واتّبعوه [قومه] ودخل [المغاربة] معسكره، فظفروا باتباع وباعة «1» نحو من ألف وخمسمائة رجل، فأخذوهم أسرى وانتهبوا العسكر وضربوا أعناقهم، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، ثم جرّدوا خلف الحسن بن أحمد، أبا محمود إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل من المغاربة، فسار خلفه وتباطأ في السير خوفا من أن يعطف عليه، وسار الحسن فنزل أذرعات وأنفذ أبا المنجّى في طائفة كثيرة من الجند إلى دمشق، وكان ابنه قبل ذلك واليا عليها، ثم سار القرمطى في البريّة إلى بلده وفي نيّته العود، وكانت المغاربة، لمّا سمعوا بقصّة ظالم، وقبض القرمطىّ عليه لما جرى بينه وبين أبى المنجّى ما ذكرناه، وهربه إلى حصنه، راسلوه ليأتى القرمطىّ من خلفه، فسار يريد بعلبك فلقيه الخبر بهزيمة القرمطى ونزول أبى المنجّى على دمشق، فسار ظالم نحو دمشق ونزل أبو محمود أذرعات، وذكر أنّه كان بينه وبين ظالم مراسلة واتّفقا على أبى المنجّى، وبلغ أبو المنجّى مسير ظالم إليه وكان في شرذمة يسيرة، وأبو المنجّى بدمشق في نحو ألفى رجل، وكان قد ورد إليه الخبر في أن ظالما يصبح من غد في عقبة دمّر، وكان الجند قبل ذلك قد طلبوا منه الرزق، فقال: ما معى مال، فلما ورد إليه خبر ظالم أعطى الجند على السّرج دينارين لكل رجل، ثم إنّ ظالما أصبح من غد ذلك اليوم في عقبة دمّر، فخرج أبو المنجّى وابنه بمن معهما إلى الميدان للقتال، فذكر أنّ ظالما أنفذ إلى أبى المنجّى رسولا يقول له: إنما جئت مستأمنا إليكم، وقد كان(25/313)
الجند حقدوا على أبى المنجّى من جهة الرزق، فلما صار ظالم في عقبة دمّر مشرفا على دمشق ذهب قوم من الجند نحو العقبة، فاستأمنوا إلى ظالم وتبعهم قوم بعد قوم، فقوى طمع ظالم بهم فانحدر من العقبة، ثم سار بمن معه حتى قرب من أبى المنجّى فأحاط به فلم يقدر على الهرب فأخذ هو وابنه من بعد أن وقعت فيه ضربة، وانقلب عسكره إلى ظالم، وملك ظالم البلد، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
فلما تمكّن ظالم ونزل البلد أوثق أبا المنجّى وابنه ثم حبسهما، وقبض على جماعة من أصحابه فأخذ أموالهم، ثم قدم أبو محمود بعد ذلك دمشق في يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان، فلقيه ظالم وتقرّب إليه بأبى المنجّى وابنه، فعمل لكل واحد منهما قفصا من خشب وحملهما إلى مصر فحبسا، وكان بعد ذلك بين ظالم وأبى محمود وأخبار دمشق ما ليس ذكره في هذا الموضع من غرضنا، فلنرجع إلى أخبار القرامطة.
ذكر عود القرامطة الى الشام ووفاة الحسن بن أحمد
قال: وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة كاتب هفتكين التركى وهو بالشام القرامطة، وقد جرى بينه وبين المغاربة حروب ووقائع واستنصر بهم، فكاتبوه بأنّهم سائرون إلى الشام، فوافوا دمشق في هذه السنة، وكان الذى وافى منهم إسحاق وكسرى وجعفر، فنزلوا ظاهر دمشق نحو الشماسيّة، ووافى معهم كثير من العجم ممّن كان من أصحاب هفتكين، فلقى هفتكين القرامطة وحمل إليهم(25/314)
الأموال وأكرمهم وفرح بهم وأمن، فأقاموا على دمشق أياما ثم رحلوا متوجّهين إلى الرملة، وكان بها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فتحصّن منهم بيافا، ونزلت القرامطة الرملة ونصبوا القتال على يافا، حتى كلّ الفريقان من القتال وصار بعضهم يحدّث بعضا، وأقامت القرامطة بالرملة يجبون المال، فندب العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله- وكان قد ولى الأمر بعد وفاة أبيه- جوهر القائد إلى الخروج إلى الشام في سنة خمس وستين، وحمل إليه خزائن السلاح والأموال، فسار يريد الشام في عساكر لم تخرج المغاربة من مصر بمثلها، وتواترت الأخبار إلى هفتكين بمسيره، وهو على عكا وكان قد ملك صيدا، فنزل عكّا وسار فنزل طبريّة، وفارق القرامطة الرملة ونزلها جوهر، وسار إسحاق وكسرى القرمطيّان إلى الأحساء، وبقى جعفر لم يسر معهم وانضمّ إلى هفتكين بطبريّة، وسار جوهر في طلبهما فسارا إلى دمشق وتبعهم جوهر حتى نزل بالشماسيّة بظاهر دمشق، والمناوشة تقع بينهم تارة والموادعة أخرى، فلم يزل الأمر كذلك إلى جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة، فوردت الأخبار وقويت بقرب الحسن بن أحمد القرمطى من دمشق، وجاء من بشّر ابن عمّه جعفر بذلك، فسار إليه وصحّ ذلك عند جوهر، فنزل دمشق وسار نحو طبريّة وجدّ في السير، وكان قد هلك من عسكره خلق كثير، فخاف أن يدركه الحسن بن أحمد القرمطى فأسرع المسير من طبريّة، وخرج الحسن ابن أحمد من البريّة يريد طبريّة فوجده قد سار عنها، فأنفذ خلفه سريّة فلحقته فرجع عليها أصحاب جوهر، فقتلوا جماعة من العرب وسار جوهر حتى نزل ظاهر الرملة، وأتاه الخبر عن الحسن فدخل جوهر(25/315)
زيتون الرمل وتحصّن به، وسار هفتكين من دمشق في أثر الحسن ابن أحمد فلحقه، وتوفى الحسن بن أحمد بالرملة، وتولى أمر القرامطة بعده ابن عمّه جعفر، واجتمع هو وهفتكين على قتال جوهر، فقاتلوه بقيّة سنة ست وستين وثلاثمائة، ثم رجع جعفر إلى بلده، وكان بين هفتكين وجوهر من الحصار ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار ملوك مصر.
ذكر استيلاء القرامطة على الكوفة وخروجهم عنها
قال ابن الأثير «1» رحمه الله تعالى: وفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ورد إسحاق وجعفر الهجريّان- وهما من القرامطة الذين تلقبوا بالسادة- فملكا الكوفة، قال: وكان للقرامطة من الهيبة ما إن عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير من الاقطاعات، وكان نائبهم ببغداد وهو أبو بكر بن شاهويه يحكم حكم الوزراء، فقبض عليه صمصام الدولة بن بويه، فلما جاء القرامطة إلى الكوفة كتب صمصام الدولة إلى إسحاق وجعفر بالملاطفة ويسألهما عن سبب حركتهما، فذكرا أن السبب في ذلك ما وقع منه من القبض على صاحبهما، وبثا أصحابهما في جباية الأموال، ووصل الحسن بن المنذر- وهو من أكابر القرامطة- إلى الجامعين، فأرسل صمصام الدولة العساكر والعرب فقاتلوه وأسروه وجماعة من القوّاد وانهزم من معه، ثم جهّز القرامطة جيشا آخر في عدد كثير فهزمته عساكر صمصام الدولة،(25/316)
وقتل مقدّم القرامطة، وكانت هذه الوقعة بالجامعين، فلما بلغ المنهزمون الكوفة رحل القرامطة عنها، وتبعتهم العساكر إلى القادسية وأخذ أمر القرامطة في الانتقاض، ولم يكن لهم بعد ذلك بالعراق والشام وقعة بلغنا خبرها.
ذكر ظفر الأصغر بالقرامطة
قال «1» ابن الأثير: وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة جمع إنسان بعرف بالأصفر من بنى المنتفق جمعا كثيرا، وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة، قتل فيها مقدّم القرامطة وانهزم أصحابه وقتل منهم وأسر خلق كثير، وسار الأصفر إلى الأحساء فتحصّن القرامطة منه، فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأثقالهم ومواشيهم، وسار بذلك إلى البصرة وانتقض أمر القرامطة وضعفوا، وكان مدة ظهور مذهبهم إلى هذا التاريخ مائة سنة، ومنذ ظهر أمرهم واستولوا على البلاد وتجهّزت العساكر لقتالهم خمسا وتسعين سنة، وكانت فتنتهم قد عمّت أكثر البلاد والعباد؛ ولم أقف لهم بعد واقعة الأصفر على واقعة أخرى فأذكرها.
وقد ذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية، فلنذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل.(25/317)
ذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل مساور ومن بعده
كان خروج مساور بن عبد الحميد بن مساور البجلى بالبوازيج من بلاد الموصل في شهر رجب من شهور سنة اثنتين وخمسين ومائتين في خلافة المعتز بالله، وكان سبب «1» خروجه أنّ شرطة الموصل كان بتولّاها رجل اسمه حسين بن بكير لبنى عمران أمراء الموصل، فأخذ ابنا لمساور هذا اسمه حوثرة فحبسه بالحديثة، وكان حوثرة جميلا فكان متولّى الشرطة يخرجه من الحبس ليلا ويحضره عنده، ويردّه إلى الحبس نهارا، فكتب حوثرة إلى أبيه- وهو بالبوازيج- يقول: أنا بالنهار محبوس وبالليل عروس، فغضب لذلك وقلق وخرج وتابعه جماعة، وقصد الحديثة فاختفى حسين بن بكير، فأخرج ابنه من الحبس وكثر جمعه من الأعراب والأكراد، فسار إلى الموصل ونزل بالجانب الشرقى، وكان الوالى عليها عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن اهبان الخزاعى، واهبان يقال إنه مكلّم الذئب وله صحبة، فوافقة من الجانب الغربى وعبر دجلة رجلان من أهل الموصل إلى مساور، فقاتلا مساورا فقتلا وعاد مساور وكره القتال، وكان حوثرة ابنه معه فكان يقول:
أنا الغلام البجلى الشارى ... أخرجى جوركم من دارى(25/318)
ذكر قتل مساور بندارا الطبرى متولى طريق خراسان
قال «1» : ولمّا فارق مساور الموصل «2» بلغ بندارا الطبرىّ وهو بالدسكرة أنّه يريد كرخ جدان، وكان بندار الطبرى يلى طريق خراسان هو ومظفّر بن سيسل، فقال بندار ذلك لمظفّر فقال مظفّر:
قد أمسينا وغدا عيد، فإذا قضينا العيد سرنا إليه، فسار بندار ليلا طمعا في أن يكون الظفر له، حتى أشرف على عسكر مساور، فأشار عليه بعض أصحابه أن يبيّتهم فأبى، وقال: حتى أراهم ويرونى، فأحسّ به الخوارج فركبوا واقتتلوا، وكان مع بندار ثلاثمائة فارس ومع مساور سبعمائة، فاشتدّ القتال بينهم وحمل الخوارج حملة، اقتطعوا من أصحاب بندار أكثر من مائة فصبروا لهم وقاتلوهم حتى قتلوا جميعا، فانهزم بندار وأصحابه وجعل أصحاب مساور يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فقتلوهم، وأمعن بندار في الهرب فطلبوه حتى أدركوه فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحابه نحو خمسين رجلا، وقيل مائة، وأتى الخبر إلى المظفر فرحل نحو بغداد، وسار مساور نحو حلوان فقاتله أهلها، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا من أصحابه جماعة وقتل مساور عدّة من أصحاب خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا أهلها على مساور، ثم انصرف عن حلوان، فقال مساور في ذلك:
فجعت العراق ببندارها ... وحزت البلاد بأقطارها(25/319)
وحلوان صبّحتها غارة ... فقتّلت أغرار غرّارها
وعقبة بالموصل اجحرته ... وطوّقه الذل بى كارها
قال: وكان قتل بندار في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ثم لقى مساور عسكرا للخليفة، ومقدّمهم خطرمش بناحية جلولاء في ذى الحجة من السنة، فهزمهم مساور واستولى على أكثر بلاد الموصل فقوى أمره وكثرت اتباعه «1» .
فجمع له الحسن «2» بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبى- وكان خليفة أبيه على الموصل- عسكرا كثيرا منهم حمدان بن حمدون جدّ الأمراء الحمدانيّة وغيره، وسار إليه وعبر إليه نهر الزاب، فتأخر مساور عن موضعه ونزل بموضع يقال له وادى الذئاب، وهو واد عميق، فسار الحسن في طلبه فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر الموصل وكثر القتل فيهم، وسقط كثير منهم في الوادى فهلك فيه أكثر من القتلى، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين ومائتين، ونجا الحسن فوصل إلى حرّة من أعمال إربل، وهرب محمد بن على بن السيّد، فظنّ الخوارج أنّه الحسن فتبعوه فقتلوه، وكان فارسا شجاعا، واشتدّ أمر مساور وعظم شأنه وخافه الناس.(25/320)
ذكر استيلاء مساور على الموصل وخروجه منها
قال «1» : ولما انهزم عسكر الموصل من مساور قوى أمره وكثرت أتباعه، فسار من موضعه وقصد الموصل فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى، فاستتر أمير البلد عبد الله بن سليمان لضعفه عن مقاتلته ولم يدافعه أهل الموصل، فوجه مساور جمعا إلى دار عبد الله أمير البلد فأحرقها، ودخل الموصل بغير حرب فلم يتعرّض لأحد، وحضرت الجمعة فدخل المسجد الجامع، وحضر الناس فصعد مساور المنبر، وجعل على درج المنبر من أصحابه من يحرسه بالسيوف وكذلك في الصلاة، ولما خطب قال في خطبته: (اللهم أصلحنا وأصلح ولاتنا) ولما دخل في الصلاة جعل إبهاميه في أذنيه وكبّر ست تكبيرات ثم قرأ بعد ذلك.
ثم فارق البلد ولم يقدر على المقام به لكثرة أهله، وسار إلى الحديثة وكان قد اتّخذها دار هجرته، وكان دخوله الموصل في سنة خمس وخمسين ومائتين، ثم كان بينه وبين عسكر للخليفة في هذه السنة وقعة فانهزم عسكر الخليفة.(25/321)
ذكر اختلاف الخوارج على مساور وانتصاره على من خالفه وقتاله عساكر الخليفة
وفي سنة ست «1» وخمسين ومائتين خالف إنسان من الخوارج اسمه عبيدة من بنى زهير، على مساور، وسبب ذلك أنّه خالفه في توبة المخطىء، فقال مساور: تقبل توبته، وقال عبيدة: لا تقبل، فجمع عبيدة جمعا كثيرا وسار إلى مساور، وتقدّم إليه مساور من الحديثة، فالتقوا بنواحى جهينة في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، واقتتلوا أشد قتال فترجّل عبيدة ومعه جماعة من أصحابة وعرقبوا دوابّهم فقتل عبيده وانهزم جمعه، فقتل أكثرهم واستولى مساور على كثير من العراق، ومنع الأموال عن الخليفة فضاقت على الجند أرزاقهم فاضطرهم ذلك إلى أن سار إليه موسى بن بغا وبايكباك وغيرهما في عسكر عظيم، وذلك في سنة ست وخمسين، فوصلوا إلى السنّ وأقاموا به، ثم عادوا بسبب خلع المهتدى، فلما ولى المعتمد على الله الخلافة سيّر مفلحا في عسكر كبير لقتال مساور، فسار فلما قارب الحديثة فارقها مساور، وقصد جبلين يقال لأحدهما زينى والآخر عامر وهما بالقرب من الحديثة، فتبعه مفلح فعطف عليه مساور وهو في أربعة آلاف فارس، وكان مساور قد انصرف من حرب عبيدة وقد جرح كثير من أصحابه، فلحقوا مفلحا بجبل زينى فلم يصل إلى ما يريد، فصعد مساور رأس الجبل فاحتمى به، ونزل مفلح في أصل الجبل، وجرى بينهما وقعات كثيرة، ثم أصبحوا يوما(25/322)
فطلبوا مساورا فلم يجدوه، وكان قد نزل من غير الوجه الذى نزل به مفلح، لمّا أيس من الظفر لضعف أصحابه من الجراح، فلمّا لم يره مفلح سار إلى الموصل وسار منها إلى ديار ربيعة، سنجار ونصيبين والخابور، فنظر في أمرها ثم سار فأتى الموصل، فأحسن السيرة في أهلها ورجع عنها وقد تأهّب للقاء مساور، فلمّا قارب الحديثة فارقها مساور وتبعه مفلح، فكان مساور يرتحل عن المنزل فينزله مفلح، فلمّا طال الأمر على مفلح وتوغّل في الجبال والشعاب والمضايق عاد عنه فتبعه مساور يقفو أثره ويأخذ من ينقطع عن ساقة العسكر، فرجع إليه طائفة من العسكر فقاتلوه، ثم عادوا ولحقوا مفلحا، ووصل مفلح الحديثة فأقام بها أياما، وانحدر في أول رمضان إلى سامرّا، فاستولى حينئذ مساور على البلاد، وقوى أمره واشتدت شوكته.
وفي سنة «1» سبع وخمسين ومائتين خرج على مساور خارجىّ آخر اسمه طوق من بنى زهير، فاجتمع إليه أربعة آلاف فصار بهم إلى أذرمة «2» ، فحاربه أهلها فدخلها بالسيف، وأخذ جارية بكرا فافتضّها في المسجد، فجمع الحسن بن أيوب بن أحمد العدوى جمعا كثيرا فحاربه وقتله، وأنفذ رأسه إلى سامرا «3» ، واستمر مساور بتلك النواحى إلى أن مات في سنة ثلاث وستين.(25/323)
ذكر وفاة مساور وخبر من قام بعده الى أن قام هارون البجلى
وفي سنة «1» ثلاث وستين ومائتين توفّى مساور الشارى، وكان قد رحل من البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار إليه من قبل الخليفة، فكتب أصحابه إلى محمد بن خرّزاد وهو بشهرزور ليولّوه أمرهم، فامتنع وكان كثير العبادة فبايعوا أيوب بن حيّان الوارقى البجلى، فأرسل إليهم محمد بن خرّزاد يذكر أنّه نظر في أمره فلم يسعه اهمال الأمر، لأنّ مساورا عهد إليه به، فقالوا له: قد بايعنا هذا الرجل ولا نغدر به، فسار إليهم فيمن بايعه فقاتلهم، فقتل أيوب بن حيّان فبايعوا بعده محمد بن عبد الله بن يحيى الوارقى المعروف بالغلام فقتل أيضا فبايع أصحابه هارون بن عبد الله البجلى، فكثر اتباعه وعاد عنه ابن خرّزاد، واستولى هارون على بلد الموصل وجبى خراجه.(25/324)
ذكر محاربة محمد بن خرزاد هارون بن عبد الله وما كان من خبر خرزاد ومقتله واستقلال هارون بالأمر بمفرده
وفي سنة «1» سبع وستين ومائتين كانت الحرب بين محمد بن خرّزاد وهارون بن عبد الله، وذلك أن محمدا جمع أصحابه وسار لحرب هارون، فنزل واسط وهى قرية من قرى الموصل، وكان يركب البقر لئلا يفرّ من القتال، ويلبس الصوف الغليظ ويرقع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك ويجلس على الأرض ليس بينه وبينها حائل، فلما نزل واسط خرج إليه وجوه أهل الموصل، وكان هارون بمعلثايا يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه، ورحل ابن خرّزاد نحوه، فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ واقتتلوا قتالا شديدا، كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتى رجل، منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزما فعبر دجلة إلى العرب قاصدا بنى تغلب فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع محمد بن خرّزاد من حيث أقبل وعاد هارون إلى الحديثة فاجتمع إليه خلق كثير، فكاتب أصحاب ابن خرّزاد واستمالهم، فأتاه منهم خلق كثير، ولم يبق مع ابن خرّزاد إلا عشيرته من النسردليّة، وهم أهل شهرزور، وإنما فارقه أصحابه لأنّه كان خشن العيش، وهو ببلد شهرزور كثير الأعداء من الأكراد(25/325)
وغيرهم، وكان هارون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه، فمال إليه أصحاب ابن خرّزاد وقصدوه لهذا السبب، وأوقع ابن خرّزاد بالأكراد الجلاليّة بنواحى شهرزور وغيرهم، فقتل وتفرّد هارون بالأمر وقوى، وكثر أتباعه وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة، وبثّوا نوّابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلّات وفي سنة اثنتين «1» وسبعين ومائتين دخل هارون الموصل، وصلّى الجمعة بالناس وكان معه حمدان بن حمدون.
ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجى
وفي سنة «2» ثمان وسبعين ومائتين خرج محمد بن عبادة ويعرف بأبى جورة «3» - وهو من بنى زهير على هارون، وكان محمد هذا في أوّل أمره من الفقراء الصعاليك، وكان هو وابناؤه يلتقطون الكمأة ويبيعونها إلى غير ذلك من الأعمال، ثم إنه جمع جماعة وحكم، فاجتمع إليه أهل تلك النواحى والأعراب وقوى أمره، وأخذ عشر الغلات وقبض الزكاة، وسار إلى معلثايا فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار، وجبى تلك الأعمال وبنى عند سنجار حصنا، وحمل إليه الميرة والأمتعة، وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلا(25/326)
من وجوه بنى زهير وغيرهم، ووصل الخبر إلى هارون فاجتمع رأيه ورأى وجوه أصحابه على قصد الحصن أولا، فإذا قرغوا منه ساروا إلى محمد بن عبادة، فجمع أصحابه به فبلغوا ألف فارس ومائتى فارس ومائة راجل، فأحدق بالحصن وحصره، ومحمد بن عبادة في قبراثا «1» لم يعلم بذلك، وجدّ هارون في قتال أهل الحصن، ونصب عليهم السلاليم وملكه، فلما رأى من معه من بنى تغلب تغلّبه على الحصن أعطوا من فيه من بنى زهير الأمان، بغير أمر هارون فشقّ ذلك عليه، إلا أنّه قتل أبا هلال بن محمد ونفرا معه قبل الأمان، ثم ساروا إلى محمد فوافوه وهو في أربعة آلاف رجل، فاقتتلوا فانهزم هارون ومن معه، ووقف بعض أصحابه ونادى رجالا بأسمائهم فاجتمعوا نحو أربعين رجلا، وحملوا على ميمنة محمد فانهزمت، وعادت الحرب فانهزم محمد وأصحابه، ووضعوا فيهم السيف فقتل منهم ألفان وأربعمائة رجل وحجز بينهم الليل وجمع هارون مالهم فقسّمه بين أصحابه، وانهزم محمد إلى آمد فأخذه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ بعد حرب وأسره، وحمله إلى المعتضد بالله فسلخ جلده كالشاة.(25/327)
ذكر انهزام هارون من عسكر الموصل
كان المعتضد بالله قد سار إلى ماردين في سنة إحدى وسبعين، وخلّف بالموصل نصر القشورى يجبى الأموال ويعين العمّال على جبايتها فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر، فوقع عليهم طائفة من الخوارج فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل ففرّق بينهم، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر، وهو من أعيان أصحاب هارون، فعظم عليه ذلك وأمر أصحابه أن يفسدوا في البلاد، فكتب نصر القشورى إلى هارون يتهدّده بقرب الخليفة، وأنّه إن همّ به أهلكه وأصحابه، فلا يغتر بمن سار إلى حربه فعاد عنه بمكره وخديعته، فأجابه هارون بجواب غليظ، من جملته وإنّا وإياك كما قيل:
فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا ... إلينا سوادا نلقه بسواد
فبعث نصر جواب هارون إلى المعتضد بالله فجدّ في قصده، وولّى الحسن بن علىّ كورة الموصل وأمره بقصد الخوارج، وأمر كافّة مقدّمى الولايات والأعمال بطاعته، فجمعهم وسار إلى أعمال الموصل وخندق على نفسه، وأقام إلى أن رفع الناس غلّاتهم، ثم سار إلى الخوارج وعبر نهر الزاب إليهم، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانكشف الخوارج عنه، ليفرّقوا جمعيته «1» ثم يعطفوا عليه، فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم ففعلوا، ورجع هارون وأصحابه وحملوا سبع عشرة حملة، فانكشفت ميمنة الحسن وثبت هو، فحمل عليه(25/328)
الخوارج حملة رجل واحد وهو ثابت، وضرب على رأسه عدّة ضربات فلم تؤثر فيه، فلما رأى أصحابه ثباته رجعوا إليه وقاتلوا وصبروا، فانهزم هارون ومن معه وقتل خلق كثير، وكانت هذه الوقعة في سنة اثنتين وثمانين «1» ومائتين، فتحيّر هارون في أمره فقصد البريّة، ونزل عند بنى تغلب ثم عاد إلى معلثايا، ورجع إلى البريّة ثم رجع إلى دجلة، وتكرّر ما بين ذلك، فلما رأى أصحابه قوّة دولة الخليفة المعتضد بالله راسلوا الخليفة في طلب الأمان، فأمّنهم فأتاه ثلاثمائة وستون رجلا، وبقى مع هارون بعضهم، وهو يجول في البلاد إلى أن قتل.
ذكر مقتل هارون
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين سار المعتضد بالله إلى الموصل، ووصل إلى تكريت وأقام بها، وأحضر الحسين بن حمدان وبعثه في طلب هارون في جماعة من الفرسان والرجّالة، فانتخب الحسين ثلاثمائة رجل فسار بهم، ومعه وصيف فقال له الحسين: مره يا أمير المؤمنين بطاعتى، فأمره بذلك، فسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة، فقال الحسين لوصيف ولمن معه ليقفوا هناك، وقال: ليس لهارون طريق- إن هرب- غيرها، فلا تبرحوا من هذا الموضع حتى يمرّ بكم فتمنعوه من العبور وأكون أنا من خلفه، ومضى الحسين في طلب هارون فلقيه، واقتتلوا وقتل من الفريقين عدّة قتلى، ثم انهزم(25/329)
هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه:
قد طال مقامك ولسنا نأمن أن يأخذ حسين هارون، فيكون الفتح له دوننا، والصواب أن تمضى في آثارهم فأطاعهم ومضى، ولما فارق المخاضة جاء هارون فعبرها، وجاء الحسين في أثره إلى الموضع فلم ير وصيفا وأصحابه في الموضع الذى تركهم فيه، فعبر في أثر هارون وانتهى إلى حىّ من أحياء العرب، فسأل عنه فكتموه أمره فهدّدهم فأعلموه أنّه اجتاز بهم، فتبعه حتى أدركه بعد أيام وهارون في نحو مائة رجل، فناشده فأبى الحسين إلا قتاله، وحاربه وألقى نفسه عليه وأسره، وجاء به إلى المعتضد بالله إلى بغداد فوصلها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، وأدخل هارون على فيل، وأرادوا أن يلبسوه ديباجا مشهّرا فامتنع «1» ، وقال: هذا لا يحلّ فألبسوه كارها، ولما صلب نادى بأعلى صوته لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، وكان هارون صفريا، وكانت مدة خروج هذه الطائفة، منذ خرج مساور إلى أن أسر هارون ثلاثين سنة، منها أيام مساور عشر سنين، ومدة خروج هارون عشرون سنة، والله تعالى أعلم.(25/330)
الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس فى اخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنه والغور وبلاد السند والهند والدولة السامانية والدولة الصفارية والغزنوية والغورية والدولة الديلمية الختلية.
ذكر أخبار الدولة السامانية وقيامها بما وراء النهر ونسب ملوكها وابتداء أمرهم
كان أوّل من نبغ منهم وظهر اسمه وولى من قبل الخلافة نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان بن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش، وكان بهرام خشنش من الرىّ فجعله كسرى هرمز مرزبان أذربيجان، وكانت ولاية نصر بن أحمد ما وراء النهر في سنة إحدى وستين. ومائتين من قبل الخليفة المعتمد على الله العبّاسى؛ وكان المأمون، لمّا ولى خراسان في خلافة أبيه الرشيد، اصطنع أولاد أسد بن سامان، وهم نوح وأحمد ويحيى وإلياس، فقدّمهم ورفعهم واستعملهم، فلمّا أفضت الخلافة إلى المأمون ورجع(25/331)
إلى العراق استخلف غسّان «1» بن عبّاد، فاستعمل غسان نوح بن أسد على سمرقند، وأحمد بن أسد على فرغانة، ويحيى على الشاش وأشروسنة، وإلياس على هراة وذلك في سنة أربع ومائتين، ثم أقرّهم طاهر بن الحسين على هذه الأعمال لما ولى خراسان، ثم توفى نوح بن أسد فأقرّ طاهر أخويه يحيى وأحمد على عمله، وكان أحمد بن أسد عفيفا عن المطاعم الدنيّة حسن السيرة، لا يقبل الرشا، ففيه يقول الشاعر:
ثوى ثلاثين حولا في ولايته ... فجاع يوم ثوى في قبره حشمه
وقيل إنّ هذا الشعر إنما قيل في ابنه نصر.
وأمّا إلياس فإنه أقام بهراة إلى أن مات، فا؟؟؟ فر عبد الله بن طاهر ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله بهراة. وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين وهم: نصر وأبو يوسف يعقوب وأبو زكريا يحيى وأبو الأشعث أسد وإسماعيل وإسحاق وأبو غانم حميد، فلما توفى أحمد بن أسد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند، فبقى عاملا عليها إلى آخر الأيام الطاهريّة وبعدها إلى أن مضى لسبيله، وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرا، فولاه بخارى في سنة إحدى وستين ومائتين، فهذا ابتداء أمرهم على سبيل الاختصار.
وهذه الولاية هى أوّل ولاية كانت لملوك هذه الدولة ولأهل هذا البيت من قبل الخليفة، ففى هذه السنة كان ابتداء دولتهم، وأوّل من استقلّ منهم بالولاية نصر هذا في هذا التاريخ، وكان قبل ذلك(25/332)
يلى الأعمال من قبل عمّال خراسان، قال: ثم وقع [خلاف] بين نصر وأخيه إسماعيل مرة بعد أخرى حتى أفضى ذلك إلى الحرب بينهما، فتحاربا في سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إسماعيل بأخيه نصر فلما جىء به إليه ترجّل إسماعيل له، وقبّل يده وردّه إلى موضعه بسمرقند، وتصرّف في النيابة عنه ببخارى وصلح ما بينهما، وكان إسماعيل خيّرا يحب أهل العلم والدين ويكرمهم، وببركتهم دام الملك في عقبة من بعده.
حكى عن أبى إبراهيم إسماعيل بن أحمد هذا قال «1» : كنت بسمرقند فجلست للمظالم وجلس أخى إسحاق إلى جانبى، فدخل أبو عبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعى فقمت له اجلالا لعلمه ودينه، فلما خرج عاتبنى أخى وقال: أنت أمير خراسان يدخل عليك رجل من رعيّتك فتقوم له فتذهب السياسة بهذا!! قال إسماعيل فبتّ في تلك الليلة فرأيت النبى صلى الله عليه وسلّم، وكأنّى واقف أنا وأخى إسحاق، فأقبل النبى صلى الله عليه وسلّم وأخذ بعضدى وقال لى:
يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر، ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملكك وملك بنيك باستخفافك بمحمد ابن نصر.(25/333)
ذكر وفاة نصر وقيام أخيه اسماعيل
وفي سنة تسع وسبعين ومائتين توفى نصر بن أحمد، وكانت مدة استقلاله بالأمر ثمانى عشرة سنة تقريبا، وكان دينا «1» عاقلا حسن الشعر، ولما مات قام مقامه في أعماله بما وراء النهر أخوه إسماعيل ابن أحمد.
وفي سنة ثمانين ومائتين غزا إسماعيل بلاد الترك، وافتتح مدينة ملكهم وأسر أباه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل منهم خلقا وأصاب من الدواب ما لا يعلم عدده، وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم.
ذكر ملك اسماعيل خراسان
وفي سنة سبع وثمانين ومائتين ملك خراسان من عمرو بن الليث الصفّار، وسبب ذلك «2» أن عمرا كان قد أرسل إلى الخليفة المعتضد بالله يطلب منه أن يوليه ما وراء النهر، فوجّه إليه الخلع واللواء بذلك، وكان هو إذ ذاك بنيسابور، فوجّه لمحاربة إسماعيل محمد بن بشير- وكان صاحبه وخليفته- وعشرة من قوّاده، فتوجّهوا إلى آمل فعبر إليهم إسماعيل نهر جيحون، والتقوا فهزمهم وقتل محمد بن بشير في نحو سنة آلاف رجل، وبلغ المنهزمون إلى عمرو بنيسابور، وعاد إسماعيل إلى بخارى، فتجّهز عمرو لقصده وسار من نيسابور(25/334)
نحو بلخ، فراسله إسماعيل يستعطفه ويقول: إن ولايتك قد اتّسعت ولك دنيا عريضة، وأنّه ليس بيدى إلا ما وراء النهر، وأنا في ثغر فاقنع بما في يدك واتركنى، فأبى عمرو إلا قتاله، فذكر أصحاب عمرو له شدّة العبور إلى نهر بلخ، فقال: لو شئت أن أسكره ببدر الأموال لفعلت، وسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربى، ونزل عمرو بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحى لكثرة جيوشه، فبقى عمرو كالمحاصر فطلب المحاجزة فأبى إسماعيل، والتقوا واقتتلوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى ولى عمرو هاربا، ومرّ بأجمة في طريقه فقيل له إنّها أقرب الطرق فقصدها في نفر يسير وقال لعامة من معه: اسلكوا الطريق الواضح، ودخل الأجمة فوحل به فرسه ومضى من معه، فجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا، فسيّره إسماعيل إلى سمرقند، فلما وصل الخبر إلى المعتضد ذمّ عمرا ومدح إسماعيل، قال: ثم خيرّه إسماعيل بين المقام عنده أو انفاذه إلى المعتضد فاختار التوجّه إلى الخليفة فسيّره إليه، كانت هذه الوقعة في شهر ربيع الأول من السنة.
وأرسل الخليفة المعتضد بالله إلى إسماعيل الخلع، وولاه ما كان بيد عمرو وخلع على نائبه بالحضرة وهو المعروف بالمرزبانى، فاستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده.(25/335)
ذكر ملكه طبرستان
وفي سنة سبع وثمانين أيضا ملك إسماعيل طبرستان من محمد بن زيد العلوى، وسبب ذلك أنّه سار لقصد خراسان، ظنا منه أن إسماعيل لا يتجاوز ما وراء النهر، فبعث إليه ينهاه عن التعرض إليها وترك له جرجان فامتنع من ذلك، فندب إسماعيل لقتاله محمد بن هارون فالتقوا واقتتلوا على باب جرجان، فانجلت الحرب عن انهزام العلوى بعد أن جرح عدّة جراحات وأسر ابنه زيد بن محمد، وحمل إلى إسماعيل فأكرمه وأحسن نزله، وسار محمد بن هارون إلى طبرستان وملكها، وتولّاها من قبل إسماعيل.
ثم استولى محمد بن هارون على الرىّ في شهر رجب سنة تسع وثمانين بعد أن خلع طاعة إسماعيل، وكان أهل الرى قد كاتبوه في تسليمها إليه، فسار إليهم فحاربه واليها وهو اكرتمش «1» التركى، فقتله محمد وقتل ابنيه وأخاه كيغلغ وهو من قواد الخليفة.
ذكر القبض على محمد بن هارون ووفاته
وفي «2» سنة تسعين ومائتين أنفذ المكتفى بالله عهدا إلى إسماعيل بولاية الرىّ، فسار إليها ففارقها ابن هارون إلى قزوين ثم عاد إلى طبرستان، واستعمل، إسماعيل على جرجان بارس التركى الكبير»(25/336)
وألزمه احضار محمد بن هارون، فكاتبه بارس وضمن له اصلاح أمره.
فقصد بخارى فلما بلغها قيد وحمل على جمل، وحبس فمات بعد شهرين محبوسا؛ وكان ابتداء أمر محمد بن هارون أنّه كان خياطا، ثم جمع جمعا من أهل الفساد وقطع الطريق في مفازه سرخس مدّة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة وبقى معه إلى أن انهزم من عمرو الصفار فاستأمن إلى إسماعيل السامانى فسيّره إسماعيل لقتال العلوى كما قدّمناه ثم خرج عليه كما ذكرنا.
وفي سنة إحدى ونسعين ومائتين «1» خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون كثرة، وكان عسكرهم سبعمائة قبّة تركية، ولا تكون القبّة التركية إلا لرؤسائهم، فوجّه إليهم إسماعيل جيشا عظيما وتبعهم خلق من المطوّعة فوصلوا إلى الترك وهم غادون، فكبسهم المسلمون في الصبح فقتلوا منهم خلقا كثيرا وانهزم الباقون أقبح هزيمة.
ذكر وفاة اسماعيل وولاية ابنه أحمد
كانت وفاته في منتصف صفر سنة خمس وتسعين ومائتين.
ولقّب بعد موته بالماضى، وكان رحمه الله تعالى عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيّته حليما.
حكى عنه أنّه كان لولده أحمد مؤدب يؤدّبه، فمرّ به الأمير إسماعيل فسمع المؤدب يسبّه، ويقول: لا بارك الله فيك ولا فيمن ولدك. فدخل عليه وقال: يا هذا نحن لم نذنب ذنبا فتسبّنا. فهل(25/337)
ترى أن تعفينا من سبّك، وتخص المذنب بذمّك وشتمك؟ فارتاع المؤدب وخرج إسماعيل عنه، وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه. وجرى بين يديه ذكر الأنساب والأحساب فقال لبعض جلسائه: كن عصاميا ولا تكن عظاميا. ومن مكارمه وآدابه أنّه لما ولى بعد أخيه نصر واستقل بالأمر استمرّ يكاتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم به أوّلا، فقيل له في ذلك فقال: بجب علينا إذا زادنا الله رفة ألا ننقص إخواننا، بل نزيدهم رفعة وعلاء وجاها ليزدادوا لنا خلوصا وشكرا؛ وكانت مدة ولايته منذ أفضى الأمر إليه بعد وفاة أخيه ست عشرة سنة.
ولما مات ولى بعده ابنه:
أبو نصر أحمد بن اسماعيل
قال «1» : ولما استوثق له الأمر ببخارى قصد بالخروج إلى الرى فأشار عليه إبراهيم بن زيدويه بقصد سمرقند، والقبض على عمّه إسحاق بن أحمد لئلا يخرج عليه، فاستدعى عمّه إلى بخارى فحضر إليه واعتقله بها، ولم يزل إلى سنة ثمان وتسعين فأطلقه وأعاده إلى سمرقند وفرغانة، قال: ولما قبض على عمّه عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد خوفا منه، وكان لخوفه منه أسباب منها: أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان- لما أخذها من محمد بن زيد- ثم عزله عنها،(25/338)
واستعمل عليها بارس الكبير، فاجتمع عند بارس أموال عظيمة من خراج الرى وطبرستان وجرجان، فحملها إلى إسماعيل فلما سارت عنه بلغه وفاة إسماعيل فردّها وأخذها، فلمّا قاربه أحمد خافه فكتب إلى المكتفى بالله يستأذنه في المصير إليه، فأذن له فسار إلى بغداد في أربعة آلاف فارس، فوصل إليها بعد وفاة المكتفى وولاية المقتدر، فأعجب المقتدر فسيّره إلى بنى حمدان بعسكره وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدّم عليهم، فدسّوا عليه غلاما له فسمّه فمات بالموصل، واستولى غلامه على أمواله وتزوّج بامرأته.
ذكر استيلاء أحمد بن اسماعيل على سجستان
وفي «1» شهر رجب سنة ثمان وتسعين ومائتين استولى على سجستان، وذلك أنّه لما استتب ملكه واستقرت قواعده سار في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرى، وكان مسكنه ببخارى ثم سار إلى هراة، فسيّر منها جيشا في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سجستان وعدّة من قوّاده، واستعمل عليهم الحسين بن على المروروزى، وكان بسجستان المعدّل بن على بن الليث الصفار، وهو صاحبها، فسيّر المعدّل أخاه أبا على محمد إلى بست ليجبى أموالها، فسار الأمير أحمد إليه ببست وحاربه، وأخذه أسيرا وعاد به إلى هراة، وتوجّه الحسين إلى سجستان وحصر المعدّل، فلما بلغه أن أخاه أسر، صالح الحسين واستأمن له، واستولى الحسين على سجستان،(25/339)
واستعمل عليها الأمير أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق- وهو ابن عمه- وعاد الحسين ومعه المعدّل إلى بخارى، قال: ولما استولى على سجستان سار سبكرى من فارس إليها على طريق المفازة، فسيّر إليه أحمد جيشا فأخذوه أسيرا واستولى على عسكره، وكتب الأمير أحمد بذلك إلى المقتدر بالله فشكره، وأمره أن يحمل السبكرى ومحمد ابن على بن الليث إلى بغداد، فسيّرهما فأدخلا مشهورين على فيلين.
وأعاد المقتدر رسل أحمد بالتحف والهدايا.
ثم «1» خالف أهل سجستان على الأمير أحمد
في سنة ثلاثمائة، وسبب ذلك أن محمد بن هرمز المعروف بالمولى الصّندلىّ كان خارجىّ المذهب، وأقام ببخارى وهو من أهل سجستان وكان شيخا كبيرا، فجاء يوما إلى الحسين بن على العارض يطلب رزقه، فقال له: إن الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطا.
يعبد الله فيه حتى يوافيه أجله، فغاظه ذلك وانصرف إلى سجستان.
فاستمال جماعة من الخوارج، وكان رئيسهم محمد بن العبّاس المعروف بابن الحفّار، ودعا لعمرو بن يعقوب بن محمد بن عمرو بن الليث الصفّار، فقبضوا على منصور بن إسحاق وحبسوه وخطبوا لعمرو وسلّموا إليه سجستان، فلما بلغ الخبر الأمير أحمد سيّر الجيوش مع الحسين بن على فحصرها تسعة أشهر، فصعد يوما محمد بن هرمز الصّندلى إلى السور. وقال: ما حاجتكم إلى أذى شيخ كبير(25/340)
لا يصلح إلا للزوم رباط؟ ثم مات الصندلىّ فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفار وابن الحفّار إلى الحسين، وأطلقوا منصور بن إسحاق، وكان الحسين يكرم ابن الحفّار ويقرّبه، فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين، فبلغ الحسين ذلك فقبض عليه وأخذه معه إلى بخارى، واستعمل الأمير أحمد على سجستان سيمجور الدّواتى، فتوجّه إلى سجستان واستصحب معه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار، فتوفى ابن الحفّار.
ذكر «1» مقتل الأمير أحمد وولاية ابنه نصر
وفي سنة إحدى وثلاثمائة خرج الأمير أحمد إلى الصيد، وكان له أسد يربط على باب مبيته في كل ليلة، فلما كان في ليلة قتله أغفل الغلمان إحضار الأسد، فدخل إليه نفر من غلمانه فذبحوه على سريره وذلك في ليلة الخميس لسبع بقين من جمادى الآخرة، فحمل إلى بخارى فدفن بها وقتل بعض أولئك الغلمان، ولقّب بعد موته بالشهيد وكانت مدة ولايته ست سنين وأربعة أشهر وأياما.
وولى بعده ابنه:
أبو الحسن نصر بن أحمد
وهو الرابع من الملوك السامانية. قال «2» : ولما قتل والده كان عمره ثمانى سنين، فبايعه أصحاب والده وكان القائم ببيعته أحمد بن(25/341)
محمد بن الليث متولّى بخارى، فحمله على عاتقه فقال: أتريدون أن تقتلونى كما فعلتم بأبى، قالوا: لا وإنما نريد أن نضعك في موضع أبيك أميرا، فسكن روعه، وبايعوا له ولقّب بالسعيد، فاستصغره الناس وظنّوا أن أمره لا ينتظم مع وجود عم أبيه- الأمير إسحاق، وقوّته وكونه شيخ السامانيّة وصاحب سمرقند، وميل الناس بما وراء النهر إليه وإلى أولاده، فكان الأمر بخلاف ما ظنّه الناس، وطالت مدّته ونافت على ثلاثين سنة.
قال: وتولى تدبير دولته أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهانى، فأمضى الأمور وضبط المملكة، واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه بالحضرة، وإنّما طمع أصحاب الأطراف في البلاد، وكان ممن خرج عن طاعته أهل سجستان، فانصرف عنها سيمجور الدواتى فولّاها المقتدر بالله بدرا الكبير.
ذكر خروج اسحاق بن أحمد وابنه الياس
قال «1» : ولما توفى الأمير أحمد وولى ابنه نصر خالف عليه عم أبيه الأمير إسحاق بن أحمد- وكان يلى سمرقند- وخالف ابنه إلياس، وقوى أمرهما، فسارا نحو بخارى فسار إليهم حمّويه بن على في عسكر كثيف، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم إسحاق إلى سمرقند، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة، ثم عاد وجمع مرّة ثانية والتقوا فانهزم إسحاق ثانيا، وتبعه حمّويه إلى سمرقند فملكها قهرا،(25/342)
واختفى إسحاق فشدّد عليه الطلب وضيّق عليه، فاستأمن إلى حمّويه فأمّنه وحمله إلى بخارى، فأقام بها إلى أن مات. وأمّا ابنه إلياس فسار إلى فرغانة فكان بها إلى أن خرج في سنة ست عشرة.
ذكر مخالفة منصور بن اسحاق
وفي سنة اثنتين وثلاثمائة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد، على الأمير نصر بن أحمد، ووافقة على ذلك الحسين بن على المروروذى ومحمد بن حيد»
، وكان سبب ذلك أن الحسين لمّا فتح سجستان في الدفعة الأولى في أيام الأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولّاها، فولّاها منصور بن إسحاق، ثم افتتحها ثانيا وظن أنّه يتولّاها، فوليها سيمجور على ما قدّمناه، فاستوحش لذلك ونفر خاطره، وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد، على أن تكون إمارة خراسان لمنصور ويكون الحسين خليفته، فلمّا قتل الأمير أحمد كان منصور بنيسابور والحسين بهراة، فأظهر الحسين العصيان وسار إلى منصور بنيسابور، يحثه على ما اتّفقا عليه فوافقه منصور، وأظهر الخلاف وخطب لمنصور بنيسابور، فتوجّه إليهما حمّويه بن على من بخارى في عسكر كثيف، فاتّفق وفاة منصور، فقيل سمّه الحسين، فلمّا قاربه حمّويه سار الحسين عن نيسابور إلى هراة وأقام بها، وكان محمد(25/343)
ابن «1» حيد يلى بخارى مدة طويلة، ويسير منها إلى نيسابور في شغل يقوم به، فوردها تم عاد منها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالانكار فخاف على نفسه، فعدل عن الطريق إلى الحسين بهراة فقوى به، وسار إلى نيسابور واستولى عليها، واستخلف بهراة أخاه منصور ابن على، فسيّر إليه من بخارى أحمد بن سهل لقتاله، فابتدأ أحمد بهراة فحصرها وأخذها، واستأمن إليه منصور بن على، ثم سار أحمد ابن سهل منها إلى نيسابور، وكان وصوله إليها في شهر ربيع الأوّل سنة ست وثلاثمائة، فنازل الحسين إلى أن انهزم أصحابه، فأسره ابن سهل وأقام بنيسابور، وكان ابن حيد بمرو فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نيسابور، وأسره للحسين بن على سار إليه.
فقبض عليه ابن سهل وأخذ ماله وسواده وسيّره والحسين إلى بخارى فحبس الحسين بن على ببخارى إلى أن خلّصه أبو عبد الله الجيهانى.
وسيّر ابن حيد إلى خوارزم فمات بها، ثم عاد الحسين بن على بعد خلاصه إلى خدمة الأمير نصر «2» بن أحمد. قال «3» : ولما ظفر أحمد بن سهل بالحسين أقام بنيسابور واستولى عليها، وخالف «4» على الأمير نصر وقطع خطبته، وسار من نيسابور إلى جرجان وبها قراتكين، فحاربه واستولى عليها وأخرجه عنها، ثم عاد إلى خراسان(25/344)
واستولى على مرو وبنى عليها سورا وتحصّن بها، فأرسل الأمير نصر الجيوش مع حمّويه بن على من بخارى، فوافى مرو الروذ وأقام بنواحيها فلم يخرج إليه أحمد بن سهل، فلمّا رأى حمّويه أنّه لا يخرج إليه وأنّه تحصّن بمرو شرع في اعمال الحيلة، وأمر جماعة من أصحابه بمكاتبة أحمد سرا واظهار الميل إليه، ودعوه إلى الخروج إليهم ليسلّموا حمّويه إليه، فأجابهم إلى ذلك وخرج إليه فالتقوا على مرحلة من مرو الروذ، في شهر رجب سنة سبع وثلاثمائة، فانهزم أصحاب أحمد وحارب هو حتى عجزت دابّته فنزل عنها، واستأسر «1» فأخذ أسيرا وأنفذه حمّويه إلى بخارى فمات بها في ذى الحجة من السنة في الحبس.
ذكر خروج الياس بن اسحاق بن أسد ثانيا
قد ذكرنا أنّه لما انهزم مع أبيه بفرغانة، فلما كان في سنة ثلاث «2» عشرة وثلاثمائة استعان بمحمد بن الحسين بن مت، وجمع طائفة من الترك فاجتمع معه ثلاثون ألف عنان، فقصد سمرقند، فسيّر إليه الأمير السعيد أبا عمرو محمد «3» بن أسد في ألفين وخمسمائة رجل، فكمنوا خارج سمرقند في يوم ورود إلياس «4» إليها، فاشتغل هو ومن معه بالنزول فخرج عليهم الكمين من بين الشجر، ووضعوا فيهم السيف فانهزم إلياس وأصحابه، فوصل إلياس إلى فرغانة ووصل(25/345)
ابن مت إلى طراز، فقبض عليه دهقان الناحية وقتله وأنفذ رأسه إلى بخارى، ثم عاد إلياس [ف] خرج «1» مرّة ثالثة، وأعانه أبو الفضل بن أبى يوسف صاحب الشاش، فسيّر إليه السعيد، محمد بن اليسع فحاربهم، فانهزم إلياس إلى كاشغر وأسر أبو الفضل وحمل إلى بخارى فمات بها، وصار إلياس إلى دهقان كاشغر طغانتكين واستقرّ بها.
ثم ولى محمد بن المظفّر فرغانة فرجع إلياس بن إسحاق إليها، فحاربه فهزمه مرة أخرى فعاد إلى كاشغر، فكاتبه محمد بن المظفّر واستماله ولطف به فحضر إلى بخارى، فأكرمه السعيد وصاهره فأقام عنده.
ذكر استيلاء السعيد على الرى
وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة كتب المقتدر بالله إلى الأمير السعيد بولاية الرى، وأمره أن يقصدها ويأخذها من غلام يوسف بن أبى الساج فسار إليها واستولى عليها وأخرج فاتك «2» عنها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرين، وولّى عليها سيمجور الدوانى وعاد إلى بخارى، ثم استعمل عليها محمد بن صعلوك فوصل إليها وأقام بها إلى أوائل شعبان من السنة، فمرض فكاتب الحسن الداعى وما كان في القدوم عليه ليسلّم الرى لهما، فقدما وتسلّما الرى، وسار عنها وبلغ الدامغان.(25/346)
ذكر مخالفة جعفر بن أبى جعفر بن أبى داود وعوده
كان جعفر «1» مقيما بالختّل واليا عليها للسامانيّة، فبدت منه أمور نسب فيها للتقصير، فكوتب أبو على أحمد بن محمد بن المظفّر بقصده، فسار إليه وحاربه وقبض عليه وحمله إلى بخارى، فحبس بها إلى أن خالف أبو زكريا على الأمير السعيد فأخرجه وصحبه، ثم استأذنه في العود إلى ولاية الختّل فأذن له، فسار إليها وتمسّك بطاعة الأمير السعيد، وذلك في سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة.
ذكر خروج أبى زكريا وأخويه ببخارى
وفي سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة خرج أبو زكريا يحيى وأبو صالح منصور وأبو إسحاق إبراهيم- أولاد أحمد بن إسماعيل السامانى، على أخيهم السعيد نصر بن أحمد، وكان سبب ذلك أن أخاهم كان قد حبسهم في القهندز ببخارى، ووكل بهم من يحفظهم فتخلّصوا منه، وسبب خلاصهم أن رجلا يعرف بأبى بكر الخبّاز الأصفهانى كان يقول- إذا جرى ذكر السعيد نصر-: إن له منى يوما طويل البلاء والعناء، فكان الناس يضحكون منه، فخرج السعيد إلى نيسابور واستخلف على بخارى أبا العباس الكوسج، وكانت وظيفة إخوته تحمل إليهم من عند هذا الخبّاز وهم في السجن، فسعى لهم مع(25/347)
جماعة من أهل العسكر فأجابوه إلى ذلك، فأعلمهم بما فعل، فلما سار السعيد عن بخارى تواعد هؤلاء للاجتماع بباب القهندز في يوم جمعة، وكان الرسم ألّا يفتح باب القهندز في يوم الجمعة إلا بعد العصر، فلما كان يوم الخميس دخل أبو بكر الخبّاز إلى القهندز وبات فيه، وجاء من الغد إلى الباب وأظهر الزهد للبوّاب، وسأله أن يفتح له لئلا تفوته صلاة الجمعة وأعطاه خمسة دنانير، فلما فتح الباب صاح الخبّاز بمن واعدهم، فوثبوا بالبوّاب وقبضوا عليه وخرج إخوة السعيد وجميع من في الحبس من الديلم والعلويين والعيّارين.
واجتمعوا إليهم من كان قد وافقهم من العسكر، ورئيسهم شيروين الجيلى وغيره من القوّاد، فعظمت شوكتهم ونهبوا خزائن السعيد ودوره واختص يحيى بن أحمد بأبى بكر الخبّاز وقرّبه وقدّمه وجعله من قوّاده، وبلغ السعيد هذا الخبر فسار من نيسابور إلى بخارى.
فوكل يحيى بالنهر أبا بكر الخبّاز ليمنع السعيد من عبوره، فظفر السعيد به وأخذه أسيرا، وعبر النهر إلى بخارى وبالغ في تعذيب الخبّاز، ثم أحرقه في التنّور الذى كان يخبز فيه، وسار يحيى من بخارى إلى سمرقند ثم خرج منها، وبقى يكرر [الدخول] إلى البلاد والسعيد في طلبه، واستمرت هذه الفتنة ثائرة إلى سنة عشرين وثلاثمائة، فأنفذ السعيد الأمان إلى أخيه يحيى فجاء إليه هو وأخوه منصور، وزالت الفتنة وسكن الشر، وأما إبراهيم فإنه هرب إلى بغداد ثم إلى الموصل.(25/348)
ذكر ولاية محمد بن المظفر خراسان
وفي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة استعمل الأمير نصر بن أحمد، أبا بكر محمد بن المظفّر بن محتاج على جيوش خراسان، ورد إليه تدبير الأمور بنواحيها جميعا، وكان سبب تقدّم محمد عنده أنّه كان يوما بين يدى السعيد- وهو يحادثه في بعض مهماته- فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدّة دفعات، ولم يتحرّك ولا ظهر عليه أثر ذلك، فلما فرغ من حديثه وعاد إلى منزلة نزع خفّه وقتل العقرب، فاتصل الخبر بالأمير السعيد فأعجب به، وقال له: ما عجبت إلا من فراغ بالك لتدبير ما قلته لك! فهلّا قمت وأزلتها!! فقال: ما كنت لأقطع حديث الأمير بسبب عقرب، وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب، فكيف أصبر- عند البعد منك- على حدّ سيوف أعداء دولتك، إذا دفعتهم عن مملكتك؟ فعظم محلّه عنده وأعطاه مائتى ألف درهم، ثم استعمله على خراسان فأقام واليا عليها إلى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، فاستقدمه واستعمل ابنه أبا على أحمد بن محمد، وكان سبب ذلك أن أبا بكر مرض مرضا شديدا فعزله واستعمل ابنه في شهر رمضان، فأقام بها ثلاثة أشهر وهو يتجهّز ويستعد، وسار في المحرم سنة ثمان وعشرين إلى جرجان فاستولى عليها وأخذها من ماكان ابن كالى، لأن ما كان كان قد خلع طاعة السعيد بعد أن حاصرها أبو علىّ بقية السنة، واستخلف إبراهيم بن سيمجور الدواتى، ثم استولى أبو على على الرى في سنة تسع وعشرين، ثم استولى على بلد(25/349)
الجبل «1» زنكان وأبهر وقزوين وقمّ وكرج وهمذان ونهاوند والدّينور إلى حدود حلوان، وذلك في سنة ثلاثين، ورتّب فيها العمال وجبى أموالها، ورحل إلى جرجان في سنة إحدى وثلاثين في جمادى الآخرة، فأتاه الخبر بوفاة السعيد فسار إلى خراسان.
ذكر وفاة الأمير السعيد نصر بن أحمد وشىء من سيرته
كانت وفاته في شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وكانت علّته السل فأقام به ثلاثة عشر شهرا، ولم يكن قد بقى من مشايخ دولتهم أحد، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوما، وعمره ثمانيا وثلاثين سنة.
وكان عالما ذا حلم وكرم وعقل، ومن مكارمه ولين جانبه أن بعض الخدم سرق جوهرا نفيسا، وباعه على بعض التجّار بثلاثة عشر ألف درهم، فحضر التاجر عند السعيد وأعلمه أنّه اشترى جوهرا نفيسا لا يصلح إلا للسلطان، وأحضر الجوهر فحين رآه السعيد عرفه، فسأل عن ثمنه ومن أين اشتراه، فذكر الخادم والثمن فأربحه ألفى درهم، ثم سأله التاجر في دم الخادم فقال: لا بدّ من أدبه، وأما دمه فهو لك، فأحضره وأدّبه ثم أنفذه إلى التاجر، وقال: كنّا وهبنا لك دمه، وقد أنفذناه إليك. وحكى عنه أنّه لما خرج عليه أخوه أبو زكريا(25/350)
ونهبت خزائنه وأمواله، فلما عاد السعيد إلى ملكه قيل له عن جماعة انتهبوا أمواله فلم يتعرض إليهم؛ وأخبر أن بعض السوقة اشترى منها سكّينا نفيسا بمائتى درهم، فأرسل إليه وأعطاه الثمن فأبى أن يبيع السكّين إلا بألف درهم، فقال السعيد: ألا تعجبون من هذا الرجل! أرى عنده مالى فلم أعاتبه وأعطيه حقّه فيشتط في الطلب! ثم أمر بارضائه.
ولما طال مرضه أقبل على الصلاة والعبادة، وبنى له بيتا وسمّاه بيت العبادة، فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشى إليه حافيا ويصلّى ويدعو ويتضرّع، ولما مات دفن عند قبر «1» والده رحمهما الله.
وولى بعده الأمير:
نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد وهو الخامس من الملوك السامانية
قال «2» : بويع له بعد وفاة أبيه في شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ولقب الأمير الحميد، وفوّض أمر تدبير دولته وملكه إلى أبى الفضل محمد «3» بن أحمد الحاكم، وصدر عن رأيه، ولما هرب منه أبو الفضل بن أحمد بن حمّويه- وهو من أكابر أصحاب أبيه- فأمّنه وأعاده وأحسن إليه، وولاه سمرقند.(25/351)
وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة خالف عبد الله بن اشكام على الأمير نوح، وامتنع بخوارزم، فسار نوح من بخارى إلى مرو بسببه وسيّر إليه جيشا وجعل عليهم إبراهيم بن بارس، فمات إبراهيم في الطريق، وكاتب ابن اشكام ملك الترك واحتمى به وكان لملك الترك ولد عند نوح في اعتقاله ببخارى، فراسل نوح أباه في اطلاقه ليقبض على ابن اشكام، فأجاب ملك الترك إلى ذلك، فلما علم ابن اشكام بذلك عاد إلى الطاعة، وفارق خوارزم فعفا عنه نوح وأكرمه.
ذكر مخالفة أبى على بن محتاج على الأمير الحميد
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خالف أبو على بن محتاج على الأمير الحميد نوح، وسبب ذلك أنّه كان قد جهّزه للمسير إلى الرى فأنفذ إليه عارضا يستعرض العسكر، فأسقط العارض جماعة منهم وأساء على أبى علىّ، فنفرت قلوب الجند وساروا وهم كذلك، وانضاف إلى ذلك أن نوحا أنفذ معه من يتولى أعمال الديوان، وجعل إليه الحل والعقد والإطلاق، بعد أن كان جميع ذلك أيام السعيد لأبى علىّ، فازدا قلبه نفورا لذلك، ثم عزله عن خراسان واستعمل عليها إبراهيم بن سيمجور، ثم إنّ المتولى أساء إلى الجند في أرزاقهم فنفروا وشكا بعضهم إلى بعض، وهم إذ ذاك بهمذان، فاتّفق رأيهم على مكاتبة الأمير إبراهيم بن أحمد، عمّ الأمير نوح، وكان كما قدّمناه في خدمة الأمير ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فأظهروا أبا علىّ على(25/352)
ذلك فنهاهم عنه، فتواعدوه بالقبض عليه إن خالفهم، فأجابهم إلى ما طلبوه وكاتبوا إبراهيم، فحضر إليهم في شهر رمضان في تسعين فارسا وساروا في شوّال نى خدمته إلى الرى، فلما وصلوا إليها اطلع أبو علىّ أن أخاه الفضل كتب إلى الأمير نوح بخبره، فقبض عليه وعلى المتولّى الذى أساء إلى الجند، وسار إلى نيسابور واستخلف نوّابه على الجبل والرى، واتصل الخبر بالأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو، وكان الجند قد ضجروا من محمد ابن أحمد الحاكم، مدبّر دولة نوح، لسوء سيرته فيهم، فقالوا لنوح: إنّ الحاكم قد أفسد عليك الأمور بخراسان، وأحوج أبا علىّ ابن محتاج إلى العصيان، وطلبوا تسليمه إليهم وإلا ساروا إلى عمّه إبراهيم، فسلمّه إليهم فقتلوه في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
ولما وصل أبو علىّ إلى نيسابور كان بها إبراهيم بن سيمجور ومنصور بن قراتكين وغيرهما من القوّاد، واستمالهم فمالوا إليه وصاروا معه، ودخل نيسابور في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ثم ظهر له من منصور بن قراتكين ما كرهه فقبض عليه، ثم سار أبو علىّ وإبراهيم من نيسابور في شهر ربيع الأوّل من السنة إلى مرو، وبها الأمير نوح، فهرب الفضل أخو أبى علىّ من محبسه إلى قهستان، ولمّا قارب أبو علىّ مرو انحاز إليه كثير من عسكر نوح، فسار نوح إلى بخارى واستولى أبو علىّ على مرو في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين، وأتاه أكثر أجناد نوح فسار نحو بخارى، وعبر النهر(25/353)
ففارقها نوح وسار إلى سمرقند. ودخلها أبو علىّ في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين «1» وخطب فيها لإبراهيم وبايع له، ثم إنّ أبا علىّ اطلع على أنّ إبراهيم أضمر له شرا، فسار إلى تركستان وبقى إبراهيم ببخارى، وفي خلال ذلك أطلق أبو علىّ، منصور بن قراتكين، فسار إلى الأمير نوح، ثم إنّ إبراهيم وافق جماعة في السرّ على أن يخلع نفسه من الأمر، ويردّه إلى ابن أخيه الأمير نوح، ويكون هو صاحب جيشه، ويتّفق معه على قصد أبى علىّ، ودعا إلى ذلك فأجابوه وخرجوا إلى أبى علىّ، وقد تفرّق عنه أصحابه، فركب إليهم وردّهم أقبح ردّ، ثم فارق إبراهيم ومن معه بخارى وخرجوا إلى سمرقند إلى خدمة الأمير نوح، وأظهروا الندم على ما كان منهم فقرّبهم وقبلهم وعذرهم، وعاد إلى بخارى في شهر رمضان، ثم قتل الأمير نوح في تلك الأيام طغان الحاجب، وسمل عمّه إبراهيم وأخويه أبا جعفر محمدا وأحمد، وعادت الجيوش والعساكر اجتمعت عليه.
أما الفضل بن محمد أخو أبى علىّ فإنّه لما هرب من أخيه لحق بقوهستان وجمع جمعا كثيرا وسار نحو نيسابور، وبها محمد بن عبد الرزّاق من قبل أبى علىّ، فخرج إلى الفضل وتحاربا فانهزم الفضل ومعه فارس واحد، فلحق ببخارى فأكرمه الأمير نوح وأحسن إليه وأقام في خدمته.(25/354)
ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان
قال «1» : ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى كان أبو علىّ بالصغانيان، وبمرو أبو أحمد محمد بن على القزوينى، فرأى الأمير نوح أن يجعل منصور بن قراتكين على جيوش خراسان، فولاه وسيّره إلى مرو، وبها أبو أحمد وقد غوّر المناهل ما بين آمل ومرو، ووافق أبا علىّ ثم تخلى عنه، فسار منصور جريدة في ألفى فارس، فلم يشعر به إلا وقد نزل بكشماهن، على خمسة فراسخ من مرو، فاستقبله أبو أحمد القزوينى بالطاعة، فأكرمه وسيّره إلى بخارى بماله وأصحابه، فأكرمه الأمير نوح وأحسن إليه، ثم ذكر له ذنوبه وقتله.
ثم كانت بعد ذلك حروب بين عسكر الأمير نوح وأبى علىّ، استمرت إلى جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فراسل بعد ذلك في الصلح؛ وسيّر أبو علىّ ابنه عبد الله رهينة فوصل إلى بخارى، فأمر الأمير نوح باستقباله وأكرمه وأحسن إليه، وخلع عليه قلنسوة وجعله في ندمائه، فزال الخلف، واستمرّ أبو علىّ بالصغانيان إلى سنة أربعين.
ذكر عود أبى على الى خراسان
وفي سنة أربعين أعيد إلى قيادة الجيوش بخراسان، وذلك بعد وفاة منصور بن قراتكين، فأرسل إليه الأمير نوح الخلع واللواء، وأمره بالمسير إلى نيسابور وأقطعه الرى، فسار عن الصغانيان(25/355)
واستخلف مكانه ابنه أبا منصور، ثم خالف على الأمير نوح في سنة اثنتين وأربعين فعزله، فكتب إلى ركن الدولة بن بويه في المصير إليه، فأذن له في ذلك فسار إليه فأكرمه ركن الدولة، فسأله أن يكتب له عهدا من جهة الخليفة بولاية خراسان، فأرسل ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة في ذلك، فسيّر له عهدا بما طلب وسيّر له نجدة، فسار أبو علىّ إلى خراسان واستولى على نيسابور، وخطب بها- وفيما استولى عليه من خراسان- للمطيع، ولم يخطب له بها قبل ذلك.
ذكر وفاة الأمير الحميد نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك
كانت وفاته في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.
وكانت مدة ملكه إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر، وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة كريم الأخلاق، ولما مات ملك بعده ولده.
ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل ابن أحمد وهو السادس من الملوك السامانية
كانت ولاية عبد الملك بما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه الأمير نوح بن نصر، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين.
قال «1» : ولما استقرّ حاله في الملك وثبت أمره ابتدأ بارسال بكر ابن مالك من بخارى إلى خراسان، وولاه قيادة جيوشها، وأمره باخراج أبى علىّ بن محتاج منها وندب معه العساكر، فسار إلى(25/356)
نيسابور فلمّا قاربها تفرّق عن أبى علىّ أصحابه وعساكره، وبقى معه من أصحابه نحو من مائتى رجل، سوى من كان عنده نجدة من الديلم، فاضطرّ إلى الهرب فسار نحو ركن الدولة، فأنزله معه في الرى واستولى ابن مالك على خراسان، وأقام بنيسابور، وكان بين عساكره وبين بنى بويه حروب، ثم حصل بينهما الصلح والاتفاق، ودامت أيام عبد الملك إلى سنة خمسين وثلاثمائة، فركب في يوم الخميس حادى عشر شوّال منها فسقط الفرس من تحته، فوقع إلى الأرض فمات، وكانت مدة ملكه سبع سنين وستة أشهر تقريبا، ولما مات، ولى بعده أخوه.
ذكر ولاية منصور بن نوح بن نصر بن أحمد وهو السابع من الملوك السامانية
كانت ولايته بعد وفاة أخيه عبد الملك لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال سنة خمسين وثلاثمائة، وخالف عليه في سنة إحدى وخمسين الفتكين، وهو من أكابر القوّاد، وكان قد طلبه الأمير منصور فامتنع من الحضور، فأرسل إليه جيشا فهزمهم الفتكين، وأسر وجوه القوّاد وأظهر العصيان والمخالفة.(25/357)
ذكر الصلح بين الأمير منصور وبين بنى بويه
وفي سنة إحدى وستين «1» وثلاثمائة تمّ الصلح بين الأمير منصور بن نوح وبين ركن الدولة وعضد الدولة بنى بويه، على أن يحمل ركن الدولة وعضد الدولة إليه في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوج الأمير منصور «2» بابنة عضد الدولة، وحمل إليه من الهدايا والتحف ما لم ير مثله، وكتب بينهم كتاب صلح شهد فيه أعيان خراسان وفارس والعراق، وكان الذى سعى في الصلح وقرّره محمد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جيوش خراسان من جهة الأمير منصور.
ذكر وفاة الامير منصور
كانت وفاته ببخارى في منتصف شوّال سنة ست وستين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه ست عشرة «3» سنة وأربعة أيام.
ولما مات ولى بعده ابنه.(25/358)
ذكر ولاية المنصور أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو الثامن من الملوك السامانية
ملك ما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه في منتصف شوّال سنة ست وستين وثلاثمائة ولقب بالمنصور، واستوزر أبا الحسن العتبى فقام في حفظ الدولة المقام المرضى، وعزل محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان لأنّه كان قد استوطنها، وبقى لا يطيع إلا فيما يختار فعزله في سنة سبعين، واستعمل عوضه حسام الدولة أبا العبّاس تاش، ثم قتل الوزير في سنة اثنتين وسبعين، وسبب قتله أن أبا الحسن بن سيمجور وضع عليه جماعة من المماليك فقتلوه، فكتب الأمير المنصور نوح إلى حسام الدولة تاش يستدعيه إلى بخارى لتدبير الدولة، فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة الوزير.
وفي سنة اثنتين وسبعين سار محمد بن سيمجور نحو خراسان عند خلوّها من حسام الدولة، وكاتب فايقا وطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان، فوافقه واجتمعا بنيسابور، واتصل الخبر بحسام الدولة فسار عن بخارى إلى مرو في جمع كبير، وتردّدت الرسائل بينهم فاصطلحوا: على أن تكون نيسابور وقيادة الجيوش لأبى العبّاس حسام الدولة تاش، وتكون بلخ لفايق، وهراة لأبى على ابن أبى الحسن بن سيمجور، وتفرّقوا على ذلك وقصد كل منهم عمله.(25/359)
ولمّا عاد أبو العبّاس إلى نيسابور وترك بخارى استوزر الأمير نوح، عبد الله بن عزير وكان ضدا لأبى الحسين العتبى، فلما ولى الوزارة ابتدأ بعزل حسام الدولة عن خراسان، وأعاد ابن سيمجور إليها.
فكتب القوّاد بخراسان يسألونه أن يقرّ حسام الدولة عليها فلم يجبهم فكتب حسام الدولة إلى فخر الدولة بن بويه يستمدّه، فأمدّه بالأموال والعساكر، وكانت بينهم حروب انتصر فيها حسام الدولة، واستولى على خراسان وأقام بنيسابور، وانهزم ابن سيمجور ثم تراجع أصحاب ابن سيمجور إليه، وجاءته الأمداد من بخارى وعاد لقتال حسام الدولة، والتقوا واقتتلوا نهارا كاملا انتصر فيه ابن سيمجور، وانهزم حسام الدولة وأصحابه وأقام بجرجان، ولم يصل إلى خراسان إلى أن مات في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وأقام ابن سيمجور بخراسان إلى أن توفى فجأة وهو يجامع بعض خطاياه.
وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة سار بغراخان إيلك ملك الترك بعساكره إلى بخارى، فسيّر إليه الأمير نوح جيشا كثيفا فهزمهم بغراخان، فعادوا إلى بخارى وهو في آثارهم، فخرج نوح بنفسه وسائر عساكره ولقيه، فاقتتلوا قتالا شديدا كانت الهزيمة على بغراخان، فعاد إلى بلاساغون وهى كرسى ملكه.(25/360)
ذكر ملك الترك بخارى وشىء من أخبارهم وخروج الأمير نوح منها وعوده اليها
وفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ملك شهاب الدولة هارون بن سليمان إيلك المعروف ببغراخان التركى مدينة بخارى، وكان له كاشغر وبلاساغون وختن وطراز وغير ذلك إلى حدود الصين، وله عساكر جمّة وهم مسلمون، وكان سبب إسلامهم أن جدّهم الأول شبق قراخاقان رأى في منامه كأنّ رجلا نزل من السماء، فقال له بالتركية ما معناه: اسم تسلم في الدنيا والآخرة، فأسلم في منامه، وأصبح فأظهر إسلامه، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن شبق، ثم انتهى ملك هذه الطائفة من الترك إلى بغراخان، وكنّا قصدنا أن نفرد هذه الدولة الخانيّة بترجمة، ونذكر من ملك منهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك، فلم نظفر يمؤرخ ذكر أخبارهم سياقة ولا متفرّقة، إذا جمعت انتظمت على سياقة، فلذلك دمجنا أخبارهم في أثناء الدول بحسب وقائعهم مع الملوك، وما أظن أخبارهم اتّسقت لمؤرخ لأن أخبار الملوك والدول إنما يعتنى بجمعها كتّاب الإنشاء والفضلاء من الناس، وهؤلاء كانوا أتراكا لا كتّاب لهم ولا اعتناء بشىء من ذلك، فلذلك انقطعت أخبارهم.
ولنرجع إلى سبب ملك بغراخان بخارى. كان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور عامل خراسان- لمّا مات- ولى ابنه أبو على بعده وكاتب الأمير الرضى نوحا أن يقرّه على ما كان بيد أبيه، فأجيب(25/361)
إلى ذلك، وحملت إليه الخلع وهو لا يشك أنّها له، فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها وبها فايق، فأوصل إليه العهد بولاية خراسان والخلع إليه، فعلم أبو على أنهم مكروا به، وأن هذا دليل سوء يريدونه به، فلبس فايق الخلع وسار عن هراة نحو أبى علىّ، فبلغه الخبر فسار جريدة في نخبة أصحابه، وطوى المنازل حتى سبق خبره، وأوقع بفايق بين هراة وبوشنج، فانهزم فايق وأصحابه إلى مرو الروذ، وكتب أبو على إلى الأمير نوح يجدّد طلب ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفايق، وعاد أبو على إلى نيسابور ظافرا وجبى أموال خراسان، فكتب إليه نوح يستتر له عن بعضها ليصرفه في أرزاق الجند، فاعتذر إليه ولم يفعل وخاف عاقبة المنع فكتب إلى بغراخان يدعوه إلى قصد بخارى، واستقرّ الأمر بينهما على أن يكون لبغراخان ما وراء النهر جميعه، ولأبى علىّ خراسان، فطمع بغراخان في البلاد وتجدّدت حركته إليها.
وأما فايق فإنّه أقام بمرو الروذ حتى اجتمع إليه أصحابه، وسار نحو بخارى من غير إذن، فارتاب الأمير نوح به وسيّر الجيوش وأمرهم يمنعه، فقاتلوه وهزموه فعاد وقصد ترمذ، وكاتب بغراخان أيضا يطمعه في البلاد، فسار نحو بخارى واستولى على بلاد السامانيّة شيئا بعد شىء، فسيّر إليه نوح جيشا واستعمل عليهم قائدا كبيرا من قوّاده اسمه انج، فهزمهم بغراخان وأسرانج وجماعة من القوّاد، فلما ظفر بهم قوى طمعه في البلاد، وضعف نوح وأصحابه وكاتب أبا علىّ بن سيمجور يستنصره، ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر فلم يجبه إلى ذلك ولا لبّى دعوته، وطمع في الاستيلاء على خراسان، وسار(25/362)
بغراخان نحو بخارى «1» فلقيه فايق واختص به وصار في جملة أصحابه، ونازلوا بخارى فاختفى الأمير نوح وملكها بغراخان ونزلها، وخرج نوح منها مستخفيا فعبر النهر إلى آمل الشط، وأقام بها ولحق به أصحابه، وتابع نوح كتبه ورسله إلى أبى علىّ يستنجده ويخضع له، فلم يصغ إلى ذلك؛ وأما فايق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها فأمره بذلك، فسار نحوها واستولى عليها.
ذكر عود نوح الى بخارى ووفاة بغراخان وقيام ايليك الخان
قال «2» : ولما نزل بغراخان ببخارى استوخمها فمرض واشتدّ مرضه، فانتقل نحو بلاد الترك، ولمّا فارق بخارى ثار أهلها بساقة عسكره، فقتلوا منهم وغنموا أموالهم، ووافقهم الأتراك الغزيّة على الفتك والنهب لعسكر بغراخان، وبادر الأمير نوح بالعود إلى بخارى فيمن معه من أصحابه، فدخلها وعاد إلى دار ملكه وتباشر أهلها به، ومات بغراخان وعاد أصحابه إلى بلادهم، وكان بغراخان ديّنا خيرا عادلا حسن السيرة محبا للعلماء وأهل الدين مكرما لهم، وكان يحب أن يكتب عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى بعده أمر الترك ايليك الخان شمس الدولة أبو نصر أحمد بن على.(25/363)
ذكر ما كان من أخبار أبى على بن سيمجور وفايق واستعمال محمود بن سبكتكين على خراسان
قال: ولما عاد الأمير نوح إلى بخارى «1» أسقط في يد أبى علىّ ابن سيمجور، وندم على ما فرط منه من ترك إعانته عند الحاجة إليه؛ وأما فايق فإنه لمّا استقرّ الأمير نوح ببخارى حدّث نفسه بالمسير إليه والحكم في دولته، فسار عن بلخ إلى بخارى فسيّر الأمير نوح الجيوش لردّه، فالتقوا واقتتلوا فانهزم فايق وأصحابه، ولحق بأبى علىّ بن سيمجور ففرح به وقوى جنانه، واتّفقا على مكاشفة الأمير نوح وإظهار العصيان، فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين وهو يومئذ بغزنة، يعرّفه الحال ويأمره بالمصير إليه لينجده وولاه خراسان وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولا بالغزو غير ملتفت إلى ما هم فيه، فلما أتاه الكتاب سار نحو جريدة، واجتمع به وقرّرا ما يفعلانه واتّفقا عليه، وعاد سبكتكين فجمع عسكره وحشد وسار عن غزنة، ومعه ولده محمود نحو خراسان، وسار نوح من بخارى واجتمعا وقصدا أبا علىّ وفايقا، وقد جمعا عساكرهما أيضا واستنصرا بفخر الدولة بن بويه، فسيّر إليهما عسكرا كثيرا، والتقوا بنواحى هراة واقتتلوا، فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبى علىّ إلى عسكر نوح ومعه أصحابه، فانهزم أصحاب أبى علىّ وركبهم أصحاب سبكتكين يقتلون ويأسرون ويغنمون، وعاد أبو على وفايق إلى خراسان(25/364)
وأقام الأمير نوح وسبكتكين بظاهر هراة، حتى أراحوا واستراحوا وساروا نحو نيسابور، فسار أبو على وفايق نحو جرجان، واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها وعلى جيوش خراسان محمود بن سبكتكين، ولقّبه سيف الدولة ولقّب أباه ناصر الدولة، وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وذلك في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وفي سنة خمس وثمانين في شهر ربيع الأول سار أبو علىّ وفايق عن جرجان إلى نيسابور، فكتب محمود إلى أبيه بذلك وبرز إلى ظاهر نيسابور، وأقام ينتظر المدد فأعجلاه فصبر لهما، فقاتلاه وهو في قلّة من الرجال فانهزم عنهما نحو أبيه، وغنما منه شيئا كثيرا ورجع أبو علىّ إلى نيسابور، وكتب إلى الأمير نوح يستميله ويستقيل من عثرته، وكاتب سبكتكين بمثل ذلك وأحال فيما جرى على فايق، فلم يجيباه إلى ما أراد، وجمع سبكتكين العساكر وسار نحو أبى علىّ فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة واقتتلوا عامّة يومهم، وأتاهم محمود ابن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم، فانهزموا وقتل منهم خلق كثير، ونجا أبو على وفايق إلى آمل الشط، فراسلا الأمير نوح يستعطفانه، فأجاب أبا علىّ إلى ما طلب وقبل عذره، إن فارق فايقا ونزل بالجرجانية، ففعل ذلك فحذّره فايق وخوّفه مكرهم ومكيدتهم فلم يرجع إلى قوله، وفارقه وسار إلى الجرجانيّة ونزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار اسب «1» ، فأرسل إليه أبو عبد الله خوارزم(25/365)
شاه من أقام له ضيافة، ووعده أنّه يقصده ليجتمع به فسكن إلى ذلك فلما كان الليل أرسل إليه خوارزم شاه جمعا من عسكره، فأحاطوا به وأخذوه أسيرا في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، فاعتقله في بعض دوره، وطلب أصحابه فأسر أعيانهم وتفرّق الباقون.
وأما فايق فإنه سار إلى ايليك الخان فأكرمه وعظّمه ووعده أن يعيده إلى قاعدته، وكتب إلى نوح يشفع فيه ويطلب منه أن يوليه سمرقند، فأجابه إلى ذلك وأقام بها؛ وأما ما كان من أبى علىّ بن سيمجور فإنه لمّا أسره خوارزم شاه بلغ خبره إلى مأمون بن محمد والى الجرجانية، فقلق لذلك وعبر إلى كاث وهى مدينة خوارزم شاه فحصرها وفتحها عنوة، وأحضر أبا علىّ وفكّ قيده وعاد به إلى الجرجانية، واستخلف مأمون بعض أصحابه على بلد خوارزم شاه، وصارت من جملة ما بيده، وقتل خوارزم شاه بين يدي أبى علىّ بن سيمجور، وكتب مأمون إلى الأمير نوح وهو يشفع في أبى علىّ ويسأل الصفح عنه، فأجابه إلى ذلك وأمر أبو على بالمسير إلى بخارى، فسار إليها فيمن بقى معه من أهله وأصحابه، فلمّا بلغها لقيه الأمراء والعساكر ودخل على الأمير نوح فأمر بالقبض عليه وعلى من معه، واعتقله فمات في حبسه في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
ذكر وفاة الامير نوح بن منصور
كانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فكان مدة ملكه عشرين سنة وثمانية أشهر، فاختلّ بموته ملك آل ساسان وضعف أمرهم ضعفا ظاهرا، وطمع فيهم أصحاب الأطراف، وزال ملكهم(25/366)
بعد ذلك بمدّة يسيرة على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فكأنّه المعنى بقول القائل:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما
ذكر ولاية أبى الحارث منصور بن نوح بن منصور بن نوح ابن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو التاسع من الملوك السامانية
ملك ما وراء النهر وخراسان بعد وفاة أبيه في شهر رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وبايعه الأمراء والقوّاد وسائر الناس، وفرّق فيهم بقايا الأموال فاتّفقوا على طاعته، وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون، ولما بلغ خبر وفاة أبيه إلى ايليك الخان سار إلى سمرقند وانضم إليه فايق [و] «1» الخاصة فسيّره جريدة إلى بخارى، فلما سمع الأمير منصور بمسيره تحيّر في أمره وأعجله عن أن يتجهّز، فسار عن بخارى وقطع النهر، ودخل فايق بخارى وأظهر أنّه قصد القيام بخدمة الأمير منصور، رعاية لحق أسلافه عليه إذ هو مولاهم، وأرسل إليه مشايخ بخارى في العودة إلى بلده وملكه، وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق، فعاد إليها ودخلها وولى فايق أمره، وحكمه في دولته، وولى بكتوزون أمر الجيش بخراسان، وكان محمود ابن سبكتكين حينئذ مشغولا بمحاربة أخيه إسماعيل، فسار بكتوزون إلى خراسان ووليها واستقرت قواعده بها.(25/367)
ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح وسمله
وفي سنة تسع وثمانين وثلاثمائة اجتمع بكتوزون وفايق وتشاكير؟؟؟
ما هما فيه من قلة إنصاف الأمير لهما، فقبضا عليه وأمر بكتوزون من سمل عينيه، فكانت مدة ولايته سنة واحدة وسبعة أشهر.
ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن منصور
قال: ولما قبضا على الأمير منصور وسملاه أقاما أخاه عبد الملك في الملك مقامه وهو صبى صغير، فأرسل محمود بن سبكتكين إلى فايق وبكتوزون بلومهما ويقبّح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الملك والاستقلال به، وسار لقتالهم فسارا نحوه ومعهما عبد الملك، والتقوا واقتتلوا أشدّ قتال فانهزم السامانيّة، ولحق عبد الملك وفايق ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور فاتبعته جيوش محمود حتى لحق بجرجان، وسار محمود إلى هراة فعاد بكتوزون إلى نيسابور وملكها، فقصده محمود فهرب إلى بخارى بعد أن نهب مرو، واستقرّ ملك محمود بن سبكتكين بخراسان وخرجت عن ملك آل سامان.
ذكر انقراض الدولة السامانية
كان انقراضها في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة على يد محمود بن سبكتكين بخراسان وإيليك الخان بما وراء النهر. فأما محمود فإنه ملك خراسان كما ذكرناه، وأما ايليك الخان وهو شمس الدولة(25/368)
أبو نصر أحمد بن على فإن عبد الملك- لما انهزم من محمود- بقى بيده ما وراء النهر، فقصد بخارى واجتمع بها هو وفايق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفقت وفاة فايق في شعبان من السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم ووهت قوّتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصيا من موالى الأمير نوح ابن نصر. قال: ولمّا اتصل الخبر بايليك الخان سار في جميع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودّة والموالاة والحميّة له، فظنّوا صدقه فلم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقوّاد، فلمّا حضروا عنده قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى في يوم الثلاثاء عاشر ذى القعدة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلّة من معه فاختفى، ونزل ايليك الخان في دار الإمارة وبثّ العيون على عبد الملك، وشدّد في طلبه فظفر به فأودعه بايكند «1» فمات بها، وهو آخر الملوك السامانيّة، وانقرضت دولتهم على يده وحبس معه أخاه أبا الحارث منصور بن نوح، الذى كان في الملك قبله، وأخويه أبا إبراهيم إسماعيل وأبا يعقوب، وأعمامه أبا زكريا وأبا سليمان وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة، وكانت دولتهم قد انتشرت من حدود حلوان إلى بلاد الترك بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلا، وعدّة من ملك منهم عشرة ملوك وهم:
نصر بن أحمد بن أسد بن سامان، ثم أخوه إسماعيل بن أحمد،(25/369)
ثم ابنه أحمد بن إسماعيل، ثم ابنه نصر بن أحمد، ثم ابنه نوح بن نصر، ثم ابنه عبد الملك بن نوح، ثم أخوه منصور بن نوح، ثم ابنه نوح بن منصور، ثم ابنه منصور بن نوح، ثم أخوه عبد الملك بن نوح. ومدّة ملكهم منذ ولى نصر بن أحمد بن أسد وإلى أن قبض على عبد الملك مائة سنة وتسع وعشرون سنة تقريبا، ولم يقم لهم بعد ذلك دولة، وإنما ظهر إسماعيل بن نوح ولم يستقم له أمر ولا قامت له دولة، فلذلك لم نجعله في جملة ملوكهم، لأنّه كان كالخارجى، ونحن الآن نذكر ظهوره وما كان من أمره.
ذكر ظهور اسماعيل بن نوح وما اتفق له بخراسان
وفي سنة تسعين وثلاثمائة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان السبب في ظهوره أنّه كان له جارية تأتيه لخدمته ثم تنصرف، فجاءته في بعض الأيام على عادتها فلبس ما كان عليها، وخرج فظنّه الموكّلون به الجارية، ولما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، إلى أن سكن الطلب عنه، فسار من بخارى إلى خوارزم وتلقب المستنصر «1» ، واجتمع إليه بقايا القوّاد السامانية والجند فكثرت جموعه، فبعث قائدا من قوّاده إلى بخارى، فقاتل من بها من أصحاب إبليك الخان وهزمهم وتبعهم إلى حدود سمرقند، فاجتمع المنهزمون وعسكر سمرقند وقاتلوه فهزمهم أيضا عسكر المستنصر، وغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم وعادوا إلى بخارى،(25/370)
فاستبشر أهلها بعود السامانية، فجمع إيليك الخان الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانيّة وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم فساروا هم والمستنصر نحو أبيورد، فملكوها وجبوا أموالها، وساروا نحو نيسابور وبها منصور بن سبكتكين نائبا عن أخيه محمود، فاقتتلوا فانهزم ابن سبكتكين وملك المستنصر نيسابور وكثر جمعه، فاتصل الخبر بيمين الدولة محمود فجدّ في السير إليها فسار المستنصر عنها إلى اسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار إلى شمس المعالى قابوس بن وشمكير ملتجئا إليه، فأكرمه وحمل إليه كثيرا وأشار عليه بقصد الرى، إذ كانت ليس لها من يذبّ عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده أن بنجده بعسكر مع أولاده، فسار نحو الرى ونازلها فضعف من بها عن مقاوته، إلا أنهم حفظوا البلد، وبذلوا الأموال لأصحابه ليردّوه عنها، فردّوه وحسّنوا له العود إلى خراسان فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس، ووصل المستنصر إلى نيسابور في شوّال سنة إحدى وتسعين فجبى أموالها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشا فانهزم وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان فردّه شمس المعالى عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها، فسار إليه نصر بن سبكتكين من نيسابور، والتقوا واقتتلوا فانهزم السامانى، وأسر جماعة من أعيان عسكره وحملوا إلى غزنة، وذلك في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، ثم سار السامانى تائها حتى وافى الأتراك الغزيّة، ولهم ميل إلى آل سامان فاجتمعوا معه، وسار إيليك الخان وذلك في شوّال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم بنواحى سمرقند فهزموه، واستولوا على أمواله(25/371)
وسواده وأسروا جماعة من قوّاده وعادوا، وأجمع أصحاب المستنصر على إطلاق الأسرى تقرّبا إلى إيليك الخان، فشعر بذلك فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم فعبر النهر إلى آمل الشط فلم يقبله مكان، فعاد وعبر النهر إلى بخارى واقتتل هو وواليها الذى هو من قبل إيليك الخان، فانهزم المستنصر إلى دبوسيّه وجمع بها جمعا، ثم عاودهم وهزمهم فاجتمع عليه جماعة من فتيان سمرقند وصاروا في جملة أصحابه، فجمع إيليك الخان الأتراك وسار إليه والتقوا بنواحى سمرقند، فانهزم إيليك الخان وذلك في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، ثم عاد إيليك الخان إلى بلاد الترك فجمع وحشد وعاد إلى المستنصر، فوافق عوده تراجع الغزيّة الذين كانوا مع السامانى إلى أوطانهم، فاقتتلوا بنواحى اشروسنة فانهزم السامانى وأكثر أصحاب إيليك الخان القتل في أصحابه، وعبر النهر إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يريد مرو فسيّر إليه يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، فأتى بسطام فأزعجه قابوس عنها فضاقت به المذاهب، فعبر ما وراء النهر وقد ضجر أصحابه منه وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب إيليك الخان وأعلموهم بمكانه، فلم يشعر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة وانهزم ونزل بحلّة للعرب، وكانوا في طاعة يمين الدولة محمود بن سبكتكين، فأمهلوه حتى أظلم الليل ووثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمة أمره وآخر ما اتّفق لآل سامان، ولم يقم منهم بعده أحد، والله أعلم.(25/372)
ذكر أخبار الدولة الصفارية وابتداء أمرها
أوّل من قام منهم يعقوب بن الليث الصفّار، وكان يعقوب هذا وأخوه عمرو يعملان الصّفر بسجستان ويظهران الزهد والتقشف، وكان في أيّامهما رجل من أهل سجستان اسمه صالح بن النضر الكنانى قد تغلّب على سجستان في سنة سبع وثلاثين ومائتين في خلافة المتوكّل على الله، فصحبه يعقوب وقاتل معه وجعله صالح مقام الخليفة عنه، فاستنقذ طاهر بن عبد الله بن طاهر- أمير خراسان- سجستان من يده، ثم هلك صالح بعد ذلك فقام مقامه بأمر المتطوّعة رجل اسمه درهم بن الحسن «1» ، فغلب على سجستان وكان غير ضابط لعسكره وكان يعقوب هو قائد العسكر، فلمّا رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث، وملّكوه أمرهم لما رأوه من تدبيره وحسن سياسته وقيامه بأمرهم، فلمّا تبيّن ذلك لدرهم لم ينازعه في الأمر، وسلّمه إليه واعتزل عنه فاستبدّ يعقوب بالأمر؛ وقيل بل احتال صاحب خراسان على درهم حتى قبض عليه، وحمله إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق وخدم الخليفة ببغداد، واستقلّ يعقوب بعده بالأمر وعظم شأنه وتولّى أمر المتطوّعة، وقام بمحاربة الشراة فظفر بهم وأكثر القتل فيهم حتى كاد يفنيهم، وخرّب قراهم، وأطاعه أصحابه طاعة لم يطيعوا أحدا قبله، فاشتدت شوكته فغلب على سجستان(25/373)
وأظهر التمسك بطاعة الخليفة، وكاتبه وصدر عن أمره وأظهر أنّه أمره بقتال الشراة، وملك يعقوب سجستان وضبط الطريق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فكثر اتباعه.
ذكر ملك يعقوب هراة وبوشنج
قال «1» : ولما كثرا أتباعه خرج عن حدّ طلب الشراة، فصار يتناول أصحاب أمير خراسان، وسار من سجستان إلى هراة من أعمال خراسان في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وأمير خراسان يومذاك محمد بن طاهر بن عبد الله، وعامله على هراة محمد بن أوس الأنبارى فخرج منها لمحاربته، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج وصارت المدينتان في يده، فعظم أمره وهابه أمير خراسان وغيره من أصحاب الأطراف، وذلك في خلافة المعتز بالله.
ذكر استيلائه على كرمان
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين استولى يعقوب بن الليث على كرمان، وسبب ذلك أن علىّ بن الحسين بن سبل كان على فارس، فتباطأ بحمل الخراج منها وكتب إلى المعتز بالله يطلب منه كرمان، ويذكر عجز الطاهريّة عنها، فكتب إليه بولايتها وكتب إلى يعقوب أيضا بولايتها، وقصد بذلك إغراء كل واحد منهما بالآخر فتسقط.(25/374)
عنه مؤونة الهالك منهما وينفرد بالآخر، وكان كل منهما يظهر الطاعة للخليفة وهو في باطن أمره على معصيته، والمعتز يعلم بذلك منهما، فأرسل علىّ بن الحسين، طوق بن المغلّس إلى كرمان، وسار يعقوب إليها فسبقه طوق واستولى عليها، وأقبل يعقوب حتى بقى بينه وبين عسكر كرمان مرحلة، فأقام بها شهرين لا يتقدّم إلى طوق، ولا طوق يخرج إليه، فلمّا طال ذلك عليه أظهر الارتحال إلى سجستان ورجع مرحلتين، وبلغ طوقا ارتحاله فظنّ أنّه قد بدا له في حربه، فوضع آلة الحرب وقعد للشرب واللهو، واتصل ذلك بيعقوب فكرّ راجعا وطوى المرحلتين في مرحلة «1» واحدة، فلم يشعر طوق إلا بغبرة العسكر قد طلعت، فقال: ما هذا؟ فقيل غبرة المواشى، فلم يكن بأسرع من موافاة يعقوب فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحابه يريدون المناهضة والدفع عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه:
أفرجوا لهم، فأفرجوا لهم فمروا هاربين وتركوا أموالهم وأثقالهم، وأسر يعقوب طوقا، وكان علىّ بن الحسين قد سيّر مع طوق قيودا في صناديق، ليقيّد بها من يأخذه من أصحاب يعقوب، وفي صناديق أطوقة وأساور يعطيها لأصحاب البلاء من أصحابه، فلمّا غنم يعقوب عسكرهم رأى ذلك فقال يا طوق: ما هذا؟ فأخبره، فأعطى»
يعقوب الأطوقة والأساور لأصحابه، وقيّد بالقيود والأغلال أصحاب علىّ، ولما أخرج يد طوق ليجعل الغلّ فيها رآها يعقوب وعليها عصابة، فسأله عنها فقال: أصابتنى حرارة ففصدتها، فأمر(25/375)
يعقوب بنزع خف نفسه فتساقط منه كسر يابسة، فقال: يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلى منذ شهرين، وخبزى فيه منه آكل، وأنت جالس في الشرب، ثم دخل كرمان وملكها مع سجستان.
ذكر ملكه فارس
قال: ولما بلغ على بن الحسين صاحب فارس ما فعله يعقوب بطوق أيقن بمجيئه إليه وكان بشيراز، فجمع جيشه وصار إلى مضيق خارج شيراز، من أحد جانبيه جبل لا يسلك، ومن الآخر نهر لا يخاض على رأس المضيق، وهو مضيق لا يسلكه إلا واحد بعد واحد وقال: إن يعقوب لا يقدر على الجواز إلينا، وأقبل يعقوب حتى دنا من ذلك المضيق ونزل على ميل منه، وسار وحده ومعه رجل آخر فنظر إلى المضيق والعسكر فسبّه أصحاب علىّ وهو ساكت، ثم رجع إلى أصحابه، فلما كان الغد سار حتى صار إلى طريق المضيق مما يلى كرمان، وأمر أصحابه بالنزول وحطّ الأثقال ففعلوا وركبوا دوابّهم وأخذ يعقوب كلبا كان قد ألفه فألقاه في الماء، فجعل يسبح إلى جانب أصحاب علىّ، وكان علىّ وأصحابه قد ركبوا لينظروا إلى فعله ويضحكون منه، فألقى يعقوب نفسه وأصحابه في الماء على خيولهم وبأيديهم الرماح، وجعلوا يسيرون خلف الكلب، فلما رأى علىّ يعقوب وقد قطع عامّة النهر تحيّر في أمره، وانتقض عليه ما كان قد دبّره، وخرج أصحاب يعقوب فلما صار أوائلهم في البرّ هرب(25/376)
أصحاب علىّ إلى مدينة شيراز، فسقط «1» علىّ بن الحسين عن فرسه فأخذ أسيرا، وأتى به إلى يعقوب فقيّده واحتوى على ما كان في عسكره، ثم رحل من موضعه ودخل شيراز ليلا فلم يتحرّك أحد، فلمّا أصبح انتهب أصحابه دار علىّ ودور أصحابة، وأخذ ما في بيوت الأموال وجبى الخراج، ورجع إلى سجستان. وقيل إنه كان بينه وبين علىّ حرب بعد عبور النهر، وذلك أن عليا كان قد جمع عنده جمعا كثيرا من الموالى والأكراد وغيرهم، بلغت عدّتهم خمسة عشر ألفا من فارس وراجل، وعبأ أصحابه وأقبل يعقوب وعبر النهر فلما صاروا في أرض واحدة حمل يعقوب وعسكره حملة رجل واحد، وتابع الحملات حملة بعد أخرى فانهزم أصحاب علىّ، وتبعهم وهو يصيح بهم فلا يرجعون، وقتل الرجّالة قتلا ذريعا، وأقبل المنهزمون إلى باب شيراز وقت العصر، فازدحموا إلى الأبواب وتفرّقوا في نواحى فارس، وبلغ بعضهم إلى الأهواز فأمر يعقوب بالكف عنهم، وكانت القتلى منهم خمسة آلاف؛ قيل وأصاب على بن الحسين ثلاث جراحات ثم أخذ أسيرا.
ودخل يعقوب مدينة شيراز وطاف بها، ونادى بالأمان فاطمأن الناس، وعذّب على بن الحسين بأنواع العذاب، وأخذ من أمواله ألف بدرة وقيل أربعمائة، وأخذ من السلاح والأقمشة وغير ذلك مالا يحدّ، وكتب إلى الخليفة المعتز بالله بطاعته، وأهدى له هدية جليلة:
منها عشرة بزاة بيض وباز أبلق صينى ومائة منّ من المسك وغير ذلك(25/377)
من الطرائف، وعاد إلى سجستان ومعه علىّ وطوق، فلما فارق بلاد فارس أرسل الخليفة عماله إليها.
ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين سار يعقوب إلى بلاد فارس، فأرسل إليه المعتمد على الله ينكر ذلك، وكتب إليه الموفق أخو المعتمد بولاية بلخ وطخارستان وسجستان والسّند فقبل ذلك، وعاد وسار إلى بلخ وطخارستان، فلما وصل نزل بظاهرها وخرّب نوشاد؛ وهى أبنية كان قد بناها داود بن العبّاس خارج بلخ، ثم سار إلى كابل واستولى عليها وقبض على رتبيل «1» ، وأرسل رسولا إلى الخليفة بهديّة جليلة المقدار، وفيها أصنام أخذها من كابل وتلك البلاد، وسار إلى بست فأقام بها سنة، وسبب إقامته أنّه أراد الرحيل فرأى قوّاده قد حمل بعض أثقاله، فغضب وقال: ترحلون قبلى!! ثم أقام سنة، وسار إلى بوشنج وقبض على الحسين بن طاهر بن الحسين، فأنفذ إليه محمد بن طاهر بن عبد الله يسأله في إطلاقه فلم يجب سؤله.
ذكر ملكه نيسابور
وفي شوال سنة تسع وخمسين ومائتين دخل يعقوب نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السّجزى كان ينازع يعقوب سجستان فلما قوى أمر يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر، وطلبه يعقوب(25/378)
منه فلم يفعل، فسار نحوه إلى نيسابور فلما قرب منها وأراد دخولها وجّه إليه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقّيه، فلم يأذن له فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه، ودخل نيسابور وأرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد بن طاهر في عمله، وأن أهل خراسان سألوه المصير إليهم، ويذكر غلبة العلويين على طبرستان وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه ذلك وأمره بالاقتصار على ما أسند إليه، وألا يسلك معه مسلك المخالفين. وقيل بل كان سبب ذلك أنّه كتب إلى محمد يعلمه أنّه على قصد طبرستان، ليمضى ما أمره به الخليفة في الحسن بن زيد العلوى المتغلّب عليها، وأنّه لا يتعرض إلى شىء من عمله ولا إلى شىء من أسبابه، وكان بعض خاصّة محمد وأهله لمّا رأوا إدبار أمره مالوا إلى يعقوب، وكاتبوه واستدعوه وهوّنوا على محمد أمر يعقوب، وأعلموه أنّه لا خوف عليه منه وثبّطوه عن التحرّز منه، فركن محمد إلى قولهم حتى قرب يعقوب من نيسابور، فوجّه إليه قائدا من قوّاده بطيّب قلبه، وأمره بمنعه عن الانتزاح من نيسابور إن أراد ذلك، ثم وصل يعقوب إلى نيسابور في رابع شوّال، وأرسل أخاه عمرو بن الليث إلى محمد بن طاهر فأحضره عنده، فقبض عليه وقيّده وعنّفه على إهماله أمر عمله وعجزه عن حفظه، ثم قبض على جميع أهله، وكانوا نحوا من مائة وستين رجلا، وحملهم إلى سجستان واستولى على خراسان، ورتّب نوّابه في الأعمال، وكانت ولاية محمد بن طاهر خراسان إحدى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام.(25/379)
ذكر دخوله طبرستان
وفي سنة ستين ومائتين سار يعقوب إلى طبرستان وملكها، وسبب ذلك أنّه لمّا دخل نيسابور هرب منه عبد الله السّجزى إلى الحسن بن زيد بسارية، فأرسل يعقوب إلى الحسن يسأله أن يبعثه إليه ويرجع عنه، فإنّه إنما جاء لذلك لا لحربه فلم يسلّمه الحسن، فحاربه يعقوب فانهزم الحسن ودخل بلاد الديلم ودخل يعقوب سارية وآمل، وجبى من أهلها خراج سنة، ثم سار في طلب الحسن بن زيد فصار إلى بعض جبال طبرستان، فتتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص إلا بمشقّة شديدة، وهلك عامّة ما معه من الظهر، ثم أراد الدخول خلف الحسن فوقف على الطريق الذى يريد يسلكه، وأمر أصحابه بالتوقّف عن المسير، ثم تقدّم وحده فتأمّل الطريق ورجع إليهم، فأمرهم بالانصراف وقال: إن لم يكن طريق غير هذا فلا طريق إليه، وكان نساء تلك الناحية قلن للرجال:
دعوه يدخل فإنه إن دخل كفيناكم أمره وعلينا أسره لكم، فلمّا خرج من طبرستان عرض رجاله ففقد منهم أربعين ألفا، وذهب أكثر ما معه من الخيل والإبل والأثقال.
وكتب إلى الخليفة بما فعله من هزيمة الحسن، وسار إلى الرى في طلب عبد الله السجزى، فإنه كان قد سار إليها بعد هزيمة الحسن فلما قاربها يعقوب كتب إلى واليها الصلابى «1» ، يخيّره بين تسليم(25/380)
عبد الله إليه ويرحل عنه وبين المحاربة، فسلّمه إليه فانصرف يعقوب عنه وقتل عبد الله السجزى.
ذكر عود يعقوب الى بلاد فارس والحرب بينه وبين محمد بن واصل
كان سبب ذلك أن محمد بن واصل كان قد تغلّب على فارس وقتل الحارث بن سيما، فأضاف المعتمد على الله فارس والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة إلى موسى بن بغا مع ما كان إليه، فوجّه موسى، عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إيّاها مع فارس وأضاف إليه طاشتمر، فقاتله محمد بن واصل برام هرمز، فانهزم عبد الرحمن وأخذ أسيرا وقتل طاشتمر، وغنم ما كان في عسكرهما، فأرسل الخليفة إلى محمد بن واصل في إطلاق عبد الرحمن، فلم يفعل وقتله وأظهر أنّه مات، وسار ابن واصل من هذه الوقعة- وقد أظهر أنّه يريد واسط- لحرب موسى بن بغا، فلما رأى موسى شدّة الأمر استعفى من ولاية فارس؛ فلما بلغ ذلك يعقوب- وكان بسجستان، تجدّد طمعه في ملك بلاد فارس، وأخذ ما غنمه ابن واصل من الخزائن والسلاح من عبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر، فسار يعقوب حتى نزل البيضا من أرض فارس، فبلغ ابن واصل خبره وهو بالأهواز، فعاد منها لا يلوى على شىء، وأرسل خاله أبا بلال مرداسا إلى يعقوب فوصل إليه وضمن له طاعة محمد بن واصل، فأرسل يعقوب إلى محمد كتبا ورسلا في المعنى فحبسهم ابن واصل، وسار يطلب يعقوب(25/381)
والرسل معه، وهو يريد بذلك أن يخفى خبر مسيره، وأن يصل بغتة فينال منه غرضه ويوقع به، فسار في يوم شديد الحرّ في أرض صعبة المسلك، وهو يظن أن خبره قد خفى عن يعقوب، فلما كان وقت الظهر تعبت دوابّهم، فمات من أصحاب ابن واصل أكثر الرجّالة جوعا وعطشا وتعبا، وبلغ خبرهم يعقوب فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر، وقال لأبى بلال: إنّ ابن واصل قد غدر بنا وحسبنا الله ونعم الوكيل، وسار يعقوب إليه فلما قاربه ضعفت نفوس أصحاب ابن واصل عن مقاومته، فلما صار بينهما رميه سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال، وتبعهم أصحاب يعقوب وأخذوا منهم جميع ما غنموه من عسكر عبد الرحمن، واستولى يعقوب على بلاد فارس ورتّب بها أصحابه وأصلح أحوالها، ومضى ابن واصل منهزما وأخذ أمواله من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهم، وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل، وحدّث نفسه أنّه يستولى على الأهواز وغيرها.
ذكر الحرب بين الموفق ويعقوب
وفي سنة اثنتين وستين ومائتين في المحرم سار يعقوب من فارس إلى الأهواز، فلما بلغ المعتمد على الله إقباله أرسل إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وأطلق من كان في حبسه من أصحاب يعقوب، وكان قد حبسهم لما أخذ يعقوب، محمد بن طاهر، وجاءت رسالة يعقوب إلى الخليفة فجلس أبو أحمد الموفّق وأحضر التجّار، وأخبرهم بتولية يعقوب طبرستان وخراسان وجرجان والرى وفارس والشرطة(25/382)
ببغداد، وذلك بمحضر من درهم حاجب يعقوب؛ وكان قد أرسله يطلب هذه الولاية، فأعاده الموفّق إلى يعقوب ومعه عمر بن سيما بما أضاف إليه من الولايات، فعادت رسل يعقوب تقول: إنه لا يرضيه ذلك دون أن يصير إلى باب المعتمد، وارتحل يعقوب وسار إليه أبو الساج وصار معه، فأكرمه. وأحسن إليه ووصله، وسار يعقوب إلى واسط فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين، وارتحل المعتمد على الله من بغداد إلى الزعفرانيّة وقدّم أخاه الموفّق أمامه، وسار يعقوب من واسط إلى دير العاقول بالعساكر لمحاربته، فجعل الموفّق على ميمنته موسى بن بغا وعلى ميسرته مسرورا البلخى وقام هو في القلب، والتقوا واقتتلوا فحملت ميسرة يعقوب على ميمنة الموفّق فهزمتها، وقتل جماعة من القوّاد ثم تراجع المنهزمون، وكشف الموفّق رأسه وقال. أنا الغلام الهاشمى، وحمل وحمل معه سائر العسكر فثبت عسكر يعقوب، وتحاربوا حربا شديدا فقتل من أصحاب يعقوب جماعة، منهم حسن الدرهمىّ وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم، ولم تزل الحرب قائمة إلى وقت العصر فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت هو في خاصّة أصحابه ثم مضوا وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفّق وغنموا ما في عسكره، وكان فيه الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف، ومن الأموال ما لا يحصى كثرة، ومن جرب المسك عدّة كثيرة، وخلص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، فخلع عليه الموفّق وولاة الشرطة ببغداد، وسار يعقوب من موضع الهزيمة إلى خوزستان ونزل جنديسابور، فراسله.(25/383)
العلوى فقال لكاتبه اكتب إليه: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» ..)
إلى آخرها وسيّر الكتاب إليه، وكانت هذه الوقعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب، وكتب المعتمد إلى محمد بن واصل بولاية فارس فعاد إليها «2» .
ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها
وفي سنة ثلاث وستين ومائتين أقبل يعقوب من فارس، فلمّا بلغ النّوبندجان انصرف أحمد بن الليث عن تستر، فبلغ يعقوب جنديسابور ونزلها، فارتحل عن تلك الناحية من كان بها من عسكر الخليفة، ووجّه يعقوب إلى الأهواز رجلا من أصحابه يقال له الخضر ابن العنبر، فلمّا قاربها خرج عنها على بن أبان ومن معه من الزنج ونزل نهر السّدرة، ودخل الخضر الأهواز وجعل أصحابه وأصحاب على بن أبان يغير بعضهم على بعض وينال بعضهم من بعض، إلى أن استعدّ على بن أبان وسار إلى الأهواز، فأوقع بالخضر ومن معه من أصحاب يعقوب وقعة عظيمة، قتل فيها من أصحاب الخضر خلقا كثيرا وهرب الخضر ومن معه، وأقام علىّ بالأهواز يستخرج ما كان فيها، ورجع إلى نهر السّدرة وسيّر طائفة إلى دورق فأوقعوا بمن كان هناك من أصحاب يعقوب، فأنفذ يعقوب إلى الخضر مددا، وأمره بالكف عن قتال الزنج والاقتصار على المقام بالأهواز، فلم يجب على(25/384)
ابن أبان إلى ذلك دون نقل طعام كان هناك، فأجابه يعقوب إلى ما طلب ونقل الطعام، وترك العلف بالأهواز وكف بعضهم عن بعض.
ذكر وفاة يعقوب بن الليث وولاية أخيه عمرو
كانت وفاته في تاسع عشر شوّال سنة خمس وستين ومائتين بجنديسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء، فامتنع واختار الموت على ذلك، وكان المعتمد على الله قد أنفذ إليه رسولا وكتابا يستميله ويسترضيه، وقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض فجلس له، وجعل عنده سيفا ورغيفا من الخبز الخشكار وبصلا، وأحضر الرسول وسمع رسالته وقال له: قل للخليفة إنّنى عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت منّى، وإن عوفيت فليس بينى وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأرى أو تكسرنى وتعقرنى «1» فأعود إلى هذا الخبز والبصل وأعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن مات.
وكان الحسن بن زيد العلوى- صاحب طبرستان- يسمّى يعقوب السندان لثباته، وكان يعقوب قد افتتح الرّخج وقتل ملكها البتبر «2» وكان هذا الملك يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلا، وابتنى بيتا على جبل عال سمّاه مكة، وكان يدّعى الإلهيّة فقتله(25/385)
يعقوب، وافتتح الخلجية «1» وزابل وغير ذلك، وكان عاقلا حازما وكان يقول: كل من عاشرته أربعين يوما فلا تعرف أخلاقه لا تعرفها في أربعين سنة.
ذكر ولاية عمرو بن الليث
كانت ولايته بعد وفاة أخيه يعقوب في تاسع شوّال سنة خمس وستين ومائتين، ولمّا ولى كتب إلى الخليفة بطاعته، فولا الموفّق خراسان وأصفهان وسجستان والسند وكرمان والشرطة ببغداد وأشهد عليه بذلك وسيّر إليه العهد والخلع، فاستخلف عمرو بن الليث، عبيد الله بن عبد الله بن طاهر على الشرطة ببغداد وسامرّا في صفر سنة ست وستين، وخلع عليه الموفّق أيضا، ولم يزل عمرو في هذه الولايات إلى أن عزله المعتمد في شهور سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأدخل عليه حاج خراسان وأعلمهم أنّه عزل عمرو بن الليث عمّا كان قلّده، ولعنه بحضرتهم وأعلمهم أنّه قد قلّد خراسان لمحمد ابن طاهر، وأمر يلعن عمرو على المنابر فلعن.
وسار صاعد «2» بن مخلّد إلى فارس لحرب الصفّاريّة، واستخلف محمد بن طاهر على خراسان رافع بن هرثمة، ثم كانت الحرب بين عمرو بن الليث وعسكر الخليفة وعليهم أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف،(25/386)
ودامت الحرب بينهم من أوّل النهار إلى الظهر، فانهزم عمرو وأصحابه وكانوا خمسة عشر ألفا، وجرح الدرهمىّ مقدّم جيش عمرو، وقتل مائة رجل من جماتهم «1» وأسر ثلاثة آلاف أسير وغنموا معسكر عمرو، وكان الذى غنموه من الدوابّ والبقر والحمر ثلاثين ألف رأس، وما سوى ذلك فلا يدخل تحت الاحصاء، وذلك في عاشر شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وسبعين ومائتين.
وفي سنة أربع وسبعين سار الموفّق إلى فارس لحرب عمرو بن الليث في شهر ربيع الأوّل، فبلغ عمرو الخبر فسيّر عبّاس بن إسحاق في جمع كثير من العسكر إلى سيراف، وأنفذ ابنه محمد بن عمرو إلى أرّجان، وسيّر أبا طلحة شركب صاحب جيشه على مقدّمته، فاستأمن أبو طلحة إلى الموفّق، وسمع عمرو ذلك فتوقف عن قصد الموفّق، ثم عزم أبو طلحة على العود إلى عمرو فبلغ الموفّق خبره.
فقبض عليه بقرب شيراز وجعل ماله لابنه المعتضد، وسار يطلب عمرا فعاد عمرو إلى كرمان ثم إلى سجستان على المفازة فتوفى ابنه بالمفازة، وعاد الموفق.(25/387)
ذكر أسر عمرو بن الليث وقتله وانقراض الدولة الصفارية
وفي سنة سبع وثمانين ومائتين في شهر ربيع الأوّل منها كانت الحرب بين عمرو بن الليث وإسماعيل بن أحمد السامانى، صاحب ما وراء النهر، فأجلت الحرب عن هزيمة أصحاب عمرو وأسره كما قدّمناه مبيّنا في أخبار الدولة السامانية، وخيّره إسماعيل في المقام عنده أو إرساله إلى الخليفة المعتضد بالله، فاختار أن يتوجّه إلى المعتضد فسيّره إليه، فوصل إلى بغداد في سنة ثمان وثمانين، فلما وصل أدخل بغداد على جمل، ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع وثمانين ومائتين
ذكر أخباره وشىء من سيرته
كان عمرو أعور شديد الشره «1» عظيم السياسة، قد منع قوّاده وأصحابه أن يضرب أحد منهم غلامه إلا بأمره، وكان يشترى المماليك الصغار ويربّيهم ويهبهم إلى القوّاد، ويجرى عليهم الجرايات السنيّة ليطالعوه بأخبار القوّاد، فلا ينكتم عنه شىء من أمرهم ولا يعلمون من ينقل إليه الأخبار، وكان كثير المصادرات لعمّاله وخواصه.
حكى عنه أنّ محمد بن بشير أكبر حجّابه- وكان يخلفه في جلائل الأمور والحروب المعضلة- فدخل عليه يوما، فأخذ يعدّد عليه ذنوبه فحلف محمد بن بشير بالله وبالطلاق أنّه لا يملك غير خمسين(25/388)
بدرة، وهو يحملها إلى الخزانة ولا يجعل له ذنبا لم يعلمه، فقال له عمرو: ما أعقلك من رجل؟ احملها فحملها، ولا شىء أقبح من هذا الفعل، ومع ذلك فقد حكى القاضى «1» عياض بن موسى في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن الإمام أبى القاسم القشيرى أنّ عمرا رؤى في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال:
غفر لى، فقيل: بماذا؟ قال: صعدت ذروة جبل يوما فأشرفت على جنودي، فأعجبتنى كثرتهم فتمنّيت أنّى حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعنته ونصرته، فشكر الله لى ذلك وغفر لى.
وانقرضت هذه الدولة بأسر عمرو، وكانت مدتها خمسا وثلاثين ستة، أيام يعقوب ثلاث عشرة سنة وأيام عمرو اثنتين وعشرين سنة.
ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستانى
وهذه النسبة إلى خجستان وهى من جبال هراة من أعمال باذغيس وكان أحمد بن عبد الله هذا من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور ضمّ أحمد هذا إلى أخيه على بن الليث وكان بنو شركب ثلاثة إخوة: إبراهيم وأبو حفص يعمر وأبو طلحة منصور بنو مسلم، وإبراهيم أسنّهم، وكان قد أبلى بين يدى يعقوب(25/389)
عند مواقعته للحسن بن زيد العلوى بجرجان بلاء حسنا، فقدّمه يعقوب فدخل عليه يوما بنيسابور وكان اليوم شديد البرد، فخلع عليه يعقوب وبرسمّور كان على كتفه، فحسده أحمد الخجستانى وجاء إليه وقال: إن يعقوب يريد الغدر بك، لأنه لا يخلع على أحد من خاص ملبوسه إلا غدر به فقال إبراهيم: فكيف الخلاص؟
فقال: الحيلة أن نهرب جميعا إلى أخيك يعمر، وكان يحاصر بلخ ومعه خمسة آلاف رجل، فاتّفقا على ذلك وتواعدا للخروج في تلك الليلة، فسبقه إبراهيم إلى الموعد وانتظره ساعة فلم يره، فسار نحو سرخس وذهب الخجستانى إلى يعقوب فأعلمه، فأرسل في أثر إبراهيم فأدركوه بسرخس فقتلوه، ومال يعقوب إلى أحمد، فلما أراد يعقوب العود إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السرىّ وولّى أخاه عمرو بن الليث هراة، فاستخلف عمرو وعليها طاهر بن حفص الباذغيسى، وسار يعقوب إلى سجستان في سنة إحدى وستين ومائتين، وأحبّ الخجستانى التخلّف لما كان يحدّث به نفسه، فقال لعلى بن الليث: إن أخويك قد اقتسما خراسان، وليس لك بها ما يقوم بشغلك، وأحبّ أن تردّنى إليها لأقوم بأمورك، فاستأذن أخاه يعقوب فى ذلك فأذن له، فلمّا حضر أحمد لوداع يعقوب أحسن إليه وخلع عليه، فلما ولّى عنه قال: أشهد أن قفاه قفا غادر مستعص، وهذا آخر عهدنا بطاعته، فلما فارقهم جمع نحو مائة رجل فورد بهم بست نيسابور، فحارب عاملها وأخرجه عنها وجباها ثم خرج إلى قومس.
فغلب على بسطام وقتل بها مقتلة عظيمة وذلك في سنة إحدى وستين وسار إلى نيسابور وبها عزيز بن السرى فهرب منها، وأخذ أحمد(25/390)
أثقاله واستولى على نيسابور، ودعا للطاهريّة وذلك في أول سنة اثنتين وستين.
وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه فقدم عليه، فجعله قائد جيشه، وكتب إلى يعمر ابن شركب- وهو يحاصر بلخ- يستقدمه ليتّفقا على تلك البلاد، فلم يثق إليه لما تقدّم له مع أخيه إبراهيم، وسار يعمر إلى هراة فحاربه طاهر بن حفص فقتله واستولى على أعماله فسار إليه أحمد وكان بينهما مناوشات، وكان أبو طلحة منصور ابن شركب غلاما من أحسن الغلمان، وكان عبد الله بن لال «1» يميل إليه وهو أحد قوّاد يعمر، فراسل ابن لال، الخجستانىّ أن يعمل ضيافة ليعمر وأصحابه ويدعوهم إليه وأن يكبسهم أحمد وأنّه يساعده، واشترط عليه أنّه إذا ظفر يسلّم إليه أبا طلحة، فأجابه أحمد إلى ذلك وتواعدا على يوم، وعمل ابن لال ضيافة وحضرها يعمر، فكبسهم أحمد وقبض على يعمر وسيّره إلى نيسابور فقتله، واجتمع لأبى طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن لال، وساروا إلى نيسابور وبها الحسين بن طاهر أخو محمد، وقد وردها من أصفهان طمعا أن أحمد يخطب لهم، كما كان يظهر من نفسه فلم يفعل، فخطب ابن طاهر بها لأبى طلحة وأقام معه، فسار الخجستانى من هراة في اثنى عشر ألف عنان، فأقام على ثلاث مراحل من نيسابور، ووجّه أخاه العبّاس إليها فخرج إليه أبو طلحة وقاتلة، فقتل العبّاس وانهزم أصحابه فعاد أحمد إلى هراة.(25/391)
ثم كاتبه أهل نيسابور في الحضور إليهم، فسار إليهم وقدم البلد ليلا، ففتحوا له الباب ودخلها، وسار عنها أبو طلحة إلى الحسن ابن زيد، فأمدّه بالجنود فعاد إلى نيسابور فلم يظفر بشىء، فتوجّه إلى بلخ وذلك في سنة خمس وستين، ثم سار الخجستانى لمحاربة الحسن بن زيد لمساعدته لأبى طلحة، فاستعان الحسن بأهل جرجان فأعانوه، فهزمهم الخجستانى وجبى منهم أربعة آلاف ألف درهم وذلك فى شهر رمضان من السنة. وتوفى يعقوب بن الليث في هذه السنة وولى مكانه أخوه عمرو، فوافى الخجستانى نيسابور واقتتلا فهزمه الخجستانى، فرجع إلى هراة وأقام أحمد بنيسابور، ثم سار إلى هراة فى سنة سبع وستين فحصر عمرا ولم يظفر بشىء، ثم كان له حروب مع أبى العبّاس النوفلى وغيره، فظفر بالنوفلى وكان قد جاء لحربه من قبل محمد بن طاهر في خمسة آلاف رجل وقتله، ثم سار إلى أبيورد وجبى خراج مرو، ولم يزل كذلك إلى سنة ثمان وستين ومائتين.
فقتله غلامه زامجور «1» غيلة وكان قد سكر ونام ثم قتل الغلام.
واجتمع أصحاب أحمد الخجستانى وانضمّوا إلى رافع بن هرثمة.
وكان أحمد هذا كريما جوادا شجاعا حسن العشرة كثير البرّ لإخوانه الذين صحبوه قبل إمارته، ولم يتغيّر عليهم ما كان يعاملهم به من التواضع والأدب.(25/392)
ذكر أخبار رافع بن هرثمة
كان رافع بن هرثمة من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور وأزال الطاهريّة عنها التحق رافع به، فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع، وكان طويل اللحية كريه المنظر قليل الطلاقة، فدخل يوما على يعقوب فلما خرج من عنده قال:
إنّا لا نميل إلى هذا الرجل فليلحق بما شاء من البلاد، فقيل له ذلك ففارقه وعاد إلى منزله بتامين، فأقام إلى أن استقدمه أحمد الخجستانى كما ذكرنا وجعله صاحب جيشه، فلما قتل اجتمع الجيش عليه، وسار من هراة إلى نيسابور وكان أبو طلحة قد وردها من جرجان، فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنها، فاشتدّ الغلاء ففارقها أبو طلحة إلى مرو، وخطب رافع لمحمد بن طاهر، ثم قلّد الموفّق محمد بن طاهر أعمال خراسان وكان ببغداد، فاستخلف رافع بن هرثمة على أعمال خراسان، وسار رافع إلى خوارزم في سنة اثنتين وسبعين ومائتين فجبى أموالها، ورجع إلى نيسابور.
وفي سنة خمس وسبعين استولى رافع على جرجان، وأزال عنها محمد بن زيد وسار محمد إلى أستراباد فحصره بها رافع نحو سنتين، فغلت الأسعار وعدمت الأقوات وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة، ففارقها محمد ليلا في نفر يسير فتبعه رافع إلى أرض الديلم حتى اتصل(25/393)
بحدود قزوين، وعاد إلى الرى وأقام بها إلى أن توفى المعتمد «1» على الله في سنة تسع وسبعين ومائتين.
وإنما ذكرنا أخبار أحمد ورافع في هذا الموضع لتعلقهما بالدولة الصفارية «2» .(25/394)
شجرة بأسماء العلويين ممن جاء ذكرهم بهذا الجزء(25/395)
مراجع التحقيق
1- المقريزى: اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، طبع القاهرة، 1967 م.
2- السيوطى: الاتقان في علوم القرآن، طبع القاهرة، 1302 هـ.
3- محسن الأمين: أعيان الشيعة، طبع دمشق، 1940- 1946 م
4- الشرتونى: أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، طبع بيروت، 1889 م
5- ابن كثير: البداية والنهاية، طبع القاهرة، 1932 م
6- ليسترينج: بلدان الخلافة الشرقية، طبع كمبردج، 1930 م.
7- الزبيدى: تاج العروس، طبع القاهرة،: 1306 هـ
8- الأصفهانى: تاريخ ملوك الأرض، طبع كلكتا، 1866 م.
9- ابن مسكويه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم، طبع ليدن، 1869 م.(25/399)
10- الذهبى: تذكرة الحفاظ، طبع حيدر آباد، د. ت.
11- القاضى عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، طبع المكتبة التجارية، د. ت.
12- القرطبى؛ عريب بن سعد: صلة تاريخ الطبرى، طبع ليدن، 1897 م.
13- ابن سعد: الطبقات الكبرى، طبع أوروبا، 1905- 1921.
14- البلاذرى: فتوح البلدان، طبع ليدن، 1866 م.
15- الفيروز ابادى: القاموس المحيط، طبع القاهرة، 1344 هـ
16- ابن الأثير: الكامل، طبع أوروبا، 1876 م
17- الدوادارى: كنز الدرر وجامع الغرر، طبع القاهرة، 1961 م.
18- ابن منظور: لسان العرب، طبع القاهرة، 1301 هـ.
19- البغدادى: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، طبع القاهرة، 1954 م(25/400)
20- المسعودى: مروج الذهب ومعادن الجوهر، طبع باريس 1861 م؛ طبع القاهرة 1283 هـ.
21- الاصطخرى: المسالك والممالك، طبع القاهرة، 1961 م
22- ياقوت الحموى: معجم البلدان، طبع ليبزج، 1866 م
23- أبو الفرج الأصبهانى: مقاتل الطالبين، طبع القاهرة، 1949 م.
24- الشهرستانى: الملل والنحل، طبع لندن، 1842 م.
25- ابن الجوزى: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، مخطوط دار الكتب رقم 1296 تاريخ.
26- ابن خلكان: وفيات الأعيان، طبع القاهرة، 1948.(25/401)
فهرس الموضوعات
مقدمة المحقق 5
الباب السابع «1» فى أخبار من نهض في طلب الخلافة من الطالبيين في مدة الدولتين الأموية والعباسية
محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب وأخوه إبراهيم 7
ذكر حبس أولاد الحسن 17
ذكر حملهم إلى العراق 19
ذكر ظهور محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 23
ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد 40
ذكر تسمية المشهورين ممن كان مع محمد بن عبد الله بن حسن 50
ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب أخى محمد 52
ذكر مسير إبراهيم ومقتله 57
ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب رضى الله عنه، وهو المقتول بفخ 66(25/403)
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 71
ذكر ظهور محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المعروف بابن طباطبا 73
محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على 73
ذكر ظهور إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب وما كان من أمره 74
ذكر ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب وهو المكنى بأبى الحسين 75
ذكر ظهور الحسين بن محمد 78
ذكر خبر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن على 79
ذكر ظهور على بن زيد العلوى بالكوفة وخروجه عنها 80
ذكر أخبار الدولة العلوية بطبرستان، الداعى إلى الحق الحسن بن زيد 81
ذكر ملك الحسن بن زيد جرجان 85
ذكر وفاة الحسن بن زيد وشىء من أخباره وسيرته 86
ذكر أخبار محمد بن زيد 88
ذكر مقتل محمد بن زيد وشىء من أخباره 91
ذكر أخبار الناصر للحق 93
الحسن بن القاسم الداعى العلوى 97
ملك أسفار جرجان 100
ذكر ظهور أبى عبد الله محمد بن الحسين الحسنى المعروف بابن الداعى 120(25/404)
الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار صاحب الزنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل.
ذكر أخبار صاحب الزنج وابتداء أمره وسبب خروجه 104
ذكر دخول الزنج الأبله 115
ذكر أخذ الزنج الأهواز 115
ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب وغلبة الزنج 116
ذكر انهزام الزنج بالأهواز 117
ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها 118
ذكر مسير المولد لحرب صاحب الزنج وانتصار صاحب الزنج 120
ذكر الحرب بين منصور الخياط والزنج وقتل منصور 120
ذكر مسير أبى أحمد الموفق لقتال الزنج وقتل مفلح 121
ذكر مقتل يحيى بن محمد البحرانى 122
ذكر عود أبى أحمد الموفق إلى سمر واستخلافه محمد المولد على حرب الزنج 124
ذكر دخول الزنج الأهواز، ومسير موسى بن بغا لحربهم 125
ذكر انتداب أبى أحمد الموفق لحرب الزنج وما شغله عن ذلك واستعماله مسرورا البلخى على حربهم وما كان في خلال ذلك من أخبارهم 128
ذكر دخول الزنج واسط وما تقدم ذلك من الحروب والوقائع 132
ذكر وقائع كانت بين الزنج وبين أحمد بن ليثويه وتكين البخارى واغرتميش في سنة خمس وسنة ست وستين ومائتين 135
ذكر دخول الزنج رامهرمز 138(25/405)
ذكر مسير أبى العباس بن الموفق وهو المعتضد بالله إلى حرب الزنج وانتزاعه عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة 140
ذكر مسير الموفق لقتال الزنج وفتح المنيعة 145
ذكر استيلاء أبى أحمد الموفق على طهيثا 147
ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنها 149
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة 152
ذكر عبو الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده إليها 157
ذكر إيقاع أبى العباس بن الموفق بالأعراب وانقطاع الميرة عن الزنج، ومقتل بهبوذ بن عبد الوهاب 162
ذكر إحراق قصر صاحب الزنج، وما يتصل بذلك من الحروب والوقائع 166
ذكر غرق نصير صاحب الشذا 169
ذكر احراق قنطرة صاحب الزنج 170
ذكر انتقال صاحب الزنج إلى الجانب الشرقى وإحراق سوقه 171
ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربية 174
ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الشرقية 178
ذكر مقتل صاحب الزنج 180
ذكر أخبار القرامطة وابتداء أمرهم، وما كان من أخبارهم، وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهم 187
ذكر ما فرضه قرمط على من دخل في دعوته، واستجاب له وكيف نقلهم في استئصال أموالهم من اليسير إلى الكثير حتى استقام له أمرهم 193
ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه ويستميلونه إلى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة إلى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الإسلام من عنقه 195(25/406)
ذكر صفة الدعوة الثانية 202
ذكر صفة الدعوة الثالثة 203
ذكر صفة الدعوة الرابعة 205
ذكر صفة الدعوة الخامسة 207
ذكر صفة الدعوة السادسة 209
ذكر صفة الدعوة الثامنة 211
ذكر صفة الدعوة التاسعة 213
ذكر العهد الذى يؤخذ على المخدوعين في مبدأ الدعوة الخبيثة 217
ذكر ابتداء دعوة القرامطة 227
ذكر انتقاض الدعوة عن حالتها الأولى، ومقتل عبدان، وما كان من أمر زكرويه بعده 229
ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى وظهوره بالبحرين 233
ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى على هجر، وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه 235
ذكر الحرب بين القرامطة أصحاب أبى سعيد وأهل عمان 238
ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة 239
ذكر مقتل أبى سعيد الجنابى 243
ذكر أخبار أبى القاسم الصناديقى ببلاد اليمن 245
ذكر ظهور القرامطة بالشام، وما كان من أمرهم وحروبهم 246
الحسن بن زكرويه بن مهرويه 249
ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة، والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم 251(25/407)
ذكر خبر إرسال زكرويه بن مهرويه، محمد بن عبد الله إلى الشام.
وما كان من أمره إلى أن قتل 258
ذكر إرسال زكرويه بن مهرويه، القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة، وما كان من امره 261
ذكر ظهور زكرويه بن مهرويه وقتاله عساكر الخليفة وأخذه الحاج، وما كان من أمره إلى أن قتل 265
ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه 275
ذكر أخبار أبى طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى 276
ذكر أخذ أبى طاهر الحاج، وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في إطلاقه 279
ذكر دخول إلى طاهر القرمطى الكوفة ورجوعه 285
ذكر دخول أبى طاهر القرمطى إلى العراق وقتل يوسف بن أبى الساج 287
ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بسواد العراق في أثناء وقائع أبى طاهر الجنابى 293
ذكر مسير أبى طاهر إلى مكة شرفها الله ونهبها وأخذ الحجر الأسود وإعادته، وما كان من أخباره في خلال ذلك 296
ذكر وفاة أبى طاهر بن أبى سعيد الجنابى وأخيه وقيام أخويهما بعده 303
ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود إلى الكعبة شرفها الله تعالى 303
ذكر ملك القرامطة دمشق ومسيرهم إلى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها 304
ذكر عود القرامطة إلى الشام، ووفاة الحسن بن أحمد 314
ذكر استيلاء القرامطة على الكوفة وخروجهم عنها 316
ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة 317
ذكر أخبار الخوارج ببلاد الموصل، مساور ومن بعده 318(25/408)
ذكر مقتل مساور بندارا الطبرى متولى طريق خراسان 319
ذكر استيلاء مساور على الموصل وخروجه منها 321
ذكر اختلاف الخوارج على مساور، وانتصاره على من خالفه وقتاله عساكر الخليفة 322
ذكر وفاة مساور وخبر من قام بعده إلى أن قام هارون البجلى 324
ذكر محاربة محمد بن خرّزاد هارون بن عبد الله، وما كان من خبر ابن خرزاد ومقتله واستقلال هارون بالأمر بمفرده 325
ذكر خروج محمد بن عباده على هارون وكلاهما خارجى 326
ذكر انهزام هارون من عسكر الموصل 328
ذكر مقتل هارون 329
الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية، وهم ملوك خراسان وما وراء النهر والجبال وطبرستان وغزنه والغور وبلاد السند والهند والدولة السامانية والدولة الصفارية والغزنوية والغورية والدولة الديلمية الختلية.
ذكر أخبار الدولة السامانية، وقيامها بما وراء النهر ونسب ملوكها وابتداء أمرهم 331
ذكر وفاة نصر وقيام أخيه إسماعيل 334
ذكر ملك إسماعيل خراسان 334
ذكر ملكه طبرستان 336
ذكر القبض على محمد بن هارون ووفاته 336
ذكر وفاة إسماعيل وولاية ابنه أحمد 337
أبو النصر أحمد بن إسماعيل 338(25/409)
ذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سجستان 339
مخالفة أهل سجستان على الأمير أحمد 340
ذكر مقتل الأمير أحمد وولاية ابنه نصر 341
أبو الحسن نصر بن أحمد 341
ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابنه إلياس 342
ذكر مخالفة منصور بن إسحاق 343
ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أسد ثانيا 345
ذكر استيلاء السعيد على الرى 346
ذكر مخالفة جعفر بن أبى جعفر بن أبى داود وعوده 347
ذكر خروج أبى زكريا وأخويه ببخارى 347
ذكر ولاية محمد بن المظفر خراسان 349
ذكر وفاة الأمير السعيد نصر بن أحمد وشىء ممن سيرته 350
نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو الخامس من الملوك السامانية 350
ذكر مخالفة أبى على بن محتاج على الأمير الحميد 352
ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان 355
ذكر عود أبى على إلى خراسان 355
ذكر وفاة الأمير الحميد نوح بن نصر وولاية ابنه عبد الملك 356
ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن نصر بن أحمد بن اسماعيل بن أحمد، وهو السادس من الملوك السامانية 356
ذكر ولاية منصور بن نوح بن نصر بن أحمد، وهو السابع من الملوك السامانية 357
ذكر الصلح بين الأمير منصور وبين بنى بويه 358
ذكر وفاة الأمير منصور 358(25/410)
ذكر ولاية المنصور أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد ابن إسماعيل بن أحمد، وهو الثامن من الملوك السامانية 359
ذكر ملك الترك بخارى وشىء من أخبارهم وخروج الأمير نوح منها وعوده إليها 361
ذكر عود نوح إلى بخارى، ووفاة بغراخان وقيام ايليك الخان 363
ذكر ما كان من أخبار أبى على بن سيمجور وفايق واستعمال محمود بن سبكتكين على خراسان 364
ذكر وفاة الأمير نوح بن منصور 366
ذكر ولاية أبى الحارث منصور بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر ابن أحمد بن إسماعيل بن أحمد، وهو التاسع من الملوك السامانية 367
ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح وسمله 368
ذكر ولاية عبد الملك بن نوح بن منصور 368
ذكر انقراض الدولة السامانية 368
ذكر ظهور إسماعيل بن نوح وما اتفق له بخراسان 370
ذكر أخبار الدولة الصفارية وابتداء أمرها 373
ذكر ملك يعقوب هراة وبوشنج 374
ذكر استيلائه على كرمان 374
ذكر ملكه فارس 376
ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرها 378
ذكر ملكه نيسابور 387
ذكر دخوله طبرستان 380
ذكر عود يعقوب إلى بلاد فارس والحرب بينه وبين محمد بن واصل 381
ذكر الحرب بين الموفق ويعقوب 382(25/411)
ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرها 384
ذكر وفاة يعقوب بن الليث وولاية أخيه عمرو 385
ذكر ولاية عمرو بن الليث 386
ذكر أسر عمرو بن الليث وقتله وانقراض الدولة الصفارية 388
ذكر أخباره وشىء من سيرته 388
ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستانى 389
ذكر أخبار رافع بن هرثمة 393
شجرة العلويين الذين جاءت أسماؤهم بهذا الجزء 395
مراجع التحقيق 399
مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب رقم الايداع بدار الكتب ISBN -977 -01 -0348 -9 1984/3100(25/412)
الجزء السادس والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
اعتمدنا في تحقيق هذا الجزء على مخطوطتين، الأولى: هى مخطوطة كوبريلى رقم 549 معارف عامة وجعلناها هى الأصل، وقد رمزنا لها بالحرف ك، والثانية: النسخة المعروفة بالتيمورية، وهى ضمن مجموعة بها من 23- 25، وتحمل رقم 699- تاريخ تيمور، وقد رمزنا لها بالحرف ت.
وقد قابلنا الكتاب مقابلة كاملة على الكامل لابن الأثير. أما المراجع التى اعتمدنا عليها بصفة عامة فهى:
1- الكامل لابن الأثير الجزرى ج 6، ج 7 تحقيق وتعليق عبد الوهاب النجار- نشر دار الطباعة المنيرية بدمشق سنة 1353 هـ.
(والأجزاء 9، 10، 11، 12 ط القاهرة سنة 1303 هـ) .
2- تاريخ أبى الفدا (المختصر في تاريخ البشر) ط الحسينية سنة 1325 هـ- لأبى الفدا (عماد الدين بن إسماعيل) .
3- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان (الجزء الثامن في قسمين) :
سبط ابن الجوزى. (يوسف بن قزاوغلى التركى) ط 1 حيدرآباد- الهند سنة 1952 م.(26/5)
4- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ابن تغرى بردي ج 5 ط دار الكتب سنة 1935 م، ج 6 ط دار الكتب سنة 1936 م.
5- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلى.
الأجزاء 2، 3، 4: نشر مكتبة القدسى سنة 1350 هـ.
6- كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك: لتقى الدين أحمد بن على المقريزى، تصحيح الدكتور محمد مصطفى زيادة.
ج 1 قسم 1 ط دار الكتب سنة 1934 م.
7- شرح اليمينى المسمى بالفتح الوهبى على تاريخ أبى النصر العتبى. ط المطبعة الوهبية سنة 1286 هـ.
8- تحقيق ما للهند من مقولة: لأبى الريحان البيرونى.
ط دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد. سنة 1958 م.
9- نهاية الأرب للنويرى ج 1، ج 8. ط دار الكتب.
10- الفخرى في الاداب السلطانية والدول الإسلامية: محمد ابن على بن طباطبا. ط القاهرة.
11- تاريخ البيهقى: لأبى الفضل البيهقى: ترجمة الدكتور يحيى الخشاب، وصادق نشأت. ط القاهرة سنة 1956 م.
12- تاريخ الإسلام السياسى ... «العصر العباسى الثاني» :
[الدكتور حسن إبراهيم حسن، ح 3. ط القاهرة (الرابعة) سنة 1958 م.
13- وفيات الأعيان لابن خلكان.(26/6)
14- صبح الأعشى: للقلقشندي: ج 5، ج 6 ط دار الكتب.
15- يتيمة الدهر: للثعالبى.
16- مطالع البدور في منازل السرور: للغرولى (علاء الدين على ابن عبد الله البهائى) ط 1- مطبعة إدارة الوطن- القاهرة سنة 1299 هـ.
17- الأعلام: خير الدين الزركلى. الأجزاء من 1- 10 الطبعة الثانية، القاهرة سنة 1954- سنة 1959 م.
18- معجم البلدان: ياقوت الحموى: القاهرة سنة 1906 م.
19- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: المقدسى ط ليدن سنة 1909 م.
20- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: صفى الدين ابن عبد الحق البغدادى: تحقيق: على البجاوى.
ط الحلبى سنة 1954 م.(26/7)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار من استقل بالملك والممالك بالبلاد الشرقية والشمالية في خلال الدولة العباسية]
ذكر أخبار الدولة الديلمية الجيلية «1»
هذه الدولة كانت ببلاد طبرستان، والرى، وجرجان، وقزوين:
وزنجان «2» وأبهر، وقم، وأصفهان، والكرج «3» ، وغير ذلك من البلاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وملوك هذه الدولة مسلمون:
وكان الذى دعاهم إلى الإسلام الحسن بن على الأطروش العلوى، وهو من أصحاب محمد بن زيد، فلما قتل محمد بن زيد سار الحسن إلى الديلم، وأقام بينهم ثلاث عشرة سنة، ودعاهم إلى الإسلام، واقتصر منهم على العشر، وبنى في بلادهم المساجد، فأجابه منهم طائفة، وخرج بهم إلى طبرستان، وملكها، وكان منهم ليلى بن النعمان، وكان أحد قواده، وتولى جرجان، وقتل حمويه «4» في سنة ثمان(26/9)
وثلاثمائة، ومنهم سرجاب «1» ، وهو مقدم جيش الحسن، مات في سنة عشرة وثلاثمائة، ومنهم ماكان بن كالى، وكان من قواده أيضا، واستخلفه على استراباذ «2» ، فاجتمع عليه الديلم، وقدموه عليهم، فاستولى على جرجان، وأخذها من بغرا نائب السعيد السامانى، ولم يكن لهؤلاء الذين ذكرناهم كبير مملكة، وإنما كانوا يستولون على بلد من البلاد، ويقيمون بها مدة، ثم يخرجون عنها ويستولون على غيرها.
أول من تقدم من الدّيلم، وكثرت أتباعه، وعلا إسمه؛ واتسعت مملكته. أسفار بن شيرويه الديلمى
ونحن نذكر حاله من ابتداء أمره، وما آل إليه، ومن ملك بعده من الديلم والجيل «3» إلى حين انقراض دولتهم إن شاء الله تعالى، فتقول:
كان أسفار هذا من أصحاب ماكان بن كالى الديلمى، وكان سيىء الخلق والعشرة، فكرهه «ماكان» ، وأخرجه من عسكره، فالتحق ببكر بن محمد بن اليسع بنيسابور، وأقام في خدمته إلى أن قتل ابن الأطروش الحسن بن كالى أخا ماكان بجرجان، واستقل ابن الأطروش بالأمر، وجعل مقدم جيشه على بن خرشيد، فكتب إلى(26/10)
«أسفار» يستقدمه، فاستأذن بكرا بن محمد، وسار إلى جرجان، واتفق مع على بن خرشيد، وضبطا تلك الأعمال لابن الأطروش، فسار إليهم ماكان بن كالى، وقاتلهم، فهزموه، وأخرجوه عن طبرستان، وملكوها، وأقاموا بها، ثم اتفقت وفاة ابن الأطروش، وعلى بن خرشيد، فاستقل أسفار بالأمر، وانفرد به، فجاءه ماكان ابن كالى، وهزمه، وأخرجه عن البلاد، فرجع إلى بكر بن محمد ابن اليسع بجرجان، فأقام بها إلى أن توفى بكر، فتولاها أسفار من قبل السعيد نصر بن أحمد السامانى في سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وأرسل أسفار إلى مرداويج بن زيار الجيلى «1» يستدعيه إليه، فجاءه وجعله أسفار أمير جيشه، وأحسن إليه، وقصدا طبرستان واستولوا عليها. وكان ماكان بن كالى مع الحسن بن القاسم الداعى العلوى بالرىّ، وقد استولى عليها، وأخرج عنها نواب السعيد، واستولى على قزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، فسار نحو طبرستان، والتقى هو وأسفار عند سارية «2» ، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم معظم أصحاب الحسن؛ قصدا للهزيمة لكراهتهم له، فإنه كان يمنعهم من المظالم، وشرب الخمر، وارتكاب المحارم، فكرهوه، وكان أيضا قد قتل جماعة منهم، فخذلوه في هذه الحادثة، فقتل الداعى، واستولى أسفار على بلاد طبرستان، والرى، وجرجان، وقزوين،(26/11)
وزنجان، وأبهر، وقم، والكرج، ودعا بها لصاحب خراسان نصر بن أحمد، واستعمل هارون سندان، وهو أحد رؤساء الجيل «1» وخال مرداويج على آمل «2» ، وكان هارون يحتاج أن يخطب فيها لأبى جعفر العلوى، وخاف أسفار ناحية أبى جعفر أن يجدد له فتنة وحربا، فاستدعى هارون إليه، وأمره أن يتزوج من أعيان آمل، ويحضر عرسه أبو جعفر، وغيره من رؤساء العلويين، وأن يفعل ذلك في يوم ذكره له، ففعل، ثم سار أسفار من سارية مجدّا لموافاة العرس، فوصل آمل في يوم الموعد، وقد اجتمع العلويون عند هارون فهجم على الدار على حين غفلة، وقبض على أبى جعفر، وغيره من أعيان العلويين، وحملهم إلى بخارى، فاعتقلوا بها. ولما فرغ أسفار من ذلك سار إلى الرى وبها «3» ماكان بن كالى، فأخذها منه، وسار ماكان إلى طبرستان، فأقام هناك. وأحب أسفار أن يستولى على «قلعة ألموت» ، وهى قلعة على جبل عال شاهق في حدود الديلم، وكانت لسياه جشم «4» ، ومعناه: الأسود العين لأنه كان على إحدى عينيه نقطه سوداء، فراسله أسفار، ومنّاه، فقدم عليه، فسأله أن يجعل عياله في قلعة ألموت، وولاه قزوين، فأجابه إلى ذلك، ونقلهم إليها،(26/12)
ثم كان يرسل إليهم من يثق به من أصحابه، فلما حصل له بها مائة رجل استدعاه من قزوين، وقبض عليه وقتله، وعظمت جيوش أسفار، وطار اسمه، فتجبر وعصى على الأمير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر، فسير الخليفة المقتدر هارون بن غريب إلى أسفار في عسكر، فالتقوا، واقتتلوا نحو قزوين، فانهزم هارون، وقتل من أصحابه خلق كثير بباب قزوين، وكان أهل قزوين قد ساعدوا هارون، فحقد عليهم أسفار، ثم سار الأمير نصر بن أحمد من بخاري، وقصد حرب أسفار لخروجه عن طاعته وبلغ «1» نيسابور، فجمع أسفار عسكره، فأشار عليه وزيره مطرف «2» ابن محمد بمراسلته، والدخول في طاعته، وبذل المال له، إن أجاب، وإلا فالحرب بعد ذلك، وكان في عسكره جماعة من الأتراك أصحاب صاحب خراسان، فخوفه الوزير منهم، فرجع إلى رأيه، وراسله، فقبل صاحب خراسان ذلك منه، وشرط عليه شروطا منها: حمل الأموال، والطاعة، وغير ذلك، فشرع أسفار بعد تمام الصلح في بسط الأموال على الريّ وأعمالها، وجعل على كل رجل دينارا إلا أهل «3» البلد، والمحاربين، فحصّل من ذلك ما لا عظيما أرضى منه صاحب خراسان بالبعض ورجع عنه، وعظم أمر أسفار، وزاد تجبره، وقصد(26/13)
قزوين لما في نفسه من أهلها، فأوقع بهم، وأخذ أموالهم، وقتل كثيرا منهم، وسلط الديلم عليهم، وسمع المؤذن يؤذن، فأمر بالقائه من المنارة إلى الأرض، فاستغاث الناس من شره وظلمه. وخرج أهل قزوين إلى الصحراء: والرجال، والنساء، والولدان يتضرعون إلى الله تعالى، ويدعون عليه، ويسألون الله تعالى كشف ما بهم، فبلغه ذلك، فضحك وسبهم استهزاء بهم، فقابله الله تعالى في الغد من نهار الدعاء عليه بما سنذكره.
ذكر مقتل أسفار بن شيرويه
كان سبب قتله أن مرداويج كان أكبر قواده، وكان قد أرسله إلى سلار صاحب سميران «1» الطّرم يدعوه إلى طاعته، فلما وصل إليه مرداويج تشاكيا ما الناس فيه من الجهد والبلاء، فتعاقدا، وتحالفا على قصده، والتساعد على حربه، وكان أسفار قد وصل إلى قزوين، وهو ينتظر وصول مرداويج بكتابه، فكتب مرداويج إلى جماعة من القواد يثق بهم يعرفهم ما اتفق هو وسلار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وكان الجند قد سئموا أسفار، وسوء سيرته، وظلمه، وجوره، وكان الوزير مطرف بن محمد، ممن أجاب مرداويج، ووافقه، فسار مرداويج نحو أسفار، فبلغه الخبر، وأحس بالشر وثار الجند به، فهرب في جماعة من خاصته، وذلك عقب حادثة أهل قزوين، ودعائهم عليه.(26/14)
فورد الرىّ، وأراد أن يأخذ من مال من كان بها، فمنعه نائبه المقيم بها، ولم يعطه غير خمسة آلاف دينار، فتركه، وانصرف إلى خراسان وأقام بناحية بيهق. وأمّا مرداويج، فإنه وصل إلى قزوين، وسار منها إلى الرى، وكتب إلى «ماكان بن كالى» ، وهو بطبرستان يستدعيه ليتساعدا على أسفار، فسار «ماكان» إلى «أسفار» ، فسار أسفار إلى بست، وركب المفازة نحو الرى ليقصد قلعة «ألموت» التى بها أهله وأمواله، فانقطع عنه بعض أصحابه، والتحق بمرداويج وأعلمه بخبره، فخرج مرداويج من ساعته في أثره وقدم بعض قواده بين يديه، فلحقه القائد، وقد نزل ليستريح، فسلم عليه بالإمرة، فقال له أسفار: لعلكم اتصل بكم خبرى، وبعثت في طلبى قال: نعم، فضحك، ثم سأل القائد عن قواده الذين خذلوه، فأخبر أن مرداويج قتلهم، فتهلل وجهه، وقال كانت حياة هؤلاء غصة في حلقى، وقد طابت الآن نفسى، فامض لما أمرت به، وظن أنّه أمر بقتله، فقال ما أمرت فيك بسوء، وحمله إلى مرداويج، فقتله، وانصرف إلى الرىّ.
وقيل في قتله: إنه لما قصد ألموت نزل في دار «1» هناك، واتفق أن مرداويج خرج إلى الصيد فرأى خيلا يسيرة، فسيّر من يكشف خبرها، فوجد رجل أسفار، فقبض عليه، وذبحه بيده، وقيل:
بل دخل أسفار إلى رحآ، وقد نال منه الجوع، فطلب من الطحّان ما يأكله، فقدم إليه خبزا ولبنا، فبينما هو يأكل وغلام له ليس معه(26/15)
غيره، إذ أقبل مرداويج إلى تلك الناحية في طلبه، فأشرف على الرحآ فرأى أثر الخيل، فوصل إلى الرحآ، وأخذه وقتله. «1»
ذكر ملك مرداويج وهو الثانى من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.
كان ابتداء ملكه عند هرب أسفار، ولما قتله عاد إلى قزوين، وأحسن إلى أهلها، ووعدهم الجميل، وتمكن ملكه، وتنقل في البلاد، وملكها مدينة بعد أخرى، وولاية بعد ولاية، فملك قزوين، والرى، وهمذان، كنكور، والدينور، وبروجرد، وقم، وقاجان، وأصفهان، وجرباذ «2» قان، وغيرها، ثم أساء السيرة في أهل أصفهان خاصة، وأخذ الأموال، وهتك المحارم، وطغى وتجبر، وعمل سريرا من ذهب يجلس عليه، وسررا من فضة يجلس عليها أكابر القواد، وإذا جلس على السرير يقف.
عسكره صفوفا بالبعد منه، ولا يخاطبه أحد غير الحجاب الذين رتبهم لذلك، وخافه الناس خوفا عظيما.
ذكر ملك «3» طبرستان وجرجان
قد ذكرنا أن مرداويج كان قد كاتب ما كان «4» ، وطلب منه المعاضدة على أسفار وموافقة ما كان له، فلما ملك مرداويج،(26/16)
وقوى أمره طمع في طبرستان، وجرجان، وكانتا مع ما كان، فجمع عساكره، وسار نحو طبرستان، فاستظهر على ما كان، واستولى على البلد، ورتب فيها أبا القاسم بن باحين، وهو اسفهسلار «1» عسكره، وكان حازما شجاعا جيد الرأى، ثم سار مرداويج نحو جرجان، وكان بها من قبل ما كان شيرزيل «2» ابن سلار.
وياغلى بن ترلى، فهربا من مرداويج، فملكها، ورتب فيها سرجاب «3» نائبا عن أبى القاسم، فاجتمع لأبى القاسم جرجان، وطبرستان، وعاد مرداويج إلى أصفهان، وسار ما كان إلى الديلم، واستنجد بأبى الفضل الثائر بها، فأكرمه، وسار معه إلى طبرستان، فلقيهما نائب مرداويج، وتحاربوا، فانهزم ما كان والثائر، فعاد الثائر إلى الديلم، وقصد «ما كان» بنيسابور، ودخل في طاعة السعيد السامانى صاحب خراسان، واستنجد به، فأمّده بأبى على محمد بن المظفر، واستمد نائب جرجان مرداويج، فأمده بأكثر جيشه، فالتقوا، فانهزم أبو على وما كان، وعاد إلى نيسابور، وعاد ما كان إلى الدامغان ليملكها، فمنعه نائب مرداويج بجرجان من ذلك، فعاد إلى خراسان. وهذه الوقائع كلها ساقها ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل في حوادث سنة ست عشرة وثلاثمائة، وما أظنها في هذه السنة خاصة، بل فيها وفيما بعدها، لكنه- والله أعلم- قصد أن يكون الخبر سياقة حتى لا ينقطع، وهذا كان دأبه في كثير من الوقائع، وهو حسن.(26/17)
ذكر الحرب بين مرداويج وبين هارون بن غريب
قال: ولما استتب لمرداويج الأمر أتاه الديلم من كل ناحية لبذله، وإحسانه إلى جنده، فعظمت جيوشه، وكثرت عساكره، وكثر الخرج عليه، فلم يكفه ما بيده، ففرق نوابه في النواحى المجاورة له، وبعث إلى همذان ابن أخت له في جيش كثيف، وكان بها أبو عبد الله محمد بن خلف في عسكر للخليفة، فتحاربوا وأعان أهل همذان عسكر الخليفة، فظفروا بالديلم، وقتل ابن أخت مرداويج، فسار إلى همذان، فلما سمع أصحاب الخليفة بمسير مرداويج انهزموا، وفارقوا همذان، ونازلها مرداويج، فتحصن أهلها منه، فقاتلهم، وظفر بهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأحرق. وسبى، ثم رفع السيف وأمر «1» بنفيهم، فأنفذ المقتدر هارون بن غريب في عساكر كثيرة لمحاربته، فالتقوا بنواحى همذان، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم هارون، واستولى مرداويج على بلاد الجيل جميعها، وما وراء همذان، وسير قائدا من قواده يعرف بابن عجلان القزوينى إلى الدينور، ففتحها بالسيف، وقتل كثيرا من أهلها، وبلغت عساكره، إلى نواحى حلوان فغنمت وقتلت، ونهبت، وسبت، وعادت إليه.(26/18)
ذكر ملكه أصفهان
قال: ثم أنفذ مرداويج طائفة أخرى إلى أصفهان، فملكوها، واستولوا عليها، وبنوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف فسار مرداويج إليها، ونزلها، وهو في أربعين ألفا، وقيل خمسين ألفا، وأرسل جمعا آخر إلى الأهواز، فاستولوا عليها وعلى خوزستان، وجبوا أموال تلك البلاد، والنواحى، فقسمها في أصحابه، وادخر منها ذخائر كثيرة، ثم أرسل إلى المقتدر رسولا يقرر على نفسه مالا على هذه البلاد، ونزل للمقتدر عن همذان، فأجابه إلى ذلك، وقرر عليه مائتى ألف دينار في كل سنة.
ذكر وصول وشمكير الى أخيه مرداويج
قال: ولما استقرّ ملك مرداويج أرسل في طلب «1» أخيه وشمكير، وهو ببلاد جيلان يستدعيه. قال الجعد «2» : أرسلنى إليه فجئته فإذا هو في جماعة يزرعون الأرز، فلما رأونى قصدونى وهم عرايا حفاة عليهم سراويلات ملوّنة الخرق مرقعة، فسلمت على وشمكير، فأبلغته رسالة أخيه، وأعلمته ما هو فيه، وما حازه من الملك، فضرط بفيه في لحية أخيه، وقال: إنه لبس السودا، وخدم المسودة يعنى الخلفاء، فما زلت أمنيّه وأطمعه حتى خرج معى. فلما بلغنا قزوين اجتهدت(26/19)
به حتى لبس السواد، ورأيت من جهله أشياء أستحيي أن أذكرها.
ثم أعطته السعادة ما كان في الغيب، فجاء من أعرق الملوك بتدبير الممالك، وسياسة الرعايا، وكان وصوله إلى أخيه في سنة عشرين وثلاثمائة.
ذكر مقتل مرداويج
كان مقتله في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه كان كثير الإساءة إلى الأتراك، وكان يقول: إن روح سليمان بن داود حلت فيه، وإن الأتراك هم المردة والشياطين، فإن أقهرهم «1» ، وإلا أفسدوا، فثقلت وطأته عليهم، فلما كان في ليلة الميلاد من هذه السنة، أمر بأن يجمع الحطب من الجبال والنواحى، وأن يجعل على جانبى الوادي المعروف بزندره «2» ، ويعمل مثله على الجبل المعروف «بكر ثم كوه» ، المشرف على أصفهان من أسفله إلى أعلاه بحيث إذا اشتعلت النيران يصير الجبل كله نارا، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التى هناك، وجمع النفط، ومن يلعب به، وجمع له أكثر من ألفى غراب وحدأة ليجعل في أرجلها النفط، وترسل لتطير في الهواء، وأمر بعمل سماط. عظيم كان فيه مائة فرس، ومائتا رأس من البقر مشوية صحاحا، وثلاثة آلاف رأس من الغنم شواء، غير(26/20)
المطبوخ ومن الأوز والدجاج عشرة آلاف طائر، وما يناسب ذلك من الحلوى، وركب آخر النهار بغلمانه فطاف بالسماط، ونظر إليه، وإلى تلك الأحطاب، فاستحقر الجميع لسعة البرية، ولعن وغضب وعاد فدخل خركاه «1» ، وقام، فلم يجسر أحد أن يكلّمه، واجتمع الأمراء والقواد وغيرهم، وكادت الفتنة تقوم لخوفهم منه، فأتاه وزيره العميد، وتلطف به، وعرّفه ما الناس فيه، فخرج، وجلس على السّماط، وأكل ثلاث لقم، ونهب الناس الباقى، ولم يجلس للشراب، وعاد إلى مكانه، وأقام ثلاثة أيام لا يظهر، فلما كان في اليوم الرابع أمر بإسراج الخيل ليعود إلى منزله، فاجتمع خلق كثير [وشغبت] «2» الدواب مع الغلمان، وصهلت، ولعبت، فصار الغلمان يصيحون بها لتسكن، فاجتمع من ذلك أصوات هائلة مختلفة منكرة.
وكان مرداويج نائما، فاستيقظ، فسمع ذلك، وسأل عنه، فعرف صورة الحال، فازداد غضبا، وقال ما كفى من إخراق الحرمة ما فعلوه من نهب السماط، وما أرجفوا به حتى انتهى أمر هؤلاء الطلاب إلى هذا، وسأل عن أصحاب الخيل، فقيل: إنها للأتراك، وقد نزلوا للخدمة، فأمر أن تحط. السروج عن الدواب، وتوضع على ظهور أصحابها، ويأخذون بإرسال الدواب إلى الاصطبلات، ومن امتنع من ذلك ضربه الديلم، ففعلوا ذلك، فكانت صورة قبيحة أنفت منها نفوسهم. ثم ركب مع خاصته، وهو يتوعد الأتراك حتى صار إلى داره بعد العشاء بعد أن ضرب جماعة من أكابر الأتراك،(26/21)
فاجتمعوا، وقالوا ما وجه صبرنا على هذا الشيطان، وتحالفوا على الفتك به، واتفق دخوله الحمام، وكان كورتكين يحرسه في حمامه وخلواته، فأمره في ذلك اليوم أن لا يتبعه، فتأخر مغضبا، وكان هو الذى يجمع الحرس، فلم يأمر الحرس باتباعه. وكان له خادم أسود يتولى خدمته بالحمام، فاستمالوه، فمال إليهم، وهجم الأتراك على الحمام، فقام أستاذ داره «1» ، وهو خادم، ليمنعهم، فضربه بعضهم بالسيف، فقطع يده، فصاح، فعلم مرداويج، فغلق باب الحمام، وتربسه بسرير كان يجلس عليه إذا غسل رأسه، فصعدوا السطح، وكسروا الجامات «2» ، ورموه بالنشاب، ثم كسروا باب الحمام، ودخلوا عليه، وقتلوه، وكان الذى جمع الناس على قتله توزون، وهو الذى صار أمير العساكر بالعراق، وياروق «3» ، ومحمد ابن ينال الترجمان، وبجكم «4» وهو الذى تولى إمرة العراق. قال:
ولما قتلوه أعلموا أصحابهم، فنهبوا قصره، وهربوا. هذا ولم يعلم بهم الديلم، فلما علموا ركبوا في آثارهم، فلم يلحقوا منهم إلا نفرا يسيرا، فقتلوهم، وعادوا، واجتمع رؤساء الديلم والجيل، وتشاوروا على من يقوم مقامه، فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير.(26/22)
ذكر ملك وشمكير بن زيار وهو الثالث من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.
قال: ولما قتل مرداويج كان وشمكير بالرى، فحملوا تابوت مرداويج، وساروا نحو الرى، فخرج وشمكير، ومن عنده من أصحابه، وتلقوا التابوت مشاة حفاة على أربعة فراسخ، وكان يوما مشهودا. واجتمع على وشمكير عساكر أخيه. قال: وكان ركن الدولة بن بويه في جيش مرداويج رهينة عن أخيه عماد الدولة، فإنه كان قد بذل من نفسه الطاعة لمرداويج، ورهن عنده أخاه، فلما قتل مرداويج بذل للموكلين به مالا، فأطلقوه، فهرب إلى أخيه عماد الدولة بفارس. «1»
ذكر ما فعله الأتراك بعد قتل مرداويج
قال: ولما قتلوه تفرقوا على فرقتين، ففرقة سارت إلى عما الدولة بن بويه بفارس، وفرقة سارت نحو الجبل مع بجكم، وهى أكثرها، فجبوا الأموال، وخراج الدينور وغيرها، وصاروا إلى النهروان، فكاتبوا الخليفة الراضى بالله في المسير إلى بغداد، فأذن لهم «2» ، فدخلوا، فظن الحجريّة أن ذلك حيلة عليهم، فطلبوا رد الأتراك إلى بلد الجبل، فأمرهم ابن مقلة بذلك، وأطلق لهم مالا، فلم يرضوا به، وغضبوا فكاتبهم ابن رائق، وهو بواسط،(26/23)
وله البصرة، فاستدعاهم فمضوا إليه، وقدم عليهم بجكم وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم أصحاب مرداويج، فكاتبهم، فقدم منهم عدة، فأحسن إليهم، وأمره أن يكتب إلى الناس في كتبه بجكم الرائقى، وكان من أمر بجكم ما قدمناه في أخبار الدولة العباسية.
وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة أرسل وشمكير جيشا كثيفا من الرى إلى أصفهان، وبها ركن الدولة بن بويه، فأزالوه عنها، وخطبوا لوشمكير «1» ، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت، واستولى عليها، ودامت أيام وشمكير إلى سنة سبع وخمسين.
ذكر وفاة وشمكير
كانت وفاته في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وذلك أنه ركب للصيد، فعارضه خنزير قد رمى بحربة، وهى ثابتة فيه، فحمل الخنزير عليه، وهو غافل، فضرب الفرس الذى تحته فشبّ به، فألقاه إلى الأرض، فخرج الدم من أنفه وأذنيه، فمات. وكانت مدة ملكه أربعا وثلاثين سنة تقريبا، ولما مات قام بالأمر بعده ابنه بهشيتون «2» .(26/24)
ذكر ملك ظهير الدولة بهشيتون بن وشمكير وهو الرابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.
ملك ما كان في مملكة أبيه بعد وفاته، وذلك في المحرم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، قال:
ولما ملك صالح ركن الدولة بن بويه، فأمدّه بالخيل، والمال، والرجال، وكان وشمكير قد قصد «1» ركن الدولة، وأتته العساكر من قبل الأمير منصور بن نوح السامانى، وكتب إلى ركن الدولة يهدده «2» ويسبه في كتابه، ويقول: والله إن ظفرت بك لأفعلن، ولأصنعن، فلم يجسر الكاتب [أن] «3» يقرأه على ركن الدولة، فقرأه هو، وقال للكاتب اكتب إليه: أما تهددك، فو الله لئن ظفرت بك لأعاملنك بضد ما كتبت، ولأحسنن إليك، ولأكرمنك، فلما مات استقر الصلح بين ظهير الدولة، وركن الدولة، ودامت أيام بهشيتون إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فتوفى بجرجان، وكانت مدة ملكه تسع سنين وشهورا، ولما مات ملك بعده أخوه.
ذكر ملك شمس المعالى قابوس بن وشمكير وهو الخامس من ملوك الدولة الديلمية الجيلية.
كان ملكه بعد وفاة أخيه بهشيتون في سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان عند وفاته عند خاله بجبل شهريار، وخلف بهشيتون ابنا صغيرا بطبرستان مع(26/25)
جده لأمه، فطمع جده أن يأخذ الملك، فبادر إلى جرجان، فرأى بها جماعة من القواد قد مالوا إلى قابوس، فقبض عليهم، وبلغ قابوس الخبر، فسار إلى جرجان، فلما قاربها خرج الجيش إليه، واجتمعوا عليه، وأطاعوه، وملكوه، فهرب من كان مع ابن بهشيتون، وتركوه، فأخذه عمه قابوس وكفله، وجعله أسوة أولاده، واستولى على جرجان، وطبرستان، ودام ملكه إلى أن خلع، وقتل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر خلع قابوس بن وشمكير وقتله وولاية ابنه ملك المعالى منوجهر [وهو السادس من ملوك الدولة الديلمية الجيلية]
وفي سنة ثلاث وأربعمائة خلع شمس المعالى قابوس بن وشمكير، فكانت مدة ملكه سبعا وثلاثين سنة، وكان سبب خلعه أنه- مع ما كان فيه من الفضائل الجمّة، وحسن السياسة- كان شديد المؤاخذة، قليل العفو، يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه، واستطالوا أيّامه، وأجمعوا على خلعه، والقبض عليه، وكان حينئذ غائبا عن جرجان ببعض قلاعه، فلم يشعر إلا وقد أحاط.
العسكريه، وانتهبوا أمواله ودوابّه، وقصدوا استنزاله، فمانع عن نفسه، فرجعوا إلى جرجان، واستواوا عليها وعصوا بها، وبعثوا إلى ابنه منوجهر وهو بطبرستان يعرّفونه الحال، ويستدعونه ليولّوه أمرهم، فسار عجلا خوفا من خروج الأمر عنه، فالتقوا «1» ، واتفقوا(26/26)
على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم على كره منه، وكان شمس المعالى قد توجّه إلى بسطام «1» ، فقصدوه، فلما وصل منوجهر إلى أبيه اجتمع به، وخلا معه، وعرفه ما هو فيه، وعرض عليه أن يقاتل معه من خرج عليه، ولو كان فيه ذهاب نفسه، فرأى قابوس خلاف ذلك، وسهل عليه الأمر حيث صار إلى ابنه، وسلم له خاتم الملك، وانتقل إلى قلعته: [جناشك «2» ] ليتفرغ للعبادة، وسار منوجهر إلى جرجان، وضبط الملك، وأخذ في مداراة الذين خرجوا على أبيه، فدخلوا عليه في بعض الأيام وحسّنوا له قتل والده، وخوفوه «3» ، وصمموا على إعدامه، وهو لا يجيبهم بكلمة، ثم فارقوه وجاءوا إلى أبيه، وقد دخل الطهارة، وهو متخفف، فأخذوا ما كان عليه من الكسوة، وكان فصل الشتاء، فصار يستغيث ويقول: أعطونى، ولو جلّ دابة حتى مات من شدة البرد، وجلس ولده منوجهر للعزاء.
وكان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل، وشعر حسن.
وكان عالما بالنجوم.
قال: ولما ملك منوجهر لقبه الخليفة القادر بالله ملك «4» المعالى، ثم راسل «5» يمين الدولة محمود بن سبكتكين، ودخل في طاعته،(26/27)
وخطب له على سائر منابر بلاده، وتزوج ابنته، فقوى عضده به، وشرع منوجهر في التدبير على قتلة أبيه، فأبادهم بالقتل والتّشريد.
واستمرّ في الملك إلى سنة عشرين وأربعمائة، فتوفى فيها، فكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة.
ولما مات ملك بعده ابنه.
ذكر ملك أنوشروان داره بن ملك المعالى منوجهر «1» ابن قابوس شمس المعالى وهو السابع من ملوك الدولة الديلمية الجيلية
ملك بعد وفاة أبيه منوجهر في سنة عشرين وأربعمائة، وقام بتدبير دولته أبو كاليجار القوهى، وتقدم على جيشه، وتزوج بأمه، ثم قبض عليه أنوشروان بعد ذلك بمساعدة أمه، فلما قبض عليه طمع فيه السلطان طغرلبك السلجقى، فسار إلى جرجان في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومعه مرداويج بن بسو، ونازلها، فلم يمانعه أهلها، وفتح له أبوابها، وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحا، وسلّمها إلى مرداويج، وقرّر عليه «2» في كل سنة خمسين ألف دينار عن جميع الأعمال، ثم اصطلح أنوشروان ومرداويج، وتزوج بأم أنوشروان، وضمن له أنوشروان في كل سنة ثلاثين ألف دينار، وبقى أنوشروان يتصرف بأمر مرداويج لا يخالفه في شىء، وأقيمت الخطبة لطغرلبك.(26/28)
وانقرضت الدولة الديلمية الجيلية، وكانت مدة هذه الدولة منذ ملك أسفار بن شيرويه. في سنة ست عشرة وثلاثمائة، وإلى أن استولى طغرلبك على جرجان في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، مائة سنة وثمان عشرة سنة تقريبا «1» ، وعدة من ملك منهم سبعة ملوك، وهم: أسفار بن شيرويه، ثم مرداويج بن زيار، ثم وشمكير بن زيار، ثم ظهير الدوله هشيتون بن وشمكير، ثم شمس المعالى قابوس ابن وشمكير، ثم ملك المعالى منوجهر قابوس «2» ، ثم ابنه أنوشروان دارا. وعليه انقرضت دولتهم. والله أعلم بالصواب.
ذكر أخبار الدولة الغزنويه
كان ابتداء هذه الدولة بغزنة في سنة ست وستين وثلاثمائة، ثم استولت على خراسان، والغور «3» ، والهند، وغير ذلك، وأول من قام منهم سبكتكين «4» ، ونحن نذكر أخباره، وابتداء أمره إلى أن ملك بعده من أولاده، وأولادهم، إلى حين انقراض دولتهم.(26/29)
ذكر أخبار ناصر الدولة سبكتكين وابتداء أمره وما كان منه الى أن ملك
كان سبكتكين من غلمان أبى إسحاق بن [البتكين] «1» صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان مقدما عنده، وعليه مدار أمره، وقدم إلى بخارى أيام الأمير منصور بن نوح مع أبى إسحاق، فعرفه أرباب تلك الدولة بالعقل والعفة وجودة الرأي، وعاد معه إلى غزنة، ثم لم يلبث أبو إسحاق أن توفى، ولم يخلف من أهله وأقاربه من يصلح المتقدم، فأجمع أصحابه رأيهم على سبكتكين، فقدموه عليهم، وولّوه أمرهم، وحلفوا له وأطاعوه، فأحسن السيرة فيهم، وساس أمورهم، وجعل نفسه كأحدهم في الحال والمال، وكان يدخر من إقطاعه ما يعمل منه طعاما لهم في كل أسبوع مرتين. فعظم شأنه، وارتفع قدره، وحسن ذكره، وتعلقت الأطماع بالاستعانة به.
ذكر ولايته «2» قصدار وبست
كان سبب ذلك أن طغان خان صاحب بست خرج عليه أمير يعرف ببابى تور «3» ، فملك مدينة بست منه، وأجلاه عنها بعد حرب شديدة، فاستغاث بسبكتكين، والتزم بمال يحمله إليه في(26/30)
كل سنة، وطاعة يبذلها، فسار معه، ونزل على بست، وقاتل الخارج على طغان قتالا شديدا، وهزمه، وتسلم طغان البلد، فلما استقر فيه طالبه سبكتكين بما استقر عليه، فأخذ يماطله، فأغلظ.
له في القول لكثرة مطله، فحمل طغان الجهل على أن ضرب سبكتكين وحجز العسكر بينهما، وقامت الحرب بينهما على ساق، فانهزم طغان، واستولى سبكتكين على بست، وسار طغان إلى قصدار- وكان «1» يتولاها أيضا- فعصى بها، واستعصم، وظن أن ذلك يمنعه من سبكتكين، فسار إليه جريدة، فلم يشعر إلا والخيل معه، فأخذه من داره ثم منّ عليه، وأطلقه، ورده إلى ولايته، وقرر عليه مالا يحمله في كل سنة.
ذكر غزوه الهند، وما كان بينه وبينهم
قال: ولما فرغ سبكتكين من بست وقصدار غزا الهند، فافتتح قلاعا حصينة على شواهق الجبال، وعاد سالما ظافرا، فلما رأى جيبال ملك الهند ما دهاه منه حشد، وجمع، واستكثر من الفيلة، وسار حتى اتصل بولاية سبكتكين، فسار سبكتكين من غزنه بعساكره، وتبعه خلق كثير من المتطوعه، والتقوا واقتتلوا أياما كثيرة، وكانوا بالقرب من عقبة عورك، فلما طال الأمر على ملك(26/31)
الهند طلب الصلح، وقرر على نفسه مالا يؤديه لسبكتكين وخمسين قيلا وبلادا يسلمها، فعجل المال والفيلة، وأعطى جماعة من أهله رهائن على البلاد، وسيّر معه سبكتكين من يتسلّمها. فلما أبعد ملك الهند قبض على من معه من أصحاب سبكتكين، وجعلهم عنده عوضا عن رهائنه، فلما اتصل ذلك بسبكتكين جمع العساكر وسار نحوه، وأخرب كل ما مرّ عليه من بلاد الهند، وقصد لمغان «1» ، وهى أحصن بلادهم، فافتتحها عنوة، وهدم بيوت الأصنام، وأقام فيها شعائر الإسلام، وسار عنها يفتح البلاد، ويقتل أهلها، فلما بلغ ما أراده عاد إلى غزنة، فجمع جيبال ملك الهند العساكر «2» ، وسار في مائة ألف مقاتل، ولقيه سبكتكين، وأمر أصحابه أن يتناوبو القتال مع الهنود، ففعلوا ذلك حتى ضجر الهند من دوام القتال.
وحملوا حملة واحدة، واشتد القتال، فانجلت «3» الحرب عن هزيمة الهنود، وأخذهم بالسيف، وأسر منهم خلق كثير، وغنم من أموالهم، وأثقالهم، ودوابهم ما لا يحصى كثرة، فذلّ الهنود بعد هذه الوقعة.
وأطاع سبكتكين الأفغانية والخلج «4» ودخلوا تحت أمره وطاعته.
فعظمت هيبته، واتسعت مملكته.(26/32)
ذكر ملك محمود بن سبكتين خراسان
قال: وفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة كانت ولاية محمود بن سبكتكين خراسان من قبل الأمير نوح بن منصور السامانى عوضا عن أبى على بن سيمجور، ولقّبه الأمير نوح سيف الدولة، ولقّب سبكتكين ناصر الدولة، وأقام محمود بنيسابور، ثم كانت بينه وبين بن على ابن سيمجور وقعة في سنة خمس وثمانين، فانهزم محمود، ثم جمع عساكره وعساكر أبيه، فأخرجا بن سيمجور عنها في بقية السنة، واستقر ملك محمود بخراسان على ما قدمناه في أخبار الدولة السامانية.
ذكر وفاة ناصر الدولة سبكتكين وولاية ولده اسماعيل
كانت وفاته رحمه الله في شعبان سنة سبع وثمانين وثلثمائه، وكان إذ ذاك ببلخ، وقد جعلها مقر ملكه، وابتنى بها دورا ومساكن، فمرض وطال مرضه، فارتاح إلى هواء غزنة، فسار عن بلخ، فمات في طريقه، ونقل إلى غزنة، فدفن بها. وكانت مدة ملكه نحوا من عشرين سنة، وكان عادلا خيّرا، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، فاضلا عارفا، له نظم ونثر وخطب في بعض الجمع، وكان يقول بعد الدعاء للخليفة: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»
«1» .
ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك، وكان أصغر(26/33)
من أخيه محمود، فبايعه الجند بعد وفاة أبيه، وحلفوا له، فأطلق لهم الأموال، ثم استصغروه، فاشتطّوا في الطلب حتى فنيت الخزائن التى خلفها سبكتكين. ثم استولى محمود على الملك فكانت مدة ملك «1» [اسماعيل] «2» سبعة أشهر.
ذكر سلطنة يمين الدولة محمود بن سبكتكين
وهو الثالث من ملوكهم. وهو أول من تلقب بالسلطان، ولم يتلقب بها أحد قبله.
قال: ولما بلغه خبر وفاة والده كان بنيسابور، فجلس للعزاء، ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزّيه، ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه بالملك لبعده عنه، ويذكر له ما يتعيّن من تقديم الكبير، وطلب منه الوفاق، وإنفاذ ما يخصه من ميراث أبيه، فلم يفعل. وتردّدت الرسائل بينهما، فلم تستقر قاعدة، فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازما على قصد غزنة، واجتمع بعمه بغراجق، فساعده على إسماعيل، وسار إلى بست، وبها أخوه نصر، فتبعه، وأعانه، وسار إلى غزنة، وبلغ الخبر إسماعيل وهو ببلخ، فسار عنها مجدّا فسبق أخاه محمودا إلى غزنه، وكان الأمراء الذين مع إسماعيل قد كاتبوا أخاه محمودا يستدعونه، ووعدوه الانحياز إليه، فجد [فى] «3» السير، والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنه، واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم إسماعيل، واعتصم بقلعة غزنه، فحصره(26/34)
أخوه محمود، واستنزله منها بأمان، فلما نزل إليه أكرمه، وأحسن إليه، وشاركه في ملكه، وعاد إلى بلخ، واستقامت له الممالك، وعظم شأنه، وأطاعته العساكر.
ذكر استيلاء يمين الدولة محمود على خراسان وانتزاعها من السامانية
كان سبب ذلك أن فايقا وبكنوزون مدبرى دولة الأمير منصور ابن نوح قبضا عليه، وسملاه كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار السامانية، فسار السلطان محمود نحوهما، والتقوا بمرو في جمادى الأولى «1» سنة تسبع وثمانين وثلاثمائة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم السامانية، فلحق عبد الملك، وفايق ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، ثم قصد نواحى جرجان، فأرسل محمود خلفه أرسلان الجاذب، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد، فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة، فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها وملكها، فقصده محمود، فهرب منه إلى بخارى بعد أن نهب مرو على طريقه، واستقر ملك محمود بخراسان، وزال ملك السامانية منها، وخطب بها للقادر بالله، وكان يخطب بها إلى هذا التاريخ للطائع بعد خلعه، وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصرا، وجعله بنيسابور، وسار هو إلى بلخ، وهى مستقر ملك أبيه، واتخذها دار ملك،(26/35)
واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل قريغون «1» أصحاب الجوزجان. وكالشار الساه «2» صاحب غرشستان «3» ، والشار: لقب لمن ملك غرشستان ككسرى الفرس، وقيصر الروم.
وفي سنة تسعين وثلاثمائة قتل بغراجق عم يمين الدولة؛ قتله طاهر بن خلف بن أحمد صاحب سجستان في حرب بينهما، فسار يمين الدولة نحو خلف بن أحمد أبو طاهر، فتحصن منه بحصن أصهنه «4» ، فحاصره، وضيق عليه، فبذل «5» الأموال، فأجابه إلى ما طلب، وأخذ رهائنه على ما تقرر من المال. والله أعلم بالصواب.
ذكر غزوة الهند
وفي المحرم سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة أحب يمين الدولة أن يغزو الهند ويجعل ذلك كفارة لقتاله مع المسلمين، فسار «6» ونزل على مدينة برشور «7» ، والتقى هو وجيبال ملك الهند، واقتتلوا إلى نصف(26/36)
النهار، فانهزم الهند، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر ملكهم جيال وجماعة كثيرة من أهله وعشيرته، وغنم المسلمون أموالهم وجواهرهم، وأخذ من عنق جيبال قلادة من الجوهر قومت بمائتى ألف دينار، وأخذ أمثالها من أعناق مقدميه «1» الأسرى، وغنم المسلمون خمسمائة ألف من الرقيق، وفتح كثيرا من بلاد الهند، ثم أحب أن يطلق جيبالا ليراه الهنود في شعار الذل، فأطلقه على مال قرره عليه، فأدى جيبال المال، ومن عادة الهنود أنه من حصل منهم في أيدى المسلمين أسيرا لم يعقد له بعدها رئاسة، فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه، وألقى نفسه في النار، فاحترق.
ثم سار محمود نحو ويهند «2» ، فحاصرها، وأخذها عنوة، ثم بلغه أن طائفة من الهند اجتمعوا في شعاب تلك الجبال، فجهز إليهم من عساكره من قتلهم، فلم يسلم منهم إلا الشريد، وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا سالما ظافرا.
ذكر ملكه سجستان
وفي سنة تسعين وثلاثمائة «3» ملك يمين الدولة سجستان، وانتزعها من خلف ابن أحمد؛ وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد مصالحته على المال كما قدمناه عهد خلف لولده طاهر، وسلم إليه مملكته، وانقطع للاشتغال بالعلم، وإنما فعل ذلك ليظهر ليمين الدولة(26/37)
تخلّية عن الملك لينقطع طمعه عن بلاده، فعفّه ولده، واستقلّ بالملك، فأخذ أبوه يلاطفه، وادعى المرض، فزاره ابنه طاهر، فقبض عليه، وسجنه إلى أن مات في سجنه، فتغير العسكر لذلك، وكاتبوا يمين الدولة في تسليم سجستان إليه، فجهّز من تسلمها، وقصد خلفا، وهو في حصن الطاق «1» ، وهذا الحصن له سبعة أسوار محكمة يحيط بها خندق عريض لا يعبر إليها إلا من جسر منه، فرفع الجسر فأمر يمين الدولة بطم الخندق بالأخشاب والتراب، فطموا منه ما يعبرون عليه إلى السور، وتقدم الفيل الكبير إلى باب السور واقتلعه بنابيه، وملك سورا بعد سور، فطلب خلف الأمان، فأمنه وحضر إليه، فأكرمه، وملك الحصن، وخير خلفا في المقام حيث شاء، فاختار أرض الجوزجان، فسيره إليها مكرما، فأقام نحو أربع سنين، ثم بلغ يمين الدولة أنه كاتب [إيلك خان] «2» ملك ما وراء النهر يحثه على قصد يمين الدولة، فنقله إلى جردين، فكان بها إلى أن مات في شهر رجب سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، فسلم محمود جميع ما خلفه إلى ولده أبى حفص، وكان خلف هذا من العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن العظيم من أكبر كتب التفاسير. قال: ولما ملك يمين الدولة سجستان استخلف عليها أميرا كبيرا من أمرائه يسمى قنجى الحاجب، ثم أقطعها لأخيه نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور.
والله أعلم.(26/38)
ذكر غزوة بهاطية، وملكها
وفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة غزا يمين الدولة بهاطيه من أعمال الهند، وهى وراء [المولتان] «1» ، وصاحبها بجراء «2» . وهى مدينة حصينة عالية السور يحيطها خندق عميق، فامتنع صاحبها، ثم ظهر، فقاتل ثلاثة أيام، وانهزم في اليوم الرابع، وقصد المدينة، فسبقه المسلمون إلى بابها، وملكوها، فهرب بخاصته إلى رءوس الجبال، فجهز إليه يمين الدولة من يقاتله، فلما رأى الغلبة قتل نفسه بخنجر، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أحوالها، وعاد عنها بعد أن ترك بها من يثق به، ومن يعلّم من أسلم شرائع الإسلام، ولقى في عوده شدة كثيرة «3» من كثرة الأمطار، وزيادة الأنهار، وغرق من عسكره خلق كثير.
ذكر غزوة المولتان
وفي سنة ست وتسعين وثلاثمائة بلغ يمين الدولة أن أبا الفتوح والى المولتان خبث اعتقاده، ونسب إلى الإلحاد، وأنه دعا أهل ولايته إلى ذلك، فأجابوه، فرأى أن يغزوه، فسار نحوه، فرأى الأنهار(26/39)
التى في طريقه كثيرة الزيادة لا سيما (سيحون) فأرسل إلى آننديال «1» عظيم الهند يطلب إذنه في العبور ببلاده إلى المولتان، فلم يجب إلى ذلك، فابتدأ محمود به، وجاس خلال بلاده، وأكثر فيها النهب والقتل والإحراق، ففر آننديال بين يديه، وتبعه إلى أن وصل إلى قشمير، فلما سمع أبو الفتوح بمقدم يمين الدولة علم العجز عنه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها، وملكها عنوة، وألزم أهلها عشرين ألف «2» درهم عقوبة لعصيانهم.
ذكر غزوة كواكير «3»
قال: ثم سار إلى قلعة كواكير، وكان صاحبها يعرف ببيدا، وكان بها ستمائة صنم فاقتحمها، وحرق الأصنام، فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة «بكالنجار «4» » ، فسار خلفه إليها، وهى حصن عظيم بسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة فيل، وعشرون ألف دابة:
وفيه من الأقوات ما يكفى الجميع مدة، فلما صار منه على سبعة فراسخ رأى من الغياض «5» ما يمنعه عن سلوك الطريق، فأمر بقطعها،(26/40)
فقطعت، ورأى في الطريق واديا عظيم العمق بعيد القعر، فأمر أن يطم «1» بالجلود المملوءة بالتراب فطموه، ووصلوا القلعة، فحاصرها ثلاثة وأربعين يوما، فراسله صاحبها في الصلح، فامتنع عليه، ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد [إيلك خان] «2» ، فصالحه على خمسمائة فيل وثلاثة آلاف منّ من الفضة، ولبس خلعة يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة، فلم يعفه، وشدها، وقطع خنصره، وأنفذها ليمين الدولة، توثقة فيما يعتقدونه على عادة الهنود، وعاد يمين الدولة إلى خراسان.
ذكر عبور عسكر ايلك خان الى خراسان
كان يمين الدولة لما ملك خراسان من السامانية، ومالك إيلك خان ما وراء النهر منهم تراسلا، وتوافقا، وتزوج يمين الدولة ابنة [إيلك خان] وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم [إيلك خان] ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم [إيلك خان] غيبته عن البلاد، فسيّر سباشى تكين صاحب جيشه إلى خراسان، وذلك في سنة ست وتسعين وثلاثمائة في معظم جنده، وجهز أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء، وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميرا من أمرائه يقال له أرسلان: الجاذب،(26/41)
وأمره إذا ظهر «1» عليه مخالف ينحاز إلى غزنة، فلما عبر سباشى تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشى هراه، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها، فوصلت الأخبار يمين الدولة وهو بالهند، فعاد لا يلوى على شىء، فلما قارب غزنة فرق الأموال في عساكره، وقواهم، واستنفر الأتراك الخلجيه، فجاءه منهم خلق كثير، فسار بهم إلى نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو [إيلك خان] ، فعبر إلى تزمذو ونزل نحو «مرو» ليعبر النهر، فقاتله [التركمان] «2» ، فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم سار نحو [أبيورد] «3» ، فتبعه عسكر يمين الدولة، فوصل إلى جرجان، فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضة- يمين الدولة، فمنعه من قصده وأسرا «4» أخو سباشى تكين، وجماعة من قواده، ونجا هو في بعض أصحابه، فعبر النهر، وانهزم من كان ببلخ مع جعفر تكين «5» ، وتسلم يمين الدولة خراسان.(26/42)
ذكر انهزام ايلك خان من يمين الدولة
قال: ولما أخرج يمين «1» الدولة عساكر [إيلك خان] من خراسان راسل [إيلك خان] «2» قدر خان ابن بغراخان ملك الختن «3» لقرابة بينهما، واستعان به، فاستنفر الترك من أقاصى بلادها، وسار نحو خراسان، واجتمع هو [وإيلك خان] فعبروا النهر، واتصل خبرهم بيمين الدولة، وهو بطخارستان، فسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية والخلج والهند والأفغانية والغزنوية «4» ، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين منها «5» بمكان فسيح، وقدم [إيلك خان] ، وقدرخان فى عساكرهما، ونزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل، فلما كان الغد برز بعضهم لبعض، فاقتتلوا، فاعتزل يمين الدولة على نشر مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته، وعفرّ وجهه على الصعيد تواضعا لله تعالى، وسأل النصر والظفر، ثم حمل [بفيلته] «6» على قلب عسكر [إيلك خان] ، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة، وتبعهم(26/43)
أصحاب يمين الدولة يقتلون «1» ، ويأسرون، ويغنمون، إلى أن عبروا النهر. وأكثر الشعراء القول في تهنئة يمين الدولة بهذا الفتح، وذلك فى سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.
ذكر غزوه الهند وعوده
قال: ولما فرغ يمين الدولة من حرب الترك بلغه أن بعض أولاد ملوك الهند واسمه نواسد «2» شاه، وكان قد أسلم على يد يمين الدولة، واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم ارتد عن الإسلام، وعاد إلى الكفر، فسار إليه مجدا، فحين بلغ الهندى قربه فرّ من بين يديه، واستعاد يمين الدولة البلاد، واستخلف عليها بعض أصحابه، وعاد إلى غزنة في السنة المذكورة.
ذكر غزوة بهيم نغز «3» وما غنمه من الأموال وغيرها
وفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة استعد يمين الدولة لغزو الهند وسار في شهر ربيع الآخر من السنة، فانتهى إلى شاطى، [نهرويهند] «4» ، فلاقاه هناك ابرهمن نال بن آننديال «5» فى جيوش الهند، فاقتتلوا مليا من النهار، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم كان الظفر للمسلمين،(26/44)
فانهزم الهند على أعقابهم، وأخذهم السيف، وتبع يمين الدولة الملك حتى بلغ بهيم نغر، وهى على جبل عال كان الهند قد جعلوها خزانة لصنمهم الأعظم، فينقلون إليها أنواع الذخائر قرنا بعد قرن، وهم يرون ذلك تقربا لآلهتهم وعبادة، فقاتلهم عليها، وحصرها، ووالى الحصار، فلما رأى الهنود كثرة جموعه، وشدة قتاله جبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، فملكه المسلمون، فصعد يمين الدولة إليه في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ من الجواهر ما لا يحدّ، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأوانى الذهب والفضة سبعمائة ألف وأربعمائة منّ. وكان في الحصن بيت مملوء من الفضة طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا، فأخذ جميع «1» ما فيه إلى غير ذلك من الأمتعة، وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فشاهدوا ما لم يسمعوا بمثله.
وفي سنة أربعمائه. غزا «2» يمين الدولة الهند وأحرقها، واستباحها، ونكس أصنامها، فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه إليه وخمسين فيلا، وأن يكون له في خدمة يمين الدولة ألفا فارس لا يزالون، فقبض ذلك منه، وصالحه، وعاد إلى غزنه.(26/45)
ذكر غزوة بلاد الغور واستيلائه عليها
وبلاد الغور تجاور غزنه، وهى جبال منيعة، ومضايق، وكان أهلها قد كثر فسادهم، وتعديهم يقطعون الطريق ويخيفون السبيل، فأنف يمين الدولة من ذلك، فسار إليهم في سنة إحدى وأربعمائة، وقاتلهم أشد قتال، ثم سار إلى عظيم الغورية المعروف بابن سورى وهو بمدينة آهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم إلى أن انتصف النهار، فأمر يمين الدولة أن ينهزم المسلمون، فانهزموا وتبعهم ابن سورى حتى أبعدوا عن المدينة، ثم عطف المسلمون على الغوريه، ووضعوا فيهم السيف، وملك المدينة، وأسر بن سورى، فشرب سمّا كان معه، فمات، وأظهر يمين الدولة شعائر الإسلام في بلاد الغور، وجعل عندهم من يعلمهم شعائر الإسلام وشرائعهم. ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع مفازة رمل، ولحق عساكره عطش عظيم حتى كادوا يهلكون بسببه، فأرسل الله تعالى عليهم مطرا سقاهم، وسهل عليهم سلوك الرمل، فوصلوا إلى الكفار ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال كان الظفر فيه للمسلمين، وانهزم الكفار، وأخذ غنائمهم وعاد سالما.(26/46)
ذكر ملكه قصدار
وفي سنة اثنتين وأربعمائة ملك يمين الدولة قصدار. وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة «1» فى كل سنة يؤديها إلى يمين الدولة، ثم قطعها اغترارا بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق إليه، واحتمى [بإيلك خان] ، وكان يمين الدولة إذا قصد المسير إليه رجع عن ذلك إبقاء لمودة [إيلك خان] ، فلما فسد ما بينهما سار إليها في جمادى الأول من السنة، فسبق خبره، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلا، فطلب الأمان، فأجابه إليه، وأخذ منه ما كان قد اجتمع عنده من المال، وأقره على ولايته وعاد. وفي سنة ثلاث وأربعمائة كانت وفاة [إيلك خان] ، وولاية أخيه طغان خان، وكان قد تجهز للعود إلى خراسان لقتال يمين الدولة. فلما مات طغان خان راسل يمين الدولة، وتصالحا، واتفقا أن كلا منهما يستقل «2» بغزو من يليه من الكفار، فكان يمين الدولة يقاتل الهند، وطغان خان يقاتل الكفار.
ذكر فتح ناردين
[وفي] «3» سنة أربع وأربعمائة سار يمين الدولة إلى الهند، فسار شهرين حتى قارب مقصده، فسمع عظيم الهند به فجمع، وبرز إلى جبل صعب(26/47)
المرتقى، فاحتمى به، وطاول «1» المسلمين، وكتب إلى الهنود، فاجتمع إليه كل من حمل السلاح، فلما تكاملت عدته نزل من الجبل والتقوا، واقتتلوا، واشتد القتال، فهزمهم المسلمون، وأكثروا فيهم القتل، وغنموا ما معهم من مال وفيلة وسلاح. ولما عاد إلى غزنة أرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشورا وعهدا بولاية خراسان وما بيده من الممالك، فكتب له ولقب نظام الدين «2» .
ذكر غزوة تانيشر «3»
قال: وذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة من جنس فيلة الصليمان الموصوفة في الحرب، وأن صاحبها غال في الكفر، فعزم على غزوه، فسار في سنة خمس وأربعمائة، فلقى في طريقه أودية بعيدة القعر وعرة المسالك، وقفارا فسيحة الأطراف قليلة المياه، فقاسى شدة، ومشقة عظيمة، فلما قارب المقصد لقى نهرا شديد الجرية صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه يمنع من عبوره ومعه عساكره وفيلته التى كان يدلّ بها، فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، ففعلوا ذلك، وشغل الهنود بالقتال عن حفظ النهر، فما كان إلا وقد عبر سائر العسكر،(26/48)
وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار. فانهزم الهنود، وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والفيلة، وعاد إلى غزنة.
ذكر قتل خوارزم شاه وملك يمين الدولة خوارزم
وفي سنة سبع وأربعمائة قتل خوارزم شاه أبو العباس [مأمون] «1» بن مأمون. وسبب ذلك أنه كان قد ملك خوارزم الجرجانية «2» ، وحضر عند يمين الدولة، وتزوج أخته، ثم بعث إليه يمين الدولة أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، واستشار أمراءه، فغضبوا من ذلك، وامتنعوا منه، وتهددوه بالقتل إن فعل، فعاد الرسول إلى يمين الدولة، وأخبره بما شاهده، ثم خافه الأمراء فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا أحد أولاده مكانه، وتعاهدوا على قتال يمين الدولة إن قصدهم، واتصل الخبر به، فجمع العساكر، وسار نحوهم والتقوا، واشتدت الحرب، فثبت الخوارزمية إلى نصف النهار ثم انهزموا، فأخذهم السيف، ولم يبق منهم إلا القليل. وجمع من أسر منهم وسيرهم إلى أطراف بلاده بالهند، وملك يمين الدولة خوارزم، واستناب بها حاجبه التونتاش «3» .(26/49)
ذكر غزوة قشمير وقنوج «1» وغيرهما من الهند
وفي سنة سبع وأربعمائة أيضا بعد فراغ يمين الدولة من خوارزم سار إلى غزنة، ثم منها إلى الهند عازما على غزو قشمير، واجتمع له من المتطوعة من بلاد ما وراء النهر وغيره نحو عشرين ألف مقاتل، وسار من غزنة إليها سيرا دائما في ثلاثة أشهر، وعبر نهر سيحون، [وجيلم] «2» ، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، ووطىء أرض الهند، وأتته رسل ملوكها بالطاعة، وبذل الأتاوة، فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها «3» وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ [ماء جون] «4» في العشرين من شهر رجب، وفتح ما حولها من الحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودب، «5» وهو أحد ملوك الهند فنظر «هودب» من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله، فعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فنزل في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، فأقبل عليه يمين الدولة وأكرمه وسار عنه إلى قلعة كلجند «6» ، وهو من أعيان الهند، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة،(26/50)
فسير كلجند عساكره وفيلته إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقا مختصرا إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالا شديدا، فانهزموا وأخذهم السيف من ورائهم، ولقوا نهرا عميقا، فاقتحموه، فغرق أكثرهم، فكان القتلى والغرقى قريبا من خمسين ألفا. وعمد كلجند إلى زوجته، فقتلها ثم قتل نفسه. وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه. ثم سار نحو بيت متعبد لهم وهو «مهرّة» «1» بالهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم فيه كثير من الأصنام من جملتها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة بالجوهر زنتها ستمائة ألف وسبعون ألف وثلاثمائة مثقال، وبه من الأصنام المصوغة من الفضة نحو مائتى صنم، فأخذ يمين الدولة جميع ذلك، وأحرق الباقى، وسار نحو قنوّج وصاحبها جيبال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها وعبر النهر المعروف بنهر الكنك، وهو نهر شريف معظم عندهم- وتقدّم خبره في باب الأنهار- فأخذها يمين الدولة وسائر قلاعها وأعمالها وهى على النهر المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت «2» صنم يذكرون أنها عملت من مائتى ألف إلى ثلاثمائة ألف سنة كذبا منهم. ولما افتتحها أباحها عسكره. ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلهم فثبتوا، واستسلموا للقتل، فقتلوا، ولم ينج منهم إلا القليل. ثم سار نحو قلعة آسى «3» وصاحبها جندياك، فلما قاربها(26/51)
هرب صاحبها، فأخذها يمين الدولة بما فيها، ثم سار إلى قلعة شروه «1» وصاحبها جندارى، فلما قاربه نقل ماله وفيلته إلى جبال هناك منيعة، فنازل يمين الدولة حصنه وافتتحه، وغنم ما فيه وسار في طلب جندارى جريدة، فلحقه في آخر شعبان فقاتله، وقتل رجاله، وأسر كثيرا منهم، وغنم ما معه من مال وفيلة، ونجا جذارى في نفر يسير من أصحابه. ثم عاد يمين الدولة إلى غزنة، فبنى بها الجامع الذى لم يسمع بمثله، وأنفق ما غنم في هذه الغزوة على بنائه. والله أعلم بالصواب.
ذكر أخبار الملوك الخانية بما وراء النهر والأتراك
وفي سنة ثمان وأربعمائة خرج الترك من الصين، وسبب ذلك أن طغان خان مرض مرضا شديدا، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد، وساروا من الصين في عدد يزيد على ثلاثمائة ألف خركاه من أجناس الترك منهم الخطا الذين ملكوا ما وراء النهر، فساروا إلى أن قربوا من بلا ساغون «2» ، وبقى بينهم وبينها ثمانية أيام واستولوا على أطراف البلاد، فسأل طغان خان الله تعالى أن يعافيه لينتقم منهم.
ويحمى البلاد، ثم يفعل به ما يشاء. فعافاه الله تعالى، فجمع العساكر واستنفر جميع بلاد الإسلام، فاجتمع له من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألف مقاتل، فلما بلغ الترك ذلك رجعوا، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر، فأدركهم وهم آمنون، فكبسهم، وقتل منهم زيادة على مائتى ألف رجل(26/52)
وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب، والخركاهات، والأوانى الذهبية والفضية، ومعمول الصين ما لا عهد بمثله، وعاد إلى بلا ساغون، فعاوده المرض، فمات رحمه الله تعالى. وكان عادلا خيرّا دينا يحب العلم وأهلة، ويميل لأهل الدين، ويصلهم ويقربهم.
ولما مات ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فحالف عليه قدرخان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، وكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان، فعقد يمين الدولة على نهر جيحون جسرا من السفن، وضبطه بالسلاسل وعبر عليه، ولم تكن تعرف الجسور قبل ذلك هناك، فلما عبر النهر اتفق قدرخان وأرسلان خان وتعاقدا على قصد بلاد يمين الدولة واقتسامها، فعاد يمين الدولة إلى بلاده، وسار قدرخان وأرسلان خان «1» إلى بلخ والتقوا بيمين الدولة واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه ليمين الدولة عليهما، فعادا وعبرا جيحون، وكان من غرق منهم أكثر ممن نجا.
ذكر أخبار قدرخان وأولاده
كان قدرخان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان عادلا حسن السيرة كثير الجهاد، فمن فتوحه «ختن» ، وهى بلاد بين الصين وتركستان، كثيرة العلماء والفضلاء واستمر إلى سنة(26/53)
ثلاث وعشرين وأربعمائة، فتوفى. وكان يديم الصلاة في الجماعة.
ولما توفى ملك أولاده بعده، واقتسموا البلاد، فملك أبو شجاع أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، كاشغر، وختن «1» ، وبلاساغون. وخطب له على منابرها. قيل: ولم يشرب الخمر قط.
وكان ديّنا مكرما للعلماء، وأهل الدين يقصدونه من كل جهة، ويصلهم ويحسن إليهم.
وملك بغراخان بن قدرخان طراز وأسبيجاب «2» فقصد أخاه أرسلان خان وحاربه، وأسره وحبسه إلى أن مات. وملك بلاده، ثم عهد بغراخان بن قدر خان بالملك لولده الأكبر واسمه حسين جغرتكين. وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك فسمّت بغراخان، فمات هو وعدّة من أهله. وخنقت أخاه أرسلان خان بن قدرخان، وذلك في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملّكت ابنها واسمه إبراهيم، وسيرّته في جيش إلى مدينة برسخان «3» ، وصاحبها ينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله،(26/54)
وانهزم عسكره إلى أمه. [واختلف] «1» أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان.
ذكر ملك طفغاج خان وولده
هو أبو المظفر إبراهيم بن نصر بن [إيلك] ، ويلقب عماد الدولة، كان بيده سمرقند وفرغانه، وكان أبوه زاهدا متعبدا، وهو الذى ملك سمرقند، وورثها طفغاج هذا منه، وكان طفغاج متديّنا لا يأخذ مالا حتى يستغنىّ العلماء، وورد عليه أبو شجاع العلوى الواعظ.
وكان من الزهّاد، فوعظه، وقال: إنّك لا تصلح للملك، فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد، وقالوا: قد أخطأ الواعظ، والقيام بأمورنا متعيّن عليك، ففتح بابه، واستمر في الملك إلى سنة ستّين وأربعمائة، ففلج، ثم مات. وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك نصر، فقصده أخوه طغان خان بن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: إن طغان خان قد خرب ضياعنا «2» وأفسدها، ولو كان غيره ساعدناك عليه. ونحن لا ندخل بينكما، فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام، فكبس أخاه، وهو غير متحفّظ فهزمه. وكان هذا وأبوهما باق، ثم قصده هارون بن بغراخان بن قدرخان، وطغرل قراخان. وكان طفغاج خان قد استولى(26/55)
على ممالكهما «1» ، فقصدا سمرقند فلم يظفرا بشىء، فصالحا شمس الملك، وعادا فصارت الأعمال المتاخمه لنهر جيحون لشمس الملك، وأعمال الخافقة في أيديهما، والحد بينهما خجندة «2» . ثم مات شمس الملك، فملك بعده أخوه خضرخان، ثم مات، فملك بعده ابنه أحمدخان، وهو الذى قبض عليه السلطان ملكشاه السلجقى، ثم أعاده إلى ولايته، وأحمد هذا هو ابن أخى تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه، وكان أحمدخان قبيح الصورة والفعل كثير المصادرات، فنفّر الرعية منه، وكاتبوا السلطان ملكشاه السلجقى، واستغاثوا به «3» ، وسألوه أن يقدم عليهم ليملك بلادهم، فعبر ما وراء النهر في سنة اثنين وثمانين وأربعمائة، وملك بخارى. وما جورها، ثم سار إلى سمرقند، فملكها، وهرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة، فغمز عليه، وحمل إلى السلطان، وفي عنقه حبل، فأكرمه السلطان. وأرسله إلى أصفهان، واستولى ملكشاه على سمرقند وبخارى، واستعمل عليها من قبله على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة السلجقية. ثم ملك محمودخان. وكان جدّه من ملوكهم. وكان أصم، فقصده طغان خان صاحب طراز، فقتله.
واستولى على الملك. واستناب بسمرقند أبا المعالى محمد بن محمد ابن زيد العلوى البغدادى، فأقام ثلاث سنين وعصى على طغان خان.(26/56)
فحاصره، وقتله، وقتل معه خلقا كثيرا، ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر السلجقى، فظفر به وقتله، وصار له أعمال ما وراء النهر، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين بن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمرخان، وملك سمرقند ثم هرب من جنده، وقصد خوارزم، فظفر به السلطان سنجر، وولى محمدخان سمرقند، وولى محمد تكين بن طغان تكين بخارى.
هؤلاء ملوك سمرقند وما والاها.
وأما كاشغر وهى مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان، ثم صارت بعده لمحمود [بغرا] «1» خان صاحب طراز [والشاش] خمسة عشر شهرا، ثم مات، فولى بعده طغراخان بن يوسف واستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ستة عشر سنة.
ثم توفى، وملك ابنه طغرل تكين فأقام شهرين، ثم أتى هارون بغراخان أخو يوسف طغرل خان بن طفغاج [بغراخان] »
، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر وختن، وما يتصل بها إلى بلاساغون، وأقام في الملك عشرين «3» سنة، وتوفى في سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولى بعده «4» ابنه أحمد أرسلان خان، وراسل الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه(26/57)
ما طلب ولقبه نور الدولة، ثم صار ملك ما وراء النهر لملوك الخطا، وانقرضت الدولة الخانية، وإنما ذكرناها في هذا الموضع لاتحادها وقربها من الدولة الغزنوية، ولتكون أخبارهم متوالية.
نرجع إلى أخبار يمين الدولة محمود بن سبكتكين.
ذكر غزوة الهند والأفغانية
وفي سنة تسع وأربعمائة جمع يمين الدولة من الجموع ما لم يجمع قبله مثله، وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنّوج، وهرب صاحبها منها ويلقب [براى قنوج،] وراى «1» لقب للملك ككسرى، وقيصر، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا عظيم ملوك الهند وقسم مملكته كجوراهة «2» رسلا إلى راى قنوج واسمه راجيبال يوبخه على هربه، وتسليم بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، فآل ذلك إلى الحرب بينهما، فقتل راجيبال وأكثر جنوده، فازداد بيدا بذلك عظمة وعتوا، وقصده بعض ملوك الهند الذين ملك يمين الدولة بلادهم، وخدموه، وصاروا في جملة جنده، فوعدهم بإعادة ممالكهم إليهم، فاتصل ذلك بيمين الدّولة، فتجهّز للغزو، وقصد بيدا، وسار من غزنة، وابتدأ بالأفغانية، وهم كفّار يسكنون الجبال ويفسدون، ويقطعون الطريق، فخرّب بلادهم، وأكثر فيهم القتل والأسر، ثم استقل في السّير،(26/58)
وبلغ في الهند ما لم يبلغه غيره، وعبر نهر الكنك، فلما جاوزه وجد قافلة تزيد على ألف جمل، فغنمها وسار، فأتاه خبر ملك من ملوك الهند، يقال له تروجنيال «1» ، أنه قد سار من بين يديه يريد بيدا ليحتمى به، فلحقه في رابع عشر شوال «2» ، فاقتتلوا عامّة نهارهم، فانهزم تروجنيال ومن معه، وكثر فيهم القتل والأسر، وغنم المسلمون أموالهم وأهليهم، وأخذوا منهم جواهرا كثيرة، وما يزيد على مائتى فيل، وخرج ملكهم، وأرسل يطلب الأمان، فلم يؤمنه، ولم يقع، منه بغير الإسلام، فسار ثم قتله بعض الهنود، ولما بلغ ذلك ملوك الهند تابعوا رسلهم إلى يمين الدّولة يبذلون الطاعة والإتاوة، وسار بعد الوقعة إلى بارى «3» وهى من أحصن البلاد، فرآها قد خلت من سكانها، فأمر بهدمها، وعشرة قلاع معها، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وسار يطلب «بيدا» ، فلحقه، وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء بين يديه، فصار وحلا، وترك عن يمينه وشماله طريقا يبسا يقاتل فيه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل وأربعين «4» فيلا، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمدّ أصحابه حتى كثر الجمعان، واشتدت الحرب، ودام القتال حتى حجز بينهما الليل، فلما كان الغد بكر يمين الدّولة(26/59)
للقتال، فرآهم قد فارقوا موضعهم، وانهزموا، وركب كل فرقة منهم طريقا، ووجدوا خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنم المسلمون جميع ذلك، واقتفى آثار من انهزم، فأكثر فيهم انقتل والأسر، ونجا بيدا وعاد يمين الدولة إلى غزنة.
ذكر فتح قلعة من بلاد الهند
وفي سنة أربع عشرة وأربعمائة أو غل يمين الدّولة في بلاد الهند، فغنم وقتل حتى وصل إلى قلعة في رأس جبل منيع ليس يصعد إليه إلا من طريق واحد، وفيها خمسمائة فيل، وغلات كثيرة، ومياه، فحصرها يمين الدولة، وداوم الحصار، وضيّق عليهم، وقتل منهم كثيرا، فطلبوا الأمان، فأمّنهم، وأقرّ ملكها فيها على خراج يؤخذ منه، وأهدى له هدايا كثيرة، وقيل إن هذا الملك هو كابلى «1» ، وهو صاحب ألف فيل، وكان فيما أهداه فيلة حوامل ومراضع، وطائر على هيئة القمرى جلبابه أدكن، وعيناه ومنقاره حمر، وجناحاه مخططان بسواد، ومن خاصيّته أنه إذا حضر على رأس الخوان، وكان في الطعام سمّ دمعت عيناه، وجرى منهما ماء، ويتحجر فإذا أخذ ذلك الحجر، وحكّ وطلى به الجراحات الواسعة ألحمها، وإن كان في البدن نصل تعسّر إخراجه، قوبل به، فيجذبه حتى يمكن إخراجه، فقبل هديّته، وأقرّه على جهته، وعاد إلى غزنة مؤيّدا منصورا(26/60)
ذكر فتح سومنات «1»
وفي سنة ست عشرة وأربعمائة فتح يمين الدولة عدة حصون ومدن من بلاد الهند، وأخذ الصنم المعروف بسومنات، وهو أعظم أصنام الهند، وكانوا يحجّون إليه كلّ ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينوف على ألف «2» إنسان، وزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت «3» إليه فينشئها فيما ينشأ، وأن المدّ والجزر إنما هو عادة للبحر ويحملون إليه كلّ علق نفيس، ويعطون سدنته الأموال الجليلة، وفيه من نفيس الجواهر ما لا تحصى قيمته، وبينه وبين نهر الكنك الذى تعظّمه الهنود نحو مائتى فرسخ يتحملون من ماء هذا النهر إلى سومنات ماء يغسل به في كل يوم، وعنده من البراهمة ألف رجل لعبادته، وتقديم الورّاد إليه، وثلاثمائة رجل تحلق رءوس زواره ولحاهم، وخمسمائة رجل، وخمسمائة امرأة يغنّون، ويرقصون على باب الصنم، ولكلّ منهم في كل يوم شىء معلوم، وكان لسومنات من الضّياع الموقوفة عليه ما يزيد على عشرة آلاف ضيعة. قال: وكان يمين الدولة كلّما فتح فتحا من بلاد الهند، وكسر أصناما، تقول الهنود: «إنا هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنّه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء» ، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه، وإهلاكه لعل الهنود إذا فقدوه، ورأوا دعاواهم باطلة(26/61)
دخلوا في دين الإسلام؛ فاستخار الله تعالى، وسار من غزنة في عاشر شعبان من هذه السنة في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك طريق الملتان فوصلها في منتصف شهر رمضان، وفي طريقه إلى الهند قفار لا تسلك، لا ماء فيها ولا ميرة، فحمل ما يحتاج إليه هو وعسكره، وزاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل، تحمل الماء والميره، وقصد «1» أنهلوارة، فلما قطع المفازة رأى في طريقها حصونا مشحونة بالرجال فيسّر الله فتحها عليه، وامتار منها، وسار إلى أنهلوارة، فوصلها في مستهل ذى القعدة، فهرب عنها صاحبها المدعو نهيم، وقصد حصنا له يحتمى به، فاستولى يمين الدولة على المدينة وسار إلى سومنات، فلقى في طريقه عدة حصون بها كثير من الأوثان تشبه الحجّاب والنقباء لسومنات، فقاتل من بها، وفتحها وخربّها وكسر أصنامها، وسار «2» منها إلى مفازة قفر قليلة المياه، فلقى فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لا يدينون لملك، فهزمهم، وغنم مالهم، وامتار من عندهم، وسار حتى بلغ دبو الواره «3» ، وهى على مرحلتين من سومنات، وقد ثبت(26/62)
أهلها ظنا منهم أن سومنات «1» يمنعهم، ويدفع عنهم، فاستولى عليها، وقتل رجالها، وغنم أموالها، وسار عنها، فوصل إلى سومنات فى يوم الخميس منتصف ذى القعدة، فرأى حصنا حصينا على ساحل البحر تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار ينظرون المسلمين، فلما كان الغد، وهو يوم الجمعة زحف، وقاتل حتى قارب السور، فصعده المسلمون. هذا والهنود تتقدم إلى سومنات، وتعفّر وجوهها في الأرض وتسأله النصر، واستمر القتال إلى الليل، ثم بكر المسلمون إليهم، وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود، وأزاحوهم عن المدينة، فالتجئوا إلى بيت صنمهم، فقاتلوا على بابه أشد قتال، فكان الفريق منهم بعد الفريق يفرون إلى الصنم، فيستغيثون به، ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون، فيقاتلون إلى أن يقتلوا حتى كاد الفناء يستوعبهم وبقى منهم شرذمة دخلوا البحر في مركبين لهم، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضهم، وغرق بعضهم.
وأما البيت الذى فيه سومنات، فإنه مبنى على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وسومنات حجر طوله خمسة أذرع، ثلاثة مدوّرة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس هو بصورة مصوّرة، فكسره يمين الدولة، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة لباب الجامع، وكان بيت الصنم مظلما، وإنما كان الضوء فيه من قناديل الجوهر، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنها مائتا منّ كلما مضت طائفة من(26/63)
البراهمة من عبادتهم حركوا الجرس، فتأتى طائفة أخرى، وعنده خزانة فيها عدة كثيرة من الأصنام الذهب والفضة وعليها الستور «1» المزصعة بالجوهر. كل منها منسوب إلى عظيم من عظماء الهند، وقيمة ما في البيوت يزيد على عشرين «2» ألف دينار، فأخذ الجميع وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل، ثم ورد الخبر على يمين الدولة أن نهم صاحب أنهلوارة قصد قلعة تسمى كندهة، فى البحر بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخا، فسار يمين الدولة من سومنات، فلما حاذى القلعة رأى صيادين، فسألهم عن خوض البحر هناك «3» ، فقالوا إنه ممكن، ولكن إذا تحرك الهواء غرق من فيه، فاستعان بالله تعالى، وخاض هو ومن معه، فسلموا، فرأوا نهيم قد فارق القلعة، وأخلاها، فعاد عنها، وقصد المنصورة، وكان صاحبها قد ارتدّ عن الإسلام، ففارقها واحتمى [بغياض] «4» منيعة، فأحاط يمين الدّولة بتلك الغياض؛ فقتل أكثر من بها من الهند وغرق بعضهم ولم ينج منهم إلا القليل، ثم سار إلى بهاطية فأطاعه أهلها، فرحل إلى غزنة، فوصلها في عاشر صفر سنة سبع عشره وأربعمائة، فكانت غيبته فى هذه الغزوة ستة شهور.(26/64)
ذكر ملكة الرى وبلد الجبل
وفي سنة عشرين وأربعمائة سار يمين الدولة نحو الرىّ، فانصرف منوجهر بن قابوس صاحب جرجان وطبرستان بين يديه، وحمل إليه أربعمائة ألف دينار، وكان مجد الدّولة بن فخر الدولة ابن بويه قد كاتب يمين الدولة يشكو إليه من جنده، وكان متشاغلا بالنساء، ومطالعة الكتب «1» ، ونسخها. وكانت أمّه تدبّر المملكة، فلما ماتت طمع فيه الجند. قال: فلما وصلت كتبه إليه سير إليه جيشا، وجعل المقدّم عليهم حاجبه، وأمره بالقبض على مجد الدولة، فسار الحاجب بالعسكر، فلما وصل تلقاهم مجد الدولة، فقبض عليه الحاجب، وعلى ولده أبى دلف، فانتهى الخبر إلى يمين الدولة، فسار إلى الرىّ، ودخلها في شهر ربيع الآخر، وأخذ من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى قيمته، وأحضر مجد الدولة وسيّره إلى خراسان. ثم ملك قزوين، وقلاعها، ومدينة ساوة، وآوه «2» ، وياقت «3» ، وقبض على صاحبها، وسيره إلى خراسان.(26/65)
ولما ملك يمين الدولة الرىّ، كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفا وثلاثين ولدا، وأنه لما سئل عن ذلك قال: «هذه عادة سلفى» ، وصلب من أصحابه الباطنية خلقا كثيرا، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال، وأخذ ما سواها من الكتب، فكانت مائة حمل، وتحصّن منوجهر بن قابوس [بن] «1» وشمكير بجبال حصينة، فلم يشعر إلا وقد أطل يمين الدولة عليه، فهرب إلى غياض ملتفّة حصينة، وبذل له خمسمائة ألف دينار، فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب. وقبض المال وسار عنه إلى نيسابور. ثم توفّى منوجهر عقيب ذلك، وولى بعده ابنه أنوشروان، فأقره محمود على ولايته، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار أخرى، وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمينية. وخطب له بأصفهان، وعاد إلى خراسان، واستخلف بالرىّ ابنه مسعود، فقصد أصفهان، وملكها من علاء الدولة «2» ، وعاد عنها واستخلف بها بعض أصحابه، فثار أهلها، فقتلوه، فعاد إليهم مسعود، فقتل منهم نحو خمسة آلاف قتيل. وسار إلى الرىّ فأقام بها. والله أعلم بالصواب(26/66)
ذكر ملك مسعود «1» بن يمين الدولة محمود همذان
وفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة سيّر مسعود جيشا إلى همذان، فملكها من نواب علاء الدولة بن بويه، وسار هو إلى أصفهان، ففارقها علاء الدولة، فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر «2» وغير ذلك، ثم عاد إلى بلاده.
ذكر غزوة للمسلمين بالهند
وفي هذه السنة غزا أحمد بن ينال تكين النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند مدينة برسى «3» ، وهى من أعظم مدن الهند، وكان معه نحو مائة ألف فارس وراجل، فشنّ الغارة على البلاد، ونهب وسبى، فلما وصل إلى المدينة، دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون يوما كاملا، ولم يفرغوا من سوق العطارين والجوهريين [فحسب] «4» ، وباقى أهل البلد لم يعلموا بذلك لأن طول البلد منزلة، وعرضه منزلة من منازل الهند، فلما جاء المساء لم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله، وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل لهذه المدينة عسكر المسلمين قبله ولا بعده.(26/67)
ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وشىء من سيرته
كانت وفاته رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة، فكان عمره إحدى وستين سنة وثلاثة أشهر تقريبا، ومدة سلطنته ثلاثا وثلاثين سنة وشهرين، وكان مرضه سوء مزاج وإسهال، وبقى كذلك نحو سنتين، وكان قوى النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته، وكان يجلس للناس طرفى النهار؛ ولم يزل كذلك حتى توفّى قاعدا، وكان عاقلا ديّنا خيّرا عنده علم ومعرفة، وصنّف له كثير من الكتب في فنون العلوم، وقصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم ويقبل عليهم ويصلهم، وكان عالى الهمة، قد ذكرنا من فتوحه وغزواته ما يستدل به على ذلك، ولم يكن فيه ما يعاب إلا طمعه في الأموال، فكان يتحيّل على أخذها بكل طريق، وهو الذى جدّد المشهد بطوس الذى فيه قبر على بن موسى الرضا، والرشيد، وكان أبوه قد أخربه. قال: وكان يمين الدولة ربعة القامة، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر.(26/68)
ذكر سلطنة محمد بن محمود
وهو الرابع من ملوك الدولة الغزنويه. ملك بعد وفاة أبيه في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة بوصية من أبيه. قال:
وهو أصغر من أخيه مسعود، وكان عند وفاة أبيه ببلخ، فخطب له من أقاصى الهند إلى نيسابور، ولقّب جلال الدولة، فأرسل إليه أعيان الدولة يستدعونه، ويحثونه على الوصول إليهم، ويخوفونه من أخيه مسعود، فسارا إلى غزنة، فوصلها بعد وفاة أبيه بأربعين يوما، واجتمعت العساكر على طاعته، ففرق فيهم الأموال.
ذكر خلع جلال الدولة محمد وملك أخيه مسعود بن محمود
كان سبب ذلك أن يمين الدولة لما توفى كان ابنه مسعود بأصفهان، فكتب إلى أخيه محمد يقول له: إننى راض بما أوصى لى به أبى، وبما فتحته من بلاد طبرستان والجبل وأصفهان وغيرهما، وطلب منه الموافقة وأن يقدمه في الخطبة على نفسه، فأجابه بجواب غير مرضى، فسار مسعود إلى الرى وأحسن إلى أهلها «1» ، ثم سار إلى نيسابور وفعل مثل ذلك. وأما محمد فإنه استخلف عساكره، وجعل عمه يوسف على مقدمة جيشه، وسار إلى مسعود. وكان بعض عسكر محمد يميل إلى مسعود لشجاعته، وبعضهم يخشى سطوته، فلما همّ محمد(26/69)
بالركوب «1» من داره وقعت قلنسوته من رأسه، فتطيّر الناس من ذلك، وسار إلى أن وصل إلى [تكيناباد] «2» فى مستهل شهر رمضان من سنة إحدى وعشرين، وأقام بها إلى أن عيّد. فلما كان ليلة الثلاثاء ثالث شوال ثار به جنده، فأخذوه وحبسوه ونادوا بشعار مسعود، وكان الذى سعى في ذلك ورتّبه خشاوند «3» الحاجب باتفاق ومساعدة من عمه يوسف» وأرسلوا إلى مسعود فحضر، والتقته العساكر إلى هراه «4» . وسلّموا إليه «5» الأمر، فكان أول ما بدأ به أن قبض على الحاجب وقتله، ثم قبض بعد ذلك على عمه يوسف، ثم على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة. وكان اجتماع الملك له، واتفاق الكلمة عليه في ذى القعدة من السنة، ووصل إلى غزنة في ثانى «6» جمادى الآخرة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة، وأتته بها رسل الملك من سائر الأقطار، واجتمع له ملك خراسان وغزنة وبلاد الهند والسند، وسجستان وكرمان، ومكران، والرى، وأصفهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعظم سلطانه، وخيف جانبه.(26/70)
ذكر مسيره الى الهند وما فتحه بها
وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائه بلغ السلطان مسعود أنّ أحمد نيالتكين النائب بالهند خرج عن طاعته واستولى على البلاد، فسار إلى الهند، وعاد النائب إلى الطاعة، وفتح في سفرته هذه قلعة سرستى «1» وهى من أحصن القلاع، وكان تعذّر «2» فتحها على أبيه، ففتحها في سنة خمس وعشرين. ثم سار إلى قلعة مقسى، فوصل إليها في عاشر صفر، وحصرها ووالى الحصار، فخرجت عجوز ساحرة، فتكلمت باللسان الهندى طويلا، وأخذت مكنسة فبلتها بالماء، ورشت به إلى جهة العسكر، فمرض مسعود واشتد به المرض، فرحل عن البلد فصح وعاد إلى غزنة.
ذكر مخالفة نيالتكين النائب بالهند ومقتله
وفي سنة ست وعشرين وأربعمائة خالف أحمد نيالتكين النائب بالهند على السلطان مسعود، ونزع يده من الطاعة، وأظهر العصيان، فسيّر إليه مسعود جيشا كثيفا فقاتلهم، وانهزم منهم، وقصد بعض ملوك الهند «ببهاطيه» ، ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا، وطلب منه سفنا ليعبر بهم «3» السند، فأحضر إليه السفن، وأمرهم أن يلقوه في جزيرة في وسط النهر، فألقوه بها وهو يظن أنها متّصلة بالبر، فأقام بها تسعة أيام إلى أن نفدت أزوادهم، وأكلوا دوابّهم، وعجزوا عن خوض الماء لعمقه، فعبر الهندى إليهم في السفن وقتل(26/71)
وأسر، فعندها قتل أحمد نفسه، واستوعب أصحابه القتل والأسر.
وفي سنة ثلاثين وأربعمائة. التقى الملك مسعود والسلجقية ببلاد خراسان، ووقع بينهم حروب كان الظفر فيها لمسعود، وفتح قلعة خراسان، وأخرج طغرلبك من بلاد خراسان إلى البرية، وكان آخر الحرب بينهم في سنة إحدى وثلاثين.
ذكر القبض على السلطان وقتله وشىء من سيرته
وفي سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة في شهر ربيع الأول جهّز السلطان ولده مودودا إلى خراسان في جيش كثيف، لردّ السلجوقية عنها، وسار مسعود بعد ذلك بسبعة أيام إلى بلاد الهند ليشتى بها على عادة والده، واستصحب معه أخاه محمدا وكان قد سمله، فلما عبر سيحون، وعبر بعض الخزائن جمع أنوشتكين البلخى الخصى الغلمان الداريّة، ونهبوا ما تخلف من الخزائن، وأقاموا أخاه محمدا، وقاتلوا مسعودا، فانهزم وتحصّن في بعض الحصون، فحصره أخوه محمد، فقالت له أمه: إن هذا المكان لا يعصمك، ولأن تخرج إليهم بعهد خير لك [من] «1» أن يأخذوك قهرا، فخرج إليهم، فقال له أخوه: وابنه؟؟؟ «2» لا قاتلتك بفعلك، ولكن اختر لنفسك جهة تكون فيها بحريمك وأولادك، فاختار قلعة كيدى، فأنفذه إليها، وأرسل مسعود إلى أخيه محمد يطلب منه مالا ينفقه، فأعطاه خمسمائة درهم،(26/72)
فبكى وقال: بالأمس وحكمى على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن، واليوم لا أملك ألف درهم، فأعطاه الرسول ألف دينار فقبلها، ثم اتفق أحمد بن السلطان محمد، وابن عمه يوسف، وابن على خشاوند على قتل مسعود (فدخلوا عليه، وقتلوه فأنكر محمد ذلك، وساءه، فكانت مدة سلطنة مسعود «1» عشر سنين وخمسة شهور تقريبا، وكان شجاعا كريما ذا فضائل كثيرة، يحب العلماء ويحسن إليهم، ويتقرب إلى خواطرهم، وصنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم «2» ، وكان كثير الصدقة، تصدّق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم، وأكثر الإدرارات والصّلات، وعمّر كثيرا من المساجد في ممالكه، وكان عفيفا عن أموال الناس، وكان يحب الشعر ويجيز الشعراء، أعطى شاعرا ألف دينار، وأجاز آخر عن كل بيت ألف درهم
ذكر سلطنة جلال الدولة محمد بن محمود السلطنة الثانية وقتله
ملك ثانيا عند انهزام أخيه مسعود في ثالث «3» عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وكان أخوه قد سمله، ولما طلب للولاية امتنع من قبولها، فتهدده القواد بالقتل فأجاب، وفوّض الأمر إلى ولده أحمد، وكان فيه هوج، فقتل عمه مسعودا، وقيل: إن(26/73)
مسعودا لما حبس دخل عليه عبد الرحمن وعبد الرحيم أولاد محمد، فأخذ عبد الرحمن القلنسوة من على رأس عمّه مسعود، فأخذها عبد الرحيم من يده، وأنكر عليه، وقبلها ووضعها على رأس عمه مسعود، وكان ذلك سبب سلامته.
قال: وكتب السلطان محمد إلى مودود بن أخيه مسعود يقول له:
إن والدك قتل قصاصا، قتله أولاد أحمد نيالتكين بغير رضاى، فأجابه مودود من خراسان يقول: أطال الله بقاء الأمير، ورزق ولده المعتوه عقلا يعيش به، فقد ركب أمرا عظيما، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدى الذى لقبه أمير المؤمنين سيّد الملوك والسلاطين، وستعلمون فى «1» أى حتف تورّطتم وأىّ شر تأبّطتم، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، ثم كتب شعرا:
نفلّق هاما من كرام أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما «2»
قال: وطمع «3» الجند في محمد، ونقصت هيبة الملك، فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا ونهبوها، فخربت البلاد، فكان المملوك يباع فى بعض المدن بدينار، والخمر تباع كل منّ بدينار. قال: وسار مودود بن مسعود من خراسان إلى غزنة، وعاد عمه محمد والتقيا، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد، فقتلهما مودود فى شعبان سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فكانت مدة سلطنة محمد الأولى سبعة أشهر، والثانية أربعة أشهر وأياما.(26/74)
ذكر سلطنة محدود بن مسعود «1» بن محمود بن سبكتكين
وهو السادس من ملوك الدولة الغزنوية. كان ملكه بعد انهزام عمه جلال الدولة محمد. قال: ولما التقوا وانهزم محمد وعسكره، ثم قبض عليه وعلى أولاده وأنوشتكين البلخى الخصى وابن على خشاوند، فقتلهم مودود، ولم يترك منهم إلا عبد الرحيم ابن عمه بن محمد لإنكاره على أخيه، أخذ القلنسوة من رأس مسعود، وبنى مودود في موضع الوقعة قرية ورباطا وسمّاها «فتح أباد» ، وقتل من كان له تسبب في القبض على أبيه، ودخل غزنة في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين [وثلاثين] «2» وأربعمائة، واستوزر أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد وزير أبيه، وأظهر العدل، وأحسن السيرة، وسلك سيرة جده محمود بن سبكتكين.
ذكر مخالفة محمود بن مسعود على أخيه مودود، ووفاة محمود
كان مسعود قد جهّز ابنه محمودا إلى بلاد الهند في سنة ست وعشرين وأربعمائة، فبلغه خبر وفاة أبيه، وما آل الأمر إليه من سلطنة أخيه، وكان قد فتح لهاوور «3» ، وملتان، فأخذ الأموال، وأظهر(26/75)
الخلاف على أخيه مودود، فاضطرب لذلك، وجهز جيشا لمنعه، فعرض محمود العساكر، وأنفق فيهم الأموال ليأخذ البلاد من أخيه مودود وعّيد عيد الأضحى، وأقام بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتا «1» بلهاوور، فما عرف ما كان سبب وفاته، فعند ذلك ثبت قدم مودود فى الملك، وراسلته الملوك وخافته، وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ملك مودود عدة من حصون الهند، فراسله ملوكها وأذعنوا له بالطاعة.
ذكر وفاة محمود وملك ولده، ثم أخيه على بن مسعود، ثم عبد الرشيد
وفي العشرين من شهر رجب الفرد، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة كانت وفاة «2» مودود وعمره تسع وعشرون سنة، ومدة ملكه تسع سنين وأحد عشر شهرا، وكانت وفاته بغزنة، وعلّته القولنج، وملك بعده ولده، فبقى في الملك خمسة أيام، ثم عدل الناس عنه إلى عمّه على بن مسعود، وكان مودود لما ملك قبض على عمّه عبد الرشيد ابن محمود، واعتقله بقلعة مندين «3» بطريق بست، فلما توفى مودود كان وزيره قد قارب القلعة بعساكر جردها مودود معه لقتال السلجقية، فنزل عبد الرشيد من القلعة إلى العسكر، ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه، وسار بهم إلى غزنة، فهرب علىّ بن مسعود، وملك(26/76)
عبد الرشيد، ولقب «1» شمس الله سيف الدولة، وقيل «2» جمال الدولة.
ذكر مقتل عبد الرشيد
كان مقتله في سنة أربع وأربعين وأربعمائة «3» ؛ وسبب ذلك:
أن طغرل الحاجب كان مودود قد نوه بذكره، وقدّمه وزوّجه أخته، فلما توفى مودود، وملك عبد الرشيد استمر به على ما كان عليه، وجعله حاجب حجّابه، فأشار طغرل على عبد الرشيد بقصد الغز، وإخراجهم من خراسان، فتوقف استبعادا لذلك، فلم يزل به حتى جهز معه ألف فارس، فسار نحو سجستان، وبها أبو الفضل نائبا عن بيغو «4» ، فحاصر قلعة طاق «5» أربعين يوما، فلم يتهيأ له أن يملكها، فسار نحو مدينة سجستان، فاتصل خبره ببيغو، فخرج فى عساكره إليه، فلما رآه بيغو استقلّ من معه، فسيّر إليه طائفة من أصحابه، فلم يعرّج طغرل عليهم، بل اقتحم هو ومن معه نهرا هناك، وحمل على بيغو، وقاتله فهزمه، ثم عطف طغرل على تلك الطائفة التى كانت خرجت لقتاله، فهزمهم، وغنم ما معهم، وانهزم بيغو إلى هراة، ودخل طغرل الحاجب سجستان، وملكها، وكتب(26/77)
إلى عبد الرشيد يعلمه بذلك «1» ويستمده ليسير إلى خراسان، فأمده بعدّة كثيرة من العساكر، فاشتد أمره بهم، وحدث نفسه بالاستيلاء على غزنة، فأحسن إلى من معه، واستمالهم فمالوا إليه، فاستوثق منهم ورجع بهم إلى غزنة، فلما صار على خمسة فراسخ منها كتب إلى عبد الرشيد يعلمه أن العسكر خالفه، وطلبوا الزيادة فى العطاء، وأنهم عادوا بقلوب متغيّره، فلما وقف على ذلك جمع أصحابه، واستشارهم، فحذّروه من طغرل، وقالوا: إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد، وليس إلا الصّعود إلى القلعة، والتحصّن بها، فتحصن بقلعة غزنة، وعبر طغرل غزنة، واستولى عليها وجلس بدار الإمارة، وأرسل إلى من بالقلعة يتهددهم إن لم يسلموا إليه عبد الرشيد، فسلّموه له، فقتله، واستولى على القلعة، وتزوّج ابنة السلطان مسعود كرها، وكان في أعمال الهند أمين يسمى خزخير «2» بعساكر كثيرة، فأرسل إليه طغرل، واستدعاه للموافقة والمساعدة على إخراج الغز من الأعمال، ووعده وبذل له الرغائب، فلم يرض خزخير فعله، وأنكر عليه وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى زوجة طغرل ابنة السلطان مسعود، وإلى وجوه القوّاد يقبحّ «3» عليهم موافقتهم، وصبرهم على قتل ملكهم، فعبروا على طغرل، وقتلوه.(26/78)
ذكر ملك فرخ «1» زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين
وهو العاشر من ملوك الدوله الغزنويه. ملك بعد مقتل طغرل الحاجب المستولى على ملك عبد الرشيد، وكان سبب ملكه أنه لما قتل طغرل وصل خرخير «2» بعد مقتله بخمسه أيام إلى غزنه، وأظهر الحزن على عبد الرشيد، واستشار الأمراء فيمن يلى الأمر، فأشاروا بولايه فرّخ زاد، وكان معتقلات في بعض القلاع فأحضروه، وأجلس بدار الإمارة ودبر خرخير الأمر بين يديه، وقتل من أعان على قتل عبد الرشيد. قال: ولما بلغ داود السلجقى أخا طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جميع عساكره، وسار إلى غزنه، فخرج إليه خرخير، وقاتله فانهزم داود، وغنم ما كان معه، وفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة ثار مماليك فرخ زاد به، وقصدوا قتله وهو في الحمام، فمانع عن نفسه بسيف كان معه، فأدركه أصحابه وخلصوه وقتلوا أولئك الغلمان، واستمر ملكه إلى سنه إحدى وخمسين، وكان بعد هذه الوقعة يكثر من ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها، فلما كان فى هذه السنه أصابه قولنج، فمات.(26/79)
ذكر ملك ابراهيم بن مسعود بن محمود
وهو الحادى عشر من ملوكهم، ملك بعد وفاة أخيه فرّخ «1» زاد في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فأحسن السيرة، واستعد لجهاد الهند، واستقر الصلح بينه وبين [جعرى بك] «2» داود السلجقى صاحب خراسان على أن يكون لكل واحد منهما [ما] «3» بيده، وترك منازعة الآخر في ملكه.
ذكر غزو ابراهيم بلاد الهند وما فتحه منها
وفي سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة غزا بلاد الهند، ففتح قلعة أجود، وهى على مائة وعشرين فرسخا من لهاوور، وهى حصينة تحوى عشرة آلاف مقاتل، فحصرها وداوم الزحف، فملكها في الحادى والعشرين من صفر، وفتح غيرها من الحصون في هذه السنة. فمن ذلك قلعة رومال، وموضع يقال له: «دره نوره» ، وكان به أقوام من الخراسانية جعل أجدادهم فيه فراسياب التركى، ولم يعترضهم أحد من الملوك، فدعاهم إلى الإسلام فامتنعوا عليه، وقاتلوه، فظفر بهم وأكثر فيهم القتل، وتفرق من سلم منهم في البلاد، وسبى من النساء والصبيان مائة ألف، وفي هذه القلعة حوض قطره نصف فرسخ لا يدرك(26/80)
قعره، يشرب منه أهل القلعة ودوابهم، ولا يظهر فيه نقص وفتح «درة «1» » وهى بين جبلين والسبيل إليها متعذر، فوصلها في جمادى الأولى، وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتحها وعاد إلى غزنة.
ذكر وفاة ابراهيم وشىء من سيرته
كانت وفاته في سنة إحدى وثمانين أربعمائة، وكانت مدة ملكه تزيد على ثلاثين سنة، وكان عادلا كريما مجاهدا، وكان ذا رأى سديد، فمن رأيه أن السلطان ملكشاه السلجقى قصد غزنة بعساكره وجنوده، فلما علم إبراهيم عجزه عنه كتب إلى جماعة من أمرائه يشكرهم، ويعدهم الجميل على تحسينهم لصاحبهم، قصد بلاده ليتم له ما اتفقوا عليه من قبضه، وأمر القاصد أن يتعرض إلى ملكشاه، فتعرض له، فأنكره ملكشاه، وقبض عليه وقرره بالضرب، فأعطاه الكتب بعد امتناع، فعاد من طريقه، وكتم ذلك عن أمرائه خوفا من الخلاف عليه. وكان يكتب بخطّه في كل سنة مصحفا، ويبعثه إلى مكة مع الصدقات والصّلات، ولما مات ملك بعده ابنه.(26/81)
ذكر ملك علاء الدولة أبى سعد «1» جلال الدين مسعود بن ابراهيم
وهو الثانى عشر من ملوك الدولة الغزنوية. ملك غزنة وما معها بعد وفاة [إبراهيم] «2» أبيه في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وهو زوج ابنة السلطان ملكشاه السلجقى، واستمر ملكه إلى سنة ثمان وخمسمائة فتوفى في شوال منها بغزنة، ولم أظفر بشىء من أخباره فأورده، ولما مات ملك بعده ولده.
ذكر ملك أرسلان شاه بن علاء الدولة مسعود
وهو الثالث عشر من ملوك الدولة الغزنوية، وأمه سلجقيه وهى أخت السلطان ألب أرسلان ملك بعد «3» وفاة أبيه في شوال سنة ثمان وخمسمائة ولما ملك قبض على إخوته وسجنهم، فهرب أخ له اسمه بهرام شاه إلى خراسان، فوصل إلى السلطان سنجر بن ملك شاه، فأرسل إلى أرسلان شاه في معناه، فلم يجبه، فأعد السير وقصد غزنة، ومعه بهرام شاه والتقى هو [وسنجربن] «4» ملكشاه على فرسخ من غزنة بصحراء [شهراباذ] «5» ، وكان أرسلان شاه في ثلاثين ألفا، ومعه مائة وستون فيلا، فكادت الهزيمة تكون على سنجر ثم كانت(26/82)
وخمسمائة ومعه بهرام شاه، وتسلّم قلعة البلد، وكان أرسلان شاه قد اعنقل أخاه طاهرا بالقلعة الكبيرة التى بينها وبين غزنة تسعة فراسخ، وهى عظيمة لا يطمع فيها ولا طريق عليها، واعتقل بها أيضا زوجة بهرام شاه، فلما انهزم أرسلان شاه استمال أخوه طاهرا المتحفظ.
بها حتى سلم القلعة للملك سنجر، وكان قد تقرر بين السلطان سنجر وبهرام شاه أن يجلس بهرام شاه على سرير جده محمود بن سبكتكين وجده، وأن الخطبة بغزنة للخليفة، ثم للسلطان محمد بن ملكشاه، والملك سنجر، وبعدهم لبهرام شاه، فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكبا، وبهرام شاه راجلا بين يديه حتى جاء إلى السرير، فصعد بهرام شاه إليه، وجلس ورجع سنجر، وكان يخطب له بالملك، ولبهرام شاه بالسلطان على عادة آبائه، وحصل لسنجر من الأموال ما لا يحد، وكان على حيطان دور ملوك غزنة ألواح الفضة، وسوافى المياه إلى البساتين من الفضة، فقلع أصحاب سنجر كثيرا من ذلك، فمنعهم سنجر، وصلب جماعة منهم، وأقام بغزنة أربعين يوما، وهو أول سلجقى خطب له بغزنة، وعاد إلى خراسان.
ذكر ملك بهرام شاه بن مسعود «1» بن ابراهيم
وهو الرابع عشر من ملوك الدولة الغزنوية. ملك غزنة عند انهزام أخيه أرسلان شاه لعشر بقين من شوال سنة عشر وخمسمائة، وأما(26/83)
أرسلان شاه فإنه لما انهزم قصد هند وخان «1» ، واجتمع معه أصحابه، فلما عاد الملك سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة، ففارقها بهرام شاه إلى باميان «2» ، وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال، فأمده بجيش، وأقام أرسلان شاه بغزنة شهرا، وسار في طلب بهرام شاه فبلغه وصول عسكر سنجر، فانهزم بغير قتال، للخوف الذى وقع فى قلوب أصحابه، ولحق بجبال أوغان «3» ، فسار بهرام شاه في طلبه بعسكر سنجر، وضايقوا البلاد التى هو فيها وأخربوها، وتهددوا أهلها، فسلموه إليهم، فخنقه أخوه بهرام شاه، ودفنه بغزنة بتربة أبيه، وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتى عشرة وخمسمائة، وعمره سبعا وعشرين سنة، واستقر بهرام شاه في الملك، وكان بينه وبين الملوك الغورية من الوقائع ما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة بهرام شاه
كانت وفاته في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فكانت ولايته ستا وثلاثين سنة، وكان عادلا حسن السيرة جميل الطريقة يحب العلماء ويكرمهم، ويبذل لهم الأموال الكثيرة، ولما مات ملك بعده ولده.(26/84)
ذكر ملك نظام الدين خسروشاه «1» ابن بهرام شاه بن مسعود
وهو الخامس عشر من ملوك الدولة الغزنوية، ملك غزنة بعد وفاة والده في شهر رجب سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان عادلا حسن السيرة في رعيته محبا للخير وأهله يقرب العلماء، ويحسن إليهم ويرجع إلى أقوالهم ويقتدى بآرائهم، ولم يزل كذلك إلى أن توفى فى شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكانت مدة ملكه سبع سنين وقيل إنه عاش إلى سنة تسع وتسعين «2» . وأن الدولة انقرضت باعتقاله، ولما مات ملك بعده ولده.
ذكر ملك ملكشاه بن خسرو «3» شاه بن مسعود ابن ابراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين
وهو السادس عشر من ملوك الدولة الغزنوية، وعليه انقرضت دولتهم. ملك غزنة بعد وفاة والده في شهر رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ولما ملك نزل علاء الدين الحسين ملك الغور إلى غزنة، وكان له مع ملكشاه ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الغورية. وفي سنة خمس وخمسين «4» وخمسمائة قصد الأتراك الغزية(26/85)
بلاد غزنة ونهبوا وخربوا، وقصدوا مدينة غزنه، ففارقها ملكشاه إلى لهاوور وملكها الغزية، وكان القيّم بأمرهم زنكى بن على بن خليفه الشيبانى، ثم جمع ملكشاه العساكر، وعاد إلى غزنة، ودخلها في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين، وتمكن في دار ملكه إلى أن ظهر أمر الملوك الغورية «1» ، فانقرضت الدولة الغزنويه على يد الملوك الغوريه.
وذكر ابن الأثير الجزري في تاريخه الكامل أن دولتهم انقرضت فى أيام خسروشاه بن بهرام شاه والد ملكشاه، وأن خسروشاه لما ملك الغورية غزنة سار إلى لهاوور، فحاصره شهاب الدين الغورى بها في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وشدّد الحصار عليه، وبذل له الأمان على أن لا يطأ بساطه، وأن شهاب الدين يجعل لخسروشاه مهما اختار من الإقطاع، ويزوجه ابنته، فاستحلفه على ذلك ومكنه من لهاوور، واجتمع به، فأكرمه وعظمه، وبقى كذلك مدة شهرين، فورد رسول غياث الدين الغورى إلى أخيه شهاب الدين وهو يستدعى خسروشاه وولده إليه، فأعلمه بذلك، فامتنع، فمناه شهاب الدين، وطيب خاطره، ثم جهزه هو وابنه إلى غياث الدين، فسارا على كره، فلما وصلا إليه رفعهما إلى بعض القلاع، فكان آخر العهد بهما. وانقرضت الدولة الغزنوية.
وكان ابتداؤها في سنة ست وستين وثلاثمائة، وانقرضت في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فتكون مدتها مائتى سنة وثلاثة عشر(26/86)
سنة تقريبا، وعدة ملوك هذه الدولة ستة عشر ملكا، وهم ناصر الدولة سبكتكين، ثم ولده يمين الدولة محمود بن سبكتكين، ثم ولده محمد ولى مرّتين، ثم أخوه مسعود بن محمود، ثم مودود بن مسعود بعد عمه محمد في السلطنة الثانية، ثم ولى ولد لمودود خمسة أيام. ثم على بن مسعود، ولم تطل مدته أيضا، ثم عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، ثم فرخ زاد، ثم أخوه إبراهيم بن مسعود، ثم ابنه علاء الدولة أبو سعد جلال الدين بن مسعود، ثم ابنه أرسلان شاه، ثم أخوه بهرام شاه، ثم ابنه خسروشاه، ثم ابنه ملكشاه، وعليه انقرضت دولتهم، وكانت هذه الدولة من أحسن الدول وأكثرها جهادا وفتوحا، وقد ذكرنا من أخبار ملوكها ما يستدلّ به على بعد هممهم، وتمكن سلطانهم.
ذكر أخبار الدولة الغورية
كان ابتداء هذه الدولة ببلاد الغور «1» فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ثم أزالت ملوك الدولة الغزنوية آل «2» سبكتكين عن غرنة، وملكوا بعض بلاد الهند،
وأول من نبغ منهم وظهر اسمه الحسين بن الحسين «3» بن الحسن.
وكان قد ملك قبله بلاد الغور محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه صاحب غزنة، فعظم(26/87)
شأنه بمصاهرته وعلت همته، فجمع جموعا كثيرة، وسار إلى غزنة ليملكها، وأظهر الخدمة والزيارة لبهرام شاه وهو يريد المكر فعلم به بهرام شاه، فقبض عليه وسجنه ثم قتله، فعظم قتله على الغورية ولم يمكنهم الأخذ بثأره لتمكن الدولة الغزنويه، ثم ملك بعد محمد أخوه سام بن الحسين، فمات بالجدرى، وملك بعده أخوه سورى ابن الحسين بلاد الغور، وقوى أمره، وتمكن في مملكته، فجمع العساكر، وسار إلى غزنة طالبا لثأر أخيه محمد، فلما وصل إليها وملكها في جمادى «1» الآخرة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، فارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند، وجمع جموعا كثيرة، وعاد إلى غزنة، وكان عسكر غزنة الذين أقاموا مع سورى قلوبهم مع بهرام شاه، فلما التقوا انضم عسكر غزنة إلى بهرام، وسلّموا إليه سورى وذلك فى المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فصلبه بهرام شاه، وكان سورى هذا من الملوك الأجواد الكرام، حتى إنه كان يرمى الدراهم بالمقاليع ليتوصّل بذلك إلى راحة الفقراء، ثم ملك بعده أخوه الحسين ابن الحسين هذا بلاد الغور ومدينتها فيروزكوه «2» ، فسار في سنة خمس وأربعين إلى مدينة هراة وحصرها، وكان أهلها قد كاتبوه، وطلبوه ليسلموها له هربا من ظلم الأتراك، فلما حاصرها امتنع أهلها عليه ثلاثة أيام، ثم سلموها له، فدخلها، وأظهر طاعة السلطان سنجر ابن ملكشاه السلجقى.(26/88)
ذكر الحرب بينه وبين السلطان سنجر
وفي سنة سبع وأربعين وخمسمائة كانت الحرب بين علاء الدين الحسين صاحب الغور وبين السلطان سنجر السلجقى؛ وسبب ذلك أن علاء الدين هذا قوى أمره، وكثرت أتباعه، وتلفت وتعرّض إلى أعمال غزنة، وسار إلى بلخ، فملكها، فسار إليه السلطان سنجر فثبت له، واقتتلوا، فانهزمت الغوريّه، وأسر علاء الدين، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأحضر بين يدى السلطان، فقال له: يا حسين لو ظفرت بى ما كنت تصنع؟ فأخرج له قيدا من الفضة، فقال له:
كنت أقيّدك بهذا، وأحملك إلى مدينة فيروزكوه. فخلع السلطان عليه، ورده إلى فيروزكوه.
ذكر ملكه «1» غزنة، وخروجه عنها، وقتل أخيه
قال: ولما أطلقه السلطان سنجر أقام بفيروزكوه مدة حتى اجتمع له أصحابه، وأصلح ما تشعّث من حال عسكره وقصد غزنة، وملكها يوم ذاك بهرام شاه، فلم يثبت له وفارقها إلى مدينة كرمان.
وهى مدينة بين غزنة والهند، وليست كرمان المشهورة بل غيرها، وملك علاء الدين غزنة، وأحسن السيرة في أهلها، واستعمل عليهم أخاه سيف الدين، وأجلسه على تخت المملكة، وخطب لنفسه ولأخيه سيف الدين بعده، ثم عاد علاء الدين إلى بلد الغور، وأمر أخاه أن(26/89)
يخلع على أعيان البلد خلعا نفيسة، ويصلهم بصلات سنية «1» ، ففعل ذلك وأحسن إليهم، فلما جاء الشتاء ووقع الثلج، وعلم أهل غزنة أن الطريق قد انقطع بينهم، وبين الغور كاتبوا بهرام شاه واستدعوه، فسار نحوهم في عسكره، فلما قارب البلد ثار أهلها على سيف الدين، فأخذوه بغير قتال، وانهزم من كان معه، فمنهم من نجا ومنهم من أخذ، ثم سوّدوا وجه سيف الدين، وأركبوه بقرة، وطافوا به البلد، ثم صلبوه، وهجوه بالأشعار، وغنى بها حتى النساء، ثم توفّى بهرام شاه، وملك بعده ابنه خسروشاه، فتجهز علاء الدين إلى غزنة في سنة خمسين وخمسمائة «2» ، فسار خسروشاه إلى لهاوور وملك علاء الدين البلد، ونهبها ثلاثة أيام، وأخذ الذين أسروا أخاه، وهم من العلويين، فألقاهم من شواهق الجبال، وأخرب المحلّة التى صلب فيها أخوه، وأخذ النساء الذين تغنّين بهجو أخيه، فأدخلهن حماما، ومنعهن الخروج حتّى متن فيه، وأقام بغزنة حتى أصلحها، ثم عاد إلى فيروزكوه، ونقل معه من أهل غزنة خلقا كثيرا، وحملهم المخالى مملوءة ترابا، فبنى قلعة فيروزكوه وتلقب بالسلطان المعظم وحمل [الجتر] «3» على عادة السجلقية.(26/90)
ذكر خروج غياث الدين وشهاب الدين ابنى أخى علاء الدين الحسين على عمهما وموافقته «1»
قال: لما قوى أمر عمهما علاء الدين استعمل العمال والأمراء على البلاد، فكان ممن استعمل غياث الدين أبو الفتح محمد، وأخوه شهاب الدين أبو المظفّر محمد ابنا سام، على بلد من بلاد الغور، فأحسنا السيرة في أعمالها، واستمالا قلوب الناس، فانتشر ذكرهما، فسعى بهما إلى عمّهما من حسدهما، وأوهمه أنهما يريدان الوثوب به، وقتله، والاستيلاء على ملكه، فأرسل يستدعيهما فامتنعا، وكانا قد علما الخبر، فجهز إليهما عسكرا مع قائد من قوّاده، فلما النقوا انهزم عسكر عمّهما، وأسر القائد فأبقيا عليه، وأحسنا إليه، وأظهر العصيان على عمهما، وقطعا خطبة، فتوجه إليهما وسارا إليه، والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر علاء الدين، وأخذ أسيرا، فأجلساه على التخت، ووقفا في خدمته، ونادوا في عسكره بالأمان، فبكى عند ذلك، وقال: هذان صبيان قد فعلا ما لو قدرت عليه منهما لم أفعله، وأحضر القاضى، وزوج غياث الدين بنتا له، وجعله ولى عهده بعده، وبقى كذلك إلى أن مات، وكان وفاته في شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وخمسمائة.(26/91)
ذكر ملك سيف الدين محمد بن علاء الدين الحسين بن الحسين «1» وهو الثانى من الملوك الغورية
«2» . ملك بعد وفاة أبيه، وأطاعه الناس، وراسل الملوك وهاداهم، واستمرّ إلى أن قتل في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وذلك أنّه جمع عساكره وحشد فأكثر وسار من جبال الغور يريد الغز، وهو ببلخ فاجتمعوا له وتقدّموا إليه، واتفق أنّه خرج جريدة في جماعة من خاصته، فسمع به الغز فركبوا وأوقعوا به فقتل.
وكان ملكا عادلا حسن السيرة، فمن ذلك أنّه لما ملك هراه أراد عسكره نهبها، فنزل على درب المدينة، وأحضر الأموال والثياب، وفرقها في عسكره، وقال: هذا خير لكم من نهب أموال الناس، فإن الملك يبقى على الكفر ولا يبقى «3» على الظلم. رحمه الله تعالى.
ذكر ملك غياث الدين أبى الفتح محمد بن بسام ابن الحسين بن الحسن وهو الثالث من الملوك الغورية.
كان استقلاله بالملك بعد وفاة ابن عمه سيف الدين في شهر رجب سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وخطب له في الغور، وغزنة، ثم ملك الغز غزنة منه، وبقيت بأيديهم خمسة عشر سنة يصبون على أهلها العذاب، ويتابعون الظلم، هذا(26/92)
وغياث الدين يحسن السيرة في رعيته، والناس يشكون إليه حالهم، وهو يدبر ملكه إلى أن قوى أمره، وكثرت أتباعه، واشتد بأسه.
ذكر ملك غياث الدين غزنة
قال: ولما قوى أمر غياث الدين، وتمكن في ملكه، وزاد طغيان الغز، وأذاهم للناس، جهز جيشا كثيفا مع أخيه شهاب الدين إلى غزنة، وفيه أصناف الغورية، والخراسانية، والخلج، فساروا إليها، فلقيهم الغزو اقتتلوا، فانهزمت الغورية أولا، ثم كانت الدائرة على الغز، فقتل أكثرهم، ودخل شهاب الدين غزنة، وتسلمها وأحسن السيرة في أهلها، وأفاض العدل، وسار منها إلى كرمان، وسوران «1» ، فملكها، ثم تعدى بعد ذلك إلى السند، وقصد العبور، إلى بلد، وملك لهاوور، وملكها يومئذ خسروشاه بن بهرام شاه، فسار فيمن معه إلى ماء السند، فمنعه من العبور فرجع عنه، وقصد خرشابور، فملكها، وما يليها من جبال الهند، وأعمال [الأفغان] «2» ورجع..
ذكر ملك شهاب الدين لهاوور وانقراض الدولة الغزنوية
وفي سنة تسع وخمسين «3» وخمسمائة سار شهاب الدين إلى لهاوور في جمع عظيم، وحشد كبير، فحصرها، وتهدد أهلها إن(26/93)
منعوه، وبذل لخسروشاه الأمان على أن يطأ بساطه، ويخطب لأخيه فامتنع، فلما طال الحصار خذله أهل البلد، فطلب الأمان، فأمنه شهاب الدين، وحلف له، ودخل الغورية البلد، وبقى كذلك شهرين، ثم جهز خسروشاه هو وولده إلى أخيه غياث الدين كما ذكرناه في أخبار الدولة الغزنوية.
قال: ولما كثرت جموع غياث الدين، واتسعت مملكته كتب لأخيه شهاب الدين يأمره بإقامة الخطبة له، وأن يذكر بالسلطنة، ويلقبه بألقاب السلاطين، وكان لقبه أولا شمس الدين، ثم تلقب غياث الدين، ولقب الآن غياث الدنيا والدين معين الإسلام قسيم «1» أمير المؤمنين، ولقب أخاه عز الدين. قال: ولما استقر أمر «لهاوور» ، سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، واتفقا على المسير إلى خراسان، فقصد مدينة هراة، فملكها واستناب بها، وملك عدة من بلاد خراسان، ورجع غياث الدين إلى مدينة فيروزكوه وشهاب الدين إلى غزنة.
ذكر مسير شهاب الدين الى الهند
قال وسار شهاب الدين إلى الهند، وحاصر بلدا من بلادها، وملكها، وكان قد حصرها طويلا فلم يظفر منها بطائل، فراسل زوجة الملك الهندى في أن يتزوجها، وكانت غالبة على أمر الملك، فأعادت عليه الجواب أنها لا تصلح لذلك، وأن لها ابنة جميلة تزوجه(26/94)
بها، فأجابها إلى ذلك، فسقت زوجها سما، فمات، وسلمت إليه البلد، فأخذ الصبيّة فأسلمت، وتزوجها، وحملها إلى غزنة، ووكل بها من علمها القرآن، وتشاعل عنها، فتوفيت والدتها، ثم توفيت بعد عشرة سنين، ولم يرها، فبنى لها مشهدا، ودفنها فيه، فأهل غزنة يزورون قبرها، ثم عاد إلى بلاد الهند، وملك كثيرا منها.
ذكر ظفر الهنود بالمسلمين
قال: ولما اشتدّت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند تجمع ملوكهم من كل جهة، وتحالفوا على التعاضد، والتناصر على حربه، وجاءوا من كل فج عميق، وركبوا الصعب والذلول، وكان الحاكم على جميع الملوك امرأة من ملوكهم، فلما سمع شهاب الدين باتفاقهم وتعاضدهم، تقدم إليهم في عسكر عظيم، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم المسلمون، وقتل منهم خلق كثير، وأصحاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده، وضربة على رأسه سقط منها إلى الأرض، وحجز الليل بين الفريقين، ثم حمل شهاب الدين إلى مدينة أخيه على رؤوس الرجال، فعمد إلى أمراء الغورية الذين انهزموا أن ملأ لهم مخالى خيلهم شعيرا، وحلف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم، فأكلوه.(26/95)
ذكر ظفر المسلمين بالهنود
قال: واتصل الخبر بغياث الدين أخى شهاب الدين، فأمد المسلمين بالعساكر، فرجع شهاب الدين إلى الهنود، وجمع الهنود جموعا عظيمة، وجددوا أسلحتهم، ووفروا جموعهم، وساروا بملكتهم فى عدد كثير، فراسلها شهاب الدين، وخدعها أن يتزوّجها، فلم تجبه إلى ذلك، وقالت: إما الحرب، وإما أن تسلّم بلاد الهند، وتقتصر على ملك غزنة، فأجابها إلى العود إلى غزنة، وأن يرسل إلى أخيه في ذلك، وإنما فعل ذلك مكرا، وكان بين العسكرين نهر، وقد حفظ الهنود مخائضه، وأقاموا ينتظرون جواب غياث الدين، فجاء رجل من الهنود إلى شهاب الدين، وأعلمه بمخاضته، فاستوثق منه، وجهّز جيشا فعبروا المخاضة والهنود على غرّة، فلبسوهم، وكان مقدّم الجيش الحسين بن حرميل الغورى، وهو الذى صار بعد ذلك صاحب هراة، فوضع السيف في الهنود، فاشتغلوا به، وأغفلوا المخائض، فعبر شهاب الدين وبقيّة العسكر، ونادوا بشعار الإسلام، وأكثروا في الهنود القتل، فما سلم منهم إلا القليل، وقتلت ملكتهم، وتمكن شهاب الدين بعد ذلك من بلاد الهند، ودانت له ملوكها، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة «دهلى» ، وهى كرسى الممالك التى فتحها من بلاد الهند» وأرسل عسكرا مع محمد بن بختيار، فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبلهم، حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق، ولعل ذلك كان فى سنة ثلاث وثمانين. وفي سنة ست وثمانين وخمسمائة كانت الحرب(26/96)
بين غياث الدين، وسلطان شاه أخى خوارزم شاه. وذلك أن سلطان شاه تعرض إلى بعض بلاد غياث الدين، وجمع عساكره، والتقوا، فانهزم سلطان شاه، واستعاد غياث الدين بلاده «1» ، وعاد إلى غزنة.
ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارسى «2» الهندى
وفي سنة تسع «3» وخمسين وخمسمائة كانت الحرب بين شهاب الدين، وبين ملك [بنارسى] ؛ وسبب ذلك أن قطب الدين أيبك لما أقطعه شهاب الدين مدينة دهلى أو غل في بلاد الهند، وقتل وسبى وعاد، فبلغ ذلك ملك [بنارسى] ، وهو أكبر ملوك الهند، وولايته من حدود الصين إلى بلاد ملا وطولا، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضا، فجمع جيوشه، وسار يطلب بلاد الإسلام، ومعه سبعمائة فيل، وقيل إن عسكره بلغ ألف ألف رجل، وسار شهاب الدين نحوه، فالتقى العسكران على جون «4» ، وهو نهر كبير يقارب دجلة، فاقتتلوا، فانتصر المسلمون على الهنود، وكثر القتل فيهم والأسر، وقتل ملكهم، وغنم المسلمون منهم تسعين فيلا من جملتها فيل أبيض، وباقى الفيلة قتل بعضها، وانهزم بعضها، ودخل شهاب(26/97)
الدين بلاد [بنارسى] وحمل من خزائنها على ألف وأربعمائة جمل، وعاد إلى غزنه. وفي سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. سار شهاب الدين إلى الهند، وملك قلعة «1» بهنكر، وهى قلعة عظيمة منيعة ملكها بالأمان، ثم سار منها إلى قلعة كواكير، وبينهما مسيرة خمسة أيام، فأقام عليها شهرا، وصالحه أهلها على مال، فصالحهم على وسق فيل ذهبا، فقبض المال، ورحل عنها.
ذكر ملك الغورية مدينة بلخ
وفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة ملك شهاب «2» الدين سام ابن محمد بن مسعود مدينة بلخ، وسام هو ابن أخت غياث الدين، وله باميان، وكان صاحب بلخ [زاير] «3» يحمل الخراج إلى ملك الخطا بما وراء النهر، فتوفى في هذه السنة، فسار شهاب الدين سام إلى بلخ، وملكها، وخطب فيها لخاله غياث الدين، وفيها انهزم الخطا من الغورية.
ذكر ملك شهاب الدين وأخيه غياث الدين ما كان لخوارزم شاه بخراسان
وفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة ملكا ذلك. وسبب ذلك أن محمد بن حرميل نائب الغورية بالطالقان كان قد استولى على مرو الروذ «4» ، فكاتبه جقر التركى نائب خوارزم شاه بمرو أن يكون في(26/98)
فى جملة عسكر غياث الدين، ويفارق خدمة الخوارزمية، فلما وصل الخبر إلى غياث الدين علم أنّه ما قصد الانتماء إليه إلا لضعف صاحبه، فطمع في البلاد، وجهز شهاب الدين من غزنة، وسار لذلك، فوصله كتاب جقر يستحثه على السير إليه، يسلم إليه مرو، فسار إليها، فقاتله أهلها مع العسكر الخوارزمى، ثم سألوا الأمان» فكف عنهم، وتسلم البلد، ووعده جقر الجميل، ثم حضر غياث الدين إلى مرو، وسلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه، وكان قد هرب من عمه إليه كما نذكره في أخبار الخوارزمية، ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس، فأخذها صلحا، وسلمها للأمير زنكى بن مسعود، وهو من أولاد عمه، وأقطعه معها «نسا» ، و «أبيورد» ، ثم سار إلى طوس فامتنغ عليه أميرها، وأغلق الأبواب دونه ثلاثة أيام، فغلت الأسعار، وبلغ الخبز ثلاثة أمناء بدينار، فضجّ أهل البلد، فطلب الأمان، فأمّنه، فخرج إليه فأكرمه، وخلع عليه، وسيره إلى هراة، وملك البلد، ثم أرسل إلى على شاه «1» أخى خوارزم شاه، وهو ينوب عن أخيه بنيسابور يأمره بمفارقة البلد، ويحذره من المقام بها، فامتنع عليه، وحصّن البلد، وخرب ما بظاهره من العمارة، فسار شهاب الدين إليها، فقدمها في أول شهر رجب من السنة، وقدم العسكر للحصار، فملك البلد عنوة، ونهبه عسكره ساعة من نهار، فبلغ الخبر غياث الدين، فنادى من نهب أو آذى فدمه حلال، فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره، وتحصن الخوارزميّون بالجامع، فأخرجهم(26/99)
أهل البلد، فنهب الغورية ما لهم، وأحضر على شاه بن خوارزم شاه إلى غياث الدين راجلا، فأنكر ذلك على محضره، وعظم الأمر فيه، وحضرت داية «1» كانت لعلى شاه، وقالت لغياث الدين: هكذا تفعل بأولاد الملوك، فقال: لا، بل هكذا، وأخذه بيده، وأقعده معه على السرير، وطيّب نفسه، وسيّر جماعة من الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار، وولى غياث الدين ابن عمه ضياء الدين محمد بن على حرب خراسان، وضم إليه وجوه الغورية، ورحل إلى هراة، وسلم على شاه لأخيه شهاب الدين، وأحسن إلى أهل نيسابور، وفرق فيهم مالا كثيرا.
قال: ثم سّار شهاب الدين إلى ناحية قهستان، فأخرب قرية للإسماعيلة، وقتل من بها من الرجال، ونهب الأموال، وسبى الذرارى، ثم سار إلى كتابان «2» ، وهى من مدن الإسماعيلة، فحصرها، فطلب أهلها الأمان ليخرجوا منها، فأمنهم وأخرجهم، وملك المدينة، وسلمها إلى بعض الغورية، فأقام بها شعائر الإسلام، فكتب صاحب قهستان إلى غياث الدين يقول له: إن بيننا عهدا، فما الذى أوجب محاصرة بلادى؟ فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالرحيل عنها، وقال له: ما لك ولرعيتى، فامتنع من الرحيل، فقال له الرسول:
فإذا أفعل ما أمرنى به غياث الدين، وجبذ الرسول سيفه، وقطع أطناب سرادق شهاب الدين، فارتحل كارها، وتوجه إلى الهند، ولم يقم بغزنة غضبا على أخيه.(26/100)
ذكر ملك شهاب الدين أنهلوارة «1» من الهند
قال: ولما سار شهاب الدين من بلاد الإسماعيلية إلى الهند، أرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى أنهلوارة، فوصلها في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، فقاتل عسكر الهند بها، فهزمهم، وملكها عنوة، وهرب ملكها، وجمع وحشد فعلم شهاب الدين أنّه لا يستمر له ملكها إلا بمقامه بها لأنها من أعظم البلاد، فصالح على مال في العاجل والآجل، وسلمها لصاحبها ولما توجّه شهاب الدين إلى الهند عاد خوارزم شاه إلى البلاد، واسترجعها من أيدى غياث الدين، وهرب هندوخان منه؛ وذلك في بقية سنة سبع «2» وتسعين وخمسمائة وسنة ثمان وتسعين.
ذكر وفاة غياث الدين وشىء من سيرته
كانت وفاته في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فأخفيت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، وقد عزم على قصد خوارزم «3» ، فأتاه الخبر بوفاة أخيه، فعاد إلى هراة، وجلس للعزاء في شهر رجب، وخلف غياث الدين من الولد ابنه محمودا،(26/101)
وكان غياث الدين مظفّرا منصورا في حروبه لم تنهزم له راية، وكان قليل المباشرة للحروب» وإنما كان له ذكر ومكائد، وكان جوادا، كريما، حسن الاعتقاد، كثير الصدقات، والأوقاف، بنى المساجد، والمدارس بخراسان للشافعية، وبنى الخانكاهات، وأسقط المكوس، وكان عفيفا عن أموال الناس، ومن مات في بلاده ولا وارث له تصدّق بما يخلّفه، ومن مات من التجار وله أهل بغير بلاده، سلّم ما له لرفقته من التجار، فإن تعذر ذلك سلمه للقاضى إلى أن يصل مستحقّه، وكان إذا وصل إلى بلد عمّ أهله بإحسانه، سيما الفقهاء وأهل الفضل، فإنه يخلع عليهم، ويصلهم، ويفرض لهم الأعطيات في كل سنة من خزائنه، وكان يراعى من يقصده من العلويين، ويجزل صلاتهم وكان حسن الخط، ذا فضل وبلاغة، وكان ينسخ المصاحف بخطه، ويوقفها في المدارس التى أنشأها، ولم يظهر منه تعصب لمذهب على مذهب، وكان يميل إلى الشافعية- لأنه متمذهب بمذهب الشافعى- من غير أن يطمعهم في غيرهم، ولا يعطيهم ما ليس لهم. رحمه الله تعالى.
ذكر استقلال شهاب الدين بالملك وما فعله مع ورثة أخيه
استقل شهاب الدين الغورى بالملك بعد وفاة أخيه غياث الدين في شهر رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وولّى ابن أخيه محمودا مدينة بست، ولقبه بلقب أبيه، وجعله عن الملك بمعزل،(26/102)
ولم يحسن الخلافة عليه «1» بعد أبيه، ولا على غيره من أهله، فمن جملة ما فعله أن غياث الدين كان له زوجة مغنية «2» ، فلما مات أخذها شهاب الدين، وضربها ضربا مبرّحا، وضرب ولدها ربيب غياث الدين، وزوج أختها، وأخذ أموالهم، وسيّرهم إلى بلاد الهند على أقبح صورة، وكانت قد بنت مدرسة، ودفنت فيها أباها وأخاها، فهدمها شهاب الدين، ونبش قبور الأموات، ورمى عظامهم، وفعل ما يناسب هذه الأفعال الشنيعة، وتوجه إلى الهند.
ذكر حصره خوارزم، وانهزامه من الخطا
وفي شهر رمضان سنة ستمائة عاد شهاب الدين من بلاد الهند، وقصد خراسان. وسبب ذلك أنّه بلغه أن خوارزم شاه حصر مدينة هراة، فعاد من الهند حنقا عليه، وقصد خوارزم «3» ، فأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: إما أن ترجع، وإلا حاصرت هراة، ومنها إلى غزنة، وكان خوارزم شاه بمرو، فأجابه شهاب الدين: لعلك تنهزم على عادتك أول مرّة، وخوارزم تجمعنا.
فسار خوارزم شاه من مرو إلى خوارزم، فسبق شهاب الدين إليها، وحرّق العلوفات التى في الطريق، وقطع الطرق بإجراء المياه، فتعذّر على شهاب الدين سلوكها، فأقام أربعين يوما حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم، فخرج(26/103)
إليه خوارزم شاه، والتقى العسكران بصوقرا «1» ، ومعناه: الماء الأسود، واقتتلوا، فأسر جماعة من الخوارزمية، وأمر شهاب الدين بقتلهم، وكان خوارزم شاه أرسل إلى ملك الخطا يستنجد، فسار من بلاده بما وراء النهر لقصد شهاب الدين، فعاد عن خوارزم، ولقى أوائل عسكر الخطا في صحراء أيدى حوى «2» فى أول صفر سنة إحدى وستمائة، فقتل منهم وأسر، ثم دهمه الخطا في اليوم الثانى، فانهزم عسكره منهم، وبقى شهاب الدين في نفر يسير، وقتل بيده أربعة من فيلته كانت قدعيت، وأخذ الخطا فيلين، ودخل شهاب الدين إلى أيدى حوى «3» فحصره الخطا بها، ثم صالحوه على فيل ثالث يعطيه لهم، ففعل، وخلص، وشاع الخبر في جميع بلاده أنّه عدم، ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر، وقد قتل أكثر عسكره، ونهبت خزائنه، فأخرج إليه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان خياما، وجمع «4» ما يحتاج إليه، وسار إلى غزنة، واستصحب معه الحسن بن حرميل لأنه بلغه أنّه قصد الانضمام إلى خوارزم شاه، فجعله شهاب الدين أمير حاجب، قال: ولما وصا الخبر بقتله إلى غزنة، جمع تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو أول مملوك اشتراه أصحابه، وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها، فمنعه مستحفظها، فعاد إلى داره، فلما وصل شهاب الدين إلى غزنة أمر بقتل الدز، فشفع(26/104)
فيه مماليك شهاب الدين، فأطلقه، وسار مملوك له اسمه أيبك كان قد سلم «1» من المعركة، فلحق ببلاد الهند، ودخل المولتان، وقتل نائب السلطنة بها، وملك البلد، وأخذ الأموال السلطانية، وأساء السيرة في الرعية، وأشاع قتل شهاب الدين، فلما اتصل خبره بشهاب الدين سار إلى الهند، وأرسل إليه عسكرا، فأخذوه، وقتل شرّ قتلة، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وستمائة، وأمر شهاب الدين أن ينادى في جميع بلاده بغزو الخطا.
ذكر قتل شهاب الدين بنى كركر «2»
كان سبب ذلك أنه لما شاع قتل شهاب الدين خرجوا في البلاد، وأفسدوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا «3» السبيل، فراسلهم قطب الدين أيبك، فامتنعوا عليه، فسار شهاب الدين من غزنة، ووصل إليهم في يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة، فاقتتلوا قتالا شديدا من أول النهار إلى العصر، فبينما هو كذلك، إذ أقبل أيبك نائبه بالهند، فانهزم الكركرية، ومن انضم إليهم، وقتلوا بكل مكان، وقصد من بقى منهم أجمة هناك، وأضرموا نارا، وكان أحدهم يقول لصاحبه: لا تنزل للمسلمين يقتلوك، ثم يلقى نفسه في النار، فيلقى صاحبه نفسه بعده، فعمّهم البلاء، وغنم المسلمون أموالهم وأهلهم، وهرب ابن كركر بعد قتل(26/105)
إخوته وأهله، وكان معهم صاحب قلعة الجودىّ، ثم سار شهاب الدين نحو لهاوور، فأقام بها إلى سادس عشر شهر رجب من السنة، وعاد إلى غزنة.
ذكر مقتل شهاب الدين وشىء من سيرته
كان مقتله في أول ليلة من شعبان سنة اثنتين وستمائة، وذلك أنه لما عاد من لهاوور نزل بمنزلة يقال لها: دميل. بعد صلاة العشاء، وكان بعض الكركريه لزموا عسكره، وقد عزموا على قتله لما فعله بهم من القتل والأسر، فلما كان في هذه اللّيلة تفرّق عنه أصحابه، وبقى وحده في خركاه، فثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحرس بباب السرادق، فثار أصحابه ليبصروا ما به، فخلت مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكركريّة غفلتهم عن التحفّظ، فدخلوا على شهاب الدين، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة، فمات، ودخل أصحابه عليه، فوجدوه قتيلا على مصلاه، وهو ساجد، فقتلوا أولئك النفر الكركريّة، وقيل إن الذى قتله الإسماعيلية لخوفهم من خروجه إلى خراسان.
وكان رحمه الله شجاعا مقداما، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلا في رعيّته، حسن السيرة فيهما، حاكما بينهم بإحكام الشرع الشريف. حكى عنه. أنه لقى صبيا من العلويين عمره خمس سنين، فدعا له الصبى، وقال:
لى خمسة أيام ما أكلت شيئا، فعاد من الركوب لوقته والصبىّ معه، فنزل في داره، وأطعمه من أطيب الطعام بحضرته، وأعطاه مالا،(26/106)
وسلّمه إلى أبيه، وفرق في العلويين مالا عظما، وكان شافعى المذهب رحمه الله تعالى.
ذكر ما اتفق بعد وفاة شهاب الدين
قال: ولما قتل شهاب الدين اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك ابن خواجا «1» ، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، وجعلوا شهاب الدين في محفة، وساروا به، فرتّب الوزير الأمور، وسكّن الناس، وجعل الشمسيّة على المحفّة، وحفّها بالحشم، وكان شهاب الدين قد جمع أموالا عظيمة من بلاد الهند في سفرته، فكانت الخزانة التى معه ألفى حمل ومائتى حمل، وأعاد الوزير من كان معه من العسكر الهندى إلى خدمة قطب الدين، فإن شهاب الدين كان قد جمع العساكر لقصد الخطا، وفرق فيهم أموالا كثيرة، وسار الوزير ومعه العسكر الغزنوى، وكان الوزير والأتراك يميلون إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، والأمراء الغوريّة تميل إلى بهاء الدين سام صاحب باميان، فأرسلت كل طائفة إلى من تميل إليه يعرفونه قتل شهاب الدين، ثم سار الوزير والعسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان المدينة التى بين لهاوور وغزنة، وكان بها تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، فلما عاين المحفّة ترجّل، وقبّل الأرض على عادته، وتقدّم وكشف عن شهاب الدين، فلما رآه قتيلا خرّق ثيابه، وصاح، وبكى، وأبكى الناس، وكان من أكبر المماليك الشهابية، فطمع في ملك غزنة، فسأل(26/107)
الوزير عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وما بقى، فأنكر عليه، وأساء جوابه، وقال: إن الغوريه قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملّكوه غزنة، وقد كتب إلىّ غّياث الدين «1» ، وهو مولاى وابن مولاى، يأمرنى ألّا أترك أحدا يقرب من غزنة، وقد جعلنى نائبه فيها، وفي سائر الولاية المجاورة لها لاشتغاله بخراسان، وقد أمرنى أيضا أن أتسلم الخزانة منك، فلم يقدر الوزير على الامتناع لميل الأتراك إلى الدز، فتسلمها، وسار بالمحفة إلى غزنة، فدفن شهاب الدين بمدرسته، وكان وصولهم إليها لثمان بقين من شعبان سنة اثنتين وستمائة.
ذكر مسير بهاء الدين سام صاحب باميان الى غزنة» ووفاته
وبهاء الدين سام هذا هو ابن أخت غياث الدين، وشهاب الدين، وكانا قد ملكاه باميان، فأحسن السيرة، وأحبّه الأمراء الغوريه، وكاتبوه للحضور إلى غزنة، فأعاد عليهم الجواب يأمرهم بحفظ البلد، وأنه واصل إليهم، وسار عن باميان مرحلتين، فوجد في رأسه صداعا اشتدّ عليه، فنزل وقد أيقن بالموت، وأحضر ولديه:
علاء الدين وجلال الدين، وعهد بالملك إلى علاء الدين، وأوصاهما بالأمراء الغورية، ومات.(26/108)
ذكر ملك علاء الدين بن سام مدينة غزنة، وأخذها منه
قال: ولما توفى بهاء الدين سام، وعهد إلى ابنه علاء الدين، سار إلى غزنه، ومعه أخوه جلال الدين، فتلقّاهما الأمراء الغورية، وخرج الأتراك «1» معهم على كره، ونزلا دار السلطنة في مستهل شهر رمضان سنة اثنتين وستمائة، فأراد الأتراك منعهم، فنهاهم الوزير عن ذلك لقلّتهم، واشتغال غياث الدين بابن حرميل صاحب هراة، فاستقر علاء الدين، وجلال الدين بدار السلطنة بالقلعة، فراسلهما الأتراك أن يخرجا من الدار، وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالا كثيرة واستحلفاهم «2» ، فحلفوا، [واستبوا] «3» غياث الدين محمود، فأنفذا خلعا إلى تاج الدين الدز، ووعداه الجميل والحكم في دولتهما، فوصله الرسول، وقد سار عن كرمان لقصد غزنة، فردّه أقبح رد، وقال: قل لهما يخرجان من غزنة، ويكتفيان بباميان، فإنى لا أقدم أحدا على ولد سيدى غياث الدين، ولم يقصد الدز بذلك حفظ البيت وإنما أراد التمهيد لنفسه، فعاد الرسول، وأبلغهما مقالته، ووصل الدز إلى غزنة، فخرج إليه الغوريه، والتقوا في خامس شهر رمضان، فانحاز إليه الأتراك، وخدموه، فهزموا الغوريه، ودخل العسكر المدينة، ونهبوا دور الأمراء الغورية «4» ، والباميانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها إلى باميان في نحو عشرين فارسا ليجمع العساكر،(26/109)
وأوصى أخاه علاء الدين بحفظ الحصن، فشدد عليه الدز الحصار، وضيق عليه، فأجاب إلى مفارقة الحصن، وحلف الدز أنه لا يؤذيه، وسار علاء الدين من غزنة، فلما رآه الأتراك نهبوا ما كان معه، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عريانا بسراويل، فبلغ الدز الخبر، فأنكر عليهم، وأرسل إليه بثياب ودواب ومال، واعتذر إليه «1» ، فأخذ ما لبسه، ورد الباقى، ولما وصل إلى باميان لبس ثياب سواد، وركب حمارا، فأخرجوا له المراكب الملوكية والملابس، فلم يلبس ولم يركب، وقال: أريد أن يرانى الناس على هذه الحال، وما صنع بى أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبت أهلها لا يلومنى أحد، ودخل دار الإمارة، وشرع في جمع العساكر.
ذكر ملك تاج الدين الدز غزنة
قال: ولما توجّه علاء الدين من غزنة، أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين إلا أنه لم يأمر بالخطبة له ولا لغيره، إنما:
يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين فحسب، فلما كان في سادس عشر رمضان أحضر القضاة والفقهاء والقراء والمقدمين، وأحضر رسول الخليفة، وهو مجد الدين أبو على بن أبى الربيع مدرس النظامية، وكان قد حضر برسالة من دار الخلافة إلى شهاب الدين، فوجده قد قتل، وركب الدز والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في دار السلطنة في غير المجلس الذى كان(26/110)
يجلس فيه مولاه شهاب الدين، [فتغير] «1» الناس عليه، وتنكروا له، فإنهم أنما كانوا يطيعونه لإظهاره طاعة غياث الدين محمود، فلما استقل بالأمر خالفوه، ففرق فيهم الأموال والإقطاعات، واستعان على ذلك بالخزانة التى أخذها عند مقتل شهاب الدين، وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد الملوك الغورية، وغيرهم من الأكابر، فأنفوا من خدمته، واستأذنوه على اللحاق بغياث الدين، فأذن لهم، فلحق بعضهم به، وبعضهم بأصحاب باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره على ما فعل ويطالبه «2» بالخطبة له، ونقش السكة باسمه، فلم يفعل، وغالط في الجواب، وطلب منه أن يخاطب بالملك، وأن يعتقه من الرق، وأن يزوج بن غياث الدين، بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك: قال، ولما ملك الدز غزنة أحضر مؤيد الملك الوزير، وألزمه الوزارة، فوزر على كره منه.
ذكر حال غياث الدين محمود بن غياث الدين بعد مقتل عمه شهاب الدين
قال: لما قتل شهاب الدين كان غياث الدين هذا «ببست» فى إقطاعه، فبلغه الخبر، وكان شهاب الدين قد ولى الملك علاء الدين محمد بن أبى على بلاد الغور، وغيرها مما يجاورها، فلما بلغه قتل شهاب الدين، سار إلى مدينة: «فيروزكوه» ؛ خوفا أن يسبقه(26/111)
غياث الدين إليها «1» ، فملكها، وكان حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية إلا أن الناس كرهوا منه أنّه كان كرّاميا، وكانوا يميلون إلى غياث الدين، فأنف الأمراء من خدمة علاء الدين مع وجود ابن سلطانهم، وكان علاء الدين هذا قد أحضر الناس، وحلفهم أنهم يساعدونه على قتال خوارزم شاه، وبهاء الدين صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقارا له، فحلفوا له ولولده من بعده، هذا وغياث الدين بمدينة بست لم يتحرك انتظارا لما يكون من صاحب باميان لأنّهما كانا قد تعاهدا في أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين، وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان، بعد موت شهاب الدين، فلما بلغه ما اتفق من وفاة بهاء الدين وإخراج أولاده من غزنة جلس على التخت، وخطب لنفسه، وتلقب بألقاب والده، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبى على، وهو بفيروزكوه يستدعيه، ويستعطفه ليصدر «2» عن رأيه، ويسلم مملكته إليه، وكتب إلى الحسن بن جرميل وإلى هراة مثل ذلك، فأما علاء الدين فأغلظ له «3» فى القول ونهدّد الأمراء الذين مع غياث الدين، فسار غياث الدين إلى «فيروزكوه» ، فأرسل علاء الدين عسكرا مع ابنه، وفرق فيهم أموالا جمة ليمنعوا غياث الدين، فلقوه بالقرب من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسماعيل الخلجى المغفر «4» عن رأسه، وقال: «الحمد(26/112)
لله إذ «1» الأتراك الذين لم يعرفوا أباهم لم يضيعوا حق التربية» ، وردّوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان وربّاكم، كفرتم إحسانه، وجئتم لقتال ولده أهذا فعل الأحرار، فقال محمد المرغنى، وهو مقدم العسكر: لا والله وترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، وقبل الأرض بين يديه، وبكى بصوت عال، وفعل سائر الغورية مثل فعله، فانهزم خواصّ علاء الدين مع ولده، فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هاربا نحو الغور، وهو يقول: أجاور بمكة، فأنفذ غياث الدين خلفه من العسكر من أدركه، فأخذ وحبس، وملك غياث الدين فيروزكوه، وفرح به أهل البلد، وقبض على جماعة من الكرّاميّة أصحاب علاء الدين، فقتل بعضهم، وسكن دار أبيه، وأعاد رسومه، وسلك سبيل العدل والإحسان، ثم لم تكن له همة إلا في أمر الحسن بن حرميل، وملاطفته، فتكررت المكاتبات منه إليه، وابن حرميل يغالظه «2» فى الجواب، ويطاوله، وكان ابن حرميل «3» قد كتب إلى خوارزم شاه بالانحياز إليه، وبذل الطاعة، وأنه يسلم إليه هراة، فكان من أمره ما نذكره في أخبار الدولة الخوارزمية من انضمام بن حرميل إلى خوارزم شاه، وملكه ما كان للغورية بخراسان، والله أعلم بالصواب.(26/113)
ذكر عود علاء الدين وجلال الدين ابنى بهاء الدين سام صاحب باميان الى غزنة
قال: ولما فارق علاء الدين غزنة على الصّفة التى ذكرناها، والتحق بباميان، شرع في الاستعداد وجمع العساكر لقصد غزنة، وأما الدزّ، فإنه استولى على غزنة، وأحسن إلى الناس، وبسط العدل والإنصاف، ولم يخطب لنفسه ولا لغيره، وكان يعد الناس، ويقول: إن رسولى عند مولاى غياث الدين، فإذا عاد خطبت له، فتمسك «1» الناس بقوله، وإنما كان يفعل ذلك مكرا وخديعة بهم وبغياث الدين لأنه كان يضعف عن مقاومة صاحب باميان، وكانوا كذلك «2» إلى خامس ذى القعدة سنة اثنتين وستمائة، فبينما الناس على ذلك إذ ورد عليهم الخبر أن صاحب باميان قد جمع الجيوش، وأقبل بها، وعزم على نهب غزنة، فجهز الدز جيشا كثيفا من عسكره، وسيرهم إلى طريق صاحب باميان ليمنعوه من الوصول إلى غزنة، فلم يكن لهم قبل به، فلما التقوا قتل من الأتراك جماعة، وانهزم من سلم، وتبعهم علاء الدين يقتل ويأسر، فخرج الدز من غزنة هاربا إلى كرمان، فنزل علاء الدين غزنة، واتبع الدز إلى كرمان، فملكها، وأمّن أهلها، وعزم على العود إلى غزنة، ونهبها، فراسله رسول الخليفة، وشفع في أهلها، فشفّعه فيهم بعد مراجعات، ثم وصل علاء الدين، وجلال الدين إلى غزنة، ومعهما ما بقى من الخزانة التى كان الدز(26/114)
قد أخذها من الوزير مؤيد الملك، فكانت تسعمائة حمل، وفيها من الثياب المنسوجة بالذهب اثنا عشر ألف ثوب، وقصد علاء الدين أن يستوزر مؤيّد الملك، فسمع جلال الدين بذلك فأحضره، وخلع عليه، واستوزره، فغضب علاء الدين من ذلك، وقبض على مؤيد الملك، وقيده وحبسه، فتغيرت نيّات الناس، واختلف علاء الدين، وجلال الدين، واقتسما ما كان في الخزانة وجرى بينهما مشاحّة «1» فى القسمة لا تجرى بين التجار، فعلم الناس أنه لا يتم لهما أمر، ولا يستقيم لهما دولة، وعاد جلال الدين ببعض العسكر إلى باميان، واستقر علاء الدين بغزنة، فأساء وزيره عماد الملك السيرة في الأجناد والرعية ونهب أموال الأتراك حتى باع أمهات الأولاد.
ذكر عود تاج الدين الدز الى غزنة
قال: ولما انفرد علاء الدين بغزنة، وأقام بها جمع الدز جمعا كثيرا من الأتراك، وعاد إلى كرمان، وبها عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له المؤيد، وكان المؤيد قد اشتغل باللهو واللعب، فلم يشعر إلا وعسكر الدز قد هجم على البلد «2» ، وقتل من فيه من العسكر عن آخرهم في المعركة صبرا، وقتل المؤيد، فوصل الخبر إلى غزنة فى العشرين من ذى الحجة من السنة، فصلب علاء الدين الذى جاء بالخبر، فتغيمت السماء وأمطرت حتى خرب بعض غزنة، ووقع برد كبار مثل بيض الدجاج، فضج الناس إلى علاء الدين، فأنزله آخر(26/115)
النهار، فانكشفت الظلمة، وكتب علاء الدين إلى أخيه جلال الدين يعلمه بالخبر، ويستنجده، ووصل الدز آخر ذى القعدة إلى غزنة، وحاصر القلعة، وكان بينه وبين علاء الدين قتال شديد، وجاء جلال الدين بأربعة آلاف من عسكر باميان، فلقيه الدز بقرية [بلق «1» ] واقتتلوا، فانهزم عسكر جلال الدين، وأخذ هو أسيرا، وأسر من البامانية ألف أسير، وعاد الدز إلى غزنة، فبعث إلى علاء الدين في تسليم القلعة أو قتل الأسرى، فامتنع من التسليم فقتل منهم أربعمائة بإزاء القلعة، فراسله عند ذلك في طلب الأمان، فأمنه، فلما خرج قبض عليه ووكل به وبأخيه [من يحفظهما] «2» وقبض على وزيره عماد الملك، وكتب إلى غياث الدين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام، وبعض الأسرى وذلك في صفر [سنه 603] «3»
ذكر ما اتفق لغياث الدين محمود مع تاج الدين الدز وأيبك «4»
قال: ولما عاد الدز إلى غزنة كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له، فأجابه جواب مدافع، وكان جوابه أشد مما تقدم، فأعاد عليه الجواب يقول: إما أن تخطب لنا، وإما أن تعرفنا ما في نفسك، فلما وصل إليه الرسول خطب لنفسه بغزنة بعد الترحم على شهاب الدين، فساء الناس ذلك منه، وتنكروا له، ولم يروه أهلا(26/116)
أن يخدموه، ولما خطب لنفسه أرسل إلى غياث الدين يقول: بماذا تشتط «1» على هذه الخزانة، نحن جمعناها بأسيافنا، وهذا الملك قد أخذته، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة، وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتنى بأمور لم تف لى بشىء منها، فإن أنت عتقتنى خطبت لك، وحضرت إلى عندك، فأجابه غياث الدين إلى العتق بعد الامتناع، وأشهد عليه بعتقه، وبعتق قطب الدين أيبك النائب ببلاد الهند. وأرسل إلى كل منهما ألف قباء، وألف قلنسوة، ومناطق الذهب، وسيوفا كثيرة، وجترين، ومائة رأس من الخيل، فقبل الدز الخلع، ورد الجتر، وقال: نحن عبيدك، والجتر له أصحاب، وسار رسول أيبك، وكان «بفرشابور «2» » ، وقد حفظ المملكة، وضبط البلاد، فلما قرب الرسول منه تلقاه، وترجل وقبل حافر الفرس، ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجازيه بعبودية الأبد.
قال: وأرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا، وأنه يسير إليه العساكر إلى غزنة، فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثا، ثلث له، وثلث لغياث الدين، وثلث للعسكر، فأجابه غياث الدين إلى ذلك، ولم يبق إلا الصلح، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران، فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح، فجزع لذلك جزعا عظيما، ظهر أثره عليه، وأرسل إلى غياث الدين(26/117)
يقول له «1» : ما حملك على هذا فأجابه: حملنى عليه عصيانك وخلافك، فسار الدز إلى [تكيناباد] «2» فأخذها، وإلى بست وتلك الأعمال، وقطع خطبة غياث الدين عنها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين، وقطع خطبة خوارزم شاه، وأرسل إلى ابن حرميل صاحب هراة بمثل ذلك، وتهددهما بقصد بلادهما. ثم إن الدز أخرج جلال الدين صاحب باميان [من أسره] «3» ، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أيدكز «4» ، لإعادته إلى ملك باميان، وكان قد ملكها عباس عم جلال الدين، وعلاء الدين لما أسرهما الدز، فاسترجعها من عمه.
قال: وبلغ قطب الدين أيبك ما فعله الدز، فكتب إليه يفتح ذلك عليه، وينكر فعله، ويقول: إن لم تخطب له بغزنة، وتعود إلى طاعته، وإلا قصدت بلادك، ثم بعث أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف، وأشار عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلبه الآن، وأنه عند الفراغ من أمر غزنة يسهل أمر خوارزم شاه وغيره، قال: وخالف أيدكز على الدز، فأقام بكابل، وكتب إلى أيبك يعرفه مخالفته له، وانتصاره لغياث الدين فصوب رأيه، وأشار عليه بقصد غزنة في غيبة الدز، فإن حصلت له القلعة يقيم بها إلى أن يأتيه، وإن تعذرت عليه ينحاز إلى غياث الدين، أو يعود إلى كابل، فوصل أيدكز إلى غزنة في أول شهر رجب(26/118)
سنة ثلاث وستمائة، فمنعوه القلعة، فأمر أصحابه بنهب البلد فنهبوا عدة مواضع، فتوسط القاضى بينهم أن يسلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية «1» ، وأخذ له من التجار شيئا آخر، وخطب أيدكز بغزنة لغياث الدين محمود، وقطع خطبة الدز، ففرح الناس لذلك، واتصل الخبر بالدز، ووصل إليه رسول أيبك، فخطب لغياث الدين في تكيناباد «2» ، وأسقط اسمه من الخطبة، ورحل إلى غزنة، فلما قاربها فارقها أيدكز إلى بلد الغور، وأقام في نمران، «3» وكتب إلى غياث الدين [محمود] »
، يخبره بحاله، وأنفذ إليه المال الذى أخذه من الخزانة والتجار بغزنة، فأرسل إليه خلعا سنية، وأعتقه، وخاطبه بملك الأمراء، ورد عليه مال الخزانة «5» ، وقال له:
أما مال الخزانة، فقد أعدناه إليك، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلناها إلى أربابها لئلا تقبح دولتنا بالظلم، وقد عوضتك عنها ضعفيها، وأرسل أموال الناس إلى القاضى بغزنة، وأمره بردها على أربابها، ففعل ذلك، وكثر الدعاء له، وصار الدز بين الطاعة والخلاف لغياث الدين.(26/119)
ذكر مقتل غياث الدين محمود، وانقراض الدولة الغورية
كان مقتلة في سنة خمس وستمائة. وسبب ذلك أن خوارزم شاه سلم هراة إلى خاله أمين «1» ملك، وأمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام «2» ، ويقبض عليه، وعلى على شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه، فسار أمين ملك إلى فيروزكوه، واتصل الخبر بغياث الدين، فبذل الطاعة، وطلب الأمان، فأمنه، فلما نزل إليه من فيروزكوه قبض عليه، وعلى على شاه أخى خوارزم شاه، فسألهما أن يحملهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيه، فأرسل أمين «3» ملك إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر، فأمره بقتلهما، فقتلا في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه. وانقرضت الدولة الغورية بقتل غياث الدين هذا، وكانت من أحسن الدول، وأكثرها جهادا، وكان غياث الدين هذا عادلا كريما حليما، من أحسن الملوك سيرة، وأكرمهم أخلاقا، وهو آخر ملوك الدولة الغورية، وكان ابتداء هذه الدولة من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وانقراضها في سنة خمس وستمائة، فتكون مدتها ثلاثا وستين سنة تقريبا، وربما ظهرت قبل هذا التاريخ، وإنما انتشرت واشتهرت وتمكنت في سنة ثلاث وأربعين. فلذلك جعلنا ابتداءها فيها. وعدة من ملك منهم عشرة ملوك، وهم محمد بن الحسين وهو بن الحسن ملك ببلاد الغور قبل سنة ثلاث وأربعين، ولم أظفر بابتداء ملكه،(26/120)
فاذكره في سنته، ثم ملك بعده أخوه سام بن الحسين، ثم ملك بعده أخوه سورى بن الحسين، ثم ملك بعده أخوه الحسين، وهو أول من علا ذكره، وطار اسمه، وتمكّنت دولته، ثم ملك بعده ابنه سيف الدين محمد بن الحسين، ثم ملك بعده غياث الدين أبو الفتح محمد ابن سام بن الحسين، ثم ملك بعده شهاب الدين محمد بن سام، ثم اضطرب أمر الدولة الغورية بعده، فملك علاء الدين، وجلال الدين ابنا بهاء الدين سام صاحب باميان، ولم تطل مدّتهما. وإنما ذكرناهما في عدد الملوك الغورية؛ لأنهما استوليا على غزنة، وخطب لهما بها، وملك غياث الدين محمد، وكانت دولته في غاية الاضطراب كما ذكرنا.
ذكر أخبار تاج الدين الدز، وما كان من أمره بعد مقتل غياث الدين
استقبل تاج الدين الدز بملك غزنة بعد مقتل غياث الدين محمود، وأحسن السيرة في الرعية، ودام ملكه بها إلى أن ملكها السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن رتكش «1» فى سنة ثنتى عشرة وستمائة «2» على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الخوارزمية، ولما ملكها خوارزم شاه هرب تاج الدين الدز من غزنة، وسار إلى مدينة «لهاوور» ، واستولى عليها من صاحبها ناصر الدين قباجة(26/121)
وهو من المماليك الشهابية بعد حرب كانت «1» بينهما انتصر فيها الدز، ثم سار من مدينة لهاوور إلى الهند ليملك ما بيد المسلمين منها، فلقيه شمس الدين الترمش مملوك قطب الدين أيبك، وكان قد ملك بعد وفاة مولاه، فاقتتلا قتالا شديدا، أجلت الحرب عن قتل تاج الدين الدز، وكان محمود السيرة في ولايته، كثير العدل والإحسان إلى رعيته، لا سيما التجار الغرباء، ومن محاسن أعماله ومكارم أخلاقه وحلمه أنه كان له أولاد، ولهم مؤدّب يعلمهم القرآن، فضرب أحدهم، فمات، فأحضره الدز، وقال له: يا مسكين ما حملك على ما فعلت، فقال:
والله ما أردت إلا تأديبه، فمات. فقال له: صدقت، وأعطاه نفقة، وقال له: تغيّب، فإن أمّه لا تقدر على الصبر، وربما أهلكتك، ولا أقدر أمنعك، وهذا نهاية الحلم، ولم يشتهر الأحنف بن قيس بالحلم بأكثر من هذا، وكان القاتل ابن أخيه، وهذا أجنبى رحمه الله تعالى.(26/122)
الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك العراق، وما والاه وملوك الموصل والديار الجزيرية، والبكرية «1» والبلاد الشامية، والحلبية، والدولة الحمدانية، والديلمية البويهية، والسلجوقية، والأتابكية.
ذكر أخبار الدولة الحمدانية
وهذه الدوله كانت بالموصل. وديار ربيعة، وديار بكر، والثغور، وحلب، وجذ ملوكها الذين ينسبون إليه هو مكابد المحل حمدان بن الحارث بن لقمان بن راشد بن رافع بن مسعود التغلبى «2» العدوى، وإنما سمى الأمير حمدان مكابد المحل لأن الموصل أجدبت في بعض السنين حتى عدم القوت بها، فمات الناس أجمع سنتين إلى أن أغيثوا، ففيه يقول الشاعر:
مازلت في قيظ المعيشة جاهدا ... حتّى دعيت مكابد المحل(26/123)
وكان لحمدان أبناء كثيرون. منهم الأمير أبو الهيجاء عبد الله، والمملكة في أولاده.
ذكر ابتداء امارة أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بالموصل
كان ابتداء إمارته في سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وذلك أن الخليفة المكتفى «1» بالله استعمله على الموصل وأعمالها في هذه السنة، فسار إليها وقدمها في «2» أول المحرم، فأقام بها يوما واحدا، وخرج من الغد بمن قدم معه وبمن فيها، فأتاه الصريخ من نينرى أن الأكراد [الهذانية] «3» ، ومقدمهم محمد بن بلال قد أغار على البلد، فسار من وقته، وعبر الجسر إلى الجانب الشرقى، فلحق الأكراد بالعروبة على [الخازر] «4» ، فقاتلوه فقتل رجل من وجوه أصحابه اسمه سيما الحمدانى، فعاد عنهم، وكتب إلى الخليفة يستمده، فأتته العساكر بعد شهور، فسار في شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين إليهم، وكانوا قد اجتمعوا في خمسة آلاف بيت، فلما عاين الأكراد الجيش قصدوا جبل السّلق، وامتنعوا به وهو جبل عال مشرف على الزاب، وجاء مقدمهم إلى أن قرب من أبى الهيجاء، وراسله في الحضور عنده،(26/124)
وأن يرهن أولاده عنده، ويتركون القتال، فأجابه أبو الهيجاء إلى ذلك، ورجع محمد بن بلال ليأتى بالرهائن، فحثّ أصحابه على المسير نحو أذربيجان، فبلغ بن حمدان خبره، فأراه النجدة التى وصلت إليه من قبل الخليفة على المسير معه، فتثبطوا عنه، فسار عبد الله بأصحابه يقفوا أثر الأكراد، فلحقهم وقد تعلقوا بالجبل المعروف بالقنديل، فقتل منهم جماعة، وانصرف عنهم، ولحق الأكراد بأذربيجان، ورجع عبد الله إلى الموصل، ثم خرج إلى الأكراد، وحاصرهم بجبل السّلق أشد حصار، فنجا محمد بن بلال بأهله وأولاده ومن لحق بهم، واستولى عبد الله على بيوتهم وسوادهم وأموالهم وأهليهم، فطلبوا الأمان فأمنهم، وأبقى عليهم وردهم إلى بلدهم، ورد عليهم أموالهم، وقتل منهم قاتل صاحبه سيما، وأمنت البلاد معه، وأحسن السيرة في أهلها «1» ، ثم حضر إليه محمد بن بلال بأمان، وأقام بالموصل «2» ، وتتابع الأكراد الحميدية وأهل جبل داسن «3» إليه بالأمان، فأمنت البلاد، واستقامت، ولم تزل كذلك إلى سنة إحدى وثلاثمائة.(26/125)
ذكر مخالفة عبد الله بن حمدان، ورجوعه الى الطاعة
وفي سنة إحدى وثلاثمائة خالف الأمير أبو الهيجاء عبد الله على الخليفة المقتدر بالله، فثار به أهله، ونهبوا داره، فكتب إلى بنى تغلب «1» ، فأتوه فدخل «2» الموصل، وأوقع بأهلها وقتل منهم فأرسل إليه الخليفة مؤنسا المظفر في جيش، فقصده أبو الهيجاء واستأمن له، وأظهر الطاعة، وقال: إنه ما فارقها، وسار معه إلى بغداد، فخلع المقتدر عليه، وولى مكانه نحرير الصغير ولاه «3» مؤنس المظفر.
ذكر القبض على بنى حمدان، واطلاقهم
وفي سنة ثلاث وثلاثمائة قبض الخليفة المقتدر بالله على أبى الهيجاء ابن حمدان، وجميع إخوته وحبسهم، وكان سبب ذلك أنّ أخاه الحسين بن حمدان خرج عن الطاعة، وكان بالجزيرة، فسيّر إليه الخليفة جيشا، وكان بينهم حروب كان آخرها أن الحسين أسر وأحضر إلى بغداد، فقبض المقتدر على جميع إخوته وأهله، وحبسهم واستمروا في الحبس بدار الخليفة إلى سنة خمس وثلاثمائة فأطلقوا.
وفي سنة ثمان وثلاثمائة خلع المقتدر بالله على أبى الهيجاء بن حمدان، وقلّده طريق خراسان، والدّينور، وخلع على أخويه أبى العلاء وأبى السرايا.(26/126)
وفي سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة. أسر القرامطة أبا الهيجاء بن حمدان، ثم أطلقوه، وقد تقدم ذكر ذلك في أخبار القرامطة. وفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة ضمن أبو الهيجاء أعمال الخراج والضياع بالموصل [وقردى وبازبدى] «1» ، وما مع ذلك مضافا إلى ما بيده من ولاية طريق خراسان، وغيرها، وكان هو مقيما ببغداد وابنه ناصر الدولة يخلفه بالموصل، وأقام على ذلك إلى أن قتل في يوم الإثنين سابع عشر المحرّم سنة سبع عشرة وثلاثمائة عند خلع المقتدر بالله وبيعة القاهر على ما شرحناه مبينا في خلافة المقتدر بالله.
وكان القاهر بالله لما بويع بالخلافة في النصف من المحرم اختص بأبى الهيجاء حمدان، فلما ثار الجند بعد يومين من بيعته كان أبو الهيجاء عنده، فبادر بالقيام ليخرج، فتعلق القاهر بأذياله، واستجار به، فحملته الحمية العربية على الثبات، ودخل الأجناد على القاهر وهو وأبو الهيجا [يتخللان] «2» القاعات حتى حصرا «3» بقاعة، فدخل عليهم الجند من بابها، فجرد أبو الهيجاء سيفه، وأوقف القاهر وراءه، وصار يحمل على الأجناد، فيردهم إلى الدهاليز، ثم يعود ويعودون، فصعد بعض الجند إلى أعلى القاعة، ورموه بالنشاب إلى أن مات. هذا أحد ما قيل في صفة قتله. وكان شجاعا فاتكا كريما محبوبا إلى الخفاء والأمراء، وخلف من الأولاد: أبا محمد الحسن، وأبا الحسين على،(26/127)
وأبا العطاف خير، وأبا زهير. والمملكة من هؤلاء في الحسن وعلى وعقبهما، واستبد ابنه الحسن بالأمر على ما نذكره بعد ذكرنا لأخبار عمه الحسين بن حمدان.
ذكر أخبار الحسين بن حمدان بن حمدون، وهو أخو أبى الهيجاء
كان الحسين هذا من أمراء بنى حمدان المشهورين ولى قمّ وأعمالها، والموصل، والجزيرة، وغير ذلك من الأعمال الجليلة، وكان شجاعا سفاكا، ذا همّة عالية، اجتمع عنده نيّف وعشرون طوقا من خلع الخلفاء كلّ طوق منها لقتله خارجيّا، ولم يزل عند الخلفاء يعدّ للمهمات إلى أن خالف على المقتدر بالله في سنة ثلاث وثلاثمائه. وكان إذ ذاك بالجزيرة، وجمع نحوا من عشرة آلاف، فبعث المقتدر لحربه [رائقا] «1» الحجرى في جيش كثيف، فانهزم الحسين، وقصد ابن أبى الساج بأذربيجان، ومرّ على أرزن فخرج إليه واليها ليردّه، فهزمه الحسين. وكان مؤنس المظفّر بالقرب من أرزن، فبعث إليه من أدركه، وقبض عليه، وأدخل إلى بغداد، وهو مشهور على جمل في زى شنيع وابنه كذلك، وقبض عند ذلك على سائر إخوته، وهم أبو الهيجاء، وأبو العلاء سعيد، وأبو السرايا، وأبو الوليد، وحمدون، واعتقلوا في دار الخلافة، ولم يترك منهم إلا داود، وأقام(26/128)
الحسين في الحبس إلى أن عزم الخليفة على إخراجه في سنة خمس وثلاثمائة وتوليته مقدمة الجيش لمحاربة يوسف بن أبى الساج، فلم يفعل، وامتنع، وقال: الساعة لما احتجتم «1» لى، فغضب الخليفة لذلك، وأمر قاهرا الخادم أن يقتله، فقتله في الحبس، ورمى رأسه إليه ورميت جثّته في دجلة، وأطلق عند ذلك سائر بنى حمدان، وما منهم، إلا من له ذكر وتقدم، وإنما خصصنا عبد الله والحسين بالذكر دون غيرهما من إخوتهما لاشتهارهما في الدولة العبّاسية، وتقدمهما، ولأنهما وليا جلائل الأعمال، وتقدما على الجيوش في الحروب. وقد تقدم من أخبارهما في الدولة العباسية ما يستدل به على تقدمهما وشجاعتهما، وذكرنا أيضا في أخبار الخوارج بالموصل كيف كان ظفر الحسين بهارون الخارجى الذى كانت فتنته قدعمت، فلنذكر الطبقة الثانية منهم، وهم أولاد عبد الله بن حمدون.
ذكر أخبار ناصر الدولة
هو أبو محمد الحسن «2» بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان ابن حمدون. لما قتل والده كان يخلفه بالموصل وأعمالها، فتقدم في خدمة الدولة العباسية، وتنقل في الولايات إلى أن تولى الموصل في أيام الراضى بالله، وتغلب عليها في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة(26/129)
لما ضعفت الدولة العباسية، فندب ابن مقلة الوزير إليه عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان، وولاه الموصل، وأمره بالقبض على ناصر الدولة، فلما قرب من الموصل، خرج ناصر الدولة لتلقيه، فخالفه سعيد، ودخل البلد [ونزل] «1» داره، وقبض على خزائنه، فبلغه الخبر فرجع عجلا، ودخل الدار، وقبض على عمه، وأمر بعض الغلمان بعصر مذاكيره، فعصرت حتى مات، وذلك في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، فاتصل الخبر بابن مقلة، فتجهز في العساكر الخليفية، وسار من بغداد إلى الموصل لخمس خلون من شعبان، وكان ناصر الدولة لدهائه ومكره لا يصافف من يقصده، فلما بلغه خبر مسير بن مقلة، رفع أمواله وخزائنه وحرمه إلى قلعة الموصل، وجعل فيها من خواص غلمانه من يدفع عنها، ثم خرج من الموصل فى عسكره، وأخرج معه كل تاجر في البلد، ولم يترك بالموصل علوفة ولا قوتا إلا رفعه إلى القلعة، فوصل الوزير بن مقلة إلى الموصل، وهى بهذه الصفة، فأقام بحال سيئة، وبعث بالعساكر مع على بن خلف بن طيّاب «2» فى طلب ناصر الدولة، فسار خلفه ودخل ناصر الدولة إلى أرمينية، فعاد ابن طياب ولم يتبعه، وطال المقام على ابن مقلة، ونفدت الأقوات، فقلد الموصل لعلى بن خلف، وقلد جزيرة ابن عمر لما كرد الدّيلمى، وقلد عبد الله بن أبى العلاء المقتول والده نصيبين وعاد إلى بغداد، وانتهى الخبر إلى ناصر الدولة، فخرج من أرمينية، وقد أطاعه سائر ملوكها وجبى خراجها، وقصد الجزيرة(26/130)
وبها ما كرد، فكاتب ما كرد من كان مع ناصر الدولة من الأمراء، ووعدهم عن الوزير ابن مقلة، فاستأمنوا إليه، وفارقوا ناصر الدولة، فانفصل عن الجزيرة كالمنهزم وراسل على بن أبى جعفر «1» الديلمى وهو مع على بن خلف بالموصل، ووعده الجميل والإحسان إليه، فأفسد من مع ابن طياب، ووصل ناصر الدولة إلى الموصل ودخلها، فاستأمنوا إليه، وخرج بن طياب هاربا في ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ثم جهز ناصر الدولة الجيوش مع على بن أبى جعفر إلى الجزيرة لقتال ما كرد، وإخراجه منها، فلما قرب «2» منها، فارقها ما كرد وسار إلى نصيبين «3» ، واستنجد بأبى ثابت العلاء بن المعمر «4» ، فجمع له، العرب وأنجده، فكتب علىّ لناصر الدولة بالخبر بأخيه سيف الدولة على بن عبد الله، وأمر على بطاعته، ثم سار ناصر الدولة بنفسه تابعا لأخيه وقاتل ما كرد وأبا ثابت، فقتل أبو ثابت، وهرب ما كرد إلى الرقة، وانهزمت بنو حبيب بعد مقتل أبى ثابت إلى بلاد الروم وتنصروا إلى الآن، واستقامت مملكة الموصل، وديار ربيعة، ومضر لناصر الدولة، وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة خرج الخليفة الراضى بالله، ومعه بجكم «5» طالبا الموصل، فأخرج ناصر الدولة جيشه مع ابن عمه الحارث بن سعيد، فلما التقى الجيشان، وقع في جيش ناصر الدولة أنه استأمن، فانهزموا إلى(26/131)
ناصر الدولة، فدخل الموصل في ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم، وصلى الجمعة، ثم خرج من الموصل، ودخلها بجكم يوم السبت، وسار ناصر الدولة إلى الخالدية ثم رحل منها يريد برقعيد «1» ، وبقى بها جماعة من أهله، ووافى بجكم الخالدية، فأوقع بهم وخرج أبو وائل وتمادى الأمر على ذلك، ثم وقع الصلح على مال بذله الحسن، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل لليلتين خلتا من شهر ربيع الآخر منها، واستمر إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة «2» ، والله أعلم بالصواب.
ذكر ولاية ناصر الدولة امرة الأمراء بالعراق
كان «3» سبب ذلك أن أبا الحسن بن البريدي لما ملك بغداد، وهرب المتقى لله إلى الموصل، ومعه أمير الأمراء أبو بكر بن رائق، واستنجد بناصر الدولة، فقتل ناصر الدولة ابن رائق في شهر رجب سنة ثلاثين «4» وثلاثمائة كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار الدولة العباسية، فرد المتقى لله تدبير الدولة إلى ناصر الدولة وساروا جميعا إلى بغداد ومع ناصر الدولة أخوه سيف الدولة، فانهزم البريديون من بين يديه، وتولى ناصر الدولة إمرة الأمراء، ونعته المتقى بهذا النعت، ونعت أخاه: سيف الدولة، وخلع عليهما. وذلك في شوال(26/132)
سنة ثلاثين وثلاثمائة، وزوج المتقى لله ولده أبا منصور بابنة ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة السكة عيادا «1» لم يضرب قبله مثله إلا السندى، وزاد على نقش السكة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم «2» وهو أول من فعل ذلك، وأقام ببغداد ثلاثة عشر شهرا، ثم اجتمعت الأتراك، وقدّموا عليهم توزون، وهو بواسط، وسيف الدولة فى عسكره معهم، وبلغ ناصر الدولة قيام الأتراك، فسار إلى الموصل صحبة المتقى، وأمر أخاه سيف الدولة بمناصبة الأتراك، فكبسه توزون ليلا، فانهزم إلى الموصل، ثم راسل توزون المتقى في الصلح فأجاب، ورجع فكان من أمره والقبض عليه وسمله ما قدمناه.
وأقام ناصر الدولة بالموصل لا يتعرض لبغداد إلى أن ملكها معز الدولة بن بويه الديلمىّ، فتحرك إليها في جمادي الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وحاصر «3» معز الدولة بن بويه حتى كاد يأخذه، ثم رجع عنها في صورة منهزم وامتنع من حمل المال، فتجهز معز الدولة إلى الموصل لقتاله، فرفع أمواله إلى القلعة، ولم يترك في البلد قوتا ولا علوفة البتّة وبقى في خيل جريده «4» .
فلما قرب معز الدولة إلى الموصل فارقها ناصر الدولة، وسار فكان تارة بنصيبين «5» وتارة بآمد، وتارة ببلد «6» ، ونزل معز(26/133)
الدولة قصر ناصر الدولة، وأقام بالموصل، فنفدت الأزواد فبعث بغالا تقلّه مع سراياه إلى القرى لتحصل الأقوات والعلوفات، ففرّق عند ذلك ناصر الدولة بنيه، وهم ثمانية كل منهم تزيد مماليكه وغلمانه على خمسمائة رجل، فكانوا لا يجدون سرية إلا هزموها، ولا قافلة إلا نهبوها، فإذا خرج معز الدولة في طلبهم تكشفوا بين يديه، ويخلفه ناصر الدولة إلى الموصل، فيأخذ ما يجد بها من الأموال، ويرفعه إلى القلعة، وإن وجد أحدا من قواده سجنه بها، فكان هذا دأبه إلى أن استقر الصلح بينه، وبين معز الدولة في سنة خمس وثلاثين. وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة في شهر رجب ملك معز الدولة ابن بويه الموصل، وفارقها ناصر الدولة إلى نصيبين «1» ، فتبعه معز الدولة، ففارقها، وبعث أولاده إلى الموصل لقتال من فيها، فرجع إليهم معز الدولة، فانكشفوا بين يديه، فسار إلى بلد، واجتمع ناصر الدولة بأولاده، وسار إلى الموصل، فأسروا من أصحاب معزّ الدولة الذين تركهم بها نيفا وسبعين قائدا: فقيّدهم ناصر الدولة، وحملهم إلى القلعة، ومعهم ستمائة من الجند، ووجد مائة وثلاثين بدرة لمعزّ الدولة، فأخذها، وخرج من الموصل ومضى إلى حلب، وأقام عند أخيه سيف الدولة، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن تم الصلح بين معزّ الدولة بن بويه وسيف الدولة، وأبى تغلب بن ناصر الدولة على إطلاق الأسرى وردّ ثمانين بدرة، فأجاب إلى ذلك ناصر الدولة، ورجع معز الدولة(26/134)
إلى بغداد، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يزل بها مالكا [لها] «1» من غير منازع إلى أن قبض عليه ولده.
ذكر القبض على ناصر الدولة ووفاته
وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة في ليلة الثلاثاء لست بقين من جمادي الأولى، قبض عدة الدولة أبو تغلب فضل الله على والده ناصر الدولة، وهو نائم بعد أن شاخ وكبر، فحمله على فراشه إلى قلعة الموصل، واعتقله بها، فكان بها إلى أن مات، وكانت وفاته في يوم الجمعة وقت العصر لاثنتى عشرة «2» ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فكانت مدة تغلّبه نحوا من ثلاث وثلاثين سنة، سوى ولاية الموصل قبل ذلك.
وكان له من الأولاد عشرة وهم: عدة الدولة الغضنفر أبو تغلب فضل الله «3» ، وكان قد ولّاه الجزيرة، وأبو المظفر حمدان ولاه نصيبين، وأبو الفوارس محمّد ولاه الموصل، وأبو القاسم هبة الله ولاه بلد، وأبو طاهر إبراهيم ولاه سنجار، وأبو المرجّى جابر. وأبو البركات لطف الله، وأبو المطاع ذو القرنين، وأبو عبد الله الحسين.
كتّابة: دنجا «4» بن إسحاق، كان كاتب المطيع لله،(26/135)
أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازى، وأبو الحسن الباهلى، وبهلون بن هاشم، وأبو القاسم بن مكرم.
ذكر أخبار سيف الدولة
هو أبو الحسن «1» على بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون.
كان في ابتداء أمره في خدمة أخيه ناصر الدولة إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، فانفرد سيف الدولة بديار بكر، والسبب فى ذلك أن على بن أبى «2» جعفر الديلمى لما استأمن إلى ناصر الدولة كما ذكرناه، وخرج على علىّ بن خلف بن طياب سأله أن يولّيه الجزيرة عند إخراج ما كرد منها، فاعتذر عنها، وكان أحمد بن نصر القنسوري بديار بكر في عدّة قليلة، فجهز ناصر الدولة مع على ابن أبى جعفر جيشا، وأمره أن يسير إلى ديار بكر، فانصرف أحمد ابن نصر عنها، ودخلها علىّ بن أبى جعفر، وسكن أرزن، وأقام الدعوة لناصر الدولة، وهو في خلال ذلك يحصّن البلد، ويستكثر من الرجال والأجناد، فنمى الخبر إلى ناصر الدولة، فلم يأمن شرّه، وأمره بالقدوم عليه، فأبى ذلك، وأظهر العصيان، فندب ناصر الدولة عند ذلك أخاه سيف الدولة لحربه، وقال له: إن فتحت ديار بكر، وقبضت على علىّ الديلمى، ملّكتك بلادها وقلاعها من غير أن تحمل عنها شيئا لخليفة، ولا لغيره، فسار سيف الدولة في ألف(26/136)
فارس، فتحصّن منه في قلعة «أرزن» وهى المعروفة بحصن العيون، فنزل سيف الدولة تحتها على النهر المعروف [بسربط] «1» ، وحصر «2» عليا بها، فبعث الديلمىّ حاجبه بدر الجستانى إلى ابن يرنيق «3» ملك أرمينية، وإلى سائر بطارقتها يستنجد بهم على سيف الدولة، فاتّصل خبر الحاجب بسيف الدولة، فرصده عند عوده، فقبض عليه، فسأله الديلمى الأمان على أن يمضى إلى بغداد، أو يبقى في خدمته، فأجابه إلى ذلك، وحلف له، ونزل إليه وسلّم القلعة، فوفىّ له سيف الدولة، وأقام علىّ في خدمته إلى أن استأمن إلى ابن رائق، وملك سيف الدولة بعد ذلك جميع بلاد أرمينية وما جاور بلاد بكر، ثم ملك حلب «4» وانتزعها من يد الأخشيدية، ثم قلّد بعد ذلك الثغور «5» الجزيرية، وهى طرسوس، وعين زربة «6» ، والمصيصة، وما جاورهم من الثغور، من غير أداء مال عن شىء مما بيده من الأعمال؛ لأنه كفى المسلمين أمر الروم نحوا من أربعين وقعة له وعليه. وكان بعيد الهمة شجاعا يلقى الأمور بنفسه.
وكان شاعره أبو الطيب المتنبى يمدحه في كل غزاة،(26/137)
ويذكر وقائعه» فكان الدمستق يقول: «بلينا بشاعر كذّاب، وأمير خفيف الركاب» وكان لسيف الدولة خمسمائة غلام أقران لهم بأس شديد، إذا حمل بهم في جيش حزقه «1» . وكان سنه عند ولايته خمس عشرة سنة، فظهرت شجاعته. وكان أديبا فاضلا وله شعر ذكره الثعالبى في يتيمة الدهر، ومن جملة غزواته أنه خرج غازيا في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، فانتهى إلى حصن «دادم «2» » وسار إلى حصن زياد «3» ، فشارف فتحه، وأقام عليه تسعة أيام، فوافاه الدمستق في مائتى ألف، فانكفأ راجعا يريد [شمشاط] «4» ، وخيول الروم تسايرة، فلما كان يوم النحر وصل إلى موضع بين حصنى [زياد، ودادم] «5» وسلام، فوقف، وأقبلت عساكر الروم، فناجرهم القتال، فهزم الله الروم، وأسر سيف الدولة منهم سبعين بطريقا، ولم يزل القتل والأسر فيهم إلى الليل، وأخذ سرير الدمستق وكرسيه. ولسيف الدولة مع الروم وقائع كثيرة مشهورة ذكرها كثير من المؤرخين تركناها لاشتهارها.
وفي سنة ثلاثين وثلاثمائة. ملك سيف الدولة مدينة حلب، وانتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابىّ صاحب الإخشيد، واتفق خروج العدوّ إلى تلك النواحى، فسار إليهم، وأوقع بهم وقعة عظيمة، فاعتصموا(26/138)
منه بجبل منيع، فصعد إليهم، فكان منهم من ألقى نفسه من الجبل فمات، وغنم منهم غنيمة عظيمة.
ولما بلغ الإخشيد ذلك أنفذ عسكره مع كافور، فهزمهم سيف الدولة، ودخل حمص وأعمالها، فملكها وسار إلى دمشق، ودخلها، فكاتبه الإخشيد، وبذل له الموادعة بعد أن بذل له أن يحمل إليه من المال نظير ما كان يحمل لابن رائق، فلم يجب إلى ذلك، وقال: جوابك إذا دخلت مصر إن شاء الله. ثم جرت بينهما أمور، واتّفقا على أن يكون لسيف الدولة حمص، وحلب، وما بينهما، وأفرج عن دمشق، وتزوج بابنة أخى الإخشيد. ثم مات الأخشيد عند رجوعه على ما نذكره في أخباره، وذلك في المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فمضى سيف الدولة إلى دمشق، واستأمن إليه جماعة منهم: «يانس المونسى» ، وأقام بها. ثم سار لحرب كافور الإخشيدى، فنزل اللّجون «1» والإخشيديه بقربه، والتقوا، فانهزم جيش سيف الدولة، ورجع هو إلى دمشق، فأخذ والدته وخاصّته وأمواله، وسار إلى حلب، ثم وقع الصّلح بينهم في سنة ست وثلاثين على ما وقع بينه وبين الأخشيد أولا.
وفي فتح سيف الدولة دمشق يقول الخالديان «2» :
يا سيف دولة آل النبى ... حويت العلا دولة وابتداء(26/139)
ليهنك أنّك دانى الندا ... ومجدك فوق النجوم اعتلاء
وأنّك لما ملكت الملوك ... تكبّرت أن تلبس الكبرياء
ولما حويت العراق انكفيت ... إلى عرصات الشام انكفاء
وجزت دمشق فطهرتها ... وأبدلتها بالظلام الضياء
وما مصر عنك بممنوعة ... إذا ما استعنت عليها القضاء
وفي سنة ست وثلاثين ظفر سيف الدولة القرمطى الملقب بالهادى، واستنقذ أبا وائل.
وفي سنة إحدى وأربعين بنى سيف الدولة مرعش، فسار إليه الدمستق، فأوقع به سيف الدولة. وفي سنة اثنتين وأربعين فتح حصن العريمة، وأخرب مدينة ملطية، وكان الدمستق قد أخرب الحدث في سنة سبع وثلاثين، فسار إليه سيف الدولة، ونزل به فى يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخره سنة ثلاث وأربعين، فحط الأساس، وحفر أوله بيده، وحفر الناس وأقام إلى أن بناه ووضع بيده آخر شرافة «1» منه لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رجب من السنة. وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. ورد على سيف الدولة من سائر الثغور طرسوس «2» ، وأذنة، والمصيصة رسل نوابه، ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة، فهادنهم، ولم يزل سيف الدولة في ملكه يوما له ويوما عليه إلى أن كبرت سنه.
وضعف في آخر عمره واضطرب أمر دولته.(26/140)
ذكر اختلال دولته واستيلاء الدمستق على حلب «1» ، وما أخذه من أموال سيف الدولة
قال: ولما كبر سيف الدولة وضعفت قدرته لمرض لحقه في آخر عمره فلج منه نصفه، وتفرقت عنه البوادى وتقاعد عنه المسلمون، وفسد ما بينه وبين ابن الزيات أمير الثغور من قبله «2» ، واشتغل عنه أخوه ناصر الدولة بحرب معز الدولة، فلم ينجده، فقويت الروم، واستولى الدمستق على الثغور، ثم قصد حلب في حشد عظيم من الروم والأرمن، فلم يشعر به سيف الدولة إلا وقد أطلّ على البلد، فقاتله سيف الدولة، وحمل بنفسه وغلمانه وابن أخيه هبة الله بن ناصر الدولة حتى كاد أن يؤخذ، فانهزم، وملك الروم داره بظاهر حلب وكان ذرعها ستة آلاف ذراع، وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال، فكان من جملة ما أخذ مائة بدرة ذهبا، ومائتا بدرة من الورق، وثلاثمائة حمل من البزّ الفاخر، وخمسون حملا من الديباج، ومن أوانى الذهب والفضة ما لا يحصى كثرة، ومن الخيل ثمانمائة فرس، ومن البغال خمسمائة، ومن السلاح، والمناطق، والتجافيف، والسيوف مائة حمل، ومن الجمال ألفا جمل «3» ، ونقل سقوف الدار معه.
وكان نزوله على حلب في يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وفتح البلد في يوم(26/141)
الثلاثاء، وأقام فيه إلى يوم الثلاثاء الكائن بعده، وتحصن «1» أهل حلب في القلعة بما أمكنهم من الأموال، واستولى الدمستق على البلد بما فيها، ثم فارقها، ورجع سيف الدولة إليها، وقد ذهب أكثر أمواله، فبعثت له أخته هدية من ميّافارقين كان من جملهتا مائة ألف دينار.
ذكر وفاة سيف الدولة
كانت وفاته رحمه الله في الضحى من نهار الجمعة لخمس بقين من صفر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة «2» ، وكان مولده في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة، فكان عمره اثنين وخمسين سنة وشهرين وثمانية أيام. وكانت مدة ملكه نحوا من ثلاثين سنة. وكان شجاعا كريما معجبا بارائه محبا في الفخار والبذخ مظفرا في حروبه جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس منه وعليه، وكان له من الأولاد خمسة. وهم: أبو الهيجاء عبد الله، توفى فى حياة أبيه في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. وأبو البركات وهو أكبرهم، توفى في حياة أبيه في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وأبو المعالى شريف، وهو الذى ملك بعد أبيه. وأبو المكارم مات في حياته. وست الناس ابنته.
كتابه: أبو الحسن «3» على بن الحسين المغربى والد الوزير.(26/142)
وأبو محمد بن الفياض. وأبو إسحاق محمد أحمد القراريطى «1» .
وأبو الفرج محمد بن على السرّمرّائىّ، وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن فهد الموصلى وغيرهم.
حجابه: نجا غلامه، وقرعوية، وبقى.
فهذه الطبقة الثانية من آل حمدان. فلنذكر الطبقة الثالثة منهم.
ذكر أخبار عدة الدولة الغضنفر
وهو أبو تغلب الغضنفر ابن ناصر الدولة أبى محمد الحسن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون.
ملك الموصل، وما كان بيد أبيه عند قبضه على والده ناصر الدولة في ليلة الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وأطاعه سائر إخوته إلا أبو المظفر حمدان، وهو الذى يليه فى العمر. وكان ناصر الدولة قد قلده المرحبة، ولما مات عمه سيف الدولة سار إلى الرقة ونصيبين، فملكها، وسوّغه والده ارتفاع «2» جميع تلك البلاد. فكتب أبو المظفر إلى أخيه أبى تغلب يأمره بإطلاق والدهما ناصر الدولة، وتوعّده إن لم يفعل، فغضب لذلك، وفسد الحال بينهما، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، فجهز أبو تغلب جيشا لقتال أخيه، وجعل عليه أخاه أبا البركات، فكان له معه حروب ووقائع، آخرها أن أبا المظفر حمدان ظفر بأخيه أبى البركات، وضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فأخذه أسيرا واستباح سواده، وانقسم عسكره بين مستأمن إلى حمدان، وأسير، وقتيل، ثم انكفأ حمدان(26/143)
إلى قرقيسياء «1» ليعالج أخاه من ضربته، فمات أبو البركات بعد أيام فأنفذه حمدان في تابوت إلى الموصل، واستحكمت عند ذلك العداوة بين بنى حمدان، وبين أخيهم أبى تغلب. واختلف باقى الإخوة، وكانوا متفرقين في أعمالهم فاحتال أبو تغلب على أخيه محمد، وكان واليا على نصيبين حتى قبض عليه، وذلك في شعبان سنة ستين وثلاثمائة واعتقله في قلعة أردمشت «2» ، فلم يزل بها حتى هرب أبو تغلب، وملكها عضد الدولة بن بوبه، فاطلقة وأكرمه، ورد عليه ضياعه ومنها قلعة: الشعبانى «3» ، وقلعة أهرون «4» ، وغيرهما من القلاع. وفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة سلم أخو حمدان لأمه لأبى تغلب الغضنفر قلعة ماردين «5» ، فأخذ منها جميع أمواله وحر؟؟؟ هـ، وكان المحاصر له بجيش أبى تغلب أبو اليقظان عمار بن أبى السرايا نصر بن حمدان.
وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة في آخر يوم من شهر رمضان أوقع أبو القاسم هبه الله بن ناصر الدولة بالدمستق ملك الروم الوقعة المشهورة، وكان الدمستق في نحو خمسين ألفا فأسر أبو القاسم، وقتل أكثرا الجيش وكانت الوقعة على بلد. قال: ثم أخذ أبو تغلب في استفساد إخوته واحدا بعد واحد حتى صاروا بأجمعهم إليه إلا أبو طاهر «6» إبراهيم، فإنه استأمن إلى بختيار، ومضى إلى بغداد. وسار أبو تغلب(26/144)
بجماعة إخوته إلى قرقيسياء، فنزل بها، وبعث أخاه، أبا القاسم هبة الله إلى الرحبة في جيش ليوقع بأخيه حمدان، فخرج حمدان هاربا، واتبعه ابنه أبو السرايا وسلك طريق البرية، وكاد هبة الله أن يأخذه. وقيل: إنه قدر عليه وتركه، وسار حمدان إلى بغداد، فدخلها في ذى الحجة سنة ستين وثلاثمائة، واجتمع بأخيه إبراهيم: وأقاما عند بختيار مدة، ثم كوتب إبراهيم من الموصل (بالعودة إلى طاعة أخيه فهرب، فأغضب ذلك عز الدولة بختيار وسار إلى الموصل) «1» فى شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين، فدخلها، ورحل أبو تغلب إلى سنجار. ثم تقرر الصلح بينهما على أن يفرج أبو تغلب لأخيه حمدان عن ضياعه التى كان قبض عليها، فأجاب إلى ذلك، وأفرج له عنها، واستقر ملك الغضنفر بالموصل إلى أن ملك عضد الدولة بن بويه بغداد، وأخرج ابن عمه عز الدولة بختيار إلى الشام وشرط عليه ألا يتعرض إلى بلاد عدة الدولة الغضنفر، فأجاب إلى ذلك، وسار وصحبته «2» حمدان بن ناصر الدولة فلما وصل مبكرا أفسد حمدان نيته، وحرضه على طلب بلاد أخيه أبى تغلب، فعزم على ذلك، وسار فنزل تكريت، فوصل إليه على بن عمر الكاتب بهدية من أبى تغلب، وصحبه في الطريق، فلما خلا به أفسد بينه وبين حمدان وعرفه أن مصالحة أبى تغلب بإفساد حمدان هى الرأى الصريح، وذكر أنه سلم «3»(26/145)
حمدان إلى أبى تغلب عاضده على إخراج عضد الدولة من العراق وأعاد مملكته إليه، ولم يزل يغريه إلى أن بعث لأبى تغلب، وأخذ عليه العهود بذلك، وقبض عند ذلك على حمدان، وسلمه لأبى تغلب، وأخته جميلة، فحبساه، ثم قتلاه صبرا، وهرب ولده أبو السرايا إلى عضد الدولة ببغداد.
ذكر فساد حال عدة الدولة، وزوال ملك بنى ناصر الدولة وما كان من أمر عدة الدولة الى أن قتل
قال: ولما قتل أخاه جمع الجموع لنصرة عز الدولة بختيار وجمع بختيار أيضا، وسارا إلى بغداد وخرج عضد الدولة، فنزل الحصن «1» غربى سامرا، ونزلا تجاهه، وباكروا القتال في يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة من السنة، وبعث الجيوش في طلب أبي تغلب عدة الدولة، ومحمد ابن عمه معز الدولة، فتنقل أبو تغلب في البلاد من مدينة إلى أخرى، والجيوش تطلبه إلى أن سار إلى حصن زياد، وكاتب ملك الروم قلاروس المنعوت «2» بورد يستنجده، وكان ورد قد خرج عليه ملك آخر، وانقضت عنه جموع الروم، فبعث إلى أبى تغلب يسأله اللحاق به ليلقى الخارج عليه، فإن نصر عليه عاد معه لنصرته، فبعث إليه أبو تغلب قطعة من جيشه، ثم عاد(26/146)
فنزل بآمد وأقام بها قريبا من شهرين، فاستولى عضد الدولة على ميافارقين والجزيرة، وسائر بلاد عدة الدولة، ففارق آمد عند ذلك، وسار إلى دمشق، وملك عضد الدولة آمد والرحبة، وسائر بلاد بنى حمدان إلا ما كان في يد سعد الدولة بن سيف الدولة، فإنه لم يتعرض إليه كحلب، وديار مضر، وربيعة، وما والاها من الحصون والبلاد لخدمة خدمه بها سعد الدولة، ثم ملك عضد الدولة بعد ذلك قلاع أبى تغلب التى فيها أمواله وذخائره وهى من «1» جانب دجلة الشرفى على طريق الجزيرة.
قال: ولما وصل أبو تغلب إلى دمشق وجد قسّام العيّار متغلبا عليها، فنزل بظاهرها، وكتب إلى العزيز خليفة مصر يسأله أن يولّيه الشام، فخاف العزيز عاقبته، وكاتبه بأن يفعل ذلك، وياخذها من قسّام، وكاتب قسّام ألّا بسلّم إليه البلد، فطال الأمر على أبى تغلب، وضجر من تردد الرسائل، واجتمع معه بنو عقيل، فسار وقصد الرملة، وذلك في المحرم سنة تسع وستين «2» وثلاثمائة، فهرب [دغفل] «3» بن الجراح منه، ثم حشد، وجمع، وقصد الرملة، والتقى مع أبى تغلب على باب الرملة في يوم الإثنين لليلة خلت من صفر سنة تسع وستين، فانهزم بنو عقيل، وسائر من مع عدة الدولة، ولم يبق معه إلا غلمانه، وهم نحو سبعمائة فارس،(26/147)
فانهزم بهم، وأدركته الخيل، فثنى وجهه لقتالهم، فقتل فرسه، وأسره سبع الطائى وهو ابن عم لدغفل بن الجراح، وسلمه إلى دغفل، فقتله في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من صفر سنة تسع وستين وثلاثمائة؛ وكان «1» مولده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه إلى حين انفصاله عن آمد نحوا من ثنتى عشرة سنة. وكان له من الأولاد. أبو الهيجاء أحمد، وأبو الفتح نصر الله.
كتابه: أبو موسى النصرانى. وقرة بن ديما «2» . وأبو الحسن على بن عمر بن ميمون. وعلى بن عمر بن عمر «3» .
فلنذكر أخبار أولاد سيف الدولة:
ذكر أخبار سعد الدولة
هو أبو المعالى شريف بن سيف الدولة أبى الحسن على بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون.
ملك حلب وديار بكر، وغير ذلك مما كان بيد والده سيف الدولة بعد وفاته في يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ولما توفى والده سيف الدولة بحلب كان سعد الدولة بديار بكر، فاجتمعت غلمان أبيه: قرعون. وبقى. وبشاره «4» ، وغيرهم على تقديمه ونصرته، وضبط قرعويه حلبا نيابة عنه،(26/148)
وبعث بتابوت مولاه إلى ديار بكر مع بقى وبشارة «1» الخادم في جمادى الأولى من السنة وكان بين بقى وبشارة منافرة، فأذاع بقى عن بشارة أنه قد كاتب حمدان بن ناصر الدولة، وكان قد غلب على الرقة ونصيبين عند وفاة عمه، وعزم على أخذ حلب وكتب بقى إلى «2» قرعويه بذلك، فقبض على أسباب بشارة بحلب، ولما بلغ بشارة الخبر داخل بقى وآنسه، وأظهر له المودة فأنسر به، وأخبره بما أضمره، وأنه يقصد الاستيلاء على ديار بكر، ويقبض على أبى المعالى ابن مولاه، ويملك هو التدبير، وضمن لبشارة أنه يسلم إليه ميافارقين، فأظهر بشارة القبول، والإقبال عليه، وسار بمسيره، فلما قربوا من ميافارقين، كتب بشارة إلى أبى المعالى يحذره من الخروج للقاء التابوت، ويعرفه ما عزم عليه بقى، فأظهر أبو المعالى علة، وامتنع من الركوب، وأخرج أهل البلد لتلقى التابوت، فلم يدخل بقى المدينة، ووكل بأبوابها خلقا من الرجال الذين أعلمهم بالخبر، وقبض على قوم من الكتاب، وطالبهم بمال ينفقه في رجاله، فدخل بشارة المدينة، وطلع على السور، وأغلق الأبواب، وخاطب أصحاب بقى عن أبى المعالى بكل جميل، فمالوا إليه، وفارقوا صاحبهم فبطل ما دبره بقى، وسار إلى منازكرد «3» ، وكتب إلى أبى المعالى يطلب منه الأمان.(26/149)
فأمنه، ولما حصل عنده قبض عليه، وسلمه لبشارة، فقتله، وسار أبو المعالى إلى حلب في شهر رجب من السنة.
ذكر مقتل أبى فراس الحارث، واستيلاء أبى المعالى على حمص
قال المؤرخ: كان سيف الدولة قد أقطع أبا فراس الحارث ابن سعيد بن حمدان، وهو خال أبى المعالى شريف حمص بعد خلاصه من أسر الروم، فأكثر الظلم والتعدى على أهلها.
فلما توفى الأمير سيف الدولة اضطربت أموره، ثم فسد ما بينه وبين ابن أخته أبى المعالى، فسار أبو المعالى، ففارق حمص، وانحاز إلى ضيعة له في طريق البرية تعرف «بصدد» ، وجمع سعد الدولة أعراب بنى كلاب وظالما العقيلى، وبعثهم على «1» مقدمته مع قرعويه، فكبس أبا فراس «بصدد» ، فناوشهم القتال، ثم قتله بعض غلمان قرعويه، وعاد سعد الدولة إلى حمص، فولاها لذكا غلام قرعويه.
ذكر استيلاء قرعويه على حلب، واخراج أبى المعالى عنها
قال: ثم فسد ما بين سعد الدولة وبين قرعويه، ووافقه أكثر الغلمان، وأهل البلد، فأخرج أبا المعالى منها، وقطع دعوته، وتغلّب على البلد، فسار سعد الدولة إلى أرزن، وميّا فارقين،(26/150)
فمر في مسيرة بحران، فأغلق أهلها الأبواب في وجهه، ومنعوه من الدخول، إليها إلا أنهم لم يقطعوا دعوته، فمضى إلى ميافارقين، وكانت والدته بها، فبلغها أن غلمانه قد عزموا على القبض عليها، وحملها إلى القلعة، فأغلقت أبواب المدينة في وجه ابنها ثلاثة أيام إلى أن توثقت منه، وممن معه، ومن أجناده، ثم فتحت الأبواب وأطلقت أرزاق غلمانه، فصلحت أحوالهم، ثم جمع سعد الدولة واحتشد، وسار إلى حلب، فنزل عليها في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وحاصرها، وفي مدة غيبتة نزل أبو البركات ابن ناصر الدولة بجيش على ميّافارقين، فأغلقت والدة أبى المعالى الأبواب دونه، وضبطت البلد، وراسلته تتعرف منه سبب مقصده، فعرفها أنه يقصد العدو، وأنه يريد منها ما يتقوى به على قصده، فبذلت له مائتى ألف درهم، فلم يقنع بها، وطلب منها ضياعا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين، فأعملت التدبير إلى أن أفسدت عليه جماعة ممّن معه، ثم ركبت، وكبسته في عسكره وقتلت جماعة من غلمانه، فانهزم أبو البركات، وراسلها، فردّث عليه بعض ما نهبت منه، وأطلقت له مائة ألف درهم، وأطلقت حاجبه، وكانت قد أسرته، فرحل عنها. ولم يزل أبو المعالى على حصار حلب حتى فتح الروم أنطاكية في يوم النحر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، واستقرّوا بها، وأنفذوا جيشا لأخذ حلب، فارتحل أبو المعالى عنها، ونزلت الروم عليها، وملكوا المدينة، فصالحهم قرعويه على أن يؤدّى لهم جالية «1» ، ويكون في ذمّتهم إلى أن يموت،(26/151)
فإن مات ولى مكانه غلامه بكجور، وكتب فيهم «1» كتابا، ونزل أبو المعالى معرة النعمان، ووالدته نائبة عنه بميّافارقين، فورد عليها الخبر أن ملك الروم تحرك لقصد دبار بكر، فخافت أنها لا تنهض بضبط ميّافارقين، فتبرأت من الأمر، ودبر البلد أهله، ثم راسلوا أبا تغلب بن ناصر الدولة في وال. فبعث إليهم أبا الفوارس هزار مرد أحد مماليك سيف الدولة الكبار.
ذكر الصلح بين سعد الدولة وقرعويه، والقبض على قرعويه، وقيام بكجور، وعود ملك «حلب» الى سعد الدولة
وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة تمّ الصلح بين أبى المعالى وقرعويه، ودعا له بحلب، وكان أبو المعالى ينزل بحماه، وكانت حمص قد أخربها الروم عند دخولهم إليها في ذى الحجة سنة ثمان وخمسين، فنزل دقطاش «2» غلام سيف الدولة بها وعمرها لأبى المعالى.
فنزلها بعد ذلك، وكان قرعويه قد قدم غلامه بكجور على قرعويه.
واعتقله، وملك حلب، وأقام بها نحوا من خمس سنين، فلم يرض أهلها سيرته، وكاتبوا أبا المعالى، فسار إليها، ونزل معرة النعمان، ففتحها، ثم نزل على حلب في سنة ست وستين وثلاثمائة، وأقام عليها نحوا من أربعة أشهر، وافتتحها بحيلة، وتحصن بكجور بالقلعة، ثم صالح على أن يوليه سعد الدولة حمص، وسلم القلعة(26/152)
بما فيها، فتسلمها سعد الدولة، ووفى لبكجور، وعظمت مملكة أبى المعالى عند ذلك، وقويت حرمته، وتمكنت دولته.
ذكر تولية سعد الدولة من قبل الخليفة وتلقيبه «1»
كان سبب ذلك أن عضد الدولة البويهى لما ملك العراق بعد ابن عمه عز الدولة بختيار كاتبه أبو المعالى يبذل له الطاعة والدعوة، فتنجز له من الخليفة الطائع لله الخلع واللّقب بسعد الدولة، والولاية على ما بيده من الأعمال، وأرسل ذلك مع رسول، وخادم الخلافة. وكان جلوس الخليفة لذلك في شهر رجب سنة سبع وستين وثلاثمائة.
ذكر خلاف «2» بكجور على الأمير سعد الدولة وما كان من أمره
قال: وأقام بكجور بحمص، وعمّرها أحسن عمارة، وأمّن أهلها وطرقاتها إلى أن وقع بينه وبين سعد الدولة في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. فسار بكجور إلى حلب وحاصرها، فبلغ ذلك ملك الروم، فسار لنصرة أبى المعالى ونزل «3» أنطاكية، وكان معه. مفرج [ابن دغفل بن الجراح، وكان بين مفرج وبكجور مودة، فكتب إليه مفرج] «4» يخبره بقصد الروم، فرحل عن حلب، وسار إلى حمص وأخذ ما أمكنه من أمواله، وكان العزيز صاحب مصر استدعى بكجورا(26/153)
ليوليه الشام ودمشق لما اشتهر من شهامته، فتولى دمشق بعد خطب عظيم جرى له، واضطراب حال، ودخلت الروم حمص الدخلة الثانية بإذن سعد الدولة لأنه خاف أن يملكها بكجور بالمغاربة، وكان دخولهم إليها في يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
وتسلم بكجور دمشق في يوم الأحد مستهل شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. ثم وقع بين بكجور، وبين يعقوب بن كلّس الوزير، فقبض بكجور على وكلاء الوزير بدمشق، فاستحكمت العداوة بينهما، وأفسد الوزير نفس نزار صاحب مصر على بكجور، فبعث منيرا الخادم في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة لقصد بكجور، وإخراجه من دمشق من غير إظهار ذلك بل أظهر أنه قصد بإرساله طرد مفرج بن دغفل من دمشق، وجرى من الأمور ما أوجب خروج بكجور بأمواله وحرمه من دمشق. وكان خروجه في يوم الثلاثاء منتصف شهر رجب سنة ثمان وسبعين. وسار بكجور إلى الرقة، وكان قد بعث غلامه وصيفا في سنة ست وسبعين وثلاثمائة إليها، فتسلمها من ديلمى، وكان بها من أصحاب عضد الدولة بعد وفاته، فلما دخلها بكجور راسل الطائع لله، فلم يجد عنده ما يؤثره، فأقام على الدعوة لنزار صاحب مصر، وبعث إليه نزار يقول: إنى ما أردت إخراجك من دمشق، وإنما أردت طرد ابن الجراح منها، وأبقى عليه ضياعه، وأمواله بها، وقوى أمر بكجور بالرقة، واشتد طمعه فى أخذ حلب من سعد الدولة وكاتب نزارا بذلك، وطلب إنجاده، فكتب نزار إلى والى طرابلس بالمسير إلى بكجور متى استدعاه،(26/154)
وجمع بكجور العرب وكتب إلى نزار «1» والى طرابلس أن يوافيه بحلب، وكان سعد الدولة قد كاتب بسيل «2» ملك الروم يعلمه بذلك، ويطلب منه أن يأمر نائبه بأنطاكية، وسائر الثغور بإنجاده متى طلبهم، فكتب بسيل لهم بذلك، ثم أرسل سعد الدولة بكجور، وبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص، فقال لرسوله: «قل له الجواب ما تراه دون ما تسمعه» . ثم سار بكجور لحرب سعد الدولة، وتقدمت مقدماتها فتطاردا «3» ، فكان سعد الدولة يخلع على من أبلى من أصحابة، وينعم عليهم ويحملهم، وبكجور يكتب أسماء من أبلى من أصحابه لينظر فى أمرهم، فتغيرت لذلك قلوبهم. ثم كاتب سعد الدولة أعراب بكجور، وأطمعهم فعصوا «4» على بكجور ونهبوا سواده. ثم سار كل من العسكرين في يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة إلى الآخر، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لسعد الدولة وأصحابه على بكجور، فانهزم إلى حلب، واستولى القتل والأسر على غلمانه، واستخفى بكجور في بيت رحى بظاهر حلب، وتقلبت به الأحوال إلى أن استجار ببعض العرب، فحمله إلى سعد الدولة، فضرب عنقه، ثم سار سعد الدولة بعد أن أعاد الروم إلى بلادهم، وقصد الرقة، فنازلها وتحصن منه سلامة الرشيفى «5» غلام بكجور بحصن الرافقة، ومعه حرم بكجور(26/155)
وأمواله، وابن المغربى كاتبه، فكاتبه سعد الدولة في تسليم الحصن، فبعث سلامة إليه يقول: أنا عبدك، ولكن لبكجور عندى صنائع تمنعنى من تسليم الحصن إلا أن أستوثق لحرمه وأولاده، فإن أمنتهم على أن يكون لك السلاح من أموالهم دون غيره سلمت لك الحصن، فأجابه سعد الدولة إلى ذلك، وحلف له وتسلم الحصن. ولما نزل أولاد بكجور، وحملوا أموالهم قال ابن أبى حصين قاضى حضرة سعد الدولة: إن بكجورا مملوكك لم تعتقه، وأولاده كذلك ولا مال لهم، ولا إثم عليك في أخذ أموالهم، فقبض عليهم عند ذلك، وأخذ الأموال، وهرب ابن المغربى إلى الكوفة، وكتب أولاد بكجور بذلك إلى العزيز نزار صاحب مصر، فكتب العزيز إلى سعد الدولة كتابا يهدده فيه ويقول: إن لم تطلق آل بكجور وأموالهم بعثت الجيوش لحربك. وأنفذ الكتاب مع فائق الصقلبى، فوصل إليه، وقد عاد من الرقة، وهو نازل بظاهر حلب. فلما وقف سعد الدولة على الكتاب غضب، وأحضر الرسول، وصفعه، وألزمه أن يأكل الكتاب فتناوله، ومضغه حتى فرغ منه، وقال له: عد إلى صاحبك، وقل له لا حاجة لك في إرسال الجيوش، فأنا سائر إليك، والخبر يأتيك من الرملة، وعزم سعد الدولة على قصد العزيز صاحب مصر، فعاجلته منيته.(26/156)
ذكر وفاة سعد الدولة
كانت وفاته ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه لما أعاد رسول العزيز بالرسالة التى ذكرناها قدّم بعض جيوشه إلى حمص. وأقام هو بظاهر حلب أياما ليرتب أحواله، فعرض له قولنج أشفى منه، فأشار أطباؤه عليه بدخول حلب وملازمة الحمام، ففعل ذلك وانتفع «1» وصح، فلما كان في اليوم الثالث من صحته زين له «2» البلد ليركب، فجاءته جارية في ليلة ذلك اليوم من جملة حظاياه، وكن أربعمائة حظية، وكان سعد الدولة يهواها، فلما رآها ما تمالك عند رؤيتها أن واقعها، فلما فرغ سقط عنها، وقد جف نصفه الأيمن، وفلج فدخل عليه النفيس الطبيب، والتمس أن يجس نبضه، فناوله اليد اليسرى فقال: يا مولاى اليمين، فقال: يا نفيس ما تركت لى اليمين شيئا، أراد بذلك نقض اليمين التى حلفها لآل بكجور. وتوفى في هذه المرضة.
ومن العجب أن والده سيف الدولة فلج نصفه الأيسر قبل وفاته.
وفلج نصف سعد الدولة الأيمن، فاجتمع منهما مفلوج، وكانت مدة ملكه خمسا وعشرين سنة وتسعة أشهر. وكان له من الأولاد.
أبو الفضائل وهو الأكبر. وأبو الهيجاء.
كتابه: أبو الحسن المغربى «3» والمصيصى وغيرهما.
حاجبه: لؤلؤ الكبير الجراحى وغيره. والله أعلم.(26/157)
ذكر أخبار أبى الفضائل بن «1» سعد الدولة أبى المعالى شريف بن سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله بن حمدان بن حمدون
ولى بعد وفاة أبيه في يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وذلك أن والده سعد الدّولة لما أدركته الوفاة عهد إليه، وأوصى لؤلؤا «2» الجراحى، وجعله مدبر جيشه، وأوصاهما بالسيدة ستّ النساء، وبولده أبى الهيجاء عبد الله الأصغر.
ذكر ما كان بين لؤلؤ الجراحى وبين العزيز نزار صاحب مصر
وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وصلت جيوش العزيز نزار صاحب مصر لمحاصرة حلب، وسبب ذلك أن ابن المغربى لما انهزم من سعد الدولة إلى الكوفة عند القبض على آل بكجور كاتب العزيز يستأذنه فى الانضمام إليه، والانحياز إلى جهته، فأذن له، فسار إليه، ودخل القاهرة في يوم الخميس النصف من جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وبلغ عند العزيز مرتبة عظيمة حتى صار يستشيره فى عظائم الأمور، ويأتمنه على الأسرار، فلما بلغه وفاة سعد الدولة حسّن للعزيز أن يبعث جيشا إلى حلب، وكان العزيز قد بعث [بمنجوتكين] «3» التركى في جيش إلى دمشق في تاسع شهر رمضان(26/158)
سنة إحدى وثمانين، وأمره بحرب منير الذى كان قد تسلّم دمشق من بكجور، ولأنه كان قد عصى على العزيز، فأمره أنه إذا أخذ دمشق يمضى إلى حلب، واستكتب العزيز بن المغربى، فسار إلى دمشق، وهزم منيرا، واستولى على البلد للعزيز، وأقام بها إلى أن انسلخت سنة إحدى وثمانين، وسار إلى حلب، وكان لؤلؤ قد كتب إلى بسيل ملك الروم، وعقد بينه وبين أبى الفضائل بن سعد الدولة كما كان بينه وبين أبيه، فأمر بسيل «البرجى» «1» » صاحب أنطاكيه أن يكون ظهرا لأبى الفضائل على كل من يقصده، وينجده متى طلبه. ولما نزل منجوتكين على حلب قاتلها مدة شهرين فلم يظفر منها «2» بشىء، فاستظهر عليه أبو الفضائل ولؤلؤ غاية الاستظهار، فعاد عنها في شهر رمضان وولى حمص «3» لمعضاد الحمدانى. ثم سار إلى حلب في سنة ثلاث وثمانين، ثم عاد عنها وسار إليها في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وقد جمع واستعد، فنازلها وضايقها مدة شهرين، فبعث لؤلؤ إلى البرجى صاحب أنطاكية في الحضور إليه، فجمع الروم. وكان قد خرج إليه من بلاد الروم رئيس عظيم عندهم يقال له: أصابع الذهب، فجمع أيضا من أمكنه، وسارا بمن معهما حتى نزلا على نهر المقلوب «4» ، فأقاما هناك، ورجع منجوتكين عن حلب، ونزل بإزائهما، وكان عسكره أكثر من جمعهما، فاقتتلوا، فكانت الدائرة على الروم،(26/159)
وذلك في شعبان سنة أربع وثمانين، وعاد منجوتكين إلى محاصرة حلب، فحاصرها من شعبان إلى شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين، فاشتد الحصار على أهلها، وكانت الأخبار ترد على بسيل ملك الروم وهو ببلاد البلغر «1» وله بها سنين كثيرة، وقد استحوذ على أكثرها، فخاف على حلب فترك قتال البلغر، ورجع إلى «2» القسطنطينية، وخرج في نحو أربعين ألفا من خواص أصحابه يركبون البغال الرهاوين ويجنبون «3» الخيل، وسار لا يلوى على متأخر ولا يقف «4» لمنقطع فوصل إلى [إعزاز] «5» في سبعة عشر ألفا، وعزم على أن يكبس منجوتكين، فنمى الخبر إليه، فانهزم لوقته، وسار إلى دمشق.
ذكر الصلح بين أبى الفضائل والعزيز نزار صاحب مصر
قال: ولما رجع منجوتكين إلى دمشق توسط بدر الحمدانى في الصلح بين العزيز وأبى الفضائل، فتم، وانعقد في بقية سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وورد كتاب الصلح على أبى الفضائل مع مختار الحمدانى، وأقام الأمر على ذلك إلى أن توفى لؤلؤ «6» الحمدانى،(26/160)
وانقطع خبر أبى الفضائل ولم يسمع له ذكر إلا أن لؤلؤا الجراحى كان يدبر أمر حلب إلى سنة أربع وأربعمائة، وكتب له سجل في شوال من السنة من قبل الحاكم صاحب مصر بملك حلب، ولقبه مرتضى «1» الدولة.
وانقرضت الدولة الحمدانية بعد أبى الفضائل، وكانت مدة هذه الدولة منذ ولى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ابن حمدون ولاية الموصل في سنة اثنتين وتسعين ومائتين إلى أن استقل لؤلؤ الجراحى بالملك بعد أبى الفضائل في سنة أربع وأربعمائة مائة «2» سنة واثنتا عشرة سنة تقريبا. وعدة من ملك منهم ستة ملوك، وهم: أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان. ثم ابنه ناصر الدولة أبو محمد الحسن، ثم أخوه سيف الدولة أبو الحسن على. وعدّة الدولة الغضنفر أبو تغلب بن ناصر الدولة، وسعد الدولة أبو المعالى شريف بن سيف الدولة. ثم أبو الفضائل بن سعد الدولة، وعليه انقرضت دولتهم من سائر البلاد، وكان ملك هذه «3» الدولة بعد وفاة أبى الهيجاء عبد الله في فخذين: الفخذ الأول منها: فى ناصر الدولة أبى محمد الحسن وبنيه، وقاعدة ملكهم الموصل، وآمد وديار ربيعة، وسنجار، وغير ذلك مما والاه وجاوره، وانقرضت دولتهم من الموصل، وما معها بخروج أبى تغلب الغضنفر بن ناصر(26/161)
الدولة من آمد كما ذكرنا، وافترق بعده أبناء ناصر الدولة، فبعضهم دخل في طاعة الأمير عضد الدولة، وبعضهم دخل في طاعة العزيز نزار صاحب مصر، وبعضهم التحق بابن عمهم أبى المعالى شريف بن سيف الدولة، فممن سار إلى الديار المصرية: أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة، وأخوه أبو المطاع ذو القرنين، وولد للحسين بمصر ولده الحسن وهو المنعوت ناصر الدولة. تمكن ناصر الدولة الحسن هذا من دولة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين»
الله صاحب ملك مصر تمكنا عظيما، وقاد الجيوش، وعظم شأنه، ونفذت أوامره حتى لم يبق للمستنصر معه بالديار المصرية إلا مجرد اسم الخلافة. ثم لم يرض ناصر الدولة بذلك، ولا اقتصر عليه، ولاقنع به إلى أن حصر المستنصر في قصره، وجرى له معه وقائع، نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار المستنصر بالله، ونذكر هناك أيضا مقتل ناصر الدولة هذا. وكان مقتله في شهر رجب من شهور خمس وستين وأربعمائة بداره بمصر، وهى الدار المعروفة بمنازل العز التى هى الآن مدرسة لطائفة الفقهاء الشافعية، ولم يذكر بعد ناصر الدولة هذا أحد من آل حمدان بولاية فنذكره. فهذا الفخذ الأول. والفخذ الثانى منها: فى سيف الدولة أبى الحسن على وبنيه، وقد نقدم ذكرهم رحمهم الله تعالى.
انتهت أخبار الدولة الحمدانية بعون الله تعالى. فلنذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية.(26/162)
ذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية وابتداء امر بويه، ونسبه، وكيف تنقلت به وببنيه الحال الى ان استولوا على الأقاليم والممالك. وسياقة أخبارهم الى أن انقضت دولتهم
ذكر ابتداء حال بويه، ونسبه، وما كان من أمره
هو أبو شجاع بويه بن فنّاخسرو بن تمام بن كوهى بن شيرزيل الأصغر بن شيركنده «1» بن شبيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سنان «2» بن شيش «3»
فيروز بن شيروزيل بن شيسناد «4» ابن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور بن سابور ذى الأكتاف فهم من الفرس، وإنما نسبوا إلى الديلم لطول مقامهم ببلادهم، ولذلك لم نذكرهم عند ذكرنا لأخبار الدولة الديلمية الجيلية.
وأما ابتداء حال بويه فقد نقل جماعة من المؤرخين أنه كان صيّادا يعيش من صيد السمك، ثم تنقلت به الحال إلى أن خدم جنديا «5» ، وخرج مع الناصر للحق الحسن بن على العلوى، وكان يلحظه بعين التقدّم لشجاعتة، وكان له خمسة أولاد المشهور منهم ثلاثة، وهم: عماد الدولة أبو الحسن على، وركن الدولة أبو على الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسين أحمد، فهولاء الذين ملكوا البلاد على(26/163)
ما نذكره إن شاء الله تعالى، وكان له ابنان غير هؤلاء، وهما: محمد، وإبراهيم قتل أحدهما مع الناصر للحق، والآخر مع الحسن بن القاسم الداعى.
وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل:
أن زوجة بويه ماتت، وخلفت له ثلاثة بنين، فاشتد حزنه عليها، فحكى شهريار «1» رستم الديلمى قال: كنت صديقا لأبى شجاع بويه، فدخلت إليه يوما، فعذلته على كثرة حزنه، وقلت له: أنت رجل تحتمل الحزن، وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن، وسليته جهدى «2» ، وأخذته ففرحته «3» ، وأدخلته، ومعه أولاده إلى منزلى، فأكلوا طعاما، وشغلته عن حزنه، فبينما هم كذلك إذ اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه: إنه منجم، ومعزم، ومعبر للمنامات، ويكتب الرّقى والطلّسمات، وغير ذلك، فأحضره أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامى كأنى أبول، فخرج من ذكرى نار عظيمة استطالت، وعلت حتى كادت تبلغ السماء، ثم انفرجت، فصارت ثلاث شعب، وتولّد من تلك الشعب عدة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، فرأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران، فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسّره إلا بخلعة وفرس وركب، فقال أبو شجاع: والله ما أملك إلا الثياب التى على جسدى، فإن(26/164)
أخذتها بقيت عريانا، قال المنجم: فعشرة دنانير قال: والله لا أملك دينارا، فكيف عشرة، فأعطاه شيئا، فقال المنجم: إعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار، ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب، فقال أبو شجاع: أما تستحى؟ تسخر بنا؟ أنا رجل فقير، وهؤلاء أولادى فقراء مساكين [كيف] «1» يصيرون ملوكا؟ فقال له المنجم:
أخبرنى عن وقت «2» ميلادهم، فأخبره، فجعل يحسب ثم قبض على يد أبى الحسن على فقبلها، وقال هذا والله الذى يملك البلاد، ثم هذا من بعده. ثم قبض على يد أخيه أبى على الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده: اصفعوا هذا الحكيم، فقد أفرط في السخرية بنا فصفعوه، وهو يستغيث، ونحن نضحك منه، ثم أمسكوه، فقال: اذكروا لى هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكنا منه وأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم. ثم اتفق خروج جماعة من الديلم لملك البلاد. منهم: ماكان بن كالى، وليلى بن النعمان، وأسفار بن شيرويه. ومرداويج بن زياد، وخرج مع كل واحد منهم خلق كثير من الديلم، وخرج أولاد أبى شجاع في جملة من خرج مع ما كان بن كالى. فلما استولى مرداويج على ما كان بيد ما كان من طبرستان وجرجان، وضعف ما كان، وعجز، قال له عماد الدولة، وركن الدولة: نحن في جماعة، وقد صرنا ثقلا عليك وعيالا، وأنت مضيّق عليك، والأصلح لك أن نفارقك؛ لنخف عليك مئونتنا، فإذا(26/165)
صلح أمرك عدنا إليك، فأذن لهما. فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة من قواد ما كان، وتبعوهما، فلما صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابنى بويه، وأكرمهما، وقلد كلّ قائد من قواد «ما كان» الواصلين إليه ناحية من نواحى الجبل، فقلد على بن بويه الكرج «1» .
ذكر أخبار عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه وابتداء الدولة البويهية
كان عماد الدولة قد خرج مع أبيه في جيش الناصر للحق، ثم تنقلت به أمور في خدمة الملوك، ودخل إلى خراسان كرّتين، وصار من أصحاب ما كان، ثم فارقه إلى مرداويج بن زيار، ومعه أخواه، فولاه مرداويج الكرج، وقلد جماعة القواد المستأمنة الأعمال، وكتب لهم العهود، وساروا إلى الرى، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحسين «2» بن محمد الملقب بالعميد، وهو والد أبى الفضل الذى وزر لركن الدولة بن بويه، فلما وصل عماد الدولة إلى الرىّ عرض بغلة للبيع، فبلغت ألفى وثمانمائة درهم فعرضت على العميد، فاستجادها، وقصد أن يبتاعها، فحلف عماد الدولة أنه لا يأخذ لها ثمنا، وتابع بعد «3» ذلك مواصلة العميد وبره، فبلغ عنده مبلغا عظيما، وتمكن منه.(26/166)
قال: وكان مرداويج قد تعقب رأيه في تولية عماد الدولة الكرج، وفي تولية القواد المستأمنة إليه لقرب عهدهم بصحبة ما كان، فكتب إلى أخيه، وإلى العميد: بأن يمنعا عماد الدولة من النفوذ إلى الكرج إلا أن يكون قد فات، وكان الرسم جاريا أن يقرأ العميد الكتب، ثم يوقف وشمكير عليها بعد ذلك، فلما قرأها بعث إلى عماد الدولة يأمره أن يبادر بالخروج إلى عمله، فسارع إلى ذلك، ثم عرض العميد الكتب على وشمكير، فعزل من الولاة من لم يمض إلى عمله، وأبقى عماد الدولة. قال: وتسلم عماد الدولة الكرج، وأخذ في الإفضال على الرجال، وعلى عامل البلد، فكانت كتب العامل تمضى إلى الرىّ يشكره، ثم فتح قلاعا كانت باقية في أيدى الخرّمية «1» ، وأخذ منها أموالا جمة، وغنائم كثيرة، وصرف أكثرها في جمع الرجال عليه واستجلابهم.
ذكر خروج عماد الدولة بن بويه عن طاعة مرداويج، ومخالفته له، وملكه أصفهان
كان سبب ذلك أن عماد الدولة لما تحقق قدم مرداويج على ولايته احتاط لنفسه، وأخذ في جمع الرجال، والإنعام عليهم، وهو في ذلك يظهر طاعة مرداويج، واتفق أن مرداويج سبب «2» لبعض قواده على الكرج بمال، فأنعم عماد الدولة على أولئك القواد، واستمالهم،(26/167)
فمالوا إليه، وباطنوه، فلما وثق منهم أعلن بخلع مرداويج، وبايعه القواد، فخرج بهم عماد الدولة من الكرج بعد أن استصفى أمواله، وقصد أصفهان، وعرض أصحابه، فكانوا ثلاثمائة رجل، لكنهم منتجبون «1» مستظهرون في العدة، وسار إليها، وبها أبو الفتح المظفر بن ياقوت واليا للحرب، وأبو على «2» رستم واليا للخراج، وهما من قبل الخليفة، وكاتبهما عماد الدولة أن يدخل معهما في خدمة السلطان، فامتنعا من ذلك، واتفق في غضون ذلك، وفاة رستم، فنزل عماد الدولة بجوزنجان «3» ، وهى قرية على ثلاث فراسخ من أصفهان، وبرز إليه أبو الفتح بن ياقوت في ألوف من الرجال من جملتهم ستمائة ديلمى، فاستأمن إلى عماد الدولة منهم أربعمائة رجل، وانفصل المائتان الأخر لاحقين بما كان، وهو يومئذ بكرمان، وانهرم ابن ياقوت بعد حرب شديدة، ودخل عماد الدولة أصفهان في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنه إحدى وعشرين وثلاثمائة، وكانت أصفهان أول شىء استولى عليه عماد الدولة بن بوية.
والله أعلم.(26/168)
ذكر استيلائه على أرجان وغيرها، وملك مرداويج أصفهان
قال: ولما بلغ مرداويج خبر الوقعة خاف جانب عماد الدولة، وأهمّه أمره، فشرع في إعمال الحيلة، فراسله يعاتبه، ويستميله ويطلب منه أن يظهر طاعته ليمده بالعساكر الكثيرة؛ ليفتح بها البلاد، ولا يكلفه سوى الخطبة له في البلاد التى يستولى عليها، ولما سير الرسل جهز أخاه وشمكير في عسكر ضخم ليكبس عماد الدولة، وهو مطمئن، فنمى الخبر إلى عماد الدولة، فارتحل عن أصبهان بعد أن أقام بها نحوا من شهر، وتوجه إلى أرّجان وبها أبو بكر محمد بن ياقوت، فانهزم أبو بكر عنها إلى رامهرمز من غير حرب، ودخلها عماد الدولة، واستخرج منها أموالا [وانفقها] «1» فى جيشه، ثم وردت على بن بويه كتب من أبى طالب زيد بن على النوبندجانى يستدعيه إلى شيراز مدينة بلاد فارس، ويهون عليه أمر أميرها ياقوت، وكان ياقوت فى جيش كثير العدد من قبل الخليفة، فسار عماد الدولة إلى قرية تعرف بالخوان «2» دان، فسار إليه ياقوت، ووردت مقدمته في «3» ألفى رجل، فوافاهم عماد الدولة بالنوبندجان. وذلك في شهر ربيع الآخر سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة، فلم يثبتوا له، وانهزموا إلى(26/169)
مكان يقال له: الكركان، «1» ووافاهم ياقوت بهذا الموضع، وأقام عماد الدولة أربعين يوما في ضيافة زيد بن على النوبندجانى. وكان مبلغ ما خسر عليه في هذه المدة مائتى ألف دينار، ثم سار بعد ذلك إلى اصطخر، وسار ياقوت وراءه يتبعه، حتى انتهى إلى قنطرة على طريق كرمان، فسبقه ياقوت إليها، ومنعه من عبورها واضطره إلى الحرب.
ذكر استيلائه على شيراز
قال: ولما سبقه ياقوت إلى القنطرة اضطر إلى محاربته، وابتدأت الحرب بينهما في يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، واستمرت إلى يوم الخميس، فأحضر عماد الدولة أصحابه، ووعدهم الجميل، وأنه يترجل معهم عند الحرب، وكان من سعادته أن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت، فضرب ياقوت أعناقهم، فأيقن من بقى مع عماد الدولة بن بويه أنه لا أمان لهم عند ياقوت، فقاتلوا قتال من استقتل، ثم قدم ياقوت أمام أصحابه رجالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط؛ ليحرقوا أتراس الديلم، فلما رموا النار انقلبت الريح، فصارت فى وجوههم، واشتدت فعادت النار عليهم، وتعلقت في ثيابهم ووجوههم، فاختلطوا وركبهم أصحاب بن بويه، فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان، فكانت الهزيمة على ياقوت وأصحابه.(26/170)
ولما انهزم أصحاب ياقوت صعد على نشز مرتفع، ونادى في أصحابه الرّجعة الرّجعة، فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم اثبتوا فإن الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرقون، فنأخذهم، فثبتوا معه، فلما رأى بن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقصد ياقوت، فانهزم ياقوت «1» منه، واتبعه أصحاب بن بويه يقتلون، ويأسرون، ويغنمون، ثم رجعوا إلى السواد «2» ، فغنموه، ووجدوا فيه برانس لبود عليها أذيال الثعلب، ووجدوا قيودا وأغلالا فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت: إن هذه كانت أعدت لكم لتجعل عليكم، ويطاف بكم البلاد، فأشار أصحاب بن بويه عليه: أن يفعل ذلك بأصحاب ياقوت، فامتنع عماد الدولة، وقال: إنه بغى ولؤم، وقد لقى ياقوت بغيه، ثم أحسن إلى الأسارى، وأطلقهم وقال: هذه نعمة والشكر عليها يقتضى المزيد، وخيّر الأسارى بين المقام عنده، واللحاق بياقوت، فاختاروا المقام عنده، فخلع عليهم، وأحسن إليهم، وسار من موضع الوقعة، حتى أتى شيراز، ونادى في الناس بالأمان، وبث العدل، وأقام [رشحنة] «3» تمنع من الظلم، واستولى على تلك البلاد.(26/171)
ذكر واقعة غريبة اتفقت لعماد الدولة كانت سبب ثبات ملكه وقيام دولته
قال: ولما دخل عماد الدولة شيراز طلب الجند أرزاقهم، فلم يكن عنده ما يعطيهم، وكاد أمره ينحل «1» ، فجلس في غرفة في دار الإمارة بشيراز، وهو يفكر في أمره فرأى حية خرجت من موضع في سقف تلك العرفة، ودخلت في بخش «2» هناك، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا ذلك الموضع، فرأوا وراءه بابا، فدخلوا منه إلى غرفة أخرى، فإذا فيها عشرة صناديق مملوءة مالا ومصاغا، فكان فيها ما قيمته خمسمائة ألف دينار، فأنفقها، وثبت ملكه بعد أن كان قد «3» أشرف على الزوال.
وحكى. أنه أراد أن يفصل ثيابا، فدلوه على خياط كان لياقوت، فأحضره، فحضر خائفا، وكان أصم، فقال له عماد الدولة لا تخف، فإنما أحضرتك لتفصل لنا ثيابا، فلم يفهم الخياط ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التى عنده لياقوت ما فتحها، ولا علم ما فيها، فعجب عماد الدولة من هذا الاتفاق، وأمره بإحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيها أموال وثياب، قيمة ما فيها ثلاثمائة ألف دينار، ثم ظهر له من ودائع ياقوت، وذخائر عمرو، ويعقوب ابنى الليث جملة كبيرة، فامتلأت خزائنه، وثبت ملكه.(26/172)
ذكر تولية عماد الدولة من قبل الخليفة
قال: ولما تمكّن عماد الدولة من شيراز، وثبت ملكه ببلاد فارس، كتب إلى الخليفة الراضى بالله، وإلى وزيره أبى على بن مقلة يعرفهما أنه على الطاعة، ويطلب أن يقاطع على ما بيده من البلاد، وبذل ألف ألف درهم، فأجيب إلى ذلك، وتقدّمت إليه الخلع، و؟؟؟ رطوا على الرسول ألّا يسلم إليه الخلع إلا بعد قبض المال. فلما وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له ما اشترط عليه، فأخذها منه قهرا، ولبسها، ونشر اللواء، ودخل البلد، وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. قال: ولما سمع مرداويج ما حصل لعماد الدولة ابن بويه قام لذلك وقعد، فسار إلى أصفهان للتدبير عليه «1» ، وعزم على الخروج إليه بنفسه، فبلغ عماد الدولة ذلك، فبادر بمكاتبته، وسأله إقراره على بلاد فارس على أن يقيم له الدعوة، ويضرب باسمه السّكّة، وينفذ إليه أخاه ركن الدولة بن بويه رهينة، فقبل ذلك منه، واعتقل ركن الدولة، فلما صار في اعتقاله لم يكن بأسرع أن اتفق «2» قتل مرداويج على ما قدمنا ذلك في أخبار مرداويج، فهرب ركن الدولة بمواطأة من سجانه، وخرج إلى الصحراء ليفك قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن، ومعها بعض أصحابه وغلمانه، فلما رأوه ألقوا التبن، فكسروا قيوده، وحملوه إلى أخيه عماد الدولة بفارس(26/173)
وفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة تسمى عماد الدولة [شاهنشاه] ، «1» ولبس تاجا من الذهب مرصعا بالجوهر، وجلس على السرير.
ذكر وفاة عماد الدولة بن بويه وملك بن أخيه عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه
كانت وفاته في جمادى الآخرة، وقيل توفى لأربع عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين «2» وثلاثمائة، وكانت علته قرحة فى كلاه طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، ولما أحس بالموت أنفذ إلى أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه عضد الدولة فناخسروا ولده ليجعله ولىّ عهده، ووارث ملكه بفارس؛ لأنّ عماد الدولة لم يكن له ولد ذكر، فأنفذه «3» ركن الدولة، فوصل قبل وفاته بسنة، فخرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عساكره، وأجلسه على سرير، ووقف عماد الدولة بين يديه، وأمر الناس بطاعته، والانقياد إليه، وقبض على من كان يخاف منه من القواد. ثم توفى عماد الدولة بعد ذلك بسنة، فكانت مدة مملكته لبلاد فارس سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما، وكان عمره ما بين ثمانية وخمسين سنة إلى تسع وخمسين، وقيل سبعة وخمسين ودفن بدار المملكة بشيراز، وكان شجاعا عاقلا كريما مجربا حسن السياسة عظيم القدر، ووزر(26/174)
له في ابتداء أمره أبو سعيد إسرائيل بن موسى النصرانى إلى أن قتل، ثم وزر له أبو العباس أحمد بن محمد إلى أن مات عماد الدولة.
وحجابه: خطلخ إلى أن قتل، ثم سباسى حتى توفى، ثم بارس إلى أن توفى عماد الدولة، ولما مات عماد الدولة استقر عضد الدولة فى الملك بعده ببلاد فارس، ثم كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الطبقة الثانية من بنى بويه، وكان عماد الدولة هو الأسن الأكبر من بنى بويه «1» . والمشار إليه بينهم، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء. وكان معز الدولة هو المستولى على العراق، وهو كالنائب عنهما.
ذكر أخبار ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه
كان ركن الدولة في خدمة أخيه عماد الدولة يندبه في مهمانه وأشغاله، وجهزه وهو في حرب ياقوت في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة إلى كازرون «2» ، وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج منها أموالا جليلة، فأنفذ ياقوت عسكرا إليه لمنعه من ذلك، فقاتلهم وهزمهم، وهو في نفر يسير، وعاد إلى أخيه بالغنائم والأموال، ثم جهزه عماد الدولة رهينة عند مرداويج في سنة ثلاث وعشرين كما ذكرناه، فلما خلص بعد مقتل مرداويج، والتحق بأخيه عماد الدولة جهزه بالعساكر إلى أصفهان، فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدة من(26/175)
بلاد الجبال نواب وشمكير، فأقبل وشمكير، وجهز العساكر نحوه، فبقيا يتنازعان ملك تلك البلاد، وهى أصفهان، وهمدان، وقم، وقاجان، وكرج، والرىّ، وكنكور، وقزوين، وغيرها، ثم استولى ركن الدولة على أصفهان، وملكها في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وملك الرى في سنة ثلاثين.
ذكر ملك ركن الدولة بن بويه طبرستان وجرجان
وفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول اجتمع ركن الدولة، والحسن بن فيرزان، وقصدا بلاد وشمكير، فالتقيا به، فانهزم وشمكير، وملك ركن الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجان، فملكها، واستأمن إليه من قواد وشمكير مائة وثلاثة عشر قائدا، فأقام الحسن بن الفيرزان بجرجان، ومضى وشمكير إلى خراسان يستنجد بالسامانية، واتفقت وفاة الأمير عماد الدولة، فسار ركن الدولة لتقرير أمر ولده عضد «1» الدولة بفارس، فسار منصور ابن قراتكين صاحب جيش الأمير نوح بن نصر السامانى إلى الرى، ودخلها، وأخرج نائب ركن الدولة منها، وورد سجل من الخليفة المطيع لله بتقليد ركن الدولة إمرة الأمراء موضع عماد الدولة، فقبله، وانصرف إلى الرىّ، ففارقها منصور بن قراتكين قبل وصول ركن الدولة إليها، وسار إلى أصفهان، ثم رحل منها، فنزل طرف مفازة بها على النهر المعروف بور بروديم، ثم رحل عنه، والتقى مع ركن(26/176)
الدولة على الروذبار «1» ، والنهر يحجز بينهما؛ لكنه نهر يخاض، فأقامت الحرب بينهما سبعة أيام، ثم عبر منصور النهر بجيوشه، والتقوا من وقت العصر إلى صدر من الليل، ثم «2» سار منصور في بقية من الليل إلى الرى، وقدم ركن الدولة مقدمته نحو قاجان، فلما وصل إليها بلغه وفاة منصور بالرى، فسار إليها، ودخلها بغير قتال وتجهز منها «3» لحرب وشمكير لأنه الذى أغرى بينه، وبين صاحب خراسان. فالتقيا على باب الرى بجبل طبرك، وتواصلوا أربعة أشهر حتى سقط الثلج، فرجع وشمكير، ثم اتفقت وفاته، وقيام ولده «بهسيتون» فى الملك بعده، فدخل في طاعة ركن الدولة، فزال الخوف، وحصل الأمن واستقر الأمر على ذلك إلى سنة خمس وستين وثلاثمائة.
ذكر ما قرره ركن الدولة بين بنيه وما أفرده لكل منهم «4» من الممالك
وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة سار ركن الدولة من الرى إلى أصفهان، واستدعى ولده عضد الدولة من بلاد فارس، وجمع سائر أولاده، وحواشيهم، فقسم ركن الدولة ممالكه على أولاده، فجعل لابنه عضد الدولة بلاد فارس، وجعله الملك على جماعة البيت بعد(26/177)
أن أوصاه على إخوته، وعلى بن عمه عز الدولة بختيار بن معز الدولة، فإن معز الدولة كان قد توفى، وملك ابنه بختيار بعده على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسلم ركن الدولة إلى عضد الدولة أخاه الأصغر خسرو فيروز، وجعل لمؤيد الدولة، وهو شقيق عضد الدولة بلاد الرى، وأصفهان، وقم، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وما والاها، وأفرد لفخر الدولة همذان، والدينور، والإيغارين «1» وما اتصل بهم، واستحلف الأخوين على طاعة عضد الدولة، واستحلف عضد الدولة على الوفاء لهما، وكتب الكتاب بينهم ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميد، ومات ركن الدولة عقيب ذلك.
ذكر وفاة ركن الدولة بن بويه وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته بالرى في ليلة السبت لاثنتى عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة، وقد زاد على سبعين سنة، وقيل أقل من ذلك. وكانت مدة إمارته أربعا وأربعين سنة. وكان رحمه الله حليما كريما، كثير البذل للمال، حسن السياسة لرعيته وجنده، رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم بعيد الهمة متحرجا من المظالم مانعا لأصحابه من الظلم عفيفا عن الدماء، وكان يجرى الأرزاق على أهل البيوتات. ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة فى أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لرد المظالم، ويتعهد العلويين(26/178)
بالأموال الكثيرة، ويتصدق على ذوى الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام، وحكى عنه: أنه سار في بعض أسفاره، ونزل في خركاة قد نصبت له قبل أصحابه، وقدم إليه الطعام، فقال لبعض أصحابه لأى شىء قيل في المثل: خير الأشياء في القرية الإمارة، فقال:
لقعودك في الخركاة، ولهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاة، ولا طعام، فضحك، وأعطاه الخركاة، والطعام.
ومن محاسن أفعاله ما فعله من نصرة بختيار بن أخيه معز الدولة على ابنه عضد الدولة على ما نذكره في أخبار عز الدولة بختيار.
وكان له من الأولاد: عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو، وفخر الدولة أبو الحسن على. ومؤيد الدولة أبو منصور بويه، وأبو العباس خسرو فيروز.
وزراؤه: أول من وزر له: الأستاذ أبو الفضل أحمد بن العميد إلى أن توفى في سنة تسع وخمسين، فاستوزر بعده ولده ذا الكفايتين أبا الفتح محمد، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة إلى أن توفى ركن الدولة.
ذكر أخبار معز الدولة بن بويه
هو أبو «1» الحسين «2» أحمد بن بويه، ومعز الدولة أصغر إخوقه سنّا، وأكثرهم سعادة، وأوسعهم ملكا. وكان في ابتداء أمره مع أخيه عماد الدولة، وحضر معه المصاف الذى كان بينه، وبين ياقوت فى سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة، وهو صبى لم تنبت لحيته،(26/179)
وعمره تسع عشرة سنة، وكان في ذلك اليوم من أحسن الناس أثرا فى الحرب.
ذكر مسيره الى كرمان، وزوال يده في الحرب، وما اتفق له
وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة سار معز الدولة إلى كرمان، وسبب ذلك أن أخويه: عماد الدولة، وركن الدولة لما تمكنا من بلاد فارس، وبلاد الجبل، وبقى هو، وهو الأصغر بغير ولاية يستبد بها رأيا أن يسيّراه إلى كرمان، فسار إليها في عسكر ضخم، فلما بلغ السيرجان «1» استولى عليها، وجبى أموالها، وأنفقها في عسكره، وكانت عساكر نصر بن أحمد السامانى صاحب خراسان تحاصر محمد بن إلياس بن اليسع بقلعة هناك، فلما بلغهم إقبال معز الدولة، ساروا عن كرمان إلى خراسان، فتخلص محمد بن إلياس من القلعة، وسار إلى مدينة قم، وهى على أطراف المفازة بين كرمان، وسجستان، فسار إليه معز الدولة، فرحل عن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار ابن بويه إلى جيرفت وهى قصبة كرمان، واستخلف ثمّ بعض أصحابه، فلما قارب جيرفت أتاه رسول على الديحى «2» المعروف بعلى كلويه، وهو رئيس القفص البلوص «3» ، وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الناحية إلا أنهم يجاملون كل سلطان يرد البلاد،(26/180)
ويطيعونه، ويحملون إليه مالا معلوما ولا يطئون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع من قبوله إلا بعد دخول جيرفت، فتأخر على كلوية نحو عشرة فراسخ، ونزل بمكان صعب المسلك، ودخل ابن بويه جيرفت، وصالح على كلويه، وأخذ رهائنه، وخطب له، فلما استقر الصلح بينهما أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بقصد على والغدر به، وهون عليه أمره، وأطمعه في أمواله، وقال له:
إنه قد ترك الاحتراس، وسكن إلى الصلح، فأجابه إلى ذلك، وركب نحوه جريدة، وكان على متحرزا قد وضع العيون على ابن بويه، فعند ما تحرك للمسير بلغه ذلك، فجمع أصحابه، وكمنهم بمضيق على الطريق، فلما اجتاز ابن بويه بهم ثاروا ليلا من جوانبه، فقتلوا من أصحابه، وأسروا، ولم يفلت إلا اليسير، وجرح معز الدولة عدة جراحات، وأصابته ضربة في يده اليسرى، فقطعتها من نصف الذراع، وأصابت يده اليمنى ضربة أخرى، فسقط بعض أصابعه، وسقط إلى الأرض، وقد أثخن بالجراح، وبلغ الخبر إلى جيرفت، فهرب من بها من أصحابها، ولما أصبح على كلويه تبع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين «1» وقد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت «2» ، وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رسله إلى عماد الدولة بالاعتذار، ويعرفه غدر أخيه، ويبذل من نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقر بينهما الصلح، وأطلق كل(26/181)
من عنده من الأسرى، وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمد بن إلياس بما جرى على ابن بويه، فسار من سجستان إلى جنّابه، فتوجه إليه معز الدولة، وواقعه، ودامت الحرب بينهما عدة أيام، فانهزم ابن إلياس، وعاد ابن بويه بالظفر، وسار إلى على كلويه لينتقم منه، فلما قاربه أسرى على أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلا في ليلة شديدة المطر، فأسروا منهم، وقتلوا، ونهبوا وعادوا، فلما أصبح ابن بويه، سار نحوهم، فقتل منهم عددا كثيرا، وانهزم علىّ، وكتب معز الدولة إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه، ومع ابن إلياس، فأمره أخوه بالوقوف مكانه، ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائدا من قواده يأمره بالعود إليه إلى فارس، ويلزمه بذلك، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدى منهزما من ابن رائق وبجكم، وأطمع عماد «1» الدولة في العراق، فسير معه معز الدولة كما قدمنا ذكر ذلك في أخبار الدولة العباسية في أيام الراضى بالله.
ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز
كان مسير معز الدولة بن بويه إلى الأهواز في سنة ست وعشرين وثلاثمائة للسبب الذى قدمناه، فسار إليه، ومعه أبو عبد الله البريدى، وكان بها بجكم الرائقى، فسار لحربهم، وقاتلهم بأرجان، فانهزم منهم إلى الأهواز، وأقام بها ثلاثة عشر يوما، ثم انهزم إلى تستر،(26/182)
وسار إلى واسط، واستولى معز الدولة والبريدى على الأهواز، وأقلعا بها خمسة وثلاثين يوما، ثم هرب البريدى خوفا على نفسه من معز الدولة، فكاتبه يعيب عليه ذلك، ويعتبه، فاعتذر البريدى إليه أنه خاف على نفسه، وطلب من معز الدولة أن يفرج عن الأهواز؛ ليتمكن من ضمانه، فإنه كان قد ضمن الأهواز، والبصرة من عماد الدولة في كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم «1» خوفا من أخيه لئلا يقول له: كسرت المال، ثم أنفذ إليه البريدى ثانيا يذكر خوفه منه، ويطلب منه أن ينتقل إلى السوس «2» ليبعد عنه، ويأمن هو بالأهواز، فحذره أصحابه، وخوفوه غدر البريدىّ، فامتنع من إجابته إلى ذلك، وكتب إلى أخيه عماد الدولة، فأنفذ إليه جيشا، فقوى بهم، واستولى على الأهواز، وهرب البريدى إلى البصرة، وأقام معز الدولة بالأهواز، وقصد البصرة وواسط، وعاد عنهما «3» ، ولم يزل كذلك إلى أن استولى على بغداد.
ذكر استيلائه على بغداد وتلقيبه وتلقيب اخوته من ديوان الخلافة
كان استيلاء معز الدولة على بغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فى خلافة المستكفى بالله، وسبب ذلك أن ابن [شيرزاد] «4»(26/183)
لما استولى على إمرة الأمراء ببغداد بعد وفاة توزون، على ما قدّمناه في أخبار الدولة العباسية في أيام المستكفى بالله، استعمل ينال «1» كوشه على واسط، فكاتب معز الدولة، وهو بالأهواز، ودخل في طاعته، واستقدمه، فسار إليه، وقصد بغداد، فلما فارقها استتر المستكفى بالله وابن شيرزاد «2» ، وخرج الأتراك من بغداد إلى الموصل، فلما أبعدوا ظهر المستكفى بالله، وقدمّ معز الدولة أبا محمد الحسن «3» ابن محمد المهلبى إلى بغداد، فاجتمع بالخليفة، فأظهر السرور بمقدم ابن بويه، وأعلمه أنه إنما استتر ليتفرق الأتراك، ويحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال، ووصل معز الدولة إلى بغداد في حادى عشر جمادى الأولى من السنة، ونزل بباب الشمّاسيّه، ودخل من الغد إلى الخليفة، وبايعه، وحلف له، ولقبه الخليفة بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن عليّا عماد الدولة، ولقب أبا على الحسن ركن الدولة، وأمر بضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم، وخلع الخليفة على معز الدولة، وطوّقه، وسوّره، وفوض إليه ما وراء بابه، وعقد له لواء، وأمر بالخطبة له على المنابر، وسأل معز الدولة الخليفة أن يأذن لابن شيرزاد في الظهور، وأن يأذن له أن يستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظهر ابن شيرزاد، ولقى معز الدولة، فولاه أمر الخراج، وجباية الأموال، ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور(26/184)
الناس، فلحق الناس لذلك شدة عظيمة، وصار رسما عليهم، وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله، وأخذ معز الدولة في مضايقه الخليفة، والحجر عليه، حتى في نفقته، ورتب له في كل يوم خمسة آلاف درهم، فكانت ربما تأخرت عنه، فأفرد له ضياعا، وسلمت إليه فولاها من قبله، ولم يبق له حكم في غيرها، ثم خلعه معزّ الدولة على ما ذكرناه لثمان بقين من جمادى الآخرة. وبايع المطيع لله
ذكر الحرب بين معز الدولة، وناصر الدولة بن حمدان
وفي شهر رجب سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة سيّر معز الدولة عسكرا مقدمهم ينال كوشه وموسى قيادة على مقدمته نحو الموصل، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشه بموسى، ومضى هو ومن معه إلى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل يريد العراق، فوصل إلى سامرّا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معزّ الدولة بعكبرا، فسار معز الدولة هو والمطيع لله «1» إلى عكبرا في شهر رمضان، فلما سار عن بغداد التحق ابن شيرزاد بناصر الدولة، وعاد إلى بغداد مع عساكر لناصر الدولة يحارب معزّ الدولة، فلما كان في عاشر رمضان، سار ناصر الدولة من سامرّا إلى بغداد، وأقام بها، فسار معز الدولة إلى تكريت، وكانت لناصر الدّولة، فنهبها، وعاد هو والخليفة إلى بغداد، ونزلا بالجانب الغربى، وناصر الدّولة بالشرقى. ثم وقعت الحرب بينهم ببغداد، وانتشرت أعراب ناصر(26/185)
الدولة بالجانب الغربى فمنعوا أصحاب معزّ الدولة من الميرة والعلف، فقلت الأسعار على الديلم، وضاق الأمر على معزّ الدولة، حتى عزم على الرجوع إلى الأهواز، وقال: نعمل معهم حيلة، فإن أفادت، وألا عدنا، فرتب ما معه من المعابر بناحية التمارين، وأمر وزيره أبا جعفر [الصيمرى] «1» ، واسفهدوست بالعبور، ثم أخذ معه بقية العسكر، وأظهر أنه يريد قطربّل «2» ، وسار ليلا، ومعه المشاعل على شاطىء دجلة، فسار أكثر عسكر ناصر الدولة بإزائه ليمنعوه من العبور، فتمكن الصيمرى ومن معه العبور، فعبروا فلما علم معز الدولة بعبور أصحابه عاد إلى مكانه: فعلموا بحيلته، فلقيهم ينال كوشه في جماعة من أصحاب ناصر الدولة، فهزموه واضطرب العسكر الحمدانى، وانهزموا، وتبعهم ناصر الدولة، وملك الديلم الجانب الشرقيّ، وعاد الخليفة إلى داره. وذلك في المحرم سنة خمس وثلاثين، ونهب الديلم أموال الناس ببغداد، وكان مقدار ما نهبوه من أموال المعروفين دون غيرهم عشرة آلاف ألف دينار، وأمرهم معز الدولة برفع السيف، والكف عن النهب، وأمر الناس، فلم ينتهوا «3» ، فأمر وزيره الصيمرى، فركب ببغداد، وقتل وصلب جماعة، وطاف بنفسه، فامتنعوا، واستقر معز الدولة ببغداد، وأقام ابن حمدان بعكبرا، فأرسل في الصلح بغير مشورة الأتراك التوزوتية، فهمّوا بقتله، فى شهر المحرم سنة خمس وثلاثين.(26/186)
ذكر اقطاع البلاد وتخريبها
وفي سنة أربع وثلاثين أيضا شغب الجند على الأمير معز الدولة، وأسمعوه المكروه؛ بسبب أرزاقهم، فوعدهم إلى مدة، فاضطر إلى أخذ الأموال من غير وجهها، ثم أقطع القرى جميعها التى كانت للسلطان، وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وكانت البلاد قبل ذلك قد خربت من الاختلاف والغلاء، فأخذ القواد القرى العامرة، فازدادت عمارة لحمايتهم لها، وأما الأتباع فازداد ما أخذوا «1» خرابا، واختلت البلاد بسبب ذلك، وتعذر على معز الدولة جمع ذخيرة «2» للنوائب، وأقطع معز الدولة غلمانه على الأتراك، وزادهم على الديلم، فوقع بينهم بسبب ذلك [الوحشة والمنافرة] «3» ، والله أعلم بالصواب.
ذكر استيلائه على البصرة
كان معز الدولة قد ضم البصرة وأعمالها لأبى القاسم بن البريدى فى سنة أربع وثلاثين، ووقع الاختلاف بينهما في سنة خمس وثلاثين، فأرسل إليه معز الدولة جيشا، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب ابن البريدى، ثم سار معز الدولة هو، والخليفة المطيع لله إلى البصرة في سنة ستّ وثلاثين لاستعادتها من ابن البريدى،(26/187)
وسلكوا البرية إليها، فلما وصل الدرهمية «1» استأمن إليه عساكر ابن البريدى، وهرب أبو القاسم «2» فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر إلى هجر، والتجأ إلى القرامطة، وملك معز الدولة البصرة، وسار منها إلى الأهواز، وأقام الخليفة، والصيمرى بالبصرة، والتقى معز الدولة بأخيه عماد الدولة بأرّجان في شعبان، فنزل معز الدولة، وقبل الأرض بين يديه، وكان يقف قائما، فيأمره بالجلوس، فلا يفعل، ثم عاد إلى بغداد.
ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده منها بعد الصلح
وفي سنة سبع وثلاثين، سار معز الدولة إلى الموصل، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، وملك معز الدولة الموصل في شهر رمضان، وظلم أهلها، وعسفهم، وأخذ أموال الرعايا، فكثر الدعاء عليه، وقصد الاستيلاء على جميع بلاد ناصر الدولة، فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان، والرى، واستمده، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة، فترددت الرسائل بينهما، واستقرت الحال على أن يؤدى ناصر الدولة عن الموصل، وديار الجزيرة كلها، والشام، فى كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويخطب في جميع بلاده لبنى بويه، وعاد معز الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذى الحجة من السنة.(26/188)
ذكر وفاة الوزير الصيمرى، ووزارة المهلبى
فى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة توفى أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمرى وزير معز الدولة بأعمال الجامدة «1» ، واستوزر معز الدولة بعده أبا محمد الحسن بن محمد المهلبى في جمادى الأولى، وكان يخلف الصيمرى بحضرة معز الدولة، فعرف أموال الدولة والداووين، وظهرت أمانته، وكفاءته، فاستوزره، ومكّنه من الوزاة، فأحسن السيرة، وأزال كثيرا من المظالم، ثم ضربه معز الدولة بالمقارع في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، مائة وخمسين مقرعة ووكل به في داره «2» ، ولم يعزله من وزارته بل ضربه لأمور نقمها عليه. وفي سنة خمس وأربعين في شهر رجب عصى على معز الدولة روزبهان بن ونداخزشيد «3» ، وسار إلى الأهواز، وأطاعه أكثر الدّيلم [فسار إليه] «4» معز الدولة، ولقيه بالأتراك فقط، وعدتهم ألف فارس. وذلك في يوم الإثنين سلخ شهر رمضان من السنة، فهزمه معز الدولة، وأسره.
وفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة. استولى معز الدولة على الموصل؛ وسبب ذلك أنه كان قد ضمنها له ناصر «5» الدولة بن حمدان في كل سنة بألفى ألف درهم. فلما كان في هذه السنة أخر حمل(26/189)
المال، فسار معز الدولة إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، ودخلها معز الدولة. ثم سار منها إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة، وتوجه إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فراسله سيف الدولة في الصلح، فامتنع من تضمين ناصر الدولة لخلفه معه مرة بعد أخرى، فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفى ألف وتسعمائة ألف درهم، فضمنه، وذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين، وانحدر إلى بغداد، وفي سنة [خمسين] «1» وثلاثمائة أمر معز الدولة ببناء داره ببغداد، فشرع في عمارتها، فكان مبلغ الخرج عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسبب ذلك إلى مصادرة جماعة من أصحابه.
ذكر ما كتب على مساجد بغداد
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة في شهر ربيع الآخر منها كتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما صورته: «لعن الله معاوية بن أبى سفيان، ولعن من غصب فاطمة رضى الله عنها فدكا «2» ، ومن منع أن يدفن الحسين «3» عند قبر جده عليه السلام، ومن نفى أباذرّ الغفارى، ومن أخرج العباس من الشورى» . فلما كان الليل محاه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير(26/190)
المهلبى أن يكتب مكان ما محى: «لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا يذكر [أحدا في اللعن] «1» إلا معاوية، ففعل ذلك» .
ذكر وفاة الوزير المهلبى
وفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة سار الوزير المهلبى في جمادى الآخرة في جيش إلى عمان ليفتحها، فلما بلغ البحر اعتل، واشتدت علته، فأعيد إلى بغداد، فمات في الطريق في شعبان وحمل تابوته إلى بغداد، فدفن بها، وقبض معز الدولة أمواله، وذخائره، وأخذ أهله، وأصحابه، وحواشيه، حتى ملاحه، ومن خدمه يوما واحدا، فاستعظم الناس ذلك، واستقبحوه، فكانت مدة وزارته ثلاث عشر سنة، وثلاثة أشهر، وكان كريما فاضلا ذا عقل ومروءة، فمات بموتة الكرم. ونظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين «2» الشيرازى. وأبو الفرج محمد بن العباس بن فساعن «3» من غير تسمية لأحد منهما بوزارة.
وفيها. فى يوم عاشوراء أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النّياحة، ويلبسوا ثيابا عملوها من المسوح «4» ، وأن تخرج النساء منشرات(26/191)
الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوايح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن على بن أبى طالب، ففعل الناس ذلك. ولم يكن للسنّية قدرة على المنع، لكثرة الشيعة؛ ولأن السلطان منهم.
وفيها. فى ثامن [عشر] «1» ذى الحجة أمر معز الدولة أيضا بإظهار الزينة في البلد وإشعال النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلا.
فعل ذلك فرحا بعيد الغدير «2» ، وكان يوما مشهودا.
ذكر وفاة معز الدولة بن بويه
كانت وفاته في ليلة الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة خمس وخمسين وثلاثمائة «3» بعلّة الذّرب، وكان بواسط وقد جهّز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين الخارج عليه فابتدأ به الإسهال وقوى عليه، فسار نحو بغداد، وخلف أصحابه، ووعدهم أن يعود إليهم. فلما وصل إلى بغداد اشتد مرضه، وصار لا يثبت في معدته شىء، فلما أحس بالموت عهد إلى ابنه بختيار، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر ماله، واعتق مماليكه ورد شيئا كثيرا على أصحابه وتوفى. ودفن بداره ثم نقل إلى مشهد بنى له في مقابر قريش، فكانت(26/192)
إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا ويومين. ومولده على ما حكاه إبو اسحاق الصابى في سنة ثلاث وثلاثمائة، فيكون عمره على هذا ثلاثا وخمسين سنة تقريبا. وكان ملكا شجاعا مقداما، قوى القلب، صليب العود، أبى النفس، إلا أنه كان في أخلاقه شراسة، وكانت إحدى يديه مقطوعة. وقد ذكرنا سبب قطعها مما تقدم، وقيل في قطعها غير ذلك. ومعز الدولة هذا هو الذى أحدث السّعاة، ورتب لهم الجرايات الكثيرة لأنه أراد أن يصل خبره ألى أخيه ركن الدولة سريعا، فنشأ في أيامه فضل، ومرعوش، وفاقا جميع السعاة، وكان الواحد منهما يسير في اليوم الواحد نيفا وأربعين فرسخا، وكان أحدهما ساعى السّنّية» والآخر ساعى الشيعة.
أولاده: عز الدولة أبو منصور بختيار مشيد الدولة أبو حرب حبشى. عمدة الدولة أبو اسحق إبراهيم أبو طاهر محمد.
وزراؤه. أول من وزر له أبو الحسن أحمد بن محمد الرازى، وكان يخاطب بالأستاذيه إلى أن توفى بالأهواز في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. فاستوزر أبا جعفر محمد بن أحمد بن يعلى الصيمرى. وكان شجاعا حسن الآثار إلى أن توفى في ليلة الإثنين لست خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين، فاستوزر أبا محمد الحسن بن محمد المهلبى من ولد قبيصة «1» بن المهلب، وخوطب بالأستاذية مدة، ثم خوطب بالوزارة إلى أن توفى سنة اثنتين وخمسين. فلم يستوزر بعده أحدا.(26/193)
حجابه: مكلى التركى إلى أن قتل في وقعة ناصر الدولة، فاستحجب ينال كوشه «1» التركى، ثم قبض عليه، واستحجب الحاجب الكبير سبكتكيز التركى، فطالت يده، وتجاوز حدّ الحجّاب إلى حد الأولاد، وقاد جميع جيوشه، ونعت بالاسفهسلارية، وكانت إقطاعاته في كل سنة عشرة آلاف ألف درهم، فأقام إلى أن توفى معز الدولة، فهذه الطبقة الأولى من بنى بويه قد ذكرناها.
فلنذكر الطبقة الثانية منهم:
ذكر أخبار عز الدولة بختيار
هو أبو منصور بختيار بن معز الدولة بن بويه. كان والده معز الدولة قد عقد له الأمر من بعده في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وبايع له الأجناد، ولقبه المطيع في يوم الإثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين. ثم جلس في السلطنه بعد وفاة أبيه في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلاثمائة. والله أعلم بالصواب.
ذكر ما كان من الحوادث في أيام عز الدولة بختيار
كان أبوه قد أوصاه بطاعة عمّه ركن الدولة. واستشارته في جميع ما يفعله، وأوصاه أيضا بطاعة عضد الدولة بن عمه لأنه أكبر منه سنا، وأقوم بالسياسة، ووصاه بتقرير كاتبيه أبى الفضل العباس(26/194)
ابن الحسن، وأبى الفرج محمد بن العباس، وبالحاجب سبكتكين، فخالف جميع وصاياه، واشتغل باللعب واللهو، وعشرة النساء، والمساخر، والمغنّين، وشرع في إيحاش كاتبيه، والحاجب، فاستوحشوا، وانقطع الحاجب عنه، ولم يحضر داره، ونفى أكابر الدّيلم عن مملكته شرها في إقطاعاتهم وأموالهم، وأبعد المتصلين بهم، فاتفق أصاغرهم، وطلبوا الزيادات، فاضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالبوا بختيار بإعادة من أسقطه منهم، فاضطر إلى إجابتهم لتغير «1» الحاجب سبكتكين عليه، وفعل الأتراك مثل فعلهم، واتصل خبر وفاة معز الدولة بكاتبه أبى الفرج محمد بن العباس، وهو يتولّى أمر عمان، فسلمها لنواب عضد الدولة، وسار نحو بغداد، وإنما فعل ذلك لأن بختيار لما ملك بعد وفاة أبيه انفرد أبو الفضل بالنظر في الأمور، فخالف أبو الفرج أن يستمر انفراده عنه، فسلم عمان إلى نواب عضد الدولة لئلا يؤمر بالقيام «2» بها لحفظها وصلاحها، ولما وصل إلى بغداد لم يتمكن مما أراد، وانفرد أبو الفضل بالتدبير دونه.(26/195)
ذكر خروج مشيد الدولة حبشى بن معز الدولة على أخيه عز الدولة
وفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة عصى حبشى على أخيه، وكان بالبصرة، فسير إليه وزيره أبا الفضل العباس، وأمره بأخذه كيف أمكن، فسار الوزير، وأظهر أنه يريد الانحدار إلى الأهواز، فلما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها، وكتب إلى حبشى يعده أن يسلم إليه البصرة سلما، ويصالحه عليها، وقال: «إننى قد لزمنى مال على الوزارة، ولا بد من مساعدتى» . فأنفذ إليه حبشى مائتى ألف درهم، وتيقن حصول البصرة له، وأرسل الوزير إلى عسكر الأهواز يأمرهم بقصد «الأبلة» فى يوم ذكره لهم، فلم يتمكن حبشى من إصلاح شأنه، فظفروا به، وأخذوه أسيرا، وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمه ركن الدولة، فخلصه منها، فصار إلى عضد الدولة، فأقطعه إقطاعا وافرا «1» ، وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وأخذ الوزير أمواله بالبصرة، وكانت شيئا كثيرا، ومن جملة ما أخذ عشرة آلاف مجلّد سوى الأجزاء، وما ليس له جلد.(26/196)
ذكر عزل أبى الفضل الوزير ووزارة ابن بقية
وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة عزل الوزير أبو الفضل العباس من وزارته في ذى الحجة، واستوزر محمد بن بقية، فعجب الناس من ذلك لأنه كان وضيعا في نفسه وهو من أهل أوانا «1» ، وكان أبوه من الفلاحين لكنه كان قريبا من بختيار، وكان يتولى مطبخه، ويقدم إليه الطعام، ومنديل الخوان على كتفه إلى أن استوزره، وحبس الوزير أبو الفضل، فمات عن قريب، واستقامت أمور ابن بقية، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه من أموال أبى الفضل وأصحابه، فلما فنى ذلك ظلم الرعية، فخربت، وزاد الاختلاف بين الأتراك، وبختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال بين بختيار، وسبكتكين، فاصطلحا، وركب سبكتكين إلى بختيار، ومعه الأتراك، ثم عاد الحال إلى ما كان عليه من الفساد. وسبب ذلك أن ديلميّا اجتاز بدار سبكتكين، وهو سكران، فرمى الروشن «2» بزوبين في يده، فأثبته، فصاح سبكتكين بغلمانه، فأخذوه، وظن أنه وضع على قتله، فقرره، فلم يعترف، فأنفذه إلى بختيار، فأمر بقتله، فلما قتل قوى ظن سبكتكين أنه كان وضعه عليه، وأنه إنما «3» قتله لئلا يذكر ذلك إذا قرره «4» .(26/197)
ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه
وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز حتى عمت العراق جميعه، واشتدت، وسبب ذلك أن عز الدولة قلت الأموال عنده، وكثر إدلال «1» جنده عليه، واطراحهم لجانبه، وشغبوا عليه مرة بعد مرة، فتعذر عليه الفرار، ولم يجد وزيره جهة يحتال منها، فتوجّه إلى الموصل في هذه السنة؛ ليستولى عليها من أبى تغلب بن حمدان، فلم يفتح عليه بطائل، ولم يحصل له من المال ما يسد به الخلّة، فرجع، وقصد الأهواز ليتعرض إلى واليها بختكين «2» أزاذرويه، ويعمل له حجة يأخذ منه مالا ومن غيره، فسار بختيار، وتخلف عنه سبكتكين ببغداد، فلما وصل إلى الأهواز خدم واليها بختيارا، وبذل من نفسه الطاعة، وحمل إليه أموالا جليلة، وبختيار مع هذا يفكر في طريق يأخذه بها، فاتفقت فتنة الأتراك والديلم، وكان سببها أن بعض الديلم نزل دارا بالأهواز، ونزل بعض الأتراك بالقرب منه، وكان هناك لبن موضوع، فأراد غلام الديلمى، أن يبنى به «3» معلفا للدواب، فمنعه غلام التركى، فتضاربا، وخرج كل من الدّيلمى والتركى لنصرة غلامه، فضعف التركى عنه «4» ، فركب، واستنصر بالأتراك، فركبوا،(26/198)
وركب الديلم، وأخذوا السلاح، فقتل بعض قواد الأتراك، فطلب الأتراك بثأر صاحبهم، وقتلوا من الديلم قائدا، وخرجوا ظاهر البلد، واجتهد بختيار في تسكين الفتنة، فعجز عن ذلك، فجمع الديلم، واستشارهم فيما يفعله، وكان أذنا، فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك، فأحضر أزاذرويه، وكاتبه سهل بن بشر، وسباشى الخوارزمى، وبكتيجور، وكان حموا لسبكتكين، فقيدهم، وأطلق أيدى الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم، وقتل بينهم قتلى، فهرب الأتراك، وأخذ بختيار أقطاع سبكتكين، وأمر فنودى في البصرة بإباحة دم الأتراك. والله أعلم بالصواب.
ذكر حيلة لبختيار عادت عليه
كان بختيار قد واطأ والدته، وإخوته»
أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيارا قد مات، ويجلسون للعزاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه. فلما قبض على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور بذلك، فعندها أوقفوا الصراخ في داره، وأشاعوا موته ظنّا منهم أن سبكتكين يحضر إلى عندهم ساعة يصل إليه الخبر، فلما سمع الصراخ أرسل يتعرف الخبر، فأعلموه، فأرسل «2» يسأل عن الذى أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر، فلم يجد نقلا يثق القلب به، فارتاب لذلك، ثم وصلت رسل الأتراك بما جرى(26/199)
عليهم، فعلم أن ذلك مكيدة، ودعاه الأتراك إلى أن يأتمر عليهم فتوقف، وأرسل إلى أبى إسحاق إبراهيم بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد فسد بينه، وبين أخيه، فلا يرجى صلاحه، وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه، وإن أساءوا إليه، ودعاه أن يعقد له الأمر، فعرض قوله على والدته، فمنعته منه، فركب سبكتكين في الأتراك، وحصر ديار «1» بختيار يومين، ثم أحرقها ودخلها، وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر محمد «2» ، ووالدتهما، ومن كان معهما، فسألوه أن يمكنهم من الانحدار إلى واسط، ففعل، وانحدروا في الماء، ومعهم المطيع لله، فأعاده سبكتكين، وذلك في تاسع ذى القعدة سنة ثلاث وستين، واستولى سبكتكين على جميع ما كان لبختيار ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم، وتتبعوا أموالهم، وثارت العامّة من السّنّة لنصرة سبكتكين، فأحسن إليهم، وجعل لهم العرفاء، والقواد، فثاروا بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأحرق الكرخ، وظهرت السنة، ثم خلع سبكتكين المطيع، وبايع لابنه الطائع، على ما ذكرناه في أخبار الدولة العباسية.(26/200)
ذكر ما اتفق لبختيار بعد قبضه على الأتراك، ووفاة سبكتكين وقيام الفتكين
قال «1» : ولما قبض بختيار على الأتراك كما ذكرناه، ورأى ما فعله سبكتكين، وأن بعض الأتراك بواد الأهواز قد عصوا عليه، أتاه مشايخ الأتراك من البصرة فعاتبوه على ما فعل بأصحابهم، وقال له الديلم: إنا لا نستغنى عن الأتراك في الحرب يدفعون عنا بالنشّاب، فاضطرب رأيه، ثم أطلق آزاذرويه، وجعله صاحب الجيش مكان سبكتكين، وظن أن الأتراك يأنسون به، وأطلق المعتقلين منهم، وسار إلى واسط، وكتب إلى عمه ركن الدولة، وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه، ويكشفا ما نزل به، وكتب إلى أبى تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه، وأنه يسقط عنه المال الذى عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعا، وأسقط عنه بالقى المال، وطلب منه أن يسير إليه بعسكر. فأما عمه ركن الدولة، فإنه جهر عسكرا مع وزيره أبى الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عضد الدولة بإنجاد ابن عمه، فوعد بالمسير إليه، وانتظر ببختيار الدوائر ليستولى على العراق. وأما عمران بن شاهين، فإنه أخذ الخلع، وقبل إسقاط المال، وأبى أن ينجده. وأما ابن حمدان، فإنه أجاب، وسارع بإرسال أخيه أبى عبد الله الحسين إلى تكريت فى عسكر، وانتظر انحدار الأتراك من بغداد، فإن ظفروا ببختيار(26/201)
دخل بغداد مالكها لها، فلما انحدروا عن بغداد سار أبو تغلب بن حمدان إليها، ودخلها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط. المال الذى عليه، ووصل إلى بغداد، والناس في بلاء عظيم من العيّارين، فحمى البلد، وكفّ أهل الفساد، وأما الأتراك، فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط ومعهم الخليفة الطائع «1» والمطيع، فتوفى المطيع «2» بدير العاقول لما قدمناه «3» ، ومرض سبكتكين، فمات، فحملا إلى بغداد، وقدّم الأتراك عليهم الفتكين، وهو من أكابر قوادهم وموالى معز الدولة، وظن بختيار أن نظام الأتراك قد انحل بموت سبكتكين، فلم يزدد إلا قوّة واشتدادا، وسار الأتراك إليه، وهو بواسط، فقاتلوه، واتصلت الحرب بينهم خمسين يوما، والظفر فيها للأتراك، وحصروه حتى اشتد عليه الحصار وأحدقوا به، فتابع إنفاذ الرسل إلى عضد الدولة ابن عمه، وكتب إليه:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وألا فأدركنى ولما أمزق
فلما رأى عضد الدولة ذلك، وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه، سار نحو العراق نجدة لبختيار في الظاهر، وطلبا للاستيلاء فى الباطن.(26/202)
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق والقبض على بختيار
قال: وسار عضد الدولة في عساكر فارس، واجتمع بابن العميد وزير أبيه بالأهواز، وهو بعساكر الرى، وساروا إلى واسط، فلما بلغ الفتكين خبر وصولهم رجع إلى بغداد، واجتمع بختيار بعضد الدولة، وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقى، وأمر بختيارا أن يسير في الجانب الغربى، ولما رجع الفتكين إلى بغداد فارفها ابن حمدان إلى الموصل، ووصل الفتكين بغداد، وصار محصورا من جميع جهاته، وذلك أن بختيارا كتب إلى ضبة بن محمود «1» لأسدى بالإغارة على أطراف بغداد، وقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بنى شيبان، وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة عنها، وينفذ سراياه، فغلت الأسعار ببغداد، وخرج الفتكين في الأتراك للقاء عضد الدولة، فلقيه بين ديالى «2» والمدائن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الأتراك، وقتل منهم خلق كثير، وذلك في رابع عشر جمادى الأولى، وسار الأتراك إلى تكريت، وسار عضد الدولة إلى بغداد، وترك بدار المملكة، وأراد التغلب على العراق، واستضعف بختيارا، وإنما خاف من أبيه ركن الدولة، فوضع جند باختيار على أن يثوروا به، ويشغبوا عليه، ويطالبوه بالأموال،(26/203)
والإحسان إليهم لأجل صبرهم معه، ففعلوا ذلك، وبالغوا، وكان بختيار لا يملك شيئا، والبلاد خراب، فلا تصل يده إلى أخذ شىء «1» منها، وأشار عضد الدولة على بختيار أن لا يلتفت «2» إليهم، وأن يغلظ لهم في الجواب، ولا يعدهم بما لا يقدر عليه، وأن يعرفهم أنه لا يريد الإمارة عليهم والرئاسة، ووعده أنه إذا فعل ذلك توسط بينهم على ما يريده، فظن بختيار أنه ناصح له، ففعل ذلك، واستعفى من الإمارة، وأغلق باب داره، وصرف كتابه وحجّابه، وراسله عضد الدولة ظاهرا بمحضر من مقدمى الجند يشير عليه بتطييب قلوبهم، وكان قد أوصاه سرّا أنه لا يقبل منه، فعمل بختيار بما أوصاه به، وقال: لست أميرهم، وقد برئت منهم وترددت الرسائل بينهم ثلاثة أيام، هذا، وعضد الدولة يغريهم به، والشغب يزيد كل يوم، فأرسل بختيار إلى عضد الدولة يطلب منه إنجاز ما وعد به، ففرق الجند على عدة جميلة، واستدعى بختيارا وإخوته، فقبض عليهم، ووكل بهم، وذلك لأربع بقين من جمادى الآخرة، وجمع الناس، وأعلمهم استعفاء بختيار من الإمارة لعجزه عنها، ووعدهم الإحسان إليهم، والنظر في أمورهم، فسكنوا إلى قوله.
والله أعلم.(26/204)
ذكر عودة بختيار الى ملكه
قال: ولما قبض عضد الدولة على بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متولّيا لها، فامتنع على عضد الدولة، وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه وعمّيه من عضد الدولة، ومن أبى الفتح بن العميد، ويذكر الحيلة التى تمّت عليه، فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه إلى الأرض، وتمرّع عليها، وامتنع من الأكل والشرب عدّة أيام، ومرض، وكان محمد بن بقيّة قد خدم عضد الدولة بعد بختيار، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها، فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة، وخالف عليه، وأظهر الامتعاض لقبض بختيار، وكاتب عمران بن شاهين، وطلب مساعدته، فأجابه إلى ذلك، وكان عضد الدولة قد ضمن لسهل بن بشر وزير الفتكين بلد الأهواز، وأخرجه من حبس «1» بختيار، فكاتبه «2» عمه ابن بقية، واستماله فأجابه، وكاتب ركن الدولة من عصى على ابنه عضد الدولة، بالثبات والصبر، وأنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة، وإعادة بختيار، فاضطربت النواحى على عضد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء، وانقطعت عنه موارد فارس، ولم يبق بيده إلا قصبة بغداد، وطمع فيه العامة، فرأى إنفاذ أبى الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له، وما فرق من الأموال، وضعف بختيار عن حفظ البلاد، وأنه إن أعيد خرجت المملكة وتدبير الخلافة عنهم، وكان في ذلك(26/205)
بوارهم، وسأله ترك نصرة بختيار، وقال لأبى الفتح: فإن أجاب إلى ما تريد، وإلّا فقل له: إنى أضمن منك أعمال العراق، وأحمل إليك في كل سنة ثلاثين ألف «1» درهم، وأبعث بختيارا وأخوته إليك، لنجعلهم بالخيار بين الإقامة عندك، أو بعض بلاد فارس، وإن أحببت أنت أن تحضر إلى العراق لتلى تدبير الخلافة وتنفذ «2» بختيار إلى الرى، وأعود أنا إلى فارس، فالأمر إليك، وقال لابن العميد: فإن أجاب إلى ذلك، وإلا فقل له: أيها السيد الوالد أنت مقبول الحكم والقول، ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم، وإظهار العداوة، وسيقاتلوننى بغاية ما يقدرون عليه، فتنتشر الكلمة، ويختلف أهل هذا البيت أبدا، فإن قبلت ما ذكرته، فأنا العبد الطائع، وإن أبيت وحكمت بانصرافى، فإننى سأقتل بختيارا وإخوته، وأقبض على كلّ من اتهمه بالميل إليهم، وأخرج عن العراق، وأترك البلاد سايبة ليدبّرها من اتفقت له، فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة، وأشار أن يسير غيره بها، ويسير هو بعده، ويكون كالمشير على ركن الدولة بأجابته إلى ما طلب، فأرسل عضد الدولة رسولا غيره، وسير بعده ابن العميد على الجمّازات «3» ، فلما حضر الرسول عند ركن الدولة، وذكر بعض الرسالة، ووثب إليه ليقتله، فهرب من بين يديه، ثم ردّه بعد أن سكن(26/206)
غضبه، وقال: قل لفلان- يعنى عضد الدولة- وسماه بغير اسمه، وشتمه: خرجت إلى نصرة ابن أخى، أو الطمع في ملكه؟ أما عرفت أنى نصرت الحسن بن «1» الفيرزان، وهو غريب منى، مرارا كثيرة أخاطر فيها بملكى ونفسى، فإذا ظفرت أعدت له بلاده، ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد، كلّ ذلك طلبا لحسن الذكر، ومحافظة على الفتوة، تريد أن تمنّ على بدرهمين أنفقتهما «2» على، وعلى أولاد أخى، ثم تطمع في ممالكهم، وتهددنى بقتلهم؟ فعاد الرسول، ووصل ابن العميد، فحجبه ركن الدولة، وتهدّده بالهلاك، وأنفذ إليه يقول: والله لا تركتك وذلك الفاعل- يعنى عضد الدولة-[تجتهدان] «3» جهدكما، ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمّازة، وعليها الرجال، ثم أثبتوا إن شئتم، فو الله لا أقاتلكما «4» إلا بأقرب الناس إليكما، وكان ركن الدولة يقول: أننى أرى أخى معزّ الدولة في المنام كل ليلة يعضّ على أنامله، ويقول: يا أخى هكذا، أضمنت لى أن تخلفنى في ولدى، ثم أن الناس سعوا لابن العميد، وتوسّطوا له عند ركن الدولة، وقالوا إنما [تحمّل] «5» ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقا إلى الخلاص من عضد الدولة، والوصول إليك لتأمر بما تراه، فأذن له في الحضور عنده، واجتمع به وضمن إعاده بختيار عضد(26/207)
الدولة إلى فارس، وتقرير بختيار، فردّه إلى عضد الدولة فعرّفه جليّة الحال، فأجاب عضد الدولة إلى العود إلى فارس، وأعاد بختيار، وخلع عليه، وشرط عليه أن يكون نائبا عنه بالعراق، ويخطب له، وجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش، وردّ عليهم جميع ما كان لهم، وسار إلى فارس في شوال من السنة، وأمر أبا الفتح بن العميد وزير أبيه أن يلحقه بعد ثلاثه أيام، فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار، وتشاغلا باللذات، واتفقا في الباطن أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له، فاتّصل ذلك بعضد الدولة، وكان سبب هلاك ابن العميد، واستقر بختيار ببغداد، ولم يف لعضد الدولة، ولما ثبت ملك بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له، وحضر عنده، وأكد الوحشة بينه وبين عضد الدولة، واستمال ابن بقية الأجناد إليه، وجبى كثيرا من الأموال إلى خزائنه، وقوى أمره. هذا ما كان من أمر بختيار.
وأما ما كان من أمر الفتكين فإنه سار إلى التتار، واستولى على دمشق، وأخذها من ريان خادم المعزّ لدين الله العلوى صاحب مصر، وخطب بها للطائع لله في شعبان، وأقطع البلاد، وكثر جمعه، وتوفّرت أمواله، وكاتب المعزّ بالانقياد إليه، فطلبه إلى الحضور عنده ليخلع عليه، فلم يجبه، فتجهّز المعزّ وقصده، فمات، وولى بعده العزيز، فطمع الفتكين، واستولى على بعض بلاد الساحل، فجهز إليه العزيز العساكر مع جوهر، فحصر دمشق، فاستنجد الفتكين بالحسن بن أحمد القرمطى، فأتاه، ففارق جوهر البلد بعد أن أقام عليها سبعة أشهر، فتبعه الفتكين والقرامطة، فأدركوه(26/208)
بظاهر الرملة، فاقتتلوا، ثم حصل اتفاقهم على تخلية «1» سبيل جوهر، فسار إلى مصر، فخرج العزيز بجموعه، وقاتل الفتكين وأسره، وأحسن إليه، ونقله معه إلى مصر، وأنزله عند قصره، وحكمه في دولته، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس، فوضع عليه من سقاه سما، فمات. والله أعلم.
ذكر مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة وشىء من أخباره
كان مقتله في ثامن عشر شوال سنه سبع وستين وثلاثمائة، وسبب ذلك أنه كان بينه، وبين ابن عمّه عضد الدولة بن ركن الدولة ما قدمناه، وقام عمه ركن الدولة في نصرته حتى أعاده، فلما مات ركن الدولة في سنة ست وستين سار عضد الدولة إلى العراق وكان بينه وبين بختيار واقعة، واصطلحا بعد ذلك، ثم سار عضد الدولة في هذه السنة، واستولى على بغداد كما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، وخرج بختيار من بغداد بما زوده به عضد الدولة، وقصد الشام، ومعه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان، فلما صارا بعكبرا حسّن له حمدان قصد الموصل، وأطمعه فيها، وقال: هى خير من الشام وأسهل، فسارا نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنه لا يقصد ولايه أبى تغلب بن حمدان لمودة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبى تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان، ويسلمه إليه، وإذا فعل ذلك سار معه(26/209)
بنفسه وعساكره إلى العراق، وقاتل عضد الدولة، وأعاده إلى ملك بغداد، فقبض بختيار عند ذلك على حمدان، وسلمه لرسل أخيه، وسار بختيار إلى الحديثة «1» ، واجتمع بأبى تغلب، وسارا جميعا نحو العراق، وكان مع أبى تغلب نحوا من عشرين ألف مقاتل، وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر [الجصّ] «2» بنواحى تكريت، فهزمهما عضد الدولة، وأسر بختيار، وجىء به إلى عضد الدولة، فلم يأذن له بالدخول عليه، وأمر بقتله، واستقر ملك عضد الدولة.
وكان عمر بختيار ستا وثلاثين سنة، ومدّة ملكه أحد عشر سنة وستة شهور.
أولاده: إعزاز الدولة المرزبان أبو عبد الله الحسين، أبو العباس سلار، أبو القاسم، أبو نصر شاهفرون، أبو محمد سهلان.
وزراؤه: أول من وزر له: أبو الفضل العباس بن الحسين إلى أن قبض عليه في سنة تسع وخمسين، فاستوزر أبا الفرج محمد ابن العباس، ثم قبض عليه في شهر رجب سنة ستين، واستوزر أبا طاهر محمد بن بقية، وأقام إلى أن قبض عليه بعد انهزامه من عضد الدولة في الكرّة الثانية، وسمله، ثم صلبه عضد الدولة بعد أن رماه تحت أرجل الفيلة.(26/210)
حجابه: إبراهيم بن إسماعيل قتل في الوقعة، وأما المرزبان ابن عز الدولة، وعماه: عمدة الدولة إبراهيم، وأبو طاهر محمد، فإنهم وصلوا إلى دمشق والتجئوا إلى غلامهم الفتكين، وشهدوا معه حرب القائد جوهر بعسقلان، ثم حضروا الواقعة الكا؟؟؟ ئنة بين الفتكين والعزيز، فقتل محمد، وأسر المرزبان عمه إبراهيم، والفتكين، ومنّ عليهم العزيز، واستخدمهم إلى أن توفى المرزبان بمصر في سنة ست وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم، وتوفى إبراهيم في أيامه أيضا لليلتين خلتا من من شهر ربيع الأول سنة أربعمائة بعد أن نعت بعزيز الدولة الحاكمية.
ذكر أخبار عضد الدولة
هو أبو شجاع فناخسرو عضد الدولة تاج الملة شاهنشاه بن ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه.
اجتمع له من الممالك ما تفرق لأبيه وعميه، وقد قدمنا أن عمه عماد الدولة بن بويه جعله ولى عهده، وذلك لأربع عشرة بقيت من جماد الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة «1» ، فأول ما ظهر من أفعاله بعد وفاة عمه ببلاد فارس أنه استولى على حصن ابن «2» عمارة المتوسط لمدينة هرو، وهى مدينة على ساحل البحر الهندى من أعمال فارس قد بنيت على مصّب الماء تجمع المراكب المنكسره، والبضائع الغارقة، فيستعين أهلها بذلك، وأهل هذا الحصن ينسبون إلى معد(26/211)
يكرب، ثم إلى الجلندى بن كركر يتوارثونه لم ينتزع منهم، ولم تفتح عنوة، ولا صلحا قبلها. ذكر بن جوقل في كتابه: أن صاحب هذا الحصن هو الملك المذكور وفي القرآن في قوله تعالى: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً»
«1» . ولم يباشر عضد الدولة الحصار بنفسه، وإنما بعث عليا بن الحسين السيفى في جيش إلى الحصن، فحاصره برهة من الدهر حتى استعزل صاحبه، وهو أبو طالب بن رضوان بن جعفر بالأمان، وتسلم الحصن بما فيه، وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعث إلى عمان عسكرا مع عسكر لعمه معز الدولة، ففتحها، ثم بعد ذلك «كرمان» فى شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأقطعها ولده أبا الفوارس، وأطاعه صاحب سجستان، ونقش السكة باسمه، وأقام له الخطبة. ثم ملك قلعة بردسير «2» وهى مثوى آل اليسع، ولما عاد من كرمان فتح جبال القفص، وهذه البلاد لها جبل وسهل. فأهل السهل يعرفون: بالمنوجان وهو اسم البلاد، وأهل الجبل يعرفون: بالقفص، والبلوص، وهم قبائل وشعوب، وبلادهم هذه في طرف كرمان مما يلى فارس، ثم جرت لجيشه معهم بعد ذلك وقائع كان الظفر فيها لأصحاب عضد الدولة، وفي أثناء حروب جيشه لهم حصل استيلاء «3» عضد الدولة على هرموز،(26/212)
وبلاد التيز، ومكران «1» فى سنة ستين وثلاثمائة، ثم سألوا الأمان على إقامة الصلوات، وايتاء الزكاة، والاجتهاد في الطاعة، واجتناب إخافة السبيل فأمسهم. قال المؤرخ: ثم سار عسكره، ومقدمة كوركير إلى أمة من ورائهم يقال لهم الخرّميّة «2» ، والحاسكية فهزمهم، وقتل منهم خلقا، وأسر مقدميهم، وجماعة من رؤسائهم، وأنفذهم إلى شيراز، وتوطأت هذه البلاد مدة، ثم كان بينهم، وبين العسكر العضدى وقعة لإحدى عشرة ليلة يقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ودامت إلى غروب الشمس، فانجلى ذلك اليوم عن قتل أكثر مقاتليهم «3» ، والإحاطة بحريمهم، وذراريهم، ولم يبق منهم إلا اليسير، ثم كان بين عضد الدولة، وبين عز الدولة بختيار ابن معز الدولة ما قدمناه في أخبار بختيار [فى سنة «4» أربع وستين وثلاثمائة، فلا مائدة في إعادته، فلما مات والده ركن الدولة في] سنة ست وستين وثلاثمائة قصد العراق في تلك السنة، فخرج عز الدولة لقتاله، والتقوا، واقتتلوا في ذى القعدة من السنة، فالتحق بعض أصحاب بختيار بعضد الدولة، فانهزم بختيار، واحتوى عضد الدولة على ماله، ومال وزيره ابن بقية، وسير عضد الدولة جيشا إلى البصرة، فملكها.(26/213)
ذكر القبض على أبى الفتح بن العميد
وفي سنة ست وستين وثلاثمائة قبض عضد الدولة على أبى الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل إحدى عينيه، وقطع أنفه، وكان سبب ذلك أنه لما فارق عضد الدولة بغداد كما ذكرناه في أيام بختيار، أمر ابن العميد أن يلحقه بعد ثلاث، فخالفة، ووافق عز الدولة، ووعده أن يلحق به إذا مات ركن الدولة، ثم صار يكاتبه بأشياء يكرهها عضد الدولة، وكان لابن العميد نائب يعرض كتبه على عز الدولة، وذلك النائب يكاتب عضد الدولة بما يكتبه ابن العميد بختيار ساعة بساعة، فلما ملك عضد الدولة بعد موت أبيه كتب إلى أخيه مؤيد الدولة بالرى يأمره بالقبض على ابن العميد، وعلى أهله، وأصحابه، ففعل ذلك، وكان أبو الفتح ليلة قبضه قد أمسى مسرورا، فأحضر ندماءه، والمغنين، وأظهر من آلات الذهب والفضة والزجاج، وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله، وشربوا وعمل شعرا، وغنى له به، وهو:
دعوت المنى ودعوت العلى ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب: ... إلىّ فهذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
وشرب ليلته على هذا الشعر إلى أن سكر، وقام، وقال لغلمانه:
اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غدا، وقال لندمائه بكروا غدا لنصطبح، ولا تتأخروا، فانصرف الندماء، ودخل هو إلى بيت(26/214)
منامه، فلما كان وقت السحر استدعاه مؤيد الدولة، فقبض عليه، وأرسل إلى داره، فأخذ جميع ما فيها، ومن جملته ذلك المجلس بما فيه.
ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق
كان استيلاؤه على بغداد في سنة سبع وستين، وذلك أنه سار إلى العراق، وأرسل إلى عزّ الدولة ابن عمه يدعوه إلى طاعته، وأن يتوجّه من العراق إلى أى جهة أحب، فأجاب إلى ذلك، وسار عن بغداد، وكان من خبره، ومقتله ما قدمناه، ولما قدم عضد الدولة إلى بغداد نزل بباب الشمّاسية في يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع الآخر من السنة، وتلقاه الخليفة الطائع لله في البحر قبل ذلك بيومين، ثم دخل إلى دار الخلافة في يوم الأحد لتسع خلون من جمادى الأولى «1» منها، وقبل الأرض بين يدى الخليفة الطائع لله، فخلع عليه، وتوّجه، وطوّقة، وسوّره، وقلّده ما وراء داره «2» ، وعقد له لواءين: أحدهما: على المشرق، والآخر: على المغرب، وأرخى إحدى ذؤابتيه منظومة بالجوهر، وزاد في لقبه تاج الملّة:، وكان وزن السوادين، والطوق: ألفين وخمسمائة مثقال. قال أبو اسحاق الصبانى، وكان في غرة التاج وجوانبه من الجوهر، وأحجار الياقوت الأحمر ما يتجاوز إحصاؤها التثمين، أو يحدها التقويم، وطرح بين يديه(26/215)
من نشار الذهب والورق شىء كثير على الأنطاع حتى صار كالبيدر، وقرىء عهده بين الخليفة، ولم يجر بذلك عادة، وأخذ الخليفة الذؤابة للرخاة، فعقدها بيده، وذلك بمسألة تقدمت من عضد الدولة، وقلّده الخليفة سيفا ثانيا وركب من مراكب الخليفة بركب الذهب، وبين يديه آخر مثله، والجيش بين يديه، وخلفه مشاة إلى أن خرج من باب الخاصة، فسار الجيش أمامه، واستقر ملكه ببغداد، خطب له بها، ولم يخطب لملك قبله ببغداد، وضرب على بابه ثلاث نوب، ولم تجر بذلك عادة. قال: ولما دخل إلى بغداد أرسل إلى بختيار يطلب منه وزيره محمد بن بقية، فسمله «1» بختيار، وأنفده إليه، فأمر عضد الدولة بالقائه بين قوائم الفيلة، فوطئته حتى مات، وصلب على رأس الجسر في شوال، فرثاه أبو الحسن الأنبارى بقوله:
علوّ في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات
وقد ذكرنا الأبيات في باب المراثى، وبقى ابن بقية مصلوبا إلى أيام صمصام الدولة، فأنزل عن جذعه، ودفن، ولما استقر ملك عضد الدولة ببغداد، أتاه الخبر أن عزّ الدولة بختيارا قد نقض العهد، واجتمع هو وابن حمدان، واتفقا على حربه، فخرج إليهما، فكان من أمرهما ما قدمناه في أخبار بختيار، وأخبار الدولة الحمدانية.(26/216)
ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بنى حمدان
قال: ولما انهزم أبو تغلب في الحرب التى قدمناها مع عز الدولة، سار إلى الموصل، فسار عضد الدولة نحوه، فملكها في ثانى عشر ذى القعدة سنة سبع وستين، وملك ما يتصل بها، فظن أبو تغلب أنه يفعل كما فعل غيره يقيم يسيرا ثم يضطرّ إلى المصالحة، ويعود، فكان عضد الدولة أحزم من ذلك، وذلك أنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، وأقام بالموصل، وبثّ سراياه في طلب أبى تغلب، فأرسل أبو تغلب يسأل أن يضمن البلاد منه، فلم يحبه إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحبّ إلى من العراق، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسير عضد الدولة سريّة استعمل عليها حاجبه طغان إلى «جزيرة ابن عمر» ، وسرية في طلب أبى تغلب، وعليها أبو طاهر محمد على طريق «سنجار «1» » ، فسار أبو تغلب مجدا إلى ميّافارقين «2» ، ثم منها إلى بدليس «3» ، واستولى عضد الدولة على ميّافارقين، وديار مضر «4» ، وغيرها من بلاد الجزيرة، وذلك في سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ثم عاد إلى بغداد في سلخ ذى القعدة من السنة، واستخلف على أعمال أبى أبى تغلب بن حمدان أبا الوفا طاهر محمد، وفي سنة تسع وستين(26/217)
فى شهر رجب جهز عضد الدولة جيشا إلى بنى شيبان، وكانوا قد أكثروا الغارات، والفساد في البلاد، وعجز الملوك عن طلبهم، وكانوا قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهر زور «1» مصاهرات، وكانت شهرزور ممتنعة على الملوك، فأمر عضد الدولة عسكره بمنازلتها لتنقطع أطماع بنى شيبان عن التحصن بها، فاستولى أصحابه عليها، وملكوها فهرب بنو شيبان، وسار العسكر في طلبهم، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل فيها من بنى شيبان خلق كثير، ونهبت أموالهم، ونساؤهم، وأسر منهم ثمانمائة أسير حملوا إلى بغداد.
ذكر عمارة عضد الدولة بغداد، وما فعله من وجوه البر
وفي سنة تسع وستين وثلاثمائة شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت لتوالى الفتن فيها، وعمّر مساجدها، وأسواقها، وأدرّ الأموال على الأئمة، والمؤذّنين، والفقهاء، والغرباء، والضعفاء، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدّد مادثر من الأنهار، وأعاد حفرها، وتسويتها وأطلق مكوس الحجّاج، وأصلح الطرق من العراق إلى مكة، وأطلق الصلات لأهل البيوتات، والشرف، والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد على، والحسين، وأجرى الجرايات على الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، والمفسرين، والنحاة، والشعراء والأطباء، والحسّاب، والمهندسين،(26/218)
وأذن لوزيره نصر بن هارون، وكان نصرانيا بعمارة البيع، والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم.
ذكر قصد عضد الدولة «1» أخاه فخر الدولة، وأخذ بلاده
قال: وفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجبل، فاحتوى عليها، وسبب ذلك أن عز الدولة بختيارا كان يكاتب فخر الدولة بعد موت ركن الدولة يدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة، فأجابه إلى ذلك، واتفقا عليه، وعلم عضد الدولة بذلك، فكتمه إلى الآن، فلما خلا وجهه من أعدائه كاتبه يعاتبه على ما كان منه، ويستميله، فأجاب جواب المناظر المناوىء، وكان رسول عضد الدولة إليه خواشاده؛ وهو من أكابر أصحابه، فاستمال أصحاب فخر الدولة، وضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، فلما عاد إلى عضد الدولة برز من بغداد، وقدم جيوشه يتلو بعضها بعضا، فخرج إليه أصحاب فخر الدولة، وانضموا إلى عسكره، وخرج فخر الدولة من همذان هاربا إلى جرجان، والتجأ إلى شمس المعالى قابوس بن وشمكير، فأمنه، وأوآه، وحمل إليه فوق ما في نفسه، وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره، وملك عضد الدولة ما كان بيد أخيه فخر الدولة:
همذان، والرى، وما بينهما من البلاد، وسلم ذلك لأخيه مؤيد الدولة وجعله نائبه في تلك النواحى، ثم عرج عضد الدولة على ولاية حسنويه «2» ،(26/219)
فقصد نهاوند «1» ، والدينور ففتحهما «2» وعدة قلاع، وأخذ ما فيها من ذخائر حسنوية، وكانت جليلة المقدار، وأصاب عضد الدولة في هذه السفرة صرع، كان قد حدث به وهو بالموصل، فكتمه، وصار كثير النسيان لا يذكر الشىء إلا بعد جهد كبير، وبقى الصرع يعاوده إلى أن قتله على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية
وفي هذه السنة سير عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكّارية بأعمال الموصل، فأوقع بهم، وحصر قلاعهم، وطال مقام الجند في حصرها، وكان من بالحصون من الأكراد ينتظرون نزول الثلج ليرحل العسكر عنهم، فقدر الله تعالى أن الثلج تأخر نزوله في تلك السنة، فطلبوا الأمان، فأجيبوا إليه، وسلّموا القلاع ونزلوا إلى الموصل مع العسكر، فلم يفارقوا أعمالهم غير يوم واحد حتى نزل الثلج، ثم أن مقدم الجيش غدر بالهكّارية، وقتلهم على جانبى الطريق من معلثايا «3» إلى الموصل نحو خمسة فراسخ. والله أعلم بالصواب.
ذكر وفاة عضد الدولة وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته ببغداد في ثامن شوال سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة، وذلك أنه اشتد به ما كان يعتاده من الصرع، وضعفت قوته عن دفعه،(26/220)
فخنقه، فمات، ودفن بمشهد على بن أبى طالب رضى الله عنه، وجلس ابنه صمصام الدّولة للعزاء، وأتاه الخليفة الطائع لله، فعزّاه به، وكان عمر الدولة سبعا وأربعين سنة، مدة سلطنته بالعراق خمس سنين وستة شهور، وأما مدة ملكه ببلاد فارس منذ وفاة عمّه عماد الدولة وإلى أن توفى هو: ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وواحد وعشرون يوما «1» . قال: ولما حضرته الوفاة لم ينطلق لسانه بغير قول الله تعالى: «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ»
«2» ، وكان عاقلا حسن السياسة، شديد الهيبة، بعيد الهمة ثاقب الرأى محبا للفضائل وأهلها، باذلا في مواضع العطاء، مانعا في أماكن الحزم، ناظرا في عواقب الأمور، وكان له شعر حسن فمنه قوله- وقد أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته لبختيار، ويطلب الأمان- فقال عضد الدولة:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقة ... يبغى الأمان وكان يبغى صارما
فلأركبنّ عزيمة عضدّية ... تاجية تدع الأنوف رواغما
وقال أبياتا، فمنها بيت لم يفلح بعده، وهى:
ليس شرب الكاس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات «3» فى تضاعيف الوتر(26/221)
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدّولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب «1» القدر.
ومن أخباره أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أن يتقدم بصرف جوامكهم إلى نقيبهم في شهر، وقد بقى منه ثلاثة أيام، قال أبو نصر: فأنسبت ذلك أربعة أيام، سألنى عضد الدولة عن ذلك، فاعتذرت بالنسيان، فأغلظ لى، فقلت: أمس استهل الشهر، والساعة يحمل المال، وما هذا مما يوجب شغل القلب، فقال:
المصيبة بما لا نعلم من الغلط أكبر منها في التفريط، أما تعلم أنا إذا أطلقنا لهم ما لهم قبل محّله كان الفضل لنا عليهم، وإذا أخّرنا عنهم ذلك حتى استهلّ الشهر الآخر حضروا عند عارضهم «2» ، وطالبوه، فيعدهم، ثم يحضرون في اليوم الثانى، فيعدهم، ثم يحضرون في اليوم الثالث، ويبسطون ألسنتهم، فتضيع المنّة، وتحصل الجرأة، وتكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح، وكان لا يعوّل في الأمور إلا على الكفاءة، ولا نجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة ما ليس «3» من جنس الشافع، ولا فيما يتعلق به.(26/222)
حكى أن مقدّم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أنباء العدول ليتقدّم عند القاضى بسماع البيّنة بتزكيته، وتعديله، فقال له: «ليس هذا من أشغالك، إنما الذى يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد، ونقل رتبة جندى، وما يتعلق بهم، وأما الشهادة وقبولها، فهى إلى القاضى وليس لنا، ولا لك الكلام فيه، ومتى عرف القضاة من إنسان ما تجوز معه قبول شهادته، فعلوا ذلك بغير شفاعة» ، وكان رحمه الله يخرج كل سنة أموالا كثيرة للصدقة، والبر في سائر البلاد، ويأمره بتسليم ذلك إلى القضاة، ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقه، وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم، ويحاسبهم به إذا عملوا، وكان محبا للعلوم وأهلها، مقرّبا لهم، محسنا إليهم وكان يجلس معهم، ويعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب منها: الإيضاح في النحو، ومنها الحجّة في القراآت، ومنها الملكى في الطلب، والتاجى في التاريخ إلى غير ذلك، وعمل المصالح العامة في سائر البلاد كالبمارستان «1» والقناطر، فمن جملة ما عمره: المدينة التى سماها «كرد فناخسرو» ، وهى على دون الفرسخ من شيراز، وساق إليها الماء من عين كانت على أربع فراسخ منها، وبدأ بالعمارة في يوم الأحد لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، قال الصابى: بلغت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم، ومن غريب عمائره: السكر «2» الذى(26/223)
أنشأه على النهر المعروف بالكر «1» اصطخر، وحرمه «2» على عشرة فراسخ من قصبة شيراز، وهو شاذروان «3» عظيم، ينحط الماء من رءوس الجبال ويجتمع عليه، وينحط إلى أغوار كانت قفار او مهامه، فلما تم له ذلك بنى في تلك الأراضى ثلاثمائة قرية، ونقل إليها الفلاحين، وسماها رستاق فناخسرو، وصار في مقدار خراج بلاد فارس. قال الصابى: وانتهت النفقة عليه ألفى ألف دينار، واجتمع لعضد الدولة من الممالك سجستان، وكرمان، وجرجان، وطبرستان، والرى وأصفهان، وهمذان، وسائر بلاد أذربيجان، وبلاد فارس، وعمان، والعراق «4» ، والموصل، وديار مصر، وديار بكر، والجزيرة، وكان مع ما فعله من الخير والبر أحدث في آخر أيامه رسوما جائرة في المساحة، والضرائب، وكان يتوصّل إلى أخذ المال بكل طريق، وكان يرفع «5» إليه من الأعمال في كل سنة بعد ما رتّبه من الصّلات، والإدرارات، وجهات البر إثنان وثلاثون ألف ألف دينار.
أولاده: شرف [الدولة] «6» أبو الفوارس شيرزيل، صمصام الدولة أبو كاليجار المرزيان، بها، الدولة أبو نصر خسرو فيروز، وقيل فيروزشاه، تاج الدولة أبو الحسين أحمد، وهو أديب آل بويه،(26/224)
أبو طاهر فيروزشاه، أبو دلف سهلان توفى في حياته.
وزراؤه: الأستاذ الجليل أبو القاسم المطهر بن «1» عبد الله إلى أن قتل نفسه في سنة تسع وستين، وهو يحاصر البطيحة، وبهاء الحسن بن عمران بن شاهين، فاستوزر الأستاذ أبا منصور نصر بن هارون النصرانى الشيرازى المشهور بعلو الطبقة في الحساب.
حجابه: أبو على اليتمى، أبو حرب طغان، أبو الفتح المظفر ابن محمود، أبو القاسم سعد بن محمد الشاسى وغيرهم. فلنذكر بقية من في طبقة عضد الدولة.
ذكر أخبار مؤيد الدولة أبى منصور بويه ابن ركن الدولة بن بويه
كان مؤيد الدولة شقيقا لعضد الدولة. وأمهما جارية تركية، وكان نائبا عن أبيه بأصفهان عند خروج عضد الدولة منها إلى بلاد فارس، فلما توفى والده مضى إلى الرى، وتسلمها، وتسلم سائر البلاد المقررة له بوصية أبيه، وهى قزوين، وزنجان، وقم، وقاجان، وأبهر، وما والاها مضافا إلى الرى، وأصفهان، وكان لا يبرم أمرا إلا برأى أخيه عضد الدولة، ولما وقع بين عضد الدولة وبين أخيه فخر الدولة ما ذكرناه، وأخذ بلاده من يده سلمها لمؤيد الدولة نيابة عنه، وندبه إلى المسير إلى طبرستان، وجرجان لانتزاعهما من يد قابوس بن وشمكير، فسار إليهما. وانتزعهما منه، ثم اتفقت(26/225)
وفاة عضد الدولة، وأقام مؤيد الدولة بعده في البلاد إلى أن توفى بجرجان في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، فكانت مدة ملكه بعد وفاة أبيه سبع سنين، وستة أشهر، وأياما.
ولده: أبو النصر.
وزرآؤه: ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميد إلى أن قبض عليه بأمر أخيه عضد الدولة كما ذكرناه، وقطع يده، وأنفه، ثم قتله بعد مصادرته، واستوزر بعده الصاحب الجليل أبا القاسم إسماعيل بن عباد، وكان يلبس القباء استخفافا بالوزارة، وانتسابا إلى الجندية، وإنما عرف ابن عباد بالصاحب «1» لصحبته لابن العميد.
ذكر أخبار فخر الدولة وفلك الأمة «2» أبى الحسن على بن ركن الدولة بن بويه
وفخر الدولة هذا هو أوسط أولاد ركن الدولة يلى عضد الدولة فى السن، وأمه ابنة الحسن بن الفيرزان أحد ملوك الديلم، فجمع المملكة من الطرفين، وكان والده ركن الدولة قد جعل له همذان، والدينور، [والأيغارين] «3» ، ونهاوند، وما والى ذلك من بلاد الجبل.
ولما وقع بينه وبين أخيه عضد الدولة ما ذكرناه من ميله مع ابن عمه عز الدولة بختيار على أخيه عضد الدولة، أرسل عضد الدولة جيشا مع أبى الفتح المظفر الحاجب، وتلاه بجيش آخر. ثم عززهما بجيش(26/226)
ثالث، ثم سار هو بنفسه، فالتحق به بعض أصحاب فخر الدولة، وكاتبه عبيد «1» الله بن محمد حمدويه، فعلم فخر الدولة أنه لا قبل له بما دهمه، ففارق بلاده، وسار في خواص غلمانه إلى «هوسم» «2» من بلاد الجبل، والتحق بعلى بن الحسين العلوى، ثم انتقل من «هوسم» إلى جرجان، والتجأ إلى قابوس بن وشمكير، وكان عنده مكرما إلى أن توفى عضد الدولة، ثم توفى مؤيد الدولة بجرجان، فضبطها الصاحب بن عباد بالعساكر. وجمع القواد واستشارهم، وقرر الأمر لفخر الدولة، ثم خاف افتراق الأجناد، فأجلس أبا العباس خسرو فيروز على سرير المملكة، وكاتب فخر الدولة سرا يستدعيه، فسار عن نيسابور إلى جرجان، فدخل الصاحب على خسرو فيروز، وقال له: هذ أخوك، وأكبر منك قد وصل، وميل الأجناد إليه أكثر من ميلهم لك، وحسّ له الخروج للقائه، فخرج إليه، وتلقّاه، وتسلّم فخر الدولة الملك، وبالغ في إكرام الصاحب، وعرف له حقّ جميله، وحسن تدبيره، ونعته بكافى الكفاة، مضافا إلى الصاحب الجليل، واحتوى فخر الدولة على ممالكه التى كانت بيده، وما كان بيد أخيه مؤيد الدولة، وممكلة قابوس بن وشمكير، ودخل أخوه خسرو فيروز في طاعته، ثم سأل فخر الدولة الخليفة الطائع لله أن يضيف إلى نعته نعتا آخر، فنعنه بفلك الأمّة، واستمر في المالك إلى أن توفى في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، فكانت مدة ملكه(26/227)
الأول منذ وفاة والده إلى أن انهزم من أخيه عضد الدولة ثلاث سنين وشهورا، ومملكته الثانية من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين إلى شعبان سنة سبع وثمانين أربعة عشر سنة تقريبا، وكان شاعرا بارعا، فمن شعره «1» ما ذكره الثعالبى:
أدر الكأس علينا ... أيها الساقى لنشرب «2»
من شمول مثل شمس ... فى فم الندمان تغرب
شربت منها فحالت «3» ... قمرا يلثم كوكب
ورد خديها «4» جنىّ ... لكن الناطور «5» عقرب
فإذا ما لذعت فال ... بريق درياق مجرّب
وكان له من الأولاد: مجد الدولة أبو طالب رستم. شمس الدولة أبو طاهر صاحب همذان. عين الدولة أبو شجاع بويه. أبو منصور صاحب أصفهان.
وزراؤه: أبو عمر سيد بن المرزبان إلى أن نكبه، واستوزر عبيد الله بن محمد بن حمدويه إلى أن استأمن إلى عضد الدولة، ثم استوزر الصاحب الجليل كافى الكفاة أبا القاسم بن عياد إلى أن(26/228)
توفى في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، ولم ير أحد سعد بعد وفاته كما كان في حياته غيره، وذلك أنه لما توفى غلّقت له مدينة الرى، واجتمع الناس على باب قصره، وحضر فخر الدولة، وسائر القواد مشاة مغيّرى الزىّ، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة، وقبّلوا كلهم الأرض، ومشى فخر الدولة فيها، وجلس العزاء أياما، واستوزر بعده أبا على حموله «1» .
هذه الطبقة الثانية من بنى بويه، فلنذكر الطبقة الثالثة:
ذكر أخبار مجد الدولة، وكنف الأمة أبى طالب رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه
لما توفى والده فخر الدولة اجتمع الأجناد على تولية ولده المذكور، ونعته القادر بالله بهذين النعتين، وكان عمره عند وفاة أبيه أربع سنين، فدبّرت والدته ابنة المرزبان المعروف بالسلار الأمر، ثم بلغ مبلغ الرجال، فلم يكن له من اللذات غير التمتع بالنساء، والنظر في الدفاتر، والاشتعال بالعلوم، ثم توفيت أمه، فورد محمود بن سبكتكين، فقبض عليه، ثم استولى بعد ذلك ابنه أبو كالنجار على الرى إلى أن أتته الغزّ في سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فاستولوا على الرىّ وتحصن هو بقلعة طبرك «2» ، ثم استنزل منها، وأما شمس الدولة أبو طاهر بن فخر الدولة، فإنه كان على أيام أخيه بهمذان،(26/229)
ثم استولى على الجبل، وتوفى في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وقام بعده ابنه سماء الدولة.
ولنرجع لأخبار عضد الدولة ونجعل التراجم لمن ملك العراق وخدم الخلفاء، ونورد في أخباره وقائع من سواه:
ذكر أخبار «1» صمصام الدولة
وهو أبو كالنجار المرزبان بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه.
لما توفى عضد الدولة اجتمع القوّاد والأمراء على ولده أبى كالنجار المرزبان، فبايعوه، وولوه الإمارة، وركب الخليفة الطائع لله، وعزاه، ولقبه، وقال له: «نضر الله وجه الماضى، وجعلك الخلف الباقى، وصيّر التعزية بعده لك لا بك، والخلف عليك لا منك» . قال: ولما رجع «2» خلع على أخويه أبى الحسين أحمد، وأبى طاهر فيروزشاه وأقطعهما فارس، وأمرهما بالجد في المسير ليسبقا أخاهما شرف الدولة «3» أبا الفوارس شيرذيل إلى شيراز، وكان عند وفاة أبيه بكرمان، فلما وصلا إلى أرّجان أناهما الخبر بوصول شرف الدولة إلى شيراز، فعاد إلى الأهواز، وملك شرف الدولة بلاد فارس، وقبض على نصر بن هارون النصرانى وزير أبيه، وقتله لأنه كان يسىء صحبته أيام أبيه، وخطب شرف الدولة لنفسه، وتلقب بتاج الدولة، وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة، وأظهر مشافقته، وفرّق الأموال، وجمع الرجال، وملك البصرة،(26/230)
وأقطعها أخاه أبا الحسين، فلما اتّصل ذلك بصمصام الدولة سيّر جيشا، واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن على بن ونقش حاجب عضد الدولة، فجهز تاج الدولة عسكرا، واستعمل عليهم أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدى، فالتقيا بظاهر «قرقوب» «1» ، واقتتلوا، فانهزم عسكر صمصام الدولة، وأسر ابن ونقش مقدم الجيش، فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز، ورامهرمز وطمع في الملك، وكانت هذه الواقعة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين، وفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ملك شرف الدولة الأهواز من أخيه أبى الحسين، وملك البصرة من أخيه أبى طاهر، وقبض عليه، فراسله أخوه صمصام الدولة، فاستقر الأمر على أن يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة، وفي خلال مسير الرسل وعودهم ملك شرف الدولة واسط، وغيرها، وكاتبه القواد، فرجع عن الصلح، وعزم على قصد بغداد. والله أعلم.
ذكر ملك شرف الدولة أبى الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة العراق، والقبض على صمصام الدولة
وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة سار شرف الدولة من الأهواز إلى واسط، وملكها، فاستشار صمصام الدولة أصحابه في قصد أخيه شرف الدولة، فنهوه عن ذلك، وحذروه منه، فلم يرجع إليهم، وسار في طيار إليه، فلما وصل إليه لقيه شرف الدولة، وأكرمه، وطيب قلبه، ثم(26/231)
قبض عليه بعد قيامه من عنده، وأرسل إلى بغداد من احتاط على دار المملكة، وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان، ونزل بالشقيقى، ومعه صمصام الدولة، ثم سيره إلى بلاد فارس، واعتقله بقلعة هناك، فكانت إمارة صمصام الدولة بالعراق ثلاث سنين وأحد عشر شهرا.
وكان صمصام الدولة كريم النفس ندىّ الكف إلا أنه كثرت في أيامه الخوارج، وعم الغلاء، فاستنفذ ذلك أمواله، ولم يتعدّ أمره العراق.
وزراؤه: أول من وزر له. أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان ثمانية عشر شهرا، فاعتقله، ثم اشترك في الوزارة بين أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبى الحسن بن برمويه، وكان قد أخصاه بعد أولاده إلياس بن كرمان، فأقاما شهرين، ويومين بعد أن انفرد عبد العزيز بالوزارة ثلاثة أشهر، واتفقت فتنة، فانهزم عبد العزيز إلى الأهواز، وقتل ابن برمويه، وفيها يقول بشير بن هارون:
وزارة قد أثخنت كل عين ... مقسومة الرتبة في ساقطين
هذا بلا ذقن ولا عارض ... وذا بلا رأى ولا خصيتين
ومن أعاجيب أحاديثنا ... ما ذكره قد شاع في الخافقين
أنا نرى الخصى بلا لحية ... والناقص المجبوب ذا لحيتين
ثم «1» استوزر بعدهما الأستاذ أبا الريان أحمد بن محمد سبعة أشهر، وتسعة أيام، وقبض عليه، وقتله، ثم استوزر أبا عبد الله بن الهيثم، وأبا الفتح محمد بن فارس شركة، فأقاما بقية أيامه(26/232)
إلى أن ملك شرف الدولة، فقبض على أبى الفتح، وصادره، وأعاد بن الهيثم إلى ديوان النفقات. والله أعلم بالصواب.
ذكر سمل صمصام الدولة
وفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة سمل صمصام الدولة، وكان سبب ذلك أن نحريرا الخادم، كان يشير على أخيه شرف الدولة بقتله، وهو يعرض عن ذلك، فاتفق أنّ شرف الدولة اعتّل، فقال له نحرير: إن الدّولة مع صمصام الدولة على خطر، وإذا لم تقتله، فاسمله، فأرسل في ذلك محمدا الشيرازى الفرّاش، فمات شرف الدولة قبل وصوله إلى صمصام الدولة، فلما وصل الفرّاش إلى القلعة لم يقدم على سمله فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك، فأشار بسمله، فسمله، فكان صمصام الدولة يقول: ما أعمانى إلا العلاء، فإنه أمضى في حكم سلطان قد مات، ثم كان لصمصام الدّولة دولة بعد دولة. سنذكرها إن شاء الله تعالى، ولم يمنعه العمى مما قدر له.
ذكر وفاة شرف الدولة وشىء من أخباره
كانت وفاته ببغداد في مستهل جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وقيل في ثانيه، وكانت علته الاستسقاء وحمل إلى مشهد على ابن أبى طالب رضى الله عنه، فدفن به، فكانت إمارته ست سنين، وسبعة أشهر ملك فيها بغداد سنتين، وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة، وخمسة أشهر، ونفذ أمره بين خراسان، والموصل،(26/233)
ودياربكر، والعراق، وخوزستان، وفارس، وكرمان، وسراة عمان من غير إراقة دم، ولا إنفاق مال، وكان يحب الخير، وينفر من الشر، وأزال عن الناس التأويلات، والمصادرات، وكان كريما سخيّا يحب الشعر ويثيب عليه، قال أبو اسحاق الصانى: وكانت جماله في سفره ثلاثة عشر ألف رأس، وكان له من المماليك الأتراك ألفان، ومائتا مملوك، وكان له من الخدم ستمائة، ولما اشتدّت علّته أرسل ولده أبا على إلى بلاد فارس، وأصحبه الخزائن، والعدد، وجماعة كثيرة من الأترك. قال: ولما أيس أصحاب شرف الدّولة منه اجتمع عليه أعيانهم، وسألوه أن يسند الملك إلى من يراه، فقال: أنا فى شغل عما تدعوننى إليه، ثم مات.
ولده: الأمير أبو على.
وزرآؤه: أبو القاسم العلاء بن الحسن، ثم اعتقله مدة وأطلقه واستنابه «1» ببلاد فارس. واستوزر أبا محمد علىّ بن العباس، واستوزر بعده أبا منصور محمد بن الحسن بن صالحان إلى أن توفى رحمه الله.
ذكر ملك بهاء الدولة وضياء الملة «2»
هو أبو نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه ملك بعد وفاة أخيه شرف الدّولة في ثانى جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وكان سبب ملكه أنه لما مرض شرف الدّولة أشير(26/234)
عليه أن يستنيبه إلى أن يشفى من مرضه، فاستنابه، فقبل النيابة بعد امتناع منه، فلما مات شرف الدولة جلس بهاء الدولة للعزاء، وركب الطائع إليه، وعزاه، وخلع عليه خلع السلطنة، وأقر أبا منصور الحسن بن صالحان على وزارته.
ذكر قيام صمصام الدولة ببلاد فارس
قد ذكرنا ما كان من أمره، والقبض عليه، وسمله، فلما مات شرف الدولة إضطرب أمر الديلم، ووقع بينهم وبين الأتراك، فأنزلوا صمصام الدولة من قلعة شيراز، وحمله غلامه سعادة على كتفه، وبايعه الديلم، وانقادوا لأمره، فعند ذلك بايع الأتراك أبا على بن شرف الدولة، ولقبوه شمس الدولة، وقمر الملة «1» .
ذكر مسير أبى على بن شرف الدولة الى بلاد فارس، وما كان بينه وبين عمه صمصام الدولة، وعودة الى بهاء الدولة، وقتله
قد ذكرنا أن شرف الدولة لما اشتدت علته جهز ابنه أبا على إلى فارس، ومعه والدته، وجواريه، وسيّر معه الأموال، والجواهر، والسلاح، فلما بلغ البصرة أناة الخبر بوفاة أبيه، فسيّر ما معه في البحر إلى أرّجان، وسار مجدّا حتى وصل إليها، واجتمع معه من بها من الأتراك، وسار مجدّا نحو شيراز، وكاتبهم متولّيها، وهو(26/235)
أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم، وكان صمصمام الدولة، ومن معه قد ساروا إلى سيراف «1» ، ووقعت الفتنة بها بين الأتراك، والديلم، فخرج الأمير أبو على إلى معسكر الأتراك ونزل معهم، فاجتمع الديلم، وقصدوا داره ليأخذوه، ويسلموه إلى صمصام الدولة، فرأوه قد انتقل إلى الأتراك، فكشفوا القناع، وجرى بينهم قتال، ثم سار أبو على والأتراك إلى فسا «2» ، فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من الأموال، وقتلوا من بها من الديلم، وسار أبو على إلى أرّجان، وعاد الأتراك إلى شيراز، فقاتلوا من بها من الديلم الذين مع صمصمام الدولة، ونهبوا البلد، وعادوا إلى أبى على بأرّجان وأقاموا معه «3» مديده، ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبى على، وطيب قلبه، وأرسل إلى الأتراك الذين معه سرا واستمالهم إلى نفسه وأطمعهم، فحسنوا لأبى على المسير إلى بهاء الدولة، فسار إليه، فلقيه بواسط في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة، فأكرمه، ثم قبض عليه بعد ذلك وقتله، وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.(26/236)
ذكر مسير بهاء الدولة الى الأهواز، والصلح بينه وبين صمصام الدولة
قال: وسار بهاء الدّولة إلى خوزستان، فأتاه نعى أخيه أبى طاهر، وكان مع صمصام الدولة، فجلس للعزاء، ورحل إلى أرّجان، واستولى عليها، وأخذ ما فيها من الأموال التى جمعها صمصام الدولة بقلعتها، وكانت ألف ألف دينار قاشانية، وثمانية آلاف ألف درهم عدليه، ومن الجواهر، والثياب ما لا يحصى قيمته، ففرّق ذلك على الجند، ولم يبق منه إلا القليل، ثم سارت مقدمته، وعليها العلاء بن الفضل إلى النوبندجان «1» ، وبها عسكر صمصام الدولة، فهزمهم وبث أصحابه فى نواحى فارس، فسيّر صمصام الدولة عسكرا، وعليهم فولاذ ابن ما «2» بدار، فواقعهم، فانهزم أصحاب بهاء الدولة، وعادوا إليه، ثم ترددت الرسائل بين صمصام الدولة، وبهاء الدولة في الصلح، فاستقر على أن يكون لصمصام الدولة فارس، وأرّجان، ولأخيه بهاء الدولة خوزستان، والعراق، وأن يكون لكل واحد منهما إقطاع في ملك الآخر، وحلفا على ذلك، وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز، ثم إلى بغداد، وفي سنة ثمانين وثلاثمائة أيضا قبض بهاء الدولة على وزيره أبى منصور بن صالحان، واستوزر أبا نصر سابور بن أردشر،(26/237)
وكان المدبّر لدولة بهاء الدولة أبا الحسن «1» بن المعلم، وأبيه الحكم، وفي سنة إحدى وثمانين قبض بهاء الدولة على الخليفة الطائع لله، وبايع القادر بالله كما ذكرناه في أخبار الدولة العبّاسية، وفيها قبض على وزيره أبى نصر سابور، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف وقبض على أبى نصر خواشاذه، وأبى عبد الله بن طاهر، وفي سنة اثنتين وثمانين قبض بهاء الدّولة على أبى الحسن بن المعلم، وكان قد استولى على الأمور كلها، وخدمه الناس كلّهم حتى الوزراء، فأساء السيرة، فشغب الجند، وشكوا منه، وطلبوا تسليمه إليهم، فراجعهم بهاء الدولة، ووعدهم أنه يكف يده، فلم يقبلوا ذلك، فقبض عليه، وعلى جميع أصحابه، فلم يرجع الجند، فسلّمه إليهم، فسقوه السمّ مرتين، فلم يؤذه، فخنقوه، ودفنوه، وقبض على وزيره أبى القاسم لأنه اتهم بمباطنة الجند في أمر ابن المعلم، واستوزر أبا نصر سابور، وأبا منصور بن صالح جميعا، وفي سنة ثلاث وثمانين شعب الجند على بهاء الدولة، ونهبوا دار الوزير سابور، واختفى منهم، واستعفى ابن صالحان من الأنفراد بالوزارة، فأعفى، واستوزر أبا القاسم على بن أحمد، ثم هرب إلى البطيحة، وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم.(26/238)
ذكر ظهور أولاد بختيار، واعتقالهم، وقتل بعضهم
وفي سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ظهر أولاد عز الدولة بختيار بن معز الدولة من محبسهم، واستولوا على القلعة التى كانوا معتقلين بها، وكان سبب اعتقالهم أن شرف الدولة كان أحسن إليهم بعد وفاة والده عضد الدولة، وأطلقهم، وأنزلهم بشيراذ، وأقطعهم، فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس، فاستمالوا مستحفظها، ومن معه من الديلم، فأفرجوا عنهم، فأنفدوا إلى أهل تلك النواحى، فاجتمعوا تحت القلعة، فبلغ ذلك صمصام الدولة، فسيّر إلى القلعة جيشا، فتفرق ذلك الجمع، وحصر جيشه القلعة، وراسل «1» مقدم الجيش وجوه الدّيلم سرّا، واستمالهم، ففتحوا القلعة، فملكها أصحاب صمصام الدولة، وأخذوا أولاد بختيار، وكانوا ستة، فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين، وحبس أربعة.
ذكر مقتل صمصام الدولة
كان مقتله في ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الدّيلم استوحشوا منه لأنه أمر بعرضهم، وإسقاط من ليس بصحيح النسب، فأسقط منهم ألف رجل، واتفق [أن] «2» أبا القاسم، وأبا نصر ابنى عز الدولة بختيار بن معز الدولة خدعا الموكّلين(26/239)
بالقلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفا من الأكراد، واتّصل بهما الذين أسقطوا من الخدمة من رجال الديلم، وقصدوا أرّجّان، فاجتمعت عليها العساكر، فتجهز صمصام الدولة ولم يكن عنده من يدبره، فأسار عليه أصحابه بالصّعود إلى القلعة التى على باب شيراز، والامتناع بها، فرّاد الصّعود إليها، فمنعه مستحفظها، فأشار بعض أصحابه عليه بقصد الأكراد، والتقوا بهم، فخرج بخزائنه، وأمواله، فنهبه أصحابه، وأرادوا قتله، فهرب وسار إلى «الدودمان» على مرحلتين من شيراز، فقبض عليه رئيسها طاهر، وبلغ أبو نصر الخبر، فبادر إلى شيراز، ودخلها وأخذ صمصام الدولة ابن طاهر، فقتله، وقال: هذه سنة سنها أبوك يعنى ما كان من قتل عضد الدوله بختيار، وكان عمر صمصام الدولة يوم قتل خمسا وثلاثين سنة.
وسبعة أشهر، ومدة إمارته بفارس تسع سنين، وثمانية أشهر.
وكان كريما حليما، وسلمت والدته لبعض قواد الديلم، فقتلها، وبنى عليها دكّة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها، ودفنها فى تربة بنى بوية.
وزراؤه في مملكته الثانية: العلاء بن الحسن، ثم قبض عليه، واستوزر أبا القاسم المعمر بن الحسين الزنجى نحوا من سنة، ثم قبض عليه، واعتقله، وأعاد العلاء، ثم بعثه إلى الأهواز، فمات، فاستوزر أبا الطيّب الفرحان بن شيراز، وأنفذه إلى الأهواز، فأقام إلى أن قتل صمصام الدولة.(26/240)
ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوذستان وكرمان
قال: ولما قتل صمصام الدولة؛ استولى ابنا بختيار على بلاد فارس وكاتبا [أبا على بن أستاذ «1» هرمز] وهو بالأهواز يأمرانه بأخذ البيعة لهما، واليمين، فخافهما أبو على، ثم راسله بهاء الدّولة يستميله، ويعد الدّيلم الخير والإحسان، فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة، واستوثقوا منه، وكتبوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال رجاء أن يخرجوا إلى طاعته، فخرجوا بالسلاح، وقاتلوه قتالا شديدا، فضاق بذلك درعا، فقيل له: إن عادة الدّيلم أن يشتد قتالهم عند الصلح لئلا يظن بهم العجز، ثم كفوا عن القتال، وأرسلوا من يحلفه «2» لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو على ابن اسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز، فاستولوا عليها، وعلى أرّجان، وغيرها من بلاد خوزستان، وسار أبو على إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فحاربه ابنا بختيار، فلما اشتدت الحرب مال بعض أصحابهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة فهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الدّيلم، وأما أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه الكردىّ، ثم قصد البطيحه، ولما ملك أبو على بشيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح(26/241)
فسار إليها، وأمر بنهب قرية الدودمان، وإحراقها، وقتل من كان بها من أهلها، وأخرج أخاه صمصام الدولة، وجدّد أكفانه ودفنه، ثم سيّر عسكرا مع أبى الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان، ففتحها، وأقام نائبا عن بهاء الدولة، وذلك في سنة تسع وثمانين.
ذكر وفاة عميد الجيوش، وولاية فخر الملك العراق
وفي سنة إحدى وأربعمائة توفى عميد الجيوش أبو على أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته بها ثمانى سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما، وكان من حجاب عضد الدولة وجعله في خدمة ابن صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة، فجعله نائبه ببغداد، ولما مات استعمل بهاء الدولة مكانه فخر الملك أبا غالب، فوصل إلى بغداد في ذى الحجة من ذى السنة.
ذكر وفاة بهاء الدولة
كانت وفاته بأرّجان في عاشر جمادى «1» الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وحمل إلى مشهد على بن طالب رضى الله عنه، ودفن عند قبر أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصف شهر، ومدة ملكه أربعا وعشرين سنة، وأياما.
أولاده: سلطان الدولة أبو شجاع فنّاخسروا. مشرق الدولة(26/242)
أبو على «1» . جلال الدولة أبو طاهر. قوام الدولة أبو الفوارس.
وزراؤه: أبو منصور بن صالحان أحد وزراء أخيه شرف الدولة، وزر له عشرة أشهر وأياما، ثم أبو نصر سابور بن أردشير أحد عشر شهر، ثم قبض عليه في سنة ثمانين، واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبا القاسم على بن أحمد الأبرهونى، ثم قبضه، وأعاد سابور، ثم أشرك بينه وبين ابن صالحان، ثم استوزر أبا العباس عيسى ستة عشر يوما. واستوزر الموفق عبد الملك أبا على الحسن بن محمد بن إسماعيل سنتين وشهرين، وقلد بعده عميد الجيوش الصاحب، واستوزر بعده فخر الملك «2» وزير الوزراء الكامل ذا الجلالين»
أبا الغالب محمد بن خلف، وهو أعظم من وزر للديلم على الإطلاق، بعد أبى الفضل بن العميد، وابن عباد.
ذكر ملك سلطان الدولة
هو أبو شجاع فاخسرو بن بهاء الدولة «4» بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه. كانت ولايته بعد وفاة أبيه، فى عاشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعمائة، ولما ولى سار من أرّجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كرمان، وكان القادر بالله قد ولاه العهد(26/243)
بسؤال أبيه، فلما مات والده قام مقامه، ودخل بغداد، وأعطى كلّ غلام من أشرافها سبعين دينارا ودست ثياب، فأكثروا عليه بالمطالبات، فضجر، وفارق بغداد، وتوجّه إلى الأهواز.
ذكر قتل فخر الملك، ووزارة ابن سهلان
وفي سنة ست وأربعمائة قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك «1» أبى غالب، وقتله في سلخ شهر ربيع الأول، فكانت نيابته بالعراق خمس سنين وأربعة أشهر واثنى عشر يوما، وكان حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عينا، سوى ما نهب، وقيمة العروض، وكان القبض عليه بالأهواز.
حكى ابن علمكان «2» ، وكان من أكابر القواد قال: قتل إنسان ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك تتظلم وتتشكّى، وهو لا يلتفت إليها، فلقيته يوما فقالت له: تلك الرقاع التى كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى، فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكان، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض على فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن ابن سهلان، ولقب عميد أصحاب الجيوش، وفي ثمان وأربعمائة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط،(26/244)
فخرج عليهم عامّتها وأتراكها فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط، وعامّتها جماعة كثيرة، وعظم أمر العيّارين ببغداد فأفسدوا، ونهبوا.
ذكر ولاية ابن سهلان العراق
وفي سنة تسع وأربعمائة استعمل سلطان الدولة أبا محمد الحسن ابن سهلان على العراق في المحرم، فسار، وأوقع في طريقه بالعرب، ولما وصل واسط وجد الفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها، وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها في أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيّارون [ونفى] «1» جماعة من العبّاسيين وغيرهم، ونفى أبا عبد الله محمد بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم تكن له عادة بالنزول هناك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله، فمن ذلك أن رجلا من المستورين أغلق بابه عليه خوفا منهم، وانقطع بداره، فلما كان في أول يوم من شهور رمضان خرج لبعض شأنه وقد أطمأن لتعظيم الشهر، وكفّ الناس فيه عن الفساد، فرآهم على حال عظيم من الفساد وشرب الخمور، فأراد الرجوع إلى داره، فمنعوه وأكرهوه على الدخول معهم إلى دار من دورهم، وألزموه بشرب الخمر، فامتنع، فصبوها في فيه قهرا، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال لها:(26/245)
هذا أول يوم من شهر رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنى فعلت، فقالت: لا، ولا كرامة، ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزنا في هذا الشهر، وأنا أريد أن أصون أمانتى ولسانى عن الكذب فيه، فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد، ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد قلوب الأتراك والعامة، فانحدروا إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوه إليه فسكنهم، ووعدهم أن يتوجه إلى بغداد ويصلح الحال، وكتب إلى ابن سهلان يستقدمه، فخافه، فهرب إلى بنى حقاجة، ثم إلى الموصل، ثم إلى الأنبار ثم سار إلى البطيحة.
ذكر ملك مشرف «1» الدولة أبى على بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه العراق
كان استيلاء مشرف «2» الدولة على العراق في سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان سبب ذلك أن الجند شغبوا على سلطان الدولة، ومنعوه من الحركة، وأرادوا ترتيب مشرف «3» الدولة أخيه في الملك، فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه، فلم يمكنه من «4» ذلك، وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال له الجند: إما أن تجعل عندنا ولدك، أو أخاك مشرف الدولة. فراسل(26/246)
أخاه مشرف الدولة بذلك، فامتنع، ثم أجابه بعد معاودة، ثم اتفقا، واجتمعا ببغداد، واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سلطان الدولة بغداد، وقصد الأهواز، واستخلف أخاه مشرف الدولة بها، فلما انحدر سلطان الدولة ووصل تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة، فانفذ سلطان الدولة ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فجمع مشرف «1» الدولة عسكرا كثيرا، منهم أتراك واسط، وأبو الأعز دبيس بن على بن مزيد، ولقى ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان، وتحصّن بواسط، فحصره مشرف «2» الدولة وضيّق عليه، حتى بيع كرّ «3» الحنطة بألف دينار قاشانية، وأكل الناس حتى الكلاب، فاستخلف ابن سهلان مشرف الدولة، وسلم إليه البلد، وخرج إليه، فخوطب حينئذ مشرف الدولة. وذلك في ذى الحجة سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وحضر إليه الديلم الذين كانوا بواسط، وصاروا معه، فحلف لهم وأقطعهم، فلما اتصل الخبر بسلطان الدولة سار عن الأهواز إلى أرجان، وقطعت خطبته من العراق، وخطب لمشرف الدولة ببغداد، فى أول المحرم سنة ثنتى عشرة وأربعمائة، وقبض على الوزير ابن سهلان، وكحله؛ فلما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس، فقلت عليهم الميرة؛ فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الذين بالأهواز، وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة، ونادوا بشعار مشرف الدولة.(26/247)
قال: ولما خطب لمشرف الدولة طلبوا منه «1» أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال له: إن فعلت خاطرت بنفسى، ولكن أبذلها في خدمتك، ثم انحدر بالعسكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبى غالب، فقتلوه، فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد بن دبيس، ولما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن، وقويت نفسه، وأنفذ ابنه إلى الأهواز، فملكها.
ذكر الصلح بين سلطان الدولة وأخيه مشرف «2» الدولة
وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة حصل الإنفاق والصلح بينهما، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة، وفارس وكرمان لسلطان الدولة، وحلف كل منهما لصاحبه.
ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير ابن المغربى «3»
وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربى وبين الأتراك؛ فاستأذن الأثير(26/248)
والوزير مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأسنان فيه على أنفسهما، فقال: وأنا والله أسير معكما؛ فساروا جميعا، ومعهم جماعة من مقدّمى الديلم إلى السندية «1» ، وبها قرواش «2» ، ثم ساروا إلى أوانا، فعظم ذلك على الأتراك، فراسلوه، واعتذروا، فكتب إليهم الوزير يقول: إننى تأملت ما لكم من الجامكيات. فإذا هى ستمائة ألف دينار، وعلمت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف تحملت الباقى، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم الوزير، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك، وسألوا مشرف الدولة، والأثير في الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك.
ذكر وفاة سلطان الدولة
كانت وفاته بشيراز في شوال سنة خمسة عشرة وأربعمائة، وكان عمره اثنين وثلاثة سنة وخمسة أشهر، وخمسة أيام، ومملكة بالحضرة، وإمارته ببلاد فارس، وخوزستان، وكرمان ثنتى عشرة سنة، وأربعة أشهر وثلاثة أيام.
وزراؤه: فخر الملك أبو غالب بن خلف إلى أن قتله بالأهواز، واستوزر أبا محمد الحسن بن الفضل بن سهلان، واستوزر ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور، ثم استوزر أبا الفتح(26/249)
عبد الحكيم بن إبراهيم بن الخصيب [وقبض «1» عليه] واستوزر أبا محمد الحسن بن محمد بن بابشاد من أهل رامهرمز. ولما مات، ولى بعده ابنه أبو كاليجار المرزبان، على ما نذكره، بعد عمه.
ذكر وفاة مشرف الدولة
كانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وملكه خمس سنين، وخمسة وعشرون يوما، وكان ملكا عادلا، كثير الخير، قليل الشر، حسن السيرة.
وزراؤه: ذو السعادتين أبو غالب الحسن بن منصور، ثم عزله، واستوزر مؤيد الملك زعيم الكفاة مجد المعالى أبا على الحسن في سنة خمس عشرة وأربعمائة، ثم استوزر أبا قاسم بن المغربى.
ذكر سلطنة جلال الدولة
هو أبو طاهر فيروز خسرو بن بهاء الدولة خسرو فيروز بن عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه. ملك بعد وفاة أخيه «2» مشرف الدولة، فى شهر ربيع الأول سنة سته عشر وأربعمائة، [وكان عند «3» وفاته بالبصرة] ،(26/250)
وكان أبوه قد رتبه بها في حياته، فلما مات مشرف الدولة خطب له ببغداد، وطلب فلم يصعد إليها، وإنما بلغ واسط، وأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، فقطعت خطبته، وخطب لابن «1» أخيه أبى كاليجار ابن سلطان الدولة في شوال، وهو حينئذ صاحب خوزستان، فلما اتّصل ذلك بجلال الدولة أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليرده عنها، وقاتلوه ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى الملك أبى كالنجار ليحضر إلى بغداد، فوعدهم بذلك، ولم يمكنه. لأن الحرب كانت بينه وبين عمه أبى الفوارس صاحب كرمان، وانقطعت خطبة جلال الدولة إلى سنة ثمان عشرة وأربعمائة، ثم عاد إلى السلطنة، وكان سبب ذلك أن الأتراك كانوا قد طمعوا في الناس ببغداد، وصادروهم، وأخذوا أموالهم، وعظم الخطب، وزاد الشر، وأحرقت المنازل، والدروب، والأسواق، وطمع العيّارون، والعامة، فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره، ووقعت الحرب بين العامّة والجند، فظفر الجند بهم، ونهبوا الكرخ وغيره، وذلك في سنة سبع عشرة، فلما رأى القوادّ وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون لهم من الأعراب والأكراد، وقصدوا دار الخلافة، وراسلوا الخليفة القادر بالله، واعتذروا من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أوّلا، وردّهم له ثانيا، وبالخطبة لأبى كالنجار، وقالوا:
إن أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد، وقد أخطأنا، ونسأل(26/251)
العفو، ولا يدّلنا ممّن- يجمع كلمتنا، وسألوا أن يرسل الخليفه إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد، ويملكه ويجمع الكلمة، وأن يحلفه رسول الخليفة، فأجابهم الخليفه إلى ما سألوا، وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد، واليمين للخليفة، ولهم، فحلف لهم، وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه، فلقوه في الطريق، ووصل بغداد فى ثالث شهر رمضان سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، ونزل بالنجمى، فركب الخليفة في الطيّار، وانحدر لتلقيه، فلما رآه جلال الدولة، قبل الأرض بين يديه، ثم دخل جلال الدولة إلى دار المملكة، وأمر بضرب النّوب الخمس على بابه في أوقات الصلوات، فراسله الخليفة في قطعها، فقطعها غضبا، ثم أذن له الخليفة في إعادتها ففعل:
ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة
وفي سنة تسع عشرة وأربعمائة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة، وطالبوا الوزير أبا على بن ماكولا بمالهم من المعلوم، ونهبوا داره ودور كتاب جلال الدولة، وحواشيه، حتى المغنّين، والمخنثين، ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة، ليضربها دنانير ودراهم، ويغرقها فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره، ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثمرة البستان، فسألهم أن يمكنوه من الانحدار، فتأخروا له ولأهله، فجعل بين الدار وبين السفن سرادقا «1»(26/252)
لتجتاز حرمه فيه، لئلا يراهم العامة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظن جلال الدولة أنهم يريدون الحريم، فصاح بهم، وقال:
بلغ من أمركم إلى الحريم؟ وتقدم إليهم وبيده طبر، «1» فصاح صغار الغلمان، والعامة: جلال الدولة يا منصور؛ ونزل أحدهم عن فرسه، وأركبه إياه، وقبلوا الأرض بين يديه، فرجعوا إلى منازلهم، ولم تمض عشرة أيام حتى عادوا، وشعبوا؛ فباع جلال الدولة فرشه، وثيابه، وخيامه، وفرق أثمان ذلك فبهم، فسكنوا، وضعف حال جلال الدولة، وقلت الأموال عنده، وطمع القواد فيه، حتى انتهى حاله في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في شهر رجب أن أخرج دوابه من الاصطبل، وهى خمس عشرة دابة وسيّبها في الميدان، بغير سايس، ولا حافظ، ولا علف، فقيل: إنه فعل ذلك لأمرين: أحدهما: عدم العلف عنده، والثانى: أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه يطلبونها منه، فضجر من ذلك، فأخرجها، وقال: هذه دوابى، خمسة لمركوبى، والباقى لأصحابى، وفرق حواشيه، وفراشيه، وأتباعه، وأغلق باب داره لانقطاع جاريه فثارت فتنة لذلك بين العامة والجند، وعظم الأمر، وظهر العيّارون ببغداد.(26/253)
ذكر وثوب الجندبه واخراجه من بغداد وعوده اليها
وفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة في شهر ربيع الأول، تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك، فأغلق بابه، فجاء الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكتّاب، وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبو الوزير أبا إسحاق السهيلى، فهرب، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا، فى شهر ربيع الآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبى كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن ماقيه «1» من الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم، فلما رأوا إمتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة جلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد، فعاد بعد ثلاثة وأربعين يوما.
واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، ثم عزله، واستوزر بعده عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم، فوزر أياما ثم استتر. وسبب ذلك أن جلال الدوله تقدم إليه بالقبض على أبى المعمّر إبراهيم بن الحسين البسامى طمعا في ماله عليه، وجعله في داره فقبض فثار الأتراك، وقصدوا دار الوزير، وضربوه، وأخرجوه من داره حافيا، ومزقوا ثيابه وعمامته، وأخذوا خواتيمه فدميت إصبعه، وكان جلال الدوله في الحمام، فخرج فزعا لينتظر ما الخبر، فوجد الوزير فقبل الأرض، وذكر ما فعل به، فقال له جلال الدولة أنا ابن بهاء الدولة، وقد فعل في أكثر من(26/254)
هذا، ثم أخذ من البسامى ألف دينار، وأطلقه، واختفى الوزير.
وفي سنة أربع وعشرين وأربعمائة في شهر رمضان شغب الجند على جلال الدولة، وقبضوا عليه، وأخرجوه من داره، ثم سألوه ليعود إليها فعاد، وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير أن يعلموا، فاستوحشوا من ذلك، واجتمعوا وهجموا عليه في داره، وأخرجوه إلى مسجد هناك، فوكلوا به فيه، وأسمعوه ما يكره، ونهبوا بعض ما في داره، فجاء بعض القواد في جماعة من الجند، وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة حرمه» وما فضل في داره بعد النهب، إلا الجانب الغربى، ونزل بدار المرتضى، وعبر الوزير معه، ثم راسله الجند، وقالوا نريد أن تنحدر عنا إلى واسط، وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سرا إلى الغلمان الأصاغر، واستمالهم، وإلى كل واحد من الأكابر واستماله، وقال: إنما وثوقى بك وسكوتى إليك، فمالوا إليه ودخلوا عليه، وقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه العود إلى داره، فعاد وحلف لهم على الإخلاص، والإحسان إليهم، وحلفوا له على المناصحة.
وفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة عاد الجند إلى الشغب وثاروا به وأرادوا إخراجه من بغداد، فاستمهلهم ثلاثة أبام، فلم يملهوه، ورموه بالآجر، فأصابه بعضه، فاجتمع الغلمان، وردّهم عنه، فخرج من باب لطيف، وركب في سماريّة متنكّرا، وصعد راجلا منها إلى دار المرتضى بالكرخ، ثم سار إلى رافع بن الحسين بتكريت، وكسّر الأتراك باب داره، ودخلوها، ونهبوها، وخلعوا كثيرا من صاجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليهم، وسكنهم، وأعاده إلى بغداد. والله أعلم.(26/255)
ذكر الفتنة بين جلال الدولة، وبارسطغان، وقتل بارسطغان
وفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة كانت الفتنة بينهما، وكان بارسطغان من أكابر الأمراء، ويلقب حاجب الحجاب، وكان سبب الفتنة: أن جلال الدّولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال؛ فخاف على نفسه، فالتجأ إلى دار الخلافة، وذلك في شهر رجب سنة سبع وعشرين، فمنع الخليفة منه، وأرسل بارسطغان إلى الملك أبى كاليجار يحثه على طلب ملك العراق، فأرسل أبو كاليجار جيشا فوصلوا إلى واسط وأخرجوا منها الملك العزيز بن جلال الدولة، فأصعد إلى أبيه، فعند ذلك كشف بارسطغان القناع، وانضمّ إليه أصاغر المماليك، ونادوا بشعار أبى كاليجار، وأخرجوا جلال الدّولة من بغداد، فسار إلى أوانا «1» ومعه البساسيرى، وأرسل بارسطغان إلى الخليفة في الخطبة لأبى كاليجار، فامتنع واحتج بعهود جلال الدولة، فأكره الخطباء على الخطبة لأبى كاليجار، ففعلوا، وسار الأجناد الواسطيّون إلى باب بارسطغان، وكانوا معه، ثم عاد جلال الدّولة إلى الجانب الغربى ببغداد، ومعه قراوش بن المقلّد العقيلى ودنيس بن على «2» بن مزيد الأسدى، وخطب له بالجانب الغربى، ولأبى كاليجار بالجانب الشرقى، ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار، وسار قرواش إلى الموصل، ووصل الخبر إلى بارسطغان بعود(26/256)
أبى كاليجار إلى فارس، ففارقه الدّيلم الذين كانوا نجدة له، فضعف أمره، فرفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة، وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغداد، وأرسل البساسيرى والمرشد وبنى خفاجة في إثر بارسطغان، ومعهم جلال الدولة ودبيس، فلحقوه بالخيزرانية، فقاتلوه، فسقط عن فرسه، فأسر وجىء به إلى جلال الدولة، فقتله، وكان عمره نحوا من سبعين سنة، فضعف أمر الأتراك، وطمع فيهم الأعراب، واستولوا على إقطاعهم.
ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبى كاليجار
وفي سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وقع الصّلح بين جلال الدّولة، وأبى كاليجار، والاتفاق، وزال الخلف بعد أن كان بين عساكرهما حرب قبل ذلك، فاتفقا الآن، وكان الرسل في الصلح أقضى القضاة أبا الحسن الماوردى، وأبا عبد الله المردوستى، وغيرهما، وتزوّج أبو منصور بن على أبى كاليجار بابنة جلال الدولة، وكان الصداق خمسين ألف دينار قاشانيه. والله أعلم.
ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك
وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله أن يخاطب بملك الملوك، فامتنع، ثم أجاب إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فأفتى قاضى القضاة أبو الطيب «1» الطبرى،(26/257)
والقاضى أبو عبد الله الصيمرى «1» ، والقاضى ابن البيضاوى، بجواز ذلك، ومنع منه أقضى القضاة أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى الشافعى، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات، فخطب لجلال الدولة بملك الملوك، وكان الماوردى من أخص الناس بجلال الدولة، وهو يتردّد إلى دار الملك في كل يوم، فلما أفتى بالمنع انقطع، ولزم بيتة من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، استدعاه جلال الدّولة، فحضر خائفا، فأدخل عليه وحده، فقال له:
قد علم الناس أنك من أكثر الفقهاء مالا وجاها وقربا منا، وقد خالفتهم فيما وافق هواى «2» ، ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك واتّباع الحق، وقد بان لى موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وجعلت جزاء ذلك إكرامك، بأن أدخلتك إلىّ وحدك، وجعلت إذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودى إلى ما تحبّ، فشكره ودعا له، وأذن لكلّ من حضر للخدمة بالانصراف «3» ، والله أعلم.
ذكر وفاة جلال الدولة
كانت وفاته ببغداد سادس شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان مرضه ورما في كبده، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وكانت مدة عمره إحدى وخمسين سنة، ومدة ملكه ببغداد(26/258)
منذ خطب له ثانيا، سبع عشرة سنة وشهرين، ومنذ وصل إليها ست عشرة سنة وأحد عشرة شهرا، وكانت أيامه كثيرة الوهن والاضطراب، وضعفت المملكة في أيامه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وكان كثير الصدقة، وزيارة الصّالحين والمشاهد، وكان يمشى حافيا قبل وصوله إلى كلّ مشهد نحوا من فرسخ.
أولاده: الملك العزيز أمير الأمراء أبو منصور، توفى بديار بكر في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وزراؤه: أبو سعد عبد الواحد بن على بن ماكولا، ثم نكبه، واستوزر أخاه أبا على الحسن، ثم عزله، واستوزر أبا القاسم بن ماكولا، وهو أخوهما، ثم استوزر عميد الملك أبو سعيد عبد الرحيم، واستوزر غير هؤلاء، والله أعلم.
ذكر أخبار السلطان شاهنشاه
هو أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة أبى شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة أبى نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، ملك بعد وفاة والده سلطان الدولة، كرمان، وفارس، وخوزستان، ثم ملك الحضرة ببغداد، بعد وفاة عمّه جلال الدولة.
على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.(26/259)
ذكر ابتداء ملكه
لما توفى والده سلطان الدولة في شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة بشيراز، كان هو بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمّد بن مكرم ليملك البلاد، وكان هواه معه، وهوى الأتراك مع عمه أبى الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، فكاتبوه أيضا يطلبونه إليهم، فتأخر أبو كاليجار، وسبقه عمه أبو الفوارس إليها، فملكها، وكان أبو المكارم ابن أبى محمد بن مكرم قد أشار عليه ابنه، لما رأى الاختلاف، أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله، ففارقه، وقصد البصرة، فلما ملك أبو الفوارس طالبه الجند بحق البيعة، فأحالهم على ابن مكرم، وألزمه بإيصال [المال «1» ] إليهم، فتضجر من ذلك، فقبض أبو الفوارس عليه وقتئذ، فلما سمع ابنه بقتله صار مع الملك أبى كاليجار وأطاعه، وتجهز الملك أبو كاليجار، وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم مربيه، وساروا بالعساكر إلى فارس، فبعث أبو الفوارس عسكرا مع وزيره أبى منصور الحسن بن على البشنوى لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير فتهاون به؛ لكثرة عساكره، فأتوه وهو نائم، وقد تفرق عسكره في البلد، لابتياع ما يحتاجون إليه، وكان جاهلا بالحرب، فلما شاهد أعلام أبى كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر، وقد داخلهم الرعب، فحمل عليهم أبو كاليجار، فانهزموا وغنم أموالهم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى أبى الفوارس سار إلى كرمان، ودخل أبو كاليجار شيراز، وملك فارس.(26/260)
ذكر عودة أبى الفوارس الى فارس واخراجه
قال: ولما ملك أبو كاليجار البلاد، ودخل شيراز، وجرى على الدّيلم الشيرازيّة من عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنّوا أنهم كانوا قتلوا مع عمه، ثم إن عسكر أبى كاليجار شغبوا عليه، وطالبوه بالمال فأظهر ديلم شيراز ما في نفوسهم من الحقد، فعجز عن المقام معهم، فسار عن شيراز إلى النونبدجان، ولقى شدّة في طريقه، ثم فارقها لشدّة حرّها، ووخامة هوائها إلى شعب بوّان، فأقام به، وهو أحد متنزهات الدنيا الأربع، ولما سار عن شيراز أرسل الدّيلم الشيرازيّون إلى أبى الفوارس يحثّونه على الوصول إليهم، فسار إليهم وتسلّم.
شيراز، وقصد أبا كاليجار بشعب بوّان، ثم استقر بينهما الصلح، على أن يكون لأبى الفوارس كرمان وفارس، ولأبى كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرّجان، ثم إن وزيره أبى الفوارس صادر الناس، وأفسد قلوبهم، واجتاز به مال لأبى كاليجار ولمن معه من الديلم، فأخذه، فحينئذ حثّ العادل ابن ماقيه «1» صندلا الخادم على العود إلى شيراز، فعادت الحال إلى أشدّ ما كانت عليه، ثم خرج كل واحد، من أبى الفوارس وأبى كاليجار، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى دارابجرد «2» ، وملك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد، فاجتمع له نحو عشرة(26/261)
آلاف مقاتل، والتقوا واقتتلوا نحو البيضاء، واصطخر، فانهزم أبو الفوارس ومن معه، وسار إلى كرمان، واستقر ملك أبى كاليجار بفارس، فى سنة سبع عشرة وأربعمائة، وفي أثناء ذلك خطب لأبى كاليجار ببغداد، بعد وفاة مشرف الدولة، كما قدمناه فى أخبار جلال الدولة، وفي سنة ثمانى عشرة وأربعمائة استقر الصلح بين أبى كاليجار، وعمه أبى الفوارس صاحب كرمان، على أن تكون كرمان لأبى الفوارس وبلاد فارس لأبى كاليجار، ويحمل لعمّه في كلّ سنة عشرين ألف دينار، وفوّض أبو كاليجار أمور دولته إلى العادل ابن ماقية، فأجابه بعد امتناع، وشرط عليه ألا يعارض فيما يفعله، وفي سنة تسع عشرة وأربعمائة توفى أبو الفوارس صاحب كرمان، فاستولى أبو كاليجار على كرمان.
ذكر ملك أبى كاليجار العراق
وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ملك العراق، وذلك بعد وفاة عمه جلال الدولة، وذلك أن جلال الدولة «1» لما مات كان ولده الأكبر الملك العزيز بواسط، فكاتبه الأجناد بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حقّ البيعة، فتردّدت الرسائل بينهم في مقدار المال، فلم يكن عنده ما يعطيه لهم، وبلغ خبر موته الملك أبا كاليجار، فكاتب القوّاد والأجناد ورغّبهم في المال، وبكثرته وتعجيله، فمالوا إليه، وعدلوا عن الملك العزيز، وأرسل الأموال،(26/262)
وفرقّها على الجند وأولادهم ببغداد، وأرسل إلى الخليفة عشرة آلاف دينار، ومعها هدايا كثيرة، فخطب له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة، ولقّبه الخليفة محيى الدين، وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه؛ ليلا مخافة الأتراك، فلما وصل إلى النعمانيه لقيه دبيس بن مزيد، ودخل إلى بغداد في شهر رمضان، ومعه وزيره ذو السعادتين أبو الفرج بن محمد بن جعفر بن محمد بن فسابخس «1» وزينت بغداد لقدومه، وخلع على أصحاب الجيوش، وهم البساسيرى والنشاودى «2» والهمام أبو البقاء، وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير، فشغب بعضهم، وقتلوا واحدا من ولاة العرض بمرأى من الملك أبى كاليجار، واستمر ملكه إلى سنة أربعين وأربعمائة فتوفى بمدينة [خناب] «3» من كرمان، فى رابع جمادى الأولى منها، وقد عزم على المسير إلى كرمان، وكان عمره أربعين سنة وشهورا، ومدة ملكه، منذ ملك فارس بعد وفاة أبيه، أربعا وعشرين سنة وسبعة أشهر، بما في ذلك من مدة الحرب بينه وبين عمه أبى الفوارس، ومنذ ملك العراق بعد عمه جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيّفا وعشرين يوما، ولما توفى نهب الأتراك الذين بالعسكر الخزائن والسلاح والدوابّ، وانتقل ولده أبو منصور فلا ستون إلى مخيّم الوزير أبى منصور، وأراد الأتراك نهبها، فمنعهم الديلم،(26/263)
وعاد العسكر إلى شيراز، فملكها الأمير أبو منصور، وكان رحمه الله منصفا للتجار في معاملاتهم، يربحون عليه الأرباح الكثيرة، مع بخله العظيم، وخلف بقلعة اصطخر تسعة وعشرين ألف بدرة ورقا، وأربعمائة بدرة عينا، سوى الجواهر والثياب.
أولاده: الملك الرحيم أبو نصر أبو منصور فلا ستون. أبو طالب كامروا- أبو المظفر بهرام- أبو على «1» كيخسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر.
وزيره: العادل أبو منصور بهرام.
ذكر ملك الملك الرحيم أبى نصر
هو أبو نصر خسرو فيروز بن أبى كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة فناخسروا بن بهاء الدولة أبى نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة ابن ركن الدولة، وهو آخر ملوك الدولة البويهية، وعليه انقرضت دولتهم، وكان ملكه ببغداد بعد وفاة أبيه كاليجار، وذلك أنه لما ورد الخبر بوفاته إلى بغداد، وبها ولده أبو نصر هذا أحضر الجند واستحلفهم، وراسل الخليفة القائم بأمر الله، فى الخطبة لنفسه وتلقيبه بالملك الرحيم، تردّدت الرسائل في ذلك إلى أن أجابه الخليفة إلى الخطبة، ولم يجبه إلى اللّقب، وقال: لا يجوز أن يلقّب أحد بأخص صفات الله عز وجل، واستقر ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو على كيخسرو واستولى أبو منصور على شيراز، فسير(26/264)
إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعيد في عسكر، فملكوا شيراز، وقبضوا على أبى منصور ووالدته، وذلك في شوال سنة أربعين وأربعمائة، وخطب للملك الرّحيم بشيراز، ثم خالفه أهلها بعد ذلك، وصاروا مع أخيه أبى منصور، وكان بينهم حروب ووقائع يطول شرحها، ولم يزل الملك الرحيم في الملك إلى أن قطعت خطبته، عند وصول السّلطان طغرلبك السّلجقى إلى بغداد، فخطب له بها بعد الخليفة، ثم بعده للملك الرحيم، بشفاعة الخليفه إلى السلطان طغرلبك- ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم «1» ، وقطعت خطبته، لخمس بقين من شوال، وقيل في سلخ شهر رمضان سنة سبع وأربعين، وسيره السلطان إلى الرىّ، واعتقله في قلعتها، فمات في سنة خمسين وأربعمائة وانقطعت الدولة البويهية من بغداد بزوال ملكه. وكان ملكه سبع سنين وشهورا، وبلغ من العمر أربعا وعشرين سنة وشهورا.
وزراؤه: الوزير أبو السعادات، وأبو الفرج بن فسانجس، وابنه الوزير أبو الغنائم، والوزير أبو الحسن على بن عبد الرحيم.
جامع أخبار ملوك بنى بويه عدة من ملك منهم ستة عشر ملكا
وهم عماد الدولة أبو الحسن على بن بويه. ركن الدولة أبو على الحسن معز الدولة أبو الحسن أحمد عز الدولة بختيار بن معز الدولة.
عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو شاهنشاه. وفيه يقول المتنى:
أبو شجاع بفارس عضد الدولة ... فناخسرو شاهنشاه.(26/265)
مؤيّد الدولة أبو منصور بويه ركن الدولة. فخر الدولة وفلك الأمة أبو الحسن على بن ركن الدولة مجد الدولة، وكنف الأمة أبو طالب رستم بن فخر الدولة، وهؤلاء الثلاثة لم يملكوا العراق- صمصام الدولة أبو كاليجار المرزبان بن عضد الدولة- شرف الدولة أبو الفوارس شيرذيل «1» بن عضد الدولة بهاء الدولة وضياء الدولة أبو نصر خسرو فيروز بن عضد الدولة [سلطان الدولة أبو شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة] «2» مشرف الدولة بن بهاء الدولة- جلال الدولة أبو طاهر فيروز خسرو بن بهاء الدولة- الملك شاهنشاه أبو كاليجار «3» المرزبان بن سلطان الدولة. الملك الرحيم أبو نصر، وملك منهم أيضا شمس الدولة أبو طاهر بن فخر الدولة، ملك همذان ثم استولى على الجبل، وأبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان. ومدة ملكهم منذ استولى عماد الدولة على أصفهان لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وإلى أن انقطعت خطبة الملك الرحيم لخمس بقين من شوال سنة سبع وأربعين وأربعمائة، مائة سنة وخمس وعشرون سنة «4» وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما. ومنذ ملك معزّ الدولة بغداد، ولقبه الخليفة المستكفى بالله العباسى، ولقب إخوته بالألقاب التى ذكرناها، ونقش أسماءهم على السكّة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة(26/266)
أربع وثلاثين وثلاثمائة وإلى هذا التاريخ، مائة سنة وثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان لهم في غالب الأوقات من الأقاليم: سجستان، وطبرستان، وجرجان، دعوة وخطابة، وسكة، وكرمان، والرى، وأصفهان، وهمذان، وبلاد فارس، وخوزستان، والعراق، والموصل، وديار بكر، وما يليها، وجميع عمان، وانقرضت دولتهم كأن لم تكن، فسبحان الدائم الذى لا يزول ملكه، ولا يفنى دوامه، سبحانه وتعالى.
وحيث ذكرنا الدولة البويهية، وأخبار ملوكها.
فلنذكر أخبار الدولة السلجقية.
ذكر أخبار الدولة السلجقية وابتداء أمر «1» ملوكها وكيف تنفلت بهم الحال، الى أن استولوا على البلاد، وما حازوه من الأقاليم والممالك، وغير ذلك من أخبارهم
كان ابتداء ظهور «2» هذه الدولة في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وملوكها هم الذين ينسب إليهم القبة والطير. يقال: إنهم اتخذوا ذلك تبركا بالطائر الذى يقال إنه إذا وقع ظله على أحد من البشر سعد سعادة عظيمة، وقيل: إن ظله وقع على أبيهم سلجق، فكان من أمره ما نذكره، وقد اختلف في انتسابهم إلى أى قبيلة، فمن الناس من ذهب إلى أنهم من التركمان، ومنهم من يقول إنهم من الترك، وفي أخبارهم(26/267)
ما يدل على أنهم من الأتراك.
وأول من نبغ من ملوك هذه الدولة [طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجق بن يقاق]
وعلا قدره، وطار اسمه، واستولى على البلاد، وقاتل الملوك، وحاز الممالك ونعت بالسلطنة: طغرلبك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجق بن يقاق.
وطغرلبك: بضم الطاء المهملة، وسكون الغين المعجمة، وضم الراء، وسكون اللام، وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف.
ولنبدأ بذكر آبائه، وابتداء أمرهم على سبيل التلخيص والاختصار، لتكون أخبارهم سياقة، يتلو بعضها بعضا. فأما يقاق «1» ، وقيل فيه دقاق، ومعنى يقاق: الفوس الجديدة، فكان رجلا تركيا شهما، صاحب رأى وتدبير، وهو أول من دخل في دين الإسلام، وكان مقدم طائفته من الأتراك، ومرجعهم إليه، لا يخالون له قولا، وكان ملك الترك في زمانه «2» بيغوا يتدبر برأيه، ويقتدى بمشورته، ويستصحبه في حروبه، فيقال: إن بيغو جمع عساكره، وأرادوا المسير إلى بلاد الإسلام، فنهاه يقاق عن ذلك، وطال الخطاب بينهما، فأغلظ له ملك الأتراك في الكلام، فلطمه يقاق فشجّ رأسه فثاربه خدم بيغو، وأرادوا قتله، فمانع عن نفسه، واجتمع من أصحابه من مانع عنه، ثم صلح الأمر بينهما، فكان يقاق عند بيغو إلى أن مات. وخلف ولده سلجق.(26/268)
ذكر أخبار سلجق بن يقاق
«وسلجق» بتفخيم الجيم؛ لتكون بين السين والجيم، ورأيت جماعة من المؤرخين أثبتوا في اسمه واوا، فقالوا: «سلجوق» .
قال ابن الأثير: وإثبات الواو في اسمه غلط، والصواب سلجق. قال:
ولما توفى والده يقاق، ظهر على سلجق مخايل النجابة، وأمارات التقدم، فقرّبه ملك الترك، وفوّض إليه تدبير العساكر، ولقّبه سباشى «1» ، ومعناه: [قائد] «2» الجيش، فكانت امرأة الملك تحذّره منه، وتخوّفه عاقبة أمره، لما رأت من انقياد أصحابه إليه، وطاعة الناس له، وأغرته بقتله، فبلغ سلجق الخبر، فسار بجماعتة ومن يطيعه، والتحق بملك الخانية: شهاب الدولة هارون بن [إيلك خان] «3» ، ملك ما وراء النهر، فأمدّه شهاب الدولة بجيش كثيف، ليغزو بلاد كفار الترك، فاستشهد في بعض حروب الكفار، وقيل: بل توفى بجند ودفن بها، قال ابن الأثير في تاريخه الكامل: إنه لما فارق بيغو أقام بنواحى جند، وأدام غزو كفار الترك، وكان ملك الترك يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار، فطرد سلجق عمّاله عنها، ثم استنجد به بعض ملوك السامانية على هارون بن [إيلك خان] الخان؛ لأنه كان(26/269)
قد استولى على بعض بلاده، فأرسل إليه سلجق ابنه أرسلان، فى جمع من أصحابه، فقوى بهم السامانى على هارون، واستعاد ما كان أخذه من بلاده، وعاد أرسلان إلى أبيه.
قال: ولما توفّى سلجق كان له من العمر مائة وسبع سنين، وخلف من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى، فغزا ميكائيل بعض بلاد كفار الترك، وباشر القتال بنفسه، فاستشهد في سبيل الله، وقيل بل مات في حبس السلطان محمود بن سبكتكين؛ لأنه طلبه أن يكون فى جملة أصحابه، فامتنع من ذلك، فقبض عليه، واعتقله، فمات فى اعتقاله، والله تعالى أعلم.
وخلف ميكائيل من الأولاد طغرلبك محمد، وجغرى بك داوود، وبيغو، فأطاعهم عشائرهم، وانقادوا لأمرهم، فنزلوا بالقرب من بخارى، على عشرين فرسخا منها، فخافهم أميرها، فأساء جوارهم، وقصد الإيقاع بهم، فانتموا إلى بغراخان ملك تركستان، واجتمعوا به، وأقاموا عنده، واستقرّ الأمر بين طغرلبك وأخيه جغرى بك داوود، أنهما لا يجتمعان عند بغراخان، وإنما يحضر أحدهما، ويقيم الآخر في أهله؛ خوفا منه أن يقبض عليهما معا، فاجتهد بغراخان في اجتماعهما، فلم يتهيأ له، فقبض على طغرلبك، فسار داود في عشائره ومن معه، وقصد بغراخان وقاتله وهزمه، وخلّص أخاه وانصرفوا إلى «جند» ، وهى بقرب بخارى.
وأما أرسلان بن سلجق أخو ميكائيل فإن إيلك خان لما ملك مملكة السامانية، بما وراء النهر، ومنها بخارى، أعظم محلّ أرسلان، وكان(26/270)
على تكين في جيش أرسلان خان أخو إيلك خان، فهرب ولحق ببخارى، واستولى عليها، واتفق مع أرسلان بن سلجق، وقوى أمرهما، فقصدهما «1» إيلك خان أخو أرسلان خان، وقاتلهما، فهزماه، وبقيا ببخارى، وكان على تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين، فيما يجاوره من البلاد، ويقطع الطريق على رسله إلى ملوك الترك، فلما عبر محمود نهر جيحون هرب على تكين من بخارى، ودخل أرسلان بن سلجق وجماعته إلى المفازة «2» ، فكاتبه محمود واستماله ورغّبه، فأتاه، فقبض عليه لوقته، وسجنه ونهب خركاهاته، واستشار فيما يفعل بقومه وعشيرته، فأشار أرسلان الجاذب «3» بقطع أباهيمهم حتى لا يرموا النشاب، أو يغرقوا في نهر جيحون، فقال له: ما أنت إلا قاسى القلب، ثم أمر بهم، فعبروا نهر جيحون، وفرقهم في نواحى خراسان، ووضع عليهم الحرج، فجار العمال عليهم، وامتدت الأيدى إلى أموالهم وأولادهم، فانفصل منهم ألفا رجل، وساروا إلى كرمان، ومنها إلى أصفهان، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن «4» كاكويه حرب، فساروا من أصفهان إلى أذربيجان.
هؤلاء جماعه أرسلان، وأما أولاد أخوته «5» : فإن تكين صاحب(26/271)
بخارى أعمل الحيلة في الظفر بهم؛ فراسل يوسف بن موسى بن سلجق وهو ابن عم طغرلبك، واستماله، وطلب منه الحضور عنده، فأتاه، ففوّض إليه على تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته، وأقطعه إقطاعا كبيرا، ولقبه بالأمير اينانج بيغو «1» وقصد بذلك أن يعينه على أولاد عمه وأن يأخذ بعضهم ببعض، فعلم يوسف مراده، فلم يطعه في ذلك، فلما رأى أن مكيدته لم تؤثّر، ولا يبلغ بها غرضا، أمر بقتله، فقتله ألب قرا، أحد أمراء على تكين، فعظم ذلك على طغرلبك، وداوود وعشائره، فلبسوا ثياب الحداد، وجمعا من الأتراك ما قدرا على جمعه؛ لطلب ثأر ابن عمّهم، وجمع على تكين جيوشه، والتقوا، واقتتلوا، فانهزم عسكر على تكين. «2» ،
وذلك في سنة عشرين وأربعمائة، ثم قصدا ألب قرا قاتل يوسف بن عمّهما، فقتلاه في سنة إحدى وعشرين، وأوقعا بطائفة من عسكر على تكين، فقتلا منهم نحو ألف رجل، فجمع على تكين عساكره، ومن حمل السلاح من أصحابه، وتبعهم خلق كثير من أهل البلاد، وقصدوا السلجقية من كل جانب، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة، وسبوا كثيرا من نسائهم، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان، فلما عبروا جيحون، كتب إليهم خوارزم شاه هارون بن التونتاش «3» ، يستدعيهم إليه؛ ليكونوا يدا واحدة، فساروا إليه، واجتمعوا بظاهر خوارزم، فى سنة ست وعشرين وأربعمائة، واطمأنوا(26/272)
إليه فغدر بهم، وأكثر فيهم القتل والنهب، فساروا إلى مفاذة نسا، «1» وقصدوا مرو في هذه السنة، وذراريهم «2» ، ونساؤهم في الأسر.
ذكر ما اتفق بين طغرلبك وداود وبين السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين
قال: ولما اتفق لهم مع خوارزم شاه هارون ما ذكرناه، راسلوا الملك مسعود- وهو بطبرستان- يطلبون منه الأمان، وأن يكونوا في خدمته، ويدفعوا الطائفة التى تفسد في بلاده، ويكونوا من أعظم أعوانه، فقبض على الرسل، وجهز عسكرا جرارا مع حاجبه بكتغدى، وغيره من الأمراء، فالتقوا عند نسا في شعبان سنة ست وعشرين وأربعمائة، فانهزم السلجقية، وغنم العسكر المسعودى أموالهم وأثقالهم، فجرى بين العسكر منازعة على الغنائم أدت إلى القتال بينهم، فقال داود لأصحابه: إن العسكر الآن قد اطمأن، واستقر والرأى أن نقصدهم، لعلنا نبلغ منهم غرضا، فعاد ووافق وصولهم إليهم، وهم فيما وقع بينهم من الاختلاف، وقتال بعضهم بعضا، فأوقعوا لهم، وقتلوا منهم، وأسروا، فاستردّوا ما أخذوه، وعاد المنهزمون من المعسكر المسعودى إلى نيسابور، فندم مسعود على ردّه السلجقية، عند بذلهم الطاعة، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت في قلوب عساكره، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم، فقال طغرلبك لإمام(26/273)
صلواته: أكتب إليه: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
... - إلى- قَدِيرٌ»
«1» ، ولا تزد على ذلك، ففعل، فلما ورد الجواب على مسعود، كتب إليهم يعدهم المواعيد الجميلة وسيّر إليهم الخلع، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط، وهى مدينة على نهر جيحون، وأقطع دهشان لداود، ونسا لطغرلبك، وفراوه «2» لبيغو، ولقب كلّ واحد منهم «3» بالدّهقان، فاستخفّوا بالرسول والخلع، ثم قالوا له: لو علمنا أن السلطان يبقى علينا إذا قدر لأطعناه، وكلنا نعلم أنه متى قدر علينا أهلكنا، فنحن لا نطيعه، ثم أرسلوا إليه يخادعونه بإظهار الطاعة له، وسألوه إطلاق عمهم أرسلان بن سلجق، فأجابهم إلى ذلك، وأحضره عنده ببلخ، وأفرج عنه وأمره بمراسلة بنى أخيه يأمرهم بالكفّ عن الشر، والدخول في الطاعة، ففعل أرسلان، وأرسل إليهم مع الرسول أشفا، فلما جاء الرسول إليهم، وأدى الرسالة، وسلّم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا، وعادوا إلى ما كانوا عليه من الشر، فأعاد الملك مسعود عمهم أرسلان إلى الحبس، وسار إلى غزنة وقصد السلجقية بلخ، ونيسابور، وطوس، وجوزجان، وأقام داود بمدينة مرو، وانهزمت العساكر المسعودية من السلجقية مرة بعد أخرى، واستولى الرعب عليهم، هذا والملك مسعود يغزو الهند، والكتب تصل إليه بأخبار السلجقية وهو لا يجيب عنها، ولا يلوى على ما فيها لاشتغاله بما هو أهم عنده من ذلك، وهو غزو الهند، وفتح قلاعهم، على ما قدمناه في أخبار الدولة الغزنويه.(26/274)
ذكر ابتداء الدولة السلجوقية واقامة الخطبة لطغرلبك وداود
كان سبب ذلك أن وزراء السلطان مسعود، وأهل دولته، لما كرروا عليه القول وواصلوا «1» الرسل إليه، يعرفونه ما آل إليه أمر السلجقية، ويحذرونه عاقبة توانيه فيهم، جهز جيشا كثيفا مع حاجبه سباشى، ومرداويج بن بسو «2» ، فأقام سباشى بهراه ونيسابور، ثم أغار على مرو وبها داود، فانهزم داود بين يديه، وتبعه العسكر المسعودى، فعطف داود عليه، وحمل على صاحب جوزجان «3» ، فقتله، فانهزم عسكر مسعود، وعاد دواد إلى مرو، فأحسن إلى أهلها، وخطب لنفسه فيها في أول جمعة من شهر رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وهى أول خطبة أقيمت لهم، ولقب في الخطبة بملك الملوك، وقويت نفوس السلجقية وزاد طمعهم في البلاد، ثم التقى العسكر المسعودى بعد ذلك، والسلجقية، وباشر سباشى الحرب بنفسه، واقتتلوا على باب سرخس. فى شعبان سنة ثمان وعشرين، فانهزم سباشى أقبح هزيمة، وتبعه داود إلى طوس يأخذ أصحاب سباشى باليد، وكفوا عن القتل، وغنموا أموالهم، فكانت هذه الواقعة هى التى أوجبت ملك السلجقية خراسان، ودخلوا قصبات البلاد، فدخل طغرلبك نيسابور، وسكن الشادياخ «4» ، وخطب له فيها في شعبان، ولقّب بالسلطان المظفر وبثوا النواب في النواحى،(26/275)
وسار داود إلى هراة، وتوجه سباشى إلى غزنة، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان، وجمع من العساكر ما يضيق بها الفضا، وفرق فيهم الأموال، وسار من غزنة، ومعه من الفيلة عدد كثير، فوصل إلى بلخ، فقصده داود، ونزل قريبا منها، ودخلها يوما جريدة، على حين غفلة من العسكر، فأخذ الفيل الكبير الذى على باب الملك «1» مسعود، وعدة جنائب، فعظم قدره في نفوس الناس وازدادت، هيبته في قلوب العسكر، ثم سار مسعود من بلخ في مستهل شهر رمضان سنة تسع وعشرين، ومعه ألف فارس سوى الأتباع، وسار إلى جوزجان، فأخذ واليها الذى كان للسلجقية، فصلبه، وسار منها، فوصل إلى مرو الشاهجان، وسار داود إلى سرخس، واجتمع بأخويه طغرلبك وبيغو، فراسلهم مسعود في الصلح، فتوجه إليه بيغو بالجواب، فأكرمه مسعود وخلع عليه، وكان مضمون رسالته: «إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلناه من هذه الأفعال، التى كل فعل منها موبق مهلك» ، وآيسوه من الصلح، فسار مسعود من مرو إلى هراة، وقصد داود مرو، فامتنع أهلها من تسليمها. فحاصرهم سبعة أشهر، وملكها، فسقط في يد مسعود، وسار من هراة إلى نيسابور ثم إلى سرخس، وكلما اتبع السلجقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره، ولم يزل كذلك حتى أدركه الشتاء، فأقام بنيسابور ينتظر الربيع، فلما جاء الربيع اشتغل مسعود بلهوه وشربه، حتى انقضى فصل الربيع، فلما جاء الصيف عاتبه أصحابه على إهماله أمر السلجقية، وعدم مناجزتهم الحرب، فسار من نيسابور في طلبهم، فدخلت السلجقيه البرية،(26/276)
وتبعهم مرحلتين، وقد ضجر عسكره من التعب والكلال، فنزل الملك مسعود منزلا قليل الماء، فاقتتل عسكره على الماء، ونهب بعضهم بعضا، فعلم داود بماهم فيه، فرجع عليهم، فولّوا منهزمين لا يرجع بعضهم على بعض، وثبت مسعود، ثم انهزم في نحو مائة فارس، حتى أتى غرشستان «1» وغنم السلجقية من المعسكر المسعودى ما لا يدخل تحت الإحصاء، فقسم داود ذلك على أصحابه، وآثرهم على نفسه، ونزل في سرادق مسعود، وجلس على كرسيه، ثم أطلق الأسرى، ووضع خراج سنة كاملة.
ذكر ملك داود وطغرلبك وبيغو نيسابور وبلخ وهراة
قال: وسار طغرلبك إلى نيسابور، فملكها في أواخر سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، فقيل إنه أكل لوزينجا، فقال: هذا ططماج «2» طيب، إلا أنه لا ثوم فيه، ورأى أصحابه الكافور، فأكلوا منه، وقالوا:
هذا ملح مرّ، واستولى السلجقية حينئذ على جميع البلاد، فسار بيغو إلى هراة، فدخلها، وسار داود إلى بلخ، وبها [ألتونتاش] «3» الحاجب واليا عليها لمسعود، فراسله داود في تسليم البلد إليه، وعرفه عجز صاحبه عن نصرته، فحبس ألتونتاش رسله، فنازله داود، وحصر المدينة، فأرسل ألتونتاش إلى مسعود وهو بغزنه يعرفه الحال،(26/277)
وما هو فيه من ضيق الحصار، فجهز مسعود العساكر الكثيرة، فجاءت طائفة منهم إلى الرّخّج، وبها جمع من السلجقية، فقاتلوهم، فانهزمت السلجقية، وقتل منهم ثمانمائة رجل وأسر كثير، وخلا ذلك الصقع منهم، وسارت طائفة إلى هراة وبها بيغو، فقاتلوه، ودفعوا عنها، ثم جهز مسعود ولده مودودا وسيّره في عسكر كبير مددا لهذا العسكر، فسار عن غزنه في سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة، فلما قاربوا بلخ سيّر داود طائفة من عسكره، فأوقعوا بطلائع مودود، فانهزمت الطلائع، وتبعهم عسكر داود، فلما أحس بهم عسكر مودود رجعوا إلى ورائهم، فلما اتصل هذا الخبر بألتونتاش صاحب بلخ أطاع داود وسلم إليه البلد، ووطىء بساطه، ثم اتفق قتل السلطان مسعود في سنة اثنتين وثلاثين، وملك بعده أخوه محمد، ثم قتل مودود بن مسعود، فتمكن السلجقية.
ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان
وفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، وسبب ذلك أن أنوشروان بن «1» منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبى كاليجار بن ويهان القوهى صاحب جيشه، وزوج أمه، فعلم طغرلبك عند ذلك أنه لا مانع له، ولا دافع من البلاد، فسار إليها، وقصد جرجان، ومعه مرداويج بن بسّو، فلما نازلها فتح له مستحفظها أبوابها، فدخلها، وقرر على أصحابها مائة ألف دينار(26/278)
صلحا، وسلم البلد لمرداويج، وقرر عليه في كل سنة خمسين ألف دينار، عن جميع الأعمال، وعاد إلى نيسابور، وقصد مرداويج بن بسو أنو شروان «بسارية» ، فاصطلحا على أن ضمن له أنو شروان ثلاثين ألف دينار، وأقيمت الخطبة لطغرلبك في سائر البلاد، وتزوج مرداويج بوالدة أنو شران، وتمكن، وبقى أنو شروان يتصرف بأمر مرداويج، لا يخالفه في شىء ألبته، وملك خوارزم في سنة أربع وثلاثين من شاه ملك ابن على، وكان في طاعة مودود صاحب غزنة.
ذكر مسير ابراهيم ينال «1» الى الرى وهمذان
وإبراهيم ينال هو أخو طغرلبك لأمه. قال: ولما ملك إخوته خراسان سار هو إلى الرى، فملكها في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ثم سار عنها إلى البلاد المجاورة لها، ثم انتقل [بروجرد] ، «2» فملكها، ثم قصد همذان، وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها إلى سابور خواست، ونزل إبراهيم عليها، وأراد دخولها، فقال له أهلها: إن كنت تريد منا الطاعة، وما يطلبه السلطان من الرعية، فنحن باذلوه، وداخلون تحته، فاطلب أولا هذا المخالف عليك الذى كان عندنا، يعنون كرشاسف، فإنا لا نأمن عوده إلينا؛ فإذا ظفرت به كنّالك، فكف عنهم، وسار إلى كرشاسف بعد أن أخذ من أهل البلد مالا، فلما قارب «3» سابور، خواست(26/279)
تحصّن منه كرشاسف بالقلعة، وملك إبراهيم البلد قهرا ونهبه، ثم عاد إلى الرى، وذلك في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ذكر خروج طغرلبك الى الرى وملكه بلد الجبل
قال: ولما فرغ طغرلبك من خوارزم، وجرجان، وطبرستان خرج من خراسان إلى الرى، وغيرهما من بلاد الجبل، وسار أخوه إبراهيم ينال إلى سجستان، وأخذ طغرلبك قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرّما، وأمر طغرلبك بعمارة الرىّ، وكانت قد خربت، فوجد في دار الإمارة مراكب ذهب مجوهرة، وبرنيتين من الصينى [مملوءتين] «1» ، وأمولا كثيرة، وسار إلى قزوين، وحصرها، فوقع الصلح على ثمانين ألف دينار، ودخل صاحبها في طاعته، وأطاعه ملك الديلم، وحمل إليه مالا وعروضا، وأطاعه غيره من الملوك، وأرسل سرية إلى أصفهان، وبها أبو منصور [فرامرز «2» ] الدولة، فأغارت وعادت سالمة، وخرج طغرلبك من الرى، وقصد أصفهان، فصالحه صاحبها، وصانعه بمال، وسار إلى همذان، فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، وسار معه إلى أبهر وزنجان، وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور، فأرسل إلى من بها ليسلموها، فامتنعوا، فقال له طغرلبك: ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك، فاصعد إليهم، وأقم(26/280)
معهم، ولا تفارق موضعك حتى آذن لك» ، واستناب بهمذان ناصر العلوى.
وفي سنة خمس وثلاثين وصل إلى طغرلبك رسول الخليفة القائم بأمر الله، وهو أقضى القضاه أبو الحسن على الماوردى، فتلقاه طغرلبك على أربعة فراسخ، إجلالا لرسالة الخليفة، وذكر طاعته للخليفة، ووقوفه عند أوامره.
وفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة استوزر السلطان طغرلبك أبا القاسم على بن عبد الله الجوينى، وهو أول وزير وزر له.
وفي سنة سبع وثلاثين أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلاد الجبل، فسار من همذان، «1» وقصد كرمان، وبها كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها خوفا، ودخلها إبراهيم، وملكها، وسار إلى الدينور، فملكها، وملك [قرميسين] «2» فى شهر رجب بعد حصار وقتال، وملك الصيمرة في شهر شعبان ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لهما، ثم سار إلى حلوان، فنهبها، وأحرقها.
ذكر ملك ينال قلعة كنكور وغيرها
وفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة سار إبراهيم إلى قلعة كنكور، وبها عكبر بن فارس، صاحب كرشاسف، فامتنع عكبربها إلى أن فقدت ذخائره وفنيت الأقوات، فعند ذلك أعمل الحيلة، وعمد(26/281)
إلى بيوت الطعام التى بالقلعة فملأها ترابا وحجارة، وسدّ أبوابها، ونشر من داخل الأبواب شيئا من الطعام، وعلى رأس التراب والحجارة مثل ذلك، وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه، على أن يؤمنه على من بها من الرجال، وما بها من الأموال، فامتنع إبراهيم من ترك المال، فأخذ عكبر رسول إبراهيم، وطوّفه على بيوت الطعام، فرآها مملوءة وظنها «1» طعاما، وقال له: قل لصاحبك إننى لم أرسل إليه خوفا من المطاولة، ولا إشفاقا من نفاد الميرة، ولكنى أحببت الدخول في طاعته، فإن بذل لى الأمان على ما طلبته لى، وللأمير كرشاسف وأمواله، ولمن بالقلعة، سلمتها إليه، وكفيته مؤنة المقام، فلما عاد الرسول إلى إبراهيم، وأخبره بما رأى وسمع، أجابه إلى ما طلب، ونزل عكبر، فلما تسلّم إبراهيم القلعة تبينت له مكيدته، وعاد إلى همذان، وسيّر جيشا عليهم [نسيب] «2» له اسمه أحمد، وسلم إليه سرجاب «3» ابن أبى السؤل؛ ليفتح به قلاعه، وكان الأكراد الملاذية قد قبضوا عليه، وسلّموه لإبراهيم ينال، قبل ذلك، فسار به أحمد إلى قلعة كلكان، فامتنعت عليه، فسار إلى قلعة «4» دردبلوه، فحصرها، وامتدت طائفة ممن معه إلى تلك الأعمال، فنهبوها، ووصلوا إلى الدسكرة «5» ، وباجسرى، والهارونية، وقصر سابور، وجميع(26/282)
تلك الأعمال، ونهبوها، فوصل الخبر إلى بغداد، فارتاع أهلها، ثم سار إبراهيم ينال إلى السيروان، فحصر القلعة، وضيّق على من بها، وأرسل سرّية نهبت البلاد، وانتهت إلى عشرة فراسخ من تكريت، ثم تسلم السيروان من مستحفظها بعد أن أمنه، واستخلف عليها رجلا من أصحابه، وانصرف إلى حلوان، وعاد إلى همذان.
ذكر غزو ابراهيم ينال الروم
وفي سنة أربعين وأربعمائة غزا إبراهيم الروم، فظفر وغنم وأسر وسبى، وكان سبب: ذلك أن خلقا كثيرا من الغز مما وراء النهر، قدموا عليه، فقال لهم: إن بلادى تضيق عن مقامكم، والقيام بما تحتاجون إليه، والرأى أن تمضوا إلى غزو الروم، وتجاهدوا فى سبيل الله تعالى، وتغنموا وأنا سائر في أثركم، فساروا بين يديه وتبعهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون «1» ، وتلك النواحى كلها، ولقيهم عسكر عظيم(26/283)
للروم [والأنجاز] «1» ، يبلغون خمسين ألفا، فاقتتلوا وكانت بينهم عدة وقائع، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، ثم كان الظفر للمسلمين.
فأكثروا القتل في الروم، وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم.
وممن أسر قاريط «2» ملك الأنجاز، فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار، وهدايا بمائة ألف دينار، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يزل يجوس خلال تلك الديار وينهبها، إلى أن بقى بينه وبين القسطنطنية خمسة عشر يوما، واستولى المسلمون على تلك النواحى، وغنموا ما فيها، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وأخذوا من الدواب، والبغال، «3» والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء، قيل: إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة، وإنه كان في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع. والله أعلم.
ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه ابراهيم ينال والاتفاق بينهما
وفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة استوحش إبراهيم من أخيه السلطان طغرلبك؛ وكان سبب ذلك أن: طغرلبك طلب من أخيه إبراهيم أن يسلم إليه مدينة همدان، والقلاع التى بيده في بلد الجبل، فامتنع من ذلك، واتهم وزيره أبا يعلى «4» فى السعى بينهما،(26/284)
فقبض عليه وضربه، وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، وجمع جمعا، والتقى مع السلطان طغرلبك، وكان بينهما قتال، فانهزم إبراهيم، وسار طغرلبك في أثره، وملك جميع قلاعه وبلاده، وتحصّن إبراهيم بقلعة [سرماج] «1» ، فحصره طغرلبك بها، فملكها في أربعة أيام، وكانت من أحصن القلاع، واستذل ينال منها، وأرسل إلى [نصر] «2» الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده، فأطاعه، وخطب له في سائر ديار بكر، وراسل ملك الروم السلطان طغرلبك، وأرسل إليه هديّة عظيمة، وطلب منه المعاهدة، فأجابه إلى ذلك، وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسعى في فداء ملك الأنجار، فأرسل نصر الدولة إلى السلطان شيخ الإسلام أبا عبد الله ابن بهران «3» فى معناه، فأطلعه بغير فداء، فعظم ذلك عنده، وعند ملك الروم، وأرسل إليه هدايا عظيمة، فقيل: إنه أرسل إليه ألف ثوب من الديباج، وخمسمائة ثوب من أصناف الحرير، وخمسمائة رأس من الكراع، إلى غير ذلك، وأنفذ إليه مائتى ألف دينار، ومائة لبنة من الفضة، وثلاثمائة مهرى، وثلاثمائة حمار مصرية، وألف عنز بيض الشعور، سود العيون والقرون، وأنفذ إلى البزمرون عشرة أمناء(26/285)
مسكا، وعمر مسجد القسطنطينية، الذي بناه مسلمة بن عبد الملك، وعمر منارته، وجعل فيها القناديل، وعلّق في محرابه «1» قوسا، ونشابه، وأقيمت فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، فدان له الناس حينئذ، وعظم شأنه، وتمكن ملكه، فكانت الدولة السّلجقية في زيادة، والبويهية في نقص، قال: وأما إبراهيم ينال فإنه لما نزل إلى أخيه طغرلبك أكرمه، وأحسن إليه، ورد عليه كثيرا مما أخذ منه، وخيره بين أن يقطعه بلادا يسير إليها، وبين أن يقيم معه، فاختار الإقامة معه.
ذكر ملك طغرلبك أصفهان
كان قد حاصرها في سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فلم يظفر منها بطائل، ثم اصطلح هو وصاحبها أبو منصور فرامرز «2» بن علاء الدولة، على مال يحمله إلى السلطان طغرلبك، ويخطب له بأصفهان، وأعمالها، ثم حصل بعد ذلك من صاحبها تلون، فكان يطيعه تارة ويعصيه تارة، ويطيع الملك الرحيم بن بويه، فجاء «3» السلطان إليها في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وحاصرها سنة، وتسلمها في سنة ثلاث وأربعين، واستطابها، وجعلها دار مقامه، ونقل ما كان له بالرى من الذخائر والأموال والسلاح إليها، وخرب(26/286)
قطعة من سورها، وقال: إنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قدرته، وأما من حصنه عساكره وسيفه، فلا حاجة به إليها.
ذكر استيلاء ألب أرسلان على مدينة فسا
وفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة سار ألب أرسلان بن داود جغرى بك من مدينة مرو بخراسان إلى بلاد فارس، وأخذ «1» فى مسيره على المفازة من غير علم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا، فانصرف النائب بها من بين يديه، ودخلها ألب أرسلان، وقتل من الديلم نحو ألف رجل، وعددا كثيرا من العامة، ونهبوا ما مقداره ألف ألف دينار، وأسر ثلاثة آلاف إنسان، وعاد إلى خراسان، ولم يلبث مع عمه طغرلبك. والله أعلم بالصواب.
ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان، وغزو الروم
وفي سنة ست وأربعين وأربعمائة سار السلطان طغرلبك إلى أذربيجان، فقصد تبريز، وصاحبها الأمير أبو منصور وهشوذان ابن محمد الراوى «2» ، فأطاعه، وخطب له، وحمل إليه ما أرضاه، وأعطاه ولده رهينة، وكذلك فعل معه سائر ملوك تلك النواحى، بذلوا له الطاعة والخطبة، وانقاد العساكر إليه، فأبقى بلادهم عليهم، وأخذ رهائنهم، وسار إلى أرمينية، وقصد «ملازكرد» من الروم،(26/287)
فحصرها، ونهب ما جاورها من البلاد، وخرّبها، وأثر في بلاد الروم أثارا عظيمة، ونال منهم من النهب والأسر والقتل شيئا كثيرا، ثم عاد إلى أذربيجان عند دخول الشتاء، وعاد إلى الرى، والله أعلم.
ذكر دخول السلطان طغرلبك الى بغداد والخطبة له بها، وانقراض الدولة البويهية
كان دخوله إليها يوم الإثنين لخمس بقين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان سبب ذلك أن المظفّر أبا الحارث ألب أرسلان التركى، المعروف بالبساسيرى، عظم أمره بالعراق، وطار اسمه في الآفاق، واستولى على البلاد، وعظمت هيبته في قلوب العباد، وخافه أمراء العرب، وخطب له على منابر العراق، ولم يبق لبنى بويه معه إلا مجرّد الاسم، ووقع بينه وبين الخليفة القائم بأمر الله، من الوحشة ما قدمناه، فى أخبار الدولة العباسية، حتى بلغ الخليفة أنه يريد القبض عليه، فعند ذلك كاتب الخليفة السلطان طغرلبك، وهو بنواحى الرىّ يستنصر به، ويحثه على المسير إلى بغداد، وكان طغرلبك قد عاد إلى الرىّ، بعد عوده من غزو الروم، فرتب أمور الرى، وعاد إلى همذان في المحرّم من السنة، وأظهر أنه يريد الحجّ، وإصلاح طريق مكة، والمسير إلى الشام ومصر، وإزالة ملك المستنصر العبيدى عنها، وسار إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خراسان، فأجفل الناس إلى غربىّ بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهرها، وسمع الملك الرّحيم بقرب(26/288)
السلطان طغرلبك من بغداد، فأصعد من واسط إليها، وفارقه البساسيرى بمراسلة الخليفة في معناه، كما ذكرناه، ووصل الملك الرحيم إلى بغداد، وأرسل طغرلبك إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، وإلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان، فأنكروا ذلك ونفروا منه، وراسلوا الخليفة، وقالوا: إنا فعلنا بالبساسيرى ما فعلناه، وهو كبيرنا ومقدمنا اتباعا لأمر أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين برد هذا الخصم، ونراه قد قرب منا، ولم يمنع من المجىء، وسألوا التقدم إليه في العود، فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه، ويختار انقراض الدولة البويهية، ثم وصل الملك الرحيم إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يظهر العبودية، وسأل تقرير قاعدته مع طغرلبك، وكذلك سأل من معه من الأمراء، فأجيبوا بأن المصلحة أن تدخل الأجناد خيامهم، من ظاهر بغداد، وينصبوها «1» بالحريم، ويرسلوا رسولا إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابوا إلى ذلك، وراسلوه، فأجابهم إلى ما سألوه، ووعدهم الإحسان إليهم، وتقدم الخليفة إلى الخطباء بجوامع بغداد بالخطبة للسلطان طغرلبك، فخطب له لثمان بقين من شهر رمضان من السنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد، فأذن له، وخرج وزير الخليفة، وروساء بغداد وأعيانها، وأمر الملك الرحيم للقائه، واستحلفه «2» الوزير للخليفة، وللملك الرحيم، ودخل بغداد في يوم الإثنين لخمس بقين من شهر رمضان، ونزل بباب(26/289)
الشماسية ومعه ثمانية عشر فيلا، ودخل عسكره بغداد للامتياز، وشراء ما يريدونه من أهلها، وأحسنوا معاملتهم، فلما كان الغد، وهو يوم الثلاثاء، جاء بعض العسكر إلى باب الأزج، وأخذوا واحدا من أهله، فطلبوا منه تبنا، وهو لا يفهم عنهم ما يريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامة لهم، ورجموهم، وسمع الناس الصياح، فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك، فارتج البلد من أقطاره وأقبلوا من كل جهة، وقتل من الغز من وجد فى محال بغداد إلا أهل الكرخ، فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز بأذية بل حموهم:
وخرج عامّة بغداد، ومعهم جماعة من العسكر، يقصدون العسكر السلطانى، ولم يركب الملك الرحيم، ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخليفة، وأقاموا بها نفيا للتهمة عن أنفسهم، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم، وأما عسكر السلطان طغرلبك، فإنهم لما رأوا فعل العامّة وظهورهم من البلد قاتلوهم، ففل من الفريقين خلق كثير، وانهزمت العامة، ونهب الغز بعض الدروب، ونقل الناس أموالهم إلى باب النوبى، وأرسل طغرلبك من الغز إلى الخليفة يعتب، وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأصحابه، ويقول: «إن حضروا برئت ساحتهم، وإن تأخروا عن الحضور تيقّنت أن الذى جرى كان بوضعهم» ، فتقدم الخليفة إلى الملك الرحيم وأصحابه يقصد السلطان، فركبوا إليه، وأرسل الخليفه معهم رسولا يبرئهم عند السلطان، فلما وصلوا إلى جهة السلطان، أمر بالقبض على الملك الرحيم ومن معه، فقبضوا كلهم في آخر شهر رمضان، وحبسو، ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان، وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر(26/290)
ما جرى، من قبض الملك الرحيم وأصحابه (ونهب) «1» بغداد، ويقول: «إنهم خرجوا إليك بأمرى، وأمانى، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد» ، فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الملك الرحيم، وأمرهم بالسعى في أرزاق يحصّلونها لأنفسهم، فتوجّه كثير منهم إلى البساسيرى، ولزموه، فكثر جمعه، وكان من أمره ما قدمناه وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين وانتشر الغز في سواد بغداد، فنهبوا من الجانب الغربى من تكريت إلى النيل «2» ، ومن الجانب الشرقى إلى النهروانات «3» ، وأسافل الأعمال، فأسرفوا في النهب حتى بلغ ثمن الثور ببغداد خمسة قراريط. إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخرب السواد، وأجلى أهله عنه، وضمن السلطان طغرلبك البصرة، والأهواز من هزار سب بن [تنكر] «4» بن عياض بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار، وأقطعه أرّجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز، دون الأعمال التى ضمنها، وأقطع الأمير أبا على بن أبى كاليجار الملك قرميسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذّنوا في مساجدهم سحرا للصبح: «الصلاة خير من النوم» ، وأمر بعمارة دار الملك، فعمرت وزيد فيها، وانتقل إليها في شوال.(26/291)
ذكر مسير السلطان الى الموصل
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة سار السلطان طغرلبك إلى الموصل؛ وسبب ذلك، أنه لما أقام ببغداد عم الناس ضرر عسكره، وضاقت عليهم أرزاقهم ومنازلهم، فأرسل إليه الخليفة القائم بأمر الله يذكر له ما الناس فيه من الجور والظلم، ويعظه، ويقول: إن أزلت ذلك وإلا فتعين الخليفة على الإنبراح من بغداد، فقال السلطان لوزيره الكندرى «1» : «بكّر إلى الخليفة واعتذر له بكثرة العساكر والعجز عن تمهيدهم، وضبطهم، فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكأنه عند الكعبة وهو يسلم على النبى صلى الله عليه وسلّم، والنبى معرض عنه، وقال: يحكّمك الله في بلاده وعباده، فلا تراقبه فيهم، ولا تستحيى من جلالة الله عز وجل، فى سوء معاملتهم، وتغتر بإمهاله عند الجور عليهم، فاستقيظ فزعا، وأحضر عميد الملك الوزير، وذكر له ما رآه، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه مقابل ما رسم به بالسمع والطاعة، وأخرج الجند من دور العامّة، وأمر أن يظهر من كان مختفيا، وأزال التوكيل عمّن كان وكل به، وعزم على الرحيل، وأتاه خبر البساسيرى، والوقعة التى كانت بينه وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل، على ما قدمناه(26/292)
فى أخبار القائم بأمر الله، فتجهز، وسار عن بغداد، فى عاشر ذى الحجة «1» من السنة، ومعه خزائن السلاح والمجانيق، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهرا وأياما، لم يلق الخليفة فيها، وسار إلى [البوازيج] «2» وأقام بها حتى أتاه ياقوتى بالعساكر، فى سنة سبع وأربعين، فسار بهم إلى الموصل، وسير هزار سب بألف فارس اختارهم من العسكر، فدخل البرية، وأوقع بالعرب، وعاد إلى السّلطان، فعندها أرسل نور الدولة دبيس بن مزيد، وقريش بن بدران صاحب الموصل، يسألان هزار سب أن يتوسط لهما عند السلطان طغرلبك، فسعى في ذلك، فأجابه إليه في حقهما دون البساسيرى، فتوجّه البساسيرى عند ذلك إلى الرّحبة، وتبعه الأتراك البغداديون، ومقبل بن المقلد، وجماعة من عقيل، ثم سار السلطان إلى ديار بكر، التى هى لابن مروان، ووصل إلى جزيرة ابن عمر، فأرسل إليه بن مروان يذكر ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين، وما يعانيه من مجاهدة الكفار، وبذل ما يصلح، ثم وصل إبراهيم ينال إلى السلطان، فلما وصل أرسل هزار سب إلى نور الدولة بن مزيد، وقريش، يعرّفهما وصوله، ويحذرهما منه، فسار من جبل سنجار إلى الرحبة، فلم يلتفت البساسيرى إليهما، فانحدر نور الدولة إلى بلد العراق، وأقام قريش عند البساسيرى(26/293)
بالرحبة، وشكى قتلمش بن عم السلطان ما لقى من أهل سنجار في العام الماضى، عند انهزامه من البساسيرى، وأنهم قتلوا رجاله، فسيّر العساكر إليهما، فصعد أهل سنجار على السّور، وسبّوا السلطان، وأخرجوا جماجم القتلى وقلانسهم، وجعلوها على القصب، ففتحها السلطان عنوة، وقتل أميرها علىّ بن «1» مرحا، وخلقا كثيرا من رجالها، وسبى نساءهم، وسأل إبراهيم ينال في الباقين، فتركهم السلطان، وسلّمها هى والموصل إلى أخيه إبراهيم ينال.
والله أعلم بالصواب.
ذكر عودة السلطان الى بغداد
قال: وكان عود السلطان إلى بغداد، فى سنة تسع وأربعين، فخرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، وأبلغه سلام الخليفة، واستيحاشه، فقبّل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاما من ذهب فيه جواهر، وألبسه فرجية جاءت معه من عند الخليفة، فلبسها، ووضع العمامة على مخدّته، فقبل السلطان الأرض، ولم يمكن أصحابه من النزول فى دور الناس، وطلب الاجتماع مع الخليفة فأذن له في ذلك، وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذى القعدة من السنة جلوسا عاما، وحضر وجوه عسكر السلطان، وأعيان بغداد، وحضر السلطان والخليفة جالس على سرير عال من الأرض، نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبى صلى الله عليه وسلّم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل(26/294)
السلطان الأرض ويد الخليفة، وأجلس على كرسى، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولّاك جميع ما ولّاه الله من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده، فاتّق الله فيما ولّاك، واعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية، فقبّل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه، وعاد فقبل يد الخليفة، ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطى العهد، وخرج، فأرسل إلى الخليفة هدية كبيرة، منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكا أتراكا، من أجود ما يكون بخيولهم وسلاحهم، وغير ذلك من الثياب، وغيرها.
ذكر مفارقة ابراهيم ينال الموصل وما كان من أمره الى أن قتل
وفي سنة خمسين وأربعمائة فارق إبراهيم ينال الموصل، وتوجه نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان رحيله إلى [العصيان] «1» وأرسل إليه يستدعيه، وبعث الفرجية التى خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة أيضا إليه كتابا، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندرى «2» لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع، ولما فارق إبراهيم الموصل استولى عليها البساسيرى، كما قدمناه،(26/295)
فسير السلطان إليها جريدة في ألفى فارس، وكان قد فرق عساكره بسبب النوروز، ففارقها البساسيرى ومن معه، فسار السلطان إلى نصيبين، ليتبع آثارهم، ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصل إليها، لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وقد قيل: إن المستنضر كاتبه، وكاتب البساسيرى، وأطمعه في السلطنة والبلاد، ففعل ذلك، وسار السلطان في أثره، وهو في قلّة من العسكر، وكان إبراهيم قد اجتمع له كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلّفهم المسير إلى العراق، فلم يقو السلطان «1» له، وأتى إلى إبراهيم محمد، وأحمد ابنا أخيه [أرتاش] «2» في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفا، فانزاح بين يديه إلى الرى، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتى [وقاورد] «3» بك أولاد أخيه، وكان داود قد مات على ما نذكره، وملك بعده ابنه أرسلان خراسان، واستدعاهم، فقدموا إلى عمّهم طغرلبك بالعساكر الكثيرة، فلقى إبراهيم بالقرب من الرى، فانهزم إبراهيم، ومن معه، وأخذ أسيرا هو، ومحمد، وأحمد ابنا أخيه، فأمر السلطان به، فخنق بوترقوسه في تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدى أخيه، وفي أثناء هذه السنة عند اشتغال السلطان طغرلبك بحرب أخيه إبراهيم، استولى(26/296)
البساسيرى على بغداد، وأخرج الخليفة منها، وكان ما قدمناه في أخبار القائم بالله، وكان إبراهيم ينال قد خرج على أخيه مرارا، وهو يقدر عليه، ويعفو عنه، وإنما قتله في هذه الواقعة لأنه علم أن الذى جرى على الخليفة كان بسببه، ولما فرغ طغرلبك من أمر أخيه، عاد إلى العراق، وأعاد الخليفة إلى بغداد، وكان ما قدمناه من مقتل البساسيرى.
ذكر وفاة جغرى «1» بك داود صاحب خراسان، وملك ابنه ألب أرسلان
كانت وفاته في شهر رجب سنة إحدى وخمسين، وقيل في صفر سنة اثنين وخمسين وأربعمائة، وعمره نحو سبعين سنة، كان له خراسان، وكان حسن السيرة معترفا بنعمة الله عليه، شاكرا عليها؛ فمن ذلك أنه أرسل إلى طغرلبك مع عبد الصمد قاضى سرخس، يقول:
قد بلغنى إخرابك للبلاد التى فتحتها وملكتها، وجلاء أهلها عنها، وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى، فى بلاده وعباده، وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة، وإيحاش الرعية، وقد علمت أننا لقينا أعداءنا، ونحن في «2» ثلاثين رجلا، وهم في ثلاثمائة، فغلبناهم، ثم كنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، ثم كنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفا، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك،(26/297)
وهو في أعداد كثيرة فقهرناه، وأخذنا مملكتة بخوارزم، وهرب بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به، وأسرناه، وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان، وسجستان، وصرنا ملوكا متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضى نعم الله علينا أن نقابلها بهذه المقابلة، فقال طغرلبك: قل له في الجواب:
يأخى أنت ملكت خراسان، وهى بلاد عامرة، فخربتها، ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها، وأنا وردت بلادا أخربها من تقدمنى، واجتاحها من كان قبلى، فما أتمكن من عمارتها، والأعداء محيطة بها، والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر، فلا يمكن دفع مضرتهم عنها.
ولداود مناقب كثيرة، وكان له من الأولاد: ألب أرسلان، وياقوتى، وسليمان، وقاورد بك. ولما مات ملك بعده ابنه ألب أرسلان، وتزوج طغرلبك بزوجة أخيه داود، وهى والدة سليمان، ووصّى له بالملك بعده، وفي سنة اثنين وخمسين توفيت زوجة السلطان طغرلبك، فوجد عليها وجدا شديدا، ونقل تابوتها إلى الرى.
ذكر زواج السلطان طغرلبك بابنة الخليفة
وفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة عقد السلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله، وكانت الخطبة تقدّمت في سنة ثلاث وخمسين، مع أبى سعيد «1» قاضى الرى، فانزعج الخليفة من ذلك،(26/298)
[وأرسل] «1» فى الجواب أبا محمد التميمى، وأمره أن يستعفى، فإن أعفى والآكمّ الأمر، على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار، ويسلم «واسط» وأعمالها، فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الكندرى الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء، فقال: لا يحسن أن يردّ السلطان، وقد سأل وتضرّع، ولا يجوز أيضا مقابلته بطلب الأموال والبلاد، فهو يفعل أضعاف ما طلب منه، فقال له:
التميمى: الأمر لك، ومهما فعلته فهو الصواب. فبنى الأمر على الإجابة، وطالع به السلطان، [فسرّ به] «2» وجمع الناس، وعرفهم أن همّته قد سمت إلى الإتصال بهذه الجهة النبوية، وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك، وتقدّم إلى الوزير عميد الملك أن يسير، ومعه أرسلان خاتون ابنة أخيه داود، وهى زوجة الخليفة القائم بأمر الله، وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم «3» الجمل، وما شاكلها من الجواهر، وغيرها، ووجه معه فرامرز «4» بن كاكويه، وغيره من وجوه الأمراء، وأعيان الرى، فلما وصلوا امتنع الخليفة من الإجابة، وقال: إن أعفينا، وإلا خرجنا من بغداد، فقال عميد الملك: «كان الواجب الامتناع من غير اقتراح وعد «5» الإجابة إلى ما طلب، فالامتناع سعى على دمى» ، وأخرج خيامه إلى النهروان فاستوقفه قاضى القضاة، والشيخ أبو منصور بن يوسف فانهيا إلى(26/299)
الخليفة عاقبة انصرافه، فكتب الخليفة إلى عميد الملك يقول:
نحن نرد الأمر إلى رأيك، ونعوّل على أمانتك ودينك، فحضر يوما عند الخليفة، ومعه جماعة من الأمراء، والحجّاب، والقضاة والشهود، فتكلم، وقال للخليفة: أسأل مولانا أمير المؤمنين، التطوّل بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه ركن الدين فيما رغب ليعرفه الجماعة، فغالطه، وقال: قد سطر في المعنى ما فيه كفاية، فانصرف عميد الملك، ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وأخذ المال معه إلى همذان، فكتب السلطان إلى قاضى القضاة، وإلى الشيخ أبى منصور بن يوسف يعتب، ويقول:
هذا جزائى من الخليفة الذى قتلت أخى في خدمته، وأنفقت مالى فى نصرته، وأهلكت خواصّى في محبته، وأطال العتاب، فعاد الجواب بالاعتذار، وطلب السلطان طغرلبك ابنة أخيه زوجة الخليفة؛ لتعاد إليه، وجرى ما كاد يقضى إلى الفساد الكلى، فلما رأى الخليفة شدّة الأمر أذن في ذلك، وكتب الوكالة باسم عميد الملك الوزير، وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز، وهذا ما لم يجر مثله، فإن بنى بويه مع تحكّمهم على الخلفاء ما طمعوا بمثل هذا، وحمل السلطان أموالا كثيرة، وجواهر نفيسة للخليفة، ولولى العهد، وللجهة المطلوبة، ولوالدتها، وغيرهم.(26/300)
ذكر وصول السلطان الى بغداد ودخوله بابنة الخليفة
وفي سنة خمس وخمسين وأربعمائة في المحرم توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد، وأراد الخليفة أن يستقبله، فاستعفى من ذلك، ووصل عميد الملك إلى الخدمة، وطالب بالجهة، فقيل له: خطك موجود بالشرط، وأن المقصود بهذه الوصلة التشريف لا الإجتماع «1» ، وإنه إن كانت مشاهدة، فتكون في دار الخلافة، فقال للخليفة: السلطان يفعل هذا، ولكن يفرد له من الدور والمسكن ما يكفيه، ومن خواصّه، وحجابه، ومماليكه، فإنه لا يمكنه مفارقتهم، فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر، وجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل السلطان إليها، وقبل الأرض، وخدمها، ولم يكشف الخمار عن وجهها، ولا قامت هى له، وحمل لها أشياء كثيرة من الجواهر، وغيرها، وبقى يحضر فى كل يوم، ويخدم، وينصرف، وعمل السّماط عدّة أيام، وخلع على عميد الملك، وجميع الأمراء.
ذكر وفاة السلطان طغرلبك وشىء من سيرته
كانت وفاته بالرىّ في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان سنه خمس وخمسين وأربعمائة، وكان قد سار من بغداد في شهر ربيع الأول إلى بلد الجبل، ومعه أرسلان خاتون ابنة أخيه داود،(26/301)
وهى زوجة الخليفة لأنها شكت إليه اطّراح الخليفة لها «1» ، واتفق مرضه، فمات، ونقل إلى مرو، ودفن عند قبر أخيه داود، وكان عمره سبعين سنة تقريبا، ومدة ملكه منذ خطب له بنيسابور في شعبان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وإلى أن توفى سبعة وعشرين سنة، وأياما، ومنذ ملك بغداد سبع سنين، وأحد عشر شهرا، واثنا عشر يوما، وكان عاقلا حليما من أشد الناس احتمالا، وأكثرهم كتمانا لسره، وكان يحافظ على الصلوات، ويصوم الإثنين، والخميس، وكان ملبسه البياض إلا أنه كان فيه ظلم وقساوة، وكان أصحابه يغصبون الناس أموالهم، وأيديهم مطلقة في ذلك، فلا يمنعهم، وكان عقيما لم يولد له، وزراؤه: أول من وزر له أبو القاسم على بن عبد الله الجوينى في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، ثم وزر بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين بن على بن ميكائيل، ثم وزر له بعده نظام الملك، ثم وزر له بعده عميد الملك أبو نصر الكندرى، وهو أشهر وزرائه، وإنما اشتهر دون غيره من وزرائه؛ لأن السلطان طغرلبك عظمت دولته فى وزارته، وملك العراق «2» ، وخطب له بالسلطنة. وقد تقدم من أخبار هذا الوزير ما يدل على تمكنه، والله أعلم.(26/302)
ذكر أخبار السلطان عضد الدولة
هو ألب أرسلان أبو شجاع محمد بن جغرى بك داود بن ميكائيل ابن سلجق، وهو الثانى من ملوك الدولة السلجقية، ومعنى اسمه رجل أسد، واللام والباء في ألب مفخمتان. ملك خراسان بعد وفاة أبيه دواد في شهر رجب سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وقيل فى صفر سنة اثنتين وخمسين، وملك العراق وغيره بعد وفاة عمه السلطان طغرلبك في سنة خمس وخمسين، وكان طغرلبك قد نصّ على توليه سليمان ابن أخيه داود أخى ألب أرسلان لأن أمه كانت عنده، فتبع هواها فيه، فلما مات السلطان طغرلبك نفذ الوزير عميد الملك وصيته فيه، وأجلس سليمان في السلطنة، فاختلف الأمراء عليه، ومضى بعضهم إلى قزوين، وخطب لعضد الدولة، فلما رأى عميد الملك فساد الحال، وميل الناس إلى عضد الدّولة، أمر بالخطبة له بالرىّ، ثم من بعده لسليمان، وما اتصل بألب أرسلان الخبر بوفاة عمه جمع العساكر، وسار نحو الرى، فلما قرب منها خرج إليه الوزير عميد الملك، وأظهر طاعته، واستقرت السلطنة له بمفرده.(26/303)
ذكر القبض على عميد الملك الوزير وقتله
قال: ولما استقر ملك عضد الدولة، قبض على الوزير عميد الملك الكندرى، وسبب ذلك أنه لما رأى ميل الناس إليه، وانقيادهم لأمره خافه، فأمر بالقبض عليه، وأنفذه إلى مرو الروذ، واعتقله بها سنة، ثم أمر بقتله، وكان هذا الوزير كثير البغض للشافعى وأصحابه، وكان خصيّا «1» خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب له امرأة، فتزوّجها، وعصى عليه، فلما ظفر به خصاه، وأقره على خدمته، وقيل: بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوّجها، فخصى نفسه ليبرأ مما قيل فيه. قال المؤرخ: ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصى، ودمه مسفوح بمرو، وجسده مدفون بكندر «2» ، ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان، ولما عرض على القتل، قال لقاتله: قل لنظام الملك بئسما عودت الأتراك قتا الوزراء، وأصحاب الديوان، قال: ولما قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أمر بعودة ابنة الخليفة إلى بغداد، وأعلمها أنه ما قبض عليه إلا لكونه «3» نقلها من بغداد إلى الرى بغير رضا الخليفة، وأمر الأمير أيتكين السليمانى بالمسير في خدمتها [والمقام] «4» شحنة ببغداد، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة «5»(26/304)
المعروف بابن الموفق، وأمره بالسير في الصحبة، ومخاطبة الخليفة فى الخطبة له، فمات بالجدرى قبل وصوله، فأرسل العميد أبا الفتح بن المظفر بن الحسين، فمات أيضا في الطريق، فأرسل رئيس العراقيين «1» ، فوصل إلى بغداد في نصف شهر ربيع الآخر، واقترح السلطان أن يخاطب: بالولد المؤيد، فأجيب إلى ذلك، ولقب ضياء الدين عضد الدولة، وجلس الخليفة جلوسا عاما في سابع جمادى الأولى، وشافه الرسل بسلطنة ألب أرسلان، وسلمت الخلع، عليهم، وأرسل من الديوان لأخذ البيعة النقيب طرادا الزينبى؛ فوصلوا إليه، وهو بنقجوان «2» من أذربيجان، فلبس الخلع، وبايع الخليفة.
ذكر ملك عضد الدولة ختلان، وهراه، وصغانيان
كان أمير ختلان بعد وفاة السلطان طغرلبك عصى بالقلعة، ومنع الخراج، فقصده السلطان، فوجد الحصن منيعا، فحاصره، ثم قتل صاحب الحصن بسهم جاءه، وهو على شرفة من شرفات السور، فهلك، وملك ألب أرسلان الحصن، وكان فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة، فعصى أيضا عليه، وطمع في الملك لنفسه، فسار إليه، وحصره، وضيق عليه، وأدام القتال ليلا ونهارا، فسلم(26/305)
المدينة، وخرج إلى ابن أخيه، فأكرمه، وسار إلى صغانيان «1» ، وأميرها موسى، وكان قد عصى عليه، فلما وصل لم ينتصف النهار حتى ملك القلعة قهرا، وأمر بقتل موسى، فبذل في نفسه أموالا كثيرة، ثم عاد السلطان إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور.
ذكر الحرب بين السلطان وبين شهاب الدولة قتلمش وموته
كان شهاب الدولة قتلمش بن سلجق قد عصى على طغرلبك، فلما مات جمع عساكره، وقصد الرى، واستولى عليها، فسار السلطان من نيسابور في أول المحرم سنّة ست وخمسين، فوصل إلى دامغان، وأرسل قتلمش يتنكر عليه، وينهاه، فأجاب بجواب غير مرض، ونهب قرى الرىّ، وأجرى الماء على وادى الملح، وهى سبخة، فتعذر على السلطان سلوكها، فجاء، وخاض في الماء بعسكره، ولقيه، واقتتلوا، فلم تثبت عسكر قتلمش، ومضى هو إلى قلعة كردكوه، وكانت من حصونه، واستولى القتل والأسر على عسكره، ثم عفا السلطان عنهم بشفاعة نظام الملك، فلما سكن الغبار، ونزل العسكر، وجد قلتمش ميتا لم يدر كيف كان موته، فقيل إنه مات من الخوف، فبكى السلطان لموته، وجلس لعزائه، وعظم عليه فقده، وقتلمش هذا هو جد الملوك السلجقية ملوك الروم، وكان قتلمش يعلم علم النجوم، يعلمه أولاده من بعده، فزادوا فيه، فنالهم به غضاضة في دينهم.(26/306)
ذكر فتح مدينة آنى، وغيرها من بلاد النصرانية
قال: وسار ألب أرسلان من الرى إلى أذربيجان في أول شهر ربيع الأول، وقد عزم على جهاد الروم، وغزوهم، فأتاه أمير من الروم كان يكثر غزوهم اسمه طغركين «1» ، ومعه من عشيرته خلق كثير قد ألفوا الجهاد، وخبروا تلك البلاد، وحثه على قصد بلاد الروم، وضمن له سلوك الطريق المستقيم، فسار معه فوصل إلى نفجوان، وأمر بعمل السّفن لعبور النهر، وجمع العساكر، وسار إلى بلاد الكرج، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه، والوزير نظام الملك، فساروا إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم، فحاصروها، فملكها المسلمون، وقتل أميرها، وساروا منها إلى قلعة سمارس «2» .
وهى قلعة فيها الأنهار الجارية، والبساتين، فملكوها، وفتحوا قلعة أخرى بالقرب منها، وشحنوها بالرجال والذخائر والأموال، والسلاح وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان، ثم سار إلى مدينة مريم ونسين، وفيها كثير من الرهبان والقسوس، وملوك النصارى، وعامتهم يتقربون لأهل هذه البلد، وهى مدينة حصينة، وسورها من الحجر المبنى بالرصاص والحديد، وعندها نهر كبير؛ فأعدّ نظام الملك السفن لقتال من بها، وداوم القتال ليلا ونهارا إلى أن يسّر الله فتحها، وأحرقوا البيع، وقتلوا كثيرا من أهلها، وأسلم كثير، فنجوا(26/307)
من القتل، ثم استدعى السلطان ابنه، والوزير، فسارا إليه، ففرح بما يسّره الله من الفتح على يد ملكشاه ابنه، وفتح عدة من الحصون فى طريقه، وأسر من النصارى ما لا يحصى كثرة، وساروا إلى سيبد سهر، فجرى بين أهلها، وبين المسلمين حروب شديدة، ثم يسّر الله فتحها، وملكها السلطان، وسار منها إلى مدينة أعال لال، وهى حصينة عالية الأسوار شاهقة، وهى من جانبيها الشرقى والغربى على جبل عال، وعليه عدّة من الحصون، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض، وكان ملكها من الكرج، فجرى عليها حروب عظيمة، ويسّر الله فتحها، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة، فأحرقه السلطان بالنار، وغنم المسلمون من المدينة ما لا يحصى، وخرجوا إلى خيامهم، فلما جن الليل عصفت الريح، فاحترقت المدينة من نار البرج، وذلك في شهر رجب سنة ست وخمسين وأربعمائة، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب المدينة، وأخذ ما فيها، وسار منها إلى ناحية قرش «1» ، ومدينة آنى وبالقرب منها بسل وورده. وجوده، فخرج أهلها مذعنين معلنين بالإسلام، وخربوا البيع، وبنوا المساجد، وسار منها إلى مدينة آنى، فرآها حصينة لا ترام. ثلاثة أرباعها على نهر أرس «2» ، والربع الآخر على نهر عميق شديد الجرية لو طرحت الحجارة فيه لحملها، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصمّ، وهى مدينة(26/308)
عامرة آهلة، فحصرها، وضيّق على من بها إلا أن المسلمين أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها، فأتى من لطف الله تعالى ما لم يكن في حساب، وانهدم من السّور قطعة كبيرة لم يعلم سبب هدمها، فدخل المسلمون في المدينة، وقتلوا من أهلها ما لا يحصى كثرة، وأسروا نحوا مما قتلوا، وسارت البشائر بهذا الفتح في البلاد، وقرئ كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان، والدعاء له، فرتّب السلطان بالمدينة أميرا في عسكر جرار، وعاد عنها، وقد راسله ملك الكرج في الهدنة، وصالحه على أداء الجزية في كل سنة، وعاد السلطان إلى أصفهان، وكرمان، ثم إلى مرو، وزوج ابنة ملكشاه بابنة خاقان ملك ما وراء النهر، وزفت إليه في هذه السنة، وزوّج ابنه أرسلان شاه بابنة صاحب غزنه، فاتحد البيت السلجقى والمحمودى، واتفقت الكلمة.
وفي سنة سبع وخمسين وأربعمائة ابتدئ بعمارة المدرسة النظامية ببغداد، وكملت عمارتها في سنة تسع وخمسين، وتقرر التدريس بها للشيخ أبى اسحاق الشيرازى، فلما اجتمع الناس لحضور الدروس طلب، فلم يوجد، وكان سبب تأخره أنه لقيه صبّى، فقال: «كيف تدرس في مكان مغصوب؟» ، فلم يحضر، فلما أيس الناس من حضوره درس بها أبو نصر الصبّاغ صاحب كتاب الشامل، ثم تلطف نظام الملك بالشيخ أبى إسحاق، حتى درّس بها بعد عشرين يوما.(26/309)
ذكر تقرير ملكشاه في ولاية العهد بالسلطنة من بعد أبيه وتقرير البلاد باسم أولاد السلطان وأخوته
وفي سنة ثمان وخمسين وأربع مائة سار السلطان ألب أرسلان من مرو إلى [أرزكان] «1» ، ونزل بظاهرها، ومعه جماعة من أمراء دولته، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان من بعده، وركبه، ومشى بين يديه يحمل الغاشية «2» ، وخلع السلطان على جميع الأمراء، وأمر بالخطبة له في جميع بلاده، وأقطع البلاد:
ومازندران للأمير أينانج بيغو، وبلخ لأخيه سليمان بن داود جفرى بك، وخوارزم لأخيه أرسلان [أرغو] «3» ومرو لابنه أرسلان شاه، وصغانيان وطخارسان لأخيه إلياس، وولاية بغشور «4» ، ونواحيها لمسعود بن أرتاش، وهو من أقارب السلطان.(26/310)
ذكر عصيان ملك كرمان، وعوده الى الطاعة، وطاعة حصون فارس
وفي سنة تسع وخمسين وأربعمائة. عصى قرار أرسلان ملك كرمان على السلطان، ونزع الطاعة، وسبب ذلك أن وزيره حسّن له هذا الفعل، فظن أنه يقدر على الاستبداد بالأمر، فسار السلطان ألب أرسلان إليه، والتقت مقدمته بمقدمته، فانهزم أصحاب قرا أرسلان بعد قتال، وسار لا يلوى على شىء، فوصل إلى قلعة، وامتنع بها، وراسل السلطان في طلب الأمان، وبذل الطاعة، فأمّنه، وحضر إليه، فأكرمه، وأعاده إلى مملكته، فقال قرا أرسلان للسلطان: إن لى بنات، وقد جعلت أمرهنّ إليك، وتجهيزهن، فأعطى السلطان إلى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب، ثم سار السلطان منها إلى فارس، فوصل «اصطخر» ، وفتح قلعتها، واستنزل واليها، فحمل إليه الوالى هدايا عظيمة جليلة المقدار من جملتها قدح فيروزج مكتوب عليه اسم جمشيد الملك، وأطاعه جميع حصون فارس، وبقيت قلعة هناك يقال لها: بهبزاذ «1» ، فسار نظام الملك إليها، وحصرها، ففتحها في اليوم السادس «2» عشر من منازلتها «3» ، ووصل السلطان إليها بعد الفتح، فعظم محل نظام الملك عنده، وعلت منزلته، وزاد في تحكمه، والله أعلم بالصواب.(26/311)
ذكر اقامة الخطبة بحلب
وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة خطب تاج الملوك محمود بن نصر بن «1» مرداس بحلب للخليفة القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان، وسبب ذلك أنه لما رأى انتشار الدولة السلجقية، وقوتها، وإقبالها، جمع أهل حلب، وقال: هذه دولة جديدة، ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلون دماءكم لأجل مذهبكم، والرأى أن نقيم الخطبة قبل أن يأتى وقت لا ينفعنا فيه ذلك، فأجاب مشايخ البلد، ولبس المؤذنون السواد، وخطب لهما، فأخذت العامة حصر الجامع، وقالوا: هذه حصر على بن أبى طالب، فليأت أبو بكر بحصر يصلى عليها بالناس، وأرسل الخليفة: إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبى، والله أعلم.
ذكر استيلاء السلطان على حلب
وفي سنة ثلاث وستين أيضا سار السلطان إلى حلب، وجعل طريقه على ديار بكر، فخرج إليه صاحبها نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار، وحمل إليه إقامة بلغ السلطان أنه بسطها على البلاد فأمر بردّها، ووصل إلى آمد، فرآها ثغرا منيعا، فتبرك به، وجعل يمر بيده على السور، ويمسح بها صدره، وصار إلى الرّها، فحصرها، فلم يظفر منها بطائل، فسار إلى حلب، فسأل صاحبها محمود نقيب(26/312)
النقباء رسول الخليفة أن يخرج إليه، ويعلمه أنه لبس بخلع الخليفة واستعفاه من الحضور، فقال: لا بد من حضوره، وأن يبطل الأذان بحى على خير العمل، فامتنع محمود، واشتد الحصار على البلد، وغلت الأسعار، وزحف السلطان يوما، فوقع حجر منجنيق [على] «1» فرسه، فلما عظم الأمر على محمود صاحب حلب خرج ليلا هو وأمه، ودخلا على السلطان، وقالت له: هذا ولدى تفعل به ما تحب، فتلقاهما بالجميل، رأحسن إلى محمود، وخلع عليه، وأعاده.
ذكر خروج ملك الروم الى خلاط وأسره
ولما عاد السلطان من حلب وصل إلى مدينة «خوىّ» من أذربيجان، فبلغه خروج أرمانوس ملك الروم في مئتين ألوف من الروم، والفرنج والعرب المتغره «2» ، والكرج، والروس، وغيرهم من طوائف تلك البلاد، وأنه وصل إلى بلاد «خلاط» ، فلم يتمكن السلطان من جمع العساكر لبعدها، وقرب العدو، فسيّر أثقاله مع نظام الملك إلى همذان، وسار هو، فيمن معه من العسكر، وهم خمسة عشر ألف فارس «3» ، وجد في السير، وجعل له مقدمة، فالتقت بمقدمة العدو، وهم عشرة آلاف فارس من الروس، فقاتلوهم، فانهزم الروس، وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان، فجدع أنفه، وأرسل إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فأجاب: لا هدنة إلا «بالرى» ،(26/313)
فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة ركب السلطان، وقال لأصحابه:
من أراد الانصراف، فالينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وبكى، وأبكى، ورمى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت، فهذا كفنى، وذلك لخمس بقين من ذى القعدة سنة ثلاث وستين، وزحف إلى الروم، وزحفوا له، فلما قاربهم ترجّل، وعقر وجهه في التراب، وبكى، وأكثر من الدعاء، ثم ركب وحمل، فأعطى الله النصر للمسلمين، فقتلوا من العدو ما لا يحصى كثرة، وأسر ملك الروم، أسره بعض غلمان كوهراتين، ولم يعرفه، وأراد قتله، فقال له خدم معه: هذا الملك لا تقتله، وكان هذا الغلام قد عرض على عضد الدولة، فلم يجز عرضه استحقارا له، فشكره كوهراتين، فقال نظام الملك: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرا، فكان كذلك، فلما أسره الغلام أحضره إلى مولاه كوهراتين، فأحضره إلى السلطان، فضربه السلطان ثلاث ضربات بالمقرعة، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة، فأبيت، فقال: دعنى من التوبيخ، وافعل ما تريد، فقال السلطان: ما عزمت أن نغفل بى إن أسرتنى؟ فقال: كنت أفعل كل قبيح، قال:
فما تظن أنى أفعل معك؟ فقال: إما أن تقتلنى، وإما أن تشهرنى في البلاد، والأخرى بعيدة، وهى العفو، وقبول الأموال، واصطناعى باتباعك، وقال: ما عزمت على غير هذا، ففدى نفسه بألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وقطيعة في كل سنة ثلاثمائة ألف وستين ألف(26/314)
دينار، وإطلاق كل أسير في بلاد الروم من «1» المسلمين، وأن ينفذ إليه عساكر الروم متى طلبها، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله السلطان في خيمة، وأطلق له جماعة من أسر من البطارقة، وخلع عليه من الغد، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، وقام ملك الروم إلى جهة الخليفة، وكشف رأسه، وأومأ إلى الأرض بالخدمة، ثم جهز السلطان معه عسكرا يوصله إلى مأمنه، وشيّعه فرسخا، وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة، وملك البلاد، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوفنه «2» ، بلغه الخبر، فلبس الصوف، وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر بينه وبين السلطان، فأجاب ميخائيل بإيثار ما استقر، وجمع أرمانوس ما عنده من المال، فكان مائة ألف دينار «3» ، وطبق عليه جواهر بتسعين ألف دينار، فحمل ذلك إلى السلطان، وحلف أنه لا يقدر على غيره، ومضى أرمانوس بمن معه إلى بلاد الأرمن، فملكها، وقتل ملكها، وأرسل رأسه إلى بغداد، ودعا للسلطان بها.(26/315)
ذكر ملك أتسز بيت المقدس «1» والرملة ودمشق
وفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة قصد [أتسز بن أوق] «2» الخوارزمى، وهو من أمراء السلطان ملكشاه، فجمع الأتراك، وسار إلى فلسطين، ففتح الرملة، وسار منها إلى بيت المقدس «3» ، وحصره، وفيه عساكر المصريين، ففتحه، وملك ما يجاورهما «4» من البلاد ما عدا عسقلان، وقصد دمشق، فحصرها، وتابع النهب لأعمالها حتى خرّبها، وقطع الميرة عنها، ولم يقدر عليها، ثم فتحها في سنة ثمان وستين وأربعمائة في سلطنة ملكشاه في خلافة المقتدى، وذلك أنه جعل يغير عليها في كل سنة، ويقصد أعمالها عند إدراك المغل «5» ، فيقوى هو وعسكره، ويضعف أهل دمشق وجندها، ثم حصر دمشق في شهر رمضان سنة سبع وستين، وأميرها يوم ذاك المعلّى بن حيدره من قبل المستنصر صاحب مصر، فعجز عن فتحها، فانصرف عنها في شوال، واتفق أن أميرها المعلى أساء المسيرة مع الجند والرعية، فثار به العسكر، فهرب إلى «بانياس» ، ثم منها إلى «صور» ، ثم سار إلى مصر، فحبس بها حتى مات، ولما هرب من دمشق اجتمعت(26/316)
المصامدة، وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودى المعروف: بزوين «1» الدولة، واتفق وقوع غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضا، ووقع الخلف بين المصامدة، وبين أحداث البلد، فعاد أتز «2» إلى دمشق، ونازلها في شعبان سنة ثمان وستين، وحصرها حتى عدمت الأقوات، فتسلمها عند ذلك بالأمان، ودخلها بعسكره في ذى القعدة، وخطب بها للمقتدى لخمس بقين من الشهر، وعوض عنها انتصار بقلعة بانياس، ومديتة «يافا» من الساحل.
ذكر تزويج ولى العهد بابنة السلطان
وفي سنة أربع وستين وأربع مائة، أرسل الخليفة القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير إلى السلطان بالخلع له، ولولده ملكشاه، وأمره أن يخطب سفرى خاتون ابنة السلطان لولى العهد المقتدى بأمر الله، ففعل ذلك، فأجيب إليه، وعقد النكاح بظاهر نيسابور، وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح، ونظام الملك الوكيل من قبل السلطان وكان النثار من الجوهر.
ذكر ملك السلطان قلعة فضلون
وفي هذه الستة سير السلطان الوزير نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمتع حصونها، وفيه صاحبه فضلون، وهو لا يعطى الطاعة، فنازله، وحاصره، فامتنع، وقاتل، فلم تطل(26/317)
المدة حتى نادى أهل الحصن بطلب الأمان بغير سبب ظاهر ولا قتال، وظهر أن «1» سبب ذلك أن جميع آبار الحصن غارت مياهها في ليلة واحدة، فأمنهم نظام الملك، وتسلّم الحصن، وهرب فضلون إلى القلعة، ثم قبض عليه «2» وجيء به إلى السلطان، فأحسن إليه، وأمته، وأطلقه.
ذكر مقتل السلطان عضد الدولة ألب أرسلان، وشىء من سيرته
وفي سنة خمس وستين وأربعمائة قصد السلطان ما وراء النهر، فعقد جسرا على جيحون، وعبر عليه في نيف وعشرين يوما، وكان عسكره يزيد على مائتى ألف فارس، وكان ببعض القلاع رجل خوارزمى اسمه يوسف قد عصى، وتحصّن بالقلعة، فبعث إليه السلطان جماعة، فحاصروه، وأخذوه، وأتوا به إلى السلطان، فأمر أن تضرب له أربعة أوتاد، وتشدّ أطرافه إليها، فقال يوسف: يا مخنّث، مثلى يقتل هذه القتلة؟ فغضب لذلك، وأخذ القوس والنشاب، ورماه ثلاث مرّات، وهو يخطىء، وكان لا يخطىء في رميه، فوثب يوسف، وضربه بسكين في خاصرته، وأدركه الجند، فقتلوه، وسدّ جرح السلطان، وعاد إلى جيحون وقال: ما من وجه قصدته، وعدوّ أردته إلا استعنت «3» بالله عليه، فلما كان بالأمس صعدت(26/318)
على تل؛ فارتجت الأرض تحتى من عظم الجيش، فقلت في نفسى:
أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد على، فعجزّنى الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله، وأستقيله من هذا الخطأ، وأحضر الوزير نظام الملك، والجند، وأوصاهم بولده ملكشاه، واستحلفهم له.
وتوفى في عاشر شهر ربيع الأول، وحمل إلى «مرو» ، فدفن بها عند أبيه، وكان مولده في سنة أربع وعشرين، فكان عمره أربعين سنة وشهورا، وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة تسع سنين، وستة أشهر، وأياما.
وكان كريما عادلا عاقلا لا يسمع السعايات، وكان رحيم القلب، رفيقا بالفقراء، كثير الصدقة، تصدّق في شهر رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق من الفقراء في جميع مملكته عليهم الإدرارات، والصلات، ولم يسمع عنه بمصادرة بل قنع بالخراج والغنائم، قيل: إن بعض السعاة كتب إليه سعاية في نظام الملك الوزير، وذكر ما له من الرسوم والأموال، وترك الرقعة على مصلاه، فقرأها، ثم سلمها إلى نظام الملك، وقال له: إن كانوا صدقوا في الذى ذكروا، فحسن أخلاقك، وإن كانوا كذبوا فاغفر لهم زلتهم، وأشغلهم بمهمّ يشتغلون به عن السعاية بالناس، وناهيك بهذه مكرمة. «1»
وكان له من الأولاد: ملكشاه، وتكش، وإيار، وتتش،(26/319)
وأرسلان «1» أرغو، وتوزى «2» برش، وساده، وعائشه، وبنت أخرى.
وزيره: نظام الملك.
ولما وصل الخبر إلى بغداد بموته حبس الوزير فخر الدولة بن [جهير] «3» للعزاء في صحن دار السلام، وملك بعده ابنه.
ذكر أخبار السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن جغرى بك داود بن ميكائيل بن سلجق
وهو الثالث من ملوك الدولة السلجقية.
ملك بعد وفاة أبيه في عاشر ربيع الأول سنة خمس وستين وأربعمائة، وكان والده قد حلّف له العساكر كما قدمناه، وكان ملكشاه قد صحب والده في هذه السّفرة، ولم يصحبه في سفرة غيرها، فأوصاه والده أن يعطى عمه قاورد «4» بك بن داود أعمال فارس، وكرمان، وشيثا عيّنه من المال، وأن يزوج زوجته، وكان قاورد بك بكرمان، وأوصى بأن يعطى ابنه إياز ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وقال: من لم يرض بما أوصيت له(26/320)
به، فقاتلوه، واستعينوا على حربه بما جعلت له، وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر، وقد تولّى تدبير دولته الوزير نظام الملك وزير أبيه، فعبر النهر في ثلاثة أيام، وزاد الأجناد سبعمائة ألف دينار، وعاد إلى خراسان، وقصد نيسابور، ومنها إلى الرى، وكتب إلى ملوك الأطراف بإقامة الخطبة له، فخطب له. والله أعلم.
ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وبين عمه قاورد بك
قال: ولما بلغ قاورد بك وفاة أخيه، وكان بكرمان قصد الرى ليستولى على المملكة، فسبقه إليها ملكشاه ونظام الملك، وسارا منها، فالتقوا بالقرب من همذان في رابع شعبان، واقتتلوا، فانهزم قاورد بك وعسكره، ثم أسر، وجيىء به إلى السلطان، فأمر بخنقه، وأقرّ كرمان بيد أولاده، وسيّر لهم الخلع، فملك سلطان شاه بن قاورد بك كرمان «1» ، وفوض السلطان جميع أمور دولته إلى نظام الملك الوزير، ولقبه ألقابا من جملتها: أتابك، ومعناه: الأمير الوالد، وأقطعه إقطاعا وافرا زيادة على ما كان له، من جملته طوس، وأحسن السيرة، وظهر من عدله ما لا مزيد عليه، وفي سنة ست وستين وأربعمائة.
فى ثالث صفر. ورد كوهراتين «2» إلى بغداد من قبل السلطان ملكشاه، فجلس الخليفة القائم بأمر الله له مجلسا عاما، وسلم إليه عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة واللواء، وعقده الخليفة بيده، وفيها(26/321)
استعاد السلطان ترمذ من خاقان تكين «1» وكان قد غلب عليها لما مات ألب أرسلان، فلما استقامت الأمور لملكشاه حصرها، واستعادها، وأخذ منها «2» أخ الخاقان، فأكرمه، وأطلقه، وقصد سمرقند، ففارقها صاحبها، فأرسل يطلب المصالحة، واعتذر من تعرضه إلى ترمذ، فوقع الصلح بينهما، وعاد السلطان، وأقطعه بلخ، وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش.
ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان
وفي شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة سار ملكشاه إلى الرى، وعرض العسكر، وأسقط منهم سبعة آلاف رجل، فقال له الوزير نظام الملك: هؤلاء الجند لم يكن منهم كاتب، ولا تاجر، ولا خياط وليس لهم صنعة غير الجندية، ولا نأمن أن يقدموا منهم رجلا، ويقولوا هذا السلطان، فيكون لنا منهم شغل، ويخرج عن أيدينا أضعاف ما لهم من الجارى إلى أن تظفر بهم، فلم يقبل السلطان نصحه، وقطعهم، فمضوا إلى أخيه تكش، فقوى بهم، وأظهر العصيان على أخيه، واستولى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرها، وسار إلى نيسابور طمعا في ملك خراسان، فسبقه السلطان إليها، فعاد تكش، وتحصن بترمذ، وأسر جماعة من أصحاب السلطان، فقصده السلطان، فأطلقهم، واستقر الصلح بينهما، ونزل تكش(26/322)
عن ترمذ، ثم عاد إلى العصيان في سنة سبع وسبعين، وأخذه السلطان وسمله.
وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة مات للسلطان ملكشاه ولد اسمه داود، فجزع عليه جزعا شديدا، ومنع من دفنه حتى تغيرت رائحته، وأراد أن يقتل نفسه، فمنعه خواصه.
ذكر قتل أبى المحاسن بن أبى الرضا «1»
وفي سنة ست وسبعين «2» وأربعمائة في شوال قتل سيد الرؤساء أبو المحاسن بن كمال الملك أبى الرضا، وكان قد قرب من السلطان ملكشاه قربا عظيما، وكان أبوه يكتب الطغراء، فقال أبو المحاسن للسلطان: سلم إلىّ نظام الملك وأصحابه، وأنا أحمل إليك منهم ألف ألف دينار، فإنهم يأكلون الأموال، ويقتطعونها «3» ، وعظم عنده ذخائرهم، وأموالهم «4» ، فبلغ ذلك نظام الملك، فعمل سماطا عظيما.
وأقام عليه مماليكه، وهم ألوف من الأتراك، وأقام خيلهم، وجعل سلاحهم على جمالهم، فلما حضر السلطان، قال له: إنى قد خدمتك، وخدمت أباك وجدك، ولى حق خدمة، وقد بلغك أخذى لعشر أموالك، وقد صدق الناقل، هذا أنا آخذه وأصرفه إلى هؤلاء الغلمان الذين جمعتهم لك، وإلى الصدقات، والصلات، والوقوف التى عظم ذكرها،(26/323)
وشكرها، وأجرها لك، وأموالى وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية، فأمر السلطان بالقبض على أبى المحاسن، وأن تسمل عيناه، وأنفذه إلى قلعة نساوة، «1» وسمع أبوه كمال الملك الخبر، فاستجار بدار نظام الملك، فسلم، وبذل مائتى ألف دينار، وعزل عن الطغراء، ورتب مكانه مؤيد [الملك «2» ] بن نظام الملك المقدم ذكره «3» .
ذكر ملك السلطان حلب وغيرها
كان سبب ذلك أن سليمان بن قتلمش السلجقى صاحب الروم فتح أنطاكية، وكان بينه وبين شرف «4» الدولة مسلم صاحب حلب وقعة قتل فيها شرف الدولة، ثم قتل سليمان، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار ملوك الروم السلجقية، فلما وقع ذلك كتب ابن الحبيبى «5» مقدم حلب إلى السلطان ملكشاه يعلمه ذلك، ويستدعيه ليتسلمها خوفا من تتش صاحب دمشق، فسار من أصفهان في جمادى الآخرة سنة ست «6» وسبعين وأربعمائة، وجعل طريقه على الموصل،(26/324)
فوصل إليها في شهر رجب، وسار منها إلى حرّان «1» ، فسلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان محمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرّها، وهى بيد الروم، فحصرها، وملكها وسار إلى قلعة جعبر، فحاصرها يوما وليلة، وملكها، وأخذ صاحبها جعبر، وهو شيخ أعمى، وولديه، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطريق، ويلجئون إليها، ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، وسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار عليه بكبس عسكر السلطان، فامتنع، وقال لا أكسر جاه أخى الذى أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علىّ، وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة والقلعة بعد أن امتنع مالك «2» بن سالم بها، ثم سلمها «3» على أن يعوضه غيرها، فعوضه قلعة جعبر، فبقيت في يده، ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكى على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأرسل الأمير نصر بن على بن منقذ «4» الكنانى صاحب شيزر إلى السلطان، وبذل الطاعة، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأقاميه، فأجابه السلطان إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر، ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آق سنقر، وهو جد نور الدين الشهيد، وقبل تسلمها في سنة ثمانين.(26/325)
ذكر دخول ملكشاه بغداد
كان دخوله إلى بغداد في ذى الحجه سنة سبع «1» وسبعين وأربعمائة بعد رجوعه من حلب، وهو أوّل دخوله إليها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الخليفة، ولعب بالأكرة، ومضى إلى الصيد هو ونظام الملك في البّرية، فاصطاد شيئا كثيرا من الوحوش والغزلان، وغير ذلك، وأمر ببناء منارة بقرون الغزلان، وحوافر الحمر الوحشية التى صادها. قال ابن خلكان في وفيات الأعيان «2» : «والمنارة باقية إلى الآن، وتعرف بمنارة القرون» ، وعاد إلى بغداد، ودخل الخليفة المقتدى، فخلع عليه الخلع السلطانية، وفوض إليه أمر «3» البلاد، والعباد، وأمره بالعدل، وطلب السلطان بأن يقبّل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه، فقبله، ووضعه على عينيه، وأمره الخليفة بالعود، فعاد، ولما خرج من عنده لم يزل الوزير نظام الملك قائما يقدم أميرا أميرا إلى الخليفة. وكلما قدم أمير يقول: هذا العبد فلان، وإقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، فخلع الخليفة على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وسمع الناس عليه الحديث بالمدرسة، وأقام ببغداد إلى صفر سنة ثمانين وسار إلى أصفهان.(26/326)
وفي «1» سنة ثمانين وأربعمائة جعل السلطان ولى عهده ولده أبا شجاع، ولقبه ملك الملوك عضد الدولة تاج «2» الملة عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة أن يخطب له ببغداد، ويلقبه بهذه الألقاب، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء.
ذكر ملك ملكشاه ما وراء النهر
وفي سنة اثنين وثمانين وأربعمائة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر، وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد بن خضرخان أخو شمس الملك الذى كان قبله، وهو ابن أخى تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه، وكان ظالما قبيح الصورة كثير المصادرات للرعية، فنفروا منه، واستغاثوا بالسلطان، فسار من أصفهان، وكان قد حضر إليه رسول صاحب الروم بالجزية المقرّرة عليه، فأخذه نظام الملك معه إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، وإنما فعل ذلك ليؤرخ عنهم أن ملك الروم حمل الجزية من بلاده إلى كاشغر، وليرى عظم ملك السلطان، وكثرة جيوشه، وسعة ممالكه، فسار السلطان من أصفهان إلى خراسان، وجمع من العساكر ما لا يحصرها ديوان، وقطع النهر، ووصل بخارى، وملكها، وملك ما على طريقه إليها، وما جاورها، وقصد سمرقند، ونازلها، وحصرها، وملكها، واختفى أحمدخان صاحبها في بيت بعض العوامّ، فأخذ، وحمل إلى السلطان، وفي عنقه حبل، فأكرمه السلطان، وبعثه إلى أصفهان، ورتب(26/327)
بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم، وسار السلطان، وقصد كاشغر، فبلغ [بيوزكند] «1» وأرسل رسلا إلى ملك كاشغر، فأمره بأقامة الخطبة له، وضرب السكّة باسمه، وتوعّده إن خالف، فأجاب إلى ذلك، وفعله، وحضر إلى السلطان، فأكرمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده، وعاد السلطان إلى خراسان.
ذكر عصيان سمرقند وفتحها
قال: ولما أبعد السلطان عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبى طاهر نائب السلطان عندهم، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم، وكاتب مقدم الجكلية، واسمه عز «2» الدولة يعقوب تكين، وهو أخو ملك كاشغر يستدعيه، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه من الرعيّة من ادّعى عليه بدماء قوم كان قتلهم، فقتله يعقوب، واتصلت الأخبار بالسلطان، فعاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولى على سمرقند ومضى إلى قرغانة، ولحق بولايته، فملك السلطان سمرقند «3» ورتب بها الأمير أتسز «4» ، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند(26/328)
وأرسل العساكر إلى ملك كاشغر يطلبه منه، وأنه إذا لم يرسله قصد بلاده، واتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، فاضطر إلى أن هرب إلى أخيه بكاشغر، واستجار به، وكان بينهما عداوة مستحكمة، فكاتبه السلطان في إرساله، وإنه إن لم يفعل كان هو العدو، فقبض عليه، وسيّره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وأمرهم أنهم إذا صاروا بالقرب من السلطان سملوه، فإن رضى السلطان بذلك، وإلا سلّموه إليه، فلما قصدوا سمله وأحموا الميل، جاءهم الخبر أن طغرل بن ينال كبس ملك كاشغر وأسره، فأخروا يعقوب، وأطلقوه، ثم انفق هو والسلطان، وجعله السلطان يقابل طغرل، وعاد السلطان إلى خراسان.
ذكر وصول السلطان الى بغداد
وفي شهر رمضان سنة أربع وثمانين وأربعمائة وصل السلطان إلى بغداد، وهى المرة الثانية، ونزل بدار المملكة، ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق، وقسيم الدولة «آق سنقر» صاحب حلب وغيرهما من عمال الأطراف، وأمر السلطان بعمارة الجامع المعروف بجامع السلطان، وابتدىء بعمارته في المحرم سنة خمس وثمانين.(26/329)
ذكر ملك السلطان اليمن
قال: ولما وصل السلطان إلى بغداد كان ممن حضر معه «1» جبق أمير التركمان، وكان صاحب قرميسين، وغيرها، فأمره السلطان أن يسير بجماعة من أمراء التركمان إلى الحجاز، واليمن، ويكون أمرهم «2» إلى سعد الدولة كوهراتين ليفتحوا البلاد، فاستعمل سعد الدولة أميرا اسمه ترشك، فساروا واستولوا على اليمن، وملكوا عدن، وأساءوا السيرة في أهلها، فظهر على ترشك الجدرى، فتوفى فى سابع يوم وصوله إليها، فعاد أصحابه إلى بغداد.
ذكر مقتل الوزير نظام الملك
وفي ليلة السبت العاشر من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة قتل الوزير خواجا بزرك قوام الدين نظام الملك أبو على الحسن بن على بن إسحاق بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان ملكشاه قد عادا من أصفهان إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وقام من خيمته إلى خيمة حرمه، أتاه صبى ديلمى من الباطنية في صورة مستميح، أو مستغيث، فوثب عليه، وضربه بسكين، فمات، وهرب الصبى، فعثر في أطناب الخيمة، فأدركوه وقتلوه، ولما قتل ركب السلطان إلى خيمته، وسكن عسكره وأصحابه،(26/330)
وقيل في سبب موته «1» أنه كان «2» قد ولى عثمان بن ابنه «3» جمال الملك رئاسة مرو، فأرسل السلطان إليها شحنة من أكبر مماليكه، وأعظم أمرائه يقال له:
قودن، فجرى بينه، وبين عثمان منازعة، فحملت عثمان حدة الشبيبة على قبضه، والإخراق به، ثم أطلقه، فجاء إلى السلطان مستغيثا، وأخبره بما صنع به عثمان، فغضب السلطان، وأرسل إلى جده الوزير نظام الملك يقول: «إن كنت شريكى في الملك، ويدك مع يدى في السلطنة فلذلك حكم، وإن كنت نائبى، فيجب أن نلتزم حد البيعة، «4» والنيابة. هؤلاء أولادك قد استولى كل منهم على كورة عظيمة، وولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة إلى أن فعلوا كيت وكيت ... » ، وأطال القول، وأرسل إليه بهذه الرسالة تاج الملك، ومجد الملك الباسلانى وغيرهما، من أرباب دولته، وأرسل معهم الأمير «باليرد «5» » ، وكان من ثقاته، وقال له: تعرفنى ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئا، فحضروا عند الوزير، وأدوا الرسالة، فقال: قولوا للسلطان إن كنت ما عمت أنى شريكك في الملك فاعلم، فإنك «6» ما نلت هذا الأمر إلا بيدى، ورأيى، أما يذكر حين قتل أبوه، فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه(26/331)
من أهله وغيرهم، وهو في ذلك الوقت يتمسك بى ويلازمنى، ولا يخالفنى، فلما رددت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وجمعت له الأمصار القريبة والبعيدة سمع فيّ السعايات. قولوا له: «إن ثبات هذه القلنسوة [معذوق «1» ] بهذه الدواة، وأن انفاقهما رباط كل رعية، وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك» . فى كلام كثير قاله، فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما قاله عن السلطان، ومضى كل منهم إلى خيمته وجاء باليرد «2» إلى السلطان، فأخبره بما قاله الوزير على غرة، وجاء الجماعة بكرة النهار إلى السلطان، فأخبروه عنه بالعبودية، فقال لهم: إنه قال: كيت وكيت، فأشاروا عند ذلك بكتمانه رعاية لحق نظام الملك، ولعظم شأنه، فإن مماليكه كانوا قد أنافوا على عشرين ألفا غير الجند والأتباع، فوقع التدبير عليه حتى قتل، وظن السلطان أن الدنيا قد صغت له بعد ذلك، فما عاش بعده إلا خمسة وثلاثين يوما.
ذكر ابتداء حال نظام الملك وشىء من سيرته وأخباره
كان نظام الملك من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال وملك، وتوفّيت والدة نظام الملك، وهو يرضع، فكان أبوه يطوف به على المراضع يرضعنه حسبة حتى شبّ، وقرأ، وتعلم العربية، وتفقه، وصار من الفضلاء، وسمع الحديث الكثير، وكان يطوق(26/332)
بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصوفين، ثم لزم أبا على بن شادان متولّى الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته، وأمانته، وصار معروفا عندهم بذلك، فلما حضرت أبا على الوفاة أوصى ألب أرسلان به، فولاه شغله، ثم صار وزيرا له إلى أن ولى السلطنة، وتنقّل في الوزارة، فكانت وزارته ثلاثين سنة. هذا أحد ما قيل في ابتداء أمره.
وأما سيرته: فإنه كان عالما أديبا جوادا كثير الحلم والصفح عن المذنبين، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء، والفقراء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأسقط. المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من على المنابر، فإن الوزير عميد الملك الكندرى كان قد حسّن للسلطان لعن الرافضة، وأضاف إليهم الأشعرية، وكان نظام الملك رحمه الله تعالى إذا سمع المؤذن أمسك عما هو فيه، ويجيبه، فإذا فرغ من الأذان لا يبدأ بشىء قبل الصلاة، وله من حسن الآثار ما هو موجود باق إلى وقتتا هذا رحمه الله تعالى.
ذكر وفاة السلطان ملكشاه وشىء من سيرته
كانت وفاته ببغداد في يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وذلك أنه لما قتل الوزير نظام الملك كما قدمناه، سار السلطان إلى بغداد، فدخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة، وخرج في أوائل شوال إلى ناحية دجيل للصيد، فاصطاد(26/333)
وحشا «1» وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، فعاد إلى بغداد، فتوفى ولم تشهد جنازته، ولا صلى عليه في الصورة الظاهرة، ولا هلب عليه ذنب فرس كعادة أمثاله من الملوك، ولا لطم عليه وجه، وحمل إلى أصفهان، ودفن بها في مدرسة له موقوفة على طائفة الشافعية، والحنفية.
قال: وكان مغرما بالعمارة، فحفر الكثير من الأنهار. وعمر الأسوار على كثير من البلاد، وصنع في طريق مكة مصانع، وكان كثير الصيد، وكانت السبل في أيامه آمنة ساكنة تسير القوافل مما وراء النهر إلى أقصى الشام، وليس معهما خفير، وحكى محمد ابن عبد الملك الهمذانى: أن السلطان «2» لما توجه لحرب أخيه تكش اجتاز بمشمد على بن موسى الرضا بطوس، فدخل ومعه نظام الملك الوزير فصليا، وأطال الدعاء، ثم قال لنظام الملك: بأى شىء دعوت قال: أن ينصرك الله، ويظفرك بأخيك، فقال: أما أنا ولم أدع بهذا، وإنما قلت اللهم انصر نفعنا للمسلمين والرعية، وحكى عنه حكايات تدل على محاسنه، وجودته، وخيره.
وكان قد قرر ملك البلاد لمماليكه، فجعل غلامه برسق يحارب الروم، فضايقهم حتى قرر عليهم ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار جالية، ثم توجه إلى القسطنطينية وحاصرها، وقرر عليهم ألف ألف دينار،(26/334)
وبنى قونية «1» ، وقصرا، وسير أخاه تاج الدولة تتش إلى دمشق، وقسيم الدولة آق سنقر بحلب، وغيرهم في كل جهة.
وكانت مدة ملكه عشرين سنة، وسبعة أشهر، وستة أيام، وكان له من الأولاد أبو المظفر بركياروق، ومحمد طبر، وأبو الحارث سنجرشاه، ومحمود، وهو أصغرهم.
وزيره: نظام الملك، وقد تقدم ذكره.
ذكر أخبار السلطان بركياروق
هو أبو «2» المظفر بركياروق بن السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغرى بك بن ميكائيل بن سلجق، وهو الرابع من ملوك الدولة السلجقية.
وبركياروق بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء والكاف، وفتح الباء المثناة من تحت، وبعد الألف راء مضمومة، وبعد الواو الساكنة قاف.
قال المؤرخ: لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى الأمراء، وفرقت الأموال، واستخلفت لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهورا، وأرسلت إلى الخليفة(26/335)
المقتدى بأمر الله في الخطبة له، فأجابها إلى ذلك على أن يكون الأمير أتسز مدبر الجيش، وتاج الملك يتولى تدبير الأموال والدواوين، وخطب له، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة له في يوم الجمعة الثانى والعشرين من شوال، وكان بركياروق إذ ذاك بأصفهان، فكتبت تركان خاتون بالقبض عليه، فقبض عليه، فلما ظهر موت السلطان ملكشاه، ثارت المماليك النظامية، وأخرجوه من الحبس وملكوه، فسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصفهان، فلما قاربتها تحول بركياروق إلى الرى، ولقيهم أرعش «1» النظامى في عساكره، وإنما حمل النظامية على نصرة بركياروق كراهتهم لتاج الملك، فإنه الذى دبر في قتل مولاهم. قال: وأرسلت تركان خاتون العساكر لقتال بركياروق، فلما التقى العسكران انحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكرها إلى خدمة بركياروق منهم: الأمير باليرد، «2» وكمشتكين الجاندار «3» ، وغيرهما، فقوى بهم، وكانت الحرب بينهم في آخر ذى الحجة من السنة، فانهزم عسكر تركان خاتون، وعاد إلى أصفهان، وسار بركياروق في أثرهم، وحصرهم بها.(26/336)
ذكر قتل تاج الملك
كان تاج الملك في عسكر تركان خاتون، فانهزم إلى نواحى بروجرد فأخذ، وجىء به إلى عسكر بركياروق، وهو يحاصر أصفهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع في إصلاح أكابر المماليك النظامية، وفرق فيهم مائتى ألف، فزال ما في نفوسهم منه، فوثب عثمان الذى كان نائب نظام الملك، ووضع الغلمان الأصاغر النظامية، واستغاثوا ألا تقنعوا إلا بقتل قاتل مولاهم، ففعلوا ذلك، «1» وهجموا عليه، وقطعوه عضوا عضوا، وذلك في المحرم سنة ست وثمانين وأربعمائة، فاستوزر بركياروق عز الملك بن نظام الملك، واستولى بركياروق على الرى. وهمذان، وما بينهما، وقدم بغداد فى أواخر سنة ست وثمانين، وخطب له بها في يوم الجمعة رابع المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وحملت إليه الخلع، فلبسها، وعلم الخليفة على عهده، ومات «2» فجأة، وتولى ابنه المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والعهد إلى السلطان بركياروق، فأقام ببغداد إلى شهر ربيع الأول من السنة، وسار إلى الموصل، ثم إلى نصيبين، وكان بينه، وبين عمه تتش من الحرب ما نذكره إن شاء الله تعالى.(26/337)
ذكر انهزام بركياروق من عمه تتش ودخوله الى أصفهان ووفاة أخيه محمود
قال: ولما اتصل بتتش وفاة أخيه ملكشاه سار من الشام، وملك حلب، وحران، والرها، والجزيرة جميعها، وديار بكر، وخلاط، وآذربيجان، وهمذان على ما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى، فلما قارب البلاد سار السلطان بركياروق لدفعه عنها، ووصل إلى أربل، وقرب من جيش عمه، ولم يكن معه غير ألف فارس، وكان عمه في خمسين ألفا، فجهز عمه من أمرائه من كبس عسكره، فهرب بركياروق، ونهب سواد عسكره، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، وبركياروق، وهم من الأمراء الأكابر، وخطب لعمه عند هذه الحادثة ببغداد على ما نذكره، وسار هو إلى أصفهان، وكانت تركان خاتون والدة أخيه محمود قد ماتت، فخرج إليه أخوه الملك محمود، وتلقاه، وأدخله البلد. وكان ذلك خديعة ليقبض عليه، فلما دخل بركياروق قبض عليه محمود، وقصد سمله، فاتفق أن محمودا حم وجدر، فقال لهم أمين الدولة بن التلميذ «1» الطبيب: «إن الملك قد جدر، وما أراه يسلم، والمصلحة إبقاء بركياروق، فإن مات صاحبكم ملكوه، ولا تعاجلوه بالإتلاف» ، فتركوه، فمات محمود في سلخ شوال سنة سبع وثمانين وأربعمائة «2» فكان هذا من الفرج بعد الشدة كما قيل:(26/338)
«مصائب قوم عند قوم فوائد» قال: ولما مات محمود حبس بركياروق للعزاء به، واستوزر مؤيد الملك بن نظام الملك في ذى الحجة، فكاتب الوزير الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركياروق، فعظم شأنه، وكثرت عساكره، والتقى هو وعمه تتش في سنة ثمان وثمانين، واقتتلوا بالقرب من الرىّ، فانهزم عسكر «تتش» ، وقتل على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، واستقامت السلطنة لبركياروق، وفي سنة ثمان وثمانين، عزل بركياروق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك، واستوزر أخاه فخر الملك.
ذكر مقتل أرسلان أرغو
وفي المحرم سنة تسعين وأربعمائة قتل أرسلان أرغو «1» بن ألب أرسلان أخو ملكشاه بمرو، وكان ملك خراسان، وسبب قتله أنه كان شديدا على غلمانه كثير الإهانة لهم والعقوبة، فطلب غلاما منهم، فدخل عليه، وليس عنده أحد، فانكر عليه تأخّره عن الخدمة، فاعتذر، فلم يقبل عذره، وضربه، فأخرج الغلام سكينا، فقتله بها، وأخذ الغلام، فقيل له: لم فعلت هذا، فقال لأريح الناس منه. والله أعلم.(26/339)
ذكر ملك بركياروق خراسان، وتسليمها لأخيه سنجر
قال: كان السلطان بركياروق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغو، وجعل الأمير قماج أتابكا لسنجر، ورتب في وزارته أبا الفتح علىّ بن الحسين الطوسى فلما وصلوا إلى الدامغان، بلغهم خبر قتله، فأقاموا هناك حتى لحقهم السلطان، وساروا إلى نيسابور، فوصلوها في خامس جمادى الأولى من السنة، وملكها السلطان وسائر البلاد الخراسانية بغير قتال، وسار إلى بلخ، وكان عسكر أرسلان أرغو قد ملكوا ابنا صغيرا عمره سبع سنين، فلما بلغهم قدوم السلطان أبعدوا إلى جبال [طخارستان،] «1» وطلبوا الأمان، فأمنهم السلطان، وحضروا إليه في خمسة عشر ألف فارس، فأخذ ابن عمه، وأحسن إليه، وتسلمته والدة بركياروق تربية، وتفرّق جيشه في خدمة الأمراء، وسار السلطان إلى ترمذ، «2» فسلمت إليه، وأقام ببلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند، ودانت له البلاد.
ذكر خروج أمير أميران
وفي سنة تسعين وأربعمائة خالف أمير اسمه محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وهو ابن عم ملكشاه، على السلطان بخراسان،(26/340)
وتوجه إلى بلخ، واستمد صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من البلاد الخراسانية، فقويت شوكته، فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه صاحب خراسان أخو السلطان جريدة، وكبسه، وأسره، وكحله.
ذكر ظهور السلطان محمد طبر بن ملكشاه والملك سنجر وخروجهما على أخيهما السلطان بركياروق والخطبة لمحمد
وإنما ذكرنا أخبار السلطان محمد، وأخيه سنجر في دولة السلطان بركياروق لأنه في هذا التاريخ [كان «1» ] هو الملك المشار إليه، وهما كالخوارج عليه، وإن كان محمد في هذه المدة ملك البلاد، وخطب له ببغداد، وغيرها، إلا أنه لم يستقل بغير منازع؛ فلهذا أوردناه الآن فى دولة بركياروق، وسنذكر سلطنته بعد وفاة السلطان بركياروق، ثم نذكر بعده سلطنة السلطان سنجر إن شاء الله تعالى. كان السلطان محمد طبر، وسنجر أخوين لأب وأم، وأمهما أم ولد، ولما مات والدهما السلطان ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، ووالدته تركان خاتون إلى أصفهان، فلما حصر بركياروق أصفهان خرج إليه محمد، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه بركياروق كنجه «2» ، وأعمالها، وجعل معه الأمير، فيلغ(26/341)
تكين «1» أتابكا له، فلما قوى محمد قتله، واستولى على جميع أعمال «أرّان» إلى «كنجه» من جملتها، وظهرت شهامته، واتفق أن السلطان عزل مؤيد الملك بن نظام الملك من وزارته، فسار إلى الأمير أتسز «2» ، وحسن له العصيان على السلطان، فلما قتل أتسز سار مؤيد الملك إلى السلطان محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعى في طلب السلطنة، ففعل ذلك، وقطع خطبة السلطان بركياروق من بلاده، وخطب لنفسه بالسلطنة، واستوزر مؤيد الملك، وذلك في سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، واتفق أن السلطان قتل وزيره «مجد الملك الباسلانى «3» » فى هذه السنة، وكان قد تمكن منه، فنفرت خواطر الأمراء من السلطان، ففارقه مع جماعة منهم، والتحقوا بمحمد، فقوى بهم، وسار نحو الرى، فسبقه إليها السلطان بركياروق، وجمع العساكر، وسار إلى أصفهان فأغلق أهلها الأبواب دونه، فسار إلى خوزستان، وورد السلطان محمد إلى الرى، واستولى عليها في ثانى ذى القعدة من السنة.
ووجد بها زبيدة خاتون، والدة أخيه بركياروق، فسجنها مؤيد الملك بالقلعة ثم خنقها.(26/342)
ذكر اقامة الخطبة لمحمد ببغداد
قال: ولما قوى أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهراتين «1» من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركياروق، فاجتمع هو وكريوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب الجزيرة، وسرجاب «2» ابن بدر صاحب كنكور، وغيرها، وساروا إلى السلطان محمد ولقوه «بقم» ، فخلع عليه سعد الدولة، ورده إلى بغداد، وسار بقيتهم في خدمته إلى أصفهان، فلما وصل سعد الدولة إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة إلى محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له فى يوم الجمعة سابع عشر في ذى الحجة سنة اثنين وتسعين وأربعمائة، ولقب غياث الدنيا والدين.
ذكر اعادة الخطبة ببغداد للسلطان بركياروق
قال: لما سار بركياروق إلى خوزستان عند ما منع من دخول أصفهان كما ذكرناه جمع العساكر، وكان أمير جيشه حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامى، فتجهز، وسار إلى واسط، ثم منها إلى بغداد، فدخلها في سابع عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وخطب له بها في يوم الجمعة نصف صفر قبل وصوله إليها بيومين، وكان سعد الدولة كوهرائين «بالشفيعى» ، ومعه إيلغازى بن(26/343)
أرتق، وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك «1» ، وإلى السلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا [كريوقا] «2» صاحب الموصل، وجكرمش، فأما جكرمش «3» ، فاستأذن سعد الدولة في العود إلى بلده، فأذن له، فعاد إلى جزيرة ابن عمر، وبقى سعد الدولة في جماعة من الأمراء، فكتب أعيانهم إلى السلطان بركياروق أن يخرج إليهم، وأنهم لا يقاتلونه، فخرج إليهم، فلما عاينوه ترجلوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وعادوا في خدمته إلى بغداد، واستوزر السلطان الأعز أبا المحاسن بن عبد الجليل بن على الدهشانى، «4» وقبض على عميد الدولة «5» بن جهير وزير الخليفة، وطالبه بالأموال، فاستقر الأمر بينهما على مائة ألف وستين ألف دينار يحملها، وخلع الخليفة على بركياروق، والله أعلم بالصواب.
ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد والخطبة لمحمد ببغداد
وفي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة سار السلطان بركياروق من بغداد، وجعل طريقه على شهرزور، وأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم(26/344)
كثير من التركمان «1» ، وغيرهم، وسار نحو أخيه محمد، فوقعت الحرب بينهم في رابع شهر رجب [بإسبيدروز] ، «2» ومعناه: النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان، وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، فحمل كوهراتين من ميمنة بركياروق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركياروق في خيامهم، ونهبوا ما فيها، وعاد سعد الدولة، فكبابه فرسه، فقتله خراسانى، وأخذ رأسه، وكان سعد الدولة خادما من خدام الملك أبى كاليجار بن سلطان الدولة من بويه، ثم انتقل بعده إلى السلطان طغرلبك، وتنقل في خدمة الملوك السلجقية، فلما قتل تفرقت عساكر بركياروق، وبقى في خمسين فارسا، وأسر وزيره الأعز، فأكرمه مؤيد الملك، وأحسن إليه، وأعاده إلى بغداد، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد، ففعل، وأجيب إلى ذلك، وخطب له في يوم الجمعة رابع عشر رجب من السنة.
ذكر حال السلطان بعد الهزيمة وانهزامه أيضا من أخيه سنجر
قال: وانهزم السلطان بركياروق في خمسين فارسا، فقصد الرى، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى «أسفرايين «3» » ، ثم(26/345)
إلى نيسابور، واستدعى الأمير ذاد حبشى بن التوتيان «1» ، وكان بيده حينئذ أكثر خراسان، وطبرستان، وجرجان، فاعتذر أن الملك سنجر قصد بلاده في هذا الوقت بعساكر بلخ، وسأل السلطان أن يحضر إليه ليعينه على حرب الملك سنجر، فسار إليه في ألفى فارس، فعلم بقدومه الأمراء والأكابر من أصحاب سنجر دون الأصاغر، وكان مع الأمير ذاد عشرون ألف مقاتل منهم رجالة «2» الباطنية خمسة آلاف ووقع المصاف بين بركياروق، وسنجر خارج البوسنجان، فانهزم أصحاب سنجر أولا، واشتغل أصحاب بركياروق بالنهب، وكانت الدائرة عليهم، فانهزموا، وأسر أكثر أعيان بركياروق وقتل أمير ذاد «3» ، وسار بركياروق إلى جرجان «4» ، ثم إلى دامغان، وسار في البرية، فرأى في بعض المواضع، ومعه سبعة عشر فارسا، وجمّازة واحدة، ثم كثر جمعه، فصار في ثلاثين ألف فارس، وسار إلى أصفهان، فسبقه السلطان محمد إليها.(26/346)
ذكر الحرب بين السلطانين بروكياروق ومحمد ثانيا، وقتل مؤيد الملك «1»
وفي سنة أربع وتسعين وأربعمائة في ثالث جمادى الآخرة كان المصاف الثانى بينهما، وكان مع كل واحد منهما خمسة عشر ألف فارس، فاستأمن كثير من أصحاب محمد إلى بركياروق، ودام القتال بين الفريقين إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد، ومن معه، وأسر وزيره مؤيد الملك، فأمر السلطان بقتله، وأخذ ما كان له من الأموال والجواهر لبغداد، والله أعلم بالصواب.
ذكر حال محمد بعد الهزيمة واجتماعه بأخيه سنجر
ولما انهزم السلطان محمد سار طالبا خراسان إلى أخيه سنجر، فأقام بجرجان، وأرسل إلى أخيه يطلب منه مالا وكسوة وغير ذلك، فسير إليه ما طلب، وترددت الرسائل بينهما، وتحالفا، واتفقا، ولم يكن قد بقى مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس، فلما استقرت بينهما القواعد سار سنجر في عساكره إلى أخيه، فاجتمعا بجرجان، وسارا منها إلى دامغان، وسارا إلى الرى، وانضم إليهما النظامية، فكثر جمعهم، وعظمت شوكتهم، والله أعلم.(26/347)
ذكر ما فعله بركياروق، ودخوله الى بغداد
قال: ولما انهزم السلطان محمد أقام بركياروق بالرى، واجتمعت عليه العساكر، فسار معه نحو من مائة ألف فارس، فضاقت عليهم الميرة، فتفرقت العساكر عنه، فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه، وتوجه الأمير إياز إلى همذان، وتفرقت العساكر إلى أن بقى في قلّة من العسكر، فبلغه اجتماع أخويه، وأنهما حشدا، وكثرت جموعهما، فتوجه إلى بغداد، وضاقت عليه النفقات، فراسل الخليفة عدة مراسلات، فتقرر أن يحمل إليه خمسين ألف دينار، فحملهما الخليفة إليه، فلم تغن شيئا، فأفضى الحال إلى أن مديده إلى أموال الناس، وانتهبها، فركب من ذلك خطة شنيعة، وخالفه الأمير صدقة بن منصور بن دبيس صاحب الحلة، وقطع خطبته من بلاده، وخطب للسلطان محمد، وسبب ذلك أن الوزير أبا المحاسن وزير بركياروق سير يطالبه بألف ألف دينار وكسور، وقال: إنها قد تخيرت عليك، فاما أن ترسلها وأما أن تتجهز الجيوش إليك، فقطع الخطبة، وعصى عليه، والله أعلم بالصواب.
ذكر وصول السلطان محمد، وسنجر الى بغداد، ورحيل بركياروق عنها
وفي السابع والعشرين من ذى الحجة سنة أربع وتسعين وأربعمائة وصل السلطان محمد وسنجر الملك إلى بغداد، ولما وصلا حلوان سار إيلغازى بن أرنق في عسكره إلى السلطان محمد، وخدمه، وكان(26/348)
عسكر السلطان محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع، فلما وصلت الأخبار بذلك كان السلطان بركياروق على شدة من المرض، فخاف أصحابه، واضطربوا، وعبروا به في محفة إلى الجانب، وتيقن أصحابه موته، ثم تراجعت إليه روحه، ووصل السلطان محمد، والملك سنجر إلى بغداد، فخرج توقيع الخليفة المستظهر بأمر الله يتضمن سوء سيرة بركياروق، والأستبشار بقدومهما، وخطب للسلطان محمد بالديوان العزيز، ونزل الملك سنجر دار كوهراتين، ثم كانت الحرب بين السلطانين في صفر سنة خمس وتسعين، وهو المصاف الثالث، ووقع بينهما الصلح على أن يكون بركياروق السلطان، ومحمد الملك، وتضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد [جنزة] «1» وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بالعساكر يفتح بها ما تمنع عليه، وحلف كل واحد منهما للآخر، وانصرف الفريقان من المصاف في رابع شهر ربيع الأول، وتفرقت العساكر ثم انتقض ذلك، والتقوا في جمادى الأولى من السنة، وكانت بينهما واقعة، وهو المصاف الرابع انهزم فيه السلطان محمد، وأصحابه بعد قتال، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبرا، وسار محمد في نفر يسير إلى أصفهان، وحمل عليه بيده ليتبعه أصحابه، وأخذ السلطان بركياروق خزانته، ووصل محمد إلى أصفهان، فأصلح سورها، وحفر خندقها، واعتد للحصار، وجاء(26/349)
بركياروق، وحاصره بها حصارا شديدا حتى ضاقت الميرة، واستمر الحصار إلى عاشر ذى الحجة، واقترض محمد أموال الأعيان، ثم فارق البلد في مائة وخمسين فارسا، ومعه الأمير ينال، فاستخلف على البلد جماعة من الأمراء الأكابر، وبعث السلطان في طلبه، فلم يدرك، وسار محمد، ووصل إلى «ساوة» ، واجتمع عليه عسكره الذى كان بكنجه، وأعمالها، ورحل إلى همذان، وبلغ جمعه ستة آلاف فارس، وأقاموا إلى آخر المحرم سنة ست وتسعين وأربعمائة، وأتاهم الخبر بقصد بركياروق لهم، فاجتمع على محمد جماعة أخرى، والتقوا على باب «خوى» ، وهو المصاف الخامس، وكان الظفر فيه لمحمد، وانهزم بركياروق وأصحابه، وسار محمد إلى «خلاط» ، ثم إلى تبريز، وأذربيجان.
ذكر الصلح بين السلطان بركياروق وأخيه محمد
وفي سنة سبع وتسعين وأربع مائة تم الصلح بين السلطان بركياروق، وبين أخيه محمد، وحلف كل منهما لصاحبه، واستقرت القواعد، ووضعت الحرب أوزارها، وتقرر بينهما أن السلطان بركياروق لا يعترض على أخيه محمد، ولا يذكر معه على منبر من مثابر البلاد التى استقرت له، ولا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزير، «1» ولا يعارض أحد منهما العسكر في قصد أيهما شاء، وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بأسبيدروز، وباب(26/350)
الأبواب، وديار بكر، والجزيرة «1» ، والموصل، والشام، وبلاد سيف الدولة صدقة، وانتظم الأمر على ذلك، ولما انتظم أمر بركياروق عاجلته المنية فلم تطل مدته بغير منازع، وشغله حرب عمه وإخوته عن حروب أعدائه، ولم يفعل شيئا غير قتله للباطنية على ما نذكره في هذا الموضع، وإنما أخرناه عن موضعه حتى لا ينقطع خبره مع أخيه محمد.
ذكر أخبار الباطنية وابتداء أمرهم وما استولوا عليه من القلاع وسبب قتلهم
والباطنية هم الإسماعيلية، وهم طائفة من القرامطة الذين قدمنا ذكرهم.
قال ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل: أول ما عرف من أحوال هؤلاء في هذه الدعوة الأخيرة التى اشتهرت بالباطنية والإسماعيلية أنه اجتمع منهم في أيام السلطان ملكشاه ثمانية عشر رجلا، وصلوا صلاة العيد في ساوة، فظفر بهم «الشحنة» ، فسجنهم، ثم سئل فيهم، فأطلقهم، فهذا أول اجتماعهم، ثم دعوا مؤذنا من أهل «ساوة» كان مقيما بأصفهان، فلم يجب دعوتهم، فخافوه أن ينمّ عليهم، فقتلوه، وهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فاتصل خبر مقتله بالوزير نظام الملك، فأمر من يتّهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثّل به، وجرّوا برجله في الأسواق، وهو أول قتيل منهم، ثم إن الباطنية قتلوا الوزير نظام الملك، وهى أول «2» قتلة مشهورة كانت(26/351)
لهم، وناهيك بها قتلة، وقالوا: قتل منا نجارا، فقلتلناه به، وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند «قاين» «1» كان قائده على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فاجتازت لهم قافلة عظيمة من كرمان بقصد «قاين» ، فخرجوا عليها هم، وقائد البلد وأصحابه، فقتل أهل القفل «2» عن آخرهم لم ينج منهم غير رجل تركمانى، فوصل إلى قاين، وأخبره بالقصّة «3» ، فسار أهلها مع القاضى الكرمانى إلى جهادهم، فلم يقدروا عليهم، ثم مات السلطان ملكشاه، فعظم أمرهم، واشتدت شوكتهم، واشتغل السلطان بركياروق بحرب إخوته وأهله، فاجتمعوا، وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم، ويقتلونه، ففعلوا ذلك بخلق كثير، وزاد الأمر حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله، وقعدوا للعزاء به، فحذر الناس، وصار لا ينفرد أحد، وأخذوا في بعض الأيام مؤذنا أخذه جار له باطنى، فقام أهله للنياحة، فأصعده الباطنية إلى سطح داره، وأروه أهله كيف يلطمون عليه، ويبكون، وهو لا يقدر يتكلم خوفا منهم، وذلك بأصفهان.
ذكر ما استولوا عليه من القلاع ببلاد العجم
قال: واستولوا على عدّة حصون منها قلعة أصفهان، وهى التى بناها السلطان ملكشاه، وسبب بنائها أنه ركب للصيد، ومعه(26/352)
مقدّم من مقدمى الروم كان قد لجأ إليه، وأسلم، وصار معه، فهرب من ملكشاه كلب من كلاب الصيد، فأتبعه، فوجده في موضع القلعة، فقال الرومى: لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصنا يشفع به، فأمر ملكشاه ببنائه، فلما انقضت أيام ملكشاه، وصارت أصفهان بيد تركان خاتون والدة السلطان محمود استولى الباطنية عليه، فكانوا يقولون: إن قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر لا تكون خاتمتها إلا بهذا الشر. ومنها «ألموت» وهى من نواحى قزوين. قيل:
إن ملكا من ملوك الديلم كان كثير الصيد، فأرسل عقابا، وتبعه، فرآه قد سقط على موضع القلعة، فوجده حصينا، فأمر ببنائه، وسماها «1» قلعة الألموت، ومعناها بالديلم: تعليم العقاب، ويقال لهذا الوضع وما جاوره: طالقان وفيها قلاع حصينة أشهرها: الألموت «2» . ومنها قلعة [طبس] «3» ، وقهستان، ومن جملتها جور «4» ، وجوسف «5» ، وزوزن، وقاين، وتون «6» وتلك الأطراف المجاورة لها، ومنها قلعة وسنملوه «7» وهى بقرب أبهر. ملكوها في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وقتل من كان بها عن آخرهم، ومنها قلعة خالنجان «8» وهى على خمسة(26/353)
فراسخ من أصفهان، ومنها كردكوه «1» ، وهى مشهورة، ومنها قلعة الباطن بخوزستان، وقلعة الطنبور، وبينها وبين أرجان فرسخان، وقلعة لأوجان «2» ، وهى بين فارس وخوزستان، فهذا ما ملكوه من القلاع في هذه المدة القريبة.
ذكر قتل الباطنية وسببه
كان قتلهم في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وسبب ذلك أنه لما اشتد أمرهم، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم شرعوا في قتل الأمراء، والفتك بهم، وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة السلطان محمد مخالف للسلطان مثل شحنة أصفهان وغيره، فلما ظفر السلطان بركياروق بأخيه محمد انبسط جماعة منهم في العسكر، واستغووا جماعة منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وزاد أمرهم حتى كادوا يظهرون بالكثرة والقوة، فصاروا يتهددون من لم يوافقهم بالفتك، وانتهى الحال إلى أن الأمراء ما بقى منهم من يجسر أن يمشى حاسرا.
إلا بدرع تحت ثيابه، حتى الوزير الأعز كان يلبس ذردية تحت ثيابه، فأشير على السلطان بالفتك بهم قبل أن يعجز عنهم، وأعلموه ميل الناس إلى مذهبهم، ودخولهم فيه حتى إن عسكر السلطان محمد كانوا يشنّعون ذلك عليه، ويكبرون في المصاف على أصحابه، ويقولون لهم: يا باطنية، فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان في قتلهم، وركب هو والعسكر، وطلبوهم، وأخذوا جماعة(26/354)
ممن كان وافقهم، فلم يفلت منهم إلا من لم يعرف، ومن جملة من اتهم: مقدّمهم الأمير محمد بن علاء الدولة صاحب مدينة يزد، فهرب، وسار يومه وليلته، فلما كان في اليوم الثانى وجد في العسكر، وقد ضل عن الطريق، فقتل، ونهب خيامه، وممن قتل ولد كيقباد مستحفظ، تكريت، وقتل منهم جاولى سقاوه «1» فى هذه ثلاثمائة رجل.
ذكر وفاة السلطان بركياروق ووصيته لولده ملكشاه بالملك
كانت وفاته في ثانى عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة بأصفهان بمرض السل، والبواسير، وسار منها في محفّة يطلب بغداد، فلما وصل إلى [بروجرد «2» ] ضعف عن الحركة، فأقام بها أربعين يوما، فاشتد مرضه، فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه، وعمره أربع سنين وثمانية أشهر، وجعل الأمير إياز أتابكة، وخلع على الأمراء، واستحلفهم له، وأمرهم بالطاعة لهما، فحلفوا على الوفاء، وأمرهم بالسير إلى بغداد، فساروا، فلما كانوا على اثنى عشر فرسخا من بروجرد. وصل إليهم خبر وفاته. وحمل إلى أصفهان ودفن بها، وكان له من العمر خمسة وعشرون سنة، ومدّة ملكه اثنتا عشرة سنة، وأربعة أشهر. وقاسى من الحرب والاختلاف ما قدمناه.
وكان حليما كريما صبورا عاقلا كثير المداراة حسن العفو لا يبالغ في العقوبة، عفوه أكثر من عقوبته.(26/355)
ذكر الخطبة لملكشاه بن السلطان بركياروق ببغداد
قد ذكرنا وصيّة والده له بالملك، واستخلافه الأمراء، وتقرير قواعده، وإنفاذه إلى بغداد. قال: ولما جاءه الخبر بوفاة أبيه، سار به أتابكه الأمير إياز، وإيلغازى شحنة بغداد، ودخلا به إلى بغداد، وخطب له [بجوامعها] «1» فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ولقب بألقاب جدّه جلال الدولة، ونشرت الدنانير على الخطباء، ثم قدم عمه السلطان محمد على ما نذكره.
ذكر أخبار السلطان محمد
هو غياث الدين أبو شجاع محمد طبر يمين أمير المؤمنين ابن السلطان جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغرى بك بن ميكائيل بن سلجق، وهو الخامس من ملوك الدولة السلجقية.
قد قدمنا من أخبار هذا السلطان، ووقائعه مع أخيه السلطان بركياروق وحروبه، والخطبة له ببغداد مرة بعد أخرى ما يستغنى عن إعادته، ونحن الآن نذكر أخباره في سلطنته بعد وفاة أخيه. قال:
لما مات السلطان بركياروق، وخطب لولده ملكشاه ببغداد كما ذكرناه، كان السلطان محمد إذ ذاك يحاصر جكرمش، وسكمان القطبى «2» ،(26/356)
وغيرهما من الأمراء وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلة قد جمع خلقا كثيرا من العساكر بلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وأرسل ولديه بدران، ودبيس إلى السلطان محمد يستحثه على الحضور إلى بغداد، فاستصحبهما معه، فلما سمع الأمير إياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذى معه من الدور، ونصبوا الخيام بالزهراء «1» خارج بغداد، وجمع الأمراء، واستشارهم فيما يفعله، فبذلوا الطاعة واليمين على قتال السلطان، ودفعه عن السلطنة، والاتفاق على طاعة ملكشاه بن بركياروق، وكان أشدهم «ينال، وصبارو «2» ، فلما تفرفوا، قال له وزيره الصفىّ أبو المحاسن:
«اعلم أن حياتى مقرونة بثبات نعمتك ودولتك، وأنا أكثر التزاما بك من هؤلاء، وليس الرأى ما أشاروا به، فإن كل واحد منهم يقصد أن يسلك طريقا، ويقيم سوقا لنفسه، وأكثرهم يناوئك فى المنزلة، وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال، والصواب مصالحة السلطان محمد، والدخول في طاعته، وهو يقرك على ما بيدك من الإقطاع، ويزيدك عليه ما أردت» ، فتردّد رأى الأمير إياز في الصلح إلا أنه يظهر المباينة، وجمع السفن التى ببغداد، وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره، أو إلى البلد، ووصل السلطان محمد إلى بغداد في يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، ونزل بالجامع الغربى، وخطب له بالجامع، وأما جامع المنصور، فإن الخطيب قال: «اللهم أصلح سلطان العالم» . لم يزد على(26/357)
ذلك، وركب إياز في عسكره، وهم عازمون على الحرب، وسار حتى أشرف على عسكر السلطان محمد، وعاد إلى مخيّمه، فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه، فأجاب بعضهم، وتوقف البعض، وقالوا: قد حلفنا مرة، ولا فائدة في إعادة اليمين لأنا إن وفينا بالأولى، وفينا بالثانية، فأمر إياز حينئذ وزيره الصفى أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد، والمشى في الصلح، وتسليم السلطنة إليه، فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد، واجتمع بوزيره سعد الملك أبى المحاسن سعد بن محمد، وعرّفه ما جاء فيه، فأحضره إلى السلطان، فأدى الرسالة، واعتذر عن صاحبه، فأجابه السلطان جوابا لطيفا، وطيب نفسه، وأجاب إلى اليمين، فلما كان الغد حضر قاضى القضاة، والنقيبان، والصفى وزير إياز عند السلطان، فقال له وزيره سعد الملك: إن إياز يخاف لما تقدم منه، وهو يطلب العهد لنفسه، وللأمراء الذين معه.
فقال السلطان: أما ملكشاه فلا فرق بينه وبين أخى، وأما إياز والأمراء الذين معه، فأحلف لهم إلا ينال الحسامى وصبارو، وحلف لهم، فلما كان الغد حضر الأمير إياز إلى السلطان، فلقيه الوزير، وكافة الناس، ووصل سيف الدولة صدقه في ذلك الوقت، ودخلا جميعا إلى السلطان، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وقيل: بل ركب السلطان، ولقيهما، وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان، وسار إلى أصفهان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(26/358)
ذكر قتل الأمير أياز
كان سبب ذلك أنه لما سلّم السلطنة لمحمد، وصار في جملة أصحابه، عمل وليمة عظيمة في ثامن جماد الآخرة في داره، ودعا لسلطان إليها، فجاء وقدم له إياز شيئا كثيرا، من جملته حمل بلخش «1» ، كان إياز قد أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك، وحضر الوليمة سيف الدولة صدقة بن مزيد، فاتفق أن إياز تقدم إلى غلمانه بلبس السلاح، ليعرضهم على السلطان، فدخل إليهم رجل من أبهر كانوا يضحكون منه، فألبسوه ذرعا تحت قميصه، وتناولوه بأيديهم، وهو يسألهم أن يكفوا عنه، فلم يفعلوا، فلشدّة ما ناله هرب منهم، ودخل بين خواص السلطان، فرآه السلطان مذعورا، فاستراب منه، وقال لغلام له أن يمسكه من غير أن يعلم به أحد ففعل، فرأى الدرع تحت ثيابه، فأعلم السلطان بذلك، فاستشعر السوء وقال: إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا الدروع، فما ظنك بغيرهم من الجتد، ونهض وعاد إلى داره، فلما كان في ثالث عشر.
استدعى الأمير صدقة وإياز، وجكرمش، وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم: أنا بلغنا أن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، قصد ديار بكر ليملكها، ويسير منها إلى الجزيرة، وينبغى أن تجتمع أراؤكم على من يسير إليه ليمنعه، ويقاتله، فقال الجماعة:
ليس هذا الأمير إلا للأمير إياز. فقال إياز: ينبغى أن أجتمع أنا وسيف(26/359)
الدولة صدقة على هذا الأمر، فقبل ذلك السلطان، فاستدعى إياز وصدقة والوزير سعد الملك، فقاموا ليدخلوا عليه، وكان قد أعدّ جماعة من خواصّه لقتل إياز إذا دخل عليه، فلما دخل ضرب أحدهم رأسه فأبانه، فغطى صدقة وجهه بكمّه، وأما الوزير فغشى عليه، وتفرق أصحاب إياز، وكان زوال نعمته العظيمة ودولته في مزحة مزحها غلمانه، ولما كان الغد كفّنه قوم من المتطوعة ودفنوه.
وكان من جملة مماليك السلطان ملكشاه، وكان غزير المروءة، شجاعا حسن الرأي في الحرب. ولما قتل اختفى وزيره الصفى، ثم أخذ وحمل إلى الوزير سعد الملك، ثم قتل في شهر رمضان، وسار السلطان إلى أصفهان، فوصل إليها في شهر رمضان وأمن أهلها.
ذكر خروج منكبرس «1» على السلطان محمد والقبض عليه
وفي المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة أظهر منكبرس ابن الملك بوزى برس «2» بن ألب أرسلان، وهو ابن عم السلطان محمد العصيان، والخلاف على السلطان، وسبب ذلك أنّه كان بأصبهان، فلحقته ضائقة شديدة، وانقطعت عنه الموادّ، فسار إلى نهاوند، واجتمع عليه بها جماعة من العسكر، وظاهره على أمره جماعة من الأمراء، فتغلب على نهاوند، وخطب لنفسه بها، وكاتب الأمراء بنى برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته، وكان السلطان محمد قد قبض على أخيهم زنكن بن برسق، فكاتب زنكى إخوته، وحذرهم(26/360)
من طاعته، وأمرهم بالتدبير في القبض عليه، فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة، فسار إليهم وساروا إليه، واجتمعوا به، وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم، وهى بلد «خوزستان» ، وتفرق أصحابه وأتوا به إلى أصفهان، فاعتقله السلطان مع بنى «1» عمه تكش، وأخرج زنكى بن برسق، وأعاده إلى مرتبته، واستنزله وإخوته عن أقطاعهم وهى الأسر «2» ، ونيسابور، وغيرهما ما بين الأهواز وهمذان، وأقطعهم عوض ذلك الدور وغيرها وفيها «3» ظهر بنهاوند أيضا رجل من أهل السواد، ادعى النبوة، فأطاعه خلق كثير، واتبعوه، وباعوا أملاكهم، ودفعوا أثمانها إليه، وهو يخرج جميع ذلك، وسمى أربعة من أصحابه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، ثم قتل بنهاوند، فكان أهلها يقولون:
ظهر عندنا في مدة شهرين اثنان: أحدهما يدعى النبوة، والآخر المملكة، فلم يتم لأحد منهما أمر، والله أعلم.
ذكر ملك السلطان محمد قلعة [شاه دز] «4» من الباطنية وقتل ابن عطاش «5»
وفي سنة خمسمائة ملك السلطان القلعة التى كانت الباطنية ملكوها بالقرب من أصفهان، واسمها «شاه دز» ، وقتل صاحبها أحمد(26/361)
ابن عبد الملك بن عطاش وولده. وكانت هذه القلعة قد بناها السلطان لملكشاه، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك، وكان قد اتصل بدز «1» دار القلعة، فلما مات استولى عليها، وكان الباطنية بأصفهان فد ألبسوه تاجا، وجمعوا له أموالا عظيمة، فاشتد بأسه، وكثر جمعه، واستفحل «2» أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق، وأخذ الأموال، وقتل من قدروا عليه، فقتلوا خلقا كثيرا، وجعلوا لهم على القرى السلطانية، وأموال «3» الناس، ضرائب يأخذونها؛ ليكفوا عنها الأذى، فتعذر انتفاع السلطان بقراه، والناس بأملاكهم، ومشى لهم الأمر بما كان بين السلطان وأخيه من الاختلاف، فلما صفت السلطنة لمحمد، ولم يبق له «4» منازع، لم يكن عنده أمر أهمّ من الباطنية، فخرج بنفسه، وحاصرهم، فى سادس شعبان، وأحاط بجبل القلعة، فلما اشتد الحصار عليهم طلبوا أن ينزل بعضهم من القلعة، ويرسل السلطان معهم من يحميهم، إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان «5» ، وكانت لهم، وينزل بعضهم، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس، وأن يقيم البقية منهم في ضرس «6» من القلعة، إلى(26/362)
أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، وينزلون حينئذ، ويرسل السلطان معهم من يوصلهم، إلى ابن الصباح بقلعة ألموت، فأجيبوا إلى ذلك، وتوجه معهم من أوصلهم إلى قلعتى الناظر، وطبس، وعاد منهم من أخبر ابن غطاس بوصولهم، فلم يسّلم السن الذى بيده، ورأى السلطان منه العذر، فجدد الحصار، فجاء إلى السلطان من دله على عورة ذلك السن، فملكه، وقتل من فيه من الباطنية، واختلط بعضهم بمن دخل، فسلموا، وأسر ابن عطاش، فتركه السلطان أسبوعا، ثم أمر به، فشهر في جميع البلاد، وسلخ جلده، فمات، وحشى تبنا، وقتل ولده، وحملت رأساهما إلى بغداد، وألقت زوجته نفسها من القلعة، فهلكت. كانت مدة البلوى بابن عطاش ثنتا عشرة سنة.
ذكر القبض على الوزير وقتله، ووزارة أحمد بن نظام الملك
وفي سنة خمسمائة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبى المحاسن، وأخذ ماله، وصلبه على باب أصفهان، وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه، فأما الوزير، فنسب إلى خيانة السلطان، وأما الأربعة، فنسبوا إلى اعتقاد مذهب الباطنية، ثم استشار السلطان فيمن يجعله وزيرا، فذكر له جماعة، فقال: أن آبائى «1» رأوا على نظام الملك البركة، وله عليهم الحق الكبير، وأولاده أعذياء بنعمتنا،(26/363)
ولا معدل عنهم، فاستوزر أبا نصر أحمد، ولقب ألقاب أبيه قوام الدين نظام الملك صدر الإسلام، وحكّمه، ومكّنه، وقوى أمره.
ذكر قتل الأمير صدقة بن مزيد «1»
كان مقتله في سنة إحدى وخمسمائة، وكان سب ذلك أنه قد عظم أمره، واشتهر ذكره، واستجار به الأكابر من الخلفاء، فمن دونهم، وأجار على الخلفاء والملوك، وكان ممن أكد أسباب «2» دولة السلطان محمد، وأقام في حقه، وعضده، وجاهر السلطان بركياروق بسببه «3» ، فلما استوثق الأمر للسلطان محمد، زاده على ما بيده من الإقطاع زيادة عظيمة، منها مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة، ثم أفسد ما بينهما العميد أبو «4» جعفر محمد بن الحسن البلخى، وقال للسلطان: إن صدقة عظم أمره، وكثر إدلاله، وهو يحمى كلّ من يفر من السلطان، والتحق به، ونسبه إلى مذهب الباطنية، ولم يكن كذلك، وإنما تشيع، واتفق أن السلطان محمد سخط على أبى دلف سرخاب «5» بن كيخسرو صاحب ساوه، فهرب منه، وقصد صدقة، واستجار به فأجاره، فأرسل السلطان(26/364)
يطلبه من صدقة، وأمره بتسليمه إلى نوابه، فلم يفعل، وأجاب:
إننى لأمكن منه بل أحامى عنه، أقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا النبى صلى الله عليه وسلّم:
ونسلمه حتى نصرّع حوله* ونذهل عن أبنائنا والحلائل وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه السلطان إلى العراق، ليتلافى هذا الأمر، فلما سمع صدقة به، استشار أصحابه فيما يفعله، فأشار عليه ابنه دبيس أن ينفذه إلى السلطان، ومعه الأموال والخيل والتحف ليستعطفه، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيش صدقة بحربه، وجمع الجند، وتفريق المال فيهم، واستطال في القول، فمال صدقة إلى قوله ووافقه «1» ، وجمع العساكر، فاجتمع له عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، وأرسل الخليفة المستظهر بالله إلى الأمير صدقة، يحذره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، فأجاب: إننى على الطاعة، لكن لا آمن على نفسى فى الاجتماع به، ثم أرسل السلطان إلى صدقة يطيب قلبه، ويبسط ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، فأجاب: إن أصحاب السلطان قد أفسدوا قلبه علىّ، وغيرّوا حالى عنده، وزال ما كان عليه في حقى من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع، وليرين خيولنا ببغداد «2» ، وامتنع صدقة من الاجتماع(26/365)
بالسلطان، وكان السلطان وصل إلى بغداد جريدة في خيل، لا تبلغ ألفى فارس، فأرسل إلى جيوشه، فأتته من كل جهة، وتكررت الرسائل من الخليفة إلى صدقة، وهو يجيب: إننى ما خالفت الطاعة، ولا قطعت الخطبة، وجهز ابنه دبيسا، ليسير إلى السلطان، فبينما هو في ذلك إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان، قد وقعت الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة، وأن عسكر السلطان انهزم، وأسر جماعة من أعيانهم، فأخر صدقة ابنه، ثم ترددت الرسائل من الخليفة إلى صدقة، يقول: إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى، ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم، فأجاب أولا بالخضوع والطاعة، ثم قال: لو قدرت على الرحيل من بين يدى السلطان لفعلت، ولكن ورائى من يثقل ظهرى: ثلاثمائة امرأة لا يحملهن مكان، ولو علمت أننى إذا جئت للسلطان مستسلما قبلنى، واستخدمنى، لفعلت، ولكننى أخاف ألا يقبل عذرى، ولا يعفو، وأما ما نهب فإن الخلق كثير، وعندى من لا أعرفه، وقد نهبوا ودخلوا البر، ولا طاقة لى بهم، لكن إن كان السلطان لا يعارضنى فيما في يدى، ولا فيمن أجرته ويقر سرخاب «1» على إقطاعه بساوة، ويتقدم بإعادة ما نهب من بلدى. ويحلفه «2» وزير الخليفة بما أثق به من الأيمان، على المحافظة فيما بينى وبينه، فحينئذ أخدم بالمال، وأدوس «3» بساطه بعد ذلك، فعادت الرسائل بذلك «4» مع أبى منصور بن(26/366)
معروف، وأصر صدقة على قوله، فعند ذلك سار السلطان في ثامن شهر رجب إلى الزعفرانية، وسار صدقة في عسكره إلى قرية مطر، وأمر جنده بلبس السلاح، واستأمن نائبه «1» سلطان بن دبيس وهو ابن»
عم صدقة إلى السلطان، فأكرمه، وعبر السلطان «3» إلى دجلة، ولم يعبر هو، فصاروا هم وصدقة في أرض واحدة، بينهما نهر، والتقوا في تاسع عشر شهر رجب، وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان، فلما التقوا صارت في وجوه أصحاب صدقة، ورمى الأتراك بالنشاب، فكان يخرج في كل رشقة سبعة عشر ألف فردة، لا تقع إلا في فارس أو فرس، فكان أصحاب صدقة إذا حملوا منعهم النهر، والنشاب يصل إليهم، وحمل صدقة على الأتراك، وجعل يقول: أنا صدقة، أنا ملك العرب «4» فأصابه سهم في ظهره، وأدركه غلام اسمه برغش، فتعلق في صدقة وهو لا يعرفه، فسقطا جميعا إلى الأرض، فعرفه صدقة، وقال: يا برغش أرفق، فضربه بالسيف، فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقى «5» ، فحمله إلى السلطان، فلما رآه عانقه، وأمر لبرغش بصلة، وبقى صدقة طريحا، إلى أن سار السلطان، فدفنه إنسان من المدائن، وكان عمر صدقة تسعا وخمسين سنة، وكانت إمرته إحدى وعشرين سنة،(26/367)
وحمل رأسه إلى بغداد، وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس، وأسر ابنه دبيس، وسرخاب بن كيخسرو الديلمى، فأحضر بين يدى السلطان، فطلب الأمان، فقال السلطان: أنا عاهدت الله أنى لا أقتل أسيرا، فإن ثبت عليك أنك باطنى قتلتك. قال: ونهب من أموال صدقة ما لا يحد ولا يوصف.
وكان له من الكتب المنسوبة الخطوط ألوف مجلدات، وكان يقرأ ولا يكتب، وكان جوادا حليما، صدوقا، كثير البشر والخير والإحسان، يلقى لمن يقصده بالبشاشه والفضل، ويبسط آمال قاصديه، ويزورهم، وكان عاقلا، عفيفا، دينا، حاز الأوصاف الجميلة، رحمه الله تعالى.
قال: ولما قتل صدقة عاد السلطان إلى بغداد، ولم يصل الحلة، وأرسل أمانا لزوجة صدقة، فأصعدت إلى بغداد، فأطلق السلطان ابنها دبيسا، وأنفذ معه جماعة من الأمراء لتلقيها، فلما جاءت اعتذر السلطان إليها من قتل صدقة، وقال: وددت أنه حمل إلى حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس منه، لكن الأقدار غلبتنى عليه، واستحلف ابنها دبيسا أنه لا يسعى بفساد.
وفي سنة إحدى وخمسمائة في شعبان أطلق السلطان الضرائب والمكوس، ودار البيع، [والإجتيازات] «1» ، وغير ذلك، مما يناسبه بالعراق، وفيها خرج السلطان إلى أصفهان، وكان مقامه ببغداد، فى هذه الدفعة خمسة أشهر وسبعة عشر يوما.(26/368)
وفي سنة اثنتين وخمسمائة استولى مورود، وعسكر السلطان على الموصل، وكان جاولى سقاوة قد تغلب عليها، فأخذت منه، بعد حرب وحصار، ثم عاد جاولى إلى خدمة السلطان.
وفي سنة ثلاث وخمسمائة سيّر السلطان وزيره نظام الملك أحمد ابن نظام الملك إلى قلعة ألموت، لقتال الحسن بن الصباح، ومن معه من الإسماعلية، فحصرهم، وهجم الشتاء عليهم، فعادوا، وفيها فى شهر ربيع الآخر توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع، فوثب عليه الباطنية، وضربوه بالسكاكين، فجرح في رقبته، فمرض مدة وبرأ، وأخذ الباطنى، فسقى الخمر حتى سكر، وسئل عن أصحابه، فأقر على جماعة بمسجد المأمونية، فقتلوا، وفيها عزل الوزير نظام الملك، واستوزر بعده الخطير محمد بن الحسين.
وفي سنة خمس وخمسمائة بعث السلطان الجيوش لقتال الفرنج، وكانوا قد استولوا على البلاد، ففتحوا عدة حصون للفرنج، وقتلوا من بها منهم، وحصروا مدينة الرّها، ثم رحلوا عنها.
وفي سنة تسع وخمسمائة أقطع السلطان محمد الموصل، وما كان بيد آق سنقر البرسقى للأمير جيوش «1» بك، وسير معه ولده الملك مسعود بن محمد.(26/369)
ذكر وفاة السلطان محمد وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته في الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان ابتداء مرضه في شعبان، فانقطع عن الركوب، وتزايد مرضه ودام، وأرجف بموته، فلما كان يوم عيد النحر، حضر الناس إلى دار السلطان، فأذن لهم في الدخول، وجلس السلطان وقد تكلف ذلك، حتى أكل الناس وانصرفوا، فلما انتصف الشهر أيس من نفسه، فأحضر ولده السلطان محمودا وقبله وبكيا، وأمره أن يخرج، ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس، وكان عمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة، فقال لوالده «1» : إنه يوم غير مبارك، يعنى من طريق النجوم، فقال السلطان: صدقت يا بنى «2» ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة، فخرج وجلس على تخت السلطنة «3» وبالتاج والسوارين، وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من الشهر أحضر الأمراء، وأعلموا بوفاة السلطان، وخطب لمحمود بالسلطنة.
وكان مولد السلطان محمد في ثامن عشر شعبان سنة أربع وسبعين ودعى «4» له بالسلطنة ببغداد، فى الدفعة الأولى، فى يوم الخميس سابع عشر ذى الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقطعت،(26/370)
وأعيدت عدة دفعات كما قدمناه في أخبار بركياروق. وكانت مدة اجتماع الناس عليه بغير منازع، منذ تسلم السلطنة من الأمير إياز أتابك ملكشاه بن بركياروق، ثنتا عشرة سنة وسبعة أشهر.
وأما سيرته فكان ملكا عادلا شجاعا «1» ، حسن السيرة؛ فمن جملة ذلك أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان، فأعطاهم البعض، ومطلهم بما بقى، فحضروا مجلس الحكم، وأخذوا معهم غلمان القاضى إلى السلطان، ليحضر معهم إلى مجلس الحكم، فلما رآهم، قال لحاجبه: انظر حاجة هؤلاء فسألهم، فقالوا: لنا خصم يحضر معنا إلى مجلس الحكم، فقال: من هو؟ فقالوا: السلطان؛ وذكروا قصتهم. فأعلمه الحاجب ذلك، فأمر بإحضار العامل إليهم، وغرّمه غرما ثقيلا، ونكل به، ثم كان يقول بعد ذلك: ندمت ندامة عظيمة، حيث لم أحضر معهم إلى مجلس الحكم، فيقتدى بى غيرى، ولا يمتنع أحد عن الحضور إليه، وأداء الحق. ومن عدله أنه كان له خازن يعرف بأبى أحمد القزوينى، فقتله الباطنية، فلما قتل أمر بعرض الخزانة عليه، فعرضت، فإذا درج فيه جوهر نفيس، فقال: إن هذا الجوهر عرض علىّ منذ أيام، وهو في ملك أصحابه، وسلمه إلى خادم له، وأمر بتسليمه إليهم، فسأل عنهم وكانوا غرباء- وقد تيقنوا ذهاب مالهم، وأيسوا منه، فلم يطلبوه، [فأحضرهم] «2» وسلمه إليهم،(26/371)
وأطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد، ولم يعلم منه فعل قبيح، ولا عرف عنه، وعلم الأمراء سيرته، فلم يتجاسروا على الظلم، وكفوا عنه.
وكان له من الأولاد: محمود، وطغرل، ومسعود، وسليمان شاه، وسلجق. تولوا كلهم السلطنة إلا سلجق.
وزراؤه: مؤيد الملك بن نظام الملك. ثم سعد الملك أبو المحاسن، إلى أن قتله، ثم أحمد بن نظام الملك، ثم خطير الملك، وكان في نهاية الجهل، فعزله بعد مدة، وصادره، وولى غيرهم، وممن استوزره:
ربيب الدولة أبو منصور بن أبى شجاع.
ولما توفى السلطان محمد انتقلت السلطنة من العراق إلى خراسان، وذلك أن سنجر شاه لم يبق في البيت أكبر منه، فكان هو السلطان المشار إليه، ولنذكر الآن أخباره؛ لأنه كان ملكا في حياة أخيه، وعظم شأنه، واستولى على عدة ممالك، فإذا انفضت دولته، عدنا إلى ذكر أولاد محمد، [و] «1» غيرهم إن شاء الله تعالى.
ذكر أخبار السلطان سنجر
هو معز الدين «2» عماد آل سلجوق أبو الحارث سنجرشاه برهان أمير المؤمنين ابن السلطان جلال الدولة ملكشاه، وقد تقدم ذكر نسبه، وكان والده سماه أحمد، وإنما قيل له: سنجر؛ لأنه(26/372)
ولد بسنجار، فقيل له: سنجر باسم المدينة التى ولد بها، ونعت أيضا بالسلطان الأعظم، قال المؤرخ: ولما مات السلطان محمد كان سنجرشاه مستقر الأمر بخراسان، وقد ذكرنا ذلك في أيام أخيه السلطان بركياروق، وكان قد سلمها له لما فتحها، فى خامس جمادى الأولى سنة تسعين وأربعمائة «1» ، وقد قدمنا من أخباره في أيام أخيه السلطان بركياروق، وحروبه معه، ما يستغنى الآن عن إعادته، فلما مات بركياروق استغل سنجرشاه بملك خراسان، وبقى العراق وما معه بيد أخيه السلطان محمد، على ما قدمتا، قال: واتفق وقعتان لسنجرشاه عظيمتان، فى أيام أخويه بركياروق ومحمد نحن الآن نذكرهما.
فأما الأولى: فهى واقعته مع [قدرخان] «2» صاحب سمرقند وما وراء النهر، وكانت في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وذلك أن قدرخان قصد خراسان، وطمع في ملكها لصغر سن سنجر، وجمع من العساكر ما طبق الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل، وقيل: مائتى ألف عنان، مسلمون وكفار، وكان من أمراء سنجر أمير اسمه: كندغدى «3» ، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه بحال سنجر وضعفه، واختلاف الملوك السلجقية، وأشار عليه(26/373)
بالسرعة، فبادر قدرخان، وقصد البلاد، فسار سنجر نحوه ليقاتله، وكان معه كندغدى، وهو لا يتهمه في مناصحته، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، وبقى بينه وبين قدرخان مسافة خمسة أيام، فهرب كندغدى، والتحق بقدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود القديمة والمواثيق، فلم يصغ إلى ذلك، فأذكى «1» سنجر عليه العيون، وبث الجواسيس، فكان لا يخفى عنه شىء من أخباره، فأتاه من أخبره أنه قد نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج يتصيّد في ثلاثمائة فارس، فندب السلطان سنجر الأمير برغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وقاتله، فانهزم أصحاب قدرخان، وأسرهو وكندغدى، وأحضرهما إلى السلطان سنجر، فأما قدرخان: فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا أولم تخدمنا فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به، فقتل، وأما كندغدى فإنه نزل في قناة ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما كان به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار في ثلاثمائة فارس إلى غزنة، وقيل: بل جمع سنجر عساكره، والتقى هو وقدرخان، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب قدرخان، وأسر هو وحمل إلى سنجر، فقتله، وحصر «ترمذ» ، وبها كندغدى «2» ، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، وتسلم «ترمذ» ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فأكرمه صاحبها علاء الدولة، وقدمه وأحسن إليه، قال: ولما قتل قدرخان أحضر السلطان(26/374)
سنجرشاه محمدا أرسلان بن سليمان بن داود بغراخان من مرو، وملكه سمرقند، وهو من أولاد الملوك الخانية، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وكان قد دفع عن ملك آبائه، فقصد مرو، فأقام بها إلى الآن، فولاه سنجر أعمال قدرخان، وسير معه العسكر، فملك جميع البلاد، وعظم شأنه، وارتفع محله، ودام في ملك ما وراء النهر، وهو على الطاعة للسلطان سنجر، إلى سنة سبع وخمسمائة، فظهر منه ظلم للرعية، واستخف بأوامر السلطان سنجر، فتجهز بعساكره، وقصده، فخاف محمد، وأرسل إلى السلطان يستعطفه، واعترف بالخطأ، فأجابه السلطان إلى الصلح، على أن يحضر ويطأ بساطه، فأرسل يذكر خوفه لسوء صنيعه، وأنه يحضر إلى الخدمة، ويخدم السلطان وبينهما نهر جيجون، ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده، والدخول عليه، فأجاب السلطان إلى ذلك، وكان سنجر على شاطىء جيحون من الجانب الغربى، ومحمد من الجانب الشرقى، فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب، وعاد كل منهما إلى خيامه، وسكتت الفتنة، فهذه الوقعة الأولى.
وأما الثانية: فإنه لما مات علاء الدولة صاحب «1» غزنة، فى شوال سنة ثمان وخمسمائة، وملك ابنه أرسلان شاه، وأمه سلجقية، وهى أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم، وهرب أخ له اسمه بهرام شاه إلى خراسان، والتحق بالسلطان سنجر، فأرسل إلى أخيه في معناه، فلم يفعل، ولا أصغى إلى قوله، فتجهز(26/375)
سنجرشاه إلى المسير إلى غزنة، ومعه بهرام شاه، فلما بلغ بست اتصل به نصر بن خلف، صاحب سجستان، وسمع أرسلان شاه الخبر، فسير جيشا كثيفا، فهزمه سنجر، وعاد من سلم إلى غزنة بأسوأ حال، فخضع حينئذ أرسلان شاه، وأرسل إلى الأمير أتسز، «1» وكان على مقدمة سنجر، يضمن له الأموال الكثيرة، ليعود عنه، ويحسّن إلى سنجز «2» العود، فلم يفعل، فأرسل أرسلان شاه امرأة عمه نصر، وهى أخت السلطان سنجر من والده بركياروق، وكان علاء الدولة قتل زوجها، ومنعها من الخروج عن غزنة، وسألها سؤال سنجر في الصفح، وأرسل معها الأموال والهدايا والتحف، وكان معها مائتا ألف دينار، وطلب من السلطان أن يسلم إليه أخاه بهرام شاه، فوصلت إليه، وكانت موغرة الصدر من أرسلان شاه، فهونت أمره عند السلطان سنجر، وأطمعته في البلاد، وهونت عليه الأمر، وذكرت له ما فعل بإخوته، وأنه قتل بعضهم، من غير أن يخرجوا عن الطاعة، فسار الملك سنجر، وأرسل خادما من خواصه برسالة إلى أرسلان شاه، فقبض عليه واعتقله، واستمر سنجر على سيره لقصد غزنة، فلما سمع بقربه أطلق الرسول، ووصل سنجر إلى غزنة، ووقع المصاف على فرسخ منها بصحراء شهراباذ، وكان أرسلان شاه فى ثلاثين ألف فارس، وخلق كثير من الرجالة، ومعه مائة وستون «3» فيلا عليهم المقاتلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، كان الظفر لسنجرشاه(26/376)
ومن معه، ودخل غزنة، وملك قلعتها، ورتب بهرام شاه في الملك، وقرر أن يكون الدعاء بغزنة للخليفة، ثم للسلطان محمد، ثم للملك سنجر، وبعدهم لبهرام شاه، وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد، وكان من دور ملوكها عدة دور، على حيطانها ألواح الفضة وسواقى البساتين من الفضة، فقلع أكثر ذلك ونهب، فمنع سنجر أصحابه، وصلب جماعة، حتى كف الناس، وكان من جملة ما حمل لسنجر خمسة تيجان قيمة، أحدها يزيد على ألفى ألف دينار وألف وثلاثمائة قطعة مصاغة مرصعة، وسبعة عشر سريرا من الذهب والفضة، وأقام سنجر بغزنة أربعين يوما، حتى استقر بهرام شاه، وعاد إلى خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجقى قبله.
ذكر القبض على الوزير محمد
قال: ولما عاد السلطان سنجر من غزنة قبض على وزيره أبى جعفر محمد بن فخر الملك أبى المظفر، بن الوزير نظام الملك، وكان سبب ذلك أنه أوحش الأمراء، واستخف بهم، فغضبوا من ذلك، وشكوا إلى السلطان وهو بغزنة، فاستمهلهم إلى أن يخرج من غزنة، ووافق ذلك تغير السلطان عليه، لأشياء نقمها منه، منها أنه أشار على السلطان بقصد غزنة، فلما قصدها، ووصل إلى بست، أرسل صاحبها أرسلان شاه إلى الوزير محمد، وضمن له خمسمائة ألف دينار إن هو أثنى عزم السلطان سنجر عن قصدها، ورده، فلما أتته الرسالة أشار على السلطان بمصالحة أرسلان شاه، والرجوع إلى خراسان، فلم يوافقه على ذلك، وفعل بمثل ذلك بما وراء النهر، ومنها أنه نقل(26/377)
إليه أنه أخذ من غزنة أموالا عظيمة المقدار، وغير ذلك، فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وأخذ ماله وقتله، وكان له من الجواهر والأموال شىء كثير، ووجد له من العين ألف ألف دينار، ولما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرازق بن أخى نظام الملك، ويعرف هذا الوزير بابن الفقيه، فلم يبلغ منزلة أبى جعفر في علو الهمة، ونفاذ الكلمة، ثم ندم السلطان سنجر على قتل أبى جعفر، رحمه الله تعالى.
ذكر الحرب بين السلطان سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد
كانت الحرب بينهما في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وسبب ذلك أنه لما بلغ السلطان سنجرشاه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ابنه السلطان محمود، وهو زوج ابنة السلطان سنجر، حزن لوفاة أخيه حزنا عظيما، وجزع، وتألم ألما شديدا، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء يذكر أخيه السلطان محمد على المنابر بمحاسن أعماله، من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك، وكان يلقب بناصر الدين، فتلقب بعد وفاة أخيه بمعز الدين، وهو لقب أخيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق، وما هو بيد محمود بن أخيه، وندم عند ذلك على قتل وزيره أبى جعفر؛ لأنه كان يبلغ به من الأغراض ما لا يبلغه بكثرة العساكر، لميل الناس إليه ومحله عندهم. قال: ثم أرسل السلطان إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد، وفخر الدين طغايرك، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران،(26/378)
وحمل إليه مائتى ألف دينار في كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فقال: لا بد من القتال، وسار نحو الرىّ والأمير أتسز في مقدمته، فلما بلغ السلطان محمود مسير عمه إليه، ووصول الأمير أتسز إلى جرجان، تقدم إلى الأمير على بن عمر، وهو أمير حاجب أبيه بالمسير، وضم إليه جمعا كثيرا من الأمراء والعساكر، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، وساروا إلى أن قاربوا مقدمة السلطان سنجر، وعليها الأمير أتسز، راسله الأمير على بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد، بتعظيم السلطان سنجر، والرجوع إلى رأيه وأمره، والقبول منه، وأنه ظن أن السلطان سنجر يحفظ السلطنة على ولده محمد، وأنه أخذ علينا العهود بذلك، وليس لنا أن نخالفه، وأما حيث جئتم إلى بلادنا، فلا نحتمل ذلك ولا نعصى عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، وأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا ولا تقومون بنا، فلما سمع الأمير أتسز ذلك عاد عن جرجان، ولحقه بعض عسكر محمود، وأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه، وعاد الأمير على إلى السلطان محمود، وقد بلغ الرى، وأقام بها، فشكره على ما كان منه، وأشير على محمود بالمقام بالرى، وقيل له إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولا يتهم، فلم يقبل ذلك، وضجر من مقامه، وسار ووصل إليه الأمير منكبرش «1» من العراق، فى عشرة آلاف فارس،(26/379)
والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البلخية «1» ، وغيرهم، وسار إلى همذان، فبلغه وصول عمه سنجر إلى الرى، فسار نحوه، وقصد قتاله فالتقيا بالقرب من ساده «2» ، وكان السلطان سنجر في عشرين ألفا، ومعه ثمانية عشر فيلا، ومحمود فى ثلاثين ألفا، وهم أكابر الأمراء، ومعه تسعمائة حمل من السلاح، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية، لما رأوا من عسكر محمود من الكثرة والقوة، فانهزمت ميمنة سنجر، واختلط أصحابه، وصاروا منهزمين لا يلوون على شىء، ونهب من أثقالهم شىء كثير، وقتل من أهل السواد خلق كثير، ووقف السلطان سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإذائه السلطان محمود، ومعه أتابكه «عز «3» على» ، فلما تعاظم الأمر على سنجر ألجأته الضرورة أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقى معه أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر وإما القتل، وأما الهزيمة فلا، فلما تقدمت الفيلة نفرت منها خيل أصحاب محمود، وتراجعت على أعقابها بأصحابها، فأشفق السلطان سنجر على محمود، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبى بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه، وأسر أتابكه «عز على» ، وكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه السلطان محمود، فعاتبه على تأخيره عن ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، قال:
وتم الظفر للسلطان سنجر وأرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه،(26/380)
ونزل في خيام السلطان محمود، وتراجع أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، وأرسل الأمير دبيس بن صدقة في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى من السنة، وقطعت خطبة محمود، وأما محمود فإنه سار من موضع الكسرة إلى أصفهان، وسار السلطان سنجر إلى همذان، فرأى قلة عسكره واجتماع العساكر على ابن أخيه محمود، فراسله في الصلح، وكانت والدة السلطان سنجر تشير عليه بذلك، وتقول له: إنك قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت البلاد، فتركت الجميع لأصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم، فأجاب إلى قولها، وراسل محمودا في الصلح، وتحالفا، وسار السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجر، فبالغ في إكرامه، وحمل إليه محمود هدية عظيمة فقبلها ظاهرا، وردها باطنا، ولم يقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التى بيده:
خراسان، وغيرها، وغزنة، وما وراء النهر، بالخطبة للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ منه، سوى الرى، وقصد بأخذها أن يكون له في هذه البلاد، لئلا يحدث محمود نفسه بالخروج عن طاعته.
ذكر قدوم السلطان سنجر الى الرى
وفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة خرج السلطان سنجر من خرسان إلى الرى في جيش كثير، وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة، والملك طغرل، كانا قد التحقا به، على ما نذكره في(26/381)
أخبار السلطان محمود، فلم يزل دبيس يطمع السلطان سنجر في العراق، ويسهل عليه الأمر، ويلقى إليه أن الخليفة المسترشد بالله، والسلطان محمود، قد اتفقا على الامتناع منه، حتى أجاب إلى المسير إلى العراق، فلما وصل الرىّ كان السلطان محمود بهمذان، فأرسل السلطان سنجر يستدعيه، لينظر هل هو على الطاعة، أو تغير على ما زعم دبيس بن صدقة؟، فبادر إلى المسير إليه، فلما وصل العسكر بتلقّيه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذى الحجة من السنة، وعاد السلطان سنجر إلى خراسان.
ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمدخان وملك محمود بن محمد
وفي شهر ربيع الأول سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند، وسبب ذلك أنه لما ملكها رتب فيها محمدخان ابن أرسلان بن سليمان بن داود بغراخان، كما ذكرناه، فأصابه فالج، فاستناب ابنا له يعرف بنصرخان، وكان شجاعا، وكان بسمرقند «1» إنسان علوى فقيه مدرس، إليه الحل والعقد، والحكم فى البلد، فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصرخان، فقتلاه ليلا، وكان أبوه محمدخان غائبا، فعظم ذلك عليه، وكان له أخ آخر ببلاد تركستان، فاستدعاه، فلما قرب من سمرقند خرج العلوى، والرئيس «2» لاستقباله فقتل العلوى في الحال، وقبض على الرئيس،(26/382)
وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر يستدعيه، ظنا منه أن ابنه لا يتم أمره مع الرئيس والعلوى، فتجهز سنجر، وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابنه بهما ندم على طلب السلطان، فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بهما، وأنه على الطاعة، ويسأله العود إلى خراسان، فغضب من ذلك، وبينما هو في الصيد إذ رأى اثنى عشر رجلا في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمداخان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند، فملكها عنوة، ونهب بعضها، ومنع من الباقى، وتحصن منه محمدخان ببعض الحصون، فاستنزله بأمان بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته، وهى زوجة السلطان سنجر، فبقى عندها إلى أن توفى، وأقام سنجر بسمرقند حتى أخذ الأموال، والأسلحة، والخزائن، وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فمات حسن تكين بعد مسير السلطان، فملك بعده عليها محمود بن محمدخان.
وفي «1» سنة خمس وعشرين مات السلطان محمود بن محمد، أخى السلطان سنجر، فسار السلطان سنجر إلى العراق، والتقى هو وابن أخيه السلطان مسعود بن محمد، فانهزمت جيوش مسعود، وحضر هو إليه، فأرسله إلى كنجة، بعد أن كان مسعود استقر في السلطنة، وأقام السلطان سنجر في السلطنة السلطان طغرل «2» أخيه محمد، وكان من أمره وأمر أخيه مسعود، ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبارهم.(26/383)
ذكر مسير السلطان الى غزنة وعوده
وفي ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، سار السلطان سنجر من خراسان إلى غزنة، وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته، ومد يده إلى ظلم الرعية، واغتصاب أموالهم، وكان سنجر هو الذى ملكه غزنة، كما ذكرناه، فلما قارب السلطان غزنة أرسل إليه بهرام شاه رسلا يبذل الطاعة، والتضرع، وسأل العفو عن ذنبه والصفح، فأرسل إليه سنجر المقرب جوهر الخادم، وهو أكبر أمير عنده، ومن جملة أقطاعه الرى «1» فى جواب رسالته يجيبه إلى العفو، إن حضر عنده، وعاد إلى طاعته، فلما وصل المقرب إلى بهرام شاه أجاب بالسمع والطاعة، وركب مع المقرب، وسار لتلقى السلطان، فلما قاربا بالسلطان [و] »
نظر بهرام شاه إلى عسكره، والخبر على رأسه، نكص على عقبيه عائدا، فأمسك المقرب بعنان فرسه، وقبح عليه ذلك، وخوفه عاقبته، فلم يرجع، وولى هاربا، ولم يعرج على غزنة، فسار السلطان، ودخل غزنة، وملكها واحتوى على ما فيها، وجبى أموالها، وكتب إلى بهرام شاه يلومه على ما فعله، وحلف أنه ما أراد به سوءا، ولا مطمع له في بلده، ولا هو ممن يكدر صنيعه، ويعقب حسنته معه بسيئة، وإنما قصده لإصلاحه، فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر، ويتنصل ويقول:(26/384)
إن الخوف منعه من الحضور، ولا لوم على من خاف من السلطان، فأجابه سنجر إلى إعادة بلده، وفارق غزنة، وعاد إلى خراسان، ورجع بهرام شاه إلى غزنة.
ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه
وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، سار السلطان سنجر إلى خوارزم شاه أتسز بن محمد؛ وذلك أنه بلغه أنه يحدث نفسه بالامتناع عليه، وترك خدمته، وجمع خوارزم شاه عسكره، والتقوا فانهزم أصحاب خوارزم شاه، ولم يثبتوا، وقتل ولد خوارزم شاه، وملك السلطان «خوارزم» ، وأقطعها غياث الدين سليمان شاه، ولد أخيه محمد، وعاد إلى مرو، في جمادى الآخرة منها، وهذه الحرب هى التى أوجبت الفتن العظيمة، التى نذكرها إن شاء الله تعالى.
ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا، وملكهم ما وراء النهر
وفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة، كانت الحرب بين السلطان سنجر وبين الخطا؛ وسبب ذلك أن خوارزم شاه لما قتل ابنه في حرب السلطان، كما ذكرناه، حمله الألم إلى أن راسل ملك الخطا يستدعيه، لقصد سنجر وملك بلاده، ويهون عليه أمره، فصار في ثلاثمائة ألف عنان، وسار سنجر إليه بجميع عساكره، والتقوا بما وراء النهر، واقتتلوا قتالا شديدا، وانجلت الحرب عن هزيمة سنجر، وقتل من أصحابه مائة ألف قتيل، فيهم اثنا عشر ألفا كلهم أصحاب(26/385)
عمامة، وأربعة آلاف امرأة، وأسرت زوجة السلطان سنجر، وهى تركان خاتون، ثم فديت بخمسمائة ألف دينار، «1» وانهزم سنجر إلى ترمذ، ولم ينهزم قبلها، ولما تمت هذه الهزيمة أرسل إلى ابن أخيه السلطان مسعود، وأذن له أن يتصرف في الرى، وما معها، على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيما بها بعساكره، بحيث إنه إذا احتاج إليه استدعاه، ففعل ذلك، وملك الخطا ما وراء النهر، وتغلب خوارزم شاه على البلاد، فى هذا التاريخ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره، وفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة حاصر السلطان سنجر خوارزم شاه بخوارزم؛ فراسله، وبذل الطاعة والأموال، فقبل السلطان ذلك منه، وعاد عنه.
ذكر انهزام السلطان سنجر من الغز، وأسره، وذكر أحوال الغز
ولنبدأ بذكر حال هؤلاء الغز، ومبدأ أمرهم، وما كان منهم إلى أن أسروا السلطان، فنقول: إنهم طائفة من الترك مسلمون، كانوا بما وراء النهر، فلما ملك الخطا أخرجوهم من بلاد ما وراء النهر، فقصدوا خراسان، وكانوا خلقا كثيرا، فأقاموا بنواحى بلخ، يرعون في مراعيها، وكان لهم أمراء، وهم: دينار، وبختيار، وطوطى، وأرسلان، وجغر، ومحمود، فأراد الأمير قماج، وهو مقطع بلخ إبعادهم، فصانعوه لشىء بذلوه له، فعاد منه، وأقاموا على(26/386)
عادة حسنة، لا يؤذون أحدا، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة فعاودهم قماج، وأمرهم بالانتقال عن بلده، فامتنعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، واجتمع معهم «1» غيرهم من طوائف الترك، فسار قماج إليهم، فى عشرة آلاف فارس، فجاء إليه أمراء الغز، وبذلوا له عن كل بيت مائتى درهم، فلم يجبهم، وشدد عليهم في الانشراح عن بلده، فعادوا عنه، واجتمعوا، وقاتلوه، فانهزم، ونهبوا عسكره، وأكثروا القتل في العساكر والرعايا، واسترقوا النساء والذرارى، وعملوا كلّ عظيمة، وقتلوا الفقهاء «2» ، وخربوا المدارس، وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو، وبها السلطان سنجر، فأعلمه الحال، فراسلهم وتهددهم، وأمرهم بمفارقة البلاد، فاعتذروا وبذلوا مالا كثيرا؛ ليكف السلطان عنهم، ويتركهم في مراعيهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وجمع عساكره من أطراف البلاد، فاجتمع له ما يزيد على مائة ألف فارس، وقصدهم، ووقع بينهم حرب شديدة، فانهزمت عساكر السلطان سنجر، وانهزم هو في أصحابه، وتبعهم الغز يقتلون منهم، ويأسرون، حتى صارت القتلى كالتلال، وقتل علاء الدين قماج، وأسر السلطان سنجر وجماعة من الأمراء، فضرب الغز «3» أعتاق الأمراء، وأما السلطان سنجر فإنّ أمراء الغز اجتمعوا، وقبلوا الأرض بين يديه، وقالوا: نحن عبيدك، لا نخرج عن طاعتك، ومضى على ذلك ثلاثة أشهر، ودخلوا معه إلى مرو، وهى كرسى مملكة خراسان، فطلبها منه بختيار إقطاعا، فقال له السلطان سنجر: هذه دار الملك، ولا يجوز(26/387)
أن تكون إقطاعا لأحد، فضحكوا منه، وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى ذلك من فعلهم نزل عن سرير الملك، ودخل خانقاه مرو، واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وولوا على نيسابور واليا فظلم الناس، وعسفهم وضربهم، وعلق في الأسواق ثلاث غرائر، وقال أريد ملء هؤلاء ذهبا، فثار به العامة، فقتلوه، وقتلوا من معه، فدخل الغز نيسابور، ونهبوها وجعلوها قاعا صفصفا، وقتلوا من بها، ولم يرفعوا السيف عن كبير، ولا صغير، ولم يسلم من بلاد خراسان غير هراة ودهستان، لحصانتهما.
ذكر هرب السلطان سنجرشاه «1» من أسر الغز
قال: كان هربه من الأسر في شهر رمضان، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ولما هرب سار إلى قلعة ترمذ، هو وجماعة كانوا معه من الأمراء، فاستظهر بها على الغز، وكان خوارزم شاه أتسز بن محمد، والخاقان محمود بن محمد، يقصدان الغز ويقاتلانهم، وكانت الحرب بينهم سجالا، وغلب كل منهم على ناحية من خراسان ثم سار السلطان من ترمذ إلى جيحون، يريد العبور إلى خراسان، واتفق أن على بك مقدم القادغلية «2» توفى، وكان أشد على السلطان من كل أحد، فأقبلت القادغلية، وغيرهم، من أقاصى البلاد وأدانيها إلى السلطان، وعاد إلى دار ملكه بمرو «3» .(26/388)
ذكر وفاة السلطان سنجرشاه، وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، أصابه قولنج بعد ذرب، فمات منه، ودفن بقبة بناها لنفسه، وسماها دار الآخرة، وكان مولده بسنجار في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة سبع وسبعين وأربعمائة، فكان عمره أربعا وسبعين سنة وثمانية أشهر، ومدة ملكه- منذ سلم له أخوه السلطان بركياروق خراسان، فى خامس جمادى الأولى سنة تسعين وأربعمائة، وإلى هذا التاريخ- إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وأياما، ومنذ استقل بالسلطنة، بعد وفاة أخيه محمد نحوا من أربعين سنة، ولم يزل أمره عاليا إلى أن أسره الغز، كما ذكرناه، وكان من أكابر الملوك، وعظمت مملكته، ملك من «1» نهاوند، وغزنة، وسمرقند، إلى خراسان، وطبرستان، وكرمان، وسجستان، وأصفهان، وهمذان، والرى، وأذربيجان، وأرمينية، ودانية، والعراق، وبغداد، والموصل، وديار بكر، وربيعة، ومضر، والجزيرة، والشام، والحرمين، وخطب له على منابرها، وضربت السكة باسمه، فى هذه الأقاليم وبلادها، ووطئت ملوكها بساطه، وكان من أعظم الملوك همة، وأكثرها عطاء، ذكر عنه أنه اصطبح خمسة أيام متواليات، ذهب فى الجود بها كل مذهب، فبلغ ما أعطاه من العين سبعمائة ألف أحمر، غير ما وهب من الخيول، والخلع، وغيرها، وفرق في يوم واحد ألف(26/389)
ثوب أطلس، واجتمع في خزانته ما لم يسمع أنه اجتمع في غيره من الأكاسرة، قال الشيخ جمال الدين أبو الحسن على بن أبى المنصور ابن ظافر بن حسين الأزدى، صاحب كتاب الدول المنقطعة: صح عند جميع الناس أن الجوهر الذى اجتمع عنده كان وزنه ألفا وثلاثين رجلا، قال: وكان لسنجر مماليك اختصهم بالمحبة؛ فكان يشترى أحدهم بما قام في نفسه، ويهواه ويسعده حتى إذا بقل عذاره، سلاه وجفاه، وطرده، أو قتله؛ فمنهم سنقر الخاص، كان لصيرفي اشتراه السلطان بألف ومائتى دينار ركنية، وتشريف، فبلغ مبلغا عظيما؛ حكى عنه عبد العزيز صاحب خزائنه [عن] «1» غرامه بسنقر هذا، قال: استدعانى السلطان، وقال لى: أنت تعلم أن سنقر الخاص؟؟؟ دقنى، التى أنظر بها، وقلبى الذى أفهم به، وهذه خزائنى تحت؟؟؟ بدك، وحمول غزنة، وخوارزم قد وصلت، وأريد أن تصير له سرادقا كسرادقى، وخيلا مثل خيلى، وتشترى له ألف مملوك يمشون في ركابه، وتحل إقطاع من تراه، وتضيفه إليه، وتعمل له خزانه كخزانتى، وأريده يكون صاحب عشرة آلاف فارس، وحثّنى على ذلك، فشرعت فى ترتيبه «2» ، وكلته في مقدار عشرين يوما، فأنفقت عليه سبعمائة ألف دينار ركنية، سوى ما نقلته من الخزائن ومن الجواهر والثياب، وغير ذلك، وأخبرت السلطان به فسره، وشكرنى عليه، وفوض إلى أمر خزانته، مضافا إلى الخزانة، ولم يمض سنيات حتى(26/390)
احضرّ عذاره فسلاه السلطان، وتمادى هو في بسطه، [وأساءت] «1» على أكابر الأمراء، فتهدده، فلم يلتفت، فأمر الأمراء بقتله إذا دخل عليه، فقتلوه بالسيوف.
وممن بلغ عنده مبلغا لم يبلغه أحد قبله، الأمير المغترب اختيار الدين جوهر التاجى الخادم، كان خادما لوالدة السلطان سنجر، فلما توفيت في شوال سنة عشر وخمسمائة انتقل إليه، فشغف به، وغلب حبه عليه، وارتفع إلى حد لم يرتفع إليه غيره، وبلغت عدة عسكره ثلاثين ألف فارس، وكان أمره لا يرد، وإذا ركب مشى الأمراء في ركابه، وإذا جلس وقفوا، حتى يأذن لهم، وأعطاه الرى، ثم مله بعد ذلك، وكرهه، ودس عليه بعض الباطنية، فقتله غيلة.
قال: ولما مات السلطان سنجر انقطع استبداد السلجقية بمملكة خراسان، واستولى عليها خوارزم شاه أتسز بن محمد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخباره.
وزراؤه: العميد أبو الفتح بن أبى الليث إلى أن قتل في يوم عاشوراء سنة خمسمائة، واستوزر بعده ولده صدر الدين محمد إلى أن قتل ببلخ، فى الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة. قتله قايماز مملوك السلطان، الذى كان يهواه، فقتله به، واستوزر أبا جعفر محمد بن فخر الملك أبى المظفر بن الوزير نظام الملك، ثم قتله كما قدمناه، واستوزر بعده الوزير شهاب الإسلام عبد الدوام ابن إسحاق، أخى نظام الملك، إلى أن توفى بسرخس، فى يوم(26/391)
الخميس سابع المحرم سنة خمس عشرة وخمسمائة، واستوزر بعده الوزير بغاى بك الكاشغرى، فأحسن التدبير، وكان أعور، فصرفه فى نصف صفر سنة ثمان عشرة، واستوزر بعده معين الدين مختص القاشانى، فقتله الباطنية، فى تاسع عشر صفر سنة إحدى وعشرين، فاستوزر نصير الدين أبا القاسم محمود بن أبى توبة المروزى، وكان من أفضل الوزراء، وأجملهم سيرة، وأحسنهم طريقة، [وأغزرهم «1» ] أدبا وعلما، وكثر في أيامه أهل العلم والأدب، وصرف في سنة ست وعشرين، واستوزر الوزير القوام أبا القاسم «2» الدزكزينى، واستمر فى وزارته إلى أن توفى، فى ذى الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
قال: ولما حضرت السلطان سنجر الوفاة استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بغراخان، وهو ابن أخت السلطان، ولم يكن من السلجقية، وإنما هو من أولاد الملوك الخانية، فأقام بها خائفا من الغز، وبقيت خراسان على هذا الاختلاف، إلى سنة أربع وخمسين، وخمسمائة، ثم راسله الغز، وسألوه أن يملكوه عليهم، فالتحق بهم، ثم خلع في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين، وسمل، وإنما أوردنا اسمه هاهنا، على سبيل الاستطراد؛ ولأن سنجر عهد إليه بالملك بعده.(26/392)
انتهت أخبار الدولة السلجقية بخراسان وما يليها، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
كمل الجزء الرابع والعشرون من كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب للنويرى رحمه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(26/393)
فهرس الموضوعات
- تقديم 5
- ذكر أخبار الدولة الديلمية الجيلية 9
- أسفار بن شيروية 10
- ذكر مقتل أسفار بن شيروية 14
- ذكر ملك مرداويج 16
- ذكر ملك طبرستان وجرجان 16
- ذكر الحرب بين مرداويج وبين هارون بن غريب 18
- ذكر ملكه أصفهان 19
- ذكر وصول وشمكير إلى أخيه مرداويج 19
- ذكر مقتل مرداويج 20
- ذكر ملك وشمكير بن زيار 23
- ذكر ما فعله الأتراك بعد قتل مرداويج 23
- ذكر وفاة وشمكير 24
- ذكر ملك ظهير الدولة بهشيتون بن وشمكير 25
- ذكر ملك شمس المعالى قابوس بن وشمكير 25
- ذكر خلع قابوس بن وشمكير وقتله وولاية ابنه ملك المعالى منوجهر 26
- ذكر ملك أنو شروان داره بن ملك المعالى منوجهر بن قابوس شمس المعالى 28
- ذكر أخبار الدولة الغزنوية 29
- ذكر أخبار ناصر الدولة سبكتكين وابتداء أمره وما كان منه إلى أن ملك 30
- ذكر ولايته قصدار وبست 30
- ذكر غزوه الهند وما كان بينه وبينهم 31(26/394)
- ذكر ملك محمود بن سبكتكين خراسان 33
- ذكر وفاة ناصر الدولة سبكتكين وولاية ولده إسماعيل 33
- ذكر سلطنة يمين الدولة محمود بن سبكتكين 34
- ذكر استيلاء يمين الدولة محمود على خراسان وانتزاعها من السامانية 35
- ذكر غزوه الهند 36
- ذكر ملكه سجستان 37
- ذكر غزوه بهاطية وملكها 39
- ذكر غزوه المولتان 39
- ذكر غزوه كواكير 40
- ذكر عبور عسكر إيلك خان إلى خراسان 41
- ذكر انهزام إيلك خان يمين الدولة 43
- ذكر غزوه الهند وعوده 44
- ذكر غزوه بهيم نغر وما غنمه من الأموال وغيرها 44
- ذكر غزوه بلاد الغور واستيلائه عليها 46
- ذكر ملكه قصدار 47
- ذكر فتح ناردين 47
- ذكر غزوه تانيشر 48
- ذكر قتل خوارزم شاه وملك يمين الدولة خوارزم 49
- ذكر غزوه قشمير وقنوج وغيرها من الهند 50
- ذكر أخبار الملوك الخانية بما وراء النهر والأتراك 52
- ذكر أخبار قدرخان وأولاده 53
- ذكر ملك طفغاج خان وولده 55
- ذكر غزوه الهند والأفغانية 58
- ذكر فتح قلعة من بلاد الهند 60
- ذكر فتح سومنات 61(26/396)
- ذكر ملكه الرى وبلد الجبل 65
- ذكر ملك مسعود بن يمين الدولة محمود همذان 67
- ذكر غزوة للمسلمين بالهند 67
- ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن سبكتكين وشىء من سيرته 68
- ذكر سلطنة محمد بن محمود 69
- ذكر خلع جلال الدولة محمد وملك أخيه مسعود بن محمود 69
- ذكر مسيره إلى الهند وما فتحه بها 71
- ذكر مخالفة نيالتكين النائب بالهند ومقتله 71
- ذكر القبض على السلطان وقتله وشىء من سيرته 72
- ذكر سلطنة جلال الدولة محمد بن محمود السلطنة الثانية وقتله 73
- ذكر سلطنة مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين 75
- ذكر مخالفة محمود بن مسعود على أخيه مودود ووفاة محمود 75
- ذكر وفاة مودود وملك ولده، ثم أخيه على بن مسعود، ثم عبد الرشيد 76
- ذكر مقتل عبد الرشيد 77
- ذكر ملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين 79
- ذكر ملك إبراهيم بن مسعود بن محمود 80
- ذكر غزو إبراهيم بلاد الهند وما فتحه منها 80
- ذكر وفاة إبراهيم وشىء من سيرته 81
- ذكر ملك علاء الدولة أبى سعد جلال الدين مسعود ابن إبراهيم 82
- ذكر ملك أرسلان شاه بن علاء الدولة مسعود 82
- ذكر ملك بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم 83(26/397)
- ذكر وفاة بهرام شاه 84
- ذكر ملك نظام الدين خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود 85
- ذكر ملك ملكشاه بن خسروشاه بن مسعود بن إبراهيم ابن مسعود بن محمود بن سبكتكين 85
- ذكر أخبار الدولة الغورية 87
- ذكر الحرب بينه وبين السلطان سنجر 89
- ذكر ملكه غزنه وخروجه عنها وقتل أخيه 89
- ذكر خروج غياث الدين وشهاب الدين ابنى أخى علاء الدين الحسين على عمهما وموافقته 91
- ذكر ملك سيف الدين محمد بن علاء الدين الحسين بن الحسين 92
- ذكر ملك غياث الدين أبى الفتح محمد بن بسام بن الحسين ابن الحسن 92
- ذكر ملك غياث الدين غزنة 93
- ذكر ملك شهاب الدين لهاوور وانقراض الدولة الغزنوية 93
- ذكر مسير شهاب الدين إلى الهند 94
- ذكر ظفر الهنود بالمسلمين 95
- ذكر ظفر المسلمين بالهنود 96
- ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارسى الهندى 97
- ذكر ملك الغورية مدينة بلخ 98
- ذكر ملك شهاب الدين وأخيه غياث الدين ما كان لخوارزم شاه 98
- ذكر ملك شهاب الدين أنهلوارة من الهند 101
- ذكر وفاة غياث الدين وشىء من سيرته 101
- ذكر استقلال شهاب الدين بالملك وما فعله مع ورثة أخيه 102
- ذكر حصره خوارزم وانهزامه من الخطا 103
- ذكر قتل شهاب الدين بنى كركر 105(26/398)
- ذكر مقتل شهاب الدين وشىء من سيرته 106
- ذكر ما اتفق بعد وفاة شهاب الدين 107
- ذكر مسير بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة ووفاته 108
- ذكر ملك علاء الدين بن سام مدينة غزنة وأخذها منه 109
- ذكر ملك تاج الدين الدز غزنة 110
- ذكر حال غياث الدين محمود بن غياث الدين بعد مقتل عمه شهاب الدين 111
- ذكر عود علاء الدين وجلال الدين ابنى بهاء الدين سام صاحب باميان إلى غزنة 114
- ذكر عود تاج الدين الدز إلى غزنة 115
- ذكر ما اتفق لغياث الدين محمود مع تاج الدين الدز وأيبك 116
- ذكر مقتل غياث الدين محمود، وانقراض الدولة الغورية 120
- ذكر أخبار تاج الدين الدز، وما كان من أمره بعد مقتل غياث الدين 121(26/399)
الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك العراق وما والاه، وملوك الموصل، والديار الجزيرية، والبكرية، والبلاد الشامية، والحلبية، والدولة الحمدانية، والديلمية البويهية، والسلجوقية، والأتابكية
- ذكر أخبار الدولة الحمدانية 123
- ذكر ابتداء إمارة أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بالموصل 124
- ذكر مخالفة عبد الله بن حمدان، ورجوعه إلى الطاعة 126
- ذكر القبض على بنى حمدان وإطلاقهم 126
- ذكر أخبار الحسين بن حمدان بن حمدون وهو أخو أبى الهيجاء 128
- ذكر أخبار ناصر الدولة 129
- ذكر ولاية ناصر الدولة إمرة الأمراء بالعراق 132
- ذكر القبض على ناصر الدولة ووفاته 135
- ذكر أخبار سيف الدولة 136
- ذكر اختلال دولته واستيلاء الدمستق على حلب وما أخذه من أموال سيف الدولة 141
- ذكر وفاة سيف الدولة 142
- ذكر أخبار عده الدولة الغضنفر 143
- ذكر فساد حال عدة الدولة، وزوال ملك بنى ناصر الدولة، وما كان من أمر عدة الدولة إلى أن قتل 146
- ذكر أخبار سعد الدولة 148(26/400)
- ذكر مقتل أبى فراس الحارث واستيلاء أبى المعالى على حمص 150
- ذكر استيلاء قرعوية على حلب وإخراج أبى المعالى عنها 150
- ذكر الصلح بين سعد الدولة وقرعوية، والقبض على قرعويه، وقيام بكجور، وعود ملك حلب إلى سعد الدولة 152
- ذكر تولية سعد الدولة من قبل الخليفة وتلقيبه 153
- ذكر خلاف بكجور على الأمير سعد الدولة وما كان من أمره 153
- ذكر وفاة سعد الدولة 157
- ذكر أخبار أبى الفضائل بن سعد الدولة أبى المعالى شريف ابن سيف الدولة أبى الحسن على بن عبد الله بن حمدان ابن حمدون 158
- ذكر ما كان بين لؤلؤ الجراحى وبين العزيز نزار صاحب مصر 158
- ذكر الصلح بين أبى الفضائل والعزيز نزار صاحب مصر 160
- ذكر أخبار الدولة الديلمية البويهية 163
- ذكر ابتداء حال بويه ونسبه وما كان من أمره 163
- ذكر أخبار عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه وابتداء الدولة البويهية 166
- ذكر خروج عماد الدولة بن بويه عن طاعة مرداويج ومخالفته له وملكه أصفهان 167
- ذكر استيلائه على أرجان وغيرها، وملك مرداويج أصفهان 169
- ذكر استيلائه على شيراز 170
- ذكر واقعة غريبة اتفقت لعماد الدولة كانت سبب ثبات ملكه وقيام دولته 172(26/401)
- ذكر تولية عماد الدولة من قبل الخليفة 173
- ذكر وفاة عماد الدولة بن بويه وملك أخيه عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه 174
- ذكر أخبار ركن الدولة أبى على الحسن بن بويه 175
- ذكر ملك ركن الدولة بن بويه طبرستان وجرجان 176
- ذكر ما قرره ركن الدولة بين بنيه وما أفرده لكل منهم من الممالك 177
- ذكر وفاة ركن الدولة بن بويه وشىء من أخباره وسيرته 178
- ذكر أخبار معز الدولة بن بوبه 179
- ذكر مسيره إلى كرمان، وزوال يده في الحرب، وما اتفق له 180
- ذكر استيلاء معز الدولة على الأهواز 182
- ذكر استيلاء على بغداد وتلقيبه وتلقيب إخوته من ديوان الخلافة 183
- ذكر الحرب بين معز الدولة وناصر الدولة بن حمدان 185
- ذكر إقطاع البلاد وتخريبها 187
- ذكر استيلائه على البصرة 187
- ذكر ملك معز الدولة الموصل وعوده منها بعد الصلح 188
- ذكر وفاة الوزير الصيمرى ووزارة المهلبى 189
- ذكر ما كتب على مساجد بغداد 190
- ذكر وفاة الوزير المهلبى 191
- ذكر وفاة معز الدولة بن بويه 192
- ذكر أخبار عز الدولة بختيار 194
- ذكر ما كان من الحوادث في أيام عز الدولة بختيار 194
- ذكر خروج مشيد الدولة حبشى بن معز الدولة على أخيه عز الدولة 196(26/402)
- ذكر عزل أبى الفضل الوزير ووزارة ابن بقية 197
- ذكر الفتنة بين بختيار وأصحابه 198
- ذكر حيلة لبختيار عادت عليه 199
- ذكر ما اتفق لبختيار بعد قبضه على الأتراك ووفاة سبكتكين وقيام الفتكين 201
- ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق والقبض على بختيار 203
- ذكر عودة بختيار إلى ملكه 205
- ذكر مقتل عز الدولة بختيار بن معز الدولة، وشىء من أخباره 209
- ذكر أخبار عضد الدولة 211
- ذكر القبض على أبى الفتح بن العميد 214
- ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق 215
- ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بنى حمدان 217
- ذكر عمارة عضد الدولة بغداد، وما فعله من وجوه البر 218
- ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة وأخذه بلاده 219
- ذكر ملك عضد الدولة بلد الهكارية 220
- ذكر وفاة عضد الدولة وشىء من أخباره وسيرته 220
- ذكر أخبار مؤيد الدولة أبى منصور بويه بن ركن الدولة ابن بويه 225
- ذكر أخبار فخر الدولة وفلك الأمة أبى الحسن على بن ركن الدولة بن بويه 226
- ذكر أخبار مجد الدولة وكنف الأمة أبى طالب رستم بن فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه 229
- ذكر أخبار صمصام الدولة 230(26/403)
- ذكر ملك شرف الدولة أبى الفوارس شيرذيل بن عضد الدولة العراق، والقبض على صمصام الدولة 231
- ذكر وفاة شرف الدولة وشىء من أخباره 233
- ذكر ملك بهاء الدولة وضياء الملة 234
- ذكر قيام صمصام الدولة ببلاد فارس 235
- ذكر مسير أبى على بن شرف الدولة إلى بلاد فارس، وما كان بينه وبين عمه صمصام الدولة، وعوده إلى بهاء الدولة، وقتله 235
- ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز، والصلح بينه وبين صمصام الدولة 237
- ذكر ظهور أولاد بختيار واعتقالهم وقتل بعضهم 239
- ذكر مقتل صمصام الدولة 239
- ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوذستان وكرمان 241
- ذكر وفاة عميد الجيوش، وولاية فخر الملك العراق 242
- ذكر وفاة بهاء الدولة 242
- ذكر ملك سلطان الدولة 243
- ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان 244
- ذكر ولاية ابن سهلان العراق 245
- ذكر ملك مشرف الدولة أبى على بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه العراق 246
- ذكر الصلح بين سلطان الدولة وأخيه مشرف الدولة 248
- ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك وعزل الوزير ابن المغربى 248
- ذكر وفاة سلطان الدولة 249
- ذكر وفاة مشرف الدولة 250(26/404)
- ذكر سلطنة جلال الدولة 250
- ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة 252
- ذكر وثوب الجند به وإخراجه من بغداد وعوده إليها 254
- ذكر الفتنة بين جلال الدولة، وبارسطغان، وقتل بارسطغان 256
- ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبى كاليجار 257
- ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك 257
- ذكر وفاة جلال الدولة 258
- ذكر أخبار السلطان شاهنشاه 259
- ذكر ابتداء ملكه 260
- ذكر عودة أبى الفوارس إلى فارس وإخراجه 261
- ذكر ملك أبى كاليجار العراق 262
- ذكر ملك الملك الرحيم أبى نصر 264
- جامع أخبار ملوك بنى بويه عدة من ملك منهم ستة عشر ملكا 265
- ذكر أخبار الدولة السلجقية وابتداء أمر ملوكها، وكيف تنقلت بهم الحال، إلى أن استولوا على البلاد وما حازوه من الأقاليم والممالك، وغير ذلك من أخبارهم 267
- ذكر أخبار سلجق بن يقاق 269
- ذكر ما اتفق بين ظغرلبك وداود وبين السلطان مسعود ابن محمود بن سبكتكين 273
- ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وإقامة الخطبة لطغرلبك وداود 275
- ذكر ملك داود وطغرلبك وبيغو نيسابور وبلخ وهراة 277
- ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان 278
- ذكر مسير إبراهيم ينال إلى الرى وهمذان 279
- ذكر خروج طغرلبك إلى الرى وملكه بلد الجبل 280
- ذكر ملك ينال قلعة كنكور وغيرها 281(26/405)
- ذكر غزو إبراهيم ينال الروم 283
- ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال والاتفاق بينهما 284
- ذكر ملك طغرلبك أصفهان 286
- ذكر استيلاء ألب أرسلان على مدينة فسا 287
- ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان وغزو الروم 287
- ذكر دخول السلطان طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها وانقراض الدولة البويهية 288
- ذكر مسير السلطان إلى الموصل 292
- ذكر عودة السلطان إلى بغداد 294
- ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل، وما كان من أمره إلى أن قتل 295
- ذكر وفاة جغرى بك داود صاحب خراسان وملك ابنه ألب أرسلان 297
- ذكر زواج السلطان طغرلبك بابنة الخليفة 298
- ذكر وصول السلطان إلى بغداد ودخوله بابنة الخليفة 301
- ذكر وفاة السلطان طغرلبك وشىء من سيرته 301
- ذكر أخبار السلطان عضد الدولة 303
- ذكر القبض على عميد الملك الوزير وقتله 304
- ذكر ملك عضد الدولة ختلان وهراة وصغانيان 305
- ذكر الحرب بين السلطان وبين شهاب الدولة قتلمش وموته 306
- ذكر فتح مدينة آنى وغيرها من بلاد النصرانية 307
- ذكر تقرير ملكشاه في ولاية العهد بالسلطنة من بعد أبيه وتقرير البلاد باسم أولاد السلطان وأخوته 310(26/406)
- ذكر عصيان ملك كرمان وعوده إلى الطاعة وطاعة حصون فارس 311
- ذكر إقامة الخطبة بحلب 312
- ذكر استيلاء السلطان على حلب 312
- ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط وأسره 313
- ذكر ملك أتسز بيت المقدس والرملة ودمشق 316
- ذكر تزويج ولى العهد بابنة السلطان 317
- ذكر ملك السلطان قلعة فضلون 317
- ذكر مقتل السلطان عضد الدولة ألب أرسلان، وشىء من سيرته 318
- ذكر أخبار السلطان جلال الدولة ملكشاه 320
- ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وبين عمه قاورد بك 321
- ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان 322
- ذكر قتل أبى المحاسن بن أبى الرضا 323
- ذكر ملك السلطان حلب وغيرها 324
- ذكر دخول ملكشاه بغداد 326
- ذكر ملك ملكشاه ما وراء النهر 327
- ذكر عصيان سمرقند وفتحها 328
- ذكر وصول السلطان إلى بغداد 329
- ذكر ملك السلطان اليمن 330
- ذكر مقتل الوزير نظام الملك 330
- ذكر ابتداء حال نظام الملك وشىء من سيرته وأخباره 332
- ذكر وفاة السلطان ملكشاه وشىء من سيرته 333
- ذكر أخبار السلطان بركياروق 335
- ذكر قتل تاج الملك 337(26/407)
- ذكر انهزام بركياروق من عمه تتش ودخوله إلى أصفهان ووفاة أخيه محمود 338
- ذكر مقتل أرسلان أرغو 339
- ذكر ملك بركياروق خراسان وتسليمها لأخيه سنجر 340
- ذكر خروج أمير أميران 340
- ذكر ظهور السلطان محمد طبر ملكشاه والملك سنجر، وخروجهما على أخيهما السلطان بركياروق والخطبة لمحمد 341
- ذكر إقامة الخطبة لمحمد ببغداد 343
- ذكر إعادة الخطبة ببغداد للسلطان بركياروق 343
- ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد والخطبة لمحمد ببغداد 344
- ذكر حال السلطان بعد الهزيمة وانهزامه أيضا من أخيه سنجر 345
- ذكر الحرب بين السلطانين بركياروق ومحمد ثانيا، وقتل مؤيد الملك 347
- ذكر حال محمد بعد الهريمة واجتماعه بأخيه سنجر 347
- ذكر ما فعله بركياروق ودخوله إلى بغداد 348
- ذكر وصول السلطان محمد وسنجر إلى بغداد ورحيل بركياروق عنها 348
- ذكر الصلح بين السلطان بركياروق وأخيه محمد 350
- ذكر أخبار الباطنية وابتداء أمرهم وما استولوا عليه من القلاع وسبب قتلهم 351
- ذكر ما استولوا عليه من القلاع ببلاد العجم 352
- ذكر قتل الباطنية وسببه 354
- ذكر وفاة السلطان بركياروق ووصيته لولده ملكشاه بالملك 355
- ذكر الخطبة لملكشاه ابن السلطان بركياروق ببغداد 356(26/408)
- ذكر أخبار السلطان محمد 356
- ذكر قتل الأمير إياز 359
- ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد والقبض عليه 360
- ذكر ملك السلطان محمد قلعةشاه دز من الباطنية، وقتل ابن عطاش 361
- ذكر القبض على الوزير وقتله، ووزارة أحمد بن نظام الملك 363
- ذكر قتل الأمير صدقة بن مزيد 364
- ذكر وفاة السلطان محمد وشىء من أخباره وسيرته 370
- ذكر أخبار السلطان سنجر 372
- ذكر القبض على الوزير محمد 377
- ذكر الحرب بين السلطان سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد 378
- ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الرى 381
- ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمدخان، وملك محمود بن محمد 382
- ذكر مسير السلطان إلى غزنة وعوده 384
- ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه 385
- ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا، وملكهم ما وراء النهر 385
- ذكر انهزام السلطان سنجر من الغز، وأسره، وذكر أحوال الغز 386
- ذكر هرب السلطان سنجرشاه من أسر الغز 388
- ذكر وفاة السلطان سنجرشاه، وشىء من أخباره وسيرته 389(26/409)
الجزء السابع والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إذا كانت الأجزاء السابقة واللاحقة فى موسوعة «نهاية الأرب» للنويرى قد عالجت فى الجانب التاريخى دولا وأحداثا سبق النويرى إلى التأريخ لها عديد من الكتاب والمؤرخين المسلمين، فإن هذا الجزء السابع والعشرين من نهاية الأرب يمتاز بعلاج نواح فى تاريخ الشرق الأوسط. تفتقر إليها المكتبة العربية. ففى هذا الجزء يعالج النويرى تاريخ السلاجقة فى العراق والشام وبلاد الروم (آسيا الصغرى) .
وتاريخ الدولة الخوارزمية حتى سقوطها عند مقتل السلطان جلال الدين سنة ثمان وعشرين وستمائة؛ وأخيرا تاريخ المغول وحركتهم التوسعية ودويلاتهم التى انقسمت إليها دولة جتكزخان، وما كان من توسعهم فى الشرق الأوسط على حساب القوى الإسلامية العديدة،، ويدخل ضمن ذلك علاقتهم بسلطنة المماليك حتى عهد السلطان الناصر محمد ابن قلاوون.
ومن هذا العرض الموجز نخرج بفكرة عن أن النويرى خصص معظم هذا الجزء السابع والعشرين لعلاج تاريخ السلاجقة والخوارزمية والمغول، وقدم لنا فى علاجه لهذه الجوانب كثيرا من المعلومات الطريفة الجديدة المفصلة التى يندر أن نجد لها شبيها فى الموسوعات(27/5)
العربية السابقة بل إن المؤرخين اللاحقين بالنويرى- مثل المقريزى وابن تغرى بردى والعينى لم يعطوا تلك الجوانب- وخاصة ما يتعلق بالمغول ودولهم وأخبارهم الداخلية- القدر الكافى من الأهمية؛ مما جعل كتابات النويرى فى هذا الجزء بالذات تبدو فى نظرنا ذات أهمية خاصة.
وربما كان فى هذه الحقيقة بعض السر فى الصعوبات الكبيرة التى اعترضتنا عند تحقيق هذا الجزء بالذات. فما أسهل أن يقوم محقق بتحقيق كتاب أو جزء من كتاب يعالج أحداثا ودولا- مثل دولة المماليك- سبق أن نشرت فيها كتب بالعربية. مما يمكنه من مقارنة الأسماء وتصحيح الأعلام فى سهولة؛ وما أصعب أن يقوم محقق بتحقيق فصول جديدة على المكتبة العربية مما يجعله يقف وقفة طويلة أمام كل اسم وكل علم. وهو فى وقفته هذه لا بد وأن يفترض الكثير من إهمال الناسخين وخطأ الرواة وعبث الزمان على مر العصور والأجيال.
هذا إلى أنه إذا كان النويرى نفسه قد اعتمد فى الفصول الأخرى التى حواها القسم التاريخى من كتابه على كتابات غيره من المؤرخين السابقين أو المعاصرين- مثل ابن الأثير- فإنه فما يتعلق بتاريخ الخوارزميين والمغول لم يجد فيما يبدو كتابات عربية وافية ينقل عنها- سوى المنشى النسوى- مما جعله يركن إلى الروايات الشفوية. وقد أدى ذلك إلى وجود كثير من الأخطاء أو التحريفات فيما كتبه النويرى عن المغول بصفة خاصة. الأمر الذى جعلنا نعتمد على المصادر الفارسية والمراجع الأوربية فى تحقيق هذا الجزء. وهنا لا يسعنى(27/6)
سوى أن أشكر زميلى وصديقى الدكتور فؤاد عبد المعطى الصياد لما قدمه لى من معونة صادقة فى استشارة المصادر الفارسية على وجه الخصوص.
وقد اعتمدنا فى تحقيق هذا الجزء على عدة نسخ، منها نسخة مكتبة كوبريللى باستنبول وتوجد منها صورة كاملة بدار الكتب المصرية (رقم 549) ، واتخذنا حرف «ك» رمزا لهذه النسخة.
ومنها نسخة أيا صوفيا، وتوجد أيضا منها صورة كاملة بدار الكتب المصرية (رقم 551) ، ورمزنا لهذه النسخة بحرف «ص» . ومنها نسخة بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية (رقم 1214) . وهى التى رمزنا إليها بحرف «ع» . وأخيرا تأتى نسخة المكتبة التيمورية بدار الكتب المصرية (رقم 699) وهى مرموز لها بحرف «ت» .
ورأت اللجنة المشرفة على تحقيق هذا الكتاب أن تتخذ النسخة الأولى «ك» أصلا معتمدا للتحقيق، وذلك توحيدا لخطة العمل فى جميع أجزائه من ناحية، ولأنها أكمل النسخ من ناحية أخرى غير أننا عند مقابلة هذه النسخة ببقية النسخ أثناء قيامنا بتحقيق هذا الجزء، وجدنا نقصا كبيرا فيها، وصفحات عديدة ساقطة منها وخاصة فى باب المغول- الأمر الذى تطلب منا مقابلة النسخ الأربع بعضها ببعض مقابلة دقيقة، بحيث نقدم للباحث صورة صادقة كاملة للمتن كما أورده المؤلف. ولا يفوتنى فى هذا الموضع أن أقدم شكرى للدكتور حستين محمد ربيع- تلميذى سابقا وزميلى حاليا-(27/7)
لمعاونته الصادقة لى فى عملية مقابلة نسخ الكتاب لاستكمال النقص فى النسخة الأصلية.
والله نسأل أن يوفقنا دائما فى المحافظة على تراث الآباء والأجداد ليظل حيا قويا، نستمد منه، ونتخذ منه أساسا سليما فى بناء مجدنا الحديث.
23- 8- 1966 المحقق سعيد عبد الفتاح عاشور.(27/8)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار ملوك العراق و ... ]
[تتمة ذكر أخبار الدولة السلجقية]
[تتمة ذكر أخبار الدولة السلجقية بالعراق]
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه توفيقى
ذكر أخبار السلطان مغيث الدين
هو أبو القاسم محمود بن محمد طبر بن ملكشاه. جلس على تخت السلطنة فى النصف من ذى الحجة، سنة إحدى عشرة وخمسمائة، كما قدمنا ذكر ذلك فى أخبار أبيه السلطان محمد، ثم خطب له بالسلطنة ببغداد بعد وفاة أبيه على عادة الملوك السلجقية، فى يوم الجمعة ثالث عشر المحرم سنة ثنتى عشرة وخمسماية، فى خلافة المستظهر بالله، ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور.
ولما ولى (السلطان مغيث الدين) عزل بهروز عن شحنكية «1» ، بغداد، وولى اقسنقر البرسقى،- وكان بالرحية- فى إقطاعه، فسار إلى السلطان محمد قبل وفاته يسأله الزيادة فى إقطاعه، فبلغه وفاته قبل وصوله إلى بغداد، وأرسل مجاهد الدين بهروز يمنعه من دخول بغداد، فسار إلى السلطان محمود فلقيه توقيع السلطان بولاية(27/9)
شحنكية بغداد وهو بحلوان «1» ، فلما ولى هرب بهروز إلى تكريت «2» وكانت له.
ثم ولى السلطان شحنكية بغداد للأمير منكبرس «3» ، وهو من أكابر الأمراء، فسير إليها ربيبه الأمير حسين بن أرديل، أحد أمراء الأتراك لينوب عنه. فلما فارق باب همذان اتصل به جماعة من الأمراء البلخية، فلما بلغ البرسقى ذلك خاطب الخليفة المستظهر بالله أن يأمره بالتوقف عن العبور إلى بغداد إلى أن يكاتب السلطان، فأرسل إليه الخليفة فى ذلك، فأجابه: إن رسم الخليفة بالعود عدت، وإلا فلا بد من الدخول إلى بغداد. فجمع البرسقى أصحابه وسار إليه والتقوا واقتتلوا، فقتل أخ للأمير حسين وانهزم هو ومن معه، وعادوا إلى عسكر السلطان، وذلك فى شهر ربيع الأول من السنة.
قال: وكان الأمير دبيس بن صدقة عند السلطان محمد منذ قتل والده، فلما توفى السلطان خاطب السلطان محمود فى العودة إلى بلدة الحلة «4» ، فأذن له فعاد إليها، فاجتمع له خلق كثير من العرب والأكراد وغيرهم.(27/10)
ذكر مسير الملك مسعود ابن السلطان محمد وجيوش بك وما كان بينهما وبين البرسقى والأمير دبيس بن صدقة
قال: وفى جمادى الأولى سنة ثنتى عشرة وخمسماية برز اقسنقر البرسقى، ونزل بأسفل الرقة فى عسكره، ومن انضاف إليه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإخراج الأمير دبيس بن صدقة عنها، وجمع جموعا كثيرة من العرب والأكراد وفرق الأموال الكثيرة والسلاح. وكان الملك مسعود بن السلطان محمد بالموصل عند أتابكه «1» الأمير جيوش بك كما ذكرناه فى أخبار السلطان محمد، فأشار عليهما جماعة بقصد العراق، وقالوا لا مانع دونه، فسارا فى جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو على بن عمار صاحب طرابلس، وقسيم الدولة اقسنقر جد نور الدين الشهيد «2» ومعهم صاحب سنجار، وصاحب أربل، وكرباوى بن خراسان التركمانى صاحب البوازيج «3» .
فلما علم البرسقى بقربهم خافهم، وتجهّز لقتالهم عند ما قربوا من بغداد، فسار إليهم ليقاتلهم، فأرسل إليه الأمير كرباوى(27/11)
فى الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، فاصطلحوا وتعاهدوا. ووصل الملك مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، فأتاهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس المقدم ذكره فى جيش كبير، فسار البرسقى عن بغداد ليحاربه ويمنعه من دخولها، فلما علم منكبرس بذلك قصد النعمانية واجتمع هو والأمير دبيس ابن صدقة واتفقا على المعاضدة والتناصر وقوى كل منهما بصاحبه.
فلما اجتمعا سار الملك مسعود والبرسقى وجيوش بك ومن معهم إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فأتتهم الأخبار بكثرة جمعهما، فعاد البرسقى والملك مسعود وعبرا نهر صرصر «1» ، وحفظا المخائض عليه، ونهب الطائفتان السواد نهبا فاحشا، واستباحوا النساء، فأرسل الخليفة المسترشد بالله- وكان قد بويع له بعد وفاة أبيه- إلى الملك مسعود وإلى البرسقى ينكر ذلك، ويأمرهم بحقن الدماء، وترك الفساد، والموادعة والمصالحة. فأنكر البرسقى أن يكون ذلك قد وقع، وأجاب إلى العود إلى بغداد، وعاد، ووقع الصلح والاتفاق بينهما. وكان سبب الاتفاق أن جيوش بك كتب إلى السلطان محمود يطلب الزيادة للملك مسعود ولنفسه، فوصل كتاب الرسول يذكر أنه لقى من السلطان إحسانا كثيرا، وأنه أقطعهم أذربيجان.
فوقع الكتاب إلى منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان محمود له وللملك مسعود. وكان منكبرس متزوجا بأم الملك مسعود واسمها سرجهان، فعند ذلك تفرق عن البرسقى(27/12)
من كان معه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان والتحق بخدمة الملك مسعود، واستقر منكبرس فى شحنكية بغداد، وعاد الملك مسعود وجيوش بك إلى الموصل وعاد دبيس إلى الحلة واستقر منكبرس ببغداد، وأخذ فى الظلم والعسف والمصادرات، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم الخلافة خوفا منه، وكثر فساد أصحابه، حتى أن بعض أهل بغداد تزوج بامرأة فلما زفت إليه أتاه بعض أصحاب منكبرس وكسر بابه وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بالمرأة. فكثر الدعاء على منكبرس وأصحابه واستغاث الناس وأغلقوا الأسواق. فبلغ السلطان ذلك فاستدعاه إليه وحثه على اللحاق به، وهو يغالط ويدافع. فلما بلغ أهل بغداد ذلك طمعوا فيه وهموا به، ففارق بغداد، وسار إلى السلطان.
وظهر من كان قد استتر من الناس.
ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل لما توفى والده بقلعة من سرجهان «1» . وكان والده قد أقطعه ساوه وآوه «2» وزنجان فى سنة أربع وخمسماية:
وعمره إذ ذاك سنة، فإن مولده كان فى سنة ثلاث وخمسماية.(27/13)
وجعل السلطان أتابكه الأمير شيركير، ففتح عدة من قلاع الاسماعيلية فى سنة خمس وخمسمائة، منها قلعة كلام وقلعة بيرة «1» .
وغيرهما. فازداد ملك طغرل بما فتحه أتابكه شيركير، فأرسل السلطان. محمود الأمير كندغدى «2» ليكون أتابكا لأخيه الملك طغرل ومدبرا لأمره، وأمره بحمله إليه. فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه ونزع يده من طاعته، فوافقه على ذلك، فسمع السلطان الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثين ألف دينار، ووعد أخاه باقطاع كثير زيادة على ما بيده إن هو قصده واجتمع به،. فلم يجب إلى الاجتماع به. وقال كندغدى: «نحن فى طاعة السلطان، وأى جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بهم من أمرنا بقصده» . فبينما هم فى ذلك إذ ركب السلطان محمود من باب همذان فى عشرة آلاف فارس جريدة. وذلك فى جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه طغرل والأمير كندغدى.
فرأى أحد خواص السلطان تركيا من أصحاب الملك طغرل. فأعلم السلطان به، فقبض عليه. وكان معه رفيق سلم، وسار عشرين فرسخا فى ليلة، ووصل إلى الأمير كندغدى وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه بالخبر، فقام كندغدى لوقته وأخذ الملك طغرل(27/14)
وسار به مختفيا، وقصدا قلعة سميران «1» ، فضلا عن الطريق إلى قلعة سرجا هان «2» ، وكان ضلالهما سببا لسلامتهما، فإن السلطان جعل طريقه على قلعة سميران، فسلما منه بما ظناه عطبا.
ووصل السلطان إلى عسكر أخيه فكبسه ونهب ما فيه وأخذ من خزانة أخيه ثلثماية ألف دينار. وأقام السلطان بزنجان وتوجه منها إلى الرى ونزل طغرل من قلعة سرجاهان، ولحق هو وكندغدى، بكنجة «3» ، وقصده أصحابه فقويت شوكته، وتمكنت الوحشية بينهما.
وفى سنة ثلاث عشرة وخمسماية كانت الحرب بين السلطان سنجرشاه وبين السلطان محمود، وكان الظفر لعمه سنجرشاه عليه، وقطعت خطبته من بغداد، وخطب لسنجرشاه، ثم اتفقا وحضر (السلطان محمود) إلى خدمة عمه فأكرمه وأحسن إليه وجعله ولى عهده كما قدمناه فى أخبار السلطان سنجر.
قال: وأقطعه عمه سنجرشاه من حد خراسان إلى الداروم «4» بأقصى الشام، وهى من الممالك: همذان، وأصفهان، وبلد(27/15)
الجبال جميعها، وديار مضر «1» ، وبلاد فارس، وكرمان وخوزستان والعراق، وأذربيجان، وأرمينية، وديار بكر، وبلاد الموصل، والجزيرة، وديار ربيعة»
، وما بين هذه من الممالك.
قال القاضى عماد الدين بن الأثير فى تاريخه: ورأيت منشوره بذلك، وليس ابن الأثير هذا هو الجزرى صاحب التاريخ المترجم بالكامل بل هو صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية وهو الذى عاصرناه.
ذكر مقتل الأمير منكبرس
ومنكبرس هو الذى كان شحنة بغداد الذى قدمنا ذكره، وكان مقتله فى سنة ثلاث عشرة وخمسماية. وكان سبب قتله أنه لما انهزم السلطان محمود من عمه، عاد إلى بغداد، فنهب عدة مواضع من طريق خراسان، وقصد دخول بغداد. فسير دبيس بن صدقة من منعه، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطان وعمه. فدخل إلى السلطان سنجر ومعه سيف وكفن، فقال له: «انا لا أؤاخذ أحدا» وسلمه إلى السلطان محمود وقال له: «هذا مملوكك، اصنع به ما تريد» فأخذه، وكان فى نفسه منه أشياء: منها أنه لما توفى السلطان محمد أخذ سريته والدة الملك مسعود قهرا قبل انقضاء عدتها، ومنها استبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية العراق والسلطان(27/16)
كاره لذلك، وما فعله ببغداد. فقتله السلطان محمود صبرا وأراح الناس من شره والله أعلم.
ذكر مقتل الأمير على بن عمر
وفيها أيضا قتل الأمير على بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر الأمراء، وانقادت له العساكر، فحسده الأمراء وأفسدوا حاله مع السلطان محمود وحسنوا له قتله. فعلم بذلك فهرب إلى قلعة برجين- وهى بين بروجرد «1» وكرج- وكان بها أهله وماله، وسار منها فى مائتى فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبورى بن برسق وابنى أخويه أرغلى بن يلبكى وهندو بن زنكى.
فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته. فلما سار إليهم أرسلوا عسكرا منعوه من قصدهم، ولقوه على ستة فراسخ من تستر «2» فانهزم هو وأصحابه ووقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فنشب ذيله «3» بسرجه الأول (فأزاله) «4» ثم عاود التعلق فأبطأ فأدركوه وأسروه وكاتبوا السلطان محمود فى أمره، فأمرهم بقتله فقتلوه.(27/17)
ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والحرب بينهما والصلح
وفى سنة أربعة عشرة وخمسماية فى شهر ربيع الأول كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه مسعود. وكان لمسعود الموصل وأذربيجان وكان سبب هذه الحرب أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك الملك مسعود، ويحثه على طلب السلطنة. وكان مقصد أن يقع الاختلاف بينهما، فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبو باختلاف السلطان محمد وبركياروق. وكان اقسنقر البرسقى مع الملك مسعود منذ فارق شحنكية بغداد، وأقطعه الملك مسعود مراغا مضافة إلى الرحبة. وكان بينه وبين دبيس عداوة مستحكمة.
فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بالقبض على البرسقى، فعلم البرسقى بذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلا محله وزاده.
واتصل الأستاذ أبو اسماعيل الحسين بن على الأصبهانى الطغرائى بالملك مسعود. فاستوزره مسعود بعد (أن) عزل (أبا على) «1» بن عمار، فحسن له أيضا مخالفة السلطان، والخروج عن طاعته. فبلغ السلطان محمود الخبر فكتب إليهم يحذرهم من مخالفته، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على الطاعة، فلم يصغوا إلى قوله وأظهروا ما كانوا أضمروه،(27/18)
وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس «1» ، وكان ذلك على تفرق عساكر السلطان محمود، فقوى طمعهم وأسرعوا إليه ليلقوه وهو فى قلة من العسكر. واجتمع إليه نحو خمسة عشر ألف فارس.
فسار السلطان إليهم فالتقوا عند عقبة استراباد «2» نصف شهر ربيع الأول، واقتتلوا نهارا كاملا والبرسقى فى مقدمة عسكر السلطان محمود وأبلى يومئذ بلاء حسنا. فانهزم عسكر الملك مسعود فى آخر النهار، وأسر جماعة كبيرة من أعيان أصحابه. وأسر الوزير، فأمر السلطان بقتله وقال: «ثبت عندى فساد نيته» وكان حسن الكتابة والشعر، وله تصانيف فى صنعة الكيميا ضيعت للناس من الأموال ما لا يحصى كثرة.
قال: ولما انهزم أصحاب الملك مسعود وتفرّقوا، قصد جبلا بينه وبين المصاف اثنى عشر فرسخا، واختفى فيه بألفى فارس، وأرسل إلى أخيه يطلب منه الأمان، فرق له وأجابه إلى ما طلب، وأمر اقسنقر البخارى بالمسير إليه وإعلامه بعفو السلطان وبسط أمله.
ولما كتب إلى أخيه فى طلب الأمان وصل إليه بعد ذلك بعض(27/19)
الأمراء، وحسن له المسير إلى الموصل، ومكاتبة دبيس بن صدقة، والاتفاق معه، ومعاودة طلب السلطنة، فسار من ذلك الموضع ووصل اقسنقر البخارى فلم يجده فسار فى أثره وجد المسير، فأدركه على ثلاثين فرسخا من مكانه ذلك، فاجتمع به وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك. وأمر السلطان بإنزاله عند والدته وجلس له وأحضره، واعتنقا وبكيا، وانعطف عليه السلطان محمود، ووفّى له، وخلطه بنفسه فى جميع أحواله، فعد الناس ذلك من مكارم السلطان محمود. وكانت الخطبة لمسعود بالسلطنة بأذربيجان والجزيرة والموصل ثمانية وعشرين يوما.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة استراباد، وانتظر الملك مسعود فلم يره، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره فلما بلغه ما كان من أمر الملك مسعود وأخيه، سار إلى السلطان هو بهمذان ودخل إليه فأمنه.
وأما الأمير دبيس بن صدقة، فإنه نهب البلاد وخربها وفعل الأفعال القبيحة، فأمنه السلطان، والله أعلم.
ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود
قال: كان دخول الملك طغرل فى طاعة أخيه السلطان محمود فى المحرم سنة ست عشرة وخمسماية، وكان قد قصد أذربيجان(27/20)
فى سنة أربع عشرة. وكان أتابكه كندغدى يحسن له ويقويه عليه، فاتفقت وفاته فى شوال سنة خمس عشرة وكان الأمير اقسنقر صاحب مراغة «1» عند السلطان ببغداد، فاستأذن السلطان فى المضى إلى إقطاعه فأذن له، فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كندغدى عند الملك طغرل ويتنزل منزلته، فسار إليه واجتمع به، وأشار عليه بمكاشفة أخيه، وقال له: «اذا وصلت إلى مراغة، اتصل بك عشرة آلاف فارس وراجل» فسار طغرل معه، فلما وصلا إلى اردبيل «2» ، أغلقت أبوابها دونهما، فسارا عنها إلى قرية تبريز، فأتاهما الخبر أن السلطان محمود سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان، وأقطعه البلاد، وأنه نزل على مراغة فى عسكر كثيف، فعدلا إلى خويه «3» وانتقض عليهما ما كانا فيه، وراسلا الأمير شيران «4» - الذى كان أتابك طغرل- (أيام أبيه) «5» يدعوانه إلى إنجادهما. وكان باقطاعه أبهر وزنجان «6» ، فأجابهما واتصل بهما، وساروا إلى أبهر فلم يتم لهم ما أرادوه فعند ذلك راسلوا السلطان بالطاعة وسألوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك، واستقرت القاعدة، وتم الصلح.(27/21)
ذكر قتل الوزير السميرمى
وفى سلخ صفر سنة ست عشرة وخمسمائة قتل الوزير كمال الدين أبو طالب السميرمى وزير السلطان محمود وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان، فدخل إلى الحمام وخرج وبين يديه الرجالة والخيالة، وهو فى موكب عظيم، فاجتاز بمنفذ ضيق فيه (حظائر الشوك) «1» فتقدم أصحابه لضيق المكان، فوثب عليه باطنى، وضربه بسكين فوقعت فى بغلته، وهرب الضارب إلى دجلة، وتبعه الغلمان فخلا الموضع، فظهر رجل آخر فضربه بسكين فى خاصرته، وجذبه عن البغلة إلى الأرض، وضربه عدة ضربات.
وعاد أصحاب الوزير فحمل عليهم رجلان باطنيان، فانهزموا منهما ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة، وبه نيف وثلاثون «2» ، جراحة فقتلوا قتلته.
قال: ولما كان فى الحمام أخذ المنجمون له الطالع للخروج فقالوا:
«هذا وقت جيد، وإن تأخرت يفوت طالع السعد» فأسرع وركب وأراد أن يأكل طعاما فمنعوه لأجل الطالع، فقتل ولم ينفعه ذلك.
وكانت وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر، وانتهب ماله، وأخذ السلطان خزانته. وكانت زوجته قد خرجت فى هذا اليوم فى موكب كبير ومعها نحو ماية جارية وجمع من الخدم، والجميع بمراكب(27/22)
الذهب.. فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات، وقد تبدلن عن العز هوانا، وعن المسرة أحزانا.
وكان السميرمى ظالما كثير المصادرات للناس، سيىء السيرة، فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس، واستوزر بعده شمس الملك عثمان بن نظام الملك.
ذكر قتل الأمير جيوش بك
كان مقتله فى شهر رمضان سنة ست عشرة وخمسماية. وكان السلطان قدمه بعد عوده إليه، وأحسن إليه، وأقطعه أذربيجان، وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين الأمراء منافرة ومنازعة، فوشوا به عند السلطان فقتله. وكان عادلا، حسن السيرة.
وفيها أقطع السلطان محمود الأمير اقسنقر البرسقى مدينة واسط. وأعمالها، مضافة إلى ولاية الموصل وشحنكية العراق، فسير البرسقى إلى واسط عماد الدين زنكى.
ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج
وفى سنة سبع عشرة وخمسماية اشتدت نكاية الكرج «1» فى بلاد الإسلام، ونظم الامر على الناس، لا سيما أهل(27/23)
دربند شروان «1» ، فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان، وشكوا إليه ذلك، فسار إليهم وقد وصل الكرج إلى شماخى «2» فنزل السلطان ببستان هناك، وتقدم الكرج إليه، فخافهم العسكر خوفا شديدا، وأشار الوزير على السلطان بالعود. فلما سمع أهل شروان بذلك، قصدوا السلطان وقالوا: «نحن نقاتل ما دمت عندنا وإن تأخرت ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا» فأقام بمكانه، وبات العسكر على وجل عظيم، فأتاهم الله بفرج من عنده، وألقى بين الكرج والقفجاق الاختلاف، فاقتتلوا تلك الليلة، ورحلوا شبه المنهزمين، وكفى الله المؤمنين القتال. وأقام السلطان بشروان ثم عاد إلى همذان.
وفى سنة ثمان عشرة وخمسماية عزل اقسنقر البرسقى عن شحنكية العراق ورسم له بالعود إلى الموصل، وأرسل السلطان محمود إليه ولدا صغيرا له مع أمه ليكون عنده. فلما وصل الصغير إلى العراق تلقته المواكب، وكان لدخوله يوما مشهودا. وتسلم البرسقى الصغير وسار به وبأمه إلى الموصل. وولى شحنكية العراق سعد الدولة برنقش «3» . وملك البرسقى فى هذه السنة مدينة حلب وقلعتها.(27/24)
ذكر وصول الملك ودبيس بن صدقة الى العراق وعودهما
كان الخليفة المسترشد بالله خرج لقتال دبيس بن صدقة فى سنة سبع عشرة وخمسماية، وقاتله، فانهزم دبيس كما ذكرناه فى أخبار المسترشد، ثم التحق بعد هزيمته بالملك طغرل أخى السلطان محمود. فلما وصل إليه أكرمه وأحسن إليه، وجعله من أعيان خواصه وأمرائه. فحسن له دبيس قصد العراق، وهون الأمر عليه، وضمن له أن يملكه، فسار معه إلى العراق فى سنة تسع عشرة وخمسماية فوصلوا إلى دقوقاء «1» فى عساكر كثيرة. فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة بذلك، فخرج الخليفة فى العساكر والرجال ونزل بصحراء الشماسية «2» ، وبرنقش أمامه.
فلما بلغ الملك طغرل الخبر، عدل إلى طريق خراسان، وتفرق أصحابه للنهب وتوجه هو ودبيس إلى الهارونية «3» . وسار الخليفة حتى أتى الدسكرة «4» ، فاستقر الأمر بين طغرل ودبيس أن يسيرا حتى يعبرا نهر ديالى «5» ويقطعا جسر النهروان، ويقيم دبيس لحفظ.
المخايض، ويتقدم الملك طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها.(27/25)
فسارا على ذلك فحصل لطغرل حمى شديدة منعته من ذلك، وبلغ الخليفة الخبر، فعاد إلى بغداد. وانتقض على طغرل ودبيس مادبراه، فقصدا السلطان سنجر واجتازا فى طريقهما بهمذان. فبسط على أهلها ما لا كثيرا وأخذاه، فبلغ خبرهما السلطان محمود فجد السير فى إثرهما، فانهزما منه إلى خراسان، واجتمعا بالسلطان سنجر، وشكيا من الخليفة، وبرنقش، وأقاما عند السلطان سنجر؛ ثم كان من أمرهما ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر مقتل البرسقى وملك ابنه عز الدين مسعود
وفى سنة عشرين وخمسماية قتل اقسنقر البرسقى صاحب الموصل بمدينة الموصل، قتله الباطنية فى يوم الجمعة بالجامع. وكان من عادته أنه يصلى الجمعة فى الجامع مع العوام. وكان قد رأى فى منامه فى تلك الليلة أن عدة من الكلاب ثاروا به، فقتل بعضهم ونال منه الباقى ما أذاه، فقص ذلك على أصحابه فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام. فقال: «لا أترك الجمعة لشئ أبدا» فغلبوه على رأيه ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، وأخذ المصحف ليقرأ فيه، فأول ما خرج له وله تعالى: «وكان أمر الله قدرا مقدورا» فركب إلى الجامع على عادته. وكان يصلى فى الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفسا، عدة الكلاب التى رآها، فجرحوه بالسكاكين، فجرح (هو) «1» ، بيده ثلاثة منهم، وقتل رحمه الله تعالى.(27/26)
وكان تركيا خيرا، يحب أهل العلم والدين، كثير العدل يحافظ.
على الصلوات لأوقاتها، ويصلى بالليل تهجدا. ولما قتل كان ابنه مسعود بحلب يحفظها من الفرنج، فأرسل إليه أصحاب والده بالخبر فسار إلى الموصل، ودخلها فى أول ذى الحجة، ثم توجه إلى السلطان محمود فأحسن إليه وأعاده.
وفى هذه السنة وقع الاختلاف بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله.
وكان سببه برنقش، فسار السلطان إلى العراق، وكان بينه وبين الخليفة ما قدمناه فى أخبار المسترشد بالله، ثم اتفقا على مال حمله الخليفة إليه.
وفى سنة إحدى وعشرين وخمسماية.
أسند السلطان شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكى على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.
وفيها فى عاشر شهر ربيع الآخر سار السلطان محمود من بغداد وحمل إليه الخليفة الخلع والدواب الكثيرة، فقبل جميع ذلك، ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبى القاسم على بن الناصر النسابادى «1» فى شهر رجب لأنه اتهمه بممالأة المسترشد بالله، وأرسل إلى بغداد وأحضر شرف الدين أنوشروان بن خالد، فوصل إلى السلطان وهو بإصفهان، فخلع عليه الوزارة واستوزره، فاستمر عشرة أشهر وعزل نفسه، وعاد إلى بغداد فى شعبان سنة اثنتين وعشرين، فأعيد الوزير أبو القاسم.(27/27)
وفى سنة إحدى وعشرين توفى عز الدين مسعود بن البرسقى أمير الموصل فأقام السلطان مقامه عماد الدين زنكى.
وفى سنة اثنتين وعشرين وخمسماية قدم السلطان سنجر عم السلطان (محمود) إلى الرى، واستدعى السلطان (محمود) «1» فسار إليه فأكرمه وأجلسه معه على التخت، ولما عاد (سنجر) «2» إلى خراسان سلم دبيس بن صدقة إلى السلطان محمود، وأوصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده، فرجع محمود إلى همذان، ودبيس فى صحبته.
ثم سار إلى العراق، وقدم بغداد فى المحرم سنة ثلاث وعشرين:
ودبيس معه ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله. فامتنع الخليفة من إجابة السلطان إلى ولاية دبيس ابن صدقة البتة، فلم يمكن السلطان إجباره وأقام ببغداد إلى رابع جمادى الآخرة من السنة، وعاد إلى همذان، وجعل بهروز على شحنكية بغداد، وسلم إليه الحلة واستصحب دبيس بن صدقة معه.
ذكر ما فعله دبيس بن صدقة وما كان من أمره
قال: ولما سار السلطان محمود من بغداد إلى همذان ماتت زوجتا ابنة عمه السلطان سنجر، وكانت تعتنى بأمر دبيس. فلما ماتت انحل نظامه. واتفق أن السلطان مرض مرضا شديدا، فأخذ دبيس ابنا له صغيرا وقصد العراق، فلما بلغ المسترشد خبره، جند(27/28)
الأجناد وحشّد وجمع. وكان بهروز بالحلة ففارقها ودخلها دبيس فى شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسماية. فلما بلغ السلطان الخبر أحضر الأميرين نيزك «1» والأحمديلى وقال: «أنتما ضمنتما منى دبيس بن صدقة وأريده منكما» . فسار الأحمديلى إلى العراق فاتصل خبره بدبيس، فكتب إلى الخليفة يستعطفه ويقول: «إن رضيت عنى فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك» ، وترددت الرسائل بينهما، ودبيس فى خلال ذلك يجمع الرجال والأموال «2» ، وكان معه ثلاثمائة فارس فصار فى عشرة آلاف فارس: ووصل الأحمديلى بغداد فى شوال، وسار إلى دبيس، وسار السلطان بعد ذلك إلى العراق، فأرسل إليه دبيس هدايا جليلة وبذل ثلاثمائة حصان منعولة بالذهب ومائتى ألف دينار إن رضى عنه السلطان والخليفة، فلم يجبه إلى ذلك. فسار إلى البصرة وأخذ منها أموالا كثيرة، فسير الخليفة فى إثره عشرة آلاف فارس ففارق البصرة ودخل البرية، ثم سار إلى الشام فى سنة خمس وعشرين ليملك صرخد، وكان صاحبها قد توفى، واستولت جاريته على القلعة وما فيها، فاستدعت دبيس بن صدقة ليتزوج بها، ويملك القلعة. فسار إليها فضلّ عن الطريق، فنزل بناس من كلب «3»(27/29)
كانوا بنواحى الغوطة»
فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق، فحبسه عنده، فسمع أتابك زنكى خبره، فأرسل إليه يطلبه منه ويتهدده إن لم يرسله إليه، فأرسله إليه، فأحسن إليه زنكى إحسانا لم يسمع بمثله، وكان قد ظن أنه يهلكه فأقام عنده وانحدر معه إلى العراق (والله اعلم) .
وفى سنة أربع وعشرين وخمسماية خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان وكان عند عمه السلطان سنجر ووصل إلى ساوه. فسار السلطان من بغداد إلى همذان، وفى ظنه أن مسعود يخالفه على عادته. فلما وصل إلى كرمان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه، فأقطعه كنجه وأعمالها.
ذكر وفاة السلطان محمود وشىء من اخباره وملك ابنه داود
كانت وفاته بهمذان فى شوال سنة خمس وعشرين وخمسماية وكان له من العمر نحو سبع «2» وعشرين سنة، وكانت مدة سلطنته ثلاث عشرة سنة «3» وتسعة أشهر وعشرين يوما وكان حليما كريما عاقلا، يسمع ما يكره فلا يعاقب عليه مع القدرة، قليل الطمع(27/30)
فى أموال الناس، عفيفا عنها، كافا لأصحابه عن الظلم والتطرق إلى أموال رعيته.
ونقل بعض المؤرخين أن الأموال ضاقت فى آخر أيامه حتى عجزوا فى بعض الأيام عن إقامة وظيفة الفقاعى، فدفعوا له بعض صناديق الخزانة فباعها وصرف ثمنها فى حاجته. ولما توفى والد السلطان محمد خلف ثمانية آلاف ألف دينار، سوى المصوغات والجواهر وأصناف الثياب وغير ذلك، فآل الأمر فى أيام محمود إلى هذه الغاية. قال: وطلب يوما من سابور الخادم الخازن غالية «1» ، فشكا «2» إليه الإقلال واستمهله. ثم أحضر إليه بعد مدة ثلاثين مثقالا، فقال له السلطان وكان خازن أبيه: «كم كان فى خزانة السلطان والدى من الغالية؟» فقال: «كان فى قلعة أصفهان منها فى أوانى الذهب والفضة والبلور المحكم والصينى ما يقارب ماية وثمانين رطلا، ومعنا فى خزانة الصحبة ما يقارب ثلاثين رطلا» فجعل يتعجب من ذلك ويقول لمن حضر: اعجبوا من التفاوت بين هذه الأيام وتلك» .
وكان له من الأولاد. محمدشاه ولى السلطنة، وملكشاه وليها أيضا، وجفرى شاه، وداود ووزراؤه ربيب الدولة أبو منصور وزير والده. ثم نظام الدين كمال الملك أبو طالب على بن أحمد السميرمى، صفى أمير المؤمنين إلى أن قتل كما ذكرناه. واستوزره بعده شمس الدين عثمان بن نظام الملك إلى أن قتله فى سنة سبع(27/31)
عشرة وخمسماية. واستوزر الوزير القوام أبا القاسم على بن الناصر النساباذى، وقبض عليه فى شهر رجب سنة عشرين. واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد، ثم استعفى من الوزارة وأعيد الوزير أبو القاسم.
قال: ولما توفى السلطان محمود جلس ابنه داود فى السلطنة باتفاق من الوزير أبى القاسم، وأتابكه اقسنقر الأحمديلى، وخطب له فى جميع بلاد الجبل [وأذربيجان] «1» . ولما اطمأن الناس وسكنوا سار الوزير بأمواله إلى الرى ليأمن بها حيث هى للسلطان سنجر.
وكان سبب خوفه أنه قبل وفاة السلطان محمود خاف من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة منهم: عين الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفى، والأمير أنوشتكين المعروف بشير كير. وولده عمر وهو أمير حاجب، فقبض عليهم. فأما عين الدولة فإنه أرسله إلى مجاهد الدين بهروز فحبسه بتكريت، ثم قتل بها، وأما شير كير وولده.
فقتلهما فى جمادى الآخرة.
ذكر أخبار السلطان غياث الدنيا والدين أبى الفتح مسعود بن ملكشاه وما كان من أمره، وخروجه من السلطنة وسلطنة أخيه السلطان طغرل، وعوده اليها
وقد رأيت من قدم أخبار السلطان طغرل على أخبار أخيه السلطان مسعود ثم ذكر سلطنة مسعود بعدها. وليس كذلك لأن السلطان(27/32)
طغرل ما تسلطن إلا بعد حرب السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، ومسعود لم يحارب عمه سنجر بعد أن خطب له بالسلطنة فتعين بهذا أن السلطان مسعود تقدمه فى السلطنة وقد بدأت بأخبار السلطان مسعود وجعلت أخبار السلطان طغرل مندمجة فى أخبار السلطان مسعود وبينتها بالتراجم الدالة عليها لأن السلطان مسعود تسلطن قبله وعاش بعده.
ذكر ما اتفق للسلطان مسعود مع أخيه الملك سلجق شاه وداود بن محمود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود
قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه المترجم بالكامل: لما توفى السلطان محمود بن محمد، وخطب لولده الملك داود ببلاد الجبل أذربيجان سار الملك داود من همذان فى ذى القعدة سنة خمس وعشرين وخمسماية إلى زنكان «1» ؛ فأتاه الخبر بمسير عمه. السلطان مسعود من جرجان، وأنه وصل إلى تبريز واستولى عليها. فسار الملك داود إليه، وحصره بها وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وتأخر الملك داود مرحلة، وخرج السلطان مسعود من تبريز، واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وكانت رسل الملك داود تقدمت إلى بغداد فى طلب الخطبة، فأجاب المسترشد بالله إن الحكم فى الخطبة للسلطان سنجر، فمن أراد(27/33)
خطب له. وأرسل الخليفة إلى السلطان سنجر أن لا يأذن فى الخطبة لأحد، وأنه ينبغى أن تكون الخطبة له وحده دون بنى أخيه، فوقع ذلك منه موقعا حسنا. ثم إن السلطان مسعود كاتب عماد الدين أتابك زنكى صاحب الموصل وغيرها يستنجده ويطلب مساعدته فوعده بالنصر، فقويت نفسه بذلك على طلب السلطنة.
قال: ثم إن السلطان «1» سلجق شاه بن محمد ساربه أتابكه قراجا الساقى صاحب بلاد فارس وخوزستان فى عسكر كثير إلى بغداد، فوصل إليها قبل وصول أخيه السلطان مسعود، ونزل بدار السلطنة، فأكرمه الخليفة واستخلفه لنفسه. ثم [وصل رسول السلطان] «2» يطلب الخطبة لنفسه ويتهدد إن منعها، فلم يجبه المسترشد إلى ما طلب، فسار حتى نزل عباسية «3» الخالص. فبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجق شاه قراجا الساقى نحو مسعود، وقد عزموا على حربه، فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكى إلى المعشوق «4» ، فعبر قراجا الساقى فى أكثر العساكر إلى الجانب الغربى وسار فى يوم وليلة إلى المعشوق، والتقى هو وزنكى فهزمه الساقى وأسر جماعة من أصحابه، وانهزم زنكى إلى تكريت، وسار إلى الموصل.(27/34)
قال: وسار السلطان مسعود من العباسية المالكية «1» ، وحصلت المناوشة بين عسكره وعسكر أخيه سلجق شاه ودامت يومين، فأرسل سلجق شاه إلى قراجا يستحثه فى العود، فعاد مسرعا. فلما علم مسعود بهزيمة زنكى رجع إلى ورائه، وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الرى، وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره، ويقول: «إن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق [ويكون العراق] «2» لوكيل الخليفة فأنا موافق على ذلك» . وترددت الرسائل بينهم، فوقع الاتفاق على أن يكون العراق لوكيل الخليفة، والسلطنة لمسعود وسلجق شاه ولى عهده، وتحالفوا على ذلك.
ودخل السلطان مسعود بغداد ونزل بدار السلطنة ونزل سلجق شاه بدار الشحنكية، وذلك فى جمادى الأولى سنة ست وعشرين وخمسماية.
ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرشاه وهزيمة مسعود وسلطنة طغرل
قال: ولما وصل الخبر بوفاة السلطان محمود إلى عمه السلطان سنجرشاه، سار عن خراسان إلى بلاد الجبال «3» ومعه الملك طغرل ابن السلطان محمد، وكان قد لازمه، فوصلا إلى الرى ثم إلى همذان، فاتصل الخبر المسترشد بالله والسلطان مسعود ومن(27/35)
قال: ولما تمت الهزيمة على مسعود، نزل السلطان سنجر وأحضر قراجا الساقى وسبه ووبخه وقال له: «يا مفسد، أى شىء كنت ترجو بقتالى» قال: «كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطانا أحكم عليه» . فقتله صبرا، وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه، فحضر إليه فأكرمه، وعاتبه على عصيانه ومخالفته وأعاده إلى كنجه.
وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد فى السلطنة، وخطب له فى جميع البلاد، واستوزر له الوزير: أبا القاسم النساباذى وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان.
ذكر الحرب بين السلطان طغرل بن محمد وبين أخيه الملك داود بن محمود
قال: لما توجه السلطان سنجر إلى خراسان عصى الملك داود بن محمود على عمه السلطان طغرل وجمع العساكر، وسار إلى همذان فى مستهل شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسماية. فخرج إليه السلطان طغرل، وعبى كل منهما أصحابه، والتقوا فوقع الخلف فى عسكر داود، فهرب أتابكه اقسنقر الأحمديلى، وتبعه الناس، وبقى الملك داود متحيرا إلى أوائل ذى الحجة منها فقدم بغداد هو وأتابكه الأحمديلى.(27/37)
ذكر عود السلطان مسعود [بن محمد] «1» الى السلطنة وانهزام طغرل
قال: لما سمع السلطان مسعود انهزام داود، وأنه قصد بغداد، سار هو أيضا إلى بغداد فى سنة سبع وعشرين وخمسماية. فلما قاربها لقيه داود ودخل فى خدمته إلى بغداد، ونزل بدار السلطنة فى صفر، وخاطب فى الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له ولداود بعده. ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما وخلع على مسعود فى يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة. وكانت الخلع سبع دراريع مختلفات الأجناس والألوان والسابعة سوداء، وتاجا مرصعا بالجوهر والياقوت، وطوق ذهب وسراويل، وقلده بسيفين وعقد له لواءين بيده، وسلم إليه داود بن أخيه وأوصاه به مشافهة.
ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان، وأرسل الخليفة معهما عسكرا فساروا.
وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وهرب من بها من الأمراء مثل قراسنقر وغيره، وتحصن كثير منهم بمدينة أردبيل «2» ، فقصدهم مسعود وحصرهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة، وانهزم الباقون. ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل فاستولى عليها فى شعبان. ولما استقر بها قتل اقسنقر الأحمديلى،(27/38)
قتله الباطنية. وسار طغرل حتى بلغ قم «1» ، ثم عاد إلى أصفهان وأراد أن يتحصن بها، فسار إليه مسعود ليحاصره بها فرحل طغرل إلى بلاد فارس. واستولى مسعود على أصفهان، وفرح أهلها به، ثم سار منها نحو فارس، فوصل إلى موضع بقرب البيضا «2» ، فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه طغرل معه أربعماية فارس، فأمنه فخاف طغرل من عسكره أن يلتحقوا بأخيه، فانهزم وقصد الرى.
قال: ولما تم على طغرل ماتم من الهزيمة، قال لوزيره أبى القاسم النساباذى: «قد علمت أنه ماتم علىّ هذا الخذلان إلا لظلمك للعباد فقال له: «لا تقلق، قد أمرت أهل ألموت بقتل اقسنقر وسائر أعدائك وهم فاعلون» فأمر به فضرب وصلب، فانقطع به الحبل، فقطع إربا إربا، وطيف بأعضائه فى كل بلد عضو، وكان قتله بأصفهان.
واستمر طغرل حتى أتى الرى فى ثلاثة آلاف فارس، وسار الملك مسعود فى طلبه فلحقه بموضع يقال له ذكراور، فوقع بينهما مصاف هناك، فانهزم طغرل ووقع عسكره فى أرض قد نضب عنها الماء، وهى وحل، فأسر منهم جماعة فأطلقهم مسعود، ولم يقتل فى هذا المصاف إلا نفر يسير. وكان هذا المصاف فى ثامن عشر شهر رجب سنة سبع وعشرين وخمسماية، ورجع الملك مسعود إلى همذان.(27/39)
ذكر عود الملك طغرل الى الجبل وانهزام السلطان مسعود
وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية عاد الملك طغرل إلى بلاد الجبل فملكها؛ وسبب ذلك أن السلطان مسعود لما عاد من حربه، بلغه عصيان داود ابن أخيه بأذربيجان، فسار إليه وحصره بقلعة روندر «1» واشتغل بحصره، فجمع الملك طغرل العساكر، واستمال بعض أمراء السلطان مسعود، وتقدم لفتح البلاد وفتحها أولا فأولا، وكثرت عساكره، فقصد مسعود. فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه، ولما تدانا العسكران انهزم السلطان مسعود وذلك فى أواخر شعبان من السنة، فأرسل إلى الخليفة المسترشد بالله فى القدوم إلى بغداد فأذن له. وكان نائبه بأصفهان النفيس «2» السلاحى ومعه الملك سلجق شاه، فلما سمعا بانهزام مسعود قصدا بغداد فنزل سلجق شاه بدار السلطان فأكرمه الخليفة وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم مسعود إلى بغداد، وأكثر أصحابه على الجمال لعدم الخيل، فأرسل إليه الخليفة ما يحتاج إليه من الخيل والخيام والسلاح والثياب وغير ذلك، ونزل بدار السلطنة، وذلك فى منتصف شوال من السنة. وأقام طغرل بهمذان فعاجلته المنية.(27/40)
ذكر وفاة الملك طغرل وملك أخيه السلطان مسعود بلد الجبل
كانت وفاته بهمذان فى المحرم سنة تسع وعشرين وخمسماية ومولده فى المحرم سنة ثلاث وخمسماية. وكان عاقلا خيرا عادلا، محسنا إلى الرعية قريبا منهم. وكان قبل وفاته قد خرج يريد السفر لقتال أخيه مسعود، فدعا له الناس فقال: «ادعو لخيرنا للمسلمين» وكان له من الأولاد أرسلان شاه، ولى السلطنة، ومحمد ألب أرسلان لم يلها. وزراؤه: الوزير قوام الدين النساباذى وزير السلطان محمود إلى أن قتله، ثم استوزر شرف الدين على بن رجا. قال: ولما توفى وصل الخبر بموته أخيه السلطان مسعود، فسار من وقته نحو همذان، وأقبلت العساكر إليه ودخلت فى طاعته، واستقل بالسلطنة بعده.
وفى هذه السنة وقع بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود، والتقوا واقتتلوا، فانهزمت عساكر الخليفة ثم قتل على ما قدمناه فى أخبار الدولة العباسية.
ذكر قتل الأمير دبيس بن صدقة
وفى سنة تسع وعشرين وخمسماية قتل السلطان مسعود الأمير دبيس بن صدقة وهو على باب سرادقه بظاهر مدينة خوى. أمر غلاما أرمنيا بقتله، فقام على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه فضرب عنقه وهو لا يشعر. وكان صدقة يعادى المسترشد كما(27/41)
ذكرناه، فلما قتل المسترشد ظن صدقة أن الدنيا قد صفت له، فما لبث بعده. وهذه عادة الدنيا يتبع صفاها كدرها، وجودها ضررها كما قيل.
إن الليالى لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان
قال: ولما قتل دبيس كان ابنه صدقة بالحلة، فاجتمع إليه مماليك أبيه وأصحابه وكثر جمعه، وبقى بها إلى أن قدم السلطان بغداد فى سنة إحدى وثلاثين، فقصده وأصلح حاله معه، ولزم بابه.
ذكر اجتماع الأطراف على حرب السلطان مسعود وخروجهم عن طاعته
وفى سنة ثلاثين وخمسماية اجتمع كثير من أصحاب الأطراف على الخروج عن طاعة السلطان [مسعود] . فسار الملك داود ابن أخى السلطان فى عسكر أذربيجان إلى بغداد، فوصل إليها فى رابع صفر ونزل بدار السلطنة. ووصل بعده عماد الدين زنكى صاحب الموصل.
ووصل الأمير برنقش بازدار صاحب قزوين وغيرها؛ والنفيس الكبير [صاحب أصفهان وصدقة بن دبيس] «1» صاحب الحلة وغيرهم. فجعل الملك داود فى شحنكية بغداد برنقش بازدار، وقطعت خطبة السلطان مسعود وخطب لداود، فسار السلطان مسعود إلى بغداد، فتفرقت تلك الجيوش وسار الخليفة وزنكى إلى الموصل(27/42)
وخلع الراشد، وبويع المقتضى على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية..
وفى سنة ثلاثين وخمسماية عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلمة الدر كزينى وهو من خراسان.
وفيها أرسل السلطان قراسنقر بعساكر كثيرة فى طلب الملك داود، فسار وأدركه عند مراغة، فالتقيا واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم داود إلى خوزستان، فاجتمع عليه هناك كثير من التركمان وغيرهم، فبلغت عدتهم عشرة آلاف فارس، فقصد بهم تستر «1» وحاصرها. وكان عمه السلطان سلجق شاه ابن السلطان محمد بواسط، فأرسل إلى أخيه السلطان مسعود يستنجده ويستمده، فأمده بالعساكر، فسار إلى داود وهو يحاصر تستر، فالتقوا فانهزم سلجق شاه.
وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية أذن السلطان مسعود للعساكر التى عنده ببغداد فى العود إلى بلادهم، وذلك فى المحرم منها. وسبب ذلك أنه بلغه أن الراشد بالله المخلوع فارق الموصل. قال: وزوج ابنته للأمير صدقة بن دبيس بن صدقة، وتزوج الخليفة المقتضى بفاطمة أخت السلطان فاطمأن السلطان عند ذلك وفرق العساكر.(27/43)
ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء
وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية كانت الحرب بينهم، وسبب ذلك أن الراشد بالله المخلوع فارق الموصل وسار نحو أذربيجان فوصل إلى مراغة. وكان الملك داود بن محمود والأمير منكبرس صاحب فارس والأمير بوزابه نائبه بخوزستان، والأمير عبد الرحمن طغايرك على خوف ووجل من السلطان. فتجمعوا كلهم ووافقوا الراشد على الاجتماع معه ليكونوا يدا واحدة ويردوه إلى الخلافة فأجابهم إلى ذلك، إلا أنه لم يجتمع معهم. ووصل الخبر إلى السلطان وهو ببغداد، فسار عنها فى شعبان، والتقوا واقتتلوا، فانهزم الملك داود، وأسر الأمير منكبرس فقتل صبرا بين يدى السلطان وتفرقت عساكر السلطان مسعود فى النهب واتباع من انهزم، وكان بوزابه وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان وقد تفرقت عساكره، فحملا عليه، فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابه على جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة وأتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وعنتر بن أبى العساكر، وتركهم عنده. فلما بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم جميعا وصار العسكران مهزومين، وهذا من عجيب الاتفاق.
وقصد السلطان مسعود أذربيجان وقصد الملك داود همذان، ووصل إليها الراشد بعد الوقعة واختلفت آراء الجماعة، فمنهم(27/44)
عز الملك. وضاقت الأمور على السلطان، فاستقطع البلاد على غير رضاه، ولم يبق له غير اسم السلطنة.
وفيها توفيت زبيدة خاتون زوجة السلطان مسعود، وهى ابنة السلطان بركياروق، فتزوج مسعود بعدها سفرى ابنة دبيس بن صدقة فى جمادى الأولى وتزوج أيضا ابنة قاروت، وهو من البيت السلجقى.
وفيها أيضا قتل السلطان [مسعود] ابن البقش السلاحى شحنة بغداد لظلمه وعسفه للناس، وجعل شحنة العراق مجاهد الدين بهروز، فأحسن السيرة.
وفى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية قدم السلطان مسعود إلى بغداد فى فصل الشتاء، وصار يشتو «1» بالعراق ويصيف بالجبال. ولما قدمها أزال المكوس وكتب الألواح بإزالتها، ووضعت على أبواب الجوامع وفى الأسواق. وتقدم إلى الجند أن لا ينزل أحد منهم فى دار عامى إلا من اذن له، فكثر الدعاء له والثناء عليه.
وفى سنة تسع وثلاثين وخمسماية قبض السلطان على وزيره البروجردى، واستوزر بعده المرزبان أبا عبد الله بن نصر الأصفهانى وسلم إليه البروجردى، فاستخرج منه الاموال، ومات مقبوضا عليه.(27/46)
ذكر اتفاق بوزابة وعباس على الخروج عن طاعة السلطان مسعود
وفى سنة أربعين وخمسماية سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان فى عساكره إلى قاشان، ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، واجتمع بوزابه والأمير عباس صاحب الرى، واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان وملكا كثيرا من بلاده. فأتاه الخبر وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك- وهو الحاكم فى دولته- وكان ميله إليهما. فسار السلطان عن بغداد فى شهر رمضان. فلما تقابل العسكران ولم يبق إلا القتال، لحق سليمان شاه بأخيه السلطان مسعود، وشرع عبد الرحمن فى تقرير الصلح على القاعدة التى أرادوها. وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وارّانية على ما بيده، وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود، [وهو وزير بوزابه] «1» وصار السلطان معهم تحت الحجر.
ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الرى
وفى سنة إحدى وأربعين وخمسماية قتل السلطان مسعود الأمير عبد الرحمن طغايرك أمير حاجب دولته والحاكم عليها، وكان لم يبق للسلطان معه غير الاسم وكان سبب قتله أنه لما ضيق على السلطان(27/47)
وحجر عليه واستبد بالأمر دونه وأبعد خواصه عنه، فكان ممن أبعد عنه بك أرسلان المعروف بخاص بك، وكان السلطان قد رباه وقربه فأبعده عنه وحجبه، وصار لا يراه. وكان فى خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة، فاستقر بينه وبين السلطان قتل عبد الرحمن.
فاستدعى خاص بك من يثق به وتحدث معهم، فكلهم خاف الإقدام عليه إلا رجل اسمه زنكى- وكان جاندارا- فإنه بذل من نفسه أن يلقاه ويبدأه بالقتل، ووافق خاص بك على ذلك جماعة من الأمراء فبينما عبد الرحمن فى موكبه بظاهر جنزه «1» ، إذ ضربه زنكى الجاندار على رأسه بمقرعة حديد كانت فى يده، فسقط إلى الأرض وأجهز عليه خاص بك، وأعانه جماعة ممن كان واطأه من الأمراء.
وبلغ السلطان الخبر وهو ببغداد، ومعه الأمير عباس صاحب الرى وعسكره أكثر من عسكر السلطان، فأنكر الأمير عباس ذلك وتألم له، فداراه السلطان ولطف به، ثم استدعاه فى بعض الأيّام.
فلما عبر إليه، منع أصحابه من الدخول وعدل به إلى حجرة، وقيل له: اخلع الزردية، وكان لا يزال يلبسها، فقال: إن لى مع السلطان أيمانا وعهودا، فلكموه وخرج عليه غلمان أعدوا له، فتشاهد وخلع الزردية وألقاها فضربوه بالسيوف، واحتزوا رأسه، وألقوه إلى أصحابه، ثم ألقوا جسده ونهبت خيامه. وكان مقتله فى ذى القعدة.
وكان من غلمان السلطان محمود حسن السيرة ودفن بالجانب الغربى ثم أرسلت ابنته وحملته إلى الرى ودفنته هناك.(27/48)
قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل: ومن الاتفاق العجيب أن العبادى كان يعظ يوما فحضره عباس فأسمع [العبادى] بعض من حضر المجلس، ورمى بنفسه نحو الأمير عباس، فضربه أصحابه خوفا عليه، لأنه كان شديد الاحتراس من الباطنية، لا يفارق لبس الزردية ومعه الغلمان الأجلاد، فقال له العبادى: «يا أمير كم ذا الاحتراز، والله لئن قضى عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية، فينفذ القضاء فيك» فكان كما قال كان السلطان قد استوزر ابن دارسست وزير بوزابة كارها، فلما كان الآن استعفى وسأل العزل والعود إلى صاحبه فعزله وقرر معه أن يصلح له بوزابه ويزيل ما عنده من الاستشعار بسبب قتل عبد الرحمن وعباس.
وفيها حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، والله أعلم.
ذكر قتل الأمير بوازبة
قال: ولما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكر فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها وسير عسكرا آخر إلى همذان، وعسكرا ثالثا إلى قلعة الباهلى «1» ثم سار هو عن أصفهان(27/49)
وراسل السلطان مسعود فى الصلح فلم يجبه؛ وسار مجدا فالتقيا بمرج قراتكين «1» واقتتل العسكران، فانهزمت ميمنة السلطان وميسرته واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه، وصبر الفريقان فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه. وقيل بل كبابه فرسه فأخذ أسيرا، وحمل إلى السلطان فقتل بين يديه، وانهزم أصحابه،. وبلغت هزيمة ميمنة السلطان وميسرته إلى همذان. وقتل من الفريقين خلق كثير. وكانت هذه الحرب من أعظم الحروب الكائنة بين الأعاجم.
وكانت فى سنة اثنتين وأربعين والله أعلم.
ذكر الخلف بين السلطان وجماعة من الأمراء ووصولهم الى بغداد وما كان منهم
وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية فارق السلطان مسعود جماعة من الأمراء الأكابر وهم: ايلدكز المسعودى صاحب كنجة وأرانية «2» ، وتبر الحاجب، وطرنطاى المحمودى شحنة واسط، وابن طغايرك وغيرهم.
وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى [خاص بك] ، واطراحه لهم فخافوا أن يفعل بهم كما فعل بعبد الرحمن وعباس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق. فلما بلغوا حلوان خاف الناس ببغداد وأعمال(27/50)
العراق، وغلت الأسعار وأرسل الخليفة إليهم العبادى الواعظ فلم يرجعوا، ووصلوا إلى بغداد فى شهر ربيع الآخر، ومعهم الملك محمد ابن السلطان محمود، فنزلوا بالجانب الشرقى.
ووقع القتال بين الأمراء وعامة بغداد ومن بها من العسكر عدة وقعات، فانهزم الأمراء من العامة فى بعض الأيّام خديعة ومكرا، فلما تبعوهم عطفوا عليهم وقتلوهم، فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله وتفرق العسكر بالمحال الغربية، وأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة ونهبوا بلد دجيل «1» وغيره، وأخذوا النساء والولدان ثم اجتمع الأمراء ونزلوا مقابل التاج «2» وقبلوا الأرض أمام الخليفة المقتفى، وترددت الرسائل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار، وعادوا إلى خيامهم ثم تفرقوا وفارقوا العراق.
هذا كله والسلطان ببلد الجبل، والرسل بينه وبين عمه سنجر تتردد. وكان سنجر يلومه على تقدمه خاصبك [خاص بك] ويتهدده أن يزيله عن السلطنة إن لم يبعده، وهو يغالط ولا يفعل. فسار السلطان سنجر إلى الرى، وسار السلطان مسعود إلى خدمته واسترضاه فسكن. وكان اجتماعهما فى سنة أربع وأربعين وخمسماية.(27/51)
ذكر وفاة السلطان مسعود
كانت وفاته بهمذان فى شهر رجب سنة سبع وأربعين وخمسماية ومرض بحمى حادة نحو أسبوع ومات، ودفن بمدرسة جمال الدين إقبال الجمدار. وكان مولده فى ذى القعدة سنة اثنتين وخمسماية، فيكون عمره أربعا «3» وأربعين سنة وثمانية أشهر، ومدة سلطنته منذ وقع اسم السلطنة عليه إحدى وعشرين سنة وشهورا، بما فى ذلك من أيام أخيه السلطان طغرل. وكان رحمه الله حسن الأخلاق والسيرة كريما عفيفا عن أموال الرعية من أصلح الملوك سيرة، وألينهم عريكة. ولما مات زالت سعادة البيت السلجقى بموته، ولم يقم له بعده قائمة، فكأنه المعنى بقول الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
ذكر سلطنة ملكشاه بن محمود بن محمد طبر بن ملكشاه والقبض عليه
قال المؤرخ: كان السلطان مسعود قبل موته قد استدناه وقربه وأقره عنده، وعهد إليه بالسلطنة بعده. فلما توفى السلطان خطب الأمير خاصبك بن بلنكرى لملكشاه بالسلطنة باتفاق الأمراء، ورتب الأمور وقررها بين يديه، وأذعنت له جميع العساكر بالطاعة.
وكان ملكشاه شريبا خميرا، لا يصحو ساعة واحدة، كثير الاشتغال(27/52)
باللهو، فاجتمع الأمراء على خلعه وتولية السلطنة محمد بن محمود فخلعوه وقبض عليه خاصبك واعتقله بمرج همذان فتراخى مستحفظوه فهرب، ولم يطلب ولا علم له خبر فكانت مدة سلطنته شهرين أو ثلاثة. وقال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه: إنه توجه إلى أصفهان وكثرت جموعه، وكتب إلى بغداد فى طلب الخطبة لنفسه، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصيا كان خصيصا به يقال له أغلبك الكوهزاتينى «1» فمضى إلى بلاد العجم واشترى جارية من قاضى همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه ووضعها لتسمه، ووعدها بمواعيد كثيرة، فسمته فى لحم مشوى. فمات فى سنة خمس وخمسين وخمسماية، وجاء الطبيب فأعلم أصحابه أنه مات بسم، فقررت الجارية فأقرت. ولما مات خرج أهل البلد أصحابه وخطبوا لسليمان شاه بن محمد والله أعلم.
ذكر سلطنة محمد بن محمود
هو أبو شجاع محمد بن محمود ابن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان محمد جغرى بيك داود بن ميكائيل بن سلجق. ومحمد هذا فى طبقة محمود ومسعود ابنى محمد طبر، وقيل هو محمد بن محمود بن محمد طبر أخو ملكشاه الذى ذكرناه آنفا.
قال: ولما قبض خاصبك على ملكشاه أرسل إلى محمد وهو بخوزستان وكان عمه السلطان سنجر قد ملكه إياها، واستدعاه ليسلطنه،(27/53)
وسير إليه الأمير مشيد الدين وكاتبه الزنجانى، وكان قصد خاصبك أنه إذا حضر عنده قبض عليه وخطب لنفسه بالسلطنة. فلما اجتمعا بمحمد حسنا له قتل خاصبك إذا استقر فى السلطنة، وقالا له ان أمرك لا يتم إلا بقتله. وعادا إلى خاصبك وأخبراه أن محمدا قد حلف له، وسار محمد من خوزستان إلى همذان فى عدة يسيرة، فتلقاه خاصبك وخدمه وأجلسه على تخت المملكة، وذلك فى أوائل صفر سنة ثمان وأربعين وخمسماية، وخطب له بالسلطنة، وبالغ فى خدمته، وحمل إليه هدايا عظيمة جليلة المقدار.
ولما كان فى اليوم الثانى أو الثالث من جلوسه، استدعى خاصبك ليشاوره فجاء إليه ومعه زنكى الجاندار، وهما قتلة عبد الرحمن طغايرك فقتلهما جميعا، وألقى رأسيهما إلى أصحابهما، فتفرقوا ولم ينتطح فيها عنزان. ووجد فى خزانة خاصبك ألف وسبعماية ثوب من الديباج لون العنابى خاصة، سوى أنواع الثياب الأطلس والمصور وغير ذلك. وطلب له كفن فلم يقدر عليه، حتى جبى له من سوق العسكر.
قال وكان أيدغدى التركمانى- المعروف بشملة- مع خاصبك لما استدعاه السلطان، فنهاه عن الدخول إليه فلم يرجع إلى قوله، فلما قتل خاصبك مضى هو إلى خوزستان.
قال: وكان خاصبك صبيا تركمانيا، اتصل بالسلطان مسعود تقدم عنده على سائر الأمراء.
قال: ولما قتل السلطان خاصبك أشار عليه وزيره جلال الدين(27/54)
ابن الوزير قوام الدين أن يبعث برأس خاصبك إلى الأميرين صاحبى أذربيجان، ففعل. فلما وصل الرأس إليهما أكبرا ذلك، وعزما على إخراج سليمان شاه عليه.
ذكر سلطنة سليمان شاه بن محمد طبر بن ملكشاه
قال: لما أخرج سليمان شاه من محبسه بقزوين اتصل به الأمير مظفر الدين بن ألب أرغو أو أخرجه معه إلى زنجان واتصل به الأمير شمس الدين ايلدكز والأمير آق سنقر بعسكريهما، وأخذاه من زنجان ومضيا إلى همذان فأجفل منهما محمد إلى أصفهان.
وجلس سليمان شاه على سرير السلطنة بهمذان، وأخذ فى الشرب واللهو فكان لا يصحو، وكذلك وزيره فخر الدين أبو طاهر القاشانى فلما رأى أيلدكز ذلك عزم على الرجوع فعاد إلى بلاده، ورجع نصرة الدين آق سنقر إلى أعماله. ثم اجتمع الأمراء مع نصير الدين أرسلان وقرروا أن ينتقلوا إلى مرج قراتكين ويتركوه بهمذان، ويقبضوا على وزيره. وكان مع سليمان شاه تباتكين بن خوارزم شاه وأخوه يوسف وأختهما زوجته والغالبة على أمره، فجاءت إليه ليلا وهو معرس على ابنة ملك الكرج، وأخبرته باجتماع الأمراء بالمرج، واتفاقهم على القبض عليه وعلى وزيره، فهرب بها وبأخويها ليلا، وترك خاتون الكرجية؛ وأصبح الأمراء فما علموا أين راح ولا كيف ذهب.(27/55)
ذكر عود السلطان محمد من أصفهان الى مقر ملكه
قال: لما فارق همذان وصل إلى أصفهان كاتب أمراء الأطراف فأتى إليه الأمير إينانج صاحب الرى فقويت به يده، واتفق رجوع أيلدكز فسار السلطان محمد إلى همذان، فدخلها فى سنة ثمان وأربعين وخمسماية، واستقامت له المملكة.
وفى سنة تسع وأربعين عزم الخليفة المقتفى على قطع دعوة الترك من بغداد، وفعل ما قدمنا ذكره فى أخبار المقتفى من إخراج الشحنة مسعود البلالى الخادم منها؛ وتقوية الخليفة لوزيره عون الدين بن هبيرة، وما أقطعه من الإقطاعات، وما حازه الخليفة من ملك العراق من أقصى الكوفة إلى حلوان ومن تكريت إلى عبادان.
قال: ولما عاد السلطان بعد هرب سليمان شاه، راسل الخليفة فى الخطبة فامتنع، واجتمع عند السلطان الأمراء الذين انقطعت أرزاقهم من بغداد، وسألوه فى الرحيل معهم إليها. وكان يرجع إلى عقل ودين، فاستمهلهم حتى يكاتب الخليفة كرة ثانية، فامتنعوا وقالوا: «نحن نكفيك أمره» فوافقهم فتأهبوا وخرجوا وعليهم مسعود البلالى الذى أخرجه الخليفة من بغداد، وأخذوا معهم لفيفا من التركمان، وساقوا مواشيهم وأغنامهم ليقاتلوا عليها. وكانت تكريت قد بقيت بيد مسعود البلالى، وملكشاه بن سلجق معتقل بها وأرسلان شاه بن طغرل، فلما احتاج هذا الجمع إلى ملك يضم شملهم اجتمعوا على إخراج أرسلان شاه بن طغرل. فأخرجوه وركبوه ووصلوا به إلى نواحى العراق، وأرهبوا على الناس.(27/56)
وخرج الخليفة بعسكره وجنوده متوشحا بالبردة، وبيده القضيب، وعلى مقدمته وزيره عون الدين بن هبيرة. وخيم الخليفة على مرحلتين، من بغداد وتقابلا قريبا من شهر والخليفة ينتظر البداية. فظن مسعود البلالى أنه إنما ترك البداية بالحرب خورا فبدأه، وركب الجيشان والتقيا، وكانت وقعة عظيمة انهزم فيها الملك أرسلان بن طغرل ووصل إلى أرانية، واستقر عند شمس الدين أيلدكز زوج أمه. وغنم الخليفة وعسكره معسكرهم وأغنام التركمان وذراريهم والترك، وقتلوا فى كل واد. وعاد الخليفة إلى بغداد فى أواخر سنة تسع وأربعين وخمسماية.
قال: ولما رجع العسكر إلى السلطان محمد عاتبهم، وقال: لقد أتيتم بعثرات لا تقال، وأفسدتم هيبتنا عند الخليفة، وأخرجتم أرسلان بن طغرل وما حفظتموه، وقد صار عند أيلدكز، وصار الخليفة لنا خصما. ولم يستقم للملوك السلجقية بعدها ببغداد سلطنة.(27/57)
ذكر وصول سليمان شاه بن محمد طبر الى بغداد وخروجه بالعساكر وحربه هو والسلطان محمد وهزيمته وحصار السلطان محمد بغداد ورجوعه
وفى سنة خمسين وخمسماية وصل السلطان سليمان شاه إلى بغداد مستنجدا بالخليفة المقتفى على السلطان محمد، فلم يلقه الوزير عون الدين بل لقيه ابنه عز الدين محمد. فلما أخبره ابن الوزير سلام أمير المؤمنين عليه ترجل وقبل الأرض ودخل بغداد.
فلما وصل إلى باب النوبى من القصر، أنزلوه ليقبل العتبة، فقبلها وما قبلها قبله ملك سلجقى ولا ديلمى. وأنزله الخليفة بدار السلطنة وخطب له على المنابر، ولم ينعته بالسلطان ولا بالمعظم «1» وجهز معه الخليفة جيشا كثيفا، واستوزر له شرف الدين الخراسانى وسار سليمان شاه بالجيوش إلى أذربيجان ثم إلى أرانية ثقة أن يخرج معه شمس الدين ايلدكز. وتحرك السلطان محمد إليه من همذان، والتقوا؛ فانهزم سليمان وعاد إلى بغداد على طريق الدربند، فقبض عليه على كورجك، واعتقله بقلعة الموصل وذلك فى شعبان سنة إحدى وخمسين وخمسماية. وتجهز السلطان محمد بقصد بغداد، فوصل إليها فى ذى القعدة من السنة، وقد جمع الجيوش(27/58)
العساكر وحاصرها، وكان الخليفة قد حصن بغداد بالمجانيق والرجال والسفن وغير ذلك، واستمر الحصار والحرب إلى سنة اثنتين وخمسين وجرت فى خلال هذه المدة وقائع كثيرة يطول شرحها كان آخرها أنه وقع الاختلاف بين أصحاب السلطان فهزمتهم جيوش الخليفة ونهبوا أثقالهم، ولم تفلح السلجقية بعدها مع الخلفاء.
ذكر وفاة السلطان محمد بن محمود وما اتفق بعد وفاته
قال الشيخ جمال الدين أبو الحسن على بن أبى المنصور ظافر ابن حسين الأزدى فى أخبار الدولة. أنه توفى فى سنة خمس وخمسين وخمسماية، وقال: ولم أعرف له عقبا فأذكره وقرض الدولة السلجقية بوفاته. وقال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل أنه توفى سنة أربع وخمسين بباب همذان، وكان مولده فى شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسماية، وأنه لما حضرته الوفاة أحضر أمواله وجواهره وخصاياه ومماليكه ونظر إليها من طيارة وبكى، وقال:
«هذه العساكر والأموال والمماليك وغيرها لم تغن عنى مقدار ذرة ولا يزيدون فى أجلى ذرة» وفرق من ذلك شيئا كثيرا وكان كريما عادلا كثير التأنى فى أموره. وكان له ولد صغير فسلمه إلى اقسنقر الأحمديلى وقال له: «أنا أعلم أن العساكر لا تطيع هذا الطفل وهو وديعة عندك فارحل به إلى بلادك» فرحل به إلى مراغة. فلما مات مختلف الأمراء فطائفة طلبوا ملكشاه وأخاه وطائفة طلبوا سليمان شاه عمه وهم الأكثر، وطائفة طلبوا أرسلان الذى مع ايلدكز فأما ملكشاه فإنه سار من خوزستان ومعه دكلا صاحب فارس وشملة(27/59)
التركمانى وغيرهما، فوصل إلى أصفهان فسلمها إليه ابن الخجندى وجمع له مالا أنفقه عليه وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته فلم يجيبوه لعدم الاتفاق ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه.
ذكر مسير سليمان شاه بن محمد طبر الى همذان
وفى سنة خمس وخمسين وخمسماية سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان وكان معتقلا بها كما قدمناه؛ فلما مات السلطان محمد بن محمود. أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل فى طلبه منه ليولوه السلطنة، فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه هو السلطان وقطب الدين ودود أتابكه وجمال الدين وزير قطب الدين وزيره؛ وتحالفوا على ذلك وجهزه قطب الدين بما يحتاج إليه من الأموال والخيول وغير ذلك. فلما قارب بلاد الجبل أقبلت العساكر إليه أرسالا فاجتمع عسكر عظيم فخافهم قطب الدين مودود على نفسه؛ وعاد إلى الموصل.
فلما فارقه قطب الدين لم ينتظم أمره وقبض العسكر على سليمان شاه بباب همذان فى شوال سنة ست وخمسين وخمسماية.
ذكر سلطنة أرسلان شاه ابن الملك طغرل ابن محمد طبر
قال: لما قبض الأمراء على سليمان شاه فى شوال خطبوا لأرسلان شاه، وهو الذى كان قد تزوج أيلدكز بأمه، ثم خطب له فى سنة(27/60)
ثمان وخمسين بقومس وبسطام ودامغان «1» . وذلك أن المؤيد صاحب نيسابور فتح هذه الجهات وخطب بها لأرسلان شاه فأرسل إليه الخلع فلبسها المؤيد؛ ودام ملك أرسلان شاه إلى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية، فتوفى ولم أقف من أخباره على شىء فأذكره. وذلك أن الدولة السلجقية كانت قد ضعفت وبقى ملوكها يقتصرون على حفظ ما بأيديهم دون التطلع إلى ما سواه. ولما مات أرسلان شاه خطب بعده لولده طغرل.
ذكر أخبار السلطان طغرل بن أرسلان شاه ابن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان
خطب له بالسلطنة ببلاد الجبل بعد وفاة أبيه أرسلان شاه فى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية، ونحن نذكر ما ظفرنا به من أخباره على سبيل التلخيص والاختصار:
ذكر الحرب بين طغرل وجيوش الخليفة الناصر لدين الله وظفره بهم
وفى سنة أربع وثمانين وخمسماية جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرا كثيفا؛ وجعل المقدم على الجيش وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم لمساعدة قزل على كف السلطان طغرل عن البلاد.(27/61)
فسار العسكر فى ثالث صفر إلى أن قارب همذان، وخرج طغرل إليهم، والتقوا واقتتلوا فى ثامن شهر ربيع الأول عند همذان، فانهزمت عساكر بغداد ولم تثبت، وأخذ أصحابه ما كان مع الوزير من خزانة وغيرها وعاد إلى همذان.
ذكر اعتقال طغرل وخلاصه وما كان من أمره الى أن قتل، وانقراض الدولة السلجقية
قال: واتفق أن قزل أرسلان بن أيلدكز ظفر بالسلطان طغرل، واعتقله، ولم أظفر بتاريخ اعتقاله «1» ولا كيفيته «2» فأذكره، إلا أنه لم يزل فى اعتقاله إلى أن مات قزل أرسلان فى سنة ثمان وثمانين وخمسماية، فخرج طغرل من حبسه بعد قزل واجتمع عليه جماعة والتقى هو و [قتلغ اينانج] «3» بن البهلوان بن ايلدكز، فانهزم اينانج إلى الرى، وملك طغرل همذان وغيرها؛ فأرسل قتلغ اينانج إلى علاء الدين خوارزم شاه تكش يستنجده، فسار إليه فلما تقاربا ندم قتلغ اينانج على استدعائه خوارزم شاه وخاف على نفسه فمضى(27/62)
بين يديه؛ وتحصن فى قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الرى وملكها، وفتح قلعة طبرك «1» فراسله طغرل واصطلحا.
ذكر مقتل السلطان طغرل وانقراض الدولة السلجقية
كان مقتله فى الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسعين وخمسماية؛ وسبب ذلك أنه قصد الرى فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه تكش وفر منه قتلغ اينانج بن البهلوان، فراسل خوارزم شاه يسأله النصر مرة ثانية. واتفق وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد. فسار خوارزم شاه لقتاله. فلما سمع طغرل بذلك كانت عساكره متفرقة فما أمهل حتى يجمعها، بل سار فيمن معه وكان يدل بشجاعته؛ فالتقى العسكران بالقرب من الرى؛ فحمل طغرل بنفسه فى وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقوه عن فرسه، وقتلوه وحملوا رأسه إلى خوارزم شاه، فأنفذ الرأس إلى بغداد فنصبها بباب النوبى. وملك خوارزم شاه جميع تلك البلاد وانقرضت الدولة السلجقية من العراق والجبال وخراسان، ولم يبق من البيت السلجقى إلا من هو ببلاد الروم، على ما نذكره بعد ذكر الملوك السلجقية بالشام إن شاء الله.
وكانت مدة هذه الدولة منذ خطب لداود فى شهر رجب سنة ثمان وعشرين وأربعماية؛ ماية سنة وإحدى وستين سنة وثمانية(27/63)
أشهر وأياما. ومدتها بالعراق منذ خطب للسلطان طغرل بك ببغداد فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعماية، وإلى أن قطعت عند إخراج مسعود البلالى الشحنة من بغداد فى شهور سنة تسع وأربعين وخمسماية؛ ماية سنة وستين. فلنذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام.
ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام وحلب
[ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام]
وأول من ملك منهم السلطان تاج الدولة
تتش بن ألب أرسلان محمد بن جغربيك داود بن ميكائيل بن سلجق وهو أخو ملكشاه وكان السلطان ملكشاه قد أقطعه الشام وما يفتحه من تلك النواحى فى سنة سبعين وأربعماية، فجاء إلى حلب وحصرها ولحق أهلها مجاعة شديدة. وكان معه جماعة كثيرة من التركمان فأنفذ إليه الأقسيس «1» صاحب دمشق يستنجده على العساكر المصرية، لأنها كانت قد حاصريه بدمشق من قبل أمير الجيوش بدار الجمالى، فسار إلى نصرة الأقسيس. فلما سمع العسكر المصرى بقربه فارقوا البلد وعادوا إلى مصر، وخرج الأقسيس يلتقيه عند سور دمشق، فاغتاظ منه تتش كونه لم يتقدم فى تلقيه، وعاتبه، فاعتذر بأمور لم يقبلها منه، فقبض عليه تتش فى الوقت وقتله، وملك دمشق(27/64)
وأحسن السيرة فى أهلها، وعدل فيهم، وذلك فى سنة إحدى وسبعين وأربعماية وقيل فى سنة اثنتين وسبعين.
وفى سنة أربع وسبعين افتتح تاج الدولة [تتش] انطرطوس بعض الحصون الساحلية وعاد إلى دمشق. وفى سنة تسع وسبعين وأربعماية كانت الحرب بينه وبين سليمان بن قتلمش السلجقى صاحب الروم وانطاكية، فهزم عسكره وقتله على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار سليمان. وملك تتش مدينة حلب خلا القلعة، فكتب العتابى إلى السلطان ملكشاه يستدعيه، فوصل إليها وفارقها تتش كما قدمنا ذكره.
ذكر استيلائه على حمص وغيرها من ساحل الشام
كان تاج الدولة تتش قد توجه إلى أخيه السلطان ملكشاه إلى بغداد فى سنة أربع وثمانين، وجاء إليه أيضا زعماء الأطراف، فلما أذن لهم فى العود أمر [ملكشاه] اقسنقر صاحب حلب، وتوران صاحب الرها، أن يسيرا فى خدمة أخيه [تتش] بعساكرهما إلى أن يستولى على ما هو للمستنصر العلوى صاحب مصر بساحل الشام من البلاد؛ ويتوجها معه إلى مصر ليملكها.
فساروا فى سنة خمس وثمانين، ونزل [تتش] على حمص وحصرها وبها صاحبها ملاعب، وكان الضرر به وبأولاده عظيما على المسلمين، فحصروا البلد وضيقوا على من به وملكه تتش، وأخذ ملاعب وولديه.(27/65)
ثم سار إلى قلعة عرقة، وهى بالقرب من طرابلس فملكها وملك أفامية، ثم نازل طرابلس وبها جلال الملك بن عمار، فراسل [ابن عمار] اقسنقر وحمل إليه ثلاثين ألف دينار وتحفا بمثلها وعرض عليه المناشير التى بيده من السلطان بالبلد والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والتحذير من محاربته فقال اقسنقر لتتش: «أنا لا أقاتل من هذه المناشير بيده» ورجل من الغد، فرحل تاج الدولة وعاد بوزان إلى بلاده، والله أعلم.
ذكر ما تقوله فى طلب السلطنة
قال: لما بلغ تاج الدولة تتش قدوم أخيه السلطان ملك شاه إلى بغداد توجه من دمشق إلى خدمته،، فلما وصل إلى هيت «1» أتاه الخبر بموته، فاستولى على هيت وعاد إلى دمشق. فتجهز لطلب السلطنة، وجمع العساكر وأخرج الأموال وسار إلى حلب وبها قسيم الدوله اقسنقر، فصالحه قسيم الدولة وأتبعه لما علم من اختلاف أولاد صاحبه، وأرسل إلى ياغى سيان صاحب أنطاكية وإلى بوزان صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تاج الدولة، حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا ذلك وصاروا معه وخطبوا له فى بلادهم.
وقصد تتش الرحبة فملكها فى المحرم سنة ست وثمانين وأربعماية،(27/66)
ثم سار إلى نصيبين ففتحها عنوة وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب الأموال وفعل الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلى. وسار يريد الموصل، وأتاه الكافى بن فخر الدولة بن جهير وكان بجزيرة ابن عمر «1» فاستوزره، والتقى بإبراهيم ابن قريش بن بدران أمير بنى عقيل «2» فى شهر ربيع الأول.
وكان إبراهيم فى ثلاثين ألفا وتتش فى عشرة آلاف، فاقتتلوا فانهزم ابراهيم والعرب، ثم اخذ أسيرا وجماعة من العرب فقتلوا صبرا، ونهبت أموالهم وما معهم من الخيل والإبل والأغنام وغيرها وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفا من السبى والفضيحة، وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها على بن شرف الدولة مسلم وهو ابن صفية عمة تتش.
ذكر ملكه ديار بكر وأذربيجان وعوده الى الشام
قال: ثم سار تاج الدولة تتش فى شهر ربيع الآخر فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان.
وانتهى خبره إلى ابن أخيه بركياروق وكان قد استولى على كثير من البلاد، فسار فى عسكره ليتبع عمه، فلما تقارب العسكران(27/67)
اجتمع قسيم الدولة وبوزان وقالا: «نحن إنما أطعنا هذا حتى ننظر ما يكون من ابن صاحبنا وقد ظهر أمره» ففارقاه والتحقا ببركياروق فعاد تتش إلى الشام.
ذكر عود تتش الى البلاد وملكه همذان وغيرها
قال: ولما عاد إلى الشام أخذ فى جمع العساكر فكثرت جموعه وعظم جنده. فسار فى سنة سبع وثمانين وأربعماية عن دمشق نحو حلب لطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة اقسنقر وبوزان وأمدهما السلطان ركن الدولة بركياروق بالأمير كربوقا. فالتقوا بالقرب من تل السلطان «1» قريب حلب واقتتلوا واشتد القتال فانهزموا، وثبت قسيم الدولة فأخذ أسيرا وجىء به إلى تاج الدولة فقال له: «ما كنت تصنع بى لو ظفرت» قال: «كنت أقتلك» قال: «فأنا أحكم عليك بحكمك» فقتله صبرا. وسار نحو حلب، ودخلها وأسر بوقا وبوزان وتسلم الرها وحران. وسار إلى بلاد الجزيرة فملكها جميعها، وملك ديار بكر وخلاط. وسار إلى أذربيجان فملك جميع بلادها، ثم منها إلى همذان فملكها، واستوزر فخر الملك بن نظام الملك.
ذكر انهزام بركياروق منه
قال: ولما سار تتش إلى أذربيجان كان بركياروق بنصيبين فبلغه الخبر. فسار إلى قتاله ولم يكن معه غير ألف رجل، وعمه(27/68)
فى خمسين ألفا. فجهز إليه عمه بعض الأمراء فكبسه وهزمه ونهب سواده، فسار إلى أصفهان على ما ذكرناه فى أخباره وخطب للسلطان تاج الدولة ببغداد.
ذكر قتل تاج الدولة تتش
قال: ولما هزم بركياروق سار من موضع الوقعة إلى همذان، ثم سار إلى الرى وكاتب الأمراء الذين بأصفهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم الأموال الكثيرة. وكان بركياروق مريضا بالجدرى، فأجابوه يعدونه أنهم ينحازون إليه، وهم ينتظرون ما يكون من صاحبهم. فلما عوفى بركياروق أرسلوا إلى تتش أنه ليس لك عندنا إلا السيف، وخرجوا له والتقوا بموضع قريب من الرى، وقد كثرت جموع بركياروق، فانهزم أصحاب تتش وثبت هو فى القلب فقتله أصحاب قسيم الدولة بثأر صاحبهم، والله أعلم.
ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما تتش
قال: كان تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابنه الملك رضوان. وكتب إليه من بلد الجبل قبل المصاف الذى قتل فيه يأمره بالمسير إلى بغداد، وأن يقيم بدار المملكة. فسار فى عدد كثير منهم إيلغازى بن أرتق، والأمير وثاب بن محمود بن صالح ابن مرداس وغيرهما. فلما قارب هيت جاءه الخبر بقتل أبيه، فعاد إلى حلب ومعه والدته فملكها، وكان بها أبو القاسم بن على(27/69)
الخوارزمى قد سلمها تتش إليه، وحكّمه فيها وفى القلعة. ولحق برضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن إيتكين، وكان مع تتش فسلم من المعركة. وكان مع رضوان أيضا أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام فكانوا كلهم مع أبى القاسم كالأضياف لتحكمه فى البلد؛ فاستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر أجناد القلعة. فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبى القاسم، وأرسل إليه الملك رضوان يطيب قلبه، فاعتذر فقبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، وكانت الخطبة قد دامت باسم أبيه بعد قتله نحو شهرين.
وسار جناح الدولة فى تدبير الدولة أحسن سيرة، وخالف عليهم الأمير ياغى سيان «1» بن محمد بن ألب التركمانى صاحب انطاكية ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر لخلوها من وال يحفظها. فساروا جميعا وقدم عليهم من بالأطراف الذين كان تتش قد رتبهم فيها، وقصد واسروج، فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق فأخذها ومنعهم منها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا من عساكره وما يفسدونه من غلاتهم، ويسألونه الرحيل. فرحل عنهم إلى الرها، وكان بها رجل يقال له الفارقليط- كان يضمن البلد من بوزان- فقاتل قتالا شديدا ثم ملكها. وطلب ياغى سيان القلعة من رضوان فوهبها له، فتسلمها وحصنها، فهرب رجالها وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم(27/70)
البلد، فسمع ذلك قراجا فصلب ابن الفتى وغيره ممن اتمهم وجاء الخبر إلى رضوان وقد اختلف جناح الدولة وياغى سيان وأضمر كل منهما لصاحبه الغدر، فهرب جناح الدولة إلى حلب فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان. وسار رضوان وياغى إلى حلب، فسمع بدخول جناح الدولة إليها، ففارق ياغى سيان الملك رضوان وسار إلى انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمى ودخل رضوان حلب.
هذا ما كان من أمر رضوان، وأما الملك دقاق بن تتش، فإنه كان قد حضر المصاف مع أبيه، فلما قتل أبوه أخذه إيتكين الحلبى- وهو من غلمان أبيه- وسار به إلى حلب، فأقام عند أخيه الملك رضوان.
ثم راسله الأمير ساوتكين الخادم- متولى دمشق- سرا يدعوه ليملكه دمشق؛ فهرب من حلب. فأرسل أخوه رضوان فى طلبه عدة من الخدام فلم يدركوه، وسار حتى وصل إلى دمشق ففرح به ساوتكين الخادم وأظهر البشر لورده. فلما صار بدمشق أرسل إليه ياغى سيان يشير عليه أن ينفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان.
واتفق وصول معتمد الدولة طغتكين إلى دمشق ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره وقد سلموا من الوقعة وكان طغتكين قد أسر ثم خلص فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب الدولة وبالغوا فى تعظيمه وإكرامه. وكان طغتكين زوج والدة دقاق، فمال إليه لذلك ووثق به وحكمه فى بلاده. ثم اتفقا على قتل ساوتكين الخادم فقتلاه.
وسار إليه ياغى سيان من انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمى فجعله وزيرا لدقاق، وحكمه فى دولته. فصارت دمشق لدقاق وحلب لرضوان.(27/71)
ذكر الحرب بين الملكين رضوان وأخيه دقاق
وفى سنة تسعين وأربعماية سار الملك رضوان من حلب إلى دمشق يريد الاستيلاء عليها وانتزاعها من أخيه دقاق. فلما قاربها رأى حصانتها وامتناعها، فعلم عجزه عنها. فسار إلى نابلس وإلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه ذلك وانقطعت العساكر عنه فعاد إلى حلب ومعه ياغى سيان صاحب انطاكية وجناح الدولة وكانا قد التحقا به.
ثم فارقه ياغى سيان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب.
فجمع دقاق عساكره وسار ومعه ياغى سيان، فأرسل رضوان إلى سقمان بن ارتق وهو بسروج يستنجده، فأتاه فى خلق كثير من التركمان. فسار بهم رضوان نحو دقاق والتقيا بقنسرين «1» ، واقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وأموالهم وعاد رضوان إلى حلب. ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق وأنطاكية قبل أخيه دقاق، وقيل كان ذلك فى سنة تسع وثمانين.
وفى سنة تسعين وأربعماية خطب الملك رضوان فى أكثر ولايته للمستعلى بأمر الله صاحب مصر. «2» وسبب ذلك أن جناح الدولة كان قد فارق رضوان لتغير رآه منه، وجاء إلى حمص وكانت له، فلما رأى ياغى سيان بعده عن رضوان صالحه،(27/72)
وجاء إلى حلب، ونزل بظاهرها وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أبو سعد يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذهب العلويين. وأتته رسل المستعلى تدعوه إلى طاعته ويبذل له المال وإنفاذ الجيوش لأخذ دمشق، فخطب له بشيزر وجميع أعمال ولايته سوى أنطاكية، وقلعة حلب، والمعرة «1» ، وكانت الخطبة أربع جمع.
ثم حضر إليه سقمان بن أرتق وياغى سيان فأنكرا ذلك واستعظماه فأعاد الخطبة العباسية. وسار ياغى سيان إلى انطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وملكوها فى سنة إحدى وتسعين وأربعماية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار المستعلى صاحب مصر.
ذكر ملك دقاق مدينة الرحبة
وفى شعبان سنة ست وتسعين وأربعماية ملك الملك دقاق مدينة الرحبة؛ وكانت بيد قايماز أحد مماليك السلطان ألب أرسلان، استولى عليها لما قتل كربوقا، فسار دقاق وطغتكين «2» أتابكه إليه وحصراه، ثم رحلا عنه. فاتفقت وفاته فى صفر من هذه السنة، وقام مقامه غلام تركى اسمه حسن، وخطب لنفسه وخاف من الملك دقاق، فاستظهر لنفسه وأخذ جماعة من أعيان(27/73)
البلد وصادرهم وحبس آخرين، فسار دقاق إليه وحاصره، فسلم العامة البلد واعتصم هو بالقلعة فأمنه دقاق وسلمها له فتسلمها وأقطعه إقطاعا كثيرا بالشام، وقرر الرحبة وجعل فيها من يحفظها وعاد إلى دمشق.
ذكر وفاة الملك دقاق وملك ولده ثم أخيه
كانت وفاته فى شهر رمضان سبع وتسعين وأربعماية. ولما توفى خطب أتابكه طغرتكين لولد له صغير عمره سنة واحدة، ثم قطع خطبته وخطب لبلتاش «1» ابن تتش عم هذا الطفل فى ذى الحجة وله من العمر اثنتا «2» عشرة سنة. ثم أشار عليه طغرتكين بقصد الرحبة فخرج إليها وملكها، وعاد فمنعه من دخول البلد، فمضى إلى حصون له. وأعاد طغرتكين خطبة الطفل ولد دقاق، وقيل إن والدة بلتاش خوفته من طغرتكين وقالت له: إنه زوج أم دقاق، وهى لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولد ابنها، فخاف. ثم حسن له من [كان] «3» يحسد طغرتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج، والعود إلى دمشق وأخذها من طغرتكين.
فخرج من دمشق سرا فى سنة ثمان وتسعين وأربعماية مع صغر سنه، ولحقه الأمير إيتكين الحلبى وهو صاحب بصرى، فعاثا فى ناحية حوران ولحق بهما من كان يريد الفساد، وراسلا بغدوين ملك الفرنج «4»(27/74)
يستنجدانه، فأجابهما إلى ذلك. فسارا إليه واجتمعا به، وقررا معه القواعد، وأقاما عنده، فلم يريا منه إلا التحريض على الإفساد فى أعمال دمشق وتخريبها. فلما يئسا من نصرته فارقاه وتوجها فى البرية إلى الرحبة فملكها بلتاش «1» وعاد عنها، واستقام أمر طغرتكين بدمشق، واستبد بالأمر وأحسن إلى الناس ونشر فيهم العدل.
هذا ما كان من أمر ملوك دمشق ثم انتقل مكلها إلى طغرتكين وأولاده من بعده على ما نذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا لملوك حلب السلجقية ومن ملكها بعدهم إلى أن ملكها أتابك زنكى بن اقسنقر.
ذكر أخبار ملوك حلب
قد قدمنا أن حلب كانت بيد الملك رضوان بن تتش، فلم تزل بيده إلى أن توفى فى سنة سبع وخمسماية. وكانت أموره غير مشكورة فإنه قتل (أخويه) «2» أبا طالب وبهران وكان يستعين فى كثير من أموره بالباطنية لقلة تدبيره. فلما مات ملك بعده ابنه تاج الملوك ألب أرسلان الأخرس، وعمره ست عشرة سنة. ولم يكن أخرس، وإنما كان فى لسانه حبسه وتمتمة وأمه بنت ياغى سيان الذى كان صاحب أنطاكية.
قال: ولما ملك تاج الملوك سلك سنة أبيه فى قتل إخوته فقتل(27/75)
أخوين له وهما شقيقه ملكشاه، ومبارك لأبيه، واستولى على أمور دولته لؤلؤ الخادم، فلم يكن لتاج الملوك معه فى السلطنة غير اسمها، ومعناها للؤلؤ. ولم تطل مدته فى الملك، فإن غلمانه قتلوه فى سنة ثمان وخمسماية، وأقاموا بعده أخاه سلطان شاه بن رضوان، فكان مع لؤلؤ كعادة أخيه. فلما كان فى سنة إحدى عشرة وخمسماية- وقيل سنة عشر- قتل لؤلؤ المستولى على الأمر. وكان سبب قتله أنه أراد قتل سلطان شاه كما فعل بأخيه، ففطن غلمان سلطان شاه لذلك، فبادروه بالقتل. وولى أتابكة سلطان شاه بعده شمس الخواص يارقتاش، فبقى شهرا وعزلوه، وولى بعده أبو المعالى بن الملحى الدمشقى ثم عزلوه وصادروه. فخاف أهل حلب من الفرنج فسلموا البلد إلى الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق وانقرضت الدولة السلجقية من حلب، والله أعلم.
ذكر أخبار من ملك حلب بعد انقراض الدولة السلجقية منها
ملكها الأمير نجم الدين إيلغازى بن أرتق باتفاق أهلها فى سنة إحدى عشرة وخمسماية، فتسلمها. وكان له مع الفرنج وقائع كثيرة وحروب يطول شرحها. واستناب بحلب ولده سليمان، فخالفه وعصى عليه. فى سنة خمس عشرة وخمسماية وكان عمره إذ ذاك عشر سنين، فبلغ والده الخبر، فسار مجدا فلم يشعر إلا وقد هجم البلد وقبض على من كان حسن لابنه العصيان، وقتلهم. وكان منهم إنسان من أهل حماة من بيت قرناص، كان إيلغازى قد قدمه على أهل حلب وجعل إليه الرئاسة فجازاه بذلك،(27/76)
فقطع يديه ورجليه وسمله [فمات] «1» . وأراد قتل ولده فمنعته رقة الوالد، واستناب بحلب سليمان شاه ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق، ولقبه بدر الدولة، وعاد إلى ماردين؛ فلم تزل حلب بيده، إلى أن توفى فى سنة ست عشرة وخمسماية بميافارقين. وبقى سليمان بحلب إلى أن استولى عليها، ابن عمه بلك بن بهرام بن أرتق؛ وبقيت بيد بلك إلى أن قتل فى سنة ثمان عشرة وخمسماية وهو يحاصر منبج «2» ، وكان قد قبض على صاحبها حسان البعلبكى، وملك المدينة وحاصر القلعة، فأتاه سهم فقتله وكان حسام الدين تمرتاش ابن إيلغازى مع عمه بلك، فحمله مقتولا إلى ظاهر حلب، فتسلمها فى العشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمانى عشرة، واستولى عليها، وجعل فيها نائبا يثق به، وعاد إلى ماردين. وكان يحب الدعة والرفاهية، فلما عاد إلى ماردين ملك حلب اقسنقر البرسقى صاحب الموصل بمكاتبة من أهلها، لأن الفرنج كانوا حاصروهم وضيقوا عليهم، فكتبوا إليه يستنجدونه، فحضر بعساكره، فرحل الفرنج عنها، وملكها فى ذى الحجة سنة ثمانى عشرة، فكانت بيده إلى أن قتل فى سنة عشرين وخمسماية على يد الباطنية.
وملك بعده ابنه عز الدين مسعود إلى أن توفى فى سنة إحدى وعشرين وخمسماية، فبقيت بيد نائبه قومان، ثم استناب بعده بها قتلغ، فوصل إليها بعد وفاة مسعود، وتسلمها فى الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وخمسماية، فظهر منه بعد(27/77)
أيام جور عظيم وظلم شديد، ومديده إلى أموال الناس. وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق- الذى كان صاحبها قديما- فأطاعه أهلها، وقبضوا على أصحاب قتلغ الذين بالمدينة فى شوال من السنة، وحاصروه فى القلعة. فسمع الفرنج بذلك فتقدموا إلى المدينة، فصولحوا بمال حتى رحلوا عنها. وداموا على حصار قتلغ بالقلعة إلى منتصف ذى الحجة، ثم ملكها عماد الدين زنكى بن اقسنقر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الأتابكية. هذا ما كان من أمر حلب، فلنذكر أخبار دمشق.
ذكر أخبار من ملك دمشق بعد انقراض السلجقية منها الى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى
أول من ملكها معتمد الدولة ظهير الدين طغرتكين، وقيل فيه طغركين وطغدكين. استولى على دمشق كما قدمناه فى سنة سبع وتسعين وأربعماية، واستقل بالأمر منذ فارقها الملك بلتاش بن تتش وكان لطغرتكين مع الفرنج وقائع كثيرة فى سنين عديدة يطول شرحها، أضربنا عن ذكرها لأنها لم تسفر عن فتح بلد ولا أسر ملك وملك طغرتكين بصرى فى سنة تسع وتسعين وأربعماية، وكانت بيد إيتكين الحلبى، فلما صار مع السلطان الملك بلتاش كما ذكرنا سلمها أهلها لطغرتكين، فتسلمها وأحسن إليهم، واستمر فى ملك دمشق إلى سنة اثنتين وعشرين وخمساية، فتوفى فى ثامن عشر صفر منها، وكان عاقلا خيرا، كثير الغزو والجهاد للفرنج، حسن(27/78)
السيرة فى رعيته، مؤثرا للعدل فيهم. ولما توفى ملك بعده ابنه والله أعلم.
ذكر أخبار تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين
ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى ثامن عشر صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسماية بوصية من أبيه له بالملك. وكان أكبر أولاده، فلما ملك أقر وزير والده- وهو أبو على طاهر بن سعيد المزدغانى- على وزارته.
ذكر أخبار الاسماعيلية وقتل الوزير المزدغانى
كان بهرام مقدم الإسماعيلية قد هرب قديما من بغداد إلى الشام بعد قتل أخيه إبراهيم الإسدابادى، وملك قلعة بانياس، وجعل خليفته بها يدعو الناس إلى مذهبه، فكثروا وانتشروا؛ وملك عدة حصون منها القدموس وغيره، وهى الآن تعرف بقلاع الإسماعيلية، من الأعمال المضافة إلى المملكة الطرابلسية.
وكان بوادى (التيم) من أعمال بعلبك أرباب مذاهب مختلفة منهم النصيرية الدرزية والمجوس وغيرهم، وأميرهم اسمه الضحاك، فسار إليهم بهرام فى سنة اثنتين وعشرين وخمسماية وقاتلهم، فخرج إليه الضحاك فى ألف رجل، وكبس عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتل بهرام فيمن قتل، وانهزم من بقى وأتوا بانياس على أقبح صورة. وكان بهرام قد استخلف على بانياس رجلا من(27/79)
أعيان أصحابه اسمه إسمعيل، فقام مقامه، وجمع شمل من سلم من أصحابه، وبث دعاته فى البلاد، وساعده الوزير المزدغانى وعاضده وأقام المزدغانى بدمشق عوض بهرام إنسانا اسمه أبو الوفا، فقوى أمره على شأنه، وكثر أتباعه حتى صار هو المستولى على دمشق، وحكم أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك. ثم إن المزدغانى راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق ويسلموا إليه مدينة صور، واستقر الأمر بينهم على ذلك، وتقرر الميعاد فى يوم جمعة عينوه، وقرر المزدغانى مع الإسماعيلية أن يحتاطوا على أبواب الجامع فى ذلك اليوم، فلا يمكنوا أحدا من الخروج منه، لتجيىء الفرنج ويملكوا البلد.
فاتصل الخبر بتاج الملوك. فاستدعى الوزير المزدغانى فحضر إليه فلما خلا به قتله وعلق رأسه على باب القلعة، ونادى فى [الناس] «1» بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف؛ وذلك فى منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين وخمسماية. فخاف إسماعيل متولى بانياس عند ذلك من الناس أن يثوروا به وبأصحابه، فسلم بانياس إلى الفرنج، وانتقل إليهم هو ومن معه، فلقوا شدة عظيمة وهوانا ومات إسمعيل فى أوائل سنة أربع وعشرين وخمسماية.
ذكر حصار الفرنج دمشق وانهزامهم
قال: ولما بلغ الفرنج ما كان من قتل المزدغانى عظمت المصيبة عليهم، واجتمعوا بجملتهم، صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب(27/80)
طرابلس وغيرهم من ملوك الفرنج وقمامصتهم ومن وصل إليهم فى البحر فكانوا فى ألفى فارس. وأما الراجل فلا يحصى كثرة، وساروا إلى دمشق لمحاصرتها، فبلغ ذلك تاج الملوك، فجمع العرب والتركمان فاجتمع معه ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج إلى دمشق فى ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين فنازلوها، وأرسلوا سراياهم إلى أعمالها لجمع الميرة والإغارة. فبلغ تاج الملوك أنهم ساروا إلى حوران، فسير أميرا من أمرائه اسمه شمس الخواص فى جمع من المسلمين، فلقوا الفرنج وقاتلوهم قتالا شديدا، كان الظفر للمسلمين وقتل الفرنج فلم يفلت منهم غير مقدمهم فى أربعين رجلا، وأخذوا [أخذ المسلمون] ما معهم وكان عشرة آلاف دابة موقرة، وثلثماية أسير، وعادوا إلى دمشق بالظفر والغنيمة. فألقى الله الرعب فى قلوب الفرنج فرحلوا شبه المنهزمين، وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وغيره، وتبعهم المسلمون يقتلون من تخلف منهم. وكان نزولهم ورحيلهم فى ذى الحجة. وفى سنة أربع وعشرين استوزر تاج الملوك الرئيس أبا الدوّاد المفرج بن الحسن بن الصوفى.
وفى سنة خمس وعشرين وخمسماية ثار الباطنية بتاج الملوك. فجرحوه جرحين فبرأ أحدهما وبقى الآخر، فاشتد عليه فى شهر رجب سنة ست وعشرين وخمسماية فأضعفه وأسقط قوته فمات، فى الحادى والعشرين من الشهر.
وكانت مدة إمارته أربع سنين وخمسة أشهر وأياما، وكان كثير الجهاد مقداما فأقام فى حروبه مقام أبيه وفاق عليه ولما مات قام بعده ولده إسمعيل بوصية منه.(27/81)
ذكر أخبار شمس الملوك اسماعيل ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين
ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى الحادى والعشرين من شهر رجب سنة ست وعشرين وخمسماية. وكان والده قد أوصى له بالملك ولولده الآخر شمس الدولة محمد بمدينة بعلبك وأعمالها. فنفذت وصيته وقام بتدبير الأمر بين يدى شمس الملوك الحاجب فيروز شحنة دمشق- وهو صاحب أبيه- واعتمد عليه، وابتدأ أمره بالرفق بالرعية، والإحسان إليهم.
قال: وبلغ شمس الملوك أن أخاه شمس الدولة صاحب بعلبك استولى على حصنى اللبوة والراس واستمال من بهما وتسلمهما، وجعل فيهما من الجند من يحفظهما. فراسله فى ذلك وتلطف معه وقبح عليه فعله، وطلب إعادتهما إليه، فامتنع. فتجهز بعساكره فى آخر ذى الحجة من السنة وقصد جهة الشمال، ثم عطف مغربا، فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم، وزحف لوقته فلم يتمكنوا من نصب منجنيق ولا غيره، فراسلوه فى طلب الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن من يومه. وسار إلى حصن الراس وفعل به كذلك، وتسلمه وجعل فيهما من يحفظهما. ثم رحل إلى بعلبك وحصرها وبها شمس الدولة وقد استعد، فوالى الزحف حتى ملك البلد بعد قتال شديد. وتحصن شمس الدولة فنازله فراسله فى طلب الأمان وأن يقره على ما أوصى له به والده، فأجابه إلى ذلك وعاد إلى دمشق.(27/82)
ذكر ملكه قلعة بانياس
وفى سنة سبع وعشرين وخمسماية ملك شمس الملوك قلعة بانياس من الفرنج. وسبب ذلك أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه. وكانت قد تقررت بينهم هدنة، فقصدوا نقضها، ومدوا أيديهم إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت، فشكا «1» التجار ذلك إلى شمس الملوك، فراسل الفرنج فى إعادة ما أخذوه، فلم يردوا شيئا. فجمع العساكر وتأهب ولم يعلم أحدا بمقصده.
ثم سار فى آخر المحرم من السنة ونزل على بانياس فى صفر.
وزحف زحفا متتابعا. وقرب من سور المدينة وترجل بنفسه، وتبعه الناس فوصلوا إلى السور ونقبوه، ودخلوا البلد عنوة، والتجأ من كان فيه من جند الفرنج إلى الحصن، فقتل كثير من الفرنج بالبلد وقاتل من بالقلعة قتالا شديدا، ثم ملك القلعة بالأمان فى رابع صفر وعاد إلى دمشق.
ذكر ملكه مدينة حماة
وفى شوال سنة سبع وعشرين وخمسماية ملك شمس الملوك مدينة حماة وهى لأتابك زنكى بن اقسنقر،. وذلك أنه لما ملك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان، وسار إلى حماة فى العشر الأخر منه. وكان قد بلغه أن الخليفة(27/83)
المسترشد بالله قد حضر إلى الموصل، فطمع فى البلاد لتغير الخليفة على زنكى، فحصر حماة وقاتل من بها يوم العيد، وملك البلد فى اليوم الثانى قهرا، وطلب من به الأمان فأمنهم، وحصر القلعة، واستولى عليها وعلى ما بها من الذخائر، وسار منها إلى قلعة شيزر، وبها صاحبها ابن منقذ، فحصرها ونهب بلدها. فراسله صاحبها وسار معه بمال، فعاد إلى دمشق فى ذى القعدة من السنة.
وفى تاسع شهر ربيع الآخر وثب على شمس الملوك بعض مماليك جده طغرتكين، فضربه بسيف فلم يصنع فيه شيئا، وتكاثر عليه مماليك شمس الدولة فمسكوه، فقرره ما الذى حمله على ما فعل، فقال: «أردت راحة المسلمين من شرك وظلمك» فلم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه على ذلك، فقتلهم من غير تحقيق، وقتل أخاه سونج، فعظم ذلك على الناس، ونفروا عنه وأنفوه.
ذكر ملكه شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج
وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية سار إلى شقيف تيرون «1» وهو فى الجبل المطل على بيروت وصيدا، وكان فى يد الضحاك بن جندل رئيس وادى التيم قد تغلب عليه وامتنع به واحتمى على المسلمين والفرنج. فسار إليه [شمس الملوك] وملكه فى المحرم من هذه السنة؛ فعظم أخذه على الفرنج، لأن الضحاك كان لا يتعرض إلى شىء من بلادهم المجاورة له، فجمع الفرنج جموعهم فساروا إلى بلد حوران(27/84)
يخربون أمهات الضياع. فسار إليهم [شمس الملوك] ونزل بإزائهم وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم نهض ببعض عسكره وجعل بقيتهم قبالة الفرنج. وسار وقصد بلاد طبرية والناصرة وعكا وما جاورها من البلاد، والفرنج لا يشعرون به، فقتل وخرب وأحرق وسبى وامتلات أيدى المسلمين من الغنائم، فبلغ الفرنج خبره، فرجعوا إلى بلادهم، وعاد هو على غير الطريق الذى سلكه، فوصل سالما وراسله الفرنج فى تجديد الهدنة.
ذكر مقتل شمس الملوك وملك أخيه شهاب الدين محمود
وفى شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسماية، قتل شمس الملوك إسمعيل. وسبب ذلك أنه كان قد ركب طريقا شنيعا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أهل البلد وأعيانه، وبالغ فى العقوبات، وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس. ثم ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكى ليسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول، وأخلى المدينة من الذخائر والأموال، ونقل ذلك إلى صرخد وتابع الرسل إلى زنكى يحثه على الوصول ويقول: إن أهملت المجىء سلمت البلد إلى الفرنج. فامتغص أصحاب أبيه وجده منه، وذكروا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر. ثم ارتقب غفلة غلمانه وأمرت غلمانها بقتله فقتلوه. وأمرت بإلقائه فى موضع من الدار ليشاهده غلمانه، فلما رأوه سروا بمقتله.
وأمه زمود خاتون ابنة جاولى، وهى التى بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادى الشقراء، ونهر بردى. هذا أحد ما قيل فى قتله.(27/85)
وقيل كان سبب مقتله أن والده كان له صاحب اسمه يوسف بن فيروز، وكان متمكنا منه حاكما فى دولته ثم فى دولة ولده هذا، فاتهم بأم شمس الملوك. وبلغه الخبر فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصن بها وأظهر الطاعة لشمس الملوك. وأراد [شمس الملوك] ، قتل أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفا على نفسها، والله أعلم.
وكان مولده فى سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسماية، فتكون مدة حياته اثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر، ومدة ملكه سنتين وتسعة أشهر وأياما.
ذكر أخبار شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين
ملك دمشق بعد مقتل أخيه شمس الملوك فى شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وخمسماية. وحلف له الناس واستقر له الأمر ثم وصل أتابك زنكى إلى دمشق ونازلها فى أول جمادى الأولى من السنة، فبينما هو يحاصر [دمشق] إذ ورد عليه رسول الخليفة المسترشد بالله بالخلع ويأمره بصلح صاحب دمشق والرحيل عنها، فصالحه، وخطب له بدمشق مع صاحبها، وفارق البلد لليلتين بقيتا من الشهر.
ذكر ملكه مدينة حمص
وفى الثانى والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثين وخمسماية، تسلم شهاب الدين محمود مدينة حمس وقلعتها. وذلك أن أصحابها(27/86)
أولاد الأمير خرخان بن قراجا «1» الوالى عليها من قبلهم ضجروا من كثرة تعرض عسكر زنكى إليها وإلى أعمالها، وتضييقهم على من بها، فراسلوا شهاب الدين فى تسليمها، فأجابهم، وسار إليها وتسلمها، وسلم إليهم تدمر، وأقطع حمص لمملوك جده معين الدين أنر «2» وجعل فيها نائبا عنه ممن يثق به من أعيان أصحابه، وعاد إلى دمشق ثم ملكها أتابك زنكى فى سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية، وتزوج زمرد خاتون والدة شهاب الدين لتحكمها بدمشق، وظن أنه تملك البلد باتصاله بها، فلم يتهيأ له ملكها.
قال: واستمر ملك شهاب الدين محمود إلى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية، فقتل على فراشه فى شوال منها، قتله ثلاثة من خواصه كانوا يبيتون عنده فقتلوه ليلا، وخرجوا من القلعة فنجا أحدهما وقتل الاخران.
ذكر ملك جمال الدين محمد ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين
ملك دمشق بعد مقتل أخيه شهاب الدين محمود فى شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية. وذلك أن محمود لما قتل، كتب معين الدين أنر إلى جمال الدين صاحب بعلبك بالخبر، واستدعاه ليملكه(27/87)
البلد، فجاء مسرعا وجلس لعزاء أخيه، وخلف الجند وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنر، وزاده فى علو مرتبته، وأقطعه بعلبك، وزوجه بأمه.
قال: ولما اتصل بزمرد خاتون قتل ابنها محمود كتبت إلى زوجها أتابك زنكى وهو بالجزيرة أن ينهض فى طلب ثار ابنها، فسار مسرعا وملك بعلبك عنوة فى ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثين، وحصر دمشق فى سنة أربع وثلاثين، وبذل لمعين الدين حمص وبعلبك وغير ذلك على أن يسلم إليه دمشق فلم يوافق، فجد فى الحصار.
فبينما هو يحاصرها مرض جمال الدين محمد ومات فى ثامن شعبان منها، فطمع زنكى حينئذ فى البلد ووالى الزحف والقتال. قال:
ولما مات جمال الدين ولى بعده ولده.
ذكر أخبار مجير الدين ابق ابن جمال الدين محمد بن بورى ابن طغرتكين
ملك دمشق بعد وفاة أبيه فى ثامن شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسماية، وهى إذ ذاك محاصرة، فقام بتدبير دولته معين الدين مدبر دولة أبيه. وداوم زنكى الحصار وضيق على أهل البلد، فعند ذلك راسل أنر الفرنج واستدعاهم لنصرته، وإعانته على حرب زنكى. وبذل لهم بذولا من جملتها أن يحاصر بانياس ويسلمها إليهم. وخوفهم أن زنكى إن ملك دمشق قصدهم وغزاهم. فاجتمعوا وعزموا على المسير إلى دمشق، فاتصل ذلك بزنكى فتوجه إلى حوران(27/88)
وقصد غزو الفرنج وذلك فى منتصف شهر رمضان. فبلغ خبره الفرنج فأقاموا ببلادهم، فعاد إلى حصار دمشق ثم نزل بعذرا «1» فى سادس شوال، وأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة، وعاد إلى بلاده.
ووصل الفرنج إلى دمشق فى ميعاد أنر، بعد رحيل زنكى فسار معهم إلى بانياس وحصرها وأخذها وسلمها للفرنج. ولما فعل ذلك عاد زنكى لمحاصرة دمشق فقاتله أهلها، فرحل عنهم. ثم اتفق قتل عماد الدين زنكى فى سنة إحدى وأربعين وخمسماية، فسار مجير الدين ابق إلى بعلبك وحصرها وبها نجم الدين أيوب، فخاف أن أولاد زنكى لا يمكنهم إنجاده فى عاجل الحال، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعا ومالا، وملكه عدة قرى من بلد دمشق.
وانتقل نجم الدين أيوب إلى دمشق وسكنها، وأقام بها، واستمرت دمشق بيد مجير الدين إلى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى فى سنة تسع وأربعين وخمسماية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.
ولما ملكها [نور الدين] تحصن مجير الدين بالقلعة، فراسله فى تسليمها وبذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص، فأجاب إلى ذلك، وسلم القلعة وتسلم الإقطاع، وسار إلى حمص. ثم راسل أهل دمشق بعد ذلك على أن يسلموها إليه. فعلم نور الدين به،(27/89)
وأخذ منه حمص وعوضه عنها بالس «1» فلم يرض بها، وسار إلى بغداد وابتنى بها دارا بالقرب من النظامية. وتوفى بها.
هذا ما كان من أخبار ملوك دمشق على سبيل الاختصار، وإنما أوردنا أخبارهم فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد، ولئن تكون أخبارهم متتابعة. فلنرجع إلى أخبار الملوك السلجقية، ولنذكر ملوك الروم منهم.
ذكر أخبار الملوك السلجقية أصحاب قوينة واقتصرا «2» وملطية ودقوقا من الروم
أول من ملك منهم شهاب الدولة قتلمش بن أرسلان بيغو ابن سلجق.
وكان ابتداء أمره أنه عصى على السلطان طغرل بك فى سنة ثلاث وخمسين وأربعماية، وملك قلعة كردكوه وامتنع بها، وأخذ أموالا كانت حملت من خوارزم إلى السلطان.
فسير إليه طغرلبك جيشا فهزمه مرة بعد اخرى. فلما مات طغرلبك أظهر [شهاب الدين قتلمش] العصيان على ألب أرسلان ابن جغربيك «3» داود، وجمع جموعا كثيرة، وقصد الرى ليستولى عليها عند ما بلغه وفاه طغرلبك، فسار إليه السلطان ألب أرسلان والتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر قتلمش، وفر هو لقصد كردكوه.(27/90)
فوجد ميتا غير مقتول، كما ذكرنا ذلك فى أخبار ألب أرسلان فى سنة ست وخمسين وأربعماية ولما مات ملك بعده ابنه سليمان.
ذكر أخبار الملك سليمان ابن شهاب الدولة قتلمش وهو الثانى من الملوك السلجقية بالروم،
ملك ما كان بيد أبيه بعد وفاته فى سنة ست وخمسين وأربعمائة.
ذكر فتح مدينة أنطاكية
وفى سنة سبع وسبعين وأربعماية سار سليمان من بلاده، وقصد الشام وملك مدينة انطاكية، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلثماية. وكان سبب ملكه إياها أن صاحبها الفزدرؤس الرومى «1» كان قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب فى انطاكية شحنة وكان الفزدرؤس كثير الإساءة إلى أهل البلد وإلى جنده، حتى أنه حبس ابنه، فاتفق ابنه والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان، فكاتبوه يستدعونه فركب فى البحر ومعه ثلثماية فرس وكثير من الرجالة، وخرج منه وسار فى جبال وعرة ومضايق شديدة حتى وصل إليها فى وقت الموعد، فنصب السلاليم وصعد باتفاق من الشحنة وابن صاحبها، فملكها فى شعبان من السنة. وقاتله أهل البلد فهزمهم مرة بعد أخرى، وقتل كثيرا منهم، ثم عفا(27/91)
عنهم، وتسلم القلعة وأخذ من الأموال ما لا يحصى كثرة، وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم، وأرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بالفتح فأظهر الفرح بذلك وهنأ الناس.
قال: ولما فتحها أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب حلب يطلب منه حمل ما كان صاحب انطاكية يحمله إليه، ويخوفه معصية السلطان. فأجابه أن صاحب انطاكية كان كافرا يحمل الجزية عن رأسه وأصحابه، وأنا مسلم والخطبة والسكة فى بلادى للسلطان، وهذا الفتح إنما فتحته بسعادته وكاتبته به. فنهب شرف الدولة بلد انطاكية، ونهب سليمان بلد حلب، فلقيه أهل السواد، فشكوا إليه من نهب عسكره. فقال لهم: «أنا كنت أشد كراهة لما جرى، ولكن صاحبكم أحوجنى إلى ما فعلت، فلم تجر عادتى بنهب مال مسلم. ولا أخذ ما حرمته الشريعة» وأمر أصحابه بإعادة ما نهب على أصحابه، فأعادوه. ثم جمع شرف الدولة الجموع وسار لقتال سليمان. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر شرف الدولة وقتل هو؛ وذلك فى يوم الجمعة لست بقين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعماية.
ذكر قتل الملك سليمان قتلمش
قال: ولما قتل سليمان بن شرف الدولة، أرسل إلى مقدم حلب يطلب تسليمها له، فأنفذ إليه مالا، واستهمله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه. وأرسل المقدم إلى تتش صاحب دمشق يعده بتسليمها إليه، فسار تتش إلى حلب. فعلم سليمان بذلك،(27/92)
فسار نحوه والتقوا وقاتلوا، فانهزم أصحاب سليمان وثبت هو فى القلب. فلما عاين الهلكة. قتل نفسه بسكين، وقيل بل قتل فى المعركة، واستولى تتش على معسكره، وذلك فى سنة تسع وسبعين وأربعماية. وكان سليمان قد أرسل جثة شرف الدولة مسلم فى صفر سنة ثمان وسبعين على بغل، ملفوفة فى إزار إلى حلب، وطلب من أهلها تسليمها إليه، فأرسل تتش جثة سليمان فى صفر من السنة التى تليها على تلك الهيئة، وطلب منهم تسليمها. ولما قتل ملك بعده ببلاد الروم ولده والله أعلم.
ذكر أخبار قلج أرسلان بن سليمان وهو الثالث من الملوك السلجقية بالروم.
ملك بعد قتل أبيه فى صفر سنة تسع وسبعين وأربعماية، واستمر فى المملكة الرومية وملك الموصل فى سنة خمسماية. وذلك أن صاحبها جكزمش كان قد حاصره جاولى سقاووا «1» ، وأسره ومات فى أسره. فكتب أصحاب جكرمش إلى الأمير صدقة، وإلى قسيم الدولة اقسنقر البرسقى، وإلى قلج أرسلان، يستدعون كل واحد منهم إليها، ليسلموا إليه الموصل، فامتنع صدقة، وسار قلج أرسلان. فلما وصل إلى نصيبين رحل جاولى عن الموصل، واتفق وصول البرسقى وهو شحنة بغداد إلى الموصل، ونزل بالجانب الشرقى بعد رحيل جاولى وفى ظنه أنه يملك البلد، فلم يخرج إليه(27/93)
أحد من أهلها ولا راسلوه بكلمة واحدة، فعاد فى بقية يومه. وأرسل أصحاب جكرمش وأهل الموصل إلى قلج أرسلان واستحلفوه لهم، فحلف، وحلفهم على الطاعة له والمناصحة، وسار إلى الموصل وملكها لخمس بقين من شهر رجب سنة خمسماية، وأسقط خطبة السلطان وخطب لنفسه بعد الخليفة، وأحسن إلى العسكر وخلع على ولد جكرمش وأخذ القلعه، من غزغلى «1» مملوك جكرمش وجعل عليها دزدارا، ودفع الرسوم المحدثة فى الظلم، ونشر العدل وتألف الناس، وقال: «من سعى إلى بأحد قتلته» فلم يسع إليه أحد بأحد.
ذكر قتل الملك قلج أرسلان وملك ولده الملك مسعود
كان مقتله فى العشرين من ذى القعدة من سنة خمسماية.
وذلك أنه لما فارق جاولى الموصل سار إلى الرحبة وملكها بعد حصار وقتال، فلما أحكم الملك قلج أمر الموصل، سار عنها لقتال جاولى، وجعل ابنه ملكشاه فى دار الإمارة بالموصل، وسنّه إحدى عشرة «2» سنة، وجعل معه أميرا يدبره وجماعة من العسكر. وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدد الكاملة والخيل الجيدة. فسمع عسكره بقوة جاولى وكثرة أتباعه وجنده، فاختلفوا، فكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال صاحب آمد «3» ، وكان معه لما فتح(27/94)
الموصل. ففارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور «1» إلى بلده ثم فارقه غيره. فعمل قلج فى المطاولة لما بلغه من قوة جاولى وكثر جموعه، وأرسل فى طلب عساكره من الروم. وكان فى جملة عسكر جاولى الملك رضوان صاحب حلب، فاغتنم جاولى قلة أصحاب قلج فقاتله قبل وصول عسكره، واقتتلوا قتالا شديدا، فحمل قلج بنفسه وانهزم أصحابه. فلما رأى قلج انهزم عسكره ألقى نفسه فى الخابور، وحمى نفسه بالنشاب، فانحدر به الفرس إلى ماء عميق، وغرق، فظهر بعد أيام، فدفن بالسليمانية وهى قرية من قرى الخابور. وسار جاولى ودخل الموصل وأرسل ملكشاه بن قلج إلى السلطان محمد.
قال: وملك بعده ولده الملك مسعود بن قلج، [وهو الرابع من الملوك السلجقية ببلاد الروم.]
وأقام فى الملك إلى سنة إحدى وخمسين وخمسماية، فتوفى فيها. ولم أقف من أخباره على شىء أورده له، وملك بعده ولده.
ذكر أخبار الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود ابن قلج ارسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق وهو الخامس من الملوك السلجقية ببلاد الروم.
ملك بعد وفاة والده فى سنة إحدى وخمسين وخمسماية.
وكان ذا سياسة، وعدل وافر، وهيبة عظيمة، وله غزوات كثيرة إلى بلاد الروم. وكان له من بلاد الروم قونية وأعمالها واقصرا وسيواس(27/95)
وملطية وغير ذلك. وكان له عدة أولاد، فلما كبرت سنه فرق بلاده على أولاده فى حياته، وملك نحو تسع «1» وعشرين سنة.
ذكر تسليمه البلاد لبنيه وبنى أخيه وما جعل لكل منهم
قال المؤرخ: لما ضعف الملك عز الدين قلج أرسلان هذا عن القيام بوظائف الملك لكبر سنه، أفرد البلاد لأولاده وأولاد أخيه وسلم لكل واحد منهم جهة، فسلم إلى ابنه ركن الدين سليمان دوقاط، وإلى ابنه غياث الدين كيخسرو قونية، ولولده محى الدين أنقره- وتسمى أنكورية- ولولده معز الدين قيصر شاه ملطية، ولولده مغيث الدين طغرل شاه أبلستين، ولولده نور الدين محمود قيسارية، ولولده قطب الدين سيواس وأقصرا، ولولد أخيه نكسار، ولولد أخيه أماسيا. هذه أمهات البلاد، ويضاف إلى كل جهة ما تجاورها. ثم ندم على ذلك وأراد أن يجمع جميع المملكة لولده الأكبر قطب الدين، وخطب له ابنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب مصر ليتقوى به، فلما اتصل ذلك ببقية أولاده امتنعوا من طاعته، وأزالوا حكمه عنهم، فكان يتردد بينهم على سبيل الزيارة، ثم توجه إلى ولده غياث الدين [كيخسرو] «2» صاحب قونية. فخرج إليه وقبل الأرض بين يديه واستبشر بقدومه.
واتمر بأمره. فقال له: «أريد أن أسير إلى ولدى محمود صاحب(27/96)
قيسارية، وآخذها منه» فسار هو وولده كيخسرو، وحصرا محمود، فمرض قلج أرسلان، وتوفى فى منتصف شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسماية فعاد كيخسرو إلى بلده، واستقر كل واحد منهم على ما بيده من البلاد.
ذكر قتل نور الدين محمود واستيلاء قطب الدين على قيسارية ووفاته واستيلاء ركن الدين سليمان على سائر المملكة
قال: كان قطب الدين صاحب أقصرا وسيواس إذا توجه من أحدهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية، ويجتمع بأخيه نور الدين محمود صاحبها، ويظهر له المودة. فاطمأن له محمود.
وكان الأمير اختيار الدين حسن أحد أمراء والده يحذره عاقبة طمأنينته لأخيه، فنزل قطب الدين فى بعض الأحيان بظاهر قيسارية وجاء نور الدين إليه فقتله، ورمى برأسه إلى أصحابه، وتسلم البلد بعد أن امتنع من بها عليه، ثم قتل الأمير اختيار الدين حسن وكان من أكابر الأمراء الديانين، وألقاه فى الطريق، فجاء كلب ليأكل من لحمه، فثار الناس وقالوا: «لا سمعا ولا طاعة هذا أمير كبير فى الإسلام، وبنى مدرسة للعلم، وله صدقات دارة، ولا نتركه نأكله الكلاب» فأمر عند ذلك بدفنه، فدفن فى مدرسته. ثم مرض قطب الدين ومات، فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس، وهى تجاوره، فملكها ثم ملك قيسارية أقصرا.(27/97)
ثم سار بعد ذلك إلى قونية، وبها أخوه غياث الدين فحصره بها.
وملكها، ففارقها غياث الدين إلى الشام. ثم عاد إلى الروم وسار إلى القسطنطينية، ثم ملك البلاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسار ركن الدين بعد ذلك إلى نكسار وأماسيا فملكها من ابنى عمه، وملك ملطية فى شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسماية، وفارقها أخوه معز الدين قيصر شاه، وسار إلى الملك العادل أبى بكر» وكان زوّجه ابنته. فاجتمع لركن الدين سليمان ملك جميع البلاد التى كانت بيد إخوته وأولاد عمه إلا أنقره، فإنها امتنعت عليه لحصانتها، فجعل عليها من عسكره من يحصرها، فحوصرت ثلاث سنين كوامل وتسلمها فى سنة ستماية، وعوض أخاه محى الدين عنها قلعة فى أطراف بلاده، وحلف له عليها، فسار محى الدين إليها فجهز فى إثره من قتله.
ذكر وفاة ركن الدين سليمان وملك ولده قلج أرسلان
قال: ولما غدر بأخيه محى الدين صاحب أنكورية وقتله، لم يمهله الله عز وجل، فمرض بالقولنج، بعد قتله لخمسة أيام، ومات فى سبعة أيام، وكانت وفاته فى سادس ذى القعدة سنة ستماية.
وكان قيما بأمر الملك، شديدا على الأعداء، إلا أن الناس كانوا ينسبونه إلى فساد فى اعتقاده، وأنه يقول بقول الفلاسفة.
وكان كل من رمى بهذا المذهب يأوى إليه، لكنه كان يستر ذلك عن الناس، ولا يتظاهر به.(27/98)
قال: ولما مات اجتمع الناس بعده على ولده قلج أرسلان، وملكوه عليهم وكان صغير السن، فبقى إلى بعض سنة إحدى وستماية.
ذكر ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قلتمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، بلاد الروم من ابن أخيه، وهو الثانى من ملوك السلجقية بالروم
ملك المملكة الرومية فى شهر رجب، سنة إحدى وستماية. وذلك أن ركن الدين سليمان لما أخذ منه قونية، كما قدمناه، قصد الشام إلى الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولا، فسار من عنده وتنقل فى البلاد إلى أن سار إلى القسطنطينية،، فأحسن إليه ملك الروم وأكرمه وأقطعه إقطاعا، فأقام عنده وتزوج بابنة بعض البطارقة الأكابر.
وكان للبطريق قلعة من قلاع القسطنطينية، فلما ملك الفرنج قسطنطينية «1» ، هرب غياث الدين إلى [حميه] «2» ، بالقلعة، فنزل عنده وقاسمه فيما هو فيه وقنعا بها فلما مات أخوه فى سنة ستماية كما ذكرناه، وملك ولده قلج أرسلان، فخالف عليه بعض الأمراء الأكابر وكان من الترك، فأنف أن يملك صغيرا، فراسل غياث الدين فحضر إليه فى جمادى الأولى، واجتمع معه بعض العسكر وتوجه إلى قونية وبها قلج أرسلان بن أخيه، فخرج له بعض عسكرها(27/99)
فهزموه وبقى حيران ولا يدرى ما يصنع، ولا أين يتوجه. فقصد بلدة صغيرة من بلاد قونية يقال لها أو كرم، فقدر الله أن أهل مدينة أقصرا وثبوا على واليها، فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين.
فلما وصل الخبر أهل قونية قال أهلها: «نحن أولى بذلك منهم، لأنه كان حسن السيرة فينا» فنادوا باسمه، وأخرجوا من عندهم، واستدعوه، فملك المدينة وقبض على ابن اخيه، وملك البلاد أجمع فى ساعة واحدة، فسبحان من إذا أراد أمرا هيأ أسبابه. وحضر إليه أخوه قيصر شاه الذى كان صاحب ملطية، فلم يجد عنده قبولا، فأعطاه شيئا وأمره بمفارقة البلاد، فعاد إلى الرها، واستتب الملك لكيخسرو وأعظم شأنه، والله أعلم.
ذكر ملكه مدينة أنطاكية
وفى ثالث شعبان سنة ثلاث ستماية ملك الملك غياث الدين كيخسرو مدينة أنطاكية بالأمان، وكانت للروم. وكان قد حصرها قبل هذا التاريخ وهدم عدة أبرجة من سورها، وأشرف على فتحها عنوة، فاستنجد من بها من الروم بفرنج جزيرة قبرص، فوصل إليها جماعة منهم فيئس منها وفارقها وترك طائفة من أصحابه بالقرب منها فى الجبال التى بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة عنها. فضاق أهلها فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم، فظنوا أنهم يريدون إخراجهم من المدينة. فوقع الخلف بينهم، فأقتتلوا فأرسل الروم إلى المسلمين يطلبونهم ليتسلموا البلد، فوصلوا إليهم واجتمعوا(27/100)
معهم على قتال الفرنج، فانهزم الفرنج منهم واعتصموا بالحصن.
فأرسل المسلمون يطلبون كيخسرو، فجاء من قونية وحصر الفرنج وتسلم الحصن. واستمر غياث الدين كيخسرو فى الملك إلى أن توفى سنة سبع وستماية وملك بعده ولده الملك الغالب عز الدين كيكاووش «1» بن كيخسرو، وملك كيكاووش هذا بعض بلاد حلب، وانتزعت منه، واستمر فى المملكة الرومية إلى سنة ست عشرة وستماية، فتوفى ولم يكن له ولد فملك بعده أخوه.
ذكر ملك علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق وهو العاشر من ملوك السلجقية بالروم
ملك بعد وفاة أخيه فى سنة ست عشرة وستماية، وكان أخوه كيكاووش قد اعتقله لما ملك، وأشار عليه أصحابه بقتله فلم يفعل.
فلما مات كيكاووش أخرج الجند كيقباذ وملكوه عليهم. وقيل إنه لما اشتدت علة كيكاووش أخرجه من الاعتقال، وحلف له العساكر.
قال: ولما ملك كيقباذ خالف عمه مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان صاحب أرزن الروم؛ ومغيث الدين هذا هو الذى أمر ولده أن ينتصر وزوجه ملكة الكرج، وأقام معها مدة، فهويت غيره من مماليكها فرآه معها، فأنكر ذلك عليها، فاعتقلته. ومات مغيث الدين هذا فى سنة اثنتين وعشرين وستماية، وملك بعده ابنه.(27/101)
قال: ولما ملك كيقباذ خاف من الروم المجاورين لبلاده، فأرسل إلى الملك الأشرف صاحب دمشق وصالحه، وتعاهد على المصافاة والتعاضد، والله أعلم.
وفى سنة ثلاث وعشرين وستماية فى شعبان سار كيقباذ إلى بلاد الملك المسعود صاحب آمد، وملك عدة من حصونه. وكان صاحب آمد قد اتفق مع السلطان جلال الدين خوارزم شاه على مخالفة الأشرف صاحب دمشق، فأرسل الأشرف إلى كيقباذ بقصد آمد، فسار وفتح حصن منصور «1» وحصن سمسنكاذا وغيرهما. فلما رأى صاحب آمد ذلك راسل الملك الأشرف، وعاد إلى موافقته. فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه الصلح وأن يعيد إلى صاحب آمد ما أخذه، فامتنع وقال: «ما أنا نائب الأشرف يأمرنى وينهانى» فأمر الأشرف عساكره بمساعدة صاحب آمد إن أصر ملك الروم على قصد محاصرته «2» . فاجتمع العسكر الأشرفى مع صاحب آمد وساروا إلى كيقباذ وهو يحاصر قلعة الكختا، فالتقوا فى شوال فانهزم صاحب آمد ومن معه هزيمة عظيمة، وأسر كثير من أصحابه، وجرح، وملك كيقباذ قلعة الكختا.(27/102)
وفى سنة خمس وعشرين وستماية ملك كيقباذ أرزنكان «1» وكان صاحبها بهرام شاه قد طال ملكه بها، وجاوز ستين سنة، ولم يزل فى طاعة السلجقية ملوك الروم. فلما توفى ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه، فأرسل إليه كيقباذ يطلبه بعسكره يسير معه إلى مدينة: أرزن «2» الروم ليحاصرها. فحضر إليه فقبض عليه وأخذ مدينته، ثم ملك حصن كماخ «3» ، وكان من أمنع الحصون.
وقصد أرزن الروم ليأخذها من ابن عمه طغرل شاه، فاستنجد صاحبها بالأمير حسام الدين على نائب الأشرف بخلاط، وأظهر طاعة الأشرف، فسار إليه بمن عنده من العسكر خوفا أن كيقباذ إذا ملك أرزن الروم قصد خلاط وغيرها، فعاد ولم يقدم على قصدها، وتوجه إلى مدينة أنطاكية ليشتو بها والله أعلم.
ذكر اجتماع كيقباذ والأشرف على حرب جلال الدين خوارزم شاه وانهزامه منهما
كان سبب ذلك أن جلال الدين خوارزم شاه لما حاصر خلاط حضر إليه صاحب أرزن الروم. وهو طغرل شاه السلجقى ابن عم كيقباذ، وأطاعه وأعانه على الحصار. وكان بينه وبين ابن عمه(27/103)
عداوة مستحكمة فخاف كيقباذ أن السلطان جلال الدين يتوصل إلى ملك بلاده، فراسل الملك الكامل صاحب مصر «1» وهو إذ ذاك بحران، وساله أن يستدعى الملك الأشرف من دمشق، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرف «2» واجتمع هو وكيقباذ، واتفقا على حرب جلال الدين. وكان عسكر كيقباذ عشرين ألف فارس وعسكر الأشرف خمسة آلاف فارس، إلا أنهم كانوا من الشجعان الذين لا يقوم أحد بحربهم. فسار جلال الدين لقتالهم والتقوا يوم السبت الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة سبع وعشرين وستماية بمكان من أعمال أرزنجان، فانهزم جلال الدين وعاد إلى خلاط، فأخذ من كان بها من أصحابه وفارقها، وأسر فى هذه الوقعة جماعة من أصحاب السلطان. فأمر كيقباذ بضرب أعناقهم، وأسر ابن عمه صاحب أرزن الروم، وقصد به بلده، فتسلم أرزن الروم وما معها من القلاع، وما بها من الخزائن وغيرها. فكان طغرل شاه كما قيل:
«خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا اذنين» ؛ وكان هذا قد عاهد جلال الدين على أنه يملكه بعض بلاد كيقباذ، فأخذ ما بيده.
واستمر كيقباذ فى الملك إلى أن توفى، وكانت وفاته فى سنة أربع وثلاثين وستماية، وملك بعده ولده.(27/104)
ذكر ملك غياث الدين كيخسرو ابن الملك علاء الدين كيقباذ غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن أرسلان بيغو بن سلجق، وهو الحادى عشر من الملوك السلجقية، بالروم
ملك المملكة الرومية بعد وفاة أبيه الملك كيقباذ فى سنة أربع وثلاثين وستماية. وجلس على تخت السلطنة بمدينة قونية وراسله الملوك فى الموافقة، وهى السنة التى وصل التتار فيها إلى الروم.
وفى سنة خمس وثلاثين أرسل غياث الدين إلى والدة الملك العزيز مخطب بنت ابنها العزيز لنفسه، وأن يتزوج الملك الناصر صاحب حلب أخت السلطان غياث الدين. فاستقر بينهما الأمر، وعقا عقد السلطان على غازية خاتون ابنة الملك العزيز على خمسين ألف دينار. ووصل الصاحب كمال الدين بن العديم من حلب إلى السلطان.
فزوج أخته من الملك الناصر على نظير هذا الصداق. فحصل الاتفاق بينهما، ثم أرسل السلطان غياث الدين إلى حلب يطلب أن تقام له الخطبة بها وتضرب السكة باسمه. فتوقفت الصاحبة والدة العزيز فى ذلك، فأشير عليها بالموافقة فأجابت إلى ذلك، وخطب له بحلب.
وفى سنة إحدى وأربعين وستماية، دخل بيجو مقدم التتار إلى بلاد الروم، والتقى هو والسلطان غياث الدين فكسرهم كيخسرو، ثم عاودوا القتال فهزموه، وقتل جماعة من أصحابه، والتجأ إلى بعض المعاقل؛ ثم حصلت المهادنة على أتاوة يؤديها غياث الدين للتتار فى كل سنة.(27/105)
وفى سنة أربع وخمسين وستماية وصل التتار إلى بلاد الروم صحبة جرماغون وبيجو من قبل منكوفان الملك. فخرج السلطان غياث الدين لقتالهم بجميع عساكره، واستصحب حريمه ليقاتل قتال الحريم. واستشار أصحابه فيما يفعل، فكان منهم من هول عليه أمر التتار وكان غياث الدين قد زوجه والده بكرجى خاتون ابنة ملك الكرج. فلما أفضت السلطنة إليه جعل أخاها مقدما على الجيش، وكان نصرانيا، لم ينتقل عن ملته، فكرهه الأمراء وكرهوا السلطان بسببه. فلما كان فى هذا الوقت قال للسلطان غياث الدين: «ضم إلى من فى عسكرك من الكرج والفرنج، وأنا ألقى التتار بهم» . فغاظ الأمراء كلامه، وتقدم أحد أعيانهم فحلف أنه لا بد أن يلقى التتار بنفسه، ومن صحبه، وركب فى نحو عشرين ألف فارس، وتقدم إلى التتار وهم بصحراء اقشهر زنجان، وكان غياث الدين على الجبل الأقرع واسمه كوسا داغ، وهو مشرف على الوطأة التى نزل بها التتار. وسار الأمير فيمن معه، وتبعه السلطان ببقية الجيش فوجد المقدم أمامه واد قطعه السيل، فلم يستطع قطعه إلى جهة التتار، فسار مع لحف لجبل، يطلب طريقا يمكنه التوصل منه إلى التتار. فركب التتار وقصدوه ودنوا منه وراسلوه بالسهام، فأهلكوا أكثر الخيل التى معه، فكان السهم لا يقع إلا فى فرس أو فارس، فتفرقوا عند ذلك، وطلبوا النجاة لأنفسهم. وعاد السلطان غياث الدين إلى المخيم. وجهز حريمه إلى قونية، وهى دار المملكة، ومسافتها من المكان الذى هو فيه نحو شهر، فسرن صحبة أمير، ولم يحملن معهن إلا ماخف، ورجع(27/106)
السلطان وترك الوطاق والدهاليز والخيام منصوبة، وبها الأثقال والخزائن والذحائر وأقام التتار ثلاثة أيام لم يقدموا على دخول الوطاق ظنا منهم أنها مكيدة، ثم عبروا الوطاق واستولوا على ما فيه، ورجعوا.
وتوفى غياث الدين فى هذه السنة، وخلف ثلاثة أولاد: عز الدين كيكاووش، وركن الدين قلج أرسلان وعلاء الدين كيقباذ.
ذكر أحوال أولاد السلطان غياث الدين كيخسرو بعد وفاة أبيهم
قال: لما توفى غياث الدين استقر أولاده الثلاثة فى السلطنة، ولم ينفرد بها أحد عن الآخر، وضربت السكة باسمهم جميعا، وخطب لهم وكان والدهم قد جعل ولاية عهده لولده علاء الدين كيقباذ بن كرجى خاتون، فاتفقوا على أن يتوجه إلى منكوقان يطلب منه الصلح والهدنة، ويقرر له أتاوة. هذا بعد أن استولى بيجو على قيسارية وأعمالها وما حولها، وصار بيده من المملكة الرومية مسافة شهر.
قال: فتوجه علاء الدين كيقباذ إلى منكوقان ملك التتار ومعه الهدايا والتحف، وذلك فى سنة خمس وخمسين وستماية. وقصد الأرد «1» ومعه الأمير سيف الدين طرنطاى، وهو من أكابر الأمراء(27/107)
وشجاع الدين ملك السواحل. وأقام أخواه بقونية فاختلفت آراؤهما وآل أمرهما إلى القتال. فانتصر عز الدين كيكاووش واستقر بقونية بمفرده، واعتقل ركن الدين قلج أرسلان، كل ذلك وبيجو بالروم قال: ولما اعتقل قلج أرسلان، ضاق أصحابه ومنهم الصاحب شمس الدين الطغراى والأمير سيف الدين جاليش وغيرهم، ففكروا فيما يفعلون فزورّوا كتابا عن السلطان عز الدين كيكاووش إلى سيف الدين طرنطاى ورفيقه، أن يسلما إليهم السلطان علاء الدين كيقباذ، وما معهما من الهدايا والتحف، ليتوجه الصاحب بذلك إلى منكوقان، ويعود طرنطاى ورفيقه إلى قونية. وساروا بهذه الكتب الموضوعة فى إثر السلطان كيقباذ، فلحقوه وقد وصل إلى أردوباطو.
فدخلوا على باطو وقالوا: «إن السلطان عز الدين كان قد أرسل أخاه ليتوجه إلى القان وأرسل معه هذين- يعنون طرنطاى ورفيقه- ثم اتضح له أنهما قد أضمرا السوء، وأن طرنطاى ضربته صاعقة فيما مضى من الزمان، فلا يصلح أن يدخل بين يدى القان «1» . ورفيقه شجاع الدين طبيب ساحر، وقد أخذ صحبته شيئا من السم القاتل ليغتال به منكوقان. فأرسلنا عوضا عنهما وأمر بردهما، فلما سمع باطو ما قاله الصاحب، أمر بإحضار طرنطاى ورفيقه وفتش ما معهما من القماش والأصناف، فكان فيه برانى أشربة وعقاقير، من جملتها السقمونيا، فأمره أن يأكل من ذلك فأكل وامتنع من السقمونيا:
فظنها باطوسمّا، واستدعى الأطباء فقالوا إنها من الأدوية وآخر الأمر(27/108)
أن باطو خير الصاحب ورفقته بين أن يستصحبوا الهدايا إلى القان، ويكون السلطان صحبة طرنطاى ورفيقه أو العكس. فاختار الصاحب أن يكون السلطان معه والهدايا مع طرنطاى، وافترقا على. ذلك.
وتوجه السلطان كيقباذ والصاحب إلى القان وتوجه طرنطاى ورفيقه بالهدايا إليه، وافترقوا فى الطريق، فكل قصد جهة. واتفقت وفاة السلطان فى طريقه، وجرت لهم خطوب يطول شرحها، آخرها أنهم وصلوا إلى القان بالأردو وتنافسوا الرياسة فى مجلسه، ثم اتفق الحال أن تكون مملكة الروم مقسومة بين الأخوين، فجعل لعز الدين كيكاووش من نهر سيواس إلى حد بلاد اشكرى «1» ، ولركن الدين قلج أرسلان من نهر سيواس إلى تخوم أرزن الروم من الجهة الشمالية المتصله ببلاد التتار. واستقر عليهما اتاوة يحملونها إلى الأردو وعاد الصاحب شمس الدين وطرنطاى ورفقتهما من عنده، فما وصلوا إلى الروم حتى دخله التتار، وكان بينهم وبين السلطان عز الدين ما نذكره إن شاء الله فى أخبار التتار.
قال: ووصل الصاحب ورفقته الى الروم
فى سنة سبع وخمسين وستماية، واستقرت القسمة بين الأخوين على ما قرره منكوقان، وانفرد كل منهما بما استقر له، وانضم إليه جماعة من الأمراء. ثم قدم هولاكو وملك بغداد، فاستدعاهما فسار إليه، وحضرا معه أخذ حلب، ثم عادا إلى بلادهما على القسمة التى قسمها منكوقان. فلما كان فى سنة ستين(27/109)
وستماية بعث هولاكو يستدعى شمس الدين يوتاش نائب السلطان عز الدين، فأرسله إليه فوصل إلى أرزنكان صحبة رسل هولاكو.
فوافق وصولهم إليها عند غطاس النصارى، فخرجوا إلى الفرات بجمع كثير، ومعهم الجاثليق وقد رفعوا الصلبان على الرماح، وأعلنوا بالنواقيس والصياح، فأنكر عليهم شمس الدين، وقصد منعهم، فمنعه رسل هولاكو، وقالوا: «هذه بلاد السلطان ركن الدين فلا يحدث فيها» وسألوا الجاثليق: «كيف كان عادتكم فى أيام السلطان غياث الدين؟» فقال: «كنا نحمل له ثلاثة آلاف درهم، ونعمل ما نختار» فأخذوا منه ثلاثة آلاف درهم ومكنوه من عمل العيد كما أراد. فلما جرت هذه المفاوضة بين رسل هولاكو وشمس الدين، عاد مغضبا ورجع إلى السلطان عز الدين، وحمله على المخالفة والعصيان، فوافقه على ذلك واستولى على أكثر بلاد أخيه ركن الدين.
فتوجه ركن الدين إلى هولاكو واستنصر به، فبعث معه تومانا «1» من التتار، فكسرهم عز الدين. ثم استمدوا هولاكو، فأمدهم بتومان آخر فهرب عز الدين وفارق البلاد ودخل إلى الأشكرى بالقسطنطينية، وصحبته أخواله، وهما على دين النصرانية، وثلاثة نفر من أمرائه. واستولى ركن الدين على جميع البلاد واستقل بملكها.
وأما عز الدين فإنه لما وصل إلى الأشكرى أكرمه وأحسن إليه،(27/110)
فأقام عنده إلى سنة اثنتين وستين وستماية، فقصد الأمراء الذين كانوا معه وهم عز الدين أمير آخر، وعلى بهادر، وأمير مجلس، أن يثبوا على الأشكرى فيقتلوه، وأعلموا صاحبهم عز الدين بذلك.
وقالوا له: «اكتمه عن خاليك» فلم يكتمه عنهما، وأعلمهما به، وأمرهما أن يعرفا الأشكرى بذلك، وأنه لا يركب فى اليوم الذى قصد الأمراء الفتك به فيه. فعرفاه، فقبض على الأمراء وكحلهم، وقبض على السلطان عز الدين واعتقله بقلعة من القلاع الغربية، فأقام بها إلى سنة ثمان وستين وستماية. وجمع الأشكرى أصحاب الأمراء وأتباعهم، وعرض عليهم الدخول فى دينه. فمن وافق تركه، ومن أبى كحله. فمنهم من وافق وتنصّر، ومنهم من امتنع فكحل، وعرض على رجل منهم أن يتنصر فصاح وقال: «الجنة معدة للإسلام، والنار معدة لكم» فقال: هذا رجل ثابت على دينه وأطلقه، وكتب له ورقة للطريق.
وفى سنة ثمان وستين وستماية خلص السلطان عز الدين وأهله من الاعتقال، وسبب ذلك أن منكوتمر بن طغان جهز عسكر إلى اسطنبول، فأغاروا عليها، وأخذوا عز الدين من القلعة التى كان بها، وأحضروه إلى منكوتمر، فأكرمه وأحسن إليه وأقام ببلاده قرم، وتزوج بها، واستمر إلى أن توفى فى سنة سبع وسبعين وستماية.(27/111)
ذكر قتل السلطان ركن الدين قلج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين كيخسرو
وفى سنة ست وستين وستماية دبر البرواناه على السلطان ركن الدين، واتفق مع التتار الذين عنده على قتله ليتمكن من البلاد. فعمل وليمة واجتمع فيها التتار، واستدعوا السلطان فحضر إليهم وأكل وشرب، فقاموا إليه وخنقوه بوتر، فمات، واستقر فى الملك بعده ولده السلطان غياث الدين كيخسرو، وله من العمر أربع سنين، واستولى البرواناه على الحكم فى المملكة الرومية، والله أعلم.
ذكر خبر البرواناه معين الدين سليمان وأصله وتنقله
أما أصله فمن الديلم. وكان والده مهذب الدين على. حضر وهو شاب فى أيام السلطان علاء الدين كيقباذ إلى سعد الدين المستوفى بالروم، وهو إذ ذاك نافذ الحكم، فسأله أن يجرى عليه جاريا فى بعض المدارس، يكون درهما فى اليوم، يقتات به. وكان شاب جميلا وسيما من طلبة العلم، فمال إليه المستوفى فقال: «أريد أن أتخذك ولدا» وأخذه وقربه وأدناه وأحسن إليه، وزوجه بابنته ثم اتفقت وفاة المستوفى، فوصف مهذب الدين للسلطان علاء الدين بالكفاية والمعرفة والفضيلة، فقربه منه، وترشح للوزارة واستوزره(27/112)
وألقى إليه مقاليد الدولة، ورزق مهذب الدين ولده معين الدين سليمان المسمى بالبرواناه.
وتقدم معين الدين فى الدولة السلجقية إلى أن استولى على الحل والعقد. ولم يكن للسلطان غياث الدين كيخسرو هذا معه فى السلطنة غير الاسم. ومعين الدين هذا هو والد الأمير علاء الدين على بن البرواناه، أحد أمراء الدولة الناصرية «1» . وولى القاهرة، ثم ولى نيابة دار العدل الشريف، وتقدم على الجيوش. قال: واستمر غياث الدين كيخسرو فى اسم السلطنة بالروم إلى أيام السلطان أحمد «2» فى سنة إحدى وثمانين وستماية، فاستدعاه إلى الأردو، وعزله عن السلطنة، ورسم له بالإقامة بارزنكان، فأقام بها إلى سنة اثنين وثمانين وستماية. فدس عليه أرغون بن أبغا من خنقه بوتر فمات.
ولما عزل غياث الدين فوض السلطان أحمد السلطنة فى الروم إلى السلطان مسعود ابن السلطان غياث الدين كيكاووش ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان علاء الدين كيقباذ ابن السلطان غياث الدين كيخسرو ابن السلطان عز الدين قلج أرسلان ابن الملك(27/113)
مسعود ابن الملك قلج أرسلان ابن الملك سليمان ابن الملك شهاب الدولة قتلمش بن رسلان بيغو بن سلجق ملك المملكة الرومية، بعد عزل غياث الدين كيخسرو ابن ركن الدين قلج أرسلان فى أيام السلطان أحمد فى سنة إحدى وثمانين وستماية، فاستمر وليس له من الأمر شىء إلا اسم السلطنة خاصة، والحكم فى المملكة الرومية للتتار وشحانهم (جمع شحنة) .
هذا آخر ما اتصل إلينا من أخبارهم إلى حين وضعنا هذا التأليف فى سنة أربع عشرة وسبعماية. فلنذكر أخبار الدولة الأتابكية، لأنها من فروع الدولة السلجقية، وبتمامها يتم هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ذكر أخبار الدولة الأتابكية
وهذه الدولة من فروع الدولة السلجقية كان ابتداؤها أولا بحلب فى سنة تسع وسبعين وأربعماية، ثم انقطعت بقتل اقسنقر مدة ثم قامت بالموصل وحلب والشام وبمصر خطبة. وقاعدة هذه الدولة وعمادها المشار إليه من ملوكها نور الدين محمود بن زنكى. ونحن نذكر أصل هذا البيت الأتابكى وننقله إلى أن ملك نور الدين الشهيد وما انتهى إليه حال هذه الدولة إلى حين انقراضها، فنقول أصل البيت الأتابكى اقسنقر التركى.(27/114)
ذكر أخبار قسيم الدولة اقسنقر التركى
كان تركيا من أصحاب السلطان ركن الدولة ملكشاه السلجقى، وتربى معه من صغره وهو من أترابه، واستمر فى صحبته حتى أفضت إليه السلطنة، فكان من أعيان أمرائه، واعتمد عليه فى مهماته وزاد فى علو مرتبته، فصار الوزير نظام الملك مع عظم شأنه وجلالة قدره، يتقيه ويداريه. ومما يدل على مكانته وعلو شأنه كونه لقب قسيم الدولة مع صون الألقاب والمشاححة فيها فى ذلك الوقت.
ولما ملك السلطان ملكشاه مدينة حلب كما ذكرناه فى أخباره سلمها لقسيم الدولة فى سنة تسع وسبعين وأربعماية، وقيل فى سنة ثمانين، فعمرها وأحسن السيرة فيها فمال الناس إليه وأحبوه، ثم تسلم من الأمير نصر بن على بن منقذ الكنانى صاحب شيزر، اللاذقية وأفامية وكفر طاب، فأشار الوزير نظام الملك على السلطان ملكشاه أن يسلم ذلك إلى قسيم الدولة مع حماه ومنبج، فأقطعه السلطان جميع ذلك، فعظمت هيبته، وظهرت كفايته، وقمع أهل الفساد والبغى. ثم استدعاه السلطان إلى العراق فقدم متجملا بعسكر عظيم، فاستحسن ذلك منه وعظمه وأعاده إلى أعماله.
وفى سنة إحدى وثمانين وأربعماية قصد اقسنقر شيزر ونهبها وعاد إلى حلب. وفى سنة ثلاث وثمانين حاصر مدينة حمص وملكها، فسار صاحبها ملاعب إلى الديار المصرية.
وفى سنة أربع وثمانين ملك حصن أفامية والرحبة. واستمر قسيم الدولة كذلك إلى أن مات السلطان ملكشاه فى سنه خمس(27/115)
وثمانين، فجهز عند ذلك جيشا إلى تكريت فملكها. واتفق أن تاج الدولة تتش صاحب دمشق طمع بعد وفاة أخيه السلطان ملكشاه فى السلطنة، فسار من دمشق إلى حلب، فلم يمكن قسيم الدولة إلا موافقته والدخول فى طاعته. وكان من أمر تتش ما قدمناه فى أخباره، وفارقه قسيم الدولة والتحق بالسلطان بركياروق ولد صاحبه السلطان ملك شاه كما قدمنا ذكر ذلك مبينا.
ذكر قتل قسيم الدولة
قال: ولما فارق قسيم الدولة تتش واستمر فى خدمة السلطان بركياروق وعاد تتش إلى الشام، أمر بركياروق قسيم الدولة وبوزان صاحب حوران بالعود إلى بلادهما ليمنعا تتش من التغلب عليها، فعادا، وجمع تتش العساكر وسار نحو حلب، فاجتمع قسيم الدولة وبوزان، وأمدهما السلطان بركياروق بالأمير كربوقا صاحب الموصل. فالتقوا مع تتش بالقرب من تل السلطان على ستة فراسخ من مدينة حلب. فانهزم جيش قسيم الدولة وأخذ أسيرا، فقتله تتش صبرا، ودخل بوزان وكربوقا حلب، فحصرهما تاج الدولة تتش وفتحها وأخذهما، فقتل بوزان واعتقل كربوقا، فلم يزل إلى أن خلص فى أيام الملك رضوان بعد قتل تتش. وكان مقتل قسيم الدولة فى سنة سبع وثمانين وأربعماية. وكان رحمه الله حسن السيرة والسياسة كثير الإحسان إلى رعيته فكانوا فى أيامه بين عدل غامر ورخص شامل وأمن واسع، رحمه الله تعالى.(27/116)
ذكر أخبار عماد الدين أتابك زنكى بن قسيم الدولة اقسنقر
قال المؤرخون: لما قتل قسيم الدولة كان عمر ولده زنكى نحو عشر سنين، ولم يخلف من الذرية غيره، فاجتمع مماليك والده عليه وأصحابه. فلما خلص قوام الدين كربوقا من السجن، بعد قتل تتش فى سنة تسع وثمانين وأربعماية، وملك حران ونصيبين والوصل وماردين، وعظم شأنه وهو فى طاعة السلطان بركياروق، أحضر مماليك قسيم الدولة، وأمرهم بإحضار عماد الدين زنكى، وقال: «هو ابن أخى، وأنا أولى الناس بتربيته» فأحضروه إليه، وأقطعهم كربوقا الإقطاعات السنية واستعان بهم فى حروبه، وسار بهم إلى آمد وصاحبها من أمراء التركمان، والتقوا فهزمهم كربوقا.
وهو أول مصاف حضره زنكى بعد قتل والده. ولم يزل عند كربوقا إلى أن توفى [كربوقا] فى سنة أربع وتسعين وأربعماية. وملك بعده موسى التركمانى، فقتل ولم تطل مدته. ثم ملك الموصل شمس الدولة جكرمش، وهو من مماليك السلطان ملكشاه، فاتخذ عماد الدين زنكى كالولد، فكان عنده إلى أن قتل فى سنة خمسماية. ثم ملك الموصل بعده جاولى سقاور، فاتصل به عماد الدين، وقد كبر وظهرت شهامته. ولم يزل معه حتى عصى على السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه، فأرسل السلطان الأمير مودود إلى الموصل، فى سنة اثنتين وخمسماية، وأقطعه إياها، ففارقه عماد الدين وغيره من الأمراء، والتحقوا بمودود، فأكرم زنكى وشهد حروبه.(27/117)
ثم سار مودود إلى الشام ففتح فى طريقه قلاعا كانت للفرنج، ثم حضر عند أتابك طغرلتكين (طغتكين) صاحب دمشق وسار إلى طبرية وحاصرها، وقاتلوا قتالا شديدا، فظهر من عماد الدين زنكى شجاعة عظيمة، منها أنه كان فى نفر وخرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه فهزمهم، واستمر فى حملته وهو يظن أن أصحابه يتبعونه، فتخلفوا عنه وتقدم وحده إلى أن وصل إلى باب المدينة، وأثر رمحه فيه. وقاتل الفرنج عليه وحمى نفسه، وعاد سالما، فعجب الناس من إقدامه وسلامته. ثم عاد إلى دمشق صحبة الأمير مودود، فخرج مودود لصلاة الجمعة، فلما صلى وانصرف، فبينما هو فى صحن الجامع ويده بيد طغرلتكين وثب عليه إنسان فضربه بسكين، فحمل إلى بيت طغرلتكين فمات فى بقية يومه، وكان صائما ولم يفطر، وقتل قاتله. قال: ولما قتل كتب ملك الفرنج إلى طغرلتكين يقول:
«إن أمة قتلت عميدها، فى يوم عيدها، فى بيت معبودها، حقيق على الله أن يبيدها» ثم أقطع السلطان الموصل وغيرها بعد قتل مودود للأمير جيوش بك، وسير معه ولده الملك مسعود، كما ذكرناه. ثم جهز السلطان اقسنقر البرسقى فى العساكر لقتال الفرنج، وكتب إلى عساكر الموصل وغيرها يأمرهم بالمسير معه، فساروا وفيهم عماد الدين زنكى. وكان يعرف فى عساكر العجم زنكى الشامى، فسار اقسنقر إلى الرها وإلى سميساط «1» وبلد سروج،(27/118)
وقاتل الفرنج وأبلى زنكى فى هذه المواقف بلاء حسنا. فعادت العساكر تتحدث بما فعله، وعاد البرسقى وأقام زنكى بالموصل مع الملك مسعود، والأمير جيوش بك، إلى أن أظهر العصيان على السلطان فى سنة أربع عشرة وخمسماية، ثم استأمن الملك مسعود لأخيه السلطان على ما قدمنا ذكر ذلك فى أخبار الدولة السلجقية.
ذكر ابتداء حال عماد الدين زنكى وترقيه وتنقله فى الولايات
كان ابتداء ولايته فى سنة ست عشرة وخمسماية، وذلك أن السلطان محمود أقطع الأمير اقسنقر البرسقى مدينة واسط.
وأعمالها، مضافا إلى ما بيده من ولاية الموصل وشحنكية العراق وغير ذلك. فسير البرسقى إليها عماد الدين زنكى وأمره بحمايتها.
فسار إليها فى شعبان وقام بحمايتها أحسن قيام، وحضر مع الخليفة المسترشد بالله قتال دبيس بن صدقة أمير الحلة. وكان لعماد الدين فى ذلك آثار حسنة، وأقام إلى أن عزل اقسنقر البرسقى عن شحنكية العراق ورجع إلى الموصل فى سنة ثمانى عشرة وخمسماية.
وكان عماد الدين إذ ذاك بالبصرة قد سيره البرسقى لحمايتها.
فلما توجه البرسقى إلى الموصل أرسل إليه يأمره باللحاق به، فقال لأصحابه: «قد ضجرنا مما نحن فيه بالموصل، فى كل يوم أمير جديد، ونحتاج نخدمه، وقد رأيت أن أسير إلى السلطان محمود فأكون معه» ؛ فأشاروا عليه بذلك. فسار إلى السلطان [محمود] فقدم عليه وهو بإصفهان، فأكرمه. وكان يقف عن يمين تخت السلطان إلى جانبه لا يتقدم عليه غيره، وهى منزلة والده من قبله.(27/119)
ثم بلغ السلطان [محمود] أن العرب تجمعت ونهبت البصرة، فأقطعها لعماد الدين زنكى، وأعاده إليها، وهذه الولاية هى أول ولاياته من قبل السلطان، فضبط عماد الدين زنكى البصرة وأعمالها وقام فيها أحسن قيام، وكف الأيدى عنها.
فلما وقع الاختلاف بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله، وحضر السلطان إلى بغداد وحصرها كما قدمنا ذكر ذلك، أرسل إلى عماد الدين زنكى وهو بواسط يأمره بالحضور بنفسه ومعه المقاتلة فى السفن وعلى الدواب. ففعل [عماد الدين زنكى] ذلك وجاء فى موكب عظيم فى البر والبحر، فركب السلطان للقائه، ورأى الناس من ذلك ماهالهم، وعظم عماد الدين فى أعينهم. ثم حصل الاتفاق بعد ذلك بين السلطان والخليفة كما ذكرنا.
ذكر ولاية عماد الدين زنكى شحنكية العراق
وفى شهر ربيع الاخر سنة إحدى وعشرين وخمسماية أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى الأمير عماد الدين زنكى. ومسبب دلك أن السلطان لما عزم على المسير عن بغداد إلى همذان، نظر فيمن يصلح لشحنكية العراق ممن يأمن جانبه مع الخليفة. واعتبر أعيان دولته، فلم ير فيهم من يقوم بأعباء هذا الأمر مقامه، فاستشار أصحابه فى ذلك فكل أشار عليه به [عماد الدين] وقالوا: «لا يقدر على سد هذا الخرق، وإعادة ناموس هذه الولاية، ولا يقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر، غير عماد الدين زنكى، ففوض إليه(27/120)
ولايتها، مضافا إلى ما بيده من الإقطاع. وكانت شحنكية العراق من أعظم الولايات. وسار السلطان عن بغداد وقد اطمأن من جهة العراق. ولم يطل مقام زنكى ببغداد حتى انتقل إلى ولاية الموصل.
ذكر ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها
كانت ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها فى سنة إحدى وعشرين وخمسماية. وسبب ذلك أن اقسنقر البرسقى لما قتل على ما ذكرناه، وولى بعده ابنه مسعود فى ثامن ذى القعدة سنة عشرين وخمسماية، فمات مسعود فى سنة إحدى وعشرين وهو يحاصر الرحبة. فلما مات قام بعده أخ له صغير، واستولى على البلاد جاولى مملوك أبيه، ودبر أمر الصبى وأرسل إلى السلطان يطلب تقرير أعمال الموصل على الصغير ولد اقسنقر البرسقى، وبذل الأموال الكثيرة على ذلك. وكان الرسول فى ذلك القاضى بهاء الدين على ابن القاسم الشهرزورى وصلاح الدين محمد [الباغسيانى] «1» أمير حاجب البرسقى، فسارا حتى حضرا دركاة السلطان ليخاطباه فى ذلك. وكانا يكرهان جاولى ويخافانه، ولا يرضيان بطاعته، فاجتمع صلاح الدين مع نصير الدين جغر الذى صار ينوب عن عماد الدين. فذكر له صلاح الدين ما ورد فيه، وكان بينهما صهارة.
فخوفه نصير الدين من جاولى، وقبح عنده طاعته، وقرر فى نفسه أن جاولى إنما أبقاه لحاجته إليه وأنه متى أجيب إلى مطلوبه لا يبقى على أحد منهم، وحسن له المخاطبة فى ولاية عماد الدين زنكى،(27/121)
وضمن له الولايات والإقطاعات الكبيرة وكذلك للقاضى بهاء الدين، فقاما وركبا إلى دار الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد، واجتمعا به وقالا له: «قد علمت وعلم السلطان أن ديار الجزيرة والشام قد يمكن الفرنج منهما، وقويت شوكتهم بها، واستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر، ما عدا البلاد الباقية للمسلمين. وكان البرسقى بشجاعته وانقياد العساكر إليه، يكف بعض عاديتهم وشرهم، وقد زاد طمعهم منذ قتل، وولده هذا طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذى رأى وتجربة، يذب عنها، ويحمى حوزتها. وقد أنهينا الحال لئلا يجرى خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين فيختص اللوم بنا ويقال لم لا أنهيتم إلينا جلية الحال» ، فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فاستحسنه وشكرهما عليه، وأحضرهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية، فذكرا جماعة فيهم عماد الدين زنكى، وبذلا عنه تقربا إلى خزانة السلطان مالا جليلا، فأجاب السلطان إلى ولايته، فأحضره وولاه جميع تلك البلاد، وكتب منشورة بها، وسار عماد الدين زنكى إليها فبدأ بالبوازيج «1» ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره، لأنه خاف من جاولى أنه ربما يصده عن البلاد. ثم سار عن البوازيج إلى الموصل، فلما سمع جاولى بقربه خرج إلى لقائه ومعه سائر العسكر، وترجل عند مقابلته، وقبل الأرض بين يديه، وعاد فى خدمته إلى الموصل، فدخلها فى(27/122)
شهر رمضان من السنة. وأقطع جاولى الرحبة وسيره إليها، وولى نصير الدين دزداريّة قلعة الموصل وجعل إليه سائر دزدارية القلاع، وجعل صلاح الدين محمد أمير حاجب، وبهاء الدين على الشهرزورى قاضى القضاة بجميع بلاده، وزاده إقطاعا وأملاكا، وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمرو بها مماليك البرسقى، فامتنعوا عليه فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذول الكثيرة على التسليم، فلم يجيبوه إلى ذلك فجد فى قتالهم. «1»
وكان بينه وبين البلد دجلة، فأمر الناس بإلقاء أنفسهم فى الماء، ففعلوا وعبروا سباحة وعبر بعضهم فى السفن والأكلاك، وتكاثروا على أهل الجزيرة. وكانوا قد خرجوا إلى أرض بين الجزيرة ودجلة، تعرف بالزلاقة، ليمنعوا عسكر عماد الدين، فلما رأوه قد عبر دجلة انهزموا ودخلوا البلد، وأرسلوا فى طلب الأمان، فأمنهم ودخل البلد بعسكره. ثم زادت دجلة فى تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد، وصارت الزلاقة مملوءة بالماء، فلو أقام بها عماد الدين تلك الليلة هلك هو وعسكره ولم يسلم منهم أحد، فأيقن الناس بسعادته.
ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين، وكانت لحسام الدين تمرتاش ابن إيلغازى صاحب ماردين، فلما نازلها سار حسام الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا(27/123)
فاستنجده على أتابك زنكى، فوعده النجدة بنفسه وجميع عسكره.
وعاد تمرتاش إلى ماردين، وأرسل رقعة على جناح طائر إلى نصيبين، يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه واصلان إليهم بالعسكر الكثير لدفع زنكى عنهم، ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام.
فبينما أتابك زنكى فى خيمته وإذا بطائر سقط على الخيمة وهو ينظر إليه، فأمر بمسكه فمسك، فرأى فيه الرقعة فقرأها، وأمر بكتب غيرها يقول: «إننى مضيت إلى ركن الدولة وقد وعدنى النصرة بجميع العساكر وما نتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوما» وأمرهم بحفظ البلد هذه المدة، إلى أن يصلوا وجعلها على الطائر، وأرسله. فوصل إلى نصيبين فلما قرأ من بها الرقعة، سقط فى أيديهم، وعلموا عجزهم عن حفظ البلد هذه المدة، فأرسلوا إلى زنكى وصالحوه وسلموا إليه البلد، فبطل على داود وتمرتاش ما كانا عزما عليه.
ولما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع من بها عليه ثم صالحوه وسلموها إليه، وسير منها الشحن إلى الخابور فملكه جميعه. ثم سار إلى حران وهى للمسلمين. وكانت الرها وسروج والبيرة وتلك النواحى جميعها للفرنج، وأهل حران معهم فى ضر عظيم، وضيق شديد، لخلو تلك البلاد من حامى يذب عنها.
فلما قاربها خرج أهل البلد إلى لقائه، وسلموها إليه، فأرسل إلى خوستكين»
صاحب الرها، وتلك البلاد وهادنه مدة يسيرة،(27/124)
وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، ويحشد، ويملك حلب والشام، ثم يقاتل الفرنج.
ذكر ملك عماد الدين حلب
وفى المحرم سنة اثنتين وعشرين وخمسماية، ملك عماد الدين زنكى حلب وقلعتها. وسبب ذلك أنها كانت بيد قرمان نيابة عن عز الدين مسعود بن اقسنقر البرسقى. ثم استناب بعده قتلغ فوضل إليها بعد وفاة مسعود، وتسلمها. ثم ثار به أهل المدينة وسلموها إلى سليمان بن عبد الجبار. فسير عماد الدين إليها الأمير سنقردار والأمير حسن قراقوش فى عسكر قوى، ومعهما التوقيع من السلطان لعماد الدين بالموصل والجزيرة والشام. فوصلا إلى حلب وسيرا قتلغ وابن عبد الجبار إلى عماد الدين بالموصل، فسار إليه وأقام حسن قراقوش بحلب واليا عليها. فلما وصل بدر الدولة [سليمان] بن عبد الجبار وقتلغ إلى عماد الدين أصلح بينهما، ولم يردهما إلى حلب، وسير حاجبه صلاح الدين محمد الباغسيانى فى عسكر إلى حلب، فصعد إلى قلعتها ورتب الأمور، وجعل فيها واليا. وسار عماد الدين إلى الشام فى جيوشه، فملك فى طريقه مدينة منيح وبزاعة، ووصل إلى حلب، فتلقاه أهلها، فدخلها ورتب أحوالها، وجعل رئاستها لأبى الحسن على بن عبد الرزاق.(27/125)
ذكر ملكه مدينة حماه
وفى سنة ثلاث وعشرين ملك عماد الدين زنكى مدينة حماة.
وسبب ذلك أنه أظهر أنه يريد جهاد الفرنج، وأرسل إليه تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين صاحب دمشق يستنجده، ويطلب منه معونته على جهاد الفرنج، وكانوا قد حصروا دمشق. فأجاب إلى ذلك وجرّد تاج الملوك عسكرا من دمشق، وأرسل إلى ابنه سونج وهو بمدينة حماه يأمره بالنزول إلى العسكر والمسير به إلى زنكى. ففعل وساروا جميعهم فوصلوا إليه، فأكرمهم وأحسن لقاءهم، وتركهم أياما، ثم قبض على سونج بن تاج الملوك، وعلى جماعة من الأمراء والمقدمين، وأنهب خيامهم وما فيها واعتقلهم بحلب.
وسار من يومه إلى حماة، فوصل إليها وهى خالية من الجند فاستولى، عليها، ورحل عنها إلى حمص. وكان صاحبها خيرخان «1» بن قراجا فى عسكر عماد الدين، وهو الذى أشار عليه بالقبض على تاج الملوك، فقبض عليه أيضا. ونزل على حمص، وطلب منه أن يأمر أصحابه وولده بحمص بتسليمها، فأرسل إليهم فلم يفعلوا، فحصرها مدة طويلة، ثم رحل عنها وعاد إلى الموصل.(27/126)
ذكر ملكه حصن الأثارب وهزيمة الفرنج
قال: ولما فرغ عماد الدين من أمر البلاد الشامية، رجع إلى الموصل فأراح واستراح، وأمر أصحابه بالاستعداد فاستعدوا. ورجع إلى حلب وعزم على قصد حصن الأثارب، وهو فيما بين حلب وانطاكية على ثلاثة فراسخ من حلب. وكان من به من الفرنج يقاسمون أهل حلب على جميع أعمالها الغربية حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان، بينها وبين البلد عرض الطريق. فلما علم الفرنج بقصده جمعوا فارسهم وراجلهم واستعدوا وساروا نحوه، فتقدم إليهم والتقوا واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة، وأسر كثير من فرسانهم، وقتل كثير، وتقدم إلى الحصن فنازله وفتحه عنوة، وعم من فيه بالقتل والأسر وأخربه، وجعله دكا. ثم سار إلى قلعة حارم وهى بالقرب من انطاكية فحصرها، فبذل الفرنج نصف دخل بلد حارم وهادنوه فأجابهم إلى ذلك، وعاد عنهم وقد اشتد أزر المسلمين وصار قصار الفرنج حفظ ما بأيديهم، وذلك فى سنة أربع وعشرين وخمسماية.
ولما عاد إلى ديار الجزيرة ملك سرجا «1» ودارا وهما من أعمال ركن الدولة صاحب حصن كيفا.(27/127)
وفى سنة ست وعشرين سار عماد الدين بالعساكر من الموصل إلى العراق لنصرة السلطان مسعود بعد وفاة السلطان محمود. وكان مسعود قد كاتبه واستنجد به، فسار إليه ومعه الأمير دبيس بن صدقة فسار حتى نزل إلى البادية. وخرج الخليفة المسترشد بالله لحربه- وذلك فى سابع عشرين شهر رجب من السنة- والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فحمل عماد الدين على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فهزمها، فحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس، وأراد عماد الدين الصبر فرأى الناس قد تفرقوا عنه فانهزم، وقتل من العسكر جماعة.
ثم سار المسترشد وحاصر الموصل كما ذكرناه فى أخباره. وأن سبب ذلك أن الخليفة أرسل الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفراينى الواعظ إلى عماد الدين برسالة فيها خشونة، زادها الشيخ [أبو الفتوح] زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين وأهانه ولقبه بما يكره. فسار الخليفة فى النصف من شعبان سنة سبع وعشرين ونازل الموصل، ففارقها زنكى ببعض العسكر، وترك بعضه مع نائبه نصير الدين جقز دزدار القلعة. ووصل عماد الدين إلى سنجار وقطع الميرة عن عسكر الخليفة وتخطف من ظفر به من العسكر. وقام الحصار ثلاثة أشهر، ثم رحل الخليفة عنها ولم يظفر منها بشىء.
وفى مدة الحصار ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة.(27/128)
ذكر حصره مدينة آمد وملكه قلعة الصور
وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية اجتمع عماد الدين أتابك زنكى وتمرتاش صاحب ماردين، وحصرا مدينة آمد فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان صاحب حصن كيفا يستنجده، فجمع عساكره وغيرها وسار نحو آمد ليرحلهما عنها، فالتقوا على بابها، واقتتلوا فى جمادى الآخرة. فانهزم داود وقتل جماعة من عسكره. ولم يبلغ عماد الدين من آمد غرضا، فقصد قلعة الصور «1» من ديار بكر، وحصرها وضايقها، فملكها فى شهر رجب واتصل به ضياء الدين أبو سعيد الكفرتوثى «2» فاستوزره. وكان حسن السيرة عظيم الرياسة والكفاية، والله أعلم.
ذكر ملكه قلاع الأكراد الحميدية
وفى سنة ثمان وعشرين وخمسماية أيضا استولى [عماد الدين زنكى] على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلعة العقر وقلعة شوش «3»(27/129)
وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدى على ولايتها وأعمالها، فلما حضر المسترشد الموصل حضر عيسى إليه وجميع الأكراد معه. فلما رحل المسترشد أمر عماد الدين بحصر قلاع الأكراد فحصرت مدة طويلة، وقوتل من بها إلى أن ملكت فى هذه السنة، فاطمأن حينئذ أهل السواد المجاورين لهذه القلاع، لأنهم كانوا مع الأكراد فى ضيق عظيم من نهب أموالهم.
وفيها صلح أمر زنكى مع الخليفة.
ذكر حصره مدينة دمشق
وفى سنة تسع وعشرين وخمسماية نازل عماد الدين أتابك زنكى مدينة دمشق، وحصرها فى جمادى الأولى. وكان سبب ذلك أن صاحبها شمس الملوك كان قد كتب إليه يستدعيه ليسلم إليه البلد، فسار إليها، فقتل شمس الملوك قبل وصوله وملك أخوه شهاب الدين محمود كما ذكرناه. فاستمر فى مسيره فحاصرها. فأتاه وهو فى الحصار رسول الخليفة بالخلع، ويأمره بمصالحة صاحب دمشق والرحيل عنها فصالحهم، وخطب له بدمشق ورحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة.
وفى سنة ثلاثين وخمسماية استنصر الخليفة الراشد بالله بعماد الدين على السلطان مسعود كما ذكرناه فى أخبار الدولة العباسية فجاء إليه هو وأصحاب الأطراف إلى بغداد. وكان بين الخليفة والسلطان ما ذكرناه من غلبة السلطان مسعود ومسير الخليفة إلى(27/130)
الموصل مع عماد الدين، وقد شرحنا ذلك مبينا فى أخبار الدولة العباسية، فلا فائدة فى إعادته، وإنما نبهنا عليه فى هذا الموضع جريا على القاعدة.
ولما خلع الراشد وبويع للمقتضى «1» لأمر الله، أرسل إليه عماد الدين محمد بن عبد الله الشهرزورى، فحضر إلى الديوان، فأمر الخليفة أن يعطى أتابك زنكى صريفين «2» ودرب هرون وجرّى ملكا، وهى من خاص الخليفة، وزاد فى ألقابه وقال: «هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون لهم نصيب من خاص الخليفة.» فعظم بذلك شأنه، وبايع للمقتفى لأمر الله وخطب له بالموصل.
ذكر غزاة العسكر الأتابكى الى بلاد الفرنج
وفى شعبان سنة ثلاثين وخمسماية جهز عماد الدين أتابك زنكى عساكره مع الأمير أسوار نائبه بحلب، فقصدوا بلد الفرنج على حين غفلة منهم، وساروا نحو جهة اللاذقية، فنهبوا منها شيئا كثيرا، وقتلوا وأسروا سبعة آلاف أسير ما بين رجل وامرأة وصبى، وغنموا ماية ألف رأس من الدواب، ما بين فرس وحمار وبقر وغنم،(27/131)
وغنموا غير ذلك من الأقمشة والعين والحلى ما لا يدخل تحت الإحصاء وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها، ورجعوا بالظفر والغنيمة، والله أعلم
ذكر ملكه قلعة بعرين وهزيمة الفرنج
وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية حصر عماد الدين زنكى حمص، وهى لصاحب دمشق، فلم ينل منها غرضا. فرحل عنها إلى بعرين «1» وهى للفرنج، فحاصرها فى شوال، وهى من أمنع الحصون وأحصنها، وزحف عليها، فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم وساروا بملوكهم وقمامصتهم وكنودهم «2» ليرحلوه عنها. فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال، فأجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل ناحية، فاحتمى ملوكهم وفرسانهم بحصن بعرين لقربه، فحصرهم. فدخل القسوس والرهبان إلى بلاد الفرنج والروم وما ولاها من بلاد النصرانية مستنفرين على المسلمين، وقالوا:
«إن المسلمين ليس لهم همة إلا قصد البيت المقدس» فاجتمعت ملوك النصرانية وصاروا على الصعب والذلول وقصدوا الشام، وجدّ عماد الدين فى الحصار، فقلت الأقوات عندهم، فسألوا الأمان على أن يتركهم يتوجهوا إلى بلادهم. فلم يجب إلى ذلك، إلى أن بلغه أن ملك الروم قد أقبل بجموع الفرنج والنصرانية، فآمنهم على تسليم الحصن وخمسين ألف دينار. ففعلوا ذلك. فلما فارقوا(27/132)
الحصن بلغهم اجتماع الروم والفرنج بسببهم، فندموا على تسليمه وفتح عماد الدين فى مقامه المعرة وكفر طاب من الفرنج.
ولما فتح المعرة حضر إليه أهلها أرباب الأملاك، وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها فاعتذروا أنها عدمت عند ما ملكها الفرنج، فأمر بإحضار دفاتر الديوان بحلب، وكشف منها فمن وجد باسمه خراج فيها عن ملك سلمه إليه أو لعقبه إن كان قد مات. وأعاد الأملاك بهذه الطريق. وهذه غاية فى الإحسان وفى تسهيل البر والخير ونهاية فى العدل وفيها سار [عماد الدين] إلى دقوقا وملكها بعد قتال شديد
ذكر ملكه مدينة حمص وغيرها من أعمال دمشق
وفى المحرم سنة اثنتين وثلاثين وخمسماية وصل زنكى إلى حماة، وسار منها إلى بقاع بعلبك، فملك حصن المجدل «1» وسار إلى حمص وحصرها وملكها وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه وكان لصاحب دمشق، وبعث إلى شهاب الدين محمود صاحب دمشق يخطب أمه زمرد خاتون ابنة جاولى، فتزوجها وحملت إليه.(27/133)
ذكر وصول ملك الروم الى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين
كان ملك الروم صاحب القسطنطينية قد دخل إلى البلاد فى سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، وخرج على انطاكية وسار إلى أذنه والمصيصة «1» ، وهما بيد ابن لاون الأرمنى «2» صاحب الدروب «3» فحصرها وملكها ورحل إلى عين زربة «4» فملكها عنوة، وملك تل حمدون وحمل أهله إلى جزيرة قبرص، وعمر ميناء اسكندرونه ثم خرج إلى الشام فحصر مدينة انطاكية فى ذى القعدة فصالحه صاحبها ريمند الفرنجى «5» ، فرحل عنها إلى بغراس «6» ودخل ابن ليون فى طاعته.
ثم سار إلى الشام فى سنة اثنتين وثلاثين وقصد بزاعة فحصرها وهى مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب، فملكها بالأمان فى(27/134)
الخامس والعشرين من رجب، ثم غدر بأهلها فقتل منهم وسبى فتنصر قاضيها وجماعة من أهلها وأعيانها نحو من أربعماية نفس.
وأقام الروم عشرة أيام يطلبون من اختفى، ودخنوا على من دخل المغاير، فهلكوا. ثم رحل [ملك الروم] إلى حلب ونزل على قويق «1» ومعه الفرنج الذين بساحل الشام، وكان عماد الدين يحاصر حمص فلما بلغه خبرهم، سير طائفة من العسكر ليحفظوا حلب منهم، فلما نزلوا على حلب خرج إليهم أحداث البلد وقاتلوهم قتالا شديدا، فقتل كثير من الروم وجرح كثير، وقتل بطريق عظيم القدر عندهم.
فأقاموا ثلاثة أيام ورحلوا إلى قلعة الأثارب «2» ، فخاف من بها من المسلمين فهربوا عنها فى تاسع شعبان، فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى، ومعهم جمع كثير من الروم يحفظونهم، وساروا. فلما سمع الأمير سوار نائب عماد الدين بحلب بذلك، سار بمن عنده من العسكر إلى الأثارب فأوقع بالروم وقتلهم وخلص الأسرى وعاد إلى حلب.
وأما عماد الدين فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية «3» فنزلها، وعبر ثقله الفرات إلى الرقة، وأقام جريدة. وقصد الروم شيزر، وهى من أمنع الحصون وكانت للأمير أبى المعالى سلطان بن على بن منقذ الكنانى، فنازلوها وحاصروها ونصبوا عليها ثمانية عشر منجنيقا(27/135)
فأرسل صاحبها إلى عماد الدين يستنجده، فسار إليه ونزل على نهر العاصى بينها وبين حماه، فكان يركب بعسكره إلى شيزر ويقفون «1» حيث يراهم الروم، ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم.
ثم أرسل إلى ملك الروم يقول: «إنكم قد تحصنتم منى بهذه الجبال، فانزلوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقى، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم وإن ظفرتم بى استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها» .
ولم تكن له بهم قوة، وإنما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه، فأشار فرنج الشام على ملك الروم بقتاله وهونوا عليه أمره، فلم يفعل، وقال: «أتظنون أن ليس لهم من العسكر إلا ما ترون، إنما هو يريد أن تلقوه «2» فيأتيه من نجدات المسلمين ما لا يحد» وكان عماد الدين يرسل إلى ملك الروم يقول إن فرنج الشام خائفون منه، ولو فارق مكانه لتخلفوا عنه. ويرسل إلى الفرنج فيقول: «إن ملك ملك الروم من الشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعها» . فاستشعرت كل طائفة من الأخرى. فرحل ملك الروم من شيزر فى شهر رمضان وكان مقامه عليها أربعة وعشرين «3» يوما وترك المجانيق وآلات الحصار كما هى، فسار عماد الدين يتبع ساقة العسكر، فظفر بكثير منهم ممن تخلف.(27/136)
ذكر ملك عماد الدين بعلبك
وفى ذى القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية ملك [عماد الدين] زنكى مدينة بعلبك وهى لصاحب دمشق. وسبب ذلك أن شهاب الدين محمود صاحب دمشق قتله غلمانه فى هذه السنة كما ذكرنا، وملك بعده أخوه جمال الدين محمد. وكانت والدة محمود زوجة عماد الدين بحلب، فوجدت لذلك وجدا عظيما وحزنت حزنا شديدا وكتبت إلى أتابك زنكى وهو بالجزيرة تعرفه بالحادثة وتطلب أن يقصد دمشق ويطلب ثأر ولدها. فبادر إلى ذلك ولم يتوقف وعبر الفرات عازما على قصد دمشق. فبلغ ذلك صاحبها فاحتاط واستعد، وسار عماد الدين إلى بعلبك فوصل إليها فى العشرين من ذى القعدة، وضيق على أهلها ونصب عليها أربعة عشر منجنيقا ترمى ليلا ونهارا. فأشرف أهلها على الهلاك، فطلبوا الأمان فأمنهم وتسلم المدينة. وبقيت القلعة وبها جماعة من شجعان الأتراك، فلما أيسوا من نصرة معين الدين أتابك صاحب دمشق- وكانت بعلبك له- فطلبوا الأمان، فأمنهم وتسلم القلعة منهم. ثم غدر بهم وصلبهم ولم ينج منهم إلا القليل. فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموه وحذروه ونفروا منه.
قال: ولما فتح بعلبك كان لمعين الدين بها جارية وكان يهواها، فأخذها زنكى وسيرها إلى حلب، فلم تزل بها إلى أن قتل زنكى، فسيرها نور الدين إلى معين الدين، فكانت أعظم أسباب المودة بينهما. قال:(27/137)
ولما فرع عماد الدين من بعلبك سار إلى دمشق فى شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وخمسماية ونزل على داريا «1» ، فقاتله أهل دمشق فكسرهم وتقدم إلى المصلى «2» فقاتلوه مرة بعد أخرى.
كل ذلك والظفر له عليهم. وأرسل إلى صاحب دمشق يبذل له بعلبك وحمص وغيرها مما يختاره من البلاد، فمال إلى تسليمها، فحذره أصحابه وخوفوه عاقبة غدره، فامتنع من الإجابة فعاد عماد الدين القتال والزحف. واتفقت وفاة جمال الدين صاحب دمشق فى ثامن شعبان، وولى بعده ابنه مجير الدين أبق، فاشتد طمع عماد الدين وزحف زحفا شديدا، فلما رأى أنابك [أنر] «3» أن عماد الدين لا يندفع عنهم، راسل الفرنج واستنصر بهم، فاجتمعت الفرنج وعزموا على المسير لدفعه عن دمشق، فعلم عماد الدين بذلك فتوجه إلى حوران فى خامس «4» عشر رمضان عازما على لقاء الفرنج قبل أن يجتمعوا مع الدماشقة. فلما بلغ الفرنج خبره لم يتحركوا من بلادهم، فعاد إلى حصار دمشق ونزل بعذرا «5» شماليها فى سادس شوال، وأحرق عدة من قرى المرج والغوطة، ورحل إلى بلاده.
ثم وصل الفرنج إلى دمشق، وكان معين الدين قد بذل لهم أنه يحاصر بانياس ويسلمها إليهم، وكانت فى طاعة زنكى. ففعل(27/138)
معين الدين ذلك وسلمها للفرنج. فلما بلغ عماد الدين ذلك رجع إلى بعلبك وفرق عساكره للإغارة على بلد حوران وأعمال دمشق.
وسار جريدة، فنزل على دمشق بخواصه فى آخر الليل، ولم يعلم به أحد من أهلها. فلما أصبح الناس ورأوا عسكره ارتج البلد، واجتمع العسكر والعامة على السور، وخرجوا إليه فقاتلوه، فلم يمكنه الإقدام على القتال لتفرق عساكره، فأحجم عنهم وعاد إلى مرج راهط، وأقام ينتظر عود عسكره، فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم فلما اجتمعوا رحلوا إلى بلاده.
ذكر ملكه شهرزور وأعمالها
وفى سنة أربع وثلاثين وخمسماية ملك [عماد الدين زنكى] شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون، وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركمانى. وكان حكمه نافذا على سائر التركمان، قاصيهم ودانيهم، وكلمته لا تخالف، يرون طاعته فرضا؛ وتحاماه الملوك، وأتاه التركمان من كل فج عميق. فلما كان فى هذه السنة سير أتابك عماد الدين عسكرا، فجمع قفجاق أصحابه ولقيهم، واقتتلوا فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش الأتابكى فى أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع وبذلوا الأمان لقفجاق فسار إليهم، وانخرط فى سلك العسكر وسار فى الخدمة هو وابنه من بعده.
وفى سنة خمس وثلاثين وخمسماية كان بين أتابك زنكى وبين داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا حرب شديدة انهزم فيها(27/139)
داود، وملك زنكى من بلاده قلعة بهمود «1» ، وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل.
وفيها خطب له بمدينة آمد وصار صاحبها فى طاعته، وكان قبل ذلك موافقا لداود على قتال زنكى فلما رأى قوة زنكى سار معه.
وفيها أغار العسكر الأتابكى من حلب على بلد الفرنج، فأخربوا ونهبوا وظفروا بسرية للفرنج، فقتلوا منهم وكان عدة من قتل سبعماية رجل.
توفى ضياء الدين أبو سعيد الكفرتوثى وزير عماد الدين أتابك زنكى، وكان رحمه الله حسن السيرة كريما رئيسا
ذكر ملك عماد الدين زنكى قلعة آشب وغيرها من بلاد الهكارية «2»
وفى سنة سبع وثلاثين وخمسماية أرسل عماد الدين جيشا إلى قلعة آشب «3» ، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، وبها أموالهم وأهلوهم»
. فحصرها الجيش الأتابكى وضيق على من بها وملكها، فأمر عماد الدين بهدمها، وبنى القلعة العمادية وكانت العمادية حصنا عظيما من حصونهم فخرّبوه لكبره، لأنه كبير جدا، فعجزوا عن حفظه فخربت الآن آشب وعمرت العمادية. والعمادية(27/140)
نسبة إلى عماد الدين زنكى. وكان نصير الدين جقر نائب عماد الدين بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية.
ذكر صلحه والسلطان مسعود
وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته، وجمع العساكر وتجهز لقصد بلاد زنكى، وكان قد حقد عليه واتهمه أنه أفسد عليه أصحاب الأطراف وحرضهم على الخروج على السلطان. فلما بلغ زنكى ذلك أرسل إلى السلطان يستعطفه ويستميله، وأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنبارى فى تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار، يحملها عماد الدين إلى السلطان ليعود عنه، فحمل منها عشرين ألف دينار أكثرها عروضا. ثم تنقلت الأحوال بالسلطان حتى احتاج إلى مدارة زنكى، فأطلق له ما بقى. ومن جيد الرأى ما فعله عماد الدين زنكى فى هذه الحادثة، فإن ولده الأكبر سيف الدين غازى كان لا يزال عند السلطان- سفرا وحضرا- بأمر والده، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل، وأرسل إلى نائبه بالموصل أن يمنع ابنه المذكور من الدخول. فلما هرب غازى أرسل إليه يأمره بالعود إلى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولا إلى السلطان يقول: «إن ولدى هرب خوفا لما رأى تغير السلطان على، وقد أعدته، ولم أجتمع به فإنه مملوكك والبلاد لك» فوقع ذلك من السلطان بموقع عظيم، ومال إلى زنكى(27/141)
ذكر ملكه بعض ديار بكر
وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية سار عماد الدين زنكى إلى ديار بكر، فملك بها عدة حصون منها مدينة طنزة «1» ومدينة أسعرد «2» ومدينة المعدن التى يعمل بها النحاس، ومدينة حيزان «3» وحصن الرونق «4» ، وحصن قطليس «5» ، وحصن باناسا «6» وحصن ذى القرنين وغير ذلك. وأخذ من بلاد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين والموزر «7» وتل موزر «8» وغيرها من حصون شبختان «9» ، ورتب أمور الجميع وجعل فيها من يحفظها. وقصد مدينة آمد وحانى. «10»
فحصرهما وأقام بتلك الناحية. وفيها سير عسكرا إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها.(27/142)
ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما هو بيد الفرنج
وفى سادس جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسماية فتح عماد الدين أتابك زنكى مدينة الرها من حصون الفرنج الجزيرية.
وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة وكانت مملكة الفرنج بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها وسروج والبيرة وسن بن عطير «1» وحملين والموزر والقرادى وغير ذلك.
وكانت هذه الأعمال وغيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين «2» الفرنجى، وكان صاحب رأى الفرنج والمقدم على عساكرهم، لما فيه من الشجاعة والمكر وكان عماد الدين يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع من الفرنج بها من يمنعها ويتعذر عليه ملكها لما هى عليه من الحصانه، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ إلى قصد بلادهم. فاطمأنوا وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاده الغربية. فبلغ أتابك زنكى ذلك فنادى فى العسكر بالرحيل إلى الرها وجمع الأمراء عنده وقدم الطعام وقال: «لا يأكل معى على مائدتى هذه إلا من يطعن معى غدا فى باب الرها.» فلم يتقدم غير أمير واحد وصبى لا يعرف، لما يعلمو من إقدام زنكى وشجاعته، وأن أحدا لا يقدر على مساواته فى الحرب. فقال الأمير لذلك الصبى:(27/143)
«ما أنت فى هذا المقام» فقال أتابك زنكى: «دعه فو الله إنى أرى وجهه لا يتخلف عنى.»
وسار والعسكر معه فوصل إلى الرها، فكان عماد الدين أول من حمل على الفرنج والصبى معه، وحمل فارس من الفرنج على زنكى عرضا فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم زنكى.
ونازل البلد وقاتل عليه ثمانية وعشرين يوما وملكه عنوة، وملك القلعة، ونهب الناس الأموال، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء.
فلما رأى عماد الدين البلد أعجبه ورأى أن تخريب مثله لا يجوز فى السياسة، فنودى بالعسكر برد ما أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، ورد ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا ذلك وعاد البلد إلى حالته الأولى، وجعل فيه عسكرا يحفظه وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التى كانت بيد الفرنج شرقى الفرات ما عدا البيرة لحصانتها.
وحكى ابن الأثير رحمه الله فى تاريخه الكامل قال: حكى لى بعض العلماء بالأنساب والتواريخ، قال: كان صاحب صقلية قد أرسل سرية إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال فنهبوا وقتلوا. وكان عند صاحب صقلية رجل مسلم كان يكرمه ويحترمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان، حتى كان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب. ففى بعض الأيام كان جالسا فى منظرة يشرف على البحر، وإذا بموكب لطيف قد أقبل وأخبر من فيه أن عسكره دخلوا بلاد الإسلام وظفروا وغنموا وقتلوا. وكان المسلم(27/144)
إلى جانبه، وقد أعفى فقال له الملك: «يا فلان ألا تسمع إلى ما يقولون» قال: «لا» قال: «إنهم يخبرون بكذا وكذا، أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها.» قال: «كان قد غاب عنهم وشهد فتح الرها، فقد فتحها المسلمون الآن» فضحك من هناك من الفرنج فقال الملك:
«لا تضحكوا فما يقول والله إلا الحق» فوصل بعد أيام الخبر من فرنج الشام بفتحها. قال ابن الأثير: وحكى لى جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنسانا صالحا رأى الشهيد زنكى فى منامه فقال له:
«ما فعل الله بك» قال: «غفر لى بفتح الرها» .
ذكر مقتل نصير الدين جقر، وولاية زين الدين على كورجك
كان مقتله فى ذى القعدة تسع وثلاثين وخمسماية. وسبب ذلك أنه كان ينوب عن عماد الدين أتابك زنكى بالموصل وسائر الأعمال التى شرقى الفرات. وكان الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجى ولد السلطان محمود عند زنكى. وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود وأصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك.
وكان ألب أرسلان فى هذه السنة بالموصل، ونصير الدين يحضر إلى خدمته فى كل يوم، فحسن له بعض المفسدين طلب الملك وقالوا له: «إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها، ولا يبقى مع أتابك زنكى فارس واحد» فمال إلى ذلك. فلما دخل نصير الدين إليه وثب إليه من عنده فقتلوه، وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظنا(27/145)
منهم أنهم يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلاد، فلما رأى أصحابه الرأس قاتلوا من بالدار مع الملك واجتمع معهم الخلق الكثير، فدخل القاضى تاج الدين يحيى بن الشهرزورى إلى الملك ألب أرسلان وخدعه، وكان فيما قاله حين رآه منزعجا: «يا مولانا لم تحرد من هذا الكلب؟ هو وأستاذه «1» مماليكك، الحمد لله الذى أراحنا منه ومن صاحبه على يديك» ثم قال له: «وما الذى يقعدك فى هذه الدار؟
قم لتصعد إلى القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند وليس دون البلاد بعد الموصل مانع» فقام معه وركب وأصعده إلى القلعة، فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال، فتقدم إليهم القاضى تاج الدين فقال: «افتحوا الباب وتسلموه وافعلوا ما أردتم» ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضى إلى القلعة ومعهما من أعان على قتل نصير الدين. فلما صاروا بالقلعة سجنوا كلهم إلا القاضى.
وبلغ الخبر عماد الدين وهو يحاصر قلعة البيرة، وقد أشرف على فتحها، فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، ففارق البيرة وأرسل زين الدين على بن بكتكين «2» إلى قلعة الموصل واليا على ما كان نصير الدين يتولاه. وسار عماد الدين عن لبيرة، فخاف من بها من الفرنج أن يعود إليهم. فسلموها لصاحب(27/146)
ماردين. وملكها المسلمون. فإن لم يكن عماد الدين زنكى فتحها فهو سبب فتحها.
ذكر مقتل عماد الدين زنكى
كا مقتله رحمه الله لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسماية. وذلك أنه كان يحاصر قلعة جعبر، وكانت بيد سالم بن مالك العقيلى منذ سلمها السلطان ملكشاه إلى أبيه، عوضا عن قلعة حلب كما تقدم فى أخبار السلجقية. فحاصرها عماد الدين الآن وأقام عليها إلى هذا التاريخ، فدخل عليه نفر من مماليكه فقتلوه غيلة، وهربوا إلى القلعة ولم يشعر أصحابه. فلما صعد أولئك النفر إلى القلعة صاح من بها بالعسكر، وأعلموهم بقتل صاحبهم، فبادر أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق. ثم مات رحمه الله تعالى وكان عمره نحوا من أربع «1» وستين سنة، ومدة ملكه منذ ولى الموصل وإلى أن قتل عشرين سنة.
وكان حسن الصورة أسمر اللون، وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته، عظيم السياسة لا يقدر القوى معه على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابا من الظلم، وتنقل الولاة، ومجاورة الفرنج، فعمرها وامتلات بأهلها وغير أهلها. وكان ينهى أصحابه عن اقتناء الأملاك ويقول: «مهما كانت البلاد لنا فأى حاجة لكم إلى أملاك؟ فإن خرجت عن أيدينا فالأملاك تذهب معها، ومتى(27/147)
صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية، وتعدوا عليهم، وغصبوهم أملاكهم، والإقطاعات تفنى أصحاب السلطان عنها» «1» وخلف من الأولاد سيف الدين غازى وهو أكبر أولاده ونور الدين محمود وهو الملك العادل، وقطب الدين مودود، وهو أبو الملوك بالموصل، ونصير الدين أمير أميران. فانقرض عقب سيف الدين من الذكور والإناث، ونور الدين من الذكور، وبقى فى عقب قطب الدين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: ولما قتل أتابك زنكى كان ولده نور الدين محمود معه، فأخذ خاتمه من يده وسار إلى حلب فملكها. وسنذكر أخباره مفصلة بعد سيف الدين غازى، والله أعلم.
ذكر ملك سيف الدين غازى ابن الشهيد عماد الدين أتابك زنكى
قال: لما قتل أتابك زنكى كان الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود معه، فاجتمعت العساكر عليه وكان الحاكم على دولة زنكى والمدبر لها من أرباب الأقلام جمال الدين محمد بن على بن منصور الإصفهانى شبه الوزير، ومعه الحاجب صلاح الدين محمد بن أيوب الباغسيانى فاتفقا على حفظ الملك لأولاد صاحبهم عماد الدين وتحالفا على ذلك، وركبا إلى خدمة الملك ألب أرسلان، وخدماه،(27/148)
وضمنا له فتح البلاد، وقالا له: «إن أتابك زنكى إنما كان الناس يطيعونه لأنه كان نائبك» فقبل منهما ذلك وظن صدقهما ومناصحتهما وقربهما، وأرسلا إلى زين الدين على بن مظفر الدين صاحب اربل بالموصل يعرفانه «1» بوفاة الشهيد ويأمرانه «2» أن يرسل إلى ابنه سيف الدين غازى ليحضر إلى الموصل، وكان بشهرزور وهى إقطاعه من قبل أبيه، ففعل ذلك ووصل إلى الموصل. وأشار جمال الدين على الملك بإرسال الحاجب صلاح الدين إلى حلب ليدبر أمر نور الدين فأمره بالمسير إليها فسار، وكانت حماه إقطاعه، وانفرد جمال الدين الملك ألب أرسلان فقصد به الرقة، واشتغل بالشرب واللهو واستمال جمال الدين العسكر، وحلفهم لسيف الدين غازى، وصار يأمر من تخلف بالمسير إلى الموصل هاربا من الملك، وبقى جمال الدين يسير بالملك من الرقة إلى سنجار، ويخذله ويطعمه، وما زال حتى انتهى به إلى الموصل. وأرسل الأمير عز الدين الدبيسى إلى الملك فى عسكر، والملك فى نفر يسير، فأخذه وأدخله الموصل، فكان آخر العهد به. فاستقر أمر سيف الدين بالموصل واستوزر جمال الدين وأرسل إلى السلطان مسعود فى إمرة الموصل فأمره على البلاد، وأرسل له الخلع. وكان سيف الدين قد تقدمت له خدمة على السلطان مسعود ولازمه سفرا وحضرا فى أيام زنكى.
قال: ولما استتب الأمر لسيف الدين غازى بالموصل عبر إلى الشام لينظر فى أمور البلاد، ويقرر قاعدة بينه وبين أخيه نور الدين،(27/149)
ولما عبر الفرات لم يحضر نور الدين إليه وخافه فراسله واستماله بحسن سياسته، فاستقرت الحال بينهما أن يجتمعا خارج العسكر السيفى، وكل منهما فى خمسمائة فارس. فسار نور الدين يوم الميعاد من حلب بهذه العدة، وسار سيف الدين من معسكره فى خمسة فوارس، فلما رآه نور الدين ترجل وقبل الأرض، وأعاد أصحابه فاجتمعا وتحالفا واتفقا أحسن اتفاق، واستقر نور الدين بحلب وما معها، وسيف الدولة بالموصل وما معها.
ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعله سيف الدين غازى
وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية وصل ملك الألمان «1» فى جمع كثير من الفرنج وعزم على ملك الشام، وظن أنه يملكه لا محالة لكثرة أصحابه، واجتمع عليه من بالشام والسواحل من الفرنج. ووصل إلى دمشق وحاصرها، ونزل الميدان الأخضر، فأيقن أهلها بخروجها عن الإسلام. وكان ملكها يوم ذاك مجير الدين أبق بن محمد ابن بورى بن طغرتكين، وليس له من الأمر شىء والحكم فى البلد لأتابكه معين الدين [أنر] مملوك جد أبيه، فأرسل إلى سيف الدين غازى يستنجده، فجمع عساكره والعساكر الحلبية، وسار إلى دمشق، فخافه الفرنج. ثم راسل فرنج الساحل وأوعدهم بحصر بانياس، فاجتمعوا بملك الألمان وقالوا له: «إن هذا ملك بلاد المشرق(27/150)
قد قدم» وخوفوه عاقبة أمره، فرحل ملك الألمان إلى بلاده، وتسلم الفرنج بانياس، كما وقع الاتفاق عليه، وعاد سيف الدين إلى الموصل.
ذكر وفاة سيف الدين غازى ابن عماد الدين زنكى
كانت وفاته فى أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسماية بالموصل لمرض حاد، ودفن بمدرسته التى بناها بالموصل. فكانت ولايته ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما، وعمره نحوا من أربع «1» وأربعين سنة. وخلف ولدا ذكرا رباه عمه نور الدين محمود أحسن تربية، وزوجه بابنة عمه قطب الدين، ولم تطل مدته، ومات فى عنفوان «2» شبابه، وانقرض عقب غازى بوفاته.
قال: وكان سيف الدين غازى يمد لعسكره فى كل يوم سماطا كبيرا، طرفى النهار يكون فى سماطه للغذاء مائة رأس من الغنم، وأمر الأجناد أن يركبوا بالسيوف والدبابيس، فاقتدى به أصحاب الأطواف وهو أول من حمل على رأسه السنجق من عمال الأطراف، وبنى المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل، ووقفها على طائفتى الشافعية والحنفية، وبنى رباط الصوفية بالموصل. ولم تطل أيامه حتى يفعل ما فى نفسه من وجوه البر، رحمه الله. وسنذكر إن شاء الله تعالى من ملك الموصل بعده إذا انقضت أخبار الشهيد نور الدين وولده.(27/151)
ذكر أخبار الملك العادل نور الدين أبى القاسم محمود ابن أتابك عماد الدين أبى سعيد زنكى بن أقسنقر
قد ذكرنا أنه لما مات والده رحمه الله فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسماية، توجه بخاتمه إلى حلب وملكها، وذكرنا أيضا ما كان بينه وبين أخيه سيف الدين غازى رحمه الله، وما اتفقا عليه، فلنذكر من أخباره خلاف ذلك. ولنبدأ بغزواته وفتوحاته؛ ثم نذكر ما استولى عليه من الممالك وغير ذلك.
ذكر الغزوات والفتوحات النورية وما استنقذة من أيدى الفرنج
ذكر عصيان مدينة الرها وفتحها الفتح الثانى ونهبها
قال: لما قتل أتابك زنكى كان جوسكين الفرنجى صاحب الرها فى ولايته وهى تل باشر، فراسل عامة أهل الرها من الأرمن وحملهم على العصيان والامتناع على المسلمين، فأجابوه إلى ذلك. فسار فى عساكره إلى الرها وملك البلد، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها فسار نور الدين، وجد السير إليها. فلما قاربها هرب جوسكين عنها، وعاد إلى بلده، ودخل نور الدين البلد. ونهب المدينة، وسبى أهلها، فخلت منهم ولم يبق بها إلا القليل، وذلك فى سنة إحدى وأربعين وخمسماية. وفى سنة اثنتين وأربعين وخمسماية،(27/152)
فتح [نور الدين] مدينة ارتاح «1» بالسيف، ونهبها وحصر ما يوله «2» وبصر فوث «3» وكفر لاثا «4» ، وكان الفرنج بعد قتل أتابك زنكى قد طمعوا وظنوا أنهم يستردون ما أخذ منهم فخاب ظنهم.
ذكر فتح حصن العريمة
وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسماية فتح حصن العريمة، وهو من أعمال طرابلس. وكان ملك الألمان لما سار عن دمشق وجه إلى العريمة ولد ألفتش «5» صاحب ظليطه، وهو من أولاد أكابر ملوك الفرنج. وكان جده هو الذى فتح طرابلس، فملك العريمة، وأظهر أنه يريد أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين، وإلى معين الدين صاحب دمشق أن يقصدا حصن العريمة ويملكاه.
فسار نور الدين من حلب ومعين الدين من دمشق واستمدا سيف الدين غازى، فأمدهما بعسكر كثيف مع الأمير عز الدين الدبيسى صاحب جزيرة ابن عمر. فنازلوا الحصن، وحصروه وبه ولد ألفتش، فاستسلم من به بعد متناع، وملكه المسلمون، وأخذوا كل من فيه من فارس وراجل وصبى وامرأة. وكان ولد ألفتش ممن أسر وأخربوا الحصن ثم عادوا(27/153)
ذكر انهزام الفرنج بيغرا «1»
وفى سنة ثلاث وأربعين أيضا، اجتمع الفرنج لقصد حلب:
فسار إليهم الملك العادل نور الدين بعسكره، فالتقوا بيغزى، واقتتلوا قتالا شديدا، أجلت الحروب عن ظفر الملك العادل، وانهزام الفرنج وأسر جماعة من مقدميهم. ولم ينج من ذلك الجمع إلا اليسير. وأرسل نور الدين من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم. وفى هذه الوقعة يقول ابن القيسرانى من قصيدة أولها.
يا ليت أن الصد مصدود ... أو لا، فليت النوم مردود
جاء منها
وكيف لا يثنى على عيشنا المحم ... ود والسلطان محمود
وصارم الإسلام لا ينثنى ... إلا وشلو الكفر مقدود
مكارم لم تك «2» موجودة ... إلا ونور الدين موجود
وكم له من وقعة يومها ... عند ملوك الكفر مشهود(27/154)
ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية
وفى سنة أربع وأربعين وخمسماية، غزا نور الدين بلاد الفرنج، من ناحية انطاكية وقصد حصن حارم «1» وهو للفرنج، وحصره وخرب ربضه، ونهب سواده ثم رحل إلى حصن إنب «2» فحصره، فاجتمعت الفرنج لقتاله مع البرنس، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الفرنج وقتل البرنس «3» وجماعة كثيرة من أصحابه، وأسر خلق كثير. وكان البرنس من عتاة الفرنج. ولما قتل ملك بعده انطاكية ابنه بيمند»
، ثم غزاهم نور الدين غزوة ثانية، فقتل وأسر، وكان ممن أسر البرنس الثانى زوج أم بيمند صاحب انطاكية. وكان قتل البرنس [ريموند] عظيما عند الطائفتين وأكثر الشعراء مدح نور الدين بهذا الظفر، فكان ممن قال فيه ابن القيسرانى الكاتب قصيدته المشهورة وهى:
هذى العزائم لاما تدعى القضب ... وذى المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللائى متى خطبت «5» ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب
صافحت يابن عماد الدين ذروتها ... براحة للمساعى درنها تعب «6»(27/155)
ما زال جدّك يبنى كل شاهقة ... حتى بنى قبة أوتادها الشهب
أغرت سيوفك بالإفرنج «1» راجفة ... فؤاد روميّة الكبرى لها يجب
ضربت كبشهم منها بقاصمة ... أودى بها «2» الصلب وانحطت لها الصلب
طهرت أرض الأعادى من دمائهم ... طهارة كل سيف عندها جنب
ذكر فتح حصن أفامية
وفى سنة خمس وأربعين وخمسماية فتح الملك العادل نور الدين حصن أفامية من الفرنج، وهو مجاور شيزر وحماة، وهو من أحصن القلاع وأمنعها، فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا نحوه ليرحلوه، فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه من الذخائر والسلاح وشحنة بالرجال. وسار عنه فى طلب الفرنج، فعدلوا عن طريقه وسألوه الهدنة، وعاد مظفرا منصورا.
ذكر أسر جوستكين وفتح بلاده
كان نور الدين قد جمع عساكره فى سنة ست وأربعين وخمسماية وسار إلى بلاد جوستكين الفرنجى وهى شمالى حلب، وعزم على محاصرتها. وكان جوستكين فارس الفرنج وطاغيتهم، صاحب رأى وشجاعة، فجمع وأكثر، وسار نحو نور الدين والتقوا واقتتلوا،(27/156)
فكانت الهزيمة على المسلمين، وقتل كثير منهم. وأسر سلحدار نور الدين فيمن أسر، فأخذ جوستكين سلاحه، وأرسله إلى الملك مسعود قلج صاحب الروم، وقال: «هذا سلاح زوج ابنتك وسآتيك بعده بما هو أعظم منه» فأهم نور الدين ذلك وعظم عليه، وعلم أنه لا يتمكن من جوستكين فى حرب، لأنه إما أن يحارب أو يحتمى بحصونه. فجعل عليه العيون من التركمان، ووعدهم إن أسروه وأتوا به أو برأسه بمواعيد كثيرة. فرصدوه إلى أن خرج إلى الصيد، وأسروه فصالحهم على مال يؤديه إليهم، فسير فى إحضار المال إليهم فجاء بعضهم إلى أبى بكر بن الداية، نائب نور الدين بحلب، وأخبره بالقضية. فسير عسكرا مع من حضر إليه بالخبر، وكبس التركمان وأخذوا جوستكين أسيرا. وكان من أعظم الفتوحات:
وأصيبت النصرانية كافة بأسرها «1» ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها، وهى تل باشر وعين تاب وإعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البادة وكفر سود، وكفر لاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعماله فى مدة يسيرة. واجتمع الفرنج فى سنة سبع وأربعين، وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو بدلوك، فلما قربوا منه رجع إليهم واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر له وقتل وأسر منهم. وعاد إلى دلوك فملكها. وكان نور الدين إذا فتح حصنا من هذه الحصون شحنه بما يحتاج إليه من الرجال والسلاح والذخائر وغيرها.(27/157)
ذكر حصر قلعة حارم وفتحها
وفى سنة إحدى وخمسين وخمسماية حصر نور الدين قلعة حارم وشدد الحصار، فصالحه الفرنج على نصف أعمال حارم، وصالحهم ورحل عنهم ثم فتحها فى شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسماية.
ذكر ملكه بانياس وما قرره على طبرية وأعمالها
وفى سنة تسع وخمسين ملك حصن بانياس، وكان بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسماية، كما قدمنا. فنازله، فجمع الفرنج لقصده، فلم يكمل جمعهم إلا وقد ملك الحصن وشحنه بالرجال والذخائر، ثم شاطر الفرنج على أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التى لم يشاطرهم عليها فى كل سنة ما لا يحملونه إليه، والله أعلم.
ذكر فتح المنيطرة
والمنيطرة فيما بين طرابلس وبعلبك وهى الآن من الأعمال المضافة إلى المملكة الطرابلسية. فلما كان فى سنة إحدى وستين وخمسماية، سار نور الدين إليها جريدة، وملكها وأعجل الفرنج عن الاجتماع لرده، وسبى وغنم، فجاء الفرنج بعد أن ملكها فأيسوا منها، ورجعوا عنها، والله أعلم.(27/158)
ذكر فتح صافيثا وعريمة
وفى سنة اثنتين وستين وخمسماية جمع نور الدين العساكر وسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل واجتمعا على حمص، فدخل بالعساكر إلى بلاد الفرنج بالساحل واجتاز على حصن الأكراد «1» ، فأغاروا ونهبوا وسبوا. وقصدوا عرقة «2» فنازلوها وحصروها، وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها. وسارت عساكر المسلمين فى بلادهم يمينا وشمالا تغير وتخرب، وفتحوا العريمة، وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها شهر رمضان، وكان الفرنج فى سنة ثمان وأربعين قد كبسوا عسكر نور الدين بالبقيعة على حين غفلة من العسكر، فنالوا من المسلمين منالا عظيما، فجعل نور الدين فى مقابلة ذلك فتح حارم وبانياس والمنيطرة وصافيثا وعريمة وتخريب بلادهم، وأدرك ثأره عن غير بعد.
ثم سار بعد شهر رمضان إلى بانياس، وقصد العبور إلى بيروت، فجرى بين العسكر اختلاف أوجب رجوعه. وأعطى قطب الدين فى هذه السنة الرقة، وأعاده إلى بلده. هذا ما فتحه رحمه الله من بلاد الفرنج، فلنذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية.(27/159)
ذكر ما استولى عليه من البلاد الاسلامية
فى سنة أربع وأربعين وخمسماية، استولى الملك العادل [نور الدين] على سنجار، وكانت بيد أخيه قطب الدين، ملكها بعد وفاة سيف الدين غازى، ثم حصل الاتفاق بينهما على أن يكون نور الدين صاحب حلب وحمص والرحبة والشام؛ وقطب الدين بالموصل وديار الجزيرة، وسلم سنجار لأخيه قطب الدين، وأخذ نور الدين ما كان من الذخائر بسنجار، وكانت كثيرة جدا، وعاد إلى حلب وقد حصل الاتفاق بينه وبين أخيه.
ذكر ملكه مدينة دمشق
وفى سنة تسع وأربعين وخمسماية ملك دمشق من مجير الدين أبق بن محمد بن بورى بن طغرلتكين. وسبب قصده لها أن الفرنج ملكوا فى السنة التى قبل هذه السنة مدينة عسقلان، واستولوا على تلك النواحى، فلم يتمكن نور الدين من غزوهم ودفعهم، لأن دمشق تحول بينه وبينهم. ولم تمكنه مفاجأة صاحبها لعلمه أنه إن سار إليها راسل صاحب دمشق الفرنج واستنجد بهم. وكان قد استقر لهم ضريبة على دمشق تحمل إليهم فى كل سنة، ويحضر رسلهم لقبضها، فزاد استيلاؤهم إلى أن أخذوا كل من فيها من الغلمان والجوارى، بحيث أنهم يطلبون الغلام أو الجارية ويخيروه، فان أختار الرجوع إليهم أخذوه، اختار مولاه أو امتنع؛ وان اختار(27/160)
المقام عند مواليه تركوه. فأهم ذلك نور الدين، وخاف أن الفرنج متى استولت على دمشق ملكوا الشام أجمع، فأخذ فى إعمال الحيلة وراسل مجير الدين صاحبها وهاداه وداهنه واستماله. وبقى يوقع بينه وبين أمرائه، فكتب إليه يقول: «إن فلانا الأمير قد كاتبنى فى تسليم دمشق» فقبض عليه مجير الدين حتى اختل أمر عسكره وضعف. ثم راسل نور الدين الأحداث من الأمراء بدمشق، ووعدهم الجميل فمالوا إليه ووعدوه بتسليمها له، فسار إليها. فلما نازلها كاتب مجير الدين الفرنج وبذل لهم بعلبك ليمنعوا نور الدين عنه، فحشدوا فارسهم وراجلهم، فلم يتكامل جمعهم إلا وقد ملك نور الدين دمشق، سلمها له الأمراء، ودخلها من الباب الشرقى. وتحصن صاحبها بالقلعة، فبذل له نور الدين حمص، فرضى وسلم القلعة وسار إلى حمص، ثم عوضه عن حمص مدينة بالس فامتنع، وتوجه إلى بغداد ومات بها.
وفى سنة اثنتين وخمسين، ملك نور الدين حصن شيزر من آل منقذ وكانت الزلزلة قد هدمت أسواره فعمرها والله أعلم.
ذكر ملكه بعلبك
وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسماية ملك بعلبك وقلعتها.
وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعى، منسوب إلى البقاع البعلبكى، كان صاحب دمشق قد ولاه إياها، فلما ملك نور الدين دمشق لم تمكنه مشاححته لقربه من الفرنج، فطاوله إلى الآن وملكها منه.(27/161)
ذكر ملكه قلعة جعبر
وفى سنة أربع وستين وخمسماية ملك [نور الدين] قلعة جعبر من صاحبها شهاب الدين مالك بن على بن مالك العقيلى وكانت بيده وبيد آبائه كما تقدم. وكان السبب فى ملكه لها أن صاحبها سار إلى الصيد، فأسره بنو كلاب «1» وجاؤوا به إلى نور الدين فى شهر رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله نور الدين وأكرمه فى اعتقاله.
وأخذ فى طلبها باللين، فلم يوافق على إعطائها ثم أخذه بالشدة فلم يوافق، فسير الجيوش لحصرها، فحوصرت مدة فلم يظفر منها بطائل، فعاود صاحبها بالملاطفة، وعوضه عنها سروج وأعمالها والملاحة التى من بلد حلب وباب بزاعه. وعشرين ألف دينار معجلة.
فقبل العوض وسلم القلعة. وهذه القلعة فى عصرنا هذا إلى سنة أربع عشرة وسبعماية خرابا لا باب عليها والله أعلم.
ذكر ملكه الديار المصرية
وفى سنة أربع وستين وخمسماية ملك أسد الدين شيركوه الديار المصرية بجيوش الملك العادل نور الدين، وهى السفرة الثالثة له إليها من قبل نور الدين ونذكر ذلك مفصلا فى أخبار الدولة الأيوبية، ودامت الخطبة بها للملك العادل مدة حياته، وصدرا من أيام ولده الملك الصالح إسمعيل.(27/162)
ذكر ملكه الموصل
وفى سنة ست وستين وخمسماية ملك الموصل بعد وفاة أخيه قطب الدين، وأقر عليها سيف الدين غازى بن قطب الدين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار غازى. وأطلق نور الدين سائر المكوس بالموصل وبسائر البلاد. وجاءته الخلع من الخليفة المتسنصر بالله، فلبسها، ثم خلعها على سيف الدين غازى ابن أخيه. وأمر ببناء الجامع النورى بالموصل، فبنى وأقام بالموصل عشرين يوما وعاد إلى الشام.
ذكر وفاته رحمه الله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاة الملك العادل نور الدين محمود فى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسماية، بعلة الخوانيق، ولقب بعد موته بالشهيد. ومولده فى سنة إحدى عشرة وخمسماية، فيكون عمره نحوا من ثمان «1» وخمسين سنة، ومدة ملكه منذ وفاة أبيه ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر وستة أيام. ومن العجب أنه ركب إلى الميدان الأخضر بدمشق فى ثانى شوال، ونصب فيه قبقا «2» ،(27/163)
فسايره الأمير همام الدين مودود، وقال له: «أترى هل نكون ههنا فى مثل هذا اليوم من العام المقبل؟» فقال له نور الدين: «لا تقل هكذا، قل هل نكون ههنا بعد شهر؟ فإن السنة بعيدة» ورجع إلى القلعة، وختن ابنه وأصابته العلة، فمات بعد عشرة أيام.
ومات الأمير همام الدين قبل استكمال الحول. ودفن نور الدين بقلعة دمشق، ثم نقل إلى مدرسته التى بناها بجوار سوق الخواصين بدمشق وقبره هناك مشهور.
وأما سيرته وأفعاله رحمه الله تعالى فانه أفرغ وسعه فى الجهاد، واستنقذ من أيدى الفرنج ما ذكرناه. وكان ثابتا فى حروبه، وبنى المدارس والمساجد والربط والبيمارستان والخانات والطرق والجسور، وجدد القنى وأصلحها، وأوقف الوقوف على معلمى الخط لتعليم الأيتام، وعلى سكان الحرمين الشريفين، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات حتى كفوا عن التعرض إلى الحاج. وبنى أسوار المدن والحصون التى هدمتها الزلزلة التى ذكرناها فى أخبار الدولة العباسية.
وكان رحمه الله مواظبا على الصلاة فى الجماعة، حريصا على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصدا فى الإنفاق والمطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش فى رضاه ولا فى سخطه وعاقب على شرب الخمر قال الشيخ عز الدين أبو الحسن على بن عبد الكريم الجزرى المعروف بابن الأثير رحمه الله: «قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين(27/164)
ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه» قال: وكان رحمه الله لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة. كان بالجزيرة رجل من الصالحين العباد، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله فيرجع إلى قوله، فبلغه أن نور الدين يدمن اللعب بالأكرة «1» فكتب إليه يقول: «ما كنت أظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة» فكتب إليه نور الدين بخطه يقول: «والله ما يحملنى على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن فى ثغر، العدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع الصوت فنركب فى الطلب ولا يمكننا أيضا ملازمة الجهاد ليلا ونهارا شتاء وصيفا. إذ لا بد من الراحة للجند ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت حماما لا قدرة لها على إدمان السير فى الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف فى الكر والفر فى المعركة فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب، فيذهب حمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها فى الحرب. فهذا والله الذى بعثنى على اللعب بالكرة» .
قال: وحكى عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها؛ فبينما هم معه فى حديثها إذ جاءه رجل صوفى فأمر له بها. فقيل له إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطى غيرها كان أنفع له. فقال:
«أعطوها له، فانى أرجو أن أعوض عنها فى الآخرة» فسلمت إليه.
قيل والذى أعطيها شيخ الصوفية عماد الدين بن حمويه، فبعثها إلى همذان، فبيعت بألف دينار.(27/165)
قالوا وكان عارفا بالفقه على مذهب أبى حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان يعظم الشريعة المطهرة، ويقف عند أحكامها، فمن ذلك أنه كان يلعب بالكرة عند دمشق، فرأى إنسانا يحدث آخر ويومئ إليه بيده، فأرسل يسأله عن حاله، فقال: «لى مع الملك العادل حكومة، وهذا غلام القاضى ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمنى على الملك الفلانى» فلما قيل ذلك له ألقى الجوكات من يده وخرج من الميدان وتوجه إلى القاضى كمال الدين بن الشهرزورى وأرسل إليه يقول: «انى قد جئت فى محاكمه فاسلك معى ما تسلكه مع غيرى.» فلما حضرا، ساوى خصمه وحاكمه، فلم يثبت قبله حق، وثبت الحق لنور الدين. فعند ذلك أشهد على نفسه أنه وهب الملك للذى حاكمه، وقال: «كنت أعلم أن لاحق له عندى، وإنما حضرت معه لئلا يظن بى أنى ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لى، وهبته له» .
قال: وهو أول من بنى دار الكشف وسماها دار العدل. وكان يجلس فيها فى الأسبوع يومين، وعنده القاضى والفقهاء لفصل الحكومات بين القوى والضعيف. وكان شجاعا حسن الرأى والمكيدة فى الحرب، عارفا بأمور الأجناد. وكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين. وتركشين «1» ، وباشر القتال بنفسه. وكان يقول:
«طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها» .
قال: ومن أحسن الآراء ما كان يفعله مع أجناده. كان إذا توفى(27/166)
أحدهم وخلف ولدا، أقر الإقطاع عليه: فإن كان كبيرا استبد بتدبير نفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا عاقلا يثق إليه يتولى أمره إلى أن يكبر. فكان الأجناد يقولون هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها، وكان ذلك سببا عظيما للنصر فى المشاهد والحروب. قال: وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، فمنها حلب وحماه وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنيج، وغيرها من القلاع والحصون، وأخرج عليها الأموال الكثيرة التى لا تسمح النفوس بمثلها. وبنى المدارس بحلب وحماه ودمشق وغيرها. وبنى الجوامع فى كثير من البلاد، فمنها جامعه بالموصل، إليه النهاية فى الحسن والإتقان وفوض عمارته والخرج عليه للشيخ عمر الملا، وكان من الصالحين. فقيل له إنه لا يصلح لمثل هذا العمل، فقال:
«إذا وليت بعض أصحابى من الأجناد والكتاب، أعلم أنه يظلم فى بعض الأوقات، فلا يقى عمارة الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظنى أنه لا يظلم، فإن ظلم كان الاثم عليه لا على» وبنى أيضا بمدينة حماه جامعا على نهر العاصى من أحسن الجوامع وأنزهها، وجدد فى غيرها من عمارة الجوامع ما كان قد تهدم بسبب زلزلة وغيرها. وبنى البيمارستانات فى البلاد، ومن أعظمها وأشهرها البيمارستان الذى بناه بدمشق، وقفه على كافة المسلمين من غنى وفقير، وبنى الربط والخانقاهات «1» للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأدر عليهم الإدرارات الصالحة.(27/167)
قال: وكان قد ضبط ناموس الملك إلى غاية لا مزيد عليها، فكان يلزم الأجناد بوظائف الخدمة، ولا يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس، إلا نجم الدين أيوب، وأما من عداه كأسد الدين شيركوه وغيره، فإنهم كانوا يقفون حتى يأمرهم بالجلوس. وكان مع ذلك إذا دخل عليه الفقير والصوفى والفقيه يقوم له ويجلسه إلى جانبه. وكان إذا أعطى أحدهم شيئا يقول إن هؤلاء لهم فى بيت المال حق، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا.
ولم يزل الناس معه فى غاية الأمن والخير والبركة والنمو والإحسان والعدل والبر وإظهار السنة وقمع البدعة إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى.
ذكر أخبار الملك الصالح اسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك زنكى بن أقسنقر
ملك بعد وفاة والده فى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسماية. وحلف له الأمراء وأطاعه الناس فى سائر البلاد وخطب له الملك الناصر صلاح الدين يوسف بالديار المصرية. ولم يكن الملك الصالح إذ داك قد بلغ الحلم. وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن المقدم. قال العماد الأصفهانى الكاتب: وورد كتاب صلاح الدين بالثال الفاضلى معزيا للملك الصالح وفى آخره:
«وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه طلب ليل لنهاره، وسيل لقراره، إلى أن يزعجه من مجاثمه، ويستوقفه عن مواقف مغانمه، وذلك من أقل فروض البيت الكريم، وأيسر(27/168)
لوازمه. أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع عشر ذى القعدة وهو اليوم الذى أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم، وصرح فيه بذكره فى الموقف العظيم، والجمع الذى لا لهو فيه ولا تأثيم، وأشبه يوم الخادم أمسه فى الخدمة، وفيما لزمه من حقوق النعمة، وجمع كلمة الإسلام عالما أن الجماعة رحمة» .
قال: ولما بلغ سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود وفاة عمه، استبشر لذلك، ونادى بالموصل بالفسحة فى الشرب واللهو. وكان الخبر قد أتاه وهو سائر إلى خدمة عمه نور الدين، فإنه كان قد استدعاه بالجيوش، فعاد وهرب سعد الدين كمشتكين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار سيف الدين غازى مبينا. قال: ولما اتفق ذلك منه لم يكتب الجماعة الذين فى خدمة الملك الصالح إلى صلاح الدين يوسف بالخبر، خوفا أنه إذا بلغه ذلك أقصدهم، واستولى على الملك الصالح وأبعدهم، فشق ذلك عليه وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وأقام الملك الصالح بدمشق وجماعة الأمراء عنده لم يمكنوه من المسير إلى حلب، لئلا يغلبهم عليه شمس الدين بن الداية، ويختص بخدمته، فإنه كان من أكبر الأمراء النورية. ولما وصل كمشتكين من الموصل إلى حلب أحسن إليه الأمير شمس الدين بن الداية، وأكرمه، وجهزه إلى دمشق لإحضار الملك الصالح منها إلى حلب، وجهز معه العساكر. فلما قارب دمشق سير الأمير شمس الدين محمد بن المقدم عسكرا إليه، فهزموه. ونهبوا ما معه،(27/169)
فعاد إلى حلب منهزما، فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه ثم نظر أمراء دمشق المصلحة، فعلموا أن مسيره إلى حلب أجود من مقامه بدمشق. فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون سعد الدين كمشتكين ليأخذ الملك الصالح، فجهزه إليهم، فسار إلى دمشق فى المحرم سنة سبعين وخمسماية، فأخذ الملك الصالح وعاد به إلى حلب.
فلما وصل إليها، قبض سعد الدين على ابن الداية وإخوته، وعلى الرئيس ابن الخشاب رئيس حلب، ومقدم الأحداث بها.
واستبد سعد الدين بتربية الملك الصالح، فخاف ابن المقدم وغيره من الأمراء بدمشق أن سعد الدين يسير إليهم ويفعل بهم كما فعل بابن الداية، فراسل سيف الدين غازى بن مودود فى الحضور من الموصل ليتسلم دمشق فخشى غازى أن تكون مكيدة فلم يحضر، فراسله سعد الدين، واتفق الحال على أن يستقر بيده ما استولى عليه من الأعمال الجزيرية. فقال أمراء دمشق: حيث صالح سيف الدين، لم يبق له مانع من المسير إلى دمشق. فراسلوا الملك الناصر صلاح الدين فى الحضور من مصر ليتسلمها. فوصل إليها، وتسلمها، وملك حمص وحماه وبعلبك. ولم يقطع خطبة الملك الصالح، وأظهر أنه إنما حضر لخدمته، واسترجاع ما استولى عليه سيف الدين غازى وغيره من الأعمال الجزيرية. ثم كان بينه وبين العسكر الحلبى من الحروب ما نذكره فى أخبار الدولة الأيوبية، إلى أن أحوجوه إلى الاستقلال بالأمر والخطبة لنفسه وملك البلاد.(27/170)
ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وحصر الفرنج حارم
وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسماية قبض الملك الصالح على سعد الدين، وهو المتولى على أمر دولته، والحاكم فيها. وسبب ذلك أن أبا صالح بن العجمى كان من أكابر حلب، وكان مقدما عند نور الدين، وتقدم عند ولده وأطاعه الناس، وكثرت أتباعه، فوثبت عليه بعض الباطنية بالجامع فقتله، فنسب ذلك لسعد الدين فوشوا به عند الملك الصالح، فقبض عليه. وكانت حارم اقطاعه، فامتنع من بها من تسليمها فسيره الملك الصالح تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها؛ فأمرهم فلم يرجعوا إلى قوله، وعذب وهم ينظرون إليه إلى أن مات تحت العقوبة. فبلغ الفرنج ذلك، فنازلوا قلعة حارم ونصبوا عليها المجانيق، فصالحهم الملك الصالح على مال ففارقوها، وتسلمها بعد حصار ثان، ورتب فيها من المماليك النورية من يحفظها.
ذكر وفاة الملك الصالح اسماعيل
كانت وفاته لخمس بقين من رجب سنة سبع وسبعين وخمسماية. وابتدأت علته فى تاسع الشهر، وكان مرضه القولنج ومات وله من العمر تسع عشرة سنة. وقيل فى سبب وفاته إن علم الدين سليمان بن جندر «1» سقاه فى عنقود عنب وهو فى الصيد؛(27/171)
وقيل بل سقاه ياقوت الأسدى فى شراب، فعظم موته على سائر الناس، وحزنوا لفقده حزنا شديدا.
قال ابن الاثير: ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوى، فاستفتى الفقيه علاء الدين الكاشانى وأفتاه بجواز شربها، فقال: «إن كان الله قد قرب أجلى أيؤخره شرب الخمر» فقال: لا والله فقال: «والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه على» ومات رحمه الله ولم يشربها.
ولما أيس من نفسه أحضر الأمراء والأجناد فى الثالث والعشرين من شهر رجب وأوصاهم بتسليم البلد لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، واستحلفهم على ذلك. فقال بعض أصحابه إن عز الدين ملك الموصل وله ما يكفيه، ولو أوصيت بها لابن عمك عماد الدين زنكى فإنه تربية والدك، وزوج أختك، وليس له غير سنجار. فقال: «إن هذا لم يغب عنى، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد يمكن وتغلب على عامة البلاد الشامية، ومتى كانت حلب لعماد الدين عجز عن حفظها وعز الدين يحفظها، وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام فاستحسن الناس ذلك منه، وعجبوا من جودة رأيه مع صغر سنه، وأن مرضه لم يشغله عن حسن اختياره. ثم مات رحمه الله.
وكان عفيف اليد والفرج واللسان، لا يعرف له شىء مما يتعاطاه الملوك والشباب، حسن السيرة، عادلا فى رعيته. وبوفاته انقرض عقب نور الدين المذكور.(27/172)
ولنرجع إلى ذكر ملوك الموصل الذين ملكوا بعد وفاة سيف الدين غازى بن عماد الدين زنكى.
ذكر أخبار قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر
ملك الموصل بعد وفاة أخيه سيف الدين غازى فى أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسماية. وذلك أنه لما مات سيف الدين غازى اجتمعت كلمة الوزير جمال الدين الأصفهانى وزين الدين على أمير الجيش على تولية قطب الدين طلبا للسلامة، فاستحلفوه وحلفوا له وركبوه إلى دار السلطان، وأطاعه سائر البلاد التى كانت تحت يد أخيه. وتزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين. وكان سيف الدين غازى قد تزوجها ولم يدخل بها، فنزوجها قطب الدين وهى أم أولاده الملوك.
قال: ولما قطب الدين كان نور الدين بحلب، وهو أكبر منه، فكاتبه بعض الأمراء وطلبوه، فسار إليهم، وقصد انتزاع الملك من أخيه قطب الدين، ثم اتفقا وعاد نور الدين إلى حلب، وشهد قطب الدين بعض الحروب مع أخيه نور الدين؛ كما ذكرناه فى أخبار نور الدين.(27/173)
ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على ابن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته
وفى سنة ثمان وخمسين وخمسماية قبض قطب الدين على الوزير جمال الدين واعتقله، فتوفى فى اعتقاله فى شعبان سنة تسع وخمسين [ولعمرى ما كان يستحق أن يعتقل، وهو الذى عمل على إثبات الملك فى البيت الأتابكى بعد قتل الشهيد أتابك زنكى، على ما قدمنا فى أخبار سيف الدين غازى] «1» قال بن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل: حكى لى إنسان صوفى يقال له أبو القاسم؛ كان مختصا بخدمته فى الحبس، قال: «لم يزل مشغولا فى محبسه بأمر آخرته، وكان يقول كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر، فلما أن مرض قال لى فى بعض الأيام: يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفنى» قال: «فقلت فى نفسى قد اختلط عقله» فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط، فقلت: «قد جاء الطائر» فاستبشر ثم قال: «جاء الحق» وأقبل على الشهادة، وذكر الله تعالى إلى أن توفى. فلما توفى طار ذاك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئا فى معناه» .
ودفن بالموصل عند فتح [الكرامى] «2» رحمة الله عليهما نحو(27/174)
سنة، ثم نقل إلى المدينة، فدفن بالقرب من حرم النبى صلى الله عليه وسلم فى رباط بناه لنفسه. وقال لأبى القاسم: «بينى وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة فدفنه بها فى التربة التى عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره» .
فلما توفى سار أبو القاسم إلى شيركوه فى المعنى، فقال له شيركوه:
«كم تريد» فقال «أريد أجرة جمل يحمله، وجمل يحملنى وزادى» فانتهره وقال: «مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة» وأعطاه مالا صالحا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرءون بين يدى تابوته إذا حمل وإذا أنزل عن الجمل. فإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراءون ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه فى كل بلد يجتاز بها، وأعطاه أيضا مالا للصدقة فصلى عليه فى تكريت وبغداد والحلة فيد «1» ومكة والمدينة، وكان يجتمع له فى كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أراد الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلا صوته:
سرى نعشه «2» فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمر على الوادى فتنشنى «3» رماله ... عليه وبالنادى فتثنى أرامله
فلم ير باكيا أكثر من ذلك اليوم، وطافوا به حول الكعبة، وصلوا(27/175)
عليه بالحرم الشريف، وبين قبره وقبر النبى صلى الله عليه وسلم خمسة عشر ذراعا.
وأما سيرته رحمه الله فكان [الوزير جمال الدين محمد بن على] أسخى الناس وأكثرهم بذلا للمال، رحيما بالخلق متعطفا عليهم عادلا فيهم، فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف «1» بمنى وغرم عليه أموالا كثيرة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وأذهبها وعملها بالرخام. ولما أراد ذلك أرسل إلى المتقى لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كبيرة، وخلعا ثنية، منها عمامة شراها بثلثماية دينار، حتى مكنه من ذلك. وعمر أيضا المسجد الذى على جبل عرفات، والدرج الذى يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة فى صعودهم. وعمل بعرفات أيضا مصانع للماء، وأجرى الماء إليها عن نعمان فى طرق معمولة تحت الأرض. وأخرج على ذلك مالا كثيرا وكان يجرى الماء فى المصانع فى كل سنة أيام الحج. وبنى سورا على مدينة النبى صلى الله عليه وسلم. وعلى فيد.
وكان يخرج على باب داره فى كل يوم للصعالك والفقراء ماية دينار أميرى؛ هذا سوى الإدرارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوت. ومن أبنيته العجيبة التى لم ير الناس مثلها الجسر الذى(27/176)
بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلز فقبض قبل أن تكمل عمارته وبنى أيضا جسرا كذلك على النهر المعروف بالأرفاد، وبنى الربط. وقصده الناس من أقطار الأرض. وكانت صدقاته وصلاته من أقاصى خراسان إلى حدود اليمن، وكان يشترى الأسرى فى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشترى من الكرج.
وقال ابن الأثير: أيضا حكى لى والدى عنه قال كثيرا ما كنت أرى جمال الدين إذا قدم إليه الطعام يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه فى خبز بين يديه. فكنت أنا ومن يراه نظن أنه يحمله إلى أم ولده على. فاتفق أنه فى بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى دارى لتدخل الحمام، فبقيت فى الدار أياما. فبينما أنا عنده فى الخيام، وقد أكل الطعام فعل كما كان يفعل. ثم تفرق الناس فقمت فقال:
«اقعد» فقعدت. فلما خلا المكان قال لى: «قد آثرتك اليوم على نفسى، فإننى فى الخيام ما يمكننى أن أفعل ما كنت أفعله. خذ هذا الخبر واحمله أنت فى كمك فى هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت فى طريقك فقيرا يقع فى نفسك أنه مستحق، فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام» قال: ففعلت ذلك، وكان معى جمع كثير ففرقتهم فى الطريق لئلا يرونى أفعل ذلك، وبقيت فى غلمانى، فرأيت فى موضع إنسانا أعمى وعنده أولاد له وزوجته، وهم من الفقر على حال شديد، فنزلت عن دابتى إليهم وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه. وقلت للرجل تجيىء غدا بكرة إلى دار فلان، أعنى دارى- ولم أعرفه نفسى- فإننى آخذ لك(27/177)
من صدقة جمال الدين شيئا. ثم ركبت إليه العصر، فلما رآنى قال: «ما الذى فعلت فى الذى قلت لك» فأخذت أذكر له شيئا يتعلق بدولتهم فقال: «ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الطعام الذى سلمته إليك» فذكرت له الحال ففرح، ثم قال: «بقى أنك قلت للرجل يجىء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير وتجرى لهم كل شهر دنانير» قال: فقلت له: «قد قلت للرجل يجى إلى» فازداد فرحا وفعل للرجل ما قال. ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض.
قال: وله من هذا كثير. فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه فى بعض السنين التى تعذرت فيها الأقوات.
ولما وقفت على ترجمته لهجت بالترحم عليه، وقرأت ختمة شريفة فى شهر رمضان سنة أربع عشرة وسبعماية وسألت الله تعالى أن يسطر ثوابها فى صحيفة حسناته، وقررت ذلك على نفسى فى كل سنة فى شهر رمضان وأرجو أن لا أقطعها ما لم أنس ذلك، رحمه الله تعالى.
ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين
وفى سنة ثلاث وستين وخمسماية فارق زين الدين على بن بكتكين النايب عن قطب الدين خدمته، وسار إلى أربل. وكان هو الحاكم فى الدولة وأكثر البلاد بيده، ومنها أربل وبها أهله وأولاده وخزانته، وشهرزور وجميع القلاع التى معها، وجميع بلاد الهكارية وبلد الحمدية، وتكريت وسنجار، وحران، وقلعة الموصل هو بها. وكان قد أصابه طرش ثم عمى، فما عزم على(27/178)
مفارقة الموصل إلى بيته بأربل، سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين، وبقى معه أربل خاصة. وكان شجاعا عاقلا حسن السيرة سليم القلب ميمون النقيبة، ما انهزم من حرب قط. وكان كريما كثير العطاء للجند وغيرهم، فمن عطاياه أن الحيص بيص الشاعر قد امتدحه بقصيدة، فلما أراد إنشادها قال له: «أنا لا أعرف ما تقول ولكنى أعلم ما تريد» وأمر له بخمسمائة دينار وخلعة وفرس فكان مجموع ذلك بألف دينار. ولم يزل بأربل إلى أن مات بها فى هذه السنة.
ولما فارق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد المسيح وحكمه فى البلاد، فعمر القلعة وكانت خرابا لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة. وسار عبد المسيح سيرة شديدة وسياسة عظيمة وكان خصيا أبيض من مماليك أتابك زنكى.
ذكر وفاة قطب الدين مودود وملك ولده سيف الدين غازى
كانت وفاة قطب الدين مودود بن زنكى بالموصل فى ذى الحجة سنة خمس وستين وخمسماية، وقيل فى شوال منها. وكان مرضا حمى حادة فكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورا. وكان من أحسن الملوك سيرة، وأعفهم عن أموال الرعية، كثير الإنعام والإحسان إليهم، محبوبا إلى كبيرهم، وصغيرهم عطوفا على شريفهم ووضيعهم، كريم الأخلاق. ولما مات رحمه الله تعالى ملك بعده ولده سيف الدين غازى.(27/179)
ذكر أخبار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى
ملك الموصل وما كان بيد والده قطب الدين بعد وفاته فى ذى الحجة أو شوال سنة خمس وستين وخمسماية؛ بوصية من أبيه. وكان والده قد أوصى بالملك بعده لولده الأكبر عماد الدين زنكى، فعرف عبد المسيح رأيه عنه. فلما كان فى اليوم الثانى استخلف سيف الدين غازى، فاستقر فى الملك بعد وفاة أبيه، واستولى عبد المسيح على المملكة. ولم يكن لغازى معه غير الاسم، فاتصل ذلك بنور الدين محمود، فأزعجه وأنف منه وكبر لديه، فسار إلى الموصل سنة ست وستين ودخلها من غير قتال. وكان الجند والعوام قد كاتبوه فى تسليم البلد إليه. فلما علم بذلك عبد المسيح كاتبه أيضا وسأله الأمان، فأمنه وقال: «لا سبيل أن يكون بالموصل» ؛ ونقله إلى الشام ودخل نور الدين الموصل فى ثالث عشر جمادى الأولى.، وأقر سيف الدين غازى على الموصل، وولى القلعة خادما يقال له سعد الدين كمشتكين، وجعله دزدارا ثم عاد إلى الشام رحمه الله.
ذكر ملك سيف الدين غارى البلاد الجزيرية
كان سبب ذلك أن عمه الملك العادل نور الدين قد استدعاه بعساكر الموصل وديار الجزيرة وغيرها لقصد الغزاة فسار سيف الدين غازى وجعل على مقدمته سعد الدين كمشتكين. فلما كانوا ببعض(27/180)
الطريق، وافاهم الخبر بوفاة نور الدين، فهرب سعد الدين جريدة، واستولى غازى على بركه وثقله وموجوده. وعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور، واستولى عليه وأقطعه. وسار إلى حران فحصرها عدة أيام، وبها قايماز الحرانى مملوك نور الدين، فأطاعه بعد امتناع على أن تكون حران له. فلما نزل إليه، قبض عليه سيف الدين غازى، وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وبها خادم خصى أسود لنور الدين، فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر، فأعطيها ثم أخذت منه، ثم انتهى حاله إلى أن استعطى ما يقوم به.
وسير سيف الدين إلى الرقة، فملكها وملك سروج وجميع بلاد الجزيرة، إلا قلعة جعبر لحصانتها، ورأس عين لأنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين. وعاد عبد المسيح إلى خدمة سيف الدين من سيواس، وحسن لسيف الدين العبور إلى الشام ليملكه، فأشار عليه عز الدين محمود- وهو من أكابر الأمراء- أن يقتصر على ما بيده، فرجع إليه وعاد إلى الموصل، وذلك فى سنة تسع وستين وخمسماية
ذكر حصره أخاه زنكى بسنجار
وفى سنة سبعين وخمسماية فى شهر رمضان حصر سيف الدين غازى أخاه عماد الدين زنكى بسنجار. وكان سبب ذلك أن الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين كتب إلى [ابن عمه] سيف الدين(27/181)
[غازى] «1» يستحثه على الوصول إليه ليدفع الملك الناصر صلاح الدين يوسف عن حلب، فجمع سيف الدين غازى العساكر، وكاتب [أخاه] عماد الدين فى اللحاق به. وكان صلاح الدين قد كاتبه وأطمعه فى الملك، فامتنع عماد الدين بسبب ذلك. فجهز سيف الدين العساكر مع أخيه عز الدين مسعود إلى الشام. وتوجه هو [سيف الدين] لحصار أخيه بسنجار، فحصرها، وبينما هو كذلك، إذ أتاه الخبر بانهزام أخيه مسعود من صلاح الدين، فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده، ورحل إلى الموصل. ثم كان بين سيف الدين وبين الملك الناصر [صلاح الدين] ما نذكره فى أخبار الملك الناصر من هزيمة غازى فى سنة إحدى وسبعين.
ورجع [سيف الدين] إلى الموصل. وعزل عز الدين زلفندار «2» استعمل مكانه فى إمارة الجيش مجاهد الدين قايماز.
وفى سنة اثنتين وسبعين وخمسماية عصى شهاب الدين محمد بن مروان «3» صاحب شهرزور على سيف الدين غازى وكان قبل ذلك فى طاعته، فراسله فى معاودة الطاعة. فعاد وحضر إلى الخدمة(27/182)
ذكر وفاة سيف الدين غازى
كانت وفاته فى ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسماية وكان مرضه السل، فطال به، ثم أدركه سرنيام «1» فمات، وعمره نحوا من ثلاثين سنة، وكانت مدة ولايته عشر سنين وشهورا وكان حسن الصورة تام القامة أبيض اللون. وكان عاقلا وقورا قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس ولم يذكر عنه فى نفسه ما ينافى العفاف. وكان شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدام الصغار فإذا كبر أحدهم منعه. وكان لا يحب سفك الدماء ولا أخذ الأموال على شحه وجبنه.
ولما اشتد مرضه أوصى بالملك لولده معز الدين سنجرشاه، وكان عمره حينئذ اثنتى عشرة «2» سنة، فخاف على الدولة من ذلك، لتمكن صلاح الدين يوسف بالشام، وامتنع عز الدين مسعود من الموافقة والأيمان. فأشار الأمراء أن يكون الملك بعده لعز الدين مسعود أخيه. ففعل، وجعل لولده سنجرشاه جزيرة ابن عمر وقلاعها، وجعل قلعة الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك «3»(27/183)
ذكر ملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى
ملك الموصل بعد وفاة أخيه سيف الدين غازى فى ثالث صفر سنة ست وسبعين وخمسماية، وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايماز. وفى سنة سبع وسبعين كانت وفاة الملك الصالح اسماعيل، وأوصى بحلب لعز الدين مسعود كما ذكرناه فى أخباره. فكاتبه الأمراء بذلك واستدعوه لتسليمها. فسار إليها ومعه مجاهد الدين قايماز، فدخلها فى العشرين من شعبان منها وأقام بحلب عدة شهور ثم سار إلى الرقة.
ذكر تسليم حلب الى عماد الدين زنكى وأخذ سنجار عوضا عنها
قال: ولما فارق عز الدين مسعود حلب ووصل إلى الرقة، جاءته رسل أخيه عماد الدين زنكى صاحب سنجار يطلب منه أن يسلم إليه مدينة حلب ويأخذ سنجار، فلم يجب إلى ذلك، فراسله مرة أخرى وألح فى طلبها، وقال متى لم تسلم إلى حلب وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين، فأشار [الأمراء] «1» بتسليمها إليه فسلمها له، وتسلم سنجار، وعاد إلى الموصل.(27/184)
ذكر القبض على مجاهد الدين قايماز
وفى جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وخمسمائة قبض عز الدين مسعود على نائبه مجاهد الدين قايماز. ولما قصد القبض عليه لم يقدم عليه مفاجأة لقوة مجاهد الدين، فأظهر المرض وانقطع عن الركوب فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان خصيصا به لا يمنع من الدخول على النساء. فقبض عليه وركب لوقته إلى القلعة. واحتوى على أموال وقايماز وخزائنه، وولى زلفندار قلعة الموصل وجعل شرف الدين أحمد بن أبى الخير- وهو ابن أمير حاجب العراق- أمير حاجب، وحكمه فى دولته. وكانت أربل وأعمالها تحت حكم مجاهد الدين، ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين على، وهو صبى صغير.
وتحت حكمه أيضا جزيرة ابن عمر وهى لمعز الدين سنجرشاه ابن سيف الدين غازى، وهو صبى أيضا؛ وبيده شهرزور وأعمالها ونوابه بها، ودقوقا، وقلعة عقر الحميدية ونائبه بها. ولم يكن مع عز الدين إلا الموصل خاصة وقلعتها لمجاهد الدين «1» . فلما قبض امتنع صاحب أربل عن الطاعة، واستبد صاحب الجزيرة وأرسل الخليفة من حصر دقوقا وأخذها، ولم يحصل لعز الدين غير شهرزور والعقر، وصارت أربل والجزيرة أضر شىء عليه وأرسل صاحب أربل إلى الملك الناصر صلاح الدين بالطاعة له، وقوى طمع الملك الناصر فى الموصل لما قبض على مجاهد الدين، فلما(27/185)
رأى عز الدين ما حصل من الضرر والفساد بسبب قبض مجاهد الدين، قبض على شرف الدين أحمد الحاجب وزلفندار، عقوبة لهما كونهما حسنا له القبض على قايماز.
ذكر اطلاق مجاهد الدين قايماز وما كان من العجم وانهزامهم
قال: وفى المحرم سنة ثمانين وخمسماية أطلق عز الدين مسعود مجاهد الدين قايماز، وذلك بشفاعة شمس الدين بن البهلوان صاحب همذان وبلاد الجبل. ولما أطلقه سيره إلى ابن البهلوان وإلى أخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين. فبدأ فى مسيره بقزل وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضى إلى شمس الدين، وقال:
«مهما يختار أنا أفعله» وجهز معه ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو أربل ليحصروها. فلما قاربوها أفسدوا فى البلاد وخربوها، وسبوا وأخذوا النساء قهرا، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم.
وسار إليهم زين الدين يوسف صاحب أربل فى عسكره، فلقيهم وهم قد تفرقوا للنهب، فانتهز الفرصة وقاتل من لقى منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على العجم، وغنم الإربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، وكان يقول: مازلنا ننتظر العقوبة من الله عز وجل على سوء فعل العجم» .(27/186)
ذكر وفاة عز الدين مسعود
كانت وفاته فى التاسع والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ودفن بالمدرسة التى أنشأها بالموصل مقابل دار المملكة وبقى فى مرضه ما يزيد على عشرة أيام لا ينطق إلا بالشهادتين وتلاوة القرآن والاستغفار. وكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وسبعة أشهر إلا أياما. وكان خيّر الطبع كثير الخير والإحسان وزيارة الصلحاء وبرهم. وكان حليما قليل المعاقبة كثير الحياء لا يكلم جلساءه إلا وهو مطرق. وما قال فى شيئ سئله «لا» ولبس خرفه التصوف «1» بمكة، وكان يلبسها فى كل ليلة، ويخرج إلى مسجد بناه فى داره فيصلى فيه نحو ثلث الليل، رحمه الله.
وملك بعده ولده نور الدين أرسلان شاه بن مسعود، وقام بتدبير دولته فى ابتدائها مجاهد الدين قايماز مدبر دولة والده، واستمر نور الدين أرسلان شاه فى الملك إلى سنة سبع وستماية، فتوفى فى أوائل شهر ربيع منها، ودفن فى مدرسته التى أنشأها مقابل داره بالموصل. وكانت علته قد طالت، وكانت مدة ملكه سبع عشرة «2» سنة وأحد عشر شهرا. وكان بينه وبين الملك(27/187)
العادل بن أيوب مخالفة، ثم اتفاق ومصاهرة. وكان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه مانعا من تعدى بعضهم على بعض.
ولما مات ملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى. وكان والده قد حلّف له العساكر وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكى قلعة عقر الحميدية»
وقلعة سوس وأمر أن يتولى تدبير دولة القاهر فتاه بدر الدين لؤلؤ، فقام بتدبير الدولة والنظر فى مصالحهما. واستمر الملك القاهر فى الملك إلى سنة خمس عشرة وستماية، فتوفى فى ليلة الأثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول منها، فكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر. وكان كريما قليل الطمع فى أموال رعيته مقبلا على أمرائه. وملك بعده ولده نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه ملك الموصل، بوصية من أبيه. وكان عمره يوم ذاك عشر سنين. وجعل الوصى عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ فقام أحسن قيام وراسل الملوك أصحاب الأطراف المجاورين له، وطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التى كانت اتفقت بينهم وبين أبيه، فوافقوه. وكتب إلى الديوان العزيز، فجاءته الخلع والتقليد من الخليفة بولاية نور الدين. ونظر بدر الدين فى أمور الدولة فلم يلبث نور الدين إلى أن توفى فى هذه السنة.(27/188)
ولما مات استحلف بدر الدين لؤلؤ العساكر لأخيه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه، وله من العمر ثلاث سنين. واستمر بدر الدين لؤلؤ فى تدبير الدولة، فتجدد طمع عز الدين زنكى بن مسعود ومظفر الدين عمّيه فى ملك الموصل لصغر سنة، فجمعا الرجال وتجهزا للحركة، وقصدا أطراف الموصل بالنهب والفساد، فخرج إليهم بدر الدين لؤلؤ بعساكر الموصل، والتقوا، فكانت الهزيمة على العسكر البدرى، وعاد إلى الموصل وتبعه مظفر الدين، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك واستقر كل واحد على ما بيده. ثم ملك عماد الدين قلعة كواشى «1» وهى من أحسن قلاع الموصل.
ثم مات ناصر الدين محمود بعد مدة يسيرة، واستقر بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل، وتلقب بالملك الرحيم ودامت أيامه إلى أن توفى فى سنة سبع وخمسين وستماية، فكانت مدة ملكه نحو أربعين سنة، وملك بعده أولاده، فكان الذى استقل بملك الموصل من أولاده الملك الصالح ركن الدين إسمعيل، قتله التتار فى سنة تسع وخمسين وستماية، وملك ولده الملك المجاهد سيف الدين إسحاق بلاد الجزيرة؛ وملك الملك المظفر علاء الدين على سنجار. ولما استولى التتار على هذه الممالك وصل هؤلاء إلى الديار المصرية المحروسة فى أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وجهزهم صحبة فى أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وجهزهم صحبة الخليفة المستنصر بالله؛ فكان من أمره وأمرهم ما ذكرناه ونذكره(27/189)
إن شاء الله تعالى؛ فلنرجع إلى ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن مودود.
ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن اقسنقر
إستقر ملكه بسنجار بعد وفاة أبيه واستقلال أخويه سيف الدين غازى ثم عز الدين مسعود بملك الموصل، ثم تعوض عماد الدين بحلب عن سنجار كما قدمنا ذكره فى أخبار عز الدين مسعود.
ثم أخذ الملك الناصر يوسف منه حلب، وعوضه عنها بسنجار وربض الخابور والرقة، على ما نبينه إن شاء الله فى أخبار الملك الناصر فاستقر ملكه أخيرا بسنجار وما معها فى سنة تسع وسبعين وخمسماية ولم يزل بها إلى أن توفى فى المحرم سنة أربع وتسعين وخمسماية وكان عادلا حسن السيرة فى رعيته عفيفا عن أموالهم، كثير التواضع، يحب أهل العلم والدين، ويجلس معهم، ويرجع إلى آرئهم إلا أنه كان شديد البخل.
ولما مات ملك بعده ولده قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكى.
وتولى تدبير دولته مجاهد الدين برنقش مملوك أبيه، وكان دينا خيرا عادلا حسن السيرة. واستمر ملك قطب الدين بسنجار إلى سنة ست عشرة وستماية، فتوفى فى ثامن صفر منها. وكان كريما حسن السيرة فى رعيته كثير الإحسان إليهم. وكان قد سلم الأمور إلى نوابه.(27/190)
ولما مات ملك بعده ابنه عماد الدين شاهان شاه بن محمد.
ولما ملك سار بعد شهور إلى تلعفر «1» ، وهى فى مملكته فدخل عليه أخوه عمر بن محمد فى جماعة فقتلوه.
وملك عمر بن محمد- وهو فروخ شاه- فبقى بسنجار إلى أن أخذها الملك الأشرف فى سنة سبع عشرة وستماية، وعوضه عنها الرقة. وهو آخر من ملك سنجار من البيت الأتابكى، فكانت مدة ملكهم لها أربعا وتسعين سنة. وتوفى بعد أخذها منه بقليل.
فلنذكر أخبار أولاد غازى.
ذكر أخبار معز الدين سنجرشاه ابن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى
ملك جزيرة ابن عمر بعد وفاة والده فى صفر سنة ست وسبعين وخمسماية. وكان كثير الأذى لعمه عز الدين مسعود، فحاصره مسعود فى سنة سبع وثمانين أربعة أشهر، واستقرت القاعدة بينهما على أن يكون لكل منهما نصف أعمال الجزيرة، وتكون الجزيرة بيد سنجرشاه فى جملة النصف. ودام ملكه بالجزيرة إلى أن قتل.(27/191)
ذكر مقتله وملك ولده معز الدين محمود
كان قتله فى سنة خمس وستماية على يد ولده غازى. وسبب ذلك أن سنجرشاه كان سى السيرة فى رعيته وأولاده وجنده وغيرهم، فكان من جملة ما اعتمده مع أولاده أنه بعث ابنيه «1» محمودا وسودودا إلى قلعة فرح «2» من بلد الزوزان «3» وأخرج ابنه غازى إلى دار بالمدينة أسكنه بها ووكل به من يمنعه من التصرف وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية فكان يدخل إليها من البستان الحيات والعقارب وغير ذلك من الحشرات، فاصطاد غازى حية وسيرها إلى أبيه لعله يرق له ويعطف عليه، فلم يزده إلا تماديا وإصرارا. فعندها أيس من خيره وأعمل الحيلة حتى نزل من الدار، ووضع إنسانا كان يخدمه أظهر أنه غازى، وخرج من بلاد الجزيرة وقصد الموصل. فشاع الخبر أن غازى قد توجه إلى الموصل وهو مختلف بالجزيرة ما خرج منها، ثم أعمل الحيلة وتسلق فنزل إلى دار أبيه، فستر عليه سرارى والده لبغضهم فى أبيه. ثم اتفق أن والده شرب فى بعض الأيام وسكر ودخل الخلاء، فضربه ابنه غازى هذا بسكين فقتله، ثم ذبحه وتركه ملقى وقعد يلعب مع الجوارى.
.(27/192)
فخرج بعض الخدم الصغار إلى باب الدار وأعلم أستاذ الدار بالخبر فأحضر أعيان الدولة، وعرفهم الأمر وأغلق الأبواب على غازى واستحلف الناس لمحمود بن سنجرشاه ودخل على غازى فمانع عن نفسه ثم قتلوه ورمى على باب الدار، وأكلت الكلاب بعضه ودفن باقيه.
ووصل محمود إلى البلد وملك ولقب معز الدين لقب أبيه.
وغرّق الجوارى اللوائى اتفقن مع غازى على قتل أبيه فى دجلة. ثم قتل محمود أخاه مودودا بعد مدة يسيرة.
ثم استقرت هذه الممالك الجزيرية وغيرها فى يد بدر الدين لؤلؤ وهو الملقب بالملك الرحيم، وملك أولاده من بعده إلى أن استولى عليها التتار فى سنة سبع وخمسين وستماية. هذا ملخص ما وصل الينا من أخبار هذه الدولة فلنذكر ما عداها.(27/193)
الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الخوارزمية والدولة الجنكزخانية
الدولة الخوارزمية هى من أعظم الدول الإسلامية والدولة الجنكزخانية هى دولة التتار وإنما جمعناهما فى باب واحد لتعلق كل دولة منهما بالأخرى، ولأن الدولة الخوارزمية انقرضت عند قيام الجنكزخانية، وغلبة جنكزخان التمرجى على البلاد على ما نشرح ذلك إن شاء الله تعالى فى مواضعه.(27/195)
ذكر أخبار الدولة الخوارزمية وابتداء أمر ملوكها وظهورهم وما استولوا عليه من البلاد والأقاليم وما كان بينهم وبين الملوك من الحروب والوقائع
وهذه الدولة هى من جملة فروع الدولة السلجقية لأن أصل البيت الخوارزمى من مماليك أحد أمراء الدولة السلجقية، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ولنبدأ بذكر ابتداء أمر ملوكها. وأول من نبغ منهم وترشح للولايات وما وليه وكيف تنقلت بهم الحال إلى أن ملكوا أقاصى البلاد وأدانيها وما آل إليه أمرهم إلى حين انقراض دولتهم، فنقول:
أول من نبغ منهم خوارزم شاه محمد بن انوشتكين «1» ولى خوارزم من قبل أمير (داذ) «2» حبشى متولى خراسان فى شهر رجب سنة تسعين وأربعماية وأبوه انوشتكين مملوك الأمير تلكاتك «3» أحد أمراء السلجقية، إشتراه من رجل من غرشستان «4» . وكان(27/197)
حسن الطريقة كامل الأوصاف فكبر وعلا محله، وولد له محمد هذا، فانتشأ أحسن نشأة، وتعلم وتدرب، وتقدم بنفسه كما قيل:
نفس عصام سودت عصاما. ولحظته العناية الأزلية لظهور ما هو كامن فى الغيب.
وكان سبب ولايته خوارزم أنه لما ولى أمير داذ حبشى خراسان كان خوارزم شاه البلخى قد قتل «1» فنظر الأمير حبشى فيمن يوليه خوارزم، فوقع اختياره على محمد هذا، فولاه خوارزم، ولقبه خوارزم شاه على عادة ولاة خوارزم فقصر أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فازداد ذكره حسنا وظهر اسمه، وعلا محله فلما ملك السلطان سنجرشاه السلجقى خراسان أفر محمد على ولاية خوارزم وظهرت كفايته فعظم محله عند السلطان سنجر، واصطلى حرب الأتراك بنفسه، وهزمهم ودام فى ولاية خوارزم إلى أن توفى فى سنة [إحدى وعشرين وخمسمائة «2» وولى بعده ولده اتستز بن محمد.
ذكر أخبار خوارزم شاه اتسز بن محمد
ولى خوارزم من قبل السلطان سنجر بعد وفاة أبيه. وكان قد انتشأ فى حياة أبيه، وقاد الجيوش، وقصد بلاد الأعداء وقاتلهم(27/198)
وملك مدينة منقشلاغ «1» . فلما مات أبوه ولاه السلطان بعده، فأفاض العدل، وأمن البلاد، فأحبه السلطان سنجر وقربه وأدناه وعظمه واعتضد به، واستصحبه معه فى أسفاره وحروبه؛ فظهرت- كفايته فزاده تقدما وتقريبا. ولم يزل عنده فى هذه النزلة إلى أن فسد ما بينهما واقتتلوا على ما نذكره.
ذكر الحرب بين خوارزم شاه اتسز والسلطان سنجر السلجقى، واستيلاء سنجر على خوارزم، وما كان من أمر اتسز الى أن استقر الصلح بينه وبين السلطان سنجر
وكانت الحرب بينهما فى سنة ثلاث وثلاثين وخمسماية.
وسبب ذلك أن السلطان بلغه أن خوارزم شاه أتسز قد عزم على الخروج من طاعته والامتناع عليه، فقصد خوارزم بعساكره فلما قاربها جمع أتسز عساكره وخرج لقتاله. والتقوا، فلم يكن له قبل بعساكر سنجر لكثرتها، فانهزم هو ومن معه وقتل من أصحابه خلق كثير، وقتل له ولد، فوجد اتسز عليه وجدا عظيما.
ولما انهزم السلطان اتسز ملك سنجر خوارزم وأقطعها لابن أخيه سليمان شاه بن محمد على ما قدمناه فى أخبار الدولة السلجقية.
ثم عاد السلطان إلى مرو فجمع خوارزم شاه أصحابه ورجع إلى خوارزم فأعانه أهلها على ملكها، ففارقها سليمان شاه ومن معه، ورجع إلى(27/199)
عمه السلطان سنجر، واستحكمت العداوة بين السلطان سنجر وأتسز، وعلم أتسز أنه لا قبل له به، فكاتب ملك الخطا «1» بما وراء النهر، وحثه على المسير لقتال السلطان سنجر وأطمعه فى ملك بلاده. فسار ملك الخطا فى ثلثماية ألف فارس، وكان من انهزام سنجر، وملك الخطا ما وراء النهر ما قدمنا ذكره فى أخبار سنجر، وذلك فى سنة ست وثلاثين وخمسماية.
ولما تمت الهزيمة على سنجر استولى خوارزم شاه اتسز على البلاد وقصد خراسان فوصل إلى سرخس «2» فى شهر ربيع الأول من السنة ورحل منها إلى مرو الشاهجان «3» ، فنزل بظاهر البلد واستدعى الفقهاء والأعيان، فثار عامة مرو، وقتلوا بعض أصحاب خوارزم شاه وأخرجوهم من البلد، وأغلقوا أبوابه واستعدوا للامتناع، فقاتلهم، ودخل البلد فى سابع عشر الشهر، وقتل جماعة كثيرة من أعيان البلد، وعامتهم واستصحب جماعة من فقهائها معه، وسار فى شوال إلى نيسابور فخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء والزهاد، وسألوه أن لا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو. فأجابهم(27/200)
إلى ذلك، وأخذ أموال أصحاب السلطان جميعها، وقطع خطبة سنجر وخطب لنفسه، وسير جيشا إلى أعمال بيهق «1» فقاتلوا أهلها خمسة أيام ثم ساروا ينهبون البلاد.
واستمرت حال خوارزم شاه أتسز إلى سنة ثمان وثلاثين وخمسماية فجمع السلطان عساكره وسار إلى خوارزم، فتحصن أتسز بها، وجمع عساكره ولم يخرج من المدينة. وكان القتال يقع بينهما من وراء السور. ثم راسل السلطان فعفا عنه وبذل له الأموال، فأجابه إلى ذلك على قاعدة استقرت بينهما، وعاد سنجر إلى مرو واستقر خوارزم شاه بخوارزم، إلى أن مات وكانت وفاته فى تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسماية. وكان قد أصابه فالج فعالجه الأطباء منه فلم يبرأ فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير رأى الأطباء، فاشتد مرضه وضعفت قوته فمات.
ولهج عند موته بقوله تعالى: «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ»
«2» وكان حسن السيرة، كافا عن أموال رعيته، محبوبا إليهم.
ولما توفى ملك بعده أحد أولاده، فقتل نفرا من أعمامه وسمل أخا له، فمات بعد ثلاثة أيام، وقيل بل قتل نفسه. وملك بعده أيل «3» أرسلان بن اتسز بن محمد، وأرسل إلى السلطان سنجر، وبذل له الطاعة والانقياد لأمره. فكتب له منشورا بولاية خوارزم،(27/201)
وسير إليه الخلع فى شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسماية، وذلك بعد هرب سنجر من أمر الغزو، وعوده إلى مرو واستقرار ملكه. فأمن أيل أرسلان بهذه الولاية واستمر إلى سنة ثمان وستين وخمسماية فتوفى بعد عوده من قتال الخطا. ولما مات ملك بعده ولده السلطان شاه.
ذكر ملك سلطان شاه محمود بن ايل أرسلان ابن اتسز بن محمد، واخراجه من الملك، وملك أخيه علاء الدين تكش
لما مات ايل أرسلان ملك بعده ولده سلطان شاه محمود، ودبرت والدته المملكة والعساكر. وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما بجند «1» وكان والده أقطعها له، فأنف من تولية أخيه الصغير وتقديمه عليه، وقصد ملك الخطا بما وراء النهر، واستمده على أخيه، وأطمعه فى الأموال والذخاير، فجهز معه جيشا كثيفا. فلما قارب خوارزم، خرج منها سلطان شاه وأمه، وسارا إلى المؤيد صاحب نيسابور واستنجداه. ودخل علاء الدين تكش خوارزم وملكها بغير قتال.
ولما اجتمع السلطان شاه وأمه بالمؤيد أهديا له هدايا جليلة، وأطمعاه فى الذخائر والأموال، فجمع جيوشه وسار حتى بقى من(27/202)
خوارزم على عشرين فرسخا، فتقدم إليهم تكش بعساكره، فانهزم المؤيد، ثم أخذ أسيرا وجىء به إلى خوارزم شاه تكش، فقتل بين يديه صبرا. وهرب سلطان شاه إلى دهستان. «1» فقصده تكش، وافتتح المدينة عنوة، وهرب سلطان شاه منها، وأخذت أمه فقتلها تكش، وعاد إلى خوارزم وتوجه سلطان شاه إلى غياث الدين ملك الغز فأكرمه وعظمه.
قال: ولما ثبت قدم علاء الدين فى الملك ترادفت عليه رسل ملك الخطا بالتحكم فى بلاده، وطلب الأموال والمقترحات، لأنهم رأوا أنهم هم الذين ملكوه، فأنفت نفسه من ذلك، وداخلته حمية الإسلام والملك، فقتل أحد أقارب ملك الخطا، وأمر وجوه أهل خوارزم أن يقتل كل رجل منهم واحدا من الخطا ففعلوا. ونبذ عهد ملك الخطا. فبلغ ذلك سلطان شاه، فسار إلى ملك الخطا، واستنجده على أخيه وزعم أن أهل خوارزم معه، وأنه إذا وصل إليهم سلموا إليه البلد، فجهز معه جيشا كثيفا من الخطا، فسار بهم وحصر خوارزم، فأمر تكش بإجراء ماء جيحون عليهم، فكادوا يغرقون، فرحلوا عن البلد ولم يبلغوا منها غرضا، وندموا على قصدهم خوارزم.
ولم يزل سلطان شاه مشردا فى البلاد، تارة عند الخطا، وتارة عند غياث الدين، وكرة يغار بالخطا على مرو وسرخس إلى أن مات فى شهر رمضان سنة تسع وثمانين وخمسماية.(27/203)
ذكر ملك تكش مدينة بخارى من ملك الخطا
وفى سنة أربع وتسعين وخمسماية جهز ملك الخطا جيشا كثيفا لحصر خوارزم، فحصروها. فكان خوارزم شاه يخرج إليهم فى كل ليلة، ويقتل منهم خلقا كثيرا، حتى أتى على أكثرهم، فدخل من بقى منهم إلى بلادهم. ورحل تكش فى آثارهم، وقصد مدينة بخارى فنازلها، ففاتله أهلها مع الخطا، وانتهى حالهم فى نكايته أنهم أخذوا كلبا أعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا هذا خوارزم شاه وكان تكش أعور- وطافوا بالكلب على السور، ثم رموه بالمنجنيق، وقالوا للعسكر هذا ملككم. ثم ملك تكش البلد عنوة بعد أيام يسيرة وعفا عن أهله، وأحسن إليهم وفرق فيهم مالا كثيرا، وأقام بها مدة ثم عاد إلى خوارزم..
وفى سنة خمس وتسعين وخمسماية وصلت الخلع من جهة الخليفة إلى خوارزم شاه تكش ولولده قطب الدين محمد والتقليد بما بيده من البلاد، فلبسا الخلع، واشتغل تكش بقتال الملاحدة «1» فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان [كشاى] «2» وانتقل(27/204)
إلى حصار الموت. ثم عاد إلى خوارزم، وأمر ولده قطب الدين بحصار قلعة نرشيش «1» من حصون الملاحدة، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة وصالحوه على ماية ألف دينار، ففارقها وأجابهم إلى الصلح لما بلغه من مرض أبيه. ورحل عنها، وعاد إلى خوارزم فمات والده قبل وصوله إليه.
ذكر وفاة خوارزم شاه تكش
كانت وفاته فى العشرين من شهر رمضان سنة ست وتسعين وخمسماية بشهر ستانه «2» بين نيسابور وخوارزم. وكان قد سار من خوارزم لقصد خراسان وبه مرض الخوانيق، فاشتد مرضه ومات. ولما اشتد به المرض أرسل من معه إلى ولده قطب الدين يستدعونه، فوصل بعد وفاة أبيه، وتولى الملك، ولقب بلقب أبيه علاء الدين خوارزم شاه، وأمر بحمل أبيه إلى خوارزم، فحمل إليها ودفن فى تربة كان قد عملها فى المدرسة التى بناها، وكان عادلا سن السيرة وله معرفة وعلم. وكان حنفى المذهب ويعرف الأصول رحمه الله تعالى.(27/205)
ذكر أخبار السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد ابن علاء الدين تكش بن ألب أرسلان بن أتسز ابن محمد بن أنوشتكين
وهو الذى عظم من ملوك هذه الدولة شأنه، وكثرت جيوشه وأعوانه، وشاع بين الملوك ذكره، وعم الممالك نهيه وأمره، واجتمع فى ملكه ما افترق لغيره من الممالك، وتسهل لديه ما شسع على من سواه من المسالك، ودان لطاعته ملوك الأقطار، فتساوى عنده الآمر والمأمور، والمملوك والمالك.
قال شهاب الدين محمد بن أحمد بن على المنشى النسوى. «1»
فى تاريخه، أنه ضم إلى ما ورثه من أبيه من ملك خراسان وخوارزم والعراق ومازندران «2» ؛ وضم إلى هذه الواسطة كرمان ومكران وكيش وسجستان وبلاد الغور وغزنة وباميان «3» إلى ما يليها من الهند بأغوارها وأنجادها، والسيوف مهملة فى أغمادها، والعواتق(27/206)
معطلة فى نجادها، ملكها بالهيبة عفوا صفوا، وملك عن الخطاية «1» وغيرهم من ملوك الترك، وقروم «2» ما وراء النهر ما يقارب أربعماية مدينة. وخطب له على منابر فارس وأران «3» وأذربيجان إلى مايلى در بند شروان.
قال: واشتملت جريدة ديوان الجيش على ما يقارب أربعماية ألف فارس، فلما عظم شأنه وتمكن سلطانه تطاول إلى طلب ملك آل سلجوق والحكم ببغداد، وتكررت مراسلاته إلى الخليفة فلم يجب إلى ذلك، فاحتفل بهذا الأمر، فكان من جملة ذلك أن بطل النوب الخمس التى كانت تضرب على أبواب الملوك فى أوقات الصلوات الخمس على عادة من تقدمه «4» ، وجعلها إلى أولاد السلاطين يضربونها فى الأقاليم التى سماها لهم على أبواب دور السلطنة واختص هو بضرب نوبة الاسكندر ذى القرنين- وهى عند طلوع(27/207)
الشمس وعند غروبها- واستعمل بهذه النوبة سبعا «1» وعشرين دبدبة من الذهب ورصعها بأنواع الجواهر؛ وكذلك جمع ما يحتاج إليه من الآلات. ونص فى أول يوم اختاره لضربها على سبعة وعشرين ملكا من أكابر الملوك وأولاد السلاطين ليسمع بذلك. وكان منهم ابن طغرل السلجقى، وأولاد غياث الدين صاحب الغور وغزنة والهند، والملك علاء الدين صاحب باميان والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ «2» ، والملك سنجر صاحب بخارى، وأشباه هؤلاء وأعوزه لتمام سبعة وعشرين ملكا فكملهم بابن أخيه أدبزخان «3» ، ووزير الدولة نظام الملك ناصر الدين محمد بن صالح، فهؤلاء الذين ضربوها فى اليوم الذى اختير لضربها فشغله عن ملك بغداد حادثة التتار، وهى الداهية العظمى؛ على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وها نحن نذكر سياقه أخباره وابتداء سلطنته فنقول:
كان ابتداء ملكه بعد وفاة أبيه فى العشر الآخر من شهر رمضان سنة ست وتسعين وخمسماية. ولما ملك استدعى أخاه على شاه ابن تكش عن إصفهان، فسار إليه فنهب أهل إصفهان خزانته.
فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب خراسان والتقدم على جندها وسلم إليه نيسابور. قال وكان هندوخان ابن أخيه ملكشاه بن تكش، فخاف عمه محمد فهرب منه بعد أن نهب كثيرا من خزائن جده تكش عند وفاته، فإنه كان معه وسار إلى مرو وجمع جموعا كثيرة، فسير إليه(27/208)
عمه جيشا مقدمه جقر التركى، فهرب هندوخان عن خراسان، وسار إلى غياث الدين ملك غزنة يستنجده على عمه. فأكرمه وأحسن إليه وأقطعه أقطاعا، وأوعده النصرة، ودخل جقر مدينة مرو وبها والده هندوخان وأولاده، فأرسلهم، إلى خوارزم مكرمين، ثم راسل جقر غياث الدين صاحب غزنة فى الانضمام إليه ومفارقة الخوارزمية، فأطمعه ذلك فى البلاد، وجهز أخاه شهاب الدين لقصد خراسان، والاستيلاء على ما بها من بلاد خوارزم شاه. فسار فى جمادى الأولى سنة سبع وتسعين، وملك مرو وسلمها غياث الدين إلى هندوخان بن ملكشاه، وملك سرخس، وملك طوس، وملك نيسابور وبها على شاه أخو السلطان خوارزم شاه، فسلمه إلى أخيه شهاب الدين على ما قدمناه فى أخبار الدولة الغورية.
ذكر ملك خوارزم شاه وما كان الغورية قد ملكوه من بلاده
كان سبب ذلك أن شهاب الدين الغورى بعد أن ملك ما ملك من بلاد خوارزم شاه، توجه إلى الهند، بعد أن رتب فى كل بلد من نوابه من يحفظه ويقوم بمصالحه فلما توجه إلى الهند راسل خوارزم شاه غياث الدين وعاتبه، وقال فى جملة رسالته: إننى كنت أظن أنك تنصرنى على من يقصد التطرق إلى بلادى من ملوك الخطا وغيرهم، فحيث لم تفعل فلا أقل أن لا تؤذينى فى ملكى. وطلب منه إعادة ما أخذه من بلاده. وقال: ومتى لم تفعل انتصرت عليك بالخطا(27/209)
وغيرهم من الأتراك، إن عجزت عن استرجاع بلادى، إلى غير ذلك من الكلام فأخذ غياث الدين يغالطه فى الجواب ويكرر الرسائل، وهو ينتظر خروج شهاب الدين من الهند، فإن غياث الدين كان يعجز عن ملاقاته لما به من النقرس، فجمع علاء الدين العساكر وسار فى منتصف ذى الحجة سنة سبع وتسعين وتوجه إلى مرو، فلما قاربها هرب منها ابن أخيه هندوخان بن ملكشاه وتوجه إلى غياث الدين، وملكها خوارزم شاه، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين محمد الغورى صهر غياث الدين، وهو الذى كان يلقب ضياء الدين، فقاتله قتالا شديدا. وطال مقام خوارزم شاه، فراسله غير مرة فى تسليم البلد وهو لا يجيب، رجاء أن يصله المدد من غياث الدين فلما طال عليه الحصار وأيس من وصول الأمداد إليه، راسل فى طلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية، فأجابه إلى ذلك وتسلم البلد، وأحسن إلى علاء الدين ومن معه.
ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس وبها الأمير زنكى فحصره أربعين يوما، فضاقت الميرة على أهل البلد، فراسله زنكى أن يتأخر عن باب البلد ليفارقها هو ومن معه، واعتذر أنه لا يمكنه الاجتماع به لقرب نسبه من غياث الدين، فتأخر خوارزم شاه عن المدينة وأبعد. فخرج زنكى، وأخذ من الغلات والأقوات والأحطاب التى كانت فى العسكر ما يحتاج إليه، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان ضاق به الأمر، فندم خوارزم شاه على موافقته، ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من أمرائه يحاصرونه. فلما سار خوارزم شاه(27/210)
عن سرخس قصد نائب الغورية بالطالقان «1» أن يكبس العسكر الخوارزمى المحاصر لسرخس. وكتب بذلك إلى زنكى؛ فشعر الخوارزميون بذلك ففارقوا سرخس، فأدركهم نايب الطالقان، وأوقع بهم، وقتل أمير علمهم، وكسر كوساتهم «2» ، فانقطع صوتها عن العسكر، ولم يروا الأعلام، فانهزموا، ونال الغورية منهم منالا عظيما قتلا وأسرا.
فلما اتصل هذا الخبر بخوارزم شاه، عاد إلى خوارزم، وكتب إلى غياث الدين وراسله فى الصلح، فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسن بن محمد المرغنى، ومرغن من قرى العور، فقبض عليه خوارزم شاه، وكان أخوه عمر بن محمد المرغنى نائب الغورية بهراة. وسار خوارزم شاه إلى هراة بمكاتبة بعض أمرائها، فنمى خبر من كاتبه إلى المرغنى، فأمسكهم، وأقام خوارزم شاه يحاصر المدينة أربعين يوما، ثم رجع عنها لما بلغه عود شهاب الدين الغورى من الهند وذلك بعد مصالحة أميرها المرغنى على مال حمله إليه.
ولما عاد شهاب الدين من الهند بلغه ما فعله خوارزم شاه فى غيبته، وما ملكه من بلاد خراسان، فسار إلى خراسان، فانتهى إلى بلخ ثم إلى باميان وإلى مرو، عازما على حربه. فالتقت أوائل عسكريهما،(27/211)
فاقتتلوا قتالا شديدا، وتوجه خوارزم شاه شبه المنهزم، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فشتا «1» بها وهو على عزم المسير لمحاصرة خوارزم، فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فعاد إلى هراة وجلس للعزاء واستخلف بطوس محمد بن جريك «2» ، فجهز خوارزم شاه من عساكره من حصر طوس فجرى بينهم وبين النايب بها حروب كثيرة، آخرها أن النايب بها سأل الأمان لنفسه فأمنه منغور «3» التركى- وهو مقدم العسكر الخوارزمى- فلما خرج إلى العسكر قتلوه، وأخذوا ما معه، وملكوا طوس. واتصل هذا الخبر بشهاب الدين الغورى فعظم عليه، وترددت الرسائل بينه وبين خوارزم شاه، فلم يحصل بينهما اتفاق.
ثم قصد شهاب الدين غزو الهند على عادته، فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازى، وقلد الملك علاء الدين محمد بن على الغورى بمدينة فيروزكوه «4» وبلد الغور، وولاه حرب خراسان. وتوجه إلى الهند، فقصد خوارزم شاه مدينة هراة وحاصرها. وذلك فى شهر رجب سنة ستماية. واستمر إلى سلخ شعبان، وكثرت القتلى بين العسكرين، فراسل خوارزم شاه ألب غازى أن يخرج إليه ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه، فلم يجبه إلى ذلك ثم اتفق(27/212)
مرض ألب غازى، واشتد به فخاف أن يشتغل بمرضه، فيملك البلد فأجاب إلى ذلك، واستحلفه على الصلح، وأهدى له هدية جليلة، وخرج من البلد ليخدمه، فسقط إلى الأرض، فمات ولم بشعر به أحد. وارتحل خوارزم شاه إلى سرخس فأقام بها.
قال: ولما اتصل الخبر بشهاب الدين عاد من الهند، وقصد خوارزم، فراسله خوارزم شاه فى العود، وتهدده إن لم يعد بحرب هراة، ومنها إلى غزنة، فعاد عليه جوابه أن خوارزم تجمعنا. وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو، ونزل بظاهرها، فلما أتاه جواب شهاب الدين فرق عساكره وأحرق جميع ما معه من العلوفات ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم فسبقه إليها، وقطع الطريق التى تسلكها الغورية بإجراء المياه فيها، فتعذر على شهاب الدين سلوكها، وأقام فى إصلاحها أربعين يوما حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم. والتقى العسكران بسوقرا، ومعناه الماء الأسود، وجرى بينهم قتال شديد، كثرت فيه القتلى من الطائفتين، فأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم على الغورية، وهم حينئذ ملوك ما وراء النهر، فاستعدوا وساروا إلى بلاد الغورية، فبلغ شهاب الدين خبر مسيرهم، فعاد عن خوارزم.
وكان من أمره مع الخطا وقتالهم وهزيمته منهم ما قدمناه فى أخباره وذلك فى صفر سنة إحدى وستماية، فلا فائدة فى إعادته فى هذا الموضع. ولم تطل مدة شهاب الدين بعد ذلك فإنه فتل فى أوائل شعبان سنة اثنتين وستماية، فاستولى خوارزم شاه حينئذ على ما نذكره بخراسان وغيرها(27/213)
ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان
كان سبب ذلك أن شهاب الدين الغورى لما قتل كما ذكرنا استقر الملك بعده لغياث الدين بن غياث الدين أخيه ووقع من الاختلاف بين الغورية وافتراقهم ما ذكرناه فى أخبارهم، واتفق أن الحسين بن [خرميل] «1» والى هراة كاتب خوارزم شاه فى الانتماء إليه والخروج عن طاعة الغورية. وشرع يغالط فى الخطبة بهراة لغياث الدين وهو ينتظر وصول العسكر الخوارزمى إليه، فراسله غياث الدين، فى الخطبة له، وجهز إليه الخلع فلبسها ابن خرميل وأصحابه ووعد بالخطبة له فى يوم الجمعة. فلما كان فى يوم الجمعة قرب العسكر الخوارزمى من هراة فطالبه رسل غياث الدين بالخطبة، فقال نحن فى أشغل من ذلك بقرب هذا العدو.
ولما وصل العسكر الخوارزمى تلقاهم ابن خرميل وأنزلهم بظاهر هراة، وجهز إليهم الإقامات، فقالوا قد رسم لنا خوارزم شاه أن نطيعك ولا نخالف أمرك، فشكرهم على ذلك. ثم بلغه أن خوارزم شاه نزل على بلخ وحاصرها، وأن صاحبها قاتله بظاهر البلد، وأنه نزل على أربعة فراسخ منها، فاستدل ابن خرميل بذلك على عجزه.
وندم على مراسلته، وقال للعسكر إن خوارزم شاه قد صالح غياث الدين والمصلحة أن ترجعوا، فرجعوا. واتفق أن غياث الدين(27/214)
بلغه ما فعله ابن خرميل، فاحتاط على إقطاعه وقبض على من يلوذ به، فوصل الخبر إليه بذلك فأعاد العسكر الخوارزمى بعد رحيله بيومين وسلم لهم البلد، وأخرج من كان بها من العورية، ومن يميل إليهم، ثم ملك خوارزم شاه مدينة بلخ فى سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستماية صلحا، بعد حروب كثيرة بينه وبين عماد الدين. وخلع خوارزم شاه عليه، وأقره بالبلد ثم سار عنها إلى جرزبان «1» ، وبها على بن أبى على، فراسله وآيسه من نجدة غياث الدين، فنزل عنها وسلمها له، وتوجه إلى غياث الدين وسلّم خوارزم شاه جرزبان إلى ابن خرميل فإنها كانت أقطاعه، ثم قبض على عماد الدين صاحب بلخ وسيره إلى خوارزم، واستناب ببلخ جقر التركى.
ذكر ملكه ترمذ وتسليمها للخطا
قال: ثم سار خوارزم شاه من مدينة بلخ إلى ترمذ مجدا، وبها ولد عماد الدين صاحب بلخ، فراسله فى تسليمها، ووعده الخير، واعتذر من إرسال أبيه إلى خوارزم أنه أنكر منه حاله، وأنه سيره مكرما، فرأى ابن عماد الدين أن خوارزم شاه قد حاصره من جانب والخطا حاصروه من جانب، فضعفت نفسه وسلم البلد، بعد أن استحلف خوارزم شاه على الوفاء له. ولما تسلم خوارزم شاه البلد، سلمها للخطا خديعة منه ليتمكن من ملك خراسان.(27/215)
وفى سنة اثنتين وستماية، سار من عسكر خوارزم شاه عشرة آلاف فارس إلى بلد الجبل، فوصلوا أرزنكان، وكان صاحبها أيتغمش قد اشتغل بحرب صاحب أريل ومراغه، فاغتنموا خلو البلاد وأفسدوا وقتلوا ونهبوا، ثم عاد أيتغمش فاوقع بهم، فانهزم الخوارزميون، وأخذهم السيف من كل جانب.
ذكر ملكه الطالقان
قال: ولما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار إلى [اندخوى] «1» وكان النايب بها عن غياث الدين سونج أمير شكار، فاستماله خوارزم شاه، فأبى إلا القتال، وبرز لقتاله فالتقوا بالقرب من الطالقان. فلما تقابل العسكران حمل سونج بمفرده حتى قارب عسكر خوارزم شاه، وألقى نفسه إلى الأرض، ورمى سلاحه، وقبل الأرض، وسأل العفو عنه. فذمه خوارزم شاه وسبه، وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب، وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول، وأراد بذلك التقرب إليه وملاطفته. واستناب بالطالقان بعض أصحابه، ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا.
قال: وتوجه ابن خرميل نائب خوارزم شاه بهراة إلى اسفزار «2» فى صفر سنة ثلاث وستماية. وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين(27/216)
فحصرها وتسلمها فى شهر ربيع الأول من السنة بالأمان. ولما أخذها أرسل إلى صاحب سجستان يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه، والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك وخطب له.
ذكر أسر خوارزم شاه وخلاصه
وفى سنة أربع وستماية عبر السلطان علاء الدين خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا. وسبب ذلك أنهم كانت قد طالت مدتهم ببلاد تركستان وما وراء النهر، وثقلت وطأتهم على الناس. وكان لهم فى كل مدينة نائب يجبى لهم الأموال وهم يسكنون الخركاهات «1» على عادتهم قبل الملك. وكان مقامهم بنواحى أوزكند «2» وبلاساغون «3» وكاشغر «4» . فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى ويلقب قان قانان ومعناه سلطان السلاطين، وهو من أولاد الملوك الخانية عريق فى الإسلام والملك، أنف من تحكم الكفار الخطا على المسلمين، فأرسل إلى خوارزم شاه يحثه على قصد الخطا وقتالهم، وأنه يكون معه عليهم، ويحمل إليه ما يحمله إليهم، ويخطب له ببلاده،(27/217)
ويضرب السكة باسمه، وحلف له على ذلك، وسير إليه أكابر بخارى وسمرقند. فاستوثق خوارزم شاه منه وأخذ فى إصلاح بلاده وتقرير النواب بها، وصالح غياث الدين محمود الغورى على ما بيده ثم جمع العساكر وسار إلى خوارزم، وتجهز منها وعبر جيحون.
واجتمع بسلطان سمرقند، فاجتمع الخطا، وجاء إليه. وكان بينهم حروب كثيرة تارة له وتارة عليه، ودامت على ذلك مدة، فاقتتلوا فى بعض الأيام فانهزم عسكره، وقتل منهم وأسر جماعة، فكان من أسر خوارزم شاه، أسر هو وابن شهاب الدين مسعود وهو من أكابر أمرائه، أسرهما رجل واحد. ووصلت العساكر الخوارزمية إلى خوارزم وقد فقدوا السلطان فاتصل الخبر بكزلك «1» خان والى نيسابور وكان إذ ذاك يحاصر هراه بعد قتل ابن خرميل على ما نذكره، ففارق هراه وتوجه إلى نيسابور وكان خوارزم شاه لما ملكها من الغورية خرب سورها فشرع فى إصلاحه وشحنها بالجند واستكثر من الميرة وعزم على الاستيلاء على خراسان، إن صح له فقد السلطان. واتصل خبر خوارزم شاه بأخيه على شاه وهو بطبرستان فدعا لنفسه وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة.
هذا ما كان من أولئك، وأما خوارزم شاه فأنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود: «المصلحة أن تصير خادما لى فى هذه المدة لأتحيل فى خلاصك» فصار خوارزم شاه يخدمه، ويقف بين.(27/218)
يديه، ويلبسه قماشه، ويطويه إذا قلعه، ويقدم له الطعام، ويعامله معاملة الغلمان. فقال الذى أسرهما لابن مسعود: «أرى هذا يخدمك» فقال: «هو غلامى» قال: «فمن أنت» قال: «أنا فلان» فأكرمه الخطاى وعظمه وقال له: «لولا أن القوم قد عرفوا بمكانك عندى أطلقتك» فشكره ابن مسعود وأعقله أياما وقال له: «إنى أخاف أن يرجع المنهزمون فلا يرانى أهلى معهم، فيظنون إننى قتلت، فيقتسمون مالى فأهلك، وأحب أن تقرر علىّ ما تريد من المال، أحمله إليك، فقرر عليه مالا وقال: «أريد أن تأمر رجلا عاقلا من أصحابك يذهب بكتابى إلى أهلى، ويخبرهم بعافيتى، ويحضر معه المال» ثم قال:
إن أصحابك لا يعرفون أهلنا، وهذا غلامى أنا أثق به، ويصدقه أهلى بسلامتى. فأذن الخطاى فى إرساله، فجهزه وأرسل معه عدة من الفرسان يحمونه، فسار حتى قارب خوارزم، وعاد الفرسان ووصل خوارزم شاه إلى خراسان، فاستبشروا به وضربت البشائر وبلغه ما فعله أخوه بطبرستان وكذلك خان بنيسابور. فأما كزلك خان فإنه لما بلغه وصوله أخذ أمواله وأهله وأصحابه وهرب صوب العراق؛ وأما على شاه فهرب إلى غياث الدين الغورى فأكرمه. ودخل خوارزم شاه إلى نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائبا وأما ابن مسعود فإن الخطاى قال له: «قد عدم خوارزم شاه فهل عندك شىء من خبره» قال: «هو أسيرك» قال: فلم لا أعلمتنى به حتى كنت أبالغ فى خدمته وأسير بين يديه إلى ملكه؟» قال: خفت عليه منك. فسار الخطائى وابن مسعود إلى خوارزم شاه فأكرمهما إكراما كثيرا وبالغ فى الإحسان إليهما.(27/219)
ذكر قتل الحسين بن خرميل وحصرهراه وملك فيروزكوه والفور
كان سبب ذلك أن خوارزم شاه لما سار إلى بلاد الخطا ساءت سيرة من بهراة «1» من العسكر الخوارزمى، وتعدوا على الرعية.
فقبض ابن خرميل النايب بهراة عليهم وحبسهم. وكتب بذلك إلى خوارزم شاه، فعظم ذلك عليه، وما أمكنه الإنكار عليه لبعده عن البلاد، فكتب إليه يستصوب رأيه فيهم، ويأمره بإنقاذه، إليه لاحتياجه إلى الجند. وقال: «قد أمرت عز الدين جلدك بن طغرل أن يكون عندك لعقله وحسن سيرته، وأرسل إلى جلدك أن يحتال وفى القبض على ابن خرميل» فسار جلدك فى ألفى فارس إلى هراه، فخرج إليه ابن خرميل، فنهاه الوزير المعروف بخواجا الصاحب، كان قد حنكته التجارب، وقال: «أخشى عليك أن تكون مكيدة» فخالفه وخرج للقاء جلدك، فلما التقيا ترجلا للسلام؛ فحال جلدك بين ابن خرميل وأصحابه وأمسكه، فانهزم أصحابه ودخلوا مدينة هراة، وأعلموا الصاحب بذلك، فأغلق الأبواب وامتنع على جلدك، فقدم ابن خرميل إلى السور، وخاطب الوزير فى فتح الباب، فامتنع وأظهر شعار غياث الدين الغورى، فعندها قتل جلدك ابن خرميل، وكتب إلى خوارزم شاه يعلمه بذلك، فأنفذ خوارزم شاه إلى كزلك خان والى نيسابور، وإلى أمير الدين صاحب زوزن «2» يأمرهما(27/220)
بالمسيرة إلى هراة وحصارها، فسارا فى عشرة آلاف فارس، فعجزا عنها وقال الوزير: «ما أسلمها إلا لخوارزم شاه، إذ أعاد هذا كله قبل أسر خوارزم شاه» . فلما أسر وشاع عدمه فارقها كزلك خان إلى نيسابور كما ذكرنا، واستمر من سواه على حصارها فلما عاد خوارزم شاه ودخل إلى نيسابور كما ذكرنا، سار منها إلى هراة، وأحسن إلى العسكر الذى استمر على حصارها وشكرهم، وطلب تسليمها فامتنع الوزير وقال: لا أسلمها إلا إلى غياث الدين. ثم اتفقت فتنة بهراة بين الوزير والجند، فكتب إلى خوارزم شاه من البلد، فزحف عليها وهدم برجين من أبراجها، وأهلها قد اشتغلوا بالفتنة الكائنة بين الوزير والجند، فملكها خوارزم شاه وقبض على الوزير وقتله وذلك فى سنة خمس وستماية. وأصلح حال البلد وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، وأمره بالمسير إلى غياث الدين محمود الغورى بفيروزكوه، وأن يقبض عليه وعلى أخيه على شاه بن تكش، ويأخذ فيروزكوه. فسار إلى فيروزكوه، فاتصل الخبر بصاحبها غياث الدين محمود، فبذل الطاعة وسأل الأمان، فأمنه ونزل غياث الدين إليه، فقبض أمير ملك عليه وعلى على شاه أخى خوارزم شاه، وكتب إلى خوارزم شاه بذلك، فأمره بقتلهما فقتلا فى يوم واحد، وذلك فى سنة خمس وستماية. وانقرضت الدولة الغورية بقتل غياث الدين هذا واستقامت خراسان لخوارزم شاه.(27/221)
ذكر عوده الى بلاد الخطا وظفره بهم وأسر مقدمهم وملكه ما وراء النهر
قال: ولما استقر ملك خراسان للسلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد، جمع العساكر وعبر نهر جيحون، وجمع الخطا جمعا عظيما، وكان المقدم عليهم طاينكوه، وهو شيخ دولتهم والقائم مقام الملك فيهم، وكان عمره قد تجاوز ماية سنة، وله خبرة بالحروب.
فاجتمع خوارزم شاه- هو وصاحب سمرقند- والتقوا هم والخطا، وذلك فى سنة ست وستماية. فجرى بينهم حروب كان الظفر فيها لخوارزم شاه وانهزم الخطا وقتل منهم وأسر خلقا كثيرا. فكان ممن أسر مقدمهم طاينكوه، فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه، ثم جهزه إلى خوارزم. وقصد خوارزم شاه بلاد ما وراء النهر، فملكها مدينة بعد أخرى حتى بلغ أوزكند «1» ، فجعل نوابه فيها على عادة الخطا وعاد إلى خوارزم، ومعه سلطان سمرقند. وكان من أحسن الناس صورة، فكان أهل خوارزم يتجمعون حتى ينظروا «2» إليه، فزوجه خوارزم شاه ابنته، ورده إلى سمرقند، وبعث معه شحنة يكون بها على عادة الخطا.(27/222)
ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين
قال: ولما عاد صاحب سمرقند إليها ومعه الشحنة، أقام معه سنة، فرأى صاحب سمرقند من سوء سيرة الخوارزميين ماندم بسببه على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه، ويعود إلى طاعته، وأمر بقتل كل من بسمرقند من الخوارزمية، ممن كان بها قديما وحديثا، وأخذ أصحاب خوارزم شاه، فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم فى الأسواق كما يعلق القصاب اللحم. ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته- ابنه خوارزم شاه- فأغلقت الأبواب، ووقفت بجواريها، ومانعت عن نفسها، وأرسلت إليه تقول: «أنا امرأة وقتل مثلى قبيح عليك، وما فعلت معك من الإساءة ما استوجب ذلك منك، ولعل تركى أحمد عاقبة، فاتق الله.» فتركها ووكل بها من يمنعها من التصرف فى نفسها.
ووصل الخبر إلى خوارزم شاه، فعظم عليه، وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء، فمنعته أمه من ذلك، وقالت: «هذا بلد قد أتاه الناس من أقطار الأرض ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل.» فأمر بقتل أهل سمرقند فمنعته من ذلك أيضا، فتركهم.
وأمر عساكره بالتجهز إلى ما وراء النهر، وسيرهم أرسالا، فعبروا جيحون، وعبر هو فى آخرهم، وسار حتى نزل على سمرقند. وأنفذ إلى صاحبها يقول: قد فعلت ما لم يفعله مسلم، واستحللت من دماء المسلمين ما لم يقدم عليه غيرك من مسلم ولا كافر، والآن عفا الله(27/223)
عما سلف، فاخرج من البلاد وامض إلى حبث شئت. فامتنع من ذلك، فأمر خوارزم شاه بالزحف على سمرقند، فلم يكن بأسرع من أن فتح البلد، وأمر أن لا يتطرق إلى الغرباء بسوء، وأذن لأصحابه فى نهب البلد، وقتل أهله، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فيقال أنهم قتلوا من أهل سمرقند مايتى ألف إنسان، وسلم الدرب الذى فيه الغرباء، فلم يعدم منهم أحد، ثم أمر بالكف عن النهب والقتل.
ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ماملأ قلبه هيبة ورعبا، فطلب الأمان فلم يجبه خوارزم شاه إلى ذلك، وزحف على القلعة وملكها، وقتل صاحبها صبرا. وقتل معه جماعة من أقاربه، ولم يترك أحدا ممن ينسب إلى الخانية. ورتب فيها وفى سائر البلاد نوابه ولم يبق لغيره بها حكم.
ذكر الواقعة التى أفنت الخطا
وهذه الواقعة قد اختلف فى إيرادها ابن الأثير الجزرى فى تاريخه المترجم بالكامل، وشهاب الدين محمد المنشى فى التاريخ الجلالى، ونحن الآن نذكر فى هذا الموضع ما نقله ابن الأثير، ونذكر فى أخبار الدولة الجنكزخانية ما نقله المنشى. وإتما نبهنا على ذلك فى هذا الموضع لئلا يقف عليه متأمل فيرى فى النقل الاختلاف فيظن أن ذلك عن سهو أو غلط أو التباس.
فأما ما حكاه ابن الأثير فإنه قال: لما فعل خوارزم شاه بالخطا ما فعل- يعنى من هزيمتهم وأسر مقدمهم طاينكوه- مضى من سلم(27/224)
منهم إلى ملكهم، فإنه لم يكن قد شهد الحرب، فاجتمعوا عنده.
وكانت طائفة عظيمة من التتار قد خرجوا من بلادهم حدود الصين ونزلوا وراء بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا حروب كثيرة وعداوة. فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بعساكر الخطا قصدوهم مع ملكهم كشليخان «1» فأرسل ملك الخطا إلى خوارزم شاه يقول: «أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فمعفو عنه، وقد أتانا من هذا العدو مالا قيل لنا به، فإن انتصروا علينا وملكوا البلاد، فلا دافع لهم عنك، والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض لما بيدك من البلاد، ونقنع بما فى أيدينا.» وأرسل إليه كشليخان يقول: «إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداؤنا، فساعدنا عليهم، ونحلف لك أننا إذا انتصرنا عليهم لا نقرب بلادك، ونقنع بالمواضع التى ينزلونها، والمراعى التى يرعونها.» فأجاب كل منهما: «إننى معك على خصمك،» وسار بعساكره إلى أن نزل قريبا من الموضع الذى يتصافون «2» ، فيه ولم يخالطهم مخالطة يعلمون بها أنه مع أحد منهم على الآخر، فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها.
والتقى التتار والخطا فانهزم الخطا منهم هزيمة عظيمة، فعند ذلك مال خوارزم شاه على الخطا، وجعل يقتل منهم ويأسر وينهب، فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم، فى موضع من نواحى(27/225)
بلاد الترك، تحيط بها جبال يتعذر الوصول إليها إلا من جهة واحدة، فتحصنوا بها، وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة. وصاروا فى عسكره فأنفذ خوارزم شاه إلى كشليخان ملك التتار يمت عليه «1» بأنه ساعده، ولولا ذلك ما تمكن من الخطا. فاعترف له بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا. وقال: «كما أن نحن اتفقنا على إبادتهم ينبغى أن نقتسم بلادهم،» فقال: «ليس لك عندى إلا السيف، ولستم بأقوى منه شوكة، ولا أعز ملكا، فإن رضيت بالمسالة وإلا سرت إليك وفعلت بك شرا مما فعلت بهم» وتجهز كشليخان ونزل بالقرب من خوارزم شاه، فعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به، فكان يراوغه، فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقالهم، فينهبها، وإذا سارت طائفة منهم عن مكانهم سار فأوقع بهم. فأرسل إليه كشليخان يقول: «ليس هذا فعل الملوك وإنما هو فعل اللصوص، فإن كنت سلطانا كما تقول فيجب أن نلتقى، فإما تهزمنى وتملك البلاد التى بيدى، أو أفعل أنا بك ذلك. فكان خوارزم شاه يغالطه فى الجواب، ولا يصمم على حربه، ولكنه أمر أهل الشاش «2» وفرغانة وأسفيجاب «3» وكاشان، وما حول ذلك من المدن التى لم يكن فى الدنيا أنزه منها ولا أحسن عمارة، بالجلاء(27/226)
منها واللحاق ببلاد الإسلام، ثم خربها جميعا خوفا من التتار أن يملكوها.
ثم اتفق خروج جنكزخان التمرجى ملك التتار على كشليخان، فاشتغل بقتاله عن قتال خوارزم شاه، فخلا وجهه، وعاد من بلاد ما وراء النهر إلى خراسان.
ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران من السند
قال: كان من جملة نواب خوارزم شاه تاج الدين أبو بكر نايبه بمدينة زوزن. وكان تاج الدين هذا فى ابتداء أمره جمّالا، يكرى الجمال للأسفار، ثم صار على جمال خوارزم شاه، فرأى منه جلدا وأمانة، فقدمه إلى أن صار من أعيان أمراء عسكره، ثم ولاه مدينة زوزن. وكان ذا عقل وسياسة، فقال يوما لخوارزم شاه: «إن بلاد كرمان مجاورة لبلدى، فلو أضاف السلطان إلىّ عسكرا لملكتها فى أسرع وقت» فسير معه عسكرا فمضى إلى كرمان، فقاتل صاحبها [حرب] «1» بن محمد بن أبى الفضل، وملكها فى أسرع وقت، وسار منها إلى نواحى مكران، فملكها إلى السند من حدود كابل، وسار إلى هرمز مدينة على ساحل بحر مكران، فأطاعه صاحبها وخطب بها لخوارزم شاه، وخطب له(27/227)
بقلهات «1» وبعض عمان، وذلك فى سنة إحدى عشرة وستماية أو ما يقاربها.
ذكر ملكه غزنة وأعمالها
قال: ولما استولى خوارزم شاه على عامة بلاد خراسان، وملك باميان»
وغيرها، أرسل إلى تاج الدين الدز صاحب غزنة، وهو الذى ملكها من الغورية، وهو من مماليكهم، أن يخطب له، ويضرب السكة باسمه، ويسير إليه قبلا، ليصالحه ويقر بيده غزنة. واستشار تاج الدين أمراءه فى ذلك فأشاروا به، وكان الحاكم على دولته والمتصرف فيها خوشداشه قتلغ تكين وهو النايب عنه بغزنة، فكان ممن أشار بذلك، فخطب لخوارزم شاه بغزنة، وضرب السكة باسمه، واستقر ذلك. ثم مضى تاج الدين الدز إلى الصيد، فأرسل قتلغ تكين إلى خوارزم شاه يستدعيه ليسلم إليه غزنة، فسار مجدا، وسبق خبره، وتسلم غزنة والقلعة من قتلغ تكين، وقتل من بها من عسكر الغورية، فوصل الخبر إلى صاحبها تاج الدين الدز فهرب هو ومن معه إلى لهاوور «3» .(27/228)
وأقام خوارزم شاه بغزنة، فلما تمكن أحضر قتلغ تكين، وسأله كيف كانت حاله مع الدز، فأخبره أنه كان الحاكم على دولته، والمتصرف فى الحكم وغيره، وكان يعرف ذلك، وإنما أراد إقامة الحجة عليه. فلما انتهى حديثه قال [خوارزم] شاه له: «إذا كنت ما رعيت الحق لمن أنت وهو من بيت واحد، وقد حكمك فى ملكه وصرفك فيه، فكيف تفعل مع ابنى إذا تركته عندك؟» وأمر بالقبض عليه، وأخذ منه أموالا جمة حملها على ثلاثين دابة وأربعماية مملوك، ثم قتله. وترك ولده جلال الدين بغزنة فى جماعة من عساكره وأمرائه وكان ملكه لها فى سنة ثنتى عشرة وستماية، وقيل سنة ثلاث عشرة.
ذكر عزمه على المسير الى العراق وقصد بغداد، ومراسلته فى طلب آل سلجق ببغداد وما أجيب به
قال شهاب الدين محمد المنشى فى تاريخه: لما عظم أمر السلطان [خوارزم شاه] وتجلت له الدنيا فى أرفع ملابسها وأشرقت شمس دولته من أكرم مطالعها، واستملئت جريدة ديوان الجيش على ما يقارب أربعمائة ألف فارس، سمت همته إلى طلب ما كان لبنى سلجوق من الحكم والملك ببغداد، وترددت الرسل فى ذلك مرارا «1» فلم يجبه الخليفة إلى مراده لعلمه بما بين يديه من الشواغل عما وراء(27/229)
النهر وبلاد الترك. قال: وحكى القاضى فخر الدين عمر بن سعد الخوارزمى- وكان عند السلطان من ذوى الحظوة والاختصاص- وقد أرسله إلى بغداد مرارا، قال: كان آخر رسالاتى إليها مطالبة الديوان بما ذكرناه، فأبوا ذلك وأنكروه كل الإنكار، وقالوا: إن اختلاف الدول، وتقلب الدهر، وتغلب الخارجى على بغداد، وتسحب الإمام القائم بأمر الله منها إلى مدينة عانة، وانتصاره بطغرلبك ابن ميكائيل هو الذى اقتضى تحكم بنى سلجوق فى بغداد، «1» وإلا فليس يحسن أن يكون مع الزمان على أكتاف الخلافة محتكم يأمر فيها كيف شاء بما سر وساء، وليس فيما أنعم الله عليه به من الممالك الواسعة والأقاليم المتباعدة المتشاسعة غنية عن الطمع فى ملك أمير المؤمنين، ومشاهد آبائه الراشدين، قال: وأصحب فى عوده الشيخ شهاب الدين السهروردى «2» رحمه الله مدافعا، وواعظا وازعا، عما كان السلطان يلتمسه.
وتراجعت المراسلات فى المعنى وتكررت، فكانت غير مجدية، وانضاف إلى ذلك كثرة استهانتهم بالسبيل الذى كان للسلطان فى طريق مكة، حتى بلغه تقديمهم سبيل صاحب الإسماعيلية جلال الدين الحسن على سبيله.(27/230)
قال المنشى: وسمعت القاضى فخر الدين المذكور يقول: إن الشيخ شهاب الدين لما دخل على السلطان، وعنده من حسن الاعتقاد برفيع منزلته، وعالى قدره، وتقدمه فضلا على مشايخ عصره، ما أوجب تخصيصه بمزيد الإكرام عن سائر الرسل الواردة عليه من الديوان، فوقف قائما فى صحن الدار ثم أذن له فى الدخول.، فلما استقر المجلس بالشيخ قال: إن من سنة الداعى للدولة القاهرة أن يقدم على أداء الرسالة حديثا من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، تيمنا وتبركا، فأذن له السلطان فى ذلك، وجثا على ركبتيه أدبا عند سماع الحديث. فذكر الشيخ حديثا معناه التحذير من أذية بنى العباس، فلما فرغ من رواية الحديث قال السلطان: «أنا وإن كنت رجلا تركيا قليل المعرفة باللغة العربية، لكنى فهمت معنى ما ذكرته من الحديث، غير أننى ما أذيت أحدا من ولد العباس، ولا قصدتهم بسوء، وقد بلغنى أن فى محابس أمير المؤمنين منهم خلقا مخلدين «1» ، يتناسلون بها، ويتوالدون، فلو أعاد الشيخ الحديث بعينه على مسامع أمير المؤمنين كان أولى وأنفع وأجدى وأنجع.» فقال الشيخ: إن الخليفة اذا بويع فى مبدأ خلافته على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاده، فإن أفضى اجتهاده إلى حبس شرذمة لإصلاح أمة، لا يقدح ذلك فى طريقته المثلى. وطال الكلام «2» ، وعاد الشيخ والوحشة قائمة على ساقها. واتفق بعد ذلك قتل الاسماعيلية(27/231)
أغلمش الأتابكى، وكان ينوب عن السلطان بالعراق، فركب يلتقى الحاج عند منصرفهم من الحج. قفز عليه باطنى فى زىّ حاج فقتله، وانقطعت حينئذ خطبة السلطان بالعراق فحركه ذلك إلى المسير لإعادتها.
ذكر مسيره الى العراق وما اتفق له
قال: ولما قتل أغلمش، وكان يقيم رسمى الخطبة والطاعة للسلطان بالعراق، طمع الأتابك أزبك بن محمد صاحب أران وأذربيجان، وسعد بن زنكى «1» صاحب فارس فيه فنهضا إليه لعلمهما ببعد السلطان، وأنه فى أعماق بلاد الترك. فرحل أزبك ودخل أصفهان بمواطأة من أهلها، وملك سعد الرى وقزوين وسمنان «2» وما تاخم ذلك وداناه. فانتهى الخبر إلى السلطان وهو بسمرقند، فاختار من العساكر ماية ألف، وترك معظم عساكره مع أمرائه بما وراء النهر وثغور الترك. فلما وصل إلى قومس اختار ممن استصحبه معه اختيارا ثانيا، ونهض فى اثنى عشر ألف فارس وسار مجدا فسبق خبره إلى جبل برزك وهى كورة من كور الرى، وسعد بظاهرها.
فلما رأى سعد أوائل الخيل قد أقبلت، ظن أنهم من الأزبكية «3»(27/232)
المنازعين له فى ملك العراق، فركب بنفسه وعسكره وصدق القتال.
فلما شاهد السلطان جده أمر بنشر الجتر «1» . وكان ملفوفا فنشر، فحين تحقق أصحاب سعد أن الجيش جيش السلطان ولوا الأدبار ونزل سعد فقبل الأرض، فأخذ وكتف وأحضر بين يدى السلطان فأمر بالاحتياط عليه، وحمله على بعل حتى وصل إلى همذان، وقضى وطره من أزبك على ما سنذكره.
وأما الأتابك أزبك صاحب أران وأذربيجان فإنه لما سمع ماحل بسعد من الأسر والإهانة «2» ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يبق له هوى العود إلى ملكه، وقنع من العنيمة بالإياب. فركب وأعد السير إلى أن قارب همذان، وهو يظن أن السلطان بالرى. فلما بقى على مرحلة من همذان، بلغه أن السلطان بها، فسقط فى يده، وتحير لا يعرف طريق الرى. فاستشار أصحابه، فأشار بعضهم بعوده إلى أصفهان، وأشار بعضهم بالمبادرة إلى أذربيجان جريدة، وترك أثقاله. وأشار عليه وزيره ربيب الدين أبو القاسم بن على بالتحصن بقلعة قزوين، وكانت قريبة منه، وهى من أمهات قلاع الأرض، ومشاهير حصونها، فلم يوافقه. واجتمع رأيه أن وجه أثقاله وخزائنه ومعظم حاشيته مع الملك نصرة الدين محمد بن تتشتكين «3»(27/233)
صوب تبريز، واستصحب من خواصه زهاء مائتى فارس، وأخذ بهم نحو أذربيجان فى المسالك الوعرة والجبال الصعبة. ووجه الوزير ربيب الدين إلى السلطان برسالة، يعتذر إليه، فوقع الأمير دكجك السلحدار على أثقاله ومن معها، فهزمهم وتبعهم إلى ميانج «1» وهى كورة من كور أذربيجان على حافة النهر الأبيض، وأسر الملك نصرة الدين ومعظم من معه، وانتهبت الخزائن والأثقال، ووجد الوزير ربيب الدين فى الطريق فساقه فى جملة الأسرى إلى المخيم، فلم يصدق فى رسالته، واعتقد أنه زورها عند أسره. قال: وبقى فى كل يوم يساق الأتابك سعد ونصرة الدين والوزير ربيب الدين إلى الميدان بهمذان فيهانون والسلطان يلعب بالأكرة إذلالا لهم، ولم يزالوا كذلك إلى أن عاد نصير الدين دولتيار وهو متولى منصب الطغرا «2» للسلطان، وهو من المناصب الجليلة. غير أنه دون كتابة الإنشا فى بيت الخوارزمشاهية وفوقها عند السلاجقة وكان السلطان قد بعثه رسولا إلى الأتابك أزبك، بعد هربه يأمره بإقامة رسمى الخطبة والسكة باسمه فى عامة مملكته، وأن يحمل فى كل سنة إلى الخزانة السلطانية أتاوة معلومة، فجعل بالسكة والخطبة، وخطب للسلطان على منابر أذربيجان وأران، إلى ما يلى دربند شروان وسير إلى السلطان من الهدايا والتحف والألطاف جملة طائلة، وسلم(27/234)
قلعة قزوين إلى نواب السلطان، واعتذر فى أمر الأتاوة أن الكرج استضعفوا جانبه، واستولوا على أطراف بلاده، وهذه حاله والبلاد بما تثمر من الأموال، فكيف إذا انقسمت، وحمل منها أتاوة؟.
فقبل السلطان عذره فى ذلك، ورضى منه بالسكة والخطبة، وبعث إلى الكرج رسولا من جهته يقول: إن بلاد الأتابك أزبك صارت من جملة بلادنا، وهى كأحد ممالكنا، وحذرهم من الوصول إليها وقصدها، فعاد رسول السلطان من الكرج، ومعه رسولهم مصحوبا بالتقادم. هذا ما كان من أمر أزبك.
وأما الملك نصرة الدين فإنه كان يحضر إلى الميدان فى كل يوم كما ذكرنا. فنظر السلطان إليه فى بعض الأيام فاذا بأذنيه حلقتان كبيرتان مجوفتان فى غلظ السوار، فسأله عن ذلك فقال: إن السلطان ألب أرسلان. السلجقى لما غز الكرج ونصره الله عليهم وأسر أمراءهم من عليهم، وأطلقهم، وأمر أن يشنقوا كل واحد منهم بحلقتين، يكتب عليهما اسسه، فلما تطاولت المدة ووهت قواعد الدولة السلجقية خلع أولئك ربقة الطاعة، ما خلا جدى فإنه أسلم وسلمت بلاده وأعقابه، ببركتى الإسلام والوفاء فرق له السلطان، وأمر بإطلاقه، وخلع عليه، وغير الحلقتين، وكتب عليهما اسمه، وأمر له بتوقيع بما كان تحت يده من البلاد التى ورثها أبا عن جد مثل مدينتى أبهر «1» وفراوى «2» بقلاعهما وأعمالهما وأضاف إليه مدينة(27/235)
سراة وهى أقرب المدن إليه مما يملكه أزبك، وخلع عليه خلعة ملوكية.
وأما الأتابك سعد الدين زنكى صاحب فارس فإن السلطان أطلقه وتسلم قلعتى اصطخر «1» واسكناباد وسلمها السلطان إلى المؤيد الحاجب، وزوّج الأتابك سعد بامرأة من بيت والدته، وشرط عليه أن يحمل فى كل سنة إلى الخزانة ثلث الخراج من بلاده، وأعاده بالخلع والتشاريف، وكان ولده نصرة الدين أبو بكر لما بلغه أسر والده انتصب مكانه واستمال قلوب الأمراء وبذل الأموال فأطاعوه. فلما أطلق الأتابك سعد، ووصل إلى شيراز- وهى كرسى مملكته- امتنع ولده من تسليم الملك. فبينما نصرة الدين دات يوم فى داره لم يرعه إلا وقد فتح عليه الباب، ودخل حسام الدين تكين باش «2» - وهو أكبر مماليك الأتابك والمقدم فى دولته- والأتابك وراه وبيده سيف مجرد، فضرب به وجه ابنه ضربة أثرت فى وجهه، وححز بينهما اختلاط الفريقين، فأمر الأتابك بالقبض على ابنه، فقبض عليه واعتقله مدة ثم أطلقه وعظم حال حسام الدين عنده ورقاه إلى درجة الملوكية، هذا ما كان من أمره.(27/236)
ذكر قصد السلطان بغداد وما رتبه من أحوال مملكته وعوده بعد مسيره
قال شهاب الدين محمد المنشى: ثم عزم السلطان على قصد بغداد، ورتب أحوال مملكته، وأظهر الناموس. فمن ذلك أنه ضرب نوبة الإسكندر على ما قدمناه، ومنها أنه سير الملك تاج الملك بلكان خان «1» صاحب أترار إلى مدينة نسا «2» ليقيم بها، وسير إلى خوارزم برهان الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز البخارى المعروف بصدر جيهان «3» ، رئيس الحنفية ببخارى وخطيبها. قال: ولعله بعد من الملوك والأكابر، وكان تحت يده ستة آلاف فقيه. ومنها(27/237)
أنه قسم الملك بين أولاده، وعين لكل واحد منهم بلادا، ففوض خوارزم وخراسان ومازندران إلى ولى عهده قطب الدين أزلاغ شاه، واختار لتواقيعه طرة من غير تلقيب، وهى السلطان أبو المظفر ازلاغ شاه ابن السلطان محمد ناصر أمير المؤمنين. وإنما خصصه بولاية العهد دون جلال الدين اتباعا لرأى أمه تركان خاتون. وفوض ملك غزنة وباميان والغوروبست «1» وتكياباذ وزمين «2» وما يليها من الهند إلى ولده الملك جلال الدين منكبرتى، واستوزر له الصدر شمس الملك شهاب الدين الهروى، واستناب عنه كريره «3» ملك، واستصحب جلال الدين معه، وفوض ملك كرمان وكيش ومكران لولده غياث الدين [بيرشاه] «4» واستوزر له الصدر تاج الدين ابن كريم الشرق النيسابورى، وسلم ملك العراق إلى ولد، ركن الدين غور شايجى واستوزر له عماد الملك محمد بن الشديد الساوى واختار لتواقيعه من الطرة السلطان المعظم ركن الدنيا والدين أبو الحارث غور شايجى ابن السلطان الأعظم محمد قسيم أمير المؤمنين.(27/238)
قال: ولما رتب هذه القواعد وقرر هذا النظام عزم على قصد بغداد وسير أمامه من العساكر ما غصت به البيداء فضاقت برحبها، وسار وراءهم إلى أن علا عقبة سراباد. وكان قد قسم نواحى بغداد وهو بهمذان أقطاعا وعملا، وكتب بها توقيعات، فسقط عليه بالعقبة ثلج عظيم، فأهلك خلقا كثيرا من الجيش وتلفت الأثقال، فرجع السلطان منها، وتطير من قصد بغداد، وكان ذلك فى سنة أربع عشرة وستماية. قال: ولما رجع السلطان إلى نيسابور أتاه الخبر بوفاة مؤيد الملك قوام الدين والى كرمان ونايبه بها، فملّك السلطان ولده غياث الدين بيرشاه كرمان وكيش ومكران فسار إليها واستقام أمره بها.
ذكر عود السلطان إلى بلاد ما وراء النهر ووصول رسل التتار إليه وما اتفق من الحوادث
قال: ثم عاد السلطان عند منصرفه من العراق إلى ما وراء النهر ووصل إلى سمرقند، فوافته بعد ذلك رسل جنكزخان ملك التتار وهم محمود الخوارزمى وعلى خواجه البخارى ويوسف بن كنكا الأترارى «1» مصحوبين بمجلوبات الترك من نقر المعادن ونصب الختو ونوافج المسك وأحجار اليشب والثياب التى تسمى طرقوا وتتخذ من وبر الجمال البيض يباع الثوب منها بخمسين دينارا(27/239)
وأكثر. وكانت الرسالة تشتمل على طلب المسالمة والموادعة، وقالوا له: إن الخان الكبير يسلم عليك ويقول: ليس يخفى علىّ عظم شأنك وسعة سلطانك، ولقد علمت بسطة ملكك ونفاذ حكمك فى أكثر أقاليم الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجب، وأنت عندى مثل أعز أولادى وغير خاف عنك أيضا أننى ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك وقد أذعنت لى قبايلهم وأنت أخبر الناس أن بلادى مثارات العساكر ومعادن الفضة وأن فيها لغنية عن طلب غيرها فإن رأيت أن تفتح للتجار فى الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت الفوائد.
قال المنشى: فلما سمع السلطان الرسالة صرف الرسل، ثم استدعى محمود الخوارزمى ليلا بمفرده، وقال له: أنت رجل خوارزمى، ولا بد لك من موالاة فينا وسبيل إلينا، ووعده بالإحسان إن صدقه فيما يسأله عنه، وأعطاه جوهرة نفيسة من معضدته علامة للوفاء بما وعده، وشرط عليه أن يكون عينا له على جنكزخان. فأجابه إلى ذلك رغبة أو رهبة ثم قال: «أصدقنى فيما يقول جنكزخان أنه ملك الصين واستولى على مدينة طوغاج «1» أصادق فيما يقول أم كاذب؟» قال: «بل صادق ومثل هذا الأمر لا يخفى» .
ثم قال له: «أنت تعرف ممالكى وبسطتها وعساكرى وكثرتها، فمن هذا اللعين حتى يخاطبنى بالولد «2» ؟ وما مقدار ما معه من(27/240)
العساكر؟» فلما شاهد محمود الخوارزمى آثار الغيظ على وجه السلطان أعرض عن النصح، وقال: ليس عسكره بالنسبة إلى عسكرك إلا كفارس فى خيل، أو دخان جنح ليل.
ثم أجاب السلطان إلى المهادنة واستقر الحال على المسالمة إلى أن وصل من بلاد التثار تجار إلى أترار وهم عمر خواجه الأترارى، والجمال المراغى «1» ، وفخر الدين البخارى «2» وأمين الدين الهروى وكان ينال خان «3» ابن خال السلطان ينوب عن السلطان بأترار فشرهت نفسه فى أموال أولئك التجار «4» ، فكاتب السلطان يقول:
[إن] «5» هؤلاء القوم قد جاءوا إلى أترار فى زى التجار وليسوا بتجار، وإنما هم أصحاب أخبار، وإنهم إذا خلوا بأحد من العوام يهددونه، ويقولون إنكم لفى غفلة عما وراءكم، وسيأتيكم ما لا قبل لكم به فأذن له السلطان فى الاحتياط عليهم إلى أن يرى فيهم رأيه، فقبض ينال خان عليهم، وانقطع خبرهم، وأخذ ما كان معهم من الأموال والأمتعة ثم وردت رسل جنكزخان بن كفرج بغرا كان أبوه من(27/241)
أمراء السلطان تكش ومعه رجلان يقولون للسلطان: «إنك قد كتبت خطك وأمانك للتجار أن لا تتعرض إليهم، وقد غدرت ونكثت، والغدر قبيح على الملوك، فإن زعمت أن الذى ارتكبه ينال خان كان من غير أمرك فسلمه إلىّ لأجازيه على فعله، وإلا فأذن بالحرب» فلم يرسل ينال خان، وظن أنه إن لاطف جنكزخان، أطمعه، وأمر بقتل رسله، فقتلوا. فيالها من قتلة هدرت دماء الإسلام، وأجرت بكل قطرة سيلا من الدم الحرام. فعند ذلك تجهز جنكزخان لقصده.
ذكر ما اعتمده السلطان من سوء التدبير لما قصده التتار
كان أول ما اعتمده من سوء التدبير لنفاذ حكم العلى القدير أنه لما بلغه خبر التتار وقصدهم البلاد، عزم أن يبتنى سورا على مدينة سمرقند على كبرها ودورها، على ما قيل اثنى عشر فرسخا، ثم يشحنها بالرجال، لتكون سدا بينه وبين الترك. ففرق عماله فى سائر أقاليم مملكته، وأمرهم أن يستسلفوا خراج سنة خمس عشر وستماية برسم عمارة السور، فجبى خراجا كاملا وأعجله التتار فلم يتمكن من عمارته، ثم بعث الحياة مرة ثانية إلى سائر الممالك، وأمرهم بجباية خراج ثالث فى سنتهم، وهى سنة أربع عشرة وستماية، وأن يستخدم بذلك رجالة ورماة، يستخدم من كل بلد بقدر ما يتحصل من المال. ثم فرق عساكره بمدن ما وراء النهر وبلاد الترك فترك ينال خان بأترار فى عشرين ألف فارس(27/242)
وقتلغ خان فى جماعة أخرى فى عشرة آلاف فارس بشهر كنت، «1» والأمير اختيار الدين كشكى أمير آخور، واغل حاجب الملقب باينانج خان فى ثلاثين ألف فارس ببخارى، وطغاينجان «2» خاله وأمراء الغور فى أربعين ألف فارس بسمرقند وفخر الدين حبش النسوى وعسكر سجستان بترمذ، وبلخمورخان بوخش «3» وأبا محمد خال أبيه ببلخ. ولم يترك بلدا مماوراء النهر خاليا من عسكر كبير فكان ذلك من أعظم الأسباب التى استولى بها جنكزخان على البلاد الإسلامية، ولو جمع عساكره ولقى التتار لهزمهم.
ولما شارف جنكزخان تحوم البلاد الإسلامية تباشر صوب أترار، واستولى عليها «4» بعد قتال، وأحضر ينال خان بين يديه، وأمر بسبك الفضة، وقلبها فى أذنيه وعينيه فمات. ثم استولى جنكزخان على البلاد وتحيل حتى أوقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وبين أمه وأخواله.(27/243)
ذكر ما وقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وأمه وأخواله من الاختلاف بحيلة تمت بجنكزخان عليهم وما فعلته والدته من القتل ومفارقة خوارزم وما آل اليه أمرها
كان سبب ذلك أن جنكزخان لما ملك أترار، أحضر نايب الوزارة بها، وهو بدر الدين العميد، واتفق معه على أن زور كتبا على لسان الأمراء أقارب والدة السلطان إلى جنكزخان، يبذلون له الدخول فى طاعته، ويقولون: «إنا تسحبنا من بلاد الترك بعشائرنا ومن يلوذ بنا إلى السلطان، رغبة فى خدمة والدته، فما نصرناه على كافة ملوك الأرض، وذلت له الجبابرة وخضعت له الرقاب فها هو الآن تغيرت نيته فى حق والدته، عتوا منه وعقوقا، وهى تأمرنا بخذلانه، فنحن على انتظار وصولك واتباع أمرك.» وكان هذا تدبير نايب الوزارة المذكور «1» . وسلم جنكزخان الكتب إلى بعض خواصه، وأمره أن يتوجه بها إلى السلطان، ويظهر له أنه قد هرب من صاحبه إليه، ففعل ذلك. فلما وصل إلى السلطان ووقف على الكتب لم يشك فى صحة ذلك، ونفر من هؤلاء «2» الأمراء، ونأى عنهم وبدد شملهم.(27/244)
فلما فعل ذلك بأقارب والدته تركان خاتون غضبت لذلك، وكتب جنكزخان إليها على يد دانشمند الحاجب- وهو من خواصه- وهى إذ ذاك بخوارزم، يقول: «قد عرفت مقابلة ابنك حقوقك بالعقوق، وقد قصدته بمواطأة من أمرائه، ولست بمعترض إلى ما تحت يدك من البلاد، وأسلم لك خوارزم وخراسان وما يتاخمهما من قاطع جيحون. فكان جوابها عن هذه الرسالة أن خرجت عن خوارزم، واستصحبت ما أمكنها من حرم السلطان وصغار أولاده ونفايس خزائنه، وأمرت بقتل من كان بخوارزم من الملوك المعتقلين وأبناء الملوك وأكابر الصدور، فقتلت زهاء اثنين وعشرين «1» نفسا منهم إبنا السلطان غياث الدين الغورى وابن طغرل السلجقى وعماد الدين صاحب بلخ وابنه بهرام شاه صاحب ترمذ وعلاء الدين صاحب باميان، وجمال الدين عمر صاحب وخش وابنا «2» صاحب سقتاق من بلاد الترك، وبرهان الدين محمد وصدر جهان وأخوه «3» افتخار جهان وابناه ملك الإسلام وعزيز الإسلام واستصحبت معها عمرخان صاحب يازر «4» فصحبها إلى بلاده، وخدمها أتم خدمة، حتى إذا قاربت تخوم يازر خافت أن يفارقها، فأمرت بضرب عنقه فقتل صبرا.
وسارت بمن معها إلى قلعة ايلال من قلاع مازندران، فأقامت بها(27/245)
وذلك فى سنة خمس عشرة وستماية؛ وأمرت بتحصين القلعة، فحصنت؛ ثم حوصرت أربعة أشهر فكان من الاتفاق العجيب أن القلعة نفذ ماؤها، وكانت العادة أن تلك القلعة دائمة الأنواء، فقدر الله عز وجل أن صحت السماء فى زمن الحصار حتى نفذ الماء، فألجأها ذلك إلى طلب الأمان، فأجيبت إليه، ونزلت من القلعة ومعها الوزير محمد بن صالح. وذكر أنها لما نزلت من القلعة فاضت الصهاريج فى هذا اليوم، حتى نزل السيل من باب القلعة وحملت تركان خاتون أسيرة إلى جنكزخان. قيل أنه انتهى حالها إلى أن كانت تحضر سماط جنكزخان وتحمل منه فى كل وقت ما يقوتها مدة بعد أن حكمت فى أكثر البلاد على ما نذكره.
وأما صغار أولاد ابنها الذين كانوا معها فقتلوا عن آخرهم إلا أصغرهم فإنه ترك عند جدته مدة ثم قتل بعد ذلك خنقا. هذا ما كان من الذكور. وأما الإناث فزوجوا بالمرتدة إلا سلطان خان «1» - التى كانت امرأة صاحب سمرقند- أخذها دوشى خان واصطفاها لنفسه هذا ما كان من أمرها وأمر من معها بعد وفاة ابنها، فلنذكر شيئا من أخبارها وما كان لها من الحكم فى دولة ابنها..
كانت تركان خاتون والدة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد من قبيلة بياووت «2» وهى فرع من فروع يمك، وهى بنت(27/246)
خان جنكش، ملك من ملوك الترك وتزوج بها السلطان تكش.
ولما انتقل الملك إلى ابنها أتته قبائل يمك ومن يجاورها من الترك فكثر بهم، واستظهر بمكانهم وتحكمت هى بهذا السبب فى الممالك، فلم يملك السلطان إقليما إلا وأفرد لخاصتها منه ناحية جليلة. ولقبت عند ارتفاع شأنها بخداوند جهان، معناه صاحبة العالم. وكانت [ذات] «1» مهابة ورأى. وإذا رفعت الظلامات إليها حكمت فيها على قانون العدل والإنصاف، غير أنها كانت [جسورا] «2» على سفك الدماء، وكان لها خيرات وسبلات فى البلاد قال المنشى: وكان لها من كتاب الإنشاء سبعة من مشاهير الفضلاء وسادات الأكابر وإذا ورد عنها وعن السلطان توقيعان مختلفان فى قضية واحدة لم ينظر إلا فى التاريخ فيعمل بالآخر منهما فى سائر الأقاليم. وكان طغرا تواقيعها عصمة الدنيا والدين ألغ تركان ملكة نساء العالمين، وعلامتها اعتصمت بالله وحده، وكانت تكتبها بقلم غليظ، وتجود الكتابة فيها بحيث يعسر أن يزور عنها، فلنرجع إلى أخبار السلطان.(27/247)
ذكر ما اتفق للسلطان بعد أن ملك التتار البلاد إلى أن توفى
قال: لما ملك جنكزخان أترار، ملك بعدها بخارى ثم سمرقند، فاتصل الخبر بالسلطان وهو مقيم بحدود كتلف «1» وأندخوذ «2» ينتظر وصول الجموع المتفرقة إليه من الجهات. فلما اتصل خبر ملك جنكزخان بخارى بالسلطان، عبر جيحون وقد أيس من بلاد ما وراء النهر، وفارقه إلى التتار من الأتراك عشيرة أخواله زهاء سبعة آلاف من الخطايية، واتصل علاء الدين صاحب قندز وغيره بجنكزخان وأخذ الناس فى التخاذل والتسلل، فلما اتصلت هذه الجموع بجنكزخان عرفوه بمكان السلطان وبما هو عليه من الوجل.
وبما داخله من الخوف فعند ذلك جرّد يمنويّة «3» وسبطى «4» بهادر فى ثلاثين ألف فارس فعبروا النهر صوب خراسان ورحل السلطان من حافة جيحون إلى نيسابور، وتسلل عنه الناس فلم يقم بنيسابور إلا ساعة من نهار، ثم سار حتى أتى العراق فنزل بمرج دولت أباد.
وهى من أعمال همذان وأقام أياما يسيرة ومعه زهاء عشرين ألف فارس فلم يرعه إلا صيحة الغارة وإحداق خيول التتار به، فغاتهم بنفسه، وشمل القتل جل أصحابه، ونجا السلطان فى نفر يسير(27/248)
من خواصه إلى بلد الجبل ثم منها إلى الاستنداد «1» وهى أمنع ناحية من نواحى مازندران ذات دربندات ومضايق ثم منها إلى حافة البحر وأقام عند الغرضة بقرية من قراها، يحضر إلى المسجد فيصلى به إمام القرية الصلوات الخمس ويقرأ له القرآن، وهو يبكى وينذر النذور ويعاهد الله تعالى بإقامة العدل. ولم يزل كذلك إلى أن كبسه التتار فحين هجموا الضيعة ركب السلطان المركب وخاضت خلفه طائفة منهم فلم يدركوه.
قال شهاب الدين المنشى: حدثنى غير واحد ممن كان مع السلطان فى المركب قال: كنا نسوق المركب بالسلطان وبه من علة ذات الجنب ما آيسه من الحياة وهو يظهر الاكتئاب، ويقول لم يبق لنا مما ملكناه من أقاليم الأرض قدر ذراعين. فلما وصل الجزيرة «2» سر بذلك سرورا تاما وأقام بها فريدا طريدا والمرض يزداد به. وكان فى أهل مازندران ناس يتقربون إليه بالمأكول والمشروب وما يشبهه، فقال فى بعض الأيام: أشتهى أن يكون عندى فرس يرعى حول خيمتى هذه- وقد ضربت له خيمة صغيرة- فلما سمع تاج الدين حسن وكان من جملة سرهنكيته «3» أهدى إليه فرسا أصفر قال: وكانت(27/249)
جشارات خيله تنيف على ثلاثين ألف جشار متفرقة فى ممالكه ويدل على ذلك ما قاله الأمير اختيار الدين أكبر أمير أخورية السلطان؛ وكان قد ضم إليه ثلاثين ألف فارس، فكان يقول: إن المرتب معى ثلاثون ألف فارس ولو شئت جعلتها ستين ألفا من غير أن أتكلف صرف دينار أو درهم، وذلك أننى أستدعى من كل جشار «1» من جشارات خيل السلطان جوبانا واحدا فينيفوا على ثلاثين ألفا، فانظر إلى ما بين الحالتين فى الكثرة والقلة والعزة والذلة.
قال: وكان من حمل إليه شيئا من المأكولات وغيره فى تلك الأيام كتب له توقيعا بمنصب جليل وإقطاع طايل فربما كان الرجل يتولى كتابة التوقيع لنفسه لعدم من يكتب عند السلطان. وكانت هذه التواقيع تسمى التواقيع الجزيرية، وكلها برسالة جلال الدين.
فلما ظهر أمر جلال الدين أحضرت إليه التواقيع فأمضاها بكمالها ومن كان معه منديل أو سكين علامة من السلطان بإقطاع أو غيره قبلها جلال الدين وأمضى حكمها.
ذكر وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش
كانت وفاته بالجزيرة فى سنة سبع عشرة وستماية. وذلك أنه لما استقر بها اشتدت به علة ذات الجنب فمات وغسله شمس الدين محمود بن يلاغ الجاوش ومقرب الدين مهتر مهتران «2» مقدم(27/250)
الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن فيه فكفنه شمس الدين محمود المذكور بقميصه، ودفن بالجزيرة فكانت مدة سلطنته إحدى وعشرين سنة، وكان له من الأولاد خمسة وهم جلال الدين منكبرتى، وقطب الدين أزلاغ شاه، وآق شاه، وركن الدين غورشايجى- وكان بالعراق- وغياث الدين بيرشاه وفيه يقول المنشى:
أذل «1» الملوك وصاد القروم ... وصيّر كل عزيز ذليلا
وحف الملوك به خاضعين ... وزفوا إليه رعيلا رعيلا
فلما تمكن من أمره ... وصارت له الأرض إلا قليلا
وأوهمه العز أن الزمان ... إذا رامه ارتد عنه كليلا
أتته المنية مغتاظة ... وسليت عليه حساما صقيلا
فلم تغن عنه حماة الرجال ... ولم يجد قيل عليه فتيلا «2»
كذا يفعل الله بالشامتين ... ويفنيهم الدهر جيلا فجيلا
هذا ما اتفق للسلطان؛ وأما التتار الذين ساقوا خلفه فإنهم خربوا البلاد وسفكوا الدماء واستولوا على الممالك وساووا فى القتل بين المملوك والممالك، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. فلنذكر الآن أخبار أولاد السلطان علاء الدين محمد وما كان من أمرهم بعد وفاة أبيهم ونورد أخبارهم فى جملة أخبار أخيهم السلطان جلال الدين فإنه الملك المشار إليه منهم.(27/251)
ذكر أخبار السلطان جلال الدين منكبرتى
وقيل فيه منكوبرتى ابن السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد ابن تكش بن ألب أرسلان بن اتسز بن محمد بن انوشتكين.
ملك بعد وفاة أبيه فى سنة سبع عشرة وستماية، وذلك أن والده السلطان لما اشتد مرضه بالجزيرة خلع قطب الدين أزلاغ شاه من ولاية العهد وفوضها للسلطان جلال الدين بحضور أخويه أزلاغ شاه وآق شاه. وقال: إن عرى السلطنة قد انفصمت والدولة قد وهت قواعدها وتهدمت، وهذا العدو قد تأكدت أسبابه وتشبثت بالممالك أظفاره، وتعلقت أنيابه، وليس يأخذ بثارى منه إلا ولدى منكوبرتى وهأنا موليه ولاية العهد فعليكما بطاعته والانخراط فى سلك تباعته.
وشد سيفه بيده فى وسط جلال الدين ثم مات بعد ثلاثة أيام.
قال: ولما دفن السلطان بالجزيرة ركب جلال الدين البحر ومعه أخواه «1» ومعهم زهاء سبعين نفسا لقصد خوارزم، فلما قاربوها التقوهم منها بالدواب والأسلحة والأعلام، وتباشر الناس بمقدمهم واجتمع عندهم من العساكر ممن أضمرته البوادى ونقضتهم المجالس والنوادى زهاء سبعة آلاف فارس، أكثرهم البياووتية ومقدمهم توخى بهلوان الملقب بقتلغ خان، فمالوا إلى أزلاغ شاه للقرابة التى بينهم، وعزموا على القبض على جلال الدين وقتله أو سمله. فعلم إينانج خان بما دبروه، فأعلم بذلك جلال الدين وأشار عليه بالرحيل(27/252)
فرحل صوب خراسان فى ثلثماية فارس، مقدمهم دمر ملك «1» وقطع المفازة الحاجزة بين خوارزم وخراسان وهى ست عشرة «2» مرحلة فى أيام قلايل، وتخلص منها إلى بلد نسا «3» . وكان جنكزخان لما بلغه عود أولاد السلطان إلى خوارزم وجه إليها عسكرا كثيفا وتقدم إلى من بخراسان من عساكره بالتفرق على حافات تلك البرية مترصدين فضربوا على البرية المذكورة حلقة من تخوم مرو إلى حدود شهرستان، حتى إذا هم أولاد السلطان بالمسير إلى خراسان عند إزعاجهم من خوارزم يقبضون عليهم. وكان بحافة برية نسا منهم سبعماية فارس فلما خرج جلال الدين من البرية صادفهم أمامه، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه لجلال الدين عليهم، فعمهم بالقتل وغنم ما معهم، ولم يفلت منهم إلا الشارد. وهذا أول مصاف كان بين جلال الدين وبينهم فتقوى بما غنمه منهم ووصل إلى نيسابور.
وأما أخواه «4» فإنهما أقاما بعده بخوارزم ثلاثة أيام؛ وأتاهم الخبر بحركة التتار فخرجا بمن معهما مجفلين إلى صوب خراسان.
فلما انتهوا إلى مرج سابغ «5» ونزلوا به، وافتهم الأخبار أن طائفة من التتار أقبلت فى طلبهم، فركب أزلاغ شاه ومن معه ورحل والتتار(27/253)
فى طلبه إلى استوى «1» بلد خيوشان «2» فأدركه التتار بقرية تسمى فرست «3» ، فوقف لهم واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لأزلاغ شاه عليهم، فسروا بذلك وظنوا أنه لم يكن من التتار بتلك الناحية غير هذه الطائفة التى انهزمت، واستقروا بتلك المنزلة، فلم يرعهم إلا وخيول التتار قد أحدقت بهم إحداق الأطواق بالأعناق فثوى اليسر عسرا وترادف النصر كسرا، فكانوا إن شاء الله كما قيل:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر
فاستشهد أزلاغ شاه وآق شاه ومن معهما وعاد التتار برأسيهما وقد نصبوهما على الرماح.
ذكر مسير جلال الدين من نيسابور الى غزنة
قال: وأقام جلال الدين بنيسابور شهرا يتابع الرسل إلى الجهات فى الاحتشاد والاستمداد، إلى أن علم التتارية فأسرعوا نحوه وأعجلوه عن مراده، فخرج من نيسابور فى من انضوى إليه من الخوارزمية، إلى أن وصل إلى القلعة القاهرة وهى التى بناها مؤيد الملك صاحب كرمان بزوزن، فهم أن يتحصن بها فبعث إليه عين الملك ختن مؤيد(27/254)
الملك- وهو مستحفظها- يحذره ذلك، ويقول: إن ملكا «1» لا يحسن به أن يتحصن بقلعة ولو بنيت على قرن الفرقد أو هامة الجوزاء بل أعلا وأبعد، وحصون الملوك متون الحصن، وما للضراغم وللمدن ولو تحصنت بالقلعة لأفنت التتار أعمارهم إلى أن ينالوا الغرض.
فأمر جلال الدين بإحضار ما فى القلعة من الذهب فأحضر، وفرق أكياسه على من صحبه من خواصه، وفارق القاهرة، وجد السير إلى تخوم بست، فأعلم أن جنكزخان مقيم بالطالقان «2» بجيوش عظيمة، فتحير فى أمره لا يدرى ما يصنع. ثم خاطر بنفسه واستمر فى السير، فبلغه أن أمين ملك وهو ابن خالة متولى هراة ومقطعها بالقرب منه، وقد أخلى هراة ومعه زهاء عشرة آلاف فارس، والأتراك الذين سلموا من النكبة، فبعث جلال الدين إليه يعلمه بقربه ويحثه على سرعة الوصول إليه، فاجتمعوا واتفقا على كبس التتار الحاصرين قلعة قندهار «3» فنهضا إليهم وأوقعا بهم فلم يسلم من التتار إلا من وصل بخبرهم إلى جنكزخان وهم نفر يسير، فأخبروه بما تم على عسكره، فغضب لذلك. وساق جلال الدين حتى أتى غزنة وكان بها كربر ملك ينوب عنه منذ جعلها والده له كما قدمناه، وقد ضبطها. فوصل إليها جلال الدين فى سنة ثمانى عشرة(27/255)
وستماية، فسر الناس بوصوله واتصل به سيف الدين بغراق «1» الخلجى وأعظم ملك صاحب بلخ، ومظفر ملك صاحب الأيغانية والحسن قزلق وهم فى زهاء ثلاثين ألف فارس ومعه عسكره وعسكر أمين ملك مثلها.
ذكر الحرب بين جلال الدين وتولى خان بن جنكزخان وانهزام التتار وقتل تولى خان
قال المنشى: ولما بلغ جنكزخان ما حل بعسكره بقندهار، جرد ابنه تولى خان فى عسكر كثيف، فاستقبله جلال الدين بنية فى الجهاد قوية وهمة فى الإسلام أبية. فلما تراءى الجمعان حمل بنفسه على قلب تولى خان، فبدد نظامه ونثر تحت قوائم الخيل أعلامه وألجأه فى الانهزام وإسلام المقام، وتحكمت فيهم سيوف الانتقام وقتل تولى خان «2» فيمن قتل، وكثر الأسر فى التتار حتى كان الفراشون يحضرون أساراهم إلى بين يديه فيدقون الأوتاد فى آذانهم تشفيا بهم، وكانت شرذمة من التتار قد حاصرت قلعة ولخ وضايقتها فلما بلغهم ما حل بأولئك رجعوا عنها.(27/256)
ذكر الحرب بين جلال الدين وجنكزخان وانهزام جلال الدين
قال: ولما عاد من سلم من المعركة إلى جنكزخان قام بنفسه وعساكره لقصد حرب جلال الدين. واتفق أن العساكر الخلجية فارقوا جلال الدين فى ذلك الوقت صحبة سيف الدين بغراق وأعظم ملك ومظفر ملك.
وسبب ذلك أنهم لما كسروا التتار زاحمهم الأتراك فيما أفاء الله عليهم من الغنائم، فاتفق أن بعض الأتراك الأرمينية نازع أعظم ملك فى فرس من خيل التتار. وطال بينهما التنازع فضربه التركى بمقرعة، فاشمأزت لذلك نفوسهم ونفرت قلوبهم وفارقوا جلال الدين، واجتهد على ردهم فأبوا ذلك. ولما بلغه أن جنكزخان قد قاربه بجيوشه علم أنه لا طاقة له بملاقاته بعد مفارقة هذه الجيوش له، فرأى أن يتأخر إلى حافة ماء السند ثم يستأنف مكاتبة من فارقه، فإن رجعوا إليه لقى جنكزخان بهم وبمن معه من الأتراك. فعاجله جنكزخان عن إمضاء ما دبره؛ وكان جلال الدين قد أصابه قولنج شديد عند خروجه من غزنة ولم ير مع ذلك الجلوس فى المحفة، وركب الفرس تجلدا، فمن الله عليه بالعافية، فورد عليه الخبر أن مقدمة جنكزخان نزلت بجردين فركب ليلا وكبس المقدمة فقتلهم ولم يفته إلا من نجا به فرسه. فلما بلغ جنكزخان هذا الخبر هاله، وجاء جلال الدين إلى حافّة ماء السند، وصاق عليه الوقت عما كان يثق به من جمع المراكب واسترجاع الكتايب، ووصل مركب واحد فأمر بتعبير والدته وحرمه ومن ضمته الدور وحجبته الستور، فانكسر المركب قبل عبورهم.(27/257)
ووصل جنكزخان فلقبه جلال الدين واقتتلوا قتالا شديدا فحمل جلال الدين بنفسه على قلب جنكزخان فمزقه، وانهزم جنكزخان وكادت الدائرة تكون عليهم، لولا أن جنكزخان كان قد كمن كمينا فيه عشرة آلاف فارس فخرجوا على ميمنة جلال الدين- وفيها أمين ملك- فكسروها وطرحوها على القلب، فتبدد نظامه، وتزعزعت عن الثبات أقدامه، وانجلت المعركة عن قتلى مصرعين فى الدماء، وغرقى غاطسين فى الماء، فكان الرجل يأتى إلى الماء يهوى بنفسه فى تياره وهو يعلم أنه غريق لا محالة. وأسر ولد جلال الدين وهو ابن سبع أو ثمانى سنين فقتل بين يدى جنكزخان.
قال: ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كثبرا رأى والدته أم ولده وجماعة من حرمه يصحن بأعلى أصواتهن: بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن. فهذه من عجائب البلايا ونوادر المصايب والرزايا. وأما العساكر الخلجية المفارقة لجلال الدين فاستنزلهم جنكزخان بعد فراغه من جلال الدين من عصم الجبال والحصون، وقتلهم أجمعين.
ذكر حال جلال الدين بعد عبوره ماء السند
قال: ولما وصل جلال الدين إلى حافة ماء السند اقتحم بفرسه ذلك الماء العظيم، فخلص إلى البر، وخلص معه أربعة آلاف رجل من عسكره حفاة عراة، وفيهم ثلثماية فارس كانوا قد تقدموا جلال الدين (ومعهم) من خواصه ثلاثة نفر وهم قلبرس بهادر وقابقح(27/258)
وسعد الدين على الشربدار «1» ، ورمى بهم الماء إلى جهة بعيدة عن القوم ولم يعلموا ما كان منه، فاتصل بهم فى اليوم الثانى.
قال: وكان فى الزردخانا «2» الجلالية «3» شخص يعرف بجمال الزراد، وقد انتبذ قبل الوقعة بما كان له من المال إلى بعض الجهات، فوصل إذ ذاك بمركب فيه ملبوس ومأكول، فوقع ذلك عند جلال الدين موقعا عظيما وولاه أستاذ داريته «4» ، ولقبه اختيار الدين.
قال: ولما علم زانه شنزه صاحب جبل الجودى بما كان من أر جلال الدين وانهزامه، وأنه فى قلة من أصحابه، ركب فى ألف فارس وخمسة آلاف راجل. فقصد جلال الدين عبور الماء إلى جهة التتار ويختفى بمن يسلم معه فى الغياض ويعيشون «5» بالغارات، لعلمه أن الجنود إن ظفروا به قتلوه وقتلوا من معه. فحين تواتروا على ذلك توجهت الرجالة لهذا القصد، وتأخر عنهم جلال الدين بمن معه من أصحاب الخيل على رسم الترك، فجاء زانه شنزه، ومعه(27/259)
أعيان أصحابه وخيالته. فلما رأى جلال الدين حمل عليه بمن معه، فلما قاربه رماه جلال الدين بسهم فى صدره فقتله وانهزم عسكره وتحمل جلال الدين فيما غنمه من خيله وعدته، وما أفاء الله عليه من أمواله وأسلحته.
قال: ولما سمع قمر الدين نائب قباجة بدبدبة وساقون، تقرب إلى جلال الدين بهدايا جليلة وألطاف، وفى جملتها الدهلين، فوقع ذلك من جلال الدين موقعا عظيما «1» .
ذكر ما كان بين جلال الدين وقباجة «2» من وفاق وخلاف
قال: ثم بلغ جلال الدين أن بنت أمين ملك سلمت من الغرق إلى أوجاهى من مدن قباجة، فراسله جلال الدين يذكر أنها تمت له بقرابة، وأن نساءه غرقن وطلبها، فتقدم قباجة بتجهيزها إليه وجهز معها هدايا تليق بجلال الدين. فقبل جلال الدين ذلك منه وانتظم بينهما الصلح وأمنت البلاد إلى أن قضت الفرقة وتأكدت أسباب الوحشة وسبب ذلك أن شمس الملك شهاب الدين ألب، كان السلطان علاء الدين قد استوزره لجلال الدين، فرمته الوقعة إلى قباجة،(27/260)
فأمنه وآواه وأحسن إليه. واعتقد قباجة أن جلال الدين قتل، فاسترسل مع شمس الملك فى أمور كان الحزم يقضى إخفاءها عنه، فلما تحقق سلامة جلال الدين استوحش من شمس الملك وندم على ما كان قد أبداه له، ولما بلغ جلال الدين أن شمس الملك عنده استدعاه، فحمل قباجة التوهم منه على قتله فقتله، لما كان قد أودعه من أسرار خشى إذاعتها. ومن ذلك أن قرن خان بن أمين ملك كانت الوقعة طرحته إلى مدينة كلور «1» من مدن قباجة، فشرهت نفوس عامتها إلى سلبه، فقتل وحمل إلى قباجة من سلبه درة كانت فى أذنه فأخذها، فحقد جلال الدين ذلك عليه وأسره فى نفسه إلى أن اتصل بخدمته جماعة من الأمراء المفارقين لخدمة أخيه غياث الدين بمن معهم من العسكر، فقويت نفسه بهم وقصد مدينة كلور فحاصرها وداوم القتال والزحف بنفسه فأصابته نشابة فى يده، ولم يفتر فى القتال ليلا ولا نهارا حتى ملكها وملك مقاتلتها ثم رحل منها إلى قلعة برنوزج فحاصرها وباشر القتال بنفسه وأصابته هناك نشابة أخرى، فألحق برنوزج بأختها وتأكدت الوحشة بهذه الأسباب بينه وبين قباجة. ولما رأى قباجة أن بلاده تطوى شيئا فشيئا فزع إلى الاحتشاد، فركب فى زهاء عشرة آلاف فارس، وأنجده شمس الدين ايلتتمش «2» ببعض عساكره، فعلم جلال الدين بخبره(27/261)
ونيته ليلا، وأحاط بعسكره فأعجلهم عن الركوب، فانهزم قباجة بنفسه ومن نجا به فرسه، وترك العسكر شاغرا بما فيه من الخيام والخزائن والعدد المتوفرة، فاحتوى جلال الدين على ذلك.
ذكر الحوادث بعد كسر جلال الدين قباجة وما جرى بينه وبين شمس الدين ايلتتمش
قال: لما كسر جلال الدين قباجة نزل على نهاوور «1» وكان بها ابن لقباجة «2» وقد عصى على والده وتغلب عليها، فأقرها جلال الدين عليه على مال يحمله فى كل سنة ومال يعجله. ورحل صوب سيستان وبها فخر الدين السلارى واليا عليها من جهة قباجة، فتلقاه بالطاعة، وسلم إليه مفاتيحها، فجبى المال ثم رحل عنها صوب أوجا فحاصرها أياما، وقاتله أهلها فقتل من الفريقين خلق كثير، ثم صالحوه على مال حمل إليه. ورحل صوب خانسر «3» وكان ملكها من أتباع شمس الدين فخرج طائعا للخدمة الجلالية. فألقى بها عصى القرار ليريح من معه، فأتاه الخبر أن إيلتتمش قاصده فى ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلثماية فيل، فخرج جلال الدين نحوه مجدا، وقدم أمامه جهان بهلوان أزبك باين- وهو من حماة الأبطال-(27/262)
فساق، وخالفه يزك شمس الدين، فتوسط أزبك عسكر شمس الدين فهجم على جماعة منهم، فقتل منهم وحضر إلى جلال الدين من أخبره بذلك الجمع الكثير ثم ورد عليه برسول إيلتتمش فى طلب الموادعة ويقول: «ليس بخفى علىّ ما وراءك من عدو الدين، وأنت سلطان المسلمين وابن سلطانهم، ولست استحل أن أكون عليك عونا، ولا يليق بمثلى أن يجرد السيف فى وجه مثلك، إلا لضرورة الدفع، وإن رأيت أن أزوجك ابنتى لتزول الوحشة وتتأكد الثقة بينى وبينك فافعل» .
فمال جلال الدين إلى ذلك وأصحب رسوله باثنين من أصحابه، يزيدك بهلوان وسنقرجق طايسى، فمضيا إليه وأقاما لديه وترادفت الأخبار على جلال الدين أن ايلتتمش وقباجة وسائر ملوك الهند قد تآمروا على أن بمسكوا على جلال الدين حافة ماء خجنير، فعظمت إذ ذاك بليته وفترت فى وجوه العزائم نيته، ورأى أن الزمان حزّب عليه أحزابا ومتى سد للحوادث بجهده بابا فتح عليه أبوابا، فاستشار نصحاءه فى ذلك، فأشار عليه الذين وردوا من العراق وهم الذين انفصلوا من أخيه غياث الدين أن يقصد العراق وينتزعه من يد أخيه، وأشار عليه جهان بهلوان أزبك باين بلزوم بلاد الهند خشية من جنكزخان واستضعافا لملوك الهند، فحمله شغفه بحب الممالك الموروثة والحكم فيها على قصد العراق، فاستناب جهان بهلوان على ما كان يملكه من بلاد الهند، والحسن قزلق على ما قد نجا من بلاد الغور وغزنة من صدمات التتار، فاستمر جهان بهلوان فيما ولاه إلى سنة(27/263)
سبع وعشرين وستماية، ثم طرد عنها ووصل إلى العراق على ما نذكره فى موضعه؛ واستمر قزلق إلى حين وفاته.
ذكر طلوع جلال الدين من الهند ووصوله الى كرمان وما جرى له من الحوادث الى أن ملك العراق
كان عوده من الهند فى سنة إحدى وعشرين وستماية. قال شهاب الدين محمد المنشى: قاسى جلال الدين ومن معه من رذايا الأرواح المتخلصة من مشتجر الرياح فى البوادى، القاطعة بين كرمان والهند، شدائد نستهم سائر الكرب، وأوردتهم بأجمعهم سواقى العطب. وقد أوعزتهم فى تلك القفار علالات الشفاه «1» ، وبلالات الأفواه، فضلا عن الأقوات، فكان الرجل يتنفس عند هبوب السموم كتنفس المحموم. قال: فتخلص إلى كرمان فى أربعة آلاف، فيهم ركّاب أبقار وحمر. وكان بها براق الحاجب ينوب عن أخيه غياث الدين بيرشاه. وبراق هذا كان حاحبا لكورخان ملك الخطايية، ورد رسولا على السلطان مبدأ المكاشفة بينهما، فمنعه أن يعود إلى مرسله رغبة فيه، ثم اتصل بخدمة غياث الدين.
فلما وصل جلال الدين أقام بكراشير «2» - وهى دار المملكة- شهرا ثم أحس أن براقا قد أضمر الغدربه، فقصد جلال الدين(27/264)
القبض عليه واستشار فى ذلك، فأشار أورخان بالقبض عليه، وأن يواليه مملكة كرمان ويستظهر بها على غيرها من الممالك. وخالفه فى هذا الرأى شمس الملك على بن أبى القاسم المعروف بخواجه جهان، وقال: هذا أول من بذل الطاعة من نواب الأطراف، وولاة البلاد، وليس كل أحد يتحقق غدره ومكيدته، فمتى عوجل نفرت القلوب واشمأزت النفوس وتبدلت الأهواء، وتغيرت النيات والآراء.
فرحل جلال الدين إلى صوب شيراز، وورد عليه الأتابك علاء الدولة صاحب يزد، مذعنا بالطاعة، وقدم له تقادم كثيرة فكتب له توقيعا بتقرير بلاده عليه. وكان الأتابك سعد صاحب فارس قد استوحش من أخيه غياث الدين لإساءة سبقت، فرغب جلال الدين فى إصلاحه لنفسه، وسير الوزير شرف الملك إليه خاطبا ابنته، فأسرع إلى الإجابة والانقياد وزوجه ابنته وحملها إليه فاستظهر جلال الدين بمصاهرته ثم تقدم من شيراز إلى أصفهان، فخرج إليه القاضى ركن الدين مسعود بن صاعد بأحسن اللقاء، قال: ولما بلغ غياث الدين توسط جلال الدين فى بلاده، ركب إليه فى جموعه فى زهاء ثلاثين ألف فارس، فرجع جلال الدين حين سمع بقربه وقد أيس مما طمحت إليه نفسه، وسير إلى غياث الدين أدك أمير أخور؛ وكان من دهاة خواصه، يقول: «إن الذى قاسيته بعد السلطان من الشدايد الفادحة، لو عرضت على الجبال لأشفقن منها واستثقلتها فأبين أن يقبلنها، وحين ضاقت على الأرض بما رحبت، وانتفضت يدى عما ورثت وكسبت، وكنت قصدتك لأستريح عندك أياما وحيث علمت أن ليس عندك للضيف إلا ظبى(27/265)
السيف، ورجعت بظمأ من الشوق عن المناهل.» وسير إليه سلب تولى خان بن جنكزخان وفرسه وسيفه. فلما سمع غياث الدين الرسالة انصرف إلى الرى، وتفرقت عساكره فى المصايف.
قال: وكان جلال الدين سير صحبة رسوله عدة خواتيم، وأمره بإيصالها إلى جماعة من الأمراء علامات منه، يستميلهم ويمنيهم الإحسان، فمنهم من تناول الخاتم وسكت وأجاب إلى الانقطاع إليه أو التقاعد عن نصرة غياث الدين، ومنهم من سارع إلى غياث الدين فناوله الخاتم، فعند ذلك أمر بالقبض على الرسول المذكور والاحتياط عليه. وبادر إلى خدمة جلال الدين، أبو بكر ملك- وهو من بنى أخواله- وذكر له أن القلوب مجتمعة على محبته، فركب جلال الدين فى ثلاثة آلاف ضعاف، وجد السير حتى وافى غياث الدين وأعجله عن التدبير. فلما أتاه النذير ركب فرس النوبة إلى قلعة سلوقان، ودخل جلال الدين خيمته وبها بكلواى والدة غياث الدين، فاستوفى لها أدب الخدمة، وشرط التعظيم والحرمة وأنكر انزعاج غياث الدين وإخلاءه «1» مكانه، وذكر لها إشفاقه عليه. فسيرت إليه من سكن روعته، فعاد إلى خدمة أخيه جلال الدين ونزل جلال الدين فى منزلة السلطان، وأتته الأمراء واستعفوا مما كان منهم، فأقبل عليهم وعاملهم بالإحسان. ثم جاءه من كان بخراسان والعراق ومازندران من المتغلبين. فمنهم من حسنت سيرته فى أيام الفتنة، فأقره وأعاده إلى مكانه، ومنهم من ساءت طريقته فأذيق(27/266)
وبال طغيانه، وتفرقت الوزراء والعمال فى الأطراف فضبطوها بتواقيع جلال الدين.
ذكر مسيره صوب خوزستان
ولما تمكن السلطان جلال الدين من أخيه غياث الدين، وصار معه كأحد أمرائه، توجه نحو خوزستان، وشتى بها، ووجه من هناك ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود العارض النسوى رسولا إلى الديوان العزيز. وكان من قبل ذلك قد جرد جهان بهلوان إيلجى برسم اليزك، فصادف المذكور عسكرا من عساكر الديوان وعربان خفاجة، فأوقع بهم وأخرق الهيبة، وهتك الحرمة، فعادوا إلى بغداد على وجه غير مرضى، وأحضرت طائفة منهم إلى المخيم الجلالى، فأطلقوا. ووصل ضياء الملك بعد الحادثة إلى بغداد فطال مقامه، وأرجف الناس به إلى أن ملك السلطان مراغة، فأذن له فى العود بوفور الحظ من الإنعام.
قال: ولما انجلى الشتاء رحل السلطان نحو أذربيجان، فلما أشرف على دقوقا صعد أهلها السور وشتموه، لما بلغهم من شنه الغارات على بلاد الديوان، فغاظه ذلك وأمر بالزحف عليها، فلم تكن إلا حملة واحدة حتى ملكوا البلد ووضعوا السيف فى أهلها.
ثم سار نحو أذربيجان. فلما حاذى جبال همذان أتاه إيغان طايسى «1» من أذربيجان، وانتظم فى الخدمة.(27/267)
ذكر ملكه أذربيجان ومراغة
قال: ولما انتظم أيغان طايسى فى الخدمة رحل السلطان صوب أذربيجان، فلما قاربها ورد على شرف الملك كتب من أهل مراغة، حاثين عزائم السلطان بالمسير إليها لضعف الأتابك صاحبها عن دفع الكرج. فساق إليها ودخلها من غير مدافع، وأقام بها أياما.
ووجه من هناك القاضى مجير الدين عمر بن أسعد الخوارزمى رسولا إلى ملك الروم وملك الشام ومصر بكتب تتضمن تملكه بلاد أذربيجان وقلعه ما تشبثت بها من أنياب الكرج، وإعلامهم أنه نوى أن يغزو الكرج.
ثم رحل من مراغة صوب أذربيجان، وهى أرض معشبة ذات مياه جارية، وقد خرب التتار مدينتها، فأقام بها أياما والناس يمتارون من تبريز وبها بنت طغرل بن أرسلان زوجة الأتابك أزبك، فلم يمنعوهم. وجاءه من أهل تبريز من أطمعه فى ملكها، فسار نحوها، وأحاط بها من كل جانب، فخرج إليه الرئيس نظام الدين ابن أخى شمس الدين الطغرائى، وكان متحكما فيها، يملك رقاب أهلها موالاة له ولأسلافه. وتقدم إلى الأمراء بترتيب آلات الحصار من المحانيق والذبابات والسلاليم، فأخذوا فى ترتيب ذلك. فلما كان بعد سبعة أيام خرج إليه رسول من جهة بنت السلطان طغرل فى طلب الأمان لها ولجواريها وخدمها، على أموالهم ودمائهم، وعلى أن تكون مدينة خوى مفردة باسمها. فأجاب إلى ذلك، وتسلم تبريز، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين وستماية، وسير معها خادميه تاج الدين قليج وبدر الدين هلال، فأوصلاها إليها بمن معها من أتباعها. وولى السلطان رياسة تبريز للرئيس نظام الدين.(27/268)
ذكر كسر السلطان الكرج
قال: ولما ملك السلطان أذربيجان اجتمع الكرج بموضع يعرف بكربى- من حدود دوين «1» - فى ستين ألفا، وقد قلقوا لمجاورته، وقصدوا باجتماعهم أعلامه بما هم عليه من الكثرة والقوة، لعله يرغب فى مهادنتهم. فلما بلغ السلطان اجتماعهم توجه نحوهم فيمن حضر من عساكره، وقد كان أكثرهم تفرقوا إلى إقطاعاتهم بالعراق وغيره.
فحين وصل إلى شاطئ نهر أرس، «2» وجد هناك أمراء الترك ومقدمهم جهان بهلوان ايلجى، فأعلموه بأن العدو بالقرب منهم، وأن فيهم كثرة، فكان جوابه عن ذلك عبوره إلى المخاضة بفرسه، وتبعته العساكر. فلما انتهى إلى كربى رأى الكرج وقد نزلوا على نشزعال، فلم يتقدموا، إليه وبات ليلته وعليه الحرس حتى الصباح، وقال لأصحابه: إن هؤلاء قصدهم المطاولة. وأمر بالحملة عليهم من كل جهة، فحملوا عليهم صاعدين إليهم، فبادرت ميسرة السلطان بالصعود، وفيهم غياث الدين أخوه وأورخان وأيغان طايسى وغيرهم، فحمل عليهم شلوة- وكان من فرسان الكرج المشهورين- والتقى(27/269)
الفريقان برأس الجبل، فولت الكرج، وقتل منهم زهاء أربعة آلاف، ووقف السلطان على التل، والكرج تساق إليه، وتبع المسلمون من انهزم من الكرج. قال المنشى: حكى شمس الدين القمى، وكان من حجاب الأتابك أزبك- قال: «أرسلنى صاحبى إلى الكرج أيام استيلائهم، فخاشننى شلوة فى الكلام، حتى قال وددت أن يكون على- يعنى ابن أبى طالب (رضى الله عنه «1» - باقيا فى زمانى، لأريه من سطوتى ما ينسى يومى بدر وحنين» فلما كان فى هذه الوقعة نزل إلى الأرض ولطخ وجهه بالدم، ونام بين القتلى. فحدث ابن داية غياث الدين وهو صبى به، فأخرجه وأحضره إلى السلطان مكتوفا فأمنه. قال: ووجه السلطان ملك الخواص تاج الدين قليج إلى تبريز بجماعة من أمرائهم الأسرى ورؤوس القتلى. وساق من المعركة إلى مدينة دوين فزحف عليها وافتتحها فى الوقت.
ذكر عوده من دوين الى تبريز وتركه الميمنة ببلاد الكرج
قال: لما حصل للسلطان ما ذكرناه من النصر والظفر والفتوح، بث غيارته إلى أخريات بلاد أبخاز وفى نفسه قصد تفليس، فورد عليه كتاب من شرف الملك بتبريز يذكر فيه أن شمس الدين الطغرائى وابن أخيه الرئيس نظام الدين قد تآمرا «2» على الفتك به والعصيان(27/270)
على السلطان، وكان ذلك إفكا وزورا وكذبا، افتراه من كان يلوذ بشرف الملك من نوابه وخواصه. وذلك أن الطغرائى كان دينا، منصفا، حسن السيرة، ذابا عن الرعية، لا يمكن من الحيف عليهم، تارة بالشفاعة، وطورا بالتوبيخ والتشنيع؛ ونواب شرف الملك يكرهون ذلك. فلما وقف على الكتاب عزم على العود إلى تبريز، وأحضر أمراء الميمنة بباب سرادقه، وخرج إليهم بعض الحجاب، وقال: السلطان يقول لكم: «إنا قد تحققنا تقصيركم فى المصاف، واتفاقكم على أن تولوا وجوهكم إن حمل الكرج عليكم، وحيث وهب الله لنا النصر والظفر، فقد عفونا عنكم ما تحققناه، على أن تقيموا ببلادها فتقلبوها بغاراتكم ظهرا لبطن إلى أن تعود إليكم» .
فضمنوا له ذلك، وأقاموا ثلاثة أشهر يشنون عليها الغارات إلى أن أخلوها قتلا وسبيا، ورخصت المماليك الكرجية، حتى أن المملوك منها يباع بدينارين أو ثلاثة.
قال: ورجع السلطان إلى تبريز، وكان رجوعه فى شهر رجب سنة اثنتين وعشرين وستماية، وأحضر شرف الملك إلى بين يديه من الأوباش من شهد على الطغرائى وابن أخيه بما كان أنهاه عنهما.
فأمر بالقبض عليهما. فأما الرئيس فقتل فى الوقت وترك بالشارع طريحا، وأما الطغرائى فحبس وصودر على ما ينيف على ماية ألف دينار كان الذى وصل منها إلى الخزانة السلطانية دون الثلاثين ألفا، ثم حمل من تبريز إلى مراغة محتاطا عليه. هذا وشرف الملك يعمل الحيلة(27/271)
على قتله حتى أخذ خاتم السلطان بذلك، وأراد الله تعالى إبقاءه «1» فضن «2» النائب بمراغة بقتله، فأعانه بالخيل وهربا جميعا وسارا إلى أربل ومنها إلى بغداد. وحج فى سنة خمس وعشرين فلما ازدحم الناس حول الكعبة وقف تحت الميزاب وعلى رأسه مصحف، والحاج من الأقاليم وقوفا، والذى كان يتولى ركب السلطان فيهم، وقال:
«أيها الناس، قد أجمع المسلمون كافة أن ليس لله فى أرضه مقام «3» أشرف من هذا المقام، ولا يوم «4» أجل من هذا اليوم، ولا كتاب «5» أعظم من هذا الكتاب، وأنا حالف بهذه الثلاثة أن الذى نسبنى إليه شرف الملك ما كان إلا إفكا مفترى» . وغلظ بما تغلظ به أيمان البيعة فى البراءة، وتفرق الناس إلى بلادهم وتحدث بذلك كل طائفة.
وتواترت به الأخبار على السلطان، فعلم عند ذلك براءته، وندم على فعله، وأمنه وأعاده إلى تبريز، ورد عليه أملاكه هذا ما كان من أمره.
قال: وأقام السلطان بتبريز، فصام بها شهر رمضان، وأمر بمنبر فوضع بدار السلطنة، ونص على ثلاثين من علماء الأطراف وفضلائها، وقد حضروا لحاجاتهم، فوعظ كل واحد منهم يوما والسلطان لجانب المنبر، فشكر منهم من وعظ وقال حقا، وذم من بالغ فى الإطراء.(27/272)
ذكر ملك السلطان كنجة وسائر بلاد أران
قال: ولما استقر السلطان بتبريز بعد انصرافه من الكرج، وجه أورخان فى رجالة إلى كنجة، فتسلمها وما يضاف إليها من الكور، مثل بيلقان «1» وبرذعة «2» وسكور «3» [وشيز] «4» . فتمكن أورخان بكنجة.
ذكر نكاح السلطان بنت طغرل بن أرسلان
قال: وورد على السلطان نساء من قبل بنت طغرل بن أرسلان وهو بتبريز، يعلمن السلطان برغبتها فى أن يملكها، ويعلن أنها أثبتت بالشهود أنها مطلقة من زوجها الأتابك أزبك، فأجابها إلى ذلك وشهد لها أن زوجها حلف بطلاقها أن لا يغدر بفلان وغدر به، وحكم(27/273)
بذلك قاضى تبريز عز الدين القزوينى. فتزوج بها السلطان جلال الدين وسار بعد عقد النكاح إلى خوى ودخل بها، وزادها على خوى مدينتى سلماس وأرمية «1» باعمالهما. قال: وكان الأتابك بقلعة ألنجة من أعمال نخجوان «2» يسمع باستيلاء السلطان على بلاده، فلم يزد على قوله: «إن الأرض لله يورثها من يشاء «3» » ؛ فلما بلغه أمر النكاح وأنه برغبة الملكة، حم لوقته ومات بعد أيام.
ذكر عوده الى بلد الكرج وفتحه تفليس
قال: ثم سار السلطان بعد عيد الفطر من سنة اثنتين وعشرين وستماية إلى غزو الكرج فلما وصل إلى نهر أرس مرض مرضا شديدا تعذرت بسببه حركته، فشتا «4» هنالك، وقاسى من معه من شدة الثلوج أمرا عظيما. فلما انكشف الشتاء، تقدم السلطان إلى مروج تفليس، وجر العساكر إليها متجردة عن أثقالها، فوجدها منيعة حصينة، قد بنى معظم سورها على الجبال والشقفان. فخرج عامة أهلها فتأخر الجيش حتى أبعدهم عن المدينة، وحملوا عليهم حملة(27/274)
كان فيها بوارهم، وسبقهم إلى الباب غياث الدين، فملكت المدينة، وتحكمت السيوف فى أهلها، وقتل من بها من الكرج والأرمن، وتحصن أجناد الكرج بالقلعة- وبينها وبين المدينة نهر عظيم لا يخاض-.
وكان بينهما جسران «1» من الخشب فأحرقا، فلم يبت السلطان حتى عبر النهر إلى صوب القلعة، وأمر بنصب آلات الحصار، فخرج رسول الكرج فى طلب الأمان، فأجاب [السلطان] «2» إلى ذلك، وتسلمها بما فيها.
ذكر المصاف الكائن بينه وبين التتار بظاهر أصفهان
وفى سنة أربع وعشرين وستماية وردت الأخبار من خراسان بحركة التتار، وأنهم على عزم العبور، فجمع السلطان عساكره وتوجه إلى أصفهان، وجرد أربعة آلاف فارس صوب الرى ودامغان «3» لليزك، فكانت الأخبار ترد من جهتهم يوما فيوما؛ والتتار يتقدمون واليزك يتأخر، إلى أن عادوا إلى السلطان. ونزل التتار شرقى أصفهان على مسيرة يوم بقرية تسمى السين «4» وفيهم تاجن نوين «5»(27/275)
وباناك نوين وباقو نوين وأسن طغان نوين وياتماس نوين وباشاور نوين وغيرهم. وكان المنجمون أشاروا على السلطان بمصابرتهم ثلاثة أيام والتقائهم فى اليوم الرابع، فتأخر عن الملتقى وظن التتار أن ذلك فشلا منه ووهنا، فجردوا ألفى فارس إلى جبال بلاد اللؤلؤ للإغارة.
فاختار السلطان من عسكره ثلاثة آلاف، فأخذوا عليهم المضايق وأوقعوا بهم، وأحضروا منهم إلى السلطان زهاء أربعماية أسير، فأمر بضرب أعناقهم. ثم خرج للقاء التتار فلما تراى الجمعان خذله غياث الدين وفارقه بعسكره وطائفة من عسكر السلطان مقدمهم جهان بهلوان أيلحى، فلم يعبأ السلطان بمفارقتهم، وصمم على لقاء التتار، فالتقوا واقتتلوا، وحملت ميمنة السلطان على ميسرة التتار فانهزموا وركبهم السيف إلى تخوم قاشان «1» ، وهم يظنون أن الميسرة فعلت بالميمنة كذلك.
وكان للتتار كمين «2» ، فخرج وقد جنحت الشمس للغروب على ميسرة السلطان، فضربها على القلب، فثبت الأمراء والخانات أصحاب السلطان حتى قتلوا، ولم يسلم منهم إلا ثلاثة وهم كوج تكين بهلوان والحاجب الخاص خان بردى وأودك أمير أخور. وأسر علاء الدولة أباخان صاحب يزد، أخذه رجل من المرتدة، فأعطاه ما كان معه من المال، فأطلقه فوقع بالليل فى بئر فمات. ووقف السلطان فى القلب وقد أحاطت به التتار من كل جانب، ولم يبق(27/276)
معه الا أربعة عشر من خواص مماليكه، فالتفت فإذا هو بحامل [سنجقه] «1» قد ولى منهزما، فلحقه وطعنه فقتله، وحمل على التتار، فأفرجوا له ولخواصه، فخرج. قال: ثم تفرق القلب والميسرة وطرحتهم الجفلة إلى كرمان وأذربيجان، ومنهم من دخل إلى أصفهان. وعادت الميمنة بعد يومين من جهة قاشان، وظنوا أن السلطان بأصفهان، فلمّا تحققوا الحال تسحبوا.
قال: وخفى أمر السلطان ثمانية أيام، وكان المصاف فى الثانى والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وعشرين وستماية. وكان الأتابك إيغان طايسى لم يخرج من أصفهان يوم المصاف لمرضه، فاتفق القاضى ومن تخلف بها من أرباب الدولة على أنهم إن صلوا العيد ولم يظهر السلطان أجلسوه على سرير الملك، فلما خرج الناس لصلاة العيد حضر السلطان إلى الصلاة، فسر الناس به وأقام بها عدة أيام إلى أن تجمع ما تشتت من عساكره المتفرقة.
وأما التتار فإن السيوف نالت منهم منالا عظيما، ولم يخلص منهم- مع انتصارهم- إلى ما وراء جيحون إلا قليل «2» ؛ فإن السلطان لما تجمعت عساكره سار «3» فى آثارهم إلى الرى. وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل أن ابن جنكزخان أرسل إلى السلطان إثر هذه الوقعة يقول: إن هؤلاء ليسوا منا «4» .(27/277)
ذكر ما آل اليه أمر غياث الدين
قال: وأما غياث الدين، فإنه لما فارق السلطان عند لقاء التتار، سار إلى خوزستان، وأرسل وزيره كريم الشرق إلى الديوان العزيز معلما بمفارقته لأخيه، ويذكر أنه قد جاور الممالك الديوانية زمانا بالعراق فأحسن الجوار، إلى أن حضر أخوه من الهند فشن الغارات عليها وقلبها بطنا لظهر وسأل أن يعان على استرجاع ما غصبه جلال الدين من ملكه، ويكون من جملة غلمان الديوان، فأعيد رسوله بوعد جميل، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار. ثم تسحب غياث الدين إلى ألموت لما بلغه ظهور السلطان.
قال: ولما وصل السلطان إلى الرى مقتفيا آثار التتار بعد الوقعة، ففرق عساكره بتخوم ألموت من حدود الرى إلى أبخاز «1» فصار علاء الدين صاحب ألموت كالمجنون، فراسل السلطان يلتمس الأمان لأخيه غياث الدين ليعود إلى الخدمة، فأجابه إلى ذلك وحلف له؛ وأصحب رسوله رسولين من عنده إلى غياث الدين وهما تاج الملك نجيب الدين يعقوب الخوارزمى وجمال الدين فرج الطشتدار. فلما وصلا إلى غياث الدين ندم على طلبه الأمان، وسأل صاحب ألموت أن يعينه بما يحمله هو ومن معه، فأعانه بثلاثمائة فرس أو أربعماية، فخرج ووقعت عليه طائفة من العساكر المركزة حول ألموت فلحقوه(27/278)
بحدود همذان وكادوا يمسكونه، ثم خلص منهم ونجا إلى كرمان- وبها الحاجب براق نائبه- فسار إليه طمعا فى وفائه. فأول ما اعتمده معه أنه تزوج بوالدته على كره منها ومنه. ثم ذكر بعد ذلك أنها قصدت أن تسقيه سما فقتلها وقتل معها الوزير كريم الشرق وجهان بهلوان إيلجى، وحبس غياث الدين ببعض القلاع، واختلفت الأقاويل فى عاقبة أمره، فقيل إن براقا قتله بعد حين وقيل إنه تخلص من الحبس إلى أصفهان وقتل فيها بأمر السلطان والله أعلم.
ذكر مسير السلطان الى خلاط ومحاصرتها
قال: وسار السلطان إلى خلاط وكان قدم العساكر والأثقال كلها، وتوجه هو جريدة فى ألف فارس صوب نخجوان وحث السير إلى ناحية بجنى «1» وكمن بها ليلا حتى إذا أصبحت رعية الكرج، وسرحوا بمواشيهم على عادتهم، ضرب عليها وساقها إلى نخجوان، فكان الثور الجيد يباع بدينار. وكان سبب مسيره إلى نخجوان رغبة صاحبتها فى الاتصال به، فتزوجها وأقام بها أياما، ثم سار حتى أتى خلاط، وقد سبقته العساكر إلى تخومها، وأقامت على مسيرة يوم منها. فلما وصل إليهم ورد عليه رسول من عز الدين أيبك نائب السلطان الملك الأشرف موسى بها، يذكر أن السلطان استنابه، وقبض على الحاجب لإساءته وتطرقه إلى بلاد السلطان(27/279)
جلال الدين وأنه من جملة نوابه، وبالغ فى الملاطفة. فأجابه السلطان عن ذلك بجواب مغالط، وقال: إن كنت تقصد رضاى فابعث إلى بالحاجب على. فلما عاد الرسول بهذا الجواب قتل الحاجب على، ورحل السلطان، ونزل على خلاط وحاصرها ونصب عليها اثنى عشر منحنيقا كانت العمالة منها ثمانية.
ذكر الحوادث فى مدة حصار خلاط
كان من ذلك وصول ركن الدين جهان شاه صاحب أرزن الروم، فتلقاه السلطان أحسن لقاء. وقدم المذكور إلى السلطان ما قيمته عشرة آلاف دينار، وخلع السلطان عليه وعلى أصحابه وأعاده إلى بلده. وأمره أن يجهز إليه ما يمكنه من آلات الحصار، فسير منجنيقا كبيرا وأتراسا ونشابا وغير ذلك.
ومنها أن خان سلطان أخت السلطان «1» التى كانت أسرت مع تركان خاتون، واستخصها دوشى خاتون بن جنكزخان لنفسه على ما قدمناه، وصل رسولها إلى السلطان بخاتم كان لإبنها أمارة، وهى تذكر أن الخاقان قد أمر بتعليم أولادها القرآن، «وقد بلغه أخبار شوكتك وعزم على مصاهرتك والمهادنة معك، على أن تشاطره الملك على نهر جيحون، فيكون لك ما دونه وله ما وراءه، فان كنت تجد من قوتك ما تقاومهم وتنتقم منهم فشأنك وما أردت،(27/280)
وإلا فاغتنم السلامة والمسالمة حال رغبتهم فيها.» فتشاغل عنها بخلاط ولم يعد عليها جوابا يقتضى الصلح.
ومنها ورود سعد الدين الحاجب رسولا من الديوان العزيز إلى السلطان يلتمس أشياء، منها أنه يستصحب معه رسولا من أجلاء أصحاب السلطان وخواص حضرته ليعود بالخلع؛ ومنها أن السلطان لا يحكم على بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ومظفر الدين كوكبرى صاحب أربل وشهاب الدين سليمان شاه ملك الأبويه وعماد الدين بهلوان بن هزار سف ملك الجبال، بل يعدهم فى جملة أولياء الديوان وأتباعه وخدمه وأشياعه.
ومن جملتها أن السلطان علاء الدين لما رجع من جبال همذان ولم يتم له ما نواه من قصد بغداد، أسقط خطبة الخليفة بعامة ممالكه، واستمر الحال على ذلك. فلما خاطبه رسول الديوان فى ذلك أصدر تواقيعه إلى عامة بلاده بالخطبة لأمير المؤمنين المستنصر بالله أبى جعفر.
ذكر مسير رسول السلطان الى الديوان العزيز واجتماعه بالخليفة وما اتفق له وعوده بالخلع والتشاريف
قال شهاب الدين محمد المنشى وهو كاتب السلطان جلال الدين:
لما انقضت أشغال رسول الخليفة سعد الدين بن الحاجب أعاده السلطان وأصحبه الحاجب الخاص بدر الدين طولق. وكتب السلطان إلى أمير المؤمنين يسأله أن يحضر بين يدى المواقف الشريفة،(27/281)
تميزا له على سائر الملوك بمزيد الإكرام، فأجيب إلى ذلك. قال المنشى: حدثنى الحاجب الخاص قال: كان السلطان أمرنى أنى إذا حضرت إلى الديوان لا أقبل يد الوزير بدر الدين القمى «1» ، ولا أوفيه حق التعظيم لأمور كان ينقمها عليه، ففعلت ذلك امتثالا لما أمر. فلما مضت أيام فإذا بحراقة فى بعض العشيات وصلت إلى منزلى بحافة دجلة، ودخل على سعد الدين الحاجب، وقال:
استعد لخدمة أمير المؤمنين. فركبت الحراقة وركبها سعد الدين معى، فتكلم الملاح بكلمات غريبة لم أفهمها؛ فقفز سعد الدين من الحراقة إلى أخرى بجنبها وتركنى منفردا فيها، فسألته عن ذلك، فقال: ما كنت أعرف أن تلك من المراكب الخاصة، وقد سيروها لك تشريفا، فقمت وخدمته وشكرت ودعوت، وسقنا إلى أن وصلنا إلى باب كبير، فدخلت وتأخر سعد الدين ولم يتغير من هناك. فقلت: «لم لا تدخل؟» فقال: «وما منا إلا له مقام معلوم، ليس لى أن أتعدى هذا المقام» . وكان خلف الباب خادم، فأوصلنى إلى باب آخر وطرق الباب، ففتح فدخلت وإذا بخادم شيخ جالس على دكة وبين يديه مصحف وشمعة، فأجلسنى ورحب بى إلى أن جاء خادم آخر أبيض حسن الصورة فصافحنى ولاطفنى بالعجمى وأخذ بيدى وأوصانى بتعظيم المواقف الشريفة، وحسن الأدب وتقبيل الأرض حيث يشير إلى. فذكر ما اتفق له إلى أن انتهى إلى(27/282)
الستر والوزير قائم فأمر بالوقوف بالقرب من الوزير، ثم قال له أمير المؤمنين: كيف الجناب العالى الشاهنشاهى- وهكذا كان يخاطب فى الكتب- ثم وعده بمواعيد جميلة فى حق السلطان، وأنه يقدمه على سائر ملوك زمانه، وخلع عليه وأعيد؛ وأصحب بالأمير فلك الدين ابن سنقر الطويل وسعد الدين بن الحاجب، ومعهما خلعة للسلطنة؛ فوصلوا إلى خلاط فى فصل الشتاء، والسلطان يحاصرها.
قال: وكان الذى استصحبوه من الأنعام والخلع خلعتين للسلطان إحداهما حبة وعمامة وسيف هندى مرصع النجاد والثانية قباء وكمة وفرجية «1» وسيف قلاجورى محلى بالذهب معرقه الحياصة بالدنانير، وقلادة مرصعة يمنية، وفرسان بالساحات والسرفسارات والطوق أثقل ما يكون وأبهى، وثمان تطبيقات طبقت حوافرها عند التسليم وزن كل تطبيقة منها مائة دينار، وترس ذهب مرصع بنفائس الجواهر، وثلاثون فرسا من الخيل العربية مجللة بالأطلس الرومى مبطنة الجلال بالأطلس البغدادى وعلى رأس كل جنيب مقود من الحرير وقد ضرب عليه ستون دينارا خليفتية؛ وثلاثون أو عشرون مملوكا بالعدة والمركوب، وعشرة فهود بجلال الأطلس وقلائد الذهب، وعشرة صقور مكللة الكمام بصغار الحب، ومائة وخمسون بقجة فى كل واحدة عشرة ثياب وخمسة أكر من العنبر الأشهب مضلعة بالذهب، وشجرة عود طولها خمسة أذرع أو ستة تحمل بين يدى رجلين، وأربع عشرة خلعة برسم الخانات كلها بالخيل والساجات(27/283)
والكرفسارات والطوق وحوائص الذهب والكنابيش؛ وثلاثمائة خلعة برسم الأمراء، كل خلعة قباء وكمة فحسب. وكانت خلعة شرف الملك الوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيفا «1» هنديا «2» وأكرتين «3» من العنبر وخمسين «4» ثوبا وبغلة. وعشرون خلعة برسم أصحاب الديوان كل خلعة منها جبة وعمامة. قال المنشى:
وخصصت من سائر أرباب الديوان ببغلة شهباء جيدة وعشرين «5» ثوبا أكثرها أطلس رومى وبغدادى.
قال: فلبس السلطان الخلع خلعة بعد أخرى فى نهار واحد ولبس الناس بعده. ثم خاطب رسولا الخليفة السلطان فى الشفاعة فى أمر خلاط وترك الحصار فلم يرد عليهما جواب شفاعتهما. ثم بعث إليهما بعد عودهما إلى منازلهما معاتبا، وقال: قد بلغتمانى عن أمير المؤمنين أنه يريد إعلاء أمرى وتعظيم شأنى وتحكيمى على ملوك الزمان ثم تشيران على بإزالة الحصار بعد أن آن الفتح؟ وهذا ينافى ما ذكرتما، فاعتذرا، وقالا: «إنما قلنا ذلك شفقة، وخشينا أن يطول الحصار، ولا تتمكن منها فترجع عنها، فيكون ذلك بوساطتنا أسلم من مطاعن المستعجزين» فقبل عذرهما، واستمر الحصار. وكان أهل خلاط قد كفوا عن الشتم فى أيام حضور رسل الخلافة فلما تحققوا أنهم ما شفعوا عادوا إلى عادتهم فى السب(27/284)
والشتم. ثم وردت عليه رسل الملوك، كالملك المسعود صاحب آمد والملك المنصور صاحب ماردين يبذلان الطاعة، فكتب إليهما بالخطبة له فى بلادهما.
ومما اتفق له أن امرأة عجوزا أتته وهى من دهاة الأرض تتكلم بثلاث لغات: الفارسية والتركية والأرمينية، وكان مضمون رسالتها أن ركن الدين العجمى- وهو من ذوى الحظ عند الملك الأشرف- استدعى من السلطان خمسة آلاف دينار يفرقها فى الأجناد بخلاط فتجلب أهواءهم وتسلم للسلطان خلاط. قدفع السلطان لها ألف دينار وقال: إذا ثبت صدقك وعدت برسالة ثانية كملت لك المال، وكانت الرسالة غير صحيحة، فشاع الخبر فى العسكر حتى بلغ عز الدين أيبك فقتل ركن الدين، ثم ظفر السلطان بالعجوز بعد فتح خلاط واستعاد الذهب منها وقد صرفت منه ثلثماية دينار، وأمر بقتلها فقتلت.
ذكر ملكه مدينة خلاط
قال: وملك السلطان جلال الدين خلاط فى آواخر سنة ست وعشرين وستماية وقيل إنه حاصرها فى أوائل سنة ست وعشرين وملكها يوم الأحد لئلاث بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين قال: ولما طالت مدة الحصار وعدمت الأقوات حتى أكل الناس الكلاب والسنانير، أدلى الأمير إسمعيل الإيوانى بعض أصحابه ليلا من السور؛ فحضر إلى السلطان وأعلمه أن اسمعيل يلتمس(27/285)
من السلطان أن يعين له أقطاعا بأذربيجان ليسلم المدينة، فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع بأذربيجان، وحلف له على تقريرها بيده، ولبس الناس لامة حربهم وأدلى إسمعيل الحبال ليلا، فطلعت أعلام السلطان مع رجاله، واستعد الناس للزحف. فلما أصبحوا زحفوا على الثلمة فقاتل من بخلاط من بقايا الأجناد القيمرية «1» قتالا شديدا، ثم نظروا إلى الأبراج وإذا أكثرها قد مليت بالرجال والأعلام السلطانية فزحف عليهم من بالأبراج فولوا منهزمين، وأسرت الأمراء القيمرية والأسد بن عبد الله وغيرهم، وتحصن عز الدين أيبك ومجير الدين وتقى الدين ابنا الملك العادل بن أبى بكر ابن أيوب بالقلعة. وأراد السلطان أن يحمى خلاط من النهب فغلبوا على رأيه فيها، فأباحها ثلاثة أيام، ومات جماعة كثيرة من أهلها بالعقوبات فى طلب الأموال. ثم نزل تقى الدين وناصر الدين القيمرى وطلبا الأمان لعز الدين أيبك، فأمنه. ونزل إليه هو ومجير الدين ثم قبض السلطان بعد ذلك على عز الدين وحبسه وترددت رسل الملك الأشرف فى الصلح فأمر السلطان بقتل عز الدين أيبك فى محبسه فقتل. قال: ولما ملك السلطان خلاط أمر بعمارة ما هدمته المجانيق منها فعمر وأقطع كورها للخانات والأمراء، ثم وردت رسل الديوان بالشفاعة فى تقى الدين ومجير الدين، فسلم السلطان تقى الدين خاصّة.(27/286)
ذكر مسيره الى بلد الروم وانهزامه من عسكرى الشام والروم
قال: ولما ملك السلطان خلاط سار منها إلى منازجرد «1» ليرتب الحصار، فوصل إليه ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب أرزن الروم نائبا، وأعلم السلطان باتفاق ملوك الشام والروم عليه وقال: «إن الرأى أن تبادرهم قبل أن يجتمعوا» فصوب السلطان رأيه، وعرف نصيحته، فاتفقا على أن يقيما بخرت برت «2» وينظرا حركة العساكر، فأيهما تحرك أولا ساقا إليه قبل اتصاله بصاحبه.
فلما وصل السلطان إلى خرت برت مرض مرضا شديدا يئس منه من الحياة، وتواترت كتب ركن الدين صاحب أرزن الروم يحرضه على الحركة، ويعلمه بحركة العسكر، والسلطان فى شغل بنفسه عن قراءتها. فحين خف عنه المرض ركب بعد اجتماعهما، وكان قد أذن لبعض العساكر الأرانية والأذربيجانية والعراقية والمازدندانية فى العود إلى أوطانهم، ولم يستحضرهم وسار، وجرد أمامه أوترخان فى ألفى فارس برسم اليزك. ثم التقى الجمعان بعد ذلك واقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الهزيمة على أصحاب السلطان،(27/287)
وأسر ألغ خان وأطلس ملك وعدة من المفاردة «1» ؛ فأمر صاحب الروم بضرب أعناقهم. وأسر ركن الدين صاحب أرزن الروم على ما ذكرناه فى أخبار السلجقية ملوك الروم.
قال: وسار السلطان جلال الدين إلى أن وصل إلى منازجرد، فوجد وزيره شرف الملك قد ضايقها ونصب عليها عدة من المجانيق وأشرف على فتحها، فاستصحبه معه إلى خلاط، فلما وافاها حمل ما أمكنه من الخزائن، وأحرق البقية لقلة الظهر وضيق الوقت وفارقها إلى أذربيجان. فلما وصل إلى سكماناباذ، خلف شرف الملك ومن كان معه من العراقيين هناك برسم اليزك، وأقام بخوى. وأما أصحاب السلطان الذين كانوا بزكا، فإن الهزيمة استمرت بهم إلى موقان «2» . قال: ولما بلغ الملك الأشرف أن شرف الملك هو المقيم بسكماناباذ راسله فى طلب الصلح، وقال: إن سلطانك هو سلطان الإسلام والمسلمين وسيدهم، والحجاب دونهم ودون التتار؛ وغير خاف علينا ماتم على حوزة الإسلام وبيضة الدين بموت والده، ونحن نعلم أن ضعفه ضعف الإسلام. وطلب منه أن يرغبه فى الألفة وضمن له من علاء الدين كيقباذ والملك الكامل أخيه، والقيام بما يزيل عارض الوحشة؛ فركن السلطان إلى ذلك، وترددت الرسائل إلى أن تم الصلح.(27/288)
ذكر وصول مقدمة التتار الى تخوم أذربيجان ورحيل السلطان من تبريز الى موقان
قال: كان السلطان قد جرد يرغو أحد بهلوانيته «1» ليكشف بالعراق أخبار التتار فلما وصل إلى مرج شروان «2» بين زنجان «3» وأبهر صادق «4» يزك التتار، وكان معه من أصحابه أربعة عشر نفسا فلم ينج منهم غيره، فرجع إلى تبريز بالخبر المزعج. فرحل السلطان من تبريز إلى موقان، اذ كانت عساكره بها متفرقة فى مشاتيها، فأعجلته الحادثة قبل أن ينظر فى أمر حرمه فيسيرها إلى قلعة حصينة من حصونه، فخلفها بتبريز، وسار فيمن معه من خواصه متوجها إلى موقان، حاثا فى السير ليجمع بها متفرق عساكره. فوصلها فوجد عساكره متفرقة، منهم من أقام بها ومنهم من توجه ليشتى بشروان، ومنهم من امتد إلى المكتور «5» .
فوجه إليهم البهلوانية بقداح كانت علامات الاستقرار والاستحضار وقد هجم التتار عليهم قبل اجتماعهم وانتقض هذا النظام.(27/289)
ذكر كبسة التتار السلطان وهو بحد (شيركبوت)
قال: لما انفصلت البهلوانية لجمع العساكر اشتغل السلطان بالصيد وهو فى قلّ من العدد زهاء ألف فارس من خواصه، فترك ليلة بقرب شيركبوت، وهى قلعة مبنية على تل بموقان، يحيط بها خندق بعيد القعر، متصل متسع العرض، ينبع الماء منه فيفيض فيسقى البلد. فبينما هو بتلك المنزلة كبسه التتار ليلا فانهزم وساقوا فى أثره. فلما وصل إلى نهر آرس أوهم التتار أن قطع النهر صوب كنجة وعطف إلى أذربيجان، فأقام بماهان «1» ، وهى فضاء كثيرة الصيد فشتا «2» بها. وكان عز الدين صاحب قلعة شاهق يبعث إلى السلطان ما يحتاج إليه من المأكل وغيره فى المراكب. وقد كان قبل ذلك يجاهره بالعداوة، فرضى عنه السلطان كل الرّضى، وكان عز الدين يعلم بأخبار التتار فلما انقضى الشتاء أخبره أن التتار قد ركبوا من أوجان «3» لقصده، وأنهم تحققوا مكانه؛ وأشار إليه بالعود إلى أران فرحل صوبها.(27/290)
ذكر القبض على شرف الملك وزير السلطان وقتله
قال المنشى: لما نبت الجفلة بالسلطان شرع شرف الملك فى تمهيد القواعد لنفسه، وكاتب الملك الأشرف وغيره من الملوك، وذكر رجوعه عن السلطان، ونعت جلال الدين بالمخذول، وكتب إلى نواب الأطراف فى ذلك وذكره فى كتبه إليهم بالظالم المخذول؛ وصدر منه من الأفعال ما يناسب ذلك، فظفر السلطان بشيئ من هذه الكتب وكتمها؛ لكنه كان يكتب إلى نواب الأطراف يحذرهم منه ومن امتثال أمره، ويغض منه فى كتبه. وكان شرف الملك قد استقر بقلعة حيزان «1» وعمرها وصادر أصحاب السلطان، وجاهر بالعداوة، فلما رجع السلطان من ماهان وقارب حيزان، راسله فى النزول إليها وتغافل عن جميع ما صدر منه، وأوهمه أنه باق على ما عهده. ونزل شرف الملك إليه فأكرمه بما لم يكن يعامله به قبل ذلك، فإنه أحضره فى مجلس شرابه وشرب معه، ولم تكن هذه عادتهم مع وزرائهم، فسر شرف الملك بذلك وظن أنه زاده تقريبا وتعظيما.
قال: وسار السلطان حتى قارب قلعة جاريبرد- وهى من مضافات أران- وعزم على أن يحبس شرف الملك بها، فركب إليها وصعد(27/291)
لكشفها، وصعد شرف الملك معه، فأمر السلطان واليها سرا- واسمه سملان سلك بك وهو شيخ تركى ظالم شرير- أنه إذا نزل يمنع شرف الملك من النزول ويحبسه بالقلعة ويقيده. وكان يخشى منه أنه يفارقه إلى بعض الجهات فيثير فتنة، وعزم على حبسه إلى أن تخمد فتنة التتار، ثم يخرجه ويعيده إلى الوزارة من غير تقرير عشر البلاد، بل يقرر باسمه فى كل شهر ألف دينار أسوة بوزير الخليفة، ولا يطلق يده فى الإطلاقات، فحبس شرف الملك بالقلعة، ونزل إلى متولى القلعة بعد حبسه بأيام وقد جلس السلطان للمظالم، فكثرت الشكوى فى متولى القلعة والسلطان لا يجيب فى أمره بشيئ تألفا له. فخاف المتولى أن السلطان يعزله، فاتفق مع شرف الملك.
وكان السلطان لما اعتقل شرف الملك ضم مماليكه الذين أمّرهم إلى أوترخان وكان كبيرهم ناصر الدين قشتمر، فدخل يوما على أوترخان بخاتم شرف الملك وقال إن متولى القلعة سيره إليه يقول: إننى قد واطأت صاحبك على إطلاقه، وأننا نصالح الكرج، فمن رغب منكم فى خدمته فليأت القلعة. فلما سمع السلطان بذلك سقط فى يده وفت فى عضده. وكان ابن المتولى فى جملة بهلوانية السلطان وجماقداريته، فبعثه إلى أبيه يقبح عليه فعله ويذكره بإحسانه إليه وأنه ليس لجنايته موجب. فرجع الغلام وأخبر السلطان عن أبيه.
أنه على الطاعة إن وثق من السلطان أنه لا يعزله. فقال السلطان مصداق هذا القول أنه يبعث إليه برأس شرف الملك. ووجه صحبة ابن المتولى خمسة من السلحدارية. قال: فلما دخلوا عليه وعلم مقصدهم استمهلهم ريثما يتوضأ ويصلى ركعتين. فلما فرغ من صلاته أذن لهم فى(27/292)
الدخول. فقالوا له: ماذا تختار: الخنق أم السيف؟ فاختار السيف فقالوا: إن الملوك لا تقتل بالسيف، والخنق أهون عليك، فقال: شأنكم وما تريدون. فخنقوه وخرجوا من عنده حتى يبرد ثم يدخلوا عليه فيقطعوا رأسه. فلما دخلوا عليه وجدوه قد أفاق وجلس، فضربوا عنقه. هذا ما نقله شهاب الدين المنشى فى سبب قتله.
وقال غيره من المؤرخين: إن سبب خلاف شرف الملك على السلطان وانضمام الناس إليه أن جلال الدين ظهر منه فى هذه السنة- وهى سنة ثمان وعشرين وستمائة- نقائص وأمور دلت على نقص عقله، وأوجبت انحراف وزيره وعساكره عنه. فمنها أنه كان له خادم خصى يسمى قلج، وكان جلال الدين يحبه، فمات فأظهر عليه من الهلع والجزع ما لم يسمع بمثله، ولا نقل عن مجنون ليلى ولا غيره من جهال العرب، الذين ضرب بهم المثل، وأمر الجند والأمراء أن يمشوا فى جنازته رجّاله. وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ فمشى الناس كما أمرهم، ومشى هو بعض الطريق راجلا، فألزمه وزيره وأمراؤه بالركوب، وأرسل إلى أهل تبريز أن يتلقوا الجنازة فتلقوها، فأنكر عليهم لتأخرهم وكونهم ما تقدموا الموضع الذى لقوها فيه، وكونهم لم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما أظهروا، وقصد معاقبتهم على ذلك، فشفع فيهم الأمراء فتركهم ولم يدفن الخادم، وكان يستصحبه معه أين سار وهو يلطم ويبكى، وامتنع من الأكل والشرب. وكان إذا اقدم له طعام يقول: احملوا من هذا إلى قلج، فيحملونه ويعودون فيقولون: هو يقبل الأرض ويقول: إننى الآن أصلح مما كنت، ولا يتجاسر أحد يقول: إنه مات،(27/293)
فإنه قيل له مرة إنه مات فقتل القائل. فحصل لأمرائه من الغيظ والأنفة ما حملهم على الخروج عن طاعته والانحياز عنه والانضمام إلى وزيره؛ فكان ذلك سبب خروجه.
ذكر رحيل السلطان صوب كنجة وتملكها ثانيا
قال: كان أوباش كنجة قد قتلوا من بها من الخوارزمية وتجاهروا بالفساد، وملك زمام أمرهم رجل يعرف ببندار وأطاعه الأوباش فبسط يده فى المصادرات، واقتصرت أذيته على من لم يدخل معه فى العتو. فوجه السلطان إليه يدعوه إلى الطاعة، ويحذره ويحذرهما من المخالفة، فلم يجيبوا إلى ذلك. فسار السلطان إليها، ونزل ببعض بساتينها، وترددت الرسائل فى بذل الأمان والوعد بالعفو، فلم يجيبوا إلى ذلك، وخرجوا للحرب، ورموا خيمة السلطان بالسهام ووصلوا إلى حائط البستان. فركب فيمن حضر من خواصه، وأوقع بهم، وسار حتى دخل المدينة. وأقام بكنجة سبعة عشر يوما ينتظر ما يسوغه التدبير، ثم أجمع على الاستنجاد بالملك الأشرف موسى على التتار، وكان جماعة من الجبناء يسيرون عليه بذلك وهو يخالفهم باطنا ويوافقهم ظاهرا. فسار إلى خلاط من طريق كيلكون، والغارات تنقلب بلاد الكرج بطنا لظهر، والسلطان يتابع رسله إلى الملك الأشرف يستنجد به. ولما بلغ الملك الأشرف توجه الرسل إليه يستمدونه، توجه إلى مصر واجتمع رسل السلطان بدمشق، والكتب ترد عليهم من الملك الأشرف بأننا واصلون من مصر لإنجاد السلطان.(27/294)
مواعيد كما لاح سراب المهمه القفر ... فمن يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر
ثم وردت عليه كتب رسله يؤيسونه من إنجاد الملك الأشرف، فبعث إلى الملك المظفر شهاب الدين غازى ابن الملك العادل أبى بكر يستصرخه بنفسه، ومن عنده ومن حوله من الملوك، مثل صاحب آمد وماردين. فأجاب الملك المظفر أنه غير مستقل بالأمر وإنما هو ينوب عن إخوته. وأما صاحب آمد وماردين فلم يسمعا الرسالة.
ذكر نزول السلطان بلد آمد وكبس التتار له وما كان من أمره
قال: لما آيس السلطان جلال الدين من إنجاد الملوك أحضر أمراءه واتفقوا على أن يتركوا أثقالهم بديار بكر، ويتجردوا «1» خفافا بمن يعز عليهم من نسائهم وأولادهم إلى أصفهان. فورد علم الدين سنجر- المعروف بقصب السكر- رسول الملك المسعود صاحب آمد رسالة تشتمل على الطاعة والخدمة، ويزين للسلطان قصد الروم، وأطمعه فى الاستيلاء عليها وعدم من ينازعه، ووعد السلطان أن يخرج بنفسه وأربعة آلاف فارس ولا يفارق خدمته. وكان سبب ذلك أن صاحب الروم قد أوغر صدر الملك المسعود صاحب آمد، واستولى على عدة من قلاعه. فمال السلطان إلى كلامه، وعدل عما كان قد عزم عليه من المسير إلى أصفهان، وعطف صوب بلد آمد،(27/295)
ونزل الجسر بقربها. قال: وشرب تلك الليلة حتى سكر، فأتاه وهنا من الليل شخص تركمانى وقال: «إننى رأيت فى منزلتك التى كنت بها أمس عسكرا قد نزلها غير ذى عسكرك بخيل أكثرها شهب.»
فكذبوه، وقالوا: هذه حيلة. فلما كان قبيل الفجر، أحاط التتار به وبمن معه، فكانوا كما قيل:
فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب
ومن فى كفه منهم قناة ... كمن فى كفه منهم خضاب
قال: وأحاط التتار بخركاة «1» السلطان وهو نائم فى سكره، وإذا بأورخان قد وصل بأصحابه، وحمل على التتار حتى كشفهم عن الخركاة، ودخل بعض الخواص فأخذ بيد السلطان وأخرجه من الخركاة وعليه طاقية بيضاء. فركب فرسه ولم يذكر فى ذلك الوقت إلا الملكة ابنة الأتابك سعد، فجهز فى خدمتها من يسوق بها إلى حيث ترميهم الجفلة، وساق وأطلاب التتار تتبعه مجدة فى السير خلفه فلما رأى ذلك، أمر أورخان أن يفارقه بمن معه من العسكر ليتبع التتار سواده، ويخلص هو بمفرده، ففعل ذلك.
قال المنشى: ولقد أخطأ، فإن أورخان لما فارقه انضوى إليه خلق كثير، ووصل إلى أربل ومعه أربعة آلاف فارس، وساق إلى أصفهان وملكها زمنا إلى أن قصدها التتار. وأما السلطان فساق بعد فراقه لأورخان إلى أن وصل إلى باشورة آمد، فرموه بالحجارة(27/296)
ومنعوه الدخول، فتيا سر عنها، وانضم إليه تقدير مائه فارس، فرمته الجفلة بهم إلى حدود جزيرة، وبها الدربندات المنيعة، فمنعوه من العبور، فأشار عليه أوترخان بالعود، وقال: إن أسلم الطّرق اليوم طريق سلكه التتار، فرجع ووصل إلى قرية من قرى ميافارقين ونزل ببيدرها وسيب الخيل لتستوفى شبعها، ثم ركب أوترخان وفارقه فى ذلك الوقت جبنا منه وخورا، ووثوقا بما كان بينه وبين الملك المظفر شهاب الدين غازى من المكاتبات، وأقام السلطان بالبيدر طول ليلته، فلما أصبح طلع عليه طائفة من التتار فركب وعوجل أكثر من معه عن الركوب فقتل بعضهم وأسر بعضهم. (والله أعلم)
ذكر مقتل السلطان جلال الدين وانقراض الدولة الخوارزمية
كان مقتله رحمه الله فى النصف من شوال سنة ثمان وعشرين وستمائة وذلك أنه لما كبسه التتار بالبيدر وركب، أخبرهم من أسر من رفاقه أن الذى انهزم هو السلطان، فجدوا فى طلبه وساق خلفه منهم خمسة عشر فارسا، فلحقه منهم فارسان فقتلهما، ويئس الباقون من الظفر به فرجعوا، ثم صعد جلال الدين إلى جبل. وكان الأكراد يحفظون الطرق لما يتخطفونه «1» فأخذوه وسلبوه على عادتهم بمن يظفرون «2» به، وأرادوا قتله فقال لكبيرهم سرّا: «إننى(27/297)
أنا السلطان فلا تعجل بقتلى، ولك الخيار فى أن تحضرنى عند الملك المظفر شهاب الدين فيغنيك أو إيصالى إلى بعض بلادى فتصير ملكا» فرغب الرجل فى إيصاله إلى بلده، ومشى به إلى عشيرته، وتركه عند امرأته ومضى بنفسه إلى الخيل لإحضار ما يحمله عليه. فلما توجه الكردى جاء شخص من سفلة الأكراد وأراذلها وبيده حربة، فقال للمرأة: ما هذا الخوارزمى؟ ولم لا تقتلونه؟» فقالت: «قد آمنه زوجى وهو السلطان» فقال الكردى: «كيف تصدقون أنه السلطان وقد قتل لى بخلاط أخ خير منه» وضربه بالحربة ضربة فمات منها. فكانت مدة ملكه منذ وفاة أبيه اثنتى عشرة «1» سنة تقريبا قال: وكان أسمر قصيرا، تركى العبارة. وكان يتكلم بالفارسية، وكان حليما عفيف اللسان لا يكاد يضحك إلا تبسما، وكان يحب العدل. قال المنشى: وكان يكتب إلى الخليفة فى مبدأ خروجه من الهند والوحشة قائمة، حذوا على منوال أبيه خادمه المطواع منكوبرتى ابن السلطان سنجر. ولما أتته الخلع الخليفتية بالسلطنة كتب إليه «عبده» والخطاب: «سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين وإمام المسلمين، خليفة رسول رب العالمين، إمام المشارق والمغارب المنيف على الذروة العلياء من لؤى بن غالب» . وكان يكتب إلى علاء الدين كيقباذ وملوك مصر والشام أجمع اسمه واسم أبيه منعوتا بالسلطان، ولا يزيدهم على ذلك. وكانت علامته على تواقيعه «النصرة من الله وحده» .
وكان يكاتب بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأشباهه بهذه العلامة وخوطب من الخليفة فى مبدأ طلوعه من الهند: الجناب الرفيع الخاقانى(27/298)
ولم يزل يقترح عليهم أن يخاطب بالسلطان، فلم تحصل الإجابة لذلك إذ لم تجر به عادة، فلما كثر إلحاحه خوطب بالجناب العالى الشاهنشاهى.
وانقرضت الدولة الخوارزمية بقتل السلطان جلال الدين، وكانت مدة قيام هذه الدولة منذ ولى خوارزم شاه محمد بن أنوشتكين خوارزم من قبل أمير داذ حبشى متولى خراسان فى شهر رجب سنة تسعين وأربعماية، وإلى أن قتل السلطان جلال الدين هذا، مائة سنة وثمان «1» وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وأياما. وعدة من ولى منهم سبعة وهم خوارزم شاه محمد بن أنوشتكين «2» ، ثم ابنه اتسز بن محمد، ثم ابنه ايل «3» أرسلان بن اتسز، ثم ابنه سلطان شاه محمود بن ايل «4» أرسلان،- ولم تطل أيامه-، ثم أخوه علاء الدين تكش، ثم ابنه علاء الدين محمد بن تكش، ثم ابنه جلال الدين منكوبرتى.(27/299)
ذكر أخبار الدولة الجنكزخانية وابتداء أمرها وما تفرع عنها
والدولة الجنكزخانية هى دولة التتار وقيل فيهم التاتار، وهذه النسبة إلى جنكزخان التمرجى. «1» ونحن نذكر ملخص أخباره وابتداء ظهوره وما كان من أمره إلى أن ملك البلاد، ونشرح من ذلك ما لخصناه مما طالعناه ونورد ما تلقفناه من أفواه الرجال وسمععناه.
ولما اتسعت ممالك هذه الدولة وبعدت، وكانت بين المؤرخين الضالة التى ما نشدت، تعذر علينا أن نتحقق أحوالها، ونجوس خلالها ونستوعب أخبارها، ونستقصى آثارها. ولم يمكن أن نخلّ بها وقد اشتهرت، ونطوى أخبارها وقد انتشرت، فأوردنا من أخبار ملوكها طرفا على غير مساق، ونبذة على غير اتساق، مما أورده المنشى فى تاريخه الجلالى، وعز الدين بن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل. وأما غيرهما ممن لعله أرخ لهم فلم يصل ما أرخه إلينا، ولا ورد ما دونه من أخبارهم علينا، فنقلنا ما نورده مما لم يتضمن تاريخيهما، وما بعدهما مما نقل إلينا عن رسلهم الذين وردوا إلى أبواب ملوكنا من جهتهم، ومن غيرهم ممن ورد من تلك البلاد على ما سنقف عليه إن شاء الله. ولنبدأ بذكر أخبار جنكزخان.(27/300)
ذكر أخبار جنكزخان التمرجى وابتداء أمره وسبب ظهور ملكه
وجنكزخان التمرجى هو أصل هذه الدولة، والقائم بأمرها، والناشر لذكرها. وإليه يرجع ساير ملوكها الذين استولوا على أقاصى البلاد وأدانيها، ورقاب العباد ونواصيها من الصين إلى الفرات وما دانا ذلك وتخلله وجاوره من الممالك والمدن والحصون والقلاع والأقطار. وقد اختلف فى نسبة جنكزخان إلى التمرجى فقال قوم إنه كان حدادا والتمرجى بلغتهم هو الحداد، وقال قوم بل هى نسبة إلى قبيلة تعرف بالتمرجى، وأنهم سكان البرارى ببلاد الصين وجين الصين. وتسمى هذه البلاد بلغتهم جين «1» [وما جين] «2» بين الجيم والشين. ومسيرة أقطارها ستة أشهر، وبها جبال منيعة تحيط بها كالسور، بها الأنهار العذبة المتسعة، وقيل إنه يحوى ملك الصين سور واحد لا ينقطع إلا عند الجبال المنيعة والأنهار الوسيعة وكان ملك الصين ينقسم قديما إلى ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره خان، والخان بلغتهم الملك، يحكم ذلك الخان على القوم القاطنين بذلك السقع، ومرجع هؤلاء الخانات الستة(27/301)
إلى خان واحد هو ملكهم الأكبر، ومقامه بطوغاج بوسط أرض الصين، وله مصايف ومشاتى يصيّف فى هذه ويشتى فى الأخرى.....
وأما مبدأ أمر جنكزخان وسبب ملكه فقيل إنه تزهّد مدة طويلة وانقطع بالجبال. وكان سبب زهده أنه سأل بعض اليهود فقال له:
«بم أعطى موسى وعيسى ومحمد هذه المنزلة العظيمة، وشاع لهم هذا الذكر» ، فقال له اليهودى: «لأنهم أحبّوا الله وانقطعوا إليه فأعطاهم» ، فقال جنكزخان: «وأنا إذا أحببت الله وانقطعت إليه يعطينى؟» قال: «نعم، وأزيدك أن فى كتبنا أن لكم دولة ستظهر» فترك جنكزخان ما كان فيه من عمل الحديد أو غيره وتزهد، وفارق قومه وعشيرته، والتحق بالجبال وكان يأكل من المباحات، فشاع ذكره فكانت الطائفة من قبيلته تأتيه للزيارة فلا يكلمهم، ويشير إليهم أن يصفقوا بأكفهم، ويقولوا: يا الله يا الله يخشى در، فيفعلون ذلك ويوقعون له وهو يرقص، فكان هذا دأبه وطريقته مع من يقصده للزيارة، وهو مع ذلك لا يدين لديانة ولا يرجع إلى ملة بل مجرد محبة الله بزعمه، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث فهذه كانت بدايته.
وأما سبب ملكه فحكى شهاب الدين محمد المنشى وغيره فى سبب ملك جنكزخان أنه كان من جملة الستة خانات الذين يحكمون على مملكة الصين خان يسمى دوشى خان. وكان الخان الكبير الذى مرجع الستة إليه فى زمن ظهور جنكزخان التمرجى ملك اسمه الطون خان «1» فاتفقت وفاة دوشى خان أحد الخانات الستة ولم يخلف(27/302)
ولدا، وله زوجة هى عمة جنكزخان التمرجى، فاختارت أن ترتبه مكان زوجها دوشى خان. وكان الخان الأكبر غائبا عن مدينة طوغاج «1» فلما قصدت ذلك أرسلت إلى اثنين من الخانات الستة يسمى أحدهما كشلوخان والآخر جنكزخان وهما متوليان على ما يتاخم ولاية زوجها دوشى خان، فأعلمتهما بوفاة زوجها، وأنه لم يخلف ولدا، وأنها تقصد ترتيب ابن أخيها مكانه. وسألتهما الإعانة والمساعدة على ذلك. فأجاباها إليه وأشارا أن تقيمه مقام زوجها، وضمنا لها أمر التون خان الأكبر. فأقامته ولقبته جنكزخان، وانضم إليه أقوام من عشيرته. فلما عاد التون خان إلى طوغاج حضر الخانات إلى خدمته وجاء كل منهم بما جرت به العادة من التقادم، وعرض عليه الحجاب الأمور التى اتفقت فى غيبته، وقدموا بين يديه التقادم إلى أن وصلوا إلى تقدمة جنكزخان التمرجى بحضور الخانين اللذين أشارا على عمته بتقدمته. فعجب التون خان من توليته فى غيبته.
وكونه ترشح لما لا يستحقه، فغضب من ذلك وخرج وأمر أن تقطع أذناب خيله وترد مطرودة. ففعل ذلك وشتمه الحجاب وشتموا صاحبيه كشلوخان وجنكزخان، وبالغوا فى وعيده ووعيدهما.
فلما خرجوا من بين يديه نزعوا أيديهم من الطاعة وانفردوا عن الخان الكبير التون خان، وخالفوه وانضم إليه خلق كثير، فكثرت جموعهم وأهم التون خان أمرهم، فكاتبهم يعدهم تارة ويتهددهم أخرى، على أن يرجعوا إلى الطاعة، فأبوا إلا الخلاف. فلما أيس(27/303)
التون خان من رجوعهم إلى الطاعة جمع جموعه وخرج فالتقوا واقتتلوا فكسروه، وقتلوا من قبائل الترك الذين معه مقتلة عظيمة، وهرب التون خان بنفسه إلى وراء كنك «1» وأخلى البلاد، فتمكنوا منها وملكوها، وضعف أمر التون خان ووهى حتى راسلهم يطلب المهادنة وقنع بالسقع الذى انتهى هربه إليه، فأجابوه إلى ذلك.
واستمر الأمر بين الثلاثة: كشلوخان وجنكزخان الأكبر، وجنكزخان الأصغر تمرجى، هذا على المشاركة، فكانوا كذلك إلى أن مات جنكزخان الأكبر، وبقى كشلوخان، وجنكزخان تمرجى مشتركين فى الأمر، وامتدت أيديهما فى البلاد، وسارا إلى بلاساغون «2» فملكاها وما يتاخمها ويدانيها من البلاد. فاتفقت وفاة كشلوخان فقام ولده مقامه، ولقب كشلوخان بلقب أبيه، فلم ينصفه جنكزخان واستضعف جانبه لحداثة سنه، ولم يعامله بما كان يعامل به أباه من الاشتراك فى الأمر والنهى والتناصف فى قسمة الممالك. فجرى بينهما مراسلات ومعاتبات أفضت إلى مفارقة كشلوخان بن كشلوخان إلى قيالق «3» والمالق «4» ، فصالحه صاحبها ممدوخان بن أرسلان واتفقا وتعاضدا.
واتفق أن كورخان- خان الخانية ملك الخطا- كان بينه وبين(27/304)
السلطان علاء الدين محمد بن تكش من الحروب ما ذكرناه فى أخباره، وكان السلطان علاء الدين لما هزم كورخان التجا إلى حدود كاشغر فقصده كشلوخان وممدوخان «1» وأرادا أنهما يجلسانه على تخت الملك لينضاف إليهما بسببه قبائل الترك، فنهضا إليه من قيالق وكبسا عليه وهو بحدود كاشغر وأخذاه وأجلساه على سرير الملك. وكان كشلوخان يقف بين يديه عند الإذن العام موقف الحجاب، فيشاوره فى سائر الأمور ولا يعمل منها إلا بما يختاره، فكانت واقعتهم هذه شبيهة بواقعة السلطان سنجرشاه السلجقى مع الغز لما أسروه، قال: واستوليا على خزانته وأمواله وذخائره، فبلغ السلطان علاء الدين محمد بن تكش ذلك، فأرسل إلى كشلوخان يطالبه بإرساله إليه ويتهدده إن أخره عنه، ويقول: إنه كان هادنه على أن يزوجه ابنته طوغاج خاتون ويزفها إليه بما فى خزانته من الجواهر النفيسة والأعلاق الثمينة، على أن يتركه فى أخريات بلاده؛ فما أجاب إلى ذلك، ودافعه عنه بالملاطفة والممالطة.
وفى أثناء ذلك بلغ جنكزخان تمرجى أن كشلوخان استولى على كاشغر وبلاساغون وأن ملك الخطا قد وقع بين يديه، فبعث إليه ولده دوشى خان «2» فى زهاء عشرين ألف فارس فأوقع بهم دوشى خان ابن جنكزخان، وغنم ما معهم وذلك فى سنة ثنتى عشرة وستمائة وكان السلطان علاء الدين قد عبر النهر لقصد كشلوخان وقتاله، فبلغه أن دوشى خان بن جنكزخان أوقع به، وجاءته رسالة دوشى خان(27/305)
مع من يقول له: إنه يقبل الأرض ويعتذر من عبوره إلى البلاد، ويقول:
إنه إنما عبر لطلب كشلوخان وينازله فى رسالته وقال: إن الغنائم بين يديه إن شاء أن ينعم على من باشر القتال بشىء منها، وإلا فالأمر إليه وإلا يرسل من يتسلمها ويسوقها إلى عنده، وذكر له أن أبا جنكزخان أوصاه بسلوك الأدب فى خدمة السلطان علاء الدين إن صادفه أو صادف بعض عساكره. فلم يصغ علاء الدين إلى كلامه وقال:
إن كان جنكزخان أمرك أن تقاتلنى فالله أمرنى بقتالك. وتقدم إليه والتقيا، فكسر دوشى خان ميسرة السلطان علاء الدين ومزقها، وكادت تكون الهزيمة حتى عطفت الميمنة على ميسرة دوشى خان ثم حجز بينهما الليل فأججوا نيرانا كثيرة. وركبوا وساقوا فى تلك الليلة مسيرة يومين، وتمكن الرعب فى قلب السلطان محمد وعاد إلى سمرقند. ثم راسل جنكزخان السلطان علاء الدين خوارزم شاه وهاداه، وطلب منه أن يفسح للتجار أن تتواصل من بلادهما واتفقا على ذلك على ما قدمناه فى أخبار خوارزم شاه.
ذكر خروج التتار الى البلاد الاسلامية
كان سبب ذلك أن جنكزخان لما راسل السلطان محمد وهاداه، وانتظم بينهما الصلح، وفسحا للتجار فى الوصول إلى بلاد الإسلام وبلاد الصين، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن وصل إلى أترار «1»(27/306)
- وهى من ممالك السلطان علاء الدين محمد- عدة من تجار جنكزخان.
وكان بها ينال خان ينوب عن السلطان، فقتلهم وأخذ أموالهم.
فاتصل ذلك بجنكزخان، فراسل السلطان يلومه على ذلك، ويقول:
إنك كتبت خطك وأمانك للتجار، وقد غدرت ونكثت، فإن زعمت أن الذى ارتكبه ينال خان كان عن غير أمرك فسلمه إلى لأجازيه على فعله، وإلا فأذن بالحرب. فقتل رسله كما قدمنا ذلك فى أخبار خوارزم شاه، فعند ذلك تجهز جنكزخان لقصد البلاد الإسلامية.
وكان من سوء تدبير علاء الدين خوارزم شاه وتفرقة عساكره فى كل مدينة من مدن ما وراء النهر ما ذكرناه، فتجهز جنكزخان بجموع التتار، ولما شارف البلاد الإسلامية تياسر صوب أترار واستولى عليها بعد قتال شديد، وأحضر ينال خان بين يديه وأمر بسبك الفضة وقلبها فى أذنيه وعينيه، فمات.
ذكر استيلاء جنكزخان على بخارا
قال: ولما استولى جنكزخان على أترار وقتل النائب بها، ورتب الحيلة التى أوقع بها بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وبين أمه وأخواله على ما قدمناه فى أخبار الدولة الخوارزمية، تقدم إلى بخارا، وقصد بذلك أن يقطع بين السلطان وبين عساكره المتفرقة، حتى أنه لو أراد جمعهم لعجز عن ذلك فلما انتهى إليها حاصرها، وقدم بين يديه رجال أترار، وداوم الحصار والقتال ليلا ونهارا وكان بها(27/307)
الأمير اختيار الدين كشلى أمير آخور «1» وأغلى حاحب الملقب بإينانج خان فى ثلاثين ألف فارس، فلما رأوا أنها قد أشرفت على الأخذ تخاذلوا، وأجمعوا على الهزيمة، فخرجوا وحملوا على التتار حملة رجل واحد، فأفرجوا لهم وانهزموا أمامهم حتى كادت الهزيمة تكون على جنكزخان، وظن أنهم يعودون للقتال. فلما علم جنكزخان أن مقصدهم الهرب أرسل فى آثارهم من أكابر التتار من يتبعهم ويتخطفهم إلى أن وصلوا إلى حافة نهر جيحون، فلم ينج منهم إلا إينانج خان فى شرذمة يسيرة، وشمل القتل معظم ذلك الجيش وغنم التتار ما معهم.
قال: ولما فارق العسكر الخوارزمى بخارا طلب أهلها الأمان فآمنهم وكان قد بقى من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة، وفتحت أبواب المدينة بالأمان، وذلك فى يوم الثلاثاء رابع ذى الحجة سنة ست عشرة وستمائة. فدخل التتار بخارا ولم يتعرضوا إلى أحد بل قالوا لهم: أخرجوا إلينا جميع ما هو متعلق بالسلطان من الذخائر وغيرها، وساعدونا على قتال من بالقلعة، وأظهروا لهم العدل وحسن السيرة. ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى فى البلدان أن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل. فحضروا بأجمعهم وأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى كان التتار يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونها فى الخندق.(27/308)
ثم تابعوا الزحف على القلعة وبها أربعماية فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم ومانعوا اثنى «1» عشر يوما يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد، فما زالوا كذلك إلى أن وصل النقابون إلى القلعة. واشتد الأمر ورمى المسلمون بجميع ما عندهم من حجارة وسهام ونار ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وملك جنكزخان القلعة، فلما فرغ من أمر القلعة أمر بجمع رؤساء البلد، فجمعوا وعرضوا عليه فقال لهم:
«أريد منكم النقرة التى باعكم خوارزم شاه فإنها لى وأخذت من أصحابى» فأحضر كل من كان عنده شىء منها ما عنده، ثم أمرهم بالخروج من البلد مجردين فخرجوا ليس مع أحد منهم غير ثيابه التى عليه، ونهب التتار البلد وقتلوا من تخلف فيه. وأحاطوا بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم ففعلوا ذلك وأصبحت بخارى خاوية؛ على عروشها، وارتكب التتار من الفساد العظيم والناس ينظرون إليهم ولا يستطيعون ردهم. فمنم من لم يرض بذلك واختار الموت وقاتل حتى قتل، ومنهم من استسلم وأسر. وألقوا النار فى البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب فى طلب الأموال ثم ساروا إلى سمرقند.
ذكر استيلائه على سمرقند
قال: ولما فرع جنكزخان من أمر بخارا سار إلى سمرقند وقد تحقق عجز السلطان علاء الدين عن قتاله، وهو بمكانه بين ترمذ(27/309)
وبلخ، وأمر جنكزخان أن يتوجه من سلم من أهل بخارا فخرجوا مشاة على أقبح حال، فمن أعياه التعب وعجز عن المشى قتل. فلما قاربوا سمرقند، ورموا الخيالة، وتركوا الأثقال والأسارى والرجالة وراهم، وتقدموا شيئا فشيئا ليكون ذلك أرعب لقلوب المسلمين، فاستعظم أهل البلد سوادهم فلما كان فى اليوم الثانى وصلت الأسارى والرجال والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظنه أهل البلد أن الجميع مقاتلة وأحاطوا بالبلد، وكان [طغانخان] «1» خال السلطان وأمراء الغور فى أربعين ألف فارس وقيل فى خمسين ألف فارس، وعامة البلد لا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلاد رجال، ولم يخرج معهم أحد من العسكر الخوارزمى لما فى قلوبهم من الجزع فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتار يتأخرون وأهل البلد يتتبعونهم ويطمعون، فيهم، حتى بعدوا عن البلد، وكان التتار قد كمنوا كمينا، فلما جاوزه المسلمون خرج الكمين من ورائهم وحال بينهم وبين البلد وعطف عليهم التتار فصاروا فى وسط القوم وآخرهم السيف، قتلوا عن آخرهم، وكانوا سبعين ألفا. فضعفت نفوس الجند ومن بقى من العامة وأيقنوا بالهلاك؛ فقال الجند- وكانوا أتراكا- نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا «2» ، فطلبوا الأمان فأجابوهم له، ففتحوا أبواب البلد وخرج الجند إليهم بأهاليهم وأموالهم فقال لهم التتار: «إدفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم» . ففعلوا ذلك ثم وضعوا فيهم السيف(27/310)
وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا نساءهم فلما كان فى اليوم الرابع نودى فى البلد أن يخرج أهله بأجمعهم ومن تأخر قتل، فخرج جميع من به من الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند كفعلهم مع أهل بخارا من النهب والقتل والسبى والفساد، ونهبوا ما فى البلد، ثم أحرقوا الجامع وتركوا البلد على حاله، وذلك فى المحرم سنة سبع عشرة وستمائة. هذا وخوارزم شاه مقيم بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون عليهم. نعوذ بالله من الخذلان.
قال: ولما ملك جنكزخان بخارى وسمرقند فرق عساكره للاستيلاء على الممالك، فجهز طائفة خلف خوارزم شاه وهى المغربة، وطائفة إلى خراسان وطائفة إلى خوارزم وطائفة إلى بلاد فرغانة وطائفة إلى ترمذ وطائفة إلى كلاية، فاستولت كل طائفة على ما توجهت إليه وفعلت من القتل والنهب والأسر والسبى والتخريب وأنواع الفساد ما فعله أصحابهم. فأول طائفة جهزها من أصحابه الطائفة المغربة وفعلت ما نذكره.
ذكر ما فعلته الطائفة المغربة من التتار
قال ابن الاثير: لما ملك جنكزخان سمرقند جهز خمسة وعشرين ألف فارس من أصحابه فى طلب خوارزم شاه حيث كان. وهذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم لأنهم الذين أوغلوا فى البلاد وكان المقدم(27/311)
على هذه الطائفة سبطى بهادر «1» ويمنويه «2» فساروا وقصدوا موضعا يسمى فنج اب ومعناه خمس مياه، فلم يجدوا سفينة، فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر ووضعوا فيها أسلحتهم وأمتعتهم. وألقوا الخيل فى الماء وأمسكوا أذنابها وشدوا تلك الحياض إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض، فعبروا كلهم دفعة واحدة فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه فى أرض واحدة. وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبا وخوفا وحصل بينهم اختلاف، فكان ثباتهم بسبب أن نهر جيحون فاصل بينهم وبين التتار. فلما عبروه كان من أمر السلطان علاء الدين وانهزامه ووفاته ما قدمناه فى أخباره.
ذكر استيلائهم على مازندران ووصولهم الى الرى وهمذان
قال ابن الأثير: لما أيس التتار المغربة من إدراك خوارزم شاه قصدوا بلاد مازندران فملكوها فى أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، فقتلوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد وألحقوها بغيرها ثم سلكوا نحو الرى، ووصلوا إليه فى سنة سبع عشر وستماية أيضا. وكان مسيرهم إلى الرى فى طلب خوارزم شاه، لأنهم بلغهم أنه توجه نحو الرى، فجدوا السير فى أثره وانضاف(27/312)
إليهم كثير من العساكر المسلمين والكفار والمفسدين، فوصلوا الرى على حين غفلة من أهلها فملكوها، ونهبوا وسبوا الحريم، وأسرفوا فى القتل ومضوا مسرعين فى طلب خوارزم شاه، ونهبوا فى طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها، ووضعوا السيف فى الرجال والنساء والأطفال، ولم يبقوا على شيئ. وانتهوا إلى همذان، فلما قاربوها خرج رئيسها إليهم ومعه الجمل من الأموال والأقمشه والخيل وغير ذلك، وطلب الأمان لأهل البلد، فأمنوهم ثم فارقوها. وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ما فعلوه بالرى، ووصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا فى قتالهم ودخلوها عنوة بالسيف واقتتلوا هم وأهل البلد فى باطنه حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين وقتل من الفريقين مالا يحصى، فزادت القتلى من أهل قزوين على أربعين ألف قتيل ثم فارقوا قزوين.
ذكر مسيرهم الى أذربيجان وقتالهم مع الكرج
قال: لما هجم الشتاء على التتار بهمذان وبلد الجبل وترادفت الثلوج ساروا إلى أذربيجان، وعاثوا فى طريقهم ونهبوا وخربوا ما مروا عليه من المدن الصغار والقرى على عادتهم، ووصلوا إلى تبريز وبها أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان، فلم يخرج إليهم ولا قاتلهم لاشتغاله باللهو والشرب، وصالحهم على مال وثياب ودواب، وحمل ذلك إليهم، فتوجهوا من عنده يريدون ساحل البحر لقلة رده وكثرة مراعيه. فوصلوا إلى موقان «1» وتطرقوا فى مسيرهم إلى بلاد الكرج(27/313)
فجاء إليهم من الكرج نحو عشرة آلاف، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم وأرسل الكرج إلى أزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح، والاتفاق على دفع التتار، فاتفقا على أنه إذا انحسر الشتا لقوهم. وراسلوا الملك الأشرف بن العادل صاحب خلاط وديار الجزيرة فى ذلك، وظنوا جميعهم أن التتار لا يتحركون إلى انقضاء فصل الشتاء، فما صبروا (التتار) وتحركوا وتوجهوا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم (إلى التتار) مملوك تركى من مماليك أزبك اسمه أقوش، وجمع أهل بلد الجبل والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم، فاجتمع إليه جماعة منهم، فمال التتار إليه للجنسية فسار فى مقدمتهم إلى الكرج فملكوا حصنا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وقتلوا ووصلوا إلى قرب تفليس، فاجتمعت الكرج، قلقيهم أقوش بمن معه فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم أدركهم التتار فلم يثبت الكرج وانهزموا أقبح هزيمة، وأخذهم السيف من كل جانب وقتل منهم ما لا يحصى كثرة- وذلك فى ذى القعدة- ونهبوا من البلاد ما كان قد سلم منهم.
ذكر ملكهم مدينة مراغة
قال: ولما فعلوا بالكرج ما فعلوه، ودخلت سنة ثمان عشر وستمائة ساروا من بلاد الكرج ومروا على تبريز، فصانعهم صاحبها أيضا بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها، وليس بها من يمنعها لأن صاحبتها كانت امرأة وكانت مقيمة بقلعة رويندز «1» ، فقاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق واستعانوا بأسرى السلمين.(27/314)
وكانت عادتهم (التتار) إذا فتحوا مدينة استعانوا بأسراها على فتح غيرها، ويجعلون الأسرى أمامهم عند القتال، فيقع القتل فيهم.
فإذا فتحوا البلد قتلوهم بعد ذلك وتعوضوهم بمن أسروه من البلد الآخر. فأقاموا عليها عدة أيام وملكوها عنوة، وذلك فى رابع صفر من السنة، ووضعوا السيف فى أهلها، ونهبوا ما صلح لهم وحرقوا ما سواه. قال: واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم نادوا فى الدروب أن التتار قد رحلوا فينادون فيسمعهم من اختفى فيظهر فيقتلونه.
قال ابن الأثير: ولقد بلغنى أن امرأة من التتار دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنون أنها من الرجال، فلما وضعت السلاح، رأوها امرأة، فقتلها رجل كانت أخذته أسيرا. قال: وسمعت من بعض أهلها أن رجلا من التتار دخل دربا فيه ما يزيد على مائة رجل فقتلهم واحدا واحدا، حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه. وقعت الذلة على الناس، نعوذ بالله من الخذلان.
قال: ثم رحلوا نحو مدينة أربل، فكتب مظفر الدين صاحبها إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جماعة، وكتب الخليفة إلى صاحبى الموصل وأربل يأمرهما بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا «1» لمنع التتار، لما بلغه أنهم عدلوا عن إربل لصعوبتها وقصدوا العراق. فسار مظفر الدين ومن معه من العسكر الموصلى فى صفر. وكتب الخليفة إلى الملك الأشرف(27/315)
بأمره بالحضور بنفسه فى عساكره لتجمع العساكر ويقصدون التتار فمنعه من ذلك مسيره إلى الديار المصرية لنصرة الملك العادل بن أيوب على الفرنج، واستعادة دمياط من أيديهم. فلما اجتمع مظفر الدين هو والعسكر الموصلى بدقوقا، سير إليهم الخليفة مملوكه قشتمر «1» - وهو أكبر أمير بالعراق- ومعه عشرة من الأمراء فى نحو ثمان مائة فارس، فاجتمعوا ليتصل بهم عساكر الخليفة، والمقدم عليهم مظفر الدين صاحب إربل، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على التتار. ولما سمع التتار باجتماع العسكر رجعوا القهقرى، ظنا منهم أن العسكر يتبعهم، فلما لم يتبعهم أقاموا وأقام العسكر بدقوقا، ثم تفرق المسلمون وعادوا إلى بلادهم.
ذكر ملكهم همذان وقتل أهلها
قال: لما تفرق العسكر الإسلامى عاد التتار إلى همذان، فنزلوا بالقرب منها، وكان لهم شحنة يحكم فيها، فأرسلوا إليه أن يطلب لهم من أهلها ما لا وثيابا وكان رئيس همذان من الأشراف ذا رئاسة قديمة بها وهو الذى سعى فى أمر أهل البلد مع التتار، وتوصل إليهم بما جمع من الأموال فما طلب المال ثانيا من أهل همذان لم يجدوا ما يحملونه لهم، فاجتمعوا إلى الشريف ومعهم انسان فقيه قام فى اجتماع الكلمة على التتار، فشكوا إلى الشريف حالهم، وما نالهم من الهوان، وطلب ما لا يقدرون عليه. فقال: إذا كنا نعجز(27/316)
عن دفعهم فليس إلا مصانعتهم بالأموال، فثاروا عليه، وأغلظوا له فى القول، فوافقهم على مرادهم. فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتار فوثب العامة على الشحنة فقتلوه، وامتنعوا. فتقدم إليهم التتار وحصروهم، فقاتلهم أهل البلد قتالا شديدا، والرئيس والفقيه فى أوائلهم، فقتل من التتار خلق كثير، وجرح الفقيه عدة جراحات وافترقوا. ثم اقتتلوا من الغد أشد مما مضى بالأمس. وأرادوا الخروج فى اليوم الثالث، فلم يطق الفقيه الركوب ولم يوجد الرئيس، وهرب من سرب كان قد صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله، واستعصم بقلعة هناك على جبل عال. فحار الناس ثم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا، وكان التتار قد عزموا على الرحيل لكثرة من قتل منهم، فلما تقاصر أهل البلد عن الخروج إليهم طمعوا واستدلوا على ضعفهم، فقصدوهم وقاتلوهم، ودخلوا المدينة بالسيف، وذلك فى شهر رجب سنة ثمان عشرة. وقاتلهم الناس فى الدروب بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ثم قوى التتار على المسلمين فأفنوهم وما سلم منهم إلا من كان عمل له نفقا فى الأرض، واختفى فيه، ثم أحرقوا البلد ورحلوا عنه.(27/317)
ذكر مسيرهم الى أذربيجان وملكهم أردويل «1» وغيرها
قال: لما فرغوا من همذان ساروا إلى أذربيجان فوصلوا إلى أردويل فملكوها، وقتلوا وخربوا أكثرها وساروا إلى تبريز، ففارقها صاحبها أزبك بن البهلوان وتوجه إلى نقجوان وكان كثير التخلف والشرب واللهو، فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائى، وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتوانى، وحصن البلد. فبلغ التتار ذلك فراسلوه يطلبون منه مالا وثيابا فاستقر الأمر بينهم على قدر معلوم فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو «2» فنهبوها وقتلوا جميع من فيها. ورحلوا عنها إلى بيلقان من بلاد أران «3» فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى وقتلوا من ظفروا به وحصروا بيلقان «4» ، فاستدعى أهلها منهم رسولا ليقرر الصلح فأرسلوا إليهم رسولا من أكابرهم ومقدميهم، فقتلوه، فزحف(27/318)
التتار إليهم وقاتلوهم وملكوا البلد عنوة، وذلك فى شهر رمضان من السنة، ووضعوا السيف فلم يبقوا على أحد من الرجال والنساء والأطفال حتى شقوا بطون النسوان الحوامل وقتلوا الأجنة. وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها. ثم ساروا إلى مدينة كنجة- وهى أم بلاد أران- فعلموا بكثرة من فيها وشجاعتهم لدربتهم بقتال الكرج، فلم يقدموا عليهم لذلك ولحصانة البلد. فراسلوا أهلها فى طلب المال والثياب، فحمل إليهم ما طلبوا وساروا عنها..
ذكر وصولهم الى بلاد الكرج
قال: لما فرغوا من البلاد الإسلامية أذربيجان وأران بعضها بالملك وبعضها بالصلح، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضا:
وكان الكرج قد استعدوا لهم، وسيروا جيشا كثيفا إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتار عنها، فالتقوا، فلم يثبت الكرج وولوا منهزمين فأخذتهم سيوف التتار، فلم يسلم منهم إلا الشديد. فكانت الفتلى منهم نحو ثلاثين ألفا، ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم وخربوها، كعادتهم. ووصل من سلم من الكرج إلى مدينة تفليس- وبها ملكهم- فجمع جموعا أخرى، وسيرهم ليمنعوا التتار من توسط بلادهم فرأوهم قد دخلوا البلاد ولم يمنعهم وعر ولا مضيق، فعادوا إلى تفليس ونهب التتار مامروا عليه من بلادهم، ورأوا البلاد كثيرة المضايق والدربندات فما أوغلوا فيها، وداخل الكرج منهم خوف عظيم قال ابن الأثير: سمعت عن بعض أكابر الكرج أنه قال: من(27/319)
حدثكم أن التتار انهزموا وأسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا، فإنهم قوم لا يفرون أبدا، ولقد أخذنا أسيرا منهم فألقى نفسه عن الدابة وضرب رأسه بالحجر حتى مات، ولم يسلم نفسه للأسر ...
ذكر وصولهم الى دربند شروان «1» وما فعلوه فيه
قال: لما عادوا من بلاد الكرج قصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخى «2» وقاتلوا أهلها، فصبروا على الحصار وقاتلوا أشد قتال، وعلموا أن الموت لا بد منه، فقالوا نموت كراما وصبروا إلى أن كلوا وتعبوا. وتوالى الزحف، فملك التتار البلد، وأكثروا القتل ونهبوا الأموال. ثم أرادوا عبور الدربند فلم يقدروا على ذلك، فأرسلوا رسولا إلى شروان ملك الدربند، وطلبوا منه أن يرسل إليهم رسولا يسعى بينهم فى الصلح، فأرسل عشرة من أعيان أصحابه، فقتلوا أحدهم وقالوا لمن بقى: دلونا على طريق نعبر فيه ولكم الأمان، وإلا قتلناكم. فقالوا: ليس فيه طريق البتة، وإنما فيه موضع هو أسهل ما فيه، فساروا بهم إلى ذلك الطريق فعبروا فيه.(27/320)
ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق
قال: لما عبر التتار دربند شروان، ساروا فى تلك البلاد والأعمال- وفيها أمم كبيرة من اللان واللكز وطوائف من الترك- فنهبوا وقتلوا كثيرا من اللكز- وهم مسلمون وكفار- ووصلوا إلى اللان وهى أمم كثيرة، فبلغهم الخبر فجدوا وجمعوا جمعا من قفجاق، فقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى. فأرسل التتار إلى قفجاق فقالوا: نحن وأنتم جنس واحد واللان ليسوا منكم، ولا دينكم كدينهم حتى تنصروهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض إليكم، ونحمل لكم من الأموال والثياب ما شئتم، وتتركوننا وإياهم.
فاستقر الأمر بينهم على ما حملوه لهم من مال وثياب وغير ذلك ففارقهم قفجاق فأوقع التتار عند ذلك باللان، فقتلوا منهم وسبوا وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون. لما استقر بينهم من الصلح فطرقوا بلادهم وأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوه إليهم. وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر، ففروا من غير قتال، واعتصم بعضم بالغياض وبعضهم بالجبال ولحق بعضهم ببلاد الروس. وأقام التتار ببلاد قفجاق، وهى أرض كثيرة المرعى صيفا وشتاء وفيها أماكن باردة فى الصيف وأماكن حارة فى الشتاء، وغياض، وهى على ساحل البحر، ووصلوا إلى مدينه سوداق- وهى مدينة قفجاق- فملكوها، وفارقها أهلها، فبعضهم صعد إلى الجبال بأهله وماله. وبعضهم ركب فى البحر وساروا إلى بلاد الروم التى بيد الملوك السلجقية ...(27/321)
ذكر ما فعلوه بقفجاق والروس
قال: لما استولى التتار على قفجاق وتفرقوا، والتحقت طائفة كثيرة منهم ببلاد الروس- وهى بلاد كبيرة طويلة عريضة تجاور القفجاق وأهلها يدينون بدين النصرانية- فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم، واتفقوا على قتال التتار إن قصدوهم. فسار التتار إلى بلاد الروس فى سنة عشرين وستمائة، فسار قفجاق والروس إلى طريق التتار ليلقوهم قبل وصولهم إلى بلادهم ويمنعوهم عنها، فبلغ التتار مسيرهم، فرجعوا على أعقابهم. فطمعت القفجاق والروس فيهم، وظنوا أنهم عادوا خوفا منهم، وعجزوا عن قتالهم، فأتبعوهم وساقوا فى إثرهم اثنى عشر يوما، فعطف التتار عليهم وهم على غرة، لأنهم كانوا قد آمنوا ووثقوا بالقدرة عليهم: فلم يجتمعوا للقتال إلا وقد بلغ التتار منهم مبلغا عظيما.
فصبر الطائفتان صبرا لم يسمع بمثله. ودام القتال عدة أيام، فاستظهر التتار عليهم، فانهزمت قفجاق والروس هزيمة فاضحة، وكثر القتل فى المنهزمين، فلم يسلم منهم إلا القليل. ووصل من سلم منهم على أقبح حال، والتتار تتبعهم يقتلون وينهبون ويخربون فاجتمع كثير من أغنياء تجار الروس وأعيانهم، وحملوا ما يعز عليهم، وتوجهوا فى البحر فى عدة مراكب إلى بلاد الإسلام، فلما قاربوا المرسى الذى يقصدونه انكسر منهم مركب فغرق ونجا من فيه وسلم باقى المراكب [وأخبر من بها بهذه الحال] «1»(27/322)
ذكر عود التتار الى ملكهم
قال: ولما فعل التتار بالروس ما ذكرناه عادوا عنها وقصدوا بلغار فى أواخر سنة عشرين وستمائة «1» . فلما سمع بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم فى عدة مواضع، وخرجوا إليهم فلقوهم واستجروهم إلى أن جاوزوا مواضع الكمناء، فخرجوا من وراء ظهورهم. وبقى التتار فى وسطهم، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلا القليل نحو أربعة آلاف رجل، فساروا إلى سقسين وعادوا إلى ملكهم جنكزخان. وكانت الطرق منقطعة تتخللهم فى البلاد. فلما خلت البلاد منهم اتصلت الطرق وحمل التجار الأمتعة على عادتهم.
هذا ما فعله التتار المغربة منذ مفارقتهم جنكزخان وإلى أن عادوا إليه فى مدة أربع سنين فلنذكر أخبار غير هذه الطائفة ممن سيرهم جنكزخان.
قال: ولما جهز جنكزخان هذه الطائفة المغربة جهز طائفة إلى بلاد فرغانة وطائفة إلى ترمز وطائفة إلى كلانة «2» وهى قلعة حصينة(27/323)
إلى جانب جيحون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التى أمرت بقصدها ونازلتها، واستولت عليها، وفعلت من القتل والنهب والأسر والسبى والتخريب وأنواع الفساد كما فعل أصحابهم. فلما فرعوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان، وهو مقيم بسمرقند، فجهز جيشا إلى خوارزم مع أحد أولاده وجهز جيشا آخر فعمروا نهر جيحون إلى خراسان.
ذكر ملك التتار خراسان
قال أبو الحسن بن الأثير: لما سار الجيش الذى جهزه جنكزخان إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ. وطلب أهلها الأمان فأمنوهم، فسلم البلد ولم يتعرضوا إليه بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة. وقصدوا الزوزان «1» وميمند واندى خوى «2» وفارياب «3» فملكوا الجميع، وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا إلى أهلها بسوء، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم، وذلك فى سنة سبع عشرة وستماية. ثم قصدوا الطالقان، وهى ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها (منصور كوه) لا ترام علوا وارتفاعا وبها رجال شجعان يقاتلون فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلا ونهارا، ولم يظفروا(27/324)
منها بشى فكاتبوا جنكزخان، وأعلموه بالعجز عنها لحصانتها وكثرة من بها من المقاتلة. فسار بنفسه وبجموعه، وحصرها ومعه خلق كثير من الأسرى والمسلمين، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم، فقاتلوا، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى، فقتل من التتار خلق كثير. فلما رأى جنكزخان ذلك أمر أن يجمع له الأحطاب والأخشاب فجمعت، وصار يعمل صفا من خشب وحطب وفوقه من التراب ما يغطيه، حتى صار تلا عاليا يوازى القلعة، فعند ذلك اجتمع من بالقلعة وحملوا حملة رجل واحد فسلم الخيالة منهم ونجوا وسلكوا الجبال والشعاب، وقتل الرجالة، ودخل التتار القلعة وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأمتعة.
قال: ثم جمع جنكزخان أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتى ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وقد عزموا على لقاء التتار؛ فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. ولما رأى المسلمون إقدام التتار وصبرهم، ولوا منهزمين، فقتل منهم وأسر خلق كثير، ولم يسلم منهم إلا القليل، ونهبت أموالهم. وأرسل ابن جنكزخان إلى ما حوله من البلاد، وأمرهم بجمع الرجال لحصار مرو، فاجتمعوا وتقدموا للحصار ولازموا القتال. هذا وأهل البلد قد ضعفت نفوسهم بانهزام تلك الطائفة الكبيرة. فلما كان فى اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتار إلى أمير البلد يقولون له: «لا تهلك نفسك ومن معك، واخرج إلينا ولك الأمان، ونحن نجعلك أمير(27/325)
هذه البلد ونرحل عنك!» . فطلب الأمان لنفسه وأهل البلد فأمنوهم؛ فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان واحترمه وقال له:
«اعرض على أصحابك حتى أستخدم منهم من يصلح لخدمتنا وأعطيه إقطاعا ويكون معى» فجمعهم له، فلما تمكن منهم أمر بالقبض عليهم وعلى أميرهم ثم قال: «اكتبوا لنا تجار البلد ورؤساء أرباب الأموال فى جريدة واكتبوا أرباب الصناعات والحرف فى أخرى واعرضوا ذلك علينا» . ففعلوا، فأمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم وأموالهم فخرجوا بأجمعهم، فجلس على كرسى من الذهب، وأحضر أولئك الجند الذين قبض عليهم، وأمر بضرب أعناقهم فقتلوا صبرا، والناس ينظرون إليهم ويبكون عليهم، وأما العامة فتقاسمهم التتار فكان يوما مشهودا، وأخذوا أرباب الأموال، فاستصفوا أموالهم وعذبوهم على طلب المال؛ ثم أحرقوا لبلد وتربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلبا للمال. ودأبوا على ذلك ثلاثة أيام، فلما كان فى اليوم الرابع، أمر بقتل أهل البلد كافة؛ وقال: هؤلاء عصوا علينا؛ فقتلوا أجمعين، وأمر بإحصاء القتلى فكانوا سبعمائة ألف قتيل.
ثم ساروا إلى نيسابور، فحوصرت خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامى، فلم تكن لهم بالتتار قوة، فملك التتار المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوما بخربون ويفتشون المنازل، وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم أن قتلاهم سلم كثير منهم ولحقوا ببلاد الإسلام، فأمروا أن تقطع(27/326)
رؤوس أهل نيسابور حتى لا يسلم منهم أحد. فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك، وخربوها، وأحرقوا المشهد الذى فيه على بن موسى الرضا والرشيد. ثم ساروا إلى هراة وهى من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وآمنوا وقتلوا بعضهم وجعلوا فيها شحنة.
ذكر ملكهم مدينة غزنة وبلاد الغور
قال ابن الأثير: لما فرغ التتار من خراسان وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان، جهز جيشا كثيفا وسيره إلى غزنة وبها السلطان جلال الدين منكوبرتى ابن السلطان جلال الدين خوارزم شاه وكان قد وصل إليها بعد مفارقته خوارزم كما قدمناه، وقد اجتمع عنده من الجيوش نحوا من ستين ألفا. وكان الجيش الذى سار إليه من عسكر التتار نحو اثنى «1» عشر ألفا. فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع السلطان جلال الدين إلى موضع يقال له بلق «2» فالتقوا هناك واقتتلوا قتالا شديدا، ودامت الحروب بينهم ثلاثة أيام، فانتصر المسلمون وانهزم التتار، وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، وعاد من سلم منهم إلى ملكهم بالطالقان.
قال: فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا على الوالى الذى عندهم من قبل التتار فقتلوه، فسير إليهم جنكزخان عسكرا فملكوا البلد وخربوه وقتلوا من فيه وسبوا الحريم، ونهبوا السواد أجمع وأحرقوا المدينة.(27/327)
وهذه الحرب والواقعة لم يذكرها شهاب الدين المنشى فى تاريخه، وإنما قال: إن جلال الدين لما سار إلى غزنة اجتمع فى طريقه بابن خالد أمين ملك، وهو الذى كان يتولى هراة وهى إقطاعة، وكان قد فارقها ومعه زهاء عشرة آلاف فارس، فاتفقا على كبس التتار المحاصرين قلعة قندهار، فنهضا إليها وأوقعا بمن عليها من التتار، فلم يسلم منهم إلا من وصل بخبرهم إلى جنكزخان فغضب لذلك وجهز ابنه تولى خان، وقد ذكرنا ذلك فى أخبار جلال الدين فلنذكر ما ساق ابن الأثير.
قال: ولما انهزم التتار أرسل جلال الدين إلى جنكزخان رسولا يقول له فى أى موضع يختار أن تكون الحرب حتى يأتى إليه، فجهز جنكزخان عسكرا كثيرا مع ابنه تولى خان «1» فوصل إلى كابل فتوجه إليهم جلال الدين بالعساكر الإسلامية، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم جيش التتار، وقتل تولى خان بن جنكزخان وغنم المسلمون ما معهم واستنقذوا ما فى أيديهم من الأسارى، ولم يذكر ابن الأثير قتل تولى خان، وانما ذكره المنشى وهو الصحيح «2» .
فلما بلغ جنكزخان انهزام عساكره وقتل ولده غضب لذلك، وتجهز بنفسه وبجيوشه، وسار إلى صوب غزنة لحرب جلال الدين وطلب(27/328)
ثأر ابنه. واتفق اختلاف المسلمين، ومفارقة العساكر الخلجية صحبة سيف الدين بغراق وأعظم ملك ومظفر ملك للسلطان جلال الدين بسبب ما وقع منهم عند قسم الغنيمة على ما بيناه فى أخبار جلال الدين.
واجتهد جلال الدين فى ردهم فعجز، ودهمه وصول جنكزخان، ففارق غزنة وتوجه صوب السند، فأدركه جنكزخان قبل عبوره ماء السند فاضطر جلال الدين إلى القتال فكان من أمره وانهزامه وعبوره إلى بلاد الهند ما قدمناه فى أخباره. ولما فارق جلال الدين البلاد رجع جنكزخان إلى غزنة فملكها من غير مدافع ولا ممانع لخلوها من العساكر فقتل التتار أهلها ونهبوا الأموال وسبوا الحريم وألحقوها بخراسان ...
ذكر ملكهم مدينة خوارزم
قال شهاب الدين المنشى: كان حصار خوارزم فى ذى القعدة سنة عشرين وستماية، واستيلاؤهم عليها فى صفر. قال: لما انفصل جلال الدين وإخوته عن خوارزم كما ذكرناه فى أخباره، وافى التتار تخومها، وأقاموا بالبعد منها حتى تكاملت عدتهم وآلات الحصار.
ثم تقدموا إليها. فأول من وصل إليها منهم باجى ملك «1» فى عسكر كثيف ثم بعده أوكتاى «2» بن جنكزخان وهو الذى انتهت إليه(27/329)
القانية «1» فيما بعد ثم سير جنكزخان بعدهم حلقته الخاصة ومقدمها بقرجن نوين وأردفهم بابنه جغطاى ومعه طولن نوين «2» واستون نوين وقاضان نوين فى مائة ألف فارس. وطفقوا يستعدون للحصار ويستعملون آلاته من المجانيق والدبابات وغير ذلك. ولما رأوا خوارزم وبلدها خالية من حجارة المنجنيق وجدوا هناك من أصول التوت الغلاظ ما استعملوه بدلا من الحجارة، فكانوا يقطعونها وينقعونها فى الماء فتصير كالحجارة ثقلا وصلابة، فتعوضوا بها عن الحجارة.
ثم وصل دوشى خان بن جنكزخان إلى بلاد ماوراء النهر فراسلهم فى الأمان وقال: إن جنكزخان قد أنعم عليه بها وأنه لا يؤثر تخريبها ويضن به ويحرص على عماراتها. قال: ومما يدل على ذلك أن العساكر مدة مقامهم بالقرب منها ما تعرضوا إلى الغارات على رساتيقها فمال ذووا النباهة من أهلها إلى المسالمة، فغلب عليهم السفلة وامتنعوا، فعند ذلك ساق إليها دوشى خان، وأخذ يطويها محلة محلة، فكلما أخذ واحدة منها التجأ الناس إلى أخرى، وهم يحاربون أشد حرب إلى أن أعضل الأمر، ولم يبق معهم إلا ثلاث محال تراكمت الناس فيها متزاحمين. فأرسلوا إلى دوشى خان(27/330)
الفقيه علاء الدين الخياطى «1» محتسب خوارزم- وكان من أهل العلم والعمل- مستعطفا له؛ فأمر دوشى خان باحترامه، وأن تنصب له خيمة. ثم أحضره فأدى رسالته فقال فى جملة ما قال: إننا قد شاهدنا هيبة الخان وقد آن أن نشاهد مرحمته. فاستشاظ غضبا وقال: «ماذا رأوا من هيبتى وقد أفنوا رجالى؟ فأما أنا فشاهدت هيبتهم وها أنا أريهم هييتى.» وأمر بإخراج الناس ونودى فيهم بانفراد أرباب الصنائع وانعزالهم على حدة، فمنهم من فعل ونجا، «2» ومنهم من اعتقد أن أرباب الحرف تساق إلى بلادهم وغيرهم يترك فى وطنه فلم ينفرد، ثم وضع السيف فيهم فقتلوا جميعا وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل أن التتار بعد ذلك فتحوا السكر «3» الذى يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق جميعه وتهدمت الأبنية ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن الذين اختفوا من التتار غرقهم الماء وقتلهم الهدم. وهذا ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان ولا حديثه.
ثم عاد التتار إلى جنكزخان وهو بالطالقان..
ذكر عود طائفة من التتار الى همذان وغيرها
وهم غير التتار المغربة الذين قدمنا ذكرهم قال ابن الأثير: وفى سنة إحدى وعشرين وستمائة وصلت طائفة(27/331)
من التتار من جهة جنكزخان إلى الرى؛ وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها، فوضع التتار فيهم السيف وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخربوه، وتوجهوا إلى ساوة «1» ففعلوا بها كذلك، ثم إلى قم وقاجان «2» وكانتا قد سلمتا من التتار والمغربة.
ثم عاثوا فى البلاد يخربون ويقتلون ثم قصدوا همذان، وقد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها، فأبادوهم قتلا وأسرا ونهبا.
قال: وكانوا لما وصلوا إلى الرى رأوا بها عسكرا كثيرا من الخوارزمية فقتل بعضهم وانهزم الباقون إلى أذربيجان، فنزلوا بأطرافها، فلم يشعروا إلا والتتار قد كبسوهم، ووضعوا فيهم السيف، فانهزموا فوصلت طائفة منهم إلى تبريز، وتفرق الباقون ووصل التتار إلى قرب تبريز فراسلوا صاحبها أزبك بن البهلوان فى طلب من التحق به من الخوارزمية، فعمد إلى من عنده منهم فقتل بعضهم وأسر البعض، وساق الأسرى وحمل الرؤوس إلى التتار، وأنفذ إليهم من الأموال والثياب والدواب شيئا كثيرا فعادوا عن بلاده نحو خراسان.
قال: ولم تكن هذه الطائفة أكثر من ثلاثة آلاف، وكانت الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف فارس؛ وعسكر أزبك أكثر من الجميع، ومع هذا فلم يمتنعوا عنهم ولا حدثوا نفوسهم بحربهم(27/332)
هذا كله وجلال الدين خوارزم شاه ببلاد الهند. ثم اتفق خروجه منها فى سنة إحدى وعشرين وستمائة؛ واستولى على ملك العراق، وانتزعه من يد أخيه غياث الدين [ببرشاه] «1» وملك أذربيجان ومراغة وغيرها» وقاتل الكرج على ما قدمناه فى أخباره. ولم يهجه التتار ولا قاتلوه إلى سنة خمس وعشرين وستمائة بعد وفاة جنكزخان وقام ولده [أوكداى] «2» مقامه.
هذا ما انتهى إلينا من وقائع التتار وحروبهم وما استولوا عليه فى أيام ملكهم جنكزخان التمرجى؛ وهو على سبيل الاختصار لعدم من تحقق من أخبارهم ويدون آثارهم. ثم كان بعد وفاة جنكزخان وقيام من قام بعده من أولاده حروب ووقائع، نذكرها إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا وفاة جنكزخان.(27/333)
ذكر وفاة جنكزخان التمرجى وأسماء أولاده واخوته وما قرره لأولاده من الوظائف والبقاع وغير ذلك
كانت وفاة جنكزخان فى سنة أربع وعشرين وستماية، وقيل فى سنة خمس وعشرين فى فصل الشتاء. قال: ولما حضرته الوفاة طلب إخوته وهم أوتكين [وبلكوتى] «1» ونوين و [الحاى نوين ووكوب ووكابى] «2» وحضر من أولاده جغطاى و (أوكتاى) «3» وكتب لهم وصية وقال امتثلوها بعدى، وإذا أنا مت وجاء وقت الربيع تجمعوا كلكم وتعمل وليمة عظيمة ثم تقرأ هذه الوصية بحضوركم، وينصب فى الملك من عينته فيها وامتثلوا أمره، ثم فرقهم فى مشاتيهم التى قررها لهم ففعلوا ذلك وامتثلوا أمره على ما نذكره، ومات هو. وكان له من الأولاد تسعة عشر ولدا من امرأة واحدة وهى تسوجى خاتون؛ «4»(27/334)
[منهم تلى خان وهو طلوخان وهو الذى قتل فى سنة ثمانى عشرة وستمائة] «1» فى الحرب التى كانت بينه وبين السلطان جلال الدين منكوبرتى على ما قدمنا ذكر ذلك. وكان لتلى خان من الأولاد منكوقان وهو الذى استقر فى القانية بعد على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وهولاكو وأريق بوكا وقبلاى، وهو الذى جلس على تخت القانية بعد منكوقان واستقرت القانية فيه وفى بنيه من بعده إلى آخر وقت، وسنذكر لك ذلك إن شاء الله تعالى. وكان جنكزخان قد فوض لابنه تلى خان هذا ترتيب العساكر والجيوش وتدبيره فى المقام فى مشتاه ومصيفه وجعل له من البلاد خراسان والعراقين وما يليها، فقتل قبل تمام الفتوح.
ومنهم دوشى خان بن جنكزخان وهو الذى فتح خوارزم فى حياة أبيه كما تقدم، وفتح أيضا بعد وفاة أبيه بلاد الشمال، واستولى على ملكها، وأباد من بها من طوائف الأتراك وقبائل القفجاق وغيرهم من القبائل: كاللان، وآلاص «2» ، والأولاق «3» ، و [الجركس] «4» والروس وغيرهم من سكان البلاد الشمالية. واستقر ملك هذه البلاد بيده، ثم بيد باطوخان بن دوشى خان ثم فى (صرطق بن دوشى خان) «5» ، ثم فى أولاد باطوخان وإخوته على ما نذكره بعد.(27/335)
ومن أولاد دوشى خان بن جنكزخان أرديوا وهو صاحب غزنة وباميان. وقد قيل إن أرديوا بن جنكزخان، وكان جنكزخان قد جعل وظيفة دوشى خان ترتيب الصيد، وهى عندهم أكبر المراتب، وعين له من البلاد والمياه لمشتاه ومصيفه حدود قيالق وبلاد خوارزم إلى أطراف [سقسين] «1» وبلغار إلى حيث تنتهى حوافر خيلهم من الفتوح.
ومنهم أوكتاى خان بن جنكزخان وهو أوكتاى، وهو الذى جلس على تخت القانية بعد وفاة أبيه جنكزخان، وكان جنكزخان، قد جعله مشيره وصاحب الرأى وعين له من البلاد آمل «2» وقوتاق «3» وجعله ولى عهده من بعده، وعهد إليه أنه إذا انتهى الملك إليه أن يعطى ما بيده من البلاد لولده كيوك خان ثم يتحول إلى مستقر الملك من بلاد الخطا والأيغور بقرا قورم وغيرها.
ومنهم جغطاى بن جنكزخان كان أبوه قد فوض إليه مهمات(27/336)
السياسة والحكومة للياسا «1» واليرغو «2» ، وجعل له من البلاد للمراعى والمشاتى والمصيف من حدود بقاع الأيغور وسمرقند وبخارى وما يتاخم ذلك من البلاد. وكان مقامه قبل ذلك بقرب المالق وما يليها.
فهؤلاء الأربعة هم المشار إليهم من أولاد جنكزخان وله غير هؤلاء منهم أورخان، وكلكان، والغوانوين، وجورجاى «3» ، وأولطاى خان، وأرديوا، وقد تقدم الخلاف فيه هل هو ابن جنكزخان أو ابن دوشى خان «4» ومن أولاده مغل بن جنكزخان وهو جد نوغية، ولنوغية هذا أخبار تذكر بعد ان شاء الله تعالى. وقد قيل إن مغل بن دوشى خان.
وأما بقية أولاد جنكزخان فلم تنقل إلينا أسماؤهم بحكم أنه لم يكن لهم ملك وإنما كانوا فى خدمة إخوتهم. وعين جنكزخان أيضا لأخوته وأقاربه أماكن من ملكه، فاستقرت حالهم على ما قرره(27/337)
لهم، وكان قد خالف جنكزخان من قبائل التتار أويرات وقنورت «1» فلم يزل جنكزخان يلاطفهم ويسوسهم إلى أن قرر على نفسه أن يزوجوهم ما لهم من البنات ولذريتهم. واستقرت هذه القاعدة فيهم إلى وقتنا هذا.
هذا ملخص ما انتهى إلينا من أخبار أولاد جنكزخان وما قرره لهم؛ فلنذكر أخبار من انتصب فى القانية بعد وفاة جنكزخان من أولاده وأولادهم.
ذكر ملك أوكتاى بن جنكزخان
قد ذكرنا أن جنكزخان كان قد كتب وصية قبل وفاته بمحضر إخوته وبعض بنيه، وقرر معهم أن يعملوا بها بعده، وأمرهم أنه إذا دخل فصل الربيع يجتمع إخوته وأولاده، والخواتين «2» والأمراء وأن يذبحوا الدبائح ويعملوا الأفراح أربعين يوما من حين اجتماعهم؛ ثم تقرأ وصيته ويعمل بمقتضاها. فلما دخل فصل الربيع وذلك فى سنة خمس وعشرين وستمائة، سير حلف الأعمام والأخوة والخواتين وأمراء التمانات «3» ؛ فكان أول من حضر منهم جغطاى بن جنكزخان ثم أخوه أوكتاى ثم حضر نقيبهم(27/338)
ولم يتخلف منهم أحد. ثم ذبحوا الذبائح وأحضروا الخمور وألبان الخيل، وهى القمز «1» . وعملوا الأفراح إلى أن مضت المدة التى عينها لهم، ثم اجتمعوا وأخرجوا كتاب الوصية الذى اكتتبه جنكزخان، فقرىء بمشهد منهم، فإذا الوصية فيه بالملك لأوكديه خان. فلما سمع أوكديه خان ذلك قال: كيف أجلس على كرسى الملك وفى إخوتى وأعمامى من هو أكبر منى وأصلح، فلا أجلس.
فلم يرجعوا إلى قوله، وأقام أخوه جغطاى وأخذ بيده اليمنى وأخذ عمه أوتكين بيده اليسرى فأقاماه وأجلساه على كرسى الملك. ثم ملأ أخوه الأصغر وهو ألغو نوين هنابا «2» من المشروب فناوله إياه، فعند ذلك قام جميع من حضر من أعمامه وإخوته وأمراء التمانات فضربوا جوك- وهو الخدمة عندهم-؛ وكيفيته أن يبرك الرجل منهم على أحد ركبتيه ويسير بمرفقه إلى الأرض؛ وهذه الخدمة عندهم غاية التعظيم. وشرب أوكديه خان ذلك الهناب، وأمر بإجلاس الناس على مراتبهم، ونزلهم منازلهم، فأجلس الأعمام والإخوة عن يمينه وأجلس الخواتين عن يساره. فقام الإخوة وجلسوا بين يديه وقالوا: قد امتثلنا ياسا أبينا جنكزخان، ونشد أوساطنا فى الخدمة والإخلاص، ونبذل أنفسنا فى الطاعة، فشكرهم أوكديه وفتح الخزائن، وفرق الأموال والخلع، وأنعم حتى على الغلمان(27/339)
والرعاة، وفرق الناس فى مصايفهم ومنازلهم واستقر هو بقرا قروم وجهز أخاه دوشى خان «1» إلى بلاد الشمال ففتحها فى سنة سبع وعشرين وستماية وملكها وأقام بها على ما نذكر ذلك فى أخبارهم.
فلنذكر الحروب الكائنة بين عساكر أوكديه خان وبين السلطان جلال الدين وغيره من المسلمين.
ذكر الحروب الكائنة بين التتار والسلطان جلال الدين، وما كان من أمرهم الى أن ملكوا ما كان بيده
كانت أول حرب وقعت بين السلطان جلال الدين منكوبرتى وبين التتار بعد خروجه من الهند فى سنة خمس وعشرين وستمائة بظاهر أصفهان، فهزموه ثم هزمهم، وأذاهم بالقتل ولم يسلم منهم إلا قليلا. وحكى أن هذه الطائفة من التتار كان جنكزخان قد نقم على مقدمها وأبعده عنه، وأحرجه من بلاده، فقصد خراسان فرآها خرابا، فقصد الرى لتغلبه على تلك النواحى.
ثم تقدم إلى قرب أصفهان فالتقى هو وجلال الدين، ولما هزمه جلال الدين، أرسل إليه أوكديه بن جنكزخان يقول إن هذه الطائفة ليست منا، فأمن عند ذلك جانب أوكتاى، ثم انقطعوا عنه ثلاث سنين.(27/340)
وفى سنة ثمان وعشرين وستمائة فى أوائلها، وصلت طائفة من التتار من بلاد ما وراء النهر إلى تخوم أذربيجان. وكان سبب ذلك أن مقدم الاسماعيلية كاتبهم وعرفهم أن جلال الدين قد ضعف وانهزم من كيقباذ صاحب الروم ومن الأشرف، وأنه وقع بينه وبين من يجاوره من الملوك، ووصلت إساءته إلى كل منهم وأنهم لا ينصرونه وضمن لهم الظفر به. «1» فبادرت طائفة منهم من التتار ودخلوا البلاد، واستولوا على الرى وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان وقتلوا من ظفروا به من أهلها، ولم يقدم جلال الدين على قتالهم لتفرق عساكره ومخالفة وزيره شرف الملك عليه. وكان من كبسهم للسلطان جلال الدين، وانهزامه منهم، وتنقله من مكان إلى آخر ما قدمناه فى أخباره. ثم كبسه التتار وهو بالقرب من آمد فهرب منهم. وكان من خبر مقتله ما قدمناه، فتمكن التتار بعد مقتله من البلاد وملكوها من غير ممانع عنها ولا مدافع.(27/341)
ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتار
قال ابن الأثير الجزرى: وفى سنة ثمان وعشرين وستمائة أطاع أهل أذربيجان التتار. وسبب ذلك أن جلال الدين لما كبسه التتار بآمد وانهزم منهم، وانقطع خبره، سقط فى أيدى الناس وأذعنوا بطاعة التتار وحملوا إليهم الأموال والثياب وغير ذلك. فممن دخل فى طاعتهم أهل مدينة تبريز- وهى توريز- وهى أصل أذربيجان ومرجع الجميع إليها. وكان مقدم جيش التتار نزل بعساكره بالقرب منها ودعا أهلها إلى طاعته، وتهددهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه الأموال والتحف ومن كل شى حتى الخمر، وبذلوا الطاعة.
فشكرهم على ذلك، وطلب حضور أكابر أهلها إليه، فتوجه إليه قاضى البلد ورئيسه وجماعة من الأعيان، وتخلف عنهم شمس الدين الطغرائى وكان مرجع الجميع إليه، إلا أنه لا يظهر ذلك. فلما حضروا عنده سألهم عن سبب امتناع الطغرائى من الحضور، فاعتذروا بانقطاعه وعدم تعلقه بالملوك وأنهم الأصل، فسكت. ثم طلب صناع الثياب الخطاى وغيرها فحضروا إليه، فأمرهم أن يستعملوا للقان ثيابا، وقرر ثمنها على أهل تبريز، وطلب منهم خركاة للقان أيضا فعملوا خركاة عظيمة غشوا ظاهرها بالأطلس وباطنها بالسمور والقندر، وقرر عليهم فى كل سنة من المال والثياب شيئا معلوما.(27/342)
ذكر دخول التتار ديار الجزيرة
قال: لما انهزم جلال الدين من التتار على آمد نهب التتار سواد آمد وميافارقين وقصدوا مدينة أسعرد «1» فقاتلهم أهلها فبذل لهم التتار الأمان، فسلموا لهم البلد، فعند ذلك بذلوا فيهم السيف حتى كادوا يأتون عليهم. فما سلم منهم إلا من اختفى، وقليل ما هم. قيل إن القتلى بلغت تقدير خمسة عشر ألفا، وكانت مدة الحصار خمسة أيام، ثم ساروا منها إلى مدينة طنزة «2» ففعلوا فيها كذلك، وساروا منها إلى واد بالقرب منها يقال له وادى القريشية، فيه طائفة من الأكراد القريشية، وفيه مياه جارية وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فمنعهم القريشية منه وقتلوا كثيرا منهم، فعاد التتار ولم يبلغوا منهم غرصا، وساروا فى البلاد لا مانع يمنعهم فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما مروا عليه من بلدها واحتمى صاحبها وأهل دنيسر بقلعة ماردين. ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة فأقاموا عليها بعض يوم ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها فعادوا عنها؛ وتوجهوا إلى بلد سنجار، فوصلوا إلى البلاد من أعمالها، فنهبوا ودخلوا الخابور فوصلوا إلى عربان «3» ، فنهبوا(27/343)
وقتلوا وعادوا وتوجهت طائفة منهم على طريق الموصل، فوصلوا إلى قرية تسمى المؤنسة، وهى على مرحلة من نصيبين بينها وبين الموصل، فنهبوا واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها، فقتلوا كل من فيه ومضت طائفة منهم إلى نصيبين الروم وهى على الفرات من أعمال آمد، فنهبوا وقتلوا منها ثم عادوا إلى آمد ثم إلى بلد بدليس «1» فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرا، وأحرقوا المدينة، ثم ساروا من بدليس إلى خلاط فحصروا مدينة من أعمالها يقال لها باكرى [وهى] «2» من أحصن البلاد، فملكوها عنوة وقتلوا كل من بها، وقصدوا مدينة أرجيش «3» من أعمال خلاط، وهى مدينة كبيرة عظيمة ففعلوا كذلك، وذلك فى ذى الحجة سنة ثمان وعشرين وستمائة.
قال ابن الأثير فى تاريخه الكامل: لقد حكى لى عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذى ألقاه الله تعالى فى قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الواحد منهم كان يعبر «4» القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فيقتلهم واحدا بعد واحد ولا يجسر أحد يمد يده إليه. قال: ولقد بلغنى أن إنسانا منهم أخذ رجلا ولم يكن معه ما يقتله به فقال له: وضع رأسك على الأرض ولا تبرح،(27/344)
فوضع رأسه على الأرض ومضى التتارى وأتى بسيف فقتله به. قال:
وحكى لى كثير من ذلك أعفيت عنه رغبة فى الاختصار.
قال: وفى ذى الحجة سنة ثمان وعشرين وصلت طائفة من التتار من أذربيجان إلى أعمال أربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوائية والأكراد وغيرهم إلى أن دخلوا إلى بلد أربل، فنهبوا القرى وقتلوا من ظفروا به، ثم وصلوا إلى بلد دقوقا وغيرها وعادوا، ولم يرعهم أحد ولا وقف فى وجوههم فارس.
هذا آخر ما أورده ابن الأثير والمنشى فى تاريخيهما من أخبار التتار لم يتجاوزا سنة ثمان وعشرين وستمائة، وبعض ما أوردناه لم يورداه فى تاريخيهما كوفاة جنكزخان وقيام ولده، فإنه ما وصل إليهما. والله أعلم.
ذكر وفاة آوكتاى خان وقيام ولده كيوك خان بعده وقتله
كانت وفاة أوكديه خان بن جنكزخان فى «سنة إحدى وثلاثين وستمائة» «1» ولما دنت وفاته استدعى أعمامه والأمراء وأمرهم بإجلاس ولده كيوك خان على كرسى المملكة، وأمر أن يكون جلوسه بحضور الأعمام والإخوة والأمراء. فلما مات اجتمعوا كلهم، إلا دوشى خان «2» فإنه كان قد أوغل فى بلاد الشمال واستولى(27/345)
عليها وعلى ما يدانيها من القفجاق وغيرها، فلم يمكنه الحضور لبعد المسافة، فأرسل أخاه مغل بن جنكزخان، ومغل هذا هو جد نوغيه فسار مغل وأوصى على أولاده لعلمه ببعد المسافة. فلما وصل إلى قرا قروم اجتمع أهل البيت الجنكزخانى والخواتين فأنكروا عليه وقالوا له: ولم لم يأت دوشى خان، فاعتذر عنه بأعذار، فلم يقبلوها وأشاروا أن يسقوه سما فيقتلوه، فناولوه قدحا فشربه.
فلما علم أن فيه السم أيس من الحياة وأخرج سكينا كان فى خفه ووثب على كيوك فقتله «1» ، وخرج جماعة من أكابر الناس عليه فقتلوه.
ذكر جلوس منكوقان «2» بن (تلى خان «3» ) بن جنكزخان على تخت القانية
ومنكوقان هو الملك الرابع من الملوك الذين جلسوا على تخت القانية. قال: ولما قتل كيوك خان من غير وصية اجتمع أولاد الخانات وأمراء التمانات، واتفقت آراؤهم على إقامة منكوقان، فإنهم لم يجدوا فى البيت أرجح منه ولا أرشح للملك، فأجلسوه(27/346)
على كرسى القانية. ولما استقر جرد أخاه قبلاى إلى بلاد الخطائية «1» فعاد منهزما منهم، فأعاد وجهز معه أرنيكا «2» ، فتوجها إليهم بعساكرهما فكسروهم وغنموا غنايم كثيرة، فوقع بين الأخوين التنازع فى الغنايم، حتى كان بينهما «3» قتال، فهزم أرنيكا قبلاى ثم اصطلحا واستقر الأمر بينهما وكانت سائر ملوك التتار داخلة تحت طاعة من ينتصب على تخت القانية يأتمرون بأمره. وانما استقل كل منهم بنفسه وانفرد بمملكته بعد وفاة منكوقان. ولما ملك منكوقان انقطع التتار عن الوصول إلى العراق والروم وغيرهما مما يكون داخلا «4» فى طاعة الخلفاء العباسيين مدة سنين، وأرى ذلك إنما كان لاشتغالهم بقتال من يليهم، ثم رجعوا إلى هذه الممالك ففتحوها مملكة بعد أخرى «5» .(27/347)
ذكر دخول التتار الى بلاد الروم وما استولوا عليه من البلاد
كان أول دخول التتار إلى البلاد الرومية فى سنة أربع وثلاثين وستمائة، فى أواخر أيام السلطان علاء الدين كيقباد وابتداء سلطنة ولده غياث الدين كيخسرو. ثم وردت طائفة منهم إلى الروم فى سنة إحدى وأربعين وستمائة، فى أيام السلطان غياث الدين كيخسرو.
وكانت هذه الطائفة من قبل باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، ملك البلاد الشمالية؛ فجمع كيخسرو العساكر وخرج إليهم والتقوا واقتتلوا. فكانت الهزيمة أولا على التتار ثم تراجعوا، فهزموا صاحب الروم هزيمة عظيمة، وقتلوا وأسروا خلقا كثيرا من المسلمين، ونهبوا من الأموال ما لا يحصى كثرة. وهرب غياث الدين إلى بعض المعاقل، وتحكمت التتار فى البلاد، ثم استولوا على بلاد خلاط وآمد، ودخل غياث الدين بعد ذلك فى طاعة التتار على مال يحمله إليهم.
وفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، قصد التتار بغداد ونهبوا ما مروا عليه فى طريقهم، ووصلوا إلى ظاهرها، واستعدت عساكر الخليفة للقائهم. فلما جاء الليل أوقد التتار نارا عظيمة ورجعوا تحت الليل. ثم انقطعت أخبار التتار إلى أن جردهم منكوقان فى سنة أربع وخمسين وستمائة على ما نذكره.(27/348)
ذكر تجريد منكوقان العساكر الى بلاد الروم وما استولوا عليه منها
وفى سنة أربع وخمسين وستمائة جرد منكوقان جرماغون وبيجو «1» وجماعة من عساكره إلى بلاد الروم؛ وهى يومئذ فى يد السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ السلجقى. فساروا إليها ونزلوا على أرزن الروم «2» ، وبها يومئذ سنان الدين ياقوت العلائى أحد مماليك السلطان علاء الدين كيقباذ. فحاصروها مدة شهرين ونصبوا عليها اثنى عشر منجنيقا. فهدموا أسوارها، ودخلوها عنوة، وأخذوا سنان الدين ياقوت، وملكوا القلعة فى اليوم الثانى، وقتلوا الجند واستبقوا أرباب الصنائع وذوى المهن، وقتلوا ياقوت؛ وغنموا وسبوا، وعادوا، ومات جرماغون ثم عاد بيجو إلى الروم مرة ثانية فى هذه السنة، فوصل إلى آقشهر زنجان، ونزل بالصحراء التى هناك. فجمع غياث الدين كيخسرو عساكره وسار للقائهم، فانهزم من غير لقاء، كما ذكرناه فى أخباره، وغنم التتار خيامه وخزائنه وأثقاله إلا ما حمله مما خف منها. وفر غياث الدين إلى قونية وتوفى فى هذه السنة.(27/349)
وعاد بيجو ثم رجع إلى بلاد الروم فى سنة خمس وخمسين وستمائة فدخلها وشن الغارات وسبى، وكان المحرك لعوده أن بيجار الرومى حضر إلى باب السلطان غياث الدين ليحضر السماط، ولم تكن له صورة بعسكر الروم، فمنعه البرددارية «1» وضربه بعضهم بعصاه على رأسه، فسقط طرطوره إلى الأرض فشق ذلك عليه، وقال: أنتم رميتم طرطورى فى هذا الباب، لا بد أن أرمى عوضه رؤوسا كثيرة. وخرج من فوره وتوجه إلى بيجو وحثه على قصد الروم، فقصده وأغار وخرج بعد الإغارة.
ثم عاد إلى الروم فى هذه السنة، وقد استقل عز الدين كيكاوس ابن كيخسرو بالسلطنة. فلما بلغه عود التتار، جهز جيشه وقدم عليهم أميرا من أكابر أمرائه اسمه أرسلان دغمش، فتوجه بعساكر الروم وكان بيجو قد نزل بصحراء قونية. فلما كان بعد توجه أرسلان بأيام شرب كيكاوس مسكرا وتوجه إلى بيت أرسلان دغمش وهو على حالة من السكر ليهجم على حريمه؛ فبلغه ذلك فغضب له وقال: أكون قد بذلت نفسى فى دفع عدوه ويخلفنى فى حريمى بهذا. وأجمع على الخلاف، وأرسل إلى بيجو ووعده أنه يتخاذل عند اللقاء وينحاز إليه.
فلما التقوا، عمل أرسلان إلى سناجق «2» صاحبه فكسرها(27/350)
وانهزم بالعسكر ثم توجه إلى بيجو فأكرمه وتلقاه وحضر معه إلى قونية. ولما اتصل خبر الكسرة بالسلطان عز الدين فر من قونية إلى العلايا «1» وأغلق أهل قونية أبواب المدينة. فلما كان يوم الجمعة أخذ الخطيب ما يملكه من ماله وحلى نسائه وأحضره معه إلى الجامع، ورقى المنبر وقال: «يا معشر المسلمين، إننا قد ابتلينا بهذا العدو وليس لنا من يعصمنا منه، وقد بذلت مالى، فابذلوا أموالكم واشتروا نفوسكم بنفائسكم، واسمحوا بما عندكم لنجمع من بيننا ما نفدى به نفوسنا وحريمنا وأولادنا» . ثم بكى وأبكى الناس وسمح كل أحد بما أمكنه.
وجهز الخطيب المذكور الإقامات وخرج إلى مخيم بيجو فلم يصادفه، لأنه كان قد توجه إلى الصيد، فقدم ما كان معه إلى الخاتون زوجة بيجو. فقبلته منه وأقبلت عليه وأكل من المأكول فأكلت وقدم المشروب فأخذ منه شيئا على سبيل الشاشنى «2» ، وناوله لصغير. فقالت له: لم لا تشرب أنت منه؟ فقال: هذا محرم علينا. قالت: من حرمه؟ قال: الله حرمه فى كتابه. قالت: فكيف لم يحرمه علينا؟ فقال: أنتم كفار ونحن مسلمون. فقالت له: أنتم خير عند الله أم نحن؟ قال: بل نحن. قالت: فإذا كنتم خيرا(27/351)
منا عنده، فكيف نصرنا عليكم؟ فقال: هذا الثوب الذى عليك- وكان ثوبا نفيسا يمنيا مرصعا بالدراتب «1» - تعطيه لمن يكون خاصا بك أو بعيدا عنك؟ قالت: بل أخص به من يختص بى.
قال: فإذا أضاعه وفرط فيه ودنسه، ما كنت تصنعين به؟ قالت:
كنت أنكل به وأقتله. فقال لها: دين الإسلام بمثابة هذا الجوهر، والله أكرمنا به فما رعيناه حق رعايته، فغضب علينا وضربنا بسيوفكم واقتص منا بأيديكم. فبكت زوجة بيجو وقالت للخطيب:
من الآن تكون أبى وأكون ابنك. فقال: ما يمكن حتى تسلمى:
فأسلمت على يديه، وأجلسته إلى جانبها على السرير، فحضر بيجو من الصيد، فهم الخطيب أن يقوم له، فمنعته وقالت: «أنت قد صرت حماه «2» وهو يريد يجئ إليك ويخدمك» . فلما دخل بيجو إلى الخيمة قالت له: هذا قد صار أبى. فجلس بيجو دونه وأكرمه وقال لزوجته: أنا عاهدت الله أننى إذا فتحت قونية وهبتها لك. فقالت: وأنا وهبتها لأبى. ثم أمر بفتح قونية، وأمن أهلها ورتب على كل باب شحنة من التتار ورسم أن لا يدخلها من التتار إلا من له حاجة، وأن يكونوا خمسين خمسين، لا يزيدون على ذلك.
فلم يتعرضوا لأهلها بسوء. ثم اتفق بعد هذه الواقعه توجه رسل صاحب الروم إى منكوقان، ومصالحتهم وبذلهم ما بذلوه وقسمه البلد بين ولدى كيخسرو على ما قدمناه فى أخبارهم.(27/352)
ذكر مهلك منكوقان وما حصل بين اخوته من التنازع فى القانية
كانت وفاة منكوقان بمقام نهر ألطاى من بلاد أيغور، سنة ثمان وخمسين وستمائة «1» . وكان قد قصد غزو الخطا. وكان منكوقان يدين بدين النصرانية «2» ، وكان أخوه «3» أرنيكا «4» ينوب عنه فى كرسى المملكة بقراقروم. فلما مات منكوقان، أراد [أرنيكا] الاستيلاء على المملكة، وكان أخوه قبلاى مجردا ببلاد الخطا من جهة منكوقان، فجلس فى دست القانية. فأرسل بركة بن باطوخان صاحب البلاد الشمالية إلى أرنيكا يقول: أنت أحق بالقانية، لأن منكوقان رتبك فيها فى حياته، وانضم إليه بنو عمه قجى «5» ابن أوكتاى وإخوته. ثم عاد قبلاى من بلاد الخطا، فسار أرنيكا لحربه، والتقوا واقتتلوا فكانت الكسرة على قبلاى، وانتصر أرنيكا، واحتوى على الغنائم والسبايا واختص بها، ولم يسهم منها لأحد(27/353)
من بنى عمه شيئا. فوجدوا عليه وتفرقوا عنه ومالوا إلى قبلاى، فعاود القتال، فاستظهر [قبلاى] عليه وأخذ أرنيكا أسيرا.
ذكر ملك قبلاى بن تولى خان بن جنكزخان القانية وهو الخامس من ملوكهم
قال: ولما انهزم جيش أرنيكا وأسر هو، استقر قبلاى فى القانية بقراقروم، وسقى أرنيكا سما فمات. وبلغ ذلك هولاكو، فسار فى طلب القانية لنفسه، فما وصل إلى البلاد إلا وقد استقر (أخوه) «1» قبلاى فى القانية فاستقرت له ما افتتحه من الأقاليم.
وفى سنة سبع وثمانين وستمائة كانت الحرب بين جيوش قبلاى القان وبين قيدوا «2» بن قيجى بن طلوخان بن جنكزخان صاحب ما وراء النهر، وكان سببها أنه (قبلاى) غضب على أمير من أمرائة اسمه طردغا، فأحس أن قبلاى قد عزم على الإيقاع به، فهرب ولحق بقيدو وحسن له قصد قبلاى وحربه، وأطمعه فى القانية. وقال: إن قبلاى قد كبر سنه وما بقى ينهض بتدبير مملكته وإنما أولاده هم الذين يتولون الأمور وهم صبيان، فسار قيدو بجيوشه وطردغا صحبته، وبلغ قبلاى الخبر فجهز جيوشه صحبة ولده نمغان «3» . فلما صار قيدوا بالقرب من القوم بلغه ما هم عليه(27/354)
من الكثرة، فهم بالرجعة فقال له طردغا: «يعطينى الملك تمانا «1» من نقاوة العسكر، وأنا أدبر الحيلة وأهزمهم» فقال له قيدوا:
«وكيف تصنع؟» فقال: «إن الطريق أمامنا فيه واد بين جلبين، فأتوجه أنا بالتمان وأكمن فى الوادى، ويتقدم الملك إلى القوم، فإذا التقى الجمعان يرجع الملك فهم لا بد يتبعونه، فإذا تبعوه نستدرجهم إلى أن يصيروا بينه وبين الوادى، فأخرج أنا إليهم ويعطف الملك عليهم بمن معه» . ففعل قيدو ذلك وفر أمامهم حتى تجاوزوا الكمين. فخرج عليهم طردغا وعطف قيدو بمن معه فانكسر نمغان وعساكره وقتل منهم خلق كثير. وسار قيدو ومن معه فى آثارهم حتى أشرفوا على منازلهم، ونهبوا من النساء والصبيان شيئا كثيرا. وجلبت المماليك التتار إلى الديار المصرية إثر هذه الوقعة. قال: ولما وصل نمغان إلى أبيه غضب عليه، وأرسله إلى بلاد الخطا فأقام حتى مات.
ودامت أيام قبلاى وطالت إلى سنة ثمان وثمانين وستمائة «2» ، فكانت مدة ملكه نحوا من ثلاثين سنة «3» . ولما مات جلس بعده ابنه شرمون بن قبلاى بن تلى خان بن جنكزخان وهو السادس من ملوكهم.
كان جلوسه على تخت القانية بعد وفاة أبيه فى شهور سنة ثمان(27/355)
وثمانين وستمائة وكان لقبلاى ثلاثة أولاد وهم نمغان وشرمون «1» وكملك «2» . فأما نمغان فإنه كان ببلاد الخطا كما ذكرنا، فمات بها. وكان شرمون هو الأكبر، فجلس فى الملك ودامت أيامه إلى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، وتوفى فيها أو فيما يقاربها. ولما مات سار طقطا بن منكوتمر صاحب البلاد الشمالية فى طلب القانية، فمات أيضا ولم يلها. وجلس على كرسى القانية أحد أولاده ولم يصل إلينا جلية الخبر فنذكره.
فلنذكر ملوك البلاد الشمالية من البيت الجنكزخانى
ذكر أخبار ملوك البلاد الشمالية من أولاد جنكزخان التمرجى
هذه المملكة ببلاد الشمال ونواحى الترك والقفجاق وكرسيها مدينه حراى «3» . وأول من ملك هذه المملكة من أولاد جنكزخان.(27/356)
دوشى خان «1» وهو الذى فتحها لما جهزه أخوه أوكديه خان عند انتصابه فى القانية بعد مهلك جنكزخان، وذلك فى سنة سبع وعشرين وستمائة، وهلك فى سنة إحدى وأربعين وستمائة.
وملك بعده ابنه باطوخان بن دوشى خان، وهو الملقب صاين قان، واستمر فى الملك من سنة إحدى وأربعين وستمائة إلى أن توفى فى سنة خمسين وستمائة. وكانت مدة ملكه عشر سنين وهو الثانى من ملوك هذه المملكة.
ولما مات صاين قان خلف من الأولاد ثلاثة، وهم طغان وبركة وبركجار «2» . فنازعهم عمهم صرطق «3» بن دوشى خان بن جنكزخان الملك، واستبد به دونهم، فملك فى سنة خمسين وستمائة وهو الثالث من ملوك هذا البيت واستمر فى الملك إلى أن هلك فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، فكانت مدة ملكه سنة وشهورا. ولم يكن له ولد.
وكانت براق شين «4» زوجة طغان ابن أخيه باطوخان قد(27/357)
أرادت أن تولى ولدها تدان منكوا السلطنة بالبلاد الشمالية بعد وفاة صرطق، وكان لها بسطة وتحكم، فلم يوافقها الخانات أولاد باطوخان عمومة ابنها، وأمراء التمانات على ذلك. فلما رأت ذلك من اقناعهم راسلت هولاكو بن تلى خان وأرسلت إليه نشابة بغير ريش، وقباءا بغير بنود؛ وأرسلت إليه تقول له: «قد تفرع الكاشن من النشاب وخلا القرنان من القوس، فتحضر لتتسلم الملك» ثم سارت فى إثر الرسول، وقصدت اللحاق بهولاكو أو إحضاره إلى بلاد الشمال. فلما بلغ القوم ما دبرته أرسلوا فى إثرها وأعادوها، على كره منها وقتلوها.
هذا ما انتهى علمه إلينا من أخبار هؤلاء الملوك الثلاثة، ولم نطلع على ما كان لكل منهم من الأخبار والحروب والوقائع والفتوحات فنذكره، وإنما أوردنا ما أوردناه وما نورده مما تلقفناه من أفواه الرجال.
ذكر ملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان وهو الرابع من ملوك هذه المملكة الشمالية
كان جلوسه على تخت المملكة الشمالية فى سنة اثنتين وخمسين وستمائة بعد وفاة عمه صرتق، وأسلم بركة هذا وحسن إسلامه، وأقام منار الدين، وأشهر شعائر الإسلام وأكرم الفقهاء وأدناهم منه، وقربهم لديه ووصلهم. وابتنى المساجد والمدارس بنواحى مملكته، وهو أول من دخل فى دين الإسلام من عقب جنكزخان.(27/358)
لم ينقل إلينا أن أحدا منهم أسلم قبله «1» . ولما أسلم أسلم أكثر قومه وأسلمت زوجته ججك خاتون، واتخذت لها مسجدا من الخيام تسافر به.
وفى سنة ثلاث وخمسين وستمائة كانت الحرب بين بركة وهولاكو «2» ملك خراسان والعراقين وما مع ذلك. وذلك أن هولاكو لما انتهت إليه رسالة براق شين زوجة طغان كما ذكرناه، أطمعه ذلك فى ملك هذه المملكة ليضمها إلى ما بيده من الممالك.
فتجهز وسار بجيوشه إليها، فكان وصوله بعد قتل براق شين وجلوس بركة على سرير الملك وانتظام الأمر له.
ولما اتصل ببركة خبر هولاكو وقربه من البلاد سار بجيوشه للقائه وكان بينهما نهر يسمى نهر ترك وقد جمد ماؤه لشدة البرد، فعبر عليه هولاكو بعساكره إلى بلاد بركة. فلما التقوا واقتتلوا كانت الهزيمة على هولاكو. فلما وصل إلى ذلك النهر تكردس أصحابه عليه. فانخسف بهم، ففرق منهم خلق كثير «3» ، ورجع هولاكو بمن بقى معه من أصحابه إلى بلاده. ونشأت الحرب بينهم من هذه(27/359)
السنة، وكان فيمن شهد هذه الوقعة مع بركة ابن عمه نوغيه «1» ابن ططر بن مغل بن جنكزخان فأصابته طعنة رمح فى عينه فغارت.
ولنوغيه هذا أخبار نذكرها بعد إن شاء الله تعالى.
وراسل بركة هذا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى ملك الديار المصرية والممالك الشامية فى سنة إحدى وستين وستمائة يخبره بما من الله تعالى به عليه من الإسلام فأجابه السلطان يهنيه بهذه النعمة، وجهز له هدايا جليلة، من جملتها ختمة شريفة ذكر أنها من المصاحف العثمانية، وسجادات للصلاة وأكسية لواتية، وعدة من النطوع المصرطقة والأديم وسيوف قلاجورية مسقطة، ودبابيس مذهبة، وخوذ وطوارق، وفوانيس وشمعدانات، ومشاعل جفناوات وقواعد برسمها مكفتة، وسروج خوارزمية؛ ولجم؛ كل ذلك بسقط الذهب والفضة، وقسى حلق وقسى بنيدق وحروج وأسنة ونشاب بصناديقه وقدور برام، وقناديل مذهبة، وخدام سود، وجوارى طباخات، وخيول عربية سبق، وهجن نوبية، وحمير فرة، ونسانيس وبغانغ وغير ذلك. «2» وأعاد السلطان الملك الظاهر رسله فى شهر رمضان من السنة المذكورة، وكتب إليه يغريه بهولاكو ويحضه على حربه.(27/360)
وفى سنة ثلاث وستين وستمائة كانت الحرب بين عساكر بركة وعساكر أبغا بن هولاكو، وذلك أن هولاكو لما توفى فى هذه السنة وجلس ابنه أبغا بعده، جهز جيشا لقتال بركة، فلما بلغه الخبر جهز جيشا وقدم عليه ييسوا نوغا «1» بن ططر بن مغل، فصار فى المقدمة ثم أردفه بمقدم آخر اسمه بستاى فى خمسين ألف فارس، فسبق نوغا بمن معه وتقدم إلى عسكر أبغا وبستاى على إثره.
فلما أشرفت عساكر أبغا على بستاى وهو مقبل فى سواده العظيم تكردسوا وتجمعوا للهزيمة، فظن بستاى أنهم أحاطوا بنوغا ومن معه فانهزم راجعا من غير لقاء. وأما نوغا فإنه تبع عساكر أبغا وواقعهم وهزمهم، وقتل منهم جماعة وعاد إلى بركة؛ فعظم قدره عنده وارتفع محله، وقدمه على عدة تمانات. وعظم ذنب بستاى عند بركة.
ودامت أيام بركة هذا بهذه المملكة إلى أن توفى فى سنة خمس وستين وستمائة وهو على دين الإسلام، رحمه الله تعالى ولم يكن لبركة ولد يرث الملك من بعده فاستقر الملك من بعده لابن أخيه منكوتمر «2» .(27/361)
ذكر ملك منكوتمر بن طوغان «1» بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان وهو الخامس من ملوكهم بهذه المملكة
ملك هذه المملكة وجلس على كرسى الملك بصراى، وصار إليه ملك بلاد الشام والترك والقفجاق وباب الحديد وما يليه؛ وذلك فى سنة خمس وستين وستمائة. ولما ملك كاتبه السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحى من الديار المصرية بالتهنئة والتعزية بعمه «2» ، وأغراه بأبغا بن هولاكو وحرضه عليه كما كان قد فعل لما كاتب بركة، وذلك فى سنة ست وستين وستمائة.
ذكر مسير عساكر منكوتمر الى بلاد القسطنطينية
وفى سنة ثمان وستين وستمائة جهز منكوتمر جيشا إلى اصطنبول.
وكان رسول السلطان الملك الظاهر ركن الدين يومذاك عند الأشكرى «3» ، وهو فارس الدين المسعودى. فخرج المذكور إلى عسكر منكوتمر وقال: أنتم تعلمون أن صاحب اصطنبول صلح مع صاحب مصر وأنا رسول الملك الظاهر، وبين أستاذى وبين الملك منكوتمر مراسلة ومصالحة واتفاق. واصطنبول مصر ومصر اصطنبول. فرجعوا عنها(27/362)
ونهبوا بلادها وشعثوا. فلما وصل الفارس المسعودى فى الرسلية إلى الملك منكوتمر من جهة السلطان، أنكر عليه كونه صد جيوشه عن أخذ اصطنبول. وكان المسعودى قد فعل ذلك من قبل نفسه وبرأيه، لا برأى السلطان الملك الظاهر وأمره. فلما عاد المسعودى إلى السلطان الملك الظاهر نقم عليه وضربه واعتقله.
ولما كان جيش منكوتمر باصطنبول ورجعوا، مروا بالقلعة التى فيها عز الدين كيكاوس صاحب الروم معتقلا فأخذوه منها، وأحضروه إلى الملك منكوتمر، فأكرمه وأحسن إليه وأقام عنده إلى أن مات.
ودامت أيام منكوتمر إلى سنة تسع وسبعين وستمائة وتوفى، ووردت الأخبار بوفاته إلى الديار المصرية فى سنة إحدى وثمانين وستمائة. وكان سبب وفاته أنه طلع له دمل فى حلقه فبظه فمات منه فى شهر ربيع الأول من السنة. فكانت مدة ملكه نحو أربع عشرة «1» سنة.
وخلف منكوتمر من الأولاد تسعة «2» ، وهم ألغى «3» وأمه ججك خاتون «4» وكان لها حرمة وبسطة لأنها من الذرية القانية،(27/363)
وبرلك «1» ، وصراى بغا «2» ، وطغرلجا «3» ، وتلغان «4» ، وتدان «5» وطقطا «6» وهو الذى ملك البلاد فيما بعد، وقدان، وقطغان «7» .
وكان له (منكوتمر) من الإخوة لأبيه تدان منكوا «8» ، وأدكجى «9» ؛ وتدان منكوا أكبرهم. فدفع تدان منكوا أولاد أخيه عن الملك واستقر هو فى الملك بعد أخيه منكوتمر.
ذكر ملك تدان منكوا «10» بن طغان بن باطوخان ابن دوشى خان بن جنكزخان
ملك البلاد الشمالية بعد وفاة أخيه فى شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وستمائة «11» . وقيل إنه جلس فى جمادى الآخرة سنة ثمانين. وهو السادس من ملوك هذه المملكة. وكان السلطان الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية قد أرسل(27/364)
رسلا إلى منكوتمر وهما شمس الدين سنقر الغتمى، وسيف الدين تلبان الخاص تركى؛ وسير معهما ستة عشر تعبية من القماش النفيس لمن يذكر: الملك منكوتمر، وأدكجى، وتدان منكو، وتلابغا «1» ، ونوغاى؛ وكان قد تقدم عنده. وما هو للخواتين من الأقمشة وهن: ججك خاتون وإلجى خاتون وتوتكين خاتون، وبدارن خاتون وسلطان خاتون وخطلوا خاتون. وما هو للأمراء وهم:
الأمير مادوا أمير الميسرة، والأمير طبرا أمير الميمنة. وما هو لقيالق زوجة ايلجى. وما هو للسلطان غياث الدين صاحب الروم. وكانت هدية جليلة من الأقمشة والتحف والقسى والجواشن والخوذ. فلما وصلا وجدا منكوتمر قد مات، وجلس تدان منكوا فى الملك، فقدموا له الهدية فقبلها.
واستمر تدان منكوا فى الملك إلى سنة ست وثمانين وستمائة، فأظهر الزهد والتخلى عن النظر فى أمور المملكة وصحب الفقراء والمشايخ وقنع بالقوت، فقيل له: إن المملكة لا بد لها من ملك يسوس أمورها، فنزل عن الملك لتلابغا «2» .(27/365)
ذكر ملك تلابغا بن طربوا بن دوشى خان ابن جنكزخان
ملك البلاد الشمالية بعد تزهد تدان منكوا فى سنة ست وثمانين وستمائة، وهو السابع من ملوك هذه المملكة. فلما ملك تجهز بعساكره لغزو الكرك. «1» واستدعى نوغيه بن ططر بن مغل بن دوشى خان، وهو الذى قلعت عينه فى حرب هولاكو كما ذكرناه.
وأمره بالمسير بمن معه من التمانات، فسار إليه وتوافيا فى المقصد، وشنوا الغارة على بلد كرك ونهبوا وقتلوا وعادوا وقد اشتد البرد وكثرت الثلوج، ففارقهم نوغيه بمن معه وسار إلى مشاتيه، فوصل سالما. وسار تلابغا، فضل عن الطريق فهلك جماعة ممن معه واضطره الحال إلى أن أكل أصحابه دوابهم وكلاب الصيد ولحوم من مات منهم لشدة ما نالهم من الجوع. فتوهم أن نوغيه قصد له المكيدة فأضمر له السوء، وكان ذلك سبب قتله.
ذكر مقتل تلابغا
كان مقتله فى سنة تسعين وستمائة وذلك أنه لما عاد من غزو الكرك اجتمع على الإيقاع بنوغيه، ووافقه على ذلك من انتمى إليه من أولاد منكوتمر. وكان نوغيه شيخا مجربا له معرفة وممارسة بالمكائد،(27/366)
فنمى الخبر إليه فكتمه، ثم أرسل تلابغا يستدعى نوغيه وأظهر له احتياجه إلى مشورته وأخذ رأيه، فراسل نوغيه والدة تلابغا وقال لها: إن ابنك شات وإننى أحب أن أبذل له النصيحة وأعرفه بما يعود عليه نفعه من مصالح ملكه، ولا يمكن أن أبديها له إلا فى خلوة يجب ألا يطلع عليها سواه، وأختار أن ألقاه فى نفر يسير. فمالت المرأه إلى مقالته وأشارت على ابنها بموافقته والاجتماع به وسماع ما يقول. ففرق تلابغا عساكره التى كان جمعها وأرسل إلى نوغيه ليحضر عنده، فتجهز بجميع من عنده من العساكر وأرسل إلى أولاد منكوتمر الذين كانوا يميلون إليه، وهم طقطابرلك وصراى بغا وتدان باللحاق معهم. ثم سار مجدا فلما صار بالقرب من مقام تلابغا الذى تواعدا أن يجتمعا فيه ترك العسكر الذى معه وأولاد منكوتمر طقطا وإخوته كمينا واستصحب معه نفرا يسيرا، وتوجه نحو تلابغا، فصار تلابغا لتلقيه ومعه من أولاد منكوتمر أولغى وطغرلجا وتلغان وقدان وقتغان، وهم الذين انحازوا إليه. فلما اجتمع تلابغا ونوغيه وأخذا فى الحديث لم يشعر تلابغا إلا وخيول أصحاب نوغيه قد أقبلت، فتحير فى أمره وتقدم العسكر، فأمرهم نوغيه بإنزال تلابغا ومن معه من أولاد منكوتمر عن خيولهم فأنزلوهم، ثم أمر بربطهم فربطوا وقال لطقطا: هذا تغلب على ملك أبيك وهؤلاء بنو أبيك وافقوه على أخذك وقتلك. وقد سلمتهم إليك، فاقتلهم أنت كما تشاء، فقتلهم جميعا.(27/367)
ذكر ملك طقطا بن منكوتمر بن طوغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو الثامن من ملوك هذه المملكة
ملك البلاد الشمالية فى سنة تسعين وستمائة. وذلك أنه لما قتل تلابغا وإخوته الخمسة أولاد منكوتمر أجلسه نوغيه على كرسى الملك، ورتب أمور دولته، وسلم إليه من بقى من إخوته الذين اتفقوا معه. وقال: «هؤلاء إخوتك يكونون فى خدمتك فاستوص بهم» . وعاد نوغيه إلى مقامه، وبقى فى نفسه من الأمراء الذين اجتمعوا مع تلابغا عليه عند ما أرسل إليه يستدعيه.
ذكر ايقاع طقطا بجماعة من أمرائه
وفى سنة اثنتين وتسعين وستمائة. جهز نوغيه زوجته ييلق خاتون إلى الملك طقطا برسالة. فلما وصلت إلى الأردو تلقاها بالإكرام واحتفل بها غاية الاحتفال، ثم سألها عن موجب حضورها، فقالت له:
أبوك يسلم عليك ويقول لك: قد بقى فى طريقك قليل شوك فنصفه. قال: وما هو؟ فسمت له الأمراء وهم: «كلكتاى «1» ويوقق وقرا كيوك وما جار (وتاين «2» طقطا) وكبى وبركوا «3» وطراتمر والتمر ونكا وبيطرا وبيملك تمر وبيطقتمر (وبيقور الطاجى) «4»(27/368)
وتادوة «1» وملخكا وبرلغى «2» وكنجك وشردق وقراحين وجاجرى وابشقا بينننجى. وهؤلاء هم الذين اتفقوا مع تلابغا على نوغيه» .
فلما أبلغتة هذه الرسالة، وسمت له هؤلاء الأمراء، طلبهم وقتلهم جميعا، وعادت ييلق خاتون إلى نوغية فاطمأن خاطره؛ وتحكم أولاد نوغيه وأولاد أولاده. وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة «3» وهم جكا وتكا «4» وطراى وابنة تسمى طغلجا وابن بنت يسمى أقطاجى.
وكانت ابنته متزوجة لشخص يسمى طاز بن منجك، فقويت شوكتهم، ثم وقع الخلف بين طقطا ونوغيه.
ذكر ابتداء الخلف بين طقطا ونوغيه
وفى سنة سبع وتسعين وستمائة ابتدأ الخلف بين طقطا ونوغيه، وكان لذلك أسباب منها أن ييلق خاتون زوجة نوغيه نفرت من ولديه جكا وبكا وأظهرا لها الإساءة والامتهان، فأغرت طقطا بهما وأرسلت إليه تحرضه عليهما. ومنها أن بعض أمراء طقطا أو جسوا منه خيفة ففارقوه وانحازوا إلى نوغيه؛ فقبلهم وأحسن إليهم، وأنزلهم فى حوزته، وزوج أحدهم وهو طاز بن منجك بابنته، فطلبهم طقطا منه فمنعهم عنه فأغضبه ذلك، وأرسل إليه رسولا وصحبته محراث «5» وسهم نشاب وقبضة تراب. فجمع أكابر(27/369)
عشيرته وقال: «ما عندكم فيما أرسله طقطا؟» فقال كل منهم قولا، فقال: «ما أصبتم وأنا أخبركم بمراده. أما المحراث فهو يقول: إن نزلتم إلى أسافل الأرض أطلعتكم بهذا المحراث؛ وأما النشابة فيقول: إن طلعتم إلى الجو أنزلتكم بهذا السهم، وأما التراب فيقول: اختاروا لكم أرضا تكونون فيها للملتقى» . فقال نوغيه لرسوله: «قل لطقطا إن خيلنا قد عطشت ونريد نسقيها من ماء تن- وهو نهر على مقام صراى وفيه منازل طقطا- وجمع جنوده وسار للقائه.
ذكر الوقعة الأولى بين طقطا ونوغيه
وفى سنة سبع وتسعين وستمائة سار طقطا للقاء نوغيه، فجمع عساكره ومن انضاف إليه، وكانوا يزيدون على مائتى ألف فارس.
وسار كل منهما لقصد صاحبه، فالتقوا على نهر يقصى بين مقام طقطا ومقام نوغيه. فكانت الهزيمة على طقطا وعساكره، وانتهت بهم الهزيمة إلى نهر تن، فمنهم من عبر وسلم ومنهم من هوى به فرسه فغرق. وأمر نوغيه عساكره أن لا يتبعوا منهزما ولا يجهزوا على جريح، وأخذ الغنائم والسبايا والأسلاب وعاد إلى مكانه.(27/370)
ذكر الوقعة الثانية وقتل نوغيه
وفى سنة تسع وتسعين وستمائة، عزم طقطا على حرب نوغيه، واتفق أن جماعة من أمراء نوغيه الذين كان يعتمد عليهم فارقوه وانحازوا إلى طقطا. فقويت به شوكتهم، وكانوا فى ثلاثين ألف فارس. ولما تجهز طقطا اتصل خبره بنوغيه، فتجهز أيضا لحربه وخرج كل منهما للقاء الآخر. فلما صار بينهما مسافة يوم، أرسل نوغيه شخصا ومعه مائة فارس للكشف، فظفر بهم طقطا وقتلهم ونجا مقدمهم بمفرده. فأخبر نوغيه أن العسكر قد دهمه، فركب فيمن معه والتقوا على كو كان لك واقتتلوا، فكانت الكسرة على نوغيه فى وقت المغرب، فانهزم أولاده وعشائره وثبت هو على ظهر فرسه، وكان قد كبر وطعن فى السن، وتغطت عيناه بشعر حواجبه، فوافاه رجل روسى من عسكر طقطا وقصد قتله، فعرفه بنفسه وقال:
«أنا نوغيه فاحملنى إلى طقطا فلى معه حديث» . فلم يصغ الروسى لمقالته وقتله. وحمل رأسه إلى طقطا وقال: «هذا رأس نوغيه» .
فقال له: «ومن الذى أعلمك أنه نوغيه؟» فقص عليه القصة.
فآلمه ذلك، وأمر بقتل قاتله، وقال: «إن من السياسة قتله حتى لا يجترئ أمثاله على قتل مثل هذا الرجل الكبير» . ثم عاد طقطا إلى مقامه.(27/371)
ذكر أخبار أولاد نوغيه
ولما انهزم عسكر نوغيه وقتل، استقر أولاده بمقامه فلم تطل بهم الأيام حتى وقع الخلف بينهم. وقتل جكا بن نوغيه أخاه بكا، واستبد جكا بملك أبيه وأقام له نائبا يسمى طنغر؛ فنفر عنه أصحابه وعلموا أنه لا يبقى عليهم بعد أن قتل أخاه. واتفق نائبه طنغر مع طاز بن منجك- وهو صهر نوغيه، زوج ابنته طغلجا- على الإغارة على بلاد أولاق والروس. فسارا وتذاكرا سوء سيرة جكا فيهم، واتفقا على أن يقبضا عليه عند عودهما، وعادا لذلك. فبلغه الخبر ففر منهما فى مائة وخمسين فارسا، ودخل بلاد آص وكان بها مقدم وطمأن من عسكره فأقام بينهم. ووصل طنغر ثانية وطاز بن منجك صهره إلى بيوته فنهبوها واستولوا عليها.
ولما أقام جكا ببلاد آص تسلل إليه كثير من عسكره. فكثرت بهم عدته، وسار لحرب طنغر وطاز بن منجك، والتقوا واقتتلوا فاستظهر جكا عليهما وأسروا بيوتهما به. وكانت أخته طقلجا تقاتله بنفسها فى هذه الوقعة. فلما انكسر زوجها ومن معه، كاتبوا طقطا يستمدونه، فأمدهم بجيش صحبة أخيه برلك بن منكوتمر.. فلما جاءهم المدد والتقوا للقتال لم يكن لكيجا «1» بهم قبل. فهرب إلى بلاد «2» أولاق. وكان ملكها والحاكم عليها صروجا أحد(27/372)
أقارب جكا فآوى إليه، فاجتمع أصحابه وقالوا: هذا عدو طقطا، ولا نأمن أنه إذا بلغه أنه انحاز إلينا يقصدنا بجيوشه ولا قبل لنا به.
فأمسكه دعوقه فى قلعته واسمها تزنوا وطالع طقطا بأمره فأمره بقتله، فقتله فى هذه السنة وهى سنة سبعمائة، ودخلت مملكة الملك طقطا ممن يساويه، واستقر يزلك «1» بن منكوتمر فى مقام نوغيه من قبل أخيه طقطا. ولم يبق من أولاد نوغيه إلا أصغرهم وهو طراى.
ورتب طقطا بيجى بن قرمسى يرصع أباجى أخاه. وجهز ولديه يكل بغا وأربصا إلى بلاد نوغيه، فاستقر يكل بغا فى صنعجى ونهر طنا «2» وتايل باب الحديد، وهى منازل نوغيه. وأقام ايربصا، بنق ورتب أيضا أخاه صراى بغا. «3» .
ذكر ما اتفق طراى بن نوغيه وصراى بغا بن منكوتمر من الخروج عن طاعة الملك طقطا وقتلهما
وفى سنة إحدى وسبعمائة تحرك طراى بن نوغيه فى طلب ثار أبيه وأخيه من طقطا، ولم يكن له قوة بنفسه، فجاء إلى صراى بغا ابن منكوتمر. وكان أخوه «4» طقطا قد رتبه فى مقام نوغيه فتوصل طراى إليه ولازمه، ولم يزل يلاطفه حتى حسّن له الخروج على أخيه طقطا وأن يستقل بالملك. فوافقه صراى بغا ومال إليه(27/373)
وركب بتمانه وعبر نهر اتل، وترك العسكر، وتوجه جريدة، اجتمع بأخيه برلك، وعرفه ما عزم عليه وطلب منه الموافقة فأجابه إلى ما طلب. ثم بادر برلك «1» بالاجتماع بأخيه طقطا، وعرفه الصورة وما همّ به صراى بغا وطراى بن نوغيه. فركب طقطا لوقته فى خواصه وجهز إليهما من أحضرهما، فقتلا بين يديه، ورتب ولده فى المكان الذى كان قد رتب فيه صراى بغا. ولما قتل طقطا طراى هرب قرا كشك بن جكا بن نوغيه، وهرب معه اثنان من أقاربه وهما جركتمر ويلتطلوا.- وكان بزلك قد أرسل فى طلبه- فانهزم هو وهذان إلى بلاد ششتمن «2» إلى مكان يسمى يدرك بالقرب من كدك ومعهم نحو ثلاثة آلاف فارس، فآواهم ششتمن وأصحابه وقاموا عنده يعبرون على الأطراف ويأكلون من كسبهم إلى آخر أيام طقطا.
وفى سنة سبع وسبعمائة وردت الأخبار إلى الديار المصرية أن طقطا نقم على الفرنج الجنوبية الذين بقرم وكفار البلاد الشمالية لأمور نقلت إليه عنهم، منها استيلاؤهم على أولاد التتار وبيعهم بالبلاد الإسلامية، فأرسل جيشا إلى مدينة كفا وهى مسقط رؤوسهم.
فشعر الفرنج بهم فركبوا فى مراكبهم وتوجهوا فى البحر فلم يظفر الجيش منهم بأحد. فنهب طقطا أموال من كان منهم بمدينة صراى وما يليها.(27/374)
وفى سنة تسع وسبعمائة كانت وفاة ايرصا «1» بن طقطا حتف أنفه. وكان مرشحا عند أبيه للتقدمة على العساكر. وتوفى أيضا أخوه برلك بن منكوتمر ودامت أيام طقطا إلى أن توفى فى سنة اثنتى عشرة وسبعمائة وملك بعده؟
أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان ابن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان وهو التاسع من ملوك هذه المملكة
ووصلت رسله إلى أبواب مولانا السلطان الملك الناصر «2» سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية وغيرها من الممالك الإسلامية وكان وصولهم فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وصحبهم من التقادم لمولانا السلطان ما لم تجر بمثله عادة. وكان من جملة رسالته أنه هنأ مولانا السلطان الملك الناصر بإيصال الإسلام من الصين إلى أقصى بلاد الغرب؛ وقال إنه كان قد بقى فى مملكته طائفة على غير دين الإسلام فلما ملك خيرهم بين الدخول فى دين الإسلام أو الحرب؛ فامتنعوا وقاتلوا، فأوقع بهم وهزمهم واستأصل شأفتهم بالقتل والأسر. وجهز إلى مولانا السلطان عدة من سباياهم، فأعاد مولانا السلطان رسله صحبة رسل منه وأنعم عليهم وأرسل معهم الهدايا الوافرة. هذا ما نقل إلينا من أخبار ملوك هذه المملكة(27/375)
الشمالية إلى حين وضعنا لهذا التأليف. ومهما اتصل بنا من أخبارهم بعد ذلك نورده إن شاء الله فى جملة أخبار الدولة الناصرية بالديار المصرية المحروسة.
وأما ملوك ما وراء النهر من ذرية جنكزخان
فلم يصل إلينا من أخبارهم ماندونه لبعد بلادهم وانقطاع رسلهم عن ملوكنا؛ إلا أن ملك ما وراء النهر انتهى إلى قيدوا بن قيجى بن طلوا بن جنكزخان، وطلوا هو تلى خان. ورأيت فى شجرة وضعها الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصورى أن قيدوا ابن قيجى بن أوكديه بن جنكزخان «1» . وطالت أيام قيدوا واستمر الملك إلى أن توفى فى تسع وسبعمائة «2» . وكرسى مملكته.
كاشغر وقلا صاق «3» ، وله تركستان وقيالق «4» والمالق «5» وبخارى وغير ذلك. ولما مات ملك بعده ابنه جابار واستمر إلى أن مات فى سنة سبع عشرة وسبعمائة «6» . وملك بعد أخوه ألوين بغا(27/376)
ابن قيدوا. ولقيدوا غير هؤلاء من الأولاد تانجار «1» وأروس «2» .
وهذه الطائفة يقابلون القان الكبير الجالس على تخت القانية بقراقروم وغيره.
وأما ملوك غزنة وباميان وهم أولاد أرديوا «3» بن دوشى خان ابن جنكزخان وهم أقرب إلى ملوك البلاد الشمالية من غيرهم من البيوت لأن أرديوا بن دوشى خان هو أخوباطوخان بن دوشى خان.
فدوشى خان بن جنكزخان يجمعهم وأخبارهم أيضا منقطعة عن بلادنا لبعد بلادهم، لأن بيت هولاكو بيننا وبينهم. والذى وصل إلينا من أخبارهم أن ملك غزنة وباميان انتهى إلى قيجى «4» بن أرديوا بن دوشى خان.
ودامت أيامه إلى أن توفى فى سنة إحدى وسبعماية، فاختلف أولاده وبنو عمه فى الملك بعد وفاته وتنازعوه بينهم وافترق بعضهم عن بعض، وكان له من الأولاد «5» . نيان. وكبلك «6» وطقتمر. وبغانمر. ومنغطاى.(27/377)
وصاحى. وكان كبلك قد استقر فى الملك بعد وفاة أبيه فسار أخوه نيان إلى الملك طقطا واستنجد به، واستمده على أخيه، فأمده بأخيه برلك وسار كبلك إلى قيدوا واستعان به فأمده بجيش. وعادا من جهة طقطا وقيدوا، والتقوا واقتتلوا فكسر كبلك ثم مات واستقر أخوه نيان فى المملكة الغزنوية: واستمر إلى سنة ثمان وسبعماية، فوقع الخلف بينه وبين أخيه منغطاى بن قيجى «1» وتنازعا الملك، وانحاز إلى كل واحد منهما فئة، فاستظهر منغطاى على أخيه نيان بكثرة من انحاز إليه، فانهزم نيان واستقر منغطاى فى الملك. وأقام نيان ببلاد بكمرش وهى على أطراف حدودهم. ثم توجه قرشياى بن كبلك إلى قيدوا فى سنة تسع وسبعماية، واستنجده على عمه نيان، فأنجده عليه، وجرد معه جيشا. فقصد نيان واقتتلا فانهزم نيان وتوجه إلى عند الملك طقطا، لأنه كان قد أمده أولا وأعانه. وتمكن قرشتاى من بلاد نيان واستقر بها، واستمر منغطاى فى ملك المملكة الغزنويّة إلى وقتنا هذا.
وانقطعت أخبارهم عنا من سنة عشر وسبعمائة فلم يصل إلينا منها ما نشرحه. وإنما أوردنا هذه النبذة اليسيرة من أخبار هذين البيتين لتكون دالة على وجودهم ومنبهة عن ممالكهم، وإلا فأخبارهم كثيرة لم نظفر بها. فلنذكر الآن نبذة من أخبار هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وأخبار أولاده، وما ملكه وملكوه بعده من الأقاليم.
والممالك.(27/378)
ذكر أخبار هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان وابتداء أمره وما استولى عليه من الممالك والأقاليم ومن ملك من ذريته
وهذا البيت من التتار وهو أقرب البيوت إلى القان الكبير، لأن القانية استقرت فى إخوة هولاكو، ثم فى بنى أخيه قبلاى بن تولى خان، كما قدمناه فى أخبارهم.
وكان ابتداء أمر هولاكو أن أخاه منكوقان وهو الجالس فى أيامه على تخت القانية بقراقروم بعثه لفتح العراق فى سنة خمسين وستماية، فسار فيمن معه من الجيوش إلى بلاد الاسماعيلية، ويسمون ببلاد العجم الملاحدة، فاستولى عليها وأباد أهلها قتلا وأسرا وسبيا ونهبا.
ثم كان بينه وبين بركة من الحرب ما شرحناه فى أخبار بركة.
وكانت الهزيمة على هولاكو وقتل كثير من أصحابه وغرق كثير منهم. وعاد هولاكو إلى العراق بمن بقى معه. وتمكنت العداوة بين هذين البيتين ونشأت الحرب بينهم من هذه السنة وهى سنة ثلاث وخمسين.(27/379)
ذكر استيلائه على بغداد وقتله الخليفة المستعصم بالله
وفى سنة ست وخمسين وستماية سار هولاكو بعساكر التتار إلى مدينة بغداد ونازلها. وكان قد أرسل إلى بيجو «1» يستدعيه من بلاد الروم، فكره بيجو اللحاق به. وما أمكنه مفاجأته بذلك؛ فاعتذر إليه أن جمعا كثيرا من القرى تليه والأكراد والياروقية قد تجمعوا فى الطرقات، ومقدمهم شرف الدين بن بلاش، وأنهم أخذوا عليه وعلى من معه المضيق، ولا سبيل لهم إلى الخروج من حدود ديار بكر. وقصد بيجو بذلك المدافعة. فجهز هولاكو تمانين من التوامين «2» التى معه، مقدم أحدهما قدغان ومقدم الآخر كتبغا «3» نوين لفتح الطريق. وفى أثناء ذلك أوقع. «4» بالأكراد والقراتلية وقعة عظيمة وجعل منهم أهل أرزنجان وتحصنوا بجبل يسمى أرن سور. فلما وصل التتار إلى أرزنجان تسلموها وحاصروا(27/380)
كماج، وهزموا الأكراد وقتلوا منهم وسبوا، وأقام قدغان وكتبغا حتى وصل إليهما بيجو.
وأخبرنى الأتمر البدرى رحمه الله وهو من ذرية بيجو كما زعم، وكان له معرفة بأخبارهم، أن منكوقان لما جهز بيجو لفتح الروم، أوصاه أنه لا يتعرض إلى بغداد، وأنه لما جهز هولاكو أوصاه أن لا يخالف بيجو وأنه لا يصل إلى بغداد، وكتب معه إلى بيجو بذلك.
فغير هولاكو الكتب وجعل معناه أن بيجو لا يخالف أمر هولاكو، وكانت كراهية منكوقان لفتح بغداد أنهم رأوا فيما عندهم أنها إذا فتحت لا تطول مدة القان.
ثم توجه بيجو ومن عنده إلى هولاكو ونزلوا بالجانب الغربى من بغداد، ونزل هولاكو بالجانب الشرقى منها. وحاصروها واشتد الحصار، فخرج إليهم عسكر الخليفة صحبة مجاهد الدين أيبك الدوادار الكبير «1» - وكان مقدما على عشرة آلاف فارس- فالتقن مع التتار وهزمهم. فولوا عامة ذلك النهار، وقتل كثيرا منهم إلى أن حجز بينهم الليل، واستبشر المسلمون بالنصر. فلما أصبحوا تراجع التتار إليهم، فانكسر الدوادار ومن معه. وكان أكثر أصحابه لما أيقنوا بالظفر دخلوا بغداد فى تلك الليلة، فلما انهزم مجاهد الدين(27/381)
بمن بقى معه قصد التحصن ببغداد، فحال بينه وبينها- للقضاء المقدر- شق انبثق من دجلة، وساحت منه مياه عظيمة، فصار الماء أمامه والتتار وراءه، فأدركوه هو ومن معه، وأخذهم السيف، ومرق جماعة منهم. وقتل مجاهد الدين أيبك وولده أسد الدين- وكان مقدم خمسة آلاف فارس-، «وسليمان شاه ترجم «1» » .
أمير علم الخليفة، وجماعة من الأمراء، وأسروا خلقا. وحملت رؤوس هؤلاء الثلاثة إلى الموصل، وحملت على باب المدينة ترهيبا لأهلها.
ورمى أهل بغداد بالداهية الكبرى والمصيبة العظمى، وارتاع الخليفة وأغلقت أبواب المدينة، وأحاط بها التتار وضايقوها وفتحوها عنوة، ودخلوها فى العشرين من المحرم سنة ست وخمسين وستماية؛ ووضعوا السيف فيها سبعة أيام، لم يرفعوه عن شيخ كبير ولا طفل صغير. وجىء بالخليفة إلى هولاكو فأمر أن يجعل فى جولق ويداس بأرجل الخيل، ففعل به ذلك حتى مات، كما ذكرناه فى أخبار الدولة العباسية. ومن عادة التتار أنهم لا يسفكون دماء الملوك والأكابر غالبا.
وسبى التتار من بالقصر، وأخذوا ذخائر الخلافة، واستدعى هولاكو الوزير ابن العلقمى، وكان قد كاتبه وحثه على قصد بغداد وأضعف جيوش الإسلام. فلما مثل بين يدى هولاكو سبه(27/382)
ووبخه على عدم موافاته لمن هو غذى نعمته، وأمر بقتله فقتل.
وقيل لم يقتله بل استبقاه. ثم عزم هولاكو على إحراق مدينة بغداد، فمنعه كتبغا نوين، وقال هذه أم الأقاليم ويتحصل منها الأموال العظيمة، والمصلحة إبقاؤها، فأبقاها ورتب فيها شحنة، ثم سار عنها بعد انقضاء الشتاء إلى الشام، وجرد إلى مياّفارقين، والله أعلم.
ذكر استيلاء التتار على ميافارقين
وفى سنة ست وخمسين أيضا أرسل هولاكو طائفة من عساكره إلى ميافارقين صحبة صرطق «1» نوين وقطغان نوين. وكان بها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المظفر غازى بن العادل أبى بكر ابن أيوب، فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق من كل ناحية، فقاتله أهلها، وامتنعوا وصبروا على شدة الحصار، وقلت الأقوات عندهم حتى أكلوا الكلاب والسنانير والميتة. ففتحها التتار بعد سنتين، بعد أن فنى الجند من كثرة القتال، وأسر من بقى، وأخذ الملك الكامل صاحبها وتسعة نفر من مماليكه، وأحضروا بين يدى هولاكو فقتلوا، إلا مملوكا واحدا يسمى قراسنقر سأله عن وظيفته، فذكر أنه أمير شكار «2» ، فأبقاه وسلم إليه طيوره.
وجاء قراسنقر هذا بعد موت هولاكو إلى الديار المصرية فى الأيام(27/383)
الظاهرية، فجعله السلطان من مقدمى الحلقة المنصورة. وكان استيلاء التتار على ميافارقين فى سنة ثمان وخمسين وستماية.
ولما قتل الملك الكامل هذا حمل التتار رأسه على رمح وطيف به البلاد ومروا به على حلب وحماه ووصلوا به إلى دمشق فى سابع عشرين جمادى الأولى من السنة، وطافوا به فى دمشق بالمغانى والطبول، وعلق رأسه بباب الفراديس فلم يزل إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفراديس.
ذكر وفاة بيجو مقدم التتار
وفى سنة ست وخمسين أيضا نقم هولاكو على بيجو لما بلغه عنه من إضمار الخلاف وما قصده من التأخير عنه لما طلبه وأنه قصد الانفراد ببلاد الروم. فلما فرغ من فتح بغداد والعراق سقاه سما فمات. وقيل إنه كان قد أسلم قبل موته، ولما حضرته الوفاة أوصى بأن يغسل ويدفن على عادة المسلمين. وكان له من الأولاد أفاك «1» .
وسوكناى. وأفاك هذا هو أبو سلامش «2» وقطقطو اللذين وفدا إلى الديار المصرية فى الأيام المنصورية.
ولما فتح هولاكو العراق جاءه ملوك الأطراف، فكان ممن جاءه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بهدايا جليلة وتحف.(27/384)
ولما قصد السفر من الموصل جاءه أهلها وقالوا: «إنا نخشى عليك من سطوة هذا الملك الجبار» فقال: «أرجو أن أتمكن منه وأعرك أذنيه» فلما جاءه وقدم ما معه أعجب هولاكو وأقبل عليه. فلما فرغ من تقدمته قال: «قد بقى معى شيئ خاص بالقان» وأخرج له حلقتى أذن من الذهب، فيهما درتان كبيرتان، فأعجباه فقال: «أشتهى القان يشرفنى بأن أجعلهما بيدى فى أذنيه ليعظم قدرى بذلك عند الملوك وأهل بلادى وأعلم رضاه عنى» فأصغى إليه بأذنيه فمسكهما ووضع الحلقتين فيهما، ونظر إلى من معه من أهل الموصل يعنى:
«اننى قد قلت قولا وقد حققته» .
وأرسل إليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب الشام ولده العزيز بهدايا وتحف اقتداء بصاحب الموصل، فقبل تقدمته وسأله عن تأخير أبيه، فاعتذر بأنه لا يمكنه مفارقة البلاد خوفا عليها من عدو الإسلام الفرنج، فقبل عذره وأعاده إلى أبيه.
وجاءه عز الدين كيكاوس، وركن الدين قلج أرسلان ملك الروم فقسم البلاد بينهما على ما قرره منكوقان.
وفى سنة سبع وخمسين وستماية وجه هولاكوا أرغون- وهو من أكابر المقدمين- فى جيش إلى كرجستان، فغزا تفليس وأعمالها، فأغار ونهب وعاد إليه وهو بالعراق.
وفيها أيضا قدم هولاكو إلى شرقى الفرات ونازل حران وملكها، واستولى على البلاد الجزيرية، وذلك بعد وفاة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.(27/385)
وأرسل هولاكو أحد أولاده إلى حلب فوصل إليها فى العشر الآخر من ذى الحجة من السنة. وكان الملك المعظم تورانشاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بحلب ينوب عن ابن أخيه الملك الناصر، فخرج بالعسكر الحلبى لقتال التتار، فأكمن التتار كمينا عند الباب المعروف بباب الله قريب من مدينة حلب من شمائلها، والتقوا واقتتلوا عند بانقوسا «1» ، فاندفع التتار بين يدى العسكر الحلبى وتبعهم العسكر حتى خرجوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فطلب المسلمون المدينة والتتار يقتلون فيهم. وهلك فى الأبواب جماعة من المنهزمين.
ثم رحل التتار إلى اعزاز وتسلموها بالأمان، ثم تقدم هولاكو بجيوشه فبدأ بالبيرة فملكها، ووجد بها الملك السعيد ابن الملك العزيز أخا الملك الناصر معتقلا فأطلقه، وسأله عما كان بيده فقال:
الصبيبة وبانياس، فكتب له بذلك فرمانا، ثم تقدم هولاكو إلى حلب.
ذكر منازلة هولاكو مدينة حلب واستيلائه عليها وعلى بلاد الشام
وفى سنة ثمان وخمسين وستماية عبر هولاكو الفرات بجموعه، ونازل حلب، وأرسل إلى الملك المعظم توران شاه ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف يقول: «إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر، فاجعلوا عندكم شحنة وبالقلعة شحنة(27/386)
ونتوجه نحن إلى العسكر فإن كانت الكسرة عليهم كانت البلاد لنا وتكونون «1» قد حقنتم دماء المسلمين. وان كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين فى الشحنتين إن شئتم القتل أو الإطلاق فقال له الملك المعظم: «ليس له عندى إلا السيف» . وكان الرسول إليه من جهة هولاكو صاحب أرذن الروم، فعجب من جوابه، وتألم لما علم من ضعف المسلمين عن ملاقاة التتار وأحاط التتار بحلب فى ثانى صفر وهجموا على البواشير فى الثالث من الشهر؛ فقتل من المسلمين جماعة، منهم أسد الدين ابن الملك الزاهر صلاح الدين. واشتدت مضايقة التتار لحلب، وهجموه من عند حمام حمدان وذلك فى يوم الأحد تاسع صفر، وصعد إلى القلعة خلق كثير. وبذل التتار السيف والنهب فى أهل حلب إلى يوم الجمعة رابع عشر الشهر، فأمر هولاكو برفع السيف، ونودى بالأمان، فقتل منها فى هذه المدة ما لا يحصى كثرة، وكان قد تجمع بها من أهل القرى خلق كثير. وسبى من النساء والذرارى زهاء مائة ألف، بيعوا فى جزائر الفرنج وبلاد الأرمن، ولم يسلم ممن كان بحلب إلا من التجأ إلى أماكن كان مع أهلها فرمانات من هولاكو منها: دار شهاب الدين بن عمرون، ودار نجم الدين أخى مزدكين، ودار البازيار، ودار علم الدين قيصر الموصّلى، والخانقاه التى فيها زين الدين الصوفى، وكنيسة اليهود. فقيل إن الذين سلموا فى هذه الأماكن يزيدون على خمسين ألف إنسان.(27/387)
واستمر الحصار على القلعة والمضايقة لها نحو شهر، فوثب جماعة ممن بالقلعة على صفى الدين بن طرزة رئيس حلب وعلى نجم الدين أحمد بن عبد العزيز ابن القاضى نجم الدين بن أبى عصرون فقتلوهما لأنهم توهموا أنهما باطنا التتار. ثم سأل من بالقلعة الأمان، فأمنوا، وتسلمها التتار فى يوم الإثنين حادى عشر ربيع الأول من السنة. وأمر هولاكو من كان بالقلعة أن يعود كل منهم إلى داره وملكه وأن لا يعارض. ونزل العوام والغرباء إلى الأماكن التى أحميت بالفرمانات. وكان بقلعة حلب فى الاعتقال جماعة من البحرية الصالحية الذين حبسهم الملك الناصر، منهم الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، وسكز، وترامق، وغيرهم؛ فأخذهم وأضافهم إلى مقدم يسمى سلطان جق من أكابر القفجاق. وكان سلطان جق هذا قد هرب من التتار لما استولوا على بلاد القفجاق وقدم إلى حلب، فأكرمه الملك الناصر وأحسن إليه وأقام عنده، فلم توافقه البلاد فالتحق بهولاكو فأكرمه؛ هذا ما كان من أمر حلب.
وأما حماه فان صاحبها الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب كان قد فارقها وتوجه إلى دمشق، وترك بها الطواشى مرشد. فلما بلغه أخذ حلب فارق حماه، وتوجه إلى الملك المنصور بدمشق، فتوجه أكابر حماه بمفاتيحها إلى هولاكو.
وسألوه الأمان لأهل البلد، وطلبوا منه شحنة يكون عندهم؛ فامنهم وأرسل معهم شحنة من العجم اسمه خسروشاه، كان يدعى أنه من ولد خالد بن الوليد، فقدم حماه وأقام بها وآمن أهلها. وكان(27/388)
بقلعة حماه مجاهد الدين قايماز أمير جاندار فسلم القلعة إليه.
ودخل فى طاعة التتار.
ووصل إلى هولاكو وهو على حلب جماعة منهم الملك الأشرف موسى بن إبراهيم بن شيركوه وهو صاحب حمص، فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص. وكان الملك الناصر قد أخذها منه فى سنة ست وأربعين وعوضه عنها تل باشر، فأعادها هولاكو عليه الآن. ووصل إليه أيضا من دمشق القاضى محيى الدين بن الزكى فأقبل عليه هولاكو وخلع عليه وولاه قضاء الشام. ولما عاد ابن الزكى إلى دمشق لبس خلعة هولاكو، فكانت مذهبة، وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو.
ثم رحل هولاكو إلى حارم بعد أن ولى على حلب عماد الدين القزوينى. فلما وصل إليها طلب تسليمها، فامتنع من بها أن يسلموها إلا إلى فخر الدين متولى قلعة حلب. فأحضره هولاكو فتسلمها، فغضب هولاكو وأمر بقتل من بها فقتلوا عن آخرهم وسبى النساء.
ذكر استيلاء التتار على دمشق
قال: وجرد هولاكو إلى دمشق مقدما يسمى السبان وصحبته علاء الدين الكازى وزين الدين الحافظى وزير الملك الناصر بحلب؛ وكان قد خدم هولاكو. وكان الملك الناصر قد فارق دمشق فى منتصف صفر فوصل التتار إلى دمشق، وملكوا المدينة بالأمان، ولم يتعرضوا إلى قتل ولا إلى نهب. وعصيت القلعة عليهم فحاصرها(27/389)
التتار، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، وضايقوا القلعة ونصبوا عليها المجانيق ثم تسلموها بالأمان فى منتصف جمادى الأولى من السنة. ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها فتسلموها وخربوا قلعتها.
وجرد هولاكو إلى الشام كتبغا نوين فى اثنى عشر ألف فارس وأمره أن يقيم بالشام، فوصل إلى دمشق وهو الذى حاصر قلعتها وفتحها وقتل واليها بدر الدين بن [قرمجاه] «1» ونقيبها. ونزل كتبغا بالمرج، وحضر إليه رسل الفرنج بالساحل، وأحضروا معهم التقادم، وحضر إليه أيضا الملك الظاهر أخو الملك الناصر، وكان بصرخد فأقره على حاله.
ثم توجه كتبغا إلى عجلون فامتنعت عليه قلعتها، فحاصرها وأحضر إليه الملك الناصر وهو فى حصار عجلون، فأمر من بالقلعة أن يسلموها إلى التتار فسلموها. وجهز كتبغا الملك الناصر إلى هولاكو فوصل إليه وهو بحلب فسأله عن عساكر الديار المصرية، فقال:
«عساكر ضعيفة، وهم نفر قليل» وصغرهم عنده. وقال: «يكفيهم القليل من الجيش» . فاقتصر هولاكو عند ذلك على كتبغا نوين ومن معه ولم يردفه بغيره.
وعاد هولاكو من حلب إلى بلاد قراقروم لطلب القانية لنفسه، فوجدها قد استقرت لأخيه قبلاى، كما قدمنا ذكر ذلك. ولما فارق(27/390)
حلب أمر عماد الدين القزوينى فى المسير إلى بغداد، ورتب مكانه رجلا أعجميا. وأمر هولاكو أن يخرب أسوار قلعة حلب، وأسوار المدينة، فخربت عن آخرها. وأمر الملك الأشرف موسى صاحب حمص أن يتوجه إلى حماه ويخرب أسوارها وأسوار قلعتها، فوصل إلى حماه ونزل بدار المبارز وشرع فى تخريب سور القلعة، فخربت أسوارها وأحرقت زردخاناتها، وبيعت الكتب التى بدار السلطنة بأبخس الأثمان، وسلمت أسوار المدينة، لأن حماه كان بها رجل يقال له إبراهيم بن الفرنجية كان ضامن الجهة المفردة، فبذل لخسروشاه جملة كثيرة من المال وقال: إن الفرنج بالقرب منا، فى حصن الأكراد، ومتى ضربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام بها.
فأخذ منه المال وأبقى أسوار المدينة. ولم يزل خسروشاه بمدينة حماه إلى أن انهزم التتار على عين جالوت ففارقها وعاد إلى هولاكو.
وأما كتبغا نوين فإنه أرسل إلى الملك المظفر قطز صاحب الديار المصرية يطالبه ببذل الطاعة أو تعبية الضيافة، فقتل (قطز) رسله إلا صبيا واحدا فإنه استبقاه وأضافه إلى مماليكه. وتجهز وسار إلى لقاء التتار، فتجهر كتبغا لقتاله والتقوا بعين جالوت، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم التتار وأخذهم السيف والأسار، وقتل كتبغا نوين، وفر من بقى من أصحابه إلى هولاكو. ولما استقرت القانية لقبلاى، استقر لهولاكو ما نذكره.(27/391)
ذكر الأقاليم التى استقرت فى ملك هولاكو بعد وفاة منكوقان
منها:
إقليم خراسان: وكرسيه نيسابور ومن مدنه المشهورة طوس وهراة وترمذ ولحج ومرو. ويضاف إليه همذان ونسا وكنجة ونهاوند.
عراق العجم: وكرسيه أصفهان. ومن مدنه قزوين وقم وقاشان وسجستان وطبرستان وكيلان وبلاد الاسماعيلية وغيرها.
عراق العرب: وكرسيه بغداد ومن مدنه واسط والكوفة والبصرة والدينور وغير ذلك.
أذربيجان: وكرسيها تبريز وهى توريز؛ ومن مدنها الأهواز وغيرها.
بلاد فارس: ومدينتها شيراز؛ ومن أعمالها كنشن وكرمان وكازرون والبحرين.
ديار بكر: وكرسيها الموصل ومن مدنها ميافارقين ونصيبين وسنجار وأسغرد «1» ورأس العين ودنيسر وحران والرها وجزيرة ابن عمر وخرتبرت وملطية وسمياط وغيرها.
بلاد الروم: وكرسيها قونية وتشتمل البلاد الرومية على عده أعمال منها: أرمينية الكبرى، ومن ملكها سمى شاه أرمن. ومن مدنها خلاط وأعمالها وان وسطان وأرجيس وما معها.(27/392)
أرزن الروم وأعمالها؛ ومن مدنها شهر وبانوب وقجمار وتسمى دار الجلال.
مدينة ألتى «1» وأعمالها، وهى متصلة ببلاد الكرج وتخومها وهى ذات قلعة حصينة.
أرزنجان وأعمالها، ومن مدنها أقشهر ودرخان وكماج وقلعة كغونية وما مع ذلك.
سيواس وبلاد دانشمند وتسمى دار العلاء، ومن مدنها أماسية وتوقات وقمنات وبلاد كنكر وبلاد انكورية ومدينة سامسون وكستمونية وطرخلوا وبرلوا وهذه متصلة بسواحل البحر المحيط، وطنغزلوا وأعمالها وقرا حصار ودمرلوا وأقصرا وأنطاليا والعلايا.
ذكر مهلك هولاكو ونبذة من أخباره
كانت وفاته فى تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستماية بالقرب من كورة مراغة. وقيل إنه حمل إلى قلعة تلا «2» ودفن بها. وكانت مدة ملكه منذ فتح بغداد سبع سنين وشهورا ومنذ وفاة أخيه منكوقان واستقلاله بالملك خمس سنين.(27/393)
وكان لهولاكو أحكام غريبة منها ما حكى عنه أن قوما أتوه واستغاثوا أن بعض صناع المبارد قتل قرابة لهم، وسألوه أن يمكنهم منه ليقتلوه بصاحبهم فسأل عن صناع المبارد وكم عدتهم، فذكر له عدة يسيرة فأطرق ساعة ورفع رأسه إلى أولياء المقتول، وأمرهم أن يقتلوا بصاحبهم بعض صناع البرادع والرحال، فقالوا: إن الذى قتل صاحبنا. مباردى ولا يقتل به غيره. فسأله بعض خواصه عن ذلك فقال: إن صناع المبارد عندنا قليل ومتى قتلناه احتجنا إليه، ولا يقوم غيره مقامه، وصناع البرادع والرحال كثير، ومن قتلناه منهم استغنينا عنه. فلما امتنع أولياء المقتول من ذلك أطلق لهم بقرة وقال: خذوا هذه بدلا من صاحبكم.
ومنها أن بعض الصناع الزراكشة تخاصم مع رجل فضربه ضربة أصابت إحدى عينيه فزالت، فجاء إلى هولاكو واستغاث على الزركشى أنه قلع عينه، فأمره أن يقلع عين أحد صناع النشاب.
فقيل له عن ذلك فقال: إن الزركشى يحتاج إلى عينيه ومتى قلعت إحداهما تضرر، والنشابى لا يحتاج إلا إلى عين واحدة فإنه إذا قوم السهم غلق إحدى عينيه ونظر بالأخرى، وما أشبه هذه الأحكام.
ولهولاكو وقائع من هذا الجنس أضربنا عن ذكرها.
وكان له من الأولاد الذكور خمسة عشر وهم جمغار «1» وهو(27/394)
أكبرهم سنا، وأباقا وهو أبغا وهو الذى ملك بعده. ويصمت «1» ، وتشتشين «2» وبكشى «3» . وتكدار «4» - وهو أحمد وملك بعد أبغا-. وأجاى. وألاجو «5» وسبوجى «6» . ويشودار «7» .
ومنكوتمر. وقنغرطاى «8» . وطرغاى و «طغاى تمر» وهو أصغرهم ولما مات هولاكو ملك بعده أبغا.
ذكر ملك أبغا بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان
وهو الثانى من ملوك هذا البيت جلس على كرسى المملكة بعد وفاة أبيه هولاكو فى تاسع عشر شهر ربيع الاخر سنة ثلاث وستين وستماية. فأول ما بدأ به أن جهز جيشا لحرب عساكر بركة ملك(27/395)
البلاد الشمالية، فتوجه العسكر والتقى مع عساكر بركة، فكانت الهزيمة على أصحاب أبغا كما شرحنا ذلك فى أخبار بركة، وهى الوقعة الثانية بين عسكريهما.
وفى سنة اثنتين وسبعين وستماية وقع بين أبغا وبين ابن عمه تكدار «1» بن موجى بن جغطاى بن جنكزخان. وكان تكدار مقدما على ثلاثين ألفا، وهو مقيم ببلاد كرجستان، فكاتب قيدو وقصد الاتفاق معه على أبغا، فوقعت الكتب فى يد أبغا فطلب عساكره المتفرقة من الروم وغيرها وقصد تكدار، فانهزم والتجأ إلى بلاد الكرج بمن معه، فمنعه صاحبها الملك كركيس من دخولها، فأوى إلى جبل من جبالها هو ومن معه، فأكلت خيولهم من عشبه وكان فيه حشيشة مضرة بالدواب، فنفقت خيولهم، فطلبوا الأمان من أبغا فأمنهم فنزلوا إليه، ففرّق أصحاب تكدار فى جيوشه، ورسم لتكدار أن لا يركب فرسا قارحا ولا جزعا «2» إلا مهرا صغيرا، وأن لا يمس بيده قوسا. فبقى كذلك حتى مات، حتى أن ولدا له صغيرا أحضر إليه قوسه ليوتره له، فامتنع وقال: ما أقدر أمس القوس بيدى لأجل مرسوم أبغا.
وفى سنة خمس وسبعين وستمائة وقع المصاف الكائن بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس وبين المغل أصحاب أبغا،(27/396)
ومعهم العسكر الرومى بالبلستين «1» من بلاد الروم. فكانت الهزيمة على المغل وعساكر الروم، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار دولة الترك فى أيام الملك الظاهر. وقتل وأسر من المغل فى هذا لمصاف خلق كثير، وقيل أيضا وأسر من عسكر الروم. فلما اتصلت هذه الوقعة بأبغا جاء إلى موضع المضاف وشاهد القتلى، فاستعظم قتل المغل وأسرهم؛ وجاءه أيبك الشيخ أحد أمراء الملك الظاهر- وكان قد هرب- فأطلعه على أن البرواناه- وهو المتحكم فى الروم نيابة عن الملوك السلجقية- كاتب المك الظاهر، وحثه الى قصد الروم، فنقم أبغا على البرواناه وأكد ذلك عنده أنه وجد القتلى من المغل وليس من الروم إلا القليل، فأمر عند ذلك بنهب بلاد الروم، وقتل من بها من المسلمين، فتفرقت عساكره تقتل وتنهب المسلمين خاصة سبعة أيام، ووكل أبغا بالبرواناه من يحفظه من حيث لم يشعر بذلك.
ثم سار إلى أرزنكان «2» اشتراها؛ واعتد ثمنها من الإتاوة التى على بلاد الروم، وأخذ فى استرجاع قلاع الروم. فلما وصل إلى قلعة بابرت «3» ، خرج إليه شيخ منها، وقال له: «أريد أمان القان لأتكلم بين يديه» . فقال: «قل ولك الأمان» . فقال: «إن(27/397)
عدوك حضر إلى بلادك ولم يتعرض إلى رعيتك، ولا أسأل لهم محجمة دم، وأنت قصدت العدو وجئت فى طلبه، فلما فاتك قتلت رعيتك ونهبت بلادهم وخربتها. فمن هو من الخانات الذين تقدموك من أسلافك فعل مثل هذا الفعل وسن هذه السنة؟» فأنكر أبغا عند ذلك على الأمراء الذين أشاروا عليه بذلك وأمر بإطلاق الأسرى المسلمين، فأطلقوا، وكانوا أربعمائة ألف أسير، وعاد إلى الأردو.
ذكر قتل سليمان البرواناه «1»
قال: ولما وصل أبغا إلى الأردو استشار فى أمر البرواناه، فطائفة أشارت بقتله، وطائفة أشارت بإبقائه، فهم بإعادته إلى الروم.
فتجمع نساء من قتل من المغل ونحن وبكين، فسمعهن أبغا وسأل عن شأنهن، فقيل إنهن بلغهن أن القان يريد إطلاق البرواناه، فهن يبكين على أهلهن وأزواجهن. فعند ذلك أمر أبغا كوكجى بهادر- وهو من أمرائه- أن يأخذ البرواناه ويتوجه به إلى موضع عينه له فيقتله. فاستدعى البرواناه وقال: إن أبغا يريد أن يركب، ورسم أن تركب أنت وأصحابك معه، فركب فى اثنين وثلاثين نفرا من(27/398)
مماليكه وألزامه، وتوجه مع كوكجى، فأخذ به نحو البر ومعه مائتا «1» فارس. فلما انتهوا إلى المكان المعين أحاط به فسأل المهلة أن يصلى ركعتين، فأمهله. فلما قضى صلاته قتله وقتل من معه. ولما بلغ من بقى من مماليك البرواناه قتل صاحبهم تجمعوا وفيهم سنجر البروانى، وبكتوت أمير أخور، وأوتروا قسيّهم ونكثوا نشابهم، وقالوا: نموت كراما. فطولع أبغا بخبرهم فشكرهم على ذلك وأعادهم إلى الروم. وكان مقتل البرواناه فى آخر صفر سنة ست وسبعين وستمائة.
وفى سنة ثمانين وستماية فى رابع عشر شهر رجب انهزم التتار أصحاب أبغا الذين حضروا مع جهته إلى الشام والتقوا مع السلطان الملك المنصور قلاوون، وكانوا صحبة منكوتمر بن هولاكو. وكان أبغا قد نازل الرحبة ثم جرد هؤلاء وعاد إلى الأردو، ووصل منكوتمر بمن معه إلى حمص، والتقوا هم والعساكر الإسلامية. فاستظهر التتار فى مبادئ الوقعة فانهزمت ميسرة الملك المنصور، وما شك التتار فى الظفر، ونزلوا وأكلوا الطعام. ثم كانت الدائرة عليهم فانهزموا أقبح هزيمة على ما نبينه فى أخبار السلطان الملك المنصور. وأما منكوتمر ابن هولاكو فإن الهزيمة استمرت به إلى جزيرة ابن عمر، فلما وصل إليها مات. وقيل إن علاء الدين الجوينى صاحب الديوان كان قد عزم على اغتياله واغتيال أبغا ونقل الملك عنه، فكتب إلى مؤمن أغا- شحنة الجزيرة- يأمره أن يتحيل على منكوتمر ويقتله، فسقاه(27/399)
مؤمن سما فمات. ولما مات هرب مؤمن الشحنة من الجزيرة، وعلم أصحاب منكوتمر بأمره فطلبوه فلم يدركوه، فقتلوا نساءه وأولاده.
وتوجه مؤمن إلى الديار المصرية ومعه ولداه فأعطوا بها أقطاعا، وحمل منكوتمر إلى قلعة تلا فدفن بها.
وفى سنة ثمانين وستماية أيضا كانت وفاة علاء الدين الجوينى «1» صاحب الديوان. وكان قد تمكن فى دولة التتار تمكنا عظيما بسبب أخيه الصاحب شمس الدين، فإنه كان المشار إليه. ثم نقم عليه أبغا لما توهم أنه واطأ المسلمين، واستصفى أمواله. ثم مات بعراق العجم وولى بعده ولد أخيه هارون بن الصاحب شمس الدين.
ذكر وفاة أبغا بن هولاكو
كانت وفاته فى أوائل المحرم سنة إحدى وثمانين وستمائة.
وكان سبب موته أن الصاحب شمس الدين محمد الجوينى صاحب الديوان كان إليه التصرف فى الأموال، وكانت تحمل إليه من سائر بلاد التتار، وتصرف بقلمه، فخاف غائلة أبغا، فتحيّل فى قتله، ودس إليه من سقاه سما، فمات. وقيل إنه منذ انكسرت جيوشه على حمص أخذ حاله فى النقص، ثم أتاه الخبر أن الخزائن التى جمعها هولاكو- وكانت ببرج بقلعة فى وسط البحر- فسقط(27/400)
البرج بجميع ما فيه من الأموال والذخائر والجواهر فى البحر. ثم دخل الحمام وخرج فسمع أصوات الغربان، فقال لمن حوله: إننى أسمع هذه الغربان تقول: «أبغا مات» ، وركب فعوت كلاب الصيد فى وجهه، فتشاءم بذلك. ولم يلبث أن مات فى التاريخ، وقيل فى نصف ذى الحجة سنة ثمانين وستمائة. «1»
وخلف من الأولاد أرغون، وكيختو «2» . ومات أخوه أجاى بعده بيومين.
ذكر ملك توكدار بن هولاكو وهو المسمى أحمد سلطان، وهو الثالث من ملوك هذا البيت
كان جلوسه على كرسى المملكة بعد وفاة أخيه أبغا فى المحرم سنة إحدى وثمانين وستمائة. وذلك أن أبغا لما مات كان ولده الأكبر أرغون بخراسان. وكان كيختو عنده بالأردو فاجتمع الأمراء ليقع اتفاقهم على من يجلس مكان أبغا. وكان بعض المغل يختار توكدار «3» لأنه كان قد استمالهم إليه، فاجتمع رأيهم عليه. فجلس على كرسى المملكة، وأرسل أخاه قنغرطاى يقول لأرغون ابن أخيه أبغا: «إن الشرط فى الياسا أنه إذا مات ملك لا يجلس عوضه إلا الأكبر(27/401)
من أهل بيته، وهذا عمك أحمد هو الأكبر، وقد أجلسناه، ومن خالف يموت» فأطاعوه.
ولما جلس كان أول ما بدأ به أنه أظهر دين الإسلام وأشاعه، وكتب إلى بغداد كتابا، نسخته بعد البسملة: «إنا جلسنا على كرسى الملك، ونحن مسلمون، فتبلغون أهل بغداد هذه البشرى، ويعتمدون فى المدارس والوقوف وجميع وجوه البر ما كان يعتمد فى أيام الخلفاء العباسيين، ويرجع كل ذى حق إلى حقه فى أوقاف المساجد والمدارس، ولا يخرجون عن القواعد الإسلامية. وأنتم يا أهل بغداد مسلمون، وسمعنا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال هذه العصابة الإسلامية مستظهرة ظافرة إلى يوم القيامة. وقد عرفنا أن هذا خبر صحيح ورسول صحيح. رب واحد. أحد. فرد. صمد.
فتطيبون قلوبكم وتكتبون إلى جميع البلاد» . وكتب إلى السلطان الملك المنصور قلاوون يعلمه بإسلامه.
واستولى على السلطان أحمد وعلى دولته الشيخ عبد الرحمن، وأصله من الموصل، وكان مملوكا؛ ويقال له عبد الرحمن النجار، وأظهر للمغل المخاريق والخيل، وأخذ فى إفساد ما بين السلطان أحمد وبين أهله، وقصد بذلك الاستبداد، وعظم أمره، وتحدث فى سائر الأوقاف، ومال إليه أبناء المغل. وانتهى من أمره أن أحمد سلطان كان يقف فى خدمته، ويقتدى بما يقول، وركب بالخبز والسلاح داربة.
وحضر عبد الرحمن هذا فى رسلية إلى السلطان الملك المنصور (قلاوون) .
فقتل أحمد فى غيبته، فأقام هو بالشام. ومات به، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الملك المنصور.(27/402)
ذكر ما اتفق بين توكدار وبين أرغون ابن أخيه أبغا
وفى سنة اثنتين وثمانين وستماية سار أرغون بن أبغا من خراسان لقتال عمه توكدار، فجرد إليه عمه جيوشا صحبة الناق نائبه، فكبسهم أرغون وهم على غير استعداد، فقتل منهم جماعة. فركب أحمد سلطان فى أربعين ألف فارس وسار لقصد أرغون، وأسره من غير حرب، وعاد إلى تبريز. فجاءت زوجة أرغون وخواتين كثيرة من النساء اللواتى لهن الدخول على أحمد، وسألته العفو عن أرغون وإطلاق سبيله والاقتصار به على خراسان. فلما أجاب إلى ذلك- وكان أحمد قد أمسك من أكابر أمراء المغل اثنى عشر أميرا وقيدهم وأهانهم- فتغيرت خواطر الأمراء عليه وعزموا على قتله.
ذكر مقتل توكدار بن هولاكو
كان مقتله فى سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وذلك أنه لما أسر أرغون ابن أخيه أبغا، وكل به من يحفظه. واتفق تشويش خواطر المغل عليه من أسباب: منها إساءته إلى أكابرهم؛ ومنها ما ألزمهم به من الدخول فى دين الإسلام طوعا أو كرها؛ ومنها وثوبه على أخيه قنغرطاى «1» وإحضاره من الروم وقتله؛ وغير ذلك مما نقل عنه فى ميله إلى أبناء المغل والخلوة بهم، وهو أمر لم يألفوه قبله. فأجمعوا على قتله،(27/403)
وإقامة أرغون. وكان من جملة الأمراء ثلاثة وهم بغا «1» وأروق- وهما أخوان- وقرمشى بن هندغون «2» ، فتوجهوا إلى ججكب «3» وشكوا إليه ما يلقون من أحمد، وعرفوه ما عزموا عليه، فوافقهم ججكب، واتفقوا جميعا. وجاءوا إلى المكان الذى فيه أرغون تحت التوكيل، فأطلقوه وكبسوا الناق «4» نائب أحمد فقتلوه؛ وقصدوا الأردو، فأحسّ بهم أحمد فركب فرسا وانهزم فأدركوه وقتلوه وأقاموا أرغون.
ذكر ملك أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذا البيت
كان جلوسه على كرسى المملكة فى جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين «5» وذلك أن الأمراء لما أطلقوه من توكيل عمه توكدار وفرّ توكدار، أجلسوه على كرسى السلطنة. وساق المغل خلفه وكان قد هرب هو وصاحب الديوان شمس الدين، فأدركوا توكدار وقبضوا عليه، وأحضروه إلى أرغون فقتل بين يديه. وأما شمس الدين صاحب الديوان، فإن أرغون اتهمه أنه دبر على [ابيه] «6» أبغا(27/404)
وعمه منكوتمر حتى ماتا، وأخرج الملك منه إلى عمه أحمد، فطلبه ففر منه ولجأ إلى بعض القلّاع، فأخذ وجى به إليه، فقتله صبرا، وأرسل كل قطعة منه إلى مكان من بلاده، واستناب أرغون (الأمير) أبغا- أحد الأمراء الثلاثة الذين اتفقوا على إقامته- ثم أوقع به بعد مدة يسيرة وبالأميرين الآخرين، واستناب طاجار «1» ، ودس على ججكب جوشكاب من سقاه سما فمات. وقتل غياث الدين كيخسرو صاحب الروم لتوهمه أنه واطأ «2» عمه أحمد على قتل عمه قنغرطاى، وكان قنغرطاى قد أقام ببلاد الروم من أيام أبغا، وقرر أرغون أن بيدو يحكم على إقليم بغداد، وأولاجو يحكم على إقليم الروم، وترك ولديه غازن وخربندا بخراسان، ووكل أمرهما إلى نيروز «3» ، وجعله أتابكهما، واستوزر سعد الدولة اليهودى، وأصله من أبهر من كور عراق العجم. وكان (سعد الدولة) فى أول أمره يشتغل بالطب، فتميز وانتقل إلى أن ترشح للوزارة.
وأحسن أرغون إلى والدة عمه أحمد وهى [قوتوى خاتون] »
، وأبقى عليها بلادها التى كانت لها فى زمن ابنها وهى طوبان، وميّافارقين. ودامت أيامه إلى سنة [تسعين] «5» وستمائة فمات(27/405)
حتف أنفه فى شهر ربيع الأول منها على شاطئ نهر الكر «1» من بلاد أران. وقيل إنه مات مغتالا بسم. وقيل إنّه كان يدين بدين البخشيّة وهى الطائفة المشهورة بعبادة الأصنام. وكان يجلس فى السنة أربعين يوما فى خلوة، ويتجنب أكل لحوم الحيوان. فوفد عليه رجل من الهند يزعم أنه يعلم علم الأديان والأبدان، وأوحى إليه أنه يتخذ له معجونا، من داوم مناولته طالت حياته، وركب له. فتناول منه فأوجب له انحرافا وصرعا، فمات وملك بعده أخوه كيخاتو.
ذكر ملك كيخاتو «2» بن أبغا بن هولاكو وهو الخامس من ملوك هذا البيت
جلس على كرسى المملكة بعد وفاة أخيه أرغون فى شهر ربيع الأول سنة تسعين وستمائة. وذلك أن أرغون لما مات كان له من الأولاد غازان وخربندا؛ وكانا بخراسان، فاجتمع الأمراء وأرباب الرأى على إقامة كيخاتو فأقاموه فى المملكة.
فلما استقر حكمه ونفذ أمره أساء السيرة، وخرج عن الياسا المقررة. وأفحش فى الفسق، وتعرض إلى نسوان المغل وأولادهم الذكور. وتمادى على ذلك فاجتمعوا وشكوا ذلك إلى بيدو «3» ابن(27/406)
عمه، فوثب به [بيدو بن طرغاى] «1» وبشتاى وصنجك، فعلم بهم فهرب من الأردو إلى نحو كرخستان «2» ، فقتل بمقام سلاسوار «3» من أعمال موغان، فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة «4» .
ذكر ملك بيدو بن طرغاى بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وهو السادس من ملوك هذا البيت
جلس على كرسى المملكة فى جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وستماية بعد مقتل كيخاتو. ولما ملك كان غازان بن أرغون بخراسان وصحبته أتابكه نيروز، فحسن له قصد بيدو وانتزاع المملكة منه.
فجمعا وحشدا وحضرا من خراسان، وسار بيدو بعساكره إليهما.
فلما تراءى الجمعان تبين لغازان أن جمعه لا يقوم بمن مع بيدو، فراسله واتفقا على الصلح وعاد غازان إلى خراسان. وأقام نيروز عند بيدو، فإنه منعه من الرجوع مع غازان لئلا يتفقا على حربه مرة ثانية.
فأعمل نيروز الفكرة واغتنم الفرصة فى مدة إقامته عند بيدو.(27/407)
واستمال جماعة من الأمراء لغازان واستوثق منهم أنه متى دنا منهم انحازوا إليه وفارقوا بيدو. فلما استوثق منهم أعلم غازان بأمرهم فتجهز للمسير من خراسان وبلغ بيدو خبره فأوجس منه خيفة، وذكر ذلك لنيروز، فقال: «أنا أكفيك أمره وأدفعه عن قصدك، ومتى توجهت إليه ثنيت عزمه، وأرسلته إليك مربوطا.» فاستحلفه بيدو أنه لا يخون ثم جهزه. فسار إلى غازان وأخبره بما اتفق عليه الأمراء وتعاضدا وخرجا معا لقصد بيدو، وأرسل إليه نيروز قدرا مربوطا فى عدل، وقال: «قد وفيت بما قلت لك وأرسلت قازان إليك» ومعنى قازان فى لغتهم القدر، فغضب بيدو لهذه الرسالة وتحقق أنه خدعه ومكر به، وسار بيدو للقائهما. فلما التقى الجمعان بنواحى همذان، انحاز الأمراء الذين وافقوا نيروز إلى جهة غازان، فقوى بهم وضعف بيدو وهرب، فأدركوه بنواحى همذان، وقتلوه فى ذى الحجة «1» من السنة، فكانت مدة ملكه نحو سبعة أشهر.(27/408)
ذكر ملك غازان «1» بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ابن تولى خان بن جنكزخان وهو السابع من ملوك هذا البيت
جلس على كرسى المملكة بعد مقتل بيدو ابن عم أبيه فى ذى الحجة سنة أربع وتسعين وستماية. وترك أخاه خربندا بخراسان واستقر نيروز أتابك العسكر ومدبر المملكة.
وفى سنة خمس وتسعين وستمائة فارقت الطائفة الأويراتية «2» بلاد التتار، وحضروا إلى الديار المصرية والشام، والتجأوا إلى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى، وكانوا زهاء ثمانية عشر ألف بيتا ومقدمهم طرغاى، وسنذكر أخبارهم فى دولة الترك فى الأيام العادلية، وكان سبب هربهم أن مقدمهم طرغاى كان ممن وافق بيدو على قتل كيخاتو، فلما صار الملك إلى غازان خافه طرغاى على نفسه، فهرب هو ومن انضاف إليه.
وفى سنة سبع وتسعين وستماية حضر إلى غازان جماعة من(27/409)
النواب بالممالك الإسلامية والأمراء، وهم: الأمير سيف الدين قفجاق. «1» نائب الشام، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جندار المعروف بالسلاحدار، والأمير فارس الدين البكى الساقى نائب المملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بوزلار، والأمير سيف الدين عزاز الصالحى، والتحقوا به للسبب الذى نذكره إن شاء الله فى أخبار الملك المنصور لاجين المنصورى وفيها قتل غازان أتابكه نيروز «2» وسبب ذلك أن نيروز أحس بما أضمر له غازان من قتله، فكاتب الملك المنصور لاجين، والتمس منه أن يجرد عسكرا ليساعده على الحضور إلى أبوابه، فوقعت الأجوبة فى يد غازان، فأحضره وقتله. وقتل أخويه فيما بعد، وقتل الذى وصل إليه بالأجوبة من الديار المصرية. ورتب قطلوشا «3» فى نيابته عوضا عن نيروز.
وفيها أيضا فارق سلامش بن أفاك بن بيجو وأخوه قطقطو بلاد التتار إلى الديار المصرية وكان سلامش معدما على التمان ببلاد الروم.
فلما وصل إلى الديار المصرية خيره الملك المنصور لاجين فى المقام بمصر أو الشام، فسأله أن يجرد معه عسكرا ليخلص أهله من الروم، فجرد معه طائفة من العسكر بحلب. فلما قاربوا بلاد الروم ظفر بهم التتار وأخذوا عليهم المضايق ففر سلامش، والتجا إلى قلعة من قلاع الروم، ثم أحضر إلى غازان فقتله، واستقر قطقطو بمصر.(27/410)
ذكر مسير غازان الى الشام ووقعة مجمع المروج واستيلائه على البلاد الشامية وعوده عنها
وفى سنة تسع وتسعين وستمائة توجه غازان بعساكره وجموعه ومن انضم إليه من الكرج والأرمن وصحبته الأمراء والنواب الذين التحقوا به من الديار المصرية والشام، وسار بهم حتى قطع الفرات وانتهى إلى حلب، وتقدم إلى مجمع المروج بالقرب من حمص.
وجاء السلطان الملك الناصر «1» بعساكره والتقوا فى يوم الأربعاء ثامن وعشرين «2» شهر ربيع الأول من هذه السنة، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميمنة التتار هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، فاعتزل غازان فى نحو ثلاثين فارسا واعتد للهزيمة. ثم ركب من التتار من لم يشهد الوقعة، وحملوا على ميسرة الملك الناصر، فانهزمت وكانت الكسرة. وعاد الملك الناصر إلى الديار المصرية. وكانت القتلى من جيش غازان أضعاف من قتل من العساكر الإسلامية، والنصر لهم.
ولما عاين غازان من قتل من عساكره ورأى الهزيمة ظنها مكيدة(27/411)
فتوقف عن اتباع من انهزم. ثم سار إلى حمص وبها الخزائن السلطانية فسلمها إليه والى حمص من غير ممانعة، وأخرج إليه مفاتيح البلد فتسلمها، وأمن أهلها. ورحل منها إلى دمشق ونزل بالغوطة وهى أحد مستنزهات الدنيا الأربعة، وخرج إليه أكابر دمشق بالتقادم والتحف والهدايا. وتعرض من فى عسكره من الأرمن إلى المدارس والمساجد والجامع بجبل الصالحية وخربوه وحرقوه. ورتب الأمير سيف الدين قفجاق لتحصيل الأموال من الدماشقة، فأخذ فى جبايتها فجبى من الأموال ما لا يحصى كثرة. ورسم بمحاصرة القلعة فحوصرت وبها الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصورى فحفظها فلم يتمكن غازان منها ولما اشتد الحصار خشى أرجواش أن يتمكن التتار من القلعة بما حولها من البنيان، فهدمه جميعه، فكان من جملة ما هدم دار السعادة وهى الدار التى يسكنها نواب السلطنة؛ ودار الحديث الأشرفية، والمدرسة العادلية، ودار تعرف بالزين الحافظى، وطواحين باب الفرج، وغير ذلك مما جاور القلعة. وجاء رجل منجنيقى فالتزم لغازان بأخذ القلعة، وقرر أن ينصب المجانيق عليها فى جامع دمشق، فأجمع أرجواش رأيه أنه متى نصبت المجانيق بالجامع رمى عليها بمجانيق القلعة. وكان ذلك يؤدى إلى هدم الجامع، فانتدب رجال من أهل القلعة بعد أن تهيأت أعواد المجانيق ولم يبق إلا رميها وخرجوا بحمية الإيمان، وهجموا الجامع ومعهم المياسير، فأفندوا ما رتبه التتار وهيؤوه من أعواد المجانيق، ثم جددوا غيرها واحترزوا عليها.
فانتدب رجل من أهل القلعة، وبذل نفسه والتزم بقتل المنجنيقى، وخرج إلى الجامع والمنجنيقى بين المغل، فتقدم إليه وضربه بسكين(27/412)
فقتله، وهجم رجال القلعة فنفرت الناس عن القاتل وحماه أصحابه فجاء إلى القلعة وبطل ما دبروه من عمل المجانيق ونصبها على القلعة.
وكتب غازان إلى سائر نواب القلاع والحصون الشامية والساحلية فى تسليمها فما أجابه أحد إلى تسليم ما بيده، وتربصوا ثقة بالله تعالى ثم بالعساكر الإسلامية أنها لا تتأخر عن دفع غازان. وتقدم بكتابة الفرمانات وابتدأها بقوله بعد البسملة: بقوة الله تعالى وميامين الملة المحمدية، وأظهر فيها شعائر الإسلام واتباع السنة. هذا وأفعاله تناقض أفعاله لأنه رضى بما فعله الأرمن من الفساد. ثم رتب الأمير سيف الدين قفجاق قبجق فى النيابة عنه بالشام، ورتب الامير سيف الدين بكتمر السلحدار فى النيابة بالممالك الحلبية والحموية وحمص، ورتب الأمير فارس الدين البكى الساقى فى النيابة بالممالك الطرابلسية والصفدية والفتوحات والسواحل، وجعل الأمير يحيى ابن جلال الدين على جباية الأموال، ومرجع نواب الممالك إليه، وجرد من عسكره عشرين ألف فارس صحبة بولاى «1» وانشقا «2» وججك وهولاجو، فنزلوا الأغوار، وشنوا الغارات، فانتهت غاراتهم إلى القدس وبلد الجبل ونابلس ووصلوا إلى غزة، وقتلوا بجامعها خمسة عشر نفرا.
ورحل غازان عائدا إلى الشرق فى منتصف جمادى الأولى، وترك نائبه قطلوشاه يحاصر قلعة دمشق، فحصرها أياما فلم يتمكن منها،(27/413)
فجبى له قفجاق من أهل المدينة مالا فأخذه وتوجه إلى غازان. ثم لم يلبث بولاى ومن معه من التتار إلا قليلا، وتوجهوا إلى بعلبك والبقاع فأغاروا عليها ورجعوا إلى الشرق فى ثامن شهر رجب من هذه السنة، لما بلغهم أن السلطان الملك الناصر تجهز بجيوشه لدفعهم.
وأما السلطان الملك الناصر، فإنه لما دخل إلى الديار المصرية شرع فى الاهتمام والاحتفال بالعساكر، وأنفق فيهم الأموال، وعاد إلى الشام فبلعه توجه غازان، فجرد نائبه الأمير سيف الدين سلار واستاذ داره الأمير ركن الدين بيبرس، ثم انحاز إليه الامراء:
سيف الدين قفجاق، وسيف الدين بكتمر، وفارس الدين البكى.
على ما نذكر ذلك فى أخبار الدولة الناصرية.
وفى سنة سبعماية عاد غازان لقصد الشام، وانتهى إلى حلب وتقدم ونزل فيما بينها وبين حماه. ثم خرج السلطان الناصر بعساكره إلى الشام، وأقام بمنزله بدعرش بالقرب من غزة، وجرد من العساكر طائفة. ثم عاد غازان إلى الشرق والملك الناصر إلى مصر من غير قتال.(27/414)
ذكر مسير غازان الى الشام وعوده وتجريد عساكره وانهزامها بمرج الصفر
وفى سنة اثنتين وسبعماية سار غازان من الأردو ونازل الرحبة وحاصرها، فخرج إليه نائبها بلبان «1» الغتمى بالإقامات ولاطفه، وقال: «أنت أيها الملك متوجه إلى الشام فإذا أخذت البلاد فهذه القلعة لا تمتنع عليك» فوافقه غازان، وأخذ ابنه ومملوكه رهينة، ثم رحل عنها وعاد إليها. وجرد قطلوشاه وصحبته اثنا عشر تمانا لقصد الشام وعاد غازان إلى العراق فى أوائل شعبان من السنة.
وهجم عساكره على أطراف البلاد الحلبية فتأخر العسكر إلى حماة وغارت كل طائفة منهم على القريتين «2» ونهبوا من هناك من التركمان وسبوا نساءهم وذراريهم، وتوجهوا منها فى البرية إلى صوب عرض «3» ، وهم زهاء عشرة آلاف فخرج إليهم طائفة من العساكر الإسلامية مقدمهم الأمير سيف الدين اسندمر كرجى نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسية، وعدتها على التحرير ألف وخمسمائة فارس، فالتقوا هم والتتار على عرض، واقتتلوا أشد قتال، فكانت الكسرة على التتار، وقتل منهم خلق كثير.
ثم اتفق بعد ذلك اجتماعهم ووصولهم إلى الشام والعساكر(27/415)
تتأخر عنهم منزلة بعد أخرى، إلى أن قاربوا دمشق ونزلوا على مرج الصفر، واجتمع به سائر نواب السلطنة بالشام، والعساكر المجردة من الديار المصرية. ووصل السلطان بعساكره إلى المرج فى مستهل شهر رمضان، وفى الساعة التى انتهى السلطان فيهما إلى هذه المنزلة كان وصول التتار، وكنت ممن شهد هذا المصاف فى جملة العساكر الإسلامية. فالتقى الجمعان يوم السبت مستهل شهر رمضان من بعد الزوال إلى عشية النهار، فهزمت ميسرة التتار ميمنة المسلمين، فأردفها القلب، وألجأوا التتار إلى جبل هناك، فارتقوا ذروته وأحاطت العساكر الإسلامية بهم وهرب فى هذا اليوم بولاى فى نحو عشرين ألف فارس. وكان مقابل الميسرة الإسلامية فلما رأى كثرة جموعها فرّ من غير قتال طائل. وبات التتار على الجبل فى تلك الليلة، وأصبحوا يوم الأحد إلى وقت الزوال ففرج لهم الأمير سيف الدين اسندمر كرجى نائب الفتوحات فرجة من طرف الميسرة، فانهزموا منها على فرقتين فرقة تتلوها أخرى، وأخذهم السيف من كل مكان.
وسنذكر إن شاء الله هذه الوقعة فى أخبار الدولة الناصرية ونزيدها بيانا وتفصيلا.
ذكر وفاة غازان
كانت وفاته فى الثالث عشر من شوال سنة ثلاث وسبعماية بمقام جبل من نواحى الرى، فكانت مدة ملكه ثمان سنين وعشرة شهور. ولما مات ملك بعده أخوه خربندا ويقال فيه خدابندا.(27/416)
ذكر ملك خدابندا «1» بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولى خان
وهو الثامن من ملوك هذا البيت جلس على تخت المملكة بعد وفاة أخيه غازان فى الثالث والعشرين من ذى الحجة سنة ثلاث وسبعماية، وتلقب بأولجاتو سلطان، وذلك بمقام أوجان. ولما جلس أطلق رسولى الملك الناصر، وكان غازان قد عوقهما؛ وهما الأمير حسام الدين ازدمر المجيرى، والقاضى عماد الدين بن السكرى، وجهزهما إلى الديار المصرية، وأصحبهما رسولا من جهته. فوصلوا فى سنة أربع وسبعماية وكان مضمون رسالته التماس الصلح والاتفاق.
ذكر قتل قطلوشاه نائب خربندا وتولية جوبان النيابة
وفى سنة خمس وسبعماية جرد خربندا نائبه قطلوشاه وهو الذى كان ينوب عن غازان، وأقره خربندا إلى جبال كيلان لقتال الأكراد فسار إليهم والتقوا واقتتلوا فهزمه الأكراد وقتلوه؛ ورتب خربندا بعده فى النيابة جوبان.
وفى سنة سبع وسبعمائة سار خربندا «2» إلى جبال كيلان،(27/417)
وأوقع بالأكراد وقتل منهم خلقا كثيرا، وسبى نساءهم وأولادهم، وأمر ببيعهم بمدينة تبريز، فبيعوا بها.
وفى سنة تسع وسبعمائة ابتنى خربندا بابنة الملك المنصور نجم الدين غازى بن المظفر قرا أرسلان صاحب ماردين، وحملت إليه إلى الأردو، وحمل جهازها على ما نقل إلينا على ألف جمل.
وفيها توفى ولد خربندا واسمه أبو يزيد «1» .
وفى سنة اثنتى عشرة وسبعماية وصل إلى خربندا من نواب السلطنة بالشام والأمراء جماعة وهم. الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورى نائب المملكة الحلبية، والأمير جمال الدين أقش الافرم نائب المملكة الطرابلسية، والأمير عز الدين أزدمر الزردكاش، والأمير سيف الدين بلبان الدمشقى، وبدر الدين بيسرا الحسامى؛ والتحقوا به وأقاموا عنده.
وكان سبب ذلك أن السلطان الملك الناصر قبض على جماعة من الأمراء ممن اتهمهم ونقم عليهم. فخاف هؤلاء على أنفسهم ففارقوا البلاد، ولجأوا إليه، فقبلهم وأكرمهم وتجهز بعساكره وقصد الشام ونازل الرحبة والأمراء معه. وقيل إن خربندا لم يصل إلى الرحبة، وإنما وصلت جيوشه إليها، وحاصروها وأقام هو شرقى الفرات. ثم رجعت عساكره عنها فى السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتى عشرة وسبعمائة ولم يعلم سبب رجوعهم، وعادوا إلى بلادهم.(27/418)
ذكر خبر مدينة قنغر لام «1» وتسمى السلطانية
هذه المدينة كان غازان قد شرع فى إنشائها واهتم بأمرها، فهلك قبل تكملتها، فأمر خدابندا بالاهتمام بعمارتها. وهى مدينة بالقرب من قلعة كردكوه على عشرة مراحل من مدينة تبريز. ووصلت إلينا الأخبار فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة أنها كملت وسكنت وأن خدابندا نقل إليها من مدينة تبريز جماعة كثيرة من التجار والمتعيشين والحاكة والصناع وغيرهم، وألزمهم سكناها والإقامة بها، فسكنوها على كره منهم. ثم وصلت الأخبار إلينا أن أكثر الحاكة والصناع نسحبوا منها وعادوا إلى تبريز وغيرها من البلاد التى نقلوا منها.
ذكر وفاة خدابندا وملك ابنه أبى سعيد بن خدابندا
وفى سنة ست عشرة وسبعمائة وردت الأخبار بوفاة خدابندا وأن وفاته كانت فى سابع شوال من السنة. وكان قد أظهر الرفض وتمذهب به، وقرب الروافض، وأبعد أهل السنة وأطرحهم وأهانهم، ونقل إلينا أنه قبل وفاته أمر بإشهار النداء بنواحى مملكته أنه من تلفظ بذكر أبى بكر وعمر مات؛ فأهلكه الله تعالى بعد سبعة أيام من حين أمر بذلك. ولما هلك اختلفت آراء الأمراء وأرباب دولته، فيمن يجلس على تخت السلطنة، فذكر لنا أن منهم من مال إلى(27/419)
ابن قازان «1» ، ومنهم من مال إلى غيره من أهل هذا البيت الجنكزخانى ثم اجتمعت كلمتهم على أن أقاموا أبا سعيد بن خدابندا وعمره أحد عشر «2» سنة فنصبوه فى الملك، وقام بتدبير دولته جوبان نائب أبيه، ووصلت رسله وهداياه إلى السلطان الملك الناصر بالديار المصرية.
وتكرر ذلك منه، وانتظم الصلح، وحصل الاتفاق. هذا ما انتهى إلينا من خبر التتار إلى حين وضعنا لهذا التأليف، ومهما ورد علينا من أخبارهم بعد هذا أوردناه فى أخبار الدولة الناصرية بالديار المصرية آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
كمل الجزء الخامس والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول الجزء السادس والعشرين الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار ملوك الديار المصرية والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وانتهينا من المراجعة الخامسة فى تمام الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة 21 جمادى الآخرة سنه 1385. الموافق 16 أكتوبر سنه 1965.
وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.(27/420)
مراجع التحقيق
أولا- المراجع العربية
- ابن الأثير:
1- الكامل فى التاريخ- 12 جزءا. (القاهرة 1290 هـ)
2- اللباب فى تهذيب الأنساب- 3 أجزاء (القاهرة 1357 هـ)
إبن تغرى بردى (أبو المحاسن يوسف)
1- النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة- 12 جزءا طبعة دار الكتب المصرية- بقية الكتاب طبعة كاليفورنيا (1931 م)
2- المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى- 3 أجزاء- مخطوط بدار الكتب المصرية.
- إبن الجوزى (أبو الفرج عبد الرحمن) :
المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك (حيدرأباد 1357 هـ)
- إبن حوقل (أبو القاسم محمد) :
المسالك والممالك والمفاوز والمهالك (ليدن 1822 م)
- إبن خلكان (شمس الدين أبو العباس أحمد) :
وفيات الأعيان وإنباء أبناء الزمان 3 أجزاء (القاهرة 1299 هـ)
- رشيد الدين (الهمذانى) :
جامع التواريخ- نقله من الفارسية إلى العربية محمد صادق(27/421)
نشأت ومحمود موسى هنداوى وفؤاد عبد المعطى الصياد (القاهرة 1960) .
- زكريا القزوينى آثار البلاد- نشر وستنفلد (جوتنجن 1848 م)
- زامباور:
معجم الأنساب والأسرات الحاكمة فى التاريخ الإسلامى نقله إلى العربية الأستاذ الدكتو زكى محمد حسن وآخرون (القاهرة 1951 م)
- سعيد عبد الفتاح عاشور:
الحركة الصليبية- جزءان (القاهرة 1963 م.)
- السيوطى (جلال الدين عبد الرحمن) :
تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الأمة (القاهرة 1351 هـ)
- إبن شاكر الكتبى:
فوات الوفيات (القاهرة 1299 هـ)
- إبن طباطبا:
الفخرى فى الآداب السلطانية (القاهرة 1913 هـ)
- إبن العبرى:
تاريخ مختصر الدول (بيروت 1958 م)(27/422)
- العينى (بدر الدين محمود) :
عقد الجمان فى تاريخ أهل الزمان (مخطوطة دار الكتب المصرية فى 23 جزءا) .
- فؤاد عبد المعطى الصياد:
المغول فى التاريخ (القاهرة 1960 م) .
- أبو الفدا (الملك المؤيد اسماعيل)
المختصر فى أخبار البشر- 4 أجزاء (القاهرة 1325 هـ) .
- أبو الفضائل (مفضل ابن) :
كتاب النهج السديد والدر الفريد فيما بعد تاريخ ابن العميد (باريس 1932 م) .
- القلقشندى (أبو العباس أحمد) :
صبح الأعشى فى صناعة الإنشا (القاهرة 1913 م) .
- إبن كثير (عماد الدين أبو الفدا إسماعيل)
البداية والنهاية (مخطوط بدار الكتب المصرية)
- لسترانج:
بلدان الخلافة الشرقية.
ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد (بغداد 1954 م)
- المقريزى (تقى الدين أحمد بن على)
السلوك لمعرفة دول الملوك. تحقيق محمد مصطفى زيادة حتى سنة 755 هـ- بقية الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية(27/423)
- المنشى النسوى:
سيرة جلال الدين منكبرتى تحقيق حافظ حمدى (القاهرة 1953) .
(وطبعة باريس 1891)
- إبن واصل (جمال الدين محمد بن سالم) :
مفرج الكروب فى أخبار بنى أيوب تحقيق جمال الدين الشيال حتى سنة 615 هـ- بقية الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية.
- ياقوت (شهاب الدين أبو عبد الله)
معجم البلدان- 5 مجلدات (بيروت 1955 م) .(27/424)
ثانيا- المراجع الفارسية
- حافظ آبرو:
ذيل جامع التواريخ رشيدى- نشر الدكتور خانبابابيانى (طهران 1317 هـ. ش) .
- رشيد الدين فضل الله:
جامع التواريخ- جزءان.
نشر الدكتور بهمن كريمى (طهران 1338 هـ. ش.)
- رشيد الدين
تاريخ مبارك غازانى- داستان غازان خان (هرتفورد 1940 م)
- عبد الله بن فضل الله الشيرازى:
تاريخ وصاف (بمباى 1926 م) .
- عطا ملك الجوينى:
تاريخ ملك نكشاى تحقيق محمد بن عبد الوهاب القزوينى (ليدن 1911- 1937 م)
- محمد بن على بن سليمان الراوندى:
راحة الصدور وآية السرور تحقيق محمد إقبال (ليدن 1921 م) .(27/425)
- محمد عوفى:
لباب الألباب- تحقيق سعيد نفيسى (طهران 1335 هـ. ش)
- محمود بن محمد المشتهر بالكريم الاقسرايى:
مسامرة الأخيار ومسايرة الأخبار.
تحقيق عثمان توران (أنقرة 1944 م) .
- منهاج سراج الجوزجانى:
طبقات ناصرى- الجزء الأول- تحقيق عبد الحى حبيبى (كابول 1342 ش.)(27/426)
ثالثا- المراجع الأوربية
Allen (W. E. D.) :
A Hist. of the Georgian PeoPle (London, 1932)
:relupS ;dlohtraB.
Die Mongolen in Iran. (LeiPzig 1939) .
Barthold:
Turkestan down to the Mongol Invasion. (Oxford 1928)
-
Cahen
.) 5491:.A.I (.edikujileS arhguT aL: (.)
-
Cam. Med. Hist (Cambridge 1957)
-
Dozy
.sebarA sel zehc stnemeteV sed smoN sed.tciD.1: (.)
(Cambridge, 1957)
2. SuPPlement Aux Dictionnaires Arabs.
D (M.) :
Histoire des Mongols dePuis Tchinguiz Khan Jusqu چa Timour
Bey ou Tamerlan. (Paris, 1824) .
EncycloPaedia of Islam.
Howorth (H.) :
The History of the Mongols (4. Vols.) (London, 1876) .
Lane Poole (S.) :
Mohammadan Dynesties.
(Westminster, 1894) .
Quatremere (E.) :
Hist. des Sultans Mamlouks de l. (Paris, 1845
(.(27/427)
فهرس موضوعات الجزء السابع والعشرون
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
.... رقم الصفحة
- المقدمة 5
- ذكر أخبار السلطان مغيث الدين 9
- ذكر مسير الملك مسعود ابن السلطان محمد وجيوش بك، وما كان بينهما وبين البرسقى والأمير دبيس بن صدقة 11
- ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود 13
- ذكر مقتل الأمير منكبرس 16
- ذكر مقتل الأمير على بن عمر 17
- ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود 20
- ذكر قتل الوزير السميرمى 22
- ذكر قتل الأمير جيوش بك 23
- ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج 23
- ذكر وصول الملك ودبيس بن صدقة وعودهما 25
- ذكر مقتل البرسقى وملك ابنه عز الدين مسعود 26
- ذكر ما فعله دبيس بن صدقة وما كان من أمره 28
- ذكر وفاة السلطان محمود، وشىء من أخباره، وملك ابنه داود 30
- ذكر أخبار السلطان غياث الدين والدنيا، أبى الفتح مسعود ابن ملكشاه، وما كان من أمره وخروجه من السلطنة وسلطنة أخيه السلطان طغرل وعوده إليها 32(27/429)
- ذكر ما اتفق للسلطان مسعود مع أخيه الملك سلجق شاه وداود ابن محمود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود 33
- ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجرشاه وهزيمة مسعود وسلطنة طغرل 35
- ذكر الحرب بين السلطان طغرل بن محمد وبين أخيه الملك داود ابن محمود 37
- ذكر عود السلطان مسعود بن محمد إلى السلطنة وانهزام طغرل 38
- ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام السلطان مسعود 40
- ذكر وفاة الملك طغرل وملك أخيه السلطان مسعود بلد الجبل 41
- ذكر قتل الأمير دبيس بن صدقة 41
- ذكر اجتماع الأطراف على حرب السلطان مسعود وخروجهم عن طاعته 42
- ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء 44
- ذكر قتل الوزير الدركزينى ووزارة ابن الخازن وزير قراسنقر 45
- ذكر اتفاق بوزابة وعباس على الخروج عن طاعة السلطان مسعود 47
- ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الرى 47
- ذكر قتل الأمير بوزابة 49
- ذكر الخلف بين السلطان وجماعة من الأمراء ووصولهم إلى بغداد، وما كان منهم 50
- ذكر وفاة السلطان مسعود 52
- ذكر سلطنة ملكشاه بن محمود بن محمد طبر بن ملكشاه والقبض عليه 52
- ذكر سلطنة محمد بن محمود 53
- ذكر سلطنة سليمان شاه بن محمد طبر بن ملكشاه 55(27/430)
... رقم الصفحة
- ذكر عود السلطان محمد من أصفهان إلى مقر ملكه 56
- ذكر وصول سليمان شاه بن محمد طبر إلى بغداد، وخروجه بالعساكر وحربه هو والسلطان محمد، وهزيمته، وحصار السلطان محمد بغداد ورجوعه 58
- ذكر وفاة السلطان محمد بن محمود وما اتفق بعد وفاته 59
- ذكر مسير سليمان شاه بن محمد طبر إلى همذان 60
- ذكر سلطنة أرسلان شاه ابن الملك طغرل بن محمد طبر 60
- ذكر أخبار السلطان طغرل بن أرسلان شاه بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه بن ألب أرسلان 61
- ذكر الحرب بين طغرل وجيوش الخليفة الناصر لدين الله وظفره بهم 61
- ذكر اعتقال طغرل وخلاصه وما كان من أمره إلى أن قتل، وانقراض الدولة السلجقية 62
- ذكر مقتل السلطان طغرل وإنقراض الدولة السلجقية 63
- ذكر أخبار الملوك السلجقية بالشام وحلب 64
- ذكر إستيلاء (تتش) على حمص وغيرها من ساحل الشام 65
- ذكر ما اتفق فى طلب السلطنة 66
- ذكر ملكه ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام 67
- ذكر عود تتش إلى البلاد وملكه همذان وغيرها 68
- ذكر انهزام بركياروق منه 68
- ذكر قتل تاج الدولة تتش 69
- ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما تتش 69
- ذكر الحرب بين الملكين رضوان وأخيه دقاق 72
- ذكر ملك دقاق مدينة الرحبة 74
- ذكر وفاة الملك دقاق وملك ولده ثم أخيه 74(27/431)
... رقم الصفحة
- ذكر أخبار ملوك حلب 75
- ذكر أخبار من ملك حلب بعد انقراض الدولة السلجقية منها 76
- ذكر أخبار من ملك دمشق بعد انقراض الدولة السلجقية منها، إلى أن ملكها نور الدين محمود بن زنكى 78
- ذكر أخبار تاج الملوك بورى بن أتابك طغرتكين 79
- ذكر أخبار الإسماعيلية وقتل الوزير المزدغانى 79
- ذكر حصار الفرنج دمشق وانهزامهم 80
- ذكر أخبار شمس الملوك إسماعيل ابن تاج الملوك بورى ابن طغرتكين 82
- ذكر ملكه قلعة بانياس 83
- ذكر ملكه مدينة حماة 83
- ذكر ملكه شقيف تيرون ونهبه بلد الفرنج 84
- ذكر مقتل شمس الملوك وملك أخيه شهاب الدين محمود 85
- ذكر أخبار شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك بورى بن طغرتكين 86
- ذكر ملكه مدينة حمص 86
- ذكر أخبار مجير الدين أبق بن جمال الدين محمد بن بورى بن طغرتكين 88
- ذكر أخبار الملوك السلجقية أصحاب قونية واقصرا، وملطية ودقوقا من الروم 90
- ذكر أخبار الملك سليمان ابن شهاب الدولة قتلمش 91
- ذكر فتح مدينة أنطاكية 91
- ذكر قتل الملك سليمان قتلمش 92
- ذكر أخبار قلج أرسلان بن سليمان 93
- ذكر قتل الملك قلج أرسلان وملك ولده الملك مسعود 94(27/432)
... رقم الصفحة
- ذكر أخبار الملك عز الدين قلج أرسلان بن مسعود 95
- ذكر تسليمه البلاد لبنيه وبنى أخيه وما جعل لكل منهم 96
- ذكر قتل نور الدين محمود واستيلاء قطب الدين على قيسارية ووفاته واستيلاء ركن الدين سليمان على سائر المملكة 97
- ذكر وفاة ركن الدين سليمان وملك ولده قلج أرسلان 98
- ذكر ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه، وهو الثانى من ملوك السلجقية بالروم 99
- ذكر ملكه مدينة أنطاكية 100
- ذكر ملك علاء الدين كيقباذ بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان ... ، وهو العاشر من ملوك السلجقية بالروم 101
- ذكر إجتماع كيقباذ والأشرف على حرب جلال الدين خوارزم شاه وانهزامه منهما 103
- ذكر ملك غياث الدين كيخسرو ابن الملك علاء الدين كيقباذ ابن غياث الدين كيخسرو....، وهو الحادى عشر من الملوك السلجقية بالروم 105
- ذكر أحوال أولاد السلطان غياث الدين كيخسرو بعد وفاة أبيهم 107
- ذكر قتل السلطان ركن الدين قلج أرسلان وولاية ابنه غياث الدين كيخسرو 112
- ذكر خبر البرواناه معين الدين سليمان وأصله وتنقله 112
- ذكر أخبار الدولة الأتابكية 114
- ذكر أخبار قسيم الدولة أقسنقر التركى 115
- ذكر قتل قسيم الدولة 116
- ذكر أخبار عماد الدين أتابك زنكى بن قسيم الدولة اقسنقر 117
- ذكر إبتداء حال عماد الدين زنكى وترقيه وتنقله فى الولايات 119(27/433)
... رقم الصفحة
- ذكر ولاية عماد الدين زنكى شحنكية العراق 120
- ذكر ولاية عماد الدين زنكى الموصل وأعمالها 121
- ذكر ملك عماد الدين حلب 125
- ذكر ملكه مدينة حماه 126
- ذكر ملكه حصن الأثارب وهزيمة الفرنج 127
- ذكر حصره مدينة آمد وملكه قلعة الصور 129
- ذكر ملكه قلاع الأكراد الحميدية 129
- ذكر حصره مدينة دمشق 130
- ذكر غزاة العسكر الأتابكى إلى بلاد الفرنج 131
- ذكر ملكه قلعة بعرين وهزيمة الفرنج 132
- ذكر ملكه مدينة حمص وغيرها من أعمال دمشق 133
- ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين 134
- ذكر ملك عماد الدين بعلبك 137
- ذكر ملكه شهرزور وأعمالها 139
- ذكر ملك عماد الدين زنكى قلعة آشب وغيرها من بلاد الهكارية 140
- ذكر صلحه والسلطان مسعود 141
- ذكر ملكه بعض ديار بكر 142
- ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما هو بيد الفرنج 143
- ذكر مقتل نصير الدين جقر، وولاية زين الدين على كورجك 145
- ذكر مقتل عماد الدين زنكى 147
- ذكر ملك سيف الدين غازى ابن الشهيد عماد الدين أتابك زنكى 148(27/434)
... رقم الصفحة
- ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعله سيف الدين غازى 150
- ذكر وفاة سيف الدين غازى ابن عماد الدين زنكى 151
- ذكر أخبار الملك العادل نور الدين أبى القاسم محمود ابن أتابك عماد الدين أبى سعيد زنكى بن أقسنقر 152
- ذكر الغزوات والفتوحات النورية وما استنقذه من أيدى الفرنج- ذكر عصيان مدينة الرها وفتحها الفتح الثانى ونهبها 152
- ذكر فتح حصن العريمة 153
- ذكر انهزام الفرنج بيغرا 154
- ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية 155
- ذكر فتح حصن أفامية 156
- ذكر أسرجوستكين وفتح بلاده 156
- ذكر حصر قلعة حارم وفتحها 158
- ذكر ملكه بانياس وما قرره على طبرية وأعمالها 158
- ذكر فتح المنيطرة 158
- ذكر فتح صافيثا وعريمة 159
- ذكر ما استولى عليه من البلاد الإسلامية 160
- ذكر ملكه مدينة دمشق 160
- ذكر ملكه بعلبك 161
- ذكر ملكه قلعة جعبر 162
- ذكر ملكه الديار المصرية 162
- ذكر ملكه الموصل 163
- ذكر وفاته رحمه الله وشىء من أخباره وسيرته 163
- ذكر أخبار الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك زنكى بن أقسنقر 168(27/435)
... رقم الصفحة
- ذكر مقتل سعد الدين كمشتكين وحصر الفرنج حارم 171
- ذكر وفاة الملك الصالح إسماعيل 171
- ذكر أخبار قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر 173
- ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على بن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته 174
- ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين 178
- ذكر وفاة قطب الدين مودود وملك ولده سيف الدين غازى 179
- ذكر أخبار سيف الدين غازى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى 180
- ذكر ملك سيف الدين غازى البلاد الجزيرية 180
- ذكر حصره أخاه زنكى بسنجار 181
- ذكر وفاة سيف الدين غازى 183
- ذكر ملك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى 184
- ذكر تسليم حلب إلى عماد الدين زنكى وأخذ سنجار عوضا عنها 184
- ذكر القبض على مجاهد الدين قايماز 185
- ذكر إطلاق مجاهد الدين قايماز وما كان من العجم وانهزامهم 186
- ذكر وفاة عز الدين مسعود 187
- ذكر أخبار عماد الدين زنكى بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن أقسنقر 190
- ذكر أخبار معز الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى 191
- ذكر مقتله وملك ولده معز الدين محمود 192(27/436)
الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الخوارزمية والدولة الجنكزخانية
.... رقم الصفحة
- ذكر أخبار الدولة الخوارزمية وابتداء أمر ملوكها وظهورهم، وما استولوا عليه من البلاد والأقاليم، وما كان بينهم وبين الملوك من الحروب والوقائع 197
- ذكر أخبار خوارزم شاه إتسز بن محمد 198
- ذكر الحروب بين خوارزم شاه إتسز والسلطان سنجر السلجقى، واستيلاء سنجر على خوارزم، وما كان من أمر إتسز إلى أن استقر الصلح بينه وبين السلطان سنجر 199
- ذكر ملك سلطان شاه محمود بن أيل أرسلان بن إتسز بن محمد، وإخراجه من الملك، وملك أخيه علاء الدين تكش 202
- ذكر ملك تكش مدينة بخارى من ملك الخطا 204
- ذكر وفاة خوارزم شاه تكش 205
- ذكر أخبار السلطان علاء الدين أبى الفتح محمد بن علاء الدين تكش بن ألب أرسلان بن إتسز بن محمد بن أنوشتكين 206
- ذكر ملك خوارزم شاه وما كان الغورية قد ملكوه من بلاده 209
- ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان 214
- ذكر ملكه ترمذ وتسليمها للخطا 215
- ذكر ملكه الطالقان 216
- ذكر أسر خوارزم شاه وخلاصه 217
- ذكر قتل الحسين بن خرميل وحصر هراة وملك فيروزكوه والغور 220(27/437)
... رقم الصفحة
- ذكر عوده إلى بلاد الخطا وظفره بهم وأسر مقدمهم وملكه ما وراء النهر 222
- ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين 223
- ذكر الواقعة التى أفنت الخطا 224
- ذكر ملك خوارزم شاه كرمان ومكران من السند 227
- ذكر ملكه غزنة وأعمالها 228
- ذكر عزمه على المسير إلى العراق وقصد بغداد، ومراسلته فى طلب آل سلجق ببغداد وما أجيب به 229
- ذكر مسيره إلى العراق وما اتفق له 232
- ذكر قصد السلطان بغداد وما رتبه من أحوال مملكته وعوده بعد مسيره 237
- ذكر عود السلطان إلى بلاد ما وراء النهر، ووصول رسل التتار إليه وما اتفق من الحوادث 239
- ذكر ما اعتمده السلطان من سوء التدبير لما قصده التتار 242
- ذكر ما وقع بين السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وأمه وأخواله من الاختلاف بحيلة تمت بجنكزخان عليهم، وما فعلته والدته من القتل ومفارقة خوارزم وما آل إليه أمرها 244
- ذكر ما اتفق للسلطان بعد أن ملك التتار البلاد إلى أن توفى 248
- ذكر وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش 250
- ذكر أخبار السلطان جلال الدين منكبرتى 252
- ذكر مسير جلال الدين من نيسابور إلى غزنة 254
- ذكر الحرب بين جلال الدين وتولى خان بن جنكزخان وانهزام التتار وقتل تولى خان 256
- ذكر الحرب بين جلال الدين وجنكزخان وانهزام جلال الدين 257
- ذكر حال جلال الدين بعد عبوره ماء السند 258(27/438)
... رقم الصفحة
- ذكر ما كان بين جلال الدين وقباجة من وفاق وخلاف 260
- ذكر الحوادث بعد كسر جلال الدين قباجة وما جرى بينه وبين شمس الدين إيلتتمش 262
- ذكر طلوع جلال الدين من الهند ووصوله إلى كرمان، وما جرى له من الحوادث إلى أن ملك العراق 264
- ذكر مسيره صوب خوزستان 267
- ذكر ملكه أذربيجان ومراغة 268
- ذكر كسر السلطان الكرج 269
- ذكر عوده من دوين إلى تبريز وتركه الميمنة بيلاد الكرج 270
- ذكر ملك السلطان كنجة وسائر بلاد أران 273
- ذكر نكاح السلطان بنت طغرل بن أرسلان 273
- ذكر عوده إلى بلد الكرج وفتحه تفليس 274
- ذكر المصاف الكائن بينه وبين التتار بظاهر أصفهان 275
- ذكر ما آل إليه أمر غياث الدين 278
- ذكر مسير السلطان إلى خلاط ومحاصرتها 279
- ذكر الحوادث فى مدة حصار خلاط 280
- ذكر مسير رسول السلطان إلى الديوان العزيز واجتماعه بالخليفة وما اتفق له وعوده بالخلع والتشاريف 281
- ذكر ملكه مدينة خلاط 285
- ذكر مسيره إلى بلد الروم وانهزامه من عسكرى الشام والروم 287
- ذكر وصول مقدمة التتار إلى تخوم أذربيجان ورحيل السلطان من تبريز إلى موقان 289
- ذكر كبسة التتار السلطان وهو بحد (شيركبوت) 290
- ذكر القبض على شرف الملك وزير السلطان وقتله 291
- ذكر رحيل السلطان صوب كنجة وتملكها ثانيا 294(27/439)
... رقم الصفحة
- ذكر نزول السلطان بلد آمد وكبس التتار له وما كان من أمره 295
- ذكر مقتل السلطان جلال الدين وانقراض الدولة الخوارزمية 297
- ذكر أخبار الدولة الجنكزخانية وابتداء أمرها وما تفرع عنها 300
- ذكر أخبار جنكزخان التمرجى وابتداء أمره وسبب ظهور ملكه 301
- ذكر خروج التتار إلى البلاد الإسلامية 306
- ذكر استيلاء جنكزخان على بخارا 307
- ذكر استيلائه على سمرقند 309
- ذكر ما فعلته الطائفة المغربة من التتار 311
- ذكر استيلائهم على مازندران ووصولهم إلى الرى وهمذان 312
- ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وقتالهم مع الكرج 313
- ذكر ملكهم مدينة مراغة 314
- ذكر ملكهم همذان وقتل أهلها 316
- ذكر مسيرهم إلى أذربيجان وملكهم أردويل وغيرها 317
- ذكر وصولهم إلى بلاد الكرج 319
- ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه فيه 320
- ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق 321
- ذكر ما فعلوه بقفجاق والروس 322
- ذكر عود التتار إلى ملكهم 323
- ذكر ملك التتار خراسان 324
- ذكر ملكهم مدينة غزنة وبلاد الغور 327
- ذكر ملكهم مدينة خوارزم 329
- ذكر عود طائفة من التتار إلى همذان وغيرها 331
- ذكر وفاة جنكزخان التمرجى، وأسماء أولاده وإخوته وما قرره لأولاده من الوظائف والبقاع وغير ذلك 334(27/440)
... رقم الصفحة
- ذكر ملك أوكتاى بن جنكزخان 338
- ذكر الحروب الكائنة بين التتار والسلطان جلال الدين، وما كان من أمرهم إلى أن ملكوا ما كان بيده 340
- ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتار 342
- ذكر دخول التتار ديار الجزيرة 343
- ذكر وفاة أوكتاى خان وقيام ولده كيوك خان بعده وقتله 345
- ذكر جلوس منكوقان بن (تلى خان) بن جنكزخان على تخت القانية 346
- ذكر دخول التتار إلى بلاد الروم وما استولوا عليه من البلاد 348
- ذكر تجريد منكوقان العساكر إلى بلاد الروم وما استولوا عليه منها 349
- ذكر مهلك منكوقان وما حصل بين إخوته من التنازع فى القانية 352
- ذكر ملك قبلاى بن تولى خان بن جنكزخان القانية، وهو الخامس من ملوكهم 354
- ذكر أخبار ملوك البلاد الشمالية من أولاد جنكزخان التمرجى 356
- ذكر ملك بركة بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذه المملكة الشمالية 358
- ذكر ملك منكوتمر بن طوغان بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان، وهو الخامس من ملوكهم بهذه المملكة 362
- ذكر مسير عساكر منكوتمر إلى بلاد القسطنطينية 362
- ذكر ملك تدان منكوا بن طغان بن باطوخان بن دوشى خان ابن جنكزخان 364
- ذكر ملك تلابغا بن طربوا بن دوشى خان بن جنكزخان 366(27/441)
... رقم الصفحة
- ذكر ملك طقطا بن منكوتمر بن طوغان بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان، وهو الثامن من ملوك هذه المملكة 368
- ذكر إيقاع طقطا بجماعة من أمرائه 368
- ذكر ابتداء الخلف بين طقطا ونوغيه 369
- ذكر الوقعة الأولى بين طقطا ونوغيه 370
- ذكر الوقعة الثانية وقتل نوغية 371
- ذكر أخبار أولاد نوغية 372
- ذكر ما اتفق طراى بن نوغية وصراى بغا بن منكوتمر من الخروج عن طاعة الملك طقطا وقتلهما 373
- أزبك بن طغولجا بن منكوتمر بن طغان بن باطوخان بن دوشى خان بن جنكزخان 375
- ذكر أخبار هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وابتداء أمره وما استولى عليه من الممالك والأقاليم ومن ملك من ذريته 379
- ذكر استيلائه على بغداد وقتله الخليفة المتعصم بالله 380
- ذكر استيلاء التتار على ميافارقين 383
- ذكر وفاة بيجو مقدم التتار 384
- ذكر منازلة هولاكو مدينة حلب واستيلائه عليها وعلى بلاد الشام 386
- ذكر استيلاء التتار على دمشق 389
- ذكر الأقاليم التى استقرت فى ملك هولاكو بعد وفاة منكوقان 392
- ذكر ملك هولاكو ونبذة من أخباره 393
- ذكر ملك أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان 395(27/442)
... رقم الصفحة
- ذكر قتل سليمان البرواناه 398
- ذكر وفاة أبغا بن هولاكو 400
- ذكر ملك توكدار بن هولاكو، وهو المسمى أحمد سلطان وهو الثالث من ملوك هذا البيت 401
- ذكر ما اتفق بين توكدار وبين أرغون ابن أخيه أبغا 403
- ذكر مقتل توكدار بن هولاكو 403
- ذكر ملك أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وهو الرابع من ملوك هذا البيت 404
- ذكر ملك كيخاتو بن أبغا بن هولاكو، وهو الخامس من ملوك هذا البيت 406
- ذكر ملك بيدو بن طوغاى بن هولاكو بن تولى خان بن جنكزخان، وهو السادس من ملوك هذا البيت 407
- ذكر ملك غازان بن أرغون بن ألغا بن هولاكو بن تولى خان ابن جنكزخان، وهو السابع من ملوك هذا البيت 409
- ذكر مسير غازان إلى الشام، ووقعة مجمع المروج واستيلائه على البلاد الشامية وعوده منها 411
- ذكر مسير غازان إلى الشام وعوده، وتجريد عساكره وانهزامها بمرج الصفر 415
- ذكر وفاة غازان 416
- ذكر ملك خدابندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولى خان 417
- ذكر قتل قطلوشاه نائب خربندا وتولية جوبان النيابة 417
- ذكر خبر مدينة قنغرلام، وتسمى السلطانية 419
- ذكر وفاة خدابندا وملك ابنه أبى سعيد بن خدابندا 419(27/443)
مراجع التحقيق
.... رقم الصفحة
(أولا) المراجع العربية 421
(ثانيا) المراجع الفارسية 425
(ثالثا) المراجع الأوربية 425
مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب رقم الايداع بدار الكتب ISBN -977 -01 -0608 -9 1985/3475(27/444)
الجزء الثامن والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المحقق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وذريته وتابعيه إلى يوم الدين.
وبعد فهذا هو الجزء الثامن والعشرون من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب لشهاب الدين النويرى، وهو الجزء السادس والعشرون من مخطوطة الكتاب المحفوظة بمكتبة كوبريللى بالأستانة، والتى توجد منها نسخة مصورة بدار الكتب المصرية بالقاهرة تحت رقم 549 معارف عامة.
ويختلف منهج التحقيق فى هذا الجزء بالذات عن منهج تحقيق الأجزاء السابقة، فضلا عن الأجزاء اللاحقة، ذلك، أنه توجد عدة نسخ غير متكاملة من مخطوط نهاية الأرب لدرجة أنه توافرت لبعض الأجزاء أربع نسخ، منها نسخة بخط المؤلف فى بعض الأحيان، مما جعل مهمة تحقيق النص أكثر سهولة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لهذا الجزء بالذات، فلا توجد نسخ أخرى كاملة من هذا الجزء بين ما هو معروف من نسخ كتاب نهاية الأرب.
وتزداد صعوبة العمل فى تحقيق هذا الجزء لوجود نقص فى أوله- قد لا يزيد عن بضع ورقات- كما يوجد نقص فى آخره- قد يكون ورقة واحدة-، كما أن سياق الكلام والحوادث غير متصل فيما بين اللوحتين 124، 125.(28/5)
فأوراق هذا الجزء تبدأ باللوحة رقم 7، وعلى هامشه إشارة لأحد العاملين بدار الكتب «الأصمعى» فى الثلاثينات من هذا القرن، تفيد أن الأوراق من 1 إلى 6 موضوعة خطأ. وبالبحث عن هذه الأوراق المفقودة، وبالرجوع إلى سلبيات تصوير هذا الجزء، والتى ترجع إلى سنة 1923، تبين أن هذه الأوراق موجودة بالسلبية، ولكن بها أخبار حوادث سنوات 599- 602 هـ، وهذه الأحداث تقع ضمن الجزء التالى، وأن الأوراق التى نزعت من بداية الجزء 26 نقلت إلى موضعها فى بدايات الجزء 27 من المخطوطة.
وإزاء هذا الوضع لم نجد بدّا من تقديم المتن الموجود من الجزء 26 من المخطوط كما هو، مع الإشارة إلى مواضع النقص.
وإزاء عدم وجود نسخ أخرى من هذا الجزء كان لزاما الرجوع إلى المصادر التى نقل عنها النويرى للمقابلة عليها فى محاولة لتقديم نص أقرب ما يكون لنص المؤلف، ولم يكن الأمر سهلا، فرغم أن النويرى يبدأ عباراته بلفظ «قال» ، أو «قال المؤرخ» ، فإنه لا يذكر لنا من الذى قال، أو من هو المؤرخ إلا فى حالات محدودة ذكر فيها صراحة أنه نقل عن «ابن جلب راغب فى تاريخ مصر» ، وهو المعروف بابن ميسر.
وعن طريق متابعة هذه الإشارات، مع مقارنة النصوص ومقابلتها على المصادر المعاصرة للأحداث أمكن التعرف على أهم مصادر النويرى فى هذا الجزء.
وطبيعة هذا الجزء الذى يتناول فيه النويرى «أخبار ملوك الديار المصرية» من بداية العصر الطولونى حتى دخول الملك العادل الأيوبى القاهرة فى أوائل العصر الأيوبى، جعلت النويرى ينتقى لكل فترة(28/6)
مصدرا أو أكثر يأخذ عنه مادته العلمية، فعلى سبيل المثال، عند ما يتناول أخبار الدولة الفاطمية فى شمال أفريقيا بعتمد على كتاب افتتاح الدعوة للقاضى النعمان، وعند ما تنتقل الدولة إلى مصر يعتمد على كتاب أخبار مصر لابن ميسر، وعند ما يتحدث عن الحملة الصليبية الأولى يعتمد على كتاب الكامل لابن الأثير، وهكذا.
وبالإضافة إلى هذه المصادر الأساسية كان النويرى ينقل عبارات أو مقتطفات من مصادر أخرى يضمنها كتاباته، وعلى سبيل المثال أيضا ما كان يأخذه عن كتاب أخبار الدول المنقطعة لابن ظافر.
لذلك استلزم تحقيق هذا الجزء بالذات مقابلة ما ورد به مع المصادر المعاصرة للأحداث، فى محاولة لتقديم نص متكامل أقرب ما يكون إلى نص المؤلف، واقتضى الأمر إضافة بعض الكلمات أو العبارات، أو تصحيح بعضها وفقا لما يرد فى هذه المصادر.
وفى جميع الأحوال أشرنا إلى ذلك فى الهوامش، فكل ما أضيف إلى المتن وضع بين حاصرتين [] ، وكل ما تم تصحيحه تم التنبيه عليه فى الهوامش.
وبالإضافة إلى معالجة النص تم التعريف بالأعلام والأماكن والمصطلحات بقدر الإمكان، وذلك عند ورودها لأول مرة، مع ترك المعروف منها والمتواتر حتى لا نثقل الهوامش ويطغى التعليق على النص الأصلى للمؤلف.
ولما كان هذا الجزء يتناول أساسا العصر الفاطمى، من الورقة 21 إلى الورقة 105، فقد كان للنصوص التى نشرت حديثا عن هذا العصر(28/7)
أهمية خاصة فى تحقيق هذا الجزء، وعلى سبيل المثال: أخبار الدول المنقطعة لابن ظافر والذى صدر عام 1972، والجزء الثالث من اتعاظ الحنفا للمقريزى عام 1973، وكتاب افتتاح الدعوة للقاضى النعمان عام 1975، وأخبار مصر للمسبحى عام 1978، وأخبار مصر لابن ميسر عام 1981، ونصوص من أخبار مصر لابن المأمون عام 1983.
وقبل أن أختتم هذه المقدمة أحب أن أشير إلى أن مؤسسة التأليف والترجمة سبق وأن عهدت إلى المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة بتحقيق هذا الجزء من كتاب نهاية الأرب، وقد قام رحمه الله بإنجاز هذا التحقيق فى حوالى سنة 1965، ولكن ولأسباب مختلفة تأخر طبع أجزاء كتاب نهاية الأرب.
وعند ما شرع مركز تحقيق التراث فى تقديم هذا الجزء إلى المطبعة فى عام 1985 رأى أن التحقيق المقدم من المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد منذ عشرين عاما فى حاجة إلى استكمال. ولم يكن فى وسع أحد أن يستكمل ما بدأه الدكتور محمد حلمى محمد أحمد نظرا لاختلاف مناهج التحقيق، فضلا عن ظهور العديد من المصادر والمراجع التاريخية التى لم تكن متوافرة وقت أن حقق المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد هذا الجزء، ومن ثمّ أصبح من الضرورى إعادة قراءة هذا الجزء وتحقيقه فى ضوء المصادر التى ظهرت بعد سنة 1965.
ورغم عدم إمكانية الإفادة من التحقيق الذى قام به الدكتور محمد حلمى محمد أحمد- للأسباب المذكورة- فإنى رأيت أن أضع اسم المرحوم الدكتور محمد حلمى محمد أحمد- كمحقق مشارك- على غلاف هذا الجزء باعتبار أنه- رحمه الله- أول من عمل فى تحقيق هذا(28/8)
الجزء، وأن ظروف وفاته هى التى حالت دون أن يظهر هذا الجزء بتحقيقه، وذلك تكريما له، وإحياء لذكراه، رحمه الله.
وفى ختام هذه المقدمة لا يسعنى إلا أن أتقدم بالشكر إلى كل من الأستاذ محمد كامل محمد شحاته، وكيل الوزارة ورئيس قطاع دار الكتب والوثائق القومية، والأستاذ على عبد المحسن زكى مدير عام مركز تحقيق التراث، لما قاما به من تذليل للصعاب والمعوقات الإدارية، وتوفيرهما للمخطوطات والمصورات التى احتجت إليها عند تحقيق هذا الجزء.
كما أوجه الشكر إلى السيد/ محمد محمد صقر الباحث الأول بمركز تحقيق التراث لما بذله من جهد فى الإشراف على طبع هذا الجزء وتصحيح تجارب الطباعة، مما أدى إلى إخراج الكتاب على هذا النحو.
كذلك أوجه الشكر إلى السيدة/ حكمت الخضرى لما بذلته من جهد فى إعداد (ماكيت) الكتاب.
وبعد، فالكمال لله وحده، ولا يسعنى إلا أن أذكر قوله تعالى:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا
، وأدعوه سبحانه وتعالى أن يوفقنا لخدمة التراث الإسلامى، والله ولى التوفيق..
دكتور محمد محمد أمين القاهرة 15 شعبان 1406 هـ فى 24 ابريل 1986 م(28/9)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الخامس أخبار ملوك الديار المصرية] «1»
[الدولة الطولونية] «2»
[ذكر ولاية أحمد بن طولون وهو الأول من ملوك الطولونية]
[7] فتجهز أحمد للمسير إلى الشام «3» ، وسار فى شوال سنة أربع وستّين لقصده «4» . واستحلف على مصر ابنه العبّاس، وعضّده بأحمد بن محمد الواسطى. وكتب إلى علىّ بن أماجور وإلى أصحاب أبيه الّذين أقاموه يذكر أنّ الخليفة «5» أقطعه الشام والثّغور مضافا إلى ما بيده. فأجابوه بالسّمع والطّاعة، وتلقّاه ابن أماجور بالرّملة، فأقّره عليها. وسار إلى دمشق فملكها وأقّر قوّاد أماجور على إقطاعاتهم. وسار إلى حمص فتلقّاه عيسى الكرخىّ،(28/11)
وكان يتقلّدها، فشكاه أهلها فعزله عنهم [وولّاها يمن التركى] «1» . وملك حماة وحلب.
وأرسل إلى سيما الطّويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقرّ على ولايته، فامتنع، فعاوده، فلم يطعه، فسار إليه. ودلّوه على عورة أنطاكية فنصب عليها المجانيق، وملك البلد عنوة، وقاتله سيما الطويل حتى قتل، فساء أحمد قتله لأنّه كان نصيحه قديما «2» ؛ وكان ذلك فى المحرّم سنة خمس وستين ومائتين.
ورحل عن أنطاكيّة إلى طرسوس «3» ، فدخلها فى جمع عظيم، وعزم على المقام بها وملازمة الغزو، فغلا السّعر وضاقت بعساكره، فركب أهلها إليه بالمخيّم وقالوا له: لقد ضيّقت علينا بلدنا وأغليت أسعارنا، فإما أقمت فى عدد يسير وإمّا رحلت عنا، وأغلظوا له فى القول وشغبوا عليه، فقال لأصحابه أن ينهزموا عن الطرسوسيّين ويرتحلوا عن البلد، ليظهر للعدوّ أنّ ابن طولون على كثرة عساكره لم يقو لأهل طرسوس، وأنّه انهزم عنهم، لتقع مهابتهم فى قلوب العدوّ.
وعاد إلى الشام، فأتاه خبر ولده العبّاس أنّه عصى عليه بمصر وأخذ الأموال وسار إلى برقة، فلم يكترث أحمد لذلك، وقضى أشغاله، وحفظ(28/12)
أطراف بلاده. وبعث إلى حرّان «1» أحمد بن جيغويه فى جيش كثيف، ونزل غلامه لؤلؤ بالرّقّة «2» فى جيش كثيف، وكانت حرّان لمحمّد بن أتامش، فأخرجه أحمد بن جيغويه عنها، وهزمه هزيمة قبيحة، فاتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان شجاعا بطلا، فجمع عسكرا كثيرا، وسار بهم إلى نحو حرّان. فاتّصل ذلك بابن طولون، فأهمّه وأقلقه وأزعجه، فنظر إليه رجل من الأعراب يقال له أبو الأغرّ، فقال له: أيها الأمير أراك مفكّرا منذ أتاك خبر ابن أتامش، وما هذا محلّه، فإنه طائش قلق، ولو شاء الأمير أتيته به أسيرا. فغاظه قوله «3» ، وقال: لقد شئت أن تأتينى به أسيرا [فقال الاعرابى] «4» فاضمم إلىّ عشرين أختارهم.
قال: افعل. فانتقاهم أبو الأغرّ، وسار بهم.
فلمّا قارب عسكر موسى، كمّن بعضهم، وجعل بينه وبينهم إشارة إذا سمعوها ظهروا.
ثمّ دخل العسكر فيمن بقى معه على زىّ الأعراب، وأصحاب موسى على غرّة، وقد تفرّق بعضهم فى حوائجهم، فانزعج العسكر وركبوا، فركب موسى، فانهزم أبو الأغربين يديه، فاتّبعه حتى أخرجه من العسكر، واستمرّ حتّى جاور الكمين، فنادى أبو الأغرّ بالإشارة التى بينه وبينهم، فثاروا،(28/13)
وعطف أبو الأغرّ على موسى فأسره، وأخذوه حتّى وصلوا به إلى ابن جيغويه وإلى ابن طولون فاعتقلاه، ورفع إلى مصر. وكان وصوله إليها فى سنة ستّ وستّين «1» ..
ذكر عصيان العباس بن أحمد بن طولون على أبيه وما كان من أمره
وفى سنة خمس وستّين ومائتين عصى العباس بن أحمد على أبيه، وسبب ذلك أنّ أباه لمّا استخلفه بمصر، كما ذكرناه، وخرج إلى الشّام، حسّن للعبّاس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والإنسراح «2» إلى برقة، ففعل ذلك، وحمل معه أحمد بن محمد الواسطى كاتب أبيه، وأيمن الأسود مقيّدين.
فلمّا رجع أحمد إلى مصر وجده قد أخذ ألفى ألف دينار، واستلف من التّجار ثلاثمائة ألف دينار، وأمر صاحب الخراج أن يضمنها لهم، ففعل.
فراسل أحمد ابنه واستعطفه، فلم يرجع، فخاف من معه وأشاروا عليه بقصد إفريقية، فسار إليها، وكاتب وجوه البربر، فأتاه بعضهم وامتنع بعضهم. وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب «3» يقول: إن أمير المؤمنين قلّدنى(28/14)
إفريقية وأعمالها، ورحل حتّى أتى حصن لبدة «1» ، ففتحه أهله له، فقابلهم أسوأ مقابلة، ونهبهم، فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النّفوسى، رئيس الإباضيّة هناك، فاستغاثوا به، فغضب لذلك، وسار إلى العباس ليقابله.
وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشا «2» وأمره بقتال العبّاس، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز بينهما اللّيل. فلمّا كان الغد وافاهم إلياس ابن منصور الإباضى فى اثنى عشر ألفا من الإباضيّة، فأجمع هو وعامل طرابلس على قتال العبّاس. فاقتتلوا، فقتل من أصحابه خلق كثير، وانهزم أقبح هزيمة، وكاد أن يؤسر. فخلّصه مولى من مواليه، ونهبوا سواده، وأكثر ما حمله من مصر. فعاد إلى برقة أقبح عود.
[وشاع بمصر أن العباس قد انهزم] «3» [8] فاغتمّ أبوه لذلك غمّا شديدا، وسيّر إليه العساكر، فقاتلهم وقاتلوه، فانهزم، وكثر القتل فى أصحابه، وأخذ أسيرا، وحمل إلى أبيه. فحبسه فى حجرة فى الدّار إلى أن قدم العسكر ببقيّة الأسرى من أصحابه. فلمّا قدموا أحضرهم أحمد عنده، والعبّاس معهم، وأمره أن يقطع أيدى أعيانهم وأرجلهم، ففعل ذلك.
فلمّا فرغ منهم وبّخه أبوه وذنّبه. وقال له: هكذا يكون الرّئيس والمقدّم! كان الأحسن أنّك ألقيت نفسك بين يدىّ وسألت الصّفح عنك وعنهم،(28/15)
فكان ذلك أعلى لمحلّك. وكنت قضيت حقوقهم «1» . ثم أمر به فضربه مائة مقرعة، ودموع أحمد تجرى على خدّه رقّة على ولده، ثم ردّه إلى الحجرة واعتقله، وذلك فى سنة ثمان وستّين ومائتين.
ذكر خلاف لؤلؤ على احمد
كان سبب ذلك أن الحسين بن مهاجر «2» غلب على أحمد بن طولون، وحسّن له جمع الأموال ومنعه من سماحته وجريه على عوائده الجميلة، فنفرت القلوب عن أحمد، وتغيّرت الخواطر عليه، فتنكّر له غلامه لؤلؤ، وكان عمدته عليه، وكان فى يده حلب وحمص وقنّسرين وديار مضر.
وكان أحمد إذا أنكر على لؤلؤ شيئا أوقع بكاتبه محمد بن سليمان، ويقول له.
هدا منك ليس منه، فحمل محمّد بن سليمان الخوف من أحمد على أن حسّن [-] «3» لؤلؤ حمل جملة من المال إلى الموفّق «4» ، فحمل ذلك إليه، وكتب إليه عن لؤلؤ كتابا يعرّفه رغبته فى المصير إليه، والتّصرّف تحت أمره ونهيه، والدّخول فى طاعته، فسرّ الموفّق لذلك واستبشر، لما فى نفسه من أحمد، ورأى أنّ ذلك من الفرص الّتى يتعيّن انتهازها، فأجابه بأحسن جواب، وأنفذ إليه خلعا.(28/16)
وكانت مع لؤلؤ طائفة من خواصّ أحمد، فلمّا أنكروا حاله، واطّلعوا على ما فعله، فارقوه، والتحقوا بأحمد، وأطلعوه على ما كان من أمر لؤلؤ.
فتألّم لذلك، وأخذ فى إعمال الحيلة والمخادعة للؤلؤ والتلطّف به، ومكاتبة محمّد بن سليمان، فلم يفد ذلك عنده. فكتب أحمد إلى المعتمد على الله كتابا يقول فيه: إنّى خائف على أمير المؤمنين من سوء يلحقه، وقد اجتمع عندى مائة ألف عنان أنجاد، وأنا أرى لسيّدى أمير المؤمنين الانجذاب إلى مصر، فإنّ أمره يرجع بعد الامتهان إلى نهاية العزّ، ولا يتهيّأ لأخيه الموفق شىء ممّا يخافه عليه. وجهّز له قرين ذلك، سفاتج «1» بمائة ألف دينار، وذلك فى سنة ثمان وستين ومائتين. وأظهر أحمد الخروج لهذا الأمر. فلمّا وصل كتابه إلى الخليفة. تجهّز لقصده مصر، فكان من خروجه ورجوعه إلى بغداد ما ذكرناه فى أخباره.
وأمّا أحمد فإنّه تجهّز إلى الشام، وأخذ معه ابنه العبّاس مقيّدا، واستخلف ابنه خمارويه على مصر. فسار، فوصل إلى دمشق وهو يظهر الانتصار للمعتمد، ويقصد لؤلؤا غلامه فعند ذلك التحق لؤلؤ بالموفّق، وكان لحاقه به فى سنة تسع وستين.
وانتهى إلى أحمد عود المعتمد، وأنّه فصيّق عليه، فأحضر أحمد قضاة أعماله وفيهم بكّار بن قتيبة «2» والعمرى وأبو حازم، وغيرهم، وخلع الموفّق، فكلّهم وافقه على ذلك إلّا بكّار. وأسقط أحمد دعوة الموفّق، وقلع اسمه(28/17)
من الطّرز. فلمّا بلغ الموفّق ذلك أمر بلعن أحمد بن طولون فى المنابر فى سائر الأمصار. ثم رجع الموفّق عن ذلك، وأمر كاتبه صاعد بن مخلّد وجماعة من خاصّته بمكاتبة أحمد بن طولون وتوبيخه على ما فعله، فكتبوا إليه واستمالوه، فعلم أنّ ذلك عن رأى الموفّق وإذنه لهم، فأجابهم بأحسن جواب. فعرضوا كتبه على الموفّق، فسرّه ما تضمّنته، وعلم أنّ ابن طولون إنّما فعل ذلك لمغالاته فى المناصحة هم. وكان الموفّق كامل العقل، فسكّن ذلك منه ما كان فى نفسه على أحمد، ومال قلبه إليه. وكتب الموفّق إلى أخيه المعتمد يعلمه برجوعه عن أمر أحمد وندمه على ما كان منه فى حقّه، وسأله أن يكتب إليه، فسرّ المعتمد بذلك، وكتب إلى أحمد كتابا بخطّه، وأمره بالرجوع عمّا هو عليه من أمر الموفّق، وبعث إليه كتاب الموفّق برجوعه عن لعنه، وأنفذ الكتاب مع الحسن بن عطّاف. فلمّا بلغ الرّقّة بلغه وفاة أحمد ابن طولون «1» ، فرجع إلى الحضرة.
وأما لؤلؤ فإنّه بلغه أنّ مولاه أحمد باع أولاده وخدمه بسوق الرّقيق بمصر، وقبض على أملاكه، فبلغ ذلك منه كلّ مبلغ، وتقدّم إلى الموفّق وبكى، وسأله إنفاذ الجيوش معه، وضمن له أخذ البلد من مولاه، وبسط لسانه فى سيرته، فخلع الموفّق عليه، وحمله على دابة، ووعده، وأمر بتجريد الجيوش [9] معه، كلّ ذلك وهو يسخر به ويماطله إلى أن يعود جواب أحمد مع الحسن ابن عطّاف، فقبض حينئذ على لؤلؤ وردّه إلى مولاه، واستقبح ما فعله لؤلؤ فى حقّ سيده، فلمّا اتفق وفاة أحمد، أقام لؤلؤ فى(28/18)
خدمة الموفّق إلى سنة ثلاث وسبعين، فقبض الموفّق عليه، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار، وكان لؤلؤ يقول: ليس لى ذنب إلّا كثرة مالى.
ولم تزل أمور لؤلؤ فى إدبار إلى أن افتقر، ولم يبق له شىء، فعاد إلى مصر فى آخر أيام هارون بن خمارويه «1» بغلام واحد. وهكذا تكون ثمرة الغدر وكفر الإحسان.
ذكر وفاة أحمد بن طولون وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته فى نصف اللّيل من ليلة الأحد لعشر ليال خلون من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين.
قيل: وكان سبب وفاته أن نائبه بطرسوس «2» وثب عليه يازمان «3» الخادم وقبض عليه، وأظهر الخلاف على أحمد. فجمع أحمد العساكر، وسار إليه. فلمّا وصل إلى أذنة «4» كاتبه وراسله واستماله، فلم يلتفت(28/19)
يازمان الخادم إلى رسالته. فسار أحمد إليه وحصره، فخرق يازمان نهر البلد «1» على منزلة العسكر، فكاد النّاس يهلكون. فرحل أحمد حنقا، وكان الزمان شتاء، وكتب إلى يازمان: إننى لم أرحل إلّا خوفا أن تنخرق حرمة هذا الثّغر، ويطمع العدو فيه. وعاد إلى أنطاكيّة، فأكل من لبن الجواميس وأكثر منه، فأصابته هيضة واتّصلت به حتى صار منها ذرب «2» . وكان الأطبّاء يعالجونه، وهو يأكل سرّا غير ما يصفونه، فلم ينجع الدّواء فيه.
فمات رحمه الله.
هكذا ذكر ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل فى سبب وفاته «3» .
وأما صاحب الدّول المنقطعة «4» فإنه قال: إنّه رجع إلى مصر واعتلّ بزلق للمعدة. واشتدّت به العلّة وطالت، فعهد إلى ابنه أبى الجيش خمارويه، وأطلق ابنه العباس من قيده، وذلك فى القعدة سنة سبعين ومائتين، وخلع عليه وقلّده جميع الأعمال الخارجة عن أعمال مصر من الشّامات والثّغور، وأوصاه بتقوى الله وطاعة أخيه. ثمّ توفّى رحمه الله وسنّه يومئذ خمسون سنة وشهر وثمانية وعشرون يوما، ومدّة إمرته على مصر ستّ عشرة سنة وشهر واحد وسبعة وعشرون يوما. «5»(28/20)
وأمّا سيرته، فإنّه، رحمه الله، كان عادلا شجاعا، كريما متواضعا، حسن السّيرة، يباشر الأمور بنفسه ويتفقّد رعاياه، ويحبّ أهل العلم، ويدنى مجالسهم. وكان كثير الصّدقات. وهو الذى بنى قلعة يافا، وكانت المدينة بغير قلعة.
اولاده ثلاثة وثلاثون «1» . منهم «2» : أبو الفضل العبّاس، أبو الجيش خمارويه، أبو العشائر مضر. أبو الكرم ربيعة، أبو المقانب شيبان، أبو ناهض عياض، أبو معدّ عدنان، أبو الكراديس خزرج. أبو حبشون عدىّ، أبو شجاع كندة، أبو منصور أغلب، أبو بهجة ميسرة، أبو البقاء هدى، أبو المفوض غسّان، أبو الفرج مبارك، أبو عبد الله محمد، أبو الفتح مظفر.
والبنات ستّ عشرة، وهنّ: فاطمة، ولميس، وتعلب «3» ، وصفية، وغالية «4» ، وخديجة، وميمونة، ومريم، وعائشة، وأم القرى «5» ، ومؤمنة، وعزيزة، وزينب، وسمانة، وسارة، وغريرة.
وخلّف من الأموال والعين والورق كثيرا، ومن الغلمان أربعة وعشرين ألف غلام، ومن الموالى سبعة آلاف رجل، ومن الخيل سبعة آلاف وثلاثمائة وخمسين رأسا، منها: لركابه ثلاثمائة وخمسون، ومن الجمال ثلاثة آلاف(28/21)
جمل، وألف بغل، ومن المراكب الحربيّة الكبار مائتى مركب بآلتها، ومن الأمتعة والفرش والآلات والأوانى ما لا يحصى كثرة ولا يعدّ اتّساعا، وأنفق على الجامع مائة ألف وعشرين ألف دينار، وعلى البيمارستان ستّين ألف دينار، وعلى العين الّتى بالمعافر مائة ألف وأربعين ألف دينار، وعلى حصن الجزيرة مائة ألف دينار. وأنفق فى بناء الميدان مائة ألف وخمسين ألف دينار، وعلى مرمّات الثّغور وحصن يافا مائتى ألف دينار.
وكانت صدقاته فى كلّ شهر ألف دينار سوى المرتّبات، وكانت له وظائف من خبز ولحم تجرى على قوم مستورين، فى كلّ شهر ألفا دينار.
وكان يصنع فى كلّ جمعة من أصناف الأطعمة والحلو أشياء كثيرة يحضرها النّاس من فقير، ومستور، ومتجمّل، ومحتاج، وكان إذا عاين ذلك وهو بمشترف عال يسجد لله تعالى شكرا تارة، ويصلّى تارة، ويدعو تارة، ويبكى تارة. فكانت سيرته رحمه الله أجمل سيرة، وفراسته أعظم فراسة، بحيث إنّه كان ينظر إلى الرّجل فيدرك [10] بفراسته غرضه، ولمّا مات ملك بعده ولده.
ذكر ولاية أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثانى من ملوك الطولونية
ملك بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد لعشر خلون من ذى القعدة سنة سبعين ومائتين، وهو ابن عشرين سنة وشهور، فى خلافة المعتمد على الله. وذلك أنّه لمّا توفّى والده اجتمع الأجناد وقتلوا ولده العباس الأكبر وولّوا خمارويه، فاستقلّ بالأمر.(28/22)
ذكر مسير إسحاق بن كنداجق «1» ومحمد بن أبى الساج إلى الشام
قال المؤرّخ «2» : لمّا توفى أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجق على الموصل والجزيرة، وابن أبى السّاج «3» على أرمينية والجبال، فطمعا فى الشّام، واستصغرا أولاد أحمد بن طولون، فكاتبا الموفّق واستمدّاه، فأمرهما بقصد الشام، ووعدهما إنفاذ الجيوش. فجمعا وقصدا ما يجاورهما من البلاد، فاستوليا عليها، وأعانهما نائب دمشق الّذى كان من قبل أحمد بن طولون ووعدهما الانحياز إليهما، وأظهر العصيان، واستولى إسحاق على حلب وحمص وأنطاكيّه ودمشق.
فلمّا انتهى الخبر إلى أبى الجيش خمارويه ندب العساكر المصريّة إلى الشام، فملكوا دمشق، وهرب نائبها. وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر «4» لقتال إسحاق وابن أبى السّاج، فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق. وهجم الشّتاء على الطّائفتين، وأضرّ بأصحاب خمارويه، فتفرّقوا فى المنازل بشيزر. ووصل العسكر العراقى إلى ابن كنداجق وعليهم أبو العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد بالله. فلمّا وصل سار مجدّا إلى عسكر(28/23)
خمارويه بشيزر، فكبسهم فى المساكن ووضع فيهم السّيف، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم منهم إلى دمشق على أقبح صورة. فسار المعتضد إليهم، ففارقوا دمشق وتوجّهوا إلى الرّملة، وأقاموا بها. ودخل أبو العبّاس المعتضد إلى دمشق فى شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين. وكتب عسكر مصر إلى خمارويه، فخرج من مصر بعساكره.
ذكر وقعة الطواحين
وفى سنة إحدى وسبعين ومائتين كانت وقعة الطّواحين «1» بين أبى العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد، وبين أبى الجيش خمارويه بن أحمد.
وكان سبب هذه الوقعة أنّ المعتضد لمّا ملك دمشق سار بعساكره إلى الرّملة لقصد عسكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عسكره وكثرة من معه من الجموع، فهمّ المعتضد بالعود، فلم يمكّنه من معه من أصحاب ابن طولون الّذين صاروا معه. وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجق وابن أبى السّاج ونسبها إلى الجبن، حيث انتظراه حتّى وصل إليهما ولم يناجزا عسكر خمارويه الحرب، ففسدت نياتهما.
قال: ورحل خمارويه ونزل على الماء الّذى عليه الطواحين [عند الرملة] «2» وملكه، فنسبت الوقعة إليه. ووصل المعتضد وقد عبّأ أصحابه، وفعل خمارويه كذلك، وجعل كمينا عليهم سعد الأيسر، فحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه فانهزمت. فلمّا رأى خمارويه ذلك، ولم يكن(28/24)
رأى مصافّا قبله، ولّى منهزما فى طائفة من الأحداث الّذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر.
ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه وهو لا يشكّ فى تمام النّصر، فخرج سعد الأيسر بالكمين وانضاف إليه من بقى من الجيش، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد وقد اشتغلوا بنهب السّواد، فوضع المصريّون السّيف فيهم. فظنّ المعتضد أنّ خمارويه قد عاد، فركب وانهزم لا يلوى على شىء، ووصل إلى دمشق فلم يفتح له أهلها، فمضى منهزما حتّى وصل طرسوس. واقتتل العسكران وليس لواحد منهما أمير [11] ، وطلب سعد الأيسر خمارويه فلم يجده. فأقام أخاه أبا العشائر مقامه. وتمّت الهزيمة على العراقيّين، وقتل منهم خلق كثير، وأسر خلق كثير.
وجاءت البشائر بالنّصر إلى مصر، فسرّ خمارويه بالظّفر، وخجل من الهزيمة، وأكثر الصّدقة، وفعل مع الأسرى ما لم يسبق إليه، وقال لأصحابه: هؤلاء أضيافكم، فأكرموهم. ثم أحضرهم بعد ذلك وقال:
من اختار المقام عندنا فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرّجوع جهّزناه وسيّرناه، فمنهم من أقام، ومنهم من عاد مكرّما. وسارت عساكر خمارويه إلى الشّام ففتحه أجمع، واستقر ملك خمارويه «1» .
وفى سنة اثنتين وسبعين ومائتين زلزلت مصر فى جمادى الآخرة زلزلة شديدة أخربت الدّور والمسجد الجامع، وأحصى بها فى يوم واحد ألف جنازة.(28/25)
ذكر اختلاف محمد بن أبى الساج وإسحاق بن كنداجق والخطبة لخمارويه بالجزيرة
وفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين فسدت الحال بين محمد بن أبى الساج واسحاق بن كنداجق «1» ، وكانا قبل ذلك متّفقين بالجزيرة.
وسبب ذلك أنّ ابن أبى السّاج نافس إسحاق فى الأعمال وأراد التقدّم، فامتنع إسحاق عليه، فكاتب محمّد بن أبى الساج خمارويه وانضمّ إليه، وخطب له بأعماله، وهى قنّسرين، وسير ولده ديوذاد «2» إلى خمارويه رهينة، فأرسل خمارويه إلى الشّام، واجتمع هو وابن السّاج ببالس «3» .
وعبر ابن أبى السّاج الفرات إلى الرّقّة فلقيه إسحاق، وكان بينهما حرب انجلت عن انهزام إسحاق، واستولى ابن أبى الساج على ما كان معه. وعبر خمارويه الفرات ونزل الرّافقة «4» ، وانهزم إسحاق إلى قلعة ماردين «5» ، فحصره ابن أبى السّاج بها، وسار عنها إلى سنجار «6» ، وأوقع بطائفة من(28/26)
لأعراب. وسار إسحاق إلى الموصل فلقيه ابن أبى الساج ببرقعيد «1» ، وكمّن له، واقتتلوا، فخرج الكمين على إسحاق، فانهزم وعاد إلى ماردين.
فقوى ابن أبى السّاج وظهر أمره، واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيها، ثمّ لنفسه بعده.
وفيها أيضا ثار السّودان بمصر، وحصروا صاحب الشّرطة «2» ، فركب خمارويه بنفسه، وبيده سيف مسلول، وقصد دار صاحب الشّرطة، فقتل من لقيه من السّودان، فهزموا، وكثر القتل فيهم، وسكنت مصر.
ذكر الاختلاف بين خمارويه ومحمد بن أبى السّاج والحرب بينهما
وفى سنة أربع وسبعين ومائتين خالف محمّد بن أبى الساج على خمارويه، فسار خمارويه إلى الشّام، فقدمها فى آخر السّنة، وسار ابن أبى السّاج إليه، فالتقوا عند ثنيّة العقاب «3» ، على مرحلة من دمشق إلى جهة حمص.
واقتتلوا فى المحرّم سنة خمس وسبعين، فانهزمت ميمنة خمارويه، وأحاط عسكر خمارويه بابن أبى السّاج، فانهزم، واستبيح عسكره.
وكان قد خلّف بحمص أموالا كثيرة، فندب خمارويه إليها قائدا من قوّاده فى جيش جريدة «4» ، فسبقوا ابن أبى السّاج إليها ومنعوه من الدّخول(28/27)
والاعتصام بها، واستولوا على أمواله الّتى بها. فمضى إلى حلب، ومنها إلى الرّقّة، فتبعه خمارويه، ففارقها. وعبر خمارويه الفرات وسار فى أثره، فوصل إلى مدينة بلد «1» ، وسبقه ابن أبى السّاج إلى الموصل، ثمّ فارقها إلى الحديثة «2» ، وأقام خمارويه ببلد، وعمل له سريرا طويل الأرجل، وكان يجلس عليه فى دجلة.
ذكر الدعاء لخمارويه بطرسوس
وفى سنة سبع ومائتين دعا يازمان بطرسوس لخمارويه. وسبب ذلك أنّ خمارويه أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار، وخمسمائة ثوب، وخمسمائة مطرف، وسلاحا كثيرا، فلمّا وصل ذلك إليه، دعا له، ثمّ وجّه إليه خمسين ألف دينار.
ثم توفى يازمان فى جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين، فخلفه ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه بوفاة يازمان، فأقرّه على ولاية طرسوس، وأمدّه بالخيل [12] والسّلاح والذّخائر، ثمّ عزله، واستعمل عليها ابن عمّه محمّد ابن موسى بن طولون.
ذكر الفتنة بطرسوس
وفى سنة ثمان وسبعين ومائتين ثار النّاس بطرسوس بالأمير محمد بن موسى، فقضوا عليه. وسبب ذلك أنّ الموفق كان له خادم من خواصه يقال(28/28)
له راغب؛ فلمّا مات الموفّق اختار راغب الجهاد، فسار إلى طرسوس على عزم المقام بها، فلمّا وصل إلى الشّام سيّر ما معه من دوابّ وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هو جريدة إلى خمارويه ليزوره ويعرّفه ما عزم عليه، فلقى خمارويه بدمشق، فأكرمه خمارويه وأنس به وأحبّه، فاستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس، فطال مقامه عنده. فظنّ أصحابه أنّه قبض عليه، وأذاعوا ذلك، فاستعظمه النّاس، وقالوا: يعمد إلى رجل قصد الجهاد فى سبيل الله فيقبض عليه، فشغبوا على أميرهم، وقبضوا عليه، وقالوا: لا تزال فى الحبس حتى يطلق ابن عمّك خمارويه راغبا، ونهبوا داره، وهتكوا حرمه.
وبلغ الخبر خمارويه فأطلع راغبا عليه، وأذن له فى المسير إلى طرسوس.
فلمّا دخلها أطلق أهلها اميرهم محمد بن موسى، فسار عنها إلى البيت المقدّس. ولمّا سار عنها وليها أحمد العجيفى، وكان يليها قبل ذلك «1» .
ذكر زواج المعتضد بالله بابنة خمارويه ابن أحمد بن طولون
قال: ولمّا توفى المعتمد على الله «2» وتولّى المعتضد بالله «3» بادر خمارويه(28/29)
إليه بالهدايا الجليلة على يد الحسين «1» بن عبد الله بن منصور بن الجصّاص الجوهرى، فأقرّه المعتضد بالله على ما بيده من الأعمال. وسأل خمارويه المعتضد أن يزوّج ابنته قطر الندى «2» للمكتفى بالله ولىّ العهد، فقال المعتضد بل أنا أتزوجها. [وكان ذلك] «3» فى سنة ثمانين، وحملت إليه فى سنة إحدى وثمانين ومائتين، وأصدقها ألف ألف درهم.
وقيل: إنّ المعتضد بالله إنّما قصد بزواجها إفقار الطّولونيّة، وكذلك كان، فإنّ خمارويه جهّزها بجهاز لم يسمع بمثله «4» ، حتى قيل إنّه كان لها ألف هاون من ذهب، وشرط المعتضد على خمارويه أن يحمل فى كلّ سنة مائتى ألف دينار، بعد القيام بجميع وظائف مصر وارزاق الجند، فأجاب إلى ذلك.
ذكر مقتل أبى الجيش خمارويه
كان مقتله فى ليلة الأحد لثلاث بقين من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وقيل «5» فى ذى الحجة منها بدمشق.(28/30)
وكان سبب قتله أنّه قيل له إن جوارى داره قد اتّخذت كلّ واحدة منهنّ خصيّا وجعلته لها كالزّوج، وقال له النّاقل إن شئت [أن] »
تعلم صحّة ذلك فقرّر بعض الجوارى بالضّرب، فكتب من وقته إلى نائبه بمصر يأمره أن يسيّر إليه الجوارى، فاجتمع جماعة من خدم الخاصّة وتواعدوا على قتله، فذبحوه على فراشه ليلا. فلما قتل قتل من خدمه الّذين اتّهموا بقتله نيّف وعشرون نفسا.
وحمل خمارويه إلى مصر فدفن بجبل المقطّم. وكانت مدّة ملكه ثنتى عشرة سنة وأياما.
ذكر ولاية أبى العشائر جيش ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الثالث من الملوك الطولونية
ملك بعد وفاة أبيه فى يوم الأحد لثلاث بقين من ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين. وذلك أنّ خمارويه لمّا قتل اجتمع القوّاد على ابنه أبى العشائر [13] وبايعوه، وكان مع أبيه بدمشق، وهو أكبر ولده، ففرّق فيهم الأموال، ورجع إلى مصر، وكان صبيّا غرّا.(28/31)
ذكر عصيان دمشق على جيش وخلاف جنده وقتله
وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين خرج جماعة من قوّاد جيش بن خمارويه وجاهروه بالخلاف، وقالوا: لا نرضى بك أميرا، فاعتزلنا حتى نولّى الإمارة «1» عمّك.
وكان سبب ذلك أنه لمّا ولى قرّب الأحداث والسّفل، وأخلد إلى سماع أقوالهم، فغيّروا نيّته على قواده وأصحابه، فصار يقع فيهم ويذمّهم، ويظهر العزم على الاستبدال بهم، وأخذ نعمهم وأموالهم، فاتّفقوا على قتله وإقامة عمّه. فبلغه ذلك فلم ينته، وأطلق لسانه فيهم، ففارقه بعضهم، وخلعه طغج بن جفّ «2» أمير دمشق.
وسار القوّاد الذين فارقوه إلى بغداد، وهم: محمّد بن إسحاق بن كنداجق، وخاقان المفلحى، وبدر بن جفّ أخو طغج، وغيرهم من قوّاد مضر «3» . فسلكوا البرّيّة وتركوا أموالهم وأهليهم، فتاهوا أيّاما، ومات جماعة منهم من العطش، وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين، وقدموا على المعتضد، فخلع عليهم، وأحسن إليهم. وبقى سائر الجند بمصر على خلافهم، فسألهم كاتبه على بن أحمد الماذرائى أن ينصرفوا يومهم ذلك،(28/32)
فرجعوا، فقتل جيش عمّين من عمومته «1» ، فثار الجند إليه، فرمى لهم بالرّأسين، فهجم الجند عليه وقتلوه، ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوها «2» . وكانت ولايته تسعة أشهر، وقيل ثمانية، والله أعلم.
ذكر ولاية أبى موسى هارون ابن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وهو الرابع من ملوك الدولة الطولونية
ملك بعد مقتل أخيه فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وهو ابن عشر سنين، فاختلّت الأحوال، واختلف القوّاد وطمعوا، فانحلّ النظام، وتفرّقت الكلمة، ثم اتّفقوا على أن جعلوا أبا جعفر بن أبّى التّركى مدبّر الدولة، وكان مقدّما عند أبيه وجدّه، فأصلح الأحوال جهد طاقته. وجهز جيشا إلى دمشق عليه بدر الحمامى والحسن بن أحمد الماذرائى، فأصلحا حالها، وقرّرا أمور الشّام، واستعملا على دمشق طغج بن جفّ الفرغانى، وهو والد الإخشيد، ورجعا إلى مصر، وفى الأمور اختلال، والقوّاد قد تغلّبوا، وضمّ كلّ منهم إلى نفسه طائفة من الجند. ولم يزل الأمر على ذلك إلى سنة إحدى وتسعين ومائتين.(28/33)
ذكر انقراض الدولة الطولونية
كان انقراضها فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين وسبب ذلك أن الخليفة المكتفى بالله «1» ندب محمّد بن سليمان كاتب الجيش فى سنة إحدى وتسعين ومائتين، وخلع عليه وعلى جماعة من القوّاد، وأمرهم بالمسير إلى الشّام ومصر وانتزاعهما من هارون بن خمارويه، لما ظهر من عجزه واختلاف أصحابه عليه.
فسار عن بغداد فى شهر رجب، هو وعشرة آلاف، ووصل إلى حدود مصر فى المحرّم سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ووجّه المكتفى أيضا دميانة الرّومى غلام يازمان بالمراكب، فوصل إلى تنّيس «2» ودخل نهر النّيل، فوجه إليه هارون جماعة من القوّاد، فالتقوا، فهزمهم دميانة، وزحف محمّد بن سليمان بالجيوش فى البرّ حتى دنا من مصر، وكاتب من بها من القوّاد، فكان أوّل من خرج إليه والتحق به بدر الحمامى، وهو رئيس القوّاد ففتّ ذلك فى أعضاد المصريّين. وتتابع القوّاد إليه. فلمّا رأى هارون ذلك خرج بمن بقى معه من القوّاد لقتال محمّد بن سليمان، فكانت بينهم حروب، ثمّ وقع بين(28/34)
أصحاب هارون فى بعض الأيّام، فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكّنهم، فرماه بعض المغاربة بمزراق «1» فقتله، وقيل بل فعل ذلك عمّه شيبان، وذلك لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
وكانت مدّة ولايته نحوا من تسع سنين تقريبا.
فبايع الأجناد عمّه [14] أبا المقانب شيبان بن أحمد بن طولون، وهو الخامس من ملوك الدّولة الطّولونية، وعليه انقرضت.
قال: ولمّا بويع بذل الأموال للجند فأطاعوه «2» ، وقاتلوا معه قتالا شديدا، ثم لم يلبثوا أن وافتهم كتب بدر الحمامى يدعوهم إلى الأمان فأجابوه إلى ذلك. وسار محمّد بن سليمان إلى مصر، فدخلها فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فأرسل إليه شيبان يطلب منه الأمان، فأمّنه، فخرج إليه ولم يعلم به أحد من جنده، فلمّا أصبحوا قصدوا دار الإمارة «3» فلم يجدوه، فبقوا حيارى.
واستولى محمّد بن سليمان على مصر، وعلى منازل آل طولون وأموالهم، وقبض عليهم كلّهم، وهم عشرون رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم. وكتب بالفتح إلى الخليفة، فأمره بإشحاص آل طولون وأشياءهم «4» من مصر والشام إلى بغداد، فحملهم وأتباعهم وأنقاض(28/35)
قصورهم، وعاد إلى بغداد، وولّى معونة «1» مصر عيسى النوشرى «2» .
وانقرضت الدّولة الطّولونيّة، وكانت مدّتها من لدن ولاية أحمد بن طولون وإلى آخر أيام أبى المقانب سبعا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وملك منهم خمسة نفر.(28/36)
ذكر أخبار من ولى مصر بعد انقراض الدّولة الطولونية وإلى قيام الدّولة الإخشيديّة من الأعمال وملخّص ما وقع فى أيامهم من الحوادث
لمّا انقرضت الدولة الطولونية كما ذكرنا، كان أول من ولى مصر عيسى النوشرى، رتّبه فى ولاية معونتها محمّد بن سليمان الكاتب، فلما سار محمد إلى العراق ظهر بمصر رجل يسمى إبراهيم الخليجى وتغلب عليها.
ذكر إبراهيم الخليجى «1» وما كان من أمره
كان ابراهيم هذا من القوّاد الطّولونيّة، وكان قد تخلّف عن محمّد بن سليمان «2» ، فاستمال جماعة وخالف على السّلطان وكثر جمعه. وعجز النوشرىّ عنه، فسار إلى الإسكندرية، ودخل الخليجى مصر. وكتب النوشرىّ إلى المكتفى بالخبر، فندب إليه الجنود مع فاتك مولى المعتضد، وبدر الحمامى، فساروا فى شوّال سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ووصلوا إلى نواحى مصر فى سنة(28/37)