فى هذه الوقعة، فقيل ثمانية آلاف، وقيل سبعة آلاف، ولم ينقصهم حازر عن خمسة آلاف «2»
[132] ذكر وصول الكندهرى إلى عكّا نجدة للفرنج وما جدّده من آلة الحصار
قال: ثمّ وصل الكندهرى «3» فى البحر نجدة للفرنج فى عدد كثير أضعاف ما نقص منهم، ففرّق الأموال واستخدم؛ ونصب المجانيق على(28/426)
عكا فحرقها المسلمون؛ ثمّ نصب منجنيقين فأحرقا فى أوّل شعبان، وكان قد أنفق عليهما ألف دينار وخمسمائة دينار، وأسر من الفرنج سبعون فى هذا اليوم ومن جملتهم فارس كبير عندهم فقتله المسلمون «1» ثمّ جهّز الفرنج بطشا لمحاصرة برج الذبان «2» ، وهو برج فى وسط البحر على باب ميناء عكّا، فعمدوا إلى بطشة من البطش وعملوا برجا على صاريها وملأوه حطبا ونفطا على أنهم يلحقون البطشة ببرج الذّبان، ثمّ يحرقون البرج الذى على الصّارى. وجعلوا فى البطشة وقودا كثيرا حتّى يلقوه فى البرج إذا اشتعلت فيه النّيران. وعبئوا بطشة ثانية وملأوها حطبا على أنّها تدخل بين المراكب الإسلاميّة ثم يلهبونها فتحترق هى والبطش الإسلاميّة وجعلوا فى بطشة ثالثة جماعة من المقاتلة. وقدّموا البطشة نحو البرج، وكان الهواء مسعدا لهم، فلمّا أحرقوا البطشة والبرج الّذى قصدوا بهما إحراق بطش المسلمين وبرج الذّبان انعكس الهواء عليهم بإذن الله تعالى، فاحترقت البطشتان، وانقلبت الثالثة بمن فيها من المقاتلة. والله أعلم «3» .
ذكر ما كان من أمر الفرنج بعد وصول ابن ملك الألمان إلى عكّا وما اتّخذوه من آلات الحصار
قال: ولمّا وصل ابن ملك الألمان القائم فى الملك بعد أبيه إلى عكّا كان وصوله إليها فى سادس شهر رمضان سنة ستّ وثمانين(28/427)
وخمسمائة. فكان أول ما بدأ به أنّه خرج إلى يزكيّة السّلطان وقاتلهم، فقتل من أصحابه وجرح خلق كثير، وانكسروا ورجعوا إلى المخيّم غروب الشّمس من ذلك اليوم؛ وقتل من المسلمين اثنان وجرح جماعة. فلمّا عاين ذلك رجع إلى قتال من فى البلد، واتّخذ من آلات الحصار ما لم ير قبل ذلك مثله، فكان ممّا أحدثه آلة عظيمة تسمّى دبّابة يدخل من تحتها المقاتلة، وهى من الخشب الملبّس بصفائح الحديد، ولها من تحتها عجل يحرّك من داخلها حتى تنطح السّور بشدّة عظيمة فتهدمه بتكرار نطحها، وآلة أخرى وهى قبو فيه رجال تسحبه وفيه كبش، ورأس تلك الآلة ممدة شبه سكّة المحراث، ورأس الكبش مدوّر، هذا يهدم بثقله، وتلك تهدم بحدّتها وثقلها، وهى تسمّى سفودا «1» ، وأعد السّتائر «2» والسّلاليم وغير ذلك؛ وأعدّ فى البحر بطشة عظيمة وصنع فيها برجا بخرطوم إذا أرادوا قلبه على السّور بحركة انقلب بحركات ويبقى طريقا إلى المكان الذى ينقلب عليه تمشى عليها المقاتلة، ونصب المجانيق وحكّمها على السّور، وتوالت حجارتها حتى أثّرت فيها أثرا بيّنا فأخذ المسلمون سهمين عظيمين من سهام الجروح وأحرقوا نصالهما حتّى بقيا كالشّعلة من النّار ثم رميا فى منجنيق الفرنج فاحترق، واتّصل لهبه بالآخر فأحرقه «3» .
ثمّ زحف العدوّ على البلد فى شهر رمضان فى خلق كثير، فأمهلهم أهل البلد حتى سحبوا آلتهم المذكورة وقاربوا أن يلصقوها بالسّور ويحصل منهم فى الخندق جماعة كثيرة، فأطلقوا عليهم الجروخ(28/428)
والمجانيق والسّهام والنيران، وفتحوا الأبواب وهجموا على العدوّ من كل مكان، وكبسوهم فى الخندق، فانهزموا؛ ووقع السّيف فيمن بقى فى الخندق منهم. ثم ألقوا النّار فى كبشهم، فاحترق، وسرت ناره إلى السّفّود فاحترق أيضا، وعلّق المسلمون فى الكبش الكلاليب الحديد فسحبوه وهو يشتعل، فحصل عندهم، فأطفأوه بالماء. ووزن ما كان عليه من الحديد فكان مائة قنطار بالشّامى [133] فكان هذا اليوم من أحسن أيام الإسلام «1» .
قال: واستأنف الفرنج عمل دبابة أخرى وفى رأسها شكل عظيم يقال له الكبش، وله قرنان فى طول الرّمح كالعمد الغلاظ، وسقوفها هى والكبش بأعمدة الحديد، ولبّسوا رأس الكبش بعد الحديد بالنّحاس، فلم يبق للنار عليها سبيل؛ وشحنوها بالرّجال. فنصب المسلمون عليها المجانيق ورموها بالحجارة، فأبعدت الرّجال من حولها، ثمّ رموها بحزم الحطب فأحرقوا ما بين القرنين، وخسفها المنجنيق، وخرج أهل عكّا فقطعوا رأس الكبشين.
قال: وفى العشر الأوسط من شهر رمضان ألقت الرّيح بطشتين فيهما رجال ونساء وصبيان، وميرة عظيمة وأغنام، فغنمهما المسلمون «2» .
وكان فى إحداهما امرأة محتشمة كثيرة الأموال؛ واجتهد الفرنج فى استنقاذها فلم يجابوا لذلك.
وكان بينهم فى بقيّة السّنة عدّة وقائع يطول شرحها.(28/429)
وفى سابع ذى الحجّة هدمت قطعة عظيمة من سور عكّا فسدّها المسلمون وقاتلوا عليها قتالا شديدا حتى أحكموا بناءها.
وفى ثانى ذى الحجّة هلك ابن ملك الألمان وكند كبير، ومرض الكندهرى، ووقع فيهم فناء عظيم. والله أعلم.
ذكر وصول ملك افرنسيس
كان وصوله فى ثانى عشر شهر ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين وخمسمائة فى ستّ بطش عظام مشحونة بالمقاتلة «1» ؛ وكان ملكا مطاعا فيهم، ووعدهم بالأمداد خلفه. وكان معه باز عظيم الخلق أبيض اللّون، فطار من يده وسقط على سور عكّا، فأخذه المسلمون وأنفذوه إلى السّلطان؛ فبذل الفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا لذلك.
قال: وزحف الفرنج على عكّا فى يوم الخميس الرّابع من جمادى الأولى سنة سبع وثمانين، ونصبوا عليها سبعة مجانيق. وبلغ من مضايقتهم لها أنّهم كانوا يلقون فى خندقها ما يموت من دوابّهم وما يؤيس منه ممّن أثخنته الجراح. وانقسم أهل البلد أقساما: قسم ينزلون إلى الخندق ويقطعون الدّواب ليسهل نقلها، وقسم ينقلون ذلك إلى البحر، وقسم يذبّون عنهم، وقسم فى المنجنيقات وحراسة الأسوار.
قال: وكانوا قد صنعوا دبّابة عظيمة أربع طبقات، الأولى من الخشب، والثّانية من الرّصاص، والثّالثة من الحديد، والرّابعة من(28/430)
النّحاس؛ فكانت تعلو على السّور وتركب فيها المقاتلة؛ وقرّبوها من السّور فكاد أهل البلد يطلبون الأمان؛ فأعان الله على حرقها «1» .
وكان فى جمادى الأولى عدّة وقعات.
قال: ولمّا حرقت دبّابات الفرنج وكباشهم وأبرجتهم الخشب وستائرهم أقاموا أمام خيامهم ممّا يلى عكّا تلّا مستطيلا عاليا من التّراب، فكانوا يقفون وراءه ويحوّلونه ليقرّبوه من السّور؛ إلى أن صار بينه وبين السّور مقدار نصف غلوة سهم. فلم تعمل فيه النّار.
ذكر وصول ملك الإنكلتير
كان وصوله إلى عكّا فى ثالث عشر جمادى الأولى من السّنة «2» بعد أن ملك فى مسيره قبرص عنوة؛ ووصل فى أربعين قطعة. ولمّا قدم توالى الزّحف والقتال. ثمّ مرض مرضا شديدا وجرح الإفرنسيس، وهم مع ذلك لا يدعون القتال. هذا واللّصوص يدخلون عليهم فى خيامهم ويسرقون أقمشتهم ويخطفونهم، فكانوا يدخلون على الرّجل من الفرنج وهو نائم فيوقظونه، ويشيرون إليه بالسّلاح: إن تكلّمت ذبحناك، ويحملونه [134] ويخرجون به إلى عسكر المسلمين. فعلوا ذلك مرارا كثيرة.
قال: ثمّ تردّدت الرّسائل من الفرنج إلى السّلطان مدافعة بسبب مرض الإنكلتير؛ ثم استأذن فى إهداء جوارح، وقال إنّها قد ضعفت وتغيّرت من البحر، وطلب أن يسيّر لها دجاج وطير تأكله لتقوى به ثمّ(28/431)
يهدى للسّلطان. ففهم السّلطان أنّه يحتاج ذلك لنفسه لأنّه حديث عهد بمرض، فسيّر إليه ذلك. ثمّ أرسل فى طلب فاكهة وثلج، فأرسل إليه.
وهم مع ذلك يحاصرون البلد أشدّ حصار «1» .
ذكر استيلاء الفرنج على عكّا
قال: ثمّ اشتدّ الحصار فى سابع جمادى الآخرة، فركب السّلطان بالعسكر وجرى قتال عظيم إلى اللّيل، ولم يطعم فى ذلك اليوم؛ ولمّا حال بينهما اللّيل عاد إلى خيامه. ثمّ باكر القتال، فوصلت مطالعة من بالبلد يذكرون أنّ العجز قد بلغ بهم الغاية، وأنّهم فى الغد متى لم يعمل ما يمنع العدوّ طلبوا الأمان وسلّموا البلد. فرأى السّلطان مهاجهة العدوّ، فلم يساعده العسكر. فضعفت نفوس أهل البلد، وتمكّن العدوّ من الخنادق فملكوها، ونقبوا السّور وأحرقوه، فوقعت بدنة من الباشورة ودخل العدوّ إليها، فقتل منها زهاء مائة وخمسين نفسا؛ وكان منهم ستّة من أكابرهم، فقال أحدهم: لا تقتلونى حتى أرحّل الفرنج عنكم. فقتل رجل من الأكراد وقتل الخمسة، فناداهم الفرنج من الغد احفظوا السّتّة فإنّا نطلقكم كلّكم بهم. فقالوا: قد قتلناهم. فقوى عزم الفرنج على عدم المصالحة وأنّهم لا يطلقون من فى البلد إلا بإطلاق جميع الأسرى الذين فى أيدى المسلمين، وتعاد إليهم البلاد السّاحليّة.
فصالحهم من بالبلد على أنّهم يسلّمون إليهم البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدد والمراكب، ومائتى ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير(28/432)
مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معيّنين، وصليب الصّلبوت؛ على أنهم يخرجون بأنفسهم ونسائهم وذراريهم، وما معهم من أموالهم وأقمشتهم.
فكتبوا فى ذلك إلى السّلطان، فأنكر هذا الأمر واستعظمه؛ وعزم على أن يكتب بالإنكار على من بعكّا. وجمع أمراءه وأصحاب المشورة، فما شعر المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانه على أسوار البلد؛ وذلك ظهر نهار الجمعة السّابع عشر من جمادى الآخرة، سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
فعظمت المصيبة على المسلمين وتحيّز المسلمون إلى بعض أطراف البلد. ثم تردّدت الرّسائل بينهما على تقرير القاعدة فى خلاص من بعكّا من المسلمين، فاستقرّت الحال على مائة ألف دينار وستّمائة أسير وصليب الصّلبوت. وأنفذوا ثقاتهم وعاينوا الصّليب فى ثامن عشر شهر رجب؛ ثم طلبوا أن يسلّم ذلك إليهم فإذا صار عندهم أطلقوا الأسرى؛ فامتنع السّلطان من ذلك إلا بعد تسليم الأسرى.
فلمّا رأوه قد امتنع منه أخرجوا خيامهم إلى ظاهر الخنادق فى الحادى والعشرين من الشّهر؛ ثمّ ركبوا فى وقت العصر فى اليوم السّابع والعشرين من شهر رجب سنة سبع وثمانين، وجمعوا الأسرى، وحملوا عليهم حملة الرّجل الواحد، فقتلوهم صبرا، طعنا بالرّمح وضربا بالسّيف، رحمة الله عليهم؛ ولم يبقوا من المسلمين إلّا أكابرهم. فلمّا اتصل الخبر بالسّلطان حمل المسلمون عليهم، وجرت بينهم حرب عظيمة دام القتال فيها طول النّهار. وتصرّف السّلطان فيما كان قد حصّله من المال، وأعاد الأسرى إلى أماكنهم، وردّ صليب الصّلبوت إلى مكانه «1» .(28/433)
ذكر ما كان بعد أخذهم عكّا
قال: ثمّ سار الفرنج إلى صوب عسقلان فى مستهل شعبان، وسار السّلطان فى عراضهم، والمسلمون يتخطّفونهم ويقتلون منهم ويأسرون؛ وكلّ أسير جىء به إلى السّلطان أمر بقتله. ثمّ كانت وقعة عظيمة فى تاسع شعبان عند رحيلهم من قيساريّة، انتصر فيها المسلمون. ثمّ رحل السّلطان فنزل شعراء أرسوف. وطلب ملك الإنكلتير الاجتماع بالملك العادل خلوة، فاجتمعا، فأشار بالصّلح. وكان حاصل كلامه [135] أنّه قد طال بيننا القتال ونحن فى نصرة فرنج السّاحل، ورأيى الصّلح، ويرجع كلّ منا إلى مكانه. فقال له الملك العادل: على ماذا يكون الصّلح؟ قال: على أن تسلّموا لأهل السّاحل ما أخذ منهم من البلاد.
فأبى الملك العادل «1» .
ثم كانت وقعة أرسوف فى يوم السّبت رابع عشر شعبان؛ وكانت الدائرة فيها على الفرنج «2» .
ذكر هدم عسقلان
قال: ثمّ رحل السّلطان بعد وقعة أرسوف فى تاسع عشر شعبان، ونزل بالرّملة، واستشار أصحابه فى أمر عسقلان، فأشاروا عليه بتخريبها خشية أن يستولى العدوّ عليها وهى عامرة، فتكون سببا لأخذ البيت(28/434)
المقدّس وقطع طريق مصر. فعلم السّلطان عجز المسلمين عن حفظها لقرب عهدهم بقتال عكّا؛ فسار حتى أتى عسقلان، وأمر بتخريبها، وكان هو وولده الملك الأفضل يستعملان النّاس فى الخراب خشية من حضور العدوّ فيتعذّر هدمها، ثمّ حرقها بالنّار؛ والأخبار تتواتر من جهة العدوّ بعمارة يافا. واستمرّ الخراب والحريق إلى سلخ شعبان «1» .
ثمّ رحل السّلطان عنها يوم الثّلاثاء، ثانى شهر رمضان فنزل على الرّملة يوم الأربعاء، وأمر بتخريب حصنها وتخريب كنيسة لدّ. وركب جريدة إلى القدس الشريف، فوصل إليه فى يوم الخميس.
وفى يوم الجمعة ثانى عشر شهر رمضان من السّنة كانت بينهم وقعة انتصر فيها المسلمون.
قال: ثمّ سار السّلطان إلى الرّملة فى سابع شوّال وأقام بها عشرين يوما، فجرت وقعات؛ منها وقعة فى ثامن شوّال، وفى سادس عشره، والدّائرة فيها على العدو.
وفى ثامن عشر شوّال اجتمع الملك العادل والإنكلتير على طعام، وانفصلا «2» على توادد، وسأله الاجتماع بالسّلطان فامتنع السّلطان من ذلك.
ثمّ رحل الفرنج فى ثالث ذى القعدة إلى الرّملة، وأظهروا قصد بيت المقدس والحرب مستمرّة بين المسلمين وبينهم. ورحل السّلطان إلى القدس فى الثّالث والعشرين من ذى القعدة بنيّة المقام به، وشرع فى تحصينه.(28/435)
ذكر وقوع الصّلح والهدنة العامّة بين المسلمين والفرنج
قال: ولم تزل الحرب قائمة والمراسلات متّصلة بينهم على طلب الصّلح، والسّلطان لا يرضى بما يختارونه، وهم لا يوافقون على ما يريده السّلطان، إلى الحادى والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، فوقّعت هدنة عامّة فى البرّ والبحر، وجعل لهم من يافا إلى قيسارية إلى عكّا إلى صور، وأدخلوا فى الصّلح طرابلس وأنطاكية.
وأخرج من عمل يافا الرّملة ومجدل يابا «1» ومن عمل عكّا الناصرة وصفّوريّة واشترط خراب عسقلان. ووقعت المصالحة مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر «2» ، أوّلها مبتدأ أيلول الموافق لهذا التّاريخ، وذلك بعد سؤال ملك الإنكلتير وتكرار رسائله.
قال: ثمّ أمر السّلطان أن ينادى فى الطّرقات والأسواق: ألا إنّ الصّلح قد انتظم، فمن شاء من بلادنا يدخل بلادهم ومن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل.
ووقع له عزم الحجّ فى ذلك المجلس «3» .
ثمّ أمر بإرسال مائة نقّاب لتخريب سور عسقلان وإخراج الفرنج منها، فخرّبت. وكان يوم الصّلح يوما مشهودا واختلط العسكران.
ثمّ اشتدّ المرض بالإنكلتير فرحل ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان وسار معه الكندهرى إلى جهة عكّا، ولم يبق بيافا [136](28/436)
إلا مريض أو عاجز. ثم أذن السّلطان للنّاس فى الرّجوع إلى أوطانهم، فسار عسكر إربل والموصل وسنجار؛ وقوى عزمه على الحج.
ثم عاد السّلطان إلى القدس ورتّب أحواله وعيّن الكنيسة التى فى شارع قمامة للبيمارستان ونقل إليه العقاقير والأدوية؛ وأدار سور القدس. وأقام بالقدس إلى يوم الأربعاء رابع شوال، وخرج فى يوم الخميس خامس الشهر قاصدا دمشق. فلمّا انتهى إلى طبريّة وصل إليه بهاء الدين قراقوش الأسدى وقد خلص من الأسر، فاستصحبه معه وكشف القلاع والحصون، ودخل إلى دمشق فى يوم الاثنين السادس عشر من شوّال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة: وجلس النّاس يوم الخميس؛ وأنشده الشّعراء؛ وكان مجلسا عامّا، وعمّ النّاس فيه بعدله. ولم يزل كذلك إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب
كانت وفاته رحمه الله تعالى بعد صلاة الصّبح يوم الأربعاء لثلاث بقين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وكان مولده بقلعة تكريت فى شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة؛ فكان عمره سبعا وخمسين سنة تقريبا. ومدّة ملكه منذ ولى وزارة العاضد لدين الله ولقّب بالملك النّاصر لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وإلى هذا التّاريخ أربعا وعشرين سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام؛ ومنذ خلع العاضد فى السابع المحرّم سنة سبع وستّين وخمسمائة اثنتين وعشرين سنة وشهرا واحدا وعشرين يوما.(28/437)
وكان ابتداء مرضه يوم السّبت سادس عشر صفر؛ ونال المسلمون لوفاته من الألم ما لا يعبّر عنه. ولمّا مات دفن بقلعة دمشق فى منزله؛ وما زال ابنه الأفضل يتروّى فى موضع ينقله إليه، فشرع فى بناء تربته عند مسجد القدم «1» وبنى عندها مدرسة للشّافعيّة. وأمر ببناء التّربة فى سنة تسعين وخمسمائة؛ فاتّفق وصول ابنه العزيز تلك السّنة من الدّيار المصريّة للحصار، فخرب ما كان قد ارتفع من البناء. ثمّ أمر بعمارة القبّة فى حدّ جامع دمشق، فعمّرت ونقل إليها يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة؛ ومشى الأفضل أمام تابوته وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد، «2» وأدخل منه إلى الجامع، وصلّى عليه قدّام باب السر، صلّى عليه القاضى محيى الدّين محمّد بن على بإذن الأفضل. ثم حمل إلى لحده، وألحده الأفضل وجلس فى الجامع ثلاثة أيام.
وكان الملك النّاصر رحمه الله كريما جوادا شجاعا، حسن الأخلاق، مضت أكثر أيّامه فى الجهاد فى سبيل الله تعالى.
قال ابن شدّاد: لمّا مات السّلطان لم يخلّف فى خزائنه من الذّهب والفضّة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريّة وجراما «3» واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف ملكا فى سائر أنواع الأملاك. وحسب ما وهبه من الخيل فى مدّة مقامه على عكّا فكان تقديره اثنى عشر ألف رأس؛ ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، وصاحبه يلازمه فى طلبه؛ وما حضر(28/438)
اللقاء إلا استعار فرسا فركبه. وكان لا يلبس إلا ما يحلّ كالكتان والقطن والصّوف. وكان له ركعات يصلّيها من الليل «1» .
وخلف رحمه الله من الأولاد، على ما نقله العماد الأصفهانى وغيره سبعة عشر ولدا: الملك الأفضل نور الدّين أبو الحسن [على] «2» ، وهو أكبرهم؛ والملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان؛ والملك الظاهر غياث الدّين، وقيل شهاب الدّين، أبو منصور غازى؛ والملك الظّافر مظفّر الدّين أبو العباس خضر؛ والملك المعز فتح الدّين أبو يعقوب يوسف «3» ؛ والملك الأعز شرف الدّين أبو يوسف «4» يعقوب [137] والملك المؤيّد نجم الدين أبو الفتح مسعود؛ والملك الزّاهر مجير الدين أبو سليمان داود «5» ؛ والملك المفضل قطب الدّين أبو محمد موسى «6» ؛ والملك الأشرف عزّ الدّين محمد «7» ؛ والملك المحسن شهاب الدّين «8» أبو العباس أحمد؛ والملك الجواد ركن الدّين أبو سعيد أيوب؛ والملك المظفّر «9» فخر الدّين أبو منصور تورانشاه؛ والملك العادل نور الدّين أبو المظفّر(28/439)
ملكشاه «1» ؛ والملك المنصور نصرة الدّين مروان «2» ؛ والملك الصالح معين الدين إسماعيل «3» ؛ وعماد الدين شادى، ويسمى عمر؛ وابنة صغيرة «4» .
ذكر من ملك الممالك التى كانت جارية فى ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى من أولاده وإخوته وأقاربه وألزامه بعد وفاته
استقرّ ملك دمشق وما معها للملك الأفضل نور الدّين أبى الحسن على، وهو أكبر أولاده وولىّ عهده، وعنده أخواه شقيقاه الملك الظّافر خضر والملك المفضّل «5» موسى.
واستقرّ ملك الدّيار المصريّة للملك العزيز عماد الدّين أبى الفتح عثمان.
واستقرّ ملك حلب وما يليها للملك الظّاهر غياث الدّين غازى، وعنده أخوه الملك الزاهر داوود، فجعله من قبله على البيرة.
واستقرّ ملك حمص والرّحبة [وتدمر] «6» للملك المجاهد أسد الدّين شيركوه بن محمّد بن شيركوه، وهو ولد ابن عمّ السّلطان الملك النّاصر.(28/440)
واستقر ملك حماة وسلمية والمعرّة ومنبج للملك المنصور ناصر الدّين محمّد بن تقىّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيّوب.
واستقرّ ملك حرّان والرّها وميّافارقين والرّقة وقلعة جعبر والكرك والشّوبك للملك العادل سيف الدّين أبى بكر بن أيوب، وهو أخو السّلطان.
واستقرّ ملك بعلبك للملك الأمجد [بهرامشاه] «1» بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب.
واستقر ببعرين وأفاميه وكفرطاب عزّ الدّين [إبراهيم] «2» بن شمس الدّين بن المقدّم.
واستقرّ بصهيون ناصر الدّين [منكورس بن خمارتكين] «3» غلام أبى قبيس.
واستقرّ بتلّ باشر بدر الدّين دلدرم بن ياروق.
واستقرّ بعينتاب ناصر الدّين شحنة حلب.
هذه الممالك التى كانت جارية فى ملك السّلطان الملك النّاصر رحمه الله.
فلنذكر الآن أخبار الدّيار المصريّة ومن ملكها بعد وفاة السّلطان الملك النّاصر، ونجعل ما يقع لهؤلاء الملوك، أو فى ممالكهم، من الحوادث فى ضمن أخبار ملوك الدّيار المصرية؛ وننبّه عليها بالتراجم، على ما نقف عليه إن شاء الله تعالى.(28/441)
ذكر أخبار الملك العزيز عماد الدّين أبى الفتح عثمان ابن الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيوب
وهو الثانى من ملوك الدّولة الأيوبية بالدّيار المصرية «1» ملك الدّيار المصريّة عند ما وصل إليه الخبر بوفاة والده السّلطان الملك النّاصر، رحمه الله تعالى، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
ولما ملك أحسن السيرة وأطلق جميع ما كان يؤخذ من التّجار وغيرهم من المكوس على اسم الزّكاة. وجهّز إلى البيت المقدّس عشرة الآف دينار لتصرف فى مصالحه؛ وأكرم أصحاب أبيه وعاملهم الأفضل أخوه صاحب دمشق بخلاف ذلك، فمالت القلوب إلى الملك العزيز ونفرت عن الملك الأفضل. فاستشعر الأفضل من أمرائه، وعزم على القبض عليهم؛ فبلغهم الخبر ففارقوه، واتّصلوا بخدمة أخيه الملك العزيز بالدّيار المصريّة فى بقيّة السّنة فأكرمهم وقرّبهم «2» وكان منه ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر استيلاء الفرنج على جبيل
[138] كان استيلاؤهم على حصن جبيل فى مستهلّ صفر سنة تسعين وخمسمائة بمواطأة ممّن كان فيه. وذلك أنّ الحصن كان عدّة من فيه خمسة عشر رجلا، فندب متولّى البلد منهم عشرة لجباية الجزية، وخرج متولّى الحصن إلى الحمام، فاستصحب أحد الخمسة الذين تأخّروا(28/442)
بالحصن معه، وبقى به أربعة من الأكراد، فأغلقوا باب الحصن. وتوجّه أحدهم إلى الفرنج الذين بالتّيرون فأخبرهم بخلو الحصن، وكان به حدّاد نصرانى، فصعد هو والثلاثة إلى أعلى الحصن. فلمّا عاد الوالى منعوه من الدّخول ورموه بالحجارة، فكسروا يده، وقالوا هذه القلعة قد صارت للقومص. وجاء أهل التيرون بالليل فطردوا من كان بالباشورة من المسلمين.
ووصل ابن ريمون أخو صاحب جبيل وتحدّثوا مع الأكراد، فنزل أحدهم إليهم وقرّر معهم أن يعطوا نصف ما بالحصن من سائر الحواصل وغيرها، وأن تكون لهم ثلاثة ضياع من عمل طرابلس؛ واستحلفهم على ذلك. وتسلّموا الحصن، فرتّب الفرنج فيه من الجرخيّة «1» ألفا وخمسين جرخيا «2» .
فلما اتّصل الخبر بالسّلطان الملك العزيز عظم عليه، وأخرج خيامه فى يوم الأحد العشرين من شهر ربيع الأول، وأمر بالاستعداد للخروج إلى الشام لاستنقاذ جبيل من الفرنج، وأرسل شمس الخلافة رسولا إلى الفرنج بسبب إعادة جبيل فتوجّه فى سادس عشر شهر ربيع الآخر.
وفى سنة تسعين وخمسمائة، لسبع بقين من شهر ربيع الأول، عزل القاضى صدر الدّين بن درباس وفوّض القضاء بالدّيار المصرية للقاضى زين الدّين أبى الحسن على بن يوسف بن عبد الله بن رمضان الدّمشقى؛ فولى سنة وعزل فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وأعيد القاضى صدر الدّين. وقيل بل ولى القاضى محيى الدّين محمّد بن عبد الله بن أبى عصرون، وعزل فى يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين(28/443)
وخمسمائة. وأعيد القاضى زين الدّين الدّمشقى فولى سنة، ثم عزل، وأعيد القاضى صدر الدّين إلى أن توفّى فى سنة خمس وستمائة والله أعلم.
ذكر مسير الملك العزيز إلى الشام والصّلح بينه وبين أخيه الملك الأفضل وعوده إلى القاهرة
قال: وفى تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة تسعين وخمسمائة توجّه الملك العزيز إلى الشام وترك بالقاهرة من الأمراء بهاء الدّين قراقوش وصيرم، وجهّز ثلاثة عشر لواء إلى ثغرى الإسكندريّة ودمياط ومعهم سبعمائة فارس. واستصحب معه من الأمراء سبعة وعشرين أميرا عدتهم تقدير ألفى فارس، ومن الحلقة ألف فارس. فلمّا اتصل بالأفضل خروجه استعدّ وأنفق النّفقات الوافرة، وخرج إلى رأس الماء فى سبعمائة فارس، ولمّا وصل الملك العزيز إلى الغور احتاط على الخاصّ الأفضلى به، وشرع فى إقطاع أعمال الشام. وجهّز من أمرائه: قايماز، وعشرين أميرا، منهم، جهاركس، وميمون القصرى، وسنقر الكبير، والشجاع الخادم، والجناح، وجرديك. فتقدّموا ووقعوا على أطراف العسكر الشّامى، فرجع الأفضل إلى دمشق وغلّقت أبواب البلد لمّا قرب العسكر المصرىّ منها.
وتقدّم العزيز وترك ثقله بمسجد القصب بظاهر دمشق، ونزل هو بالكسوة «1» ؛ فاستنجد الأفضل بعمه الملك العادل فحضر إلى دمشق، وحضر الظّاهر من حلب، وناصر الدّين صاحب حماة، وأسد الدّين(28/444)
صاحب حمص، وعسكر الموصل وغيره. فلمّا رأى العزيز اجتماعهم علم أن لا قدرة له بهذا الجمع، وكتب إلى عمّه العادل يقول: أنا ما خرجت من الدّيار المصريّة إلا لاستنقاذ جبيل من الفرنج، فبلغنى أنّ الملك الأفضل حالف الفرنج علىّ، واستنصر بهم، ووعدهم أن يعيد البلاد إليهم، فاقتضى ذلك سوقنا إليه. [139] وبلغنا أنك تدخل بيننا وبينه، وحوشيت من ذلك، وأنا خير لك من غيرى. وإن أردت أن تكون السّلطان ورئيس الجماعة فأنا راض بذلك.
وكتب لأخيه الملك الظّاهر وغيره من [حكام] «1» الممالك وتردّدت الرّسائل بينهم.
وتقرّرت الحال على أن يكون للملك العزيز البيت المقدّس وما جاوره من أعمال فلسطين؛ وأن تكون دمشق وطبريّة وأعمال الغور للملك الأفضل؛ وأن يعطى الأفضل لأخيه الملك الظّاهر جبلة واللاذقيّة؛ وأن يكون للملك العادل بالدّيار المصريّة إقطاعه الأوّل، وأن يخطب للملك العزيز ببلاده وتنقش السّكّة باسمه؛ وأنّ الملك العزيز يمدّه بألف فارس إعانة له على فتح خلاط.
واجتمع الملك العادل بالملك العزيز، وتزوّج العزيز ابنته، وجاء الملك الظّاهر صاحب حلب إلى أخيه الملك العزيز. وتقرّرت قواعد الصلح.
وتأخّر الملك العزيز إلى الكسوة ثم إلى مرج الصّفّر «2» ، ومرض به ثمّ أفاق.
ولمّا عزم على العود إلى الدّيار المصريّة خرج لوداعه سائر الملوك الذين حضروا لنصرة الأفضل، ثم خرج إليه الأفضل فى سابع شعبان(28/445)
وأدركه بنيق، وهى أعلى الغور، فأكرمه الملك العزيز، وبالغ فى احترامه وساله الأفضل أن يرجع إلى دمشق ليزور قبر أبيه، فأجاب إلى ذلك؛ ثم أشار عليه أصحابه ألّا يفعل، فامتنع. وعاد الأفضل، وسار العزيز إلى الدّيار المصريّة فدخلها فى أواخر شعبان.
وفى مستهلّ جماد سنة تسعين وخمسمائة هبّت رياح عاصفة بالقاهرة من وقت العصر، وسقط فى ثالث الشهر برد كثير أكبره قدر البيض وأصغره قدر النّبق، وصار على جبل المقطم منه شىء كثير كالجبل الثّانى:
ونقل النّاس منه مدّة أربعة أيام؛ ثم سال حتّى ملأ الخندق، ودخل الماء من المرامى الّتى فى السّور إلى القاهرة، وعلا، حتّى خيف على البلد.
ذكر خروج الملك العزيز لقصد الشّام ثانيا ورجوعه وقصد العادل والأفضل الدّيار المصريّة وما تقرر من القواعد
كان سبب ذلك أن الملك الأفضل قلّد وزارة دمشق لضياء الدّين ابن] «1» الأثير الجزرى وحكّمه فى البلاد، فقصد الأمراء بالأذى والاطّراح، وتشاغل الأفضل عنهم. ففارق خدمة الأفضل [فارس الدين] «2» ميمون القصرى [وشمس الدين] «3» وسنقر الكبير وعز الدّين سامة، وغيرهم. وحضر بعض هؤلاء إلى الدّيار المصريّة وانضموا إلى الملك العزيز، وقالوا له: إنّ الأفضل مسلوب الاختيار؛ وحرّضوه على قصد دمشق؛ فخرج إليها فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.(28/446)
فلمّا اتّصل خبر خروجه بالأفضل ركب من دمشق فى رابع جمادى الأولى وتوجّه إلى عمّه الملك العادل، وهو بقلعة جعبر، واستنجد به، وسار إلى أخيه الملك الظّاهر بحلب واستنجد به أيضا، فركب الملك العادل وجدّ فى السّير إلى دمشق خوفا أن يسبقه العزيز إليها. وكاتب الملك العادل الأمراء الذين صحبة العزيز، وكان العزيز قد نزل بمنزلة الفوّار على مرحلتين من دمشق، واستمالهم وحذّرهم من العزيز، فمالوا إليه، واستمالوا أبا الهيجاء السّمين، وفارقوا العزيز وقصدوا دمشق؛ وذلك فى يوم الاثنين رابع شوال من السّنة.
فلمّا وصلوا إلى دمشق اتّفق العادل والأفضل، وتحالفا على قصد العزيز وانتزاع الدّيار المصريّة منه، على أن يكون ثلث الدّيار المصرية للملك العادل إقطاعا والثّلثان للملك الأفضل. وساروا فى طلب العزيز، فرجع إلى الدّيار المصريّة وجدّ فى السّير ودخل القاهرة «1» .
قال: ولمّا وصل العادل والأفضل إلى القدس سلّماه وأعماله وما يجاوره من أعمال السّاحل لأبى الهيجاء السّمين، فرتّب فيه نوّابه، وسار معهما إلى الدّيار المصريّة. فنزل الملك العادل على بلبيس، وكان السعر ماشيا «2» فاستظهر العزيز عليهم.
[140] قال: ولم يكن غرض العادل قصد مصر وإنما خشى على الملك العزيز من الأمراء أن يقتلوه ويستولوا على الدّيار المصريّة، فقصدها لهذا السبب.
ولمّا ضاقت الميرة على العسكر الشّامى وقلّت أزوادهم ندموا على وصولهم إلى الدّيار المصريّة؛ فأرسل الملك العادل إلى القاضى الفاضل(28/447)
عبد الرّحيم فى الاجتماع به، فأذن له العزيز فى ذلك؛ فخرج إليه، فاستبشر النّاس بخروجه رجاء وقوع الصّلح. وركب العادل وتلقّاه على فراسخ «1» ، فاجتمعا، واستقرّت القواعد على أن يكون إقطاع العادل بمصر على عادته، وأن تكون إقامته عند الملك العزيز بالقاهرة، وأن يعفو [العزيز] «2» عن الأسديّة والأكراد.
واجتمع العادل بالأفضل وأمره بالرّجوع إلى دمشق. ثمّ اجتمع الأفضل بالعزيز، واستقرّ الصلح بينهما، وأهدى العزيز إليه هدايا جليلة المقدار. ورجع الأفضل إلى دمشق ومعه أبو الهيجاء السّمين، فدخلها فى المحرّم سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
ولم تطل المدّة إلى أن بلغ الملك العادل عن الأفضل ما استوغر خاطره، فعند ذلك قرّر، مع الملك العزيز، أن يجهّز العساكر لتمهّد قواعد الملك بالشّام وسائر البلاد، واتّفقا على أن يكون العزيز بدمشق والعادل ينوب عنه بالدّيار المصريّة.
ذكر ملك الملك العزيز دمشق وخروج الأفضل إلى صرخد
قال: ولمّا اتفق الملك العادل والملك العزيز على ما قرّراه تجهّز [الملك العادل] «3» للمسير إلى دمشق وبرز بخيامه من القاهرة فى يوم السّبت(28/448)
مستهل شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة [فى] «1» ثلاثة آلاف فارس. ثمّ برز الملك العزيز فى يوم الثّلاثاء، رابع الشهر، وظاهر خروجه وداعه لعمّه الملك العادل، وحث العساكر المجرّدة على الخروج.
وأقام ببركة الجبّ.
فلمّا كان فى العشرين من الشّهر اتّصل بالملك العادل عن الملك الأفضل أنّه كاتب الأسديّة، وأنّه قبض على أموال كانت للعادل بدمشق، وأطلق رهائن كانت عند نوّابه، وأنّه وافق الظاهر صاحب حلب؛ فقرّر مع الملك العزيز أن يتوجّها جميعا ويأخذا دمشق من الأفضل وحلب من الظّاهر، فاتّفقا على ذلك وعقدا بينهما يمينا.
وشرع الملك العزيز فى تجهيز رجال الحلقة والأعيان، ورحل هو وعمّه الملك العادل من البركة فى يوم الثّلاثاء ثامن جمادى الأولى، فحصل للعادل ضعف فى هذا النّهار منعه عن الحركة. وكان وصولهما إلى بلبيس فى سابع عشر الشهر، وكملت صحّة العادل فى العشرين من الشهر، وسار إلى الشام على مهل ورفق.
فلمّا تحقّق الملك الأفضل قصدهما لبلاده استشار شيوخ دولته، فأشاروا عليه أن يستقبل أخاه وعمه ويسلّم لهما الأمر؛ وأشار وزيره ضياء الدّين ابن الأثير الجزرى بالتّصميم والمخالفة، فرجع إلى رأيه، وحصّن البلد، وفرّق الأمراء على الأسوار. فلمّا رأى شيوخ الدولة وأكابرها أنّه لم يرجع إليهم واعتمد على رأى وزيره راسلوا الملك العزيز والملك العادل فى انتهاز الفرصة؛ فركبا بعساكرهما وتأهّبا فى يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رجب وخرج أهل دمشق لقتالهم؛ والتقوا فى السّابع والعشرين من الشّهر. فلم يكن بأسرع من انهزام العسكر(28/449)
الشامى. وتبعهم العزيز والعادل حتى ألجأوهم إلى سور البلد، ودخلوا دمشق «1» ، وتبعهم العسكر، فملكت البلد.
فعندها ركب الملك الأفضل إلى خيمة أخيه الملك العزيز، واجتمع به بظاهر دمشق.
قال: ودخل الملك العادل ومن معه باب توما والباب الشّرقى، ونزل بالدّار الأسدية. ودخل الملك العزيز من باب الفرج وبات فى دار عمّته الحساميّة «2» . وملك العزيز دمشق وأقيمت له الخطبة فى يوم الجمعة الثّامن والعشرين من الشهر.
قال: ولمّا ملك الملك العزيز دمشق ندم على ما كان قرر من إقامته بالشام وتمكين عمه الملك العادل من الدّيار المصريّة واعتذر [141] إلى أخيه الملك الأفضل فى السّر. فأظهر الأفضل سرّه لمن معه فظنّوا أن هذه خديعة. فأرسل إلى العادل وأعلمه بمرسلة العزيز، فعتبه العادل، فأنكر الحال «3» . وخرج الأفضل إلى صرخد «4» وقرّر له فى كلّ سنة مائتى ألف درهم من صرخد وغيرها، وهو كاره لذلك. وسأل أن يكون بمكّة؛ وينقطع إلى الله تعالى، وينزل عن الملك، فلم يجبه العزيز.
وكان خروج الأفضل من دمشق إلى صرخد يوم الاثنين، ثانى شعبان سنة اثنتين وتسعين، فكانت مدّة ملكه لدمشق، منذ وفاة والده إلى أن ملكها العزيز، ثلاث سنين وخمسة أشهر.(28/450)
ودخل الملك العزيز قلعة دمشق واستقرّ بها فى يوم الأربعاء رابع شعبان من السّنة المذكورة، وجلس يوم الجمعة بدار العدّل وأسقط من المكوس بدمشق ما هو مقرّر على سوق الرّقيق وسوق الدوّاب ودار البطّيخ، والملاهى، والعصير، والفحم، والحديد، وسبكى الفولاذ والزّجاج.
قال: وهرب ضياء الدّين ابن الأثير ونهبت داره.
ونودى فى دمشق أن يلبس أهل الذّمّة العمائم الغيار ليعرفوا من المسلمين وكان سبب ذلك أنّ الملك العزيز لمّا جلس بدار العدل دخل عليه رجل له هيئة حسنة، فما شكّ العزيز أنه من الأشراف، فلمّا علم أنّه ذمّىّ أمر بذلك.
قال: ولاطف الملك العزيز عمّه الملك العادل إلى أن قام بدمشق فى النّيابة، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع. وسلّم ديوان دمشق لصفىّ الدّين ابن شكر «1» كاتب العادل.
وفارق الملك العزيز دمشق فى العشر الأوسط من شعبان، وعاد إلى الدّيار المصريّة بعد أن استخلف الملك العادل وسلّم إليه دمشق وما هو مضاف إليها من القلاع والحصون والأعمال؛ والخطبة والسّكّة باسم الملك العزيز.
ودخل العزيز إلى القاهرة جريدة فى رابع شهر رمضان؛ وفوّض شدّ الأموال والخطاب عليها للأمير فخر الدّين إياز جهاركس؛ وضمّن الخمور فى كلّ سنة بسبعة عشر ألف دينار، فتجاهر النّاس بها وظهر(28/451)
الفساد وفشا فى النّاس؛ واجتمع الرّجال والنّساء فى شهر رمضان من غير استتار، سيّما فى الخليج وساحل مصر؛ ورتّب ضمان الخمر فى النّفقة على طعام السّلطان؛ وهذه من البلايا التى لم يسمع بمثلها، فإنّ عادة الملوك والأكابر [أن] «1» يجتهدوا أن يكون مأكلهم من أجلّ الجهات كالجوالى «2» وما يناسبها. وبسبب إطلاق الخمور كثر القتل بالقاهرة والجراحات، وخطف العمائم والأمتعة والمآكل من الأسواق.
قال المؤرخ: وغلت الأسعار فى هذه السّنة بالدّيار المصريّة، واشتدّ الأمر على النّاس، وكثر الوباء، وبلغ القمح كلّ أردبّ بدينارين، وأظن الدّينار ثلاثة عشر درهما وثلث درهم، وهذا كان نهاية الغلاء فى ذلك العصر.
ولقد وصف «3» الفاضل من عظم ما حلّ بالنّاس غلوّ السّعر أمرا عظيما فكيف لو أدرك الفاضل الديار المصريّة فى سنة خمس وتسعين وستّمائة وقد أبيع القمح سعر الأردب ثلاثة عشر دينارا ونصف دينار وأبيع الفرّوج بخمسين درهما، ورطل البطّيخ الأخضر بأربعة دراهم، والسّفرجلة بثلاثين درهما «4» .
قال المؤرخ: وفى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة كانت وفاة الشيخ السّيد الشريف عبد الرّحيم «5» ، قدّس الله روحه ونوّر ضريحه، بقنا من أعمال قوص ودفن بجبّانتها، وضريحه معروف هناك من أعظم مزارات(28/452)
أهل الصّلاح بالدّنيا.
وممّا نقل من كلامه، قدسّ الله روحه، وقد سمع المؤذّن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال الشيخ شهدنا بما شاهدنا. ومن كلامه:
لا يستطيع العارف أن يوصّل إلى من لا يعرف حقيقة ما عرف، كما لا يستطيع البصير أن يوصل إلى الأكمه «1» حقيقة الألوان. وعرض هذا الكلام على الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز «2» بن عبد السّلام، رحمه الله ونفع به، فقال هذا كلام من غرق فى الحقيقة.
[142] ذكر استيلاء الفرنج على بيروت
وفى يوم الجمعة عاشر ذى الحجّة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة بيروت من المسلمين وسبب ذلك أنّ فرنج السّاحل راسلوا ملك الألمان «3» فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكان قد ملك جزيرة صقلية، وعرّفوه أنّ المسلمين قد اشتغلوا بحرب بعضهم بعضا؛ فأقبل فى مراكبه «4» إلى عكّا. وصادف ذلك سقوط الكندهرى «5» ملك عكا من(28/453)
شبّاك فهلك، فملك ملك قبرص «1» عكّا، وخرج إلى بيروت فملكها من المسلمين، وكان بها عزّ الدين أسامة. فعمّرها الفرنج ولم تزل بأيديهم إلى أن فتحها الملك الأشرف «2» فى سنة تسعين وستّمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار دولة التّرك.
وفيها خرجت المراكب الحربية لقصد بلاد الفرنج، فوجدوا بطشا للفرنج فملكوها، فوجد المسلمون فيها أموالا جليلة.
وفيها أنشأ الأمير فخر الدين إياز جهاركس النّاصرى القيساريّة المعروفة به بالقاهرة المحروسة، وجاءت من أحسن الأبنية «3» .
ذكر وفاة سيف الإسلام بن أيّوب ملك اليمن وملك ولده شمس الملوك
وفى يوم الأربعاء الثالث من شوّال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة توفى الملك العزيز سيف الإسلام طغتكين بن أيّوب، أخو السّلطان الملك النّاصر [صلاح الدين] «4» بالمنصورة التى أنشأها باليمن. وكان قد طرد ولده شمس الملوك [إسماعيل] «5» إلى الحجاز. فلمّا سمع بوفاة والده سار إلى اليمن وملك بعده.(28/454)
وإلى سيف الإسلام هذا ينسب البستان «1» الذى كان بظاهر القاهرة، وهو الآن عمائر تعرف أرضها بحكر سيف الإسلام.
ذكر وفاة الملك العزيز وشىء من أخباره
كانت وفاته فى ليلة الأحد العشرين «2» من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة بداره بالقاهرة.
وكان قد خرج إلى الفيّوم لقصد الصّيد إلى ذات الصّفا، فحمّ، فعاد إلى القاهرة واشتدّ مرضه، فمات. وقيل إنّه ساق خلف الصّيد فكبا به فرسه مرّة بعد أخرى، فمات بعد ثلاث. ودفن بداره بالقاهرة [وكان مولده بالقاهرة] «3» فى ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستّين، وقال الفاضل فى جمادى الآخرة. فكانت مدّة عمره سبعا وعشرين سنة وثمانية أشهر واثنى عشر يوما؛ ومدة ملكه خمس سنين وعشرة أشهر وعشرين يوما.
وكان رحمه الله عادلا كريما بالمال، بخيلا على طعامه شجاعا حسن الأخلاق.
وخلّف من الأولاد أحد عشر ولدا، وهم الملك المنصور محمّد، القائم بعده؛ وعلى، وعمر، وإبراهيم؛ وعيسى؛ ومحمود؛ ورعاه، ويوسف؛(28/455)
ويونس؛ وولدان صغيران. ولم يخلّف فى خزانته ذهبا ولا دراهم إلّا بعض قماش ليس بالطّائل.
ذكر سلطنة الملك المنصور محمد بن الملك العزيز ابن الملك الناصر وهو الثالث من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصريّة
[143] ملك الدّيار المصريّة بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد العشرين «1» من المحرّم سنة خمس وتسعين وخمسمائة بوصية منه. ولمّا مات الملك العزيز كان عمّه الملك العادل يحاصر ماردين فاجتمعت الأمراء الصّلاحية وعقدوا الأمر لولده ولقّبوه بالملك المنصور، وكان قبل ذلك يلقّب بالنّاصر وإنما تركوا النّاصر لموافقته لقب الخليفة «2» وركب فى يوم الثلاثاء الثانى والعشرين من المحرّم، وشقّ القاهرة من باب زويلة إلى باب النّصر، والأمراء فى خدمته. وكتب الأمراء إلى الملك العادل يعزّونه فى ابن أخيه الملك العزيز، ويدكرون اتفاقهم على تنصيب «3» ولده فى السّلطنه بعده، وأنهم على طاعة الملك العادل.
ثم اجتمع الأمراء الأسدية والصّلاحية بظاهر القاهرة وقالوا: إن الذى فعلناه من حفظ الملك العزيز فى ولده هو نعم الرأى، وإنما هو صغير السّن لا يفهم ما يقال له، ولا يقوم بأعباء الملك، ولا بد لنا من كبير من(28/456)
هذا البيت يربّيه ويكفله ويدبّر أحوال الدّولة، وليس لها مثل الملك العادل، وهو الآن مشغول ببلاد الشّرق. وقصدوا أن يكتبوا إليه ويستدعوه فكره بعضهم شدة أخلاقه ومماقتتة «1» للجند فعدلوا عنه واتفقوا على استدعاء الملك الأفضل من صرخد.
وأن يتولّى أتابكيّة الملك المنصور وأن ينوب عن الأفضل إلى حين وصوله، أخوه الملك الظافر خضر، فاستقرّ ذلك «2» .
وكتبوا إلى الأفضل وذلك فى يوم الخميس سادس عشر صفر من السّنة ونزل الملك الظّافر بدار السّلطنة فى القاعة العزيزيّة، وقام بنيابة السلطنة.
قال: ولمّا وصل كتاب الأمراء إلى الأفضل خرج من صرخد فى ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من صفر، وسلك البرّيّة إلى البيت المقدّس.
ذكر وصول الملك الأفضل إلى القاهرة واستقراره فى تدبير دولة المنصور
كان وصوله إلى القاهرة فى يوم الخميس السّابع من شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة؛ فبرز الناس للقائه، وزيّنت المدينة، لقدومه. ولما دخل أقرّ الخطبة باسم الملك المنصور ابن أخيه، ونقش السّكة باسمه، وكان الأفضل يذكر بعده. وكتب إلى عمّه الملك العادل يبذل له الطّاعة والانقياد إلى أمره(28/457)
قال: ولمّا وصل الملك الأفضل إلى بلبيس خرج فخر الدّين إياز جهاركس وزين الدين قراجا على أنهما يلتقيانه، فتوجها إلى الملك العادل. ثم خرج فى يوم وصوله الأمير شمس الدّين «1» سراسنقر بمماليكه وجماعة من أصحابه والتحق بالملك العادل، وسار إليه، إلى ماردين.
ذكر مسير الملك الأفضل إلى الشام وحصار دمشق وعوده عنها وخروجه عن الديار المصريّة
قال: ولما استقرّ الأفضل فى تدبير الدّولة بالدّيار المصريّة، ولم يبق للملك المنصور معه إلا الشّركة فى الخطبة، حمله أصحابه على قصد دمشق وحصرها، وقالوا: هى لك بوصيّة أبيك الملك النّاصر فعزم على المسير اليها، وأمر العساكر بالاستعداد لذلك. وبرز إلى المخيّم ببركة الجبّ، هو وابن أخيه الملك المنصور، فى يوم السّبت العشرين من جمادى الأولى من السّنة واستحثّ العسكر على الخروج.
ووصل إليه فى يوم الأربعاء، السّادس من جمادى الآخرة، رسول من أخيه الملك الظّاهر صاحب حلب وهو يلومه على إنفاذ الرّسل بالطّاعة للعادل، ويقول: إن أكثر الناس كانوا منصرفين عنه فانصرفوا إليه، وحثّه على سرعة قصد دمشق؛ ويقول: اغتنم الفرصة ما دام العادل فى حصار ماردين؛ ووعده بالوصول إليه فأكّد ذلك ما عنده، وأقام ببركة الجبّ وهو يحثّ العسكر على سرعة الحركة، إلى ثانى شهر رجب، فرحل عنها.(28/458)
وفى مدّة مقامه ببركة الجبّ أحضر قاضى القضاة والشّهود، وأشهدهم على نفسه [144] أنه وقف المطريّة «1» ومنية الباسل «2» والرّباع المسوّغة والمستمرّة بيد الدّيوان على عمارة سور القاهرة ومصر والبيمارستان بالقاهرة.
قال: ولمّا وصل الأفضل إلى بلبيس احتاط على ما كان باسم العادل وألزامه بالدّيار المصريّة؛ وأقطعه، ثم قبض على أخيه الملك المؤيّد وقيّده وأعاده إلى القاهرة، فاعتقل بالقلعة. وتمادى الملك الأفضل فى سيره إلى دمشق. هذا ما كان منه.
وأمّا الملك العادل فإن سراسنقر النّاصرى وصل إليه بماردين واستحثّه على العود إلى دمشق، فأوصى ولده الملك الكامل بمحاصرتها.
وفارقها العادل لخمس بقين من شهر رجب، ووصل إلى دمشق فى يوم الاثنين حادى عشر شعبان، وأخذ فى تحصين البلد. ووصلت العساكر المصرية فى يوم الخميس، ورتّب الأطلاب وسار الملك المنصور بن الملك العزيز فى القلب وزحف على البلد فأخذ قصر حجّاج والشّاغور. وكان العادل لما شاهد إقبال العساكر أمر بإحراق قصر حجّاج، فأحرق، واحترق فيه عدّة مساجد وأطفال. وأحاطت العساكر المصريّة بدمشق، ودخلها جماعة منهم من باب السّلامة، وانتهوا إلى السّوق الكبير، وخرجوا من باب الفراديس. وقدم الأفضل الميدان الأخضر «3» ثم تأخّر إلى ميدان الحصى؛ واستقر بهذه المنزلة أكثر من ستّة أشهر.(28/459)
وكاتب الملك العادل جماعة من الأمراء المصريّين، ففارقوه ودخلوا إلى دمشق فأكرمهم.
ثم وصل الملك الظّاهر صاحب حلب ومعه أخواه الظّافر والمعزّ وجاءهم الملك المجاهد صاحب حمص، وعسكر حماة دون سلطانها، وحسام الدّين بشارة صاحب حمص بانياس، وكان من أكابر الدّولة، فأشار بالصلح.
قال: ولمّا حاصر الملك الأفضل دمشق منع من يدخل إليها بشىء من الميرة، وقطع عنها الأنهار؛ فاشتدّ الأمر على أهل دمشق، واستغاثت الرّعايا على العادل، وتسلّطوا عليه، وحملوه على تسليم البلد. وانتقل أكثر من فى البلد إلى العسكر، ونصبوا به أخصاصا ومساكن؛ وأقيمت الأسواق به.
فلمّا اشتدّ الأمر على العادل كتب إلى الظّاهر يستميله وقال: أنا أسلّم البلد إليك دون غيرك، فنمى الخبر إلى الأفضل، فاضطرب رأيهما، وقيل بل كتب إليهما يقول: أنا أسلم البلد إليكما بعد سبعة أشهر فأجاباه إلى ذلك. وقيل إنه كان يكتب إلى الأفضل يقول الظّاهر قد صالحنى، وإلى الظّاهر بمثل ذلك.
واتفق فى فساد حال الأفضل أن جماعة الأمراء كان بأيديهم إقطاعات بالدّيار المصريّة جليلة المقدار، فحسدهم آخرون عليها، فكانوا يأتون إلى الملك الأفضل ويقولون: إنّ فلانا قد عزم على قصد عمّك العادل والانضمام إليه، ويأتون لذلك الأمير فيقولون: إنّ الأفضل قد عزم القبض عليك، ويأتى ذلك الأمير إلى الأفضل فيرى فى وجهه أثر التغيّر لما نقل عنه، فلا يشكّ ذلك الأمير فى صدق النّاقل فالتحق به جماعة من الأمراء(28/460)
فبينما الأفضل كذلك إذ قدم الملك الكامل بن الملك العادل من الشّرق، فى تاسع عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، بالعساكر والتّركمان فاشتدّ به عضد أبيه. وتأخر الأفضل بمن معه إلى سفح جبل العقبة، ثم انتقل إلى مرج الصّفّر فى يوم الاثنين ثانى عشرى صفر؛ وعاد الظّاهر والمجاهد «1» .
واشتد البرد على العسكر المصرى فعاد الأفضل إلى الدّيار المصريّة، وساق العادل بعساكره فى أثره. فكان وصول الأفضل إلى بلبيس فى حادى عشرى شهر ربيع الأول فأشار عليه أصحابه بالإقامة بها.
قال: ولمّا وصل الملك العادل إلى تلّ العجول «2» أقام به حتى اجتمع إليه أصحابه، وراسل الأفضل، فعاد جوابه أنه لا يصالحه حتّى يفارق الأمراء الصلاحية.
فلما اتصل ذلك بالصلاحية غضبوا وعزموا على المسير إليه.
هذا والأفضل على بلبيس، وقد تفرق معظم أصحابه إلى إقطاعاتهم وجماعة منهم باطنوا الملك [العادل] «3» .(28/461)
[ومضى الملك العادل يطوى المراحل إلى أن دخل الرمل وبلغ الملك الأفضل ذلك، فرام جمع عساكره، فتعذر ذلك عليه لتفرقهم فى أخبارهم، وتشتتهم فى الأماكن التى يربعون فيها خيلهم، فخرج فى جمع قليل، ونزل السانح.
ووصل الملك العادل، وضرب معه مصافا، فانكسر عسكر الملك الأفضل، وولوا منهزمين لا يلوون على شىء.
ثم سار الملك العادل بالعساكر، ونزل بركة الجب، وسير إلى الملك الأفضل يقول له: «أنا لا أحب أن أكسر ناموس القاهرة، لأنها أعظم معاقل الإسلام، ولا تحوجنى إلى أخذها بالسيف، واذهب الى صرخد وأنت آمن على نفسك» .
فاستشار الملك الأفضل الأمراء فرأى منهم تخاذلا، فأرسل إلى عمه يطلب منه أن يعوضه عن الديار المصرية بالشام، فامتنع من ذلك، فطلب أن يعوضه حران والرها فامتنع، فطلب منه جافى وجبل جور وميافارقين وسميساط، فأجابه إلى ذلك، وتسلم القاهرة منه.] «1»
[انتهى الجزء السادس والعشرون من كتاب: نهاية الأرب فى فنون الأدب، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع والعشرون، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل] «2» .(28/462)
مختصرات مصادر ومراجع التحقيق
تحتوى القائمة التالية على أسماء المصادر والمراجع الإضافية ومختصراتها التى استلزمها تحقيق الجزء الثامن والعشرين من كتاب نهاية الأرب للنويرى. «1»
أولا: القرآن الكريم.
ثانيا: المصادر والمراجع:
(1) اتعاظ الحنفا- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) :
- اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا.
3 أجزاء- تحقيق جمال الدين الشيال- محمد حلمى محمد أحمد- القاهرة 1967- 1973.
(2) أخبار الدول المنقطعة- ابن ظافر (جمال الدين بن على ت 597 هـ/ 1201 م) :
أخبار الدول المنقطعة- دراسة تحليلية للقسم الخاص بالفاطميين- تحقيق أندريه فريه.
المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1972.
(3) أخبار مصر المسبحى (محمد بن عبيد الله بن أحمد، ت 420 هـ/ 1029 م) :
- الجزء الأربعون من أخبار مصر.
تحقيق أيمن فؤاد سيد، وتيارى بيانكى- القسم التاريخى.
المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1978.(28/463)
(4) الإشارة- ابن الصيرفى (على بن منجب بن سليمان ت 542 هـ/ 1147 م) :
- الإشارة إلى من نال الوزارة.
تحقيق عبد الله مخلص.
المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1924.
(5) الاعتبار- أسامة بن منقذ، ت 584 هـ/ 1188 م) :
- كتاب الاعتبار.
نشره فيليب حتى.
جامعة برنستون- الولايات المتحدة 1930.
(6) أعلام الإسكندرية- جمال الدين الشيال:
- أعلام الإسكندرية- القاهرة 1967.
(7) افتتاح الدعوة- القاضى النعمان (النعمان بن محمد بن منصور بن حيون، ت 363 هـ/ 973 م) :
- كتاب افتتاح الدعوة.
تحقيق فرحات الدشراوى- تونس 1975.
(8) الانتصار- ابن دقماق (إبراهيم بن محمد، ت 809 هـ/ 1406 م) :
- الانتصار لواسطة عقد الأمصار.
نشر فولرز- بولاق 1309 هـ/ 1893 م.
(9) البداية والنهاية- ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت 774 هـ/ 1373 م) :
- البداية والنهاية- 14 جزء- بيروت 1966.
(10) تاريخ الحروب الصليبية- رنسمان:
- تاريخ الحروب الصليبية- ترجمة السيد الباز العرينى.
3 أجزاء- بيروت 1967- 1969(28/464)
(11) تاريخ الدول الإسلامية- أحمد السعيد سليمان
- تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسرات الحاكمة- جزءان- دار المعارف- القاهرة 1969.
(12) تاريخ دولة الكنوز الإسلامية- عطية القوصى
- تاريخ دولة الكنوز الإسلامية- القاهرة 1976.
(13) تاريخ ابن الفرات- ابن الفرات (محمد بن عبد الرحيم المصرى، ت 807 هـ/ 1404 م) :
- تاريخ الدول والملوك.
المجلد الرابع- البصرة 1967.
المجلد 7- 9- بيروت 1936- 1942
(14) تاريخ مدينة الإسكندرية- جمال الدين الشيال
- تاريخ مدينة الإسكندرية فى العصر الإسلامى- القاهرة 1967.
(15) تاريخ ووصف قلعة القاهرة- كازانوفا:
- تاريخ ووصف قلعة القاهرة- ترجمة أحمد دراج- القاهرة 1974.
(16) تكملة تاريخ ابن البطريق- يحيى بن سعيد الأنطاكى.
- تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكى نشر كراتشكوفسكى- 1924.
(17) الحركة الصليبية- سعيد عبد الفتاح عاشور
- الحركة الصليبية- جزءان- القاهرة 1962.(28/465)
(18) حسن المحاضرة- السيوطى (عبد الرحمن بن أبى بكر ت 911 هـ/ 1505 م) :
- حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة- جزءان- القاهرة 1967.
(19) خزانة السلاح- مجهول خزانة السلاح، مع دراسة عن خزائن السلاح ومحتوياتها- نشر نبيل محمد عبد العزيز القاهرة 1978.
(20) ذيل تاريخ دمشق- ابن القلانسى (أبو يعلى حمزة بن أسد التميمى، ت 555
هـ/ 1160 م) :
- ذيل تاريخ دمشق- نشر أمدروز- بيروت 1908.
(21) رحلة ابن جبير- محمد بن أحمد بن جبير، ت 614 هـ/ 1217 م) :
- رحلة ابن جبير- بيروت 1964.
(22) الروضتين- أبو شامة (عبد الرحمن بن اسماعيل، ت 665 هـ/ 1268 م) :
- الروضتين فى أخبار الدولتين.
الجزء الأول تحقيق محمد حلمى محمد أحمد- القاهرة 1956- 1962.
(23) السلوك- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) :
- كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك.
ح 1- 2 تحقيق د. محمد مصطفى زيادة- القاهرة 1934- 1958.(28/466)
(24) سيرة ابن طولون- البلوى (عبد الله بن محمد بن عمير، ت بعد 330 هـ/ 941 م:
- سيرة أحمد بن طولون- تحقيق محمد كرد على- دمشق 1358 هـ.
(25) شذرات الذهب- ابن العماد الحنبلى (عبد الحى بن أحمد بن محمد، ت 1089 هـ- 1678 م) :
شذرات الذهب فى أخبار من ذهب- 8 أجزاء- بيروت.
(26) الشرق الأوسط والحروب الصليبية- السيد الباز العرينى
- الشرق الأوسط والحروب الصليبية- القاهرة 1963.
(27) شفاء القلوب- الحنبلى:
- شفاء القلوب فى مناقب بنى أيوب.
مخطوط مصور بمكتبة جامعة القاهرة رقم 24031.
(28) صبح الأعشى- القلقشندى (أحمد بن على، ت 821 هـ/ 1418 م) :
صبح الأعشى فى صناعة الإنشاء- 14 جزء- القاهرة 1919- 1922.
(29) الطالع السعيد- الادفوى (جعفر بن ثعلب، ت 748 هـ/ 1347 م) :
- الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد- تحقيق سعد محمد حسن- القاهرة 1966.
(30) طبقات الشافعية الكبرى- السبكى (عبد الوهاب بن على، ت 771 هـ/ 1370 م) :
- طبقات الشافعية الكبرى- 10 أجزاء- القاهرة 1976.(28/467)
(31) العبر- الذهبى (محمد بن أحمد، ت 748 هـ/ 1348 م) :
- العبر فى خبر من غبر، نشر صلاح الدين المنجد وفؤاد السيد- 5 أجزاء- الكويت 1960- 1966.
(32) العقد الثمين- الفاسى (محمد بن أحمد الحسنى المكى، ت 832 هـ/ 1428 م) :
- العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين.
تحقيق فؤاد السيد- 8 أجزاء- القاهرة 1959- 1969.
(33) عقد الجمان- العينى (محمد بن أحمد، بدر الدين، ت 855 هـ/ 1451 م) :
- عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان.
مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 1584 تاريخ.
(34) القاموس الجغرافى- محمد رمزى:
- القاموس الجغرافى للبلاد المصرية.
قسمان فى 5 أجزاء- القاهرة 1953- 1963.
(35) القاموس المحيط- الفيروزآبادى (محمد بن يعقوب الشيرازى، ت 803 هـ/ 1400 م) :
4 أجزاء- القاهرة 1952.
(36) قوانين الدواوين- ابن مماتى (الأسعد شرف الدين أبو المكارم ت 606 هـ/ 1209 م) :
- كتاب قوانين الدواوين- تحقيق عزيز سوريال عطية- مصر 1943.
(37) الكامل- ابن الأثير (على بن أبى الكرم، ت 630 هـ/ 1233 م) :
- الكامل فى التاريخ.
13 جزء- بيروت 1983.(28/468)
(38) كنز الدرر- ابن أيبك الدوادارى (أبو بكر بن عبد الله، ت بعد 736 هـ/ 1235 م) :
- كنز الدرر وجامع الغرر.
الجزء السادس: الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية.
- تحقيق صلاح الدين المنجد- القاهرة 1961.
الجزء السابع: الدر المطلوب فى أخبار بنى أيوب.
- تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور- القاهرة 1972.
(39) الكواكب السيارة- ابن الزيات (محمد الأنصارى ت 814 هـ/ 1411 م) :
- الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة.
بولاق 1325 هـ.
(40) لسان العرب- ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم الأنصارى، ت 711 هـ/ 1311 م) :
- لسان العرب- 20 جزء- بولاق 1300- 1308 هـ.
(41) المختصر- أبو الفدا (إسماعيل بن على، ت 732 هـ/ 1331 م) :
- المختصر فى أخبار البشر- 4 أجزاء- استانبول 1938.
(42) المسلمون والبيزنطيون- أحمد عبد الكريم سليمان.
- المسلمون والبيزنطيون فى شرقى البحر المتوسط.
الجزء الأول- القاهرة 1982.
(43) مصر فى عصر الإخشيديين- سيدة إسماعيل كاشف.
- مصر فى عصر الإخشيديين- القاهرة 1970.
(44) مضمار الحقائق- محمد بن عمر بن شاهنشاه الأيوبى، ت 617 هـ/ 1220 م) :
- مضمار الحقائق وسر الخلائق- تحقيق حسن حبشى- القاهرة 1968.(28/469)
(45) معجم البلدان- ياقوت (ياقوت الحموى، ت 626 هـ/ 1229 م) :
- معجم البلدان- 5 مجلدات- بيروت.
(46) معجم البلدان الليبية- الطاهر أحمد الزاوى.
- معجم البلدان الليبية.
طرابلس- 1968.
(47) معجم السفن الإسلامية- درويش النخيلى.
- السفن الإسلامية على حروف المعجم.
القاهرة 1979.
(48) المغرب- البكرى (أبو عبيد، ت 487 هـ/ 1094 م) :
- المغرب فى ذكر بلاد أفريقية والمغرب- نشر دى سلان- الجزائر 1857.
(49) مفرج الكروب- ابن واصل (جمال الدين محمد بن سالم، ت 697 هـ/ 1298 م) :
- مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب.
ج 1- 3 نشر جمال الدين الشيال- القاهرة 1953- 1960.
(50) الملل والنحل- الشهرستانى (محمد عبد الكريم) :
- الملل والنحل- تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل- 3 أجزاء- القاهرة 1968.
(51) المنتقى من أخبار مصر- ابن ميسر (محمد بن على بن يوسف جلب راغب، ت 677 هـ/ 1278 م) :
- المنتقى من أخبار مصر.
تحقيق أيمن فؤاد سيد.
المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1981.(28/470)
(52) المواعظ والاعتبار- المقريزى (أحمد بن على، ت 845 هـ/ 1442 م) :
- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار- جزءان- بولاق 1270 هـ/ 1854 م.
(53) النجوم الزاهرة- ابن تغرى بردى (جمال الدين أبو المحاسن يوسف، ت 874
هـ/ 1470 م) :
- النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة.
16 جزء- القاهرة 1929- 1972.
(54) نصوص من أخبار مصر- ابن المأمون (موسى بن المأمون البطائحى، ت 588 هـ/ 1192 م) :
- نصوص من أخبار مصر.
تحقيق أيمن فؤاد سيد.
المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة 1983.
(55) النكت العصرية- عمارة اليمنى (أبو الحسن نجم الدين، ت 569 هـ/ 1174 م) :
- كتاب النكت العصرية فى أخبار الوزراء المصرية- باريس 1897 م.
(56) نهاية الأرب- النويرى (شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، ت 732 هـ/ 1332 م) :
- نهاية الأرب فى فنون الأدب.
27 جزء- مطبوع بالقاهرة 1923- 1985.
(57) النوادر السلطانية- ابن شداد (يوسف بن رافع، بهاء الدين، ت 632 هـ/ 1234 م) :
- النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية- تحقيق جمال الدين الشيال- القاهرة 1964.(28/471)
(58) وصف قلعة الجبل- كريزويل:
- وصف قلعة الجبل- ترجمة جمال محمد محرز- القاهرة 1974.
(59) وفيات الأعيان- ابن خلكان (أحمد بن محمد، ت 681 هـ/ 1282 م) :
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- 8 أجزاء- تحقيق إحسان عباس- بيروت 1968- 1972.
(60) الولاة والقضاة- الكندى (محمد بن يوسف، ت 350 هـ/ 961 م) :
- كتاب الولاة وكتاب القضاة، صححه رفن كست- بيروت 1908.
محتويات الكتاب
الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار ملوك الديار المصرية الدولة الطولونية
الموضوع الصفحة
خروج أحمد بن طولون إلى الشام سنة 264 هـ 11
ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وما كان من أمره 14
ذكر خلاف لؤلؤ على أحمد 16
ذكر وفاة أحمد بن طولون وشىء من أخباره وسيرته 19
ذكر ولاية أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثانى من ملوك الطولونية 22
ذكر مسير إسحاق بن كنداجق ومحمد بن أبى الساج إلى الشام 23
ذكر وقعة الطواحين 24
ذكر اختلاف محمد بن أبى الساج وإسحاق بن كنداجق والخطبة لخمارويه بالجزيرة 26
ذكر الاختلاف بين خمارويه ومحمد بن أبى الساج والحرب بينهما 27
ذكر الدعاء لخمارويه بطرسوس 28
ذكر الفتنة بطرسوس 28(28/472)
الموضوع الصفحة
ذكر زواج المعتضد بالله بابنة خمارويه بن أحمد بن طولون 29
ذكر مقتل أبى الجيش خمارويه 30
ذكر ولاية أبى العشائر جيش بن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وهو الثالث من الملوك الطولونية 31
ذكر عصيان دمشق على جيش، وخلاف جنده وقتله 32
ذكر ولاية أبى موسى هارون بن أبى الجيش خمارويه ابن أحمد بن طولون، وهو الرابع من ملوك الدولة الطولونية 33
ذكر انقراض الدولة الطولونية 34
ذكر أخبار من ولى مصر بعد انقراض الدولة الطولونية وإلى قيام الدولة الإخشيدية من الأعمال وملخص ما وقع فى أيامهم من الحوادث 37
ذكر إبراهيم الخليجى وما كان من أمره 37
ذكر استيلاء حباسة على الإسكندرية 39
ذكر وصول أبى القاسم بن المهدى إلى الديار المصرية واستيلائه على الإسكندرية والفيوم والأشمونين 40
ذكر أخبار الدولة الإخشيدية وابتداء أمر من قام بها، وكيف كان سبب ملكه وقيامه ومن ملك بعده إلى أن انقرضت أيامهم 44
ذكر مسير الإخشيد إلى الشام ووفاته وشىء من أخباره وسيرته 48
ذكر ولاية أبى القاسم أنوجور 49
ذكر قيام أبى نصر غلبون بن سعيد المغربى وما كان من أمره 50
ذكر وفاة الوزير أبى بكر بن الماذرائى وشىء من أخباره ومآثره 52
ذكر وفاة أبى القاسم أنوجور وولاية أخيه أبى الحسن على بن الإخشيد 53(28/474)
الموضوع الصفحة
ذكر ولاية أبى المسك كافور الخصى الإخشيدى واستقلاله بملك مصر دون شريك ولا منازع 54
ذكر أخبار الدولة العبيدية التى انتسب ملوكها إلى الشرف وألحقوا نسبهم بالحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما 63
ذكر ابتداء أمرهم وأول من قام منهم 66
ذكر أخبار أبى عبد الله الشيعى داعى المغرب وما كان من أمره، وكيف ظهر وما فتحه من بلاد المغرب 77
ذكر انتقال أبى عبد الله الشيعى عن بنى سكتان إلى بنى عصمة بتازرارت 85
ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة ميلة 91
ذكر الحرب بين أبى عبد الله الشيعى وبين أبى حوال محمد بن أبى العباسى 92
ذكر تغلب أبى عبد الله الشيعى على مدينة سطيف 93
ذكر خروج إبراهيم بن حنبش إلى بلد كتامة 94
ذكر هرب زيادة الله إلى المشرق 96
ذكر رجوع أبى عبد الله الشيعى إلى أفريقية 97
ذكر خروج أبى عبد الله الشيعى إلى سجلماسة 98
ذكر ابتداء الدولة العبيدية وأخبار المهدى عبيد الله وما كان من أمره منذ خرج من الشام إلى أن ملك البلاد وتسلم الأمر من أبى عبد الله الشيعى 100
ذكر رحيل عبيد الله من الشام ووصوله إلى سجلماسة 100
ذكر أخبار أبى عبد الله الشيعى وأخيه أبى العباس وما كان من أمرهما بعد قيام عبيد الله المهدى إلى أن قتلهما 106
ذكر أخبار من خالف على عبيد الله وما كان من أمرهم 110
ذكر بناء مدينة المهدية 111(28/475)
الموضوع الصفحة
ذكر خروج أبى القاسم إلى بلاد المغرب وبنائه مدينة المسيلة 112
ذكر وفاة عبيد الله المهدى وشىء من أخباره 113
ذكر بيعة القائم بأمر الله 113
ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من أخباره 116
ذكر بيعة المنصور بنصر الله 117
ذكر وفاة المنصور بنصر الله وشىء من أخباره 118
ذكر بيعة المعز لدين الله 119
ذكر خبر إرسال القائد جوهر الكاتب بالعساكر إلى الديار المصرية 122
ذكر خبر وصول جوهر القائد بالعساكر إلى الديار المصرية 122
ذكر إقامة الخطبة، وضرب السكة بمصر للمعز لدين الله وما قيل فى الدعاء له على المنبر، وما نقش على السكة 131
ذكر خروج تبر الإخشيدى والقبض عليه 134
ذكر فتوح الشام 135
ذكر مقتل جعفر بن فلاح واستيلاء القرامطة على دمشق 136
ذكر خروج المعز لدين الله من بلاد الغرب إلى الديار المصرية، وما رتبه ببلاد المغرب قبل مسيره 139
ذكر مكاتبة المعز لدين الله القرمطى، وجواب القرمطى له 145
ذكر فتوح طرابلس الشام 150
ذكر وفاة المعز لدين الله وشىء من أخباره 151
ذكر بيعة العزيز بالله 153
ذكر الحرب بين أفتكين التركى وعساكر العزيز بالله 154
ذكر حرب أفتكين وأسره 157
ذكر فتوح اللاذقية 158(28/476)
الموضوع الصفحة
ذكر فتح قنّسرين وحمص 159
ذكر وفاة العزيز بالله وشىء من أخباره وأخبار وزيره يعقوب بن كلس ومن ولى بعده 163
ذكر أخبار الوزير يعقوب بن كلّس 165
ذكر بيعة الحاكم بأمر الله 167
ذكر القبض على الوزير عيسى بن نسطورس النصرانى وقتله 168
ذكر مخالفة منجوتكين بدمشق وحربه وأسره وسبب ذلك 169
ذكر الفتنة بين المشارقة والمغاربة، وهرب ابن عمار وما كان من أمره 171
ذكر قتل برجوان الخصى 174
ذكر ما فعله الحاكم بأمر الله وأمر به من الأمور الدالة على اضطراب عقله بعد أن استقل بالأمر بمفرده 176
ذكر بناء الجامع المعروف بجامع راشدة 176
ذكر بناء الجامع المعروف بالحاكم الذى هو بين باب النصر وباب الفتوح بالقاهرة 177
ذكر أبى ركوة وظهوره، وما كان من أمره إلى أن قتل 180
ذكر خروج آل الجراح على الحاكم ومتابعتهم لأبى الفتوح الحسن بن جعفر الحسنى وما كان من أمرهم 185
ذكر تفويض السفارة والوساطة لأحمد بن محمد القشورى وقتله 188
ذكر هدم كنائس الديار المصرية 191
ذكر البيعة بولاية العهد لأبى القاسم عبد الرحيم 192
ذكر إحراق مصر وقتال أهلها 193
ذكر غيبة الحاكم بأمر الله وعدمه، والسبب الذى نقل فى إعدامه، وشىء من أخباره وسيرته غير ما تقدم 194(28/477)
الموضوع الصفحة
ذكر مولد الحاكم ومدة عمره وملكه وأولاده وكتابه ووسائطه وقضائه ونقش خاتمه 201
ذكر بيعة الظاهر لإعزاز دين الله 202
ذكر مقتل الحسين بن دوّاس 204
ذكر وفاة الظاهر لإعزاز دين الله على بن الحاكم بأمر الله وشىء من أخباره 207
ذكر بيعة المستنصر بالله 209
ذكر عود حلب إلى ملك ملك الديار المصرية 212
ذكر الوحشة الواقعة بين الوزير أبى القاسم الجرجرائى، وأمير الجيوش أنوشتكين الدزبرى 212
ذكر ظهور سكين المشبه بالحاكم وقتله 213
ذكر وفاة الوزير صفى الدين أبى القاسم أحمد بن على الجرجرائى وشىء من أخباره 214
ذكر مقتل أبى سعيد التسترى وعزل الوزير وقتله ووزارة ابن الجرجرائى 216
ذكر القبض على الوزير أبى محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن اليازورى وقتله، وشىء من أخباره 221
ذكر الفتنة الواقعة التى أوجبت خراب الديار المصرية 224
ذكر الوحشة الواقعة بين ناصر الدولة والأتراك 227
ذكر الحرب بين ناصر الدولة والأتراك 230
ذكر الصلح بين ناصر الدولة والأتراك 230
ذكر الحرب بين ناصر الدولة وتاج الملوك شادى وما كان من أمر ناصر الدولة إلى أن قتل 231
ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية 233(28/478)
الموضوع الصفحة
ذكر قدوم أمير الجيوش بدر الجمالى إلى مصر واستيلائه على الدولة 234
ذكر هلاك عرب الصعيد وقتل كنز الدولة 236
ذكر بناء باب زويله بالقاهرة 238
ذكر وفاة أمير الجيوش بدر الجمالى وولاية ولده الأفضل 239
ذكر وفاة المستنصر بالله وشىء من أخباره 240
ذكر بيعة المستعلى بالله 243
ذكر ما اتفق لنزار ومن معه 245
ذكر استيلاء أمير الجيوش على البيت المقدس 246
ذكر استيلاء الفرنج على ما نذكره من البلاد الإسلامية بالساحل والشام والبيت المقدس 247
ذكر ملكهم مدينة أنطاكية 248
ذكر مسير المسلمين لحرب الفرنج وما كان من أمرهم 253
ذكر ملكهم معرة النعمان 255
ذكر استيلائهم خذلهم الله تعالى على البيت المقدس 256
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج 259
ذكر قتل كندفرى وملك أخيه بغدوين وما استولى عليه الفرنج من البلاد وهى: حيفا وأرسوف وقيسارية والرها وسروج 260
ذكر أخبار صنجيل الفرنجى وما كان منه فى حروبه وحصار طرابلس وألطوبان وملك انطرسوس 261
ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا 262
ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت 264
ذكر ملك الفرنج جبلة وبلنياس 267
ذكر ملكهم مدينة صيدا 268
ذكر استيلائهم على حصن الأثارب وحصن زردنا 269(28/479)
الموضوع الصفحة
ذكر حصر مدينة صور وفتحها 270
ذكر وفاة المستعلى بأحكام الله 273
ذكر بيعة الآمر بأحكام الله 274
ذكر إنشاء ديوان التحقيق 275
ذكر حل الإقطاعات وتحويل السنة 276
ذكر أخذ الفرما وهلاك بغدوين الفرنجى صاحب القدس 277
ذكر نصب ثغر عيذاب 278
ذكر مقتل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش بن أمير الجيوش بدر الجمالى وشىء من أخباره 279
ذكر تفويض أمور الدولة وإمرة الجيوش للمأمون البطائحى 288
ذكر القبض على المأمون 291
ذكر أخبار أبى نجاح بن فنا النصرانى الراهب وقتله 292
ذكر مقتل الآمر بأحكام الله وشىء من أخباره 294
ذكر بيعة الحافظ لدين الله 296
ذكر قيام أحمد بن الأفضل الحافظ وما كان من أمر أحمد إلى أن قتل 296
ذكر بيعة الحافظ لدين الله الثانية 298
ذكر الخلف بين ابنى الحافظ لدين الله 299
ذكر مقتل حسن بن الحافظ 300
ذكر وزارة بهرام الأرمنى 300
ذكر خروج بهرام من الوزارة ووزارة رضوان ابن الولخشى 302
ذكر خروج رضوان من الوزارة وما كان من أمره إلى أن قتل 304
ذكر وفاة بهرام الأرمنى 306
ذكر وفاة الحافظ لدين الله وشىء من أخباره 307
ذكر بيعة الظافر بأعداء الله 310(28/480)
الموضوع الصفحة
ذكر قيام العادل بن السّلار ووزارته ومقتل ابن مصال 311
ذكر ما فعله الفرنج بالفرما وما جهّزه العادل من الأسطول إلى بلادهم 313
ذكر مقتل العادل بن السّلار وسلطنة ربيبه عباس 314
ذكر مقتل الظافر بأعداء الله وأخويه 315
ذكر بيعة الفائز بنصر الله 318
ذكر خروج عباس من الوزارة وما آل إليه أمره 318
ذكر وزارة الصالح أبى الغارات طلائع بن رزيك 319
ذكر وفاة الفائز بنصر الله 322
ذكر بيعة العاضد لدين الله 322
ذكر مقتل الملك الصالح طلائع بن رزّيك، وقيام ولده الملك العادل رزّيك 324
ذكر ظهور حسين بن نزار وقتله 328
ذكر انقراض دولة بنى رزيك 328
ذكر وزارة شاور الأولى وخروجه منها 330
ذكر وزارة الضّرغام بن سوار 331
ذكر قدوم شاور من الشام وعوده إلى الوزارة ثانيا وقتل الضّرغام 332
ذكر غدر شاور بشيركوه 334
ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية بالعساكر الشامية وانفصاله 335
ذكر وصول الفرنج إلى القاهرة وحصارها وحريق مصر 339
ذكر قدوم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ورحيل الفرنج عنها 341
ذكر مقتل شاور 342(28/481)
الموضوع الصفحة
ذكر انقراض الدولة العبيدية والخطبة للمستضىء بنور الله العباسى 344
جامع أخبار الدولة العبيدية ومدتها ومن ملك من ملوكها 346
ذكر أخبار الدولة الأيوبية 351
ذكر نسب الملك الأفضل نجم الدين 351
ذكر ابتداء حال الملك الأفضل نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه 354
ذكر وزارة الملك المنصور أسد الدين شيركوه بالديار المصرية ووفاته 356
ذكر أخبار الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك الأفضل نجم الدين أيوب ووزارته بالديار المصرية 358
ذكر مقتل مؤتمن الخلافة جوهر زمام القصور وانتقال وظيفته إلى قراقوش الأسدى وحرب السودان 360
ذكر الحوادث فى الأيام الناصرية غير الفتوحات والغزوات 362
ذكر وصول الملك الأفضل نجم الدين أيوب والد الملك الناصر إلى الديار المصرية 362
ذكر إبطال الأذان بحىّ على خير العمل 362
ذكر ما أنشأه الملك الناصر صلاح الدين بالقاهرة ومصر من المدارس والخوانق 363
ذكر تفويض القضاء بالديار المصرية للقاضى صدر الدين بن درباس 364
ذكر وفاة الملك الأفضل نجم الدين أيوب 365
ذكر عمارة قلعة الجبل والسور 365
ذكر قتل جماعة من المصريين 367
ذكر ما استولى عليه الملك الناصر من البلاد الإسلامية بنفسه وأتباعه 371(28/482)
الموضوع الصفحة
ذكر استيلائه على اليمن 373
ذكر ملكه مدينة دمشق 374
ذكر ملكه مدينة حمص وحماه 375
ذكر حصره حلب وعوده منها وملكه قلعة حمص وبعلبك 376
ذكر انهزام عسكر سيف الدين غازى من الملك الناصر وحصره حلب ثانيا 377
ذكر الحرب بين الملك الناصر وسيف الدين غازى وانهزام غازى 378
ذكر ما ملكه الملك الناصر من بلاد الملك الصالح بعد هذه الوقعة 379
ذكر حصره مدينة حلب والصلح عليها 381
ذكر نهبه بلاد الإسماعيلية 381
ذكر عبوره الفرات وملكه الديار الجزيرية 381
ذكر ملكه مدينة سنجار 382
ذكر ملكه مدينة آمد وتسليمها إلى صاحب حصن كيفا 383
ذكر ملكه تل خالد وعين تاب 384
ذكر ملكه حلب 384
ذكر فتح الملك الناصر حارم 385
ذكر حصار الموصل 386
ذكر ملكه ميّافارقين 387
ذكر عوده إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين صاحبها 388
ذكر غزوات الملك الناصر وما افتتحه من بلاد الفرنج 390
ذكر غزوة بلاد الفرنج وفتح أيلة 391
ذكر محاصرة الشوبك وعوده عنها 391
ذكر وصول أسطول صقلية إلى ثغر الإسكندرية وانهزامه 392
ذكر مسيره إلى عسقلان وغيرها، وانهزام عسكر وعوده 393(28/483)
الموضوع الصفحة
ذكر وقعة مرج عيون وانهزام الفرنج وأسر ملوكهم 394
ذكر هدم بيت الأحزان 395
ذكر مسير الملك الناصر إلى بلاد الأرمن 396
ذكر مسيره إلى الشام والإغارة على طبريه وبيسان، وما كان من الظفر بمراكب الفرنج ببحر عيذاب 396
ذكر الإغارة على الغور 398
ذكر غزوة الكرك والشوبك وفتح طبريه ومجدل يابا ويافا 398
ذكر فتح عكا ونابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة ومعليا والفولة والطور والشّقيف وغير ذلك 401
ذكر فتح تبنين وصيدا وصرفند وبيروت وجبيل 401
ذكر فتح عسقلان وما يجاورها 402
ذكر فتح البيت المقدس 403
ذكر رحيله ومحاصرة صور 405
ذكر فتح هونين 407
ذكر فتح حصن برزية 408
ذكر فتح قلعة دربساك 409
ذكر فتح قلعة بغراس 409
ذكر الهدنة بين المسلمين وبين صاحب أنطاكية 410
ذكر فتح الكرك والشوبك وما يجاورهما 410
ذكر فتح قلعة صفد 411
ذكر فتح كوكب 411
ذكر فتح شقيف أرنوم 413
ذكر مسير السلطان من مرج عيون إلى صور وما كان عليها من الوقائع 414(28/484)
الموضوع الصفحة
ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها 415
ذكر رحيل السلطان عن منزلته وتمكن الفرنج من حصار عكا 419
ذكر وصول العسكر المصرى فى البر والأسطول فى البحر 420
ذكر خبر ملك الألمان وما كان من أمره إلى نهايته 421
ذكر الوقعة العادلية على عكا 425
ذكر وصول الكندهرى إلى عكا نجدة للفرنج وما جدده من آلة الحصار 426
ذكر ما كان من أمر الفرنج بعد وصول ابن ملك الألمان إلى عكا وما اتخذوه من آلات الحصار 427
ذكر وصول ملك افرنسيس 430
ذكر وصول ملك الإنكلتير 431
ذكر استيلاء الفرنج على عكا 432
ذكر ما كان بعد أخذهم عكا 434
ذكر هدم عسقلان 434
ذكر وقوع الصلح والهدنة العامة بين المسلمين والفرنج 436
ذكر وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب 437
ذكر من ملك الممالك التى كانت جارية فى ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف رحمه الله تعالى 440
ذكر أخبار الملك العزيز عماد الدين أبى الفتح عثمان ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب 442
ذكر استيلاء الفرنج على جبيل 442
ذكر مسير الملك العزيز إلى الشام والصلح بينه وبين أخيه الملك الأفضل وعوده إلى القاهرة 444
ذكر خروج الملك العزيز لقصد الشام ثانيا ورجوعه وقصد العادل والأفضل الديار المصرية وما تقرر من القواعد 446
ذكر ملك الملك العزيز دمشق وخروج الأفضل إلى صرخد 448(28/485)
الموضوع الصفحة
ذكر استيلاء الفرنج على بيروت 453
ذكر وفاة سيف الإسلام بن أيوب ملك اليمن وملك ولده شمس الملوك 454
ذكر وفاة الملك العزيز وشىء من أخباره 455
ذكر سلطنة الملك المنصور محمد بن الملك العزيز بن الملك الناصر وهو الثالث من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 456
ذكر وصول الملك الأفضل إلى القاهرة واستقراره فى تدبير دولة المنصور 457
ذكر مسير الملك الأفضل إلى الشام وحصار دمشق وعوده عنها وخروجه عن الديار المصرية 458
انتهى بحمد الله الجزء الثامن والعشرون- من تجزئة المطبوع- من كتاب نهاية الأرب، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع والعشرون.(28/486)
الجزء التاسع والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تمهيد
باسم الله، والحمد لله، وبعد:
فقد عهد إلىّ تحقيق هذا الجزء (التاسع والعشرين) من موسوعة «نهاية الأرب» للنّويرى (أحمد بن عبد الوهاب- المتوفّى سنة 733 هـ.) : الأديب المؤرخ- إعدادا لنشره.
ولما شرعت فى العمل، لم أجد فى أول الأمر غير نسخة مخطوطة واحدة لهذا الجزء، هى النسخة التى أخذت بالتصوير الشمسى عن الأصل المحفوظ بمكتبة «كوبريلّلى» بالأستانة، وهى موجودة بدار الكتب المصرية، وهى التى نرمز إليها بحرف (ك) . فعند المراجعة تبيّن لى أن هذه النسخة (ك) تحتوى على أخطاء عديدة، كما أن هناك نقصا فى بعض الكلمات أو العبارات. ولم يكن هناك سبيل لمعرفة صواب هذه الأخطاء، أو إكمال النقص، إلا بالرجوع إلى المصادر الأخرى التى كتبت عن هذا العصر- ولا سيما كتب المعاصرين للفترة، أو من تلاهم- فرجعت إلى «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزى وهو «أبو المظفّر» ، الذى يشير إليه المؤلف وينقل عنه كثيرا فى المتن، وكان معاصرا للدولة الأيوبية، كما رجعت إلى «الذّيل على الرّوضتين» لأبى شامه المؤرخ المعروف، وكان معاصرا أيضا- وان كان يتأخر فى الزمن قليلا عن ابن الجوزى- وإلى كتاب «الرّوضتين» أيضا لنفس المؤرخ، وكذلك كتاب «مفرّج الكروب» لابن واصل، وكتاب «السّلوك» للمقريزى و «النجوم الزاهرة» لابن تغرى بردى، ثم كتب التاريخ والتّراجم مثل: «الكامل» لابن الأثير و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان، و «حسن المحاضرة» للسّيوطى وهكذا.(29/5)
ومع ذلك، فما كان يمكن أن نعتبر أن التحقيق قد تمّ، أو بلغ الدرجة التى نشعر فيها بالتّقة، إلا إذا وجدت نسخة أخرى مخطوطة للأصل. وقد تم نقل صورة شمسية عن نسخة محفوظة بمعهد مخطوطات جامعة الدول العربية وتبين أن هذه النسخة بخط المؤلف «النويرى» نفسه! فحينئذ وصل التحقيق إلى مرحلته النهائية. وهذه النسخة الثانية نرمز إليها بحرف (ع) وبمراجعتها على النسخة (ك) اكتشفنا أن هذه ناقصة بعض الكلمات والعبارات، بل ناقصة بضع صفحات كاملة، وذلك فى أحداث سنتى: 619 و 620 هـ، ولما كانت النسخة (ع) هى بخط المؤلف فقد جعلناها الأصل المعتمد للتحقيق، فهى أقدم وأثبت، وجعلنا النسخة الأخرى (ك) مساعدة لها. ومن ثم أكملنا النقص الذى أشرنا إليه، ونقلنا الصفحات من النسخة (ع) ، وساعدتنا هذه أيضا على تصحيح كثير من الألفاظ. لم يكن من اليسير الوصول إلى صوابها بغيرها، وإن كانت هذه النسخة من وجه آخر، غير حسنة الخط، وتترك كلمات كثيرة بدون نقط، فالأولى تفوقها فى حسن الخط وظهوره، كما وجدنا أن النسخة (ع) بدورها ناقصة بضع صفحات، فعلى العموم كانت كل منهما مكمّلة للأخرى. وبهما، وبالمصادر السابقة وغيرها، وصلنا إلى اكمال وتصويب المتن إلى أقصى درجة ممكنة.
وكان لابدّ من تنظيم المتن، وتقسيمه إلى فقرات، وتحديد الجمل بالفواصل، وضبط أسماء الأعلام والأماكن، وغيرها من الكلمات التى تحتاج إلى الضّبط، حتى تكون قراءة المتن سهلة، ويمكن الإفادة منها. وكان من الضرورى بعد ذلك- وهذه هى المرحلة الثانية فى المهمة- إكمال المتن بشرح ألفاظه، والتعليق على الأحداث، والمصطلحات التّاريخيّة، وتحديد المواضع الجغرافية، والتعريف بالأعلام الواردة فيه بنبذ موجزة، حتى تتّضح معانى الوقائع، وتظهر روح العصر الذى حدثت فيه، وتزيد الفائدة العلمية للكتاب.(29/6)
وهذه الحقبة التى يتناولها هذا الجزء من كتاب «النويرى» - تمتد من عام 596 هـ: من بدء دخول «العادل» أبى بكر بن أيوب القاهرة، ليبدأ ملكه وملك أسرته فيها، ثم فى الأقطار المجاورة: فلسطين وسوريا ولبنان والعراق والجزيرة، واليمن أيضا- حتى آخر سنة 658 هـ: أى بدء عهد الظاهر بيبرس.
فهى حقبة تبلغ أكثر من ستين عاما وتشمل أحداثا هامة من تاريخ مصر والشرق العربى، فهى تضمّ جزءا من تاريخ الحروب الصّليبيّة، وتاريخ الدولة الأيّوبيّة فى مصر والشام والجزيرة منذ بدء عهد العادل، ثم نهاية هذه الأسرة وقيام دولة المماليك، وغزو التّتار وموقعة عين جالوت، وغير ذلك. هذا إلى الجوانب الأدبية والاجتماعية.
ونأمل أن نكون قد أدّينا مهمتنا التى عهد إلينا بها على الوجه الذى يحقق أكبر فائدة. والعصمة لله وحده، وبالله تعالى التّوفيق.
القاهرة صفر 1383 يوليه 1963 محمد ضياء الدين الريس(29/7)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية]
[ذكر أخبار الدولة الأيوبية]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
ذكر أخبار السّلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وسلطنته
كان دخول السلطان الملك العادل إلى القاهرة فى يوم السبت، لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر، سنة ستّ وتسعين وخمسمائة- فى يوم خروج الملك الأفضل «1» منها.
فاستبقى رضاء الأمراء النّاصريّة «2» ، بإبقاء الخطبة للملك المنصور بن(29/9)
الملك العزيز. وأعاد قاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس «1» ، إلى القضاء- وكان الأفضل قد عزله واستقضى زين الدّين علىّ بن يوسف «2» .
واستدعى الملك العادل ابنه الملك الكامل من حرّان «3» إلى الديار المصرية، ليستنيبه بها. فسلّم تلك الولاية لأخيه الملك الفائز، ووصل إلى دمشق، فى سادس عشر شعبان من السنة- ومعه شمس الدين، المعروف بقاضى دارا، وهو وزيره. وخرج من دمشق فى الثالث والعشرين من الشهر، ووصل إلى القاهرة لثمان بقين من شهر رمضان. فالتقاه والده وأنزله بالقصر. ثم ركب إليه بعد يومين، واستصحبه معه إلى الدار- وكان قد زوّجه بابنة عمه الملك الناصر، فدخل بها.(29/10)
قال: وركب الملك العادل- فى يوم الاثنين- بالصّنجق «1» السّلطانى. وأمر الخطباء بالخطبة له ولولده: الملك الكامل بولاية العهد من بعده- بعد الخليفة «2» - فخطب لهما فى الحادى والعشرين من شوال، سنة ست وتسعين وخمسمائة. وانقطعت خطبة المنصور بن الملك العزيز، وأولاد الملك الناصر صلاح الدين يوسف، فلم تعد إلى الآن. وانتقل ملك الديار المصرية إلى البيت العادلى، فكان فيهم إلى أن انقرضت الدولة الأيّوبيّة.
قال المؤرّخ: ولم يقطع الملك العادل خطبة الملك المنصور إلا بعد أن أحضر الفقهاء والقضاة، واستفتاهم: هل تجوز ولاية الصغير والنيابة عنه؟
فقالوا: إن الولاية غير صحيحة، ولا تصح النيابة- لا سيما فى السلطنة- فإنه لا حقّ فيها للصغير. فأحضر الأمراء وخاطبهم فى اليمين له، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له. قال: وركب الملك الكامل فى يوم السبت بالصّنجق السلطانى- على عادة الملوك.
قال: ولما وصل الملك العادل، كان الصاحب: صفى الدين عبد الله ابن على بن شكر «3» فى صحبته، فاستوزه. وكان- على ما حكى- قد استحلف الملك العادل بالبيت المقدس، أنه متى حصل له ملك الديار(29/11)
المصرية يمكّنه من المصريّين، فحلف له على ذلك. فلما ولى السلطنة استوزره، ومكّنه.
ذكر الغلاء الكائن بالديّار المصرية فى الدولة العادلية وهو الغلاء المشهور
قال المؤرخ: كان ابتداء هذا الغلاء من استقبال شوال- وقيل ذى القعدة- سنة ست وتسعين وخمسمائة، إلى ذى القعدة سنة تسع وتسعين، فكانت مدته ثلاث سنين وشهرا.
وذلك أن قرار النيل فى سنة ست وتسعين كان مقداره ذراعان «1» ، وبلغ غايته إلى اثنى عشر ذراعا «2» وإحدى وعشرين إصبعا. فصام الناس ثلاثة أيام، قبل يوم التّروية «3» ، واستسقوا ثلاثة أيام، آخرها يوم العيد. ثم أخذ الماء فى النقص، فاشتد الغلاء وامتد البلاء، وهلك القوىّ، فكيف الضّعيف!. قال العماد الأصفهانى: وبلغ سعر القمح عن كل إردب الكيل المصرى خمسة دنانير. واستقر القاع فى سنة سبع وتسعين على ذراعين، وبلغ(29/12)
غايته خمسة عشر ذراعا ونصف ذراع. فعدم الناس القوت، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا أولادهم والميتة. وخرج خلق كثير من الديار المصرية إلى الشام والسواحل.
وحكى ابن جلب راغب «1» فى تاريخ مصر: أنه نودى على دجاجة، تزويد فيها إلى أن بلغت ألف درهم ورقا. وبيعت بطيخة بفرس. قال:
وكانت الدّجاجة تباع بالأوقية. وحكى- أيضا- أن بعض الناس سمع صياح امرأة، تفتر ثم تعاود الأنين والصراخ! فتتبع الصوت، حتى انتهى به إلى منزل وفيه امرأة سمينة ملقاة، وشاب يقطع من لحم فخذها. فلما راتهم قالت: لا تعارضوه فإنه ابنى، وأنا قلت له يقطع من لحمى، ويأكل ويطعمنى، مما آلمنا من الجوع! ولم يسمع بمثل هذا.
ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره
هو القاضى الفاضل الأسعد محيى الدين، أبو على عبد الرحيم، بن القاضى الأشرف أبى الحسين على بن الحسن، بن الحسين بن أحمد، بن الفرج «2» بن أحمد، اللّخمى- الكاتب. كانت وفاته فجأة فى ليلة الأربعاء، السابع من شهر ربيع الآخر، سنة ست وتسعين وخمسمائة.
ومولده بعسقلان فى خامس عشر جمادى الآخرة، سنة تسع وعشرين وخمسمائة.(29/13)
وكان أبوه قاضى عسقلان «1» ، وصاحب ديوانها. ونسبته إلى بيسان نسبة انتقال. وذلك أن قاضى عسقلان كان قاضى البلاد الشمالية من ساحل الشام، وبيسان «2» فى ولايته. وكان إذا خرج إليها قاض لحقه من الوخم ما يوجب مرضه، ومنهم من يموت. فقرر قاضى عسقلان على الشهود أن يخرج كلّ واحد منهم إلى بيسان ثلاثة أشهر، ويعود، ويخرج غيره. فجاءت النّوبة لحد القاضى الفاضل «3» ، فمضى إليها وصح بها جسمه. فاختار الإقامة بها. فأجيب إلى ذلك وعمر بها أملاكا، فعرف بالبيسانى.
ثم تقلبت بوالد القاضى الأحوال إلى أن ولى القضاء بعسقلان، والنظر فى أموالها. وبقى إلى زمن الظافر «4» ، فدخل إلى مصر لمحاققة واليها «5» بسبب كند كبير «6» ، من الفرنج كان الوالى داجى عليه وأطلقه. فانتصر(29/14)
بعض الأمراء للوالى ونصروه، فخانق الأسعد «1» . وصودر، ووقع التحامل عليه، إلى أن لم يبق له شىء.
وخرج ولده الفاضل إلى ثغر الإسكندرية، واجتمع بابن حديد- القاضى والناظر بها- وعرّفه بوالده فعرفه بالسّمعة، فاستكتبه ابن حديد، وأطلق له معلوما. وبقيت كتبه ترد إلى مجلس الخلافة بخط الفاضل وهى مشحونة بالبلاغة. فكشف عن ذلك ابن الخلّال والجليس بن الحبّاب- وكانا فى ديوان المكاتبات- فحسداه على فضيلته، وعلما أنه يتقدم، فقالا للظافر عنه: انه قصّر فى المكاتبة.
وكان صاحب ديوان المجلس- الأثير بن بنان- يحكى أنه دخل على الظافر، فأمره أن يكتب لابن حديد بقطع يد كاتبه، بسبب أنه جعل بين السطرين الأولين مقدار شبر، وهذا سوء أدب، فقال الأثير للظافر: يا أمير المؤمنين، تأمر بإحضار الكتب، فأحضرت. فلما قرأها الأثير علم فضل الفاضل، فقال له: هذا الكاتب لم يحصل منه سوء أدب، وانما حسد على بلاغته، فعمل على أذاه. فقال: اكتب لابن حديد يسيره إلينا،(29/15)
لسنتخدمه. فصار من كتاب الدّرج «1» ، فى أواخر الدولة العبيديّة «2» .
وأما اتصاله بملوك الدولة الأيوبية فحكى عن الأثير بن بنان أنه قال:
لما ولى أسد الدين شيركوه اختص به ابن الصقيل البلنسى «3» . وكنت بالقصر أنا والفاضل، فدخل علينا ابن الصقيل وقال: كنت البارحة عند السلطان، وذكركما وتوعّدكما بالقتل. ثم خرج من عندنا. فلم يكن بأسرع من أن طلبنا أسد الدين من العاضد، فأرسلنا إليه.
قال الأثير: فلما دخلنا عليه وجدنا الأمراء عنده. فسلمت سلاما سمعه من حضر، فلم يرد علينا! فقلت له: ولم لا ترد السلام؟ فالتفت إلىّ، وقال: لستما عندى من أهل السلام! لأن النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
السلام تحية لملّتنا، وأمان لذمتّنا. ولا تحية لكما عندى! فوقفنا، فقلت:
لا قدرة لى على القيام، فقال أجث، فجثوت. ثم قلت ولم لا أتربع؟
ففسح لى فى ذلك. قلت: وصاحبى. قال: وصاحبك.(29/16)
ثم التفت إليه دونى، وقال له: تكتب للفرنج، على لسان شاور، وتقول فى حقنا ما قلت، وتحثهم على قتالنا! والله لأقتلنك شرّ قتلة، ولأسلّن لسانك، ولأقطعنّ يدك ورجلك، من خلاف!! فقلت: أدام الله سلطان مولانا. هذا القاضى إذا عدم، لا يوجد مثله فى جميع البلاد. فالتفت إلىّ، وقال: نجرّب قولك. وقال له: أكتب كتابين: أحدهما للمولى نور الدين بن زنكى، يقرأ على منبر دمشق يهنّيه بالفتوح، وكتاب يقرأ على منبر القاهرة. واشتغل فى الحديث. فسارع الفاضل فى نجاز «1» الكتابين، وجعل أسد الدين يسارقه النظر، والفاضل يكتب كأنه يكتب من حفظه. وفرغ منهما إلى أسرع وقت. فقال أسد الدين: أقرأهما، فقرأهما. قال الأثير: والله لو حسن الرقص فى ذلك المكان، لرقصت!.
فعند ذلك التفت إلىّ أسد الدين، وقال: يا قاضى، جزاك الله خيرا فى حقه. عندنا كتبة بالشام نأمرهم بالشىء، فيمضون ويقيمون اليوم واليومين، ولا يأتون به على الغرض. وهذا قلنا له كلمتين، كتب هذه الكتب التى لا نظير لها. وأقمنا عنده إلى صلاة المغرب، فقام للصلاة. فقال لى: تقدم. فقت: هذا أفضل منى، لأنى توليت المكوس «2» ، وهذا لم يل شيئا منها. فتقدم الفاضل وصلّى. واتصل به. هذا ما نقل عن الأثير بن بنان.(29/17)
وقيل: إنه لما اتصل بخدمة الملك الناصر صلاح الدين، وأن الأثير كان يكتب بين يديه قبله، فاشتكى من بطئه فى المكاتبات، فقيل له: إن الأسعد البيسانى لم يكن فى الكتاب أرشق منه. فاستدعاه وأمره بكتاب، فكتب بين يديه وبالغ فيه، وأسرع فى نجازه وقرأه عليه. فعظم عند الملك الناصر، ونعته بالقاضى الفاضل. وكان له شعر حسن.
وقيل: إن أول اتصال الفاضل بالدولة العبيديّة فى أيام العادل بن الصالح ابن رزّيك «1» . وأنه استخدم فى ديوان الجيوش، فأقام فيه مدة.
فلما كانت دولة شاور الثانية، نقله إلى ديوان المكاتبات شريكا للموفّق بن الخلّال. فلم يزل إلى أيام أسد الدين، فاتفق له ما ذكرناه.
ولما استقرّ الملك الناصر فى الملك، علت منزلته عنده، واختص به وقرب منه، وتمكن فى دولته. قال: ومن سعادة الفاضل أنه مات قبل ملك العادل، لأنه كان بينهما شحناء باطنة. ولما مات، صلىّ عليه الملك الأفضل. ودفن بسفح المقطم- رحمه الله. وقد ذكرنا من كلامه فى باب كتابة الإنشاء ما يدل على تمكنه وفضله.(29/18)
واستهلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة
ذكر الخلف الواقع بين الأمراء الصّلاحيّة «1» والسلطان الملك العادل
قال المؤرخ: كان ابتداء فساد الحال بينهم فى سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وسبب ذلك أن الملك العادل لما ملك الديار المصرية أقطع الإقطاعات المخلولة عن الأمراء المنصرفين عن الخدمة، وحاسب المستمرين حسابا شديدا، فساءت ظنونهم وتغيرت قلوبهم، وفسدت نياتهم.
وكان فارس الدين ميمون القصرى «2» مقيما بنابلس، فلما بلغه إسقاط خطبة الملك المنصور بن العزيز، واستقلال الملك العادل بالملك- عظم ذلك عليه ونفر منه، وأنكره. وكتب إلى الملك العادل يقول: «إنا دخلنا فى طاعتك، ونصرناك على موالينا: أولاد الملك الناصر، مراعاة للملك العزيز، وخوفا أن يتطرق إلى ولده ضرر ويزول عنه ملكه، ولا بد أن تعيده إلى حاله. وإن لم ترجع عما فعلت، كان ذلك سبب فساد قلوب الجند، ودخول الوهن على الدولة» . فغالطه العادل فى الجواب.
فراسله ميمون ثانيا يقول إنا كنا حلفنا على قاعدة، فإن كانت تغيرت فلا يسعنا المقام بعد ذلك بهذه الدار، وأنا أسال أن أعطى دستورا «3» ليقوم(29/19)
عند الله وعند الناس عذرى، فأرسل إليه الملك العادل، يقول: لم أدخل فى هذا الأمر إلا بعد أن رضى به الجماعة. فإن كرهت مجاورتى فصر إلى أرزن الروم»
، وتزوج بصاحبتها ماما «2» خاتون، فإنها أرسلت إلىّ وطلبت منى من أنفذه إليها.
وكان «ميمون» قد كاتب الأمراء الصّلاحيّة، فأجابوه: «إنا قد افتضحنا بين الناس بأننا نقيم فى كل يوم ملكا، ونعزل آخر. ثم إلى من نسلم هذا الأمر؟ أما الملك الأفضل فغير أهل، وغيره من إخوته فغير عظيم فى الأنفس. والملك الظاهر بعيد عنا، ولا يمكنه أن يترك بلاده ويصير إلينا.
قال: واتفق ورود رسل الملك الظاهر- صاحب حلب- إلى عمه العادل، فى شهر ربيع الآخر من السنة، وهما: نظام الدين كاتبه، وعلم الدين قيصر الصّلاحى. فلما وصلا إلى بلبيس، أرسل العادل إليهما أن لا يدخلا القاهرة. وأن يذكرا رسالتهما لقاضى بلبيس يبلغها عنهما، وإن لم يفعلا فيرجعا إلى صاحبهما.
فعادا إلى الملك الظاهر، واجتمعا بميمون القصرى فى عودهما، ورغباه فى الخدمة الظاهرية. فمضى إلى صرخد «3» وبها الملك الظافر أخو الأفضل. ولحق بميمون جماعة من الصلاحية.(29/20)
واعتزل عنه فخر الدين جهاركس «1» فى قلاعه- وكان معه بانياس «2» وتبنين «3» وشقيف أرنون «4» ووافقه على الاعتزال زين الدين قراجا، وأظهر الاعتزال عن الفريقين. وباطنهما مع الملك العادل.
قال: ولما وصل ميمون إلى صرخد، كاتب الأفضل والظاهر ودعاهما إليه. وأنفذ إلى الملك الظاهر فخر الدين الطّنبا الجحاف «5» فلما وصل إليه، قوى عزم الملك الظاهر على الخروج. فراسل ميمون، وأخذ عليه وعلى من معه من الأمراء العهود والأيمان.(29/21)
ثم قدم عليه أخوه الأفضل فى تاسع جمادى الأولى، وسارا إلى أفاميه «1» ، وبها قراقوش- مملوك شمس الدين بن المقدّم «2» - فأغلق الأبواب دونهما، وامتنع من تسليمها. فضرب الظاهر ابن المقدّم «3» تحت القلعة ضربا موجعا، بحيث يراه مملوكه قراقوش، فلم يكترث لذلك. وراسله ابن المقدّم فى تسليمها، فامتنع كل الامتناع. فلما أيس الظاهر منه أرسل ابن المقدم إلى حلب، وأمر باعتقاله بها.
وسارا بعد ذلك إلى بعلبك لقصد دمشق، وسار إليهما ميمون القصرى ومن معه والملك الظافر، واجتمعوا بمكان يعرف بالزّرّاعة «4» . وتشاوروا على قصد دمشق، وبها يومئذ الملك المعظم عيسى بن العادل وهو صغير، والقيّم بأمره فلك الدين سليمان بن شروة بن جلدك- وهو أخو العادل لأمه- ومن الأمراء الأكابر عز الدّين أسامة «5» . فساروا بأجمعهم إلى دمشق، وحاصروها فى رابع عشر ذى القعدة، سنة سبع وتسعين، واشتد الحصار.(29/22)
قال: ولما اتصل بالملك العادل خروج الظاهر من حلب، خرج من القاهرة فى شهر رمضان من السنة. وجدّ السير إلى أن نزل على نابلس، وجعل يعمل الحيل والمكايد بين الظاهر والأفضل، وإفساد قلوب الأمراء الذين مع الظاهر. وأرغب الملك الظاهر أنه إن فارق أخاه الأفضل يملكه قطعة من بلاد المشرق، التى بيد العادل.
وكاتب الظاهر فخر الدين جهاركس، وزين الدين قراجا، وأرغبهما فى الانضمام إليه. فوقع الاتفاق معهما- بعد مراجعة- أن الأفضل يسلم لزين الدين قراجا صرخد وعشرة آلاف دينار، وللأمير فخر الدين جهاركس عشرين ألف دينار. واستقرت القاعدة على ذلك. فلما تسلما ذلك وصلا إلى الخدمة الظاهرية، واجتمعا بالأفضل والظاهر.
ثم شرعا يستوقفان الأمراء عن حصار دمشق «1» . فاتصل ذلك بالملكين فهرب جهاركس وقراجا وصار إلى بانياس، فراسلهما الظاهر وقبّح فعلهما.
فأعادا الجواب: إنا قد استشعرنا الخوف بسبب ما نسب إلينا. ونحن على الطاعة ومتى فتحت دمشق كنا فى خدمتكما. وجدّ الظاهر فى حصار دمشق إلى أن نزل وقاتل بنفسه، وجرح فى رجله بسهم. ثم هرب الطّنبا الهيجاوى من عسكر الظاهر وتلاه علاء الدين شقير، ودخلا دمشق. ودخل معهما(29/23)
جماعة من المفاردة «1» فانحلّ لذلك عزم الظاهر، ورجع عن دمشق إلى بلاده وصحبه الملك الأفضل.
وقيل: بل كان سبب الرجوع عن دمشق أن الاتفاق كان قد حصل بين الأخوين: الأفضل والظاهر، على أنه إذا فتحت دمشق كانت للأفضل. فإذا استقر بها، سار هو والظاهر إلى مصر، وقاتلا العادل، فإذا حصلت مصر لهما تكون حينئذ للأفضل، ودمشق للظاهر. فلما قوى الحصار على دمشق ولم يبق إلا فتحها، حسد الظاهر أخاه الأفضل عليها، وقال آخذها لنفسى. فلاطفه الأفضل وسأل أن ينعم بها عليه، فامتنع، وقال:
إن فتحت تكون لى دونك. فلما أيس منه الأفضل، خرج من ساعته واجتمع بالأمراء، وقال: إن كنتم خرجتم إلى فقد أذنت لكم فى الرجوع إلى العادل، وإن كنتم خرجتم إلى أخى الظاهر فشأنكم وإياه. وكتب فى الوقت إلى عمه الملك العادل، وهو يطلب منه سميساط «2» وسروج «3» ورأس العين «4» ، فأعطاه ذلك، وحلف عليه. فلما اتصل ذلك بالظاهر كتب أيضا(29/24)
إلى عمه العادل، يطلب منه منبج «1» وأفامية «2» وكفر طاب «3» ، فأعطاه ذلك. وارتحلا عن دمشق.
فبقى الأفضل بسميساط، إلى أن مات.
وعاد الظاهر إلى حلب. وصحبه ميمون القصرى. فأقطعه الظاهر إقطاعات عظيمة. وهى: أعزاز «4» وقلعتها، والخوار «5» وبلدها، ونهر الجوز «6» وبلده، وجسر «7» الحديد وبلدها، وأماكن متفرقة، وأكرمه إكراما تاما. وبقى فى خدمته، إلى أن مات فى سنة عشر وستمائة. وسار معه أيضا سرا سنقر والفارس البكّى، وجماعة الصّلاحيّة، وأقطعهم الإقطاعات الحسنة.(29/25)
وكان رحيلهم عن دمشق فى ذى الحجة، سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وسار الملك العادل ودخل دمشق. واصطلح مع الملك المنصور صاحب حماه. وتزوج العادل ابنته.
ذكر اتفاق الملوك الأيّوبيّة وما استقر لكل منهم من الممالك
قال المؤرخ: ثم استقرت القاعدة بين الملوك، فى سنة تسع وتسعين وخمسمائة على أن يكون للملك العادل الديار المصرية، ودمشق والسواحل وبيت المقدس، وجميع ما هو فى يده ويد أولاده ببلاد الشرق.
وأن يكون للملك الظاهر حلب وما معها. وأن يكون للملك المنصور- ناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب- حماه وأعمالها، والمعرّة وسلميّه «1» وبارين «2» .
وأن يكون للملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه(29/26)
حمص، والرّحبة «1» ، وتدمر «2» . وأن يكون للملك الأمجد، بن فرّخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب، بعلبك وأعمالها.
وأن يكون للملك الأفضل، بن الملك الناصر، سميساط «3» وبلادها، لا غير.
وأن يقطع الملك الظاهر خبز «4» عماد الدين المشطوب «5» ولا يستخدمه. فقطع خبزه، فصار إلى الملك العادل فلم يستخدمه، وقال له: تخدم بعض أولادى. فقصد الملك الأوحد، فلم يستخدمه. فاستخدمه الملك الأشرف، وندبه لحصار ماردين، وحلف له على أربعمائة فارس، إذا فتحت. فسار ابن المشطوب إليها وحاصرها، فأرسل صاحبها إلى الملك الأشرف خمسة آلاف دينار، فتركها.
نعود إلى أخبار الملك العادل، فى أثناء هذه المدة التى قدمنا ذكرها، والحوادث التى وقعت فى خلالها.(29/27)
وفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، فى ذى القعدة، اعتقل الملك العادل، الملك المؤيد والملك العزيز وهما: ابنا أخيه صلاح الدين يوسف.
رحمه الله تعالى.
ذكر خبر الزلزلة الحادثة بالديار المصرية والبلاد الشامية، وغيرها
وفى هذه السنة فى شعبان، جاءت زلزلة من الصعيد، فعمت الدنيا فى ساعة واحدة. وهدمت أماكن كثيرة بالديار المصرية، ومات تحت الهدم خلق كثير.
وامتدت إلى الشام والساحل، فهدمت مدينة نابلس، فلم يبق بها جدار قائم إلا حارة السامرة «1» ، ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا. وهدمت عكا وصور وجميع قلاع الساحل. وامتدت إلى دمشق، فرمت بعض المنارة بالجامع، وأكثر الكلّاسة والبيمارستان النّورى، وعامة دور دمشق إلا القليل. وهرب الناس إلى الميادين. وسقط من الجامع ستة عشر شرفة «2» ، وتشققت قبّة النّسر «3»(29/28)
وتهدمت بانياس «1» وهونين «2» وتبنين «3» . وخرج قوم من بعلبك يجمعون الرّيباس «4» من جبل لبنان، فالتقى عليهم الجبلان، فماتوا بأسرهم.
وتهدمت قلعة بعلبك- مع عظم حجارتها. وامتدت إلى حمص، وحماه، وحلب، والعواصم.
وقطعت البحر إلى قبرص، وانفرق البحر فصار أطوادا، وقذف بالمراكب إلى الساحل، فتكسرت. ثم امتدت إلى خلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة.
وأحصى من هلك فى هذه السنة، بسبب هذه الزلزلة، فكانوا ألف ألف إنسان، ومائة ألف. وكانت قوة الزّلزلة، فى مبدأ الأمر، بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف. ثم دامت بعد ذلك أياما.
حكى ذلك أبو المظفر يوسف سبط بن الجوزى «5» فى تاريخه: «مرآة الزمان» . وقد ذكرت زلزلة أيضا فى شعبان، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة،(29/29)
وذكر مما حدث بسببها نحو هذا. فالله أعلم: هل هى هذه، أو هما اثنتان؟.
وفى هذه السنة توفى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، الزّمام «1» ، فى مستهل شهر رجب بالقاهرة، وله من العمر ثمان وثمانون سنة:
وهو الذى عمّر سور القاهرة، وقلعة الجبل «2» وقناطر نهيا «3» من الجيزة. وعمر بالمقس «4» رباطا، وبظاهر القاهرة- خارج باب الفتوح- سبيل. والناس ينسبون إليه فى ولايته أحكاما غريبة، حتى وضع الأسعد بن ممّاتى خبرا لطيفا، سماه «الفاشوش فى أحكام قراقوش» ، ذكر فيه أشياء يبعد وقوعها من مثله «5» ، فإن الملك الناصر صلاح الدين يوسف،(29/30)
مع حسن تدبيره وسداد رأيه، كان يعتمد عليه فى المهمات الجليلة والمناصب العالية، وثوقا بمعرفته وكفايته. والله أعلم. ولما مات، أقطع الملك العادل إقطاعه لابنه الملك الكامل.
وفيها، فى يوم الاثنين مستهل شهر رمضان، توفى بدمشق القاضى عماد الدين محمد بن محمد بن حامد، الأصفهانى، الكاتب، صاحب الخريدة، والرسائل المشهورة «1» . ومولده فى يوم الاثنين، ثانى جمادى الآخرة، سنة تسع عشرة وخمسمائة.
وفيها كانت وفاة الشيخ جمال الدين أبو الفرج: عبد الرحمن، بن على، بن عبيد الله، بن حماد، بن أحمد، بن جعفر، الجوزى الواعظ، البكرى التّيمى ببغداد، فى الليلة المسفرة عن يوم الجمعة، ثالث عشر رمضان. ودفن يوم الجمعة عند قبر الإمام أحمد بن حنبل- رحمهما الله تعالى.(29/31)
واستهلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة:
ذكر عمارة المسجد الجامع بقاسيون
فى هذه السنة، شرع الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى الحنبلى شيخ المقادسة- رحمه الله تعالى- فى بناء المسجد الجامع، بجبل قاسيون «1» . وكان بالجبل رجل فامى «2» ، يقال له أبو داود، فوضع أساسه وبلغ قامة، وأنفق عليه ما كان يملكه. وبلغ مظفّر الدين بن زين الدين صاحب إربل ذلك، فبعث إلى الشيخ أبى عمر مالا يملكه، ووقف عليه وقفا. ثم أرسل ألف دينار. وأراد أن يسوق إليه الماء من برزه «3» ، فقال الملك المعظم عيسى: طريق الماء كلها مقابر، فكيف يجوز أن تنبش أموات المسلمين! وأشار أن يشترى بغل يدور بدولاب، ويشترى ببقية المال مكان يوقف عليه. ففعلوا ذلك.
ذكر وفاة الملك المعز صاحب اليمن وقيام أخيه نجم الدين أيوب
كانت وفاة الملك المعز: فتح الدين أبى الفدا إسماعيل، بن الملك العزيز، ظهير الدين أبى الفوارس: سيف الإسلام طعتكين «4» بن أيوب،(29/32)
ملك اليمن بالقرو «1» من أعمال زبيد، فى شهر رجب سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
وكان قد ادعى أنه من بنى أمية، وتلقب بألقاب الخلفاء، وهو الإمام الهادى بنور الله، المعز لدين الله، أمير المؤمنين. وغيّر زيّه، فلبس القميص الواسع والعمامة والطّيلسان. وكتب إليه عمه العادل ينكر عليه ذلك، فلم يجبه. وكان سبب ذلك أن الشعراء باليمن سموه فى مدائحهم بالخليفة، وفضلوه على من سواه. ومنهم من امتدحه بقوله:
بنى العباس هاتوا ناظرونا..
وهى أبيات لم يقع منها غير هذا.
ولما مات، قام بعده بملك اليمن أخوه: نجم الدين أيوب، وتلقب بالناصر. وكان دون البالغ، فقام بأمره سيف الدين: مملوك أبيه.
وفيها توفى الرئيس مؤيّد الدين، أبو المعالى: أسعد، بن عز الدين أبى يعلى حمزة، بن القلانسى التّميمى «2» بدمشق، فجأة فى رابع عشرين شهر ربيع الأول. ومولده فى سابع عشر شهر رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائة.(29/33)
وكان رئيس دمشق وكبيرها وصدرها. وسائر أهل البلد تحت حكمه، وهو المقدم عليهم. وكان الدماشقة فى الزمن الأول لكل طائفة منهم مقدم، يركبون «1» مع الملوك ويجاهدون «2» الفرنج. ولكل طائفة قطعة من السور يحفظونها، بغير إقطاع لهم على ذلك ولا جامكيّة «3» . وما برح الحال على ذلك إلى زمن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، فأبطل ذلك وقال:
لا نقاتل بالعوام. وإنما فعل ذلك خوفا على نفسه منهم، فإنهم كانوا إذا طلبهم ملك قتلوه. ولما ولى الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل دمشق، شرع فى مصادرة أكابر دمشق واستئصال أموالهم. فاشتغلوا بالظلم عما كانوا بصدده، من ركوب الخيل وجمع السلاح، وغير ذلك.
وكان مؤيّد الدين هذا رئيس دمشق فى زمانه، ومقدم الجماعة. بحيث أنه لا يباع من أملاك دمشق ملك، حتى يأتيه جماعة ويشهدون عنده أنه ملك البائع، انتقل إليه بالميراث أو الابتياع. فإذا ثبت ذلك عنده كتب بخطه فى ذيل الكتاب ليشهد فيه بالتبايع، فيشهد الشهود بعد ذلك. وخطه موجود فى الكتب القديمة بذلك. وكان رحمه الله تعالى من أرباب المروءات لمن قصده ولجأ إليه.
وله نظم حسن، فمن نظمه:
يا رب جد لى إذا ما ضمّنى جدثى ... برحمة منك تنجينى من النار
أحسن إلىّ إذا أصبحت جارك فى ... لحدى، فإنك قد أوصيت بالجار(29/34)
وتوفى والده عز الدين «1» حمزة يوم الجمعة، سابع شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ودفن بقاسيون. وكان فاضلا حسن الخط والنظم. وجمع تاريخا لحوادث سنة أربعمائة إلى حين وفاته- رحمهما الله تعالى.
وفى يوم عيد النحر من هذه السنة، ورد إلى فوّه»
مراكب الروم فنهبوها نهبا شديدا.
واستهلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة:
فى هذه السنة أخرج الملك العادل الملك المنصور، بن العزيز، من الديار المصرية إلى الرّها «3» .
وفيها ملك الفرنج القسطنطينية من الروم.
وخرج الفرنج منها لقصد الساحل. [فجمع الملك العادل عساكره وخرج إليهم. فاستقر الصلح بينه وبينهم على أن يكون لهم من بلاد المناصفات «4» أشياء، مثل الرّملة والناصرة.(29/35)
وفيها بعث الخليفة- الناصر لدين الله- الخلع إلى الملك العادل وأولاده، وسراويلات الفتّوة «1» ، فلبسوها فى شهر رمضان «2» ] .
ذكر حصار ماردين «3» وما حصل من الاتفاق
وفى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، جمع السلطان الملك العادل عساكره، وفرق فيهم السلاح والأموال، وقدم عليهم ولده: الملك «الأشرف موسى» ، وأمره بالمسير إلى ماردين. فسار إليها وحاصرها، وشدد الحصار.
فدخل الملك الظاهر غازى، صاحب حلب، فى الصلح بين عمه وصاحب ماردين. فأجاب الملك العادل إلى الصلح- على أن يخطب له صاحب ماردين فى جميع بلاده، ويضرب السّكّة باسمه، ويحمل إليه مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويكون عسكر ماردين فى خدمته، متى طلبه.
فأجاب صاحب ماردين إلى ذلك.
فرحل الملك الأشرف عنها، وحمل صاحب ماردين إلى الملك الظاهر عشرين ألف دينار، لتوسطه فى الصلح.(29/36)
وحكى أن السبب فى حصار ماردين أن شاعرا، يقال له الكمال، قال:
متى تقبل الرايات من أرض جلّق «1» ... وتنتزع الشهباء من كفّ أرتق «2» !
فبلغ هذا البيت أرتق صاحب ماردين، فاعتقل هذا الشاعر. فاتصل خبره بالملك العادل، فندب هذا الجيش إليها. والله أعلم.
وفى هذه السنة- فى أواخرها- حصل الشروع فى عمارة سور قلعة دمشق. فابتدىء ببرج الزاوية القبلى منها، المجاور لباب النصر.
وفيها ماجت النجوم شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر، يمينا وشمالا. ولم ينقل ذلك إلا فى مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، وفى سنة إحدى وأربعين ومائتين. ويقال إن هذه السنة كانت أكثر انتشارا. والله أعلم.
واستهلت سنة ستمائة
فى هذه السنة وصلت مراكب الفرنج من ساحل عكا إلى فوّه «3» ، فنهبوها وغنموا كثيرا من أطرافها. وأقاموا عليها خمسة أيام. وخرج بعض عساكر مصر فقاتلتهم.(29/37)
وفيها كانت وفاة الحافظ: عبد الغنى بن عبد الواحد بن على، ابن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسى الحنبلى، الجمّاعيلى. ولد بجمّاعيل «1» - وهى قرية من أعمال نابلس، فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة.
وفيها، فى العاشر من جمادى الأولى، كانت وفاة القاضى السعيد أبو القاسم: هبة الله بن أبى الرّدّاد «2» - متولى المقياس بجزيرة مصر- وكان خطيب الجامع.
واستهلت سنة إحدى وستمائة:
فى هذه السنة رخصت أسعار الديار المصرية. وبلغ سعر القمح ستة أرادب بدينار.
وفيها قدم الملك العادل من الشام فى ثالث جمادى الآخرة وتوجه إلى الإسكندرية، وحصّل منها أموالا جمّة.(29/38)
وفيها، أخرج الملك الكامل أولاد الخليفة العاضد لدين «1» الله، وهم: داود والمظفّر، إلى الإيوان بالقصر، وقيدهم، وأخذ جميع ما كان عندهم من الأقمشة والأوانى وغير ذلك.
وفيها ابتدأ الصاحب صفى الدين بن شكر بمصادرة أصحاب الدواوين، ومستخدمى الدولة والمتعينين، وأهانهم، لما كان فى باطنه منهم.
وفيها توفى القاضى كمال الدين أبو السعادات: أحمد بن القاضى جلال الدين أبى المعالى شكر، بن محمود بن يعقوب اللّخمى. وكان ناظر الدواوين فى الأيام الناصرية والعزيزية. وكانت وفاته بثغر الإسكندرية. وهو الذى نوّه بذكر الصاحب صفى الدين ورباه، وصفىّ الدين ربيبه. كان جلال الدين شكر والمخلص أبو الحسن- والد الصاحب صفى الدين- إخوة لأم.
واستهلت سنة اثنتين وستمائة:
فى هذه السنة هدمت قنطرة الباب الشرقى بدمشق، وبلط بحجارتها صحن الجامع، وفرغ منها فى شهر رمضان سنة أربع وستمائة، وفيها فى شوال غير قبّة النّسر بجامع دمشق، عدة أضلاع من شماليها. والله أعلم.(29/39)
واستهلت سنة ثلاث وستمائة:
ذكر قصد العادل بلاد الفرنج
فى هذه السنة فى جمادى الأولى، وقيل فى شعبان، خرج الملك العادل بعساكره وقصد عكا. فصالحه أهلها. فعاد إلى دمشق.
وخرج الفرنج من طرابلس، وأغاروا على حمص. فخرج الملك العادل من دمشق، ونزل على بحيرة قدس «1» بظاهر حمص، وحضرت إليه عساكر البلاد. فأقام إلى آخر شهر رمضان. وتوجه يوم العيد إلى حصن الأكراد «2» ، وقاتل أشد قتال، وفتح برجا بالقرب من الحصن، وأخذ منه خمسمائة رجل وسلاحا. ثم سار إلى القليعات «3» ، فأخذها بعد حصار.
وتقدم إلى طرابلس، وقاتل قتالا شديدا، وأقطع ثمارها. ثم أنس من عسكره فشلا، فعاد إلى حمص. فأنشذ إليه صاحب طرابلس وطلب الصلح، وأرسل مالا وأسرى.
وفيها توفى الطواشى جمال الدين إقبال، الخادم الصّلاحى، من خدام(29/40)
الملك الناصر صلاح الدين يوسف. وكانت وفاته بالبيت المقدس، بعد أن وقف داريه بدمشق مدرستين: إحداهما على الطائفة الشافعية، والأخرى على طائفة الحنفية، ووقف عليهما أوقافا: جعل ثلثيها للشافعية وثلثها للحنفية. وذلك فى رابع عشر ذى القعدة.
واستهلت سنة أربع وستمائة:
ذكر انتقال السلطنة من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل
وأول من سكن قلعة الجبل من الملوك الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل. وذلك فى سنة أربع وستمائة- وهو إذ ذاك ينوب عن والده بالديار المصرية.
وأول من بدأ بعمارتها الملك الناصر صلاح الدين يوسف. فعمر بها برجا، وهو المطل على مشهد السيدة نفيسة. ثم كملت فى أيام الملك العادل.
ونقل أولاد العاضد من القصر إلى قلعة الجبل، وبنى لهم بها مكان اعتقلوا فيه. فكانوا فيه إلى سنة إحدى وسبعين وستمائة. وتوفى الأمير داود فى هذه السنة.
ذكر ورود رسل الخليفة الناصر لدين الله بالخلع للملك العادل وأولاده ووزيره
كان السلطان الملك العادل قد جهز القاضى نجم الدين خليل الحنفى- قاضى عسكر الشام- رسولا إلى الخليفة الناصر لدين الله، فوصل إلى بغداد(29/41)
فى هذه السنة فجهز الخليفة إلى السلطان رسولين، وهما: الشيخ شهاب الدين السّهروردى «1» ونور الدين سنقر الرّكنى الخليفتى. وأصحبهما الخلع للسلطان، ولولديه: الأشرف والمعظم، ولوزيره صفى الدين بن شكر، ولأستاذ داره شمس الدين إلدكز العادلى.
وكانت خلعة السلطان جبة أطلس وسيعة الكم بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب مجوهر، وسيف جميع؟؟؟
ملبس بالذهب، وحصان أشهب بمركب ذهب، وقصبة ذهب عليها علم أسود، مكتوب عليه بالبياض.
فتلقاها السلطان الملك العادل إلى الغسولة «2» بجميع عساكره، وعاد.
ولبسوا الخلع من القصر إلى القلعة بدمشق. وحمل الأمير بدر الدين دلدرم التقليد على رأسه بين يدى السلطان، ودخلوا جميعهم من باب الحديد وقت أذان الظهر. وقرأ الوزير التقليد قائما، بمحضر من القضاة وبياض البلد، بإيوان القلعة، والسلطان وأولاده وسائر من حضر قياما إلى أن تكاملت قراءته.
وتضمن التقليد تفويض البلاد إلى السلطان، وهى ديار مصر والساحل ودمشق، وبلاد الشرق وخلاط. وحضرت رسل الملوك: الظاهر صاحب(29/42)
حلب، والمنصور صاحب حماة، وصاحب حمص، ومع كل منهم ألف دينار، ينثرها على السلطان. فرسم السلطان بتوفير ذلك لرسول الخليفة.
وسار الشيخ شهاب الدين ورفيقه إلى القاهرة، بخلعة الملك الكامل.
فتلقاهما الملك الكامل، وزينت القاهرة ومصر لدخول الرسل. ولبس الكامل الخلعة الخليفية.
ثم عاد الشيخ شهاب الدين السّهروردى ورفيقه إلى بغداد. وأصحبهما السلطان أستاذ داره شمس الدين، وصحبته التحف والألطاف. فوصل إلى بغداد فى سنة خمس وستمائة. فتلقى بالموكب. ونقم الخليفة على الشيخ شهاب الدين السهروردى كونه مد يده إلى الأموال وقبلها، وحضر دعوات الأمراء بالشام، منهم الأمير عز الدين سامه وغيره. وكان قبل ذلك قد اشتهر بالزهد. فاعتذر أنه إنما قبل الأموال ليفرقها فى الفقراء فلم يقبل عذره. ومنع من الوعظ، وأخذ منه الرّبط التى كانت بيده. وفرق الشيخ ما كان قد حصل له من الأموال- وكانت جملة طائلة- فاغتنى بها جماعة من الفقراء.
وقبل الخليفة ما كان مع شمس الدين إلّدكز من الهدايا، وشرّفه وأعاده إلى مرسله.
ذكر استيلاء الملك الأوحد بن السلطان الملك العادل على خلاط «1»
وفى سنة أربع وستمائة، استولى الملك الأوحد: نجم الدين أيوب، بن الملك العادل على مدينة خلاط، بمكاتبة أهلها.(29/43)
وكان سبب ذلك أن الهزار دينارى قتل صاحبها ابن بكتمر- وكان شابا لم يبلغ عشرين سنة- وقيل انه غرّقه فى بحر خلاط. وكانت أخته بنت بكتمر زوجة صاحب أرزن الروم «1» ، فقالت: لا أرضى إلا بقتل قاتل أخى. فسار صاحب أرزن إلى خلاط فخرج إليه الهزار دينارى وتبارزا، فقتله صاحب أرزن الروم. وعاد إلى أرزن. وبقيت خلاط بغير ملك.
وكان الملك الأوحد- صاحب ميّافارقين «2» - يكاتبه أعيان خلاط.
فجاء إليهم واستولى على المدينة. واشترط عليه مقدموها شروطا، وكانوا جبابرة، فقبل الشروط. ثم أبادهم- قتلا وتغريقا- وبدد شملهم.
ومن عجيب ما اتفق أن الملك العادل، سيف الدين، كان له عدة أولاد، ليس فيهم أقبح صورة من الملك الأوحد هذا، فإنه كان قصيرا ألثغ زرىّ المنظر.
فخرج مع والده وإخوته إلى الصيد. فأرسل والده بازيّا على طائر، فسقط البازى على رأس الأوحد، فضحك السلطان والده، وقال: قد صاد بازيّنا اليوم بومة! فانكسر خاطر الأوحد لذلك، وتألم وأسرّها فى نفسه. فلما قدر الله تعالى له بفتح خلاط، وخطب له بشاه أرمن على قاعدة ملوك خلاط، كتب إلى أبيه الملك العادل، يبشره بالفتح، ويقول له: إن البومة- التى صادها بازى مولانا السلطان فى اليوم الفلانى- قد اصطادت مدينة خلاط، وصارت شاه أرمن! وكان بين الواقعتين عشر سنين.(29/44)
وفى هذه السنة، فى شهر رجب، وضعت الساعات بالمئذنة الشمالية بجامع دمشق. وفيها حصل الشروع فى عمارة البرج الذى يقابل المدرسة القيمازيّة «1» من قلعة دمشق. وفيها حدثت زلازل ورياح شديدة ببلاد خلاط.، وخسف بمكان الملك الأوحد بن الملك العادل قد نزل به ثم رحل عنه، قبل الخسف بليلة.
وفيها كانت وفاة الأمير داود، بن الخليفة العاضد لدين الله، فى محبسه بقلعة الجبل. وكان دعاة الإسماعيلية يقولون إن العاضد نصّ عليه بالإمامة، وأنه صاحب الأمر بعده. وكان عظيما عند العامّة. فلما توفى انقطعت دعوة الإسماعيلية «2» وزال أمرهم.
وأشهر العادل وفاته، فعظم موته على من هو يتوالى فيهم. فاستأذن الناس الملك الكامل فى النياحة عليه وندبه، فأذن لهم. فبرز النساء حاسرات، والرجال فى ثياب الصوف والشعر، وأخذوا فى ندبه والبكاء عليه. واشتهر من كان مستترا من الإسماعيلية. فلما اجتمعوا وكملوا، أرسل الملك الكامل جماعة من عسكره، فنهبوا ذلك الجمع، وقبض على المعروفين منهم، وملأ بهم الحبوس، واستصفى أموال ذوى اليسار منهم، وهرب جماعة آخرون. وزال أمر الإسماعيلية من الديار المصرية. ولم يتجاهر بعد ذلك أحد بمذهبهم.(29/45)
واستهلت سنة خمسة وستمائة:
فى هذه السنة فى يوم الجمعة، خامس شهر رمضان، ولى قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن، بن عبد العلى، بن على، السّكّرى- القضاء بالديار المصرية.
وذلك أن الملك العادل كان قد خرج إلى الشام فى شعبان، فلما وصل إلى العبّاسة «1» ، بلغه وفاة قاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن درباس. وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء، الخامس من شهر رجب، من هذه السنة. ومولده فى أواخر سنة ست عشرة، أو أوائل سنة سبع عشرة وخمسمائة. ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.
ولما اتصلت وفاته بالسلطان، استدعى الفقيه عماد الدين، فسار إلى العبّاسة. فولاه الحكم، وعاد «2» إلى القاهرة. فدخلها فى يوم الاثنين، ثامن الشهر. ولما وصل إلى مسجد التّبن، دخل إليه- ومسجد التبن بظاهر القاهرة- ولبس الطّرحة وألقى الطّيلسان «3» . وكانت العادة جارية أن لا يتطرح إلا من علم فضله واشتهر.
وفيها كانت وفاة الملك الأمجد: مجد الدين حسن، بن السلطان الملك(29/46)
العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بالقدس- وهو شقيق الملك المعظم والملك العزيز- رحمهم الله تعالى.
واستهلت سنة ست وستمائة:
فى هذه السنة- وقيل فى سنة سبع- نزلت الكرج «1» على خلاط، وبها الملك الأوحد، بن الملك العادل. وملك الكرج اسمه إيرانى «2» .
واتفق فى أمر هذا الحصار واقعة غريبة، ذكرها الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن إبراهيم الجزرى فى تاريخه: «حوادث الزمان» عمّن حكى لوالده، قال:
كنت فى خلاط، وقد أشرف الكرج على فتحها، ولم يبق إلا دخولهم إليها. فبلغ الملك الأوحد أن منجم ايرانى قد حكم لصاحبه أنه متى زحف يوم السبت أول النهار، دخل خلاط، وجلس على تخت الملك، ولا يبيت ليلة الأحد إلا فى قلعتها. فأحضر الملك الأوحد منجمه، وذكر له ما بلغه، فقال له: لا تخف، فإن خلاط لا تخرج عن ملكك، وأنت مستظهر على الكرج.(29/47)
واتفق أن إيرانى شرب الخمر، وركب فى جيوشه وقصد باب أرجيش «1» ، وحمل ليدخل البلد قبل أخيه، فكبا به فرسه فى حفيرة، فسقط إلى الأرض. واتفق خروج جماعة من القيمريّة «2» من ذلك الباب، ليدفعوا الكرج من البلد، فرأوا إرانى قد سقط، فحملوا على أصحابه وكشفوهم عنه، وأسروه. ودخلوا باب المدينة، وقد تجهز الملك الأوحد للهزيمة، فجلس فى القلعة أمام تخت المملكة على كرسى. وكان بقلعة خلاط تخت عظيم، لا يجلس عليه الملك إلا فى يوم ملكه، ثم لا يعود يجلس عليه.
فلما أحضر ملك الكرج إليه، تلقاه وأكرمه، وأجلسه على تخت الملك وجلس بين يديه على كرسى، وقال له: البلاد لك. فكتب إيرانى إلى أخيه، وإلى الكرج، بالانصراف عن البلد، فرحلوا.
وتحالف الملك الأوحد وملك الكرج على الموافقة والمعاضدة. وتزوج الملك الأوحد ابنة إيرانى، وجهزه إلى مدينته تفليس، بعد أن استأذن والده على ذلك، فأذن له. ويقال كان إطلاقه فى ثانى عشر جمادى الأولى، سنة سبع وستمائة. والله أعلم. وزفّت البنت إلى الملك الأوحد بعد ذلك، وهى على دينها، وبنى لها بيعة بقلعة خلاط. وأطلق الكرج القلاع التى كانت أخذت- وهى إحدى وعشرون قلعة- ومائة ألف دينار. ووافق قول كل من المنجمين: جلس الكرجى على تخت الملك، وبات بالقلعة، وانتصر الأوحد.(29/48)
وفيها جهز الملك العادل جمال الدين المصرى «1» رسولا إلى الخليفة.
فأدى، وأعيد. وصحبه من الديوان العزيز ابن الضحاك وأقباش «2» الناصرى. فاجتمعوا بالسلطان الملك العادل على رأس العين.
ذكر حصار الملك العادل سنجار ورجوعه عنها وأخذ نصيبين والخابور
وفى سنة ست وستمائة، سار الملك العادل إلى سنجار «3» - وصاحبها، يوم ذاك، قطب الدين بن عماد الدين زنكى.
فلما خيم بظاهرها، أخرج صاحبها نساءه وخدمه، يسألن العادل إبقاء المدينة عليه. فلما حصلن عنده، أمر باعتقالهن. وأرسل إلى قطب الدين، يقول: انه لا يطلقهن إلا بعد تسليم البلد. فاضطر إلى موافقته. وتقررت الحال بينهما: أن يعوض قطب الدين الرّقّة وسروج وضياع فى بلاد حرّان.
فأطلق العادل النسوة، وأرسل أعلامه إلى البلد، فلما دخلن البلد، ودخلت الأعلام العادلية، أمر قطب الدين بغلق الأبواب وتكسير الأعلام.
وأرسل إلى العادل، يقول: غدرة بغدرة، والبادى أظلم.(29/49)
فحاصرها العادل، وقطع أشجارها وهدم جواسقها. فانتصر صاحب الموصل لصاحب سنجار، خوفا على بلاده. وراسل مظفر الدين صاحب إربل، وكان بينهما وحشة. وكان من جملة رسالة صاحب الموصل له: أن الأحقاد تذهبها الشدائد. فراسل مظفر الدين العادل، يشفع عنده فى صاحب سنجار. فرد رسوله أقبح رد. فمضى إلى صاحب الموصل، واتفق معه، وراسلا صاحب الجزيرة.
وأرسل مظفر الدين إلى صاحب سنجار، يشير عليه بمراسلة الخليفة.
فأرسل إليه، فمضى الرسول إلى بغداد. فأرسل الخليفة إلى العادل، يشفع عنده فى صاحب سنجار. فلم يجب العادل لذلك. فغضب رسول الخليفة، وعاد إلى الموصل، وقال لمن بها من الملوك: قد أذن لكم أمير المؤمنين فى قتال العادل.
فكتبوا إلى الملك الظاهر صاحب حلب، وأغروه بعمه. فأرسل أخاه الملك المؤيد: نجم الدين مسعود إلى عمه، يشفع فى صاحب سنجار. فرده أقبح رد. فبرز الظاهر من حلب، فى ثامن شعبان، لقصد العادل. فتفرقت عساكره، والتحق بعضها بالعادل.
ثم رأى أهل سنجار أن من خرج منهم غضبه عسكر العادل، وفسقوا بمن خرج من النساء، فقاتلوا قتال الحريم. فاضطر العادل إلى الصلح مع صاحب سنجار. فتقرر أن يسلموا إلى العادل: نصيبين والخابور، ويحملوا إليه مالا. ففعل، وفارق سنجار.
وفيها كانت وفاة الملك المؤيّد: نجم الدين مسعود بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، برأس عين، عند منصرفه من عند عمه الملك(29/50)
العادل، برسالة أخيه بسبب سنجار. وكان قد نام فى بيت مع ثلاثة نفر، وعندهم منقل فيه نار، والبيت بغير منفذ، فانعكس البخار فأخذ على أنفاسهم، فماتوا جميعا فحمل المؤيد فى محفة إلى حلب، فدفن بها وفيها توفى الشيخ الإمام العلامة: فخر الدين أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين بن على بن محمد، التّيمى البكرى الطّبرستانى الأصل، الرّازى- المعروف بابن خطيب الرّىّ، الفقيه الشافعى، صاحب التصانيف المشهورة «1» . وكانت وفاته بهراه «2» فى يوم الاثنين- وهو يوم عيد الفطر- سنة ست وستمائة. ومولده فى خامس عشر شهر رمضان، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفيها كانت وفاة القاضى الأسعد: أبى المكارم أسعد بن الخطير أبى سعيد، مهذّب بن مينا بن زكريا بن أبى قدامة، بن أبى مليح ممّاتى، المصرى الكاتب الشاعر.
كان يتولى نظر الدّواوين بالديار المصرية. وكان نصرانيا فأسلم فى ابتداء الدولة الناصرية الصلاحية، هو وجماعته. وله مصنفات عديدة: نظم سيرة الملك الناصر صلاح الدين، ونظم كتاب كليلة ودمنة. وله ديوان شعر.
وباشر ديوان الجيش الصّلاحى، ثم ولى نظر الدواوين. وخاف الصاحب صفى الدين بن شكر فهرب إلى حلب، والتحق بالملك الظاهر صاحبها.(29/51)
وكانت وفاته بحلب فى سلخ جمادى الأولى سنة ست وستمائة، وعمره اثنتان وستون سنة. ودفن بالمقبرة المعروفة بالمقام، على جانب الطريق بالقرب من مشهد الشيخ الهروى. وممّاتى لقب أبى المليح جده الأعلى. وسبب تلقيبه بهذا اللقب أنه وقع بمصر غلاء عظيم، وكان كثير الصدقة والإطعام، خصوصا لأطفال المسلمين، وكان الأطفال إذ رأوه نادوه: ممّاتى، فغلب عليه. حكى ذلك ابن خلّكان عن الحافظ زكىّ الدين عبد العظيم- رحمه الله تعالى.
واستهلت سنة سبع وستمائة:
فى هذه السنة- فى يوم الاثنين الثانى والعشرين من شعبان- قدم الملك العادل إلى القاهرة، وصحبته الصاحب صفى الدين عبد الله بن شكر. ثم توجه إلى الطّور «1» لعمارته.
وفى هذه السنة، فى سابع شوال، حصل الشروع فى عمارة مصلّى ظاهر دمشق، وهى المجاورة لمسجد النارنج، فعمرت لصلاة العيدين، ثم عمل بالمصلى رواقات فى سنة ثلاث عشرة وستمائة، وعملت حيطانه ورتب فيه خطيب لإقامة صلاة الجمعة فى سابع عشر من شهر رمضان. وفيها، فى حادى عشر من شهر شوال جددت أبواب جامع دمشق من جهة باب البريد، وعملت بالنحاس الأصفر وركبت. وفى سادس عشر من شوال حصل الشروع فى إصلاح الفوارة بجيرون «2» . وعمل الشّاذروان والبركة(29/52)
بساحتها، واتخذ فيها مسجد بإمام راتب. وأول من رتب فيه- بأمر الصاحب صفى الدين بن شكر- الشيخ نفيس الدين المصرى، كان يلقب بوق الجامع لقوة صوته، وكان حسن الصوت.
وفيها فى سابع عشر من ذى القعدة، وصلت مراكب الفرنج إلى ثغر دمياط، على غرّة من أهله. فنهبوا أطراف الثغر، وأسروا جماعة من المسلمين.
واستهلت سنة ثمان وستمائة:
والسلطان الملك العادل، وابنه الملك المعظم، نازلان بالمخيّم على الطور «1» ، ومعهما العساكر، لعمارة حصنه. وهما مجتهدان فى إدارته حوشا.
ذكر بناء القبة على ضريح الإمام الشافعى- رحمه الله تعالى- وعمارة السوق
كان ابتداء عمارة هذه القبّة فى سنة ثمان وستمائة وكانت أرض هذا المكان مقبرة عتيقة. فاتفق أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف أنشأ المدرسة المجاورة للضريح. فلما كان فى هذه السنة، فى خامس عشر من صفر، توفيت والدة الملك الكامل، وكان الملك الكامل، قبل وفاتها بأيام، ركب وطوّف القرافة على مكان يبنيه عليها، ويجعل فيه سوقا. فوقع الاختيار على دفنها بالضريح. فلما توفيت، دفنها وعمر عليها هذه القبة الموجودة الآن.(29/53)
وغرم عليها أموالا جليلة المقدار، أجرى إليها الماء الحلو من بركة الحبش «1» وانتقل البناء من القرافة الكبرى إلى هذا الموضع. ثم تغالى الناس بعد ذلك فى العمائر بالقرافة وزخرفوها، حتى صارت على ماهى عليه الآن.
وفى هذه السنة، كانت وفاة الأمير فخر الدين أبى المنصور، أياز جهاركس، الناصرى الصلاحى، بدمشق فى صفر، ودفن بقاسيون.
وكان الملك العادل قد أقطعه بانياس وتبنين والشّقيف وهونين «2» وتلك البلاد، لأجل انحرافه عن الملك الأفضل، ابن أخيه الملك الناصر. ولما مات جهاركس، أقر السلطان ما كان بيده على ابنيه. وقام بالأمر والتدبير الأمير صارم الدين خطلبا التّبنينى أحسن قيام، وسد تلك الثغور. واشترى صارم الدين ضيعة بوادى بردى «3» تسمى الكفر، ووقفها على تربة جهاركس، وعمر له قبة.
وفيها توفى الأمير صارم الدين برغش العادلى، بدمشق، فى ثالث وعشرين صفر، ودفن بقاسيون غربى بالجامع المظّفرى.(29/54)
واستهلت سنة تسع وستمائة:
ذكر عزل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر وولاية الصاحب الأعز بن شكر
وفى يوم الاثنين، لسبع مضين من شهر ربيع الأول، سنة تسع وستمائة، صرف الصاحب صفى الدين من الوزارة والزم داره.
ونحن الآن نذكر فى هذا الموضع سبب اتصاله بخدمة السلطان العادل، وموجب انفصاله.
كان قد اتصل بالخدمة العادلية فى أواخر الأيام الناصرية. فلما مات ابن النّحّال النصرانى- كاتب الملك العادل- تقدم صفى الدين، فرآه شهما مقداما فقدمه، وتمكن من دولته. فلما كانت حادثة الأفضل، ورجوعه عن دمشق بعد حصارها، وخرج العادل فى طلبه اجتاز بالبيت المقدس، ومعه صفى الدين، فتحلف معه أنه إن قدّر الله تعالى له بملك الديار المصرية، يمكنه من المصريين، وحلفه على ذلك فحلف له.
فلما ملك العادل الديار المصرية، لم يتمكن صفى الدين من مصادرات المصريين، لأمرين: أحدهما ما حل بالناس من الغلاء المشهور، والثانى ملازمة العادل ببلاد الشام. فلم يزل كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة عند قدوم العادل من الشام، فأمسك الصاحب جماعة من رؤساء المصريين، وأصحاب الدواوين والمستخدمين وغيرهم، وعاقبهم أشد عقوبة ونكّل بهم، وفعل بهم ما أوجب حقد الناس عليه. وكثر بطشه بالناس، وأقام لنفسه حرمة عظيمة زادت على حرمة السلطان وعظم أمره، حتى كان أولاد(29/55)
الملك العادل يأتون إلى داره فيجلسون على بابه، حتى يؤذن لهم، فثقل ذلك على أمراء الدولة وخاطبوا السلطان فى أمره، وهو لا يسمع فيه كلام متكلّم.
فلما كان فى سنة ست وستمائة- والسلطان على سنجار- اتفق أن الصاحب تحدّث معه فى شىء، لم يوافق رأى السلطان، فتوقف عن إجابته. فقام الصاحب من مجلس السلطان، وقد غضب، وجرح جرحا مفرطا فى المجلس، حتى خجل العادل ممن حضره، ووجدوا للكلام مجالا فتكلموا فيه. وكان العادل من أثبت الناس، وأحلمهم وأقلهم بطشا، وصفىّ الدين بخلاف ذلك. فبقيت هذه الحادثة فى نفس السلطان كامنة.
وكان القاضى الأعز بن شكر فى هذه السفرة نائب الوزارة بالديار المصرية، وهو ناظر الدواوين بها فى خدمة الملك الكامل، فحصل بينهما مودة.
فحسده من كان ينوب عن الصاحب فى الوزارة قبله. وكانوا يكاتبون «1» الصاحب ويقولون له إنّ الأعز قد توثب عليك، واتصل بالكامل وتمكن منه.
فلما كان فى ذى الحجة، سنة سبع وستمائة، اجتمع بنو شكر عند الصاحب على طعامه. فأشار أن توضع زبديّة «2» طعام مخصوص بين يدى الموفق- وهو أحد من كان ينوب عن الوزارة- فقال أحد الحاضرين: يده طويلة! - يريد أنها تطول لمكان الزبدية. فقال آخر: طوّلها الذى صرفه من نيابة الوزارة- يعرض به أنه كان يتبرطل! فضحك الأعز ضحكا مفرطا،(29/56)
بمعنى أنه أمين، ليس فيه ما يقال كما قيل فى غيره! فغضب الصاحب لذلك وانتهره، لإساءته فى مجلسه بالضحك.
فأسرع الأعز فى القيام إلى داره. فلما قام، قال بعض من حضر للصاحب: لا تأمنه من سوء يكيدك به. وأغروه به، فأمر باحضاره. فلما جاءه الرسول، علم أنه إن وقع فى يده لا يأمنه على نفسه. فتسّور من مكان فى داره، وطلع إلى القلعة، واحتمى بالكامل. فلما سمع الصاحب بذلك طلبه من الكامل، فدافعه به. فغضب واجتمع بالملك العادل، وقال: ان الأعز لزمه حساب، وقد أحماه الكامل علينا. وكرر عليه القول. فتحدث العادل مع ابنه الكامل فى ذلك، فقال: يصلح بينهما. وقصد الكامل بذلك مدافعة الأيام، ليقع سفر العادل إلى الشام معه، فيسكن ما عند الصاحب منه، فلم يزده ذلك إلا حنقا.
فلما كان فى آخر ذى الحجة- سنة ثمان وستمائة- ركب الكامل إلى دار الوزارة، وحضر مجلس الوزير، والأعز معه، وأصلح بينهما. فاصطلحا ظاهرا، والبواطن بخلاف ذلك. وقصد الصاحب أن الأعز إذا انصرف إلى داره، قبض عليه، فلم يفارق الأعز الخدمة الكاملية بالقلعة. فازداد الصاحب حنقا عليه، وتحدث مع العادل أن يعزله عن نظر الدواوين.
فتوقف السلطان فى ذلك.
وتمادى الأمر، إلى آخر صفر. فامتنع الصاحب من الكتابة على المناشير والتّواقيع، وحلف أنه لا يباشر والأعزّ يكتب معه أيدا. فتعطلت أحوال الناس، وشكوا ذلك إلى السلطان. فأرسل إلى الصاحب بروضه،(29/57)
ويقول: لا بد أن أمكّنك من الأعز، وهو لا يزداد إلا غضبا وإساءة فى الجواب. فإذا عاد رسول السلطان إليه، لا يمكنه مخاطبته بما قاله الصاحب، ويغالط فى الجواب. فأرسل السلطان بعض الأمراء إلى الصاحب برسالة، ومعه أحد مماليكه، وقال له احفظ ما يقوله الصاحب، وأعده علىّ. فكان من جملة قول الصاحب: والله لا كتبت والأعز يكتب معى أبدا. فعند ذلك، خرج السلطان على ابنه الكامل وانتهره، وأغلظ فى القول، وقال: يسلّم الأعز إلى الصاحب فى هذه الساعة!.
فلما عاد الكامل إلى القلعة، تلقاه الأعز على عادته. فقال: قد أمر السلطان بتسليمك للصاحب، وخرج علىّ بسببك، وعجزت عن حمايتك.
فقال له الأعز: يا مولانا، والله عداوتى للصاحب بسببك! وهو أنه كاتبنى فى حقك أنه لا بد أن يعمل على صرفك من مملكة الديار المصرية، وأن يجعل عوضا عنك الأشرف موسى. وهذه كتبه إلىّ. فلما وقف الكامل على الكتب كان من جملة ما تضمنته: «وأما هذا المجنون- يشير إلى الكامل- فلا بد من صرفه، وإحضار الأشرف إلى الدّيار المصرية» . وتضمنت من سبه وشتمه كثيرا.
فعاد الكامل للعادل، والكتب معه، وجاء فى غير الوقت المعتاد.
فقال له العادل: ما جاء بك الآن؟ فقال: هذا الصاحب يريد أن يوقع بين السلطان وأولاده، وبين الإخوة. هذه كتبه للأعز، وعداوته بسببها. فلما وقف العادل عليها، عظم عليه سبه لابنه- وكان العادل يدارى جميع أولاده، خوفا أن يقوم أحدهم عليه، فتنخرق حرمته- فقال نعزله، ولا يسلّم إليه الأعز. ويكتب الأعز وحده.(29/58)
فخرج الكامل لوقته، واستدعى الأعز فخر الدين أبا الفوارس مقدام، بن القاضى جمال الدين أحمد بن شكر. وأمر أمير جانداره «1» بجمع الدواوين وتسليمهم للأعز. فسلمهم إليه. وجلس الصاحب الأعز، وتحدث فى الوزارة لوقته. وقام الصاحب صفى الدين من مجلس الوزراة ولازم داره. ثم كان من خبر مصادرته، وإخراجه من الديار المصرية ما نذكره- إن شاء الله تعالى.
ذكر حادثة الأمير عز الدين أسامة واعتقاله والاستيلاء على قلاعه
كان الأمير عز الدين أسامة الجبلى من أكابر الأمراء، وصهر الملك العادل. وهو الذى بنى الجسر الذى على نهر الأردن، المعروف بجسر أسامة.
وقيل أنه هو الذى بنى قلعة عجلون «2» . وكانت داره بدمشق، التى هى الآن(29/59)
المدرسة البادرائيّة «1» بدمشق.
فاتهمه السلطان بمباطنة الملك الظاهر صاحب حلب، واستوحش هو أيضا من السلطان الملك العادل وأولاده، فقصد الانحياز إلى قلاعه- وكان له عجلون وقلعة كوكب «2» . واتفق أن السلطان توجه فى هذه السنة إلى ثغر دمياط، وصحبته أولاده الملك الكامل والملك المعظم والملك الفائز، فاغتنم عز الدين أسامة غيبتهم، وركب من القاهرة فى يوم الاثنين سلخ جمادى الآخرة، وخرج وأظهر أنه يريد الصيد.
فلما مر ببلبيس، بطق «3» متوليها إلى السلطان يخبره. فقال الملك العادل: من ساق خلفه فله أمواله وقلاعه. فانتدب الملك المعظم لذلك.
وركب من ثغر دمياط ليلة الثلاثاء، غرة شهر رجب. وساق فى ثمانية ممن يعتمد عليهم، وعلى يده حصان جنيب «4» فوصل إلى غزة صبح الجمعة،(29/60)
وسبق أسامة إليها، وأمسك عليه الطرق. وأما أسامة فإنه تقطعت عنه مماليكه ومن كان معه، وبقى وحده، وبه مرض النّقرس. ووصل إلى الدّاروم «1» فعرفه بعض الصيادين، فأعطاه أسامة ألف دينار، وقال: خذ هذه وأوصلنى إلى الشام. فأخذه وجاء إلى رفاقه فعرفوه، وتوجهوا به على طريق الخليل، ليتوجهوا به إلى عجلون. فوصلوا به إلى القدس، فى يوم الأحد سادس من شهر رجب. ونزل بصهيون- وهى ضيعة بالقدس.
وعلم به الملك المعظم، فأرسل إليه بثياب وطعام، ولاطفه، وقال له أنت شيخ كبير ما يصلح لك الحصون، فسلّم الىّ كوكب وعجلون. وقال أنا أحلف لك على مالك وملكك وجميع أسبابك، وتعيش بيننا مثل الوالد.
فامتنع من ذلك، وسب المعظم أقبح سب. فلما يئس منه، بعث به إلى الكرك «2» واعتقله بها واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره. فكان قيمة ما أخذ له ألف ألف دينار.
وأما السلطان الملك العادل فانه كان توجه فى العشرين من جمادى الأولى إلى ثغر دمياط، وتوجه منه إلى ثغر الاسكندرية، ثم عاد وتوجه إلى الشام، فى ثانى شوال من هذه السنة. وحاصر كوكب أشد حصار، واستولى عليها. وأخذ منها أموالا عظيمة وهدمها وعفّى أثرها. وذلك فى العشر الأوسط من ذى القعدة(29/61)
ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط واستيلاء أخيه الملك الأشرف عليها
وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك الأوحد نجم الدين أيوب، بن السلطان الملك العادل، وهو صاحب خلاط. وكانت وفاته بملازكرد «1» فى ثامن شهر ربيع الأول، ودفن بها.
وكان قد استزار أخاه الملك الأشرف من حرّان، فأقام عنده أياما.
واشتد مرضه، فقصد الأشرف الرجوع إلى حرّان لئلا يتخيّل «2» منه الأوحد. فقال له الأوحد: يا أخى كم تلح؟ والله، إنى ميت، وأنت تأخذ البلاد! ثم مات. فدفنه الملك الأشرف. وجاء إلى خلاط، واستولى عليها، وعلى ما بها من الأموال.
فتوجه الملك العادل إليه، وقد غضب لكونه «3» فعل بغير أمره. فلما وصل إليها، اعتذر الملك الأشرف أنه إنما فعل ذلك خوفا أن يسبقه غيره من ملوك الأطراف إليها، فقبل عذره، واستمر به فيها «4» . وأنعم السلطان على ولده الملك المظفر شهاب الدين غازى بميّافارقين وأعمالها.(29/62)
واستهلت سنة عشر وستمائة:
ذكر قيام أهل مصر على الملك الكامل، ورجمه
وفى جمادى الأولى سنة عشر وستمائة، شغب العوامّ بمصر على الملك الكامل ورجموه، وسبب ذلك أن أبا شاكر النصرانى الطبيب كان الملك الكامل يميل إليه، وكان إلى جانب الكنيسة المعلّقة بمصر مسجد قد عفى أثره، فقصد العوام تجديده. فامتنع الكامل من إجابتهم إلى ذلك، بسبب أبى شاكر. فثار العوام، وقالوا لا بد من عمارته. فركب الملك الكامل من القلعة، وجاء إلى الكنيسة المعلّقة «1» ، وكشف المكان بنفسه. فلما شاهده، قال: ما كان هذا مسجدا قط. فاستغاث العوام، وشغبوا ورموه بالحجارة، فهرب منهم إلى القلعة.
وفيها توجه الملك الظافر الخضر، بن السلطان الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب، من حلب لقصد الحج. فنزل بالقابون «2» فى يوم الأحد رابع شوال، ثم انتقل إلى مسجد القدم «3» فى خامس الشهر. وكان الملك المعظم بحوران، فوصل إلى دمشق، وأدخله إليها وعمل له ضيافة. ثم توجه(29/63)
إلى الحجاز، صحبة الركب الشامى، فلما وصل إلى المدينة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحرم بالحج من ذى الحليفة «1» ، فلما انتهى إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه من مصر إلى بدر، خوفا منه أن يتوجه إلى اليمن. فقالوا له: ترجع. فعلم مرادهم. فقال إنه قد بقى بينى وبين مكة مسافة يسيرة، وانى قد أحرمت. وو الله ما قصدى اليمن ولا أقصد غير الحج، فقيدونى، واحتاطوا بى، حتى أقضى المناسك وأعود. فلم يوافقوه على ذلك، وأعادوه إلى الشام فصنع كما صنع النبى صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت: قصّر وذبح ما تيسر، وعاد إلى الشام.
وفيها توفى الأمير فارس الدين ميمون القصرى بحلب فى رابع عشر من شهر رمضان. وكان من أكابر الأمراء الناصرية. وكانت أعزاز «2» اقطاعه.
وخلف أموالا جمّة. وهذه النسبة إلى القصر الذى بالقاهرة، كان تربّى «3» فيه- رحمه الله.(29/64)
واستهلت سنة إحدى عشرة وستمائة:
ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل على اليمن
وفى هذه السنة جهز الملك الكامل ابنه الملك المسعود، صلاح الدين أتسز- وهو أقسيس «1» - إلى الحجاز، ويتوجه من هناك إلى اليمن.
وكان سبب إرساله إلى اليمن أن الناصر أيوب، بن سيف الإسلام بن أيوب، قد توفى، واستولى على اليمن سليمان بن شاهنشاه، بن تقى الدين عمر، بن شاهنشاه بن أيوب- باتفاق من أجنادها- وتزوج بأم الناصر.
ووصل الخبر إلى الملك الكامل بذلك، فجهز ابنه الملك المسعود. فرحل من بركة الجبّ «2» فى يوم الاثنين، سابع عشر من شهر رمضان، ومعه ألف فارس، ومن الجانداريّة «3» والرّماة خمسمائة و [كان] ذلك بعد أن سيره إلى خدمة السلطان الملك العادل بدمشق، ولقبه بالملك المسعود، وأعاده إلى القاهرة.(29/65)
فتوجه إلى مكة- شرفها الله تعالى، فلما قضى مناسك الحج توجه إلى بلاد اليمن. فكان وصوله إلى زبيد فى يوم السبت مستهل المحرم، سنة ثنتى عشرة وستمائة. فملكها من غير قتال، وتسلم ثمانية حصون من تهامة. وندب قطعة من العسكر لحصار تعزّ «1» - وكان سليمان قد تحصن بها- ففتح الحصن فى ثالث صفر، ودخله العسكر المسعودى، ومسك سليمان واعتقل. ثم جهزه إلى الديار المصرية هو زوجته.
وكانت صنعاء فى يد عبد الله بن حمزة- المدعى الخلافة- فجرد الملك المسعود إليه عسكرا، فوصل العسكر إلى صنعاء فى مستهل جمادى الأولى.
فهرب عبد الله لما سمع بقرب العسكر، وجعل لا يخرج من مدينة إلا بعد تخريب أسوارها، وتعفية ما يستطيع من أثرها، وهدم منار المساجد، ولحق بالجبال وتعلق بها. وملك الملك المسعود البلاد. وكان جبّارا فاتكا، فيقال إنه قتل باليمن ثمانمائة شريف، وخلقا كثيرا من الأكابر.
وفيها استولى الملك المعظّم- شرف الدين عيسى- على قلعة صرخد «2» ، وأخذها من ابن قراجا، وعوضه عنها مالا وإقطاعا، وأعطاها لمملوكه، أستاذ داره عز الدين أيبك المعظمى. فبقيت فى يده إلى أن أخرجه منها الملك الصالح نجم الدين أيوب، فى سنة أربع وأربعين وستمائة.(29/66)
وفيها أحدثت المعاملة بالقراطيس السّود العادلية بدمشق، كما يتعامل الناس بالورق بالديار المصرية. فبقيت زمانا، ثم بطل ضربها وتناقصت من أيدى الناس، إلى أن توفى الملك العادل.
وفيها توجه الملك المعظم شرف الدين عيسى، بن الملك العادل، من دمشق إلى الحجاز. وجدد فى الطريق البرك والمصانع والمناهل، وأحسن إلى الناس، وتصدق، وحجّ قارنا- وكان حنفىّ المذهب- وعاد إلى الشّام.
وفيها اهتم السلطان- الملك العادل- بعمل الميدان الذى بسوق الخيل، بظاهر القاهرة، والفساقى المجاورة لها.
وفيها، فى ثالث شهر ربيع الأول، فوض تدريس الحنفية، بالمدرسة النّورية بدمشق، للشيخ جمال الدين محمد بن الحصيرى «1» العجمى.
وحضر الملك المعظم درسه مع الفقهاء.
واستهلت سنة ثنتى عشرة وستمائة:
فى هذه السنة، وصل الملك المعظم شرف الدين عيسى من الحجاز، وصحبته الأمير السيد الشريف: سالم بن قاسم «2» ، أمير المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وكان قد شكى من قتادة: أمير مكة، فوعده بالمساعدة عليه. فلما وصل الآن معه، اجتمع بالسلطان الملك(29/67)
العادل- وكان بخربة اللّصوص «1» - وقدّم الشريف إلى السلطان ما أحضره- على سبيل الهدية- من تحف الحجاز، وعشرين فرسا من خيل الحجاز، فأكرمه السلطان. واستخدم معه جماعة من أمراء التركمان والرجال، فتوجه بهم فى ثالث عشر شعبان.
واتفقت وفاته قبل وصوله إلى المدينة، فقام ولد أخيه الأمير جمّاز بن شيحه بالأمر بعد عمه، واجتمع أهله على طاعته. فمضى من كان مع عمه لقصد قتادة أمير مكة. فجمع قتادة «2» عسكره وأصحابه والتقوا بوادى الصّفراء «3» . وكان الظفر لجمّاز ومن معه، واستولوا على عسكر قتاده، قتلا ونهبا وأسرا. وانهزم قتادة إلى الينبع «4» وتحصن بقلعته، فتبعوه وحصروه.(29/68)
ثم عاد من كان مع الأمير سالم من التركمان وغيرهم، صحبة الناهض ابن الجرخى، وفى صحبتهم كثير مما غنموه، من أموال قتادة ومن النساء والصبيان. وظهر منهم جماعة من الأشراف، فسلموا إلى أكابر أشراف دمشق، ليكفلوهم ويشركوهم فى وقف الأشراف وفى هذه السنة حصل الشروع فى عمارة المدرسة العادلية «1»
بدمشق وحضر السلطان الملك العادل لترتيب وضعها.
وفيها فى سابع من شهر ربيع الأول، عزل قاضى القضاة: زكى الدين أبو العباس الطاهر، بن محيى الدين، [عن] الحكم بدمشق وأعمالها. وولى من الغد الشيخ جمال الدين الحرستانى «2» ، وهو ابن اثنتين وتسعين سنة وشهور.
وفيها أبطل السلطان الملك العادل ضمان الخمر والقيان بدمشق، فى رابع عشرين جمادى الآخرة. وبقى الأمر على ذلك، إلى أن توفى الملك العادل فى سنة خمس عشرة وستمائة.(29/69)
وفيها وصل رسول الخليفة من بغداد، وهو الشيخ شهاب الدين السّهروردى «1» ونزل بجوسق «2» العادل. وتوجه إلى السلطان فلحقه بالقدس الشريف، فأدى الرسالة وعاد، فى خامس عشر شوال.
وفيها- فى منتصف شعبان، توفى الشيخ الصالح العارف: أبو الحسن على بن حميد، المعروف بابن الصّبّاغ قدس الله روحه. وكانت وفاته بقنا- من الأعمال القوصيّة من الصعيد الأعلى. ودفن بجانبها عند قبر شيخه:
الشيخ السيد القطب عبد الرحيم «3» . وضريحهما من المزارات المشهورة- نفع الله تعالى بهما.(29/70)
واستهلت سنة ثلاث عشرة وستمائة:
فى هذه السنة كانت الحادثة بين أهل الشّاغور «1» والعقيبة «2» بدمشق. وحملت كل طائفة منهم السلاح، واقتتلوا. فركب العسكر للفصل بينهم «3» . وحضر الملك المعظم من جوسق الرئيس لتسكين الفتنة- وكان مقيما به. وقبض على جماعة من مقدمى الحارات واعتقلوا، بسبب ذلك.
ذكر القبض على الصاحب الأعز
وفى يوم الاثنين، سابع عشر جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة وستمائة. قبض الملك العادل على وزيره الصاحب فخر الدين الأعز، وضربه وقيده، وحمله إلى قلعة بصرى «4» فاعتقله بها.
وكان لذلك أسباب: منها أنه صرف ما غرم على القبة بالشافعى من مال الديوان- وكان وتقرر صرفه من مال الديوان الكاملى. ومنها أنه كشف على الأموال التى أنفقت فى تجهيز الملك المسعود إلى اليمن، وكانت جملة عظيمة، فأنكر عليه ذلك، وفعل به ما فعل.(29/71)
وعرضت الوزارة على القاضى الأشرف: أحمد بن القاضى الفاضل عبد الرحيم، فتوقف عنها. ثم خوطب فقال: كان والدى فى الأيام الناصرية لا يكتب فى الدولة. فأجيب إلى ذلك، واستقرت القاعدة أنه يتحدث فى الأموال بلسانه، دون قلمه. ورتب القاضى عماد الدين بن جبريل صاحب ديوان الدولة، ورتب شمس الدين أبو القاسم بن التبنى وزير الصّحبة.
وفيها فى شهر المحرم، صرف قاضى القضاة عماد الدين عبد الرحمن، ابن عبد العلى بن على السّكّرى «1» - عن القضاء بالديار المصرية.
وكان سبب ذلك أن السلطان عقد مجلسا بحضوره بسبب وقف المدرسة- التى أوقفها إبراهيم بن شروه «2» ، وولى القطب، قاضى قوص، النظر عليها- فلم يمض القاضى عماد الدين الوقف. فقال السلطان: هذه القضية أنا أعرفها وأشهد بها. فامتنع من إثباتها. فغضب السلطان، وأشهد على نفسه بعزله فى المجلس. ثم صرف عن الخطابة بالجامع الحاكمى، وولاها الشيخ بهاء الدين بن الجمّيزى «3» لأربع بقين من شهر ربيع الآخر من السنة.(29/72)
ولما عزله السلطان عن القضاء، استشار شيخ الشيوخ: صدر الدين أبا الحسن بن حمّويه «1» ، فيمن يوليه القضاء. فأشار أن يقسم العمل شطرين: قبليّا وبحريّا، وأن يولى ابن عين الدولة القاهرة والوجه البحرى، وابن الخرّاط مصر والوجه القبلى. فعمل برأيه.
وفوض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى للقاضى شرف الدين بن عين الدولة، فى يوم السبت ثانى صفر منها- وقيل فى المحرم- وفوض قضاء مصر والوجه القبلى للقاضى تاج الدين: أبى محمد عبد السلام بن على بن الخراط- وكان قاضى دمياط- وذلك فى يوم الاثنين سابع عشر صفر- وقيل فى يوم الاثنين ثالث عشر المحرم.
هذا هو السبب الظاهر [للناس «2» فى عزل القاضى عماد الدين بن السكرى] وأما السبب الباطن- وهو مما أخبرنى به والدى رحمه الله تعالى عن جده زكى الدين عبد الدايم، وغيره- أن الفقيه الشيخ الصالح الشهيد الناطق: رضى الدين: عبد الرحمن العقيلى، المعروف بالنّويرى (وهى نسبة انتقال، وانما هو قدم من بلاد المغرب مع أبيه وسكنا النّويرة، واستطونها(29/73)
الشيخ عبد الرحمن وخدمه أهلها، وكانوا يفتخرون بالانتساب إلى خدمته، واختص بخدمته جد والدى زكى الدين عبد الدايم، فكان أخص الناس به، وأعلاهم منزلة عنده) كان مع ما هو عليه من العبادة والصلاح المشهور، ينوب عن القاضى عماد الدين فى الحكم بالنّويرة، وما معها. فاتفق أن رجلين «1» تداعيا فى بقرة، فكتب أحدهما محضرا أن البقرة ملكه وشهد فيه جماعة من الشهود، وأدوا شهادتهم بذلك عند الفقيه، ولم يبق إلا تسليمها لصاحب المحضر.
فتأمل الفقيه البقرة، ونظر إليها. وسأله الذى شهد له الحكم بما ثبت عنده، وتسليمها إليه. فقال: كيف أسلمها إليك، وهى تقول أنها لخصمك، وتخبرنى أن المحضر زور- أو ما هذا معناه؟!. وسلمها لخصمه.
فاعترف الخصم الذى أثبت بصحة ما أخبر به الشيخ الفقيه رضى الدين عن البقرة، وأظهر التوبة والإنابة. فلما اتصلت هذه الواقعة بالقاضى عماد الدين، كتب إلى الشيخ رضى الدين يقول: كان ينبغى أن تعمل فى هذه القضية بظاهر الشرع، وتسلم البقرة لمن أثبت. وعزله عن نيابته.
فلما اتصل العزل به، قال لمن حضر عنده: اشهدوا علىّ أنى قد عزلته، وعزلت ذريته من بعده. فعزل فى تلك الساعة. ولم يعد إلى القضاء بعدها، ولاولى القضاء بعده أحد من ذريته. وأعرف أن القاضى عماد(29/74)
الدين، ولد ولده فوه له بالقضاء غير مرة، [وعيّن] «1» وربما فصّلت له خلعة الولاية، ورسم بكتابة تقليده، ثم يعدل عنه إلى غيره، ولا يتم أمره.
ومات- رحمه الله تعالى- ولم يل القضاء. ولم يبق من ذريته فى وقتنا هذا من فيه أهلية لذلك. وهذه الحكاية التى ذكرتها لا أشك فيها ولا أرتاب، وهى مشهورة يعرفها كثير من الناس.
وفى سنة ثلاث عشرة وستمائة- فى العشرين من جمادى الآخرة- توفى الملك الظاهر: غياث الدين غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، صاحب حلب- رحمه الله تعالى بحلب.
وكان مولده بالقاهرة، فى منتصف شهر رمضان، سنة ثمان وستين وخمسمائة. وملك بعده ولده: الملك العزيز غياث الدين محمد. وكان صغير السن، يقال كان عمره ثلاث سنين، فقامت ضيفة «2» خاتون- ابنة الملك العادل- بتدبير الدولة. ونصبت شهاب الدين طغرل الخادم فى أتابكيّة «3» الدولة.(29/75)
ذكر مصادرة الصاحب صفى الدين بن شكر ونفيه من الديار المصرية
كان سبب ذلك أن السلطان الملك العادل، لما قدم من الشام، ظن الصاحب صفى الدين أنه يعيده إلى الوزارة. فصار يركب فى المواكب، ويستعرض للقاء السلطان. ثم فتح بابه وصار الناس يدخلون إليه، والأعز وغيره يذكرون ذلك للملك الكامل. فاتفق أن الملك الكامل مرّ بدار الصاحب فوجد الخيل على بابه، فقال لمن معه من الأمراء: ما هذا إلا أحمق! يفتح بابه ويأمر الناس أن يدخلوا إليه ويمد السّماط، والسلطان غير راض عنه. فبلغ العادل ما قاله الكامل. فقال فى مجلسه: ما يكفى ابن شكر أنه أخذ مالى، حتى أطّرح جانبى بفتح بابه.
فاتصل ذلك بالصاحب، فركب إلى القلعة، وأراد الاجتماع بالملك الكامل- وكان الملك الكامل على الشراب. فسير إليه، وقال ما حاجتك؟
فإن لنا الآن شغلا! فقال: القصد أن يستخدمنى السلطان، أو يتركنى أخرج من بلاده. وسأل أن يكون الكامل سفيره عند أبيه الملك العادل. فعزّ كلامه عليه، وقال للرسول قل له: هذا ما لا أدخل فيه.
فعاد خجلا، ومضى إلى دار والدة الملك المعز مجير الدّين يعقوب، بن السلطان الملك العادل، وتعلق بذيل ستر الباب. ووافق أن العادل كان عندها فى ذلك الوقت. فعظم ذلك عليه. لكونه قصد زوجته، وأراد قتله، ثم سكن، وأرسل إلى الملك الكامل يقول: إن ابن شكر أخذ منى وأنا على سنجار ستمائة ألف دينار، فطالبه بها.(29/76)
فأحضره الملك الكامل فى مجلس شرابه، ووبخه، وأمر بأخذ أملاكه وحسبها له، بستمائة ألف دينار. ثم حضر جماعة بعد ذلك إلى الملك الكامل، فقالوا: هذا كان فى ابتداء أمره قطّانا، فمن أين له هذا المال؟ فقال ابن التبنى: أنا صانعته عن نفسى بمائتى ألف دينار، وصانعه شهاب الدين بن الفاضل بثلاثمائة ألف دينار. فنقل المجلس إلى الملك العادل، وذكر له من أخذ منه المصانعات، فأمر بنفيه.
فاستمهل إلى أن يبيع موجوده، فأذن له. فشرع فى بيع موجوده إلى أن كمل ثم أرسل إليه السلطان يقول: أخرج من بلادى إلى بلد، لا تقام لى فيه خطبة. فخرج من القاهرة فى يوم الخميس، لخمس بقين من جمادى الآخرة من السنة. فلما وصل إلى بلبيس أمر السلطان الملك العادل بتعويقه، وأخذ منه مالا ووكل به أياما ببلبيس ثم أطلقه فتوجه إلى آمد «1» .
وفيها صادر السلطان الملك العادل حسام الدين يونس، متولّى الإسكندرية، على ثلاثمائة ألف دينار.
وفيها فى سابع شوال، توجه العادل إلى ثغر الإسكندرية. وذلك أنه اجتمع بها من تجار الفرنج نحو ثلاثة آلاف رجل، فخاف أهل الثغر جانبهم.(29/77)
فخرج السلطان بعساكره إلى الثّغر، وبه ملكان «1» من ملوك الفرنج.
فأحضرهما، فذكرا أن التجار صمموا على الوثوب بأهل الثغر وقتلهم، وأخذه. فقبض حينئذ على تجار الفرنج واستصفى أموالهم، واعتقلهم، واعتقل الملكين. وعاد إلى القاهرة، فى سابع ذى الحجة من السنة.
واستهلت سنة أربع عشرة وستمائة:
ذكر مسير السلطان إلى الشام
وفى يوم الأحد، التاسع من شهر ربيع الآخر، من هذه السنة- توجه السلطان الملك العادل إلى الشام، لما بلغه قصد الفرنج بلاد الشام.
وكان رحيله من البركة «2» يوم السبت لثمان بقين من الشهر، وتوجه إلى البيت المقدس. وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة، فى كتاب «الروضتين فى أخبار الدولتين» أنه توجه إلى قلعة الكرك بذخائره وأمواله، وأقام بها مدة، وترك الأموال والذخائر بها.
وقال غيره: إنه بقى بالقدس إلى أن وصلت أمداد الفرنج فى البحر، من روميه الكبرى ومن الغرب الشمالى- وكان المقدم عليهم صاحب روميه- فنزلوا على عكا. وسار الملك العادل على أنه يسبقهم إلى الماء بخربة اللّصوص «3» ، فسبقوه إليها. فلما قاربهم، حيّد عنهم إلى جهة دمشق. فأغاروا(29/78)
على بيسان فنهبوها وما حولها، وعادوا إلى مرج عكّا بالسبى والغنائم.
وجهزوا آلات الحصار، وقصدوا الطّور «1» - وكان العادل قد بناه فى سنة تسع وستمائة- فحاصروه سبعة عشر يوما. فقتل بعض ملوكهم بسهم، ففارقوا الحصن. واستشهد على حصار الطور من أبطال المسلمين: الأمير بدر الدين محمد بن أبى القاسم، وسيف الدين بن المرزبان- وكان من الصالحين الأجواد.
وكتب الملك المعظم إلى الخليفة كتابا أوله:
قل للخليفة- لا زالت عزائمه ... لها على الكفر إبراق وإرعاد
إن الفرنج بأرض القدس قد نزلت ... لا تغفلنّ، فأرض القدس بغداد
وفى نسخة:
إن الفرنج بحصن الطّور قد نزلوا ... لا تغفلنّ، فحصن الطّور بغداد(29/79)
ذكر قصد الفرنج جزين «1» وقتلهم
قال: ولما انفصل الفرنج، قصد ابن أخت الهنكر «2» جبل صيدا وقال: لا بدّ لى من أهل هذا الجبل. فنهاه صاحب صيدا، وقال إن أهله رماة، وبلده وعر. فلم يقبل قوله. وصعد فى خمسمائة من أبطال الفرنج إلى مدين- وهى ضيعة الميادنة «3» بالقرب من مشغرا «4» - فأخلاها أهلها.
ونزلها الفرنج وترجّلوا عن خيولهم للراحة. فتحدرت عليهم الميادنة من الجبال، فأخذوا خيولهم وقتلوا عامتهم. وأسروا ابن أخت الهنكر. وهرب من بقى منهم نحو صيدا.
وكان معهم رجل «5» يقال له الجاموس، كانوا أسروه من المسلمين، فقال لهم أنا أعرف إلى صيدا طريقا سهلا أوصلكم إليها. فقالوا: إن فعلت أغنيناك. فسلك بهم أودية وعرة، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون،(29/80)
ففهموا أن الجاموس قصد ذلك، فقتلوه. ولم يفلت منهم إلى صيدا غير ثلاثة، وكانوا خمسمائة. وجاءوا بالأسرى إلى دمشق، وكان يوما مشهودا.
وفى هذه السنة، احترق مسجد الحسين بالقاهرة.
وفيها، توفى قاضى القضاة جمال الدين أبو القاسم: عبد الصمد بن محمد بن أبى الفضل، الأنصارى الحرستانى «1» وكانت وفاته بدمشق فى رابع ذى الحجة، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة عشرين وخمسمائة.
وأعيد القاضى زكىّ الدين إلى القضاء، بعد وفاته.
واستهلت سنة خمس عشرة وستمائة:
ذكر تخريب حصن الطّور «2»
فى هذه السنة استدعى السلطان الملك العادل ولده الملك المعظم، وقال له: إنك قد بنيت هذا الطّور، وهو يكون سبب خراب الشام، وقد سلّم الله تعالى من كان فيه من أبطال المسلمين، والسلاح والذخائر. وأرى من المصلحة خرابه، ليتوفر من فيه من المسلمين والعدد على حفظ دمياط، وأنا أعوضك عنه. وكانت دمياط قد حوصرت- على ما نذكره. فتوقف الملك المعظم، وبقى أياما لا يدخل على أبيه العادل. فبعث إليه وأرضاه بمال، ووعده ببلاد بالديار المصرية. فأجاب، وبعث فنقل ما كان فيه من العدد والذخائر إلى القدس وعجلون والكرك، ودمشق، وهدمه.(29/81)
ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر: محمد بن أيوب وشىء من أخباره
كانت وفاته- رحمه الله تعالى- فى يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، سنة خمس عشرة وستمائة، بعالقين «1» .
وذلك أنه لما عرج عن الفرنج وقصد دمشق، أقام بظاهرها مدة وهو مريض. فلما بلغه أخذ برج السّلسلة بثغر دمياط، ضرب بيده على صدره، وانزعج، وحصل له من الغم ما أفضى به إلى الوفاة- رحمه الله تعالى.
ومات، وله ست وسبعون سنة تقريبا. وذلك أنه سئل عن مولده، فقال:
ولدت سنة فتوح الرّها. وذلك فى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقيل كان مولده ببعلبك، لما كان والده فى خدمة الملك العادل: نور الدين الشهيد.
ومدة ملكه تسع عشرة سنة «2» ، وأربعين يوما. ولما مات لم يشعر بوفاته غير كريم الدين الخلاطى. وكان ولده الملك المعظم عيسى بنابلس.
وكان قد التقى مع الفرنج على القيمون «3» فى هذا الشهر، فانتصر عليهم،(29/82)
وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر من الدّاويّة «1» مائة فارس، وأدخلهم القدس منكّسة أعلامهم. وأقام بنابلس. فكتب إليه على جناح طائر يعلمه بالخبر، فجاء يوم السبت إلى عالقين. فاحتاط على الخزائن، وصبّر أباه العادل وكتم موته، وجعله فى محفّة «2» ، وعنده خادم يروح عليه، ورفع طرف سجاف المحفّة وأظهر أنه مريض. ودخلوا به إلى دمشق فى يوم الأحد، والناس يشيرون إلى من بالمحفّة بالخدمة والسلام، والخادم يومىء إلى جهة السلطان، كأنه يخبره بمن يسلم عليه، ودخلوا به إلى قلعة دمشق.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة، وشمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزى، فى تاريخهما: ومن العجائب أنهم طلبوا له كفنا فلم يقدروا عليه، فأخذوا عمامة النّجيب الفقيه ابن فارس فكفنوه بها، وأخرجوا قطنا من مخدّة فلفوه به، ولم يقدروا على ما يحفرون به، فسرق كريم فأسا من الخندق فحفروا له به. ودفن بقلعة دمشق، إلى أن بنى له القبة المجاورة لمدرسته، فنقل إليها فى سنة تسع عشرة وستمائة. وحصل لابنه الملك المعظم وهم، فلما دفن السّلطان قام قائما، وشقّ ثيابه ولطم على رأسه ووجهه.(29/83)
واشتهرت وفاته بعد دفنه. وعمل عزاؤه ثلاثة أيام، وصلى عليه فى غالب مدن الإسلام. ونودى ببغداد: من أراد الصلاة على الملك العادل الغازى، المجاهد فى سبيل الله، فليحضر إلى جامع القصر. فحضر الناس وصلّوا عليه صلاة الغائب. ولم يتأخر غير الخليفة. وتقدموا إلى خطباء الجوامع بأسرهم، فصلوا عليه بعد صلاة الجمعة.
وكان- رحمه الله- قد امتد ملكه واتسعت ممالكه. وكان ثبتا حازما، حسن التدبير صفوحا، يدبّر الملك والممالك على الوجه المرضى، متمسكا بأوامر الشرع الشريف ونواهيه، منفذا للأحكام الشرعية، عادلا مجاهدا عفيفا، كثير الصّدقة، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. طهّر جميع ممالكه من الخمور والفواحش بأسرها، وأسقط كثيرا من المكوس والمظالم. وكان الذى يتحصّل من هذه الجهات بدمشق خاصة مائة ألف دينار، فأبطل ذلك.
وشدّد فى أمر الخمر، ومنع من دخوله إلى دمشق- رحمه الله تعالى.
ذكر تسمية أولاد السلطان الملك العادل وما استقر لهم من الممالك والإقطاع
كان له رحمه الله تعالى من الأولاد الذكور سبعة عشر، وهم:
الملك الكامل، ناصر الدين محمد، ملك الديار المصرية. والملك المعظم: شرف الدين عيسى، صاحب دمشق والبيت المقدس، والكرك «1»(29/84)
والشّوبك «1» ، والسواحل. والملك الأشرف: مظفر الدين موسى، صاحب خلاط وما والاها وحرّان والرّها، وما مع ذلك.
والملك المظفر شهاب الدين غازى، صاحب ميّافارقين وما والاها والملك المظفّر شهاب الدين الحافظ أرسلان صاحب قلعة جعبر «2» وأعمالها.
والملك العزيز: عثمان له بانياس وتبنين وأعمال ذلك، وعدة أماكن من بلد دمشق، مثل نوى «3» وغيرها. والملك الصالح: عماد الدين اسماعيل، له قلعة بصرى وأعمالها، والسواد جميعه- وهو والعزيز فى خدمة أخيهما الملك المعظم.
والملك الفائز: إبراهيم، كان السلطان قد أقطعه الأعمال القوصية والملك المفضل: قطب الدين، أقطعه السلطان أيضا الأعمال الفيّومية، فأقر الملك الكامل ذلك بأيديهما. والملك المعز: مجير الدين يعقوب. والملك الأمجد: تقى الدين أبو الفضائل عباس- عند أخيهما الملك الأشرف صاحب خلاط. وله أيضا غير هؤلاء: الملك القاهر: إسحاق، وخليل- وهو أصغرهم.(29/85)
ومات له من الأولاد- فى حياته- أربعة، وهم: شمس الدين مودود، والد الملك الجواد يونس. والملك الأوحد: نجم الدين أيوب، الذى افتتح خلاط، كما تقدم. والملك المغيث: محمود. والملك الأمجد حسن- وهو شقيق الملك المعظم، والملك العزيز.
وكان له عدة بنات، أجلهن ضيفة خاتون، والدة الملك العزيز، ابن الملك الظاهر صاحب حلب.
ولما مات السلطان الملك العادل، أقر ولده- الملك المعظم- أحوال دمشق، على ما هى عليه فى أيام والده، بقية جمادى الآخرة. فلما استهل شهر رجب، أعاد المكوس وأطلق الخمور والمنكرات، وما كان والده السلطان قد أبطله. فقيل له فى ذلك، فاعتذر بقلة الأموال وقتال الفرنج.
ثم سار إلى بانياس، وراسل الأمير صارم الدين التبّينى فى تسليم الحصون التى بيده، فأجاب إلى ذلك، وسلمها، فأخرب الملك المعظم بانياس وتبنين. وأعطى ما كان بيد أولاد الأمير فخر الدين جهاركس لأخيه الملك العزيز عثمان، وزوّجه ابنة «1» جهاركس. ونزل الأمير صارم الدين وولده وأصحابه من الحصون، فأكرمهم الملك المعظم وأحسن إليهم، وأظهر أنه ما أخرب بانياس وتبنين، إلا خوفا من استيلاء الفرنج عليها.(29/86)
ذكر أخبار السلطان الملك [الكامل] » ناصر الدين ابن السلطان الملك العادل سيف الدين، أبى بكر محمد بن أيوب
وهو السادس من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية.
ملك الديار المصرية بعد وفاة والده الملك العادل، فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. وكان قبل ذلك ينوب عن والده بها كما تقدم.
ونحن نذكر أخبار الملك الكامل، وما اتفق من الحوادث والوقائع فى أيامه، بالديار المصرية: فى كل سنة نبدأ بذلك، ثم نذكر فى بقية السنة أخبار ملوك الشام من إخوته وغيرهم، ومن توفى فيها من المشهورين، ونأتى بالسنة التى بعدها، على ما تقف عليه- إن شاء الله.
ذكر نزول الفرنج على ثغر دمياط
كان نزول الفرنج على ثغر دمياط فى يوم الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، سنة خمس عشرة وستمائة- وذلك قبل وفاة الملك العادل، وهو اذ ذاك بمرج الصّفّر «2» .
ونزلوا بالبر الغربى «3» . فخرج إليهم الملك الكامل بعساكره، وكتب إلى السلطان بالخبر. فأرسل إليه عساكر الديار المصرية التى كانت فى صحبته. وأقام الملك الكامل بثغر دمياط بظاهرها، واتصل القتال بين الفريقين.(29/87)
فلما كان فى جمادى الأولى، ملك الفرنج برح السّلسلة- وهو بين دمياط والبر الغربى، فى وسط بحر النيل- وذلك أنهم عملوا برجا من الخشب على بطسة «1» كبيرة، وأسندوه إلى البرج. وحصل القتال بين المسلمين المقيمين به وبين الفرنج، إلى أن ملكوه فى يوم السبت، ثامن الشهر.
ثم كانت وقعة كبيرة بين المسلمين والفرنج. فلما كان فى شهر رمضان، عمل الفرنج مرمّة عظيمة «2» ، وزحفوا بها فى بطسة، وقصدوا سور دمياط.
فأحرقها المسلمون. وغرق للفرنج «3» فى هذا الشهر مراكب كثيرة، فى البحر الملح.
ذكر حوادث وقعت فى مدة حصار ثغر دمياط
كان مما اتفق فى مدة الحصار جباية التبرع من التجار، من أرباب الأموال وذلك فى ذى القعدة، سنة خمس عشرة.(29/88)
وفى يوم الثلاثاء، سابع عشر من الشهر، رحل السلطان الملك الكامل عن ثغر دمياط، وتأخر إلى أشموم «1» .
وسبب ذلك أن الملك الفائز كان عند أخيه الملك الكامل بثغر دمياط، وكان الأمير عماد الدين بن المشطوب يكره الملك الكامل، فأراد القبض عليه، وإقامة الملك الفائز. فاتصل ذلك بالكامل، فارتحل عن دمياط ليلا، وترك خيامه وخزائنه. فشعر المسلمون برحيله، فارتحلوا بأجمعهم، وتركوا أثقالهم وأموالهم. وأصبح الفرنج فلم يروا أحدا فى البر الشرقى. فظنوا أن ذلك مكيدة، فارتابوا. ثم حققوا الأمر، فلما اتضح لهم عدّوا بجملتهم، وكبسوا المنزلة «2» ونهبوا ما كان بها، واحتاطوا بدمياط برا وبحرا.
وكان السلطان قصد أن يتوجه إلى مصر، لخوفه من ابن المشطوب.
فأشار عليه بعض الأمراء بالإقامة على المنصورة، فاستقر بها. وثارت الفتن بالديار من العربان، فكانوا على المسلمين أشد من الفرنج.(29/89)
ذكر وصول الملك المعظم عيسى- صاحب دمشق وإخراج عماد الدين بن المشطوب وما اتفق له بعد خروجه
كان وصول الملك المعظّم شرف الدين عيسى إلى المنصورة فى يوم الخميس، لليلة بقيت من ذى القعدة، من السنة. فاشتد به عضد أخيه الملك الكامل.
ولما وصل، شكى له ما يحذره من أمر عماد الدين بن المشطوب «1» .
فركب الملك المعظم وجاء إلى خيمة عماد الدين. فلما أخبر بذلك، قال لغلمانه قولوا له هو نائم! فذكروا ذلك للملك المعظم، فقال: ننتظره إلى أن يستيقظ، وثنى رجله إلى عنق فرسه. فلما طال ذلك على عماد الدين، خشى عاقبة هذا الأمر. فخرج إليه وهو بغير خفّ، وقبّل يده. فقال له المعظم:
ليركب الأمير، حتى يحصل الاتفاق معه على نصب المجانيق على أطراف البحر.(29/90)
فلما ركب، سايره الملك المعظم وشغله بالحديث حتى أحاط به عسكر المعظم. ثم نظر إليه نظرة مغضب، وقال له: لما مات السلطان الملك العادل كان من أولاده من اسمه: عماد الدين بن المشطوب؟! قال: الله الله، يا مولانا! فأمر بإنزاله عن فرسه فأنزل. وحمل على بغلة إلى أشموم.
ولما أمر الملك المعظم بسفره، اعتذر أن لا نفقة معه، وسأل الرجوع إلى خيمته ليلبس خفّه، ويأخذ نفقة. فأعطاه الملك المعظم خمسمائة دينار، وقال له: جميع ما تخلّف من أموالك وأثقالك ودوابك يصل إليك. ثم رجع المعظم إلى خيمة ابن المشطوب، فجهز إليه خيله وأثقاله وغلمانه، وجميع ما يتعلق به، فلحقوه إلى الشام.
ووصل ابن المشطوب إلى دمشق، ثم إلى حماه وأقام بها. فبعث إليه الملك الأشرف منشورا، بأرجيش «1» ببلاد خلاط، وزيادة. وبعث إليه بالخلع. فتوجه إلى خدمته، فأكرمه وأحسن إليه. فصار يركب بالشّبّابة «2» ، ويمشى مشى الملوك.
ثم خرج عن طاعة الملك الأشرف، فى سنة سبع عشرة. وعاث فى أرض سنجار، وساعده صاحب ماردين. فسار إليه الملك الأشرف، ونزل على دنيسر «3» . وجاء الملك الصالح، فأصلح بين الأشرف صاحب(29/91)
ماردين. ودخل ابن المشطوب إلى تل أعفر «1» . فسار إليه فارس الدين بن صيره من نصيبين، وبدر الدين لؤلؤ من الموصل، وحصراه بها. فاستنزله الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ بالأمان، وحمله معه إلى الموصل، ثم قيده وبعث به إلى الملك الأشرف. فاعتقله بالجب فمات بالجوع والقمل. وكانت وفاته فى سنة تسع عشرة وستمائة. على ما نذكره.
ذكر وصول الصاحب صفى الدين بن شكر ووزارته
وفى مستهل ذى الحجة، سنة خمس عشرة وستمائة، قدم الصاحب صفى الدين بن شكر من آمد، وكان السلطان قد استدعاه. فلما قدم، ركب إليه وتلقاه وأكرمه وذكر له السلطان ما يحتاج إليه من الأموال والكلف، فالتزم له بتحصيل ذلك. وشرع فى مصادرات أرباب الأموال والتجار والأكابر. وقرر التبرع على الأملاك، وأحدث حوادث كثيرة. وجبى الأموال، حتى من الساسة والصوانع والمغانى ومعلمى المكاتب، وغيرهم.
واستهلت سنة ست عشرة وستمائة:
فى مستهل المحرم منها، أمر السلطان بخروج أهل مصر والقاهرة، لقتال الفرنج. فخرج الناس. وأقام الصاحب بالقاهرة إلى سابع عشرين من شهر(29/92)
رمضان، سنة ست عشرة. فاستدعاه السلطان واستوزره، وصرفه.
واحتجب الملك الكامل من الناس بعد ذلك. وكان قبل ذلك يركب بنفسه، ويستحث العوام على جهاد الفرنج.
ذكر خراب القدس
كان ابتداء الخراب بالقدس فى بكرة يوم الأحد سابع المحرم، سنة ست عشرة وستمائة.
وسبب ذلك أن الملك المعظم لما توجه إلى أخيه الملك العادل، بلغه أن طائفة من الفرنج قد عزموا على قصد القدس. فاتفق مع جماعة من الأمراء على إخرابه. وقال: قد خلا الشام من العساكر، فلو أخذه الفرنج حكموا على دمشق وبلاد الشام. فأمر بإخرابه. وكان بالقدس الملك العزيز عثمان، وعز الدين أيبك أستاذ الدار.
ووقع فى البلد ضجة عظيمة. وخرج الناس أجمع، حتى البنات المخدّرات والعجائز والشيوخ وغيرهم، إلى الصخرة والأقصى، فقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم. وخرجوا على وجوههم وتركوا أموالهم. وامتلأت بهم الطرقات، فمنهم من توجه إلى الديار المصرية، ومنهم من توجه إلى الكرك، وبعضهم إلى دمشق. وصار البنات المخدرات يمزقن ثيابهن، ويلففنها على أرجلهن، من الحفا. ومات خلق كثير من الجوع والعطش. ونهب ما كان لهم بالقدس، حتى بيع القنطار الزيت بالقدس بعشرة دراهم، ورطل النحاس بنصف درهم.(29/93)
وأكثر الشعراء القول فى ذلك، فقال بعض أهل العلم- يشير إلى الملك المعظم- من أبيات:
فى رجب حلّل الحميّا ... وأخرب القدس فى المحرّم!
ذكر استيلاء الفرنج على دمياط
كان استيلاء الفرنج على ثغر دمياط فى يوم الثلاثاء، لخمس بقين من شعبان سنة ست عشرة- وقيل لثلاث بقين منه.
وذلك أنهم كانوا قد أحاطوا بها برا وبحرا، ومنعوا الميرة عن أهلها، حتى هلكوا من الجوع، ومات أكثرهم. وعدمت الأقوات، وغلت الأسعار حتى بيع السكر بزنته ذهبا، والدجاجة بثلاثين دينارا، والبيضة بدينار، وبيعت بقرة بألف وستمائة دينار، واشترط البائع أن يكون له بطنها ورأسها، فباع ذلك بمائة دينار وأربعة عشر دينارا مصرية- على ما حكاه ابن جلب راغب فى تاريخه.
قال: فلما اشتد بهم ذلك، بذل لهم الفرنج الأمان على أنهم يخرجون منها ويتسلمها الفرنج، فأجابوه إلى ذلك، وخرج الناس منها. وبقى من عجز عن الحركة، فأسرهم الفرنج، وحملوا فى المراكب إلى عكا. فكانت مدة الحصار على ثغر دمياط ستة عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما. وكان السلطان إذا أراد أن يرسل إلى دمياط أرسل العوامين، فيحملون الكتب ويغطسون فى الماء، ويطلعون من تحت سور دمياط. فلما أحسن الفرنج بذلك، عملوا شباكا وخطاطيف من دمياط إلى البر الغربى، وثبتوا ذلك فى(29/94)
المراكب. فصار العوّام إذا غطس فى الماء وقع فى الشباك أو الخطاطيف، فيأخذونه فلا يكاد يفوتهم عوّام، ويقتلون من يجدونه. فامتنع الدخول إليها.
ولما استولى الفرنج على ثغر دمياط، أشار السلطان الملك الكامل على أخيه الملك المعظم بالعود إلى الشام، وغزو الفرج من تلك الجهة، واستجلاب العساكر من بلاد الشرق.
ذكر عود الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشام وما اعتمده
قال الشيخ أبو المظفر: يوسف، سبط بن الجوزى فى تاريخه:
لما استولى الفرنج على ثغر دمياط، كتب إلىّ الملك المعظم كتابا بخطه، يخبرنى بما جرى على أهل دمياط من الكفر، ويقول: إنى كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفى ضيعة: ألف وستمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانية «1» . وكم مقدار ما تقوم هذه الأربعمائة من العساكر؟ وأريد أن يخرج الدماشقة، ليذبوا عن أملاكهم- الأصاغر منهم والأكابر- ويكون لقاؤنا وهم فى صحبتك إلى نابلس، فى وقت سمّاه.(29/95)
قال: فجلست فى جامع دمشق، وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة فلما حلّ ركابه بالساحل وقع التقاعد من الأماثل، فأوجب ذلك أخذ الثّمن والخمس من أموالهم، مؤاخذة لهم. قال: وخرجت أنا إليه بالساحل وهو نازل على قيساريّة «1» ، فأقام بها حتى فتحها عنوة، وفتح غيرها. وعاد إلى دمشق.
ذكر وفاة ست الشام ابنة أيوب وايقافها أملاكها، وتفرقة أموالها، وما فعله الملك المعظم مع قاضى الشام، بسبب ذلك
وفى هذه السنة فى ذى القعدة، كانت وفاة ست الشام بنت أيوب:
أخت السلطان الملك الناصر صلاح الدين، والملك العادل. وهى شقيقة الملك المعظم: شمس الدولة تورانشاه، وسيف الاسلام «2» : ابنى أيوب.
وكانت سيدة الخواتين. وهى التى ينسب إليها المدرستان، بدمشق وظاهرها، أحداهما قبلىّ البيمارستان النّورى، والأخرى ظاهر دمشق بالعوينة. وتعرف أيضا بالحسامية، نسبة إلى ابنها حسام الدين بن(29/96)
لاجين «1» - وكانت دفنته بها. ودفنت هى معه فى قبره. وهو القبر الذى يلى الباب القبو من القبور الثلاثة. والقبلىّ قبر تورانشاه بن أيوب، والأوسط قبر ابن عمها: ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادى- وكان قد تزوجها بعد لاجين.
وكانت- رحمها الله- كثيرة الصدقة والبر. وكانت تصنع الأشربة والأدوية والمعاجين والعقاقير، فى كل سنة بألوف دنانير، وتفرقها على الناس. وكانت ست الشام، وأختها ربيعة خاتون، محرما على نيف وثلاثين ملكا وسلطانا.
وكان الملك المعظم يتهمها أن عندها من الجواهر ما لا يحصى قيمته.
وأن ذلك اتصل إليها مما كان بالقصور بالقاهرة. وكان كثير الإحسان إليها والبر بها، ويمنعها من الخروج من دمشق. ويظهر أن ذلك برأيها. ويرجو وفاتها عنده، ليستولى على أموالها وأملاكها، فاتفقت وفاتها وهو بالصيد.
ولما مرضت، جاء وكيلها ابن الشيرجى إلى قاضى القضاة: زكى الدين، وطلبه إليها بدارها. فأخذ معه أربعين عدلا من أعيان دمشق، فشهدوا عليها أنها أوقفت أملاكها على مدرستها، ووجوه البر وأنواع القربات، وجعلت دارها مدرسة ووقفت عليها وقوفا، وأبرأت جواريها وخدمها ووكلاءها. وماتت بعد ذلك. وأسندت وصيتها إلى القاضى. فعاد(29/97)
السلطان من الصيد، فوجد الأمر قد مضى على ذلك. فتألم لوقوعه، وأنكر على القاضى، وقال: يحضر إلى دار عمتى من غير إذنى، ويسمع كلامها، هو والشهود!.
ثم اتفق بعد ذلك أن القاضى طلب جابى أوقاف المدرسة العزيزيّة «1» - وهو سالم بن عبد الرازق، خطيب عقربا «2» - أخو المؤيد العقربانى- وطلب منه حسابها، فأغلظ له فى القول. فأمر القاضى بضربه، فضرب بين يديه، كما تفعل الولاة.
فوجد الملك المعظم سبيلا إلى إظهار ما عنده، فأرسل إلى القاضى بقجة، وهو فى مجلس حكمه، وفى مجلسه الجمال المصرى وكيل بيت المال، وجماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فجاءه الرسول، وقال للقاضى: السلطان يسلم عليك ويقول لك: الخليفة- سلم الله عليه- إذا أراد أن يشرف أحدا من أصحابه خلع عليه من ملابيسه، ونحن نسلك طريقه! وقد أرسل إليك من ملابيسه، وأمرأن تلبسها فى مجلسك هذا،(29/98)
وأنت تحكم بين الناس. وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباء «1» أبيض، وكلّوتة صفراء «2» . وفتح الرسول البقجة. فلما نظر القاضى إلى ما فيها وجم!.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: فأخبرنى الرسول الذى أحضر هذه الخلعة والرسالة بذلك، قال: وكان السلطان قد أمرنى أن ألبسه إياها بيدى، إن امتنع أو توقف. فأشرت عليه بلبسها، وأعدت عليه الرسالة.
فأخذ القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته بالأرض ولبس الكلّوتة الصفراء على رأسه، ثم قام ودخل بيته إثر هذه الحادثة، ورمى كبده ومات. ويقال أن ذلك كان فى يوم الأربعاء، سابع عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة.
وفوّض السلطان قضاء الشام بعده للجمال المصرى «3» وكيل بيت المال، وذلك فى شهر رجب سنة ثمان عشرة وستمائة.
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزى: وكانت حركة قبيحة وواقعة شنيعة، لم يجر فى الإسلام أقبح منها. وكانت من غلطات الملك المعظم. قال ولقد قلت له: ما فعلت إلا بصاحب الشرع، ولقد وجبت عليك دية القاضى.
فقال: هو أحوجنى إلى هذا. ولقد ندمت.(29/99)
واتفق أن الملك المعظم بعث إلى شرف الدين بن عنين الشاعر «1» - حين تزهّد- خمرا ونردا، وقال: سبّح بهذا- إشارة إلى أن زهده ليس حقيقة! فكتب إليه ابن عنين:
يا أيها الملك المعظم، سنّة ... أحدثتها، تبقى على الآباد
تجرى الملوك على طريقك بعدها ... : خلع القضاة وتحفة الزّهّاد
وفى هذه السنة، توفى الشيخ جلال الدين أبو محمد: عبد الله بن نجم ابن شاس بن نزار، بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن شاس، الجذامى السّعدى: الفقيه المالكى. وكان عالم مذهب مالك فى زمانه. وصنّف فى مذهب مالك كتابا نفيسا، سماه: «الجواهر الثمينة فى علم صاحب المدينة» . فانتفع به المالكية انتفاعا كثيرا. وكان مدرّسا بمدرسة المالكية بمصر، المجاورة للجامع. ثم توجه إلى ثغر دمياط بنيّة الجهاد، فتوفى هناك فى جمادى الآخرة، أو رجب، سنة ست عشرة وستمائة- رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى بالقاهرة القاضى: جمال الدين أبو الحسن على، ابن القاضى شرف الدين أبو المعالى شكر، بن القاضى كمال الدين أبو السّعادات: أحمد بن شكر، الشافعى- رحمه الله تعالى.(29/100)
واستهلت سنة سبع عشرة وستمائة:
فى هذه السنة، كانت وقعة البرلّس «1» : بين السلطان الملك الكامل والفرنج. وكانت من الوقعات العظيمة، المشهورة. قتل من الفرنج فيها عشرة آلاف. وغنم المسلمون خيولهم وسلاحهم. فرجعوا إلى دمياط.
وفيها أخذ ابن حسّون- مقدّم الشّوانى «2» الإسلامية- للفرنج إحدى عشرة حرّاقة «3»(29/101)
وفيها فى يوم الاثنين، السابع عشر من جمادى الآخرة، احترق بمدينة قوص، بظاهرها- خان الأمير مجد الدين مكرم بن اللمطى. وعدم للتجار فيه ما يقارب قيمته خمسمائة ألف دينار.
وكان متولى الأعمال القوصية، يومئذ، الأمير سيف الدين: سنقر الدّوادار العادلى. فكتب الأديب الفاضل: نجم الدين عبد الرحمن ابن وهيب القوصى «1» ، عن المتولى، كتابا إلى السلطان الملك الكامل، يخبره بهذه الحادثة، وهو:
«المملوك يقبّل الأرض بالمقام العالى، المولوىّ السلطانى، الملكى الكاملى الناصرى: غياث الاسلام، سلطان الأنام، ولىّ النعمة، كاشف غياهب الغمّة، جامع فضيلتى السيف والقلم، ورافع زينتى العلم والعلم- لا زالت آيات ملكه باهرة، ونجوم خرصانه «2» فى سماء العجاج «3» زاهرة، ووجوه أوليائه ناضرة، إلى ربها ناظرة ووجوه أعدائه ساهية ساهرة، تظنّ أن يفعل بها فاقرة «4»(29/102)
وينهى وقوع الكائنة التى عظم مصابها وأصاب عظيمها، وآلم موجعها وأوجع أليمها، وسقم بها من القلوب صحيحها، وصحّ بها من الخطوب سقيمها. وأحالت الأفكار فى ميدان الفكرة، وأطلق من الألسن والأعين عنان العبرة والعبرة. وهى حلول النار بالخان، الذى أنشأه الأمير مجد الدين مكرم بن الّلمطى بظاهر مدينة قوص وهذا الخان المذكور، قد كان محطا للرفيق ومجتمعا للسّفّار، يأتون إليه من كل فجّ وطريق، خصوصا الكارم «1» الإسكندرى- عوّضهم الله أموالهم، وبلّغهم آمالهم- فلا ينزلون بغيره منزلا، ولا يختارون سواه حصنا وموئلا. وإذا حل به أحدهم فكأنه ما فارق وطنه. يتخيّرون منازله وغرفه، ويهرعون إليه كما يهرعون ليوم عرفة.
فاتفق لقضاء الله السابق وقدره اللاحق، وإظهار ما كان من مغيّبه مستورا، وتلاوتهم كان ذلك فى الكتاب مسطورا- فاتفق يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الآخرة، أن خطبت على أعاليه ألسن النّيران، واسودّ الفضاء المشرق لتتابع الدّخان. وعاين أهله الهلاك، وجاءهم الموت من كل مكان. فلم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقد احدقت بهم النار إحداق الأجفان بالأحداق واستدار عليهم اللهب استدارة الأطواق بالأعناق. وتلالهم لسان القدر: ما عندكم ينفد وما عند الله باق.(29/103)
وزحفت الخطوب إليه زحفا، وصار للوقت دكا دكّا. والناس حوله صفّا صفّا. هذا، ولسان النار يقول: هل من مزيد؟ ومدامع الخلق تهمى وتزيد، فعلت الأصوات عند ذلك بالدعاء، وكاد اللهب يخمد من جريان ماء البكاء، وشهد الناس منه اليوم المشهود. وهبّت الأرياح فلم تخمد للأرواح ضراما، وخالفت هذه النار نار الخليل «1» ، فلم تعقب بردا وسلاما! فكلّ مالك لموضع صار فيه «مالكا «2» » . وكلّ ذى حال حسنة حاله حالكا. فمن فائز بنفسه دون نفائسه، ومن راغب فى هربه لشدة رهبه، ومن آبق «3» بمرده «4» دون أهله وولده. قد لزم كل منهم ما يعنيه، وعمل بقوله عز وجل: «يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه» . فإنا لله وانا اليه راجعون، ولأمره طائعون.
لا صادف لمصادف قضائه، ولا صارف لصرف بلائه.
لم يبق هذا المصاب لهولاء القوم جلدا، ولم يؤخّر عنه حزنا ولا كمدا.
وكلّ أحد منهم يقول: أهلكت مالا لبدا «5» . فكم من كريم كان يجزل الهبات فصار جديرا بأن يتصدّق بها عليه. وكم من مموّل كان يؤدى الزكاة فصار مستحقا بأن تصرف إليه. كانوا أعزّاء فى الغربة بأموالهم، فصاروا(29/104)
أذلّاء فى المواطن لإقلالهم. لم يخلص لهم إلا النّزر اليسير، والشىء الحقير، والقليل من الكثير مقدار أزوادهم إلى مواطنهم، وكفافهم إلى وصول مساكنهم.
هذا، ولم يعلم السبب فى وقوع النار. فقال قوم: صاعقة سمائية، وقال قوم: آفة أرضية. وتزاحمت فى ذلك الظنون، وعند الله من علمه السّرّ الكنون. إلا أن المملوك أرسل عليه من الماء طوفانا، وأجرى اليه بحارا- ولا أقول غدرانا- إلى أن عاد غريقا بعد ما كان حريقا، وصار موردا بعد ما كان موقدا. وأصبح ماء ثجّاجا «1» بعد ما كان سراجا وهاّجا. وعلموا أن المدفوع من بلاء الله أعظم، وقرأوا: «ولكن الله سلّم» .
أنهى المملوك ذلك، ليطالح بخفىّ الأحوال وجليّها، حتى لا يخفى عن علمه السامى خافية- لا زالت أنوار المملوك بذلك المقام متوالية متلالية- إن شاء الله تعالى.
وفيها، فى العشر الآخر من شعبان، صرف قاضى القضاة تاج الدين ابن الخرّاط «2» عن القضاء، بمصر والوجه القبلى.
وسبب ذلك أن إحدى بنات مرزوق العلائى تزوجت بإنسان علّاف اسمه داود، وهو غير كفء لها. فاستدعاه السلطان إلى المنصورة، وعقد له(29/105)
مجلسا وسلم المرأة لزوجها. وصرف القاضى عن الحكم، وصك الشهود.
وأضاف قضاء مصر والوجه القبلى لقاضى القضاة: شرف الدين بن عين الدولة الصّفراوى. «1»
ثم ولى القاضى تاج الدين المذكور، بعد ذلك، قضاء دمياط وكان بها، إلى أن مات- رحمه الله.
وفيها خرّبت صفد «2» . ثم عمّرها الفرنج بعد ذلك، عندما تسلموها من الملك الصالح إسماعيل- فى سنة ثمان وثلاثين.
وفيها قتل صاحب سنجار «3» أخاه. فسار الملك الأشرف إليها، فأخذها وعوض صاحب سنجار الرّقّة «4» وفيها قصد مظفّر الدين بن زين الدين- صاحب إربل «5» - الموصل.
فخرج إليه بدر الدين لؤلؤ، فهزمه زين الدين، فأفلت لؤلؤ وحده. فانتصر الملك الأشرف له، ونازل إربل. فبعث الخليفة إليه، فردّه عنها، وأصلح بين الملوك.(29/106)
وفى هذه السنة، كانت وفاة الملك الفائز: إبراهيم، بن الملك العادل.
وكان قد وافق الأمير عماد الدين بن المشطوب، وحلف له جماعة من الأمراء بالديار المصرية على الملك الكامل. وكاد أمره يتم. فاتفق من إخراج ابن المشطوب ما قدّمناه. وبقى الملك الكامل فى ضيق منه.
فيقال انه استشار الصاحب- صفى الدين بن شكر الوزير- فى أمره، فأشار بإرساله إلى الملوك ببلاد الشّرق، يستحثّهم على الحضور. فلما كانت واقعة البرلّس، قال السلطان الملك الكامل للملك الفائز: إن الملك المعظّم قد أبطا علينا والملك الأشرف، وليس لهذا المهم سؤال، فتوجّه إلى أخيك الملك الأشرف، وعرّفه ما نحن فيه من الضائقة. فتوجه.
وكان الملك الأشرف على الموصل. فمرض الفائز بين سنجار والموصل.
فمات- وقيل انه سمّ- فردّه من معه الى سنجار. فدفن عند تربة عماد الدين زنكى- رحمهما الله تعالى.
وحكى ابن جلب راغب، فى وفاته، أن السلطان جهّزه إلى الملك الأشرف، باتفاق من الملك المعظم، وبرأى الصاحب صفى الدين، وأنه.
جهز معه شيخ الشيوخ، فسقاه سمّا فى طريقه. فلما شعر الفائز به، قال له:
يا شيخ السّوء فعلتها بى! كل من هذا الذى أحضرته. فأكل منه، فماتا جميعا «1»(29/107)
وحكى غير ابن جلب راغب- وهو أقعد منه بهذه الحادثة- فى وفاة شيخ الشيوخ، فقال ما معناه: كانت وفاة شيخ الشيوخ: صدر الدين «1» أبى الحسن محمد، بن الإمام شيخ الشيوخ عماد الدين أبى الفتوح عمر «2» ، ابن الفقيه أصيل خراسان أبى الحسن على، بن الإمام الزاهد: أبى عبد الله محمد، بن حمّويه «3» ، الحمّوى الخراسانى النّيسابورى الجوينى، البحيراباذى «4» الشافعى- فى منتصف جمادى الآخرة- وقيل فى يوم الاثنين رابع عشرين الشهر بالموصل، بعلة الذّرب «5» . وكان الملك الكامل قد أرسله إلى الخليفة، يستنجده على الفرنج، فمرض بين حرّان والموصل، فوصل إلى الموصل ومات بها. وقيل كانت وفاته فى جمادى الأولى.(29/108)
ومولده بجوين فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وجوين هذه، التى نسب إليها، ناحية كبيرة من نواحى نيسابور، وإليها ينسب إمام الحرمين أبو المعالى: عبد الملك الجوينى. وأما أبو المعالى الجوينى: محمد بن الحسن ابن عبد الله- فهو منسوب إلى جوين: قرية من قرى سرخس. وهو إمام فاضل. وأما وقّاد بن قيس الجوينى الشاعر فمنسوب إلى جوين: بطن من سنبس «1» .
وفى هذه السنة كانت وفاة السيد الشريف: قتادة بن إدريس، الزّيدى الحسنى «2» العلوى، أمير مكة. وكنيته أبو عزيز. كان رحمه الله- عادلا منصفا. واطمأن الحاجّ فى أيامه. وما وطىء بساط خليفة قط. وكان يحمّل إليه فى كل سنة من بغداد الخلع والذهب. وكان يقول: أنا أحقّ بالخلافة من غيرى.
وبعث إليه الخليفة الناصر يستدعيه، ويقول له: أنت ابن العم والصاحب، وقد بلغنى شهامتك وحفظك للحاج، وعدلك وشرف نفسك، وقد أحببت أن أراك وأشاهدك، وأحسن إليك. فكتب إليه:(29/109)
ولى كفّ ضرغام أدلّ ببسطها ... وأشرى بها بين الورى وأبيع
تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفى وسطها للمجدبين «1» ربيع
أأجعلها تحت الرّجا، ثم أبتغى ... خلاصا لها، إنى إذا لوضيع
وما أنا إلا المسك فى كل بقعة ... يضوع «2» ، وأما عندكم فيضيع
وكانت وفاته- رحمه الله- إحدى الجماديين، بمكة- شرفها الله تعالى- وله سبعون سنة.
وملك بعده ابنه الحسن- وقيل أن ابنه الحسن سمّه- وكان له ولد آخر اسمه: راجح. وكان قتادة قد اتسعت ولايته من حدود اليمن إلى المدينة: وله قلعة ينبع واستكثر من المماليك. وذكر ابن الأثير وفاته فى سنة ثمان عشرة.
والله أعلم.
وفيها، كانت وفاة الملك المنصور: محمد بن عمر بن شاهنشاه ابن أيوب- صاحب حماه.
وكان شجاعا محبّا للعلماء. وصنف كتابا سماه: «المضمار» جمع فيه جملة من التواريخ، وأسماء من ورد عليه وأقام عنده، فى عشرة مجلدات. وكان كثير الصدقة، حافظا لرعيته. وكانت وفاته بحماه فى شوال، ودفن عند أبيه.
وقام بعده بملك حماه ولده الأكبر: الملك الناصر قليج أرسلان.(29/110)
ثم أخذ منه الملك الكامل حماه، وأعطاها لأخيه الملك المظفّر، واعتقل قليج أرسلان فى الجبّ بقلعة الجبل، بظاهر القاهرة المعزّية.
وفيها كانت وفاة الملك الصالح: نجم الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، صاحب آمد. وكان شجاعا عاقلا جوادا، محبا للعلماء. وكان الملك الأشرف يحبّه، وحضر إلى خدمة الأشرف غير مرة إلى دنيسر، وغيرها. ومات بآمد فى صفر.
وقام بعده ولده الملك المسعود. وكان ضد اسمه: بخيلا فاسقا. حضره الملك الكامل بعد ذلك فى آمد، ووجد فى قصره خمسمائة امرأة من الحرائر يفترسهنّ، من بنات الناس. فأخذه الكامل إلى مصر، وأحسن إليه.
وكاتب الروم وسعى فى هلاك الكامل. فقبض عليه واعتقله فى الجبّ. ثم أطلقه، فتوجه إلى التتار. وكان معه جواهر كثيرة، وأخت جميلة، فقتله التتار، وأخذوا ما معه.
وفيها، فى العشر الأول من ذى الحجة، توفى الشيخ القدوة العارف:
أسد الشام عبد الله اليونانى «1» صاحب الكرامات المشهورة والرّياضات والمجاهدات. وكان- رحمه الله ورضى عنه- لا يقوم لأحد من الملوك ولا لغيرهم، تعظيما لله تعالى، ويقول: لا ينبغى القيام لغير الله تعالى.
وكان لا يمسّ بيده درهما ولا دينارا، ولا يلبس غير الثوب الخام، وقلنسوة(29/111)
من جلد الماعز. ويبعث إليه بعض أصحابه فى الشتاء بفروة قرظ «1» ؛ يلبسها، ثم يؤثر بها إذا اشتد البرد. وكان إذا لبس ثوبا قال: هذا لفلان وهذا لفلانة، يوعد به ويعطيه إذا أتاه غيره.
وكان من خبر وفاته أنه دخل الحمام فى يوم الجمعة واغتسل، ولبس ثوبيه، وكان قد سمّاهما لا مرأتين، وصلى الجمعة بجامع بعلبك وهو صحيح. وجاءه داود المؤذّن وكان يغسل الموتى، فقال له: ويحك يا داود، انظر كيف تكون غدا! فلم يفهم. ثم صعد الشيخ المغارة، وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا الصخرة التى عند الّلورة، التى كان ينام تحتها ويجلس عندها، وعندها قبره. فنجّزت فى نهار الجمعة، وبقى منها مقدار نصف ذراع. فقال لهم: لا تطلع الشمس إلا وقد فرغتم منها.
وبات فى ليلة السبت، وهو يذكر أصحابه ومعارفه، ويدعو لهم حتى طلع الفجر. فصلى بهم الصبح، وخرج إلى صخرة كان يجلس عليها، فجلس وبيده سبحة. وقام الفقراء ليكملوا حفر الصخرة، فطلعت الشمس وقد فرغوا منها، والشيخ قاعد وبيده السّبحة. وجاء خادم من القلعة إليه فى شغل، فرآه نائما، فما تجاسر أن يوقظه. فجلس ساعة، فلما طال مجلسه قال لخادم الشيخ: يا عبد الصمد، ما أستطيع أن أقعد أكثر من هذا. قال عبد الصمد: فتقدمت إليه، وناديته: سيّدى سيّدى! فما تكلم.
فحركته، فإذا هو ميت! فارتفع الصياح.(29/112)
وكان الملك الأمجد- صاحب بعلبك- فى الصيد، فأرسلوا إليه.
فجاء، فرآه على تلك الحال: لم يقع: ولا وقعت السّبحة من يده، وهو كأنه نائم! فقال: نبنى عليه بنيانا وهو على حاله، ليكون أعجوبة! فقال أتباع الشيخ: السّنّة أولى. وغسله داود، ودفع الثوبين للمرأتين ولما الحدوه، قال له الحفّار: يا شيخ عبد الله، اذكر ما فارقتنا، أو اذكرنا عند ربك. قال: ففتح عينيه، ونظر إلىّ شزرا «1» . ودفن رحمه الله فى يوم السبت، وقد جاوز ثمانين سنة. والأخبار عنه فى الكرامات كثيرة، قد اقتصرنا على هذه النبذة.
واستهلت سنة ثمانى عشرة وستمائة:
ذكر وصول ملوك الشرق إلى السلطان الملك الكامل وانهزام الفرنج واستعادة ثغر دمياط، وتقرير الهدنة
فى هذه السنة، توجه الملك المعظم شرف الدين عيسى، بن السلطان الملك العادل، إلى أخيه الملك الأشرف، واجتمعا على حرّان «2» .
وكان الملك المعظم من أحرص الناس على إعانة أخيه الملك الكامل، على استعادة ثغر دمياط من الفرنج. وكان الملك الأشرف قد باين الملك الكامل، وتقاعد عنه فى هذه الحادثة: فتلطف الملك المعظم بالملك(29/113)
الأشرف، ولم يزل به حتى قطع الفرات بالعساكر، والمعظم يقدمه، إلى أن نزل الملك المعظم على حمص، والأشرف على سلمية «1» .
قال أبو المظفّر يوسف، فى تاريخه: وكنت قد توجهت إلى حمص لطلب الغزاة، وكان العزم قد وقع على دخول العساكر إلى طرابلس.
فاجتمعت بالملك المعظم على حمص فى شهر ربيع الآخر. فقال لى: قد سحبت الأشرف إلى ههنا بأسنانى وهو كاره، وكل يوم أعتبه فى تأخره وهو يكاشر «2» ، وأخاف من الفرنج أن يستووا على مصر. وهو صديقك، فتوجّه إليه، فإنه قد سألنى عنك مرارا.
قال: ثم كتب كتابا إلى أخيه بخطّه نحو ثمانين سطرا، فأخذته وتوجهت إليه إلى سلميّة؟ فتلقانى وأكرمنى، فقلت له: المسلمون فى ضائقة، واذا أخذ الفرنج الديار المصرية، ملكوا حضرموت وعفوا آثار مكة، وأنت تلعب؟ قم الساعة وارحل. فأمر برمى الخيام والدّهليز «3» لوقته. وقمت فركبت، وسبقته إلى حمص. فركب المعظم والتقى بى، وقال: والله ما نمت البارحة، ولا أكلت فى يومى هذا! فأخبرته أن الملك(29/114)
الأشرف يصل إليه بكرة الغد. فسرّ بذلك، ودعا لى. وأقبلت الأطلاب «1» من الغد. وجاء الأشرف فما رأيت أجمل من طلبه «2» ، ولا أحسن رجالا ولا أكمل عدة.
قال: وبات الأخوان الملكان فى تلك الليلة يتشاوران. فاتفقا على الدخول فى السحر إلى طرابلس، وكانوا على أحسن حال. فأنطق الله الملك الأشرف- من غير قصد- وقال للمعظم: ياخوند «3» ، م عوض دخولنا إلى الساحل ونضعف عساكرنا وخيلنا، ونضيع الزمان، ما نتوجه إلى دمياط ونستريح! فحلّفه المعظم بقول رماة البندق «4» فحلف، وقبّل المعظم قدمه.
ونام الأشرف، فخرج المعظم من الخيمة ونادى فى الناس: الرحيل إلى دمياط، وما كان يظنّ أن الأشرف يسمح بذلك. وساق المعظم إلى دمشق، وتبعته العساكر. ونام الأشرف فى خيمته إلى وقت الظهر، وانتبه فدخل الحمّام فلم يرحول خيمته خيمة! فسأل عن العساكر، فأخبر بالخبر. فسكت وركب إلى دمشق. ونزل القصر فى رابع عشر جمادى الأولى، فأقام بها إلى سلخ الشهر.(29/115)
وعرض العساكر، وتوجه إلى مصر، هو والملك المعظم- فى غرة جمادى الآخرة. ووصلوا إلى المنصورة، فى ثالث شهر رجب من السنة.
ووصل أيضا الملك المظفر بن الملك المنصور، صاحب حماه، وغيره من الملوك. هذا ما كان من خبر هؤلاء.
وأما الملك الكامل، فإنه فى هذه السنة اجتهد فى قتال الفرنج.. واستمر القتال بينهم وبينه فى البر والبحر. وطلع النيل وعم البلاد، وجرى فى بحر المحلّة، فرتّب السلطان مراكب الأسطول فى بحر المحلّة، ومنع الميرة «1» عن الفرنج. فاشتد ضررهم لذلك، وعدموا القوت. وعزموا على الرجوع إلى دمياط، فأحرقوا أثقالهم وهربوا ليلا. فأمر السلطان بقطع جسر البرمون «2» ، وغيره من الجسور، فقطعت. فأحاط بهم النيل من كل جانب. وكان فيهم مائة كند «3» ، وثمانمائة من الخيّالة المعروفين، وملك عكا، والدّوك «4» واللّو كان «5» نائب الباب «6» ، ومن الرّجّالة ما لا يحصى كثرة.
فلما عاينوا الهلاك، راسلوا السلطان، وبذلوا له أن ينزلوا على ثغر دمياط، ويؤمّنهم على أنفسهم وأموالهم. فأجابهم إلى ذلك. ووصل(29/116)
الملكان: الأشرف والمعظّم فى هذه الأيام. وتقررت الهدنة ثمانى سنين، وأنه يطلق جميع الأسرى من الجهتين.
وجلس الملك الكامل مجلسا عظيما. ووقف الملك الأشرف والملك المعظم وسائر الملوك فى خدمته. ولم يجلس معه إلا الملك المعظم محمد [بن] سنجرشاه، بن أتابك، صاحب جزيرة ابن «1» عمر- وكان قد وصل إلى الملك الكامل فى أوائل هذه السنة، قبل وصول الأشرف والمعظم- وعظّمه الملك الكامل تعظيما كثيرا. وكان فى مدة مقامه عنده، إذا حضر رسل الفرنج يقول لهم الملك الكامل: إنه الآن لا حكم لى، وحديثكم مع ملك الشّرق، والأمر له. وحضر رسول الفرنج مرة، فوقف الملك الكامل بين يدى الملك المعظّم هذا، وكذلك من كان بحضرته من الملوك الأيوبية. وكان الملك المعظم محمد شكلا مهيبا، جهورىّ الصوت، هيول الخلقة ففرق رسل الفرنج منه. ولما جلس السلطان فى هذا اليوم، أراد الملك المعظم الوقوف بين يديه مع الملوك الأيوبية، فلم يمكّنه من ذلك، وأجلسه إلى جانبه.
وحضر الملك يوحنا- صاحب عكا- إلى السلطان بظاهر البرمون، بعد أن أعطاه السلطان رهاين: ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأخاه الملك المفضل قطب الدين، وجماعة من أولاد الأمراء. فحلف يوحنا(29/117)
للسلطان، ولأخويه: الأشرف والمعظم، وحلفوا له. وذلك فى يوم الأربعاء، لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب، من السنة.
وتسلم ثغر دمياط فى تاسع عشر شعبان من السنة. فكانت مدة استيلاء الفرنج على الثغر سنتين، إلا ستة أيام. ومدة مقامهم بالديار المصرية ثلاث سنين، وأربعة أشهر، وستة عشر يوما. وتوجه الفرنج إلى عكا: بعضهم فى البر، وبعضهم فى البحر.
وعاد الملك المعظم، صاحب الجزيرة، والملك المعظم، صاحب دمشق، إلى ممالكهما. وتأخر الملك الأشرف عند السلطان الملك الكامل، وتصافيا، وزال ما عند كلّ منهما من الآخر. واتفقا على الملك المعظم صاحب الشام.
ذكر رجوع السلطان إلى القاهرة وإخراج الأمراء إلى الشام
قال: ولما تسلم السلطان ثغر دمياط، وعاد الفرنج إلى بلادهم، رجع السلطان إلى القاهرة. واستقر بقلعة الجبل.
ثم ركب فى ذى القعدة، وجاء إلى منظرة الصاحب صفى الدين بن شكر، لزيارته. فزاره، واستشاره فى أمر الأمراء، الذين كانوا مع عماد الدين بن المشطوب، لما قصد إقامة الفائز. فأشار بإخراجهم من البلاد.
وكانوا فى الجزيرة، مقابل ثغر دمياط، لعمارتها. فكتب السلطان إليهم بالانصراف، إلى حيث اختاروا. فتوجهوا إلى الشام. ولم يتعرض لشىء من(29/118)
موجودهم، وأقطع أخبازهم «1» لمماليكه.
فى هذه السنة- أعنى سنة ثمانى عشرة وستمائة- كانت وفاة أمين الدين أبو الدرّ: ياقوت بن عبد الله الموصلى، الكاتب المعروف بالمالكى- نسبة إلى السلطان ملكشاه السّلجقى. إليه انتهى حسن الخطّ وجوده الكتابة فى زمانه، وما أدّى أحد طريقة ابن البوّاب «2» فى زمانه مثله. وكتب كثيرا من الكتب. وانتشر خطه. وكان مغرى بنقل صحاح الجوهرى، كتب منها نسخا كثيرة: كل نسخة فى مجلدة واحدة. قال ابن خلّكان: ورأيت منها نسخا عدة، وكل نسخة تباع بمائة دينار. وكتب عليه خلق كثير، وانتفعوا به. وقصده الناس من البلاد إلى الموصل. وبها مات، وقد أسنّ وتغير خطّه- رحمه الله.
واستهلت سنة تسع عشرة وستمائة:
فى هذه السنة- فى أولها- وصل الملك الأشرف إلى القاهرة إلى أخيه الملك الكامل، وأمر بعمارة تربة لوالدته بالقرافة. وعاد فى شعبان من السنة.
وفيها ظهر بالشام جراد كثير، لم يعهد مثله. فأكل الزرع والشجر.
فأظهر الملك المعظم أن ببلاد العجم طائرا، يقال له: السّمرمر يأكل الجراد.
فأرسل الصدر البكرى محتسب «3» دمشق، ورتّب معه صوفيّة، وقال:(29/119)
تمضى إلى العجم. فهناك عين يجتمع فيها السّمرمر، فتأخذ من مائها قوارير، وتعلقه على رءوس الرماح، فكلما رآه السمرمر يتبعك! وكان قصد الملك المعظم فى إرسال البكرىّ أن يتوجه إلى السلطان:
جلال الدين خوارزم شاه ويتفق معه، لما بلغه إتفاق الملك الكامل والأشرف عليه. فتوجه البكرى، واجتمع بالسلطان جلال الدين، وقرر معه الأمور، وجعله سندا للملك المعظم. وكان الجراد قد قلّ، فلما عاد البكرى كثر وولاه الملك المعظم مشيخة الشيوخ «1» مضافة إلى الحسبة «2» .
وفيها نقل الملك العادل فى تابوته من قلعة دمشق إلى مدرسته «3» ، التى أنشأها عند دار العقيقى «4» . وأخرجت جنازته من القلعة، وعليها مرقعته، وأرباب الدولة حوله. ودخلوا من باب البريد إلى الجامع، ووضع فى صحن الجامع، قبالة حائط النّسر. وصلى عليه الخطيب الدّولعى «5» . ثم حملوا جنازته وخرجوا من باب البطّاقين، خوفا من ازدحام الناس فى الطريق. فلم يصل إلى تربته إلا بعد جهد، لضيق المسلك. وتردّد القراء والفقهاء مدة إلى التربة، غدوة وعشية. ولم تكن كملت عمارتها.(29/120)
ثم درس فيها قاضى القضاة جمال الدين المصرى، قبل كمال عمارتها.
وحضر السلطان الملك المعظّم، وتكلم فى الدرس مع الجماعة.
وكان الإجتماع بالإيوان الشمالى بالمدرسة. وجلس عن يمين السلطان إلى جانبه- الشيخ جمال الدين الحصيرى شيخ الحنفية، ويليه شيخ الشافعية:
الشيخ فخر الدين بن عساكر، ثم القاضى شمس الدين الشّيرازى، ثم القاضى محيى الدين بن الزّكى. وجلس عن يسار السلطان، الى جانبه، مدرّس المدرسة قاضى القضاة «1» ، والى جانبه سيف الدين على الآمدى، ثم القاضى شمس الدين يحيى بن سنىّ الدولة، ثم القاضى نجم الدين خليل قاضى العسكر. ودارت حلقة صغيرة، والناس وراءهم متصلون ملء الايوان. وكان فى تلك الحلقة أعيان المدرسين والفقهاء. وقبالة السلطان الشيخ تقىّ الدين بن الصّلاح وغيره. وكان مجلسا جليلا، لم يقع مثله إلا فى سنة ثلاث وعشرين وستمائة.
ذكر توجه الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى الحجاز، وما اعتمده
فى هذه السنة، حج الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل بالناس من اليمن، فى عسكر عظيم.(29/121)
وجاء إلى الجبل وقد لبس هو وأصحابه السلاح، ومنع علم الخليفة «1» . أن يصعد إلى الجبل. وأصعد علم أبيه: الملك الكامل، وعلمه. وقال لأصحابه: إن طلع البغاددة بعلم الخليفة فاكسروه، وانهبوهم. ووقفوا تحت الجبل من الظهر إلى غروب الشمس، يضربون الكوسات «2» ويتعرضون إلى الحاجّ العراقى، وينادون: يا ثارات ابن المقدّم «3» فأرسل «4» إليه حسام الدين بن أبى فراس- أمير الحاج العراقى- أباه، وكان شيخا كبيرا، فعرّفه ما يجب من طاعة الخليفة، وما يلزمه من ذلك من الشّناعة. فيقال إنه أذن فى صعود العلم قبيل الغروب. وقيل لم يأذن.
وبدا من الملك المسعود أقسيس «5» فى هذه الواقعة جنون عظيم، وأفعال شنيعة. قال أبو المظفّر «6» : حكى لى شيخنا جمال الدين(29/122)
الحصيرى «1» ، قال: رأيت أقسيس قد صعد على قبّة زمزم، وهو يرمى حمام مكة بالبندق! قال: ورأيت غلمانه فى المسعى يضربون الناس بالسيوف فى أرجلهم، ويقولون: اسعوا قليلا قليلا، فإن السلطان نائم سكران فى دار السلطنة التى بالمسعى. والدّم يجرى من ساقات الناس!.
وفيها، فى العشرين من شعبان، ظهر كوكب كبير فى الشرق، له ذؤابة طويلة غليظة. وكان طلوعه وقت السّحر، فبقى كذلك عشرة أيام.
ثم ظهر أول الليل فى المغرب مما يلى الشمال. فبقى كذلك إلى آخر شهر رمضان.
وفى هذه السنة، توفى الملك المفضّل قطب الدين أحمد بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، بالفيوم. ونقل إلى القاهرة فدفن بالقرافة الصغرى.
وإلى قطب الدين هذا، تنسب الدار القطبيّة التى بين القصرين بالقاهرة المعزّيّة، التى هى الآن البيمارستان المنصورى. وكان قد جمع أخواته بنات الملك العادل، بعد وفاة أبيه، وسكنها، وهنّ تحت كنفه، فسمّيت الدار القطبية به- رحمه الله تعالى.(29/123)
وفيها توفى الأمير عماد الدين: أبو العباس أحمد، بن الأمير الكبير سيف الدين أبى الحسن على، بن أحمد، بن أبى الهيجا، بن عبد الله، بن أبى الخليل بن مورتان، الهكّارى «1» ، المعروف بابن المشطوب «2» .
والمشطوب لقب والده، لقّب به لشطبة كانت بوجهه.
وكان أميرا كبيرا، وافر الحرمة عند الملوك، يعدّونه بينهم كواحد منهم. وكان عالى الهمة غزير الجود، واسع الكرم، شجاعا أبىّ النفس.
وكان من أمراء الدولة الصّلاحيّة. فإن والده لما توفى «3» ، كانت نابلس إقطاعا له، أرصد منها السلطان الملك الناصر صلاح الدين الثّلث لمصالح بيت المقدس، وأقطع ولده عماد الدين هذا بقيّتها. ولم يزل قائم الجاه والحرمة نافذ الكلمة، الى أن صدر منه على ثغر دمياط ما قدمنا ذكره. وكان من خبره واعتقاله ما قدمناه. ثم كانت وفاته بحرّان. وبنت له ابنته قبّة على باب مدينة رأس عين، ونقلته من حرّان إليها، ودفنته بها.
وأما والده- رحمه الله تعالى- فكان من أكابر الأمراء الصّلاحيّة.
وكان الملك الناصر «4» قد رتّبه بعكا، هو وبهاء الدين قراقوش الأسدى. ولما خلص منها، وصل إلى السلطان وهو بالقدس. قال ابن شدّاد: إنه دخل عليه بغتة، وعنده الملك العادل، فنهض إليه واعتنقه، وسر به سرورا عظيما. وأخلى له المكان، وتحدث معه طويلا.(29/124)
ولم يكن فى الدولة الناصرية من يضاهيه فى الرّتبة وعلو المنزلة. وكانوا يسمونه: الأمير الكبير. وكان ذلك علما عليه عندهم، لا يشاركه فيه غيره. وكان إقطاعه- نابلس وغيرها- بعد خلاصه من الأسر- ثلاثمائة ألف دينار. وكانت وفاته- أعنى والده- بالقدس، فى يوم الخميس سادس عشر شوال، سنة ثمان وثمانين «1» وخمسمائة، بعد خلاصه من الأسر بعكا بمائة يوم. ودفن بداره، بعد أن صلّى عليه فى المسجد الأقصى- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى جلال الدين أبو بكر، بن القاضى كمال الدين أبى السعادات: أحمد بن شكر.
واستهلت سنة عشرين وستمائة:
ذكر ملك الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل مكة- شرفها الله تعالى
وفى هذه السنة، ملك الملك المسعود أقسيس بن السلطان الملك الكامل- صاحب اليمن- مكة- شرفها الله تعالى. وكان صاحبها يومئذ:
الأمير حسن بن قتادة «2» ، وكان قد أساء السيرة. فسار إليه الملك المسعود وقاتله بالمسعى ببطن مكة، فى رابع شهر ربيع الآخر. فتغير الخليفة الناصر لدين الله على الملك الكامل، بسبب ذلك.(29/125)
ذكر عصيان الملك الملك المظفّر شهاب الدين غازى على أخيه الملك الأشرف وقتاله، وانتصار الملك الأشرف
وفى هذه السنة، عاد الملك الأشرف موسى من الديار المصرية، من عند أخيه الملك الكامل. فلما وصل إلى دمشق، تلقاه أخوه الملك المعظم عيسى، وعرض عليه النزول بالقلعة. فامتنع، ونزل بجوسق أبيه. وبدت الوحشة بين الإخوة: الكامل والمعظم والأشرف.
وركب الأشرف من الجوسق فى وقت السحر، فسار ونزل ضمير «1» .
ولم يعلم المعظم برحيله. وسار يطوى البلاد إلى حرّان. وكان الأشرف قد استناب أخاه الملك المظفر شهاب الدين غازى، صاحب ميّافارقين، بخلاط، لما توجه إلى مصر، وجعله ولىّ عهده، ومكّنه فى جميع بلاده.
فسوّلت له نفسه العصيان، وحسّنه له أخوه الملك المعظم، وغيره، ووعدوه المساعدة والإنجاد على أخيه الأشرف.
فسار الأشرف من حرّان إلى سنجار. وكتب إلى أخيه غازى أن يحضر إليه، فامتنع. فكتب إليه ثانيا، يحذّره عاقبة العصيان، ويلاطفه ويقول له: أنت ولىّ عهدى، والبلاد والخزائن بحكمك، فلا تخرّب بيدك وتسمع كلام أعدائك. فأصرّ على العصيان.
(معجم البلدان: ج 4- 441)(29/126)
فجمع الأشرف عساكر الشرق وحلب، وتجهز وسار إليه. وجمع غازى جمعا، وخرج إليه. والتقوا، واقتتلوا، فى سنة إحدى وعشرين وستمائة. وقاتل غازى قتالا شديدا. وكان أهل خلاط يحبون الملك الأشرف.
فبينما غازى يقاتل من باب فتح أهل خلاط بابا آخر. وأصعدوا صناجق الأشرف منه، ونادوا بشعاره. فهرب غازى إلى القلعة، وتحصن بها يومين.
ثم نزل إلى أخيه الملك الأشرف، واعتذر. فقبل عذره، وأعاده إلى ميّافارقين وديار بكر. فتوجه إلى ميّافارقين، مريضا من جراحات أصابته.
وأقام الملك الأشرف بخلاط ثلاثة أيام، وسلّمها لمملوكه أيبك والحاجب علىّ، ورجع إلى رأس عين.
وكان الملك المعظم قد خرج من دمشق، ونزل بالقطنة «1» ، لإنجاد أخيه غازى على أخيه الأشرف. وبعث إليه عيسى الدّباهى سرّا. فوصل، وقد فات الأمر. ورجع المعظم إلى دمشق، وذلك فى سنة إحدى وعشرين وستمائة.
وفيها كانت وفاة مبارز الدين سنقر الحلبى- الصّلاحى- والد الظّهير.
وكان قبل ذلك مقيما بحلب، ثم انتقل إلى ماردين فخاف الملك الأشرف عاقبة قربه، فبعث إلى أخيه الملك المعظم يقول: ما دام المبارز فى الشرق لا آمن على نفسى! فبعث إليه الملك المعظم ولده الظّهير غازى، يلتمس منه وصوله إليه، ويعرّفه رغبته فيه، ووعده أن يقطعه نابلس، وما اختار من بلاد الشام.(29/127)
فتوجه إليه ولده الظّهير، وأبلغه رسالة الملك المعظم إليه. وعرفه رغبته فيه. فأشار عليه صاحب ماردين أن يقيم، ولا يتوجه، وقال: هذه خديعة. ومكّنه من مملكته وخزائنه. فأبى إلّا الانحياز إلى الملك المعظم.
وتوجه إلى الشام، فى سنة ثمانى عشرة «1» وستمائة.
فخرج المعظم إليه وتلقاه، ولم ينصفه. ونزل بدار شبل الدولة الحسامى «2» بقاسيون. وأعرض المعظم عنه، إلى أن تفرق عنه من كان حوله، وأنفق ما كان فى حاصله، واحتاج إلى بيع دوابه وقماشه. ولم يزل كذلك إلى أن مات غمّا، فى هذه السنة. وكان قد وصل إلى الشام، ودائرته بمائة ألف دينار، فمات وليس له ما يكفّن فيه! فقام بتجهيزه شبل الدولة كافور الحسامى، وابتاع له تربة بألف درهم، ودفنه بها.
وكانت للمبارز المواقف المشهودة، حتى يقال إنه لم يكن فى زمانه أشجع ولا أكرم منه. ويقال إنه كان مملوك شمس الدولة تورانشاه بن أيوب «3» - رحمهما الله تعالى.
واستهلت سنة إحدى وعشرين وستمائة:
ذكر وصول الملك المسعود من اليمن
وفى هذه السنة، قدم الملك المسعود أقسيس- بن الملك الكامل- من اليمن إلى القاهرة، من جهة الحجاز. وإنما جاء طمعا فى أخذ دمشق والشام.(29/128)
وكان معه من الهدايا والتحف أشياء كثيرة: من جملة ذلك ثلاثة أفيلة، الكبير منها يدعى بالملك، وعليه محفة بدرابزين، يجلس فيها على ظهره عشرة أنفس، وفيّاله راكب على رقبته، وبيده كلّاب يضربه به، ويسوقه كيف أراد! وركب السلطان الملك الكامل للقائه. فلما دنت الفيلة منه، وضعت رؤوسها إلى الأرض، خدمة للسلطان! وكان فى جملة الهدية مائتا «1» خادم، وأحمال من العود والمسك والعنبر، وتحف اليمن.
وقيل إن قدمته هذه كانت فى سنة ثلاث وعشرين. والله أعلم.
وفيها، أنشأ الملك الكامل دار الحديث الكامليّة «2» التى بالقاهرة المعزّيّة بين القصرين وهى تقابل باب القصر، المعروف بباب البحر.
وفى سنة إحدى وعشرين أيضا- فى سلخ شعبان- توفى الوزير الأعز فخر الدين أبو الفوارس مقدام بن القاضى كمال الدين أبو السعادات أحمد بن شكر ومولده فى سنة إحدى وستين وخمسمائة.(29/129)
وتوفى الصاحب صفى الدين أبو محمد عبد الله، بن المخلص أبى الحسن على، بن الحسين بن عبد الخالق، بن الحسين بن الحسن بن منصور- الشّيبى القرشى المالكى، المعروف بابن شكر. ولم يكن من بنى شكر، إنما هو ابن عم كمال الدين أحمد بن شكر لأمّه، فعرف به.
ومولده بالدّميرة: بلدة من الأعمال الغربيّة بالديار المصرية- فى تاسع صفر، سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وقد تقدم ذكر وزارته وعزله وإعادته، وغير ذلك من أحواله. وكانت وفاته فى يوم الجمعة ثامن شعبان، ودفن برباطه الذى أنشأه بالقاهرة، بالقرب من مدرسته «1» .
وكان شديد البطش، عظيم الهيبة سريع البادرة، جسورا مقداما.
وقاسى الناس منه شدائد كبيرة. وانتزح جماعة من الأكابر عن أوطانهم بسببه. وكان كريما، إلا أنه لم يسمع بوزير من المتعمّمين «2» كان أظلم منه.
ولما مات، استوزر السلطان الملك الكامل بعده ولده: الصاحب تاج الدين يوسف، نحو شهرين. ثم قبض عليه واعتقله. وانتصب السلطان الملك الكامل للأمور بنفسه، وقرّر مصالح دولته، ونظر فى وجوه الأموال ومصارفها، واستصفى أموال الصاحب صفى الدين، وذخائره وأملاكه.
وفيها، فى سلخ شوال، توفى القاضى الأسعد: أبو البركات عبد القوى، بن القاضى الجليس: مكين الدولة أبى المعالى عبد العزيز بن الحسين، بن عبد الله بن الحبّاب- رحمه الله تعالى.(29/130)
واستهلت سنة ثنتين وعشرين وستمائة:
ذكر ابتداء المعاملة بالفلوس بالديار المصرية
فى هذه السنة فى ذى القعدة، ضربت الفلوس «1» بالقاهرة ومصر، وصارت من جملة النقود. وتقررت القيمة عن كل درهم ورق «2» ، من معاملة الديار المصرية، ستة عشر فلسا. ثم أبطلت المعاملة بها، فى سنة ثلاثين وستمائة. ثم عادت.
وفيها ضربت دراهم مستديرة، وأمر السلطان أن لا يتعامل بالدراهم المصرية العتق «3» ، وحصل للناس ضرر عظيم بسبب ذلك «4» ، وصار كل ما يتحصّل منها يسبك ويضرب من الجديد، وبلغ ضرب العتيق ستين درهما بدينار.(29/131)
وفيها، فى يوم الأربعاء سابع عشر شعبان، استخدم السلطان الملك الكامل القاضى سديد الدين: أبا عبد الله محمد بن سليم، صاحب ديوان الجيوش. ثم صرف بعد ذلك بمدة يسيرة. وهو والد الصاحب بهاء الدين على، المعروف بابن حنا: وزير الدولة الظاهرية الرّكنيّة «1» - وسيأتى ذكره- إن شاء الله تعالى.
وفيها صلب الملك المعظم عيسى رجلا، يقال له: ابن الكعكى، ورفيقا له.
وكان ابن الكعكى رأس حرب «2» ، وله جماعة أتباع وكانوا ينزلون على الناس فى البساتين، ويقتلون وينهبون. والمعظم يوم ذاك بالكرك، وبلغه أن ابن الكعكى قال لأخيه الملك الصالح إسماعيل: أنا آخذ لك دمشق، وكان إسماعيل ببصرى. فكتب الملك المعظم إلى متولّى دمشق أن يصلب ابن الكعكى، ورفيقه، منكّسين. فصلبا، فى العشر الآخر من شهر رمضان.
فأقاما أياما لا يجسر أحد أن يطعمهما ولا يسقيهما، فماتا. وقدم الملك المعظم دمشق بعد وفاتهما، فمرض مرضا أشفى منه، ثم أبلّ. ولم يزل ينتقض عليه، حتى مات. وكان رفيق ابن الكعكى خيّاطا، شهد له أهل دمشق بالصلاح، والبراءة مما رمى به.(29/132)
وفيها كانت وفاة الملك الأفضل، نور الدين على بن السلطان الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- فجأة- فى صفر، سنة ثنتين وعشرين وستمائة، بسميساط. ونقل إلى حلب، فدفن بها بظاهرها بتربته.
وكان مولده بالقاهرة فى سنة خمس وستين وخمسمائة، يوم عيد الفطر. وكان فاضلا شاعرا حسن الخط قليل الحظّ، تقلّبت به الأحوال.
وقد تقدم ذكر ملكه دمشق ومصر، وغير ذلك. ثم استقر آخرا بسميساط.
ومما يعزى إليه من الشعر أنه كتب الى الخليفة الناصر- لما أخرج من دمشق «1» ، واتفق عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمه الملك العادل أبو بكر:
مولاى، إن ابا بكر «2» ، وصاحبه ... عثمان «3» ، قد غضبا بالسيف حقّ على «4»
فانظر إلى حظ هذا الاسم، كيف لقى ... من الأواخر، ما لاقى من الأول
فأتاه الجواب من الإمام الناصر، وفى أول الكتاب:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالود، يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبى له بيثرب ناصر
فابشر، فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر، فناصرك الامام الناصر(29/133)
وقيل أن الخليفة جرّد لنصرته سبعين ألف فارس، فبلغه فوات الأمر فأعاد العسكر إلى بغداد.
وفيها، فى يوم الخميس سادس عشر ذى الحجة- وقيل سابع عشر ذى القعدة- توفى الإمام فخر الدين أبو عبد الله: محمد بن إبراهيم بن أحمد ابن طاهر، بن أبى الفوارس الخبرى الفارسى الشّيرازى الفيروزبادى، الشافعى الصوفى، من أجلّ مشايخ الطريقة، كبير الشأن. وكانت وفاته بمعبده: معبد ذى النّون بالقرافة الصغرى، على شفير الخندق من غربيّه.
ودفن بتربته، وقبره من المزارات المباركة المشهورة. وكان من علماء مشايخ وقته، شديد الهيبة فى قلوب الناس. وله تصانيف كثيرة فى الطريق، وشعر.
قدم دمشق فى شهر رجب، سنة ست وستين وخمسمائة، ودخل مصر فى نصف شعبان من السنة: ورحل الى الإسكندرية، وسمع بها من الحافظ السّلفى «1» ، وحدّث بالكثير عنه. وتوفى، وله من العمر ثلاث وتسعون سنة. وجاور بمكة، وحدّث بها. وقال: نحن من خبر سروشين، وهو إقليم من عمل شيراز، مشربهم من جبل الدينار. ولهم خبر آخر يقال له: خبر سمكان، من عمل شيراز أيضا. وخبر ثالث، يقال له: خبر فيروز أباد- خبر بإسكان الباء الموحّدة.(29/134)
واستهلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة:
ذكر وصول رسول الخليفة إلى الملوك أولاد السلطان الملك العادل، وطلب الصلح بينهم والاتفاق
فى هذه السنة، قدم الشيخ جمال الدين أبو محمد يوسف بن الجوزى «1» ، رسولا من الخليفة الظاهر بأمر الله «2» - إلى السلطان الملك الكامل وإخوته، وصحبته الخلع للملك الكامل، والتقليد بالولاية.
والخلع لولديه: الملك المسعود، والملك الصالح. وخلعة لوزيرة الصاحب صفى الدين- وكان قد مات- فأمر السلطان الفخر سليمان، كاتب الإنشاء، أن يلبس خلعة الصاحب، فلبسها.
ولبس السلطان وولداه الخلع، وعبروا من باب النصر، وخرجوا من باب زويلة «3» بالقاهرة، وطلعوا إلى القلعة. وكان يوما مشهودا.
ووصل أيضا- صحبته- الخلع للملك المعظم شرف الدين عيسى، وللملك الأشرف: مظفر الدين موسى.(29/135)
وتضمنت رسالته إلى الملك المعظم رجوعه عن السلطان جلال الدين خوارزم شاه»
، والصلح مع إخوته: الملك الكامل والملك الأشرف.
وكان الملك المعظم قد راسل السلطان جلال الدين- كما تقدم. ثم بعث إليه مملوكه الركين، فرحّله من تفليس، وأنزله على خلاط. والأشرف يومئذ بحرّان.
فقال الملك المعظم للشيخ جمال الدين: الرسول: «إذا رجعت عن السلطان جلال الدين، وقصدنى، إخوتى ينجدوننى؟ قال: نعم. فقال:
ليس لكم عادة تنجدون أحدا! هذه كتب الخليفة الناصر عندنا ونحن على دمياط، ونحن نكتب إليه نستصرخ به، ونقول انجدونا. فيجيىء الجواب:
إنا قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة، ولم يفعلوا. ثم ضرب له مثلا وحكى عليه حكاية. وقال: إن إخوتى قد اتفقوا علىّ، وقد أنزلت السلطان جلال الدين خوارزم شاه على خلاط. فإن قصدنى الأشرف منعه، وإن قصدنى الكامل قدرت على ملاقاته ودفعه.
وفى هذه السنة، عاد الملك المسعود إلى اليمن. وكان عوده فى ذى القعدة. وقد تقدم ذكر وصوله إلى خدمة أبيه بالهدايا، فى سنة إحدى وعشرين وستمائة. وذكر ابن جلب راغب: أن قدومه وعوده كان فى هذه السنة. والله أعلم.(29/136)
وفيها وصل الملك الأشرف إلى أخيه الملك المعظم بدمشق، وأعطاه رسالة، وتضرع إليه واعترف له بسابق فضله وسالف إحسانه، وسأله أن يرسل إلى السلطان جلال الدين خوارزم شاه يرحّله عن خلاط. فبعث إليه فرحّله عنها، وكان قد أقام عليها أربعين يوما. وسقط عليه وعلى أصحابه بها ثلج عظيم.
وأقام الملك الأشرف عند أخيه الملك المعظم بدمشق. وكان المعظم يلبس خلعة خوارزم شاه، ويرحّله عن خلاط. فبعث إليه فرحّله عنها، وكان قد أقام عليها أربعين يوما. وسقط عليه وعلى أصحابه بها ثلج عظيم.
وأقام الملك الأشرف عند أخيه الملك المعظم بدمشق. وكان المعظم يلبس خلعة خوارزم شاه، ويركب فرسه، وإذا جلسوا على الشراب يحلف برأس خوارزم شاه، والأشرف يتألم لذلك أشدّ الألم، ولا يستطيع أن يتكلم. ثم توجه الملك الأشرف إلى ضيافة أخيه الملك الكامل بالديار المصرية.
وفيها، عقد السلطان الملك الكامل نكاح ابنته على ابن صاحب الروم «1» .
وفيها توفى شبل الدولة: كافور بن عبد الله الحسامى «2» ، خادم ست الشام.
وكان عاقلا أديبا فاضلا، له حرمة وافرة فى الدولة، ومنزلة عالية عند الملوك.
وبنى مدرسة على نهر ثورا «3» وتربة، ووقف عليها الأوقاف، ونقل إليها الكتب الكثيرة. وبنى الخانقاه للصوفية، إلى جانب مدرسته. وفتح(29/137)
طريقا للناس من الجبل إلى دمشق، قريبة عند القفارات، على طريق عين الكرش. وبنى المصنع الذى على رأس الزّقاق، ومصنعا آخر عند المدرسة.
وكان كثير الإحسان إلى الفقراء، وصدقاته دارّة إلى الآن. وسمع الحديث ورواه. وكانت وفاته فى شهر رجب الفرد، ودفن بترتبه إلى جانب مدرسته «1» - رحمه الله تعالى.
وفيها فى نصف شهر رجب، توفى قاضى القضاة جمال الدين: أبو محمد وأبو الفضل وأبو الوليد وأبو الفرج: يونس بن بدران بن فيروز، بن صاعد بن على بن محمد بن على، القرشى الشّيبى، الحجازى الأصل، المليجى المولد «2» المصرى الدار، الدّمشقى الوفاة، المعروف بالمصرى.
مولده تقريبا سنة خمسين وخمسمائة. وبلده التى ولد بها مليج: من الأعمال المنوفية، بالديار المصرية. تفقه بمصر، وسمع بالإسكندرية والقاهرة.
وترسّل لبغداد. وتولى وكالة بيت المال بدمشق، ثم ولى القضاء بها- كما تقدم- فى سنة ثمان عشرة وستمائة. رحمه الله تعالى.
وفيها كانت وفاة الشريف حسن بن قتادة، بن إدريس الحسنى:
أمير مكة- شرفها الله تعالى.
وكان قد ولى الإمارة بعد أبيه كما تقدم- مغالبة- وكان سيىء السّيرة، ظلوما مقداما. وقتل أقباش «3» أمير الحاج العراقى، فى سنة سبع عشرة. وأحدث بمكة أمورا منكرة. ولما وصل الملك المسعود إلى مكة،(29/138)
وأخذها منها، هرب. فتوجه إلى بغداد مريضا، فمات بالجانب الغربى على دكة. فلما علم به، غسّل وكفّن وصلّى عليه وحمل إلى مشهد موسى، ودفن هناك.
واستهلت سنة أربع وعشرين وستمائة:
فى هذه السنة، عاد الملك الأشرف موسى إلى بلاده.
وفيها قدم رسول الأنبرور «1» إلى الملك الكامل، بطلب الفتوح «2» .
وتوجه إلى الملك المعظم بدمشق، فأغلظ له. وقال: قل لصاحبك ما أنا مثل الغير، ليس عندى إلا السيف! وفيها كان ختان الملك العادل بن الملك الكامل، وعمل سماط «3» عظيم بالميدان الأسود، تحت قلعة الجبل.
ذكر هدم مدينة تنّيس «4»
وفى شوال، سنة أربع وعشرين وستمائة، أمر السلطان الملك الكامل(29/139)
بهدم مدينة تنّيس. وسيّر إليها النّقّابين والحجّارين، فهدّمت بكمالها فى هذا الشهر، وأخليت ولم يبق بها ساكن. وكانت من المدن الجليلة: كدمياط والإسكندرية.
ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الكامل وبين اخيه المعظم
وفى هذه السنة، تأكدت الوحشة بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه الملك المعظم: صاحب دمشق. فكتب الملك الكامل إلى الأنبرور- ملك الألمان- أن يحضر إلى الشام والساحل، ويعطيه البيت المقدس، وجميع الفتوحات الصّلاحيّة بالساحل.
وكتب الملك المعظم إلى السلطان: جلال الدين خوارزم شاه، يسأله أن ينجده ويعينه على أخيه الملك الكامل. ويكون من جملة المنتمين إليه، ويخطب له على منابر بلاده، ويضرب باسمه الدينار والدرهم، فأجابه إلى ذلك. وسيّر إليه خلعة فلبسها، وشقّ بها مدينة دمشق. وغرم على رسل السلطان جلال الدين، فى مدة تسعة أشهر، تسعمائة ألف درهم. وقطع خطبة الملك الكامل.(29/140)
فتجهز الملك الكامل وخرج لقصد دمشق. فكتب إليه الملك المعظم يقول: إننى قد نذرت لله تعالى أن كل مرحلة رحلت منها لقصدى أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معى وكتبهم عندى، وأنا آخذك بعسكرك. هذا ما كتب له فى الباطن. وكتب إليه فى الظاهر يقول: أنا مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وأنا أول من حضر لخدمتك قبل ملوك جميع الشام والشرق. فأظهر السلطان هذا الكتاب للأمراء، وعاد إلى القاهرة، وقبض على جماعة من الأمراء الذين توهّم فيهم أنهم كاتبوا الملك المعظم: من جملتهم الأمير فخر الدين الطّنبا الحبيشى «1» ، وفخر الدين الطّنبا الفيّومى أمير جاندار، وعشرة من الأمراء البحرية العادلية، وأخذ جميع أموالهم.
وفيها، فى يوم الأربعاء، سابع عشر شهر ربيع الأول، توفى القاضى ناصر الدولة أبو الحجاج يوسف، بن الأمير فخر الدين شاهان شاه، بن الأمير عز الدين أبى الفضل غسّان، بن الأمير العظم جلال الدين أبى عبد الله: محمد بن جلب راغب الآمرى «2» ، وقد تجاوز سبعين سنة.
وهو من أولاد الأمراء المصريين، لم يزالوا أمراء من الدولة الآمريّة إلى أيام شاور الوزير، فأبادهم وقتل بعضهم. ولما جاء أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية تزيّا القاضى ناصر الدين بزىّ القضاة، وخدم فى الخدم الديوانية، وعند الأمراء. وناصر الدولة هذا هو جد تاج الدين محمد بن(29/141)
على، المعروف بابن ميسّر «1» ، صاحب التاريخ- رحمه الله تعالى.
وفيها فى يوم الأحد تاسع عشر شوال، كانت وفاة قاضى القضاة:
عماد الدين عبد الرحمن، بن عفيف الدين أبى محمد عبد العلى بن على، السّكّرى. تفقّه على الفقيه شهاب الدين الطّوسى «2» ، وعلى الفقيه أبو المنصور ظافر بن الحسين «3» . وسمع الحديث وحدّث به. وولى القضاء- كما تقدم. وولى الخطابة بالجامع الحاكمى بالقاهرة، والتدريس بمدرسة منازل العزّ بمصر «4» . ثم صرف عن القضاء والخطابة كما تقدم. وكان هيوبا.
وصحب جماعة من المشايخ، وله معهم أحوال ومكاشفات. ومولده بمصر فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.(29/142)
ذكر وفاة الملك المعظم عيسى وشىء من أخباره وسيرته، وقيام ولده الملك الناصر داود
وفى هذه السنة، فى يوم الجمعة مستهلّ ذى الحجة، كانت وفاة الملك المعظّم شرف الدين عيسى، بن السلطان الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب بن شادى- صاحب دمشق، وكانت مدة ملكه، بعد وفاة والده الملك العادل، تسع سنين وستة أشهر، إلا ثمانية أيام. ومولده بالقاهرة فى سنة ست وسبعين وخمسمائة.
وكان- رحمه الله- قد جهّز العساكر إلى نابلس، خوفا من اتفاق أخيه الملك الكامل مع الأنبرور، فمرض فى منتصف شوال واشتد به مرضه، وأصابه ذرب مفرط حتى رمى قطعة من كبده. وقيل أنه سمّ، ومات وغسّله كريم الدين الخلاطى، والنّجم يصب عليه الماء. وكان قد أوصى أن لا يدفن بقلعة دمشق، وأن يخرج إلى الميدان فيصلّى عليه ويحمل إلى قاسيون، فيدفن على تربة والدته تحت الشجرة. فلم تنفّذ وصيته، ودفن بالقلعة. ثم أخرج منها بعد مدة، لما ملك الملك الأشرف، على حالة غير مناسبة لمثله، وبين يديه نصف شمعة ومعه العزيز خليل، ودفن مع والدته فى القبّة- وفيها أخوه الملك المغيث.(29/143)
وكان الملك المعظم- رحمه الله تعالى- فقيها فاضلا، نحويّا، قرأ القرآن وتفقه على مذهب أبى حنيفة على الشيخ فخر الدين الرّازى، وحفظ المسعودى، واعتنى بالجامع الكبير. واشتغل بالأدب على تاج الدين الكندى «1» ، فأخذ عنه كتاب سيبويه، وشرحه للسّيرافى، والحجّة فى القراءات لأبى على الفارسى، والحماسة. وقرأ الإيضاح لأبى على، حفظا.
وسمع مسند أحمد بن حنبل بدمشق على ابن طبرزد «2» ، وأشياء من مسموعاته. وسمع السّيرة لابن هشام، وغير ذلك. وله ديوان شعر. وصنّف فى العروض، وكان مع ذلك لا يقيم وزن الشعر فى بعض الأوقات.
وكان شجاعا مقداما كثير الحيا متواضعا، حسن الصّوت ضحوكا غيورا، جوادا حسن العشرة، محافظا على الصّحبة والمودة وكان إذا خرج إلى الغزاة لا ينام إلا على حبل طرح، وزرديّته مخدّته. ولا يقطع الاشتغال بالقرآن والجامع الكبير وسيبويه. وكان يركب فى كل يوم غالبا، فإذا نزل مدّ السّماط، فإذا أكل الناس انتصب لقضاء الحوائج إلى الظهر.(29/144)
وكان فى أيام الفتح مع الفرنج يرتب النيران على الجبال، من باب نابلس إلى عكّا. وله جماعة على جبل الكرمل- المقابل لعكا- عليه المنورون، وبينهم وبين الجواسيس علامات. وله فى عكا أصحاب أخبار- وأكثرهم نساء الخيّالة- وكانت طاقات بيوتهم مقابلة الكرمل- فإذا عزم الفرنج على الإغارة فتحت المرأة طاقتها. فإن كان يخرج مائة فارس، أوقدت شمعة واحدة. وإن كانوا مائتين، أوقدت شمعتين. وتشير بالنار إلى الجهة التى يقصد الفرنج الإغارة عليها. وكان الفرنج لا يقصدون جهة، إلا يجدون عسكر المعظم قد سبقهم إليها. وكان يعطى النساء الجواسيس فى كل فتح جملة كثيرة.
قال الشيخ أبو المظفر، يوسف سبط ابن الجوزى: قلت للملك المعظم فى بعض الأيام: هذا إسراف فى بيوت الأموال. فقال: أنا أستفتيك:
لما أن عزم الأنبرور على الخروج إلى الشام، أراد أن يخرج من عكا بغتة، ويسير إلى باب دمشق، فبعث فارسا عظيما، وقال له: أخف أمرنا ومجيئنا إلى البلاد لنغير بغتة. وكان بعكا إمرأة مستحسنة، فكتبت إلىّ تخبرنى الخبر. فبعثت إليها ثيابا ملوّنة، ومقانع «1» وعنبرا، فلبست ذلك، واجتمعت بذلك الفارس. فدهش، وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من عند(29/145)
صديق لى من المسلمين. فقال: من هو؟ فقالت: الكريدى. فصلّب «1» على وجهه، وقام فخرج من عندها. فمازالت تلك المرأة تتلطف به، حتى تسحب المودة بينى وبينه. فصرت أهاديه، حتى كان يبعث إلىّ كتب الأنبرور التى يبعثها إليه، مختومة. وأرسل إليه، فيكتب ما أقول. فأنا أدارى عن المسلمين بهذا القدر اليسير، وأفدى به الخطير، فإن الأنبرور لو جاء بغتة، أسر من أهل الشام، وساق من مواشيهم وأموالهم ما لا يحصى قيمته.
وكان الملك المعظم- رحمه الله- قد أمر الفقهاء أن يجرّدوا «2» له مذهب أبى حنيفة، دون صاحبيه. فجّردوا له المذهب فى عشر مجلّدات، وسماه التّذكرة. فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا، ويديم مطالعته. ويكتب على كل مجلّد: أنهاه- حفظا- عيسى بن أبى بكر بن أيوب. قال أبو المظفر:
فقلت له: ربما تؤخذ عليك، لأن أكبر مدرس فى الشام يحفظ القدورى «3» مع تفرّغه، وأنت مشغول بتدبير الملك. فقال: ليس الاعتبار بالألفاظ، وإنما الاعتبار بالمعانى. باسم الله، سلونى عن جميع مسائلها(29/146)
وكان رحمه الله تعالى- حسن التدبير للملك. وكان وزيره شرف الدين بن عنين، الشاعر الهجّاء المشهور. واستعفى من الوزارة، وكتب إلى الملك المعظم:
أقلنى عثارى، واتّخذها وسيلة ... تكون برحماها إلى الله راقيا
كفى حزنى أن لست ترضى، ولا أرى ... فتى راضيا عنى، ولا الله راضيا
أخوض الأفاعى طول دهرى دائبا ... وكم يتوفّى من يخوض الأفاعيا
فأعفاه. ولابن عنين أخبار نذكرها، إن شاء الله تعالى- عند وفاته.
ولما مات الملك المعظم، ملك بعده دمشق ولده: الملك الناصر صلاح الدين داود. فأساء السّيرة، واشتغل عن مصالح دولته بالشرب واللهو والطرب. فاقتضى ذلك ما نذكره، من إخراجه من دمشق.
واستهلت سنة خمس وعشرين وستمائة:
فى هذه السنة، وصل إلى دمشق الأمير عماد الدين بن الشيخ «1» ، من جهة السلطان الملك الكامل، إلى ابن أخيه الملك الناصر، ومعه جلدك بالخلع والتغيير للملك الناصر. وأقام عماد الدين بدمشق.(29/147)
وفيها عزم. الملك الكامل على المسير إلى الشام، وبرز بخيامه ظاهر القاهرة. ولما عزم على ذلك سلطن «1» ولده نجم الدين أيوب، ونعته بالملك الصالح، وركب بشعار السّلطنة «2» فى سلخ شعبان، ووالده الملك الكامل مبرّز بظاهر القاهرة.
ورتّب السلطان مع الملك الصالح- فى النيابة- الأمير فخر الدين:
يوسف بن الشيخ «3» . فأساء الملك الصالح السيرة بعد توجه والده، واشترى بستان الخشّاب «4» ، وعمّر فيه مناظر. ففارقه الأمير فخر الدين بن الشيخ، فى العشرين من شوال، ولحق بالسلطان الملك الكامل.
وفيها فى سادس عشر شعبان، أفرج السلطان الملك الكامل عن تاج الدين: يوسف، بن الصاحب صفىّ الدين بن شكر- وكان قد استوزره بعد وفاة والده، ثم اعتقله بعد شهرين- كما تقدم. فأفرج عنه الآن، وأنعم عليه بمائة وخمسين دينارا، واستخدمه موقّعا «5»(29/148)
وفيها كانت الوقعة على صور «1» . وذلك أن الملك العزيز عثمان، وصارم الدين التّبنينى، كمنا للفرنج قريبا من صور. فلما تعالى النّهار.
خرج أهل صور «2» : فارسهم وراجلهم بمواشيهم، فخرجا عليهم فيمن معهما من الكمين، فقتلوا وأسروا سبعين فارسا، واستاقوا الأغنام والجواميس. ولم يسلم ممن خرج من الفرنج، غير ثلاثة.
وفيها توفى شرف الدين أبو المعالى: شكر بن القاضى كمال الدين أبى السعادات، أحمد بن شكر. وهو أخو الوزير الأعز فخر الدّين مقدام. وكان قد ولى نظر ثغر الإسكندرية وغيرها- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى أبو الفتح: نصر بن صغير بن داغر، أبو خالد القيسرانى الحلبى كان شيخا أديبا، له نظم حسن. رحمه الله تعالى.
واستهلت سنة ست وعشرين وستمائة:
ذكر تسليم البيت المقدس وما جاوره للفرنج
كان تسليم البيت المقدّس وما جاوره للفرنج فى العشر الآخر، من شهر ربيع الأول، من هذه السنة.(29/149)
وسبب ذلك أن السلطان الملك الكامل، لما اتصلت به أفعال ابن أخيه الملك الناصر داود، خرج من القاهرة فى الثالث والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين، واستناب ولده الملك الصالح كما تقدم، وبقى إلى العشر الأوسط من شهر رمضان، وسار إلى البيت المقدس. ثم عاد ونزل بتلّ العجول «1» . فأرسل الملك الناصر داود الفخر بن بصاقة «2» إلى عمه الملك الأشرف ليستنجده، ويعرفه قصد الملك الكامل بلاده. فجاء الأشرف إلى دمشق، ونزل ببستانه بالنّبرب «3» . ولما شاهد حركات ابن أخيه المذمومة، أطمعته نفسه فى أخذ دمشق لنفسه.
ووصل الملك الكامل إلى نابلس، ورتّب الولاة والنّوّاب فى البلاد الساحلية. فبلغه أن الأنبرور فرديك «4» قد وصل إلى يافا فى ميعاده. فعاد إلى تل العجول، وتردّدت الرسائل بينه وبين الأنبرور. وكان السفير بينهما الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، والصّلاح الإربلىّ. فتقرر الصلح على: أن السلطان يعطى الأنبرور البيت المقدس، والقرايا التى على طريقه من يافا إلى(29/150)
القدس، ومدينة لدّ «1» وتبنين «2» وأعمالها. ووقّعت الهدنة مدة عشر سنين.
وتسلم الأنبرور البيت المقدس، وهذه الأماكن. فحضر الأئمة والمؤذنون، الذين كانوا بالصخرة والمسجد الأقصى، إلى باب الدّهليز الكاملى، وأذّنوا فى غير وقت الأذان. فأمر الملك الكامل أن يؤخذ منهم ما معهم من السّتور والقناديل والآلات، وأن يتوجهوا إلى حال سبيلهم.
قال: ولما وصلت الأخبار بتسليم بيت المقدس للفرنج، عملت الأعزية فى جميع بلاد الإسلام، بسبب ذلك. وأشار الملك الناصر داود- صاحب دمشق- إلى الشيخ شمس الدين أبى المظفّر: يوسف سبط ابن الجوزى، أن يذكر ما جرى على القدس فى مجلس وعظه بجامع دمشق، ليكون ذلك زيادة فى الشناعة على عمه الملك الكامل.
فجلس ووعظ، وقال: انقطعت عن بيت المقدس وفود الزائرين! يا وحشة للمجاورين! كم كانت لهم فى تلك الأماكن ركعة! كم جرت لهم فى تلك المساكن من دمعة. بالله لو صارت عيونهم عيونا لما وفت. ولو انقطعت قلوبهم أسفا لما اشتفت. أحسن الله عزاء المسلمين. يا محلّة ملوك المسلمين. لهذه الحادثة تسكب العبرات، ولمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات.(29/151)
ثم أنشد قوله:
أعينىّ لا ترقى «1» من العبرات ... صلى بالبكا الآصال بالبكرات
وهى أبيات ذكر فيها البيت المقدّس وفضله، وزوّاره، وما حل به من هذه الحادثة- تركنا ذكرها اختصارا.
وكان الملك الأشرف قد قال للملك الناصر داود: أنا أتوجّه إلى عمك الملك الكامل، وأصلح حالك معه. وتوجه إلى السلطان فوجده قد سلّم البيت المقدس للفرنج، فشق ذلك عليه ولامه. فقال الملك الكامل:
ما أحوجنى إلى هذا إلا المعظّم- يشير إلى أن المعظم أعطى الأنبرور من الأردنّ إلى البحر، وأعطاه الضّياع التى من باب القدس إلى يافا، وغيرها.
ولما اجتمع الملك الأشرف بالملك الكامل اتفقا على حصار دمشق.
وقبض الملك الناصر على فخر الدين بن بصاقة «2» ، وابن عمه المكرّم، واعتقلهما فى الجبّ «3» ، واستأصل أموالهما. وكان قد اتهم الفخر أنه حسّن للأشرف الاستيلاء على دمشق.(29/152)
وفى هذه السنة فى آخر صفر، فوّض الملك الناصر داود القضاء بدمشق للقاضى: محيى الدين أبى الفضائل، يحيى بن محمد بن على بن محمد بن يحى، القرشى: المعروف بابن الزّكى- شريكا لقاضى القضاة: شمس الدين أحمد الخويى «1» . وعزل القاضى نجم الدين: أحمد بن محمد بن خلف المقدسى- وكان ينوب عن القاضى شمس الدين الخويىّ فى القضاء.
وصار الخويىّ وابن الزّكى فى القضاء جميعا.
ذكر توجه السلطان إلى دمشق وحصارها، وأخذها من ابن أخيه: الملك الناصر داود، واستقرار الملك الناصر بالكرك وما معها
قال: لما سلم السلطان الملك الكامل البيت المقدس وما جاوره إلى الأنبرور، سار إلى دمشق، وصحبه الملك الأشرف. ووصل إليه الملك العزيز عثمان، صاحب بانياس، ومعه ولده الملك الظاهر، فأعطاه خمسين ألف دينار، وأعطى ولده عشرة آلاف، وأنعم عليهما بقماش وخلع، وذلك بمنزلة سكّاء «2»(29/153)
ثم قدم عليه الأمير عز الدين أيدمر المعظّمى- وكان الملك الناصر بن سيده قد أساء إليه- فأنعم عليه السلطان بعشرين ألف دينار من الخزانة، وكتب له توقيعا بعشرين أردب غلة، على الأعمال القوصيّة، وأعطاه أملاك الصاحب صفى الدين بن شكر. وكان قد عزم على العود إلى الديار المصرية، فلما جاءه الأمير عز الدين قال: قد جاءنى مفتاح الشام، وسار إلى أن وصل إلى دمشق وحاصرها. وكان نزوله عليها فى شهر ربيع الآخر.
وشدد الحصار، وضيّق على من بالبلد. فخرج إليه الملك الناصر داود سرّا، ووقف على باب الدّهليز «1» وأرسل مملوكه خلف أحد الحجّاب، فلما جاء إليه الحاجب، قال له: قل لمولانا السلطان: مملوكك داود ابن أخيك بالباب، فأعلم الحاجب السلطان فخرج إليه وتلقاه واعتنقه، فقبّل الناصر رجله وقال: يا عم قد جئتك بذنوبى وهؤلاء حرم أخيك. فبكى الملك الكامل، وقال: والله يا ولدى، لو كان وصولك إلىّ قبل إستنجادك بعمك الأشرف، وحضوره من بلاده- أبقيت دمشق عليك. ولكن إذ جاء الملك الأشرف إلى عندى، أنا أعطيك الكرك والشّوبك «2» والساحل «3» والغور «4» . وإذا سيّرت إليك فلا توافق حتى يكمل لك ألف وخمسمائة فارس. عد إلى مكانك. فعاد الناصر، وهو طيب النفس.(29/154)
وبلغ الملك الأشرف خروج الملك الناصر الى السلطان، فركب وأسرع ليدركه ويقبض عليه، فلم يدركه. فوبخ الأشرف الكامل على إطلاقه وتمكينه من دمشق. فقال له الملك الكامل: إنه جاءنى وبكى، وقال هؤلاء حرم أخيك. ثم قال الملك الكامل: هؤلاء أولادنا، لابد لهم من مكان يأوون إليه. فقال الأشرف: يكون لهم الشّوبك. فقال الكامل: ما يكفيهم إلا أن تكون الكرك معها. فسيّر إلى الناصر فى إعطائه الكرك والشّوبك، فلم يرض بذلك. ولم يزل إلى أن يقرّر له الكرك والشّوبك والغورين والبلقاء، فأجاب إلى ذلك.
وخرج الناصر عن دمشق، وتسلمها الملك الكامل فى غرة شعبان.
فكان مدة المقام عليها أربعة أشهر. ومضى إلى الكرك، وتسلم ما أقطع باسمه.
وقيل إن السلطان لم يعطه الشّوبك، وسأله إياها، فقال له: يا ابن أخى أنا ليس لى حصن يحمى رأسى، وافرض أن هذا الحصن لك وقد وهبتنى إياه.
وإنه أعطاه الكرك وعجلون ونابلس وبلاد القدس. والله أعلم.
ذكر تسليم دمشق للملك الأشرف
قال: لما تسلم الملك الكامل دمشق، سأله أخوه: الملك الأشرف موسى، أن يهبه دمشق، ويعوّضه عنها حرّا وأعمالها، والرّها وسروج، ورأس عين والرّقّة، وجملين. فرضى كلّ منهما بذلك. وتسلم الملك الأشرف دمشق. ووجه الملك الكامل الأمير فخر الدين بن الشيخ، فتسلم ذلك.
وتسلم الملك الأشرف دمشق. وتوجه الملك الكامل إلى هذه الجهات، فرتّب أحوالها.(29/155)
قال: ولما أقام الملك الأشرف بدمشق، دخل عليه شرف الدين بن عنين الشاعر، فلم ير منه ما كان يعهده من الملك المعظم، من الإنبساط، وما كان يقع فى مجلسه من سماع أهاجى ابن عنين، فيما كان يفعله. فنهاه الملك الأشرف، وقال: ليس مجلسى كما عهدت. يكفينى ما أنا فيه، حتى أضيف إليه ثلب المسلمين. فخرج من عنده، وقال:
وكنا نرجّى بعد عيسى «1» محمدا «2» ... لينقذنا من شدّة الضّر والبلوى
فأوقعنا فى تيه موسى «3» كما ترى ... حيارى، بلا منّ لديه ولا سلوى!
فبلغ الأشرف ذلك، فأمر بقطع لسانه. فدخل على جماعة من الأكابر، وحلف أن الشعر ليس له. ثم هرب إلى بلاده بزرع «4» وحوران.
فكف الملك الأشرف عن طلبه.
ذكر أخذ مدنية حماه وتسليمها للملك المظفر
قال: لما توجه السلطان الملك الكامل إلى بلاد الشرق، اجتاز بمدينة حماه، فأخذها من صاحبها: قليج أرسلان بن الملك المنصور «5» - وكان قد(29/156)
استولى عليها لما قدم الملك المظفر «1» إلى الملك الكامل بالمنصورة. فلما استقر الملك الكامل بمصر، أرسل إلى قليج أرسلان يقبّح عليه فعله، ويلتمس منه الخروج عن حماه، وإعادتها إلى أخيه. فلم يجب إلى ذلك. فأقطع الملك الكامل المظفر إقطاعا بمصر.
فلما اجتاز الملك الكامل الآن بحماه، خرج إليه قليج أرسلان فقبض عليه، وسلّم حماه للملك المظفر، وهو أخو قليج أرسلان، فتسلمها.
وفى هذه السنة فى شهر رجب، وصل القاضى بهاء الدين بن شدّاد، قاضى حلب، فى خطبة ابنة السلطان الملك الكامل للملك العزيز بن الملك الظاهر، صاحب حلب. فزوجه السلطان بابنته.
وفيها قبض السلطان الملك الكامل على ورثة ولد القاضى الفاضل، وسائر أملاكه. وأخذت الكتب من داره وحملت إلى القلعة، فكانت عدّتها أحد عشر ألف مجلّدا.
ذكر وفاة الملك المسعود، صاحب اليمن
كانت وفاة الملك المسعود صلاح الدين أقسيس «2» بن السلطان الملك الكامل، صاحب الحجاز واليمن- فى ثالث جمادى الأولى سنة ست وعشرين وستمائة. ومولده فى شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة.(29/157)
وكان بلغه وفاة عمه الملك المعظم بدمشق، فطمع فى الشام. وتجهز جهازا لم يسبقه أحد من الملوك إليه. وذلك أنه نادى فى التجار ببلاد اليمن: من أراد السفر صحبة السلطان إلى الديار المصرية والشام فليتجهز.
فتجهز معه سائر التجار الذين وصلوا من الهند، بالأموال والأقمشة والجواهر. فلما تكاملت المراكب، قال اكتبوا لى [ما] معكم من البضائع، لأحميها من الزكاة. فكتبوها له. فصار يكتب لكل تاجر برأس ماله على بعض بلاد اليمن، واستولى على البضائع. فاجتمعوا واستغاثوا، فلم يسمع شكواهم. فيقال إن نقله كان فى خمسمائة مركب، ومعه ألف خادم، ومائة قنطار من العنبر والعود والمسك، ومائة ألف ثوب، ومائة صندوق فيها الأموال والجواهر.
وركب إلى مكة، فمرض فى طريقه. فما دخل مكة إلا وقد فلج ويبست يداه ورجلاه، ورأى فى نفسه العبر. فلما احتضر بعث إلى رجل مغربى بمكة وقال: والله ما أرضى لنفسى، من جميع ما معى، كفنا أكفّن فيه، فتصدّق على بكفن! فبعث إليه نصف ثوب بغدادى، ومائتى درهم، فكفنوه بهما. ودفن بالمعلّى. ويقال إن الهواء ضرب المراكب فرجعت إلى زبيد، فأخذها أصحابها.(29/158)
وحكى أن الملك الكامل- والده- سرّ بوفاته. ولما جاء خزنداره «1» إليه، لم يسأله كيف مات، بل قال: كم معك من المال والتحف! وكان الملك المسعود قد استناب باليمن أستاذ داره «2» : عمر بن على ابن رسول. فتزوج زوجته: ابنة صاحب جوزا «3» وملك البلاد. وكتب إلى السلطان الملك الكامل، وجهّز إليه الأموال والتحف. واستقر على حكم النيابة.
ثم استقلّ بعد ذلك بملك اليمن، وتلقب بالملك المنصور. وأرسل رسولا إلى الديوان العزيز فى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، فوصل فى سابع عشر صفر منها، فتلقاه بعض الأمراء ودخل، وقبّل العتبة بالباب النّوبى. وحضر فى اليوم الثالث من وصوله إلى دار الوزير وأدّى رسالته، وأنهى إلى الديوان العزيز استيلاء مرسله على جميع بلاد اليمن، وأنه مخلص فى طاعة الديوان.(29/159)
وهو يسأل قبول ما سيّره من التحف والهدايا. حكاه ابن الساعى فى تاريخه.
واستمر الملك بالديار اليمانية فيه وفى أولاده من بعده، إلى وقتنا هذا.
وفيها فى جمادى الأولى، توفى ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خمارتكين عتيق مجاهد الدين بزان صاحب صرخد. وكان ناصر الدين المذكور صاحب صهيون «1» . وتولى مملكة صهيون بعده ولده مظفّر الدين عثمان.
واستهلت سنة سبع وعشرين وستمائة:
فى هذه السنة، فى ثانى عشر شهر رجب منها، قدم السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية.
وكان سبب عوده أنه بلغه أن ابنه الملك الصالح- نجم الدين أيوب- قد ترتب على الملك بالديار المصرية، وأنه اشترى ألف مملوك، فعاد.
وأخرج ابنه الملك الصالح إلى بلاد الشرق، ولم يعطه شيئا.(29/160)
ولما وصل الملك الكامل إلى قلعة الجبل، عمل له صلاح الدين الإربلى دعوة فى داره، فحضرها السلطان. فأنشده الصلاح:
لو تعلم دارنا بمن قد جمعت ... مالت طربا وصفّقت واستمعت
والخمرة لو تعلم من يشربها ... كانت شكرت لعاصريها، ودعت
وفيها قصّر النيل فلم يوف، وانتهى إلى ثلاثة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين أصبعا وقيل أنه انتهى إلى أربعة عشر ذراعا، وأصابع، وقيل بل بلغ ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. فارتفع سعر الغلّة. فسعّر الملك الكامل القمح بعشرين درهما ورقا «1» الإردب. وأمر مستخدمى «2» الأهراء السلطانية ببيع القمح بخمسة وعشرين درهما ورقا. ومنع الناس من شراء الكثير منه، إلا المئونة. واستمر السعر كذلك بقية السنة.
ثم أطلق السلطان سعر الغلّة، فى ثالث المحرم سنة ثمان وعشرين، وأمر أن يباع بالسعر الواقع. فأبيع القمح فى هذا الوقت بخمسين درهما ورقا الإردب، والخبز أربعة أرطال بدرهم ورق. فنال الناس من ذلك شدّة عظيمة.
هكذا نقل مؤرخو «3» ذلك العصر. فكيف لو شاهدوا ما شاهدناه فى- سنة خمس وتسعين وستمائة، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى.(29/161)
ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك
وفى هذه السنة، بعث الملك الأشرف- صاحب دمشق- أخاه الملك الصالح إسماعيل إلى بعلبكّ. فحصرها ونصب عليها المجانيق «1» ، ورماها بأحجارها.
ثم توجه إليها الملك الأشرف. ودخل الصاحب صفى الدين- إبراهيم ابن مرزوق- بين الملك الأشرف والملك الأمجد صاحب بعلبك، وحصل الاتفاق. فتسلمها الملك الأشرف، وانتقل الأمجد منها إلى دمشق. وأقام بداره بها، وهى الدار المعروفة بدار السعادة، التى ينزلها نوّاب السلطنة فى وقتنا هذا. ولم تطل مدة حياته، فإنه قتل فى سنة ثمان وعشرين وستمائة.
وفيها استولى السلطان: جلال الدين خوارزم شاه «2» على مدينة خلاط، بعد أن حاصرها مدة عشرة أشهر. وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار جلال الدين. ولما ملكها، أخذ منها مجير الدين يعقوب وتقىّ الدين عباس: ابنى «3» الملك العادل، وأخذ الكرجيّة: زوجة الملك الأشرف، ودخل بها من ليلته. وقتل عز الدين أيبك الأشرفى.(29/162)
وبلغ الملك الأشرف ذلك، وهو بدمشق، والملك الكامل بالرّقّة «1» فتوجه من دمشق إلى الرقة. وأتته رسل السلطان علاء الدين كيقباذ- صاحب الروم «2» - فى الإجتماع على حرب جلال الدين. فاستشار الملك الأشرف أخاه الملك الكامل فى ذلك، فأشار به. وقطع الملك الكامل الفرات فى سبعة آلاف فارس، وتوجه إلى الديار المصرية- للسبب الذى ذكرناه.
وسار الملك الأشرف إلى حرّان فى سبعمائة فارس، فأقام بها. وكتب إلى حلب والموصل والجزيرة فجاءته العساكر، وتوجه إلى صاحب الروم واجتمعوا. والتقوا بالسلطان جلال الدين خوارزم شاه، فكسروه.
وقد ذكرنا خبر استيلاء جلال الدين على خلاط، فى أخباره. وذكرنا خبر هذه الكسرة فى أخبار السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم، فى أخبار الدولة السّلجقيّة. فلنذكر الآن ما يتعلق بالملك الأشرف.
ولما انهزم جلال الدين، قال الملك الأشرف للسلطان علاء الدين كيقباذ: لا بدّلى من خلاط. فأعطاه علاء الدين. وأنعم على أصحابه: من الأموال والخلع. والثياب والتّحف والخيول، ما قيمته ألفا ألف دينار.(29/163)
وتوجه كيقباذ إلى بلاده، وجرّد فى خدمة الملك الأشرف جماعة، فتوجه بهم إلى خلاط. فوجد جلال الدين قد أخذ مجير الدين وتقىّ الدين والكرجيّة معه. فساق الأشرف خلفه. ثم تراسلا، واصطلحا. فأطلق جلال الدين مجير الدين وتقىّ الدين، وبعث بهما إلى الخليفة ببغداد. فأنعم الخليفة على كل منهما بخمسة آلاف دينار. وعاد الملك الأشرف إلى دمشق، فى سنة ثمان وعشرين وستمائة. فأقام بها شهرا، وتوجه إلى أخيه الملك الكامل بالديار المصرية.
وفى هذه السنة، استخدم الملك المظفّر: شهاب الدين غازى- صاحب ميّافارقين- العزّ بن الجاموس على ديوانه. وأمّره وأعطاه الكوسات «1» والأعلام، وقدّمه على جماعة ومكّنه. ودعى بالصاحب الأمير عز الدين. فظلم الناس وعسفهم، وأخذ أموالهم. فلم تمهله المقادير، ومات فى بقية سنة سبع وعشرين بميّافارقين. واستولى الملك المظفر على تركته، وظهر له سوء فعله، فصار يصرّح بلعنه. وجاء عمه من دمشق يطلب ميراثه، فسبه المظفر، ثم أعطاه ألف درهم وعاد إلى دمشق.(29/164)
وفيها، فى ثامن جمادى الآخرة، توفى بمصر الفقيه الإمام: شرف الدين أبو عبد الله محمد، بن الشيخ أبى حفص عمر، بن الشيخ أبى عبد الله محمد بن عمرو بن جعفر، الأزدى الغسّانى، المالكى- المعروف بابن الّلهيب. ومولده فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وتولى التدريس بالمدرسة الصّاحبيّة «1» بالقاهرة، إلى حين وفاته. وهو من بيت الخير والصلاح والفقه.
واستهلت سنة ثمان وعشرين وستمائة:
فى يوم الاثنين، عاشر جمادى الآخرة، قدم الملك الأشرف إلى القاهرة، لخدمة السلطان الملك الكامل- ومعه صاحب الجزيرة.
وفيها، فى منتصف شعبان، إبتدأ السلطان الملك الكامل بحفر البحر، من دار الوكالة إلى صناعة التّمر الفاضلية. واستعمل فيه الملوك والأمراء، وعمل بنفسه.
وكان هذا البحر فى أوان احتراق النيل يكون طريقا سالكا إلى المقياس. وتمر المراكب ما بين الروضة والجيزة. ثم صار على العكس من ذلك فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة «2» ، فصار فى احتراق النيل ليس بين الروضة وبين بر الجيزة غير ماء قليل يخاض، فلا يغطّى أكثر من خلخال. ثم أخذ فى الزيادة بعد ذلك. إلى أن صار، فى سنة عشرين وسبعمائة «3»(29/165)
وما بعدها تسافر فيه المراكب صيفا وشتاء. والبحران الآن على ذلك. ولكن البحر فيما بين الروضة ومصر أكثر، وهو البحر الذى تسافر فيه السفن فى الاحتراق.
نعود إلى سياقة أخبار سنة ثمان وعشرين وستمائة. وفيها بنى أسد الدين شيركوه- صاحب حمص والرّحبة- قلعة بالقرب من سلميّة «1» وسماها شميمس، وهى على تلّ عال.
وفيها كان مقتل الملك الأمجد: بهرام شاه، بن فرّخشاه، بن شاهنشاه ابن أيوب- صاحب بعلبكّ. كان وكانت بعلبك بيده، منذ أعطاه إياها السلطان الملك الناصر صلاح الدين عند وفاة أبيه، فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. فلم تزل بيده، إلى أن انتزعها الملك الأشرف منه- كما تقدم- فى السنة التى قبلها. وأعانه على ذلك صاحب حمص: أسد الدين شيركوه.
وكان سبب مقتله أن بعض مماليكه سرق له حياصة «2» ودواة- قيمة ذلك مائتا دينار- وخبّأ هما عند مملوك آخر، فلما ظهر له ذلك حبس السارق فى خزانة داره- والخزانة خلف المكان الذى يجلس فيه الملك الأمجد- وتوعّد ذلك المملوك- بقطع اليد. فلما كانت ليلة الأربعاء، ثانى عشر شوال، جلس على عادته أمام الخزانة- وعنده عباس بن أخى الشريف البهاء وهما يلعبان بالنّرد، وعنده فهيد المنجّم وبيده الاسطرلاب ليأخذ له طالع الوقت.(29/166)
فقال له فهيد: يا مولانا انظر إلىّ، فهذه ساعة سعيدة، لو أردت أخذ دمشق لأخذتها. فقال له: لا تكلّمنى، فقد تعيّن لى الغلب! وكان مع المملوك الذى فى الخزانة سكّين، فعالج رزّة الخزانة برفق فقلعها، وفتح الباب. فهجم على الملك الأمجد وأخذ سيفه فجذبه وضربه به. فصاح، فحلّت الضّربة كتفه، ونزل السيف إلى ثديه. ثم ضربه أخرى، فقطع يده وقطعته فى خاصرته. وهرب يصعد إلى السطح، فتبعوه. فألقى نفسه إلى الدار. فماتا جميعا. وجهّز الملك الأمجد ودفن فى تربة أبيه، التى على الميدان على الشّرف الشّمالى.
وكان فاضلا شاعرا، وله ديوان شعر بأيدى الناس- رحمه الله تعالى.
قال أبو المظفر: ورآه بعض أصحابه فى المنام بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال:
كنت من ذنبى على وجل ... زال عنى ذلك الوجل
أمنت نفسى بوائقها «1» ... عشت لما متّ يا رجل
قال أبو المظفر: وكان الأمجد قد قتل ابنا له جميلا، كان واطأ عليه الملك العزيز عثمان «2» ، وكتب إليه يقول: قد يسّرت باب السّرّ «3» فسر إلينا(29/167)
وقت السّحر. وكان الملك العزيز بالصّبيبة «1» ، فسار منها فى أول الليل- والمسافة بعيدة- فوصل إلى بعلبك وقد طلعت الشمس ففاته الغرض. واطلع الأمجد على ما فعله ابنه فقتله. وقيل بنى عليه بيتا، فمات.
وفيها توفى المهذّب الدّخوار، الطبيب «2» : رئيس الأطباء بدمشق.
وكان طبيبا حاذقا، وما كان يرى أن فى الدنيا مثله. وكان يقرأ عليه الطّب.
وكانت له دار بدمشق وبستان، فوقف الدار مدرسة يقرأ فيها الطب، ووقف بستانه عليها. والمدرسة باقية بدمشق، تعرف بالدّخوارية، رأيتها فى سنة ثلاث وسبعمائة.
وفيها، فى ثامن عشر شعبان، توفى الأمير شجاع الدين أبو المنصور:
جلدك بن عبد الله المظّفرى التّقوى «3» ، بالقاهرة. سمع من الحافظ السّلفى. وكان مكرّما لأهل العلم والفضلاء، مساعدا لهم بماله وجاهه.
وحضر مواقف كثيرة فى قتال العدو بالساحل. وتولى ثغر دمياط والإسكندرية، وقوص، وشدّ الدواوين «4» ، وغير ذلك. وكان يكتب فى(29/168)
كل بلد يتولاه ختمة. فحكى عنه أنه قال: كتبت بخطى أربعا وعشرين ختمة. وكان قد قارب ثمانين سنة- وقيل مات فى عشر التسعين. والله أعلم.
واستهلت سنة تسع وعشرين وستمائة:
فى هذه السنة توجه السلطان الملك الكامل إلى بلاد الشرق، بسبب فتح آمد. وسنذكر ذلك.
وفيها- فى جمادى- عزل قاضى القضاة: شمس الدين بن سنىّ الدولة الخويّى، وقاضى القضاة شمس الدين بن سنىّ الدولة- جميعا- عن قضاء القضاة بدمشق، وفوّض ذلك إلى قاضى القضاة: عماد الدين عبد الكريم، بن قاضى القضاة جمال الدين الحرستانى.
وفيها توفى الأمير فخر الدين عثمان بن قزل الكاملى بحرّان، فى الثامن والعشرين من ذى الحجة، ودفن بظاهرها. ومولده بحلب فى سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وكان أحد الأمراء الأكابر فى الدولة الكاملية. وكان راغبا فى فعل الخير، مبسوط اليد بالصدقة والإسعاف، يتفقّد أرباب البيوت وغيرهم.
وأنشأ المدرسة المعروفة بالقاهرة المعزّيّة، والمسجد المقابل لها، وكتّاب السبيل والرّباط بالقرافة بسفح المقطّم. وأوصى بوصيّة ذكر فيها كثيرا من أنواع البر- رحمه الله تعالى.(29/169)
واستهلت سنة ثلاثين وستمائة:
ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وحصن كيفا «1»
كان الاستيلاء على ذلك فى سنة ثلاثين وستمائة. وكان السلطان قد توجّه فى سنة تسع وعشرين وستمائة، واستقّل ركابه من مقرّ ملكه، بقلعة الجبل المحروسة بظاهر القاهرة المعزّيّة، فى ثامن جمادى الآخرة، واستصحب عساكر الديار المصرية. ووصل إلى دمشق واستصحب أخاه الملك الأشرف، وولده الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وكان سبب قصده هذه الجهة أن أخاه الملك الأشرف، بما حضر إلى الديار المصرية، عرّف السلطان أن الملك المسعود مودود بن الملك الصالح بن أرتق، صاحب آمد وبلادها وحصن كيفا- قد اشتغل عن مملكته باللهو والشرب والطرب، وأنها خالية من العساكر. فتجهّز إليها.
ولما بلغ الملك المسعود أن السلطان قصد بلاده، بادر بإرسال وزيره شرف العلا إلى السلطان يستعطفه، ويسأل مراحمه فى إبقاء ما بيده والكفّ عن طلبه. فوصل إلى السلطان، وكان إلبا «2» على صاحبه، وعرّف السلطان إقباله على اللهو والطرب، وأن مملكته خالية من العساكر، فأطمعه فى أخذ البلاد.(29/170)
فسار إليها، ونازلها فى يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذى الحجة ونصب عليها المجانيق. وأنذر صاحبها الملك المسعود ووعده بالإقطاعات الكبيرة، فلم يصغ إلى ذلك. ثم شاهد الغلبة، فخرج إلى السلطان وفى عنقه منديل. فوكّل به، وتسلّم آمد فى مستهل المحرم، سنة ثلاثين وستمائة.
واستولى على أمواله وذخائره، وطلب منه تسليم القلاع فسلّمها بجملتها.
ودخل الملك الكامل إلى آمد. فترجّل فى خدمته جميع الملوك الأيوبية، وسائر ملوك الشرق- إلا صاحب الروم السلطان: علاء الدين كيقباذ السّلجقى، وصاحب الجزيرة «1» الملك المعظّم: محمد بن سنجر شاه، فإنهما أرادا أن يترجّلا فلم يمكّنهما الملك الكامل من ذلك، ودخلا راكبين لركوب السلطان، ونزلوا جميعا فى القلعة.
وبقى حصن كيفا بيد نائبه، لم يسلّمه. فكتب الملك المسعود إلى نائبه أن يسلمه، فامتنع من ذلك. فبعث السلطان الملك الكامل أخاه الملك الأشرف إلى الحصن، ومعه الملك المسعود، فتوجه به وعاقبه تحت الحصن، وكان يبغضه، فأصر النائب على الامتناع من تسليمه. وكان بينهما إشارة، فلما آلمته العقوبة جاء إلى تحت الحصن، وقبض على شعر نفسه وقطعه بمقصّ، فعند ذلك سلّم النائب الحصن- وكانت هذه إشارة بينهما. وكان تسليم الحصن فى صفر من السنة.(29/171)
وكان الملك المسعود، لما حاصر السلطان آمد، قد كتب إلى نائبه بحصن كيفا يقول له: من مرّ عليك من أهل الجزيرة فاعتقله، لأن صاحب الجزيرة كان قد توجه إلى خدمة السلطان الملك الكامل. وكان المتولى يرصد القفول إذا مرّت بالحصن، فمن كان منهم من أهل الجزيرة قبض عليه واعتقله. واجتمع فى حبسه خلق كثير منهم. فلما فتح الحصن أفرج السلطان عنهم.
وأنعم الملك الكامل على ولده، الملك الصالح نجم الدين أيوب، بحصن كيفا وأعماله- وكان، منذ أخرجه من الديار المصرية، بغير ولاية.
وجعل شهاب الدين غازى- بن شمس الملوك- نائب السلطنة بآمد. ومعين الدين بن الشيخ الوزير، والطّواشى شمس الدين صواب العادلى متولى تدبير تلك الممالك. قال أبو المظفر: قال لى الملك الأشرف: وجدنا فى قصر الملك المسعود خمسمائة حرّة من بنات الناس للفراش.
وعاد السلطان إلى الديار المصرية فى سنة ثلاثين وستمائة، واستصحب أكابر أهل آمد وأعيانها، صحبته، إلى الديار المصرية- وكان منهم بدر الدين، وموفق الدين، وابن أخيهما شمس الدين، وجماعة كبيرة. فأما هؤلاء الثلاثة فإنهم باشروا وترقوا فى المناصب بالديار المصرية، والشام. ومن عداهم من أهل آمد نالتهم فاقة شديدة وضرورة، حتى استعطوا بالأوراق.
وأما الملك المسعود فإن السلطان أنعم عليه بالإقطاعات بالديار المصرية.(29/172)
ذكر توجه رسول السلطان الملك الكامل إلى بغداد، وعوده هو ورسول الخليفة بالتقليد «1»
فى هذه السنة توجّه القاضى الأشرف: بهاء الدين أبو العباس، أحمد ابن القاضى محيى الدين عبد الرحيم البيسانى- رسولا من جهة السلطان الملك الكامل إلى الدّيوان العزيز. فعاد فى صحبة رسول الخليفة «2» ، وهو الشيخ جمال الدين أبو محمد يوسف بن الجوزى، ومعهما جماعة من الأجناد. وأعطى ابن الجوزى محفّة تمييزا له.
ونفّذ معهما تقليد، من إنشاء الوزير أبى الأزهر: أحمد بن النّاقد «3» ، بخطّ العدل ناصر بن رشيد الحربوى «4» . وفى أعلاه بخط الوزير ما مثاله: للآراء المقدسة- زادها الله تعالى جلالا وتعظيما- مزيد فى شرفها فى تتويجه. والعلامة المستنصرية عليه، تحت البسملة: «الله القاهر فوق عباده» .(29/173)
ونسخة التقليد
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذى أطمأنّت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كلّ شىء رحمته، وظهرت فى كلّ أمر حكمته. ودلّ على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعا وتدبيرا، وخلق كلّ شىء فقدّره تقديرا- ممدّ الشاكرين بنعمائه التى لا تحصى عددا. وعالم الغيب الذى لا يظهر على غيبه أحدا. لا معقّب لحكمه فى الإبرام والنّقض، ولا يئوده حفظ السموات والأرض. تعالى أن يحيط به الضّمير، وجلّ أن يبلغ وصفه البيان والتفسير، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
وأحمد الله الذى أرسل محمدا- صلى الله عليه وسلم- بالحق، بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا. وابتعثه هاديا للخلق، وأوضح به مناهج الرّشد وسبل الحق. واصطفاه من أشرف الأنساب وأعزّ القبائل.
واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل، وجعله لديه أعظم الشّفعاء وأقرب الوسائل. فقذف- صلى الله عليه- بالحقّ على الباطل. وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجّة»
البيضاء والسّنن العادل، حتى استقام إعوجاج كل زائغ، ورجع إلى الحق كلّ حائد عنه ومائل. وسجد لله كلّ شىء يتفيّا ظلاله عن اليمين والشمائل. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام(29/174)
الأفاضل، صلاة مستمّرة بالغدوات والأصائل- خصوصا على عمّه وصنو «1» أبيه: العباس بن عبد المطلب، الذى اشتهرت مناقبه فى المجامع والمحافل. ودرّت ببركة الاستسقاء به أخلاف «2» السّحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول- صلى الله عليه وسلم- على عقبه. فى الخلافة المعظّمة، بما لم يفز به أحد من الأوائل.
والحمد الله الذى حاز شريف مواريث النبوة والإمامة، ووفّر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبيه ومحيى شريعته: الذى أحلّه الله عز وجلّ من معارج «3» الشرف والجلال فى أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهى بأمتن عصمة وأوثق عروة، واستخرجه من أشرف نجار «4» وعنصر، واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر، ونصبه للمؤمنين علما، واختاره للمسلمين إماما وحكما، وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائما بالعدل والإنصاف بين القوىّ والضعيف: إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين: أبى جعفر المنصور، المستنصر بالله، أمير المؤمنين، ابن الإمام السعيد التقىّ أبى نصر محمد: الظاهر بأمر الله، [ابن الإمام السعيد الوفىّ أبى العباس أحمد: الناصر لدين الله] «5» ، ابن الإمام السعيد الزكى: أبى محمد الحسن المستضىء بأمر الله، أمير المؤمنين-(29/175)
صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديّين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض، وهم عنه راضون.
وبعد: فبحسب ما أفاضه الله تعالى على أمير المؤمنين- صلوات الله عليه وسلامه- من خلافته فى الأرض، وفوّضه إلى نظره المقدّس فى الأمور من الإبرام والنقض، واستخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى شريف نظره ومقدّس اجتهاده- لا يزال صلوات الله عليه- يكلأ العباد «1» بعين الرّعاية، ويسلك بهم فى المصالح العامة والخاصة مذاهب الرّشد وسبل الهداية، وينشر عليهم جناحى عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر فى ارتياد «2» الأمناء الصّلحاء، من خلصاء أكفائه وأعوانه- متخيّرا للاسترعاء من استحمد إليه بمشكور المساعى وتعرّف إليه فى سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدّواعى، وسلك فى مفروض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل.
وعلم منه حسن الاضطلاع فى مصالح المسلمين بالعبء الثقيل. والله عز وجل يؤيّد آراء أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- بالتأييد والتسديد. ويمدّه أبدا من أقسام التوفيق الإلهى بالموفور والمزيد، ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح ويسنّى له فيما يأتى ويذر أسباب الخير والصلاح. وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله- عليه يتوكّل وإليه ينيب.(29/176)
ولما وفّق الله تعالى نصير الدين: محمد «1» ، بن سيف الدين أبى بكر، بن أيوب- من الطاعة المشهورة، والخدم المشكورة، والخطوة فى جهاد أعداء الدين بالمساعى الصالحة، والفوز من المراضى الشريفة الإمامية- أجلّها الله تعالى- بالمغانم الجزيلة والصّفقة الرابحة- لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه. وشفع تالده «2» فى تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه «3» . واستوجب بسلوكه فى الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع فى الإنعام عليه بمنشور شريف إمامى يسلك فى اتّباعه هداه. والعمل بمراشده سواء الصراط وقصد السبيل- اقتضت الآراء الشريفة المقدسة- زادها الله تعالى جلالا متألّق الأنوار، وقدسا يتساوى فى تعظيمه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار- الإيعاز بإجابته إلى ما وجّه أمله إلى الإنافة «4» فيه به إليه. والجذب بضبعه «5» إلى ذروة الاجتباء الذى تظهر أشعّة أنواره الباهرة عليه.
فقلّده- على خيرة الله تعالى- الزّعامة والصّلاة، وأعمال الحرب، والمعاون «6» والأحداث «7» ، والخراج والضّياع، والصّدقات والجوالى «8» ، وسائر وجوه الجبايات، والفرض والعطاء «9» والنفقة فى(29/177)
الأولياء، والمظالم والحسبة فى «1» بلاده، وما يفتتحه ويستولى عليه من بلاد الفرنج الملاعين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده، من المارقين عن الإجماع المنعقد بين المسلمين، ومن يتعدّى حدود الله تعالى، بمخالفة من جعلت الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته- ضاعف الله جلاله- بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولة، حيث قال- عزّ من قائل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم.
واعتمد- صلوات الله عليه وسلامه- فى ذلك على حسن نظره، ومدد رعايته. وألقى مقاليد التفويض فيه إلى وفور اجتهاده، وكمال سياسته.
وخصّه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلّد له على ممرّ الزمان حسن ذكره وجزيل فخاره. وحباه بتقليد يوطّد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده «2» رتاج «3» الأبواب والمسالك، ويفيد قاعدته فى بلاده زيادة تقرير وتمهيد، ويطير به صيته فى كل قريب وبعيد.(29/178)
ووسمه بالملك الأجلّ: السيد الكامل، المجاهد المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، جمال الأنام، جلال الدولة فخر الملة. عزّ الأمة.
سند الخلافة. تاج الملوك والسلاطين.، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، إلب غازى بك، محمد، بن أبى بكر بن أيوب، معين أمير المؤمنين- رعاية لسوابق خدمه، وخدم آبائه وأسلافه، وإبانة عن وفور احتبائه «1» ، وكمال ازدلافه «2» . وإنافة به «3» من ذروة القرب إلى محلّ كريم، وإختصاصا له بالإحسان الذى لا تلقّاه إلا من هو- كما قال الله تعالى- ذو حظّ عظيم- وثوقا بصحة ديانته التى يسلك فيها سواء سبيله، وإستنامة إلى أمانته فى الخدمة التى ينصح فيها لله تعالى ولرسوله. وركونا إلى [كون] الإنعام عليه موضوعا بحمد الله تعالى فى أحسن موضع، واقعا به لديه فى خير مستقرّ ومستودع.
وأمير المؤمنين- صلوات الله عليه- لا زالت الخيرة موصولة بآرائه، والتأييد الإلهى مقرونا بإنفاذه وإمضائه- يستمدّ من الله عز وجل حسن الإعانة فى اصطفائه، الذى اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدى إليه إرتياده المقدّس الإمامى واجتهاده. وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل-.
أمره بتقوى الله تعالى، التى هى الجنّة الواقية، والنّعمة الباقية، والملجأ المنيع والعماد الرفيع، والذّخيرة النافعة فى السّر والنّجوى، والجذوة(29/179)
المقتبسة من قوله سبحانه: وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى. وأن يدّرع شعارها فى جميع الأقوال والأفعال، ويهتدى بأنوارها فى مشكلات الأمور والأحوال. وأن يعمل بها سرّا وجهرا، ويشرح للقيام بحدودها الواجهة صدرا. قال الله تعالى: ومن يتّق الله يكفّر عنه سيئاته ويعظم له أجرا.
وأمره بتلاوة كتاب الله متدبّرا غوامض عجائبه، سالكا سبيل الرّشاد والهداية فى العمل به. وأن يجعله مثالا يتّبعه ويقتفيه، ودليلا يهتدى بمراشده الواضحة فى أوامره ونواهيه. فإنه الثّقل الأعظم، وسبب الله المحكم، والدليل الذى يهدى للّتى هى أقوم. ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبيّن لهم بهداه الرّشد والضلال. وفرّق بدلائله الواضحة وبراهينه الصادعة بين الحرام والحلال. فقال- عزّ من قائل-: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتّقين. وقال تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب.
وأمره بالمحافظة على مفروض الصّلوات، والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات. وأن يكون نظره فى موضع نجواه من الأرض، وأن يمثّل لنفسه فى ذلك موقفه بين يدى الله تعالى يوم العرض.
قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون. وقال سبحانه: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا. وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة، ولا يلهو بسبب عن اقامة سننها الراتبة، فانها عماد الدّين الذى سمت أعاليه، ومهاد الشّرع الذى رست قواعده ومبانيه. قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين. وقال سبحانه: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.(29/180)
وأمره أن يسعى إلى صلوات الجمع والأعياد. ويقوم فى ذلك بما فرض الله تعالى عليه وعلى العباد. وأن يتوجه إلى المساجد والجوامع متواضعا، ويبرز إلى المصلّيات الضاحية فى الأعياد خاشعا. وأن يحافظ فى تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب. ويعظّم باعتماد ذلك شعائر الله التى هى من تقوى القلوب. وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه، بيوت الله التى هى محالّ البركات ومواطن العبادات، والمساجد التى تأكّد فى تعظيمها وإجلالها حكمه والبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وأن يرتّب لها من الخدم من يتبتّل «1» لإزالة أدناسها. ويتصدّى لإذكاء مصابيحها فى الظلام وإيناسها. ويقوم لها بما تحتاج إليه من أسباب الصلاح والعمارات. ويحضر إليها ما يليق من الفرش والكسوات.
وأمره باتّباع سنّة النبى- صلى الله عليه وسلم- التى أوضح جددها «2» وثقّف- عليه السلام- أودها «3» . وأن يعتمد فيها على الأسانيد التى نقلها الثّقات. والأحاديث التى صحّت بالطّرق السليمة والروايات. وأن يقتدى بما جاءت به من مكارم الأخلاق، التى ندب- صلى الله عليه وسلم- إلى التمسك بسببها، ورغّب أمته فى الأخذ بها والعمل بأدبها. قال الله تعالى:
«وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»
. وقال سبحانه وتعالى:
«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» .(29/181)
وأمره بمجالسة أهل العلم والدين، وأولى الإخلاص فى طاعة الله تعالى واليقين. والاستشارة بهم فى عوارض الشك والالتباس. والعمل بآرائهم فى التمثيل والقياس. فإن فى الاستشارة بهم عين الهداية، وأمنا من الضّلال والغواية. وبها يلقح عقم الأفهام والألباب، ويقتدح زناد الرّشد والصواب. قال الله تعالى فى الإرشاد إلى فضلها، والأمر فى التمسك بحبلها: «وشاورهم فى الأمر» .
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر فى ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره. مستصلحا نيّاتهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحا أحوالهم بمواصلة التّفحّص عنها والتّفقّد. وأن يسوسهم سياسة تبعثهم على سلوك المنهج السليم. وتهديهم فى انتظامها واتّساقها إلى الصراط المستقيم.
وتحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتّلزّم بها بأقوى الأسباب وأمتن العصم. ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والئتلاف. ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف. وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم فى الإعطاء والمنع. وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرّفع. وأن يثيب المحسن منهم على إحسانه، ويسبل على المسىء- ما وسعه العفو واحتمل الأمر- صفحه وامتنانه. وأن يأخذ برأى ذوى التجارب منهم والحنكة، ويجتنى بمشاورتهم فى الأمر ثمر الشّركة. إذ فى ذلك أمن من خطأ الإفراد، وتزحزح عن مقام الزّيغ والاستبداد.(29/182)
وأمره بالتّبتّل «1» لما يليه من البلاد ويتّصل بنواحيه من ثغور أولى الشرك والعناد. وأن يصرف مجامع الالتفات إليها. ويخصّها بوفور الإهتمام بها والتطلع عليها. وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهى فى أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة «2» الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها من يختاره من الأمناء التّقاة.
ويسدها بمن ينتخبه من الشجعان الكماة «3» . وأن يتأكد عليهم فى أسباب الحيطة والاستظهار، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار. وأن يكون المشار إليهم ممن تربّوا فى ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد وتدربوا فى نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد وكثرة العدد، والتوسعة فى النفقة والعطاء.
والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم فى التقصير والغناء. إذ فى ذلك حسم لمادّة الأطماع فى بلاد الإسلام، ورد لكيد المعاندين من عبدة الأصنام.
فمعلوم أن هذا الغرض أولى ما وجّهت إليه العنايات وصرفت، وأحقّ ما قصرت عليه الهمم ووقفت. فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التى ألزم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التى كتب العمل بها على خلقه. فقال سبحانه وتعالى- هاديا فى ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضا لعباده على(29/183)
قيامهم له بفروض الجهاد: «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة «1» فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفّار، ولا ينالون من عدوّ نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا- إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون» . وقال تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» *
«2» . وقال النبى صلى الله عليه وسلم: من نزل منزلا يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجد لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائم لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر. وقال عليه السلام:
غدوة فى سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس. هذا قوله- صلى الله عليه وسلم- فى حق من سمع هذه المقالة فوقف لديها. فكيف بمن كان كما قال عليه السلام: ألا أخبركم بخير الناس: ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله، كلّما سمع هيعة «3» طار إليها.
وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى فى رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه، وأن يسلك فى السياسة بهم سبل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح. ويمدّ ظلّ رعايته على مسلمهم ومعاهدهم، ويزحزح الأقذاء والشّوائب عن مناهلهم فى العدل ومواردهم. وينظر فى مصالحهم نظرا يساوى بين الضعيف والقوى، ويقوم بأودهم قياما يهتدى به ويهديهم فيه إلى الصّراط السّوىّ.(29/184)
قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .
وأمره باعتماد أسباب الاستظهار والأمنة، واستقصاء الطاقة المستطاعة والقدرة الممكنة، فى المساعدة على قضاء تفث «1» حجّاج بيت الله الحرام وزوّار نبيّه- عليه أفضل الصلاة والسلام. وأن يمدّهم بالإعانة فى ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التّخطّف والأذى فى حالتى الظّعن والمقام. فإن الحجّ أحد أركان الدين المشيّدة وفروضه الواجبة المؤكّدة. قال الله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت.
وأمره بتقوية أيدى العاملين بحكم الشرع فى الرّعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوى الاستحقاق، والشّدّ على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق. وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن إجابة داعى الحكم، أو تقاعس فى ذلك لما يلزم من الأداء والغرم- جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشّرع، واضطره بقوة الإنصاف إلى الأداء بعد المنع. وأن يتوخّى عمّال الوقوف التى تقرّب المتقرّبون بها، واستمسكوا فى ظل ثواب الله بمتين سببها. وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة وحسن الموازرة والمعاضدة، فى الأسباب التى تؤذن بالعمار والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء. قال الله تعالى: وتعاونوا على البرّ والتقوى.(29/185)
وأمره أن يتخيّر من أولى الكفاية والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب من أداء الأمانة والحراسة والتّتمير، لبيت المال وأن يكونوا من ذوى الاضطلاع بشرايط الخدم المعيّنة وأمورها، والمهتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها. وأن يتقدّم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقّنة، وجبايتها فى أوقاتها المعيّنة. إذ ذاك من لوازم مصالح الجند ووفور الاستظهار، وموجبات قوّة الشّوكة بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحيطة التى يحمى بها البلاد والأمصار. ويأمرهم بالجرى فى الطّسوق «1» والشّروط على النّمط المعتاد، والقيام فى مصالح الأعمال أقدام الجدّ والاجتهاد. وإلى العاملين على الصّدقات بأخذ الزّكوات على مشروع السّنن المهيع «2» ، وقصد الصّراط المتّبع، من غير عدول فى ذلك عن المنهاج الشرعى، أو تساهل فى تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعى فإذا أخذت من أربابها الذين يطّهّرون ويزكّون بها سعى فى العمل فى صرفها إلى مستحقّيها بحكم الشريعة النبوية وموجبها. وإلى جباة الجزية من أهل الذّمّة بالمطالبة بأدائها فى أول السّنة، واستيفائها منهم على حسب أحوالهم بحكم العادة فى الثّروة والمسكنة. إجراء فى ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظة على عظيم شعائر الإسلام.
وأمره أن يتطّلع على أحوال كل من يستعمله فى أمر من الأمور، ويصرّفه فى مصلحة من مصالح الجمهور، تطلّعا يقتضى الوقوف على حقائق أماناتهم،(29/186)
ويوجب تهديتهم فى حركاتهم وسكناتهم، ذهابا مع النّصح لله تعالى فى بريّته، وعملا بقول النبى صلى الله عليه وسلم: كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته.
وأمره أن يستصلح من ذوى الاضطلاع والغناء، من يرتّب للفرض والعطاء، والنّفقة فى الأولياء وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين فى المناصحة بإخلاص الطّويّة وإصفاء السّريرة، حالين من الأمانة والصّون بما يزين. ناكبين عن مظانّ الشّبه والطمع الذى بصم ويشين. وأن يأمرهم باتّباع عادات أمثالهم فى ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال واعتبار شيات «1» الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيّرها واقتناء جيادها. وبذل الجهد فى قيامهم من الكراع «2» والبرك «3» والسّلاح بما يلزمهم، والعمل بقول الله تعالى:
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ»
. فإذا نطقت جرائد «4» الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقّق الاعتبار والعيان قيامهم بما وجب عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم، وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقاتهم. فإن هذه الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقوام الأمر فيما أوجبه الله تعالى من أمر الاستعداد(29/187)
بفرض الجهاد. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» .
وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعا، وللسنة النبوية فى إقامة حدودها متّبعا. فيعتمد فى الكشف عن أحوال العامّة فى تصرفاتها الواجب. ويسلك فى التطلع على معاملاتهم السّبيل الواضح والسّنن اللاحب «1» . ويأتيهم فى الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين، ويعتمد فى مؤاخذة المطفّفين «2» وتأديبهم بما تقتضيه شريعة الدين. ويحذّرهم فى تعدّى حدود الإنصاف شدّة نكاله، ويقابل المستحقّ للمؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله. قال الله تعالى: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»
. وقال سبحانه: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .
فليتولّ الملك الأجلّ، السيد الكامل المجاهد المرابط، نصير الدين ركن الإسلام أثير الإمام، جمال الأنام، جلال الدولة، فخر الملة عزّ الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، أمير المجاهدين: ألب غازى بك، معين أمير المؤمنين- ما قلّده عبد الله وخليفته فى أرضه، القائم له بحقّه الواجب(29/188)
وفرضه: أبو جعفر المنصور «المستنصر بالله» أمير المؤمنين- بقلب مطمئن بالإيمان، ونصح لله تعالى ولخليفته- صلوات الله عليه- فى السر والإعلان وليشرح بما فوّض إليه من هذه الأمور صدرا، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سرّا وجهرا. وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الإمامية، وليقتف آثار مراشدها المقدّسة النبوية. وليظهر من أثر الجدّ فى هذا الأمر والإجتهاد، وتحقيق الظن الجميل فيه والإرشاد- ما يكون دليلا على تأيد الرأى الأشرف المقدس- أجلّه الله تعالى- فى اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النّجح والرّشد فى التفويض إلى حسن قيامه وكمال غنائه وليقدر النّعمة عليه فى هذه الحال حقّ قدرها. وليمتر- «1» بأداء الواجب عليه من جزيل الشكر- غزير درّها، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض. ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة- أجلّها الله تعالى- ما يلتبس عليه من الشكوك والعوارض. ليرد عليه من الأمثلة ما يوضّح له وجه الصّواب فى الأمور، ويمدّ من المراشد الشريفة التى هى شفاء لما فى الصدور، بما يكون وروده عليه. وتتابعه إليه، نورا على نور- إن شاء الله تعالى.
وكتب فى شهر رجب من سنة ثلاثين وستمائة «2» . والحمد رب العالمين.
وصلواته على سيدنا محمد النبى الأمّى، وآله الطاهرين.
وفى هذه السنة، فتحت دار الحديث الأشرفية «3» المجاورة لقلعة دمشق المحروسة، ليلة النصف من شعبان. وأملى بها الشيخ الإمام العلامة: تقى(29/189)
الدين بن الصّلاح الشافعى «1» . ووقف عليها الملك الأشرف أوقافا جليلة.
ذكر ركوب الملك العادل بشعار السّلطنة
وفى الساعة التاسعة من يوم الثلاثاء، ثامن عشر شهر رمضان، من هذه السنة- سلطن السلطان الملك الكامل ولده الملك العادل سيف الدين أبا بكر، وركّبه فى هذه الساعة بشعار السّلطنة. وشقّ القاهرة، وفى خدمته جميع الأمراء والقضاة وأصحاب الدواوين والأماثل وغيرهم.
وفيها- فى صفر- تسلم راجح بن قتادة مكة- شرّفها الله تعالى- وكان قد قصدها فى سنة تسع وعشرين، وصحبته عسكر صاحب اليمن: الملك المنصور عمر بن علىّ بن رسول. وكان الأمير فخر الدين بن الشيخ بمكة، ففارقها.
وفيها كانت وفاة الملك العزيز: فخر الدين عثمان بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وهو شقيق الملك المعظم. وكان صاحب بانياس وتبنين وهونين والحصون. وهو الذى بنى قلعة الصّبيبة وكان عاقلا قليل الكلام، مطيعا لأخيه الملك المعظم، وإنما أخرجه عن موالاة ولده- الملك الناصر داود- أنه كان قصد بعلبك فى سنة خمس وعشرين وستمائة، بمواطئة من ابن الملك الأمجد صاحبها- كما تقدم- فلما(29/190)
فاته وقت الميعاد، الذى اتفقا عليه، نزل على بعلبك، وأخذ فى حصارها.
فأرسل الملك الأمجد إلى الملك الناصر يقول له: أنت تعلم ما كان بينى وبين والدك الملك المعظم من المودة، وأننى كنت صديق من صادقه وعدوّ من عاداه، فرحّل عنى الملك العزيز.
فأنفذ الملك الناصر داود الغرس خليلا إلى الملك العزيز، وأمره بالرحيل. وقال له: متى لم يرحل، ارم خيمته على رأسه! فرحل العزيز إلى بانياس وأوجبت هذه الحادثة غضبه، إلى أن التحق بالملك الكامل، وجاء معه إلى دمشق- كما تقدم.
وكانت وفاة الملك العزيز فى يوم الاثنين، عاشر شهر رمضان، سنة ثلاثين وستمائة، ببستانه فى النّاعمة، ببيت لهيا «1» من غوطة دمشق. ودفن بقاسيون فى تربة الملك المعظّم، عند والدته- رحمه الله تعالى.
وفيها، فى يوم الاثنين، سابع عشرين شهر ربيع الأول، توفى بالقاهرة الشيخ جلال الدين أبو العزائم: همّام بن راجى الله سرايا، بن أبى الفتوح ناصر. بن داود الشافعى: إمام جامع الصالح، بظاهر باب زويلة «2» رحل إلى بغداد واشتغل بها مدة، وسمع الحديث، واشتغل بالأدب بمصر على ابن برّى «3» ولقى جماعة من الأدباء، وصنّف كتبا كثيرة فى(29/191)
الأصول والفروع والخلاف، مختصرة ومطولة. وله شعر. ومولده بونا من صعيد مصر، فى ذى القعدة أو ذى الحجّة سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
رحمه الله. ولما مات، ولى الإمامة بالجامع الصالحى بعده ولده:
نور الدين على.
وفيها كانت وفاة الشيخ شهاب الدين أبى حفص: عمر بن محمد بن عبد الله السّهروردى. وهو ينتسب إلى أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فيما قيل. وذكر ابن خلّكان أن وفاته كانت فى مستهلّ ذى الحجة، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. ومولده بسهرورد، فى سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقد تقدم ذكر ترّدده فى الرّسالة، من جهة الخليفة إلى الملك العادل، وغيره.
وكان رجلا صالحا عابدا، زاهدا ورعا. وصنّف كتابا للصوفية، سماه عوارف المعارف.
حكى أنه جلس يوما ببغداد على منبر وعظه، فذكر أحوال القوم، وأنشد:
ما فى الصّحاب أخو وجد نطارحه ... حديث نجد، ولا صبّ نجاريه
وجعل يردّد البيت ويطرب! فصاح به شاب من طرف المجلس- عليه قباء وكلّوتة «1» - وقال: يا شيخ، كم تشطح وتنتقص القوم! والله إن(29/192)
فيهم من لا يرضى أن يجاريك، ولا يصل فهمك إلى ما تقول! هلا أنشدت:
ما فى الصحاب، وقد سارت حمولهم ... إلا محب له فى الركب محبوب
كأنما يوسف فى كل راحلة ... والحىّ فى كل بيت منه يعقوب
فصاح الشيخ، ونزل عن المنبر وقصد الشاب، ليعتذر إليه. فلم يجده. ووجد فى موضعه حفرة فيها دم، مما فحص برجله عند إنشاد الشيخ البيت!.
وفيها توفى الشيخ الفاضل: عز الدين أبو الحسن على، بن أبى الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، بن عبد الواحد الشّيبانى- المعروف بابن الأثير الجزرى «1» . وكانت وفاته فى هذه السنة من شعبان. ومولده فى رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، بجزيرة ابن عمر «2» .
وكان رجلا فاضلا، صنّف فى التاريخ كتاب «الكامل» من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة. وهو من أجود التواريخ التى رأيناها. واختصر كتاب «الأنساب» لأبى سعيد عبد الكريم بن السّمعانى،(29/193)
واستدرك عليه فى مواضع. ونبّه على أغاليط، وزاد أشياء. وهو كتاب مفيد فى ثلاث مجلّدات وأصله فى ثمانية، وهو عزيز الوجود. وفضائله وآدابه مشهورة- رحمه الله تعالى.
وفيها كانت وفاة شرف الدين أبى المحاسن: محمد بن نصر بن مكارم، ابن الحسن بن على بن محمد، بن غالب الأنصارى، المعروف بابن عنين- الكوفى الأصل، الدّمشقى المولد. وقيل بل هو من زرع من إقليم حوران.
نشأ فى دمشق، وسافر عنها، وطوّف البلاد شرقا وغربا. ودخل بلاد الجزيرة والروم والعراق وبغداد وخراسان وما وراء النهر، وبلاد الهند واليمن والحجاز ومصر. ومدح ملوك هذه الأماكن وأعيانها.
وكان ظريفا حسن الأخلاق جميل العشرة. غزير المادّة فى الشّعر، مولعا فى الهجاء وثلب أعراض الناس- خصوصا الأكابر. وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقا كثيرا من رؤساء الشام وأهل دمشق، سماها: «مقراض الأعراض» ، يقال إنها خمسمائة بيت.
وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد نفاه من دمشق، بسبب وقوعه فى الناس. ولما نفى كتب من الهند إلى دمشق:
فعلام أبعدتم أخاثقة ... لم يجترم ذنبا ولا سرقا
انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفى كلّ من صدقا(29/194)
ولما مات الملك الناصر صلاح الدين، وملك الملك العادل دمشق، سار متوجها إلى الشام. وكتب إلى الملك العادل قصيدته الرّائيّة، واستأذنه فى الدخول إلى دمشق. ووصفها وصف ما قاسى فى الغربة، ولما فرغ من وصف دمشق وأنهارها وبساتينها ومستنزهاتها، قال فى قصيدته:
فارقتها لا عن رضى، وهجرتها ... لا عن قلى، ورحلت لا متخيّرا
أسعى لرزق فى البلاد مشتّت ... ومن العجائب أن يكون مقتّرا
وأصون وجه مدائحى متقنّعا ... وأكفّ ذيل مطامعى متستّرا
جاء منها فى شكوى الغربة، وما قاساه منها:
أشكو إليك نوى، تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشتى تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفنى يصافحه الكرى
أضحى عن الأخوى المريع محلّا «1» ... وأبيت عن ورد النّمير «2» منفرّا
ومن العجائب أن تفيّأ ظلّكم ... كلّ الورى، ونبذت وحدى بالعرا
فلما وقف العادل على هذه القصيدة، أذن له فى الدخول إلى دمشق، فدخلها.(29/195)
وقال:
هجوت الأكابر فى جلّق «1» ... ورعت الوضيع بسبّ الرّفيع
وأخرجت منها، ولكننى ... رجعت على رغم أنف الجميع
وكانت وفاته فى عشية يوم الأثنين، العشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثلاثين وستمائة. ومولده فى يوم الاثنين، تاسع شعبان، سنة تسع وأربعين وخمسمائة- حكاه ابن خلّكان وابن السّاعى.
وقال أبو المظفّر فى مرآة الزمان: إن وفاته كانت فى سنة ثلاث وثلاثين.
قال: وكان خبيث اللسان هجّاء. فاسقا متهتّكا. قال: ولما عاد إلى دمشق، استوزره الملك المعظم. وكانت مجالسه معمورة بقبائحه.
قال: وحضر مجلس الإمام فخر الدين الرّازى بن خطيب الرّىّ، وهو يعظ، فجاءت حمامة وخلفها جارح، فألقت نفسها على الإمام فخر الدين، فغطّاها بكمّه. فقال ابن عنين، بديها:
يا ابن الكرام، المطعمين إذا شتوا ... فى كل مسغبة «2» وثلج خاسف
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين المخارم والوتين «3» الرّاعف(29/196)
من أنبا الورقاء «1» أنّ بحلّكم ... حرما، وأنّك ملجأ للخائف
وفدت عليك، وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستانف
ولو انّها تحيى بمال، لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزّمان بشكرها ... والموت يلمع من جناحى خاطف
قرم «2» لواه الفوت حتى ظلّه ... بإزائه يجرى بقلب خائف
قال: فرمى عليه الإمام فخر الدين جميع ما كان عليه، وفعل الحاضرون كذلك. فبلغ قيمة ذلك أربعة آلاف دينار! وكتب معه كتابا إلى الملك الناصر، وكتابا إلى الملك العادل، يشفع فيه. فقبل الملك شفاعته.
ولما عاد هجا العادل، فقال:
إن سلطاننا الذى نرتجيه ... واسع المال ضيّق الإنفاق
هو سيف كما يقال، ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
وهجا أيضا أولاد شيخ الشيوخ الأربعة، فقال:
أولاد شيخ الشيوخ قالوا ... ألقابنا كلّها محال
لا فخر فينا ولا عماد ... ولا معين، ولا كمال
وأهاجيه فى الأكابر والأعيان كثيرة- سامحه الله تعالى وإيانا:(29/197)
واستهلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة:
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى بلاد الروم
وفى هذه السنة، وصل الملك الأشرف، صاحب دمشق، إلى السلطان بالديار المصرية، وحرّضه على قصد بلاد الروم. فخرج بالعساكر من القاهرة فى ليلة السبت، لخمس خلون من شعبان، واستناب بالديار المصرية ولده الملك العادل: سيف الدين أبا بكر.
وسار حتى وصل إلى دمشق، وجمع سائر الملوك. وسار من دمشق، فنزل بظاهر البيرة «1» . واجتمعت الملوك، فكانوا ثلاثة عشر ملكا: كلهم من بنى أيوب. وعرض العساكر أطلابا، فكبرت نفسه وتعاظم. ثم دخل بهم الدّربندات «2» ، وأشرف على أرض الروم، وما شكّ فى أخذها.
فاجتمع الملوك إلى الملك الأشرف، قالوا: متى فتح الملك الكامل بلاد الروم، استولى على ممالكنا، وعوّضنا عنها من بلاد الروم. فاتفقوا على خذلانه، ومكاتبة صاحب الروم: علاء الدين كيقباد، بن كيخسرو(29/198)
السّلجقى، فكاتبوه. فوقعت الكتب إلى الملك الكامل، فرحل عن الدّربندات لوقته، وعاد إلى السّويداء «1» وخيّم بها.
وكان عند نزوله على الدّربندات، أرسل الملك المظفّر صاحب حماه، والطّواشى شمس الدين صواب، وجماعة من الأمراء، إلى خرت برت «2» .
وكان بها عسكر كثيف من عساكر الروم، فكسروهم، وأسروا بعض الأمراء الكاملية، وطلع الملك المظفر، والطواشى صواب، والبانياسى وجماعة من الأمراء، إلى القلعة، فأقاموا بها سبعة عشر يوما، وطلبوا الأمان من صاحب الروم. فأمّنهم على تسليم القلعة، ولا يأخذوا منها شيئا.
ففعلوا ذلك، ونزلوا إليه. فخلع عليهم وأعادهم إلى الملك الكامل.
ولم يسلم من خيلهم فى هذه الوقعة إلّا سبعة أو ثمانية: كلّ أمير على فرس.
فسيّر السلطان الملك الكامل إليهم الخيول، فركبوها ووصلوا إلى السلطان إلى السّويدا، فأحسن إليهم. ثم عاد إلى الديار المصرية، وقد حصلت الوحشة بينه وبين سائر الملوك. وكان وصوله فى جمادى الأولى، سنة اثنتين وثلاثين.(29/199)
ولما رجع، جهّز صاحب الروم جيشا كثيفا إلى حرّان والرّها وآمد، والسّويدا وقطينا «1» ، فاستولى على ذلك، ورتّب فيهم من يحفظهم. وكانت هذه الجهات تحت يد شهاب الدين غازى- أخى السلطان- والملك الصالح نجم الدين أيوب: ولده.
فلما اتصل ذلك بالملك الكامل، تجهز بعساكره وخرج من القاهرة، فى ثالث عشرين ذى القعدة من السنة: وكان قد أوصى ولده الملك الصالح نجم الدين وأخاه شهاب الدين غازى- أن صاحب الروم إذا قصد البلاد يتركونها، ويحضرون، وقال له: إذا أخذ البلاد استعدتها منه، وإذا أخذكم لا أقدر على استعادتكم منه. فلما وصل عسكر صاحب الروم إلى البلاد، تركاها، وسارا بعسكرهما إلى سلميّه.
ولما قدم السلطان إلى دمشق، كان بها ولدا «2» ولده الملك الصالح، وهما: جلال الدين، وتورانشاه، فخرجا يسلّمان على جدّهما، فانتهرهما، فخرجا من عنده. واتصل ذلك بأبيهما، فعلم أن الغضب انما هو عليه، لا على ولديه. فأرسل إليهما وأخذهما من دمشق، ولم يشعر بذلك جدّهما.
وسار عن سلميّه، ومعه شهاب الدين غازى، فوصل إلى حصن كيفا، ووصل شهاب الدين إلى ميّافارقين. فعظم ذلك على السلطان، وذكر ما فعله الصالح لبعض الأمراء. فتلطف فى الاعتذار عنه، وقال: الملك الصالح معذور، لأ السلطان سلّم له البلاد وجعله تحت الحجر. ثم فعل(29/200)
السلطان بأولاده ما فعل. فأرسل إليه وطيّب قلبه، وأمره أن يمضى هو وشهاب الدين غازى لمحاصرة السّويداء، فتوجّها إليهما.
ووصل السلطان إليها أيضا. ثم مضى إلى آمد، فهرب العسكر الرّومىّ منها. ووصل السلطان إلى حرّان، وفتحها عنوة فى ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين. وفتح قلعة الرّها عنوة. وتسلّم السّويداء عنوة، فى جمادى الآخرة. وهدم قلعة الرّها. وأسر من كان فى هذه القلاع من الروم. وأخذ قطينا فى شهر رجب عنوة، ونزل على دنيسر «1» فأخربها، إلا الجامع.
وسيّر جميع. الأمراء إلى الديار المصرية فى الجوالق، وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف. ورتب ولده الملك الصالح بآمد. وأضاف إليه حرّان والرّها ونصيبين، والخابور «2» ورأس عين والرّقّة، وجعله سلطانا مستقلا. وعاد إلى الديار المصرية. فوصل إلى القاهرة فى شعبان، سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.(29/201)
نعود إلى تتمة حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
فيها ولى الأمير جمال الدين يغمور «1» شدّ الدواوين بالديار المصرية وفيها عمّر الملك الأشرف مسجد جرّاح خارج باب الصّغير بدمشق، ورتّب فيه خطبة للجمعة، يصلى فيه سكان الشّاغور وغيرهم.
وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج بالهدايا والتّحف، وفى جملة ذلك دب أبيض، شعره مثل شعر السّبع، ينزل إلى البحر فيصيد السمك ويأكله، وطاووس أبيض، وغير ذلك.
وفيها عزل قاضى القضاة عماد الدين بن الحرستانى عن قضاء الشام، ووليه قاضى القضاة شمس الدين بن سنىّ الدّولة.
وفيها، توفى الأتابك: شهاب الدين طغرل الخادم، عتيق السلطان الملك الظاهر، صاحب حلب- وكان أرمنىّ الجنس، حسن السّيرة محمود الطريقة، صالحا عفيفا، زاهدا كثير الصدقة والإحسان، يقسّم الليل أثلاثا: فالثّلث الأول يجرى حكايات الصالحين وأحوال الناس ومحاسنهم، وينام الثلث الأوسط، ويحيى الثّلث الآخر قراءة وصلاة وبكاء. وكان حسن الوساطة عند الملك الظاهر(29/202)
ولما توفى الظاهر، قام بأمر ولده العزيز أحسن قيام. واستمال الملك الأشرف، حتى حفظ على الملك العزيز البلاد- ولما استعاد الملك الأشرف تلّ باشر «1» ، دفعها لهذا الخادم، وقال هذه تكون لصدقاتك وما يلزمك، فإنك تكره أن تتصرف فى أموال الصغير، فنقل إليها من الأموال والذخائر كلّ نفيس. وكان قد طهّر حلب من الفسق والفجور والمكوس. وكان الملك الأشرف يقول: إن كان لله تعالى فى الأرض ولىّ، فهو هذا الخادم، الذى فعل ما عجز عنه الفحول.
فلما ترعرع الملك العزيز بن الملك الظاهر، فى سنة تسع وعشرين وستمائة- قال له بعض خواصّه: قد رضيت لنفسك أن تكون تحت حجر هذا الخادم! فأخذ منه تلّ باشر، ونزع يده منه. وبقى الأتابك لا ينفّذ له أمر ثم مرض وتوفى بحلب، فى ليلة الحادى عشر من المحرم، من هذه السنة.
ودفن بمدرسة الحنفية خارج باب الأربعين- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الشيخ أبو عبد الله: الحسين بن محمد بن يحيى، بن مسلم الزّبيدى. سمع أبا الوقت عبد الأوّل «2» بن عيسى، وغيره.(29/203)
وهو من ساكنى باب البصرة، وحضر إلى الشام وحدّث بدمشق بصحيح البخارى عن أبى الوقت غير مرّة. وهو شيخ شيوخنا. ولما وصل إلى دمشق، أكرمه الملك الأشرف، وحصل له دنيا صالحة بعد فقر وضرورة.
ثم عاد إلى بغداد، فمرض قبل وصوله إليها، وتوفى بعد أن دخلها بأيام.
كانت وفاته يوم الاثنين، الثالث أو الرابع والعشرين من صفر، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وسئل عن مولده، فقال: سنة ست، أو سبع، وأربعين وخمسمائة- الشّكّ منه- ودفن بمقبرة جامع المنصور.
وفيها توفى ركن الدين منكرس الفلكى: مملوك فلك الدين- أخى الملك العادل لأمّه- كان من أكابر الأمراء. ولّاه العادل مصر والشام نيابة عنه. وكان صالحا ديّنا، عفيفا عادلا، كثير الصدقات. وله بقاسيون مدرسة وتربة أوقف عليها أشياء كثيرة. وكانت وفاته. بجرود «1» : قرية من قرى دمشق، وحمل منها فدفن بتربته بقاسيون- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الأمير كريم الدين الخلاطى. وكان كثير المروءة حسن الملتقى، يتعصّب فى الخير. خدم الملك الكامل والمعظم والأشرف. وتقدّم فى زمن الملك العادل. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون- رحمه الله تعالى.(29/204)
وفيها توفى صلاح الدين أبو العباس: أحمد بن عبد السيد بن شعبان ابن محمد بن جابر، بن قحطان الإربلى- وهو من بيت كبير بإربل «1» .
وكان حاجبا عند الملك المعظم: مظفر الدين بن زين الدين صاحب اربل.
فتغير عليه واعتقله مدة. فلما أفرج عنه، خرج منها إلى الشام، واتصل بخدمة الملك المغيث: محمود بن العادل- وكان قد عرفه من إربل- فحسنت حاله عنده.
فلما توفى الملك المغيث، انتقل الصّلاح إلى الديار المصرية، وخدم الملك الكامل فعظمت منزلته عنده، ووصل منه إلى ما لم يصل إليه غيره، واختصّ به فى خلواته. وجعله أميرا.
وكان الصلاح ذا فضيلة تامة، ومشاركة حسنة. وله نظم حسن، ودوبيت «2» . ثم تغيّر عليه الملك الكامل، واعتقله، فى المحرم سنة ثمانية عشر وستمائة، والسلطان بالمنصورة. فاستمر فى الاعتقال بقلعة الجبل، مضيّقا عليه، إلى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين.
فعمل الصلاح دوبيت، وأملاه على بعض المطربين، فغنّى به عند الملك الكامل. وهو:
ما أمر تجنّيك على الصّبّ خفى ... أفنيت زمانى بالبكا والأسف
ماذا غضب بقدر ذنبى، ولقد ... بالغت وما قصدك إلا تلفى(29/205)
فاستحسنه الملك الكامل، وسأل لمن هو؟ فقيل: للصلاح الإربلى.
فأمر بالإفراج عنه. وقيل إن الشعر غير هذا، وهو:
اصنع ما شئت، أنت أنت المحبوب ... ما لى ذنب، بلى- كما قلت- ذنوب
هل يسمح بالوصال فى ليلتنا ... يجلو صدا القلب ويعفو، وأتوب
ولما أفرج عنه، عادت مكانته عنده إلى أحسن ما كانت عليه ولما توجه الملك الكامل إلى بلاد الروم كان فى خدمته، فمرض بالعسكر بالقرب من السّويدا، فحمل إلى الرّها فمات قبل وصوله إليها، فى خامس عشرين ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكان مولده فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ولما مات وجد بداره بدمشق خمسة عشر ألف دينار، وبداره بالقاهرة خمسة آلاف دينار. ولما عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية، أقطع ولده صنافير «1» بالقليوبيّة خاصا له، وجعل معه أقارب والده ومماليكه- وعدتهم سبعة عشر نفرا- وذلك فى سنة اثنتين وثلاثين.
وتوفى الأديب الفاضل: نجم الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن أبى محمد عبد الوهاب بن الحسن بن على، المعروف بابن وهيب القوصى، بحماه.(29/206)
وكان قد توجّه فى خدمة الملك المظفر- صاحب حماه- ووزر له.
وكانت بينهما مودة ورعاية. ثم نقم عليه أمرا، فقتله- رحمه الله تعالى.
وكان فاضلا، له اليد الطّولى فى الأدب والتّرسّل، والشّعر الرائق. وقد تقدم من كلامه ما كتب به عن متولّى الأعمال القوصية، فى معنى حريق خان المكرم، ظاهر مدينة قوص.
واستهلت سنة اثنتين وثلاثين وستمائة:
فى هذه السنة، توجه الأمير أسد الدين جغريل أحد مماليك السلطان الملك الكامل- إلى مكة، شرفها الله تعالى، وصحبته سبعمائة فارس فتسلمها فى شهر رمضان. وهرب منها الأمير: راجح بن قتادة، ومن كان بها من عسكر اليمن.
ذكر إنشاء جامع التّوبة بالعقيبة «1» بدمشق
فى هذه السنة، شرع السلطان الملك الأشرف فى هدم خان الزّنجبيلى «2» ، الذى كان بالعقيبة بظاهر دمشق، وكان قد جمع أنواع الفساد من الخمور والفسق فقيل للسلطان إن مثل هذا لا يصلح أن يكون فى بلاد الإسلام، فهدمه وعمره جامعا، غرم عليه جملة كثيرة، وسماه الناس جامع التّوبة.(29/207)
قال القاضى شمس الدين بن خلّكان فى وفيات الأعيان: «وجرت فيه نكتة لطيفة أحببت ذكرها، وهى أنه كان بمدرسة ستّ الشام التى خارج البلد إمام، فعرف بالجمال السّتّى- أعرفه شيخا حسنا، ويقال إنه كان فى صباه يلعب بشىء من الملاهى، وهى التى تسمى الجعانه. ولما أسنّ حسنت طريقته، وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى عدّ فى الأخيار. فولاه الملك الأشرف خطابة الجامع، لثناء الناس عليه. فلما توفى، ولى بعده العماد الواسطى الواعظ، وكان يتّهم بالشّراب.
وكان صاحب دمشق يومئذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فكتب إليه الجمال عبد الرحيم: المعروف بابن زوينة الرّحبى:
يا مليكا أوضح الحقّ لدينا وأبانه جامع التّوبة قد قلّدنى منه أمانه قال: قل للملك الصالح- أعلى الله شانه:
يا عماد الدين، يا من حمد الناس زمانه كم إلى كم أنا فى ضرّ وبؤس وإهانه لى خطيب واسطى يعشق الشّرب ديانه والذى قد كان من قبل يغنّى بالجعانه فكما نحن، وما زلنا- ولا أبرح- حانه ردّنى للنّمط الأوّل، واستبق ضمانه(29/208)
وفى هذه السنة، فى تاسع صفر، كانت وفاة الملك الزاهد:
مجير الدين أبو سليمان، داود بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب- صاحب قلعة البيرة «1» .
وكان يحب العلماء وأهل الأدب، ويقصدونه من البلاد. وكان فاضلا أديبا شاعرا، جوادا سمحا. ومولده بالقاهرة لسبع بقين من ذى القعدة- وقيل ذى الحجة- سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
ولما مات، توجه الملك العزيز، ابن أخيه الملك الظاهر، إلى قلعة البيرة، فملكها.
وفيها توفى الأمير الأجل الطواشى: شمس الدين صواب، مقدّم عسكر الملك العادل.
وكانت وفاته بحرّان، فى العشر الآخر من شهر رمضان. وكان السلطان الملك الكامل قد جعله بها، وبغيرها، من تلك البلاد- كما تقدم.
وكان أميرا كبيرا فى الدّولتين: العادلية والكاملية. وكان خادما عاقلا، ديّنا شجاعا جوادا. وكان العدل والكامل يعتمدان عليه.
وكان له مائة خادم، تعيّن جماعة منهم وتأمّروا بعد وفاته: منهم بدر الدين الصّوابى، وشبل الدولة: كافور الخزندار بدمشق، وشمس الدين صواب السّهيلى بالكرك، وغيرهم. وكان شمس الدين صواب العادلى-(29/209)
هذا- إذا حمل فى الأعداء يقول: أين أصحاب الحصى «1» . وكان له برّ وصدقة، وفيه إنصاف- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الصاحب تاج الدين: أبو اسحاق يوسف بن الصاحب الوزير: صفى الدين أبى محمد عبد الله، بن القاضى المخلص أبى الحسن على، الشّيبى المالكى بمدينة حرّان، فى الحادى عشر من شهر رجب، ودفن بها ومولده بمصر فى شوال سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وكان فقيها مالكيا، درّس بمدرسة أبيه بالقاهرة. وناب عن والده فى الوزارة بالديار المصرية. وولى الوزارة بعد والده نحو شهرين. ثم صرف واستخدم فى التّوقيع. ثم ولى نظر الدواوين بالديار المصرية.
ثم عزل واعتقل، ثم أفرج عنه فى سادس عشر شعبان، سنة خمس وعشرين وستمائة. ثم ولى الجزيرة وديار بكر وحرّان فى الدولة الكاملية ومات هناك- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى شرف الدين، أبو حفص وأبو القاسم: عمر بن على بن المرشد بن على، الحموىّ الأصل، المصرى الدار والمولد والوفاة: المعروف بابن الفارض، الشاعر.(29/210)
له ديوان شعر مشهور. وكانت وفاته بالجامع الأزهر بالقاهرة المعزّيّة، فى يوم الثلاثاء الثانى من جمادى الأولى، ودفن من الغد بسفح المقطم.
ومولده بالقاهرة فى الرابع والعشرين من ذى القعدة، سنة ست وسبعين وخمسمائة.
واستهلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة:
فى هذه السنة، حصل بمصر وباء عظيم، مات فيه خلق كثير. واستمر ثلاثة أشهر.
وفيها، فى المحرم، وصل الملك الناصر داود، صاحب الكرك، إلى بغداد. واجتاز فى طريقه بالحلّة «1» ، وبها الأمير شرف الدين، بن الأمير جمال الدين قشتمر، زعيم الحلّة ومقدّم الجيوش، فتلقاه وأكرمه، وأقام له الإقامات الوافرة. وعمل له دعوة عظيمة اشتملت على أنواع من المآكل.
قال ابن الساعى فى تاريخه: بلغت النفقة على تلك الدعوة اثنى عشر «2» ألف دينار.
ثم قصد بغداد، فوصل إليها فى يوم الاثنين سادس عشر المحرم، فبرز لتلقّيه الموكب، وفيه جميع الحجاب والدعاة، وفى صدره قطب الدين:
أبو عبد الله بن الأقساسى،- نقيب الطالبيّين- وعن يمينه وشماله خادمان من(29/211)
خدم الديوان العزيز «1» . وحين وافى باب النّوبى «2» نزل وقبّل العتبة.
وحضر دار الوزارة، فأكرم وخلع عليه قباء «3» أطلس، وشربوش «4» ، وأعطى فرسا بمركب ذهب. وأسكن محلّة المقتدى، بالدار المنسوبة إلى أبى تميم الموسوى، وأقيمت له الإقامات الوافرة من المخزن المعمور «5» فى كل يوم.
وأنهى للديوان العزيز ما اعتمده معه عمّاه من إخراجه من دمشق- وهى مملكة أبيه- ونقله إلى الكرك.
وأقام ببغداد إلى خامس عشرين شعبان. ثم أحضر إلى دار الوزارة، وخلع عليه قباء أطلس أسود، وفرجيّه «6» مموّج، وعمامة قصب كحلية مذهّبة. وأنعم عليه بفرس عربى بمركب ذهب، وكنبوش «7» ومشدّة إبريسم «8» . وأعطى العلم والجفتاوات «9» والكراع «10» . والخيام والمفارش(29/212)
والآلات، وخمسة وعشرين ألف دينار، وعدّة من الخيل وجوز من الثياب الفاخرة. وشرّف من معه من أصحابه وأتباعه ومماليكه.
وأذن له فى التوجه إلى بلده- وذلك بعد الصلح بينه وبين عميه:
الكامل والأشرف. وخرج من بغداد فى ثالث شهر رمضان- وصحبته الأمير: سعد الدين حسن بن على- إلى الملك الكامل، يأمره عن الديوان العزيز بإجابة سؤاله. ذكر ذلك ابن الساعى فى تاريخه.
وفيها، توفى الحافظ: أبو الخطاب عمر بن الحسن بن محمد بن دحية الأندلسى البلنسى «1» ، المعروف بذى النّسبين.
طلب الحديث فى أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقى علماءها ومشايخها. ثم رحل الى بر العدوة «2» ودخل مراكش واجتمع بفضلائها. ثم ارتحل إلى إفريقية، ومنها إلى الديار المصرية، ثم إلى الشام والشرق والعراق.
ودخل إلى عراق العجم وخراسان، وما والاها، ومازندران «3» ، فى طلب الحديث والاهتمام بائمته، والأخذ عنهم. وهو فى ذلك يؤخذ عنه، ويستفاد منه.(29/213)
وقدم مدينة إربل، فى سنة أربع وستمائة، عند توجهه إلى خراسان.
واجتمع بصاحبها: الملك المعظم بن زين الدين. وكان المعظم عظيم الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم، فألف له كتابا سماه: التّنوير فى مولد السّراج المنير، وقرأه عليه فأعطاه ألف دينار. وله عدة تصانيف.
ولما عاد إلى الديار المصرية، ولّاه الملك الكامل دار الحديث الكاملية «1» بالقاهرة. ثم عزله منها قبل وفاته، وولى أخاه محيى الدين أبا عمرو.
وتوفى أبو عمرو بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، سنة أربع وثلاثين وستمائة. وكان حافظا للغة العرب. وكانت وفاة أبى الخطاب بالقاهرة فى الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، ودفن بسفح المقطم. ومولده فى مستهل ذى القعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة.
وفيها، فى سلخ شهر ربيع الآخر- توفى الأمير أبو التّقى صالح بن الأمير المكرم أبى الطاهر «2» إسماعيل بن أحمد بن الحسن بن اللّمطي، بمنية بنى(29/214)
خصيب «1» من صعيد مصر. وصلّى عليه على ساحل البحر، وحمل فى مركب وأحدر إلى مصر، فوصل بعد صلاة العصر مستهل جمادى الأولى، ودفن بسفح المقطم، بتربة كان أنشأها لنفسه قبل وفاته بيسير- وقد قارب الستين. سمع ببغداد جماعة كبيرة وبنيسابور وبمرو وهراه وهمدان ودنيسر ودمشق. وجال فى البلاد كثيرا، ودخل ما وراء النهر. ولم يحصّل من مسموعاته إلا اليسير- رحمه الله تعالى.
وفيها فى شهر ربيع الأول، توفى الأمير فخر الدين أياز البانياسى بخرتبرت من ديار الجزيرة. وحمل إلى القاهرة، ودفن بتربته التى أنشأها بالقرافة الصغرى، وأنشأ بجانبها حوض سبيل. وكان قد ولى مصر مدة، وله غزوات وتقدّم فى الدولتين العادلية والكاملية. وكان مشهورا فى شبيبته بالقوة. وكان محبا لأهل الخير متفقدا لهم- رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى خطيب مصر الشيخ الفقيه: أبو الطاهر محمد بن الحسين ابن عبد الرحمن الجابرى- من ولد جابر بن عبد الله الأنصارى- رضى الله عنه. وهو المشهور بالمحلّى، وهو من أصحاب الشيخين: الشاطبى والقرشى.(29/215)
واستهلّت سنة أربع وثلاثين وستمائة:
ذكر وقوع الوحشة بين السلطان الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف
كان وقوع الوحشة بين الملكين الأخوين فى هذه السنة.
وسبب ذلك أن الملك الأشرف طلب من أخيه الملك الكامل الرّقّة، وقال إن الشّرق قد صار للسلطان، وأنا فى كل يوم فى خدمته، فتكون هذه برسم عليق دوابّى. وجعل الفلك المسيرى واسطة بينه وبين السلطان.
فكتب الفلك إلى الملك الكامل بذلك، فأجابه الملك الكامل بكتاب أغلظ له فيه.
وكان الملك الكامل، لما عاد من بلاد الشرق فى سنة ثلاث وثلاثين، بلغه اتفاق الملوك عليه، فعجّل السير إلى الديار المصرية.
فكتب إليه الملك الأشرف يقول: إنك أخذت منى الشرق. وقد افتقرت لهذه البواكير، ودمشق بستان ليس لى فيها شىء. فبعث إليه عشرة آلاف دينار، فردّها عليه، وقال: أنا أدفع هذه لأميرين.
فغضب الملك الكامل، وقال: الملك الأشرف يكفيه عن الملك عشرته للمغانى وتعلّمه لصناعتهم! فاتصل ذلك بالملك الأشرف، فتنمّر له وقال: والله لأعرّفنّه قدره. وراسل الملوك: بحلب وحماه وبلاد الشرق، وصاحب الروم، وقال: قد عرفتم بخل الكامل وطمعه فى البلاد.(29/216)
فحلفوا كلهم واتفقوا، وسيروا رسلهم إلى الملك الكامل يقولون: انهم معه صلحا، ما أقام بالديار المصرية ولم يخرج إلى الشام لفتح شىء من البلاد.
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وقيام ولده الملك الناصر
وفى سنة أربع وثلاثين وستمائة، كانت وفاة الملك العزيز غياث الدين محمد، بن الملك الظاهر غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- صاحب حلب، بها. ومولده فى ذى الحجة سنة تسع أو عشر وستمائة. وملك بعده ولده الملك الناصر صلاح الدن يوسف. وكان عمره يوم ذاك ست سنين. فقام بتدبير المملكة والدة أبيه، وهى ابنة الملك العادل.
وجعلت الأمير شمس الدين لؤلؤ أتابكه. ثم زوّجه السلطان الملك الكامل ابنته عاشورا شقيقة الملك العادل، فى تاسع عشر ذى الحجة من السنة.(29/217)
واستهلّت سنة خمس وثلاثين وستمائة:
ذكر وفاة الملك الأشرف وشىء من أخباره وقيام أخيه الملك الصالح إسماعيل وإخراجه من الملك
فى يوم الخميس رابع المحرم، سنة خمس وثلاثين وستمائة، توفى الملك الأشرف: مظفر الدين موسى، بن الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد ابن أيوب- صاحب دمشق- بها. ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى تربته بالكلّاسه «1» ، بجوار الجامع الأموى.
ومولده بالقاهرة- وقيل بقلعة الكرك- فى سنة ست وسبعين وخمسمائة. وقيل إنه قبل أخيه الملك المعظم بليلة واحدة. وكان- رحمه الله تعالى- عفيفا عن المحارم، ما خلا بامرأة قط إلا أن تكون زوجته أو جاريته.
وحكى أبو المظفر يوسف بن قزوغلى سبط ابن الجوزى عنه، فى كتابه: «مرآة الزمان» ، من الأوصاف الجميلة، والمروءة الغريرة، والكفّ عن المحارم، والعفة عنها مع التمكن منها، ما يرجى له به الخير عند الله تعالى.
وكان مما حكاه عنه قال: جلست يوما عنده فى منظرة بقلعة خلاط، يعتب على أخيه الملك المعظم فى قضية بلغته عنه، ثم قال: والله ما مددت عينى إلى حريم أحد: لا ذكر ولا أنثى.(29/218)
ولقد كنت يوما قاعدا فى هذه الطّيّارة، فدخل الخادم فقال: على الباب امرأة عجوز، تذكر أنها من عند بنت شاه أرمن- صاحب خلاط.
فأذنت لها، فدخلت، ومعها ورقة من عند بنت صاحب خلاط، تذكر أن الحاجب «علىّ» «1» قد أخذ ضيعتها وقصد هلاكها، وما تتجاسر أن تظهر، خوفا منه. فكتبت على الورقة بإطلاق القرية، ونهيت الحاجب عنها.
فقالت العجوز: هى تسأل الحضور بين يديك، فعندها سرّ ما يمكن ذكره إلا للسلطان! فأذنت لها. فتوجّهت وعادت بعد ساعة، ومعها امرأة ما رأيت فى الدنيا أحسن من قدّها، ولا أظرف من شكلها، كأن الشمس تحت نقابها! فخدمت ووقفت. فقمت لها وقلت: وأنت فى هذا البلد، وما علمت بك؟! فسفرت عن وجهها فأضاءت منه المنظرة! فقلت: غطّ وجهك، وأخبرينى بحالك.
فقالت: أنا بنت شاه أرمن، صاحب هذه البلاد. مات أبى، واستولى بكتمر على الممالك، وتغيرت الدّول، وكانت لى ضيعة أعيش منها، أخذها الحاجب «علىّ» وما أعيش إلا من عمل النّقش، وأنا ساكنة فى دار بالأجرة! قال: فبكيت، وأمرت الخادم أن يكتب لها توقيعا بالضّيعة وبالوصيّة، وأمرت لها بقماش من الخزانة، وأمرت لها بدار تصلح لسكنها، وقلت باسم الله، امضى فى حفظ الله ودعته.(29/219)
فقالت العجوز: يا خوند «1» ، ما جاءت إلى خدمتك إلا حتى تحظى بك الليلة! قال: فلما سمعت كلامها، وقّع الله فى قلبى تغيّر الزمان، وأن يملك خلاط غيرى، وتحتاج بنتى إلى أن تقعد مثل هذه القعدة بين يديه:
فقلت: يا عجوز، معاذ الله! والله ما هو من شيمتى، ولا خلوت بغير محارمى، فخذيها وانصرفى، وهى العزيزة الكريمة! ومهما كان لها من الحوائج تنفّذ إلى هذا الخادم. فقامت، وهى تبكى، وتقول- بالأرمنية:
صان الله عاقبتك، كما صنتنى. قال: فلما خرجت، أفتتنى نفسى، وقالت: ففى الحلال مندوحة عن الحرام، تزوّجها. فقلت: يا نفسا خبيثة، فأين الحيا والكرم والمرؤة! والله لا فعلته أبدا.
ومما حكاه أبو المظفر- أيضا- قال: كنت عنده بخلاط، فقدم النظّام بن أبى الحديد، ومعه نعل النبى صلى الله عليه وسلم. فأخبرته بقدومه، فأذن بحضوره. فلما جاء، ومعه النعل، قام ونزل من الإيوان، وأخذ النعل فقبّله، ووضعه على عينيه، وبكى! وخلع على النظّام وأعطاه نفقة، وأجرى عليه جراية، وقال يكون فى الصّحبة نتبرك به.
ثم عزم على أخذ قطعة من النعل تكون عنده. قال بعد ذلك: فلما عزمت على ذلك بتّ مفكرا، وقلت: إن فعلت هذا فعل غيرى مثله، فيتسلسل الحال ويؤدى إلى استئصاله. فرجعت عن هذا الخاطر. وتركته لله، وقلت: من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه. ثم أقام النظّام عندى شهورا ومرض، وأوصى لى بالنعل، ومات وأخذته بأسره.(29/220)
ولما اشترى دار قايماز النّجمى، وجعلها دار حديث، ترك النعل فيها، ونقل إليها الكتب الثمينة، وأوقف عليها الأوقاف. وعمر غيرها من الأماكن الشريفة: منها مسجد أبى الدّرداء بقلعة دمشق- بناه وزخرفه- وكان غالب إقامته به. والمسجد الذى عند باب النصر، وجامع العقيبة ومسجدا خارج باب الصغير ومسجد القصب خارج باب السلامة، وجامع بيت الآبار. ووقف على ذلك الأوقاف الكثيرة. وزاد وقف دار الحديث النّوريّة.
هذا وتربته بالكّلّاسة بدمشق، وتربة والدته بالقرافة بمصر. وبنى أيضا ببلاد الشرق وخلاط خانات السبيل.
وكان- رحمه الله تعالى- حسن الظن بالفقراء، يحسن إليهم ويزورهم ويتفقدهم بالمال والأطعمة. وكان فى ليالى شهر رمضان لا يغلق باب قلعة دمشق، ويرسل فى الليل جفان الحلو إلى الجامع والزوايا والرّبط، ما قرب منه وما بعد.
وكان ابتداء مرضه فى شهر رجب، سنة أربع وثلاثين وستمائة، مرضين مختلفين فى الأعالى والأسافل. وكان الحرائحى يخرج العظام من رأسه، وهو يسبّح الله ويحمده ثم اشتد به الذّرب، فلما يئس من نفسه قال لوزيره- جمال الدين بن جرير-: فى أى شى تكفننى؟ فقال: حاشاك! فقال دعنى من هذا، فما بقى فى قوّة يحملنى أكثر من نهار غد، وتوارونى. فقال فى الخزانة تصافى. فقال: حاش لله أن أكفن من هذه الخزانة.(29/221)
وقال: لعماد الدين بن موسك أحضر لى الوديعة. فقام، وعاد وعلى رأسه مئزر صوف أبيض تلوح منه الأنوار، ففتحه وإذا فيه خرق الفقراء وطواقى الأولياء، وفيه إزار عتيق ما يساوى خمسة قراطيس. فقال يكون هذا على جسدى أتقى به حرّ الوطيس، فان صاحبه كان من الأبدال وكان حبشيّا، أقام بحبل الرّها يزرع قطعة زعفران يتقوت بها، وكنت أصعد إليه وأزوره، وأعرض عليه المال فلا يقبله، فسألته شيئا من أثره أجعله فى كفنى، فأعطانى هذا الإزار، وقال قد أحرمت فيه عشرين حجّة. وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله. ثم مات فى التاريخ المذكور.
قال أبو المظفر: ولما أحسّ بوفاته فى آخر سنة أربع وثلاثين، قلت له:
استعد للقاء الله فما يضيرك، قال: لا والله بل ينفعنى. ففرّق البلاد، وأعتق مائتى مملوك وجارية. ووقف دار فرّخشاه، التى يقال لها دار السعادة، وبستان النّيرب «1» على ابنته. وأوصى لها بجميع الجواهر.
قال أبو المظفر: وحكى لى الفقيه محمد اليونانى «2» ، قال: حكى لى فقير صالح من جبل لبنان.، قال: لما مات الأشرف رايته فى المنام وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، مع جماعة من الأولياء. فقلت له يا موسى، إيش تعمل مع هؤلاء، وانت كنت تفعل فى الدنيا وتصنع؟
فالتفت إلى وتبسم، وقال: الجسد الذى كان يفعل تلك الأفاعيل تركناه عندكم، والروح التى كانت تحب هؤلاء قد صارت معهم- رحمه الله تعالى.(29/222)
ذكر ملك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- ابن الملك العادل- دمشق، ووصول الملك الكامل إليها وحصار دمشق وأخذها وتعويض الصالح عنها
لما مات الملك الأشرف: مظفر الدين موسى- رحمه الله تعالى- ملك دمشق بعده- بوصية منه- أخوه الملك الصالح: عماد الدين إسماعيل، الملقب بأبى الخيش! وإنما لقّب بذلك، لأنه- فيما حكى عنه- كان يملأ خيشة تبنا ويبيّتها فى الماء، ثم يطعنها برمحه فيرفعها عليه. فلقب بذلك.
ولما انفصلت أيام عزاء الملك الأشرف، ركب الملك الصالح إسماعيل بشعار السلطنة، وترجّل الناس فى ركابه، وأسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى جانبه، وحمل الأمير عز الدين أيبك- صاحب صرخد- الغاشية «1» بين يديه. ثم عاد كل منهما إلى مملكته، واستقر هو بدمشق.
وصادر جماعة من أهلها، اتهمهم بمكاتبة الملك الكامل: منهم العلم تعاسيف «2» وأولاد مزهر وابن عريف البدرى، واستصفى أموالهم. وأفرج(29/223)
عن الشيخ على الحريرى من الاعتقال بقلعة عزّتا- وكان الملك الأشرف قد اعتقله بها فى سنة ثمان وعشرين وستمائة- فأفرج عنه الآن، ومنعه من الدخول إلى دمشق.
وأما الملك الكامل فإنه لما بلغه وفاة أخيه الملك الأشرف، سر بذلك سرورا عظيما، لما كان قد وقع بينهما من الوحشة التى تأكدت أسبابها- وقد تقدم ذكرها. فتجهز بعساكر الديار المصرية وتوجه من قلعة الجبل، لقصد دمشق، فى ثالث عشرين صفر. ولما اتصل خبره بالملك الصالح حصّن دمشق، وقسم الأبراج على الأمراء، وغلّق أبواب المدينة. وجاء الأمير عز الدين أيبك من صرخد، وأمر بفتح الأبواب ففتحت.
ووصل الملك الكامل بعساكره، ونزل عند مسجد القدم. ونزل الملك الناصر داود بالمزّة «1» ، ونزل مجير الدين وتقىّ الدين ابنا الملك العادل بالقابون «2» ، وهم فى طاعة الملك الكامل. وأحدقت العساكر بدمشق،(29/224)
وقطع الملك الكامل عنها المياه. وردّ ماء بردى «1» إلى ثورا «2» . وشدد الحصار، فغلت الأسعار. وسد الصالح أبواب دمشق، إلا بابى الفرج والنصر. وتقدم الملك الناصر داود إلى باب توما، وعمل النّقوب فيه. ولم يبق إلا فتح البلد.
فأرسل الملك الكامل إليه فخر الدين بن الشيخ، فرده عنها، ورحّله إلى أرض برزه. «3» وأحرق الصالح إسماعيل قصر حجّاج والشّاغور، وأخرب ظاهر دمشق خرابا لم يعهد مثله. واحترق جماعة من سكان هذه الجهات فى دورهم، ومن سلم منهم لم يبق له ما يرجع إليه إلا الكدية وسؤال الناس.
وحكى أن الصالح- أو ابنه- وقف على العقيبة «4» ، وقال للزّرّاقين «5» أحرقوها، فضربوها بالناس. وكان لرجل من سكانها عشر بنات، فقال لهن: اخرجن، فقلن لا والله، النار ولا العار، ما نفتضح بين الناس! فاحترقت الدار وهم فيها، فاحترقوا. وجرى من الخراب بظاهر دمشق ما لم يحر مثله قبل ذلك.(29/225)
ثم راسل الملك الصالح أخاه الملك الكامل يقول: بلغنى أنك تعطى دمشق للملك الناصر داود وأنت أحق بها، وان أنت لم تعطنى ما أريد، وإلا ضربت قوارير النّفط فى أربع جوانب دمشق وأحرقتها، وأحرقت قلعتها، وأخرّبها خرابا لا تعمر بعده أبدا. فعلم الملك الكامل من جرأته أنه يفعل، فأعطاه ما طلب.
ودخل بينهما الشيخ محيى الدين بن الجوزى- رسول الخليفة- وكان بدمشق- فوقع الاتفاق والصلح على أن الملك الكامل أقرّ بيد أخيه الملك الصالح بصرى «1» والسّواد «2» ، وأعطاه بعلبك وأعمالها. ولو طلب أكبر من ذلك أعطاه، خوفا من أن يحرق دمشق.
وتسلم الملك الكامل دمشق، ودخلها فى عاشر جمادى الأولى- وقيل فى أواخر الشهر المذكور. وأفرج عن الفلك المسيرى، وكان الملك الأشرف قد اعتقله فى حبس الحيّات. ولما دخل الملك الكامل إلى دار رضوان بقلعة دمشق، رأى قبر أخيه الأشرف فرفسه برجله وسبّه، وقال انقلوه الساعة.
فنقلوه إلى الكلّاسة.
ولما ملك الملك الكامل دمشق، عزم على قصد حمص، لاتفاق صاحبها الملك المجاهد شيركوه، فيما مضى، مع الأشرف. فصالحه الملك المجاهد على أن يحمل إلى خزانته ألف درهم، ودخل عليه بالنساء، فأجاب الملك إلى ذلك. ومات الكامل قبل حمل المال.(29/226)
ذكر وفاة السلطان الملك الكامل
كانت وفاته فى يوم الأربعاء، وقيل ليلة الأربعاء- الحادى والعشرين من شهر رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة، بقلعة دمشق بقاعة الفضّه.
ومولده بالقاهرة فى ذى الحجة، سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
وكان أسنّ أولاد الملك العادل. وكانت مدة عمره تسعا وخمسين سنة وسبعة أشهر- تقريبا. ومدة ملكه- بعد وفاة والده الملك العادل عشرين سنة، وشهرين وستة عشر يوما. وملك دمشق واحدا «1» وسبعين يوما. ومنذ خطب له بولاية العهد، ثمانيا وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وستة عشر يوما.
ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بجوار الجامع الأموى بدمشق. وكان مدة مرضه نيفا وعشرين يوما، بالإسهال والسّعال ونزلة فى حلقه، ونقرس فى رجله. وأظهروا موته يوم الجمعة. ولم يظهروا الحزن عليه بدمشق. حكى عن خادمه الذى كان يعلّله فى مرضه، قال: طلب منى الملك الكامل الطّشت «2» لسقيا، فأحضرته له. وكان الناصر داود على الباب يطلب الإذن. فقلت له: داود على الباب. فقال: ينتظر موتى! وانزعج.
فخرجت إليه، وقلت له: ليس هذا وقت عبورك، فإن السلطان منزعج.
فتوجه إلى دار أسامة «3» - وكان قد نزل بها. ودخلت إلى السلطان، فوجدته قد قضى، والطّشت بين يديه، وهو مكبوب على المخدة.(29/227)
وكان ملكا حازما، ضابطا لأموره. متطلعا لجمع المال، يباشر الحمول التى تصل إليه بنفسه ويكتبها بخطه فى دفتر له، ويحاقق المستخدمين فيما يطلع عليه. وجمع مالا عظيما، حتى يقال إنه خلف ألف إردب ذهب.
وهذا ما لم يسمع بمثله. وأراه- والله أعلم- من التغالى.
وكان يجلس فى مجلس خاص فى كل ليلة جمعة، يجتمع فيه الفقهاء والأدباء والشعراء وغيرهم. وله فى بقية الجمعة ليال، يختلى فيها مع ندمائه على الشراب وسماع القيان «1» . وكان حسن الاعتقاد فى السّنّة. وكان جهورىّ الصوت، وله هيبة عظيمة فى قلوب الرّعايا والخواصّ. وعمّر قاعة بقلعة الجبل، يجلس فيها مع الفقهاء والصالحين فى شهر رمضان، سماها قاعة رمضان. وهى الآن من جملة الخزائن السلطانية.
ذكر ما اتفق بدمشق بعد وفاة السلطان الملك الكامل فى هذه السنة
لما توفى الملك الكامل اجتمع الأمراء، وهم: سيف الدين على بن قليج، وعز الدين أيبك، وركن الدين الهيجاوى، وعماد الدين، وفخر الدين: ابنا شيخ الشّيوخ «2» ، وتشاوروا فى أمر دمشق، وانفصلوا(29/228)
عن غير شىء. وكان الملك الناصر داود بدار أسامة، فأتاه الرّكن الهيجاوى ليلا، وبيّن له وجه الصواب. وأرسل إليه أيبك المعظّمى يقول له: أخرج المال، وفرّقه فى مماليك أبيك والعوامّ، فهم معك، وتملك البلد، ويبقى هؤلاء بالقلعة محصورين. فلم يتّفق ذلك.
ثم اجتمع هؤلاء الأمراء بالقلعة فى يوم الجمعة، وذكروا الملك الناصر داود، والملك الجواد مظفر الدين: يونس بن مودود بن الملك العادل.
وكان فخر الدين بن الشيخ يميل إلى الملك الناصر، وعماد الدين يكرهه فأشار عماد الدين بالملك الجواد، ووافقه الأمراء، وقالوا لفخر الدين بن الشيخ: ما تقول فيه؟ فقد اتفق الأمراء عليه. فقال: المصلحة أن نولّى بعض الخدام نائبا عن الملك العادل: ابن أستاذنا الملك الكامل، فمتى شاء عزله [وإن رضى أبقاه، ولا تولوا من بيت الملك فيتعذر عزله] «1» ويستقل بالملك.
وبلغ ذلك الملك الجواد فجاء إليه، وتحدث معه، وذكر له سالف صحبة ومودة، وترفق له ووعده أن يعطيه إقطاع مائة وخمسين فارسا، وعشرة آلاف دينار. فقال: والله لا وافقت إلا على ما فيه مصلحة لابن أستاذى. فلما يئس منه، فرّق ضياع الشام على الأمراء وخلع عليهم، وأعطاهم ما فى الخزائن- وكان بها تسعمائة ألف دينار. وتوجه فخر الدين بن الشيخ إلى الديار المصرية، ومعه جماعة من الأمراء، بعد أن تردّد إلى الملك الناصر مرارا، وهو بالقابون.(29/229)
واستقر أمر الملك الجواد فى يوم الجمعة. وأرسل الأمراء الأمير ركن الدين الهيجاوى إلى الملك الناصر داود- وهو فى دار أسامة- فأمره بالخروج إلى مملكته بالكرك. فقام وركب، وقد اجتمع الناس من باب داره إلى القلعة. وهم لا يشكّون أنه يطلع إلى القلعة. فتوجه. وخرج من باب الفرج، وصاحت العامّة واستغاثوا. محبة له ورغبة فيه. وتوجه إلى القابون.
وأما الملك الجواد فانه فرّق الأموال وخلع الخلع. فيقال إنه خلع خمسة آلاف خلعة، غير الأموال. وأبطل الخمور والمكوس، ونفى الخواطى «1» . وأقام الملك الناصر بالقابون أياما، وعزموا على القبض عليه، فرحل، وبات بقصر عفرا. وركب خلفه أيبك الأشرفى ليمسكه.
فبعث إليه عماد الدين بن موسك فى السّر فعرفه. فسار فى الليل إلى عجلون «2» وعاد أيبك إلى دمشق.
ذكر ما وقع بين الملكين: الناصر والجواد وهرب الناصر إلى الكرك
قال: ولما توجه الملك الناصر إلى عجلون، سار منها إلى غزّة. واستولى على الساحل بموافقة عسكره، ومقدمهم. الأمير مجد الدين عمر- أخو الفقيه عيسى الهكّارى «3» - ووصلت غاراته إلى الورّادة «4» وخرّب برج الحمام(29/230)
بها. فخرج إليه الملك الجواد فى عسكر مصر والشام، وأمر الأمراء الأشرفية بمكاتبة الناصر وإطماعه فى الملك، ففعلوا ذلك. فاغتر بكتبهم واطمأن إليهم، وركب من غزة فى سبعمائة فارس، وقصد نابلس باثقاله وخزائنه وأمواله- وكانت على سبعمائة جمل- وضرب دهليزه على سبسطيه «1» ، وترك عساكره مقطّعة خلفه.
والملك الجواد على جينين «2» فركب بعسكره وأحاط به. فركب الناصر فى نفر يسير، وساق نحو نابلس، واستمرت به الهزيمة إلى قلعة الكرك لا يلوى على شىء. واستولى الملك الجواد على خزائنه وذخائره، وخيوله وخيامه وأثقاله- وكان فيها ما لا يحصى قيمته. وكانت هذه الواقعة فى رابع عشرين ذى الحجة من السنة.
قال أبو المظفر: وبلغنى أن عماد الدين بن الشيخ وقع بسفط صغير، فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر، وفصوص ليس لها قيمة، فدخل على الجواد وطلبه منه، فأعطاه إياه. قال: وهذه الأموال- التى كانت على جمال الملك الناصر- هى التى جهّز بها الملك المعظم ابنته دار مرشد، لما زوجها بالسلطان: جلال الدين خوارزم شاه- أخذها الناصر منها ظنا منه أنه يعوضها إذا فتح البلاد، فكان الأمر بخلاف ما ظنّ.(29/231)
وكان نصحاؤه أشاروا عليه- وهو بغزّة أنه يبعث بالأموال والأثقال إلى الكرك، على عقبة الزّوبرة «1» ، ويجمع عسكره ويتوجه إليهم جريدة «2» .
فاغتر بمكاتبة الأشرفيّة. وجهز الملك الجواد الطلعات والصّناجق «3» إلى الديار المصرية، فوصلت فى سادس وعشرين الشهر. وعاد إلى دمشق بالظفر والغنيمة.
هذا ما كان بدمشق، فلنذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب، ببلاد الشرق.
ذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب ببلاد الشرق فى هذه السنة
كان الملك الصالح نجم الدين قد استخدم الخورازميّة، الذين سلموا من أصحاب السلطان جلال الدين خوارزم شاه «4» ، فى سنة أربع وثلاثين(29/232)
وستمائة. وكانوا- قبل ذلك- خدموا صاحب الروم السلطان: علاء الدين.
كيقباذ، ففارقوه. واستخدمهم الملك الصالح، واستعان بهم، فخالفوا عليه فى سنة خمس وثلاثين. وأرادوا القبض عليه- وكان على الفرات- فهرب إلى سنجار، وكان قد ملكها واستولى عليها بعد وفاة عمه الملك الأشرف. وترك خزانته وأثقاله، فنبهوا ذلك بجملته. ولما صار بسنجار، وعلم الملك الرحيم: بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل- مخالفة الخوارزميّة، قصده وحصره بسنجار، فى ذى القعدة. فأرسل الملك الصالح إليه يسأله الصلح. فقال: لابد من حمله إلى بغداد فى قفص! وكان بدر الدين لؤلؤ وملوك الشرق يكرهون مجاورة الملك الصالح، وينسبونه إلى الكبر والظلم.
فبعث الملك الصالح القاضى بدر الدين- أبا المحاسن يوسف- قاضى سنجار إلى الخوارزميّة، فتحيّل فى الخروج من سنجار، بأن حلق لحيته وتدلّى من السّور بحبل، وتوجه إليهم. وشرط لهم كل ما أرادوا. فساقوا جرايد «1» من حرّان، وكبسوا بدر الدين لؤلؤ وعسكر الموصل بسنجار. فهرب منهم على فرس، وترك خزائنه وأثقاله وخيوله. فنهبت الخوارزمية جميع ذلك، واقتسموه. فصلحت به أحوالهم واستغنوا.
هذا ما كان من أخبار دمشق والشام، وأخبار الملك الصالح بالشرك بعد وفاة والده: الملك الكامل، فى سنة خمس وثلاثين. فلنذكر أخبار الملك العادل.(29/233)
ذكر أخبار السلطان الملك العادل
هو سيف الدين: أبو بكر، بن السلطان الملك الكامل: ناصر الدين أبى المعالى محمد، بن السلطان الملك العادل: سيف الدين أبى بكر محمد، ابن أيوب. وهو السابع من ملوك الدولة الأيوبية، بالديار المصرية.
استقر فى الملك بعد وفاة والده: السلطان الملك الكامل. وذلك أنه لما مات والده بدمشق، كان هو ينوب عنه بالديار المصرية. فاجتمع الأمراء الذين كانوا بدمشق، فى خدمة السلطان الملك الكامل، الأمير سيف الدين على بن قليج، والأمير عماد الدين، وفخر الدين: ابنا الشيخ، وغيرهم من أكابر الأمراء، فى قاعة المسرّة بقلعة دمشق، وحلفوا للملك العادل هذا، واستحلفوا له جميع العساكر المصرية والشامية. وذلك فى يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة.
ورتّبوا الملك الجواد: مظفر الدين يونس بن مودود- ابن عمه- فى نيابة السلطنة بدمشق، كما تقدم. وطالعوا السلطان الملك العادل بالخبر.
فخطب للملك العادل بالديار المصرية، فى سابع شعبان من السنة، وأعلن بوفاة الملك الكامل. فقال القاضى برهان الدين بن الفقيه نصر:(29/234)
قل للذى خاف من مصر، وقد أمنت ... ماذا تألّمه منها وخيفته
إن كان قد مات عن مصر محمّدها ... فقد أقيم أبو بكر خليفته «1»
قال: ولما استقر فى الملك، وضع المكوس «2» ، وزاد الأجناد «3» ، ووسّع على الناس فى أرزاقهم. ورضى ما قرره الأمراء من استنابة الملك الجواد بدمشق، وأرسل إليه الخلع والصّنجق. فركب بذلك فى يوم الأحد تاسع عشرين شهر رمضان من السنة.
ووصلت العساكر المصرية التى كانت مع الملك الكامل بالشام- وكان ابتداء وصولهم فى ثانى عشر شعبان، وكملوا فى مستهل شهر رمضان من السنة- وتأخر منهم من جرّد مع الملك الجواد. فأكرمهم الملك العادل وخلع عليهم، وزاد فى أرزاقهم. ثم عاد من تأخر منهم إلى الديار المصرية، بعد هرب الملك الناصر داود من سبسطية- كما تقدم. وكان وصولهم فى ثامن المحرم سنة ست وثلاثين وستمائة.
وفى سابع عشرين شوال، من سنة خمس وثلاثين، وصل الشيخ محيى الدين يوسف بن أبى الفرج الجوزى، برسالة الخليفة بالتّعزية للملك العادل بأبيه، والتهنئة له بالملك. واستحلفه للخليفة. فى ثانى ذى القعدة منها.(29/235)
ذكر ما وقع فى هذه السنة من الحوادث- خلاف ما تقدم-
فى هذه السنة، فى ليلة الإثنين سادس جمادى الآخرة، أمر السلطان الملك الكامل أن لا يصلّى بالمسجد الجامع بدمشق صلاة المغرب إلا خلف إمام واحد: وهو خطيب الجامع الشافعى. وأبطل من عداه من الأئمة المالكية والحنفية والحنابلة، فى صلاة المغرب خاصة، لانحصارها فى وقت واحد، واشتباه الحال على المأمومين وفيها قصد الملك المنصور: عمر بن على بن رسول- متملك اليمن- مكة. فلما بلغ الأمير أسد الدين جغريل الخبر، خرج من مكة بمن معه من العسكر إلى الديار المصرية، فى سابع شهر رجب، ووصلوا إلى القاهرة متفرقين، فى العشر الأوسط من شعبان. ودخل صاحب اليمن مكة فى تاسع شهر رجب.
وفيها ولى الشريف: شمس الدين الأرموى «1» الشافعى- قاضى العسكر- نقابة الأشراف بالديار المصرية- وذلك فى يوم الأربعاء سلخ ذى القعدة. وقرىء تقليده بجامع مصر، وحضر قراءته الأمير جمال الدين بن يغمور، وفلك الدين المسيرى، وابن النجيلى.(29/236)
وفيها فى شعبان، ولى الشيخ كمال الدين: عمر بن أحمد بن عبد الله ابن طلحة النّصيبى «1» - الخطابة، بعد وفاة عمه الدّولعى «2» - وكانت وفاته فى رابع عشر جمادى الأولى، ودفن بالمدرسة التى أنشأها بجيرون «3» .
وكان له أخ جاهل فولى الخطابة، ثم عزل. فوليها الشيخ كمال الدين.
وفيها كانت وفاة قاضى القضاة: شمس الدين أبو البركات- يحيى بن هبة الله- بن الحسن، المعروف بابن سنىّ الدولة، فى يوم الأحد سادس ذى القعدة، ودفن بقاسيون. وكان فقيها إماما فاضلا عفيفا- رحمه الله تعالى.
وولى القضاء بعده قاضى القضاه: شمس الدين أحمد بن الخليل الخويّى فى ذى القعدة، استقلالا وعدّل جماعة كبيرة من أهل دمشق وهو أول قاض رتّب مراكز الشهود بدمشق وكان قبل ذلك مورقون يورقون المكتوب، ويتوجه أربابه إلى بيوت العدول فيشهّدونهم.
وفيها توفى الأمير صارم الدين خطلبا التّبنينى، فى يوم الاثنين ثالث شعبان، ودفن بتربته التى أنشأها بقاسيون. وكان ديّنا صالحا عاقلا. أقام فى الثّغور مدة سنين، يجاهد العدوّ. وكان كثير الصدقة دائم المعروف، طاهر اللسان، رحمه الله تعالى.(29/237)
واستهلّت سنة ست وثلاثين وستمائة:
ذكر القبض على الصاحب صفى الدين مرزوق ومصادرته واعتقاله
فى هذه السنة- فى أولها- قبض الملك الجواد على الصاحب صفى الدين بن مرزوق، وصادره، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار.
وكان سبب ذلك أنه كان بينه وبين الملك المجاهد- أسد الدين صاحب حمص- عداوة مستحكمة، لما استوزره الملك الأشرف. وكان الملك الجواد لا يخرج عن رأى الملك المجاهد، فحسّن الملك المجاهد للملك الجواد القبض عليه. وكان ابن مرزوق قد استشعر ذلك، فعمد إلى تابوت وضع فيه جواهر ولآلىء، وأظهر أن إحدى سراريه قد ماتت وهى عزيزة عنده. وأنه يريد دفنها فى داره المجاورة للمدرسة النّوريّة، بالقرب من الخوّاصين- وهى التى تعرف الآن بالنّجيبيّة الشافعية- وعمل فى القبّة أزجا، ثم أخرج التابوت على أعناق غلمانه وخدامه إلى الجامع، وحضر الناس للصلاة على الميّتة، بزعمهم، وعمل العزاء وتردّد القرّاء إلى التربة أياما.
ثم قبض على مرزوق بعد أيام قلائل، وأخذ جميع موجوده، وحبس بقلعة دمشق. فاتفق أن خادمه الكبير ضرب خادما صغيرا، فجاء الخادم، وسأل الاجتماع بالملك الجواد. واجتمع به وأخبره بالواقعة. فأرسل القاضى والشهود وأمير جاندار وأستاذ الدار، فتوجهوا وفتحوا التربة، وأحضروا التابوت بحاله. وكشف بين يدى الجواد وصاحب حمص، فوجد فيه من(29/238)
الجواهر ما قوّم بمائتى ألف دينار وستين ألف دينار «1» . وكانوا- قبل ذلك بأيام- قد طولب ابن مرزوق بمال يحمله، فحلف برأس الملك الجواد أنه لا يملك شيئا. فلما وجد هذا التابوت، سلّمه الجواد للملك المجاهد. فاعتقله بقلعة حمص. فأقام سنين لا يرى الضّوء. وقيل أنه حبس اثنتى عشرة سنة.
وأظهر أسد الدين موته، وكتب بينه وبينه مبارأة «2» .
ذكر خروج دمشق عن الملك العادل وتسليمها لأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب
كان سبب ذلك أن السلطان الملك العادل- لما حضر الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ من الشام إلى الديار المصرية- أنكر عليه، ولامه وتهدده (لكونه) «3» سلم دمشق للملك الجواد. فقال: أنا أتوجه إلى دمشق وأنزل بالقلعة، وأبعث الملك الجواد إلى السلطان. وان امتنع، أقمت نائبا عن السلطان عوضه.
وتوجه من القاهرة فى شهر ربيع الأول، وقرر أن يقطع الملك الجواد ثغر الإسكندرية. ولما عزم على المسير، أشار عليه أخوه فخر الدين أن لا يتوجه إلى دمشق، وقال أخاف عليك من ابن ممدود- يعنى الجواد.(29/239)
فقال أنا ملّكته دمشق، ولا يخالفنى فقال: أنت فارقته وهو أمير، وتعود إليه وقد صار سلطانا، فتطلب منه تسليم دمشق، وتعوضه الإسكندرية، ويقيم عندكم، فكيف يطيب له هذا؟ أو تسمح نفسه بمفارقة الملك؟ فأما إذا أبيت إلا التوجه، فانزل على طبريّة وكاتبه. فإن أجاب، وإلا تقيم مكانك وتكتب إلى الملك العادل.
فلم يرجع إلى رأيه، وتوجه إلى دمشق. وخرج الجواد إليه، وتلقاه بالمصلّى، وأنزله بالقلعة فى قاعة المسرّة. وأرسل إليه الملك الجواد الخلع والأموال والأقمشة والخيل، ففرق عماد الدين الخلع على أصحاب. وجاء الملك المجاهد أسد الدين- صاحب حمص- إلى دمشق.
قال: ولما قال الأمير عماد الدين للملك الجواد أن يتوجه إلى الديار المصرية، ويأخذ ثغر الإسكندرية- غضب، ورسم عليه فى الدار «1» ، ومنعه من الركوب.
ثم جاء إليه وقال: إذا أخذتم دمشق منى، وأعطيتمونى الإسكندرية، لا بد لك من نائب بدمشق، فاجعلونى ذلك النائب. ومتى لم تفعلوا هذا، فقد كاتبت الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسلّم إليه دمشق، وأتعوض عنها سنجار. فقال له ابن الشيخ: إذا فعلت هذا، اصطلح السلطان الملك العادل والملك الصالح، ولا تحصل أنت على شىء ألبتّة(29/240)
ففارقه الجود وخرج مغضبا، وحكى ما جرى بينه وبين ابن الشيخ للملك المجاهد. فقال: والله إن اتّفق الصالح والعادل لا تركا بيد أحد منا شيئا، وسلبانا ملكنا وما بأيدينا، حتى نحتاج إلى الكدية «1» فى المخالى. ثم جاء صاحب حمص إلى ابن الشيخ، وقال له: المصلحة أن تكتب إلى الملك العادل، وتشير عليه بالرجوع عن هذا الرأى: يعنى إخراج الملك بالرجوع عن هذا الرأى. يعنى إخراج الملك الجواد من دمشق. فقال: حتى أتوجه إلى برزه «2» ، وأصلّى صلاة الاستخارة. فقال له أسد الدين: كأنك تريد أن تتوجه إلى برزة، وتهرب منها إلى بعلبك. فغضب عماد الدين وانفصلا على هذه الحال واتفق الجواد وصاحب حمص على قتل عماد الدين وتوجه أسد الدين إلى حمص. وكان عماد الدين قد مرض، وأبل «3» .
فلما كان فى يوم الثلاثاء، السادس والعشرين من جمادى الأولى، بعث الجواد إلى الأمير عماد الدين يقول له: إن شئت أن تركب وتتنزه فاركب إلى ظاهر البلد. فظن أن ذلك بوادر الرضا. ولبس فرجيّة كان الجواد قد بعث بها إليه، وقدموا له حصانا كان سيّره إليه أيضا، فلما خرج من باب الدار إذا(29/241)
هو بنصرانى من نصارى قارا «1» قد وقف وبيده قصبة وهو يستغيث، فأراد الحاجب أن يأخذ القصبة منه، فقال: لى مع الصاحب شغل. فقال عماد الدين: دعوه.
فتقدم إليه، وناوله القصبة. فلما تناولها، ضربه النصرانى بسكّين فى خاصرته! وجاء آخر وضربه بسكين على ظهره، فمات وأعيد إلى الدار ميّتا واحتاط الجواد على جميع موجوده، وكتب محضرا أنه ما مالأ على قتله.
وقصد استخدام مماليكه، فامتنعوا وقالوا له: أنت تدّعى أنك ما قتلته، وهذا له إخوة وورثة، فبأى طريق تأخذ ماله؟ فاعتقلهم. وجهّز عماد الدين، ودفن بقاسيون فى زاوية الشيخ سعد الدين. وكان مولده فى يوم الاثنين سادس عشر شعبان، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة- رحمه الله تعالى.
ولما قتل عماد الدين، علم الجواد أنه إن دخل الديار المصرية وسلم من القتل، صار ضميمة «2» . واتفق وصول رسول الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الملك الجواد، وهو يبذل له أن يكون له سنجار والخابور ونصيبين والرّقّة، ويسلّم دمشق للملك الصالح. فأذعن إلى ذلك، لعلمه أن دمشق لا تبقى له. وقيل إن الملك الجواد هو الذى كتب إلى الملك الصالح، والتمس منه ذلك، فأجاب الملك الصالح إليه.(29/242)
ورتّب ولده: الملك المعظم غياث الدين تورانشاه فى بلاد الشرق، وجعل مقامه بحصن كيفا. ورتب النّواب بآمد، وأقطع الخوارزميّة حرّان والرّها والرّقّة وبلاد الجزيرة وسار إلى دمشق، فوصل إليها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين وستمائة.
وحمل الجواد الغاشية «1» بين يديه من تحت القلعة، وحملها الملك المظفر صاحب حماه- من باب الحديد. وتسلم الملك الصالح القلعة، وخرج الجواد منها فى تاسع الشهر، وترك دار فرّوخشاه. واستوزر الملك الصالح جمال الدين بن جرير. ثم توجه الملك الصالح فى شهر رمضان إلى نابلس، وكان ما نذكره.
ذكر أخبار الملك الجواد، وما كان من أمره بعد تسليم دمشق
قال المؤرّخ: لما قدم الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دمشق، رتّب له الملك الجواد الضّيافات كل يوم، فى قاعة من قاعات دمشق، ورتّب فى كل قاعة ما تحتاج إليه من الفرش والآلات وأوانى الفضة، وغير ذلك. وكان إذا حضر إلى قاعة سلمها إليه بجميع ما فيها، ثم ينتقل إلى قاعة أخرى، وكان آخر الضيافة فى قاعة المسرّة. ثم خرج الملك الجواد، وركب والعسكر فى خدمته، فقال لهم: سلطانكم الملك الصالح. فحلّف الصالح العساكر فى تلك الساعة، إلا الأمير سيف الدين على ابن قليج، فإن الصالح قبض عليه.(29/243)
فعظم ذلك على النّوّاب، ولامه أصحابه على ما فعل من تسليم السلطنة للملك الصالح. فأراد نقض ما أبرمه، والقبض على الملك الصالح. فاستدعى المقدّمين والجند واستحلفهم، وجمع الصالح أصحابه عنده فى القلعة، وأراد أن يحرق دار فرّخشاه. فدخل جمال الدين بن جرير بينهما، وأصلح الأمر.
وخرج الجواد إلى النّيرب «1» ، واجتمع الناس على باب القصر يدعون عليه ويسبّونه فى وجهه- وكان قد أساء السّيرة فيهم، وسلط عليهم خادما لبنت كرجى يقال له الناصح، فأخذ أموالهم وصادرهم، وعلقهم وضربهم، فيقال إنه أخذ منهم ستمائة ألف درهم. وأرسل الملك الصالح إلى الجواد يأمره أن يعطى الناس أموالهم، فلم يصغ إلى قوله، ولا أجابه عن ذلك بجواب. وتوجه إلى بلاد الشرق.
فلما وصل إلى ضمير «2» رأى بدويّا فاستراب منه، فقبض عليه، فوجد معه كتبا من الملك الصالح إلى الخوارزميّة- وكانوا على حمص- يحسّن لهم القبض على الملك الجواد، وأخذ ما معه، وأن يسيّروه إليه. فعند(29/244)
ذلك أخذ على طريق السّماوة «1» وعرج عن حمص، وسار إلى عانة، «2» فدخلها وأقام بها.
فبلغه أن صاحب الموصل يحاصر سنجار- وبها أيدمر مملوك الجواد- فسار إليه فى مائتى فارس. ولما قرب منها رسم أن يضرب فى كل ناحية طبل باز وفرّق من معه فرقا، وجعل كل فرقة طبلخاناه «3» ومشاعل، وأمرهم أن يضربوا طبلخاناتهم جملة واحدة وسار إلى سنجار ليلا على هذه الصّفة، فظن صاحب الموصل أن معه عسكرا، فارتحل عن سنجار فى ليلته، ودخلها الملك الجواد بكرة النهار، وأقام بها سنة.
وحاصره الخوارزميّة، وعادوا عنه وترددت الرسائل بينه وبين صاحب الموصل فى المصاهرة بينهما. وقصد الجواد أن يتصل بابنة صاحب الموصل، ليكون عضدا له. فعقد عقد النكاح بالموصل، وكان وكيل الجواد زريق مملوكة.(29/245)
ثم سأله صاحب الموصل الاجتماع، وسير ولده رهينة. فوافق الجواد على ذلك وتوجه إلى عانة. هذا، وصاحب الموصل قد أفسد أهل سنجار.
ولما سار الجواد من سنجار، جاء صاحب الموصل إليها فدخلها من غير ممانع- وذلك فى سنة سبع وثلاثين وستمائة.
فسار الجواد إلى بغداد، واستنصر بالخليفة. وأقام ببغداد ستة أشهر.
فوصله الخليفة بأربعة آلاف دينار، وأمره بالخروج عن بغداد. فسار إلى عانه وأقام ها، ثم اشتراها الخليفة منه بمائة وعشرين ألف درهم. فقبض الجواد المال وسلّمها- وهى جزيرة فى وسط الفرات. وسار الجواد بعد تسليمها إلى حرّان، وهى بيد الخوارزمية، فأقام عندهم سنة. وسار إلى حلب معهم وقاتل أهلها، ثم عاد معهم الى حرّان.
فاستدعاه الملك الصالح نجم الدين- بعد أن ملك الديار المصرية- فسار ومر على قرقيسيا «1» ، واجتاز بالرّحبة بالبريّة، وأقام عند ابن صدقه «2» أياما. وسار فى البرّيّة إلى الشّوبك، وسير مملوكه زريق إلى الصالح فى البرية.
فعظم ذلك على الصالح، وأنكر كونه حضر من البرية. ووصل الجواد إلى العبّاسة «3» ، فأرسل إليه الملك الصالح الطّواشى دينارا وأمره برده. وأن يعود إلى الشّوبك «4» ، ولا يدخل مصر. فسار على طريق الرّمل يريد الساحل، ووصل إلى رفح.(29/246)
فندب الملك الصالح كمال الدين بن الشيخ للقبض عليه. فعلم بذلك فتوجه إلى الملك الناصر داود- وكان إذ ذاك بالقدس- وتحالفا على قتال الصالح، وذلك فى سنة تسع وثلاثين وستمائة. فاستبشر الناصر بقدومه، وجرّد العساكر معه. وجاء كمال الدين بن الشيخ، والتقوا على مكان يقال له بيت قوريك- وهى قرية من قرى نابلس- بالقرب منها، فيما بينها وبين الغور من جهة أريحا، فكسره الجواد وأسره. وأحضره إلى عند الملك الناصر داود، فوبخ الناصر كمال الدين.
وأقام الجواد عند الناصر فتخيّل منه وقبض عليه بعد أيام، وأراد قتله، لما كان بينهما من الذّحول «1» القديمة. ثم سيّره إلى بغداد فى البرّية تحت الاحتياط، فنزل قريبا من الأزرق، فعرفه جماعة من العرب فأطلقوه.
فتوجه إلى عمه الملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- فلم يمكّنه من الدخول إليها، وبعث إليه بالنفقات. وجرّد معه خمسمائة فارس، وكتب إليه بالمسير إلى الساحل والاجتماع بملوك الفرنج ومقدّم الدّيويّة «2» .
فتوجه إليهم واجتمع بهم بقيساريّة «3» - وكانت أمه فرنجية- فمالوا إليه.
فبلغ ذلك الملك الصالح نجم الدين، فكتب إليه يعده بمواعيد جميلة، وطلب منه أن يستميل الفرنج إلى طاعته، ويعدهم عنه بجميع ما يختارونه. ففعل الجواد ذلك، واستمالهم، وكتب إليه أن يسير رسوله إليهم.(29/247)
ففعل الملك الصالح ذلك، وأرسل رسوله إلى الفرنج، واستحلف الملك الجواد ومقدّم الدّيويّة وأكابر الفرنج. فلما وثق الصالح بذلك، سير الأمير ركن الدين الهيجاوى. إلى غزّة بعسكر، وكتب إلى الجواد أن يرحل وينزل عند الهيجاوى، ويتفق معه على الصلح. ففعل الجواد ذلك.
ثم كتب الملك الصالح إلى الهيجاوى يأمره بالقبض على الملك الجواد، وإرساله إليه. فأخبره الهيجاوى بذلك. فاتفقا على مفارقة الملك الصالح أيوب. فتوجه الجواد إلى عكّا، والتجأ إلى الفرنج. وتوجه الركن الهيجاوى إلى دمشق، والتحق بصاحبها الملك الصالح إسماعيل وأقام عنده. ولم يخدمه، بل كان يتردد إليه فيكرمه ويستشيره فى أموره.
ثم كتب الملك الصالح إسماعيل إلى الملك الجواد يعنّفه. على لحاقه بالفرنج وطلبه إليه ثم أرسل إلى الفرنج وطلب منهم المعاضدة على صاحب مصر. ووعدهم أنه إذا ملك مصر أعطاهم البلاد الساحلية. وجميع فتوح الملك الناصر صلاح الدين يوسف. فاستشاروا الجواد فى ذلك، فكتب إليهم يحذرهم من الملك الصالح إسماعيل، وينهاهم عن موافقته. فوقع بخطه للملك الصالح إسماعيل، فقبض عليه بمنزلة العوجاء «1» ، وسيّره إلى دمشق، واعتقله بعربا. فمات فى شوال سنة إحدى وأربعين وستمائة. وطلبه الفرنج وشددوا فى طلبه، فأظهر أنه مات. وأهله يقولون إنه خنقه. والله أعلم. ولما مات دفن بقاسيون فى تربة الملك المعظم- رحمهما الله تعالى.
هذا ما كان من أمر الملك الجواد. فلنرجع إلى بقية أخبار الملك العادل صاحب مصر.(29/248)
ذكر مخالفة الأتراك على السلطان الملك العادل، وتوجههم إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق
وفى سنة ست وثلاثين وستمائة، ندب السلطان الملك العادل العساكر إلى الساحل، وقدّم عليهم الأمير ركن الدين الهيجاوى، وأنفق فيه الأموال- وذلك فى جمادى الآخرة. فأقاموا ببلبيس إلى العشرين من شهر رمضان.
وأظهر جماعة من الأتراك والمضافين إليهم الخروج عن طاعة الملك العادل، وشيّعوا أنه يقصد القبض عليهم، وعزموا على قصد الملك الصالح أيوب. فأرسل الملك العادل إليهم الأمير فخر الدين بن الشيخ، وبهاء الدين ابن ملكشو، وطيّب قلوبهم واستمالهم، فلم يجيبوا ولما كان فى الحادى والعشرين من شهر رمضان، خرج جماعة من الحلقة «1» من القاهرة، من باب النصر وغيره، تقدير ألف فارس من الأتراك- وأظهروا أن السلطان عزم على القبض عليهم، وقصدوا اللحاق بمن كان على بلبيس من الأمراء فبطق «2» الملك العادل إلى الأمراء الأكراد(29/249)
ببلبيس، بمناجزة الأتراك وقتالهم، فقاتلهم الأكراد قبل وصول الحلقة إليهم. فانهزم الأتراك إلى جهة الشام وانضم أكثرهم إلى الأكراد. ولما انهزموا تبعهم الأكراد، ثم رجعوا خوفا على أثقالهم من الحلقة فوجدوا الحلقة قد وصلوا إلى بلبيس، فلم تتعرض إحدى الطائفتين إلى الأخرى بقتال، لدخول الليل. وتوجه الأتراك للّحاق بأصحابهم الذين انهزموا، وساروا إلى دمشق واتصلوا بخدمة الملك الصالح أيوب.
ذكر وصول الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان الملك العادل
وفى خامس شوال، سنة ست وثلاثين وستمائة، وصل نجّاب «1» من الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان، يخبره بوصوله. فخرج السلطان للقائه فى سابع الشهر، وزيّنت القاهرة ومصر زينة لم يشاهد مثلها، وعاد السلطان والملك الناصر معه فى ثامن الشهر، واستبشر بقدومه وحلف كلّ منهما لصاحبه.
وفى العشرين من شوال، وردت الأخبار بوصول عسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب- صحبة ولده الملك المغيث جلال الدين عمر- إلى جينين فجمع الملك العادل والناصر الأمراء، وتحالفوا على قتاله. وخرج الملك الناصر داود فى يوم الأحد تاسع ذى القعدة، لقصد الشام. وندب الملك العادل جماعة من الأمراء فى خدمته، لقتال الملك الصالح نجم الدين أيوب. وجهّز صحبته خزانة مال وسلاح خاناه، وخرج لوداعه إلى بركة(29/250)
الجبّ، وعاد إلى القلعة. ثم خرج الملك العادل فى يوم الثلاثاء- سلخ ذى الحجة- لقصد الشام، لقتال أخيه الملك الصالح، فنزل على بلبيس وفى هذه السنة، فى يوم الأحد ثامن صفر، كانت وفاة الشيخ الإمام جمال الدين أبى المحامد، محمود بن أحمد الحصيرى الحنفى، بدمشق.
وأصله من بخارى، من قرية يقال لها حصيره. تفقه فى بلده، وسمع الحديث الكثير. وقدم الشام، ودرّس بالنّوريّة. وانتهت إليه رياسة أصحاب أبى حنيفة. وقرأ عليه الملك المعظم الجامع الكبير، وغيره. وصنّف الكتب الحسان، وشرح الجامع الكبير. وكان كثير الصدقة غزير الدّمعة نزها عفيفا.
وكان إذا أتى قلعة دمشق لا ينزل عن حماره إلا على الإيوان السلطانى، والملوك تعظّمه وتجلّه. ودفن بمقابر الصوفية عند المنيبع «1» ، على الجادّة رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الوزير جمال الدين بن جرير، وزير الملك الأشرف. ثم وزر للملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق دون الشهر، ومات. وأصله من الرّقّة. وكانت وفاته فى يوم الجمعة- السابع والعشرين من جمادى الآخرة- بعلة الخوانيق. ودفن بمقابر الصّوفية عند المنيبع- رحمه الله تعالى.
وفيها فى شعبان، توفى الأمير علاء الدين أبو الحسن على، بن الأمير شجاع الدين أبو المنصور جلدك، بن عبد الله المظفّرى التّقوى، بثغر دمياط- وكان واليا به- رحمه الله تعالى.(29/251)
ذكر عود السلطان الملك العادل من بلبيس إلى قلعة الجبل
قد ذكرنا أن السلطان كان قد خرج من قلعة الجبل فى سلخ ذى الحجة سنة ست وثلاثين، لقصد الشام. ونزل على بلبيس وأقام بها، إلى سادس عشر المحرم من هذه السنة، ثم رجع.
وكان سبب رجوعه أن الأمراء قصدوا القبض عليه، وتحيّلوا على ذلك، فسألوه أن يعمل كلّ منهم دعوة ويحضّرها للسلطان، ففسح لهم فى ذلك. وحضر عند بعضهم فأكل، ثم قدّم الشراب فشرب، ورأى ما أنكره فقام، ودخل إلى خربشت «1» لقضاء الحاجة، فخرج من ظهر خربشت، وركب فرسا وساق إلى القلعة. فلما طال على الأمراء انتظاره، دخلوا فلم يجدوه فتفرقوا، وعلموا أنه شعر بما أرادوه من اغتياله.
فسيّروا إليه يطلبونه، فأظهر أنه ما دخل إلى القاهرة إلا ليخلّق «2» المقياس ويكسر الخليج «3» ، ويعود إليهم. ثم ألجأته الضرورة إلى الخروج،(29/252)
فخرج إلى العبّاسة فى يوم الخميس الرابع والعشرين من الشهر، وقبض على الأمير فخر الدين بن الشيخ، وزين الدين غازى، وفتح الدين بن الرّكن، ووصل بهم إلى قلعة الجبل بكرة نهار الأحد السابع والعشرين من الشهر. وفى خامس عشرين صفر، توجه الملك الناصر داود من العبّاسة إلى الكرك، وصحبته ابن قليج وجماعة من أمراء مصر.
وفى يوم الخميس، الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، عملت والدة الملك العادل وليمة عظيمة فى الميدان تحت قلعة الجبل، لجميع الناس: الخواصّ والعوامّ، ذبحت فيها ألف رأس من الغنم، وجملة من الخيل والبقر والجاموس والإبل، وحلت ما يزيد على مائة قنطار من السّكّر، فى ثلاث فساقى كانت على جانب الميدان مما يلى القلعة، وتفرق الناس ذلك بالأوانى. وكان ذلك فرحا باعتقال الملك الصالح أيوب، فإنه كان قد اعتقل بالكرك- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى فى أخباره.
ذكر قتال الفرنج وفتح القدس
وفى يوم الخميس- ثامن عشر شهر ربيع الأول، من السنة- وردت الأخبار، إلى السلطان الملك العادل، أن الفرنج قصدوا الأمير ركن الدين الهيجاوى ومن معه من العسكر، والتقوا واقتتلوا، فى يوم الأحد رابع عشر الشهر، عند سطر الجمّيز بالقرب من غزّة.
وكانت الهزيمة على الفرنج. وأسر ملكهم، وثلاثة من ينودهم، وما يزيد على ثمانين فارسا، ومائتين وخمسين راجلا. وقتل منهم ألف وثمانمائة إنسان. ولم يقتل من المسلمين فى هذه الوقعة إلا دون العشرة،(29/253)
منهم: الأمير سيف الدين محمد بن الأمير أبى عمر، وعثمان بن الأمير علكان ابن أبى على الكردى الهيجاوى- وكان شابا صالحا- وعمره ثلاثون سنة- رحمه الله تعالى. فخذلت هذه الكسرة الفرنج.
ثم فتح الملك الناصر داود صاحب الكرك- ومن معه من العسكر المصرى- البيت المقدّس، فى يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى. فقال جمال الدين بن مطروح:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت، فصارت مثلا سائرا
إذا غدا للشّرك مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر «1» طهّره أوّلا ... وناصر «2» طهّره آخرا
قال: ولما فتح البيت المقدّس، تحصن جماعة من الخيّالة والرّجّالة، ببرج داود والأبراج والبدنات، فنصب عليها المجانيق وهدمها. فسألوا الأمان على أنفسهم خاصة، فأمّنهم.
ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص
وفى ثامن عشر شهر رجب، من السنة- وقيل فى يوم الثلاثاء العشرين منه- توفى الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه، بن شادى- صاحب حمص- بها، ودفن بها.(29/254)
وكانت حمص بيده، منذ أعطاها إياه السلطان الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- عم أبيه- بعد وفاة والده، فى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. فكانت مدة ملكه بحمص سبعا وخمسين سنة، تقريبا.
وكان شجاعا شهما، مقداما، يباشر الحروب بنفسه. وحفظ بلاده من الفرنج والعرب. وبنى الأبراج على مخائض العاصى «1» ورتّب فيها الرجال والطيور. وكان الفرنج إذا خرجوا أطلق الرجال الطيور، فيركب بنفسه وعساكره، فيسبق الفرنج ويردّهم. وكذلك كان يقصد العرب من جهة البرّيّة. وكان قد منع النساء أن يخرجن من باب حمص، مدة ولايته.
وكان إذا اعتقل إنسانا أطال حبسه. وملك بعده حمص ولده الملك المنصور إبراهيم.
ذكر وصول رسل الخليفة إلى السلطان الملك العادل بالتّشاريف
وفى ثامن عشر شهر رمضان- سنة سبع وثلاثين وستمائة- وصل الشيخ محيى الدين بن الجوزى- رسول الخليفة- وفلك الدين المسيرى، بخلع الخليفة إلى السلطان الملك العادل، ولولده. ولقّب ولده- الملك المغيث- من الدّيوان العزيز بألقاب الملك الكامل جدّه، وسمّى باسمه، ثم انتفض ذلك، وأعيد إلى ألقابه الأول، وهى الملك المغيث فتح الدين عمر.(29/255)
ووصلت الخلع أيضا لجماعة من الأمراء، وخلعة للوزير- ولم يكن للسلطان الملك العادل وزير- فرسم بنقل خلعة الوزير إلى الخزانة العادلية.
وكانت جملة الخلع ثمانى عشرة خلعة. وسيّر للسلطان مع خلعته فرس له سرج مشغول بالذهب، وعلمان، وسيفان، تقلد بهما عن اليمين والشمال.
فلبس السلطان الخلعة بظاهر القاهرة، وشقّ البلد.
ثم اتصل بالملك العادل أن الملك الصالح قد أطلق من حبسه بالكرك، وأنه قصد نابلس، وخطب له بها. فخرج من القاهرة فى يوم السبت الخامس من شوال، ونزل على بلبيس، فأقام بها، إلى أن قبض الأمراء عليه.
ذكر القبض على السلطان الملك العادل وخلعه
وفى يوم الجمعة، لثمان مضين من ذى القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة- وقيل لسبع بقين من شوال، منها- قبض الأمراء على السلطان الملك العادل، وخلعوه.
وذلك أن الأمير عز الدين أيبك الأسمر- مقدّم الأشرفيّة- ومقدّمى «1» الحلقة، وهم: الطّواشى مسرور الكاملى، وكافور الفائزى، وجوهر النّوبى، وجماعة من الحلقة- اتفقوا على خلعه، والقبض عليه، واستدعاء أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب. فخلعوه وقبضوا عليه. فكانت مدة سلطنته سنتين، وثلاثة أشهر، وثمانية عشر يوما.(29/256)
ولما قبض على الملك العادل، ركب جماعة من الأتراك وقصدوا أمراء الأكراد، لما كان بينهم من الذّحول «1» التى أثرتها وقعة بلبيس. وكان الأكراد على غير أهبة، فنهبهم الأتراك. ووافقهم ممالك الأكراد على أستاذيهم «2» ، ومالوا للأتراك للجنسيّة، فاستولى الأتراك على خيامهم وأثقالهم وخيولهم. وانهزم الأكراد، كلّ منهم على فرس، ودخلوا القاهرة.
وقبض الأمراء على خواصّ الملك العادل وحرفائه.
وكان الملك العادل قد اشتغل باللهو والهزل واللعب. وكان لا يؤثر قيام ناموس المملكة. ووثق بكرمه وبذله الأموال، وظن أن ذلك يغنيه عن التحفظ. وكان من أكرم الناس وأكثرهم عطاء، ودليل ذلك أنه فرّق فى مدة سلطنته ما يزيد على ستة آلاف (ألف) «3» دينار، وعشرين ألف ألف درهم، من الأموال التى خلّفها والده: السلطان الملك الكامل.
ذكر أخبار السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل- وما كان من أمره بعد وفاة أبيه إلى أن ملك الديار المصرية
كان السلطان الملك الصالح، لما توفّى والده السلطان الملك الكامل، مقيما بسنجار «4» - وله آمد وحرّان والرّها، ونصيبين والخابور، ورأس عين(29/257)
والرّقّة «1» - من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وتوفى السلطان الملك الكامل والده، والأمر على ذلك.
ثم كان من أخباره مع الخوارزميّة، ومفارقتهم له، ومحاصرة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ له بسنجار، واستنصاره بالخوارزمية وعودهم إلى خدمته، وهرب بدر الدين لؤلؤ- ما قدّمناه.
وملك بعد ذلك دمشق من الملك الجواد- كما تقدم. ولما ملك دمشق، راسل عمّه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- صاحب بعلبك- والتمس منه مساعدته على قصد الديار المصرية، وانتزاعها من أخيه الملك العادل. وشرط له أنه إذا فتح الديار المصرية تكون له، وتكون دمشق للصالح إسماعيل. فأجابه إلى ذلك، وشرع فى الاستعداد والاستخدام والاحتشاد.
فاتصل ذلك بالملك العادل ووالدته، فكتبا إلى الملك الصالح إسماعيل، وكتب إليه بعض الأمراء المصريين، وهم يصرفون رأيه عن مساعدة الملك الصالح أيوب، وحسّنوا له أخذ دمشق. فاتفق الصالح إسماعيل، وصاحب حمص على مخالفة الملك الصالح نجم الدين.
وخرج الملك الصالح أيوب من دمشق فى شهر رمضان سنة ست وثلاثين وستمائة، وقصد نابلس- وهى فى جملة مملكة الملك الناصر داود، صاحب الكرك- فاستولى عليها وعلى بلادها- وذلك فى شوال من السنة.
وتوجه الملك الناصر داود إلى الديار المصرية- كما تقدم.(29/258)
وأقام الملك الصالح نجم الدين بنابلس، ينتظر وصول عمه الملك الصالح إليه بعسكره، ليتوجها إلى الديار المصرية. وكان بقلعة دمشق الأمير ناصر الدين القيمرى، ينوب عن الملك الصالح، فاتصل به خبر الملك الصالح إسماعيل وما عزم عليه. فكتب إلى الملك الصالح أيوب، يعلمه أن عمه الصالح إسماعيل قد عزم على مخالفته، واستخدم الرجال لذلك، وحذّره منه مرّة بعد أخرى. ووالى كتبه إليه، وهو لا يكترث بقوله. فلما كرر كتبه بذلك، أجابه: إن مقرعتى إذا وقعت فى فلاة لا يقدر أحد أن يمسّها بيده، ولا يتجاسر عليها! فلما وقف على جوابه كفّ عنه.
وكان الملك المسعود بن الملك الصالح إسماعيل فى خدمة الملك الصالح أيوب- هو والأمير ناصر الدين بن يغمور- فتواترت كتب الملك الصالح إلى عمه الصالح يستحثه على اللحاق به. وهو يتقاعد عنه، ويجيبه إننى لا يمكننى إخلاء قلعة بعلبك بغير حافظ، والقصد إرسال ولدى إلىّ لأجعله بها، وأحضر إليك. فعند ذلك جهّز الملك الصالح نجم الدين أيوب الحكيم سعد الدين بن صدقة المعرّى، إلى عمه الملك الصالح، برسالة، ظاهرها استحثاثه على سرعة الوصول إليه، وأمره أن يطالعه بما يظهر له من أحوال عمه، وهل هو على الطاعة أو العصيان.
فلما وصل الحكيم إلى بعلبك، اطلع على ما اتفق عليه الصالح إسماعيل وصاحب حمص: من قصد دمشق، وانحرافهما عن الملك الصالح. فكان يكتب إليه بذلك، ويدفع البطايق إلى البرّاج ليرسلها على الحمام، فيرصده الصالح إسماعيل ويأخذها منه، ويغيّرها بخط أمين الدولة السامرى،(29/259)
بما معناه أن الملك الصالح إسماعيل محبّ فى السلطان، وقد استخدم واحتفل، وهو على عزم القدوم إلى السلطان. فتصل هذه البطايق المزوّرة إلى الملك الصالح أيوب، فلا يشك أنها صحيحة. فعند ذلك أرسل الملك المسعود الى أبيه ببعلبك، وقد طابت نفسه ووثق [أن عمه] معه.
فلما حصل ولده عنده، سار من بعلبك، وسار صاحب حمص من حمص، وتوافوا بجبل قاسيون. وكان جملة من استخدم الملك الصالح إسماعيل ألف فارس وأحد عشر ألف راجل. واستخدم صاحب حمص أربعة آلاف راجل. وتقرر بينهما أن يكون ثلثا دمشق وأعمالها للملك الصالح إسماعيل، والثلث لصاحب حمص. وكان الصالح إسماعيل قد أفسد بعض أمراء الصالح أيوب. كل ذلك والأمير ناصر الدين القيمرى يطّلع عليه، ويطالع به الملك الصالح أيوب، وهو لا يلتفت إليه، ولا يرجع إلى نصحه.
ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- على دمشق
قال: ولما تكامل للملك الصالح ما أراد من الاستخدام والاحتشاد، ووافقه صاحب حمص- الملك المجاهد أسد الدين شيركوه- راسل الأمير ناصر الدين القيمرى النائب بقلعة دمشق، وبذل له عشرة آلاف دينار على تسليم القلعة. فوافقه على ذلك، ووقع منه بموقع، لأنه كان قد كرّر نصائحه لمخدومه الملك الصالح- نجم الدين أيوب- وحذّره، فما رجع إليه، وأجا؟؟؟
بما تقدم ذكره. فحمله ذلك على موافقة الملك الصالح عماد الدين، وتفرر(29/260)
بينهما أن الصالح يحاصر قلعة دمشق ثلاثة أيام، ويسلّمها إليه، ففعل ذلك.
ودخل إلى دمشق فى يوم الثلاثاء، سادس أو سابع عشرين صفر، سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وكان دخوله من باب الفراديس، من غير ممانعة، فإنه لم يكن عليه من يدفع عنه، ولا عن البلد. ونزل الصالح بداره بدرب الشّعّارين. ونزل صاحب حمص فى داره. وزحفوا فى يوم الأربعاء ثامن عشرين الشهر على القلعة، ونقبوها من ناحية باب الفرج، وقاتل عليها ثلاثة أيام، وتسلّمها من القيمرى- كما تقرر بينهما وكان بها الملك المغيث: جلال الدين عمر بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، فاعتقله الملك الصالح إسماعيل عم أبيه فى برج بالقلعة.
واتصل الخبر بالملك الصالح أيوب، وهو بمخيّمه بظاهر نابلس، وقيل له: إن القلعة ما أخذت فاستحلف عسكره، وخلع على عمّيه: مجير الدين وتقىّ الدين، والرّكن والنّميس وغيرهم، وأعطاهم الأموال واستشارهم. فقالوا: نتوجه إلى دمشق قبل أخذ القلعة. فركب بهم من نابلس، فلما انتهوا إلى القصير «1» المعينى بالغور «2» أنفق فى عسكره، وجدّد(29/261)
عليهم الأيمان وقت صلاة المغرب. وبلغهم أن قلعة دمشق قد استولى عليها الصالح إسماعيل.
فلما كان فى نصف الليل، رحلوا عنه بأجمعهم، وتركوه وليس معه إلا دون المائة من مماليكه. وتفرق عنه بقية مماليكه وخواصّه. فرجع يقصد نابلس، ومعه جاريته أمّ ولده خليل: المدعوة شجر الدّر. وطمع فيه حتى الغوارنة «1» والعشران «2» وكان مقدّمهم رجل شيخ جاهل، يقال له تبل «3» من أهل بيسان، قد سفك الدماء وركبت الجيوش بسبه مرارا، فتبعه بمن معه. وقد توجه الملك الصالح على طريق جينين يريد نابلس، والغوارنة والعشران يتبعونه، وهو يرجع إليهم ويحمل عليهم بمماليكه فيفرّق جماعتهم.
وأخذ بعض خيولهم، واستولوا هم أيضا على بعض ثقله.
ووصل إلى سبسطية «4» . وكان الوزيرىّ- نائب الملك الناصر داود- عاد إلى نابلس، بعد خروج الملك الصالح منها. فأرسل إليه الملك الصالح أيوب يقول: إنه قد مضى ما مضى، وما زال الملوك على هذه الحال. وقد جئت الآن مستجيرا بابن عمى الملك الناصر. ونزل فى الدار بنابلس. وكان الملك الناصر داود قد عاد من الديار المصرية على غير رضا. ووصل إلى الكرك. فكتب إليه الوزيرىّ يخبره بخبر الملك الصالح نجم الدين أيوب.(29/262)
ذكر القبض على الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتقاله بقلعة الكرك
قال: ولما وصل كتاب الوزيرىّ إلى الملك الناصر بالكرك، ندب الأمير عماد الدين بن موسك، والظّهير بن سقر الحلبى، فى ثلاثمائة فارس إلى نابلس. فركب الملك الصالح أيوب وتلقاهم، فخدموه وقالا له: طيّب قلبك. إنما جئت إلى بيتك. فقال: لا ينظر ابن عمى إلى ما فعلت، فما زال الملوك على هذا. وقد جئت إليه، أستجير به، فقالا له: قد أجارك، ولا بأس عليك. وأقاموا أياما حول الدار.
فلما كان فى بعض الليالى، ضرب بوق النّفير، وقيل جاء الفرنج إلى الظّهر. فركب الناس وركب مماليك الملك الصالح ووصلوا إلى سبسطية.
فجاء عماد الدين والظّهير والعسكر إلى الدار التى بها الملك الصالح. ودخل الظّهير عليه، وقال له: تتوجه إلى الكرك، فإن ابن عمك له بك اجتماع.
وأخذ سيفه. وكانت جاريته حاملا، فأسقطت. وأخذوه، وأركبوه بغلة، بغير مهماز فى رجله، ولا مقرعة فى يده- وذلك فى ليلة السبت، لثمان بقين من شهر ربيع الأول- وتوجهوا به حتى وصلوا إلى الرّيّة «1» .
قال أبو المظفر: إن الملك الصالح أخبره، قال: إلى الرّيّة فى ثلاثة أيام، والله ما كلّمت أحدا منهم كلمة، ولا أكلت لهم طعاما، حتى جاء خطيب الرّيّة ومعه بردة وعليها دجاجة، فأكلت منها- قال: وأقاموا بالرّيّة(29/263)
يومين، وما علمت المقصود بى ما هو؟ وإذا هم يريدون أن يأخذوا طالعا نحسا، يقتضى أن لا أخرج من الكرك. ثم أدخلونى الكرك ليلا، على الطالع الذى كان سبب سعادتى. ووكّل بى الناصر مملوكا له فظّا غليظا، يقال له زريق وكان أضرّ علىّ من كلّ ما جرى.
قال: فأقمت عندهم إلى شهر رمضان، سبعة أشهر- يعنى من سنة سبع وثلاثين. وحكى الملك الصالح له ما ناله من الضائقة والشّدة والإهانة شيئا كثيرا.
ولما توجهوا به إلى الكرك، جهز الوزيرىّ خزانته ونساءه، وخيله وأسبابه، إلى الصّلت «1» . وعاد مماليك الملك الصالح فلم يجدوه، فتفرقوا وأما عسكره الذى فارقه من منزلة القصير «2» - فانهم توجهوا إلى دمشق.
فمنعهم الصالح من الدخول إليها، وقال: هذه بلد الملك العادل فلا تدخلوها إلا بإذنه. ثم استخدم بعد ذلك جماعة منهم، وطرد طائفة واعتقل طائفة.
وزيّنت مصر والقاهرة للقبض على الملك الصالح شهرا. وعملت والدة الملك العادل الوليمة التى ذكرناها. وأرسلت القاضى الشريف شرف الدين موسى، والعلاء بن النابلسى، إلى الملك الناصر، بقفص حديد، ليجعل فيه الملك الصالح، ويرسله معهما إلى الديار المصرية! وبذلت فيه للملك الناصر مائة ألف دينار. وكاتبه الصالح إسماعيل وصاحب حمص، فى(29/264)
إرساله إلى دمشق. وبذل الصالح إسماعيل فيه للناصر ربع دمشق. فما أجاب الناصر إلى ذلك وقيل: كان السبب فى امتناع الملك الناصر من تسليمه، لمن بذل فيه ما بذل، أن الصالح أيوب كان قد أرسل جمال الدين بن مطروح- الكاتب- إلى الخوارزميّة فى الحضور إليه، لمحاصرة دمشق. فتوجه لذلك.
فلما قبض على الصالح، أرسل ابن مطروح رسولا على النّجب إلى الملك الناصر، يقول له: إن فرط فى الملك الصالح أمر، فاعلم أن الخوارزمية لا يبقون لك فى البلاد قعر قصبة، فقد حلفوا على ذلك.
وقيل إن والدة الملك الناصر اهتمّت بأمر الملك الصالح، وخدمته أتم خدمة، وتولت ذلك بنفسها، وكانت تطبخ له بيدها. وحلفت على ولدها أنه إن فعل به ما يكره، لا أقامت عنده. وقالت له: ما ملّكنا البلاد، وجعلنا فى هذا الحصن إلا والده- تعنى: الملك الكامل. فتوقف عن إرساله. والله أعلم.
ذكر إطلاق الملك الصالح من الاعتقال بالكرك، وما كان من أمره إلى أن ملك الديار المصرية
قال: ولما كان فى أواخر شهر رمضان، استشار الملك الناصر داود الأمير عماد الدين بن موسك، وابن قليج، والظّهير، فى أمر الملك الصالح.
فوقع الاتفاق على تحليفه وإخراجه. فاجتمع الناصر والصالح وتحالفا، وأفرج عنه وذلك فى أواخر شهر رمضان، سنة سبع وثلاثين وستمائة. ولما أخرجه الناصر من اعتقاله، ركّبه بالكرك بشعار السّلطنة، وحمل الغاشية بين يديه، وأظهر الناصر الخلاف على الملك العادل.(29/265)
وحكى عماد الدين بن شدّاد- فى سبب خلاص الملك الصالح- أن الملك العادل كان قد حلّف الناصر، وحلف له على الاتفاق واجتماع الكلمة على قتال الملك الصالح، وأن تكون دمشق إذا فتحت للملك الناصر.
فلما اتفق هجوم الملك الصالح إسماعيل على دمشق، وأخذها، أرسل إليه الملك العادل يصوّب رأيه، ويشكر فعله. فعظم ذلك على الملك الناصر، وكان سبب خلاص الملك الصالح.
وحكى أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزى، فى كتابه: «مرآة الزمان» أن الملك الصالح نجم الدين أيوب أخبره- بعد أن ملك الديار المصرية- قال: حلّفنى الناصر على أشياء، ما يقدر عليها ملوك الأرض، وهو أن آخذ له دمشق، وحمص، وحماه وحلب، والجزيرة والموصل وديار بكر، وغيرها، وأن يكون له نصف الديار المصرية، ونصف ما فى الخزائن: من الأموال والجواهر والخيول والثياب وغيرها. فحلفت من تحت القهر والسيف.
وقد شاهدت أنا بعض نسخة اليمين عند المولى الملك العزيز: فخر الدين عثمان، بن الملك المغيث فتح الدين عمر- صاحب الكرك- كان بالقاهرة- وفيها أشياء كثيرة من هذا النّوع، وإلزامات، يعلم المستحلف العاقل أن الحالف لا يفى بها، لكثرتها وخروجها عن حد القدرة البشرية، وأن النفوس لا تسمح بها لوالد مشفق، ولا ولد بارّ، فكيف لابن عمّ عدوّ.(29/266)
قال المؤرّخ: ولما أطلقه الملك الناصر، ركب الملك الصالح من يومه، وسار إلى نابلس. فوصل إليها فى يوم السبت، تاسع عشرين الشهر، وخطب له بها يوم عيد. ونثر ابن موسك على الخطيب والناس الذهب.
وخرج الرّكن الهيجاوى إلى الديار المصرية، فأرسل إليه الملك العادل يأمره بالإقامة على بلبيس، إلى أن تصل إليه العساكر. ثم خرج الملك العادل بعساكره- فى خامس شوال- لقتال أخيه الصالح، فقبض الأمراء عليه- كما قدّمنا.
ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية وهو السلطان الثامن من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية
قال المؤرّخ: لما قبض الأمراء الذين قدمنا ذكرهم على الملك العادل، كتبوا إلى الملك الصالح يستدعونه، فسار لوقته.
وكان وصوله- والملك الناصر داود- إلى بركة الجبّ «1» ، فى يوم الخميس الحادى والعشرين من ذى القعدة، سنة سبع وثلاثين وستمائة.
فنزل فى خيمة الملك العادل- والملك العادل معتقل فى خركاه «2»(29/267)
واستدعى الملك الصالح معين الدين بن شيخ الشيوخ، واستوزره، ورد إليه النظر فى الدواوين. وأقام ببركة الجبّ إلى يوم الأحد، لستّ بقين من الشهر. فركب وصعد إلى القلعة فى الثالثة من النهار- وذلك باتفاق المنجّمين.
واعتقل أخاه الملك العادل فى بعض آدر القلعة. وبقى ابنه الملك المغيث- فتح الدين عمر- فى خدمة عمه السلطان الملك الصالح مدة، ثم رأى منه نجابة فحجبه فى الدار القطبيّة، عند عمته ابنة السلطان الملك العادل، أخت الملك الكامل. فلم يزل الملك المغيث بها، إلى أن مات عمه الملك الصالح وملك ابنه الملك المعظم، فنقله إلى الشّوبك واعتقله بها.
وكان من أمره ما نذكره- إن شاء الله تعالى.
وفى الثامن والعشرين من ذى القعدة، من السنة- تقدم أمر السلطان بتجريد جماعة من الأمراء والعساكر إلى الأعمال القوصيّة، لإصلاح العربان بالوجه القبلى. وجعل المقدّم عليهم الأمير زين الدين بن أبى زكرى.
ذكر عود الملك الناصر داود إلى الكرك
كان عوده إلى الكرك فى ذى الحجة، من السنة.
وسبب ذلك أنه اجتمع هو والسلطان الملك الصالح، بقلعة الجبل على شراب، فلما جنّهم الليل وأخذ منهم الشراب، قال الملك الناصر للسلطان:
أفرج عن أخيك الملك العادل فى هذه الساعة. فلاطفه الملك الصالح، وهو يكرر عليه القول! وكان آخر كلام الملك الناصر أن قال للسلطان: لو غسلت رجلىّ وشربت ماءهما، ما أدّيت حقّى! فأمر السلطان مماليكه بإخراجه.(29/268)
فأخرجوه وركّبوه إلى الوزارة. فلما أصبح، سأل عما كان منه، فأخبر به. فقال: ما بقى لنا مقام فى هذه الديار. وأحضر النّجب، وعمل عليها الأخراج- وفيها ما كان معه من الأموال- وهمّ أن يركبها. فبينما هو يتهيأ للركوب، إذ حضر إليه الأمير: عز الدين أيدمر الجمدار «1» الصالحى، ومعه عشرة آلاف دينار، وعشرة أفراس وخلع، وقال له: يقول لك السلطان: هذه ضيافة، خذها وامض إلى بلادك. فأخذها، وركب من وقته، وسلك طريق البرّيّة. ثم ندم السلطان على إطلاقه، وكونه ما قبض عليه ليأمن شره.
وقيل: إن السبب عوده أن الملك الصالح إسماعيل راسل الفرنج، فى قصد بلاد الناصر. فتوجهوا إلى نابلس، فقاتلهم أهلها وهزموهم، فرجعوا إلى بلادهم. فعاد بسبب ذلك. هذا ما حكاه ابن جلب راغب، فى تاريخه، فى سبب عود الملك الناصر.
وحكى أبو المظفر يوسف، فى «مرآة الزمان» ، عما أخبره به الملك الصالح نجم الدين- من لفظه- عندما حضر إليه فى سنة تسع وثلاثين وستمائة، عن وقائع اتفقت له، بين خروجه من اعتقال الملك الناصر إلى أن ملك ورجع الناصر.(29/269)
منها أنه قال: والله لم أحضر الملك الناصر معى إلى الديار المصرية، إلا خشية أن يكون قد عمل علىّ. ومنذ فارقنا غزّة، تغيّر علىّ ولا شك أن بعض أعدائى أطمعه فى الملك. فذكر لى جماعة من مماليكى أنه تحدث معهم فى قتلى. قال: ومنها أنه لما أخرجنى ندم، وعزم على حبسى، فرميت روحى على ابن قليج، فقال: ما كان قصده إلا أن نتوجه إلى دمشق أولا، فإذا أخذناها عدنا إلى مصر.
ومنها أنه لما وصلنا إلى بلبيس، شرب وشطح إلى العادل، فخرج العادل من الخركاه «1» وقبّل الأرض بين يديه، فقال له: كيف رأيت ما أشرت به عليك، ولم تقبل منّى؟! فقال: يا خوند «2» ، التّوبة. فقال طيّب قلبك، الساعة أطلقك. قال الصالح: وجاء فدخل علينا الخيمة، ووقف. فقلت له: باسم الله اجلس. فقال: ما أجلس حتى تطلق العادل.
فقلت: اجلس- وهو يكرر هذا القول. ثم سكت. ولو أطلقته ضربت رقابنا كلّها ثم نام وما صدّقت بنومه. وقمت فى بقية الليل، وأخذت العادل فى محفّة، ودخلت به إلى القاهرة. قال: ولما دخلنا القاهرة، بعثت إليه بعشرين ألف دينار، فعادت لى مع مماليكى. ومنها أنه قال فى بعض الأوقات: قبّل قدمىّ ورجلىّ- إلى غير ذلك، مما لا تصبر عليه النّفوس.(29/270)
ذكر عدة حوادث وقعت فى سنة سبع وثلاثين وستمائة- خلاف ما قدّمناه
فى هذه السنة- فى شهر ربيع الأول- أخرج الملك الكامل من مدفنه بقلعة دمشق، إلى تربته شمالىّ حائط الجامع الأموى، وفتح فى الحائط ثلاث شبابيك الى الجامع: أحدها باب يتوصّل منه إلى الجامع.
وفيها فوّض السلطان الملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- الخطابة بالجامع الأموى لشيخ الإسلام: عزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام- وذلك فى شهر ربيع الآخر.
وفيها أمر الملك الصالح- المذكور- الخطباء بدمشق والشام، بالخطبة لصاحب الروم.
وفيها فوّض الصالح- أيضا- قضاء الشام للقاضى: رفيع الدين أبى حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد، بن إسماعيل بن عبد الهادى بن عبد الله الجيلى «1» الشافعى- وكان قبل ذلك قاضى بعلبك. وظهر منه من سوء السّيرة والعسف والظلم، ومصادرات أرباب الأموال، ما لا يصدر مثله من ظلمة الولاة. وكانت عاقبة ذلك ما نذكره- إن شاء الله تعالى- من قتله.
وفيها، فى ليلة الثلاثاء خامس عشر ذى القعدة، سقط كوكب عظيم قبل طلوع الفجر بمنزلة، وكان مستديرا على هيئة ومقدار، فأضاءت منه(29/271)
الدنيا، وصارت الأرض أشدّ نورا من ليلة التّمام. وشاهده من كان ببلبيس عابرا عليها آخذا من المشرق إلى نحو القبلة، وشاهده من كان بظاهر القاهرة، عابرا من جهة باب النّصر إلى صوب قلعة الجبل. ثم قطع البحر إلى ناحية الجزيرة، وكانت له ذؤابة طويلة خضراء، مبتورة قدر رمحين. واعتقبه رعد شديد، وتقطّع منه قطع. وأقام، من حين إدراك النّظر له حين انطفائه، بقدر ما يقرأ الانسان سورة الإخلاص ثلاثين مرة- هكذا قدّره من شاهده- على ما نقل إلينا.
وفيها فى شعبان- كانت وفاة قاضى القضاء، شمس الدين أحمد، ابن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الخويّى «1» الشافعى، بالمدرسة العادلية، بدمشق، ودفن بقاسيون. ومولده فى سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. وكان- رحمه الله تعالى- حسن الأخلاق، لطيفا كثير الإنصاف، عالما فاضلا فى علوم متعددة، عفيفا متواضعا- رحمه الله تعالى.
وكان وروده إلى دمشق، فى أيام الملك المعظم شرف الدين عيسى، ابن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وحكى أنه لما ورد إلى دمشق، كان مع فضيلته وعلومه يلعب بالقانون، ويغنّى عليه، وقد أتقن صناعته. فأنهى إلى الملك المعظم أمره، فاستحضره إلى مجلس أنسه، ولعب بين يديه بالقانون، وغنّى عليه، ونادمه فأعجبه. وأمره بملازمته فى أوقات خلواته ومجالس شرابه. هذا سبب اجتماعه بالملك المعظم.(29/272)
وأما سبب ولايته القضاء بدمشق، فإنه كان قد بلغ الملك المعظم عن القاضى جمال الدين المصرى- قاضى قضاة دمشق- أنه يتعاطى الشراب.
فأراد تحقيق ذلك عيانا، فاستدعاه، وهو فى مجلس الشراب، فحضر إليه.
فلما رآه قام إليه، وناوله هنّابا «1» مملوءا خمرا. فولى القاضى جمال الدين المصرى ورجع، فغاب هنيهة، ثم عاد وقد خلع ثياب القضاء: الطّرحة «2» والبقيار «3» والفوقانيّة «4» ، ولبس قباء «5» ، وتعمّم بتخفيفه وحمل منديلا.
ودخل على الملك المعظم فى زى النّدماء. وقبّل الأرض، وتناول الهنّاب من يده وشرب ما فيه. ونادم المعظم فأحسن منادمته فأعجبه. واعتذر من قراره أنه ما كان يمكنه تعاطى ذلك، وهو فى زىّ القضاة. فاغتبط الملك المعظم به.(29/273)
ولما انقضى مجلس الشراب، ورجع المعظم إلى حسّه، علم أنه لا يجوز له أن يقرّه على ولاية القضاء- وقد شاهد من أمره ما شاهد. ففوّض القضاء للقاضى شمس الدين الخويّى، وخلع عليه. وجلس للحكم بين الناس، وأحسن السّيرة. وانقطع عن مجلس الملك المعظم وحضوره، إلا فى أوقات المواكب، على عادة القضاة.
واستمر على ذلك مدة. ثم ذكره الملك المعظم واشتاق إلى منادمته، وسماع قانونه. فاستدعاه وتحدث معه، واستوحش منه. ثم كلمه فى الحضور إلى مجلس الأنس معه، فى بعض الأوقات، وأنه لا يخليه منه جملة، وتلطف به فى ذلك. فأجابه عن ذلك، بأن قال: إذا أمر السلطان- أعزّه الله بهذا- امتثلت أمره، وفعلت. ولكن يكون هذا بعد عزلى عن منصب القضاء والحكم بين الناس، وتولية قاض غيرى. فإننى لا أجمع بين منصب القضاء وما يضادّه أبدا، لما يترتب على ذلك من فساد عقود أنكحة المسلمين، ويتعلق ذلك بذمة السلطان. فإن أحبّ السلطان ذلك، فليولّ قاض غيرى.
فأعجب الملك المعظم ذلك منه، وسرّبه، وقال: بل نرجّح مصلحة المسلمين على غرضنا. واستقر على القضاء. وما سمع عنه بعد ولائه القضاء ما يشينه فى دينه ولا يغضّ من منصبه- رحمه الله تعالى.
واستهلّت سنة ثمان وثلاثين وستمائة:
فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر، رتّب السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب دار العدل. وجعل افتخار الدين ياقوت الجمالى نائبا عنه بها. ونصب معه شاهدان من العدول، وجماعة من الفقهاء، منهم:(29/274)
الشريف شمس الدين الأرموى «1» نقيب الأشراف، والقاضى فخر الدين بن السّكّرى، والفقيه عز الدين. فصار الناس يأتون إليها، ويتظلمون وتكشف ظلاماتهم. وإنما فعل السلطان ذلك، لأنه كان غليظ الحجاب، فاستغنى بذلك عن مواجهة الناس.
وفيها، فى رابع المحرم، حصل الشروع فى بناء القنطرة على الخليج الحاكمى- وهى المعروفة فى وقتنا هذا بقنطرة السّدّ.
وفيها فى تاسع شهر ربيع الأول، رسم السلطان بتجهيز زرد خاناه «2» وشوانى «3» وحراريق «4» إلى القلزم «5» لقصد اليمن. وجرّد جماعة من الأمراء والجند بسبب ذلك، فى سادس عشر الشهر.
ثم عاد العسكر فى خامس شهر رمضان، بسبب حادثة الأشرفية التى نذكرها. لأنهم بلغهم أن الأشرفية ومن شايعهم عزموا على نهب العسكر المذكور- وكان ببركة الجبّ. وبطل التّجريد «6» إلى اليمن.(29/275)
ثم توجه من جملة العسكر ثلاثمائة إلى مكة، فى أواخر شهر رمضان.
فدخلوا مكة سلما «1» ، فى ذى القعدة، وهرب من كان بها من العسكر اليمنى.
وفى شهر ربيع الأول من السنة، قبض السلطان على الأمير عز الدين أيبك الأسمر، والخدام الذين وافقوه على القبض على أخيه الملك العادل، وهم: جوهر النّوبى، وشمس الخواص سرور، وكافور الفايزى، وعلى جماعة من الأتراك والحلقة «2» ، ونفى جماعة من الأتراك، وسيّرهم مخشّبين فى المراكب نحو الصعيد وبلاد المغرب، وأخذ أموالهم وقتل بعضهم. وانهزم بعض الأشرفية، واختفى بعضهم. وأمّر السلطان مماليكه، وأعطاهم الإقطاعات.
وفيها فى يوم السبت- تاسع شهر ربيع الآخر- وقيل فى خامس عشرة- ولد للسلطان الملك الصالح ولد ذكر، من سرّيّته: شجر الدّرّ، وسمّاه خليلا. ثم مات بعد مدة يسيرة.
وفيها، فى تاسع شهر ربيع الأول، صرف الأمير سيف الدين بن عدلان، عن ولاية الصناعة بمصر. ووليها أسد الدين، بن الأمير شجاع الدين جلدك.(29/276)
وفيها، فى سابع عشرين شهر ربيع الآخر، نقل الأمير بدر الدين باخل من ولاية مصر إلى ولاية ثغر الإسكندرية. وفيها، فى سابع شهر ربيع الآخر، صرف عن شدّ «1» الدواوين علم الدين كرجى، وولّى الأمير حسام الدين لؤلؤ.
وفى يوم الاثنين خامس شعبان، أمر السلطان بالشروع فى عمارة قلعة البحر، التى بالروضة. فابتدىء فى حفر أساسها فى هذا اليوم، وبنى فيها فى آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة، سادس عشر الشهر. وهدمت الدّور التى كانت بالجزيرة وتحوّل الناس إلى مصر.
ذكر مسير الملك الصالح إسماعيل، صاحب دمشق، منها لقصد الديار المصرية، وقتاله الملك الناصر صاحب الكرك، وعوده إلى دمشق
قال المؤرخ: لما اتصل بالملك الصالح إسماعيل- صاحب دمشق- ما وقع بمصر من الفتن، والقبض على الأمراء الأشرفية والخدّام وغيرهم، عزم على قصد الديار المصرية، وأطمعته آماله فى الإستيلاء عليها. فتجهز بعساكره، ومعه الملك المنصور صاحب حمص، ونجدة من حلب، وقصد الديار المصرية.(29/277)
فبلغه أن الملك الناصر صاحب الكرك على حسبان «1» من بلد البلقاء، فقصده بمن معه. والتقوا واقتتلوا، فانكسر صاحب الكرك. واستولى الصالح إسماعيل على أثقاله، وأسر جماعة من أصحابه. ثم رحل ونزل على نهر العوجا «2» ، وطلب الملك الجواد- وكان عند الفرنج- فحضر إليه.
واستنصر بالفرنج، فكتب الجواد إليهم يحذرهم منه. فوقع كتابه للصالح، فقبض عليه واعتقله- كما ذكرنا- وعاد إلى دمشق، وتفرقت العساكر التى كان قد جمعها.
ذكر تسليم صفد وغيرها للفرنج وما فعله الشيخ عز الدين بن عبد السلام- بسبب ذلك- وما اتفق له مع الملك الصالح
وفى هذه السنة، خاف الملك الصالح عماد الدين إسماعيل على نفسه من الملك الصالح نجم الدين أيوب، فكاتب الفرنج واستنصر بهم، واتفق معهم على معاضدته. وأعطاهم قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشّقيف «3» وبلادها، ومناصفة صيدا، وطبوية وأعمالها، وجبل عامله، وجميع بلاد الساحل. ومكّنهم من دخول دمشق لابتياع السلاح.(29/278)
فشقّ ذلك على المسلمين. واستفتى المتديّنون، ممن يبيع السلاح، الشّيخ عزّ الدين: عبد العزيز بن عبد السلام، فى مبايعة الفرنج السلاح.
فأفتاهم أنه يحرم عليهم بيعه للفرنج. وتوقّف عن الدعاء للملك الصالح إسماعيل على منبر الجامع بدمشق، وجدّد دعاء يدعو به على المنبر، بعد الخطبة الثانية قبل نزوله، وهو: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشيدا، يعزّ فيه وليّك ويذلّ فيه عدوّك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك» .
والناس يصيحون بالتّامين، والدعاء للمسلمين.
فكوتب الصالح إسماعيل بذلك، فورد كتابه بعزله واعتقاله. واعتقل الشيخ أبو عمرو بن الحاجب أيضا، لموافقته الشيخ على الإنكار. ثم وصل الصالح بعد ذلك إلى دمشق، فأفرج عنهما، واشترط على الشيخ عز الدين أنه لا يفتى، ويلزم بيته، ولا يجتمع بأحد. فسأله الشيخ أن يفسح له فى صلاة الجمعة، والاجتماع بطبيب أو مزيّن، إن دعت حاجته إليهما، وفى دخول الحمّام، فأذن له فى ذلك. ثم انتزح الشيخان: عز الدين وأبو عمرو، عن دمشق إلى الديار المصرية- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
وفيها كانت الوقعة بين عسكر حلب والخوارزميّة «1» . وكان الملك الجواد والملك المنصور- صاحب حمص- مع الخوارزميّة. فقصدوا حلبا، ونزلوا على باب بزاعة «2» فى خمسة آلاف فارس. وخرج إليهم عسكر حلب(29/279)
فى ألف وخمسمائة، فكسروهم، وأسروا من أمرائهم ونهبوا من أثقالهم.
فتوجه الخوارزمية حيلان «1» وقطعوا الماء عن حلب، وضايقوهم. ثم عادوا إلى منبج «2» ، فنهبوها، وقتلوا أهلها وفضحوا النساء، ثم عادوا الى حرّان «3» . وكان الملك المنصور إبراهيم- صاحب حمص- قد نزل على شيزر «4» ، فاستدعاه الحلبيون، فجاء إلى حلب، ونزل بظاهرها- ومعه عسكر حمص.
وفيها سلّم الملك الحافظ قلعة جعبر «5» إلى صاحب حلب، وعوضه عنها أعزاز. وكان سبب ذلك أنه حصل له فالج، فتوجه ولده إلى الخوارزميّة يستنجدهم على أبيه، وطلب منهم عسكرا لمحاصرته، فخشى من ذلك، فسلّمها لصاحب حلب.
وفيها تسلم عسكر صاحب الروم آمد، بعد حصار شديد. ويقال إنهم اشتروها بثلاثين ألف دينار.(29/280)
وفيها، فى ليلة الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر، توفى الشيخ محيى الدين: أبو عبد الله محمد بن على بن محمد، المغربى الحاتمى الطائى، المعروف بابن العربى، وهو من أهل الأندلس. ومولده فى ليلة الاثنين، سابع عشر شهر رمضان، سنة ستين وخمسمائة، بمرسية من بلاد الأندلس.
ونشأبها، وانتقل إلى إشبيليّة «1» ، فى سنة ثمان وتسعين. ثم رحل إلى بلاد الشرق، ودخل بلاد الروم. وطاف البلاد وحج. وصحب الصوفية.
وصنف كتبا كثيرة فى علوم القوم. وكانت وفاته بدمشق، ودفن بقاسيون.
واستهلّت سنة تسع وثلاثين وستمائة:
وفى هذه السنة، حصل الشروع فى عمارة المدرستين الصّالحيّتين، بالقاهرة المعزّيّة، بين القصرين- والمكان التى عمرتا فيه من جملة القصر.
وكان الشروع فى الهدم والإنشاء فى ذى الحجة. ولما كملتا، أوقفهما على طوائف الفقهاء: الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، وأوقف عليهم الأوقاف. ويقال انه لما فرغ من عمارتها ندم، لكونه لم يبن مكانهما جامعا، ويرتّب فيه الدروس التى رتبها فيهما.(29/281)
ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السّنجارى
وفى يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الآخر، من هذه السنة، كتب السلطان الملك الصالح إلى قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة كتابا، من جملته: أن القاهرة المحروسة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل- تقدّمنا أن يتوفّر القاضى على القاهرة وعملها، لا غير. وفوّض السلطان قضاء القضاة، بمصر والوجه القبلى، للقاضى بدر الدين أبى المحاسن: يوسف السّنجارى قاضى سنجار. ثم مرض القاضى شرف الدين المذكور، إثر ذلك، ومات فى هذه السنة.
ذكر وفاة قاضى القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، وشىء من أخباره
وفى ليلة الخميس، التاسع عشر من ذى القعدة، سنة تسع وثلاثين وستمائة- كانت وفاة قاضى القضاة شرف الدين أبو المكارم: محمد بن عبد الله ابن الحسن بن على، بن عين الدولة: أبى القاسم صدقة بن حفص الصّفراوى الإسكندرانى.
وكان قد ولى القضاء فى أيام السلطان الملك العادل: سيف الدين- جدّ السلطان- كما تقدّم، واستمّر بعده.(29/282)
ولما مات- رحمه الله- صلّى عليه بمصلّى بنى أميّة، وشهد جنازته خلق كثير، ودفن بعد صلاة الظهر بالقرافة، وأمّ الناس عليه ولده محيى الدين: أبو الصلاح عبد الله. ومولده- رحمه الله تعالى- بثغر الإسكندرية فى يوم السبت، مستهلّ جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وكانت مدة عمره ثمانيا وثمانين سنة، وخمسة أشهر وثمانية عشر يوما. ومدة ولاية القضاء- استقلالا- ستا وعشرين سنة، وتسعة أشهر، وسبعة عشر يوما. وناب عن القضاء قبل ذلك ثمانيا وعشرين سنة. وشهرين وأياما.
وكان رحمه الله تعالى- ذا رياسة قديمة، ووالده وجده من كبراء أهل الثّغر. وجدّ أبيه- القاضى الجليل- من رؤسائه. وبلغ من محلّه فى الدولة العبيديّة «1» أن لقّب بعين الدولة، ولقّب ولده بثقة الدولة، وولد ولده بعين الدولة. فسأل تخصيصا مانعا، لاشتباه الولد بالجدّ، فميّز الولد «2» بعين الدولة ومكينها، ووالده بثقة الدولة وأمينها- بتقليد من الخلفاء العبيديّين. وعمّر القاضى الجليل مائة سنة وأربع سنين. ومات عن عدة أولاد ذكور، ما منهم إلا من عدّل «3» بالديار المصرية، وتولى الأحكام الشرعية.
وكان القاضى شرف الدين- رحمه الله تعالى- مالكىّ المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعى(29/283)
وسبب ذلك أنه قدم من ثغر الإسكندرية إلى مصر وسكن بها، فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. واتصل بالقاضى المرتضى ابن القسطلانى، ثم اتصل بقاضى القضاة: صدر الدين عبد الملك بن عيسى ابن درباس الهذبانى «1» ، فعدّله واستكتبه، فى ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. فلما عزل ابن الجاموس «2» من خطابة الجامع بالقاهرة، أمره القاضى صدر الدين أن يخطب، فخطب وأجاد وأبلغ فى الموعظة، ونزل فصلّى وجهر بالبسملة.
فلما فرغ من الصلاة، وجلس بين يدى القاضى صدر الدين، شكره وأثنى عليه- والمجلس غاصّ بالفقهاء والصّدور وأرباب المناصب- فقال بعض الأكابر: يا شرف الدين جهرت بالبسملة، وخالفت مذهبك. فأنشد قول المتنبّى فى كافور:
فراق، ومن فارقت غير مذمّم ... وأمّ، ومن يممّت خير ميمّم(29/284)
فاستحسن ذلك القاضى والجماعة. وصار شافعيّا من ذلك اليوم. واشتغل بمذهب الشافعى على القاضى: ضياء الدين أبى عمرو عثمان بن درباس «1» ، مصنّف الاستقصاء، وعلى الفقيه: أبى إسحاق إبراهيم بن منصور العراقى «2» واستنابه القاضى صدر الدين عنه فى الحكم بمصر، فى يوم الاثنين والخميس، فى العشر الأوسط من ذى القعدة، سنة أربع وثمانين وخمسمائة. فحضر إليه يستعفى من ذلك. وكان جمال الدولة: أبو طالب شراتكين- سلف القاضى صدر الدين- حاضرا، هو من الأجناد- فأسرّ إليه، وقال له: لا تستعفى، فأنت، والله، بعد اثنتين وثلاثين سنة، قاضى القضاة. فأرّخها فلم تزد ولم تنقص.
ووقّع للقاضى زين الدين على بن يوسف الدّمشقى «3» ، أيام ولايته.
ثم عاد القاضى صدر الدين إلى الحكم، فعاد إليه. وولّى القاضى محيى الدين: أبو حامد محمد بن القاضى شرف الدين بن أبى عصرون، فوقّع له.(29/285)
ثم عاد صدر الدين، فعاد إليه، ولم يزل كاتبه إلى أن توفى. وكان كثير الرّكون إليه، والاعتماد عليه. حتى إن شرف الدين مرض، فسأل عنه القاضى صدر الدين، فأخبر بشدة مرضه، فقال: والله لئن قضى عليه بمحتوم، لأعزلنّ نفسى، لأننى لا أجد من أثق به سواه.
ولما ولّى القاضى عماد الدين: عبد الرحمن بن عبد العلىّ السّكّرى القضاء، كتب له، إلى أن عزل القاضى عماد الدين فى شهر المحرم، سنة ثلاث عشرة وستمائة، فقسّم السلطان الملك العادل القضاء شطرين: فولّى القاضى شرف الدين هذا القاهرة والوجه البحرى، فى الشهر المذكور- وقيل فى يوم السبت ثانى صفر- وولّى القاضى تاج الدين بن الخرّاط مصر والوجه القبلى، كما تقدم. ثم أضاف السلطان الملك الكامل إليه قضاء مصر والوجه القبلى، فى العشر الآخر من شعبان- أو فى شهر رمضان- سنة سبع عشرة وستمائة، كما تقدم ذكر ذلك وكان السلطان الملك الكامل كثير التّنويه بذكره، والافتخار بولايته، والابتهاج بما يراه من أحكامه، وما يبلغه من سيرته، وما يتحققه من حسن طويّته، وجميل سريرته. وكان إذا نظر إليه يقول: والله لنتعبنّ بعد هذا، إذا فقدناه، ولا نجد بعده من يقوم مقامه(29/286)
وكان إذا كتب إلى السلطان، يستأذنه فى عزل نائب من نوابه بالأعمال، أو فى أمر يقصد فعله، يجيبه عن كتابه بخطّه على ظهر كتابه، أو بين سطوره. وكان يقترح ذلك على السلطان، فى بعض الأحيان. وكان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة جاريا «1» على غير ما هو عليه، فى عصرنا هذا.
وقد رأينا أن نثبت من مكاتبات قاضى القضاة إلى السلطان، وأجوبته له، فى هذا الموضع، ما يعلم منه كيف كان الرّسم جاريا «2» . فمن ذلك ما كتب به إلى السلطان الملك الكامل:
«اللهم إنى أسألك حسن الفاتحة، والخاتمة فى عافية. المملوك يخدم المقام المولوىّ السّلطانى المالكىّ، الكاملى- بلّغه الله تعالى كلّ مراد وأمل، ووفّقه لطاعة ربه فى كل قول وعمل- وينهى: أن النائب فى الحكم بإطفيح «3» قد كثر من القول فيه ما تقتضى المصلحة الاستبدال به وهو ابن أخت الأجلّ مجد الدين، أخى الفقيه الأجل عيسى «4» - وقد كان المتظلمون، من مدة، حضروا شاكين لأمره، وطالع المملوك مولانا بحاله، وكان مولانا فى بعض متوجّهاته الميمونة. فورد الجواب، بأن مولانا ينظر فى ذلك. وقد كثر القول. والمملوك يستأذن على ما يفعله فى أمره، من صرف أو إبقاء.(29/287)
المملوك يخدم، وينهى أن النائب فى الحكم بالمحلّة قد ظهر من أحواله، وتحايفه على من يحقد عليه، ويقصد مضادّته لما فى نفسه- ما يقتضى كفّ يده وهو يستند إلى متولّى الحرب بالمحلة، ويعوّل على ثنائه عليه وميله إليه- على ما ذكر للمملوك. وهو يستأذن على أمره.
المملوك يسأل الإجراء- على عادة الفضل والكرم- فى أنه، إن حسن التشريف عن هذين الفضلين بالجواب، أن يكون تشريف الخطّ الكريم- لا زال عاليا- ليكون سببا لستر القضية، إلى أن يعتمد فيها ما يرسم من توقّف أو إمضاء والله تعالى يمنّ على المملوك بدوام جميل آراء مولانا وعضده له، وتقوية يده فى نيابته عن مولانا فيما فوّضه إليه.
المملوك ينهى أن من اعتمد فى أمره من الشهود والنوّاب- الأمر الذى أرشد مولانا المملوك فيه إلى الصواب- لكلّ منهم جهة «1» ربما شقّ عليها ما جرى، وحصل منها فى حقّ المملوك ما يقضى بتغيير خاطر وتقسيم فكر.
والله ما يبالى المملوك- بعد رضى الله تعالى-[إلا] برضى مولانا بمن أحب أو أبغض، أو أعان أو تعصب.
ولو كان كلّ الناس عنى بجانب ... لما ضرّنى، إذ كنت منك بجانب
المملوك ينهى أن مولانا، لما شرّف المملوك فى الخدمة، كان فى التقليد أنه لا يستنيب إلا من كان على مذهب الإمام الشافعى- قدّس الله روحه.
ولما كان بعد ذلك، ورد مكتوب من مولانا فى زمن إقامة ركابه بالمنصورة،(29/288)
يتضمن أن أمر الإستنابة إلى المملوك. وفى النواب اليوم شخصان على مذهب مالك- رحمه الله تعالى. فيحيط العلوم أنه ما خالف إلا بعد ما ورد ما ذكره. وكان ممنّ تقدّم المملوك فى الحكم من استناب الشافعية والحنفية والمالكية بمصر نفسها، وبالأعمال. أنهى ذلك، والرأى أعلى فى التشريف بالجواب- إن شاء الله ربّ العالمين.
فأجابه على ظهر كتابه- بخطّه- ما مثاله: «اخترتك دون غيرك، لبراءة ذمّتنا وذمّتك. افعل ما يخلّصك عند الله، من خير معنا تفعله، ومع نفسك- إن شاء الله تعالى» وختمه. وكتب على الختم القاضى شرف الدين قاضى القضاة.
وأضاف السلطان إليه الحكم فى الينبع، فى بعض شهور سنة ست وعشرين وستمائة، فاستناب فيه. ثم أضاف إليه الحكم بغزّة والخليل والأردنّ وطبريّة وبانياس، فى سنة إحدى وثلاثين، فاستناب عنه فيها نوابّا.
ثم تقدم إليه أن يستنيب عنه خطيبا وحاكما بثغر دمياط، فى شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة، فاستناب فى ذلك.
وكتب إلى السلطان- قبل أن يستنيب- يستأذنه فى النيابة، ويستوضح عن أمر البلاد الشامية، فأجابه:
«ورد كتاب الحضرة- أعاد الله علينا من بركاتها، ونفعنا بمتقبّل دعواتها، وأسعد آراءها، ووفّق قصودها وأنحاءها، ولا زالت تصرفاتها فى الشريعة أبدا ميمونة، وأحكامها بإصابة الحق مقرونة- وفضضنا ختمها ووقفنا عليها، وأحاط علمنا بما اشتملت عليه، وما أومأت الحضرة إليه(29/289)
وشكرنا اجتهادها المفوّف البرود، وتحرّزها فى الأمور الشرعية الجليلة العقود. وأتينا على ديانتها التى رقّتها عندنا إلى المقام المحمود.
فأما إشارتها إلى أنها تستنيب فى غزّة وما معها، عنا أو عن نفسها، فنحن أضفنا ذلك إليها، وهى تستنيب عن نفسها من يكون أهلا لذلك.
وأما استفهامها أن المواضع المذكورة: هل لها جامكيّات «1» مقرّرة أم لا؟
نعم لها جامكيّات مقررة، والديوان شاهد بها. وأما استيضاحها: هل لهذه المواضع أصل، حتى يقال: الموضع الفلانى وعمله، فيولّى فيه شخصا واحدا، أو كلّ موضع، وإن قلّ، مفتقر إلى نائب مفرد- فلتعلم الحضرة أن مرادنا أن نستنيب شخصين: أحدهما لغزّة وطبريّة والأردن وجبل الخليل، والآخر لبانياس وعملها.
ثم ذكر غير ذلك فى جوابه، وقال: وكتب لسبع خلون من شوال سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بمنزلة تقابل البيرة بشاطىء الفرات، من برّ الشام المحروس- شفاها.
وكتب إلى السلطان أيضا يستأذنه فى صرف بعض النوّاب، فأجابه:
«وردت مكاتبة الحضرة- أيّدها الله بتوفيقه فى جميع حالاتها، ولا أخلى من صالح دعواتها فى شريف أوقاتها، وأجراها من السّداد والتّحرّز على مختار عاداتها- ووقفنا عليها جميعا، وأحاطت علومنا بما أشارت إليه، وما نبّهت فيها عليه.(29/290)
فأما إشاراتها إلى صرف قاضى الفيّوم والاستبدال به بخطيب البلد وصرف قاضى قوص، وتعريضها بأنها لا يجوز لها إعادته. وعزمها على صرف قاضى إخميم، وما عرّضت به من انتمائه إلى كريم الدين الخلاطى.
وإصرارها على صرف قاضى منية زفتى، وتصريحها بأنه ذاكر أنّا نعرفه.
وقد خلعنا عليه- فجوابنا عن جميع ذلك: أنا قلّدناها هذا الأمر العظيم.
وذمّمناها هذا الخطب الجسيم، ونهجنا بها السّلوك فى طريقه المستقيم، وفوّضنا ذلك إليها، وجعلنا أزمّة نقضه وإبرامه بيديها، وصيّرنا ركائب آمال طالبى التّولية مناخة لديها- نرجو بذلك براءة الذّمّة عند الله تعالى، وأن لا تقوم الحجّة علينا ولا عليها.
فمن استصلحته ورضيته من النّواب، فلتقرّه على حاله. ومن ظهر لها اعوجاجه وسخطته، فلتصرفه، ولا تعرّج على أساطير أقواله. فالإرهابات والتّمويهات لا مدخل لها فى أمور الدين، والشّرع الشريف منزّه عن شفاعة الشافعين. فلتعلم الحضرة ذلك، ولتواصل بالمتجدّدات «1» ، موفّقة فى ذلك- إن شاء الله تعالى. سطّرت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بظاهر السّويدا- مشافهة.
هذا كان الرّسم فى المكاتبات والأجوبة. وفيه دليل على أن قاضى القضاة بالديار المصرية، فى ذلك الوقت، كان لا يستقلّ بعزل نائب من نوّابه بالأعمال- وإن صغرت جهة ولايته- إلا بعد مراجعة السلطان،(29/291)
واستئذانه. وما زال الأمر جاريا على ذلك، إلى أن ملك السلطان الملك الصالح نجم الدين، فغلظ حجابه، وتعذّر خطابه وجوابه، وتعاظم أن يشاور فى الجزئيات، وأن يشافه إلا فى الأمور المعضلات. فاستقلّ حينئذ القضاة وغيرهم، واستبدّوا بالولايات والعزل.
ولنرجع إلى أحوال قاضى القضاة: شرف الدين، وسيرته.
وكان- رحمه الله تعالى- جوادا كريما، زاهدا لا يدّخر شيئا:
ولا يملك إلا سجّادة خضراء من الصوف، وسجّادة من أدم ومشطا وسبحه، ومقراضا، وعودا من أراك «1» . وليس له إلا بدلة واحدة، فإذا تغيّرت، غسلت له ليلا. وبغلة واحدة. فإذا كان زمن الربيع، استأجر بغلة فى كل يوم بثلاثة دراهم، ويقوم بعلفها من عنده، ما ملك عقارا، ولا وجبت عليه زكاة فى عمره.
وكان مضبوط المجلس، لا يسارّ أحدا فى مجلسه ولا يضحك فيه.
وكان كثير العبادة، يسرد الصّوم، ولا يفطر إلا الأيام التى لا يجوز صومها، كثير التلاوة للقرآن، والذّكر والأدعية. وكان. لا يكلّف أحدا قضاء حاجة، إلا ويعطيه فوق أجرته. حتى كان يدفع ملء إبريق ماء حارا فى الشتاء من الحمّام، عند كل صلاة، نصف درهم للحمّامى، وربع درهم لحامل ذلك إليه. وكان يدفع لبارى أقلامه أجرة، من درهمين إلى ثلاثة.(29/292)
وكان له شعر حسن، قد وقفت منه على قصائد، يمدح بها السلطان الملك الكامل- تركنا إيرادها إختصارا. فمن شعره، بديهة:
وليت القضاء، وليت القضا ... ء لم يك شيئا تولّيته
وقد قادنى للقضاء القضا ... وما كنت قدما تمنّيته
وكان حسن النّثر. وكانت علامته: الحمد لله متولّى السرائر.
ويكتب تحت خط الشهود: أقام شهادته عندى بذلك، وشخص المذكور. والله على كل شىء شهيد. وأخباره- رحمه الله تعالى- وأوصافه الحسنة كثيرة، وقد أتينا منها بما فيه الكفاية.
ولما مات قاضى القضاة شرف الدين فى التاريخ المذكور، خرج الأمر السلطانى بالإذن للعقّاد والنواب عنه بالقاهرة- فى يوم الأحد الثانى والعشرين من ذى القعدة من السنة- بالإستمرار، إلى أن يقع الإختيار على قاض، ولم يؤذن لنائبه: القاضى محيى الدين عثمان بن يوسف القليوبى- بشىء- وهو الذى كان خليفة القاضى شرف الدين بن عين الدولة فى الحكم- إلى أن مات. واستمر ذلك إلى يوم الأربعاء، الخامس والعشرين من الشهر.
ففوّض السلطان قضاء القاهرة والوجه البحرى لقاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى- وصرف عن الحكم بمصر والوجه القبلى. وكان قد(29/293)
استناب بمصر ابن عمه: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن خلّكان «1» ، وفوّض إليه عقود الأنكحة وقضاء الجيزة، واستناب شمس الدين عنه فى قضاء الجيزة أخاه: بهاء الدين محمد بن محمد. فلما ولى القاضى بدر الدين القاهرة، استناب القاضى شمس الدين- المذكور- بها فجلس فى يوم الخميس- السادس والعشرين من ذى القعدة- بجامع الأزهر، وأمر الشهود بالانتقال إلى حرم الجامع. ثم شرك بينه وبين القاضى محيى الدين، فى النيابة بالقاهرة. وولّى قضاء مصر الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام.
ذكر وصول شيخ الإسلام «2» عبد العزيز بن عبد السلام- إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها- وغير ذلك- إليه، وما فعله وعزله نفسه
كان وصوله إلى الديار المصرية فى سنة تسع وثلاثين وستمائة وذلك أنه لما وقع له مع الملك الصالح إسماعيل بدمشق ما وقع، وعزله وألزمه داره- كما تقدم- فارق دمشق، وقصد البيت المقدس.(29/294)
فوافاه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالغور «1» ، فأكرمه ونقله إلى الكرك. وقال له: تقيم عندى بهذا الحصن وأنا لا أخرج عن أمرك. فأقام عنده مدة يسيرة. ثم استأذنه فى الخروج، فسأله عن موجب خروجه وكراهة مقامه. فقيل إنه قال له: هذا بلد صغير، وأنا أحبّ الانتقال إلى بلد أنشر به ما عندى من العلم.
فأذن له، وتوجه الشيخ إلى القدس، وأقام به. فجاء الملك الصالح إسماعيل بعساكره إلى القدس- وصحبته الفرنج- فأرسل إلى الشيخ بعض خواصّه بمنديله، وقال له: ادفع إليه منديلى وتلطّف به واستنزله، وعده بعوده إلى مناصبه. فإن أجاب، فائتنى به. وإن خاشنك فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمتى.
فأتاه الرسول ولاطفه، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك، وتعود إلى ما كنت عليه وزيادة، أن تقبّل يد السلطان. فقال له: «والله ما أرضاه أن يقبّل يدى، فضلا أن أقبّل يده» !! فقال: إنه قد رسم أن أعتقلك إذا لم توافق. فقال افعلوا ما بدالكم! فاعتقله فى خيمة إلى جانب خيمة السلطان.
وكان يقرأ القرآن والسلطان يسمعه. فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون هذا الذى يقرأ؟ قالوا نعم: قال هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علىّ تسليمى لكم حصون المسلمين، وعزلته من الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته عن دمشق فجاء إلى القدس. وقد جددت اعتقاله(29/295)
لأجلكم. فقالوا له: لو كان هذا قسّيسنا، لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!. ثم فارق الصالح القدس.
وقدم الشيخ إلى الديار المصرية. فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأكرمه، وفوّض إليه الخطابة والإمامة بجامع عمرو بن العاص بمصر، فى يوم الجمعة العاشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وثلاثين وستمائة، عوضا عن أبى المجد الإخميمى- وكان أبو المجد قد ولى الخطابة بعد وفاة أبى طاهر المحلّى، وكان ينوب عنه فى حال حياته. وخطب الشيخ عز الدين فى هذا اليوم. وأذّن الأذان الثانى على الدّكّة يومئذ، مؤذّن واحد- خلاف العادة.
ثم فوضّ إليه القضاء بمصر والوجه القبلى- فى يوم الثلاثاء التاسع من ذى الحجة، من السنة- بعد انتقال قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى منها إلى القاهرة والوجه البحرى. وشغرت «1» مصر عن حاكم، فيما بين نقل القاضى بدر الدين وتولية الشيخ، أربعة عشر يوما ووليها الشيخ مضافة إلى الخطابة.
وجلس فى هذا اليوم، وحكم بين الناس. واستناب الشيخ عنه، فى الحكم، القاضى صدر الدين موهوب: قاضى جزيرة ابن عمر. وفى يوم جلوس الشيخ للحكم، أسقط عدلين من العدول المتقدّمة.(29/296)
وسبب ذلك أنه وجد مسطورا «1» ، فيه شهادتهما، وهو غير مؤرّخ، وفى خطّ كلّ منهما: كتبه فلان فى تاريخه. وسأل أحدهما عن فرائض الصلاة، فلم يجبه جوابا مرضيا. ثم أسقط، بعد ذلك بأيام، القاضى فخر الدين بن قاضى القضاة عماد الدين بن السّكّرى- مدرّس منازل العزّ- لأنه وجد شرط الواقف بالمدرسة أن يكون المدرّس بها عارفا بالأصولين «2» ، وهو عار عن معرفتهما. فأسقطه لذلك.
وأسقط أيضا جماعة من عدول «3» القاضى شرف الدين بن عين الدولة. ثم أسقط ولده محيى الدين أبا الصلاح. وطلبه فخرج مستخفيا إلى ثغر الإسكندرية. واستند فى إسقاط كلّ منهم إلى موجب ظاهر. ثم عزل نفسه. فتلطف السلطان فى إعادته، فعاد.
ثم أسقط الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ: وزير السلطان الملك الصالح ونائبه، ومقدّم جيوشه. وعزل نفسه عن القضاء ثانيا.
وسبب ذلك: أن الصاحب معين الدين كان قد بنى فراشخاناه «4» على ظهر مسجد، بجوار داره. وكان السلطان قد فوّض إلى الشيخ أيضا(29/297)
النظر فى عمارة المساجد، بمصر والقاهرة. فأرسل إليه يأمره بهدم ما استجدّه على ظهر المسجد وإزالته، وإعادة المسجد الى ما كان عليه. فلم يجب إلى ذلك. ثم عاوده فلم يفعل.
فلما طال ذلك على الشيخ، أمر الفقهاء طلبته أن يأتوه فى غد- ومع كل واحد منهم معول- ففعلوا ذلك. فلما رآهم العوامّ اجتمع منهم خلق كثير بالمساحى. وركب الشيخ إلى دار الصاحب معين الدين، وهو فى خدمة السلطان، وأمر بإخراج ما فى ذلك المكان، فأخرج، ثم أمر بهدمه فهدم.
فتألم الصاحب معين الدين لذلك، ولم يمكنه أن يحدث فيه شيئا.
فلما كان بعد مدة يسيرة، جلس الشيخ بجامع مصر لتعديل من شهد بعدالته، منهم: فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد. واجتمع لذلك جمع كثير من العلماء والفقهاء والأكابر والقرّاء- وكانت العادة كذلك فى إنشاء العدالة. فاتصل الخبر بالصاحب معين الدين، فأمر والى مصر أن يدخل إلى المجلس، ويفرّق ذلك الجمع، ويقول للشيخ عز الدين: يقول لك الصاحب: بلد السلطان لا يجتمع فيه الجموع. ففعل الوالى ذلك.
فصرخ الشيخ فى المجلس بإسقاط عدالة الصاحب معين الدين! ثم عزل نفسه عقيب ذلك. وكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات. ولما اتصل خبر هذا الإسقاط بالسلطان، منع الصاحب معين الدين من الدخول إليه ثلاثة أيام، حتى لفّق صيغة شهدت أن الشيخ إنما أسقطه بعد أن عزل نفسه، وأن إسقاطه لم يصادف محلّا، وأنه باق على عدالته.(29/298)
وأثّر هذا الإسقاط فى الصاحب معين الدين أثرا مؤلما. وهو أنه حكى أن السلطان أرسل رسولا إلى الدّيوان العزيز «1» ببغداد، وكان المشافه للرسول عن السلطان الصاحب معين الدين. فلما أبلغ الرسالة قال له الوزير:
أيوب شافهك بهذه الرسالة؟ قال: لا، إنما شافهنى بها عنه الصاحب معين الدين. فقال له الوزير: معين الدين أسقط الشيخ عزّ الدين عدالته، فلا يرجع إلى مشافهته.
ولما عزل الشيخ نفسه، أراده السلطان على العود إلى القضاء، فامتنع من ذلك. ففوّض السلطان الملك الصالح القضاء بعده، بمصر والوجه القبلى، إلى نائبه: القاضى صدر الدين أبى منصور موهوب، بن عمر بن موهوب، بن إبراهيم، الجزرى «2» الشافعى- وذلك فى سنة أربعين وستمائة. فأعاد بعض من أسقطهم الشيخ عز الدين إلى العدالة. ولم تطل ولايته، فإنه استمر فى القضاء نحو سنة. وعزل، ولم يل القضاء بعدها.
وفى سنة تسع وثلاثين وستمائة- أيضا- توجه السلطان الملك المنصور- صاحب حمص- وعسكر حلب، إلى حرّان، والتقوا مع الخوارزميّة، ومزّقوهم كلّ ممزّق، فكسروا الخوارزمية.(29/299)
واستهلّت سنة أربعين وستمائة:
فى هذه السنة، عزم السلطان الملك الصالح نجم الدين على التوجه إلى الشام، فبلغه أن العساكر مختلفة، والبلاد مختلّة، فأقام.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين عسكر حلب والخوارزمية. وكان الملك المظفّر شهاب الدين غازى- صاحب ميّافارقين «1» - مع الخوارزميّة، وكانوا قد حلفوا له وحلف لهم. وأخربوا بلاد الموصل وماردين، فاضطر صاحب ماردين إلى موافقتهم. وجمع غازى الخانات الخوارزمية، وأشار عليهم بقصد بلاد الموصل فقالوا: لا بد من لقاء العسكر الحلبى، فألجأته الضرورة إلى موافقتهم.
وركبوا فى ثامن عشرين المحرم، من جبل ماردين إلى الخابور «2» ، وساقوا إلى المجدل «3» . ووقف الخانات ميمنة وميسرة، ووقف الملك المظفر غازى فى القلب، والتقوا. فصدمهم العسكر الحلبى صدمة رجل واحد.
فانهزموا لا يلوون على شىء، ومعهم الحلبيون يقتلون ويأسرون.
وأخذوا أثقال غازى وأغنام التركمان، وخيلهم ونساءهم، وكانوا خلقا(29/300)
كثيرا. فبيع الفرس بخمسة دراهم، ورأس الغنم بدرهم. ونهبت نصيبين، وسبى نساؤها- وكانت قد نهبت مرارا فى سنة تسع وثلاثين- يقال نهبت سبع عشرة مرة، من المواصلة والخوارزمية وعسكر ميّافارقين وماردين- وعاد الملك المظفر غازى إلى ميّافارقين.
وتفرقت الخوارزمية، ثم اجتمعوا على نصيبين. ثم رحلوا فنزلوا رأس عين، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال وسبوا النساء. وفعلوا بالخابور كذلك، ونهبوا أغنام التّركمان.
وفيها وصل إلى الملك المظفّر- شهاب الدين غازى- منشور بخلاط وأعمالها، مع شمس الدين النائب بالروم، فتسلّمها وما فيها.
وفيها توفيت ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل: سيف الدين أبى بكر ابن أيوب.
وهى والدة الملك العزيز: بن الملك الظاهر صاحب حلب- والد الملك الناصر. وكانت هى التى دبّرت الدولة، وحفظ الملك بسببها على ابنها وابنه، بعد وفاة الملك الظاهر، ولما توفيت، قام بتدبير الدولة الحلبية الأمير الأتابك: شمس الدين لؤلؤ، أتابك الملك الناصر صاحب حلب.(29/301)
ذكر الإتفاق والاختلاف بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب مصر، وعماد الدين إسماعيل صاحب دمشق
فى هذه السنة ترددت الرّسل بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب الديار المصرية، وعمّه عماد الدين إسماعيل صاحب الشام، وتوجه شرف الدين بن التّينى والأصيل الإسعردى «1» الخطيب، إلى دمشق. فأطلق الملك الصالح إسماعيل الملك المغيث جلال الدين- ولد السلطان الملك الصالح نجم الدين- من الاعتقال. وركب وخطب لابن أخيه الملك الصالح أيوب بدمشق. ورضى الملك الصالح أيوب بإقرار دمشق بيد عمّه الصالح إسماعيل، بعد أن يسلّم إليه ولده.
وحصل الاتفاق على ذلك، ولم يبق إلا أن يتوجه الملك المغيث إلى أبيه. فصرف أمين الدولة السّامرى- وزير الملك الصالح إسماعيل- رأيه عن ذلك وقال: هذا خاتم سليمان، لا تخرجه من يدك يعدم الملك.
فتوقّف، ولم ينتظم الحال. وقطع خطبة ابن أخيه، وأعاد الملك المغيث إلى الاعتقال بالبرج، واستمر به إلى أن مات. وكانت وفاته يوم الجمعة ثانى عشر شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وأربعين وستمائة. وحمل إلى تربة جده الملك الكامل فدفن بها. وكان عاقلا، ما حفظت عنه كلمة فحش- رحمه الله تعالى.(29/302)
ولما رجع الصالح إسماعيل عن الصلح، كتب الملك الصالح أيوب إلى الخوارزمية فى الحضور إلى الشام. فعبروا إلى الفرات وانقسموا قسمين: قسم جاءوا على البقاع البعلبكّى، وقسم على غوطة دمشق. ونهبوا وسبوا وقتلوا.
وسد الصالح إسماعيل أبواب دمشق. وتوجه الخوارزمية إلى غزّة. وكان من خبرهم ما نذكره- إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل قاضى القضاة: صدر الدين موهوب الجزرى عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وفوّض السلطان الملك الصالح ذلك إلى القاضى:
أفضل الدين أبى عبد الله، محمد بن نامادر، بن عبد الملك، بن زنجلين، الخونجى «1» ، وكانت ولايته فى يوم عيد النّحر من هذه السنة. واستمر فى القضاء إلى أن مات.
وفيها فى يوم الجمعة بعد الصلاة، ثانى العيد الأضحى، أمر الملك الصالح إسماعيل بالقبض على أعوان القاضى رفيع الدين الجيلى- وكانوا ظلمة آذوا الناس. وكان كبيرهم الموفق حسين بن عمر بن عبد الجبّار- المعروف بابن الواسطى. ثم قبض على القاضى الرفيع بعد أيام. وأمر بمصادرتهم فصودروا، وعوقبوا وعذبوا بأنواع العذاب- وكانوا لذلك أهلا.
ثم قتل الرفيع فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ببعلبك: جهّزه أمين الدولة السّامرى إليها، فقتل هناك.(29/303)
وكان القاضى الرفيع هذا قد صادر أهل دمشق، وفعل ما لا يفعله ظلمة الولاة. وكتب إلى السلطان يقول: إننى قد حملت إلى خزانتك ألف ألف دينار، من أموال الناس. فقال السامرى: ولا ألف ألف درهم. وكان السامرىّ قد تمكن من الملك الصالح تمكّنا عظيما، لا يخالفه فى شىء ألبتّه.
فقال الملك الصالح: أنا أحاققه، فإنه قد أكل الأموال، وأقام علينا الشّناعة، والمصلحة تقتضى عزله ومؤاخذته، ليعلم الناس أنك لم تأمره بأذاهم. فعزله عن القضاء. ثم تسبب فى قتله.
ولما عزل، فوّض القضاء بعده لقاضى القضاة محيى الدين يحيى، بن قاضى القضاة محيى الدين محمد، بن على بن محمد بن يحيى، القرشى.
وقرىء تقليده بالجامع بدمشق، فى خامس عشرين ذى الحجة. وحكم بإسقاط عدالة أصحاب الرّفيع، وهم: المعزّ بن القطّان، والزّين الحموى، والجمال بن سيده، والموفّق الواسطى، وسالم المقدسى، وابنه محمد- لما فعلوه بالمسلمين من أنواع الأذى، وقطع المصانعات.(29/304)
واستهلّت سنة اثنتين وأربعين وستمائة:
ذكر الواقعة الكائنة بين عسكر مصر- ومن معه من الخوارزمية- وبين عسكر الشام- ومن شايعهم من الفرنج، وانهزام الفرنج وعسكر الشام، على غزّه
قد ذكرنا وصول الخوارزمية إلى الشام، ونزولهم على غزّه.
ولما استقروا بها، أرسل إليهم السلطان الملك الصالح النفقات والخلع والكساوى، وطائفة من العسكر المصرى. فاتفق الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور صاحب حمص، والملك الناصر داود صاحب الكرك، وراسلوا الفرنج. وكان الصالح إسماعيل قد سلّم إليهم من الحصون ما تقدم ذكره. ووعدهم الآن أنه متى ملك الديار المصرية، أعطاهم الأعمال الساحليّة بأسرها. واستقر ذلك بينهم وبين الملوك الثلاثة المذكورين.
وخرج الملك المنصور- صاحب حمص- بعسكره وعساكر دمشق.
وأقام الصالح بدمشق. وجهّز الملك الناصر داود عسكره من نابلس- صحبة الظهير سنقر الحلبى والوزيرىّ، وأقام هو بالكرك. واجتمعت هذه العساكر، وعساكر الفرنج: الدّيويّة والإسبتار والكنود «1» ، على يافا. والعسكر المصرى والخوارزمية على غزّه.(29/305)
قال أبو المظفّر: وساق صاحب حمص وعسكر دمشق، تحت أغلام الفرنج- وعلى رءوسهم الصّلبان، والأقساء «1» فى الأطلاب «2» يصلّبون «3» على المسلمين ويقسّسّون عليهم، وبأيديهم كئوس الخمر والهنّابات «4» يسقونهم. وساق العسكر المصرى والخوارزمية. والتقوا بمكان يقال له أربيا «5» - بين غزّة وعسقلان.
وكان الفرنج فى الميمنة، وعسكر الناصر داود فى الميسرة، وصاحب حمص فى القلب. وكان يوما عظيما، لم يجر فى الإسلام بالشام مثله، واقتتلوا. فانكسرت الميسرة، وهرب الوزيرى، وأسر الظّهير سنقر الحلبى وجرح فى عينه. ثم انهزم صاحب حمص. وكان العسكر المصرى قد انهزم، ووصل إلى قرب العريش. وثبت الخوارزمية والفرنج، واقتتلوا، فمالت الخوارزمية عليهم بالسيوف، يقتّلونهم كيف شاءوا.
قال أبو المظفّر: وكنت يوم ذاك بالقدس، فتوجهت فى اليوم الثانى من الكسرة إلى غزة، فوجدت الناس يعدّون القتلى بالقصب، فقالوا: إنهم يزيدون على ثلاثين ألفا.(29/306)
وبعث الخوارزمية بالأسارى والرءوس إلى الديار المصرية. وفى جملة الأسرى الظّهير سنقر وجماعة من المسلمين. وكان يوم وصولهم إلى القاهرة يوما مشهودا. وعلّقت رءوس القتلى على الأسوار، وامتلأت الحبوس بالأسرى.
ووصل صاحب حمص إلى دمشق فى نفر يسير، ونهبت خزانته وخيله وسلاحه، وقتل أكثر أصحابه. فكان يقول: والله لقد علمت، حيث سقنا تحت أعلام الفرنج- أننا لا نفلح! وفى هذه السنة، توفى شيخ الشيوخ: تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن على بن محمد بن حمّويه، بن محمد بن محمد بن أبى نصر بن أحمد، بن حمّويه بن على. وكانت وفاته بدمشق، فى سادس صفر.
وصلّى عليه بجامعها، ودفن بمقابر الصّوفية. ومولده يوم الأحد، رابع عشر شوال، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وهو عمّ الأمراء: فخر الدين، وعماد الدين، ومعين الدين، وكمال الدين: أولاد صدر الدين شيخ الشيوخ. وكان شيخا حسنا متواضعا، عالما فاضلا، نزها عفيفا أديبا، صحيح الاعتقاد، شريف النفس عالى الهمة، قليل الطمع، لا يلتفت إلى أحد من أبناء الدنيا، لا إلى أهله ولا إلى غيرهم، بسبب دنياهم. وصنف التاريخ وغيره- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الأمير عمر: بن الملك المظفر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. وكان يلقّب: بالملك السعيد.
وكان شابا حسن الأخلاق، جميل الصورة، جوادا شجاعا.(29/307)
وكان التّتار قد استولوا على ديار بكر، وأخذوا خلاط. فخرج الملك المظفر غازى من ميّافارقين، ليستنجد عليهم الخليفة والملوك. وخرج معه ولده عمر هذا، وأمير حسن بن تاج الملوك أخى غازى. فوصلوا إلى الهرماس «1» ، لوداع الملك المظفر: فقال المظفر لولده عمر: المصلحة تقتضى أن ترجع إلى ميّافارقين، وتحفظ المسلمين من التتار، وأنا أتوجه إلى بغداد وإلى مصر أستنجد الملوك.
فقال: والله لا أفارقك. وجاء حسن بن تاج الملوك وجلس إلى جنبه، وأخرج سكّينا وضرب عمر فى خاصرته. وهرب ليرمى نفسه فى ماء العين فيغرق. فصاح الملك المظفر: امسكوه، فقد قتل عمر ولدى! وقام غازى ليقتله، فقصد حسن الملك المظفر ليقتله. فرمى عمر نفسه على أبيه، وقال لحسن: يا عدّو الله، قتلتنى وتقتل والدى! فضربه حسن بالسيف، فقطع خاصرته فسقط إلى الأرض. وأمر غازى بحسن فقطّع قطعا، وحمل عمر إلى الحصن فدفن به- رحمه الله.
ذكر وفاة الملك المظفر تقىّ الدين محمود صاحب حماه وملك ولده المنصور
وفى هذه السنة، فى يوم السبت ثامن جمادى الأولى، توفى الملك المظفر تقى الدين محمود، بن الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد، بن(29/308)
الملك المظفر تقى الدين عمر، بن الأمير نور الدولة شاهنشاه بن أيوب- صاحب حماه.
ومولده فى يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان، سنة تسع وتسعين وخمسمائة. وملك حماه فى سنة ست وعشرين وستمائة، كما تقدم. ولما مات ملك بعده ولده الملك المنصور: ناصر الدين محمد.
وفيها كانت وفاة السلطان نور الدين أرسلان شاه، بن عماد الدين زنكى، بن نور الدين أرسلان شاه، بن عز الدين مسعود، بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى «1» ، بن قسيم الدّولة: آقسنقر «2» . كان والده- رحمه الله تعالى- لما ملك شهرزور، وحضرته الوفاة- أخذ العهود على الأمراء والأجناد والأعيان، فاستقرّ بها. وقاتل التتار مرارا عديدة. ثم مات- رحمه الله تعالى. وكانت وفاته فى يوم الأحد، رابع عشر شعبان.
وفيها فى يوم الأربعاء، العشرين من ذى القعدة، كانت وفاة الشيخ شهاب الدين أبو طالب: محمد بن أبى الحسن بن على، بن على بن الفضل ابن التامغاز، المعروف بابن الخيمى. كان إماما فى اللغة، راوية للشعر والأدب. وكان مولده فى الثامن والعشرين من شوال، سنة تسع وأربعين وخمسمائة، بالحلّة المزيديّة «3» . وله نظم حسن: رحمه الله تعالى.(29/309)
واستهلّت سنة ثلاث وأربعين وستمائة:
ذكر استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق، وأخذها من عمه الملك الصالح إسماعيل. وعود الصالح إسماعيل إلى بعلبك وما معها
لما اتّفقت الوقعة- التى ذكرناها- بين عساكر السلطان الملك الصالح نجم الدين ومن انضم إليها من الخوارزمية، وبين عسكر الملك الصالح إسماعيل والفرنج وحصلت المكاشفة- جهّز الملك الصالح نجم الدين جيشا كثيفا إلى دمشق، فى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وقدّم عليه الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ. وأقامه مقام نفسه، وأمره أن يجلس فى رأس السّماط على عادة الملوك، ويقف الطواشى شهاب الدين رشيد- أستاد الدار- فى خدمته، وأمير جاندار، والحجّاب.
فسار إلى دمشق، ومعه الخوارزمية، فحاصروها أشد حصار. فلما كان فى يوم الإثنين ثامن المحرم- سنة ثلاث وأربعين، بعث الملك الصالح إسماعيل إلى الأمير الصاحب- معين الدين بن الشيخ- سجّادة وإبريقا وعكّازا، وقال: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك! فبعث إليه الصاحب معين الدين جنكا «1» وزمرا، وغلالة حرير أصفر وأحمر، وقال: أما ما أرسلت به إلىّ فهو يصلح لى، وقد أرسلت بما يصلح لك!(29/310)
ثم أصبح معين الدين وركب فى العسكر، وزحفوا على دمشق من كل ناحية، ورميت بالمجانيق. وكان يوما عظيما.
وبعث الملك الصالح إسماعيل الزّرّاقين «1» ، فى يوم الثلاثاء تاسع الشهر، فأحرقوا الجوسق «2» العادلى، ومنه إلى زقاق الرّمّان والعقيبة بأسرها. ونهبت أموال الناس. وفعل فيها كما فعل عند حصار الملك الكامل دمشق، وأشدّ منه. واستمر الحال على ذلك. ثم خرج الملك المنصور صاحب حمص فى شهر ربيع الأول إلى الخوارزمية، واجتمع ببركة خان «3» وعاد إلى دمشق. وجرت وقائع فى خلال هذا الحصار.
ثم أرسل السامرىّ وزير الملك الصالح إلى الأمير معين الدين، يطلب منه شيئا من ملبوسه. فأرسل إليه فرجيّة وعمامة وقميصا ومنديلا، فلبس ذلك وخرج إليه بعد العشاء الآخر، وتحدث معه وعاد إلى دمشق.
ثم خرج إليه مرة أخرى، فوقع الاتفاق على تسليم دمشق- على أن يكون للملك الصالح إسماعيل ما كان له أوّلا، وهو بعلبك وأعمالها وبصرى وبلادها، والسّواد. وأن يكون للملك المنصور حمص وبلادها، وتدمر والرّحبة.
فأجاب الأمير معين الدين إلى ذلك، وتسلّم دمشق. ودخلها فى يوم الإثنين- العاشر من جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وتوجه الملك الصالح إلى بعلبك. وصاحب حمص إلى بلده.(29/311)
ونزل الأمير الصاحب معين الدين- بدار أسامة، والطواشى شهاب الدين رشيد بالقلعة. وولّى الأمير معين الدين بن الشيخ الجمال هارون المدينة. وعزل قاضى القضاة محيى الدين، وفوّض القضاء لقاضى القضاة:
صدر الدين بن سنىّ الدولة. ووصل الأمير سيف الدين بن قليج من عجلون، منفصلا من خدمة الملك الناصر داود، وأوصى بعجلون وما له بها من الأموال للملك الصالح، ونزل بدمشق بدار فلوس.
وجهّز الأمير- معين الدين بن الشيخ- الأمير ناصر الدين بن يغمور إلى الديار المصرية- وكان الملك الصالح إسماعيل قد اعتقله بقلعة دمشق، فى سنة إحدى وأربعين وستمائة، لموافقته الملك الجواد، فاستمر فى الاعتقال إلى الآن- فجهّزه، وجهّز أيضا أمين الدولة السامرى إلى الديار المصرية، تحت الاحتياط. فاعتقلا مدة، ثم شنقهما الملك الصالح نجم الدين على قلعة الجبل.
وكان أمين الدولة يطبّ فى ابتداء أمره. ثم تمكن من الملك الصالح إسماعيل، ووزر له. وارتفع محلّه عنده، بحيث إنه ما كان يخرج عن إشارته. وكان يتستّر بالإسلام ولا يتمسك بدين. وقيل إنه مات فى سنة ثمان وأربعين وستمائة.(29/312)
قال أبو المظفر: وظهر له من الأموال والجواهر واليواقيت، والتّحف والذخائر ما لا يوجد فى خزائن الخلفاء والسلاطين. وأقاموا ينقلونه مدة.
قال: وبلغنى أن قيمة ما ظهر له ثلاثة آلاف ألف دينار- غير الودائع التى كانت له عند ثقاته والتجار. ووجد له عشرة آلاف مجلد، من الكتب النفيسة والخطوط المنسوبة.
وأما الخوارزمية فإنهم ما عملوا بالصلح إلا بعد وقوعه. فرحلوا إلى داريّا «1» ، فنهبوها. وقيل إن معين الدين منعهم من الدخول إلى دمشق، وأقطعهم أكثر بلاد الشام والسواحل بمناشيره. ودبّر الأمر أحسن تدبير.
قال: ولما بلغ السلطان خروج عمه الملك الصالح إلى بعلبك، كتب بالإنكار على الطّواشى شهاب الدين رشيد والأمراء، لكونهم «2» مكنوه من المسير إلى بعلبك. وقال إن الأمير معين الدين حلف، وأنتم ما حلفتم. فلم يفد إنكاره شيئا، بل أثّر ما نذكره- إن شاء الله تعالى.(29/313)
ذكر وفاة الأمير الصاحب معين الدين
وفى ليلة الأحد- ثانى عشر شهر رمضان، من السنة- كانت وفاة الأمير الصاحب معين الدين الحسين، بن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد، ابن عمر بن حمّويه- بدمشق، وهو يومئذ نائب السلطنة بها.
ومات وله ست وخمسون سنة. ودفن إلى جانب أخيه عماد الدين.
وكان جوادا كريما ديّنا صالحا- رحمه الله تعالى. ولما مات، كتب السلطان إلى الطّواشى شهاب الدين رشيد أن يتولى نيابة السلطنة، بدمشق.
ذكر محاصرة الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك دمشق، وما حصل بها من الغلاء بسبب الحصار
قال المؤرخ: لمّا بلغ الملك الصالح عماد الدين- صاحب بعلبك- إنكار الملك الصالح نجم الدين أيوب- ابن أخيه- على الأمراء، لكونهم «1» مكّنوه من التوجه إلى بعلبك- خاف على نفسه، وعلم سوء رأى السلطان فيه، وأنه متى ظفر به لا يبقى عليه، فكاتب الأمير عزّ الدين أيبك(29/314)
المعظّمى صاحب صرخد وأكابر الخوارزمية، واتفقوا ونازلوا دمشق، فى ثالث عشرين ذى القعدة، من السنة. وحاصروها، ونهبوا بلادها وعاثوا فيها، وقطعوا الميرة «1» عنها.
فغلت الأسعار، وعدمت الأقوات. وبلغ سعر القمح- عن كل غرارة- ألف درهم وثمانمائة درهم ناصرية. فمات أكثر أهل البلد جوعا واستمر ذلك مدة ثلاثة شهور.
وفى هذه السنة، وصل رسول الخليفة المستعصم بالله «2» - وهو الشيخ جمال الدين «3» عبد الرحمن، بن الشيخ محيى الدين يوسف بن الجوزى- إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، بالخلع والتقليد.
وكانت خلعة السلطان عمامة سوداء، وفرجيّة مذهّبة، وثوبين مذهّبة، وسيفين محلّاة، وقلمين، وطوق ذهب، وحصان بسرج ولجام وعدة خلع لأصحاب السلطان. وقرأ الشيخ جمال الدين- رسول الخليفة- التقليد على منبر والسلطان قائم على قدميه، وقد لبس خلعة الخليفة، حتى انتهت قراءة التقليد.(29/315)
وكان من جملة الخلع الواصلة من الخليفة خلعة سوداء للوزير معين الدين- وكان قد توفى- فرسم السلطان أن يلبسها أخاه الأمير فخر الدين بن الشيخ، فلبسها- وكان السلطان قد أفرج عنه من الاعتقال فى هذه السنة، بعد أن لاقى شدائد كثيرة- وكان له فى الاعتقال ثلاث سنين.
وفى هذه السنة، بعث الملك الصالح نجم الدين الأمير حسام الدين بن بهرام الى حصن كيفا، لإحضار ولده الملك المعظم تورانشاه الى الديار المصرية. وكتب إليه: الولد يقدّم خيرة الله، ويصل الى بالس «1» ، ويعدّى عندها، فقد اتفقنا مع الحلبيّين، وذكروا أنهم يجرّدون ألف فارس فى خدمتك. واعبر ببلد ماردين ليلا، فما نحن متفقين. فلما قرأ الكتاب كره ذلك، وما كان يؤثر الخروج من الحصن. وقال لابن بهرام: يكون الانسان مالك رأسه يصبح مملوكا محكوما عليه! ولم يجبه.
ولما اتصل خبر طلبه بالملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ- صاحب الموصل أرسل إليه المماليك والخيل والخيام. وكذلك فعل شهاب الدين غازى. قال أبو المظفّر: حكى لى الأمير حسام الدين بن أبى على أن الملك الصالح كان يكره مجىء ابنه المظم اليه. وكنا إذا قلنا له: أحضره، ينفض يديه ويغضب، ويقول: أجيبه أقتله؟! وكأنّ القضاء موكّل بالمنطق!(29/316)
وفيها وصلت الكرجيّة بنت إيوانى ملك الكرج «1» . وهى التى كانت زوجة الملك الأوحد بن الملك العادل، وتزوجها بعده أخوه الملك الأشرف موسى. ثم أخذها جلال الدين خوارزم شاه، عند ما استولى على خلاط.
فوصلت الآن الى خلاط، ومعها فرمان القان- ملك التّتار- بخلاط وأعمالها.
فراسلت الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل تقول: أنا كنت زوجة أخيك، والقان قد أقطعنى خلاط، فان تزوجت بى فالبلاد لك. فما أجابها إلى ذلك. فأقامت بخلاط. وكانت غارات عساكرها تصل الى ميّافارقين.
وفى هذه السنة، توفى فلك الدين المسيرى، وزير العادل وابنه الكامل. وكانت وفاته فى يوم الجمعة تاسع شهر رجب. وكان عالى المنزلة فى الدولة الأيوبية.
وفيها توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت الملك الناصر والملك العادل، وأخت ست الشام. وكانت وفاتها بدمشق بدار العقيقى- وقد قاربت ثمانين سنة.(29/317)
وكانت زوجة سعد الدين مسعود، بن معين الدين أتسز، ثم مات عنها. فزوجها الملك الناصر- أخوها- من مظفر الدين بن زين الدين- صاحب إربل- فأقامت بإربل. ثم قدمت دمشق فأقامت بها، وخدمتها أمة اللطيف العالمة- بنت الناصح بن الحنبلى- وحصل لها من جهتها الأموال الكثيرة.
فلما ماتت ربيعة خاتون، لقيت أمة اللطيف شدائد كثيرة، وصودرت وطولبت بالأموال، واعتقلت بقلعة دمشق ثلاث سنين. ثم أطلقت من الحبس وتزوجت بالملك الأشرف- ابن صاحب حمص- وتوجه بها إلى الرّحبة. فتوفيت فى سنة ثلاث وخمسين وستمائة. وظهر لها من الأموال والذخائر ما قيمته ستمائة ألف درهم- غير الأملاك والأوقاف.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام: تقىّ الدين أبو عمرو عثمان، بن عبد الرحمن بن عثمان، بن الصّلاح- المحدّث «1» المفتى المشهور. وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الأربعاء، الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر.
ومولده فى سنة سبع وسبعين وخمسمائة، بشهرزور.
وفيها فى ثانى عشر المحرّم، توفى بالقاهرة الأمير شجاع الدين بن أبى زكرى. كان من أعيان الأمراء.
وفيها توفى القاضى الأشرف: بهاء الدين أبو العباس أحمد، بن القاضى الفاضل: محيى الدين عبد الرحيم البيسانى، فى سابع جمادى الآخرة بمصر. ومولده فى المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وكان الملك الكامل(29/318)
قد عرض عليه الوزارة فأباها، وتوفر على التّرسّليّة إلى الدّيوان العزيز، والمشورة. وكان صالحا نزها عفيفا، سمع الحديث وأسمعه.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام، المقرىء المفتى: علم الدين أبى الحسن على بن محمد بن عبد الصمد، المصرى السّخاوى «1» . قرأ القرآن على الشاطبى، وشرح قصيدته. وكانت وفاته بدمشق، فى ليلة الأحد ثامن عشر جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون. سمع الحافظ السّلفى وأبا القاسم البوصيرى، وغيرهما.
واستهلّت سنة أربع وأربعين وستمائة:
ذكر وقعة الخوارزمية وقتل مقدمهم واستيلاء الملك الصالح على بعلبك وأعمالها، وصرخد
وفى سنة أربع وأربعين، كانت الوقعة بين الخوارزمية- ومن انضم إليهم- وبين العساكر الحلبية والشامية والحمصية.
وذلك أن السلطان الملك الصالح نجم الدين كان قد استمال الملك المنصور- صاحب حمص- إليه. فوافقه ومال إليه، وانحرف عن الملك الصالح إسماعيل. ثم كتب إلى الحلبيين يقول: إن هؤلاء الخوارزمية قد كثر فسادهم، وأخربوا البلاد، والمصلحة أن نتفق عليهم، فأجابوه.(29/319)
وخرج الأتابك شمس الدين لؤلؤ بالعساكر الحلبية. وجمع صاحب حمص أصحابه، ومن إنضم إليه من العربان والتّركمان. وخرج إليهم عسكر دمشق. واجتمعت هذه العساكر كلها على حمص.
واتفق الملك الصالح إسماعيل والخوارزمية، والملك الناصر داود صاحب الكرك، وعز الدين أيبك المعظّمى صاحب صرخد، واجتمعوا على مرج الصّفّر «1» ولم ينزل الملك الناصر من الكرك، بل سيّر عسكره وأقام.
وبلغهم أن صاحب حمص يريد قصدهم. فقال بركة خان: إن دمشق لا تفوتنا، المصلحة أن نتوجه إلى هذا الجيش ونبدأ بهم. فساروا والتقوا على بحرة حمص، فى يوم الجمعة- سابع أو ثامن المحرم- من هذه السنة. وكانت الدائرة على الخوارزمية. وقتل مقدمهم بركةخان فى المعركة.
وهرب الملك الصالح إسماعيل، وعز الدين أيبك المعظمى، ومن سلم من العسكر، كلّ منهم على فرس ونهبت أموالهم. ووصلوا إلى حوران.
وتوجه صاحب حمص والعسكر الحلبى إلى بعلبك، واستولى على الرّبض «2» ، وسلّمه للأمير ناصر الدين القيمرى، وجمال الدين هارون. وعاد إلى حمص، وودع الحلبيين. وتوجهوا إلى حلب. وجاء الملك المنصور إلى دمشق، خدمة للملك الصالح، فنزل ببستان أسامة.(29/320)
ومضت طائفة من الخوارزمية إلى البلقاء «1» ، فنزل إليهم الملك الناصر صاحب الكرك وصاهرهم واستخدمهم، وأسكن عيالهم بالصّلت «2» .
وفعل الأمير عز الدين المعظمى كذلك. وساروا فنزلوا نابلس، واستولوا عليها. وعاثوا فى الساحل.
فندب السلطان الملك الصالح نجم الدين الأمير فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى الشام. فلما وصل إلى غزّة، عاد من كان بنابلس من الخوارزمية إلى الصّلت. فتوجه إليهم، وقاتلهم على حسبان «3» وكسرهم، وبدّد شملهم.
وكان الملك الناصر معهم، فسار إلى الكرك وتحصّن بها. وتبعه الخوارزمية، فلم يمكّنهم من دخول الكرك. وأحرق ابن الشيخ الصّلت. وكان الأمير عز الدين أيبك المعظمى مع الناصر، فعاد إلى صرخد وتحيّز بها.
وكانت كسرة الخوارزمية هذه فى سابع عشر شهر ربيع الآخر.
ونزل الأمير فخر الدين بن الشيخ على الكرك، فى الوادى. وكتب إلى الملك الناصر يطلب من عنده من الخوارزمية.
وكان عنده صبى مستحسن من الخوارزمية، اسمه طاش بورك بزخان، فطلبه ابن الشيخ، فقال الناصر: هذا طيّب الصوت، وقد أخذته ليقرأ عندى القرآن. فكتب إليه ابن الشيخ كتابا غليظا، وذكره غدره بأيمانه(29/321)
وخبثه، وقال: لا بدّ من الصبى، وأنا أبعث إليك عوضه أعمى يقرأ أطيب منه. فبعثه إليه. وتسلم أعيان الخوارزمية. ورحل عن الكرك. وأحسن الأمير فخر الدين إلى الخوارزمية وخلع عليهم. واستصحبهم معه.
ذكر استيلاء جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخروج الملك الصالح إسماعيل عنها
وفى هذه السنة- أيضا- توجه الأمير حسام الدين بن [أبى] على من دمشق إلى بعلبك، وتسلم قلعتها- باتفاق من السّامانى، مملوك الملك الصالح إسماعيل، وكان حاكما عليها. وبعث أولاد الصالح إسماعيل وعياله إلى مصر وتسلم نوّاب الملك الصالح نجم الدين بصرى- وكان بها الشهاب غازى واليا، فأعطى حرستا «1» القنطرة وفيها، فى شهر ربيع الآخر، توجه الملك الصالح إسماعيل فى طائفة من الخوارزمية، هاربين إلى حلب. ولم يبق للصالح إسماعيل بالشام مكان يأوى إليه. فتلقّاهم الملك الناصر يوسف- صاحب حلب- وأنزل الصالح إسماعيل فى دار جمال الدولة الخادم. وقبض على كشلوخان والخوارزمية، وملأ بهم الحبوس.(29/322)
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص، وقيام ولده الملك الأشرف
وفى هذه السنة- فى العاشر من صفر- وقيل فى يوم الأحد حادى عشرة- كانت وفاة الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادى، ببستان الملك الأشرف بالنّيرب، بظاهر دمشق وكانت مدة ملكه حمص ست سنين، وسبعة أشهر. وكان شجاعا مقداما. وملك بعده ولده الملك الأشرف: مظفر الدين موسى.
وفيها بعث السلطان الملك الصالح نجم الدين الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح إلى دمشق، وزيرا. وأنعم عليه بإقطاع، وعدّة سبعين فارسا، فوصل إلى دمشق وباشر ما رسم له به. ثم كان من أمره وعوده ما نذكره- إن شاء الله تعالى.
ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الشام، وما استولى عليه فى هذه السفرة، وما قرره، وعوده
فى هذه السنة، توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى الشام.
فوصل إلى دمشق فى تاسع عشر ذى القعدة، وأحسن إلى أهلها وفرح الناس به وزيّنت البلد لمقدمه، وكان يوما مشهودا. وأقام خمسة عشر يوما وتوجه إلى بعلبك وكشفها(29/323)
ثم رجع، وتوجه نحو صرخد. وسعى الأمير ناصر الدين القيمرى والصاحب جمال الدين بن مطروح، فى الصلح بين السلطان والأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد. وتوجه السلطان من دمشق إلى بصرى.
ونزل إليه الأمير عز الدين أيبك. وتسلّم صرخد، وصعد إليها- وذلك فى ذى الحجة منها. وقدم عز الدين أيبك إلى دمشق، ونزل بالنّيرب «1» وكتب له منشور بقرقيسيا «2» والمجدل «3» وضياع فى الخابور، فلم يحصل له منها شىء. ثم كان من خبره ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى سنة خمس وأربعين وستمائة.
ولما تسلم الملك الصالح صرخد، عاد إلى الديار المصرية ودخل إلى القدس. وتصدق فيه بألفى دينار عينا. وأمر بعمارة سور القدس فذرع، فكان ستة آلاف ذراع بالهاشمى «4» ، فرسم أن يصرف مغلّ بلاد القدس عليه، وإن احتاج إلى زيادة جهّزت من الديار المصرية. قال أبو المظفّر:
وكنت لما أطلقه الملك الناصر من اعتقاله، وجاء إلى القدس، أخذت يده على ذلك.(29/324)
وفى هذه السنة، تسلم السلطان- أيضا- حصن الصّبيبة «1» من الملك السعيد: مجد الدين حسن، بن الملك العزيز، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر، فى سابع عشرين ذى الحجة. وتسلم الصّلت من ابن عمه الملك الناصر داود.
وفيها قبض الملك الناصر داود على عماد الدين، بن الأمير عز الدين بن موسك فى الكرك، واحتاط على موجوده. ثم شفع فيه الأمير فخر الدين بن الشيخ فأفرج عنه. وخرج من الاعتقال، وفى حلقه خرّاج كبير فبطّ، وحشى من الدواء الحارق، فمات بالكرك. ودفن بمشهد جعفر الطّيّار.
وكان- رحمه الله تعالى- من الأجواد.
وفيها توفى الأمير ركن الدين الهيجاوى، فى معتقله بالديار المصرية.
وكان سبب اعتقاله أنه فارق خدمة السلطان الملك الصالح، والتحق بدمشق. وكان قدومه على العساكر، فقبض عليه، واعتقله. فمات فى اعتقاله- رحمه الله تعالى. وكان خيّرا جوادا، عفيفا نزها، كثير الإحسان إلى جيرانه، يبرّ غنيّهم وفقيرهم.
واستهلّت سنة خمس وأربعين وستمائة:
فى هذه السنة، جهز السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب جيشا، وقدم عليه الأمير فخر الدين بن الشيخ، وبعثه إلى بلاد الفرنج.(29/325)
ففتح عسقلان- فى ثامن عشرين جمادى الآخرة- وأخربها. ورحل عنها إلى طبريّة، ففعل بها كذلك. ثم كتب إليه أن يتوجه إلى دمشق، ويقيم بها بمن معه من العساكر، لأمر بلغه عن الملك الناصر- صاحب حلب.
وفيها تسلم نوّاب السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعة شميمس «1» ، من الملك الأشرف صاحب حمص. فأمر السلطان بتحصينها، وبعث إليها الخزائن.
وفيها جهز السلطان تاج الدين بن مهاجر، والمبارز نسيبه، إلى دمشق، ومعهما تذكرة فيها أسماء جماعة من الدماشقة، رسم بانتقالهم إلى الديار المصرية، وهم: القاضى محيى الدين بن الزّكى، وابن الحصيرى، وابن العماد الكاتب، وبنو صصرّى الأربعة، وشرف الدين بن العميد، وابن الخطيب العقربانى، والتاج الإسكندرانى- الملقب بالشّحرور، وأبو الشامات، مملوك الملك الصالح إسماعيل، وغازى- والى بصرى- والحكيمى، وابن الهادى المحتسب.
فتوجهوا إلى الديار المصرية، وأمروا بالمقام بها، ولم يحجر عليهم، وخلع على بعضهم. وأقاموا بالديار المصرية، إلى أن توفى الملك الصالح أيوب، فعادوا إلى دمشق. وكان سبب طلبهم أن السلطان بلغه أنهم خواصّ الملك الصالح إسماعيل.
وفيها فى شهر ربيع، فوّضت الخطابة بدمشق للقاضى عماد الدين بن الحرستانى، ورسم بإخراج العماد خطيب بيت الآبار «2» ، الخطيب بالجامع، إلى بيت الآبار.(29/326)
ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمى، ووفاته
وفى هذه السنة- فى ثالث عشر ذى القعدة- اعتقل الأمير عز الدين أيبك المعظّمى صاحب صرخد- كان- فى دار فرّخشاه. وذلك بترتيب الصاحب جمال الدين بن مطروح وغيره. ووضعوا مترجما أنه جاءه من حلب، من جهة الملك الصالح إسماعيل. وكتبوا بذلك إلى السلطان الملك الصالح. [فأمر] أن يحمل إلى القاهرة تحت الاحتياط. فحمل واعتقل فى دار صواب. ورافعه ولده إبراهيم، وقال للسلطان: إن أموال أبى قد بعث بها إلى الحلبيين وأنه لما خرج من صرخد كانت أمواله فى ثمانين خرجا، أودعها عند ابن الجوزى.
ولما وصل إلى الديار المصرية مرض، ولم يسمع منه كلمة حتى مات.
ودفن بمقابر باب النصر، ثم نقل إلى دمشق، ودفن بتربته. وكان خيّرا ديّنا، كثير الصدقة والإحسان إلى خلق الله تعالى. اشتراه الملك المعظم، فى سنة سبع وستمائة، لما كان على الطّور، وجعله أستاد داره، وأعطاه صرخد.
وكان عنده فى منزلة الولد. رحمهم الله تعالى.
وطلب جماعة اتهموا بأمواله، بسعاية ولده إبراهيم، وهم: البرهان كاتبه، وابن الموصلى صاحب ديوانه، والبدر الخادم، وسرور، وغيرهم، وحملوا إلى الديار المصرية. فمات البرهان بظاهر دمشق، عند مسجد النّارنج، لما ناله من الفزع. وأما بقيّتهم فإنهم عوقبوا على أمواله، فلم يظهر عندهم الدّرهم الواحد.(29/327)
وفيها كانت وفاة الشيخ الصالح المحقّق على الحريرى، المقيم بقرية بشر، المجاورة لزرع «1» من بلاد حوران. وبهذه القرية قبر اليسع- عليه السلام. وهذا الشيخ هو شيخ طائفة الحريريّة.
واستهلّت سنة ست وأربعين وستمائة:
فى هذه السنة، استولى الملك الناصر- صاحب حلب- حمص، وانتزعها من الملك الأشرف موسى صاحبها، وعوّضه عنها تلّ باشر.
ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى دمشق، وما اعتمده
فى هذه السنة، توجه السلطان من الديار المصرية إلى دمشق، وعزل الطواشى شهاب الدين رشيد الدين عن النيابة، والصاحب جمال الدين بن مطروح عن الوزارة. وفوّض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير جمال الدين موسى بن يغمور.
وجهّز العساكر مع الأمير فخر الدين بن الشيخ إلى حمص. وسخّر الفلاحين لحمل المجانيق إلى حمص، فنالهم لذلك مشقة عظيمة، وكان يغرم على العود الذى يساوى درهما ألف درهم، فخرب الشام لذلك ونصب المجانيق على حمص. وكان الشيخ نجم الدين البادرائى بالشام، فدخل بين الطائفتين، وردّ الحلبيين إلى حلب، والعسكر الصالحى إلى دمشق.(29/328)
وفيها احترق المشهد الحسينى بالقاهرة. وذكر من تتّبع التواريخ أنه ما احترق مكان شريف إلا وأعقبه غلاء، أو جلاء من العدو. وكان كذلك: أخذت دمياط، على ما نذكره.
ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى وقيام ولده الملك الكامل
فى هذه السنة، توفى الملك المظفر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- صاحب ميّافارقين. وقام بأمر مملكته بعده ولده الملك الكامل، ناصر الدين محمد.
وفيها، توفى الملك العادل: سيف الدين أبو بكر، بن الملك الكامل، بن الملك العادل- أخو السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وكان السلطان قد رسم أن يتوجه إلى الشّوبك، بنسائه وولده وعياله، فى خامس شوال، على ما حكاه سعد الدين مسعود بن شيخ الشيوخ تاج الدين. وبعث إليه الطواشى محسن الخادم، فأخبره بما رسم به السلطان من توجهه. فامتنع، وقال: إن أراد قتلى فى الشّوبك فههنا أولى، ولا أتوجه أبدا. فعذله محسن الخادم، فرماه بدواة كانت عنده.
فعاد إلى السلطان وأخبره. فقال له: دبّر أمره. فأخذ ثلاثة مماليك- وقيل أربعة- ودخلوا عليه، فى ليلة الاثنين ثانى عشر شوال، فخنقوه بشاش علمه- وقيل بوتر- وعلّقوه بعمامته، وأظهروا أنه شنق نفسه. وخرجت جنازته كجنازة الغرباء، ودفن بتربة شمس الدولة. ولم يتمتع الملك الصالح بعده بالدنيا، فإنه مات بعد ذلك بعشرة أشهر.(29/329)
وفيها، فى خامس شهر رمضان، كانت وفاة قاضى القضاة: أفضل الدين أبو عبد الله محمد بن ناماد بن عبد الملك، ابن زنجلين، الخونجى «1» - قاضى مصر والوجه القبلى. ودفن بالقرافة، بالقرب من تربة الإمام الشافعى. ومولده فى جمادى الأولى، سنة تسعين وخمسمائة. وكان قد تفرّد فى زمانه بعلم المنطق، حكيما أصوليا، فاضلا، مشاركا فيما عدا ذلك «2» ولما مات- رحمه الله تعالى- أقرّ نائبه- القاضى جمال الدين يحيى- على القضاء، إلى جمادى الأولى سنة سبع وأربعين ثم فوّض القضاء بمصر والوجه القبلى للقاضى عماد الدين أبى القاسم إبراهيم. بن هبة الله بن إسماعيل ابن نبهان، بن محمد الحموى المعروف بابن المقنشع «3» - فى جمادى الأولى سنة سبع وأربعين.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام العلّامة: جمال الدين أبو عمرو عثمان، ابن عمر بن أبى بكر بن يونس، الدّوينى «4» ثم المصرى، الفقيه المالكى- المعروف بابن الحاجب.(29/330)
كان والده حاجب الأمير عز الدين موسك الصّلاحى- متولّى الأعمال القوصية- ومولده بإسنا- مدينة مشهورة من عمل قوص- فى سنة سبعين وخمسمائة. وانتقل إلى القاهرة فى صغره، فقرأ القرآن، واشتغل بالعلم على مذهب الإمام مالك، فتفقه. واشتغل بالعربية، فبرع وأكبّ على الاشتغال حتى صار يشار إليه. انتقل إلى دمشق، ودرس بجامعها. وكان من أحدّ الناس ذهنا. وغلب عليه علم العربية. وقيل أنه قدم إلى دمشق مرارا، آخرها سنة سبع عشرة وستمائة. وصحب شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، واختص به ولازمه.
وخرج معه من دمشق، فى سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وقدم إلى الديار المصرية. وأقام بالقاهرة واشتغل الناس عليه. وله مصنّف فى مذهب الإمام مالك- هو من أجود مختصرات المالكية، ما حفظه طالب منهم إلا وأشير إليه بالفقه. ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية للإقامة به، فلم تطل مدة إقامته بالثغر. وكانت وفاته فى ضحى يوم الخميس، سادس عشر شوال، ودفن بخارج باب البحر- رحمه الله تعالى.
وفيها، فى شهر رمضان، توفى الوزير: أبو الحسن على بن يوسف بن إبراهيم، بن عبد الواحد بن موسى بن أحمد بن محمد إسحاق، القفطى- المعروف بالقاضى الأكرم، وزير حلب.
كان جمّ الفضائل ذا فنون، مشاركا لأرباب كل علم فى علومهم: من القراءات، والحديث والفقه، والنحو واللغة، والأصول والمنطق، والنجوم(29/331)
والهندسة، والتاريخ، والجرح والتّعديل «1» - يتكلم فى كل علم مع أربابه أحسن كلام. وله شعر حسن.
وصنف كتبا كثيرة، منها: كتاب الضاد والظاء، وهو ما اشتبه فى اللفظ واختلف فى الخط، وكتاب الدّرّ الثّمين فى أخبار المتيّمين. وكتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته، ثم ألوت عليه فوضعته. وكتاب أخبار المصنّفين، وما صنّفوه. وكتاب أخبار النّحويّين. وكتاب تاريخ مصر، من ابتدائها إلى حين ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- فى ستّ مجلدات. وكتاب تاريخ الألموت «2» ، ومن تولّاها. وكتاب تاريخ اليمن، منذ اختطّت إلى زمانه. وكتاب الحلى والشيآت. وكتاب الإصلاح لما وقع من الخلل فى كتاب الصّحاح «3» . وكتاب الكلام على الموطّا «4» وكتاب الكلام على صحيح البخارى. وكتاب تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه، إلى حين انقراض دولتهم، وكتاب تاريخ السّلجقيّة، من ابتداء أمرهم إلى انتهائه. وكتاب الإيناس فى أخبار آل مرداس. وكتاب الرد على النصارى. وغير ذلك.(29/332)
وكان- رحمه الله- سخىّ الكفّ، طلق الوجه. وكان محبا للكتب، جمّاعا لها، جمع منها ما لم يجمعه أحد من أمثاله. واشتهر بالرغبة فيها، والمغالاة فى أثمانها، فقصده الناس بها من الآفاق. فاجتمع له منها ألوف كثيرة، بالخطوط المنسوبة، وخطوط المشايخ والمصنّفين. ولم يقع له كتاب مليح فردّه، بل يبالغ فى إرضاء صاحبه بالثّمن. فإذا ملكه استوعب قراءته، ثم جعله فى خزائنه، ثم يشحّ فى إخراجه، فلا يكاد يظهر عليه أحدا، صيانة له وضنّا به!.
قال الحافظ محبّ الدين بن النجار: كنّا عنده ليلة، فى شهر رمضان، فجرى بحث أفضى إلى اعتبار كلمة وكشفها من كتاب الصّحاح.
فقال لبعض مماليكه: إذهب إلى المؤيّد- يعنى أخاه- وأحضر من عنده نسخة من الصّحاح. قال: فقلت له: والمولى ما عنده نسخة من الصّحاح؟! فقال: وحياتك- يا محبّ- عندى خمس نسخ، وما يطيب على قلبى أن أخرج منها نسخة- لا سيما بالليل، ونحتاج إلى إدخال الضوء. وله فى شغفه بالكتب حكايات كثيرة، أضربنا عن ذكرها. وأوصى بكتبه بعد وفاته للملك الناصر: صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز، صاحب حلب. وكانت تساوى خمسين ألف دينار. ودفن بحلب- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى عماد الدين، بن سديد الدين، محمد بن سليم بن حنّا- وهو أخو الصاحب بهاء الدين.(29/333)
واستهلّت سنة سبع وأربعين وستمائة:
والسلطان الملك الصالح نجم الدين بدمشق، وهو مريض. فعاد إلى الديار المصرية فى محفّة «1» ، لشدة ما ناله من المرض. وكان خروجه من دمشق فى يوم الإثنين، رابع المحرم، ونادى فى الناس: من كان له علينا أو عندنا شىء، فليحضر لقبضه. فطلع الناس إلى القلعة، وأخذوا ما كان لهم.
وفى هذه السنة؛ رسم السلطان لنائبه بدمشق- الأمير جمال الدين بن يغمور- بهدم دار أسامة، وقطع أشجار بستان القصر بالقابون، وهدم القصر. فتوقف عن ذلك مدة، ثم ترادفت عليه الكتب بذلك، ففعل.
ذكر استيلاء الفرنج على ثغر دمياط
وفى سنة سبع وأربعين وستمائة، وصل ريد افرنس «2» بعساكره وجموعه إلى ثغر دمياط.
وخرج السلطان الملك الصالح بعساكره إلى المنصورة، ونزل بها.
وجرّد إلى ثغر دمياط جماعة من الأمراء، فالتقوا مع ريدا فرنس، واقتتلوا قتالا شديدا فقتل الأمير شهاب الدين بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيرى.
وخرج أمراء الكنانيّة من دمياط وأخلوها، فاستولى عليها ريدا فرنس(29/334)
فى يوم الأحد، لسبع بقين من صفر، من السنة. فشنق السلطان أمراء الكنانية- وكانوا نيّفا وخمسين أميرا- بعد أن استفتى فى شنقهم- لخروجهم عن الثّغر بغير أمره. وكان قد جعل [عندهم من الميرة ما يكفيهم زمنا طويلا «1» ] .
ذكر استيلاء السلطان على قلعة الكرك وبلادها
وفى هذه السنة، ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الكرك، وبلادها.
وسبب ذلك أن صاحبها الملك الناصر داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى- توجه منها إلى بغداد، واستخلف أولاده بها. فكاتبوا السلطان، واتفقوا معه على تسليمها. واشترطوا عليه شروطا، وتولى ذلك من أولاده: الملك الأمجد أبو على الحسن.
فأجاب السلطان إلى ما التمسوه، وتسلم القلعة، ووفى لهم بما اشترطوه- وذلك فى جمادى الآخرة. وأخرج عيال الملك المعظم وأولاده وبناته، وأمّ الملك الناصر، وجميع من كان بالحصن. وبعث الملك الصالح الى الحصن ألف ألف دينار- عينا- وجواهر وذخائر وأسلحة، وغير ذلك.(29/335)
ولما عاد الملك الناصر من بغداد، ووجد الأمر على ذلك، توجه إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف، صاحب حلب، وأقام عنده، إلى أن ملك دمشق. وحضر فى خدمته إليها. ثم بلغه عنه أسباب رديّة، فأخرجه إلى البويضا بظاهر مدينة دمشق. فمات بها حتف أنفه.
وكانت وفاته فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة. ونقل من البويصا، وصلّى عليه عند باب النصر، ودفن عند أبيه بالتربة المعظّميّة، بقاسيون- رحمه الله تعالى.
ذكر وفاة الملك السلطان الصالح نجم الدين أيوب
كانت وفاته- رحمه الله تعالى- بمنزلة المنصورة، فى ليلة الإثنين النصف من شعبان، سنة سبع وأربعين وستمائة. ومولده بالقاهرة المعزّيّة فى سنة ثلاث وستمائة.
ولما مات، كتم أمر وفاته، ودفن بالمنصورة. ثم نقل- فى سنة ثمان وأربعين وستمائة- إلى تربته، التى بنيت بعد وفاته، بجوار مدرسته بالقاهرة المحروسة، بين القصرين فكانت مدة سلطنته بالديار المصرية عشر سنين، إلا خمسين يوما.
وكان ملكا مهيبا، شجاعا حازما، ذا سطوة. وكانت البلاد فى أيامه آمنة، والطرق سابلة. وكان عفيف الذّيل. غير أنه كان عظيم الكبر، غليظ الحجاب. وكان محبّا لجمع المال. ويقال إنه عاقب امرأة أبيه- أمّ أخيه الملك العادل- وأخذ منها الأموال والجواهر. وقتل أخاه وجماعة من الأمراء ومات فى حبسه ما يريد على خمسة آلاف.(29/336)
ولما مات، كانت سرّيّته- والدة خليل- فى صحبته بالمنصورة. فكتم أمر وفاته إلا عن خواصّ الأمراء. وكان السّماط «1» يمدّ على العادة.
والأمراء، ومن جرت عادته بحضور السّماط، يدخلون ويأكلون وينصرفون. ويظنون أن السلطان إنما احتجابه بسبب مرضه. وكانت والدة خليل تكتب خطّا يشبه خطّ السلطان، فتخرج العلائم «2» بخطّها.
واتفق الأمراء على إحضار ولده: الملك المعظّم غياث الدين تورانشاه من حصن كيفا. وكان السلطان الملك الصالح قد كتب كتابا بخطّه. يشتمل على وصيته لولده الملك المعظم. نذكر- إن شاء الله تعالى- مضمونه فى أخبار الملك المعظم. فتوجّه لإحضاره الأمير فارس الدين أقطاى الصالحى- مملوك والده وقام بتدبير الدولة- فيما بين وفاة السلطان الملك الصالح ووصول الملك المعظم- الأمير فخر الدين: يوسف بن الشيخ. إلى أن قتل.(29/337)
ذكر خبر الأمير فخر الدين أبى الفضل يوسف ابن الشيخ، وقتله
لما مات السلطان الملك الصالح، قام بتدبير الأمر بعده- إلى أن يصل ولده الملك المعظم- الأمير فخر الدين أبو بكر أبو الفضل: يوسف، بن شيخ الشيوخ صدر الدين «1» . وكان هو وزير السلطان ومقدّم جيوشه، والمشار إليه فى دولته.
فدبّر الأمر أحسن تدبير، وأقطع البلاد بمناشيره. وأطلق السّكّر والكتّان أن يسافر به التّجّار إلى الشام- وكان ذلك قد منع، وأراد جماعة من العسكر أن يملكوه، فامتنع من ذلك.
وتنكر له بعض الأمراء المماليك الصالحية، وعزموا على قتله فاستدعى أكابر الأمراء، وأعلمهم أنه لا طمع له فى الملك ولا رغبة، وأنه إنما يحفظه للملك المعظّم إلى أن يصل. فاعتذروا له وحلفوا. وكان المتّهم بإغراء الأمراء الطواشى محسن، وجماعة. وجهّز جماعة يستحث الملك المعظم من دمشق، بعد وصوله إليها.
فلما كان فى يوم الثلاثاء- رابع ذى القعدة أو خامسه- هجم الفرنج على عساكر المسلمين، واندفع المسلمون بين أيديهم. وكانت وقعة عظيمة.(29/338)
فركب فخر الدين فى وقت السحر ليكشف الخبر، وأنفذ إلى الأمراء والحلقة «1» ليركبوا. وساق بنفسه فى طائفة من مماليكه وأجناده. فصدمه طلب «2» الدّاويّة «3» وحملوا عليه. فهرب من كان معه، وثبت هو. فطعن فى جنبه، فوقع عن فرسه. فضربوه ضربتين فى وجهه، طولا وعرضا، بالسيف فقتلوه!.
وجاء مماليكه إلى داره، فكسروا صناديقه، ونهبوا أكثر ما فيها.
ونهبت أمواله وخيله. وأخذ الجولانى «4» قدور حمّامه، والدّمياطىّ أبواب داره. ثم أخرج من المعركة بقميص واحد، وجعل فى حرّاقة «5» وأرسل إلى مصر. وحمل إلى تربته بالقرافة الصغرى، بجوار تربة الإمام الشافعى، فدفن عند والدته. واشتد بكاء الناس عليه، وعملت له الأعزية. وكان له من العمر، يوم مات ست وستون سنة- رحمه الله تعالى. وكان له شعر جيّد كثير، فمن شعره:
عصيت هوى نفسى صغيرا، فعندما ... رمتنى الليالى بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى- عكس القضيّة- ليتنى ... خلقت كبيرا، وانتقلت إلى الصّغر(29/339)
ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب، وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية
ملك الديار المصرية والشام، بعد وفاة والده السلطان الملك الصالح وكان مقيما بحصن كيفا «1» ، وما مع ذلك، منذ تركه والده هناك- كما تقدم. فلما مات السلطان، اجتمع رأى الأمراء على إقامته، وجهزوا لإحضاره الامير فارس الدين أقطاى، كما ذكرنا آنفا.
وكان السلطان الملك الصالح، فى مرض موته، قد كتب إلى ولده الملك المعظم هذا كتابا، أسند فيه الملك إليه، واشتمل كتابه على جملة من الوصايا. وقد وقفت على الكتاب المذكور- وهو بخطّ السلطان الملك الصالح بجملته. وقد رأيت أن أشرح ما تضمّنه، لما فيه من الوصايا التى يتعين على الملوك التمسك بها والرجوع إليها، والإعتماد عليها.
ابتدأ السلطان الملك الصالح كتابه هذا- الذى منه نقلت- بأن كتب فى طرّته قبل البسملة: والده أيوب بن محمد «2»(29/340)
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
الولد تورانشاه- أصلحه الله ووفّقه يا ولدى، أنت تعلم ما سبب تأخير طلبك إلا ما أعلمه منك، من الصّبيانية والجرأة وقلة الثبات. والملك ما يحتمل هذا. والوالد ما يشتهى لولده إلا الخير. والخصائل التى أعرفها منك اتركها، يدوم لك الملك. وإن أنت خالفت أمرى وبقيت على ما أعلمه منك، يروح منك الملك. واثبت فى جميع أمورك. وسنّ سيرتى فى العسكر. واترك الأشياء على ما هى عليه: كل أحد متولّى الشغل الذى هو فيه، ولا تحدث حادث.
والوصية بجميع الأمراء، وأكرمهم واحترمهم، وأرفع منزلتهم. فهم جناحك الذى تطيربه، وظهرك الذى تركن إليه. وطيّب قلوبهم، وزيد فى إقطاعهم. وزيد كلّ أمير على [ما] معه من العدّة عشرين فارس. وأنفق الأموال. وطيّب قلوب الرجال، يحبوك وتنال غرضك فى دفع هذا العدو.
ولا تؤاخذ بما جرى فى دمياط، فهذا أمر سماوىّ، ما لأحد فى هذا حيلة.
والأخ فخر الدين بن الشيخ ما عندى من أقدّم سواه، فأكرمه، واحترمه كما تحترمنى. واجعله عندك كالوالد. واسمع قوله ورأيه ولا تخالفه.
واجعل له من العدة مائتى فارس.
يا ولدى: الوصية بأم خليل، فلها علىّ من الحقوق والخدمة ما لا أقدر أصفه، ارعى جانبها وأكرمها واحترمها، وارفع منزلتها، فهى عندى بمنزلة عظيمة. وكنت طيّب القلب بصحبتها، آمنا على نفسى من جهتها، فاجعلها لك مثل الوالدة. واجتهد فى اتصال الراحة إليها، وطيّب(29/341)
قلبها، واجعلها حاكمة على جميع أمورك وأموالك. ولا يبدو منك كلمة تضيّق صدرها، ولا توجع لها قلبا أبدا، ولا من يتعلق بسببها، ولا من يضيق صدرها بسببه.
ولا تخرج عن رأيها وتدبيرها. وهذه وصيتى فلا تخالف أمرى.
واخدمها كما تخدمنى، واحترمها كما تحترمنى. ولا تجعل على يدها يد.
والوصية بجميع العيال، أحسن إليهم فلهم علىّ خدمة. ولا تقصّر فى حق الصغير منهم والكبير. واحفظ وصيتى، فمتى خالفتنى يروح منك الملك، وتكون عاقّا لى. وكتبت هذه الوصية ولم يطلع عليها أحد، لئلا تضيق صدورهم. وكتبتها فى مدة طويلة.
واعلم يا ولدى أن الملك فى ابتداء ملكه كمثل الشّجرة فى ابتداء طلوعها، فيأتى ريح يهب عليها يحرّكها، وربما يقلعها من أصلها. فإذا مضت عليها الأيام والسنين قوى أصلها، واشتد ساقها، فلا تحركها الرياح العواصف. فاعلم يا ولدى إشارتى، وتنبّه لغرضى. وإن ضاق صدرك من شخص فاحتمله، وأحسن إليه تحسن سيرتك، ويحبّك عدوّك. ولا تعجل بالعقوبة. واعلم أن الناس أعداء لبعضهم البعض، فلا تسمع كلام أحد دون أن تقابل بينه وبين خصمه، ولو أتاك مقطوع اليد. فربما خصمه أسوأ حالا منه. فإذا عرف هذا منك، تقلّ الشّكاوى والرّفاعات «1» ، ويستريخ خاطرك.(29/342)
والذى أعرّفك به يا ولدى: لمّا نزل العدوّ على زمن الشّهيد «1» - رحمه الله- على دمياط، ما كان فيها سوى الوالى والكنانيّة، وأهلها حفظوها إلى أن وصل الشّهيد من القاهرة، وعسكر مصر من الشام. وما قدر العدو ينزل برّ دمياط، وما كان فيها ذخيرة شهر واحد.
فلما اختلف العسكر على الشّهيد- رحمه الله- وتحزّبوا- مثل ابن المشطوب «2» والأكراد- مع الملك الفائز، غضب الشّهيد، وساق إلى أشموم. وتبعه العساكر، وتركوا جميع الخيم والقماش. وخرج من دمياط من خرج، والوالى.
وما بقى فيها إلا أهلها. وغلّقوها وقعدوا فيها وحفظوها، إلى أن مات أكثر من فيها والباقى تكشّحوا، وخلت الأصوار من المقاتلين. فصعدت الفرنج وأخذتها، بعد أن تعبوا من النّقوب من تحت الأرض، وشربوا بالبتاتى، والزحف عليها من جميع الجهات، وما قدروا يأخذوها.
وأنا قويّت دمياط، وملأتها ذخائر من كل شىء، يكفيها عشرين سنة، مع ما كان عند أهلها من الذخائر. واكشف من الديوان يعرّفوك ما كان فيها من الخيرات. وقويّتها بجميع عسكر الديار المصرية، من فارس وراجل، ونقدى، وما خليت لها عذر، حتى بقيت وحدى فى أشموم بسبب المرض.(29/343)
فلما أن أقبل العدو وشاهدوه وطلبوا البرّ بالحراريق، انهزموا وسلّموا لهم البرّ، واشتغلوا بالنساء ونقلهم من دمياط، وهربت العوامّ وتبعهم الأجناد.
وكان المقدّم عليهم الأخ فخر الدين ساق خلفهم وردّهم، وجعل على أبواب دمياط كل باب أمير. فلما أصبح، ما وجد فى المدينة أحد. هربوا الكنانية فى الليل، وكسروا الخوخ «1» ونزلوا من السّور، وتركوا أموالهم وذخائرهم نهبوها المسلمين بعضهم بعض. وأخلوا دمياط، حتى أخذتها الفرنج ثانى يوم. وهذا كله بقضاء الله وقدره.. واصبر تنال ما تريد.
وهذا العدو المخذول، إن عجزت عنه، وخرجوا من دمياط وقصدوك، ولم يكن لك بهم طاقة وتأخّرت عنك النّجدة، وطلبوا منك الساحل وبيت المقدس وغزّة وغيرها من الساحل- أعطيهم ولا تتوقّف، على أن لا يكون لهم فى الديار المصرية قعر قصبة.
وإن نزلوا منزلة من تقدّمهم من العدوّ قبالة المنصورة، فرتب العسكر يكونوا ثابتين خلف السّتاير مع البحر، ليل ونهار. فهم ما لهم زحف إلا بالشّوانى «2» ، فقوّوا الشّوانى، كيفما قدرتم. واجهدوا أن يكون بعض الحراريق «3» على بحر المحلّة من خلف مراكبهم، تقطع عنهم الميرة. وهو يكون- إن شاء الله- سبب هلاكهم. فتلك المرّة ما انتصر الشهيد- رحمه الله- عليهم إلا من بحر المحلّة.(29/344)
وتكون العرب مع الخوارزمية مع ألفين فارس بينهم وبين دمياط.
واستخدم، الفارس والراجل. وأنفق الأموال ولا تتوقف. وإن كان الشّرق لا ينجدوك لأجل الناصر وإسماعيل، واشترطوا أن تردّ عليهم بلادهم، ورأيت الغلوبيّة، ولا بدّ من ذلك وإلا ذهب الملك- فالضرورات لها أحكام.
إعلم- يا ولدى- أن الديار المصرية هى كرسىّ المملكة، وبها تستطيل على جميع الملوك. فإذا كانت بيدك، كان بيدك جميع الشّرق. ويضربوا لك السّكّة والخطبة.
فاتّفق أنت والأخ فخر الدين، وأرضى الناصر «1» بما يطيب به قلبه.
فالناصر ما أخرجه من يدى إلا تغيّرى عليه، بسبب أوراق كانت تصل إلىّ عنه أنه فعل وصنع. وكشفت عن ذلك، ما رأيت لها صحّة. فلما انقطع رجاه منىّ لتغيّرى، استند إلى إسماعيل وابن ممدود، وجرى منهم ما جرى.
كل ذلك من إسماعيل وابن ممدود، وهو يشاركهم فى جميع ما يفعلوه.
وأما الذى فعله معى على نابلس فما كان إلا مصلحة عظيمة، أنا أشكره عليها. طلع بى الكرك إلى أن ذهبت أيام القطوع. لولا ذلك أخذنى إسماعيل «2» ، لأنه ضيّق علىّ أرض الشام بالعسكر فى طلبى، فما فعل فى حقى إلا خير. فهو كان السبب فى خروجى، فى الوقت الذى كان قدّر الله بتوجهى فيه إلى الديار المصرية بالملك. فلا يضيع له هذا القدر.(29/345)
وكنت نويت له كلّ خير. فإن حصل بينكما اتّفاق، وصفت نيّته فى محبتك، ووفى لك باليمين، فخاطرك به مستريح فى أمر الساحل. فما ذنوبه عندى ذنوب إسماعيل، الذى بارزنى، وأخذ منّى دمشق، واعتقل ولدى، وفعل فى حقّى ما فعل، وأعطى الساحل والحصون التى فيه لعدوّ الدّين، واستعان بالكفر «1» علىّ، وعلى أخذ بلادى. فارضيه بشىء يستعين به: بصرى مع السّواد، ولا تعطى له قلعة بعلبك. وتحسن إلى أولاده وأهله، وينفذوا إليه. فالله يقابل المسىء، ويجازى المحسن وأطلق المحتبسين كلهم، إلا من كان له تعلّق فى قبض عمك، أو مفسد فى الدولة.
فإن قدّر الله لك بالنصر على هذا العدوّ المخذول «2» ، وأخذت دمياط- إن شاء الله تعالى- ابنى باشورة «3» تكون طول قامة، وبسطة بشراريف، ومرامى من فوق وأسفل، وتكون الباشورة عرّض يتمكّن القتال عليها، إما بالحجر أو بالطوب الأحمر، ويكون لها سلالم، بين كل سلّم وسلّم ثلاثين خطوة. تعمل هذه الباشورة من قبالة برج السّلسلة، قريب من الماء البحر إلى البرزخ، إلى المكان الذى نزلوا فيه الفرنج، وفوق منه بثلاث رميات نشّاب. ومن آخر هذه الباشورة تحفر خندق، من البحر المالح إلى البحر الحلو، مثل ما حفره الشّهيد «4» تلك المرّة، بحيث إذا جاء العدو(29/346)
لا يقدر على الماء الحلو، ولا يبقى له منزلة ينزل فيها. وبين كل سلمين لعبتين يرموا بالحجارة، والعسكر تقاتل من على الباشورة والمنجنيق والرّماة ترمى من خلف الباشورة من المرامى، ما يقدر أحد يقرب البر. وعجبت كيف غفل عن هذا الشهيد- رحمه الله- وعمل قلعة.
فهذه الباشورة فيها ألف مصلحة قسّطها على الأمراء وعلى بيت المال والأسرى الفرنج تعمل فيها. واجتهد فى عملها تأمن على دمياط وتستريح وإن لم يخرج العدوّ من دمياط وتطاول الأمر ينتظروا نجدة تصل إليهم، ازحف عليهم من برّ دمياط ومن برّ البرزخ، بالفارس والراجل وبالشّوانى من البحر، لعل أن تملكوا برّ البرزخ. فإذا ملكتوه ملكتم فم البحر، ومنعتوا أن يدخل إليه مركب، أو يخرج.
ويا ولدى: قلّدت إليك أمور المسلمين، فافعل فيهم ما أمرك الله به ورسوله. يا ولدى إياك والشّرب، فإن جميع الآفات ما تأتى على الملوك إلا من الشّرب. ولا تخالفنى تندم، وتدخل عليك العارض «1» . فما يسقيك إلا من تأمن إليه، ولا يدخل عليك العارض إلا من القريب. يا ولدى:
وامنع المسلمين والنصارى أن يعصروا الخمر. وطهّر العساكر من القحاب، والمدن. ولا تجلس مع من يشرب، فيزين لك الشيطان فتشرب، فتكون قد خالفتنى، وتدخل عليك العارض. وأنا قد جرّبت الأشياء ووقعت فيها، وتحقّقت الخطأ من الصواب، وندمت وقت لا ينفع الندم. فاجتنب يا ولدى ما حذّرتك منه. فقد أخبرك مجرّب صادق، مشفق عليك(29/347)
وانظر يا ولدى فى ديوان الجيش. فهم الذين أفسدوا البلاد وأخربوها- وهم النّصارى- أضعفوا العساكر، وكأن البلاد ملكهم يبيعوها بيع. إذا كتب منشور لأمير يأخذوا منه المائتين وأكثر، ومن الجندى من المائة ونازل. ويكون الجندى خبزه «1» ألف دينار يفرقوا خبزه فى خمس ست مواضع: فى قوص وفى الشرقية وفى الغربية، فيريد الجندى أربع وكلاء، يروح الخبز للوكلا. ومتى يحصل للجندى من خبزه شىء، إذا كان مثلا فى بيكار «2» ويقاسى العليقة بثلاثة نقرة «3» ، كيف يكون حاله؟ يخرب بيته ويهلك! فهذا سبب هلاك الجندى. والنصارى يقصدوا هذا، لخراب البلاد وضعف الأجناد، حتى تروح منا البلاد. وجندى يحصل له وجندى ما يحصل له شىء أصلا.
تردّ عبرة البلاد «4» إلى ما كانت عليه فى زمن صلاح الدين- رحمه الله. والجندى لا يكون خبزه مفرّق، بل فى موضع أو موضعين قريبين.
فتعمر البلاد ويقوى الجندى ويقوى الفلاح. فإذا كانوا جماعة فى بلد، وكل أحد يخرب من ناحية ويجور المقطعين على الفلّاحين، تخرب البلاد. وهذا كله فعل النصارى.(29/348)
وبلغنى أنهم بعثوا إلى ملوك الفرنج فى الساحل فى الجزائر، وقالوا لهم.
أنتم ما تجاهدوا المسلمين، بل نحن نجاهدهم الليل والنهار، بأخذ أموالهم ونستحلّ نساهم، ونخرّب بلادهم ونضعف أجنادهم. تعالوا خذوا البلاد، ما تركنا لكم عاقة. فالعدوّ معك فى دولتك- وهم النصارى. ولا تركن لمن أسلم منهم ولا تعتقد عليه، فما يسلم أحد منهم إلا لعلّة، ودينه فى قلبه باطن كالنار فى الحطب! يا ولدى، أكثر الأجناد اليوم عامّة، وباعة وقزّازين: كل من لبس قباء «1» وركب فرس، وجاء إلى أمير من هؤلاء الترك، وقدم له فرس، ويبرطل نقيبه وأستاذ داره «2» على خبز جندى، من جندى معروف بالشجاعة والحرب- طرده أميره، وأعطى خبزه لذاك العامى الذى لا ينفع وأكثرهم على هذه الحالة. فإذا عاينوا العدو وقت الحاجة هربوا، وينكسروا العسكر. لأنهم ما يعرفوا قتال، ولا هو شغلهم. فينبغى أن لا يستخدم [إلا] من يعرف يلعب بالرمح على الفرس، ويرمى بالنّشّاب والأكرة، وتظهر فروسيته- حينئذ يستخدم.
واحفظ يا ولدى ما أقوله لك، فهذا جميعه ما عرّفنى به إلا الأخ فخر الدين، وأخبرنى أنه وقف على كتاب بخط صلاح الدين، أن الفيّوم وسمنّود والسواحل والخراج للأسطول. فالأسطول أحد جناحى الإسلام.
فينبغى أن يكونوا شباعا. ورجال الأسطول إذا أطلق لهم كل شهر عشرين(29/349)
درهم مستمرة راتبه، جاءوا من كل فجّ عميق، ورجال معروفين بالقذف والقتال. وإنما تجو «1» وقت الحاجة تقبضوا ناس مستورين لهم أطفال وبنات، وهو الذى يطعمهم ويسقيهم، تأخذوه فى الأسطول ولا ينفع، تموت أطفاله بالجوع، ويدعو علينا! كيف تنتصر على العدو؟! وتأخذوا إلى البحر عند قبض الأسطول كل يوم ألف دينار، لأنه يقبض من الصبح إلى المغرب، مساتير وبياعين وأرباب معايش، يجو أهاليهم إلى بيت الوالى، كل أحد يزن الذهب ويخلّص نفسه «2» . والفقير الذى ماله قدرة تحدّروه فى المراكب. فقد نبّهت الولد على هذه الأشياء. والأخ فخر الدين عرفنى بهذه الأحوال جميعها. فاسمع ما بقوله لك.
الولد يتوصّى بالخدام: محسن ورشيد والخدام المقدّمين، لا تغيرهم. فما قدّمت أحد من الخدام ولا من المماليك إلا بعد ما تحققت نصحه وشفقته. وأستاذ الدار وأمير جاندار تتوصى بهم. وكذلك الحسام لا تغيرهم. فإنى أعتمد عليهم فى جميع أمورى.
القيمريّة «3» ، الولد لا يسمع كلام بعضهم فى بعض. وناصر الدين عند كذب وخبث. وما باطنه جيّد. وقد عرّفت الأخ فخر الدين الرّسل الذى مسكوا من دمشق إلى حلب من عنده. والحسام يكون بمفرده لا حلّ ولا ربط. وضيا الدين القيمرى، إن احتاجوا إلى أن يخرج عسكر إلى جهة من الجهات، يكون مقدّم. وناصر الدين أرجل لا يخرج مع عسكر.(29/350)
وسيف الدين القيمرى تعمل معه ما يقرّر مع الأخ فخر الدين، يكون مقدّم العسكر فى دمشق. وابن يغمور مشدّ «1» ، وناصر الدين على المظالم. فابن يغمور يصلح يكون مشدّ ووالى وجابى الأموال، ولا يصلح يكون مقدّم على عسكر، ولا يصلح لجنديه. ولا تؤمن إليه كل الأمن. بل تمشّى به الحال فى مكان مدة، ثم ينقل إلى غيره. وهو بالكتّاب أليق.
وكذلك قرائب فخر الدين عثمان كلهم لا يصلحوا لجندية. ابن العزيز الرأى عندى أن تؤخذ جماعته، ويبقى هو ومماليكه بمفردهم، ويقطع له ولمماليكه، وحاشيته ودوره، ما يقوم بهم من خاصة. فالأخ فخر الدين يعرف ما جرى منه، فهو نحس مفسد مخسخس. وقد عرف الأخ فخر الدين حاله وما جرى منه فى دمياط وغير دمياط، فما يصلح لصالحة.
متولّى ديوان الأحباس «2» اصرفه. وولىّ ابن النّحوى، فقد سألنى المتصدرين ذلك. وطرائق بن الجباب غير صالحة. والوكيل اصرفه. وولىّ ابن الفقيه نصر، فهو رجل جيّد فقيه عنده خوف من الله.
وقد عيّنت فى ورقة عند الأخ فخر الدين عشرين من المماليك تقدّمهم، تعطى لكل واحد كوس «3» وعلم، وتحسن إليهم.
وتتوصّى بالمماليك غاية الوصية. فهم الذى كنت أعتمد عليهم، وأثق بهم. وهم ظهرى وساعدى. تتلطّف بهم، وتطيّب قلوبهم، وتوعدهم بكل خير. ولا تخالف وصيتى. ولولا المماليك ما كنت قدرت أركب فرس، ولا أروح إلى دمشق، ولا إلى غيرها. فتكرمهم وتحفظ جانبهم.(29/351)
فهذه وصيتى إليك، فاعمل بما فيها ولا تخالف وصيتى. وكل يوم طالعها، واقف عليها. ولا تعمل شىء دون أن تشاور الأخ فخر الدين. والله يقدر بما فيه الخير- إن شاء الله تعالى.
يا ولدى، إن ألزموك- الحلبيين- أن تدفع الكرك «1» إلى الناصر، فأعطه الشّوبك. وإن لم يرض زده من الساحل، حتى يرضى. ولا تخرج الكرك من يدك. الله الله احفظ وصيتى. فلا تعلم ما يكون من هذا العدو والمخذول، لعله- والعياذ بالله- أن يتقدم إلى مصر يكون ظهرك الكرك، تحفظ فيه رأسك وحريمك، فمصر ما لها حصن. ويجتمع عندك العسكر وتتقدم إليهم، تردهم عن مصر. وإن لم يكون لك ظهر مثل الكرك، تفرقت عنك العساكر. وقد عزمت أن أنقل إليها المال والذخائر والحرم، وكل شىء أخاف عليه، واجعلها ظهرى. والله ما قوى قلبى واشتد ظهرى، الا لما حصلت فى يدى.
الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه- وآله وصحبه- وسلامه هذا آخر ما تضمنه كتاب الوصية. وقد نقلته بنصّه وهيئته- على ما فيه من لحن فى بعض ألفاظه، ونقص ألفات فى بعضه.
ولم يعتمد الملك المعظم ما أوصاه به، ولا رجع إليه ولا عرّج عليه، بل خالفه فى جميع ما تضمنته وصيته. وكان من أمره، وزوال ملكه، ما نذكره.(29/352)
ولنرجع إلى سياقة أخبار الملك المعظم:
قال: ولما وصل إليه الأمير فارس الدين، وهو بحصن كيفا، رحل وسلك البرّيّة «1» . وأخفى أمره عن الملوك المجاورين له. خشية من غائلتهم.
وترك بالحصن ولده الملك الموحد، وسار حتى انتهى إلى دمشق.
فكان وصوله إليها فى يوم السبت، سلخ شهر رمضان، سنة سبع وأربعين وستمائة. وعيّد بها عيد الفطر. وخلع وأنعم على الأمراء، وأقرّ الأمير جمال الدين موسى بن يغمور على النّيابة بدمشق. وأفرج عن كل من كان فى حبس والده. قال أبو المظفر: وبلغنى أنه كان بدمشق ثلاثمائة ألف دينار، فأخذها صحبته، وتجهز إلى الديار المصرية وكان رحيله من دمشق فى الخامس والعشرين من شوال، منها. وكان سبب تأخره بدمشق، هذه المدة، أن الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ كان قد سيّر إليه جماعة من المماليك الصالحية. يستحثه على سرعة الحضور فأوهمه بعضهم أن فخر الدين حلّف العساكر لنفسه. وأنه متى حضر قتله، واستقلّ بالأمر. فأنفق الملك المعظم الأموال بدمشق. واستحلف العساكر.
وحلّف المماليك الذين حضروا من جهة الأمير فخر الدين، على قتل فخر الدين. فحلفوا له. فاتفق قتل فخر الدين قبل وصول الملك المعظم، كما تقدم.
وجهز الملك المعظم كاتبه- معين الدين، هبة الله بن أبى الزّهر حشيش- إلى قلعة الكرك، فى مستهل ذى القعدة فحقّق ما بها من الأموال(29/353)
والذخائر، وحمل إليه من حاصلها مائتى ألف دينار، عينا، مما كان الملك الصالح قد نقله إليها. ولحق معين الدين السلطان إلى الرّمل «1» . وكان نصرانيا فوعده بالوزارة، فأسلم. ووصل السلطان إلى العساكر الديار المصرية، بمنزلة المنصورة- فى يوم الثلاثاء سابع عشر ذى القعدة، من السنة.
ولما وصل، وضع يده على ما سلم من تركة الأمير فخر الدين يوسف ابن الشيخ، وأخذ مماليكه الصغار، وبعض قماشه- وثمّن ذلك بخمسة عشر ألف دينار- وهى دون نصف القيمة، فيما قيل. ولم يعوّض الورثة عن ذلك شيئا، فإنه قتل قبل ذلك.
ذكر عدة حوادث كانت فى سنة سبع وأربعين وستمائة، غير ما تقدم
فى هذه السنة تأمّر بمكة- شرّفها الله تعالى- أبو سعد على بن قتادة، وذلك فى العشرين من ذى القعدة.
وفيها قتل الأمير شيحه، صاحب المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وولى بعده ولده عيسى بن شيحه.
وفيها فى خامس عشر شعبان، توفى الطّواشى مسرور بالقاهرة، ودفن بتربته بالقرافة.(29/354)
وفيها توفى الشيخ صالح أبو الحسن على، بن أبى القاسم بن عربى بن عبد الله، الدّمياطى، المعروف بابن قفل- فى يوم الأحد الرابع والعشرين من ذى الحجة، برباطه بالقرافة، وبه دفن.
وفيها توفى شهاب الدين ابن قاضى دارا «1» . وكان من النّظّار فى الدولة الكاملية، وبعدها. ولى نظر الأعمال القوصيّة. «2» وكان السلطان الملك الكامل يكتب إليه بخطّه، ويأمره وينهاه. ويقال إنه كان من ظلمة النّظّار، يضرب بظلمه المثل. سامحه الله- وإيانا بكرمه.
واستهلّت سنة ثمان وأربعين وستمائة:
ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم ريدا فرنس
قال المؤرّخ: لما وصل السلطان الملك المعظم إلى المنصورة، كان ملك الفرنج ريدا فرنس «3» - بعساكره وجموعه- بالجزيرة التى قبالة المنصورة، وهى الدّقهلية. فرحل بمن معه طالبا دمياط. وذلك فى ليلة الأربعاء، مستهل المحرم، من السنة.(29/355)
فتبعته عساكر المسلمين إلى فارس كور «1» ، وقاتلوه قتالا شديدا وأخذوه أسيرا- هو وأخوه- واستولوا على عساكر الفرنج، وقتلوا منهم زيادة عن عشرة آلاف فارس. وأسر من الخيّالة والرّجّالة ما يناهز مائة ألف.
وجىء بريدا فرنس وأخيه إلى المنصورة، فاعتقلا فى دار فخر الدين بن لقمان «2» بها. ورتّب السلطان الأمير فخر الدين الطّورى «3» لقتل أسرى الفرنج فكان يقتل منهم فى كل ليلة ثلاثمائة نفر، ويرميهم فى البحر.
وكتب السلطان الملك المعظم- كتابا بخطّه إلى الأمير جمال الدين موسى ابن يغمور النائب بدمشق، مضمونه بعد البسملة:
«ولده تورانشاه. الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن. وما النصر إلا من عند الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وأما بنعمة ربك فحدّث. وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. يبشّر المجلس السامى الجمالى- بل يبشّر الإسلام كافّة- بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بعدوّ الدين. فإنه كان قد استفحل أمره، واستحكم شرّه، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد. فنودوا: لا تيأسوا من روح الله.(29/356)
ولما كان فى يوم الأربعاء- مستهلّ السنة المباركة- تمّم الله على الإسلام بركاتها- فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرّقنا السّلاح، وجمعنا العربان والمطّوّعة «1» ، واجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، وجاءوا من كل فجّ عميق، ومن كل مكان بعيد سحيق. ولما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح، على ما وقع الاتفاق بينهم وبين الملك الكامل، فأبينا. ولما كان الليل، تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، ونحن فى آثارهم طالبين. وما زال السيف يعمل فى أدبارهم، عامّة الليل.
وحلّ بهم الحرب والويل.
فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفا، غير من ألقى نفسه فى الّلجج. وأما الأسرى فحدّث عن البحر ولا حرج. والتجأ الإفرنسيس إلى المنية «2» ، وطلب الأمان فأمّنّاه، وأخذناه وأكرمناه. وتسلّمنا دمياط بعون الله تعالى، وقوته وجلاله وعظمته. وذكر كلاما طويلا.(29/357)
وبعث مع الكتاب غفارة «1» ريدا فرنس إلى الأمير جمال الدين، فلبسها. وهى اسقلاط «2» أحمر، تحته سنجاب «3» ، وفيها شكل يكلة «4» ذهب. فنظم الشيخ نجم الدين محمد، بن الخضر بن إسرائيل، مقطّعات ثلاثا، ارتجالا، وهى:
إن غفارة الفرنسيس التى جا ... ءت حباء لسيّد الأمراء
كبياض القرطاس لونا، ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدّماء
وقال- يخاطب الأمير جمال الدين:
يا واحد العصر الذى لم يزل ... يجوز فى نيل المعالى المدا
لا زلت فى عزّ وفى رفعة ... تلبس أسلاب ملوك العدا(29/358)
وكتب عن الأمير جمال الدين مقدّمة كتاب، للسلطان:
أسيّد أملاك الزمان بأسرهم ... تنجّزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده
ولما وصل هذا الكتاب بهذه البشرى، اجتمع عوامّ دمشق فى العشرين من المحرم ودخلوا كنيسة مريم بالمغانى والبشائر، وهمّوا بهدمها.
وأما النصارى ببعلبك فيقال إنهم سوّدوا وجوه الصّور، التى فى كنائسهم، حزنا على هذه الحادثة. فعلم بهم متولّى البلد، فجنّاهم جناية شديدة «1» ، وأمر اليهود بصفعهم وضربهم وإهانتهم.
وفيها نفى السلطان الملك المعظم الملك السعيد مجير الدين حسن، بن الملك العزيز عثمان، بن الملك العادل- وهو ابن عم أبيه- من الديار المصرية إلى الشام. ووصل إلى دمشق، واعتقل بعزّتا «2» ثم أفرج عنه، على ما نذكره- إن شاء الله تعالى.
ذكر مقتل السلطان الملك المعظم
كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من المحرّم، سنة ثمان وأربعين وستمائة.(29/359)
وسبب ذلك أنه لما ملك شرع يبعد مماليك والده وغلمانه وترابيه، ويقرّب غلمانه الذين وصلوا معه من بلاد الشرق وجعل خادمه الطواشى مسرور أستاد داره «1» ، والطّواشى صبيح أمير جاندار «2» - وكان عبدا حبشيا فحلا- وأمر أن يصاغ عصاة من ذهب، وأنعم عليه بالأموال والإقطاعات.
وتوعد جماعة من مماليك والده، وأهانهم. وكان يسميهم بأسمائهم، من غير أن ينعت أحدا منهم.
وكان قد وعد فارس الدين أقطاى بالإمرة، فلم يف له. فاستوحش منه. وكانت والدة خليل- سرّيّة أبيه- قد توجهت إلى القلعة لمّا وصل إلى الشام، فأرسل إليها يتهدّدها، ويطلب منها الأموال والجواهر. فيقال إنها خافته، وكتبت إلى المماليك الصالحية بسببه.
فاجتمع منهم جماعة، واتفقوا على قتله. فلما كان يوم الإثنين- سادس أو سابع عشرين المحرم، جلس السلطان على السّماط، واجتمع الأمراء على العادة. فلما تفرقوا، تقدم أحد مماليك والده، وضربه بالسيف. فالتقى الضربة بيده، فانهزم الضارب فقام السلطان، ودخل إلى برج خشب كان فى خيمته، وقال: من ضربنى؟ قالوا: الحشيشيّة «3» . فقال: لا والله،(29/360)
إلّا البحريّة «1» ! والله لا أبقيت منهم بقيّة! وقد عرفت الضارب واستدعى الجرائحىّ «2» ليخيط يده فاجتمع الجماعة الذين اتفقوا على قتله، وهجموا عليه، وبأيديهم السيوف مجذوبة. فهرب إلى أعلى البرج، وأغلق بابه. فحرقوه بالنار، فنزل من البرج، وهرب إلى البحر. فأدركوه، وضربوه بالسيوف! فرمى نفسه فى البحر، وهو يستغيث بهم. وتعلق بذيل أقطاى، واستجار به، فما أجاره. وهو يقول: دعونى أعود إلى الحصن، فو الله ما أريد الملك.
وهم لا يلتفتون إلى قوله. وقتلوه فى الماء، فمات قتيلا حريقا غريقا! وكانت مدة سلطنته واحدا وسبعين «3» يوما. وانهزم أصحابه الذين وصلوا صحبته من الشّرق، واختفوا.
وكان الذين باشروا قتل الملك المعظم، من مماليك أبيه، أربعة حكى عن سعد الدين مسعود، بن تاج الدين شيخ الشيوخ، أنه قال:
أخبرنى صادق أن السلطان الملك الصالح، لما أمر الطّواشى محسن الخادم بقتل أخيه الملك العادل- أمره أن يأخذ معه من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جميع المماليك، فامتنعوا بأسرهم. إلا هؤلاء الأربعة، فإنهم أجابوه وتوجهوا معه، وخنقوا الملك العادل. فسلّطهم الله تعالى على ولده الملك المعظم؟؟؟، فقتلوه(29/361)
قال أبو المظفّر يوسف سبط ابن الجوزى: وحكى لى العماد بن درباس، قال: رأى جماعة من أصحابنا الملك الصالح نجم الدين فى المنام، وهو يقول:
قتلوه شرّ قتله ... صار للعالم مثله
لم يراعوا فيه إلّا «1» ... لا، ولا من كان قبله
ستراهم عن قليل ... لأقلّ الناس أكله
والملك المعظم هذا هو آخر ملوك الدولة الأيوبية، بالديار المصرية، المستقلين بالملك. وملكت بعده شجر الدّر.
ذكر ملك شجر الدر: والدة خليل سرية الملك الصالح نجم الدين أيوب
قال: ولما قتل الملك المعظم، اتفق الأمراء الصالحية والبحرية على إقامة شجر «2» الدّرّ- سرّيّة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب- وحلفوا لها، واستحلفوا جميع العساكر الشامية والمصرية.(29/362)
وكانت المناشير والتّواقيع تخرج باسمها. ويكتب عليها ما صورته:
والدة خليل. ويكتب الموقّع: خرج الأمر العالى المولوى السّلطانى الخاتونى الصالحى، الجلالى العصمى الرّحيمى- زاده الله شرفا ونفاذا.
وقد شاهدت منشورا منها، هذه ترجمته. وتواقيعها موجودة بأيدى الناس، إلى وقتنا هذا. وخطب باسمها على المنابر. واستقّر الأمير عز الدين أيبك- التّركمانى الصالحى- أتابك العساكر.
ذكر استعادة ثغر دمياط من الفرنج وإطلاق ريدا فرنس
قال: ثم حصل الاتفاق بين الأمراء وريدا فرنس- ملك الفرنج- على أن يسلّم ثغر دمياط، ويحمل إليهم وظيفة «1» تقرّرت بينهم، ويطلقوه. فسلّم إليهم الثّغر فى يوم الجمعة، ثالث صفر، سنة ثمان وأربعين وستمائة. وتوجه هو- وأخوه وزوجته، ومن بقى من الفرنج- إلى بلادهم.
فكانت مدة استيلائهم على الثّغر أحد عشر شهرا، وتسعة أيام.
ذكر خلع شجر الدّرّ نفسها من الملك وانقراض الدولة الأيوبية من الديار المصرية
كان سبب ذلك أن الأمراء اتفقوا على أن يتزوج الأمير عز الدين أيبك التّركمانى شجر الدر، فتزوجها، وخلعت نفسها من الملك، وسلّمت(29/363)
السّلطنة إليه- فى التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة. وكانت مدة ملكها ثلاثة أشهر وقد قيل إن زواجه بها كان فى سنة تسع وأربعين وستمائة.
وانتصب الأمير عزّ الدين فى السلطنة، وتلقّب بالملك المعزّ. وأقام معه الملك الأشرف: مظفّر الدين موسى، بن صلاح الدين يوسف، بن الملك المسعود صلح الدين أقسيس ملك اليمن، بن الملك الكامل- وكان عمره ست سنين. فأقام على ذلك زمنا، ثم حجبه الملك المعزّ، واستقلّ بالملك.
وانقرضت الدولة الأيوبية من الديار المصرية.
[الأيوبيون فى غير الديار المصرية «1» ]
وبقى من ملوكها من نذكرهم: بالشام، وحصن كيفا، ونصيبين، وميّافارقين. وهم:
الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز غياث الدين محمد، بن الملك الظاهر غياث الدين غازى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادى- صاحب دمشق وحلب وحمص، وما مع ذلك(29/364)
وليس من الذّرّيّة الصّلاحيّة من يخطب له بمملكة، سواه.
ومن الذّرّيّة العادلية من نذكرهم، وهم:
الملك المغيث فتح الدين عمر، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد، بن أيوب- صاحب الكرك والشّوبك.
والملك الموحّد: تقىّ الدين عبد الله، بن الملك المعظم غياث الدين تورانشاه، بن الملك الصالح نجم الدين أيوب- صاحب حصن كيفا ونصيبين، وأعمال ذلك.
والملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك المظفّر شهاب الدين غازى، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب- صاحب ميّافارقين.
ومن الذّرّيّة الأيوبية:
الملك المنصور ناصر الدين محمد، بن الملك المظفر تقىّ الدين محمود ابن الملك المنصور محمد، بن الملك المظفر تقى الدين أبى سعد عمر، بن شاهنشاه، بن أيوب- صاحب جاه.
هؤلاء بنو أيوب ومن الذرية الأسدية: شيركوه بن شادى الملك الأشرف مظفر الدين موسى، بن الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، بن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك(29/365)
المنصور أسد الدين شيركوه، بن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادى- صاحب تل باشر والرّحبة.
وسنورد فى هذا الموضع نبذا من أخبارهم، تدل على ملخّص أحوالهم، إلى حين وفاة كل منهم، ومن قام بعده من أولاده، إن كان- على سبيل الاختصار.
أما السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك العزيز، بن الملك الظاهر، ابن الملك الناصر: صلاح الدين يوسف بن أيوب- فإنه كان بيده ملك حلب وأعمالها
ملك ذلك بعد وفاة والده الملك العزيز- كما تقدم- فى سنة أربع وثلاثين وستمائة. ثم استولى على حمص، فى سنة ست وأربعين وستمائة:
انتزعها من الملك الأشرف موسى، بن الملك المنصور إبراهيم، بن شيركوه، وعوّضه عنها تلّ باشر- وقد تقدم أيضا. ثم استولى على دمشق.
ذكر استيلاء الملك الناصر على دمشق
وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة- بعد مقتل الملك المعظم تورانشاه- تجهز الملك الناصر من حلب بعساكره، فوصل إلى قارا «1» فى مستهل شهر ربيع الآخر.(29/366)
وسبب ذلك أن الأمراء القيمرية، «1» الذين بدمشق، كاتبوه وباطنوه على أخذها فإن الأمير جمال الدين موسى بن يغمور- نائب السلطنة بها- اتفق هو والأمراء الصالحية النّجميّة، الذين كانوا بدمشق، وتظافروا، واجتمعت كلمتهم فتغيرت بواطن الأمراء القيمريّة، فكاتبوه، فسار إلى دمشق. ولما اتصل خبر مقدمه بالأمير جمال الدين بن يغمور، أحضر الملك السعيد بن الملك العزيز عثمان، من قلعة عزّتا «2» إلى دمشق- وكان قد اعتقله بها- كما تقدم، وأنزله فى دار فرّخشاه.
وتقدم الملك الناصر بعساكره، ونزل القصر. ثم انتقلوا إلى داريّا «3» ، فى يوم السبت سابع الشهر. وزحفوا على المدينة يوم الأحد ثامنه، وجاءوا إلى باب الصغير- وكان مسلّما إلى الأمير صارم الدين القيمرى، وإلى باب الجابية وكان مسلّما إلى الأمير ناصر الدين القيمرى. فلما انتهى العسكر الناصرى إلى البابين، كسرت أقفالها من داخل المدينة، وفتح البابان، ودخل العسكر الناصرى منهما.
ونهبت دار الأمير جمال الدين، بن يغمور، وسيف الدين المشدّ ونهب عسكر دمشق، وأخدب خيولهم من إسطبلاتهم. ودخل الأمير جمال الدين بن يغمور القلعة، وبها الملك المجاهد إبراهيم، ثم نودى بالأمان(29/367)
ونزل الملك الناصر فى دهليز «1» ضرب له بالميدان الأخضر. ونزل الأمير شمس الدين لؤلؤ- أتابكه- فى الجوسق «2» العادلى. ثم انتقل الملك الناصر بعد ذلك إلى القلعة، واستولى على ما بها من الخزائن والذخائر.
واعتقل الأمير جمال الدين بن يغمور، ثم أفرج عنه وأحسن إليه. واعتقل الأمراء الصالحية، وأرسلهم إلى الحصون، وأقطع أصحابه أخبازهم «3» وكان الملك الناصر داود- بن الملك المعظم- قد نزل بالعقيبة «4» ، فجاءه الملك السعيد بن الملك العزيز عثمان، فبات عنده ليلة. ثم هرب إلى قلعة الصبيبة «5» - وكان بها أحد خدامه، وقد كاتبه- فوصل إليها وفتح له الباب، فدخلها واستقرّ بها.
وتسلّم الملك الناصر داود بعلبك من الحميدى، وتسلم بصرى وصرخد. ثم قبض عليه الملك الناصر يوسف بعد ذلك- فى ثانى شعبان من السنة. وذلك أن السلطان كان قد مرض ونزل بالمزّة «6» ، ونزل الناصر داود بالقصر بالقابون «7» ، فأرسل إليه الأمير ناصر الدين القيمرى ونظام الدين بن المولى، فأحضراه إلى المزّه، وضربت له خيمة واعتقل بها.(29/368)
واختلف فى سبب القبض عليه: فنقل أنه كان قد طلب من السلطان دستورا إلى بغداد، فأذن له وأعطاه أربعين ألف درهم، فانفقها فى الجند وعزم على قصد الديار المصرية. وقيل: إن الملك الصالح إسماعيل جاءه كتاب من الديار المصرية، فأوقف الأتابك شمس الدين لؤلؤ عليه. وأخبر القاصد أنه أحضر إلى الناصر داود كتابا، فسئل عن ذلك، فأنكره. فنقم عليه السلطان بسبب ذلك. وقيل: بل أشار عليهم الملك الصالح إسماعيل بالقبض عليه، وقال أنتم ما تعرفونه، نحن نعرفه. وأنتم على قصد الديار المصرية، والمصلحة أن لا نتركه خلفنا، ولا نستصحبه.
فقبض عليه، واعتقل بالمزّة أياما. ثم نقل فى قلعة حمص، واعتقل بها. وأسكن أهله ووالدته وأولاده فى خانقاه الصوفية، التى بناها شبل الدولة كافور الحسامى. ثم نقل إلى البويضا- وهى قرية قبلىّ دمشق، كانت تكون لعمّه الملك المعزّ مجير الدين يعقوب بن العادل. وتوفى بها، كما تقدم.(29/369)
ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد، وما جهزه صحبته من الهدايا والتقادم، وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه
ولما استولى الملك الناصر على دمشق، جهز الصاحب كمال الدين أنا حفص عمر بن أبى جراده- المعروف بابن العديم «1» إلى الديوان العزيز «2» .
قال تاج الدين على بن أنجب- المعروف بابن السّاعى- فى تاريخه:
كان وصول كمال الدين بن أبى جراده إلى بغداد، فى شعبان، سنة ثمان وأربعين فأكرم، وخرج إلى لقائه موكب الديوان العزيزى، مصدّرا بعارض الجيش، مجنّحا بخادمين من خدم الدار العزيزة. فالتقاه ظاهر البلد، ودخل معه. وقبّل صخرة باب النّوبى على العادة، وانكفا إلى حيث أنزل(29/370)
وحضر- فى اليوم الثالث من قدومه- دار الوزير، وأدى رسالته.
وعرض ما صحبه من تحف وهدايا. ومن جملة ذلك: دار خشب بديعة الصنعة، وخمسة وعشرون «1» جملا، وعشرة أرؤس من الدواب: منها أربع بغلات، وبقيتها من جياد الخيل، مجلّلة بالأطلس [وزرديات «2» وخوذ- عمل الفرنج- ومائة وخمسين طقشا «3» ، وثلاثمائة ترس لليد، وعشرين ثوبا سقلاط «4» . ومن الثياب: الأطلس] والرّوسى والخطائى «5» والمموّج، ومقاصير ونقايير وخياشى مذهبة، وحريرى ألف وخمسمائة قطعة، وصناديق بها أوانى ذهب وفضة مجوهرة، وثلاثمائة مجلّد بخطوط منسوبة، وأصول صحيحة الضّبط، ومصحف كريم بخط ابن الخازن، وكتب عليه من نظمه قوله:
«وعليكم نزل الكتاب وفيكم ... وإلى ربوعكم نحنّ ونرجع»(29/371)
قال: وكان قد جلس له الوزير فى الشّبّاك العالى، وجلس بين يديه على الصّفّة الطويلة، ظاهر الشباك، حاجبا باب النّوبى- وذكر جماعة.
قال: ثم أذن للرسول فى الدخول، وجلس إلى جانب حاجب باب النّوبى. وقرأ القرّاء، ثم نهض الرسول، وخطب خطبة بليغة من إنشائه قال ابن أنجب: وكنت حاضرا ومن خطّه الرائق نقلتها، وهذه نسختها:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
الحمد لله الذى أسبغ علينا جزيل النّعمة. ودفع عنا وبيل النّقمة.
ومنّ علينا بالخلفاء الراشدين، والأئمة المهديّين وجعلنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بأنوارهم خير أمّة.
أحمده على هباته السنيّة، وصلاته الهنيّة، ومننه التى لا تحصى بحدّ ونعمه التى لا تستقصى بعدّ- حمد من لزمه الحمد ووجب. وتمسك من الطريقة المثلى بأقوى سبب. وأحلّنا الله دار المقامة من فضله، لا يمسّنا فيها نصب.
وأشهد أن لا إله الله وحده، شهادة من أزال عنه الشكّ ونفى، وخلص منه الإيمان وصفا. وتبوّأ من منازل الفوز غرفا، واكتسب بطاعة إمامه فخرا وشرفا. وأشهد أن محمدا عبده المصطفى المجتبى، ورسوله(29/372)
الذى اقتعد ذروة الشّرف واحتبى. وتبّوأ على المقامات رتبا، وفضل العالمين أصلا ونسبا- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما هبّت شمال وصبا.
والصلاة والسلام على قسيم النّبىّ فى النّسب، وشريكه فى مدارج الفخار والرّتب. واحدىّ ماله من المناقب والحسب: خليفة الله فى أرضه.
القائم بسننه وفرضه. المستخرج من عنصر النبوة، المخصوص بفضيلتى.
العلم والأبوة:
إمام الزمان، المتهجّد بتلاوة القرآن. الذى هجر فى حفظ دين الله وسنه «1» . ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. ذى الفضل المبين، والحقّ اليقين. الإمام الأوّاه: المستعصم بالله، أمير المؤمنين «2» لا زالت جباه الملوك العظماء بثرى عتباته الشريفة موسومة. وأرزاق العباد بما جرى من أوامره اللطيفة مقسومة. والأقضية والأقدار جارية بما يوافق حكمه ومرسومة. والأقذية والأقذار بطول بقائه منفيّة محسومة:
ماذا يقول الذى يتلو مدائحه ... وقد أتتنا بها الآيات والسّور
إن قال، فالقول يفنى دون غايتها ... وإن أطال، ففى تطويله قصر
خليفة الله، لا تحصى مناقبكم ... إنّ البليغ بها فى حصرها حصر «3»(29/373)
أما الشفاعة عنكم فى المعاد لنا ... لذى الكبائر والزّلّات تدّخر
أما النّدى من نداكم جاد صيّبه «1» ... من بعد ما ضنّ، فاستسقى به عمر «2»
فالغيث فى هذه الدنيا لنا بكم ... والغوث نرجوه فى الأخرى وننتظر
وبعد: فإن الله- وله الحمد- جعل لنا أئمّة خيرة، راشدين بررة.
يهتدى بهداهم، ويجتدى «3» نداهم. دفع عنّا الشّبه والياس، ورفع بهم النّقمة والالتباس. وآخر نسل عمّ نبيّه العبّاس. من تمسك بهداهم اهتدى.
ومن حاد عن طريقهم حادّ «4» الله واعتدى. بحبّهم يدرك الأمل والسّول.
وطاعتهم مقرونة بطاعة الله والرسول. تعظيمهم واجب مفترض وبموالاتهم يدرك الفوز والغرض. أقرب الناس إلى الله من هو فى ولايتهم عريق، وأولاهم بالنجاة من هو فى بحر محبّتهم غريق.
ولما كان عبد الديوان العزيز: يوسف بن محمد بن غازى- المستعصمى «5» - ممّن تقمّص بلباس هذه الأوصاف، وتخصص باقتباس هذه الشّيم الشّراف. وتردّى بالتمسك فى هذه الحلّة الجميلة، وتبدّى بالتّنسّك بهذه الخلّة الجليلة. واغتدى متقلّبا فى صدقات الدّيوان. واغتذى(29/374)
من نعمه بلبان الإحسان، وورث ولاء هذا البيت النبوى الفاخر، كابرا عن كابر، وأصبح أوّلا فى العبوديّة، وإن أمسى زمنه الآخر. وكان أحقّ العبيد بأن يقبل- لسلفه سوالف الخدم. وأولاهم بأن يسبل عليه معاطف أذيال الجود والكرم- أحبّ أن تظهر عليه آثار هذه النّعمة، وأن يدرك بها الفضل فى الدنيا، كما يرجو فى الآخرة الرّحمة.
فارتاد من رعيّته من يقوم مقامه فى تقبيل الأرض، ويقف عنه هذا الموقف الجميل لأداء الفرض. ووجد هذا العبد المملوك- الماثل بين يدى مولانا: سلطان الوزراء وسيد الملوك- أقدمهم فى ولايات هذه الدولة النّبويّة المعظّمة أصلا، وأبلغهم فى موالاة المواقف المقدسة المكرمة نسلا، وأصلبهم، عند العجم «1» فى دعوى الرّقّ والولاء عودا. وأثبتهم فى التّعلّق بدولة الحقّ والانتماء عمودا. فندبه إلى المسير إلى دار السلام.
والنيابة عنه فى هذا المقام. والطّواف حول كعبة الرجاء والاستلام. وإنهاء ما تجدّد من الأحوال بمصر والشّام. وأن يضرع إلى عواطف الإفضال، ومشارع النّوال. ويخضع لمواقف الآمال، وشوارع الإقبال فى أن يحفظ له حقّ الآباء والجدود.
وقد وقف العبد المملوك عنه فى هذا الموقف الجليل، وحجّ عن فرضه إلى كعبة الجود والتّأميل. وحظى باستلم حجر ركنها وفاز بالتّقبيل. ويودّ مرسله لو فاز به أو استطاع إليه سبيل. فإنه قد حصل للعبد من القبول والثواب. ما أفاء على الأمل وزاد على الحساب. وتصدّق عليه من الديوان(29/375)
العزيز بصدقة، يبقى فخرها فى الأعقاب. ولا ينسخ حكمها مرّ السّنين والأحقاب. والله تعالى يسبغ ظلّ الديوان العزيز على كافّة أوليائه. ويمتّعهم بدوام اقتدار سلطانه وطول بقائه. ويوزعهم «1» شكر مولانا سلطان الوزراء وجزيل آلائه. ويتولّى حسن مجازاته عنهم، فإنهم عاجزون. والحمد لله رب العالمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما.
قد سيّر عبد الديوان العزيز: يوسف، إلى الخزائن المقدسة، والمواطن التى هى على التقوى مؤسّسة- خدمة على يد أقلّ مماليك الديوان وعبيده من طارف إنعام الديوان العميم وتليده، وسالف الإحسان القديم وجديده. وهو يضرع إلى العواطف الرحيمة، ويسأل من الصّدقات العميمة، أن ينعم عليه بقبولها، والتّقدّم بحملها إلى الخزائن الشريفة ووصولها، وأن يكسى بذلك فخرا لا يبلى جدّته مرّ الليالى والأيام. ولا يذهب نضرته كرّ السّنين والأعوام. والسلام.
فعند ذلك، أذن الوزير مؤيّد الدّين بن العلقمى فى إحضار الهدايا والمدّ، المقدّم ذكره، فأدخل شيئا فشيئا- والرسول قائم- إلى أن أحضر جميعه، وعرف قبوله. ثم انكفأ إلى منزله، واستحسن إيراده، واستجيد إنشاده وزيد فى احترامه، وبولغ فى إكرامه(29/376)
[الحرب بين الملك الناصر والملك المعز]
وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة- أيضا- كانت الحرب بين الملك الناصر، والملك المعز صاحب الديار المصرية.
وذلك أنه لما استقر له ملك دمشق، وأضافها إلى ما بيده، حسّن له أتابكه- شمس الدين لؤلؤ- والأمراء القيمريّة، أن يقصد الديار المصرية، وينتزعها من الملك المعزّ: عزّ الدين أيبك التّركمانى. وكان شمس الدين لؤلؤ- المذكور- يستقلّ عساكر الديار المصرية، ويقول: أنا آخذ الديار المصرية بمائتى قناع «1» !.
فسار بجيوشه إليها، فخرج إليها الملك المعزّ بالعساكر المصرية. والتقوا واقتتلوا بمنزلة الكراع «2» ، بالقرب من الخشبى «3» . فكان الظفر له أوّلا، وبلغت الهزيمة بالعسكر المصرى إلى القاهرة. ومنهم من فرّ إلى جهة الصّعيد وذلك فى يوم الخميس، العاشر من ذى القعدة من السنة. واتصل خبر الهزيمة بمن بقلعة الجبل، فخطب للملك الناصر بها- فى يوم الجمعة الحادى عشر من الشهر.(29/377)
ولما حصلت هذه الهزيمة على العسكر المصرى، ثبت الملك المعز فى نحو ثلاثمائة فارس أبطال أصحابه. وحمل بهم على الصّناجق الناصرية، رجاء أن يكون الملك الناصر تحتها، فيظفر به. وكان الملك الناصر قد احتاط لنفسه واعتزل المعركة، وتحيّز إلى فئة. فرجع إلى الشام- وصحبه نوفل الزّبيدى، وعلى السّعدى. وكان من انهزام عساكره وتمزيق جيوشه، وقتل أتابكه، ما نذكره فى أخبار الملك المعز- جريا على القاعدة.
وكان الأتابك شمس الدين لؤلؤ قد أسر، فأراد الملك المعز إبقاءه، وأشار عليه بذلك الأمير حسام الدين بن أبى على، وقال: لا تقتله، فإنك تأخذ به الشام. فقال الأمير فارس الدين أقطاى: هذا الذى يقول: إنه يأخذ مصر بمائتى قناع! فضربوا عنقه!. وكان- رحمه الله تعالى- أرمنىّ الجنس، صالحا عابدا، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقتل وقد ناف على ستين سنة.
ولما حصلت هذه الوقعة، تأكّدت أسباب الوحشة بين الملكين:
الناصر والمعزّ، وثارت الفتن بينهما. وتجرّدت الجيوش من كل من الطائفتين مقابلة الأخرى، إلى أن قدم الشيخ نجم الدين البادرائى رسول الخليفة، فأصلح بين الملكين. ووقع الاتفاق على أن يأخذ الملك المعز من الملك الناصر القدس وغزّة، وجميع البلاد الساحلية، فتسلّم ذلك. وحلف كلّ من الملكين للآخر. ثم استعاد الملك الناصر ذلك من الملك المعزّ، لمّا التحق بها لأمراء البحريّة عند هربهم من الديار المصرية، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى- على ما نذكر ذلك- إن شاء الله تعالى. فلنذكر خلاف ذلك من أخباره.(29/378)
ذكر اتصال السلطان الملك الناصر بابنة السلطان علاء الدين كيقباذ
وفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وصلت الخاتون الكبرى، ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ السّلجقى «1» - صاحب الروم «2» ، وأمّها ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب- صحبة الشريف عز الدين المرتضى- وكان السلطان قد عقد نكاحها قبل ذلك، فزفّت إليه الآن. «3» ووصلت إلى دمشق، واحتفل لها إحتفالا عظيما، وتلقاها القضاة والأكابر، وقدّموا لها التّقادم «4» الكثيرة، وتجمّل الملك الناصر لقدومها تجمّلا، «5» لم ير الناس مثله.
وفى هذه السنة، توفى الملك القاهر: نصرة الدين بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وهو عمّ والد الملك الناصر. وكانت وفاته بحلب- رحمه الله تعالى.(29/379)
وفى سنة أربع وخمسين وستمائة:
فتحت المدرسة الناصرية، التى عمرها الملك الناصر داخل باب الفراديس «1» بدمشق، وذكر بها الدرس بحضرة السلطان.
وفيها شرع الملك الناصر فى عمارة تربته ورباطه، غربىّ قاسيون.
وفيها وصل الشيخ نجم الدين البادرائى «2» رسولا من جهة الخليفة، إلى دمشق. فرتّب له فى كل يوم مائة دينار، والإقامات الوافرة. وبنيت له المدرسة البادرائيّة بدمشق- وكانت قبل ذلك الدار المعروفة بأسامه.
وفيها- أيضا- كانت وفاة الملك المعزّ مجير الدين يعقوب، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب. ودفن بتربة والده بالمدرسة العادلية بدمشق، وحضر السلطان جنازته وغلق البلد. وخلّف ولدين وهما: شهاب الدين غازى المعروف بالأسود، وسيف الدين أبو بكر، وابنة- رحمه الله.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام، العالم الواعظ، شمس الدين أبى المظفّر يوسف بن قزغلى: سبط الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى.
كان والده قزغلى تركيّا من عتقاء الوزير عون الدين بن هبيرة «3» ، زوجه أبو الفرج بن الجوزى ابنته، فولدت شمس الدين هذا، فنسب إلى جدّه، لا إلى أبيه.(29/380)
وكانت وفاته بدمشق فى ليلة الثلاثاء، حادى عشر ذى الحجة، بمنزله بقاسيون، ودفن هناك. ومولده فى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ببغداد.
وشهد السلطان جنازته. وكان كريما على الملوك الأيوبية، تقدّم من أخباره ما يدلّ على ذلك. وله مصنّفات منها: «مرآة الزّمان» - رحمه الله تعالى.
وفى سنة ست وخمسين وستمائة:
كانت وفاة الأمير سيف الدين: على بن عمر بن قزل التّركمانى، الياروقى، المصرى المولد والمنشأ، الدّمشقى الوفاة، المعروف بالمشدّ «1» .
ودفن بقاسيون. ومولده فى شوال سنة اثنتين وستمائة. وكان فاضلا أديبا. وله ديوان شعر مشهور- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الشيخ محيى الدين: محمد بن على بن محمد بن أحمد، الطائى الحاتمى، المعروف بابن العربى، بدمشق- فى ثانى جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون. ومولده فى سابع عشر رمضان، سنة ثمان عشرة وستمائة.
ذكر سياقة أخبار الملك الناصر ومراسلته هولاكو، وغير ذلك من أحواله- إلى أن قتل- رحمه الله
قالوا: ولما اتّصل بالملك الناصر صلاح الدين ما ذكرناه، من أخبار هولاكو «2» ، واستيلائه على الممالك، وتقدّم جيوشه، ارتاع لذلك وسقط(29/381)
فى يده. وكان قبل ذلك قد تغافل عن مراسلة هولاكو منذ وصل إلى العراق، فاستدرك الفارط، وجهّز ولده الملك العزيز إلى خدمته، وبعث معه كتابا إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، والتمس منه أن يحسن السّفارة بينه وبين هولاكو، ويعتذر عنه. وكتب علاء الدين بن يعيش- كاتب الملك الناصر- كتابا إلى صاحب الموصل، يذكر أنه سيّر ولده إلى خدمة هولاكو، واستشهد فيه بقول الشاعر:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود..
فقال الملك الناصر: لو استشهدت ببيتى أبى فراس كان أنسب.
فقال: وما هما؟ قال: قوله:
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفى الشّدّة الصّمّاء تفنى الذّخائر
وقد يقطع العضو النّفيس لغيره ... ويدفع بالأمر الكبير الكبائر
فأصلح الكاتب الكتاب.
وتوجه الملك العزيز بالهدايا النفيسة والتّحف، و؟؟؟ الملك الناصر زين الدين الحافظى والأمير سيف الدين الجاكى، وجماعة من الحجّاب- وذلك فى سنة خمس وخمسين وستمائة.
فلما وصلوا إلى هولاكو وقدّموا التقادم، سأل عن سبب تأخر الملك الناصر عن خدمته. فاعتذروا أن الفرنج بجوار بلاده، وأنه خشى إن فارقها أن يستولى عدوّه عليها، وأنه سيّر ولده ينوب عنه. فأظهر هولاكو قبول العذر- وباطنه بخلاف ذلك- وأعادهم. وكان وصولهم إلى الملك الناصر فى سنة سبع وخمسين وستمائة.(29/382)
فعرّف الزين الحافظى الملك الناصر أن هولاكو أقبل عليهم، وأحسن إليهم. فقال بعض الأمراء، الذين كانوا فى صحبة الملك العزيز: ليس الأمر كذلك، وإنما الزّين الحافظىّ كان يتردد إلى هولاكو ويجتمع به سرا، وأطمعه فى البلاد. وكان الأمر كذلك.
وفى خلال ذلك، وصل الأمراء الشّهرزوريّة «1» إلى الشام، عند انهزامهم من هولاكو- وكانوا نحو ثلاثة آلاف فارس. فأشار الأمراء القيمرية باستخدامهم، ليكثر بهم جمعه ويستظهر بهم على أعدائه. فاستخدمهم، وأنعم عليهم وأحسن إليهم، ووصلهم بالأموال، وهم لا يزدادون إلا طلبا.
ثم بلغه عنهم أنهم مالوا إلى الملك المغيث صاحب الكرك، فزاد فى الإحسان إليهم، فلم يفد ذلك فيهم. ثم فارقوه، وقصدوا الملك المغيث واتصلوا به. فاجتمع عنده البحريّة والشّهرزوريّة، فقويت نفسه وطمع فى أخذ دمشق، وكاتب جماعة من الأمراء الناصرية وكاتبوه.
فاتصل ذلك بالملك الناصر، فأنعم على أمرائه وطيّب خواطرهم، وجدّد عليهم الأيمان. فامتنع جماعة من الأمراء العزيزية- مماليك والده- من الحلف، فزادهم وبالغ فى الإحسان إليهم، ولم يكلّفهم اليمين.(29/383)
ثم بلغه أن الملك المغيث خرج من الكرك لقصد دمشق. فخرج بعساكره فى أوائل سنة سبع وخمسين، ونزل ببركة زيزا «1» ، وخيّم بها نحوا من ستة أشهر. ثم وقع الصلح بين الملكين. وحصل الاتفاق على أن يسلم الملك المغيث إليه البحريّة، فسلّم إليه من نذكره منهم.
وعاد إلى دمشق. فلما استقر بها، بلغه أن هولاكو وصل إلى حرّان، ونازلها بعساكره. فاستشار الأمراء فيما يفعله. فأشاروا عليه أن يخرج بالعسكر الشامى إلى ظاهر دمشق، وصمموا على قتال هولاكو. فخرج بعسكره وخيموا بظاهر برزة «2» . فصار نجم الدين الحاجب والزّين الحافظى- وجماعة معهما- يذكرون شدة عزم هولاكو، ويعظّمون أمره، ويقولون: من الذى يلتقى مائتى ألف فارس؟! فضعفت نفسه عن ملاقاته.
ثم بلغه أن هولاكو ملك قلعة حرّان، وأنه عزم على عبور الفرات إلى جهة الشام، ومنازلة حلب. فازداد ضعفا إلى ضعفه. فاجتمعت آراء الأمراء والعساكر أن يسيّروا نساءهم وأولادهم إلى الديار المصرية، ويقيمون ثم فى خدمة الملك الناصر جرائد، ففعلوا ذلك. وبعث الملك الناصر زوجته: ابنة السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو السّلجقى صاحب الروم- وكان قد تزوج بها فى سنة تسع وأربعين وستمائة- إلى الديار المصرية، وبعث معها ولده وأمواله وذخائره. وكذلك فعل جميع أمرائه وأجناده،(29/384)
وصار الجند يتوجهون بنسائهم على أنهم يوصلونهم ويرجعون، فمنهم من يعود، ومنهم من لا يعود. فتفلّلت العساكر وتفرقت الجنود، وضعفت النفوس. ولم يبق مع الملك الناصر إلا جماعة من أمرائه جرائد «1» .
ونازل هولاكو مدينة حلب فى المحرم، سنة ثمان وخمسين وستمائة.
وفتحها عنوة. وسفك فيها من الدماء ما لم يسفك مثله، ببلاد العجم! وأسر التتار من النساء والصبيان ما يزيد على مائة ألف.
ثم فتح قلعة حلب، فى حادى عشر ربيع الأول من السنة، وأخذ جميع ما فيها. وأسر أولاد الملك الناصر وأمهاتهم. وخرج إليه الملك المعظم تورانشاه بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وكان شيخا كبيرا- فلم يتعرض هولاكو إليه، وأمّنه على نفسه. ومات الملك المعظم بعد أيام يسيرة. واستمرّ هولاكو بالوزير «2» المؤيد بن القفطى، على حاله.
فورد الخبر على الملك الناصر بأخذ حلب، وهو نازل على برزة.
فاستشار الأمراء، فأشاروا عليه أن يتأخر إلى غزّة، وأن يكاتب الملك المظفر قطز ويستدعيه بعساكر الديار المصرية، ليجتمع الكل على لقاء هولاكو، ودفعه عن البلاد.(29/385)
فعمل برأيهم. ورحلوا يوم الجمعة بعد الصلاة، منتصف صفر، سنة ثمان وخمسين وستمائة. فانقضت مملكة الملك الناصر فى ذلك اليوم.
وكانت مدة ملكه بحلب ثلاثا وعشرين سنة، وسبعة أشهر، ومدة ملكه منها بدمشق عشر سنين، إلا خمسين يوما. ونزل الملك الناصر بمن معه على غزة، وأقام بها.
ولما توجه الملك الناصر، دخل الزّين الحافظى «1» إلى دمشق وجمع أكابرها، واتفقوا على تسليم دمشق لنوّاب هولاكو، وأن يحقنوا دماء أهلها.
فتسلمها فخر الدين المردغاوى وابن صاحب أرزن والشريف على- وكان هؤلاء رسل هولاكو إلى الملك الناصر- وكانوا عنده بظاهر دمشق: فلما دخلوا إليها وتسلموا قلعتها، كتبوا بذلك إلى هولاكو. فسير إليها المان التترى وعلاء الدين الكازى العجمى، نوّابا، وأمرهما هولاكو أن لا يخرجا عن إشارة الزّين الحافظى. وأوصاهما بالإحسان إلى أهل دمشق.
ثم بلغ هولاكو وفاة أخيه منكوقان «2» ، فعاد من حلب- كما قدمناه فى أخباره.(29/386)
وبعث كتبغانوين «1» فى جيش كثيف إلى الشام فوصل كتبغا إلى دمشق، وأقام بها أياما، ورحل عنها إلى مرج برغوث «2» . ثم وصل الملك الأشرف صاحب حمص من عند هولاكو- وكان قد توجه إلى خدمته وهو بحلب- فعاد، وبيده مرسومة، أن يكون نائب المملكة بدمشق وحلب، وجميع البلاد الشامية.
فاجتمع بكتبغا فى مرج برغوث. فبعث إلى الزّين الحافظى ونواب دمشق بالاتفاق مع الملك الأشرف، على مصالح البلاد. ثم عصى بعد ذلك محمد بن قرمجاه، وجمال الدين بن الصّيرفى- نقيب قلعة دمشق- وأغلقوا أبواب القلعة. فحصرها كتبغا ومن معه وقاتل قتالا شديدا، ثم تسلمها بالأمان. فكتب الزين الحافظى بذلك إلى هولاكو، فعاد جوابه بقتل محمد ابن قرمجاه وجمال الدين بن الصّيرفى. فقال كتبغا للزين الحافظى: أنت كتبت إلى هولاكو بسببهم، فاقتلهم أنت. فقتلهما الزين الحافظى صبرا، بيده وسيفه، بمرج برغوث.
وبعث كتبغا نوين جيشا إلى نابلس، وقدم عليهم كشلوخان، فمضى إليها، وبها فخر الدين إبراهيم بن أبى ذكرى، نائب السلطنة بها. فركب(29/387)
ومعه الأمير على بن الشجاع الأكتع، وفخر الدين درباس المصرى وجماعة، فصادفهم كشلوخان فى زيتون نابلس، فقتلهم بأجمعهم.
قال: ولما اتصل بالملك الناصر ومن معه من الأمراء وصول كشلوخان إلى نابلس وما فعله، حملهم الخوف على دخول الرّمل «1» فبلغ الملك المظفّر دخولهم، فتوهم أن ذلك مكيدة لتملك الديار المصرية. فكتب إلى الأمراء الناصرية والشّهرزوريّة، يعدهم بالإكرام والإحسان إن وصلوا إليه. ففارقوا الملك الناصر ومضوا إلى المظفر، أوّلا فأوّلا. ولم يبق مع الملك الناصر إلا الملك الصالح نور الدين إسماعيل بن صاحب حمص، والأمير ناصر الدين القيمرى، وأخوه شهاب الدين، وابن عمه شهاب الدين يوسف بن حسام الدين. فوصلوا إلى قطيا «2» .
ثم خشى عاقبة دخوله إلى الديار المصرية، فعطف من قطيا، وسلك البرّيّة إلى الشّوبك بهم. فوصلوا إليها، ولم يبق لكل واحد منهم الا الفرس الذى تحته، وكل منهم فى نفرين أو ثلاثة، وقد نهبت خزائنهم وأموالهم وذخائرهم وبيوتات الملك الناصر.
ثم توجه الملك الناصر بمن معه إلى الكرك. وأرسل إليه الملك المغيث ما يحتاج إليه من الخيل والأقمشة والبيوتات وغير ذلك، وعرض عليه المقام عنده، والانفراد بالشّوبك. وقصد مكافاته عن سالف إحسانه، فإنه كان(29/388)
قد أحسن إلى ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان، لما توجه إليه إلى دمشق- على ما نذكره. فلم يجب الملك الناصر إلى ذلك، ومضى إلى البلقاء وأقام بأطراف البلاد.
وسير حسين الكردى الطّبردار إلى كتبغا نوين، يلتمس أمانه. وقيل:
بل حسين الكردى، لما شعر بالملك الناصر، توجه إلى كتبغا وأعلمه بمكانه.
فركب كتبغا بنفسه فى جيش كثيف إلى الملك الناصر وقبض عليه، وعلى من معه. فاعتقل الأمراء القيمرية بدمشق. وكان الملك الظاهر- أخو الناصر- نازلا على قلعة صرخد بحربها، بأمر هولاكو. فأمر كتبغا بطلبه، وقبض عليه. وجاء إلى قلعة عجلون وحاصرها- والملك الناصر معه- وقدّمه إلى القلعة، فأمر من بها أن يسلّموها، فسلموها بعد امتناع.
ثم جهز الملك الناصر وأخاه الملك الظاهر، والملك الصالح بن الملك الأشرف، صاحب حمص، إلى هولاكو- وصحبتهم الملك العزيز فخر الدين عثمان، بن الملك المغيث صاحب الكرك. فأخبرنى المولى الملك العزيز المشار إليه- مدّ الله فى عمره- أنهم توجهوا جميعا إلى هولاكو، واجتمعوا به بتوريز «1» . فأما الملك العزيز فأعاده بعد يومين أو ثلاثة، فوصل إلى دمشق- على ما نذكره. وأما الملك الناصر وابنه الملك العزيز، والملك الظاهر، وابن صاحب حمص- فإن هولاكو أخّرهم عنده.(29/389)
قال: وبلغنى أنه سأله عن أحوال الديار المصرية وعساكرها، فهوّن أمرها عنده، والتزم له بفتحها، وحمل أموالها وأموال الشام إليه. ولم يزل يتلطف إلى أن أمر بعوده.
فلما رجع من عنده، لقيه من سلم من الجيش الذين كانوا مع كتبغا نوين، لمّا كسرهم الملك المظفر قطز. فقبضوا عليه وأعادوه معهم إلى هولاكو. وقالوا له: ما كان على عسكرك أضرّ من مماليك هذا، ومماليك أبيه. وهم الذين قاتلونا وقتلوا كتبغا نوين، وهزموا عساكرك. فأمر بضرب عنقه، وعنق ولده الملك العزيز، وأخيه الملك الظاهر، وابن صاحب حمص- وذلك فى سنة ثمان وخمسين وستمائة.
واجتمع الناس لعزائه بجامع دمشق فى سابع جمادى الأولى، سنة تسع وخمسين وستمائة. ومولده بقلعة حلب فى يوم الأربعاء تاسع شهر رمضان، سنة سبع وعشرين وستمائة.
وكان- رحمه الله تعالى- ملكا حليما كريما، لم يكن لأحد من الملوك قبله- فيما سمعنا- ما كان له من التّجمّل. فإنه كان يذبح فى مطبخه فى كل يوم، أربعمائة رأس من الغنم الكبار- خارجا عن الخراف الرّضّع والأجدية والدّجاج والحمام. وكان الغلمان يبيعون فضلات الطعام بظاهر قلعة دمشق، بأبخس الأثمان، حتى استغنى أهل دمشق فى أيامه عن الطبخ فى بيوتهم.
حتى حكى عن علاء الدين على بن نصر الله، قال: جاء السلطان إلى دارى بغتة، ومعه جماعة من أصحابه. فمددت له فى الوقت سماطا، فيه من(29/390)
الأطعمة الفاخرة والدجاج المحشو بالسكر والحلويات شيئا كثيرا. فعجب من ذلك، وقال: فى أى وقت تهيّا لك هذا كلّه؟ فقلت: والله هذا كله من نعمتك وسماطك، ما صنعت منه شيئا، وإنما اشتريته من عند باب القلعة.
وحكى مباشرو البيوت بدمشق أن نفقة مطابخه كانت فى كل يوم تزيد على عشرين ألف درهم. وكان إذا مات أحد من أرباب الوظائف فى دولته، وله ولد فيه أهليّة، فوّض ما كان بيده من المناصب لولده. فإن كان صغيرا استناب عنه إلى أن يصلح. ومن مات من أرباب الرواتب والصدقات، أقرّ ما كان باسمه باسم أولاده- رحمه الله تعالى.
وكان له شعر رقيق جيد. فمن شعره قوله، يتشوق إلى حلب:
سقى حلب الشهباء فى كل لزبة «1» ... سحابة غيث نوءها ليس يقلع
فتلك ربوعى، لا العقييق ولا الغضا ... وتلك ديارى، لا زرود ولعلع «2»
إلا أنه كان ضعيف الرأى، شغلته الملاذّ والشّعر والغزل وتلحين الأقوال عن النظر فى أمر دولته. فآل أمره إلى ما ذكرناه.
هذا ما كان من أمر الملك الناصر- على سبيل الاختصار.
وبقى بعد مقتله عند التتار صغار أولاده، الذين أسروا من حلب، زمنا طويلا بعد أن هلك هولاكو. ومات بعضهم هناك. وبقى منهم ولده الصغير(29/391)
نجم الدين أيوب، فحضر إلى الشام، ثم إلى الديار المصرية، ورتّب له راتب من جهة الملوك- أسوة أولاد الملوك الأيوبية. وهو باق إلى وقتنا هذا، مقيم بالقاهرة المعزّيّة- حماها الله تعالى.
وأما الملك المغيث فتح الدين عمر ابن السلطان الملك العادل، بن السلطان الملك الكامل، بن السلطان الملك العادل بن أيوب- صاحب الكرك والشّوبك
فإنه لما قبض الأمراء على والده- كما قدّمنا ذكر ذلك- وملك عمّه الملك الصالح نجم الدين أيوب الديار المصرية، مشى فى خدمته مدة. ثم رأى منه نجابة ونبلا وشهامة، فأمر باعتقاله فى الدار القطبيّة «1» عند عمّة السلطان وعمة والد الملك المغيث- وهى ابنة السلطان الملك العادل، أخت الملك الكامل- رحمهم الله تعالى. فلم يزل عندها، إلى أن مات الملك الصالح وملك ولده الملك المعظم تورانشاه. فأمر بإرساله إلى قلعة الشّوبك، واعتقاله بها. وندب لذلك الأمير عز الدين الحلّى، والأمير سيف الدين بلبان النّجاحى، فتوجها به إلى الشّوبك، واعتقلاه بها، وعادا إلى الديار المصرية.(29/392)
فما كان بأسرع من أن قتل الملك المعظم تورانشاه- كما ذكرنا- فلما اتصل خير مقتله بابن رسول، وشهاب الدين عمر بن صعلوك- وكانا متولّيى «1» أمر الشّوبك- نهضا وأخرجا الملك المغيث من الاعتقال، وملّكاه وحلفا له، وحلّفا من عندهما- وكانوا نحو عشرة- وحلّفاه بالوفاء لهم.
فأرسل إليهما بدر الدين بدر الصّوابى الخادم- النائب بقلعة الكرك- وأنكر عليهما إقدامهما على هذا الأمر بغير إذنه. فأرسلا إليه يقولان: بك فعلنا ذلك. فأعاد عليهما الجواب: إذا كان كذلك، فانقلاه إلى عندى فحلف للملك المغيث وحلف الملك المغيث له، وتوثّق كلّ منهما من صاحبه بأكيد الأيمان. فانتقل الملك المغيث من الشّوبك إلى الكرك- فى سنة تسع وأربعين وستمائة. وتسلّم ما بها من الخزائن، التى بقيت مما نقل إليها الملك الصالح نجم الدين أيوب- بعد ما أخذه الملك المعظّم منها فوجد بها تسعمائة ألف وتسعين ألف دينار عينا. واستمرّ بالكرك والشّوبك، ورزق بها أولاده.
وراسل الملك الناصر صلاح الدين يوسف- صاحب دمشق وحلب- وأرسل إليه والده الملك العزيز: فخر الدين أبا المظفر عثمان، برسالة.
فأكرمه الملك الناصر وأبرّه وقرّبه، وأجلسه فى مجلسه بالقرب منه ورتّب له فى كل يوم ألف درهم، وأربعمائة جراية وأربعمائة عليقة، وغير ذلك، ونقّله فى مستنزهات دمشق، وأقام عنده نحو ثلاثة شهور. ثم ركّبه الملك الناصر بشعار السّلطنة، وأعاده إلى أبيه. وقد عامله بنهاية البر وغاية الإكرام.(29/393)
وكان للملك المغيث أخبار، يأتى ذكرها فى أثناء دولة الترك.
وبعث الملك المغيث ولده العزيز الى هولاكو، يلتمس له أمانا. وجهز معه شهاب الدين بن صعلوك والنجيب خزاعة- وهما أعيان أصحابه.
فأخبرنى الملك العزيز أنه اجتمع بهولاكو بتوريز، فأمره بالجلوس، مع صغر سنه فى ذلك الوقت. فنظرت اليه الخاتون- زوجة هولاكو- وسألته بترجمان عن أمّه، وهل هى باقية أم لا؟ فقال: هى باقية عند أبى. فقالت للترجمان: قال له: تحبّ أن أردّك الى أبيك وأمك، أو تقيم عندى؟
قال: فأعدت عليها: أنه لا أمر لى فى هذا، وإنما أبى أرسلنى إلى القان»
يسأله الأمان لنفسه ولمن عنده، وأنا تحت أوامره. فنهضت قائمة وكلّمت هولاكو، وشفعت. فأشار إليها، فقالت: قد أعطاك القان أمانا لأبيك، ودستورا «2» بالعود!.
قال: فضربت له جوكا، ورجعت من عنده. وأرسل معى من التتار من يوصلنى إلى الكرك، ويكون بها شحنه «3» . قال: فلما وصلت إلى دمشق نزلت بدار العقيقى، ونزل التتار بمدرسة العادلية. وكان كتبغا نوين قد توجه للقاء العساكر المصرية. فكانت الكسرة على التتار- على ما نذكره.
قال: فاتصل الخبر بنا، فتحصّنا بدار العقيقى «4» . فلما كان فى نصف الليل رجع التتار هاربين. فقصدوا أخذى معهم، فمانع عنى من(29/394)
معى، وأعجلهم الهرب عن حصار الدار، فتركونى. قال: ولما جاء الأمير جمال الدين المحمّدى إلى دمشق- قبل وصول الملك المظفر قطز إليها- خرجت إليه وتلقيته، وسلمت عليه. فسأل عنى، فأخبر أننى ابن الملك المغيث، فعوّقنى إلى أن قدم السلطان الملك المظفر قطز. فأمر بإرسالى إلى قلعة الجبل.
فنقل إليها. فكان بها معوّقا فى برج، عند الأمير سيف الدين بلبان النّجاحى. إلى أن أعاده الملك الظاهر بيبرس إلى أبيه الملك المغيث- على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى أخباره.
ولم يزل الملك المغيث بالكرك والشّوبك، إلى أن استولى الملك الظاهر على الشّوبك، لأربع بقين من ذى الحجة، سنة تسع وخمسين، عند ما جرّد إليها الأمير بدر الدين الأيدمرى. وبقى بيد الملك المغيث الكرك وأعمالها.
ثم حصل الاتفاق بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس والملك المغيث، وحلف السلطان الملك الظاهر له يمينا مستوفاة، وأشهد عليه بما تضمنه مكتوب الحلف.
وقد شاهدت المكتوب. وهو بخط القاضى فخر الدين: إبراهيم بن لقمان- صاحب ديوان الإنشاء. وما فيه من اسم السلطان بخطّ السلطان، ومثاله: «بيبرس» .
ونسخة هذه اليمين- على ما شاهدته ونقلت منه:(29/395)
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
أقول وأنا بيبرس. والله والله والله، وتا لله وتالله وتالله، وبالله وبالله وبالله، العظيم الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع، عالم الغيب والشهادة والسّر والعلانية، القائم على كل نفس بما كسبت، والمجازى لها بما احتسبت. وجلال الله وعظمة الله وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا- إننى من وقتى هذا وساعتى هذه، وما مدّ الله فى عمرى، قد أخلصت نيّتى وأصفيت سريرتى، وأجملت طويّتى، فى موافقة المولى: الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الشهيد الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن محمد، بن أبى بكر بن أيوب، ومصافاته ومودّته.
لا أضمر له سوءا ولا غدرا، ولا خديعة ولا مكرا لا فى نفسه ولا فى ماله، ولا فى أولاده، ولا فى مملكته ولا فى قلعته، ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه، ولا فى أجناده، ولا فى غلمانه، ولا فى مماليكه، ولا فى ألزامه ولا فى عربانه، ولا فى رعيّته، ولا فيما يتعلّق به وينسب إليه، من قليل وكثير.(29/396)
وإننى والله لا أعارضه ولا أشاققه، ولا آمر من يعارضه فى بلاده الجارية فى مملكته، وهى: قلعة الكرك المحروسة، وربضها وسائر عملها، والغور المعروف بغور زغر «1» - بكماله، وحدّ ذلك من القبلة الحسا، ومن الشمال حد الموجب نصف القنطرة والمسيل، ومن الشرق الثنيتين، ومن الغرب السبخة المعروفة بأبى ضابط، ومنتهى حد الغور المذكور من القبلة الكثيب الرمل المعروف بالدبة، ومن الشمال الماء النازل من الموجب إلى البحيرة.
وإننى والله لا آمر ولا أشير، ولا أكتب، ولا آذن بصريح ولا بكناية، ولا بقول لأحد، فى التعرض لبلاده المذكورة، ولا السعى فيها بفساد. وإننى والله متى حضر المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور إلى خدمتى، عند حلولى بالشام المحروس، لمنازلة عدوّ يطرق بلادى، أو لعدو يطرق بلاده، لا أتعرض إليه بأذيّة، ولا أقصده بسوء فى نفسه ولا فى ماله ولا فى بلاده، ولا فى أمرائه ولا فى أجناده، ولا فى عربانه ولا فى مماليكه، ولا فى رعيته، ولا فيمن يصل صحبته من أصحابه.(29/397)
وإننى والله لا أطالبه، ولا أطالب أحدا من أمرائه وأجناده، وأصحابه ومماليكه ولا من غلمانه، ولا من رعيته ولا من عربانه، ولا أحدا من سائر أصحابه، بسبب متقدّم إلى تاريخ هذه اليمين المباركة. ولا أمكّن أحدا من أمراء دولتى، ولا من جندها، ولا من سائر مماليكى، وأصحابى من الجماعة البحريّة وغيرهم، من مطالبته ولا مطالبة أحد من أمرائه وأجناده ومماليكه ورعيته، وسائر أصحابه، أهل الكرك وغيرهم، بسبب متقدّم عن تاريخ هذه اليمين المباركة- صامت كان أو غير صامت- من قماش وأثاث، وغير ذلك.
وإننى والله، لا أستخدم أحدا من أمراء المولى الملك المغيث: فتح الدين عمر المذكور، ولا من أجناده ولا من أجناد أمرائه، ولا من مماليكه ولا من مماليك أمرائه، ولا من عربانه ولا من غلمانه، الا من انفصل عنه بدستور. ومتى تسحّب أحد من أمرائه أو أجناده، أو أجناد أمرائه أو مماليكه، أو مماليك أمرائه أو غلمانه أو عربه، أو غير ذلك من أصحابه وفلاحى بلاده، وحضر إلى بلادى أو الى مملكة من ممالكى، والتمس عوده اليه- تقدّمت باعادته اليه، بجهدى وطاقتى.
وإننى والله متى قصد بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور عدوّ- مسلما كان أو كافرا- أعنته على دفعه وزجره وردعه، جهدى وطاقتى. وإننى والله، متى تعرض أحد من عرب بلادى الى بلاد المولى الملك المغيث فتح الدين عمر المذكور، أو الى جهة من جهات مملكته، أو الى أحد من رعيته أو أحد من سائر أصحابه، أو سعى بفساد فيما يتعلق بمملكته، واطّلعت عليه- تقدّمت بزجره وردعه عن ذلك. وفعلت فى أمره ما تقتضيه السّياسة.(29/398)
وإننى والله- أفى للمولى الملك المغيث: فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل محمد، بن أبى بكر بن أيوب- بهذه اليمين من أولها إلى آخرها، ما دام وافيا لى باليمين التى يحلّفه بها نائبى، لا أنقضها ولا شيئا منها، ولا أستثنى فيها ولا فى شىء منها، ولا أستفتى فيها ولا فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها.
ومتى نقضتها أو نقضتها فيها أو فى شىء منها، طلبا لنقضها أو نقض شىء منها، فكلّ ما أملكه من صامت وناطق- صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين. وكلّ مملوك أو أمة فى ملكى، أو أتملكهما فيما بقى من عمرى، حرّ من أحرار المسلمين. وعلىّ أن أفكّ عشرة آلاف رقبة مؤمنة من أيدى الكفار، إن خالفت هذه اليمين أو شيئا منها.
وهذه اليمين يمينى، وأنا بيبرس. والنّيّة فيها بأسرها نيّة المولى الملك المغيث فتح الدين عمر، بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن أبى بكر، بن أيوب، ونيّة مستحلفى له بها- أشهد الله علىّ بذلك، وكفى به شهيدا. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.
وشهد على السلطان الملك الظاهر، بهذه اليمين، من نذكرهم وهم:
الأتابك فارس الدين أقطاى، وأقوش النّجيبى، وقلاوون الألفى، وعز الدين أزدمر «1» ، وأيدمر الحلّى، وبيسوى الشّمسى، وبيليك(29/399)
الطرندار، وأيبك الأفرم، وكاتب اليمين إبراهيم بن لقمان بن أحمد. وهى مؤرّخة فى الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة. وشهد على السلطان اثنان ممن حضر من الكرك، وهما: أمجد الكركى- وهو كاتب الملك المغيث- وكان قد أمّره، وآخر لم أحقّق اسمه عند قراءته.
وبآخر رسم خط الشهود خط المستحلف. وصورته:
أحلفت مولانا السلطان الكبير، العالم المجاهد، المرابط المؤيّد المنصور، الملك الظاهر أبا الفتح بيبرس بن عبد الله، الصالحى، أعزّ الله سلطانه- بهذه اليمين المباركة من أولها إلى آخرها، على الوجه المشروح فيها، تاريخ الثالث والعشرين من المحرم، سنة ستين وستمائة- أحسن الله تقضّيها. وكتبه خزاعة بن عبد الرّزّاق بن على- حامدا لله تعالى ومصلّيا.
وجهز السلطان الملك الظاهر للملك المغيث ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان- وكان معتقلا بالقلعة من الأيام المظفّريّة، كما قدمنا- فأطلقه السلطان الآن، وأقطعه ذبيان «1» بمنشور، ثم سيّر إليه السلطان بعد ذلك صنجقا وشعار السلطنة. فقبّل الملك المغيث عقب الصّنجق، وركب بشعار السلطنة.
وظن الملك المغيث أن الصلح قد انتظم بمقتضى هذه اليمين، فركن إلى ذلك. ثم جهّز والدته فى سنة إحدى وستين وستمائة إلى الملك الظاهر.
فوجدها السلطان بغزّة، فأنعم عليها إنعاما كبيرا، وعلى من معها. وأجرى معها الحديث فى وصول الملك المغيث إليه، لينتظم الصلح شفاها، وتتأكد(29/400)
أسبابه. وأعاد عليها العطاء ثانيا، وجهّزها إلى الكرك. وجهز فى خدمتها الأمير شرف الدين الجاكى المهمندار «1» ، لتجهيز الإقامات للملك المغيث.
فاغترّ الملك المغيث بذلك. واستخلف ابنه الملك العزيز فخر الدين بالكرك، واستحلف له من تركه بقلعة الكرك، وترك عنده بقية أولاده- إخوة الملك العزيز- وكان له سبعة أولاد ذكور، أسنّهم الملك العزيز فخر الدين عثمان. وولد له بعد قبضه ابنان. وكان الملك العزيز، يوم ذاك، صغير السن، فإن مولده- كما أخبرنى به- فى الأول من يوم الإثنين ثالث شوال، سنة اثنتين وخمسين وستمائة.
وفارق الملك المغيث الكرك، وتوجه إلى السلطان الملك الظاهر، وهو بمنزلة الطّور. فلما بلغ السلطان وصول الملك المغيث إلى بيسان، ركب إليه وتلقاه، وساقا جميعا إلى منزلة السلطان. فلما وصل الملك المغيث إلى باب الدّهليز، ترجّل ودخل إلى الخيمة. فأدخل على خركاه «2» ، وقبض عليه وعلى من معه- وذلك فى يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى، سنة إحدى وستين وستمائة. وأظهر السلطان لقبضه سببا، نذكره فى أخبار السلطان الملك الظاهر- إن شاء الله تعالى- تقف عليه بعد هذا.(29/401)
ولمّا قبض عليه، جهّزه فى تلك الليلة إلى قلعة الجبل- صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقانى. ولما وصل إلى قلعة الجبل، أدخل البرج الذى كان به ولده الملك العزيز فخر الدين عثمان، فقال للأمير سيف الدين بلبان النّجاحى- متولّى قلعة الجبل-: فى هذا البرج كان ولدى عثمان؟
قال: نعم.
ولم يستقّر بذلك البرج، بل نقل منه فى يومه، وأدخل إلى قاعة من قاعات الدور السلطانية، فقتل من يومه. وكان آخر العهد به.
وتولى ذلك الأمير عز الدين أيدمر الحلّى- نائب السلطنة- بالغيبة.
واستدلّ على قتله أن بعض الخدام حكى، فقال: لما أدخل الملك المغيث إلى القاعة، طلب له طعام من الآدر «1» السلطانية- قال الخادم: فتوجهت لإحضار الطعام، فأتيت به على رأس خادم آخر، فوجدت الأمير عز الدين قد خرج من القاعة، وأغلق الباب! فقلت: قد حضر الطعام. فقال: بعد أن أغلقنا الباب لا نفتحه فى هذه الليلة. فرجعت بالطعام. ولم يفتح ذلك الباب، إلى ثلاثة أشهر أو نحوها.
وكان مولد الملك المغيث- رحمه الله تعالى- بمنزلة العبّاسة «2» فى شهر ربيع الأول، سنة أربع وثلاثين وستمائة.(29/402)
ولما قبض عليهم، جهز الملك الظاهر، إلى الكرك، الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير أيدمر الظاهرى، وكتب إلى من بها يعدهم الإحسان. ثم توجه بنفسه إليها، وتسلّمها على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى أخباره.
وأنعم على ولده: الملك العزيز فخر الدين عثمان بإمرة مائة فارس. ورتّب لإخوته وأهله الرواتب. ثم قبض عليه، بعد ذلك، واعتقله- على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الملك الموحّد تقىّ الدين عبد الله ابن الملك المعظم تورانشاه، بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد، بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب- صاحب حصن كيفا ونصيبين وأعمالها
فإن والده الملك المعظم كان قد تركه بحصن كيفا، عند قدومه إلى الديار المصرية، وهو دون البلوغ. فاستمر بالحصن بعد مقتل والده، ودبّر.
أمر دولته خادما أبيه: افتخار الدين ياقوت، وجمال الدين طقز. فلم تزل هذه المملكة بيده، إلى أن استولى هولاكو على البلاد.(29/403)
فلما قارب بلاد الملك الموحد خرج إليه بأمان وتلقاه، وقدم له أشياء مما كان عنده من التّحف ونفائس الذخائر، فأقرّه على عمله. ولم يتعرض لحصن كيفا، ولا هراق به دما. وقرر عليه قطيعة فى كل سنة أحد عشر ألف دينار ثمنها «1» ستة وستين ألف درهم. ثم خرجت نصيبين عنه. وذلك أن صاحب ماردين: الملك المظفر، بن الملك السعيد بن أرتق- ضمنهما من التتار، وأضافها إلى مملكته.
ثم نقل أبغا بن هولاكو- فى أول دولته- الملك الموحّد إلى الأردوا «2» ، أخلى قلعة حصن كيفا، وخرّبها.
وسبب ذلك أن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، لما ملك الديار المصرية وما معها، خشى عاقبة الملك الموحد، وأنه من البيت الأيوبى، وملك الديار المصرية لأبيه وجده، وجدّ أبيه وجد جده. فأمر بمكاتبته ومكاتبة خادميه- عن جماعة من الأمراء الصالحية- يستدعون الملك الموحّد إليهم، ليملّكوه ملك آبائه. ووصلت الكتب بذلك إليهم، فمالت نفوس الخدّام إلى ذلك ورغبوا فيه، ولم يخشوا عاقبة المكايد.(29/404)
فحملهم حبّ ذلك على أن أجابوا الأمراء عن كتبهم: أنهم يصلون إليهم بالملك الموحد. وأخذ القصّاد «1» الكتب ورجعوا، فظفر بهم مقدّم التتار. فأرسل الكتب إلى أبغا، فأحضره، وأحضر الخادمين، وقتلهما.
وأقره بالأردوا مدة سبع سنين- هذا، ونائبه مقيم بحصن كيفا. ثم أطلقه وأعاده إلى الحصن. فكان به إلى أن توفى. وكانت وفاته- رحمه الله- ضحى يوم الأحد، النصف من شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وثمانين وستمائة.
وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة عشر، وهم: الأمير سيف الدين أبو بكر شادى الكبير، وعلاء الدين على الكبير، ومغلطاى- وإنما سمّى بذلك، لأنه ولد بالأردوا «2» ، فأمرت قولى «3» خاتون، زوجة هولاكو، أن يسمّى بذلك. وأرسلان، ويوسف، وزكرى، وعثمان، وخليل، وعلى الأصغر، وإبراهيم شقيقه، وأبو بكر الأصغر- وهو ابن أخت ناصر الدين يحيى، بن جلال الدين الحيتى، أحد مقدّمى التتار. ونجم الدين أيوب، وحسن. ومات من أولاده- قبل وفاته- الملك المعظم محمد- مات قبل والده بسبعة أيام. واللّمسن- وهو شقيق أرسلان.
ولما مات الملك الموحّد، ملك حصن كيفا بعده ولده: الملك الكامل سيف الدين أبو بكر شادى- بتقرير التتار. فاستمر إلى شهر رجب، سنة تسع وتسعين وستمائة. ثم قتله قازان، ملك التتار. وسبب ذلك أن بعض إخوته شكوه له، وذكروا أنه قتل بعضهم.(29/405)
وملك بعده الملك العادل سيف الدين أبو بكر الأصغر، ملّكه قازان.
رعاية لحق أخواله. فملك أربعة أشهر، وقتل بمنزلة الميدان- بقرب إربل- قتله الأكراد، هو وأخوه أرسلان- وكانا نازلين بتلك المنزلة مع جماعة من التتار، كبسهم الأكراد الشّهريّة «1» بها.
وملك بعده أخوه الملك المعظم، حسام الدين خليل- أربعة أشهر- فعسف وظلم فنازعه فى المملكة ابن أخيه الملك الصالح صلاح الدين يوسف، بن الملك الكامل سيف الدين أبى بكر، بن الملك الموحّد، وشكاه إلى التتار، فسلّم إليه عمّه الملك المعظم، فخنقه.
واستقر الملك الصالح هذا فى المملكة بحصن كيفا، خمس سنين. ثم نازعه (عمّه) «2» حسن، وتوجه إلى التتار فملّكوه الحصن. ولقّب الملك الظاهر بدر الدين حسن، وأرسلوا معه عسكرا، فهرب ابن أخيه أمامه.
وأقام بالحصن سنة.
ولحق الملك الصالح بالشيخ الشرف، بن الشيخ عدىّ الهكّارى، بجبل هكّار «3» ، وأقام سنة. ثم جمع جمعا كثيرا من الأكراد، وعاد إلى الحصن، عند خلو البلاد من التتار، وحاصر عمّه الملك الظاهر حسن، مدة أربعة أشهر. فوافقه أهل القلعة وسلموه إليه، فقتله، وعاد إلى مملكته.
وأرسل إلى التتار وأرضاهم، فأقروه. فهو إلى وقتنا هذا.(29/406)
أخبرنى بذلك المولى الأمير علاء الدين على، بن الملك الموحّد- وهو على الأصغر، المقدّم الذكر- وهو يوم ذاك بالقاهرة المعزّيّة.
وكان قد فارق الحصن، لمّا حصل من ابن أخيه هذا: من قتل إخوته أولاد الملك الموحّد. ووصل إلى الديار المصرية، فى أوائل سنة ثلاث وسبعمائة، واستقر بها. وأقطعه السلطان الملك الناصر إقطاعا متميزا، بحلقتها. وأخبرنى أنه لم يبق من أولاد الملك الموحّد- لصلبه- سواه. وأن بقية من ذكرناهم أفناهم الموت والقتل.
وذلك فى سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
وأما الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل: سيف الدين أبى بكر بن أيوب صاحب ميّافارقين
فإنه لم يزل بها، إلى أن ملك التتار البلاد. فندب هولاكو صرطق نوين، وقطغان نوين «1» لمحاصرته بميّافارقين، بطائفة كثيرة من التتار.
فحاصروه مدة سنتين، حتى قلّت الأقوات عندهم، وأكلوا الكلاب والسّنانير والميتة. ففتحها التتار بعد أن فنى من عنده من الجند من القتال- وذلك فى سنة ثمان وخمسين وستمائة. وأسر الملك الكامل، وتسعة نفر من مماليكه، وأحضروا بين يدى هولاكو، فقتلوا، إلا مملوكا واحدا- كما تقدم فى أخبار هولاكو(29/407)
وكان الملك الكامل هذا- رحمه الله تعالى- ملكا حازما كريما، كثير الزّهد والوّرع. ولما قتل- رحمه الله- حمل التتار رأسه على رمح، وطيف به البلاد. ومرّوا به على حلب وحماه وأتوا به إلى دمشق- فى سابع عشر جمادى الأولى من السنة- وطافوا به دمشق، وأمام الرأس المغانى والطّبول! وعلّق رأسه بباب الفراديس، إلى أن دخل الملك المظفر قطز إلى دمشق- بعد هزيمة التتار- فأنزل الرأس، ودفن بمشهد الحسين داخل باب الفراديس فقال الشيخ شهاب الدين أبو شامه «1» فى ذلك، من أبيات:
ابن غازى غزا وجاهد قوما ... أثخنوا «2» فى العراق والمشرقين
طاهرا عاليا، ومات شهيدا ... بعد صبر عليهم عامين
لم يشنه إذ طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين
ثم واروا بمشهد الرأس ذاك الرأ ... س، فاستعجبوا من الحالتين(29/408)
وأما الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين محمود، بن الملك المنصور أبى عبد الله محمد، بن الملك المظفر تقى الدين أبى سعيد عمر، بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه
فإنه كان قد ملك حماه بعد وفاة والده- فى ثامن جمادى الأولى، سنة اثنتين وأربعين وستمائة. فاستمر فى ملك حماه، وطالت مدته. وكان يتردد إلى الديار المصرية فى الأيام الظاهرية والمنصورية، وهم يعظّمونه. وهداياه وتقادمه تصل إلى الملوك. وهو يشهد معهم الحروب والوقائع، بعسكر حماه.
وما زال كذلك، إلى أن توفى فى شوال، سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
ومولده فى الساعة الخامسة من يوم الخميس، لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
ولما توفى، رتّب السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون فى ملك حماه ولده: الملك المظفر تقىّ الدين محمود بن محمد. وكوتب من ديوان الإنشاء بما كان يكاتب به والده. وحملت إليه وإلى أهله وإلى أهل بيته الخلع والتشاريف السلطانية واستقر فى ملك حماه إلى أن توفى فى يوم الخميس، الحادى والعشرين من ذى القعدة، سنة ثمان وتسعين وستمائة،(29/409)
ودفن ليلة الجمعة. وكان مولده فى الساعة العاشرة من ليلة الأحد، خامس عشر المحرم، سنة سبع وخمسين وستمائة.
واستقرت المملكة الحمويّة بعد وفاته فى يد نوّاب ملوك مصر. وكان أول من وليها من النواب: الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى، نقل من الصّبيبة إليها. ثم نقل منها إلى نيابة حلب، فى سنة تسع وتسعين وستمائة، بعد وقعة قازان «1» . وفوّضت نيابة السلطنة بحماه إلى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى- وكان قبل ذلك بصرخد- فلم يزل بها إلى أن مات، فى سنة اثنتين وسبعمائة. فوليها الأمير سيف الدين قبجاق المنصورى، فكان بها إلى أول الدولة الناصرية الثانية. ونقل منها، فى سنة تسع وسبعمائة، إلى نيابة المملكة الحلبية. وفوّضت نيابة السّلطنة بحماه للأمير سيف الدين أسندمر كرجى «2» فكان بها، إلى أن فوّض السلطان- الملك الناصر- نيابة المملكة الحمويّة إلى الأمير عماد الدين إسماعيل، بن الملك الأفضل نور الدين على، ابن الملك المظفر محمود، بن الملك المنصور محمد، بن الملك المظفر تقىّ الدين عمر، بن شاهانشاه بن أيوب، فى سنة عشر وسبعمائة(29/410)
فاستمر فى نيابة السلطنة مدة ثم كوتب بعد ذلك من ديوان الإنشاء بالمقام العالى الملكى العمادى ولم يزل كذلك، إلى أن فوّض السلطان الملك الناصر إليه سلطنة حماه، ولقبه بالملك المؤيّد. وركب بالقاهرة المحروسة بشعار السلطنة، وذلك فى يوم الخميس سابع عشر المحرم، سنة عشرين وسبعمائة- على ما نذكره ذلك، إن شاء الله تعالى، فى أخبار الدولة الناصرية. وهو باق إلى وقتنا هذا. ويصل فى كل سنة إلى الأبواب السلطانية الملكية الناصرية بالتقادم والتّحف، ويحصل له الإنعام السلطانى، والتشاريف، وغير ذلك.
وملوك حماه- وإن لقّبوا بألقاب الملوك، وخوطبوا وكوتبوا بما يخاطب ويكاتب به الملوك- فلا تعدّ أيامهم من جملة الدولة الأيوبية، لأنهم فى الخدمة السلطانية على رسم النّواّب. وإنما أوردنا ما ذكرناه من أخبارهم، لتعلم.(29/411)
وأما الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم، بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه ابن الأمير ناصر الدين محمد، بن الملك المنصور أسد الدين شيركوه ابن شادى.. صاحب تلّ باشر والرّحبة
فقد ذكرنا أنه كان بيده حمص وتدمر والرّحبة «1» ، إلى أن استولى الملك الناصر- صاحب حلب- على حمص، فى سنة ست وأربعين وستمائة، وعوّضه عنها تلّ باشر «2» . فلم يزل بها إلى أن استولى هولاكو على حلب- كما ذكرنا فى سنة ثمان وخمسين وستمائة- فحضر إليه، فأكرمه هولاكو، وأعاد عليه حمص، وفوّض إليه نيابة السلطنة بالشام والسواحل.
فلما هزم الملك المظفر سيف الدين قطز التتار على عين جالوت، ووصل إلى دمشق- أقرّه على حمص والرحبة وتدمر. وأقر الملك الظاهر- بعده- ذلك بيده، إلى أن توفى فى حادى عشر صفر، سنة اثنتين وستين وستمائة.
ولم يكن له عقب، فاستقرّ ما كان بيده فى يد نوّاب السلطنة، إلى وقتنا هذا. ولبعض من ذكرنا أخبارهم فى هذا الوضع، أخبار ووقائع مع الملوك، يأتى ذكرها فى أخبار ملوك الديار المصرية- على ما تقف على ذلك، إن شاء الله تعالى، فى مواضعه. وإنما ذكرناهم فى هذا الموضع، لتكون أخبارهم مجتمعة، على سبيل الاختصار.(29/412)
[إنتهاء الدولة الأيوبية] «1»
وكانت هذه الدولة الأيوبية بالديار المصرية- منذ ولى الملك المنصور أسد الدين شيركوه وزارة العاضد لدين الله العبيدى، ولقّبه بالملك المنصور أمير الجيوش، فى سابع عشر شهر ربيع الآخر، سنة أربع وستين وخمسمائة، إلى أن ملك السلطان الملك المعزّ عزّ الدين أيبك التّركمانى الصالحى، فى التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين وستمائة- أربعا وثمانين سنة، وأربعة أشهر، واثنى عشر يوما- وإلى أن استولى هولاكو على الشام، وهرب الملك الناصر، صاحب الشام وحلب، فى النصف من صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثلاثا وتسعين سنة، وعشرة أشهر، تقريبا.
هذا ما أمكن إيراده من أخبار هذه الدولة الأيوبية، على سبيل الاختصار. فلنذكر أخبار دولة التّرك، وهى فرع الدولة الأيوبية.(29/413)
ذكر أخبار دولة التّرك «1» وابتداء أمر ملوكها، وما ملكوه من الممالك والحصون والأقاليم والثغور والأعمال، وما افتتحوه، وغير ذلك من أخبارهم
كان ابتداء هذه الدولة بالديار المصرية. ثم انتشرت بالبلاد الشامية، ثم امتدت إلى الممالك الحلبية والفراتية. ثم استولت على الثّغور والقلاع والحصون الساحلية. واستنقذت حصون الدّعوة من أيدى الإسماعيلية «2» .
وبلغت المملكة الرومية. ودانت لها الأقطار اليمانية والحجازية.
وانتمت إليها الطوائف القرمانية «3» . ورغب فى مسالمتها الملوك.
الجنكزخانيّة. ونفذت أوامرها واتّصلت أحكامها ببلاد إفريقية وما يليها، والتّكرور «4» وما يدانيها. ودخل فى طاعتها وعقد ذمّتها من بإقليم النّوبة، من بلاد الدّوّ «5» ، المجاور لثغر أسوان، إلى بلاد الكرسى والعريان «6» ، وهو آخر العمل بالقرب من مجرى نهر النيل. على ما نورد ذلك، إن شاء الله تعالى، ونوضّحه ونبيّنه ونشرحه.(29/414)
ولنبدأ بذكر أخبارهم، وسبب الاستيلاء عليهم.
ذكر أخبار الأتراك وابتداء أمرهم وكيف كان سبب الاستيلاء عليهم، واتصالهم بملوك الإسلام. ومن استكثر منهم، وتغالى فى اتباعهم وقدّمهم على العساكر
قد ذكرنا فى أخبار الدولة العبّاسيّة من اتصل منهم بالخلفاء، وتقدم على العساكر، وعلا قدره وطار اسمه. وذكرنا أيضا فى أخبار الدولة العبيديّة- فى أيام المستنصر بالله- ما كان من أمرهم، وقيامهم، ومحاربتهم ناصر الدولة بن حمدان- تارة، ومعه أخرى.
ثم ذكرنا أن الملك الناصر- صلاح الدين يوسف بن أيوب- كان ممن اهتمّ بتحصيلهم، وأخوه الملك العادل، ثم ابنه الملك الكامل. وكانوا إذ ذاك لا يجلبهم التّجّار إلا خفية، ولا يقدرون على تحصيلهم إلا سرقة، لأن حماهم كان مصونا من التّجاهر ببيعهم، أو التطرق إليهم.
وأما السبب الموجب للاستيلاء عليهم، وبيعهم فى الأمصار- فهو أنه لما ظهر جنكزخان التمرجى، ملك التتار، واستولى على البلاد الشرقية(29/415)
والشمالية، وبثّ عساكره فى البلاد، فانتهوا إلى بلاد القفجاق واللّان «1» ، وأوقعوا بهم- على ما قدّمنا ذكره، فى أخبار الدولة الجنكزخانيّة- فبيعت ذرارى التّرك والقفجاق، وجلبها التجار إلى الأمصار.
ثم رجعت عنهم هذه الطائفة الذين ندبهم جنكزخان إليهم، فى سنة ست عشرة وستمائة- وهم التتار المغرّبة «2» - وعادوا إلى ملكهم جنكزخان.
واستقرت طوائف الأتراك بأماكنهم من البلاد الشمالية. وهم أصحاب عمود «3» ، لا يسكنون دارا، ولا يستوطنون جدارا، بل يصيّفون فى أرض ويشتّون بأخرى. وهم قبائل كثيرة فمن قبائلهم ما أورده الأمير ركن الدين بيبرس، الدّوادارى المنصورى، نائب السلطنة الشريفة كان- أحسن الله عقباه، وقد فعل، وعامله بألطافه فيما بقى من الأجل- فى تاريخه «4» :
قبيلة طقصبا. وتيبا. وبرج أغلى. والبرلى، وقنغر أغلى. وأنجغلى.
ودروت. وقلابا أغلى. وجرثان. وقرا تركلّى. وكتن.
قال: ولم يزالوا مستقرين فى مواطنهم، قاطنين بأماكنهم، إلى سنة ست وعشرين وستمائة. فاتفق أن شخصا من قبيلة دروت يسمى منغوش بن(29/416)
كتن خرج متصيّدا، فصادفه شخص من قبيلة طقصبا اسمه آق كبك- وكان بينهما منافسة قديمة- فأخذه أسيرا، ثم قتله. وأبطأ خبر منغوش عن أبيه وأهله، فأرسلوا شخصا اسمه جلنغر لكشف خبره، فعاد إليهم وأخبرهم بقتله. فجمع أبوه أهله وقبيلته وساق إلى آق كبك. فلما بلغه مسيرهم نحوه، جمع أهل قبيلته وتأهب لقتالهم. فالتقوا واقتتلوا، وكان الظفر لقبيلة دروت، وجرح آق كبك وتفرق جمعه.
فعند ذلك أرسل أخاه أنص إلى دوشى خان بن جنكزخان- وكان أوكدى «1» ، وهو الملك يومئذ بكرسى جنكزخان «2» ، قد ندبه إلى البلاد الشمالية- مستصرخا به، وشكا إليه ما حلّ بقومه من قبيلة دروت القبجاقيّة، وأعلمه أنه إن قصدهم لم يجد دونهم من يمانع. فسار إليهم فى عساكر، وأوقع بهم، وأتى على أكثرهم قتلا وأسرا وسبيا. فاشتراهم عند ذلك التجار، ونقلوهم إلى البلاد والأمصار.
وأما أول من استكثر منهم وتغالى فيهم، وقدّمهم على العساكر، فهو الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل.
وقد ذكرنا فى أخبار الدولة الكاملية- فى سنة سبع وعشرين وستمائة- أن الملك الكامل اتصل به أن ابنه الملك الصالح ابتاع ألف مملوك، وأنه توثّب على الملك، فنقم عليه وأخرجه من الديار المصرية.(29/417)
فلما أفضت السلطنة إليه، استكثر منهم، وأمرهم وقدّمهم على العساكر. فكانوا فى خدمته، إلى أن مات. وملك بعده ابنه الملك المعظم تورانشاه، فعاملهم بما يكرهونه. وبذل لسانه فيهم، وتواعدهم، فحملهم ذلك على قتله، وطلب الملك لأنفسهم. وكان ما ذكرناه من إقامة شجر لدّرّ، وخلعها.
فلنذكر ملوك دولة الترك:(29/418)
أول من ملك من ملوك هذه الدولة: السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى الصالحى
وليس بتركمانى، وإنما هى نسبة إلى أولاد التركمانى، لأنه كان عند أحدهم، ثم ملكه الملك الصالح نجم الدين أيوب. وهو تركىّ الجنس.
ملك الديار المصرية، فى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وأربعين وستمائة. وأقام معه فى السلطنة الملك الأشرف مظفر الدين موسى، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن الملك المسعود صلاح الدين يوسف، بن الملك الكامل، وأجلسه على كرسى السلطنة فى يوم الأربعاء- ثالث جمادى الأولى، سنة ثمان وأربعين. وركب وشقّ المدينة فى يوم الخميس- وكان عمره نحو ست سنين.
وكانت المناشير والتّواقيع والمراسم تخرج عن الملكين، وليس للأشرف معه إلا مجرد التسمية، والأمر للملك المعزّ. ولم يزل كذلك، إلى أن قتل الأمير فارس الدين أقطاى فى سنة اثنتين وخمسين- على ما نذكره.
فاستقل حينئذ بالملك. وكان الملك الأشرف فى هذه المدة قد حجب عن الناس، واسمه قائم دون شخصه.(29/419)
ذكر الحرب الكائنة بين الملك المعز والملك الناصر صاحب الشام، وانتصار المعز
وفى سنة ثمان وأربعين وستمائة، كانت الحرب بين السلطان الملك المعزّ وبين الملك الناصر- صاحب الشام.
وسبب ذلك أن الملك الناصر، لما استولى على دمشق فى هذه السنة- كما قدّمنا فى أخباره- أشار عليه أتابكه- شمس الدين لؤلؤ- والأمراء القيمرية، بقصد الديار المصرية. فسار من دمشق. واتصل خبره بالملك المعز، فخرج إليه بعساكر الديار المصرية. والتقيا على منزلة الكراع، بالقرب من الخشبى «1» .
واقتتل العسكران، فى يوم الخميس، العاشر من ذى القعدة من السنة.
فكانت الهزيمة على العسكر المصرى. ووصلت طائفة من العسكر المصرى إلى القاهرة. ومنهم من فرّ إلى جهة الصعيد. وثبت الملك المعز، واختار من عسكره ثلاثمائة فارس، وحمل بهم على صناجق الملك الناصر، طمعا أن يكون بجهتها فيظفر به. وكان الملك الناصر تحيّز إلى فئة، واعتزل المعركة خوفا على نفسه، واحتياطا لها. فلما عاين حملة الملك المعز، وشاهد إقدامه، انهزم، ورجع إلى الشام- كما تقدم.(29/420)
وساقت الأمراء العزيزيّة- مماليك والده- بأطلابهم «1» إلى خدمة الملك المعزّ، ودخلوا فى طاعته، وهم: الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى، والأمير شمس الدين أقش البرلى، والأمير شمس الدين أقش الحسامى، وأمثالهم. وكان سبب انصرافهم عن سلطانهم الملك الناصر أنه أضافهم، يوم الحرب، إلى طلب «2» الأمير شمس الدين لؤلؤ- أتابكه- فعزّ ذلك عليهم، وفارقوا خدمة الملك الناصر.
قال: واجتمع الأمراء القيمريّة، وغيرهم، إلى شمس الدين لؤلؤ، وهنّوه بالنصر على زعمهم- وتفرقت جماعتهم فى طلب المكاسب. فلم يبق معهم من مماليكهم إلا نفر قليل. فصادفهم الملك المعزّ بمن معه من عسكره، فقاتلهم. فقتل شمس الدين لؤلؤ، وجماعة من الأمراء القيمرية، وهم: حسام الدين، وصارم الدين، القيمريّان، وسعد الدين الحميدى، ونور الدين الزّرزارى، وجماعة من أعيان مماليك الملك الناصر.
وقتل أيضا تاج الملوك، بن الملك المعظم تورانشاه.
وأسر جماعة، وهم: الملك الصالح بن العادل سيف الدين أبى بكر ابن أيوب. ثم قتله الملك المعز فى سنة تسع وأربعين، ودفنه بالقرافة. وأسر أيضا الملك المعظم تورانشاه، بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخوه نصرة الدين، والملك الأشرف صاحب حمص، وشهاب الدين بن حسام الدين القيمرى، وغيرهم.(29/421)
وأما بقية الأمراء الناصرية، فانهم ما علموا بشىء من ذلك. بل ساقوا خلف من انهزم من العسكر، إلى أن وصلوا إلى العبّاسة «1» وخيّموا بها. ثم بلغهم الخبر فرحلوا بمكاسبهم وأثقالهم. قال: ولما انتصر الملك المعز، وقتل من قتل، وأسر من أسر، ساق إلى العبّاسة ليلتحق بعساكره.
فرأى دهليز الملك الناصر وعساكره قد خيم على العبّاسة، فعرّج عن طريقها.
وسار على طريق العلاقمة «2» إلى بلبيس فلم يجد بها من العسكر أحدا. وبلغه أن منهم من دخل إلى القاهرة، ومنهم من انهزم إلى الصعيد. فنزل على بلبيس بمن كان معه، إلى أن تحقق عود من سلم من العسكر الشامى. وعاد الملك المعز إلى قلعة الجبل، مؤيدا منصورا.
قال: ولما طلع إلى القلعة، وجد جماعة من الأمراء المعتقلين بها، لمّا بلغهم وصول المنهزمين من العسكر المصرى، ظنوا أن الهزيمة تستمر، فخطبوا للملك الناصر على منبر الجامع بالقلعة، فى يوم الجمعة حادى عشر ذى القعدة من السنة. فعظم ذلك على الملك المعز، وشنق الأمير ناصر الدين إسماعيل بن يغمور الصالحى، وأمين الدولة وزير الملك الصالح، على شراريف قلعة الجبل- وكانا من جملة المعتقلين بها- ومن أشار بالخطبة للملك الناصر. ثم أخرج جميع من دخل إلى القاهرة من العسكر الناصرية، وأعادهم إلى دمشق على دوابّ- وكانوا ثلاثة آلاف نفس- ولم يركب أحدا منهم فرسا، إلا نور الدين بن الشجاع الأكتع، وأربعة من مماليك الملك الناصر.(29/422)
واستهلّت سنة تسع وأربعين وستمائة:
فى هذه السنة، خرج الملك المعز بعساكر الديار المصرية، لقصد الملك الناصر، فنزل على أمّ البارد عند العبّاسة. واتصل ذلك بالملك الناصر، فجهز العسكر الشامى إلى غزّة، ليكون قبالة العسكر المصرى. وأقام العسكران فى منازلهما ستين يوما. ونزل الملك الناصر على غمّتا من الغور، وخيّم عليها. وأقام بعسكره ستة أشهر.
وفيها فى شعبان، عزل قاضى القضاة: عماد الدين أبو القاسم إبراهيم ابن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن محمد، الحموى، المعروف بابن المقنشع- عن القضاء بمصر والوجه القبلى. وأضيف ذلك إلى قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى. فاجتمع له الآن قضاء القضاة بالمدينتين، والوجهين القبلى والبحرى، ولم يجتمعا له قبل ذلك.
وفيها، قصد الأمير جمّاز بن شيحة المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وقبض على أخيه عيسى، وأقام بالمدينة.
وفيها، كانت وفاة الشيخ الإمام العالم بهاء الدين على بن سلامة بن المسلم بن أحمد، بن على اللّخمى المصرى، المعروف بابن الجمّيزى.
وكان إماما فاضلا، عالما بمذهب الإمام الشافعى. وأخذ العلم عن الشيخ شهاب الدين محمد الطّوسى، وعن محمد بن يحيى، وشرف الدين بن أبى عصرون. وتفقّه بالشام، وقرأ القرآن على جماعة منهم الشاطبى(29/423)
والبطايحى. وسمع الحديث الكثير، ورواه. سمع شهدة «1» ببغداد.
والحافظ السّلفى بمصر. وأجيز بالفتيا فى سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وهو سبط الفقيه أبى الفوارس الجمّيزى.
وكان دمث الأخلاق، كريم النفس، قل أن يدخل إليه أحد إلا وأطعمه وكان يخالط الملوك، ويعظّمونه. ولم يزل كذلك إلى أن حج فى سنة خمس وأربعين وستمائة. فأهدى له صاحب اليمن هدية بمكة.
فقبلها. فأعرض عنه الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وكانت وفاته بمصر فى ليلة الخميس، رابع عشر ذى الحجة. ودفن يوم الخميس بالقرافة، قريبا من روزبهان. ومولده يوم النحر سنة تسع وخمسين وخمسمائة- رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الفقيه الشيخ، الرّياضى، علم الدين قيصر: بن أبى القاسم بن عبد الغنى بن مسافر، الحنفى المصرى، المعروف بتعاسيف. كان إماما فى علوم الرياضة، وفى فنون كثيرة.
وكانت وفاته بدمشق، فى يوم الأحد ثالث عشر شهر رجب. ودفن خارج باب شرقى، ثم نقل إلى الباب الصغير. ومولده سنة أربع وسبعين(29/424)
وخمسمائة، بأصفون من أعمال مدينة قوص، من الصّعيد الأعلى بالديار المصرية «1» . وأصفون بلدة مشهورة هناك.
وفيها، توفى الصاحب الوزير: جمال الدين أبو الحسين يحيى، بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين بن على بن حمزة بن إبراهيم، بن الحسين- بن مطروح.
من أهل صعيد مصر، ونشأ هناك. وأقام بمدينة قوص مدة. وتنقلت به الأحوال فى الخدم والولايات. ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فى نيابته عن أبيه السلطان الملك الكامل بالديار المصرية.
وانتقل فى خدمته عند توجهه إلى بلاد الشرق، فى سنة تسع وعشرين وستمائة. ولم يزل هناك إلى أن ملك الملك الصالح الديار المصرية، فوصل إلى خدمته، فى أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة. فرتّبه ناظر الخزانة.
ثم نقله إلى دمشق، لما ملكها ثانيا، من عمه الملك الصالح إسماعيل، وجعله وزيرا وأميرا. واستمر إلى أن وصل السلطان الملك الصالح إلى دمشق فى شعبان سنة ست وأربعين وستمائة، فعزله عن الوزارة وسيّره مع العسكر لحصار حمص. ثم عاد فى خدمة السلطان الى الديار المصرية، وأقام معه بالمنصورة- وقد تغيّر عليه لأسباب اتصلت به عنه- ومع ذلك فلم يزل يلازم الخدمة. إلى أن مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة. فجاء إلى مصر، وأقام بداره إلى أن مات.(29/425)
وكان حسن الأخلاق. وله ديوان شعر وكانت وفاته بمصر فى ليلة الأربعاء، مستهلّ شعبان، سنة تسع وأربعين وستمائة. ودفن بسفح المقطم.
ومولده بمدينة سيوط من صعيد مصر، فى يوم الإثنين ثامن شهر رجب، سنة اثنتين وتسعون وخمسمائة- رحمه الله تعالى.
واستهلّت سنة خمسين وستمائة:
والاختلاف بين الملكين: الناصر- صاحب دمشق والشام- والمعزّ صاحب الديار المصرية- على حاله، والعساكر من الطائفتين مجرّدة، كل طائفة معتدّة للأخرى. ولم يكن فيها من الأخبار ما نذكره.
واستهلّت سنة إحدى وخمسين وستمائة: ذكر الصلح بين الملكين: المعز والناصر
قال: ولم تزل الفتنة بين الملكين: المعز والناصر قائمة، إلى أن وصل الشيخ نجم الدين البادرائى رسول الخليفة، فسعى فى الصلح بينهما.
فوقع الاتفاق: على أن يأخذ الملك المعز من الملك الناصر القدس وغزة، وجميع البلاد الساحلية- إلى حدود نابلس. واستحلف الشيخ نجم الدين الملكين على ذلك. فتم الصلح بينهما وانتظم.(29/426)
وأفرج الملك المعز عن الملك المعظم صلاح الدين يوسف بن أيوب، والملك الأشرف صاحب حمص، وأولاد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وغيرهم. من الأمراء الذين كانوا قد أسروا فى المصافّ، الكائن فى سنة ثمان وأربعين وستمائة، وذلك فى المحرم من هذه السنة.
وفى هذه السنة، لثلاث خلون من شعبان، قتل أبو سعد: الحسن بن على بن قتادة- صاحب مكة- شرّفها الله تعالى.
واستهلّت سنة اثنتين وخمسين وستمائة:
ذكر خبر عربان الصعيد، وتوجه الأمير فارس الدين أقطاى إليهم وإبادتهم
كان من خبر العربان بالصعيد، أنه لما اشتغل الملك الصالح نجم الدين أيوب وعساكره بقتال الفرنج بالمنصورة، وحصل ما قدّمنا ذكره: من وفاته، ومقتل ولده الملك المعظّم، واشتغال الملك المعز بحرب الملك الناصر، وتجريد الجيوش إلى جهتة، وعدم الالتفات إلى غير ذلك- تمكن العربان بهذه الأسباب من البلاد، وكثر شرّهم، وزاد طغيانهم وبغيهم.
وحصل لأهل البلاد منهم، من أنواع الأذى ونهب الأموال والتعرض إلى الحريم، وأمثال ذلك، ما لا حصل من الفرنج أكثر منه.(29/427)
واجتمعوا على الشريف حصن الدين بن ثعلب الجعفرى «1» وأطاعوه ظاهرا، وانقادوا له. إلا أنه لا يستطيع دفعهم عن كل ما يقصدونه من أذى. وأخذ أموالهم، وكثرت جموعهم معه، حتى زادوا على اثنى عشر ألف فارس، وستين ألف راجل، بالسلاح والعدد.
فلما تم الصلح بين الملكين، وتفرغ وجه السلطان الملك المعز من جهة الشام، صرف فكرته إلى جهتهم، وانتدب لحربهم الأمير فارس الدين أقطاى. واستشار الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى فى عدّة العسكر الذى يقوم بحربهم، فأشار بانتخاب ألفى فارس من العسكر، والتزم أنه يفرّق بهذه العدة جموعهم، ويبيدهم بها.
فانتخب الأمير فارس الدين هذه العدّة من العسكر، وتوجه بهم- وصحبته الأمير عز الدين المذكور- وتوجه إلى جهة الصعيد، وقصد العربان. وكانوا قد اجتمعوا بمكان يسمى الصّلعا «2» بمنشاة إخميم، فى البر الغربى- وهى أرض وسيعة، تسع عدّتهم. فساق الأمير فارس الدين ومن معه من العسكر، من جهة الحاجز بالبر الغربى، سوقا عظيما، ما سمع الناس بمثله، وانتهى إليهم فى ثلاث علايق- وهذه المسافة لا يستطيع البريد أن يصل إليها فى مثال هذه المدة، إلا إن أجهد نفسه.(29/428)
وطلع عليهم فى صبح اليوم الرابع، ودهمهم بغتة بهذا المكان. فلما شاهد كثرتهم، كاد يقف عن ملاقاتهم، وأنكر على الأمير عز الدين، وقال: لقد غششتنا، فإن هذه العدّة التى معنا لا تقوم بهذه الجموع الكثيرة.
فقوّى نفسه، وقال: أنا أعرف هؤلاء، وهذه بلاد ولايتى. وحمل عليهم، ورمتهم العسكر بالنّشّاب، فما كان السّهم يقع إلا فى أحدهم. فما كان بأسرع من أن انهزموا أقبح هزيمة، وأخذهم السيف. وتفرقت تلك الجموع، واختفوا، وغيّروا لباسهم. وقتل منهم فى المعركة والطّلب خلق كثير.
ولما عاين الشريف حصن الدين انهزام أصحابه، بادر بالهزيمة.
وحمل معه ألف دينار، واستصحب حظيّة له، وتوجه إلى الوجه القبلى. ثم قبض عليه بعد ذلك- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. وعاد الأمير فارس الدين إلى القاهرة بعسكره، ومعه جماعة من العربان، من جملتهم: ابن عم الشريف حصن الدين بن ثعلب، فشنق تحت قلعة الجبل. ثم قتل الأمير فارس الدين أقطاى، فى هذه السنة.
ذكر خبر الأمير فارس الدين أقطاى، وما كان من أمره إلى أن قتل
كان الأمير فارس الدين أقطاى، الجمدار «1» الصالحى، قد استفحل أمره فى الدولة المعزّيّة بالديار المصرية، وقويت شوكته فى سنة إحدى وخمسين وستمائة.(29/429)
وانضم إليه الأمراء البحريّة واعتضد بهم. وتطاول، إلى أن خطب ابنة الملك المظفّر صاحب حماه. وكان الرسول فى ذلك الصاحب فخر الدين محمد، بن الصاحب بهاء الدين على- قبل وزارة والده- فأجيب إلى ذلك.
وعقد النكاح، وحملت إليه، فوصلت إلى دمشق. وقتل، قبل وصولها إليه. ولما تزوج بها زادت نفسه قوة، وعظّمه الأمراء، وخفّضوا من جانب الملك المعز، وألان الملك المعزّ جانبه له، ولهم.
واستمر الأمر على ذلك إلى سنة اثنتين وخمسين وستمائة. فامتدت أطماعه إلى صلب ثغر الإسكندرية، إقطاعا، فلم يمكن الملك المعز مخالفته، لقوة شوكته. وتطاول البحريّة، واشتطوا فى طلب الإقطاعات والزيادات.
واتصل بالملك المعز أنهم يدبّرون عليه، وأنهم قد عزموا على الوثوب، فبادر عند ذلك بالتدبير والاحتياط.
ولما كان فى يوم الإثنين- حادى عشر شعبان، من هذه السنة، استدعاه السلطان على العادة، وكمن له عدّة من مماليكه، بقاعة الأعمدّة.
وقرر معهم أنه إذا عبر إليه يغتالوه. فحضر فى نفر يسير، ثقة منه واسترسالا، واطّراحا لجانب السلطان، وأنه لا يجسر أن يقدم عليه، ولم يشعر به خوشد اشيّته «1» . فلما قرب، منع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزّية فقتلوه(29/430)
وحكى عن عز الدين أيبك الفارسى- أحد مماليكه- فى خبر مقتله، قال: كان قد ركب إلى قلعة الجبل فى يوم مقتله، واجتمع بالسلطان، وطلب منه أن ينعم على بعض البحرية بمال. فاعتذر الملك المعز أن الخزائن قد خلت من الأموال، وقال له: توجّه بنا إلى الخزانة لنشاهدها، ونتحقق حالتها. فتوجها جميعا إلى الخزانة من جهة الدّور. وإنما فعل المعز ذلك، لأن الوصول إلى الخزانة من جهة الدور حرج «1» المسلك، ويمرّ المارّ على بعض قاعات الحريم، فلا يمكن استصحاب الكثير من المماليك. وكان الملك المعز قد كمن فى عطفة من عطفات الدهاليز مملوكه الأمير سيف الدين قطز- ومعه عشرة من المماليك المعزّيّة، من ذوى القوة والإقدام. فلما وصلوا إلى ذلك المكان، تأخر السلطان: واسترسل الأمير فارس الدين على ما هو عليه، وتقدم إلى المكان. فوثبوا عليه، وقتلوه. قال: وأمر الملك المعز بغلق قلعة الجبل، فغلقت.
وركب مماليكه وحاشيته- وكانوا نحو سبعمائة فارس- وجماعة من البحرية، وقصدوا قلعة الجبل، وظنوا أنه قد قبض عليه، ليطلقوه. فلما صاروا تحت القلعة، أمر السلطان بإلقاء رأسه إليهم، من أعلى السور فعلموا(29/431)
فوات الأمر فيه، فتفرقوا. وكانت هذه الواقعة شبيهة بواقعة عمرو بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن مروان «1» . وتفرّق شمل البحريّة لمقتله، وانتشر نظامهم. وكان من خبره ما نذكره.
ولما قتل الأمير فارس الدين أقطاى، وهرب البحرية ومماليكه، ركب السلطان الملك المعزّ بشعار السّلطنة بالقاهرة. وذلك فى يوم الأحد، سابع عشرين شعبان المذكور. وجهّز الملك الأشرف، الذى كان قد شركه معه فى الملك إلى دمشق- فى هذا الشهر. واستقلّ بالسلطنة. وانفرد بالأمر، بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى.
ومن المؤرخين من جعل هذا التاريخ ابتداء سلطنة الملك المعز، وجعله فيما مضى أتابكا للملك الأشرف مظفر الدين موسى. إلا أن الأمر منذ خلعت شجر الدر نفسها، كان للملك المعز، مع تمكّن الأمير فارس الدين أقطاى من الدولة وتحكّمه.
وفى هذه السنة، أقطع الأمير جمال الدين أيد غدى العزيزى دمياط- زيادة على إقطاعه- وكان متحصّلها يومئذ ثلاثين ألف دينار.(29/432)
وفيها، عزل قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى، عن تدريس المدرسة الصالحية، بالقاهرة المعزّيّة. وفوض ذلك لشيخ الاسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام. وتوجه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى الى الحجاز الشريف، من جهة البحر، وعاد فى البر.
وفى هذه السنة، وصلت الأخبار من مكة- شرفها الله تعالى- أن النار ظهرت من بعض جبال عدن، وأن شررها يطير فى الليل ويقع فى البحر، ويصعد منها دخان عظيم فى النهار. فظن الناس أنها النار التى أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تظهر فى آخر الزمان، وهى من أشراط «1» الساعة.
فتاب الناس، وأقلعوا عما كانوا عليه من الظلم والفساد، وشرعوا فى أفعال الخير والصّدقات.
ذكر أخبار الأمراء البحرية، وما اتفق لهم بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى
قد رأينا أن نذكر أخبار الأمراء البحريّة فى هذا الموضع- متتابعة- من حين هربهم، ولانقطعها بالسنين، لتكون أخبارهم سياقة يتلو بعضها بعضا.
كان من خبرهم، أنه لما شاع الخبر بمقتل الأمير فارس الدين أقطاى، واتصل ذلك بالأمراء خوشداشيّته- وفيهم الأمير ركن الدين البندقدارى،(29/433)
والأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير شمس الدين سنقر الأشفر.
والأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى، والأمير بدر الدين بيسرى الشّمسى، والأمير سيف الدين سكر، والأمير عز الدين أزدمر السّيفى، والأمير سيف الدين سنقر الرّومى، والأمير سيف الدين بلبان المستعربى، والأمير سيف الدين برامق، وغيرهم من الأمراء، ومن انضم إليهم من خوشداشيهم- خرجوا من القاهرة ليلا، وأحرقوا باب القراّطين، وتوجهوا إلى الشام.
واعتقل السلطان- الملك المعزّ- من بقى منهم بالقاهرة.
وتوجه الذين خرجوا من القاهرة حتى نزلوا غزّة، وكاتبوا السلطان الملك الناصر صاحب الشام، وسألوه أن يأذن لهم فى الوصول إليه، فأجابهم إلى ذلك. ووصلوا إليه، فأنعم عليهم بالأموال والخلع، وأقطعهم الإقطاعات. وأقاموا عنده يحرّضونه على قصد الديار المصرية، فما وثق بهم. وكان الملك المعز قد كتب إليه وخيّله منهم، وأوهمه: فطلب الملك الناصر من الملك المعز القدس وجميع البلاد الساحلية- التى كان قد أخذها منه عند وقوع الصلح- بحكم أنها كانت جارية فى إقطاع البحرية، وأنهم انتقلوا إلى مملكته، واستقروا فى خدمته، فأعادها الملك المعزّ إليه. فأمّر الملك الناصر كل من له إقطاع فى هذه البلاد على إقطاعه، وكتب مناشير بذلك. وأقاموا فى خدمته إلى سنة خمس وخمسين وستمائة.
ثم فارقوه، لما رأوه من ضعف رأيه، وتوجهوا إلى نابلس. وقصدوا الملك المغيث صاحب الكرك، فوصلوا إلى خدمته- فى عاشر شوال- فقبلهم وأكرمهم فالتمسوا منه المساعدة على قصد الديار المصرية، وأوهموه أن الأمراء بالديار المصرية كانبوهم، وراسلوهم فى ذلك. فجمع الملك(29/434)
المغيث من قدر عليه، وسار بهم وبسائر البحرية- وذلك فى سلطنة الملك المنصور نور الدين، بن الملك المعز. فخرج إليهم الأمير سيف الدين قطز المعزّى بالعساكر المصرية، والتقوا واقتتلوا- فى يوم السبت الخامس والعشرين، من ذى القعدة، سنة خمس وخمسين وستمائة. فانكسر الملك المغيث، ومن معه من البحرية. واستولى العسكر المصرى على أثقالهم.
وقتل: الأمير عز الدين الرّومى الصالحى، وسيف الدين الكافورى، وبدر الدين إيغان الأشرفى. وأسر الأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى.
ولما أسر الأمير سيف الدين قلاوون، ضمنه الأمير سيف الدين قيزان المعزّى أستاذ الدار السلطانية، فما تعرض إليه أحد. وأقام بالقاهرة برهة يسيرة. ثم تسحب واختفى بالحسينيّة، عند الأمير سيف الدين قطليجا الرومى. وقصد اللحاق بخوشداشيّته، فزوّده وجهّزه، فتوجه إلى الكرك.
ثم فارق البحريّة الملك المغيث، وتوجهوا نحو الغور «1» . فصادفهم الأمراء الشّهرزوريّة «2» ، عندما جفلوا من بلاد الشّرق. فاجتمع البحرية بهم، وتزوج الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى- وهو الملك الظاهر- منهم. فبلغ الملك الناصر ذلك، فجهز جيشا لقتالهم، فالتقوا بالغور،(29/435)
واقتتلوا. فانهزم العسكر الناصرى. فغضب الملك الناصر لذلك، وخرج بنفسه إليهم. فعلموا عجزهم عن مقابلته، فتوجهوا إلى الملك المغيث بالكرك، وتوجه الشّهرزوريّة إلى الديار المصرية.
واتّفق للأمير ركن الدين البندقدارى مع الملك المغيث حكاية عجيبة. وهو أنه كان فى يده نتوء فى اللحم شبه خرزة، فجلس فى بعض الأيام بين يدى الملك المغيث- وقد أتى بلوز أخضر وعسل، فجعل يفرك اللّوز على العسل- فنظر الملك المغيث إلى النتوء الذى فى يده، فقال:
ما هذا يا ركن؟ قال: هذه خرزة الملك! فتغير وجه الملك المغيث، وعلم جرأته. وقصد قتله، ثم تركه. أخبرنى بذلك المولى شرف الدين أبو الروح، عيسى بن الملك المغيث، عمن حضر هذه الواقعة وسمع ذلك من لفظهما.
قال المؤرخ: ولما بلغ الملك الناصر عود البحرية إلى خدمة الملك المغيث، كتب إليه يطلب منه تسليمهم، ويهدده إن لم يفعل. فدافع عنهم.
فسار الملك الناصر بنفسه، ونزل ببركة زيزا «1» ، وعزم منازلة الكرك- إن أصر الملك المغيث على الامتناع من تسليمهم إليه.
وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى قد تخيّل «2» من الملك المغيث، للحكاية التى قدمناها. فأرسل إلى السلطان الملك الناصر الأمير بهاء الدين أمير أخور ليلا «3» ، يطلب منه الإذن فى حضوره إلى خدمته، ومفارقة(29/436)
الملك المغيث، وأن يستحلفه له ولجماعة معه أن لا يغدر بهم، وأن يكون السفير فى ذلك الأمير عماد الدين بن المجير. فأجاب الملك الناصر إلى ذلك.
فبعث إليه الأمير ركن الدين الشيخ يحيى، برسالة، مضمونها: أن يحلف له ولعشرين من أصحابه، وأن يقطعه خبز مائة فارس، وشرط أن تكون قصبة نابلس وجينين «1» وزرعين «2» مما يقطعه له. فأجاب إلى نابلس لا غير، وحلف له.
فقدم الأمير ركن الدين إلى الملك الناصر، فى العشر الأول من شهر رجب- وصحبته الجماعة الذين حلف لهم، وهم: الأمير بدر الدين بيسرى الشّمسى، والأمير سيف الدين أتامش المسعودى، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى، وجمال الدين أقش الرّومى، وسيف الدين بلبان الدّاودار، وعلاء الدين كشتغدى الشّمسى، وحسام الدين لاجين الدّوادار، المعروف بالدّرفيل، وعلاء الدين أيدغمش الحكيمى، وعلاء الدين كستغدى المشرفى، وعز الدين أيبك الشيخ، وركن الدين بيبرس خاص ترك الصغير، وسيف الدين بلبان المهرانى، وعلم الدين سنجر الأسعدى، وعلم الدين سنجر الهمامى، وشمس الدين أباز الناصرى، وشمس الدين طمان، وعز الدين أيبك العلائى، وحسام الدين لاجين(29/437)
الشّقيرى، وسيف الدين بلبان الأقسيسى، وعلم الدين سلطان الألدكزى- فأكرمهم الملك الناصر، ووفى لهم، وخلع عليهم وأحسن إليهم، وأقطعهم.
ثم أمسك الملك المغيث من بقى عنده من البحرية، وسيّرهم إلى الملك الناصر، وهم: الأمير سيف الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين سكز، والأمير سيف الدين برامق- فأرسلهم الملك الناصر إلى قلعة حلب، واعتقلهم بها. حتى استولى هولاكو على حلب، فأفرج عنهم وأضافهم إلى عسكره.
وبقى الأمير ركن الدين البندقدارى، والأمير سيف الدين قلاوون، وغيرهما، ممن لم يمسك من خوشداشيّتهما، فى خدمة الملك الناصر، إلى أثناء سنة ثمان وخمسين وستمائة. ففارقوه، لما ملك التتار حلب، وعلموا عجزه عن ملاقاتهم، ففارقوه وتوجهوا إلى غزّة.
وكان للبحرية فى بعض هذه المدة أحوال يطول شرحها، حتى أعوزهم القوت فى بعض الأوقات. ثم اجتمعوا بعد مفارقة الملك الناصر، وتوجهوا إلى خدمة الملك المظفر سيف الدين قطز، وشهدوا معه حرب التتار- على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، فى موضعه.
فلنرجع إلى سياقة أخبار الملك المعز.(29/438)
واستهلّت سنة ثلاث وخمسين وستمائة:
ذكر مخالفة الأمير عز الدين أيبك الأفرم وخروجه عن الطاعة، وتجريد العسكر إليه وإلى من وافقه، وانتقاض أمره
كان الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحى أقام فى البلاد، بعد أن هزم الأمير فارس الدين أقطاى الصالحى العرب- كما تقدم- وتأخر هو لتمهيد البلاد.
فلما قتل الأمير فارس الدين أقطاى، تظاهر بالعصيان، واستولى على الأعمال القوصيّة- بموافقة متولّيها الأمير ركن الدين الصّيرمى. واستولى أيضا على الأعمال الإخميميّة والأسيوطيّة، وقطع الحمول عن بيت المال بقلعة الجبل من هذه الأعمال، واقتطع الأموال لنفسه. ووافقه الشريف حصن الدين بن ثعلب.
فندب السلطان العساكر لذلك، وقدّم عليها الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى. فتوجه إلى جهة الصعيد، وظفر بالشريف حصن الدين بن ثعلب. فأحضره إلى السلطان، فاعتقله بقلعة الجبل، ثم نقله إلى ثغر الإسكندرية، واعتقله هناك. فلم يزل فى الاعتقال، إلى أن شنقه السلطان الملك الظاهر ركن الدين- على ما نذكره(29/439)
وأما الأمير عز الدين الأفرم، فإنه [] «1» وأما الأمير ركن الدين الصّيرمى- متولّى الأعمال القوصية- فإنه كان قد ظن أنه يستبدّ بالأمر، ويستولى على البلاد ويستمر له ذلك، وتخيّل ذلك بذهنه. فلما انتقض عليه هذا الأمر، تحيّل فى الهرب، وتوجه إلى دمشق. والتحق بخدمة السلطان الملك الناصر.
وكان وصوله إلى دمشق فى جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة- بعد أن نهبت أمواله، وقتلت رجاله. ولما وصل، أنزل بالمدرسة العزيزيّة «2» على الشّرف الأعلى، فقال للفقهاء: اعذرونى، فأنتم اخلوا لى الجوسق الذى على الميدان، وما أنتقل إليه إلا بطالع. وأحضر المنجمّ، وأخذ له الطالع، وانتقل إلى الجوسق. فاستقل الناس عقله.! فإنه وصل من النهب والهرب، والشّتات وقتل الرجال، وهو يتمسك بالطوالع وأقوال المنجّمين.(29/440)
واستهلّت سنة أربع وخمسين وستمائة:
ذكر تفويض قضاء القضاة بالديار المصرية للقاضى: تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف
فى هذه السنة، فوّض السلطان- الملك المعز- قضاء القضاة بمصر والوجه القبلى، لقاضى القضاة: تاج الدين عبد الوهاب، بن القاضى الأعزّ خلف، بن محمود بن بدر العلامى «1» - وهو المعروف بابن بنت الأعزّ.
وكتب له تقليد شريف معزّى، تاريخه تاسع شهر رمضان. وكان ذلك جاريا «2» فى ولاية قاضى القضاة: بدر الدين يوسف السّنجارى.
فاستقر القاضى بدر الدين- قاضى القضاة- بالقاهرة والوجه البحرى.
ثم فوّض ذلك، فى بقية هذا الشهر، لقاضى القضاة تاج الدين- المشار إليه- بتقليد تاريخه لثمان بقين من شهر رمضان من السنة. فكمل له بهذه الولاية قضاء القضاة بالمدينتين، والعملين القبلى والبحرى، وسائر أعمال الديار المصرية. وعزل قاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى عن القضاء.(29/441)
وقد شاهدت تقليدى قاضى القضاة تاج الدين. ونسخة التقليد الأول- بعد البسملة، ومثال العلامة المعزية:- «حسبى الله. الحمد لله مقيم منار الشريعة الهادية، وناشر أعلامها.
ورافع محلّها على الشرائع ومعلى مقامها. وهادى الخليقة إلى اتباع أقضيتها وأحكامها. وناصر دينه باتّساقها وانتظامها. ومشيد أركانها بصالحى أئمّتها وحكامها، وجاعلهم أئمة يهدون بأمره فى نقض الأمور وإبرامها. وصلّى الله على سيدنا محمد، خاتم الرسل وإمامها. ومنير الملّة بعد إظلامها. وعلى آله وأصحابه، نجوم سماء المعارف وبدور تمامها- صلاة لا تنقطع مادة دوامها، ولا يأتى النّفاد على لياليها وأيامها.
أما بعد. فإنا لما فوّض الله إلينا من أمور بريّته، واستحفظنا إياه من تدبير خليقته، وآتانا بقدرته من اليد الباسطة، وجعلنا بينه وبين عقد خلقه الواسطة، ومنحناه من السلطان والتّمكين، وخصّنا به من الفضل المبين- لا نزال من حسن التدبير فى تصعيد وتصويب، ومن مصالح الإسلام فى تمهيد وترتيب، ومن الرأى الأصيل فى خبب وتقريب «1» ، عالمين بأن الله تعالى يسأل كلّ راع عما استرعاه، وكلّ ساع عما سعاه، ويحاسبه عليه يوم رجعاه، ويجد عمله مكتوبا مسطّرا، وتجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا- وكان أولى الأمور بالنظر، وأحقّها أن يصان صفوها عن الكدر،(29/442)
منصب الشريعة، الذى هو ملاك الدين وقوامه، وانتظام الإسلام والتئامه، والطريق التى فرض الله اتباعها على خلقه، والسبيل التى من فارقها فقد خلع ربقة «1» الإسلام من عنقه-.
ارتدنا لهذا المنصب الشريف من يرعاه ويصونه، وتجرى على يده حياطته وتحصينه. ونظرنا فيمن يقع عليه سهم الاختيار، ويظهر جوهره الابتلاء والاختبار. فكان المجلس السامى القاضى الأجلّ، الإمام الصدر، الفقيه الكبير العالم العامل الفاضل، الأعزّ المرتضى، الورع الكامل المجتبى، الأشرف السعيد، تاج الدين جلال الإسلام، مفتى الأنام، شمس الشريعة، صدر العلماء، قاضى القضاة، سيد الحكام، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب بن القاضى الأجل، الفقيه العالم الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وتمكينه، ورفعته وتمهيده، وقرن بالنّجح قصوده- طلبتنا المنشودة، وإرادتنا المقصودة. لما جمع الله فيه من الخلال الفاخرة، والديانة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، والعلم الذى أمسى به للهداة علما، وعلى أئمة وقته مقدّما. وأصبح كل مانع إليه مسلّما. وراح بقداح الفضائل فائزا، ولكنوز العلوم الشريفة حائزا. فهو فقيه مصره، لا،(29/443)
بل فقيه عصره. وبكّار «1» زمانه علما وورعا، وسوّار «2» وقته تقمّصا بالتقوى وتدرّعا.
قدّمنا خيرة الله تعالى، وولّيناه قضاء القضاة وحكم الحكام، بمصر المحروسة، وجميع الوجه القبلى: من البرّين الشرقى والغربى، إلى منتهى ثغر عيذاب «3» ، وما يجاوره- من حدود مملكتنا، وبلاد دعوتنا، وجميع ما فى هذه الولاية من المدارس وأوقافها، وكلّ ما كان فى نظر القاضى الفقيه شرف الدين بن عين الدولة- رحمه الله- من ذلك، وما استجدّ بعده، واستقرّ فى نظر الحكام. وفوّضنا إليه ذلك التفويض التام. وبسطنا يده فى الولاية والعزل. وحكّمناه فى العقد والحلّ. فليستخر الله فى تقلّد ما قلّدناه، وقبول ما فوّضناه إليه ورددناه. وليحكم بين الناس بما أراد الله. فإن قبول ذلك يجب عليه وجوبا، لما يتحقق أن الله يجريه فى أحكامه، ويقدّره فى أيامه، من حياطة الدين ومصالح المسلمين.(29/444)
وإذا احتاج الحكّام وولاة الأمور إلى وصايا يطال فيها ويطنب، ويبالغ فى توكيدها ويسهب- وجدناه غنيّا عن ذلك، بما سنّاه الله له ويسّره، وخلقه من كماله وقدّره، ومثله لا يوصّى، ولا يستوعب له القول ولا يستقصى. والله تعالى يرقّيه إلى درجات الكرامة، ويجعل فيما فوّض صلاح الخاصّة والعامّة والاعتماد فيه على العلامة الشريفة، السلطانية الملكية المعزّيّة- زاد الله علاها وشرفها، إن شاء الله عز وجل. كتب فى التاسع من شهر رمضان، سنة أربع وخمسين وستمائة. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيّبين الطّاهرين، وسلم تسليما كثيرا. وحسبنا الله ونعم الوكيل» .
ونسخة التقليد الثانى:
«الحمد لله، كافل المزيد لمن شكره، ورافع الدرجات لمن أطاعه فيما نهاه وأمره، وهادى أمّة الحق إلى السبيل الذى يسّره، وشرعه الذى ارتضاه لدينه وتخيّره. وجاعل العلماء ورثة أنبيائه، فيما أباحه من الأحكام وحظّره.
أحمده حمدا لا يحصى عدده. وأشكره شكرا يتجدّد كلما طال أمده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، شهادة تستنفد الإمكان. ويشهد بالإخلاص فيها الملكان-. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذى اصطفاه وانتخبه. وفرض اتباعه على خلقه وأوجبه. وبعثه رسولا فى الأميّين. وأرسله رحمة للعالمين.(29/445)
ونصب شريعته سبيلا منجّيا. وطريقا إلى الرسل مؤدّيا. وشرف رتبتها وعظّمها. وأعلى قدر من رقى ذروتها وتسنّمها- صلى الله عليه- ما تعاقب شمس وقمر. وذكر مبتدأ وخبر وجرى بالكائنات مشيئة وقدر.
وعلى الأنبياء الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار، وجعلهم من المصطفين الأخيار. وعلى آله أولى الأيدى والأبصار. وأصحابه المهاجرين والأنصار. صلاة دائمة الاستمرار. باقية على تعاقب الليل والنهار.
أما بعد، فإن الله. تعالى- جعل شريعة نبيّه صراطا متّبعا وطريقا مهيعا «1» ومحلّا مرتفعا. وأنزل بتعظيمها قرآنا، وجعلها بين الحق والباطل فرقانا. فقال مخاطبا لنبيّه- تنبيها وتعليما، وتبجيلا لقدرته وتعظيما: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. وعظّم قدر العلماء فى آياته المحكمات، وكلماته البيّنات، فقال عزّ وجل: يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات.
فتعيّن بذلك على ولاة الأمور، من الاجتهاد المأثور، أن يتخيّروا لهذا المنصب الشريف، من الولاة: من هو أجلّهم علما. وأعدلهم حكما، وأنفذهم فى الحقّ سهما. وأضواهم حسّا، وأشرفهم نفسا، وأصلحهم يوما وأمسا. وأطهرهم وأورعهم. وأجداهم للإسلام وأنفعهم.
وكنا قد مثلنا كنانة «2» العلماء بمصرنا، فعجمنا عيدانها. واختبرنا أعيانها. فوجدنا المجلس العالى: القاضى الأجلّ، الصدر الكبير، الإمام(29/446)
العالم العامل. الزاهد العابد، الكامل الأوحد، المجتبى المؤيد الأعز الأسعد، تاج الدين جلال الإسلام، ضياء الأنام، بهاء الملّة، شمس الشريعة سيد الحكام، قدوة العلماء: يمين الملوك والسلاطين، قاضى قضاة المسلمين، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب، بن القاضى الفقيه، الأجلّ الأعز، أبى القاسم خلف- أدام الله تأييده وبسطته، وتمكينه ورفعته- قد زادت صفاته على هذه الصفات، وأوفت عليها أتمّ الموافاة.
واختبرنا منه رجلا، لو عرضت عليه الدنيا لم يردها. ولو صوّر نفسه لم يزدها. ووقع على سيادته إجماع الحاضرين والبادين، والمسودين والسّائدين. وشهدوا بها، ونحن على ذلك من الشاهدين.
ففوّضنا إليه ما فوّضناه: من قضاء القضاة بمصر المحروسة، والأقاليم القبلية، وما معها. والأوقاف والمدارس وما جمعها- الجارية فى نظر الحكم العزيز. ثم تجدّد لنا نظر يعمّ المسلمين شانه، ومنظر يرمقهم بالمصالح إنسانه. وعلمنا أن هذه الولاية بعض استحقاقه، وأنها قليلة فى جنب نصحه للمسلمين وإشفاقه. وأن صدره الرحيب لا يضيق بأمثالها ذرعا، ولا يعجز- بحمد الله- أن يرعيها بصرا من إيالته وسمعا. إذ كان قد.
أحيى بها السّنّة السّلفيّة، وأظهر أسرار العدل الخفيّة. وزاد الحقّ بنظره وضوحا، والمعروف دنواّ والمنكر نزوحا- رأينا أن نجمع إليه قضاء القضاة بالقاهرة المعزية والوجه البحرى، وما كان يتولاه من قبله، من أوقاف البلاد ومدارسها، وربطها ومحارسها، ومنابت العلوم ومغارسها.
وقد أكملنا له بذلك قضاء القضاة بجميع الديار المصرية: أرجاء وأكنافا، ومداين وأريافا، وأوساطا وأطرافا. وجعلناه الحاكم فى أقضيتها،(29/447)
والمتصرف فى أعمالها ومدانيها. وأقاصى بلادها وأدانيها. وأطلقنا يده فى أحكامها، وما يراه من تولية وعزل لحكّامها. والنظر فيما كان الحكّام قبله يتولونه من الوقوف. وهو غنىّ أن يوصّى بنهى عن منكر أو أمر بمعروف. لما فيه من صفات الكمال، وشريف الخلال. ولم نستوف وصية فى عهدنا إليه ولم نستقصها، واستغنينا عن مبسوط الأقوال بملخّصها- تحقّقا أنه صاحب قياس الشريعة ونصّها.
فليحكم بما فوّضناه إليه، وبسطنا فيه يديه: من الجرح والتّعديل «1» ، والإقرار والتّبديل. والله يوفّقه فيما تولاه قائلا وفاعلا، ويرشده لمراضيه مسئولا وسائلا، ويجعل الصلاح للكافّة به شاملا. ويقرن التقوى بلسانه وقلبه، ويلبسه من السعادة ملبسا لا تتخطّى الخطوب إلى سلبه. ويجعله داعيا إلى الله على بصيرة من ربه. إن شاء الله عز وجل.
«كتب لثمان بقين من شهر رمضان المعظم، من سنة أربع وخمسين وستمائة. بالإشارة العالية الصاحبية، الوزيريّة المولويّة الشّرفيّة، ضاعف الله علاها. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله، وسلّم.
حسبنا الله ونعم الوكيل» .
وكتب الوزير الصاحب شرف الدين الفائزى- على كلّ من هذين التقليدين، تحت خط السلطان فى بيت العلامة، ما مثاله: «تمثيل الأمر العالى- أعلاه الله وشرّفه» .(29/448)
وقد نقلت ذلك من التقليدين، كما شاهدته. ولم يتعرض الموقّع فيهما إلى ذكر جامكيّة «1» ولا جراية. والله أعلم.
ولم تطل مدة هذه الولاية. فإنه صرف فى السنة التى تليها، سنة خمس وخمسين- فى ثالث شهر ربيع الأول، وقيل بعد ذلك بقليل. والله أعلم.
ذكر ما حدث بالمدينة النبوية- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- من الزلازل، والنار التى ظهرت بظاهرها
وفى سنة أربع وخمسين وستمائة، وردت كتب من المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- بخبر هذه الحادثة. من جملتها، كتاب القاضى شمس الدين سنان، بن عبد الوهاب بن نميلة الحسينى- قاضى المدينة- وإلى بعض أصحابه بدمشق، مضمونه:
«لما كانت ليلة الأربعاء. ثالث جمادى الآخرة- حدث بالمدينة فى الثّلث الأخير من الليل، زلزلة عظيمة، أشفقنا منها، ودامت بقيّة تلك الليلة. تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات. والله، لقد زلزلت مرة، ونحن حول حجرة النبى- صلى الله عليه وسلم- حتى اضطرب لها المنبر، وسمعنا منه صوت الحديد الذى فيه! واضطربت قناديل الحرم الشريف! ودامت(29/449)
الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوىّ مثل دوىّ الرعد القاصف! ثم طلع، يوم الجمعة، فى طريق الحرّة «1» فى رأس قريظة، على طريق السّوارقيّة «2» بالمقاعد، مسيرة من الصبح إلى الظهر- نار عظيمة مثل المدينة العظيمة! وما ظهرت لنا إلا ليلة السبت. وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما.
وطلعت إلى الأمير وكلّمته، فقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى. فأعتق مماليكه، وردّ على جماعة أموالهم. فلما فعل هذا، قلت له: اهبط الساعة معنا إلى النبى صلى الله عليه وسلم. فهبط، وبتنا ليلة السبت، والناس جميعا والنسوان وأولادهم، وما بقى أحد، لا فى النخيل ولا فى المدينة- إلا عند النبى صلى الله عليه وسلم.
وأشفقنا منها، وظهر لها لسان- حتى رؤيت من مكة، ومن الفلاة جميعها. ثم سال منها نهر من نار، وأخذ فى وادى أحيلين «3» ، وسدّ الطريق. ثم طلع إلى بحرة الحاج، وهو نهر نار يجرى- وفوقه جمر تسير إلى أن قطعت الوادى- وادى الشّظاة «4» . وما عاد يجىء فى الوادى سيل قط،(29/450)
لأنها حرّة، تجى قامتين وثلاثا علوّها. وتمت تسير، إلى أن سدّت بعض طرق الحاج، وبعض البحرة، بحرة الحاج. وجاء فى الوادى إلينا منها قتير «1» وخفنا أنه يجيئنا. واجتمع الناس، ودخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم، وياتوا عنده جميعهم ليلة الجمعة. فطفىء قتيرها الذى يلينا، بقدرة الله سبحانه.
وهى الى الآن وما نقصت، الّا ترى مثل الجمال حجارة من نار. لها دوىّ، ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب. وما أقدر أصف لك عظمها، وما فيها من الأهوال. وأبصرها أهل التّنعيم «2» ، وندبوا قاضيهم ابن أسعد.
وجاء وعدّى اليها، وما قدر يصفها من عظمها. قال: وكتبت الكتاب، يوم خامس رجب، وهى على حالها، والناس منها خائفون. والشمس والقمر، من يوم طلعت، ما يطلعان إلا كاسفين. نسأل الله العافية.
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: بان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان. وكنا حيارى من ذلك، لا ندرى ما هو؟ إلى أن اتضح، وجاء هذا الخبر عن هذه النار.(29/451)
وجاء كتاب آخر من بعض بنى القاشانى بالمدينة، يذكر فيه خبر هذه الحادثة، نحو ما تقدم، ويقول:
«ومن قبل ذلك بيومين، سمع الناس صوتا مثل صوت الرعد- ساعة بعد ساعة- وما فى السماء غيم، حتى يظنّ أنه منه. ثم زلزلت الأرض فى يوم الأربعاء المذكور آنفا، فرجفت بنا رجفة لها صوت كدوى الرعد. ففزع الناس إلى المسجد، وضجّوا بالستغفار والصلاة. ودامت ترجف بالناس، ساعة بعد ساعة، من ليلة الأربعاء إلى صبح يوم الجمعة. فارتجت الأرض رجة قوية، إلى أن اضطرب بنا المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم! وسكتت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة، إلى قبل الظهر.
ثم ظهرت نار من الحرّة تتفجر من الأرض، فارتاع الناس لها روعة عظيمة. ثم ظهر لها دخان عظيم فى السماء، ينعقد، حتى بقى كالسحاب الأبيض، يتصل إلى قبيل مغيب الشمس من يوم الجمعة. ثم ظهر للنار ألسن تصعد إلى السماء حمر، وعظمت حتى غطّت حمرة النار السماء كلّها. وبقى الناس فى مثل ضوء القمر. وأيقن الناس بالهلاك والعذاب. وذكر من توبة الناس، وفعل الأمير بالمدينة وعتقه مماليكه، ووضعه المكوس، نحو ما تقدم.
قال: وبقيت النار تلتهب التهابا، وهى كالجبل العظيم، ولها حسّ كالرعد. فدامت كذلك. فدامت كذلك أياما. ثم سالت فى وادى أحيلين «1» ، فتحدرت فى الوادى إلى الشّظاة، حتى لحق سيلانها بالبحرة(29/452)
بحرة الحاج، والحجارة معها تتحدر وتسير، حتى كادت تقارب حرّة العريض. ثم سكنت ووقفت أياما. ثم عاد يخرج من النار حجارة أمامها وخلفها، حتى بنت جبلين أمامها وخلفها، وما بقى يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما. ثم انها عظمت الآن، وسناها إلى الآن، وهى تتّقد كأعظم ما يكون. ولها صوت عظيم من آخر الليل إلى صحوة فى كل يوم. ولها عجائب ما أقدر أصفها، ولا أشرحها لك على الكمال. وإنما هذا منها طرف. قال: وكتبت هذا الكتاب، ولها شهر وهى فى مكانها، ما تتقدم ولا تتأخر.
وقال بعض أهل المدينة فى ذلك شعرا، وهو:
يا كاشف الضّرّ: صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا، ونحن بها، حقاّ أحقّاء
زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شمّاء
أقام سبعا يرجّ الأرض، فانصدعت ... عن منظر، منه عين الشمس عشواء
بحر من النار، تجرى فوقه سفن ... من الهضاب، لها فى الأرض إرساء
كأنما فوقه الأجبال، طافية ... موج علاه لفرط الهيج غثّاء «1»
يرى لها شرر كالقصر طائشة ... كأنّها ديمة تنصبّ هطلاء
تنشقّ منها قلوب الصّخر، إن زفرت ... رعبا، ويرعد مثل السّعف رضواء
منها تكاثف فى الجوّ الدّخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهى دهماء(29/453)
قد أثّرت سفعة فى البدر لفحتها ... قليلة التّمّ بعد النور ليلاء
تحدّث النّيرات السّبع ألسنها ... بما يلاقى بها تحت الثّرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج، إلى ... أن كاد يلحقها بالأرض إهواء
فيالها آية «1» من معجزات رسول ... الله يعقلها القوم الألبّاء
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذّنوب، وساء القلب أسواء «2»
فاسمح وهب وتفضّل وامح واعف وجد ... واصفح «3» ، فكل لفرط الجهل خطّاء
فقوم يونس لما آمنوا أمنوا ... كشف العذاب، وعمّ القوم نعماء
ونحن أمة هذا المصطفى، ولنا ... منه إلى عفوك المرجوّ دعّاء
هذا الرسول الذى لولاه ما سلكت ... محجّة فى سبيل الله بيضاء
فارحم وصلّ على المختار، ما خطبت ... على علا منبر الأوراق ورقاء
ذكر خبر احتراق مسجد المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
وفى هذه السنة- فى ليلة الجمعة أول شهر رمضان- احترق مسجد المدينة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.(29/454)
ابتدأ حريقه من زاويته الغربية، من الشمال. وكان سبب ذلك أن أحد القومة دخل إلى الخزانة، ومعه نار، فعلقت فى آلات ثمّ، واتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبّت فى السقوف، فأعجلت الناس عن قطعها. فما كان إلا ساعة، حتى احترقت سقوف المسجد أجمع، [ووقعت «1» بعض أساطينه وذاب رصاصها- وذلك قبل أن نام الناس. واحترق سقف الحجرة الشريفة] .
قلت: وفى وقوع هذه النار معجزة لنبينا- صلى الله عليه وسلم، فإن الخلفاء والملوك بعده- صلى الله عليه وسلم- زادوا فى عمارة المسجد بأنواع من العمارة، وتفنّنوا فى النقوش والإتقان، وهو- صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، وقال- فى مرضه الذى انتقل فيه إلى جوار ربه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وقالت عائشة- رضى الله عنها- ولولا ذلك لأبرز قبره- صلى الله عليه وسلم. فجاءت هذه النار، فأكلت ما كرهه صلى الله عليه وسلم.(29/455)
واستهلّت سنة خمس وخمسين وستمائة:
ذكر مقتل السلطان الملك المعز وشىء من أخباره، ومقتل شجر الدر الصالحية
كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة.
وسبب ذلك أن شجر الدّرّ- سرّيّة «1» الملك الصالح زوجته- اتصل بها أنه سيّر يخطب ابنة صاحب الموصل فتنكرت لذلك. وكان هو أيضا قد تغيّر عليها، بسبب امتنانها عليه، وأنها هى التى ملّكته الديار المصرية، وسلمت إليه الخزائن. وعزم المعزّ على قتلها، فلم يخفها ذلك. فبادرت بالتدبير عليه، واتفقت هى ومحسن الجوجرى الخادم، ونصر العزيزى، على قتله.
فلما كان فى هذا التاريخ، طلع الملك المعزّ من الميدان إلى قلعة الجبل عقيب اللعب بالكرة- فأمر بإصلاح الحمّام، وعبر إليها. فدخل عليه محسن الجوجرى، وغلام له شديد القوة، فقتلوه فى الحمّام!(29/456)
وشاع الخبر بقتله، فى بكرة نهار الأربعاء، فسمّر محسن الجوجرى الخادم وغلامه على باب قلعة الجبل. وأما نصر العزيزى فإنه هرب إلى الشام. وأحضرت شجر الدر إلى أم نور الدين بن الملك المعز، فما زالت تضربها- هى وجواريها وخدمها- إلى أن ماتت. وألقيت من أعلى السور الى الخندق. وبقيت أياما عريانة ملقاة فى الخندق. ثم حملت ودفنت فى تربتها المجاورة لمشهد السيدة نفيسة.
وكانت شجر الدر هذه سرّيّة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهى والدة خليل ابنه. وكانت قد ملكت الديار المصرية، وخطب لها وخرجت تواقيعها ومناشيرها، بالأرزاق والمباشرات والإقطاعات- وقد تقدم ذكر شىء منها. ولما ملك السلطان الملك المعز وتزوجها، ما زالت تخاطب بالسلطنة، وتخرج تواقيعها بالاطلاقات وإبطال الحوادث وكف المظالم، فتنفذ كنفوذ التواقيع السلطانية.
وقد شاهدت منها توقيعا على ظهر قصة، مترجمها على بن هاشم، مضمونها: «يقبّل الأرض بالمقام العالى السلطانى الخاتونى، عصمة الدين، بسط الله ظلها فى مشارق الأرض ومغاربها- وينهى أن له خدمة على مولانا الشهيد- قدّس الله روحه- وله مليك اقتناه فى أيامه، ولم يسقّع «1» عليه قط.
وفى هذه الأيام التمسوه، وسأل إجراءه على عادته، من غير حادث.(29/457)
وخرج التوقيع فى ظهرها، ومثال العلامة عليه: والدة خليل الصالحية: «المرسوم، بالأوامر العالية المولوية السلطانية- زادها الله شرفا وعلوا- أن يجرى الأمير الأجل الأخص الأمجد الأعز: نور الدين مترجمها- أدام الله توفيقه- على عادته. ولا يطلب بسبب تصقيع «1» ولا غيره، وليعف من ذلك- رعاية لحق خدمته على الدولة الشريفة، ولقدم هجرته وانقطاعه إلى الله تعالى. فليعتمد ذلك بعد الخط الشريف أعلاه وثبوته- إن شاء الله تعالى. كتب فى ثانى عشرين جمادى الآخرة، سنة ثلاث وخمسين وستمائة- برسالة الطواشى شرف الدين مختص الجمدار- أيّده الله تعالى.
وكتب عليه بالامتثال. ونفّذ حكمه وعمل بمقتضاه. وإنما شرحنا هذا التوقيع، ليعلم أن تواقيعها كانت جارية بلفظ السلطنة، فى الدولة المعزّيّة.
وكانت مدة سلطنة الملك المعز ست سنين وأحد عشر شهرا، إلا أربعة أيام. وكان ملكا حازما شجاعا، سئوسا حسن التدبير- إلا أنه كان سفّاكا للدماء. قتل جماعة من خوشداشيّته بغير ذنب، ليقيم ناموس ملكه.
ووزر له الصاحب الأسعد: شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى.
وتمكّن منه تمكنا عظيما. وقدّمه على العساكر وصرّفه فى الأموال.(29/458)
وكان الوزير المذكور من قبط مصر. خدم الملك الفائز أخا الملك الكامل كاتبا، ثم تقدم وترقى وتنقل فى المراتب، إلى أن وزر. وتحول فى الدولة وابتاع المماليك لنفسه. وتعالى فى أثمانهم، فكان يبتاع المملوك بألف دينار عينا. واجتمع له نحو من سبعين مملوكا، يركبون فى خدمته وينزلون.
وكان يقول فى وزارته: كنت كاتب المصايد بقنطرة سيوط، بدرهم وثلث فى كل يوم، ثم ترقيت إلى هذه الغاية.
وكان ظالم النفس، أحدث فى وزارته حوادث كثيرة ومكوسا.
واستناب القاضى زين الدين بن الزّبير، لفضيلته وكفايته ومعرفته باللغة التركية. وكان يحفظ له نظام المجلس.
ولما قتل الملك المعزّ ملك بعده ولده الملك المنصور.
ذكر أخبار السلطان الملك المنصور نور الدين: على بن السلطان الملك المعز وهو الثانى من ملوك دولة الترك بالديار المصرية
ملك الديار المصرية بعد مقتل أبيه- رحمه الله تعالى- فى يوم الخميس السادس والعشرين من شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة.
وذلك باتّفاق من الأمراء المعزّيّة- مماليك والده- فحلفوا له، واستحلفوا(29/459)
جميع العساكر. وجعلوا الأمير فارس الدين أقطاى، المستعرب الصالحى-.
خوشداش «1» والده- أتابكه، بحكم صغر سنّ الملك المنصور. ثم استقرت الأتابكية- بعد ذلك- للأمير سيف الدين قطز، المعزّى- مملوك والده.
ووزر له الصاحب شرف الدين الفائزى، أياما قلائل، ثم قتل.
وذلك أن الأمير سيف الدين قطز عزله عن الوزارة، وأمر بالحوطة على أمواله وأسبابه وذخائره. وكان مثريا، وله ودائع كثيرة، فتتبّعت واستخرجت ممن كانت تحت يده. واعتقل، فسأل أن يعطى مالا، فداء عن نفسه.
حكى عن الصاحب بهاء الدين السّنجارى أنه قال: دخلت عليه فى محبسه، فسألنى أن أتحدث فى إطلاقه- على أن يحمل فى كل يوم ألف دينار. قال: فقلت له: كيف تقدر على هذا؟ فقال: أقدر عليه إلى تمام سنة. وإلى انقضاء سنة يفرج الله! ولما بذل هذا المال، امتنعت والدة الملك المنصور من ذلك، ولم ترض إلا بقتله. لأنها كانت مجفوّة من السلطان الملك المعزّ، وكان قد اتّخذ سرارى «2» وجعلهنّ عند الوزير شرف الدين، فنقمت ذلك عليه، وأمرت بقتله. فقتل صبرا.(29/460)
ذكر أخبار الوزراء، ومن ولى وزارة الملك المنصور إلى أن استقر فى الوزارة قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز
لما صرف الصاحب شرف الدين الفائزى، فوّضت الوزارة بعده للفقيه: نور الدين بن على بن رضوان القرافى مؤدّب الملك المنصور هذا، وخلع عليه خلع الوزراء. فامتنع أن [يخطّ] بقلمه، أو يكتب على توقيع أو منشور، واستمر كذلك عشرين يوما، واستعفى. فأرسل إليه قاضى القضاة بدر الدين السّنجارى، يلتمس منه أن يتحدث له فى الوزارة، ويعده أنه لا يخرج عن أمره. فقال للسلطان، ولوالدته- وكانت لا تحتجب عنه، فيما قيل- للأتابك: أنا لا أصلح لهذا المنصب، ولا أنفع ولا أنتفع به.
وأشار بالقاضى بدر الدين.
فعند ذلك فوّض للفقيه نور الدين هذا نظر الأحباس والأوقاف، والشافعى والخانقاه والتّرب، وغير ذلك من الأوقاف وفوّضت الوزارة لقاضى القضاة: بدر الدين السّنجارى، فوليها ثلاثة أشهر وأياما، ثم عزل.
وفوّضت الوزارة بعده لقاضى القضاة: تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ- وكان قد صرف عن القضاء قبل ذلك، وأعيد قاضى القضاء بدر الدين. وكانت وزارته فى العاشر من شهر رمضان، سنة خمس وخمسين وستمائة.(29/461)
ونسخة التّقليد- على ما نقلته عنه- ومثال العلامة السلطانية بعد البسملة:
«الحمد لله وبه توفيقى. الحمد لله الذى أوضح بعد الغىّ سبيل الرّشد.
وتدارك من المجد ما أخلق من أبراده «1» الجدد. وثقّف «2» قناة الملك حتى لا يرى فيها عوج ولا أود «3» . واستغنى فى تدبير سلطانه العظيم عن وزير به يعتضد.
أحمده على نعم سهّلت صعبا. وسقت على ظمأ باردا عذبا. ورجع بها ما ضاق من الأمور واسعا رحبا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذى أضحى به معهد الإيمان معهودا. ونظام المكرمات منضودا. وعلى آله وأصحابه، الذين كان سعيهم فى الإسلام محمودا، وأنوار مناقبهم متوقّدة لا تعرف خمودا.
وبعد، فلما كان المجلس السامى، الصاحب الأجلّ، الصدر الكبير، الإمام العالم، الوزير الكامل، المجتبى المختار، تاج الدين، بهاء الإسلام، مجد الأنام، شرف الوزراء زين الفضلاء، رئيس الأصحاب، صفوة الملوك والسلاطين، مفتى الفرق، خالصة أمير المؤمنين: عبد الوهاب(29/462)
ابن القاضى الأعز خلف- أدام الله سعادته، وقرن بالتأييد بدأه وإعادته- ممن سلكت به التّجربة حزنا وسهلا «1» ، وراض جامح الأمور ناشئا وكهلا، وتمّت كلمات تفضيله بفضائله صدقا وعدلا، وجدّدت له مساعيه الحميدة ملابس ثناء لا تبلى. وأجلى من أبكار معانيه بدورا لا تعرف أفولا ولا كسوفا، واستلّ من آرائه شعلا، فلو طبعت لكانت سيوفا. واتّسق نظام بلاغته، فكأنه نظام فريد. واستعيدت ألفاظه فما أخلقها العود على المستعيد.
وحلّى بدرر مساعيه جيدا من الملك عاطلا، وعاد ربع المكارم بمناقبه عامرا آهلا.
رسم بالأمر العالى المولوى السلطانى، الملكى المنصورى النّورى- شرّفه الله وأعلاه، وأنفذه وأمضاه- أن يفوّض إليه أمر الوزارة، لما علم فيه من السّودد الذى اقتاد به صعب المكارم والمفاخر، التى حاز منها ما لم يحزه الأوائل، وإن جاء فى الزّمن الآخر. والفضائل التى فاز منها بقصب السّبق، والأحكام التى تحلّى فيها بدرّ الأناة والرّفق. والسياسة التى سلك بها نهج السبيل إلى الحق. والمعالى التى أبدى فى كسبها ما أبداه، من ثغره الضاحك ووجهه الطّلق. والنزاهة التى أهّلته لأشرف المناصب، وقضت له بسلامة العواقب، والصنايع التى غذت معارفه عند مناكرة النوائب، والمكارم التى لحّت فى العلوّ، فكأنها تحاول أخذ ثأر من الكواكب(29/463)
ولقد أمعنّا النظر فى إرتياده. وانتقدناه من بين الناس، فلم نأل جهدا فى انتقاده. وخطب لهذه الرّتبة الرفيعة لما أوراه فى المكرمات من زناده.
وأهّل لهذا المنصب الشريف الذى يدع الآباء والأبناء من حسّاده.
فليتولّ ما ولّيناه من أمر الوزارة، فهو لها من الأكفاء. وما اصطفيناه إلا هو جدير بهذا الاصطفاء. ولمثل هذه الرتبة يتخيّر الأكارم من الرجال.
وإذا تناسبت الأشياء، ظهر عليها نضرة وجمال. فليرهف لتدبيره عزمه الماضى الضّرائب. وليستر بمحاسن سعيه ما يبدو له من المعايب. وليهتم بأمر الأموال، فان الأغراض منها مستفادة. وليولّ من الأمناء من يستحق منا الحسنى وزيادة.
ولينعم النّظر فى عمارة البلاد. واستعمال العدل الذى به تدرّ أرزاق العباد. وبنوره يهدى إلى سبيل المراشد كلّ هاد. وعنده يوجد تصديق ظنون الرّوّاد والورّاد. وليكن لأحوال ولاة الأمور متفقّدا، وللنظر فى أحوالهم مجدّدا. وليضرب عليهم بالأرصاد مغيبا ومشهدا. وليصفح عن من لم يكن منهم للزّلّة متعمدا. فما نؤثر إلا أن يكون الإحسان للناس شاملا، والبرّ إليهم متواصلا. وما تحسن السّير إلا إذا تحلّت بالمناقب والمفاخر. وتضمنت محاسنها بطون الأوراق وصدور الدّفاتر.
وليتناول من الجامكيّة والجراية «1» ، لاستقبال المباشرة فى الشهر، من العين مائة دينار من الجوالى «2» بالصّرف الحاضر. ومن الغلّات، من(29/464)
الأهراء المباركة بمصر المحروسة، خمسين إردبا قمحا وشعيرا- ثلثين وثلث.
ومن الراتب- الشاهد به الديوان المعمور لمن تقدّمه- النصف» .
وعيّن جهات الراتب، فقال: «الخبز من المخابز، واللحم مع التّوابل والخضر المثمّنة، وما هو مقرّر على دار الوكالة مشاهرة، من عرصتى الفاكهة بالقاهرة ومصر والرّباع، وغير ذلك. والعليق المقرر على الاسطبلات من الأهراء أيضا. وإن تعذّر حصول الغلّة المقدّم ذكرها، والعليق المذكور، يثمّن بالسعر الحاضر، وتكون جهته من جهة الجامكية.
فليستعن بهذا المقرّر على كلف أوقاته. وليصرفه فى وجوه نفقاته، بعد العلامة الشريفة أعلاه، وثبوته بحيث يثبت مثله، إن شاء الله تعالى.
وكتب فى العاشر من شهر رمضان المبارك، سنة خمس وخمسين وستمائة، بالإشارة العالية المولويّة الأتابكيّة الفارسية- أدام الله علوّها.
الحمد لله وحده. وصلواته على سيدنا محمد نبيه، وآله، وسلامه» .
وكتب هذا التقليد فى ورق بغدادى فى قطع الرّبع. وعادة تقاليد الوزراء- فى وقتنا هذا- تعظّم أربابها فى النّعوت والكتابة، أكثر من هذا.
وفى هذه السنة- وقيل فى السنة الآتية- كانت الوقعة بين العساكر المصرية والملك المغيث والبحرية، وانتصر العسكر المصرى، وانهزم الملك المغيث والبحرية. وقد تقدم ذكر ذلك فى أخبار البحرية، فلا فائدة فى إعادته.(29/465)
واستهلّت سنة ست وخمسين وستمائة:
فى هذه السنة، كانت وفاة بهاء الدين أبو الفضل زهير، بن محمد بن على بن يحيى بن الحسن، بن جعفر بن منصور بن عاصم المهلّبى «1» الكاتب.
كان من فضلاء عصره. وكان قد خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب، لمّا كان ينوب عن والده الملك الكامل. وتوجه فى خدمته إلى الشّرق، ولازمه إلى أن قبض على الملك الصالح واعتقل بالكرك. فأقام بنابلس محافظة لمخدومه، إلى أن خلص، فعاد إلى خدمته. وحضر فى صحبته إلى الديار المصرية، وتمكن منه واطّلع على سره.
وكانت وفاته قبيل المغرب من يوم الأحد، رابع عشر ذى القعدة.
ودفن من الغد، بعد صلاة الظهر، بتربته بالقرافة الصغرى، بالقرب من تربة الإمام الشافعى. ومولده بمكة- شرّفها الله تعالى- فى يوم الأربعاء، خامس ذى الحجة، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
وفيها، توفّى الإمام الحافظ زكى الدين أبو محمد عبد العظيم، بن عبد القوى بن عبد الله بن سلام، بن سعد بن سعيد المنذرى.(29/466)
وكانت وفاته بالقاهرة، فى يوم السبت، أول الساعة العاشرة، ثالث أو رابع ذى القعدة، سنة وخمسين وستمائة. وصلّى عليه فى يوم الأحد- بعد الظهر- بالمدرسة الكاملية بالقاهرة المعزّيّة. ثم صلى عليه تحت القلعة.
وصلى عليه عند قبره قبل العصر. ودفن بسفح المقطم. وكان مولده بفسطاط مصر، فى غرّة شعبان، سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وانتهت إليه رياسة الحديث فى زمانه- رحمه الله تعالى.
وفيها، توفى الشيخ الفقيه الإمام: أبو إسحاق إبراهيم، بن يحيى بن أبى المجد، الأسيوطى الشافعى.
وكانت وفاته بالقاهرة المعزّيّة، فى عشية اليوم السابع من ذى القعدة، من هذه السنة، ودفن بسفح المقطّم. ومولده فى سنة سبعين وخمسمائة- تقريبا. وكان أحد المشايخ المشهورين بمعرفة مذهب الشافعى.
وكان كثير الإيثار مع الإقتار، والإفضال مع الإقلال، كريم الأخلاق.
رحمه الله تعالى.
واستهلّت سنة سبع وخمسين وستمائة:
فى هذه السنة- ثانى عشر جمادى الآخرة- جبى التّسقيع «1» بالقاهرة.(29/467)
وفيها، فى شعبان- أمسك شخص يعرف بالكورانى، فضرب ضربا شديدا، وحبس على بدع رؤيت منه وسمعت عنه. ثم جدّد إسلامه وتاب، على يد شيخ الإسلام: عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وأطلق من الحبس. وكان مقامه بالجبل الأحمر.
ذكر القبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، واعتقالهما
كان القبض على السلطان الملك المنصور، بن السلطان الملك المعزّ، فى يوم الجمعة- السابع والعشرين من ذى القعدة- سنة سبع وخمسين وستمائة.
وسبب ذلك أنه تشاغل باللهو واللعب، والمسابقة بالحمير الفره، بين يديه، وأمثال ذلك. وكانت أمه تدبّر المملكة تدبير النساء. فأطمعت الأمير سيف الدين قطز المعزّى نفسه بالملك. واتفق خروج خوشداشيّته إلى الصيد، فانتهز الفرصة، وقبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، وعلى والدته. واعتقلهما فى برج السّلسلة «1» بثغر دمياط، ثم سفّر إلى القسطنطينية فى الأيام الظاهرية الرّكنية. فكانت مدة سلطنته سنتين، وثمانية أشهر، ويومين.(29/468)
ذكر أخبار السلطان الملك المظفّر سيف الدين قطز المعزّى. وهو الثالث من ملوك دولة الترك بالديار المصرية
ملك الديار المصرية فى يوم السبت، لليلتين بقيتا من ذى القعدة، سنة سبع وخمسين وستمائة- بعد أن قبض على الملك المنصور، بن مولاه الملك المعزّ.
قال: ولما ملك، حضر خوشداشيّته من الصيد، وتنكروا له، وامتعضوا من ملكه. فقبض عليهم واعتقلهم، وأعجلهم عن التدبير.
وهم: الأمير علم الدين سنجر الغتمى، والأمير شرف الدين قيزان «1» المعزّى، وعز الدين أيبك النّجيبى الصغير، وشمس الدين قرا سنقر المعزّى. واعتقل أيضا شمس الدين الدود: خال الملك المنصور بن المعزّ، والطّواشى حسام الدين بلال المغيثى اللّالا.
واستحلف الأمراء والعساكر، وأظهر الحزم. واستوزر الصاحب زين الدين بن الزبير. وعزل الأمير حسام الدين بن باذ عن وظيفة شاد الدواوين.
وولى الأمير نور الدين بن السديد. واستمرّ بالأمير فارس الدين أقطاى المستعرب على الأتابكة، وفوض إليه أمر العساكر.(29/469)
واحتفل بامر الجند، واستعد للجهاد، وأرسل إلى الملك الناصر صاحب الشام، وطلب منه الاتفاق واجتماع الكلمة. والمظافرة على العدو، وأن يكونا يدا واحدة على حرب التتار. فحلف له على ذلك. ثم كان من أمر الملك الناصر، واضطراب أمره، وزوال ملكه، واستيلاء التتار على حلب ودمشق وغيرها- ما قدمناه.
وملك التتار الشام بأسره. وجرّد هولاكو كتبغا نوين فى جيش كثيف، اختاره من المغل، وبعثه إلى الشام. وكان من أمره، وأمر جيوش الشام، وتحلّلهم بلاد الشام، ووصولهم إلى نابلس، وقتل من قدمنا ذكره بها- ما شرحنا ذلك فى أخبار الملك الناصر. فلا فائدة فى إعادته.
وفى سنة سبع وخمسين وستمائة.
توفى الأمير منيف بن شيحة، صاحب المدينة النبوية. وقام بعده بالمدينة أخوه: جمّاز بن شيحه.
وفيها، توفى الشيخ الفاضل الصّدر الكبير فتح الدين أبو العباس:
أحمد بن الشيخ جمال الدين أبى عمرو عثمان، بن أبى الحوافر- رئيس الأطباء بالديار المصرية.
وكانت وفاته فى ليلة الخميس، رابع عشر رمضان، ودفن بالقرافة.
وولى رياسة الأطباء بعده ابن أخيه: الصّدر شهاب الدين أحمد، بن محيى الدين رشيد بن جمال الدين عثمان، بن أبى الحوافر.(29/470)
واستهلّت سنة ثمان وخمسين وستمائة:
ذكر وصول البحرية والشهرزورية إلى خدمة السلطان الملك المظفر
فى هذه السنة، فارق الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى- ومن معه من الأمراء البحريّة- السلطان الملك الناصر صاحب الشام، لما رأوه من ضعف رأيه، وتخاذله عن ملاقاة عدوه. وتوجهوا إلى غزّة. واجتمعوا هم والأمراء الشّهرزوريّة.
وأرسل الأمير ركن الدين بيبرس- المذكور- الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى إلى السلطان الملك المظفّر، يستأذنه فى الحضور إلى خدمته- هو ومن معه- ويلتمس إيمانه لهم. فأجاب الملك المظفر إلى ما طلب. فتوجه من غزّة بمن معه. وكان وصولهم إلى القاهرة فى يوم السبت، الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول.
فركب الملك المظفر للقائهم، وأنزل الأمير ركن الدين بدار الوزارة.
وأقطعة قصبة قليوب، لخاصّه. فأشار الأمير ركن الدين عليه بحرب التتار.
وقوّى عزائمه على ذلك.(29/471)
ذكر خبر المصافّ «1» الكائن بين السلطان الملك المظفّر ومن معه من الجيوش الإسلامية، وبين جيش التتار على عين جالوت «2» . وانهزام التتار وقتل مقدمهم كتبغا نوين، وما يتصل بذلك من الأخبار
لما ملك التتار الممالك الشامية، وزالت دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف من الشام- كما قدمنا ذكر ذلك- راسل كتبغا نوين، مقدّم جيش التتار، السلطان الملك المظفّر، وأرسل إليه، يطالبه ببذل الطاعة، وتعبئة الضّيافة. فقتل الملك المظفّر رسله، إلا صبيّا واحدا، فإنه استبقاه، وضمه إلى جملة مماليكه.
واستعدّ للجهاد، وخرج بعساكر الديار المصرية، ومن انضم إليه من جيوش الشام- الذين فارقوا الملك الناصر- ومن حضر إليه من الأمراء البحريّة، والأمراء الشّهرزوريّة، وغيرهم.(29/472)
وراسل الملك الأشرف مظفر الدين موسى، صاحب حمص- وكان قد عاد من جهة هولاكو من حلب- وفوّض إليه نيابة السلطنة بالشام أجمع، وحلب، وغير ذلك، والملك السعيد بن الملك العزيز عثمان بن الملك العادل- وكان قد أخذ من هولاكو فرمانا بالصّبيبة وبانياس «1» .
وسألهما المظافرة والمعاونة على حرب العدوّ، وأن تكون الكلمة واحدة.
فتوجه رسوله، واجتمع بالملك السعيد. فسبّه وسبّ من أرسله، وقال: من هو الذى يوافق هذا الصبى، أو يدخل فى طاعته أو ينضم إليه؟! ونحو هذا من الكلام. ففارقه وتوجه إلى الملك الأشرف. فخلا الملك الأشرف بالرسول، وقبّل الأرض بين يديه تعظيما لمرسله. وأجلسه مكانه على مرتبته وجلس بين يديه، وسمع رسالته. وقال له: قبّل الأرض بين يدى مولانا السلطان الملك المظفّر، وأبلغه عنى أننى فى طاعته وموافقته، وامتثال أمره. والحمد لله الذى أقامه لنصرة هذا الدين. ووعد أنه، إن حضر المصافّ مع التتار، انهزم بهم، إلى غير ذلك. وأعطى الرسول ذهبا جيّدا، واعتذر إليه.
فعاد الرسول، وأبلغ الملك المظفر عن كل من الملكين ما قال له.
فعامل كلا منهما، عند ظفره، بما نذكره.(29/473)
قال: وجمع السلطان الملك المظفر الأمراء بالصالحيّة «1» ، واستشارهم: أين يكون لقاء العدو؟ فأشاروا أن يكون بالصالحيّة.
وصمّموا على ذلك. فوافقهم على رأيهم ظاهرا. وركب فى صبيحة ليلة المشورة من منزلة الصالحية. وحرّك الكوسات «2» ودخل الرّمل. فانجرت العساكر خلفه، ولم يتخلف منهم أحد عنه. وسار بعساكره وجموعه، حتى انتهى إلى عين جالوت- من أرض كنعان «3» ، بالقرب من بيسان، مدينة غور الشام.
وأقبل كتبغا نوين بجيوش التتار، ومن انضم إليه. والتقوا واقتتلوا- وذلك فى يوم الجمعة، الخامس والعشرين من شهر رمضان، سنة ثمان وخمسين وستمائة. وثبت الملك المظفّر أحسن ثبات. حكى بعض من حضر هذه الواقعة قال: كنت خلف السلطان الملك المظفّر، لما التحم القتال ووقعت الصّدمة الأولى، فاضطر جناح عسكر السلطان، وتتعتع طرف منه.
فلما رأى الملك المظفر ذلك، رمى خوذته عن رأسه، وصاح: وا إسلاماه! وحمل، فأعطاه الله تعالى النصر. وكانت الدائرة على التتار، وأخذهم السيف والإسار. وقتل كتبغا نوين، فيمن قتل. وانهزم من سلم من التتار، لا يلوون على شىء. وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى ممن شهد هذه الوقعة، وأبلى يومئذ بلاء حسنا.(29/474)
وكان ممن أسر من التتار، فى هذه الوقعة: كتبغا المنصورى- وهو يومئذ شاب- وهو الذى ملك الديار المصرية- بعد ذلك- فى سنة أربع وتسعين وستمائة، ولقب بالعادل. ووقع فى ذلك حكاية غريبة، نذكرها- ان شاء الله تعالى- عند ذكرنا لسلطنة الملك العادل كتبغا.
قال: ولما تمت الهزيمة على التتار، جاء الملك السعيد- بن الملك العزيز- إلى السلطان الملك المظفر، مستأمنا. وكان شهد الوقعة مع التتار.
فترجّل عن فرسه، وتقدم إلى السلطان ليقبّل يده. فضربه برجله على فمه، فأدماه. وجاء أحد سلاح دارية «1» السلطان، فضرب عنقه! وفعل ذلك به، مؤاخذة له على جوابه، الذى ذكره لرسول السلطان.
ذكر مسير السلطان الملك المظفر إلى دمشق ووصوله إليها، وملكه الممالك الشامية، وما قرره من ترتيب الملوك والنواب، وغير ذلك مما اتفق بدمشق
قال المؤرخ: ولما تم النصر، تقدم السلطان الملك المظفر، طالبا جهة دمشق. واتصل [الخبر] بالزين الحافظى ونواب التتار بدمشق، ومن كان قد وصل- صحبة الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث، صاحب(29/475)
الكرك- من جهة هولاكو من توريز «1» ، ليكون شحنة «2» بالكرك، وكانوا بدمشق. فخرجوا هاربين إلى هولاكو.
وكان النصارى بدمشق، فى أيام التتار، قد استطالوا على المسلمين، ومدوا أيديهم، وبسطوا ألسنتهم فيهم. فلما اتصل خبر النصر بالمسلمين، ثار جماعة من العوام، وحرقوا كنيسة مريم، وخربوا بعضها. فأقاموا كذلك من يوم الجمعة إلى يوم الثلاثاء. إلى أن وصل الأمير جمال الدين أقش المحمّدى، بكتاب السلطان الملك المظفر، ودخل دمشق. ونزل دار السعادة، وسكّن الناس وطمّنهم.
ثم وصل السلطان فى يوم الأربعاء، سلخ شهر رمضان. ونزل على الجسورة «3» ، وخيّم بها. وعيّد عيد الفطر، ثم دخل إلى دمشق، فى ثانى شوال، وملك البلاد.
ورتّب النوّاب فى المماليك الشامية: ففوّض نيابة دمشق إلى الأمير- علم الدين سنجر الحلبى- الصالحى. وجعل معه الأمير فخر الدين:
أبا الهيجا بن خشترين. وأقر الملك الأشرف مظفر الدين موسى على مملكته، بحمص والرّحبة وتدمر. وبعث الملك المظفر بن الملك الرحيم- بدر الدين(29/476)
لؤلؤ- إلى حلب نائبا بها، ونعته بالملك السعيد- لمشاركة النّعت. وأقر الملك المنصور بن الملك المظفر على مملكته بحماه. وأقطع البلاد الشامية والحلبية.
وأصلح ما اضطرب من الأمور. وعاد لقصد الديار المصرية، فقتل- قبل وصوله إليها.
ذكر مقتل السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز، ونبذة من أخباره
كان مقتله- رحمه الله تعالى- فى يوم السبت، الخامس عشر من ذى القعدة، سنة ثمان وخمسين وستمائة- وقيل فى سابع عشر الشهر.
وذلك أنه لما قرّر أمور الشام، ورتب الملوك والنواب والممالك، عاد من دمشق لقصد الديار المصرية، فى سادس عشر شوال. فلما وصل إلى منزلة القصير من منازل الرّمل «1» ، ركب إلى الصيد. وكان الأمير بدر الدين أنص الأصفهانى، وجماعة معه، تظافروا هم والأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، على اغتياله. فقصدوه- وهو فى الصيد- وقتلوه غيلة!(29/477)
وحكى فى كيفية قتله: أنه كان قد تغير خاطره على الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. فلما تقدّم الأمراء إليه، سأله الأمير بدر الدين أنص الرضا عن الأمير ركن الدين. فقال: قد رضيت عنه. فترجل الأمير ركن الدين ليقبّل يده. فلما تناولها قبض عليها، وجذبه عن سرجه، وبدره أولئك الأمراء بالضرب، فقتلوه- رحمه الله تعالى.
ويقال: إن الأمراء الذين اتفقوا على قتله [هم] : الأمير سيف الدين بلبان الرّشيدى، والأمير سيف الدين بهادر المعزّى- خوشداشه «1» - والأمير بدر الدين بكتوت الجو كان دار «2» المعزّى، والأمير سيف الدين بيغان الرّكنى، والأمير سيف الدين بلبان الهارونى، ومن ذكرنا.
وكان الملك الظاهر يدّعى أنه هو الذى قتله بيده. وقال جماعة: إنه لم يباشر قتله، وإنما كان يدّعى ذلك، افتخارا. وقد نقل أن الملك الظاهر لما قبض على يده، ضربه الأمير بدر الدين بكتوت الجو كان دار على عاتقه بالسيف، فأبانه. وألقاه الأمير بدر الدين أنص عن فرسه. ثم رماه الأمير سيف الدين بهادر المعزّى بسهم، أتى على روحه- رحمه الله تعالى. فكأنه المعنى بقول الشاعر:
وما كان إلا السيف، لاقى ضريبة «3» ... فقطّعه، ثم انثنى فتقطّعا(29/478)
وكانت مدة ملكه أحد عشر شهرا، وسبعة عشر يوما.
وأما غير ذلك من أحواله- رحمه الله تعالى-: فقد حكى أنه كان من أولاد الملوك الخوارزميّة. وأنه محمود بن ممدود، ابن أخت السلطان خوارزم شاه. وإنما أبيع، لما استولى التتار على البلاد، وملكوا ملك الخوارزميّة. وقتلوا الرجال وأسروا النساء والصبيان، وكان هو ممن أسر وأبيع. وقد كان هو يصرّح بذلك- فيما حكى عنه- ويستكتم من يحكيه له.
وقد نقل الشيخ شمس الدين: محمد بن إبراهيم بن أبى بكر بن إبراهيم ابن عبد العزيز، بن أبى الفوارس الجزرى، ثم الدّمشقى- فى تاريخه:
«حوادث الزمان وأنبائه» أن والده أخبره أن الحاج على الفرّاش أخبره، قال:
لما كان قطز فى رقّ ابن الزّعيم «1» بدمشق- وكان سكنه بالقصّاعين «2» - غضب عليه فى بعض الأيام فلطم وجهه، ولعبة ولعن والديه وجدّه. قال: فبكى قطز بكاء شديدا، وجعل ينتحب طول نهاره، وامتنع من الأكل. وركب أستاذه بعد صلاة الظهر إلى الخدمة، فقال لى:
استرضه وأطعمه، واعتبه على بكائه.(29/479)
قال الفرّاش: فجئت إليه وجعلت ألومه على بكائه من لطمة واحدة، فكيف لو ضربت ألف عصاة أو دبّوس، أو جرحت بسيف؟! فقال: والله ما بكائى وغيظى من أجل لطمة، وإنما كونه لعن أبى وأمى وجدى. فقلت له: ومن أبوك وجدك وأمك؟ فقال: والله أبى خير من أبيه، وأمى خير من أمه، وجدى خير من جده. فقلت له: أنت مملوك تركى، كافر بن كافرين.
فقال: والله، ما أنا إلا مسلم، ابن مسلمين: أنا محمود بن ممدود، ابن أخت خوارزم شاه، من أولاد الملوك. قال: فسكتّ عنه وطايبته.
وتقلّبت به الأحوال، إلى أن ملك الديار المصرية والشام. ولما ملك دمشق أحسن إلى الحاج على الفراش المذكور، وأعطاه خمسمائة دينار، ورتب له راتبا جيّدا.
قال الشيخ شمس الدين: وقد حكى لى ولوالدى، هذه الحكاية عنه. هذا معنى كلامه ولفظه.
ومما يؤيّد هذه الحكاية أيضا- ويشهد لها- ما حكاه الشيخ شمس الدين- المذكور- عن والده، قال: حكى لى الحاج أبو بكر بن الدّريهم الإسعردى، والحاج زكى الدين إبراهيم الجزرى- المعروف بالجبيلى، أستاذ الفارس أقطاى- قالا:
كنا عند الأمير سيف الدين قطز فى أول دولة أستاذه: الملك المعزّ، وقد حضر عنده منجّم ورد من بلاد المغرب- وهو موصوف بالحذق فى علم الرّمل والفلك. فأمر قطز أكثر من عنده من حاشيته بالانصراف، فانصرفوا.(29/480)
وهممنا بالقيام، فأمرنا بالجلوس، فجلسنا. وما ترك عنده إلا من يثق به من خواصّه. وقال للمنجّم: اضرب الرمل. ففعل. وحدّثه بأشياء كثيرة، مما كان فى نفسه.
وكان آخر ما قال له: اضرب وانظر من يملك بعد أستاذى، ومن يكسر التتار؟ فضرب، وحسب حسابا طويلا، وبقى يفكر ويعدّ أصابعه.
وقال: قد طلع معى خمس حروف بغير نقط، وأبوه أيضا خمس حروف بغير نقط. وأنت اسمك ثلاث حروف، وابن السلطان كذلك. فقال له: لم لا تقول: محمود بن ممدود؟ فقال المنجم: لا يقع غير هذا الاسم. فقال قطز: أنا محمود بن ممدود. وأنا أكسر التتار، وآخذ بثأر خالى خوارزم شاه.
ثم استكتمنا هذا الأمر. وأنعم على المنجم بثلاثمائة درهم، وصرفه.
وحكى عن المولى المرحوم تاج الدين أحمد بن الأثير- رحمه الله تعالى- ما معناه:
أن الملك صلاح الدين يوسف صاحب الشام- رحمه الله تعالى- لما كان على برزة «1» ، فى أواخر سنة سبع وخمسين وستمائة- وصل إليه قصّاد «2» من الديار المصرية، بكتب، تتضمن أن قطز قد تسلطن وملك الديار المصرية، وقبض على الملك المنصور بن أستاذه الملك المعز. قال القاضى تاج الدين: فطلبنى السلطان- رحمه الله- فقرأت عليه الكتب.(29/481)
فقال لى: خذ هذه الكتب، وتوجه إلى الأمير ناصر الدين القيمرى، والأمير جمال الدين بن يغمور، وأوقف كلّا منهما عليها. قال: فأخذتها وخرجت من عنده. فلما بعدت عن الدّهليز، لقينى حسام الدين البركة خانى «1» ، فسلم على، وقال، جاءكم بريد أو قصّاد من الديار المصرية فورّيت «2» ، وقلت: ما عندى علم بشىء من هذا. قال: قطز يتسلطن، ويملك الديار المصرية، ويكسر التتار. قال القاضى تاج الدين: فعجبت من كلامه، وقلت له: ايش هذا القول؟ من أين لك هذا؟
قال: والله، هذا قطز هو خوشداشى «3» . كنت أنا واياه عند الهيجاوى من أمراء مصر، ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير، فكنت أسرّح رأسه- على أننى كلما أخذت عنه قملة، آخذ منه فلسا أو صفعة. فلما كان بعض الأيام أخذت عنه قملا كثيرا، وشرعت أصفعه، ثم قلت فى غضون ذلك: والله ما أشتهى إلا أن الله يرزقنى إمرة خمسين فارسا، فقال لى: طيّب قلبك، أنا أعطيك إمرة خمسين فارسا. فصفعته، وقلت:
والك «4» ، أنت تعطينى إمرة؟! قال نعم! فصفعته! فقال لى: والك، ايش يلزم لك إلا إمرة بخمسين فارس، أنا والله، أعطيك. قلت: والك، كيف تعطينى؟.(29/482)
قال: أملك الديار المصرية: قلت: تملك الديار المصرية؟! قال: نعم، رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم- فى المنام، وقال لى: أنت تملك الديار المصرية، وتكسر التتار. وقول النبى صلى الله عليه وسلم لا شك فيه. فسكت. وكنت أعرف منه الصّدق فى حديثه وعدم الكذب.
وتنقّلت به الأحوال، وارتفع شأنه. إلى أن صار هو المحتكم فى الدولة. وما أشك أنه يملك الديار المصرية- مستقبلا- ويكسر التتار- كما أخبره النبى صلى الله عليه وسلم- فى المنام.
قال القاضى تاج الدين: فلما قال لى هذا القول، قلت له: والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن فى الديار المصرية. قال لى: والله، وهو يكسر التتار. فما مضى إلا مدة يسيرة، حتى خرج وكسر التتار.
قال المولى تاج الدين- رحمه الله- فرأيت الأمير حسام الدين البركة خانى، الحاكى لى- بعد ذلك- بالديار المصرية، بعد كسرة التتار. فسلّم على وقال لى: تذكر ما قلت فى الوقت الفلانى؟ قلت: نعم. قال: والله، حالما عاد الملك الناصر «1» من قطيا «2» ، ودخلت أنا إلى الديار المصرية، أعطانى إمرة خمسين فارسا، كما قال- رحمه الله- لا زايد على ذلك.
وقد ذكر هذه الحكاية الشيخ قطب الدين اليونينى «3» فى تاريخه، وقال أيضا:(29/483)
وحكى لى الأمير عز الدين بن أبى الهيجا ما معناه: أن الأمير سيف الدين بلقاق حدثه، أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكى حكى له، قال:
كنت أنا والملك المظفر قطز، والملك الظاهر ركن الدين بيبرس- رحمهم الله تعالى- فى حال الصّبا، كثيرا ما نكون مجتمعين فى ركوبنا وغير ذلك. فاتفق أن رأينا منجّما فى بعض الطرق بالديار المصرية. فقال له الملك المظفر: أبصر نجمى. فضرب بالرمل وحسب، وقال له: أنت تملك هذه البلاد، وتكسر التتار! فشرعنا نهزأ به. ثم قال له الملك الظاهر: فأبصر نجمى. فضرب بالرمل وحسب، وقال: وأنت تملك الديار المصرية وغيرها. فتزايد استهزاؤنا به! ثم قالا لى: لا بد أن يبصر نجمك. فقلت له أبصر لى. فضرب وحسب، وقال لى: وأنت تحصل لك إمرة بمائة فارس، يعطيك هذا- وأشار إلى الملك الظاهر. فاتفق أن الأمر وقع كما قال. وهذا من عجيب الاتفاق.
قال الشيخ قطب الدين اليونينى- نفع الله به-:
وكان السلطان الملك المظفّر بطلا شجاعا، ولم يكن يوصف بشح ولا كرم، بل كان متوسطا. وهو أول من أجترأ على التتار، وكسرهم، بعد خوارزم شاه، كسرة عظيمة، جبر بها الإسلام.(29/484)
قال: ومما حكى لى عنه: أنه قتل فى يوم المصافّ «1» جواده بعين جالوت، ولم يصادف فى تلك الساعة أحد من أوشاقيّته «2» ، الذين معهم جنائبه، فبقى راجلا. ورآه بعض الأمراء الشجعان، فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه. فامتنع، وقال له ما معناه: ما كنت لآخذ حصانك فى هذا الوقت، وأمنع المسلمين الانتفاع بك، وأعرضك للقتل. وحلف عليه أن يركب فرسه. فامتثل أمره، وركب. ووافاه الأوشاقيّة بالجنائب «3» ، فركب جنيبا.
فلامه بعض خواصّه على ذلك، وقال: لو صادفك- والعياذ بالله- بعض المغل، وأنت على الأرض راجلا، كنت رحت، وراح الإسلام! فقال:- أما أنا فكنت أروح إلى الجنة- إن شاء الله تعالى. وأما الإسلام، فما كان الله عز وجل ليضيعه. فقد مات الملك الصالح، وقتل ولده الملك المعظم، والأمير فخر الدين بن الشيخ- مقدّم العساكر- ونصر الله الإسلام، بعد اليأس من نصره- يشير إلى نوبة المنصورة «4»(29/485)
قال: ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة «1» ، أجرى الناس كافّة، على ما كانوا عليه إلى آخر الأيام الناصرية، فى رواتبهم ومقرّراتهم وإطلاقاتهم.
ولم يتعرض إلى مال أحد، ولا إلى ملكه.
ثم توجّه «2» ، بعد تقرير قواعد الشام. فرزقه الله الشهادة، فقتل مظلوما. رحمه الله تعالى(29/486)
انتهى الجزء التاسع والعشرون من كتاب «نهاية الأرب» للنويرى الحمد لله(29/487)
فهرس موضوعات الجزء التاسع والعشرون
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
الصفحة
تمهيد 5
ذكر أخبار السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب، وسلطنته 9
ذكر الغلاء الكائن بالديار المصرية فى الدولة العادلية وهو الغلاء المشهور 12
ذكر وفاة القاضى الفاضل وشىء من أخباره 13
ذكر الخلف الواقع بين الأمراء الصلاحية والسلطان الملك العادل 19
ذكر اتفاق الملوك الأيّوبية وما استقر لكل منهم من الممالك 26
ذكر خبر الزلزلة الحادثة بالديار المصرية والبلاد الشامية وغيرها 28
ذكر عمارة المسجد الجامع بقاسيون 32
ذكر وفاة الملك المعز صاحب اليمن وقيام أخيه نجم الدين أيوب 32
ذكر حصار ماردين وما حصل من الاتفاق 36
ذكر قصد العادل بلاد الفرنج 40
ذكر انتقال السلطنة من دار الوزارة بالقاهرة إلى قلعة الجبل 41
ذكر ورود رسل الخليفة الناصر لدين الله بالخلع للملك العادل وأولاده ووزيره 41(29/488)
الصفحة
ذكر استيلاء الملك الأوحد بن السلطان الملك العادل على خلاط 43
ذكر حصار الملك العادل سنجار ورجوعه عنها وأخذ نصيبين والخابور 49
ذكر بناء القبة على ضريح الإمام الشافعى- رحمه الله تعالى- وعمارة السوق 53
ذكر عزل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر وولاية الصاحب الأعز بن شكر 55
ذكر حادثة الأمير عز الدين أسامة واعتقاله والاستيلاء على قلاعه 59
ذكر وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط واستيلاء أخيه الملك الأشرف عليها 62
ذكر قيام أهل مصر على الملك الكامل ورجمه 63
ذكر استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل على اليمن 65
ذكر القبض على الصاحب الأعز 71
ذكر مصادرة الصاحب صفى الدين بن شكر ونفيه من الديار المصرية 76
ذكر مسير السلطان إلى الشام 78
ذكر قصد الفرنج جزين وقتلهم 80
ذكر تخريب حصن الطور 81
ذكر وفاة السلطان الملك العادل سيف الدين أبى بكر: محمد بن أيوب وشىء من أخباره 82
ذكر تسمية أولاد السلطان الملك العادل وما استقر لهم من الممالك والإقطاع 84
ذكر أخبار السلطان الملك الكامل ناصر الدين بن السلطان الملك العادل سيف الدين، أبى بكر محمد بن أيوب 87
ذكر نزول الفرنج على ثغر دمياط 87
ذكر حوادث وقعت فى مدة حصار ثغر دمياط 88
ذكر وصول الملك المعظم عيسى- صاحب دمشق- وإخراج عماد الدين بن المشطوب وما اتفق له بعد خروجه 90
ذكر وصول الصاحب صفى الدين بن شكر ووزارته 92
ذكر خراب القدس 93
ذكر استيلاء الفرنج على دمياط 94
ذكر عود الملك المعظم شرف الدين عيسى إلى الشام وما اعتمده 95
ذكر وفاة ست الشام ابنة أيوب وإيقافها أملاكها، وتفرقة أموالها، وما فعله الملك(29/489)
المعظم مع قاضى الشام: بسبب ذلك 96
ذكر وصول ملوك الشرق إلى السلطان الملك الكامل وانهزام الفرنج واستعادة ثغر دمياط، وتقرير الهدنة 113
ذكر رجوع السلطان إلى القاهرة وإخراج الأمراء إلى الشام 118
ذكر توجه الملك المسعود بن الملك الكامل من اليمن إلى الحجاز. وما عتمده 121
ذكر ملك الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل مكة 125
ذكر عصيان الملك المظفر شهاب الدين غازى على أخيه الملك الأشرف وقتاله.
وانتصار الملك الأشرف 126
ذكر وصول الملك المسعود من اليمن 128
ذكر ابتداء المعاملة بالفلوس بالديار المصرية 131
ذكر وصول رسول الخليفة إلى الملوك أولاد السلطان الملك العادل، وطلب الصلح بينهم والاتفاق 135
ذكر هدم مدينة تنّيس 139
ذكر الوحشة الواقعة بين السلطان الملك الكامل وبين أخيه المعظم 140
ذكر وفاة الملك المعظم عيسى، وشىء من أخباره وسيرته، وقيام ولده الملك الناصر داود 143
ذكر تسليم البيت المقدس وما جاوره للفرنج 149
ذكر توجه السلطان إلى دمشق وحصارها، وأخذها من ابن أخيه: الملك الناصر داود، واستقرار الملك الناصر بالكرك وما معها 153
ذكر تسليم دمشق للملك الأشرف 155
ذكر أخذ مدينة حماه وتسليمها للملك المظفر 156
ذكر وفاة الملك المسعود، صاحب اليمن 157
ذكر استيلاء الملك الأشرف على بعلبك 162
ذكر استيلاء السلطان الملك الكامل على آمد وحصن كيفا 170
ذكر توجه رسول السلطان الملك الكامل إلى بغداد، وعوده هو ورسول الخليفة بالتقليد 173
ذكر ركوب الملك العادل بشعار السلطنة 190
ذكر مسير السلطان الملك الكامل إلى بلاد الروم 198(29/490)
الصفحة
ذكر إنشاء جامع التوبة بالعقيبة بدمشق 207
ذكر وقوع الوحشة بين السلطان الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف 216
ذكر وفاة الملك العزيز صاحب حلب وقيام ولده الملك الناصر 217
ذكر وفاة الملك الأشرف وشىء من أخباره وقيام أخيه الملك الصالح إسماعيل وإخراجه من الملك 218
ذكر ملك الملك الصالح عماد الدين إسماعيل- بن الملك العادل- دمشق، ووصول الملك الكامل إليها وحصار دمشق وأخذها وتعويض الصالح عنها 223
ذكر وفاة السلطان الملك الكامل 227
ذكر ما اتفق بدمشق بعد وفاة السلطان الملك الكامل فى هذه السنة 228
ذكر ما وقع بين الملكين: الناصر والجواد، وهرب الناصر إلى الكرك 230
ذكر أخبار الملك الصالح نجم الدين أيوب ببلاد الشرق فى هذه السنة 232
ذكر أخبار السلطان الملك العادل 234
ذكر ما وقع فى هذه السنة من الحوادث- خلاف ما تقدم- 236
ذكر القبض على الصاحب صفى الدين مرزوق ومصادرته واعتقاله 238
ذكر خروج دمشق عن الملك العادل وتسليمها لأخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب 239
ذكر أخبار الملك الجواد، وما كان من أمره بعد تسليم دمشق 243
ذكر مخالفة الأتراك على السلطان الملك العادل، وتوجههم إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب بدمشق 249
ذكر وصول الملك الناصر داود- صاحب الكرك- إلى السلطان الملك العادل 250
ذكر عود السلطان الملك العادل من بلبيس إلى قلعة الجبل 252
ذكر قتال الفرنج وفتح القدس 253
ذكر وفاة الملك المجاهد صاحب حمص 254
ذكر وصول رسل الخليفة إلى السلطان الملك العادل بالتّشاريف 255
ذكر القبض على السلطان الملك العادل وخلعه 256
ذكر أخبار السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل- وما كان من أمره بعد وفاة أبيه إلى أن ملك الديار المصرية 257
ذكر استيلاء الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن السلطان الملك العادل سيف الدين(29/491)
أبى بكر محمد بن أيوب- على دمشق 260
ذكر القبض على الملك الصالح نجم الدين أيوب واعتقاله بقلعة الكرك 263
ذكر إطلاق الملك الصالح من الاعتقال بالكرك، وما كان من أمره إلى أن ملك الديار المصرية 265
ذكر سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية وهو السلطان الثامن من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 267
ذكر عود الملك الناصر داود إلى الكرك 268
ذكر عدة حوادث وقعت فى سنة سبع وثلاثين وستمائة خلاف ما قدمناه 271
ذكر مسير الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق منها لقصد الديار المصرية، وقتاله الملك الناصر صاحب الكرك وعوده إلى دمشق 277
ذكر تسليم صفد وغيرها للفرنج وما فعله الشيخ عز الدين بن عبد السلام- بسبب ذلك- وما اتفق له مع الملك الصّالح 278
ذكر صرف قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة عن القضاء بمصر والوجه القبلى، وتفويض ذلك لقاضى القضاة بدر الدين السّنجارى 282
ذكر وفاة قاضى القضاة شرف الدين بن عين الدولة، وشىء من أخباره 282
ذكر وصول شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام- إلى الديار المصرية، وما اتفق له بعد خروجه من الشام إلى أن وصل، وتفويض القضاء بمصر والخطابة بها- وغير ذلك- إليه، وما فعله، وعزله نفسه 294
ذكر الاتفاق والاختلاف بين الملكين الصالحين: نجم الدين أيوب صاحب مصر، وعماد الدين إسماعيل صاحب دمشق 302
ذكر الواقعة الكائنة بين عسكر مصر- ومن معه من الخوارزمية- وبين عسكر الشام- ومن شايعهم من الفرنج- وانهزام الفرنج وعسكر الشام، على غزه 305
ذكر وفاة الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه وملك ولده المنصور 308
ذكر استيلاء الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمشق وأخذها من عمه الملك الصالح إسماعيل، وعود الصالح إسماعيل إلى بعلبك وما معها 310
ذكر وفاة الأمير الصاحب معين الدين 314
ذكر محاصرة الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك دمشق، وما حصل بها من الغلاء(29/492)
بسبب الحصار 314
ذكر وقعة الخوارزمية وقتل مقدمهم، واستيلاء الملك الصالح على بعلبك وأعمالها، وصرخد 319
ذكر استيلاء جيش السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب على بعلبك، وخروج الملك الصالح إسماعيل عنها 322
ذكر وفاة الملك المنصور صاحب حمص، وقيام ولده الملك الأشرف 323
ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى الشام وما استولى عليه فى هذه السفرة، وما قرره، وعوده 323
ذكر القبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمى، ووفاته 327
ذكر توجه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية إلى دمشق وما اعتمده 328
ذكر وفاة الملك المظفر شهاب الدين غازى وقيام ولده الملك الكامل 329
ذكر استيلاء الفرنج على ثغر دمياط 334
ذكر استيلاء السلطان على قلعة الكرك وبلادها 335
ذكر وفاة الملك السلطان الصالح نجم الدين أيوب 336
ذكر خبر الأمير فخر الدين أبى الفضل يوسف بن الشيخ- وقتله 338
ذكر أخبار السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه وهو التاسع من ملوك الدولة الأيوبية بالديار المصرية 340
ذكر عدة حوادث كانت فى سنة سبع وأربعين وستمائة، غير ما تقدم 354
ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم ريدا فرنس 355
ذكر مقتل السلطان الملك المعظم 359
ذكر ملك شجر الدر: والدة خليل، سرية الملك الصالح نجم الدين أيوب 362
ذكر استعادة ثغر دمياط من الفرنج وإطلاق ريدا فرنس 363
ذكر خلع شجر الدر نفسها من الملك وانقراض الدولة الأيوبية من الديار المصرية 363
الأيوبيون فى غير الديار المصرية 364
ذكر استيلاء الملك الناصر على دمشق 366
ذكر توجه رسول السلطان الملك الناصر يوسف إلى الديوان العزيز ببغداد. وما جهزه(29/493)
صحبته من الهدايا والتقادم وما أورده الرسول فى الديوان العزيز من كلامه 370
الحرب بين الملك الناصر والملك المعز 377
ذكر اتصال السلطان الملك الناصر بابنة السلطان علاء الدين كيقباذ 379
ذكر سياقة أخبار الملك الناصر ومراسلته هولاكو. وغير ذلك من أحواله 381
ذكر أخبار دولة الترك 414
ذكر أخبار الأتراك وابتداء أمرهم وكيف كان سبب الاستيلاء عليهم. واتصالهم بملوك الاسلام. وما استكثر منهم. وتغالى فى اتباعهم وقدمهم على العساكر 415
السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى الصالحى 419
ذكر الحرب الكائنة بين الملك المحز والملك الناصر صاحب الشام. وانتصار المعز 420
ذكر الصلح بين الملكين: المعز والناصر 426
ذكر خبر عربان الصعيد. وتوجه الأمير فارس الدين أقطاى إليهم وإبادتهم 427
ذكر خبر الأمير فارس الدين أقطاى. وما كان من أمره إلى أن قتل 429
ذكر أخبار الأمراء البحرية، وما اتفق لهم بعد مقتل الأمير فارس الدين أقطاى 433
ذكر مخالفة الأمير عز الدين أيبك الأفرم وخروجه عن الطاعة. وتجريد العسكر إليه وإلى من وافقه، وانتقاض أمره 439
ذكر تفويض قضاء القضاة بالديار المصرية للقاضى: تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف 441
ذكر ما حدث بالمدينة النبوية من الزلازل. والنار التى ظهرت بظاهرها 449
ذكر خبر احتراق مسجد المدينة النبوية 454
ذكر مقتل السلطان الملك المعز وشىء من أخباره. ومقتل شجر الدر الصالحية 456
ذكر أخبار السلطان الملك المنصور نور الدين: على بن السلطان الملك المعز وهو الثانى من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 459
ذكر أخبار الوزراء، ومن ولى وزارة الملك المنصور 461
ذكر القبض على الملك المنصور، وعلى أخيه قاآن، واعتقالهما 468
ذكر أخبار السلطان الملك المظفر سيف الدين قطر المعزى وهو الثالث من ملوك دولة الترك بالديار المصرية 469(29/494)
الصفحة
ذكر وصول البحرية والشهر زورية إلى خدمة السلطان الملك المظفر 471
ذكر خبر المصاف الكائن بين السلطان الملك المظفر ومن معه من الجيوش الإسلامية.
وبين جيش التتار على عين جالوت. وانهزام التتار وقتل مقدمهم كتيغانوين.
وما يتصل بذلك من الأخبار 472
ذكر مسير السلطان الملك المظفر إلى دمشق ووصوله إليها. وملكه الممالك الشامية.
وما قرره من ترتيب الملوك والنواب. وغير ذلك مما اتفق بدمشق 475
ذكر مقتل السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز. ونبذة من أخباره 477(29/495)
الجزء الثلاثون
مركز تحقيق الترات نهاية الأرب فى فنون الأرب تأليف شهاب الدّين احمد بن عبد الوهاب النويرى 677- 733 هـ الجزء الثلاثون تحقيق* مراجعة د- محمد عبد الهادى شعيرة* د- محمد مصطفى زيادة 1410 هـ- 1990 م(30/3)
أشرف على الطبع والتصحيح أحمد صلاح زكريا الباحث الأول بمركز تحقيق التراث(30/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
هذا هو الجزء الثلاثون من نهاية الأرب فى فنون الأرب لشهاب الدين النويرى، وهو يقابل الجزء الثامن والعشرين بتقسيم المؤلف.
ويبدأ هذا الجزء بذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى (سنة ثمان وخمسين وستمائة) وينتهى بذكر وصول السلطان الملك السعيد ناصر الدين الى قلعة الجبل، وما كان من أمره إلى أن انخلع من السلطنة، وتولية أخيه السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش من بعده، إلى أن تم خلعه (سنة ثمان وسبعين وستمائة) .
وقد اعتمد المحقق والمراجع- رحمهما الله- فى تحقيق هذا الجزء على نسختين:
الأولى: نسخة أيا صوفيا وهى نسخة مصورة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 551 معارف عامة وقد رمز لها بالحرف (ا) واعتبرت أصلا.
الثانية: نسخة كوبريللى وهى نسخة مصورة محفوظة بدار الكتب تحت رقم 549 معارف عامة وقد رمز لها بالحرف (س) .
نسأل الله التوفيق والسداد.
مركز تحقيق التراث(30/5)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الثاني عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار الديار المصرية]
[تتمة ذكر اخبار دولة الترك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وبه توفيقى
ذكر أخبار السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى وهو الرابع من ملوك دولة الترك بالديار المصرية المحروسة،
[سنة ثمان وخمسين وستمائة]
وهو تركى الجنس من قبيلة البرلى، ملك الديار المصرية والبلاد الشامية فى يوم السبت المبارك الخامس عشر من ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان ذلك بمنزلة القصير «1» من منازل الرمل، فى اليوم الذى قتل فيه السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى.
وذلك أنه لما قتل الملك المظفر ساق الأمراء إلى الدهليز ونزلوا به، وجلسوا كلهم دون طراحة السلطنة، وتشاوروا فيمن يملكونه «2» عليهم، فوقع اختيارهم عليه. ويقال إن الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب الصالحى الأتابك قال فى ذلك المجلس: «ينبغى ألا يلى السلطنة إلا من خاطر بنفسه فى قتل السلطان وأقدم على هذا الأمر العظيم» فقال الملك الظاهر: «أنا قتلته» ووثب وجلس(30/13)
على طراحة السلطنة، فبايعه الأمير فارس الدين المذكور، وحلف له، ثم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، ثم الأمراء على طبقاتهم. ثم قال له الأمير فارس الدين الأتابك: «ان السلطنة لا تسم لك إلا بدخولك إلى قلعة الجبل» ، فركب لوقته، وركب معه الأمير فارس الدين الأتابك، والأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير بدر الدين بيسرى «1» الشمسى، ومماليكه وخواصه.
وتوجه [بيبرس] إلى قلعة الجبل، ورتب فى مسيره إليها أرباب الوظائف:
فرتب الأمير جمال الدين أفش «2» النجيبى الصالحى استاد دارا «3» ، والأمير عز الدين أيبك الأقرم الصالحى أمير جاندار، والأمير حسام الدين لاجين الدرفيل، والأمير سيف الدين بلبان الرومى فى الدوادارية، والأمير بهاء الدين أمير آخور على عادته. ولفيه فى طريقه الأمير عز الدين إيدمر الحلى، وكان ينوب عن الملك المظفر بقلعة الجبل، وقد خرج لتلقيه، فأعلمه الملك الظاهر بما اتفق، وعرض عليه أن يحلف، ثم تقدم [إيدمر] إلى القلعة واجتمع بمن بها، ووعدهم عن السلطان المواعيد الجميله فأجابوه، ولم يزل على باب القلعة إلى أن وصل السلطان إليها، فدخلها ليلا وتسلمها.
ويقال إنه لما ملك [بييرس] تلقب بالملك القاهر ووصل إلى قلعة الجبل ولقبه ذلك، فأشار الصاحب زين الدين بن الزبير بتغيير هذا اللقب، وقال إنه ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر بن المعتضد فلم تطل أيامه وخلع وسمل.(30/14)
ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم. فنقل السلطان لقبه إلى الملك الظاهر والله أعلم.
قال المؤرخ «1» وكانت القاهرة ومصر قد زينتا لقدوم الملك المظفر، والناس فى سرور لمقدمه إثر هذا النصر العظيم «2» ، فلم يرعهم إلا ومناد ينادى: «معشر الناس، رحمكم الله، ترحموا على الملك المظفر، وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر ركن الدين» فوجم الناس لذلك، وتألموا خوفا من شدة البحريه وما كانوا «3» يعتمدونه من الظلم والسلطنة فى غيرهم، فكيف وقد صارت فيهم. فعاملهم السلطان بما سرهم به، وهو أن الملك المظفر كان قد جدد على الناس حوادث «4» فى سنة ثمان وخمسين وستمائة: منها تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاتها، وأخذ ثلث الترك الأهلية، ومضاعفه الزكاة، رجباية الدينار من كل إنسان، ومبلغ ذلك ستمائة ألف دينار. فأبطل السلطان [بيبرس] ذلك، وكتب به توقيعا قرىء على المنابر، فطابت قلوب الناس.
قال: ولما أصبح السلطان [بيبرس] فى يوم الأحد جلس بالإيوان بقلعة الجبل وحلف العساكر لنفسه، واستناب مملوكه الأمير بدر الدين بيليك الخزندار «5»(30/15)
وأقر الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب فى الأتابكية.
وكاتب الملوك والنواب والأمراء بالممالك الشامية يخبرهم بما جدده الله تعالى له من أمر السلطنة، ويطلب منهم بذل الطاعة والموافقة.(30/16)
واستهلت سنة تسع وخمسين وستمائة
فى هذه [السنة] كان السلطان فى ابتداء سلطنته أخبار متشعبة متباينة: منها ما هو فى حضرته بمقر ملكه بالديار المصرية؛ ومنها ما هو بدمشق، ومنها ما هو بحلب، وكل ذلك فى هذه السنة، وبعضه فى أواخر سنة ثمان وخمسين.
وقد رأينا أن نبدأ من ذلك بما كان فى مقر مملكته فى بعض هذه السنة خاصة، ثم نذكر ما كان بدمشق وحلب من الحوادث والوقائع إلى أن استقرت قواعد سلطنته وتأكدت أسباب دولته، ثم نذكر ما يشمل المملكة عموما، ثم نذكر بعد ذلك ما اتفق [له] من الأحوال، وما رتبه من الأمور، وما أمر به من العمائر والأوقاف وغير ذلك بمصر والشام، ونذكر الأخبار والوقائع على حكم السنين نقدم ما قدمه التاريخ ونؤخر ما أخره.
لا نستثنى مما نورده من أخبار دولته إلا الغزوات والفتوحات: فانا نذكرها مفردة، ونختم بها أخبار دولته، فإنها من الفتوحات الجليلة والغزوات المشهورة فأحببنا إيرادها فى موضع واحد، لئلا تنقطع بغيرها من أخباره، على ما نقف على ذلك إن شاء الله تعالى.
فأما ما كان من الأخبار والحوادث فى مقر ملكه بالديار المصرية
فمن ذلك ركوب السلطان من قلعة الجبل فى يوم الأثنين سابع صفر من السنة بشعار السلطنة، وساق خارج المدينة إلى باب النصر ودخل منه، وشق القاهرة وخرج من باب زويلة إلى قلعة الجبل، والأمراء وأعيان الدولة مشاة فى خدمته.(30/17)
ومنه تفويض وزارة الدولة إلى الصاحب بهاء الدين.
ذكر تفويض الوزارة إلى الصاحب الوزير بهاء الدين على بن القاضى سديد الدين أبى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنا
فى هذه السنة، فوض السلطان إليه وزارة دولته، وخلع عليه، وركب فى خدمته الأعيان والأكابر، والأمير سيف الدين بلبان الرومى الداودار، وجماعة من الأمراء، وذلك فى يوم الأثنين ثامن شهر ربيع الأول وقبيل ثانية، وتمكن [الصاحب بهاء الدين] من السلطان ودولته تمكنا عظيما. وحكى لى بعض الأكابر الثقات [أن] الصاحب بهاء الدين رأى فى منامه قبل وزارته أنه ذبح السلطان الملك الظاهر، فقصّ ذلك على من يثق به ممن له معرفة بالتعبير، فقال له: «تتمكن منه تمكن الدابح من المدبوح» . وكان منه فى أقرب منزلة وأعز مكانة.
ذكر القبض على جماعة من الامراء المعزّية
وفى شهر ربيع الأول أيضا، قبض السلطان على جماعة من الأمراء المعزية وسبب ذلك أنه حضر إلى السلطان أحد أجناد الأمير عز الدين الصيقلى «1» وأنهى أن مخدومه فرق جملة من الذهب على جماعة، وقرر معهم الوثوب على السلطان وقتله، وكذلك الأمير علم الدين الغتمى، والأمير سيف الدين بهادر المعزى،(30/18)
والأمير شجاع الدين بكتوت وغيرهم. فقبض عليهم، ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدى «1» الأشرفى، فى شهر ربيع الآخر، واعتقله فلم يزل فى اعتقاله حتى مات.
ذكر تفويض قضاء القضاء بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز
وفى هذه السنة فوض السلطان الملك الظاهر قضاء القضاة بالديار المصرية لقاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن القاضى الأعز خلف بن بنت الأعز «2» ، وعزل قاضى القضاة بدر الدين السنجارى «3» ، وعوق عشرة أيام، ثم أفرج عنه وعطل عن الحكم.
ونسخة التقليد السلطانى: «لقاضى القضاة تاج الدين» ومثال العلامة الظاهرية عليه بعد البسملة: «المستعلى بالله» .
«الحمد لله الذى أنار مطالع الهدى، وصان ما ابتذل من الأمور التى ما أهملت سدى، وألبس الشريعة المطهرة ثويا من الشرف مجددا، وأعلى منارها بمن أضاءت مساعيه، فلو سرى بها الركب لا هتدى» .(30/19)
«أحمد على نعم توالى هطل غمامها، ومنن أضحت متناسقة عفود نظامها» .
«والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى عزت به أمور الإسلام بعد اهتضامها، وعلى آله وأصحابه الذين أضحت بهم عرى الدين الحنيف وثيقة بعد انفصامها.
وبعد، فلما كان المجلس السامى، القاضى الأجل، الصدر الكبير، الإمام العالم، الفقيه الفاضل، المختار المرتضى، الصاحب تاج الدين، عز الإسلام، مجد الأنام، شمس الشريعة، مفتى الفرق، رئيس الأصحاب، ذخر الملوك والسلاطين، قاضى القضاة عبد الوهاب بن خلف، أدام الله سعادته ونعمته، ممن أحرز فى الفضايل قصب سبقه، ووصل سح «1» غمامه فى العلوم الشرعية ببرقه واجتنى ثمارها الدانية القطوف، واجتلى أقمار معانيها التى لا تتوارى عنه بالسجوف «2» وسلك سهيلا من العفاف أضحى به وحيدا منفردا، ومارس أمور الشريعة فثقف منها أودا، وأعمل فكرته الصافية فحلل منها عقدا، وأنعم نظره فيها فأوضح له من الضلال رشدا.
رسم بالأمر العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، زاد الله فى علائه، وضاعف مواد نفاذه ومضائه «3» أن يفوض إليه الحكم العزيز بجميع الديار المصرية المحروسة، لما علم فيه من فضل مازالت ثماره تجتنى، ومساع حميدة(30/20)
ما برح بها إلى الخلائق محسنا، ودين متين يشيد من أمور الآخرة ما بنا، وسؤدد مازال فيه وفى بيته مستوطنا، وأوصانى جميلة خصته بنباهة أضحى بها متقدما [وآراء مسددة أضاءت من سبل] الرشاد ما كان مظلما، ونزاهة مازالت له خلقا لا تخلقا، وعفاف ما برح منه مثريا لا معلقا.
فليباشر هذا المنصب الذى أضحى ظل شرفه وارفا، وكعبة حرمه التى يتوجه إليها من كان باديا أو عاكفا، عاملا فيه بالتقوى التى يحافظ عليها مسرا ومعلنا، ويتمسك بأسبابها إذا صد عنها غيره وانثنى، فهى المعقل الذى لا يستباح له حمى، والمقام الذى يجد الخائف أمنه فيه محققا لا غيبا مرجّما «1» ، والعصمة التى تنجى من العطب، والمركب الذى تجد به الأنفس راحتها الكبرى بعد التعب.
وليول من القضاة من يحيى من الحق سننا، ويميت من الباطل بدعا، ويكون رجاؤه بالاخرة متصلا، ومن الدنيا منقطعا، ليرجع به سبيل الحق بعد ضيقه متسعا، وشمل الباطل بعزيمته مفترقا لا مجتمعا.
وليتفقد أمر العدول الذين أضحوا على الحقيقة عدولا عن المنهج القويم، راغبين عن المحامد بما يأتوته من كل وصف ذميم. ولا يترك منهم إلا شاهدا كان عن المعايب غائبا أو متورها، لا يعتمد من الأمور إلا ما كان واجبا، لتسلم عدالته من وصمه التجريح، وتظهر مساعيه التى تذلل له من العلا كل جموح.
وأموال الأيتام والأوقاف فلا يباشرها إلا من كان لمباشرتها أهلا، ومن تتحقق أنه يكون عليها قفلا. فطالما ابتذلت أيدى الخونة منها مصونا، وجعلت(30/21)
العين منها أثرا حين مدت إليها عيونا. ولا تخلها من نظر يحفظ منها مضاعا ويحسم عنها أطماعا، ويخصها بمزية الزيادة بعد النقصان، ويكتب لها من مخاوف الخونة كتاب أمان.
فقد قلدناك هذه الأحكام التى ترجو بك الخلاص من تبعاتها، ورعينا بك حق الرعية، فلا تخل أمورهم من مراعاتها، وامضى عزيمتك فى إقامة منار الشريعة بعد القمود، واعل همتك فى نظم ما تبدد له من العقود. واجتهد فى أمره الاجتهاد الذى يرفل منه فى ضافى البرود، ومتع الخلائق بأيام بيض من أحكامك غير سود، ففيك من السؤدد ما ينقاد به المفاخر، ومن الأوصاف الجميلة ما تتميز به على الأوائل وأن جئت فى الزمن الآخر.
وقد قررنا لك من الجامكية والجراية نظير ما كان مقررا لمن تقدمك، وهو فى كل شهر أربعون دينارا صرف أربعين وستمائة وسنة وستون درهما ناصرية وثلثان وخمسة وعشرون أردبا غلة نصفين.
فليوصل ذلك إليه على تمامه وكماله عند وجوبه واستحقاقه، بعد العلامة الشريفة أعلاء إن شاء الله تعالى.
وكتب فى السابع عشر من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وستمائة. الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه، وآله وصحبه الظاهرين وسلامه.
وعين جهة الجامكية على الجوالى بالديار المصرية، والغلة على الأهراء المباركة بمصر المحروسة.
واستمر [الصاحب تاج الدين] فى القضاء بجميع الديار المصرية إلى شوال من السنة، فاقتطع منه قضاء مصر والوجه القبلى، وفوض ذلك إلى القاضى برهان(30/22)
الدين الخضر بن الحسن بن على بن الخضر السنجارى «1» فى ثالث شوال، ثم عزل [برهان الدين الخضر] وأعيد قاضى القضاة تاج الدين بتقليد سلطانى تاريخه الثامن من صفر سنة ستين وستمائة. وقد شاهدت هذا التقليد ووقفت عليه.
ذكر ما اعتمده السلطان فى ابتداء سلطنته ورتبه من المصالح وقرره من القربات والأوقاف والعماير
كان مما ابتدأ به، رحمه الله تعالى وعفا عنه وأنابه، عمارة الحرم الشريف النبوى وسنذكره.
ثم وصلت الكتب فى سنة تسع وخمسين أن القبة التى بالصخرة الشريفة ببيت المقدس قد تداعت، فكتب إلى دمشق بتجهيز الصناع إليها وما يحتاج إليه من الآلات، ونجزت العمارة بها فى سنة ستين.
وكانت عدة ضياع من أوقاف الخليل قد دخلت فى الإقطاعات، فأمر [السلطان] بارتجاعها، وعوض الأمراء عنها، وأعادها إلى الأوقاف، وأوقف قرية أذنا «2» على الخليل عليه السلام.
ذكر بناء قلعة الجزيرة «3»
كان السلطان الملك المعز قد أمر بهدمها، وأباح ما بها من الرخام والأصناف(30/23)
التى غرم عليها السلطان الملك الصالح الأموال العظيمة، فرسم السلطان [بيبرس] بعمارتها، وندب لذلك الأمير جمال الدين بن يغمور، فشرع فى إصلاح ما استهدم من قاعاتها، ورتب فيها الجاندارية، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة.
وفرق السلطان الأبراج: فرسم أن يكون برج الزاوية للأمير سيف الدين قلاون «1» الألفى، وثانيه للأمير عز الدين الحلى «2» ، والبرج الثالث للأمير عز الدين إيغان «3» ، وبرج الزاوية الغربى للأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. وفرق بقية الأبراج على الأمراء، ورسم أن تكون بيوتاتهم واسطبلاتهم بها، وسلم إليهم المفاتيح.
ورسم بعمارة القناطر بجسر شبر منت بالجيزية وأكثر ما كانت الجيزية تشرق عنه. فبنيت القناطر فى هذا الجسر تلتقى صدمه الماء الأولى وتفتح لتصريف المياه أولا فأولا (كذا) .
ورسم بعمارة مشهد النصر «4» بعين جالوت، وكتب بذلك إلى نواب الشام.
وحث على عمارة الأسوار بثغر الاسكندرية وحفر خنادقها، ورتب جملة من الأموال فى كل شهر تصرف فى نفقة العماير وبنى مرقبا لثغر رشيد لكشف مراكب الفرنج.
ورسم بردم فم بحر دمياط، وتوغيره بالقراتيص، وتضييقه ليمنع السفن الكبيرة من الدخول فيه.(30/24)
ورسم بحفر بحر أشموم طناح، وندب لذلك الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى فتوجه لذلك وحفر ما يجب حفره، وغرق المراكب قبلى فم البحر من الجانب الغربى حتى ترد الماء إليه.
واهتم بعمارة الشوانى وأعادها إلى ما كانت عليه من الأيام الكاملية والصالحية.
وأمر بعمارة شوانى الثغرين وأحضرها إلى ساحل مصر، وكانت تزيد على أربعين قطعه، وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد والسلالير «1» .
وركب الخليفة والسلطان فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة من القلعة إلى ساحل مصر، وركبا «2» فى الحراريق، وتفرجا، وطلعا إلى قلعة الجزيرة وجلسا بمقعد البانياسى، ولعبت الشوانى، ثم عادا إلى القلعة.
ورسم بعمارة القلاع المنصورة بالبلاد الشامية وهى: قلعة دمشق، والصلت وعجلون، وصرخد، وبصرى، وبعلبك، والصبية، وشيزر، وشميس «3» ، وكان التتار قد خربوا أسوارها فرسم بإعادة ما استهدم وإصلاح ما تشعث.
ورسم بعمارة مدرسته التى بالقاهرة، وسيأتى ذكرها، إن شاء الله تعالى.
هذا ما قرره من المصالح العامة ورتبه من المهمات فى ابتداء سلطنته، فلنذكر خلاف ذلك من المتجددات.(30/25)
ذكر وصول من يذكر من الملوك إلى خدمة السلطان وما قرره لكل منهم وما عاملهم به من الإحسان
وفى سنة تسع وخمسين وستمائة، وردت كتب النواب بدمشق يذكرون وصول الملك الصالح صاحب الموصل «1» بأهله وغلمانه وأولاده، فكتب السلطان إلى النواب بدمشق بالمبالغة فى خدمته وترتيب الإقامات له ولمن معه فى الطرقات من دمشق إلى القاهرة، فوصل فى شعبان من السنة، فتلقاه السلطان وأنزله فى أدر أخليت له.
ثم ورد بعده بأيام الخبر بوصول أخيه الملك المجاهد صاحب الجزيرة «2» فاعتمد السلطان معه نظير ما اعتمده فى حق أخيه. وكان الملك المظفر «3» أخوهما قد اعتقله الأمراء بحلب على ما نذكره، فأفرج السلطان عنه وأحضره إلى الديار المصرية، وذلك قبل وصولهما إليه، فلما وصل أخواه استأذن فى تلقيهما، فأذن له السلطان فى ذلك.
وأنعم السلطان عليهم بالأموال والخيول والخلع والحوائص لهم ولأصحابهم وعين جماعة من البحرية برسم خدمتهم والتصرف فى مهماتهم، ثم رسم السلطان(30/26)
بكتابة تقاليدهم ببلادهم. وكان الخليفة قد فوض ذلك إلى السلطان بتقليد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فكتب تقليد الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بالموصل وولاياتها:
بالوصا، والجزيرة [و] مدينة البوازيج «1» ، والزيادة: عقر «2» [و] شوش، ودارا وأعمالها، والقلاع العمادية، [و] كنكور وبلدها.
وكتب تقليد الملك المجاهد سيف الدين إسحق ببلاد الجزيرة وأعمالها وزيادة حمرين.
وكتب تقليد الملك المظفر: سنجار وأعمالها.
وكتب لعلاء الملك ولد الملك الصالح تقليد بقلعة الهيثم.
ولما توجه السلطان إلى الشام وخيم بظاهر القاهرة سيرت هذه التقاليد إليهم ومعها أحمال الكوسات والصناجق والأموال. وأعفوا من الحضور والخدمة عليها، وساروا فى خدمة السلطان إلى الشام فسلطنهم.
وذلك أنه أحضرهم مجلسه وجهز لهم خيل النوبة والعصائب «3» والجمدارية «4» ،(30/27)
ولبسوا الخلع وقبلوا الأرض وخرجوا بشعار السلطنة، والأتابك فى خدمتهم، وتوجهوا صحبة الخليفة على ما نذكره.
فاتفق انفصالهم منه فى أثناء الطريق لأسباب جرت، وتوجه كل منهم إلى مملكته: فأما الملك الصالح فتوجه إلى الموصل وأقام بها، فاتفق اجتماع التتار عليها وحصارها. وأما أخواه فإنهما خافا مهاجمة العدو فعادا إلى الشام، واستأذنا فى الحضور، فأذن لهما السلطان فحضرا، وسألا السلطان إنجاد أخيهما فجرد الأمير شمس الدين سنقر الرومى وجماعة من البحرية والحلقة. فتوجهوا فى رابع جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وكتب [السلطان] إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين طيبرس «1» ورحل العسكر المصرى والشامى من دمشق فى عاشر جمادى الآخرة.
ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى ان قتل
قال المؤرخ: وفى العشر الآخر من جمادى الآخر «2» سنة تسع وخمسين وستمائة ورد كتاب علاء الدين طيبرس، والأمير علاء الدين البندقدار «3» مضمونه أنه وصل(30/28)
إلى جهة دمشق فى أول الغوطة رجل ادعى أنه أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر ومعه جماعة من عرب خفاجة فى قريب من خمسين فارسا، وأن الأمير سيف الدين قليج البغدادى عرف أمراء العرب المذكورين وقال: «بهؤلاء يحصل القصد من العراق» فكتب السلطان بخدمته وتعظيم حرمته وأن يسير صحبته حجاب. فكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الخميس التاسع من شهر رجب من السنة، فخرج السلطان للقائه وساير أهل المدينتين، وكان يوما مشهودا، وشق القاهرة وهو لابس شعار بنى العباس، وطلع إلى القلعة راكبا، ونزل فى المكان الذى أخلى له.
وفى يوم الإثنين ثالث عشر أحضر السلطان الفقهاء والأئمة والعلماء والأمراء والصوفية والتجار وغيرهم بقاعة العمد، وحضر الخليفة وأثبت نسبه على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية. ولما ثبت النسب بايعه السلطان على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وأخذ الأموال بحقها وصرفها فى مستحقها، ثم قلد الخليفة السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلاميه وما سيفتحه الله من أيدى الكفار. وكتب بذلك تقليد شريف عن الخليفة للسلطان، وبايع الناس الخليفة على اختلاف طبقاتهم. وكتب السلطان إلى سائر الأعمال بأخذ البيعة له وأن يخطب باسمه على المنابر وتنقش السكة باسمه.
ولما كان فى يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب خطب الخليفة بالناس فى جامع القلعة «1» ، واهتم السلطان بذلك ونثرت جمل من الذهب والفضة. وحصل(30/29)
للخليفة توقف فى الخطبة.
وفى يوم الإثنين رابع شعبان ركب السلطان إلى خيمة ضربت فى البستان الكبير والناس فى خدمته، وحملت الخلع صحبة الأمير مظفر «1» الدين وشاج الخافجى وخادم الخليفة. ودخل السلطان إلى خيمة أخرى ولبس الخلعة الخليفية، وهى عمامة سوداء مزركشة، ودرّاعة بنفسجى، وطوق، وعدة سيوف تقلد منها وحملت خلفه، ولواءان، وسهمان كبيران، وترس، وغير ذلك مما جرت العادة به. وقدم له فرس أشهب فى رقبته مشدة سوداء، وعليه كنبوش «2» أسود.
وطلب الأمراء وخلع عليهم، وعلى الصاحب بهاء الدين، وقاضى القضاة، وصاحب ديوان الإنشاء الشريف: وهو القاضى فخر الدين بن لقمان، وطلع ابن لقمان على منبر قد جلل بالأطلس الأصفر، وقرىء التقليد على كافة الناس وهو:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» *
الحمد لله الذى أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف. وشيد ما وهى من علاثه حتى أنسى ذكر ما سلف. وقبض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التى تسرح الأمين منها فى الروض الأنف، وألطافه التى وقف الشكر عليها فليس عنها منصرف «4»(30/30)
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى جبر من الدين وهنا، وأظهر من المكارم فنونا لافتا، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقيه لا تفنى، وأصحابه الذين صحبوه فى الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وسلم تسليما» .
«وبعد: فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه الحميد متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرمه نارا وأجراه دما.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى- شرفه الله وأعلاه- ذكرها الديوان العزيز النبوى «1» تنويها لشريف قدره، واعترافا بصنعه الذى تنفد العباره ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أفعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان «2» ، وعتب دهرها المسىء فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، وأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف لها اهتمامه فرجع كل مضيق من أمرها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة فى ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاحتفال بأمر الشريعة والبيعه أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه، ولو تمسك(30/31)
بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامه حسابه. والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها فى صحف صنعه، ومكرمة [قضت «1» ] لهذا البيت الشريف النبوى بجمع شمله بعد أن حصل الإياس من جمعه» .
«وأمير المؤمنين يشكر الآن [لك] هذه الصنائع. ويعترف أنه لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الرافع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار الجزرية «2» ، والبكرية، والحجازية، واليمنية وما يتجدد من الفتوحات فورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردا: وما جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون مستثنى ولا جهة من الجهات تعد فى الأعلى ولا فى الأدنى» .
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لثقلها حاملا، وخلص نفسك اليوم لك التبعات، ففى غد تكون مسئولا عنها لا سائلا. ودع الاغترار بأمر الدنيا، فما نال أحد منها طائلا، وما لحظها أحد بعين الحق إلا رآها خيالا زائلا، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمته غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل، فقد امر الله بالعدل والإحسان. وكرر ذكره فى مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه آثاما، وجعل يوما واحدا منه كعبادة ستين عاما ما سلمك [أحد «3» ] سبيل العدل واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد(30/32)
تداعى أركانه مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث الزمان فكانت أيامه فى الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن من الغرر فى أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد» .
«وهذه الأقاليم المنوطة بنظرك تحتاج إلى حكام وأصحاب رأى من أرباب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم فى أمرك فنقب عليه تنقيبا، واجعل عليه فى تصرفاته رقيبا، وسل عن أحواله، ففى يوم القيامة تكون عنه مسئولا وبما اجترم مطلوبا، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا.
وأمرهم بالأناة فى الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء فى حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق. وألا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم برا وإحسانا، وألا يستحلوا حرماتهم إذا استحل لهم الزمان حرمانا، والمسلم أخو المسلم، وإن كان أميرا عليه أو سلطانا. فالسعيد من نسج ولاته فى الخير على منواله، واستنوا بسنته فى تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله» .
«ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيىء السنن، وجدّد من المظالم التى هى على الخلائق من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد، فإن المحامد رخيصة بأغلى الثمن. ومهما جنى منها من الأموال فإنها فانية «1» وإن كانت حاصله، وأجياد الخزائن وإن أصبحت بها خالية فإنما هى الحقيقة عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعى الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له(30/33)
خصما، وتحمل ظلم الناس مما صدر عنه من أعماله، وقد خاب من حمل ظلما.
وحقيق بالمقام الشريف السلطانى الملكى الظاهرى الركنى أن تكون ظلامات الأيام مردودة بعدله، وغزائمه نخفف عن الخلائق ثقلا لا طاقة لهم بحمله «1» ، فقد أضحى على الإحسان قادرا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى، وأوجب لك مزية التعظيم وتنبيه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور ينبغى أن تلاحظ وترعى، وأن توالى عليها حمد الله، فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا. وقد تبين أنك صرت فى الأمور أصلا، وصار غيرك فرعا» .
ومما يجب ذكره: الجهاد الذى أضحى على الأمة فرضا، هو والعمل الذى يرجع به مسود الصحائف مبيضا. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصّهم بالجنة لا لغو فيها ولا تأثيم» .
«وقد تقدمت لك فى الجهاد يد بيضاء أسرعت فى سواد الحساد، وعرف منك عزمة هى أمضى «2» مما تحت ضمائر الأغماد. واشتهرت لك مواقف فى القتال هى أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، ويعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وبسيفك الذى أثر فى الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه من الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان هاجعا، وكن فى مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا. وأيد كلمة التوحيد فما تجد فى تأييدها إلا مطيعا سامعا» .(30/34)
«ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدما، وسد منها ما غادره العدو متداعيا متهدما. فهذه حصون يحصل منها [الانتفاع «1» ] وبها تحصم الأطماع، وهى على العدو داعية افتراق لا اجتماع» .
«وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعدو إليه ملتفتا ناظرا، لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحا، ورجع خاسرا، واستأصلهم الله فيما مضى حتى ما أقال منهم عائرا» .
«وكذلك الأصطول الذى ترى خيله كالأهلة وركائبه بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليمانى، فإن ذلك غدت له الرياح حاملة وهذا تكفلت يحمله المياه السائلة. وإذا لحظها الظرف سائرة فى البحر كانت كالاعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع فى أيام» .
«وقد سنى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأى الذى يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط من السعاده ما كان قد كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يؤيدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه.
فإن النعم تستتم بشكره، بمنه وكرمه» .
ثم ركب السلطان وشق المدينة بعد أن زينت، وحمل التقليد الأمير جمال الدين النجيبى استاد الدار العالية، والصاحب الوزير بهاء الدين فى بعض الطريق «2»(30/35)
وبسط أكثر الطريق للسلطان بالثياب الفاخرة، [و «1» ] مشى عليها بفرسه، ووصل إلى القلعه.
وشرع السلطان فى الستخدام للخليفة: فكتب للأمير سابق الدين بوزبا أتابك العسكر بألف فارس، وللأمير ناصر الدين محمد بن صيرم الخازندار بمائنى فارس، وللأمير الشريف نجم الدين استاد الدار بخمسمائة فارس. وأمر جماعة من العربان، وحملت إليهم الطلبخاناة والصناجق، وأنفق فيهم الأموال لعدة شهور.
واشترى السلطان مائة مملوك «2» جمدارية وسلاح دارية للخليفة، وأعطى لكل واحد منهم ثلاثة أرؤس خيلا وجملا لعدته، ولم يبق أحد ممن تدعو الحاجة إليه من صاحب ديوان وكاتب إنشاء وديوان وأئمه ومؤذنين وغلمان وحكماء وجرائية إلا استخدموا. ولما تكامل ذلك كله تقدم السلطان بتجهيز العساكر.
وفى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من السنة ركب السلطان هو والخليفة فى السادسة من النهار، ونزل كل منهما فى دهليزه، واستمرت النفقه فى أجناد الخليفة.
وفى يوم العيد ركب الخليفة والسلطان تحت الجتر، وصليا العيد، وفى هذه الليلة حضر الخليفة إلى خيمة السلطان وألبسه الفتوة بحضور «3» من يعتبر حضوره فى ذلك.(30/36)
وفى يوم السبت سادس شوال رحلا متوجهين إلى الشام، فلما وصلا إلى الكسوة خرج عسكر الشام للقائهما، ودخلا دمشق فى يوم الإثنين سابع ذى القعدة. ونزل السلطان بالقلعة، ونزل الخليفة فى تربة الملك الناصر بجبل الصالحية «1» . وجرد الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير شمس الدين سنقر الرومى إلى جهة حلب، وأمرهم السلطان بالمسير إلى الفرات، وأنه متى ورد عليهم كتاب الخليفة يطلب أحدا منهم إلى العراق يتوجه إلى خدمته لوقته.
وركب السلطان وودع الخليفة، وسير إليه الملوك الذين ذكرناهم.
ثم ورد كتاب الخليفة يذكر أنه وصل إلى حديثة وعانا، وولى فيها «2» ثم كان ما ذكرنا من خروج طائفة من التتار وقتال الخليفة لهم واستشهاده، رحمه الله تعالى، على ما قدمناه فى أخباره، فى أخبار خلفاء الدولة العباسية.
وحسب ما أنفق فى مهم الخليفة والملوك فكان ألف ألف دينار عينا وفى هذه السنة قبل مسير السلطان إلى الشام، كتب منشور الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا «3» بالإمرة على جميع العربان، وأطلق السلطان للعريان الغلال من بلد حلب، وذلك قبل خروج السلطان إلى الشام.(30/37)
هذا ما كان من الأخبار بالديار المصرية، فلنذكر ما اتفق بالشام من حين ابتداء سلطنة السلطان الملك الظاهر إلى أن استقرت قواعد ملكه.
ذكر استيلاء الأمير علم الدين سنجر الحلبى على دمشق وسلطنته بها، وأخذها منه، وتقرير نواب السلطان بها
قد ذكرنا أن السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز كان قد فوض نيابة السلطنة بدمشق للأمير علم الدين سنجر الحلبى «1» ، فلما اتصل به خبر قتل الملك المظفر وثب على السلطنة بدمشق وحلف العساكر الشامية لنفسه، ولقب نفسه بالملك المجاهد، وركب بشعار السلطنة، فلما اتصل ذلك بالسلطان الملك الظاهر كتب إليه يقبح فعله ويسترجعه عنه، فعادت أجوبته بالمغالطة. فأرسل إليه السلطان الأمير جمال الدين أقن المحمدى يستميله «2» ويرده عن تعاطى ما لايتم له، وسير إليه صحبته مائة ألف وعشرين ألف درهم وحوائص وخلعا وملابس بألفى دينار عينا. فلما وصل ذلك إليه جلس الأمير علم الدين الحلبى مجلسا عاما للناس وأشهدهم على نفسه أنه قد نزل عن الأمر الذى كان قد استحلف الناس عليه، وأنه من جملة النواب الظاهرية.
ثم رجع عن ذلك وركب بشعار السلطنة على ما كان عليه أولا، فركب الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار وخرج إلى ظاهر دمشق، ونادى باسم السلطان الملك الظاهر ومعه جماعة فساق بهم إلى جهة السواد، فندب الحلبى جماعة لقتالهم، فانهزم أصحاب الحلبى، ثم رأى انحراف الناس عنه واتفاقهم عليه،(30/38)
ففارق دمشق وتوجه إلى قلعة بعلبك. ودخل الأمير علاء الدين البندقدار دمشق، وحلف الناس للسلطان الملك الظاهر وجهز إلى بعلبك من أحضر الحلبى تحت الأحتياط. وكتب بذلك إلى السلطان، فجدد السلطان المناشير للأمراء والجند، وقرر الحديث فى الأموال ونيابة القلعة للأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى، ورسم باحضار الحلبى، فلما وصل إليه اعتقله بقلعة الجبل، ثم أطلقه بعد ذلك وخلع عليه، واستمر فى الخدمة إلى أن جهزه إلى نيابة حلب. هذا ما اتفق بدمشق.
ذكر ما اتفق بحلب فى أمر النيابة
كان السلطان الملك المظفر قد استناب بالمملكة الحلبية الملك المظفر علاء الدين ابن صاحب الموصل، ولقبه بالملك السعيد على ما ذكرناه، فتوجه إلى حلب، وحصلت منه أمور أنكرها عليه الأمراء، وكان الملك المظفر قطز قد أقطع جماعة من الأمراء العزيزية والناصرية بالبلاد الجبلية، فلما اتصل بهم قتل الملك المظفر اجتمعوا وقبضوا على الملك السعيد ونهبوا وطاقة، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله «1» للقاء التتار، واستولوا على خزائنه فلم يجدوا فيها مالا طائلا، فتهددوه بالعذاب إن لم يقر لهم بالمال، فأخرج لهم من تحت الأشجار مالا كان قد دفنه، تقدير خمسين ألف دينار مصرية، ففرقت فى الأمراء واعتقلوا الملك السعيد بالشغر «2» ، ثم أفرجوا عنه بعد ذلك، وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجوكندار العزيزى، فكتب السلطان إليه تقليد بنيابة المملكة الحلبية.(30/39)
ذكر وصول طائفة من التتار إلى البلاد الإسلامية وما فعلوه بحلب وتقدمهم إلى حمص وقتالهم وانهزامهم وما كان من خبر عودهم
وفى سنة تسع وخمسين وستمائة بلغ التتار أن الأمراء العزيزية والناصرية قد وقع بينهم اختلاف، فتجمعوا من كل جهة وعبروا الفرات، ولما بلغ الملك السعيد خبرهم وأنهم وصلوا إلى جهة البيرة جرد إليهم جماعة قليلة من العسكر الحلبى، وقدم عليهم سابق الدين أمير مجلس الناصرى، فنهاه الأمراء العزيزية والناصرية عن ذلك، واستقلوا العسكر المجرد، فلم يرجع إلى قولهم، وصمم على إرساله، فسار سابق الدين ومن معه حتى قاربوا البيرة، فصدمهم التتار، فهرب سابق الدين منهم ودخل البيرة، بعد أن قتل أكثر من معه. فكان ذلك من أكبر الأسباب التى أوجبت القبض على الملك السعيد، ثم توجه التتار إلى جهة حلب، فاندفع الأمير حسام الدين الجوكندار والعسكر الحلبى بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتار إلى حلب فى أواخر سنة ثمان وخمسين وستمائة وملكوها، وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا، واسمها قديما مقر الأنبياء، فسماها العامة قرنبيا، فلما اجتمعوا بها بذل التتار فيهم السيف فقتلوا أكثرهم. وتقدم التتار إلى جهة حماة، ففارقها العسكر الحلبى وصاحبها الملك المنصور إلى حمص، واجتمعوا هم والملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص، واتفقوا على قتال التتار، وانضم إليهم الأمير زامل بن على أمير العربان. ووصل التتار إلى حمص، والتقوا واقتتلوا فى يوم(30/40)
الجمعة خامس المحرم من السنة «1» فانهزم التتار أقبح هزيمة، وقتل أبطالهم وشجعانهم، فاستشهد فيهم بقول الشاعر:
فإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص فى قابل
فإن الحسام الصقيل «2» الذى ... قتلتم به فى يد القاتل
وقد شاهد جماعة كثيرة فى هذه الواقعة طيورا كثيرة بيضاء تحوم حال القتال.
حكى عن الأمير بدر الدين محمد القيمرى قال: «والله، لقد رأيت بعينى طيورا بيضا وهى تضرب بأجنحتها فى وجوه التتار» . وقد ذكر ذلك جماعة كثيرة حتى بلغ حد التواتر، فما كان بأسرع من انهزام التتار.
قال المؤرخ:
ثم اجتمع من سلم من التتار ونزلوا بسلمية، وعادوا إلى حماة، ورحلوا عنها إلى أفامية، وكان قد وصل إلى أفامية الأمير سيف الدين الديبلى «3» الأشرفى ومعه جماعة فأقام بقلعتها وبقى بغير على التتار، فرحلوا عن أفامية وعادوا إلى حلب، فأخرجوا من بها من الرجال والنساء ولم يبق إلا من ضعف عن الحركة واختفى خوفا على نفسه، ثم نادوا فيهم: من كان من أهل حلب فليعتزل. فلم يعلم الناس ما يراد بهم، فظن الغرباء النجاة لأهل حلب، وظن أهل حلب نجاة الغرباء،(30/41)
فاعتزل بعض كل من الطائفتين مع الأخرى بحسب ما أدّى كل منهم اجتهاده، فلما تميز الفريقان أخذ التتار الغرباء وتوجهوا بهم إلى بابلى «1» فضربوا أعناقهم، وفيهم جماعة من أهل حلب وأقارب الملك الناصر، ثم أعادوا من بقى من أهل حلب إليها، وسلموا كل طائفة إلى رجل من الأكابر، ثم أحاطوا بالبلد ولم يمكنوا أحدا يدخل إليه ولا يخرج منه.
ثم فارق التتار حلب فى أوائل جمادى الأول سنة تسع وخمسين وستمائة وكان سبب رحيلهم عنها أن السلطان الملك الظاهر جرد فى العشر الأول من شهر ربيع الأول الأمير فخر الدين الطنبا الحمصى والأمير حسام الدين لاجين الجو كان دار «2» والأمير حسام الدين العين تابى «3» فى عسكر لدفع التتار عن حلب. فلما وصلوا إلى غزة أرسل فرنج عكا إلى التتار بخبرهم فرجعوا وفارقوا حلب.
ولما رحل التتار عن حلب تغلب عليها جماعة من أحداثها لخلوها من العسكر، منهم نجم الدين أبو عبد الله بن المنذر، وعلى بن الأنصارى، وأبو الفتح، ويوسف بن معالى، فقتلوا ونهبوا، وبلغوا أغراضهم ممن كان فى قلوبهم منهم ضغائن» فلما قاربوا الأمير فخر الدين الحمصى والأمير حسام الدين تابى، ومن معهما هرب هؤلاء عن حلب. ولما ذخلها الأمير فخر الدين الحمصى صادر(30/42)
أهلها وعذبهم واستخرج منهم ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم بيروتية، وأقام بها إلى أن وصل الأمير شمس الدين أقش البرلى، ففارقها.
ذكر الغلاء الكائن بحلب
قال الشيخ شمس الدين بن الجزرى فى تاريخه: وفى سنة تسع وخمسين وستمائة بعد أن توجه «1» التتار من البلاد الإسلامية غلت الأسعار بحلب، وقلت الأقوات فبلغ رطل اللحم سبعة عشر درهما، ورطل السمك ثلاثين، ورطل اللبن خمسة عشر، ورطل الشيرج سبعين، ورطل الخل ثلاثين، ورطل الأرز عشرين، ورطل الحب رمان ثلاثين، ورطل السكر خمسين، والحلوى كذلك، ورطل العسل ثلاثين، ورطل الشراب ستين، والجدى الرضيع بأربعين درهما، والدجاجة بخمسة دراهم، والبيضة بدرهم ونصف «2» ، والبصلة بنصف درهم، وباقة البقل بدرهم، والبطيخة بأربعين درهما، والتفاحة بخمسة دراهم، ولم يذكر سعر الخبز والقمح، ولعل ذلك لعدمه.
قال: وكانت المكاسب كثيرة والدرهم متيسر الحصول.
ذكر اختلاف العزيزية والناصرية، ومفارقة الأمير شمس الدين أقش البرلى البلاد، وتولية الحلبى نيابة حلب وعزله، وعود البرلى إليها وخروجه منها، ونيابة البندقدار وعود البرلى إليها ثانية وخروجه
وفى سنة تسع وخمسين وستمائة، بعد وقعة التتار، اختلف الأمراء العزيزية(30/43)
والناصرية، وحضروا إلى الساحل، فأعطى السلطان بعضهم الإقطاعات، وحضر الباقون إلى الديار المصرية، وكان الأمير شمس الدين أقش البرلى مقطعا مدينة نابلس من الأيام المظفرية، فزاده السلطان بيسان وجعل لمملوكه قجقار عدة نواحى وتوجه إلى دمشق. ثم أمر السلطان بإمساك الأمير بهاء الدين بغدى الأشرفى فغضب البرلى لذلك، واجتمع معه العزيزية والناصرية، ونزلوا بالمرج وتوجهو إلى حلب. وكان السلطان قد استناب الأمير علم الدين الحلبى بحلب قبل حدوث هذه الواقعة، وأمّر جماعة وقرر لهم وظائف وهم: الأمير شرف الدين قيران «1» الفخرى وجعله استاذ الدار، والأمير بدر الدين جماق وجعله أمير جاندار، والأمير علاء الدين ايدكين الشهابى وجعله شاد الدواوين. فتوجه الأمير علم الدين ووصل إلى حلب فى يوم السبت ثالث شعبان من السنة ووصلت مطالعته إلى السلطان يذكر عبوره إلى حلب، وأن جماعة من العزيزية والناصرية حضروا إليه يطلبون الأمانات. ولما وصل الحلبى إلى حلب جرد جماعه من العسكر خلف البرلى ومن معه من العزيزية والناصرية، فعطف عليهم العزيزية والناصرية فهزموهم، فعزل السلطان الحلبى لذلك. وقيل إنه إنما عزله لأسباب أخر اتفقت أوجبت عزله. ولما عزل الحلبى فارق حلب وعاد إلى دمشق، فخلت مدينة حلب، فحضر الأمير شمس الدين البرلى إليها وأقام بها، وسير الأمير بدر الدين أيدمر الحلى رسولا منه إلى السلطان يبذل له الطاعة، فأبى السلطان إلا حضوره إلى الخدمة. وأقام البرلى بحلب إلى أن وصل السلطان إلى دمشق فى سنة تسع وخمسين، فجرد العساكر إليها ففارقها البرلى وتوجه إلى الفرات، وعاد العسكر(30/44)
وأغار على بلاد أنطاكية «1» ، وكان فى العسكر صاحب حمص وصاحب حماة، فأخذت الينا وأحرقت المراكب، وأخذت الحواصل، وعادت العساكر إلى القاهرة فى يوم الخميس تاسع وعشرين شهر رمضان سنة ستين وستمائة وصحبتهم ما يزيد على مائتين وخمسين أسيرا «2» .
ثم استناب السلطان بحلب الأمير علاء الدين ايدكين البندقدار «3» ، فتوجه إليها وأقام بها. ثم خشى عاقبة عود الأمير شمس الدين اقش البرلى، ففارق حلب وعاد وأقام بحماة واعتذر أنه إنما فارق حلب لشدة الغلاء وعدم الأقوات.
وكان الأمير شمس الدين البرلى قد أرسل إلى السلطان الأمير علم الدين جكم بكتبه يسأله الصفح، فلما فارق البندقدار حلب عاد البرلى إليها وكتب إلى السلطان يعتذر من رجوعه إلى حلب، وأنه مارجع إلا طائعا، وأن الأمير علاء الدين انفصل عن حلب اختيارا منه، ولو أقام لما قصده أحد، وتوالت كتبه بالاعتذار واستأذن فى توجهه إلى الموصل، والسلطان يغلظ له تارة ويلين أخرى.
ثم جرد السلطان عسكرا صحبه الأمير شمس الدين سنقر الأشقر نجدة لصاحب الموصل، وانفق فيهم الأموال. فلما اتصل الخبر بالأمير شمس الدين البرلى توجه إلى سنجار والنقى التتار وقاتلهم قتالا شديدا. وكان معه نحو ألف فارس وهم فى جموع كثيرة فلم تساعده المقادير، وذلك أنه سقط عن فرسه فأنكسرت رجله، فركبه أحد مماليكه وساق يوما كاملا ولم يعلم من معه أن رجله كسرت، ثم كان من أمره ما نذكره، إن شاء الله تعالى.(30/45)
هذا ما اتفق بالشام وحلب.
ذكر ما اتفق للسلطان بالشام فى مدة مقامه بدمشق وما وقع فى سفرته هذه خلاف ما قدمنا ذكره من أمر الخليفة
من ذلك أنه لما وصل إلى دمشق وصل إلى خدمته الملك المنصور صاحب حماة، والملك الأشرف صاحب حمص والرحبة، فتلقاهما وأكرمهما وأنعم عليهما بخيل النوبة والعصائب وشعار السلطنة، وركب كل منهما بمفرده والأمراء مترجلون فى خدمته، وكتب لهما التقاليد، وزاد الملك الأشرف تل باشر والملك المنصور بلاد الإسماعيلية، وتوجها إلى بلادهما.
ومن ذلك أن أمراء العريان حضروا إلى خدمة السلطان فأنعم عليهم ووصل أرزاقهم، وسلم إليهم خفر البلاد، وألزمهم حفظها إلى حدود العراق «1» .
ومن ذلك أنه فوض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى، وكان قبل ذلك بنيابة قلعة دمشق، والأموال «2» .
ذكر ركوب السلطان إلى الميدان بدمشق ولعبه بالكره ومن كان فى خدمته من الملوك
قال المولوى محيى الدين عبد الله بن عبد الظاهر فى السيرة الظاهرية: ولعب السلطان فى ميدان دمشق، فرأيت فى خدمته جماعة من الملوك وهم: الملك الصالح صاحب الموصل [و] «3» الملك المجاهد صاحب الجزيرة، [و] الملك المظفر(30/46)
صاحب سنجار، [و] الملك علاء الملك. [و] الملك الأشرف صاحب حمص، [و] الملك الزاهر أسد الدين، [و] الملك المنصور صاحب حماة [و] الملك الأمجد تقى الدين بن الملك العادل سيف أبى بكر بن أيوب «1» ، [و] الملك المنصور [و] الملك السعيد، [و] الملك المسعود، وأولاد الملك الصالح عماد الدين اسماعيل (و) الملك الأمجد وأخوته أولاد الملك الناصر داود، (و) الملك الأشرف ابن ولد أقسيس [و] الملك القاهر بن الملك المعظم، وجماعة كثيرة منهم.
قال: وهذا ما لا رآه ملك آخر.
ذكر الصلح مع ملوك الفرنج
لما توجه السلطان إلى الشام سير سير جوان ديكين، كنديافا، يبذل الطاعة. ولما وصل السلطان إلى العوجا سأل الأمان للحضور إلى الدهليز، فتوجه الأتابك إليه وأحضره إلى السلطان. فأكرمه وكتب له منشورا ببلاده ورده إلى بلده.
قال: ثم وردت رسل ملوك الفرنج يهنون السلطان بالسلامة ومعهم الإقامات الكثيرة.
فلما وصل السلطان إلى دمشق حضر رسول من عكا يسأل أمانا للرسل المتوجهين من ساير البيوت. فكتب إلى متولى بانياس بتمكينهم «2» ، فحضر أكابر الفرنج والتمسوا الصلح، فتوقف السلطان واشترط شروطا كثيرة فتوقفوا،(30/47)
فأهانهم وزجرهم. وكان العسكر قد توجه للإغارة على بلاد الفرنج من جهة بعلبك، فسألوا فى رجوعه وتقرير الصلح على ما كان الأمر عليه إلى آخر الأيام الناصرية وإطلاق الأسرى، من حين انفصال الأيام المذكورة إلى وقت هذه الهدنة.
وتوجهت الرسل معهم لأخذ العهود عليهم «1» .
وكذلك تقررت الهدنة لصاحب بافا ومتملك بيروت على حكم الأيام الناصرية، وأمنت السبل وكثرت الأجلاب.
وشرع السلطان فى جمع الأسارى وسيرهم إلى مدينة نابلس حفظا للعهود، والفرنج يكاسرون «2» فى أمر الأسارى. فلما طال ذلك رسم السلطان بنقل الأسارى إلى دمشق واستعمالهم فى العمائر وبقى الحال موقوفا «3» .
ذكر الغارة على العرب والفرنج
قال: ولما وصل السلطان إلى الشام جرد الأمير جمال الدين المحمدى، وجرد معه جماعة من العسكر المنصور، ورسم لهم بالإغارة على بلد الفرنج، فتوجهوا ونهبوا وكسبوا، وعادوا ساطين «4» .
وجرد جماعة من البحرية وكتم خبرهم. وكان السلطان بلغه أن جماعة من عرب زبيد قد كثر فسادهم وأنهم مخالطون الفرنج وموافقوهم فى الباطن ويدلونهم على عورات المسلمين، فساق البحرية إليهم وانتهبوا أموالهم وقتلوا منهم وذبحوا جماعة كثيرة، وكفى الله الإسلام شرهم «5» .(30/48)
وفى هذه السنة والسفرة، عزل السلطان القاضى نجم الدين بن قاضى القضاة صدر الدين بن سنى الدولة عن القضاة بدمشق، وفوضه للقاضى شمس الدين أحمد ابن بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن خلكان البرمكى من العريش إلى سلمية، وفوض إليه النظر فى جميع الأوقاف بالشام، منها الجامع والبيمارستان والمدارس وغير ذلك، وفوض إليه تدريس سبع مدارس وهى: العادلية، والعذراوية، والناصرية، والفلكية، والركنية، والإقبالية، والبهنسية. وكان تدريس هذه المدارس بيد القاضى نجم الدين المعزول، ووكل بالقاضى نجم الدين «1» وأمره أن يتوجه إلى الديار المصرية. وكان مذموم السيرة فى ولايته. ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة جملة من معانيه.
ذكر عود السلطان إلى الديار المصرية
قال: ولما استقرت هذه الأمور عاد السلطان إلى الديار المصرية، وكان وصوله فى يوم السبت سابع عشر ذى الحجة سنة تسع وخمسين وستمائة.
ذكر أخذ الشويك
كان السلطان قد جهز الأمير بدر الدين الأيدمرى وصحبته جماعة من العسكر، وما أعلم أحدا ممن جرد بالجهة التى يتوجهون إليها، فتوجه إلى الشويك وبذل المال والخلع فسلمت إليه. ووصل الخبر بتسليمها فى سادس عشرين ذى الحجة من السنة. وولى نيابتها الأمير سيف الدين بلبان المحتصبى «2» ، واستخدم بها النقباء(30/49)
والجاندارية، وأفرد لخاص القلعة ما كان لها إلى آخر أيام الصالحية النجمية.
وفى هذه السنة، كانت وفاة الصاحب صفى الدين أبى إسحق إبراهيم ابن عبد الله بن هبة الله بن أحمد بن مرزوق العسقلانى، وكان قد وزر للملك الأشرف ابن الملك العادل بدمشق مدة، ثم عزل بجمال الدين بن جرير، وكان تاجرا مشهورا بالثروة وكثرة الأموال. وكان ابتداء أمره كما حكى عنه أنه حكاه عن نفسه قال: أرسلنى والدى إلى القاهرة من مصر لأبتاع له قمحا، وكان له طاحون بمصر، فتوجهت إلى دار بعض الأمراء فاشتريت ألف أردب بخمسة آلاف درهم، وتسلمتها، وبت فى تلك الليلة بالقاهرة، وأصبحت فتحسن سعرها فبعتها بسبعة آلاف، فأوفيت الثمن، وأخذت ما بقى، وصرفت به مائة وثلاثين دينارا. وأتيت والدى فسألنى عن القمح، فقلت: بعته، فقال: ولم لا أتيت به؟ فقلت له: إنك لم ترسل معى الثمن، حتى ولم تعطنى دابة أركبها، وعندك عشرين دابة، ماهان عليك أن أركب منها دابة «1» . وكنت قد مشيت من مصر إلى القاهرة فحقدت ذلك عليه. قال: ثم اتجرت فى ذلك المال الذى ربحته من ثمن القمح فبارك الله لى فيه حتى جمعت منه ستمائة ألف دينار عينا، غير ما اشتريت من العقار والأثاث والخدم والدواب والمسفر وغيره.
وكانت وفاته بمصر ودفن بسفح المقطم. ومولده فى شهر رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة. رحمه الله تعالى.
وفيها توفى الأمير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خماردكين «2» ، وهو صاحب صهيون، وجده عتيق الأمير مجاهد الدين صاحب صرخد.(30/50)
وكانت وفاته فى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وستمائة بقلعة صهيون ودفن بها، وولى بعده ولده سيف الدين محمد. وكان هو قد ولى صهيون بعد وفاة والده ناصر الدين منكورس فى سنة ست وعشرين وستمائة. وخلف الأمير مظفر الدين من الأموال ما لا يحصى كثرة. حكى الشيخ شمس الدين ابن الجزرى فى تاريخه قال: حكى لى الصاحب مجد الدين اسماعيل بن كسيرات الموصلى قال: كان مظفر الدين صاحب صهيون يجلس فى كل يوم فى باب القلعة ويأخذ قطعا من الشمع ويختم عليها بخاتمه، فمن كان له دعوى على خصمه أو محاكمة جاء إليه وأحضر معه شيئا من المأكول فيضعه فى الدركاه بين يدى الأمير مظفر الدين، ويأخذ قطعة من ذلك الشمع المختوم ويتوجه إلى خصمه ويقول هذا ختم السلطان، فيأخذ الخصم معه شيئا أيضا ويحضر إلى بين يديه فيحكم بينهما بنفسه. قال: فسألته عن مقدار ما يحضره الواحد منهم. قال:
يأتى كل واحد بحسبه من الرأس الغنم إلى خمس بيضات. ومات وقد ناف على تسعين سنة، رحمه الله.
وفيها توفى الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن عيسى بن درياس الماردانى «1» الشافعى، وكانت وفاته بالقاهرة فى يوم السبت سادس شوال، ودفن من يومه بسفح المقطم. ومولده فى ليلة الثلاثاء ثانى عشرين شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمية، رحمه الله تعالى.(30/51)
واستهلت سنة ستين وستمائة
فى هذه السنة، فى ثالث عشرين المحرم، أعرس الأمير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهرى نائب السلطنة الشريفة على ابنة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل كان، وكان عقد النكاح قد عقد فى ثالث عشر شوال سنة تسع وخمسين وستمائة، وذلك أن السلطان كان قد استدعى الملوك إخوتها فى اليوم المذكور وعرفهم مكانة الأمير بدر الدين منه، وأن محله محل الولد، وخطب أختهم له، فأجابوا إلى ذلك، وعقد النكاح. وملكه السلطان فى ذلك اليوم بانياس وقلعتها بالبيع الشرعى. ثم كان البناء بها فى هذه السنة. وعمل العرس بالميدان الأسود. واحتفل السلطان به احتفالا عظيما، وفوض إليه بعد أيام قلائل النظر فى أمر الجيش: يقطع الإقطاعات ويزيد وينقص، وفوض إليه أمر الرعايا وكشف ظلاماتهم وغير ذلك.
وفيها، حصل الصلح بين السلطان والملك المغيث صاحب الكرك «1» ، وكان ولده الملك العزيز فى الاعتقال من الأيام المظفرية. فإن والده كان قد سيره إلى هولاكو كما ذكرنا فاتفق عوده إلى دمشق عند دخول الملك المظفر إليها، فأمر بإرساله إلى قلعه الجبل واعتقاله بها. فأطلقه السلطان الآن، وأقطعه دبنان «2» بمنشور، وحلف السلطان لأبيه. ثم بعد ذلك سير السلطان له صنجقا وشعار السلطنة، فقبل عقب الصنجق وركب بشعار السلطنة.(30/53)
وفيها، انتصب السلطان لعرض العساكر بنفسه وحلّف الناس لولده الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان، فحلفوا له، وسيرت نسخ الأيمان إلى القلاع والممالك «1» والناس بأجمعهم.
ذكر وصول الأمير شمس الدين سلار البغدادى وشىء من أخباره «2»
وفى نصف شهر رجب سنة ستين وستمائة وصل الأمير شمس الدين سلار البغدادى من العراق إلى الديار المصرية، وكان رجلا تركيا من قبيلة دروت «3» وهو من مماليك الخليفة الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله، ولاه واسط والكوفة والحلة. فأقام بها فى الأيام الظاهرية والمستنصرية والمستعصمية. فلما استولى هولاكو على بغداد وقتل الخليفة، اجتمع سلار هذا وصاحب شستر ومن انضم إليهما، وقاتلوا التتار فلم يكن لهم بهم طاقة لكثرة التتار، فتوجه إلى برية الحجاز، فأقام بها نحوا من سنة أشهر، ثم راسله هولاكو وكتب له فرمانا بإفراره على ما كان عليه فى الأيام المستعصمية، فحضر إليه فأقره، فلما أفضت السلطنة بالديار المصرية إلى السلطان الملك الظاهر كاتبه السلطان، وطلب منه الوصول إليه مرة بعد أخرى، فتقرر حضوره إليه، وتأخر ذلك إلى أن يتحيل لنفسه ويجمع أمواله، فاتفق أن السلطان تحدث مع قليج البغدادى فى بعض الأيام فقال له السلطان: خوشداشك سلار يصل إلينا؟ فقال: هذا لا يتصور(30/54)
وقوعه، لأن سلار من الملوك بالعراق، فكيف يفارق ما هو فيه ويحضر إلى هذه البلاد؟ فقال السلطان: متى لم يحضر برضاه أحضرته بغير رضاه. وبعث قاصدا يكتب إليه على أنها أجوبة كتبه، وبعث قاصدا آخر وقال له: إذا قربت من الأردو فاقتل هذا القاصد واتركه وما معه، ففعل ذلك. ولما قتل القاصد وجده القراؤل، فأحضره إلى هولاكو فقرىء ما معه من الكتب فوجدت أجوبة سلار. وكان بمقام هولاكو جماعة من أولاد مماليك الخليفة أخذهم لنفسه وجعلهم خواصا عنده، فسيروا إلى سلار فى الوقت يعلمونه الخبر، فعلم أنها مكيدة، ورسم هولاكو بطلبه إلى الأردو، فوصل إليه الخبر قبل ورود مرسوم هولاكو بطلبه. وكان حال وصول الخبر إليه يتصيد، فعلم أنه متى وصلى إلى هولاكو قتله، فساق لوقته إلى أن وصل إلى الديار المصرية. وترك جميع أمواله وذخائره وأهله وأولاده. ولما وصل أكرمه السلطان وعامله بإحسان كثير، وأنزله بالكبش، وأمره طبلخاناه، وأقطعه منية بنى خصيب. فقال للسلطان: لقد ضيع السلطان على المسلمين أموالا عظيمة، فإنك لو تركتنى حتى أحضر بما جمعته من الأموال والذخائر انتفع بيت المال به، فإنى جمعت خراج سنتين. فقال له السلطان: إنما كان قصدى حضورك، ولم أقصد الأموال. ولا تجلس بين يدى. السلطان لا يرفع أحدا عليه «1» . ثم جرده السلطان فى مقابلة الفرنج بساحل عكا، فكتب إلى السلطان يسأله أن يقيم بالشام فأقطعه نصف [مدينة] نابلس «2» ، وأقام ستة أشهر ثم أعاده [السلطان] إلى الديار المصرية.(30/55)
وكان السلطان قبل وصول سلار البغدادى قد اعتقل الأمير سيف الدين قليج لأمر صدر منه، فأطلقه السلطان بغير شفاعه، وأحسن إليه وأعاده إلى الإمرة ولعب معه الكرة.
ذكر عود رسل السلطان من جهة الأنيرور «1»
وفى شعبان سنة ستين وستمائة، وصل الأمير سيف الدين الكرزى «2» ، والقاضى أصيل الدين خواجا إمام، وكان السلطان بعثهما إلى الأنيرور، وذكرا أن الأنيرور أهتم بأمرهما اهتماما عظيما، وأنه أحضرهما ساعة وصولهما وعرضت عليه الهدية، وكان فى جملتها زرافة فأعجبته إعجابا عظيما، وشاهد التتار الذين سيروا إليه [ذلك] «3» ، وذكرا أنه جهز رسولا وهدية تحضر فيها بعد.
وكان فى جملة رسله إلى السلطان نفران من البحرية «4» ، فلما وصلا، أمر السلطان بتأديبهما لما بلغه من سوء اعتمادهما، وسيرهما إلى قلعة الجزيرة يعملان فيها.
ذكر عود رسل السلطان من جهة صاحب الروم ووصول رسله إلى السلطان، وما قرره السلطان من بلاده.
وفى هذا الشهر، وصل الأمير شرف الدين الجاكى، والشريف عماد الدين الهاشمى. وكان السلطان قد سيرهما إلى السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو(30/56)
صاحب الروم ووصل صحبتهما الأمير ناصر الدين نصر الله بن كوح «1» رسلان أمير حاجب، والصدر صدر الدين الخلاطى «2» رسولان منه، ومعهما كتابه إلى السلطان يذكر أنه نزل للسلطان عن نصف بلاده، وسيّر درجا فيها علائم بما يقطع من البلاد لمن يختاره السلطان ويؤمره [وسأل أن] «3» يكتب له من جهته منشورا قرين منشور صاحب الروم. فلما وصل الرسل إلى السلطان أكرمهم وجهز جيشا نجدة لصاحب الروم. وأمر بكتب المناشير، وعين الأمير ناصر الدين أغلمش السلاح دار الصالحى لتقدمة الجيش، وعين له ثلاثمائة فارس، وأقطعه فى الروم، وكتب للامير ناصر الدين الرسول المذكور منشورا بثلاثمائة فارس وأقطعه آمد وأعمالها، وتقرر سفره صحبة العسكر، وأن يتوجه صدر الدين رفيقه فى البحر صحبة رسل السلطان. ووقع الإهتمام فى كتب المناشير وتجريد الأمراء من الشام وحلب.
وفى شهر رجب من السنه، وصل الأمير عماد الدين ولد الأمير مظفر الدين صاحب صهيون رسولا من جهة أخيه الأمير سيف الدين، وصحبته الهدايا الحسنة. فأحسن السلطان إليه وكتب له منشورا فى بلاد حلب بثلاثين فارسا، وكتب له منشورا آخر فى بلاد الرومية بمائة طواش.
وفى هذه المده ورد كتاب صاحب الروم يذكر أن العدو لما بلغهم اتفاقه مع السلطان ولوا هاربين، وأنه سير إلى قونيه يحاصرها ليأخذ من بها من أصحاب أخيه.(30/57)
وفى هذا التاريخ، وصلت كتب الأمير علاء الدين الخزندار مقدم العسكر المتوجه إلى الصعيد بسبب العربان عند ما قتلوا الأمير عز الدين الهواش متولى الأعمال القوصية يذكر تبديد شملهم وأبادتهم وأنه أراح المسلمين من فسادهم.
وفى شعبان منها توالى وصول جماعة ممن كان صحبه الأمير شمس الدين أقش البرلى من العزيزية والناصرية، فأحسن السلطان إليهم، ولم يؤاخذهم بما كان منهم.
ذكر عود رسل السلطان من جهة الأشكرى وخبر مسجد القسطنطينية
وفى هذه السنة، وصل الأمير فارس الدين أقش «1» المسعودى الذى كان توجه رسولا إلى الأشكرى، وكان الأشكرى قد سير رسولا إلى السلطان يلتمس بطركا للنصاوى الملكيين «2» فعين لذلك الرشيد الكحال، وسيّر إليه صحبة الأمير فارس الدين المذكور، فأكرمه الأشكرى وأكرم من صحبه من الأساقفة، وصادف وصولهم إلى الأشكرى فتح القسطنطينية، فركب يوما ليفرج فارس الدين المذكور فيها وفى عمارتها. فمر بمكان وقال: هذا جامع، وقد أبقيته ليكون ثوابه للسلطان. فلما سمع السلطان هذا الخبر استبشر به وفرح فرحا عظيما. وأمر لوقته بتجهيز الحصر العبدانى «3» والقناديل المذهبة والستور المرموقه والسجادات والمباخر والعنبر والعود والمسك وماء الورد.(30/58)
وهذا المسجد كانت عمارته فى سنة ست وتسعين للهجرة. وكان قد وقع الصلح مع الروم على أن يبنى بها مسجد جامع «1» فبنى. ولما طالت المدة جعلوه حدسا. وقيل: إن الصلح كان قد تقرر على أن يبنى مسجد قدر جلد بعير، وتقررت العهود على ذلك فعمد المسلمون إلى جلد بعير فقدوه سيورا ومدوها. فأنكر ذلك فقال المسلمون: هذا جلد بعير، لم نزد عليه شيئا، وعليه وقع الاتفاق. فسكتوا وقيل: إن بانيه مسلمة بن عبد الملك فى أيام أخيه الوليد. والله أعلم.
ذكر حضور الأمير شمس الدين أقش البرلى العزيزى إلى الديار المصرية «2»
قد ذكرنا من أخباره وتردده إلى حلب وقتاله التتار فى سنة تسع وخمسين وستمائة ما قدمناه.
قال المؤرخ: ولم يزل السلطان يكاتبه ويرغبه ويعطيه العهود والمواثيق على الوفاء، وسير إليه الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى فى رسالة، وشافهه باليمين، فقال له الأمير شمس الدين: «قد جاءتنى رسالة هولاكو يطلبنى إليه، وحلف لى. وهذه رسالة السلطان ويمينه، وأنا، والله «أعلم أن هولاكو يفى، وأن السلطان لا يفى» . وكان أولاده وأهله بالقاهرة فترجح عنده الحضور فحضر، ولما وصل إلى دمشق كتب السلطان إلى النواب بخدمته وترتيب الإقامات له فى جميع الطرقات والمنازل إلى أن يصل إلى القاهرة، وكان متمرضا من(30/59)
جراحة فى رجله فجهز إليه الأدوية واهتم بأمره اهتماما عظيما، وكان وصوله إلى القاهرة فى ثانى ذى الحجة سنة ستين وستمائة، فركب السلطان لتلقيه وحمل إليه من الأموال والأقمشة والخلع والخيول وآلات البيوتات ما لا يكون مثله إلا لملك. ولم يترك شيئا مما يحتاجه الأمراء إلا سيره إليه. وكتب له منشورا بستين فارسا، وأعطاه طبلخاناه، وأمر من صحبه من الأمراء. وأعطى كل واحد منهم يحسب حاله. قال: ولما استقر أرسل إلى السلطان يسأله زيادة فى الشام «1» أو فى نابلس أو بلاد الصلت أو بعلبك أو حران، وينزل عن البيرة، ويقول: إن قدرته تعجز عن حفظها، فشكره السلطان ولم يقبل البيرة منه. وقال:
«أنا أرجو لك الزيادة» وصار السلطان يقربه فيسايره إذا ركب، ويستشيره إذا جلس، ويساهمه فى كل شىء حتى فيما يكون بين يديه من الطرف، ولازمه حتى لم يفارقه صيد ولا غيره، ثم جدد السؤال فى قبول البيرة، فقبلها السلطان منه وأعطاه الرها وغيرها، وأمر مماليكه. وسافر فى صحبة السلطان إلى الطور ثم قبض عليه لاسباب نذكرها، إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على علاء الدين طيبرس الوزيرى نائب السلطنة بالشام «2»
وفى سنة ستين وستمائة، بلغ السلطان عن الأمير الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى النائب بدمشق أمور أنكرها عليه، فسير الأمير عز الدين الدمياطى، والأمير علاء الدين أيدغدى الحاج الركنى فتوجها من الديار المصرية فى شوال،(30/60)
ودخلا إلى دمشق فى ثالث ذى القعدة. فلما خرج اليهما ليتلقاهما ووصل إلى الأمير عز الدين الدمياطى أهوى ليكارشه على ما جرت العادة به فى السلام، فقبض الدمياطى بيده على عضد طيبرس وبيده الأخرى على سيفه، وأنزل عن فرسه وركبوه بغلا، وقيد وأرسل إلى السلطان ووقعت الحوطة على أمواله وحواصله بدمشق، وكان قد سير جملة منها مع العرب، وكان طيبرس قد أساء السيرة فى أهل دمشق، وضيق عليهم، وتسلم الأمير علاء الدين الركنى دمشق ينظر فيها إلى حين حضور نائب مستقل.
ومن عجيب ما وقع فى القبض عليه ما حكاه شمس الدين الجزرى فى تاريخه عن الرشيد فرج الله كاتب البيرتات بدمشق، قال: لما وصل الأمراء الذين قبضوا على طيبرس إلى الكسوة طلبنى وقال: جهز سماطا جيدا لهؤلاء الأمراء، وأحضره أنت بنفسك واحترز عليه، فأنا لا أحضره. قلت: لأى سبب يتأخر مولانا عنه؟ فأسر إلى وقال: إن هؤلاء جاءوا ليقبضوا على قبل دخولهم إلى دمشق.
فقلت: يكفيك الله، وبكيت. فقال: هذا أمر لا بد منه، فأبصر أنت كيف تكون. فخرجت من عنده، وجهزت السماط كما رسم، وكان من قبض ما تقدم قال الرشيد: فدخلت يوما على الأمير علاء الدين الركنى وهو يحكم بدمشق، فسألنى عن أشياء تتعلق بالديوان والسماط إلى أن ذكر الأمير علاء الدين طيبرس الوزيرى وأثنى عليه خيرا، فوجدت مجالا للكلام، فذكرت له هذه الحكاية.
فقال لى: أنا أحكى لك أعجب من هذا: بينا أنا فى دارى بالقاهرة فى وقت القابلة وإذا برسل السلطان تستدعينى إليه، فما شككت حين طلبنى فى غير الوقت المعتاد أنه يقبض على. فأوصيت استادارى بما يعتمده، وودعت أهلى، وركبت إلى القلعة، فوافيت الأمير عز الدين الدمياطى وقد طلب كما طلبت، فتحققنا(30/61)
جميعا إننا تمسك، ثم دخلنا على السلطان فوجدناه فى خلوة، فلما أقبلنا عليه نهض قائما، وأكرمنا فقبلنا الأرض بين يديه وزال عنها ما كان نجده، ثم أمرنا بالقرب منه، فتقدمنا حتى التصقت ركبنا بركبتيه، ثم أخرج من جيبه ختمة واستحلفنا أننا لا نذيع له سرا، وأن نفعل ما يأمرنا به، فحلفنا، فلما تمت اليمين قال: تتوجها الساعة إلى دمشق وتستصحبا معكما العسكر المقيم بغزة، وتمسكوا «1» علاء الدين طيبرس نائب الشام، وتكون أنت مكانه، وإن سمعت هذا الحديث من أحد من خلق الله تعالى قبل أن تفعلاه شنقتكما. فخرجنا من عنده فلما صرنا تحت القلعة إذا بحرفوش يقول لآخر: هؤلاء رايحين إلى دمشق يقبضوا على طيبرس نائب السلطنة بها، فأصفر عند ذلك لونى ولون الدمياطى، وحلفنا جميعا لا نصل إلى بيوتنا، وقال كل منا لاستاد داره أن يلحقه بهجين وجنيب إلى البئر البيضاء «2» وسقنا من وقتنا إليها. فلحقنا غلمائنا وما نحناج إليه بعد العصر، واستمر بنا السير حتى نفذنا أمر السلطان. وهذا شىء أجراه الله تعالى على ألسنة عوام مصر، لا ينطقون بشىء فى غالب الأوقات إلا ويكون كذلك.
ذكر وصول جماعة من التتار إلى خدمة السلطان «3»
قال المؤرخ: كان السلطان قد جهز كشافة من الأمراء وهم، جمال الدين أفش الرومى الصلاح دار من الخواص ومعه الخيول الجياد، ثم جهز الأمير علاء الدين أقسنقر الناصرى، وكتب إلى الشام بأردافهم، وأرسل أمراه(30/62)
العربان فساقوا إلى حدود العراق. وكانت الأخبار من جهة القصاد قد وردت أن هولاكو جمع جمعا كبيرا ولم يعلم قصده، فاحترز السلطان وسير هذه الكشافة. فأمسكوا من وسط التتار جماعة، واستطلعوا منهم الأخبار، وكانوا مسلمين، فأطلقهم الأمير علاء الدين. ولما توالت الأخبار بحركة هولاكو عمل السلطان بالحزم، وتقدم إلى أهل دمشق بالحضور بأهاليهم لتخف ظهورهم وترخص الأسعار فحضر منهم جماعة كثيرة.
وكتب إلى التواب بحلب بحريق الأعشاب، وسير جماعة إلى بلاد آمد ومواضع الأعشاب فأحرقوا من المروج مسيرة عشرة أيام، وكذلك أعشاب بلاد خلاط «1» حتى صارت كلها رمادا. ثم ورد كتاب الأمير الحاج علاء الدين أقسنقر الناصرى أن الكشافة وجدوا جماعة كثيرة من التتار مستأمنين وافدين إلى باب السلطان، وأنهم من أصحاب الملك بركة، وكانوا نجدة عند هولاكو، فلما وقع بينهما كتب الملك بركة إليهم بالحضور إليه وإن عجزوا عن ذلك ينحازوا «2» إلى عسكر الديار المصرية وأنهم يذكرون أن العداوة قد استحكمت بين الملكين هولاكو وبركة، وأن ولد هولاكو قتل فى المصاف، وأنهم فوق مائتى فارس، فكتب السلطان إلى نواب الشام بإكرامهم وترتيب الإقامات لهم فى الطرقات وحمل الخلع إليهم وإلى نسائهم، وأحسن إلى مقدميهم الأربعة، فوصلوا يوم الخميس رابع عشرين ذى الحجة سنة ستين، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت السادس والعشرين من الشهر. وكان السلطان قد رسم بعمارة أدر ومساكن لهم بقرب اللوق، فسكنوها، وحملت إليهم الخلع وسيقت الخيول، وفرقت فيهم(30/63)
الأموال، ولعبوا الكرة مع السلطان، وأمر أكابرهم بمائة فارس فما دونها، ونزل بقبتهم فى جملة بحربته ومماليكه، وأفردت لهم جهات يستخرج منها مرتبهم. وأسلموا وحسن إسلامهم. وبلغ التتار ما قال هؤلاء من الإحسان وما شملهم من الأنعام فتوافدوا جماعة بعد جماعة، والسلطان يعتمد مع كل من يحضر منهم مثل ما اعتمد مع من قبلهم.
ذكر إنفاذ الرسل إلى الملك بركة «1»
قال: ولما وصلت جماعة التتار إلى السلطان، واستطلع منهم الحال وعرف أحوال الملك بركة ومقامه والطريق إليه جهز إليه رسله وهم: الأمير سيف الدين كشربك «2» وهو رجل تركى كان جمدار السلطان خوارزمشاه يعرف البلاد واللغات، والفقيه مجد الدين الروذ راورى، وسير صحبتهم نفرين «3» من التتار الذين وصلوا إليه من أصحاب الملك بركة. وكتب على أيدى الرسل كتابا بستميله ويحثه على الجهاد، ويصف العساكر الإسلامية وكثرتهم وعدة أجناسهم من الترك وعشاير الأكراد وقبائل العربان ومن أطاعها من الملوك الإسلامية والفرنجية، ومن خالفها، ومن وافقها، ومن هاداها «4» وهادنها، وأن جميعها فى طاعته وسامعة لإشارته إلى غير(30/64)
ذلك من الأغراء بهولاكو وتهوين أمره وتقبيح الغفلة عنه، وأعلمه بوصول من وصل من التتار وادعائهم أنهم من أصحابه، وأن الإحسان إليهم إنما هو من أجله.
وكان الخليفة الحاكم بأمر الله قد حضر وبويع بحضور الرسل وكتب نسبته وأذهبت وأشهد على ثبوت نسبه، وسير ذلك إلى الملك بركة. وزود الملك الظاهر الرسل لمدة شهور، وتوجهوا فى المحرم سنة إحدى وستين.
ووصلوا إلى بلاد الأشكرى فأحسن إليهم وصادف وصولهم وصول رسل الملك بركة إلى الأشكرى، فسيرهم صحبتهم ورجع الفقيه مجد الدين لمرض حصل له، وتوجه الرسل صحبة رسل الملك بركة: الأمير جلال الدين والشيخ نور الدين على، ووصلت كتب الأشكرى أن رسل السلطان توجهوا سالمين.
ذكر تفويض نيابة السلطنة بالشام إلى الأمير جمال الدين النجيبى الصالحى «1»
قال: ولما تسلم الأمير علاء الدين الركنى مدينة دمشق على ما قدمناه اختار السلطان الأمير جمال الدين أقش النجيبى الصالحى لنيابة السلطنة بدمشق، وجهز معه الصاحب عز الدين عبد العزيز بن وداعة وزير الشام. وكان قد حصل بينه وبين الأمير علاء الدين طيبرس مفاوضات أوجبت حضوره إلى الباب السلطانى صحبة الركاب الشريف فرسم بعوده على وظيفته «2» .
وفى هذه السنة فى ذى القعدة، خرج أمر السلطان لقاضى القضاة تاج الدين «3» أن يستنيب نوابا من المذاهب الثلاثة، فاستناب القاضى صدر الدين سليمان(30/65)
الحنفى، والشيخ شرف الدين عمر السبكى المالكى، والشيخ شمس الدين الحنبلى.
وفيها: اشتد الغلاء بالشام «1» ، وأبيعت غرارة القمح بأربعمائة وخمسين درهما، والشعير بمائتين وخمسين، وأبيع القمح بحماة عن كل مكوك أربعمائة درهم، ثم غلت سائر الأصناف، ومات خلق كثير من الجوع.
وفيها: فى ذى الحجة ظهر بالقاهرة عند الركن المخلق معبد وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه السلام، فجددت عمارته. وهو إلى الآن يعرف بمعبد موسى.
ذكر وفاة شيخ الإسلام عز الدين أبى محمد ابن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم ابن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى الشافعى وشىء من أخياره «2»
كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بالمدرسة الصالحية النجمية بالقاهرة المعزية، فى يوم السبت فبيل العصر التاسع من جمادى الأول سنة ستين وستمائة، ودفن يوم الأحد قبل الظهر بسفح المقطم. ومولده تقريبا فى سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وولى من المناصب الدينية بدمشق: تدريس زاوية الغزالى، وخطابة الجامع الأموى. وولى بالديار المصرية: القضاء بمصر والوجه القبلى، وخطابة جامع عمرو بن العاص، وتدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة، والنظر فى عمارة(30/66)
المساجد بالقاهرة ومصر. وكان، رحمه الله تعالى، أحد أئمة المسلمين، إليه انتهت الفتيا فى زمانه، وصنف التصانيف المشهورة، منها: الإمام فى أدلة الأحكام، وقواعد الفقه الكبرى، والوسطى، والصغرى، والغابة فى اختصار النهاية، وجمع بين الحاوى والنهاية، واختصر الشامل لابن الصباغ، واختصر الكشاف، واختصر تفسير ابن عباس والماوردى، وفسر سورة البقرة فى مجلدة «1» ، وفسر من سورة يس إلى سورة الناس، واختصر صحيح مسلم فى مجلدين، وعمل عليهما حواشى مفيدة، واختصر الرعاية، وصنف فى الزهد شجرة المعارف، وغير ذلك من التصانيف المفيدة. وكان، رحمه الله، كثير الزهد والإيثار، لا يعتنى بالملابس، ولا يكترث بها، ولا تأخذه فى الله لومة لائم ولا يخشى سطوة ملك، لم يزل يصدع الملوك بمر الحق، ويفتى بحكم الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف ذلك آراء الملوك واعتقادهم، وكرهوه منه، ونهوه عنه فلا يرجع عما علمه، ويطلب المناظرة عليه. واتفقت له وقائع مع الملوك راموا فيها قتله، فحماه الله تعالى منهم، وهى وقائع تدل على صلابة دينه، وحسن يقينه، وتمسكه من السبب الأقوم بمتينه. منها: واقعته مع الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل صاحب دمشق فى مسألة الكلام. وكان الملك الأشرف قد صحب جماعة من مبتدعة الحنابلة من صغره ممن يقول بالحرف والصوت، فاستمالوه إلى مذهبهم وقرروه عنده حتى أمتزج بلحمه ودمه، واعتقد كفر من يعتقد خلافه وأنه مباح الدم. وكان فى ابتداء سلطنته يميل إلى الشيخ عز الدين لما يبلغه عنه، وقصد حضوره إليه، والشيخ بأبى ذلك ويمنع منه ولا يجيب إليه. فألقى(30/67)
إلى السلطان من صحبه من الحنابلة أن الشيخ مخالف لرأيه مباين لمذهبه، وأنه يقدح فيمن يعتقده ويذمه ويسبه، فأتهمهم السلطان فى ذلك، وطلب منهم تحقيقه عنده، فاجتمعوا وكتبوا فتيا فى مسألة الكلام وأرسلوها إلى الشيخ، وكان قد اتصل به خبر مكيدتهم، فلما أتته كتب عليها بما يعتقده من تعظيم الله تعالى وتنزيهه وتوحيده، وأنه حى مريد سميع بصير عليم، قدير متكلم قديم أزلى ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور فى كلامه أن ينقلب مدادا فى الألواح والأوراق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور فى أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على ذاته، كما يجب احترامها لدلالتها على صفاته. وأطال فى الفتيا وبسط الكلام واستدل، ونفى عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأكابر أصحابه خلاف ذلك، وأخرج الفتيا من يده وقد تحقق ما يؤول أمرها إليه، فعرضت على السلطان، ومن عرضها لا يشك أن فيها سفك دم الشيخ.
فلما وقف عليها استشاط غضبا وقال: صح عندى ما قالوه عنه، وتكلم فى حقه بأشنع الكلام، وكفره، وكان ذلك فى شهر رمضان، وقد اجتمع على سماطه القضاة والعلماء، فما استطاع أحد منهم أن يرد عليه لما عنده من الحرج. فقال بعضهم: السلطان أولى بالعفو والصفح لا سيما فى مثل هذا الشهر، وموّه آخرون بكلام يوهم صحة فذهب خصمه، ثم انفصلوا من المجلس. فنهض فى ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكى، رحمه الله تعالى، وهو عالم مذهبه فى زمانه. واجتمع بالقضاة والأعيان الذين حضروا المجلس، ووبخهم ولامهم وشدد عليهم النكير كونهم ما ذكروا الحق وكونهم سألوا العفو والصفح، وقال: هذا يوهم الذنب، ولم يزل إلى أن أخذ(30/68)
خطوطهم بموافقة الشيخ. فعند ذلك التمس الشيخ من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين. وقال:
الذى يعتقد فى السلطان أنه إذا ظهر له الحق يرجع إليه، وأنه يعاقب من موه الباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، فأنه كان قد عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادها وبدع «1» بهم وأهانهم.
فأجابه السلطان بخطه ما مثاله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
«وصل إلىّ ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام، أصلحه الله، من عقد مجلس وجمع المفتيين والفقهاء. وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الإجتماع به. ونحن فنتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين [قال] صلّى الله عليه وسلّم، فى حقهم. «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى» .
وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا أن كنت تدعى الاجتهاد فعليك أن تثبت، ليكون الجواب على قدر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس.
وأما ما ذكرته عن الذى جرى فى أيام والدى، تغمده الله برضوانه، فذلك الحال أنا أعلم به منك. وما كان له سبب إلا فتح باب السلامه، لا لأمر دينى وجرم جره سفهاه قوم فحل بغير جانيه العذاب. ومع هذا فقد ورد فى الحديث(30/69)
الفتنة نائمة، لعن الله مثيرها، ومن تعرض إلى إثارتها قابلناه بما يخلصنا من الله، وما يعضد كتاب الله وسنة رسوله» .
فلما وصلت هذه الرقعة إلى الشيخ قرأها، وقال للرسول: إذهب فقد وصلت.
فقال: تقدمت الأوامر المطاعة السلطانية باحضار جوابها، فكتب الشيخ ما مثاله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)
«1» أما بعد حمد الله الذى جلت قدرته وعلت كلمته وعمت رحمته وسبقت نعمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم لديه: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)
«2» وقد أنزل الله تعالى كتبه وأرسل رسله بنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وكان فيما أوصى به خلقه أن قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)
«3» وهو سبحانه وتعالى أولى من قبلت نصيحته وحفظت وصيته. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملنى عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين فقال: «الدين النصيحه» ؛ قيل لمن؟
يا رسول الله: قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم» ، فنصح الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولكتابه بالعمل بمواجبه، وللائمة بارشادهم(30/70)
إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه، ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويؤلفهم لديه. وقد أديت ما علىّ فى ذلك.
والفتيا التى وقعت فى هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف فى ذلك إلا رعاع لا يعبا الله بهم، وهو الحق الذى لا يجوز دفعه، والصواب الذى لا يمكن رفعه. ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول، والسلطان أقدر الناس على تحقيق ذلك. وقد كتب الجماعة خطوطهم بمثل ما قلته، وإنما سكت من سكت فى أول الأمر لما رأوا من غضب السلطان. ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا. ومع ذلك فيكتب ما ذكرته فى هذه الفتيا وما ذكره الغير، ويبعث إلى بلاد الإسلام ليكتب فيها من يجب الرجوع إليه ويعتمد فى الفتيا عليه. ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين ليقف عليها السلطان.
وبلغنى أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعرى يستهين بالمصحف.
ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب.
وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشىء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه، وصار ماله فيئا للمسلمين، وتضرب عنقه، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن فى مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع. ومذهبنا أن كلام الله سبحانه وتعالى قديم أزلى قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه ذاته ذات الخلق ولا يتصور فى شىء من صفاته أن يفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو مع ذلك(30/71)