فى شهر رمضان المبارك زفّت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة المستظهر بالله فزيّنت بغداد لذلك وفى سنة خمس وخمسمائة توفى الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله «1» وفى سنة سبع وخمسمائة توفى أبو القاسم على بن جهير وزير الخليفة، ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبى شجاع محمد بن الحسين [وزير السلطان] «2» .
وفى سنة ثمان وخمسمائة فى جمادى الآخرة كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة والشام وغيرها، فخرّبت كثيرا من الرّها وحران وسميساط ويالس وغيرها، وهلك كثير من الخلق تحت الرّدم.
وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفى السلطان محمد بن ملكشاة وملك اينه محمود بن محمد.
وفيها غرقت مدينة سنجار وكان سبب/ ذلك أن المطر دام فيها ليلا ونهارا واشتد، وجاء السّيل فى واديها وأفسد الشباك الذى يجرى فيه الماء فى سورها، فاجتمع الماء وعظم على السور حتى ألقاه، وهجم على المدينة بشدّة وقوة فلم يطق الناس ينتقلون عنه، فخرب كل ما مرّ به من البلد، وغرق جمع كثير من من الناس. ومن عجيب ما حكى أن الماء حمل مهدا فيه مولود فتعلّق المهد بشجرة زيتون، ثم نقص الماء والمهد معلّق بالشجرة، فسلم المولود.
وفيها تناثرت النجوم بديار الجزيرة جميعها- الموصل وغيرها-(23/259)
وكثير من البلاد، وكانت الكواكب تنزل حتّى تقرب من الأرض ثم تضمحل فلا يوجد لها أثر.
وفيها فى يوم عرفة كانت زلزلة بالعراق والجزيرة وكثير من البلاد، وخرّبت ببغداد دوارا كثيرة بالجانب الغربى.
ذكر وفاة المستظهر بالله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته فى سادس عشر ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر. خلافته خمس وعشرون سنة وثلاثة أشهر،/ وكانت دعوته قائمة بالمغرب، قام بها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ولم تزل إلى أن ظهر محمد بن تومرت على ما نذكره فى أخبار ملوك المغرب إن شاء الله تعالى.
وكان المستظهر بالله- رحمه الله- ليّن الجانب كريم الأخلاق مشكور المساعى، يحب اصطناع المعروف وفعل الخير ويسارع إلى أعمال البرّ والمثوبات، لا يردّ مكرمة تطلب منه. وكان كثير الوثوق بمن يولّيه، غير مصغ إلى سعاية ساع ولا راجع إلى قوله. وكانت أيامه أيام سرور للرعية، وكان يسره ذلك، وكان حسن الخط جيّد التوقيعات. ولما توفى صلى عليه ابنه المسترشد بالله، وكبّر أربعا، ودفن فى حجرة له كان يألفها.
أولاده: أبو منصور الفضل المسترشد، وأبو عبد الله محمد المقتفى، وأبو طالب، وأبو الحسن. وكان له من الوزراء من قدّمنا ذكرهم فى أخباره، ومضى فى أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم: تاج(23/260)
الدولة تتش بن ألب أرسلان، وبركيارق ومحمد بن ملكشاه. ومن عجب الاتفاق أنه لما توفى السلطان ألب أرسلان توفى معه القائم بأمر الله، ولما توفى السلطان ملكشاة توفى بعده المقتدى بأمر الله، ولما توفى السلطان محمد توفى بعده الخليفة المستظهر بالله.
ذكر خلافة المسترشد بالله
هو أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد، وهو الخليفة التاسع والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه فى سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتى عشرة وخمسمائة. وكان ولىّ عهد أبيه الخليفة المستظهر وخطب له فى خلافة أبيه ثلاثا وعشرين سنة.
قال «1» وبايعه أخواه أبو عبد الله محمد- وهو المقتفى لأمر الله- وأبو طالب العباسى، وعمومته بنو المقتدى بأمر الله، وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وكان المتولى لأخذ البيعة القاضى أبو الحسن الدامغانى- وكان نائبا عن الوزارة- فأقر المسترشد عليها، ثم عزله «2» واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبى منصور وزير السلطان محمود.
ذكر هرب الأمير أبى الحسن أخى المسترشد بالله وعوده
قال «3» ولما اشتغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه/ الأمير أبو الحسن ابن المستظهر بالله سفينة ومعه ثلاثة نفر وانحدروا إلى المدائن، وسار(23/261)
منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة فأكرمه دبيس ورتّب له الإقامات الكثيرة. فلما علم المسترشد بالله خبره أهمّه ذلك وأقلقه، وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته فأجاب «إننى عبد الخليفة وواقف عند أمره وقد استذمّ بى ودخل منزلى ولا أكرهه على أمر أبدا» . وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين على بن طرّاد الزينبى «1» ، فقصد الأمير أبا الحسن وتحدّث معه فى العود وضمن له كل ما يريد، فأجاب إلى ذلك وقال: إننى لم أفارق خدمة أخى لشرّ أريده، وإنما الخوف حملنى على ذلك، فإذا امّننى قصدته! وتكفّل له دبيس إصلاح الحال والمسير معه إلى بعداد، فعاد النقيب وأعلم الخليفة فأجاب إلى ما طلب ثم تأخّر بعد ذلك ولم يحضر وأقام عند دبيس إلى ثانى عشر صفر سنة ثلاث عشرة. وسار عن الحلة إلى واسط وكثر جمعه وقوى الإرجاف بأمره، وملك مدينة واسط وخيف جانبه، فتقدّم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولده أبى جعفر المنصور وجعله ولىّ عهده وعمره يومئذ اثنتا عشرة سنة.
فخطب له فى ثانى شهر ربيع الأول ببغداد وكتب إلى البلاد بذلك، وأرسل إلى دبيس فى معنى الأمير أبى الحسن وأنه الآن فارق جواره ومدّ يده إلى بلاد الخليفة وأمره بقصده ومعاجلته قبل فوته. فأرسل دبيس العساكر إليه ففارق واسط وقد تحيّر هو وأصحابه فضلوا الطريق، وصادفتهم عساكر دبّيس فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد من أصحابه والأتراك، وعاد الباقون.(23/262)
وبقى الأمير أبو الحسن فى عشرة من أصحابه وهو عطشان وبيّنه وبين الماء خمسة فراسخ، وكان الزمان قيظا فأيقن بالتلف.
وكان معه بدويان فأراد الهرب منهما فلم يقدر، وأخذاه وقد اشتد به العطش فسقياه الماء وحملاه إلى دبيس فسيره إلى بغداد وسلمه إلى الخليفة بعد أن بذل له عشرة آلاف دينار. وكان بين خروجه وعوده أحد عشر شهرا، ولما دخل على المسترشد بالله قبّل قدمه وقبله المسترشد وبكيا، وأنزله فى دار حسنة كان يسكنها قبل أن يلى الخلافة، وحمل إليه الخلع والتحف وأمّنه.
وفيها نقل الخليفة المسترشد بالله من دار الخلافة إلى الرصاقة، ونقل كلّ من كان مدفونا بها.
ذكر ظهور قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
/ قال ابن الأثير وأحال على حمرة بن أسد بن على بن محمد التميمى «1» أنه ذكر فى تاريخه: وفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ظهر قبر إبراهيم الخليل وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلّم بالقرب من المقدس، ورآهم الناس ولم تبل أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة.
وفيها توفى قاضى القضاة أبو الحسن على بن محمد الدامغانى، ومولده فى شهر رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولى القضاء بباب الطّاق من بغداد إلى الموصل وعمره ست عشرة «2» سنة ولم يكن(23/263)
ذلك لغيره. ولما توفى ولى القضاء بعده الأكمل أبو القاسم على بن طراد بن محمد الزينبى، وخلع عليه فى ثالث صفر.
وفى سنة أربع عشرة وخمسمائة خرج الكرج «1» - وهم الخزر- إلى دار الإسلام ومعهم القفجاق وغيرهم من الأمم، وحاصروا مدينة تفليس، ودام الحصار إلى سنة خمس عشرة فملكوها عنوة.
وفى سنة خمس عشرة كانت زلزلة تضعضع منها الركن اليمانى فى البيت الحرام- زاده الله شرفا- وانهدم بعضه وتشعّث بعض حرم النبى صلى الله عليه وسلم.
وفيها ظهر بمكة إنسان علوىّ أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكثر جمعه ونازع/ أمير مكة ابن أبى هاشم وقوى أمره، وعزم على أن يخطب لنفسه، ثم ظفر به ابن أبى هاشم ونفاه عن الحجاز إلى البحرين، وكان هذا العلوىّ من فقهاء المدرسة النظامية ببغداد.
وفى سنة ستّ عشرة وخمسمائة قبض الخليفة المسترشد بالله على وزيره جلال الدولة صدقة «2» وأقيم نقيب النقباء على بن طراد فى نيابة الوزارة، فأرسل السلطان إلى الخليفة أن يستوزر نظام الدين أحمد بن نصر بن نظام الملك فاستوزره وخلع عليه «3» وفيها ظهر بديار بكر بالقرب من قلعة ذى القرنين معدن نحاس.(23/264)
ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس بن صدقة
وفى سنة سبع عشرة وخمسمائة كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة، وكان سبب ذلك أنّ دبيسا كان عنده عفيف خادم الخليفة مأسورا، فأطلقه وحمّله رسالة فيها تهديد للخليفة، وبالغ فى وعيده ولبس السواد وجزّ شعره، وحلف لينهبنّ بغداد ويخربها فاغتاظ الخليفة لهذه/ الرسالة وغضب، وتقدم إلى البرسقىّ بالتبريز إلى حرب دبيس، فبرز فى شهر رمضان سنة ست عشرة.
وتجهز الخليفة وبرز من بغداد، واستدعى العساكر فأتاه سليمان ابن مهارش صاحب الحديثة، وأتاه قرواش بن مسلم وغيرهما. وأرسل دبيس إلى نهر الملك فنبهه وعمل أصحابه كلّ عظيم من الفساد فوصل أهل نهر الملك إلى بغداد، فأمر الخليفة فنودى ببغداد «لا يتخلّف من الجند أحد ومن أحبّ الجندية فليحضر» فجاء خلق كثير ففرّق فيهم الأموال والسّلاح فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرّضى عنه، فلم يجب إلى ذلك. وأخرجت خيام الخليفة فى العشرين من ذى الحجة سنة ست عشرة فنادى أهل بغداد: النفير النفير الغراة الغراة! وكثر الضجيج من الناس وخرج عالم كثير لا يحصون كثرة وبرز الخليفة لستّ بقين من ذى الحجة سنة ست عشرة، وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء وطرحة، وعلى كتفه البردة وفى يده القضيب وفى وسطه منطقة حديد صينىّ.(23/265)
وسار فى سنة سبع عشرة إلى النيل ونزل بالمباركة، وعبأ البرسقىّ/ أصحابه ووقف الخليفة وراء الجمع فى خاصّته وجعل دبيس أصحابه صفّا واحدا وجعل الرّجّالة أمام الخيالة بالسلاح وكان قد وعد أصحابه بنهب وسبى النّساء. فلمّا تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس وبين أيديهم الإماء يضربن بالدّفوف والمخانيث بالملاهى، ولم ير فى عسكر الخليفة غير قارئ ومسبّح وداع. فقامت الحرب على ساق، فلما رأى الخليفة ذلك جرّد سيفه وكبّر وتقدم للقتال، فانهزم دبيس وحملت الأسرى بين يدى الخليفة فأمر بقتلهم فضربت أعناقهم صبرا.
وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس واثنى عشر ألف راجل، وعسكر البرسقى ثمانية آلاف فارس وخمسة آلاف راجل، ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرة «1» وجعلت نساء دبيس وسراريه تحت الأسر.
وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها فى يوم عاشوراء من السنة وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه واتبعته الخيل ففاتها. وعبر الفرات فرأته عجوز فقالت له: دبير جئت؟ فقال دبير من لم يجىء! واختفى خبره بعد ذلك وأرجف بقتله ثم ظهر أنه قصد غزيّة من عرب نجد، وطلب منهم أن يحالفوه/ فامتنعوا عن ذلك وقالوا لا نسخط الخليفة والسلطان! ثم رحل إلى طائفة من(23/266)
الأعراب واتّفق معهم على قصد البصرة وأخذها، فساروا إليها ودخلوها ونهبوها وقتل مقدّم عسكرها فتجهز البرسقى لقتاله. فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة وسار على البرّ إلى قلعة جعبر والتحق بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وأطمعهم فى أخذها فلم يظفروا وعادوا عنها فى سنة ثمانى عشرة ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد، وأقام معه وحسّن له قصد العراق «1» .
وفيها فى صفر أمر المسترشد ببناء سور بغداد وأن يجبى ما يخرج عليه من البلد فشقّ ذلك على النّاس، وجمع منه مال كثير. فلما علم كراهة النّاس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم فسروا بذلك، وقيل إن الوزير أحمد ابن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار وقال «نقسط الباقى على أرباب الدولة» وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه ويتناوبون العمل.
وفى سنة ثمانى عشرة وخمسمائة ملك الفرنج مدينة صور من نواب العلوى المصرى «2»
ذكر الاختلاف الواقع بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان محمود:
/ وفى سنة عشرين وخمسمائة وقع الاختلاف بينهما وسببه أن يرنقش شحنة بغداد جرى بينه وبين نواب الخليفة منافرة فهدّده الخليفة بسببها فخاف على نفسه، فسار عن بغداد إلى السلطان وشكا إليه وحذره جانب الخليفة، وأعلمه أنه قاد العساكر وباشر الحرب وقويت(23/267)
نفسه و «متى لم تعالجه بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعا ومنعك عنها، فتوجه السلطان نحو العراق، فأرسل إليه الخليفة يعرّفه البلاد وما أهلها عليه من الضّعف والوهن بسبب دبيس بن صدقة وأن الغلاء قد اشتد لعدم الغلات والأقوات، وطلب أن تتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح الحال ثم يعود إلى البلاد ولا مانع له عنها وبذل له على ذلك مالا عظيما «1» .
فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوى عنده ما ذكر برنقش وصمّم على العزم وجدّ فى السّير فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وجيوشه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب لغربى فى ذى القعدة مظهرا الغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان، فبكى النّاس بكاء شديدا لخروجه من داره فبلغ ذلك من السلطان كلّ مبلغ واشتدّ عليه، وأرسل/ إلى الخليفة يستعطفه ويسأله العود إلى داره فأعاد الجواب «أنه لا بد من عودة هذه الدفعة فإنّ الناس هلكى لشدة الغلاء وخراب البلاد» وأنه لا يرى فى دينه أن يزاد ما بهم! فغضب السلطان ورحل نحو بغداد، وأقام الخليفة بالجانب الغربى وأرسل عفيفا الخادم- وهو من خواصّه- فى عسكر إلى واسط ليمنع عنها نوّاب السلطان، وكان بها عماد الدين زنكى فقاتله فانهزم عسكر الخليفة وقتل منهم جماعة وأسر مثلهم، وتغافل زنكى عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما.(23/268)
ثم إن الخليفة جمع السّفن جميعها وسدّ أبواب دار الخلافة سوى باب النوبى، وأمر صاحب الباب بالمقام فيه لحفظ الدار ولم يبق من حواشى الخليفة بالجانب الغربى سواه. ووصل السلطان إلى بغداد فى العشرين من ذى الحجة ونزل بباب الشماسيّة ودخل بعض عسكره إلى بغداد ونزلوا فى دور الناس، فشكا الناس إليه ذلك، وأمر بإخراجهم، وبقى بها من له دار. وبقى السلطان يراسل الخليفة فى العود ويطلب الصّلح وهو يمتنع، وكان يجرى بين العسكرين مناوشة والعامّة من الجانب الشرقى يسبّون السلطان أقبح سبّ وأفحشه.
ثم دخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخلافة/ ونهبوا التّاج، فضجّ النّاس ونادوا: الغزاة الغزاة! وأقبلوا من كلّ ناحية، وخرج الخليفة من السرادق والشمسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر بضرب الكوسات والبوقات ونادى بأعلى صوته: يا آل هاشم! وأمر بتقديم السّفن، ونصب الجسر وعبر النّاس دفعة واحدة وكان له فى الدار ألف رجل قد أخفاهم فى السرداب، فظهروا وعسكر السلطان قد اشتغل بالنّهب فأسر منهم جماعة من الأمراء، ونهب العامّة دار وزير السلطان ودور جماعة من الأمراء ودار عز الدين المستوفى ودار الحكم أوحد الزمان، وقتل خلق كثير ممّن فى الدروب.
ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقى ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسّواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت بالليل وحفظت(23/269)
بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاء عند العسكر واشتد الأمر عليهم وكان القتال كلّ يرم عند أبواب البلد وعلى شاطىّ دجلة.
وعزم عسكر الخليفة أن يكبسوا عسكر السلطان فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردى صاحب إربل «1» وخرج كأنه يريد القتال فالتحق بالسلطان! وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين زنكى وهو بواسط يأمره بالحضور بنفسه ومعه/ المقاتلة فى السفن وعلى الظهر، فجمع كلّ سفينة بالبصرة وشحنها بالرجال المقاتلة. وسار إلى بغداد فلما قاربها أمر من معه بلبس السلاح وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة وسارت السفن فى الماء والعسكر فى البر على شاطىء دجلة وقد انتشروا وملأوا الأرض. فرأى النّاس ما ملأ قلوبهم هيبة، وعزم السلطان على الجد فى القتال، فعندها أجاب الخليفة المسترشد بالله إلى الصلح، وترددت الرسائل بينهما فاصطلحا.
وأقام السلطان ببغداد إلى عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وحمل الخليفة إليه من المال ما استقرت القاعدة عليه، وأهدى إليه سلاحا وخيلا وغير ذلك. ومرض السلطان ببغداد فأشار عليه الأطباء بمفارقتها فرحل إلى همذان فلما وصلها عوقى(23/270)
من مرضه، ودام فى الملك إلى سنة خمس وعشرين فتوفى. وملك بعده ابنه داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه على ما نذكره «1» .
وفى سنة ست وعشرين وخمسمائة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين على بن الزينبى واستوزر أنوشران بن خالد بعد الامتناع منه.
ذكر حصار الخليفة المسترشد بالله الموصل
/ وفى سنة سبع وعشرين وخمسمائة حاصر الخليفة المسترشد بالله الموصل فى العشرين من شهر رمضان المبارك، وسبب ذلك أنها كانت قد صارت فى مملكة عماد الدين زنكى وكان قد حضر إلى بغداد لمّا وقعت الحرب بين السلطان مسعود السّلجقى وبين أخيه سلجوق شاه على ما نذكره فى أخبار السّلجقية وظهر منه مباينة للخليفة المسترشد بالله، فلما كانت هذه السنة واشتغل الملوك السلجقية بقتال بعضهم بعضا قصد جماعة من الأمراء السلجقية باب المسترشد بالله وصاروا معه.
واتفق أنّ الخليفة المسترشد بالله أرسل الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الواعظ الإسراينى برسالة إلى عماد الدين زنكى فيها خشونة فأداها أبو الفتوح وزاد عليها ثقة منه بقوة الخليفة وناموس الخلافة فقبض عليه زنكى وأهانه ولقيه بما يكره. فأرسل الخليفة(23/271)
إلى السلطان مسعود بن محمد يعرّفه ذلك وأنه على قصد الموصل وحصرها، وتمادت الأيام إلى شعبان فسار الخليفة فى النصف منه فى ثلاثين ألف مقاتل.، فلما قارب الموصل فارقها زنكى فى بعض عساكره إلى سنجار ونزل بقية العسكر بها مع نائبه نصير الدين جقر ذردارها «1» فنازلها الخليفة وضيّق على من بها.
وكان عماد الدين يركب كلّ/ ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ويأخذ من ظفر به من عسكر الخليفة، ودام الحصار ثلاثة أشهر فتضايقت الأمور بالعسكر الخليفى ولم يبلغه عمّن بها أنهم احتاجوا إلى ميرة ولا وهنوا، فعاد إلى بغداد فى الماء فى شبارة فوصل يوم عرفة من السنة.
وفى سنة سبع وعشرين أيضا اشترى الإسماعيلية بالشام حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون، وصعدوا إليه، وقاموا بحرب من يحاربهم من المسلمين والفرنج.
وفى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة عزل الخليفة أنوشروان بن خالد، وألزم داره، وأعيد إلى الوزارة شرف الدين على ابن طرّاد الزينبى.
ذكر مسير المسترشد بالله لحرب السلطان مسعود بن محمد وأسره
وفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة كانت الحرب بين الخليفة والسلطان فى شهر رمضان. وكان سبب ذلك أن السلطان مسعود(23/272)
توفى أخوه الملك طغرل فى المحرم من هذه السنة بهمذان، وكان بينهما من العداوة والحروب ما نذكره فى أخبارهم إن شاء الله. وكان الخليفة يعين السلطان مسعود على أخيه/ ويساعده ويقوّيه، وكان السلطان مسعود قد انهزم من أخيه طغرل ورحل إلى بغداد، فأعانه الخليفة لجميع ما يحتاج إليه وأمره بالمسير إلى همذان ووعده أن يسير معه ويعينه على حرب أخيه.
وكان البقش السّلاحىّ وغيره من الأمراء قد التحقوا بالخليفة وصاروا معه واتّفق أن إنسانا أخذ فوجد معه ملطفات من طغرل إلى بعض الأمراء وخاتمه بإقطاع لهم فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه غلبك ونهب ماله فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة، فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود؛ فأرسل الخليفة إليه فى إعادتهم فلم يفعل، فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما نفرة ووحشة أوجبت تأخّره عن المسير معه فأرسل إليه يأمره بالمسير معه حتما.
فيبنما هم فى ذلك إذ ورد الخبر بوفاة طغرل، فسار مسعود من يومه واحتوى على مملكة الجبل، فلما استقرّ بهمذان فارقه جماعة من أعيان الأمراء خوفا منهم على أنفسهم. منهم يرنقش البازدار، وقزل، وسنقر الخمارتكين والى همذان وعبد الرحمن ابن طغايرك «1» ومعهم دبيس، وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون أمانة(23/273)
ليحضروا إلى خدمته فقيل للخليفة إنها مكيدة لأن دبيس بن صدقة معهم. فساروا نحو خوزستان/ واتفقوا مع برسق بن برسق، فأرسل الخليفة إلى الأمراء سديد الدولة بن الأنبارى بتوقيعات يطيّب قلوبهم، وأمرهم بالحضور فعزموا على قبض دبيس بن صدقة ليتقربوا به إلى الخليفة، فهرب إلى السلطان مسعود.
وسار الأمراء إلى بغداد فى شهر رجب فأكرمهم وقطع خطبة السلطان مسعود من بغداد. وبرز الخليفة فى العشرين من شهر رجب على عزم المسير لحرب مسعود، وأقام بالشفيعى «1» ، فهرب منه بكبه «2» صاحب البصرة إليها، فراسله وبذل له الأمان فلم يعد. فتوقف الخليفة عن المسير، فحسّن له الأمراء الرحيل، وضعّفوا أمر السلطان مسعود، فسيّر مقدّمته إلى حلوان فنهبوا البلاد وأفسدوا فلم ينكر عليهم. تم سار فى ثامن شعبان والتحق به الأمير برسق بن برسق فبلغت عدّته سبعة آلاف فارس، وتخلّف بالعراق مع إقبال الخادم ثلاثة آلاف فارس وكان السلطان فى ألف وخمسمائة فارس.
وكان أكثر أصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة فاستصلح السلطان أكثرهم، فعادوا إليه، فصار فى نحو خمسة عشر ألف فارس. فأرسل الملك داود بن السلطان محمود(23/274)
إلى الخليفة يشير عليه بالميل إلى الدينور ليحصّن نفسه ومن/ معه فلم يفعل المسترشد بالله. وسار حتى بلغ دايمرج، وعبأ أصحابه.
وسار السلطان مسعود إليهم فوافاهم فى عشر رمضان، فانحازت ميسرة الخليفة إلى السلطان وقاتلت الميمنة قتالا ضعيفا، ودارت عساكر السلطان حول عسكر الخليفة وهو ثابت لم يحترك من مكانه، فانهزم عسكره وأخذ هو أسيرا ومعه جمع كثير من أصحابه منهم: شرف الدين على بن طرّاد الزينبى وقاضى القضاة، وصاحب المخزن ابن طلحة، وابن الأنبارى، والخطباء، والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل الخليفة فى خيمة وأخذ ما فى عسكره، وحمل الأعيان إلى قلعة سرجهان ولم يقتل فى هذه المعركة أحد ألبتة.
وعاد السلطان إلى همذان، وأمر فنودى «من تبعنا من البغداديين إلى همذان قتلناه» فرجع الناس كلّهم على أقبح صورة وسير السلطان الأمير بكبه المحمودى شحنة إلى بغداد فوصلها فى رمضان.
فقبض جميع أملاك الخليفة وأخذ غلّاتها، وثار جماعة من عامة بغداد فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويصيحون ويبكون، وخرج النساء حاسرات فى الأسواق يلطمن ويبكين، واقتتل أصحاب/ الشحنة والعامة فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين رجلا.(23/275)
ذكر مقتل المسترشد بالله
كان مقتله فى يوم الأحد سابع عشر ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة على باب مراغة، وذلك أن السلطان سار فى شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود، وكان قد عصى عليه، فنزل على فرسخين منها والمسترشد معه وقد وكل به من يحفظه. وترددت الرسائل بينهما فى تقرير قواعد الصلح على مال يؤديه الخليفة للسلطان وأنه لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره فأجاب السلطان إلى ذلك. وركب الخليفة وحمل الغاشية ولم يبق إلا عود الخليفة إلى بغداد، فوصل الخبر أن الأمير قرآن خوان «1» قد ورد رسولا من السلطان سنجر فتأخّر مسير المسترشد لذلك وخرج النّاس إلى لقائه مع السلطان.
وفارق الخليفة بعض الموكلين به وكانت خيمته منفردة عن العسكر فقصده أربعة وعشرون رجلا من الباطنية «2» فدخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عريان وقتل نفر من أصحابه، منهم: أبو عبد الله ابن سكينه وبقى الخليفة حتى دفنه أهل مراغة. وقتل من الباطنية عشرة وقيل بل قتلوا كلهم، وقد قيل إن السلطان سنجر أرسلهم لقتله «3» .(23/276)
وقتل رحمه الله تعالى وله ثلاث وأربعون سنة وثلاثة أشهر.
ومدّة خلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر ويوم واحد وكان رحمه الله شهما شجاعا كبير الإقدام بعيد الهمّة وكان فصيحا بليغا حسن الخط.
قال «1» : ولما قتل حمل إلى باب مراغة وخرج أهلها حفاة حاسرين رؤوسهم فبلغوا جنازته وكسروا المنابر. وقال: وصل الخبر إلى بغداد فى يوم الجمعة لستّ بقين من ذى القعدة فاجتمع الرجال والنساء وناحوا عليه فى الطرقات وكسروا منابر الجوامع واكثروا الشناعات وسبّوا السلطان سنجر ومسعودا أفبح سبّ من غير مراقبة ولا حشمة: ولما قتل ولى بعده ابنه الخليفة الراشد بالله.
ذكر خلافة الراشد بالله
هو أبو جعفر منصور بن المسترشد بالله أبى منصور الفضل بن المستظهر بالله وهو الخليفة الثلاثون من الخلفاء العباسيين بويع له عند وصول الخبر بمقتل أبيه فى يوم الإثنين السابع/ والعشرين من ذى القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وكتب السلطان مسعود ابن محمذ السّلجقى إلى بكبه الشحنة ببغداد، فبايع له، وحضر النّاس(23/277)
البيعة. وحضر بيعته واحد وعشرون رجلا من أولاد الخلفاء وبايع له الشيخ أبو النجيب ووعظه وبالغ فى الموعظة.
ذكر الحرب بين عسكر الخليفة الراشد بالله وعسكر السلطان مسعود
وفى سنة ثلاثين وخمسمائة وصل يرنقش الزكوى «1» من عند السلطان مسعود يطالب الخليفة بما كان استقر على أبيه المسترشد بالله من المال وهو أربعمائة ألف دينار فقال الخليفة: لا شىء عندى والمال جميعه كان مع المسترشد فنهب! ثم بلغ الراشد بالله أن يرنقش يربد الهجم على دار الخليفة وتفتيشها ليأخذ المال، فجمع العساكر وأعاد عمل السور. فلما علم يرنقش بذلك اتّفق هو وشحنة بغداد على أن يهجموا على دار الخليفة يوم الجمعة فبلغ ذلك الراشد فاستعد لمنعهم وركب يرنقش ومعه الأمراء البكجية «2» والعسكر، واجتمعوا فى نحو خمسة آلاف فارس ولقيهم عسكر الخليفة فاقتتلوا، وأعان العامّة عسكر الخليفة/ فأخرجوا عسكر السلطان ونهبت العامّة دار السلطنة.
ثم حضر الملك داود بن محمود بعسكر أذربيجان واجتمع الأطراف ببغداد على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وفيهم عماد الدين زنكى وغيره، وولى الملك دواد يرنقش بازدار شحنكية بغداد. واتفق أن الخليفة قبض على ناصح الدّولة أبى عبد الله الحسن(23/278)
ابن جهير أستاذ الدار وكان هو السبب فى ولايته، وقبض على جمال الدولة إقبال المسترشدىّ وعلى غيرهما من أعيان الدولة، فتفرقت نيّات أصحابه عليه فشفع أتابك زنكى فى إقبال. وخرج موكب الخليفة مع وزيره جلال الدين أبى الرضى بن صدقة «1» » إلى عماد الدين زنكى يهنئه بالقدوم، فأقام الوزير عنده وسأله أن يمنعه من الخليفة فأجابه إلى ذلك. وعاد الموكب بغير وزير، وأرسل زنكى من حرس دار الوزير ثم أصلح حاله مع الخليفة وأعاده إلى وزارته. ثم جدّ الخليفة فى عمارة السور فأرسل الملك داود من قلع أبوابه وخرّب قطعة منه، فانرعج الناس ببغداد ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة، وقطعت خطبة السلطان، وخطب للملك داود، وجرت الأيمان بين الخليفة والملك داود وعماد الديكى زنكى. ووصلت الأخبار بمسير السلطان مسعود إلى بغداد لقتال ابن أخيه داود وزنكى. ثم وصلت رسل السلطان إلى الخليفة بالبذل من نفسه الطاعة والموافقة والتهديد لمن اجتمع عنده، فعرض الخليفة الرسالة عليهم وكلمهم فى قتاله، فكلّ رأى ذلك ووافقهم الخليفة!
ذكر مسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه
كان سبب ذلك أن السلطان مسعودا لما بلغه اجتماع العساكر والملوك والأمراء ببغداد على خلافه والخطبة للملك داود ابن أخيه جمع العساكر وسار إلى بغداد ونزل بالملكية، فسار بعض العسكر(23/279)
وطاردوا عسكره وعادوا، ونزل السلطان على بغداد وحصرها نيّفا وخمسين يوما، فلم يظفر منها بشىء. ثم عاد إلى النهروان عازما على العود إلى همذان فوصل إليه طرنطاى صاحب واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إلى بغداد وعبر إلى غربى دجلة واختلفت كلمة العسكر البغدادى فعاد الملك داود إلى بلاده فى ذى القعدة وتفرق الأمراء.
وكان زنكى بالجانب الغربى فعبر إلى الخليفة وسار إلى الموصل.
ودخل/ السلطان بغداد واستقر بها، وذلك فى نصف ذى القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة.
قال «1» وأمر السلطان فجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التى حلف بها الراشد وفيها بخط يده «إننى متى جندت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسّيف فقد خلعت نفسى من الأمر» فافتوا بخروجه من الخلافة، وقيل إن الوزير شرف الدين على بن طراد الزينبى وكاتب الإنشاء ابن الأنبارى وصاحب المخزن كمال الدين طلحة كانوا منذ أسرهم مع المسترشد، فحضروا الآن معه، واجتمعوا فى يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة ثلاثين، وكتبوا محضرا شهد فيه جماعة من العدول بما صدر من الراشد من الظّلم وأخذ الأموال بغير حقها وسفك الدماء وشرب الخمور وارتكاب المحارم، واستفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك هل تصحّ معه إمامة أم لا؟ وهل يجوز للسلطان أن يخلعه(23/280)
ويستبدل به من أهل بيته من هو خير منه طريقة ودينا؟ فأفتى الفقهاء بخلعه وفسخ عهده والاستبدال به غيره، وعرضت الفتيا والمحضر على السلطان فقال: هذا أمر قلدتكم إياه وأنا برىء منه عند الله! ثم خلع وقطعت خطبته من بغداد وسائر البلاد فى ذى القعدة وبويع بعده للمقتفى.
/ وكانت خلافته أحد عشر شهرا وأياما، وكتب السلطان إلى أتابك زنكى فى القبض عليه وإرساله إلى بغداد فمنع من ذلك فارس الإسلام زين الدين على بن بكتكين صاحب إربل رحمه الله وقال: والله لا سلّمناه حتى تراق دماؤنا! واعتذر إلى السلطان وقال: أنا أخرجه من ولايى؟
فأرسل أنت عسكرا للقبض عليه من غير جهتنا! وأعد زين الدين جماعة من الأكراد فساروا بين يديه على طريق لا يعرفها كثير من الناس فوصل إلى مراغة أذربيجان ونزل ببريّة أبيه وتلقّاه أهلها وولّوه أمرهم فأقام بها يسيرا ثم ارتحل إلى الرّىّ فلما قرب من بلاد الباطنية جرّد عسكره لقتل من وجد منهم فقتل منهم جماعة ثم تنقّلت به الحال وكابد الغربة ووصل إلى همذان وسار منها يريد إصفهان. فلما كان فى الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وثب عليه نفر من الباطنية- وكانوا فى خدمته على زىّ الخراسانية- فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان [قد بلّ] «1» من أثر مرض قد برأ منه ودفن فى شهرستان على فرسخ من إصفهان، وقتل أصحابه الباطنية الذين قتلوه. ولما ورد الخبر بمقتل(23/281)
الراشد بغداد جلسوا للعزاء فى دار النوبة يوما واحدا.
وكان الراشد بالله أشقر اللون حسن الصورة، مهيبا شديد القوة/ والبطش
ذكر خلافة المقتفى لأمر الله
هو أبو عبد الله محمد وقيل الحسين بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله، وأمّه أمّ ولد تدعى ياعى. وهو الخليفة الحادى والثلاثون من الخلفاء العباسيين بويع له بعد خلع ابن أخيه الراشد بالله فى ثامن عشر ذى الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة. وذلك أنه لما خلع الراشد بالله استشار السلطان مسعود بن محمد السّلجقى جماعة من أعيان بغداد فيهم الوزير شرف الدين على بن طرّاد الزّينبى وكمال الدين صاحب المخزن وغيرهما فيمن يصلح أن يلى الخلافة فقال الوزير: أحد عمومة الراشد بالله وهو رجل صالح! قال: من هو؟ قال: لا أقدر أن أفصح باسمه لئلا يقتل: فتقدّم إليهم بعمل محضر فعمل المحضر على ما ذكرناه فلما كمل المحضر أحضر القاضى أبو طاهر الكرخى وشهدوا عنده بما تضمّنه المحضر فحكم بفسق الراشد وخلعه وحكم بعده غيره. ولم يكن قاضى القضاة ببغداد ليحكم فإنه كان بالموصل عند أتابك زنكى فلما كمل ذلك ذكره الوزير للسلطان وذكر دينه وعفّته ولين جانبه، فحضر السلطان إلى دار الخلافة ومعه الوزير وصاحب المخزن وغيرهما وأمر/ بإحضار الأمير أبى عبد الله بن المستظهر من المكان الذى كان يسكن فيه، فأحضر وأجلس فى الميمنة ودخل السلطان وتحالفا وقررا القواعد(23/282)
بينهما. وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء. ولقّب المقتفى بأمر الله.
وقيل فى سبب هذا اللقب أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلى الخلافة بستة أيام وهو يقول: إن هذا الأمر يصير إليك فاقتف بى فلقّب بذلك ولما بويع له سيّرت الكتب الحكيمة بخلافته إلى سائر الأمصار واستوزر شرف الدين على بن طرا الزينبى، وأرسل إلى الموصل فأحضر قاضى القضاة على بن حسين الرينبى- وهو بن عم الوزير- وأعاده إلى منصبه، وأقرّ كمال الدين صاحب المخزن على منصبه، وأجرى الأمور على أحسن نظام.
قال «1» : وأرسل السلطان مسعود إلى الخليفة فى تقرير إقطاع يكون لخاصته فكان جوابه «إن فى الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة، فلينظر السلطان ما يحتاج إليه من يشرب هذا الماء فتقرّرت القاعدة على أن يجعل له ما كان للمستظهر فأجاب إلى ذلك وقال السلطان لما بلغه قوله: «لقد جعلنا فى الخلافة رجلا عظيما نسأل الله تعالى أن يكفينا أمره» قال «2» : وخطب له على سائر/ المنابر إلا فى الموصل، فإنه لم يخطب له فيها إلا فى شهر رجب سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
وفى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة تزوج الخليفة المقتفى فاطمة أخت السلطان مسعود وكان الصداق مائة ألف دينار، والوكيل فى(23/283)
قبول النكاح وزير الخليفة على بن طراد، ووكيل السلطان فى العقد وزيره الكمال الدّركزينى.
وفيها فى الرابع والعشرين من آيار ظهر بالشام سحاب أسود وأظلمت له الدنيا، وصار الجوّ كالليل المظلم، ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا، وهبّ ريح عاصف ألقت كثيرا من الشّجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق وجاء بعد ذلك مطر كثير وبرد كبار.
وفى سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وصل ملك الروم صاحب القسطنطينية إلى الشام وملك بزاغة «1» بالأمان لخمس بقين من شهر رجب ثم غدر بأهلها فقتل منهم وسبى على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الأتابكية فى أيام زنكى.
وفيها انقطعت كسوة الكعبة للاختلاف الواقع بين الملوك السّلجقية فقام بكسوتها رامشت الفارسى التاجر، وكان من التجار المسافرين إلى الهند- وهو كثير المال- فكساها من الثياب الحبرة «2» وبكل ما وجد/ إليه السبيل، فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغير ذلك من البلاد فخرّب كثير منها، وهلك عالم كثير تحت الرّدم. ثم كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير(23/284)
من البلاد فى سنة ثلاث وثلاثين، وكانت متوالية عدّة أيام كلّ ليلة عدّة دفعات وكان أشدها بالشام، فعدّوا فى ليلة واحدة ثمانين مرة. ففارق الناس مساكنهم، ولم تزل تتعاهد من أربع صفر إلى تاسع عشر، وكان معها صوت وهدة شديدة.
وفى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة جرى بين الخليفة المقتفى وبين الوزير على بن طراد منافرة، وسببها أن الوزير كان يعارض الخليفة فى جميع ما يأمر به فنفر الخليفة من ذلك، فغضب الوزير ثم خاف فقصد دار السلطان واحتمى بها، فأرسل الخليفة إليه فى العود إلى منصبه فامتنع. فاستناب قاضى القضاة الزينبى، وأرسل الخليفة رسلا إلى السلطان مسعود فى معنى الوزير فأرخص السلطان للخليفة فى عزله فعزله، ثم عزل الزينبى من النيابة، وناب سديد الدولة بن الأنبارى.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بكنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأرّان، وكان أشدها بكنجة فخرّب منها كثير، وهلك عالم قيل كانوا مائتى ألف وثلاثين ألفا/ وتهدّمت قلعة هناك.
وفيها ابتنى الخليفة بفاطمة أخت السلطان مسعود وكان يوم حملها إلى دار الخلافة يوما مشهودا. وغلّقت بغداد عدة أيام، وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة.
وفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وصل رسول السلطان سنجر ملكشاه إلى المقتفى ومعه بردة النبى صلى الله عليه وسلم والقضيب، وكان أخذهما من المسترشد لما قتل.(23/285)
وفيها ملك الإسماعيلية حصن مصاف بالشام وكان واليه مملوكا لبنى منقذ أصحاب شيزر، فاحتالوا عليه ومكروا به حتى صعدوا إليه فقتلوه وملكوا الحصن.
وفيها توفى سديد الدولة بن الأنبارى فاستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن الأنبارى وكان قبل ذلك أستاذ الدار.
وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد بناها كمال الدين أبو الفتوح حمزة بن على صاحب المخزن «1» . ولما فرغت درّس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل.
وفى سنة أربعين وخمسمائة اتّصل بالخليفة عن أخيه أبى طالب ما كرهه فضيّق عليه وعلى غيره من أقاربه.
وفى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فى جمادى الأولى خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفى بولاية العهد.
/ وفى سنة أربع وأربعين استوزر الخليفة أبا المظفر يحيى ابن هبيرة وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزّمام فظهرت منه كفاءة عظيمة، فرغب الخليفة فيه واستوزره يوم الأربعاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر «2» .(23/286)
وفيها كانت زلزلة عظيمة، فيقال إن جبلا بالقرب من حلوان ساخ فى الأرض.
وفى سنة سبع وأربعين مات السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان فلما وصل الخبر إلى بغداد بموته هرب شحنتها مسعود بلال إلى تكريت فاستظهر الخليفة المقتفى على داره ودور أصحاب السلطان ببغداد وأخذ أموالهم وودائعهم. واستبدّ الخليفة بالأمر وقطع خطبة الملوك السّلجقية «1» وفوّض الأمر إلى الوزير ابن هبيرة!
ذكر تفويض أمور الدولة والوزارة
إلى الوزير عون الدين بن هبيرة وما أقطعه الخليفة من الإقطاعات كان الخليفة المقتفى لأمر الله لمّا استخلف حلف أن ألا يملّك تركيّا لما جرى على أخيه المسترشد ولم يمكنه المبادرة بذلك فلما تمكّن وقوى أمره ومات السلطان مسعود فوّض الأمور إلى الوزير عون الدين أبى المظفر يحيى بن هبيرة، ولقّبه بتاج الملوك ملك/ الجيوش وأقطعه إقطاعا عظيما وهو: واسط وبطائحها والبصرة والحلّة، والنيل، والنعمانية، وقرسان «2» ونهر الملك «3» ، ونهر(23/287)
عيسى «1» ، ودجيل، والراذان «2» ، وطريق خراسان، والقرايا، والنجف، والبندنيجين «3» وبادرايا «4» ، وباكسايا «5» ، وهيت «6» والأنبار، وعين التمر «7» ، وشفاثا «8» . وأقطعه إقطاع وزير السلطان وأعانه على الإستعداد للحرب وجهزه بالجيوش فاستولى على الحلة والكوفة وواسط ثم عاد إلى بغداد وكانت غيبته خمسة وعشرين يوما.
ذكر حصر تكريت وعود عسكر الخليفة عنها وأسر ابن الوزير
وفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سيّر الخليفة المقتفى لأمر الله عسكرا إلى تكريت «9» وأرسل عليهم مقدّما أبا المنذر بن الوزير(23/288)
عون الدين والأمير ترشك وهو من خواصّ الخليفة وغيرهما، فجرى بين أبى المنذر وبين ترشك منافرة اقتضت أن كتب ابن الوزير يشكو منه، فأمر الخليفة بالقبض على ترشك فعرف ذلك فأرسل إلى مسعود صاحب تكريت وصالحه وقبض على/ أبى المنذر ومن معه من المقدمين، وسلّمهم إلى مسعود بلال فانهزم العسكر وسار مسعود وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فهنباها وأفسدا. فسار الخليفة لدفعهما، فهربا من بين يديه فقصد تكريت وحصرها أياما، ثم عاد بعد أن جرى بينه وبين أهلها قتال من وراء السور وقتل من عسكر الخليفة جماعة بالنّشاب.
ذكر حصار تكريت ووقعة بكمزا
وفى سنة تسع وأربعين وخمسمائة أرسل الخليفة رسولا إلى صاحب تكريت بسبب من عنده من المأسورين فقبض على الرسول. فسيّر المقتفى عسكرا فخرج أهل تكريت فقاتلوا عسكر الخليفة، فسير عسكرا آخر، فمانعوه. فسار الخليفة بنفسه ونزل على البلد فهرب أهله، فدخل عسكر الخليفة فشغبوا ونهبوا بعضه، ونصب على القلعة ثلاثة عشر منجنيقا فسقط من أسوارها برج، وبقى الجيش «1» كذلك إلى الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول فأمر الخليفة بالقتال والزّحف. فاشتد القتال، وكثرت القتلى، ولم يبلغ منها غرضا، فعاد إلى بغداد ودخلها فى آخر الشهر.(23/289)
ثم أمر الوزير عون الدين بالعود إليها والاستعداد والاستكثار من آلات/ الحصار، فسار إليها فى شهر ربيع الآخر وضيق عليها. فبلغه الخبر أن مسعود بلال وصل إلى شهر ابان ومعه البغوش كون خر «1» وترشك فى عسكر كبير ونهبوا البلاد فعاد الوزير إلى بغداد وكان سبب تحوّل هذا العسكر أنهم حثّوا الملك محمدا «2» على قصد العراق فلم يتهيأ له ذلك، فسير إليه هذا العسكر وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان.
فخرج الخليفة إليهم فأرسل مسعود بلال إلى تكريت وأخرج منها الملك أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بها وقال: هذا سلطان نقاتل بين يديه بازاء الخليفة! والتقى العسكران عند بكمزا بالقرب من بعقوبا، ودامت الحرب بينهم والمناوشة ثمانية عشر يوما، ثم التقوا فى آخر شهر رجب واقتتلوا فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب حتى بلغت الهزيمة بغداد. ونهبت خرائنه وقتل خازنه. فحمل الخليفة بنفسه هو وولى عهده وصاح: يا آل هاشم كذب الشيطان! وقرأ» وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا» وحمل هو وبقية العسكر فانهزم مسعود ومن معه، وظفر الخليفة، وغنم العسكر جميع ما هو للتركمان من دوابّ وغنم وغير ذلك. وكانوا قد أحضروا نساءهم وأولادهم وخركاهاتهم فأخذ جميع ذلك. فبيع(23/290)
كل كبش/ بدانق وأخذ كون خر الملك أرسلان وانهزم به إلى بلد النجف وقلعة الماهكى «1» ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها فى أوائل شعبان المبارك، فأتاه الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط. فنهبا وخربا فسيّر إليهم الوزير فى عسكر، فانهزم العجم، ولحقهم عسكر الخليفة ونهب شيئا كثيرا، وعاد إلى بغداد فلقّب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش، وسيّر الخليفة عسكرا إلى بلد النجف فاحتوى عليه.
وفى سنة خمسين وخمسمائة سار الخليفة إلى دقوقا فحصرها وقاتل من ها، ثم رحل عنها ولم يبلغ غرضا «2» .
وفيها استولى شملة التركمانى على خوزستان وصاحبها حينئذ ملكشاه محمود. فسيّر الخليفة إليه عسكرا فقاتلهم شملة وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أحسن إليهم وأطلقهم. وأرسل إلى الخليفة المقتفى لأمر الله يعتذر منه فقبل عذره.
وفى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة حصر السلطان محمد بن محمود السّلجقى بغداد، وكان قد راسل الخليفة فى الخطبة له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته، فسار من همذان وواعده قطب الدين صاحب الموصل أن يرسل إليه العساكر، فقدم(23/291)
فى ذى الحجة ودام الحصار والقتال إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، فبلغ/ السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكر وأرسلان طغرل دخلوا همذان واستولوا عليها، فرجع عن بغداد ولم يبلغ رضا، وتفرقت العساكر.
وفى شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين أطلق ابن الوزير! ابن هبيرة من حبس تكريت فتلقته المواكب وكان يوما مشهودا «1» .
وفيها فى شهر ربيع الآخر احترق أكثر بغداد، واحترقت دار الخلافة.
وفى سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كان بالشام زلازل كثيرة خربت كثيرا من البلاد والقلاع والأسوار، وهلك من العالم مالا يحصى كثرة. ومما يدل على ذلك ما حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل «أن معلما كان بمدينة حماه يعلّم الصبيان. ففارق المكتب لحاجة عرضت له فجاءت الزلزلة فخرّبت البلد وسقط المكتب على الصبيان فهلكوا عن آخرهم- قال- فقال المعلم: فلم يأت أحد يسألنى عن صبىّ كان له! فيدل على موت جميع أهاليهم «2» .
وفيها قلع الخليفة المقتفى لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضة بابا(23/292)
مصفحا بالفضة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات! وفى سنة أربع وخمسين وخمسمائة فى ثامن عشر ربيع الأول كثرت الزيادة فى دجلة فغرقت بغداد، وتهدّمت الدور وسور/ المدينة وكثر الخراب ولم يعرف الناس حدودهم على التحرير، بل بالتخمين.
وفيها مات السلطان محمد الذى حاصر بغداد بمرض السّلّ.
وفيها عاد ترشك إلى بغداد ولم يعرفه أحد ولا شعر به إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن. فرضى عنه الخليفة، وأذن له فى دخول الدار وأنعم عليه بمال!
ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وشىء من أخباره
كانت وفاة المقتفى لأمر الله فى شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وقيل لليلتين خلتا من شهر رجب. ومولده فى ثانى عشر شر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكان عمره ستّا وستين سنة تقريبا، ومدّة خلافته أربعا وعشرين سنة وشهورا.
وكان شيخا أبيض الرأس واللحية طويلها، وكان حليما كريما عادلا حسن السيرة جميل الرأى وافر العقل، شجاعا مقداما يباشر الحروب بنفسه. وكان يحب جمع المال. وفى أول خلافته ولّى القضاء بمدينة السلام لرجل يعرف بابن المرخم، وجعله يتولى عقوبة عماله(23/293)
ووجوه دولتة وأخذ أموالهم، فقال/ بعض الشعراء فى ذلك:
ضخّمى ويك والطمى ... ولى ابن المرخّم «1»
واه على الحكم والقضا ... وعلى كلّ مسلم
وأرى المقتفى الإما ... م عن الحقّ قد عمى
فبلغ المقتفى ذلك فأخذ الشاعر بنكاله وعذبه وما زاده ذلك إلا تماديا فى حاله. وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أوّل أيام الدّيلم وإلى هذا الوقت، وأول خليفة تمكن من عسكره وأصحابه وحكم على الخلافة منذ تحكم المماليك على الخلفاء فى خلافة المستنصر بالله وإلى الآن، إلا أن يكون المعتضد بالله.
وكان المقتفى يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار فى جميع البلاد حتى لا يفوته منها شىء، وكانت دعوته بالعراق والحجاز والشام وخراسان.
ذكر خلافة المستنجد بالله
هو أبو المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله. وأمه أم ولد ندعى طاوس وقيل نرجس، رومية.
وهو الخليفة الثانى والثلاثون من الخلفاء بويع له بعد وفاة أبيه فى شهر(23/294)
ربيع الأول فى سنة خمس وخمسين وخمسمائة وقيل لليلتين خلتا من شهر رجب منها والله تعالى أعلم.
قال «1» : وكان للمقتفى حظية وهى أم ولده أبى على. فلما اشتدّ مرضه وأيست منه، أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو على خليفة فقالوا: كيف الحيلة مع ولى العهد؟ فقررت أنها تقبض عليه إذا دخل. وكان يدخل على أبيه فى كلّ يوم فقالوا:
لا بد لنا من أحد أرباب الدّولة فوقع اختيارهم على أبى المعالى بن الكيال الهراس «2» فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرا. فبذلوا له ما طلب. فلما استقرت القاعدة بينهم أحضرت عدّة من الجوارى وأعتطهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولى العهد المستنجد بالله. وكان له خصىّ صغير يرسله فى كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجوارى وبأيديهن السكاكين وبيد أبى على وأمه سيفين. فعاد إلى المستنجد وأخبره.
وأرسلت هى إلى المستنجد تقول: «إن والدك قد حضرته الوفاة فاحضر لتشاهده «فاستدعى أستاذ لدار عضد الدين، وأخذ معه جماعة من الفراشين، ودخل الدار وقد لبس الدّرع والسيف فى يده، فلما دخل ثار به الجوارى/ فضرب وحدة منهن فجرحها وجرح أخرى وصاح فدخل أستاذ الدار والفراشون فهرب الجوارى وأخذ أخاه(23/295)
أبا على وأمّه فسجنهما، وقتل من الجوارى وغرّق وجلس للمبايعة فبايعه أهله وأقاربه.
وأول من بايعه عمّه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفى وكان أكبر من المستنجد، ثم بايعه الوزير ابن هبيرة، وقاضى القضاة، وأرباب الدولة والعلماء. وخطب له فى يوم الجمعة، ونثرت الدنانير والدراهم.
قال ابن هبيرة الوزير عنه: إنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام منذ خمس عشرة سنة فقال لى: يبقى أبوك فى الخلافة خمس عشرة سنة فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام «ثم قال» رأيته قبل موت المقتضى بأربعة أشهر، فدخل بى فى باب كبير ثم ارنقى إلى رأس جبل وصلّى بى ركعتين وألبسنى قميصا ثم قال لى: قل (أللهم اهدنى فيمن هديت) وذكر دعاء القنوت.»
قال: «1» ولما ولى المستنجد بالله أقر ابن هبيرة على وزارته، وأصحاب الولايات على ولاياتهم، وأزال المكوس والضرائب، وقبض على ابن المرخّم وأخذ منه مالا كثيرا وأخذ كتبه فأحرق منها ما كان من علوم الفلاسفة. وقدم عضد الدين ابن رئيس الرؤساء- وكان أستاذ الدار- فمكّنه وتقدّم إلى الوزير بأن يقوم له، وعزل قاضى القضاة على بن أحمد الدامغانى، ورتّب مكانه أبا جعفر عبد الواحد (الثقفى) وخلع عليه.(23/296)
ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكى
وفى شهر رجب سنة سبع وخمسين وخمسمائة ملك الخليفة قلعة الماهكى، وسبب ذلك أن صاحبها سنقر الهمذاتى سلّمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان فضعف مملوكه عن حفظها ومقاومة من حولها من الأكراد والتركمان فأشير عليه ببيعها من الخلية فراسل فى ذلك؛ فاستقرّ بينهما خمسة عشر ألف دينار وسلاح ومتاع وعدّة من القرى فسلّمها وتسلّم ما استقر له وأقام ببغداد، ولم تزل هذه القلعة من أيام المقتدر بالله بيد التركمان إلى الآن.
ذكر اجلاء بنى أسد من العراق
وفى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة أمر الخليفة باهلاك بنى أسد أهل الحلة المزيديّة لما ظهر من فسادهم ولما كان فى نفسه منهم من مساعدتهم للسلطان محمد فى حصار بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإخراجهم من البلاد، وكانوا منبسطين/ فى البلاد فى البطائح.
فتوجّه إليهم وجمع العساكر الكثيرة، وأرسل إلى ابن معروف [مقدم المقتفى] «1» وهو بأرض البصرة فجاء فى خلق كثير وحصرهم وسكّ عنهم الماء وضيّق عليهم فاستسلموا، فقتل منهم أربعة آلاف ونادى فيمن بقى «من وجد فى الحلة المزيدية بعد هذا فقد حل دمه فتفرقوا فى البلاد، ولم يبق فى العراق منهم من يعرف، وسلّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.(23/297)
وفى سنة ستين وخمسمائة فى صفر قبض المستنجد بالله على الأمير ثوبة بن العقيلى وكان قد قرب منه قربا عظيما حتى كان يخلو معه، وأحبّه محبة عظيمة، فحسده الوزير ابن هبيرة، فوضع كتبا من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا ففعلوا ذلك، وأخذوا وأحضروا عند الخليفة.
وأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيّد وكانت حلل ثوبة على الفرات، فحضر عنده فأمر بالقبض عليه، فقبض عليه وأدخل بغداد ليلا وحبس فكان آخر العهد به فما تمتع الوزير بعده بالحياة، ومات بعد ثلاثة أشهر وكان ثوبة من أكمل العرب مروءة وسخاء وعقلا وإجادة، واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق فى غيره.
وفيها فى جمادى الأولى توفى الوزير عون الدين يحيى بن محمد ابن هبيرة ومولده سنة/ تسعين وأربعمائة ودفن بمدرسته التى هو بناها للحنابلة بباب البصرة، ولما مات قبض على أولاده وأهله! وفى سنة ثلاث وستين وخمسمائة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدى.
وكان ناظرا بواسط، وظهر عن كفاءة عظيمة، فأحضره الخليفة واستوزره وكان عضد الدين أستاذ الدار قد تحكّم تحكّما عظيما، فتقدّم أمر الخليفة إلى وزيره بكفّ يده وأيدى أصحابه ففعل ذلك، ووكل بأخيه تاج الدين وطالبه بحساب نهر الملك وكان يتولاه أيام(23/298)
المقتفى، وكذلك فعل بغيره، فحصّل أموالا جمّة وخافه أستاذ الدار على نفسه فحمل مالا كثيرا وأعطاه الورقة التى بخط الخليفة فقال له: تعود إليه وتقول قد أوصلت الخطّ إلى الوزير! ففعل ذلك وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش وعرض عليهم الخط فاتفقوا على قتل الخليفة. فدخل عليه يزدن وقايماز فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه وأغلقا الباب عليه وهو يصيح حتى مات.
وقبض على الحسين بن محمد المعروف بابن البستى وعلى أخيه الصغير، وكانا ابنى عمّ عضد الدين. وكان الصغير عامل البيمارستان فقطع يده ورجله؛ فقيل إنه كان يستخرج المال بصنوج كبار ويحمله إلى الديوان بصنجة صحيحة وقيل غير ذلك، وحمل إلى البيمارستان فمات «1» .
ذكر وفاة المستنجد بالله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته فى تاسع شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة ومولده فى مستهل شهر ربيع الآخر سنة عشرة وخمسمائة. وكان عمره ستا وخمسين سنة وثمانية أيام، ومدة خلافته أحد عشر سنة وشهرا واحدا وستة أيام على القول الأول. وكان أسمر، تامّ القامة؛ طويل اللحية.
وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه؛ وكان بجانبه أستاذ الدار عضد الدين [أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء] «2» وقطب(23/299)
الدين قايماز المقتفوى- وهما من الأمراء ببغداد- فوصيا الطبيب على أن يصف له ما يقتله فوصف له دخول الحمام فامتنع لضعفه، فأدخله وأغلق عليه بابه فمات «1» . وقيل إنه كتب إلى الوزير ...
النصرانى ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار.
وكان رحمه الله من أحسن الخلفاء سيرة، عادلا فى الرعية كثير الرّفق بهم، وأطلق كثيرا من المكوس/ حتى لم يترك بالعراق شيئا منها. وكان شديدا على أهل العبث والفساد والسعاية قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل «2» «بلغنى أن المستنجد قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه، فشفع فيه بعض خواصّه، وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لى آخر مثله أحبسه لأكف شره عن الناس!» ولم يطلقه وردّ كثيرا من الأموال على أصحابها رحمه الله.
ذكر خلافة المستضىء بأمر الله
هو أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظقر يوسف ابن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وأمّه أم ولد أرمينية تدعى غضّة وهو الخليفة الثالث والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه فى التاسع من شهر ربيع الآخر فى سنة ست وستين وخمسمائة.
قال «3» : ولما مات المستنجد بالله كان بين الوزير أبى جعفر ابن البلدى(23/300)
وبين أستاذ الدار عضد الدين وقطب الدين عداوة شديدة لأن المستنجد كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها فيظنان أنه هو الذى يسعى بهما فلما أرجف بموت المستنجد ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد/ وغيرهم يالعدوة ولم يتحققوا موت الخليفة. فأرسل إليه أستاذ الدار يقول:
إن أمير المؤمنين قد خفّ ما به من المرض وأقبلت العافية إليه! فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند فربما أنكر عليه ذلك، فعاد إلى داره وتفرّق النّاس عنه.
وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدّا للهرب لما ركب الوزير خوفا أن يدخل الدار فيأخذهما، فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب دار الخلافة وأظهر موت الخليفة، وأحضر ولده أبا الحسن محمدا وبايعه هو وقطب الدين بالخلافة، ولقباه بالمستضىء بأمر الله، وشرطوا عليه شروطا منها:
أن يكون عضد الدين وزيرا، وابنه جمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة فى يوم وفاة أبيه، وبايعه الناس من الغد فى الناج بيعة عامة، وأظهر العدل وفرق أموالا جليلة المقدار.
ذكر مقتل الوزير أبى جعفر بن محمد المعروف بابن البلدى
قال «1» : ولما علم الوزير بوفاة الخليفة سقط فى يده وقرع سنّه ندما على عوده، وأتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة(23/301)
للمستضىء، فمضى إلى دار الخلافة فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطّع وألقى فى دجلة، وأخذا جميع ما فى داره، فرأيا خطوط المستنجد بالله يأمره بالقبض عليهما، وخطّ الوزير وقد راجعه فى ذلك وصرفه عنه.
فندما على قتله.
وفى سنة سبع وستين وخمسمائة أقيمت الدعوة العباسية بالديار المصرية وخطب للخليفة بها، وانقرضت الدولة العبيديّة المنسوبة إلى العلوية بخلع العاضد لدين الله، وكان ذلك على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله على ما نذكر ذلك مبيّنا- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة العبيديّة «1» .
وفيها عزل الخليفة وزيره عضد الدين من الوزارة لأن قطب الدين قايماز ألزمه ذلك فلم يمكنه مخالفة، ثم قصد الخليفة إعادته فى جمادى الأولى سنة تسع وستين فثارت الفتنة بين الخليفة وقايماز.
وأغلق قايماز باب النوبى وباب العامّة وبقيت دار الخلافة محاصرة.
فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته فقال قايماز: لا أقنع إلا بخروج عضد الدين من بغداد! فأمر بإخراجه منها فالتجأ إلى صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل وهو شيخ الشيوخ وصار فى رباطه فأجازه، ثم عاد إلى داره فى جمادى الآخرة.
وفى سنة تسع وستين وخمسمائة زادت دجلة فتجاوزت كلّ زيادة كانت ببغداد منذ بنيت إلى الآن بذراع وكسر. وخاف الناس الغرق وفارقوا البلد ونبع الماء من البلاليع، وخرّب كثير من الدور(23/302)
وغرق البيمارستان العضدى، ودخلت المراكب من شبابكيه وكانت قد تقلعت.
وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد- وهو الذى صار خليفة ولقّب الناصر لدين الله- من قبة عالية إلى أرض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح، فألقى نفسه بعده وسلما جميعا فقيل لنجاح:
لم ألقيت بنفسك؟ فقال: ما كنت أريد البقاء بعد مولاى! فرعى له الأمير أبو العباس ذلك فلما صار خليفة جعله شرابيا وحكّمه فى الدولة ولقبه الملك الرحيم عز الدين وخدمه جميع أمراء العراق.
وفيها فى شهر رمضان وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله فهدم الدّور وقتل جماعة من الناس والمواشى، فوزنت بردة منه فكانت سبعة أرطال، وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان، قال ابن الأثير هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزى فى تاريخه والعهدة عليه فيه «1» .
ذكر هرب قطب الدين قايماز/ من بغداد وعود عضد الدين إلى الوزارة
كان سبب ذلك وابتداؤه أن علاء الدين تنامش- وهو من أكابر الأمراء ببغداد- وقطب الدين قايماز زوج أخته سيّرا عسكرا إلى العراق فى شوال سنة سبعين وخمسمائة فنهبوا النّاس وبالغوا فى(23/303)
أذاهم، فجاء جماعة منهم إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا لضعف الخلافة وتحكم قايماز وتنامش على الدولة، فقصدوا جامع القصر واستغاثوا ومنعوا الخطيب من الخطبة فأنكر الخليفة ما جرى، فلم يلتفت قايماز وتنامش إلى قوله.
فلما كان فى خامس ذى القعدة قصد قايماز دار ظهير الدين بن العطار صاحب المخزن- وللخليفة به عناية تامة وبينهما صحبة- فلم يراع قايماز الخليفة فيه، واستدعاه فهرب، فأحرق قطب الدين قايماز داره وحالف الأمراء على المساعدة والمعاضدة له، وجمعهم وقصد دار الخلافة لعلمه أن ابن العطار فيها.
فلما علم الخليفة ذلك صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادما فصاح وقال للعامة: مال قطب الدين لكم ودمه لى! فقصد الخلق كلّهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع، وغلبت العامة، فهرب من داره من باب فتحه من ظهرها لكثرة من على بابها من الخلق. وخرج من بغداد، ونهبت داره وسلبت نعمته فى/ ساعة واحدة وتبعه تنامش وجماعة من الأمراء، فنهبت دورهم وأحرق بعضها، وأخذت أموالهم.
وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه من التحق من الأمراء، فسيّر الخليفة إليه شيخ الشيوخ صدر الدين فخدعه حتى سار عن الحلة نحو الموصل على البرّ فلحقه هو ومن معه عطش عظيم فهلك أكثرهم ومات قيماز قبل وصوله إلى الموصل. ودفن بظاهر(23/304)
باب العمادى وكانت وفاته فى ذى الحجة. ووصل تنامش إلى الموصل فأقام مدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد فسار إليها وبقى بغير إقطاع! قال «1» : ولما هرب قايماز أعيد عضد الدين إلى الوزارة وقال بعض الشعراء فى قطب الدين قايمار وتنامش بن قماج:
إن كنت معتبرا بملك زائل ... وحوادث عنقية الإدلاج «2»
فدع العجائب والتواريخ الألى ... وانظر إلى قيماز وابن قماج
عطف الزّمان عليهما فسقاها ... من صرفه كأسا بعير مزاج «3»
فتبدّلوا بعد القصور وظلّها ... ونعيمها بمهامه وفجاج
فليحذر الباقون من أمثالها ... نكبات دهر خائن مزعاج
قال «4» : وكان قطب الدين كريما طلق الوجه، محبا للعدل والإحسان، كثير البذل للمال، وإنما كان يحمله على ما يقع منه تنامش بغير إرادته.
وفى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ولّى الخليفة المستضىء حجبة الباب أبا نصر على بن الناقد «5» وكان الناس تلقبه(23/305)
فى صغره قنبرا، فصار الناس يصيحون به بهذا اللقب إذا ركب.
فأمر أن يركب معه جماعة من الأتراك يمنعون الناس من ذلك، فامتنعوا فلما كان قبل العيد بثلاثة أيام خلع عليه ليركب فى الموكب، فاشترى جماعة من أهل بغداد شيئا كثيرا من القنابر وعزموا على إرسالها فى الموكب، فأنهى ذلك إلى الخليفة فعزله وولى ابن المعوج.
وفيها قبض الخليفة على عماد الدين صندل المقتفوى أستاذ الدار ورتّب مكانه أبا الفضل هبة الله بن على بن هبة الله بن الصاحب «1» .
ذكر مقتل الوزير عضد الدولة «2» وولاية ظهير الدين بن العطار
كان مقتله رحمه الله فى رابع ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وهو أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء أبى القاسم [بن المسلمة] وسبب مقتله أنه عزم على الحج وعبر دجلة للمسير ومعه أرباب المناصب وهو فى موكب عظيم، وتقدم إلى أصحابه أن لا يمنعوا عنه أحدا، فلقيه إنسان/ كهل وقال: أنا مظلوم! وتقدّم إليه يسمع كلامه فضربه بسكين فى خاصرته، فصاح الوزير: قتلنى! ووقع إلى الأرض وسقطت عمامته، فغطّى رأسه بكمه وضرب الباطنىّ بسيف، وعاد إلى الوزير فضربه بسكين وأقبل صاحب الباب ابن المعوج لينصر الوزير. فضربه الباطنىّ بسكين،(23/306)
وقيل بل ضربه رفيق له، وكان له رفيق ثالث فصاح وبيده سكين فقتل ولم يصنع شيئا. وأحرق الثلاثة، وحمل الوزير إلى دار له هناك، وحمل الحاجب إلى بيته فمات هو والوزير.
وكان الوزير قد رأى فى منامه أنه يعانق عثمان بن عفان، قال ابن الأثير «1» : وحكى عنه ولده أنه اغتسل قبل خروجه وقال: هذا غسل الإسلام وأنا مقتول بلا شك! وكان له معروف كثير وكانت داره مجمعا للعلماء وسمع الحديث، وختمت أعماله بالشهادة وهو على قصد الحج رحمه الله. ولما قتل حكم فى الدولة ظهير الدين أبو بكر ابن منصور المعروف بابن العطار، وكان حسن السيرة وتمكن تمكّنا عظيما.
ذكر فتنة ببغداد وهدم بيعة اليهود
وفى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة كانت الفتنة ببغداد، وسببها أن قوما من مسلمى المدائن حضروا إلى بغداد وشكوا من يهود المدائن وقالوا: لنا مسجد نؤذّن فيه ونصلّى وهو مجاور لبيعة اليهود، فقال لنا اليهود قد آذيتمونا بكثرة الأذان وأنهم اختصموا هم والمؤذن، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود. فلما شكوا أمر ابن العطّار بحبسهم فحبسوا، ثم خرجوا فقصدوا جامع القصر واستغاثوا قبل صلاة الجمعة فخفّف الخطيب الخطبة والصلاة، فعادوا يستغيثون فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فغضب عامة بغداد لذلك واستغاثوا، وخلعوا طوابيق الجامع ورجموا الجند بها،(23/307)
ثم قصدوا دكاكين المخلطين لأن أكثرهم يهود فنبهوها. فأراد حاجب الباب منعهم فرجموه فهرب منهم، وضربوا الكنيسة التى عند دار البساسيرى، وأحرقوا الورق الذى فيها الذى يزعم اليهود أنه التوراة.
واختفى اليهود فأمر الخليفة بنقض الكنيسة التى بالمدائن وتبنى مسجدا ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها أقوام من المفسدين فظنّها العامة تخويفا لهم لأجل ما فعلوه باليهود، فجعلوا عليها جرذانا ميتة، فأخرج جماعة من الحبس من اللصوص فصلبوا عليها وسكنت الفتنة!
ذكر وفاة المستضىء بأمر الله
/ كانت وفاته لليلتين خلنا من ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ومولده فى سنة ست وثلاثين، وكان عمره أربعين سنة تقريبا، ومدة خلافته تسع سنين وسبعة أشهر إلا أياما.
وكان رحمه الله عادلا حسن السيرة فى الرعية، كثير البذل للأموال، حليما، قليل المعاقبة على الذنوب، محبا للعفو والصّفح عن المذنهين، وأولاده أبو العباس أحد وأبو منصور هاشم.
ذكر خلافة الناصر لدين الله
هو أبو العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله وأمّه أمّ ولد تركية اسمها زمرّد وهو الخليفة الرابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالبيعة العامّة فى يوم الأحد ثانى ذى القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقام له بالبيعة ظهير الدين بن العطار وبايع له،(23/308)
فلما تمّت البيعة صار الحاكم فى الدولة أستاذ الدار مجد الدين الصاحب، وسيّر الرسل إلى الآفاق يأخذ البيعة له.
ذكر القبض على ابن العطار وموته
وفى سابع ذى القعدة قبض على ظهير الدين بن العطار الوزير ووكل به فى داره، ثم نقل إلى التاج وقيّد وأخذت أمواله وطلبت ودائعه وأخرج ميتا فى ليلة الأربعاء ثانى عشر الشهر على رأس حمّال.
فغمز به بعض الناس فثار به العامّة وألقوه عن رأس الحمال وكشفوا عن سوأته، وشدّوا فى ذكره حبلا وسحبوه فى البلد وكانوا يضعون بيده مغرفة ويقولون: وقع لنا مولانا! إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة، ثم خلص منهم ودفن.
قال «1» وفعلوا به هذه الأفعال القبيحة مع حسن سيرته فيهم وكفّه عن أموالهم وأعراضهم.
وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة كثرت المنكرات ببغداد فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور وأخذ المفسدات، فبينما امرأة منهن فى موضع علمت يمجىء الحاجب فاضطجعت وأظهرت أنها مريضة وارتفع أنينها، فرأوها على ذلك فانصرفوا عنها، فهمت بالقيام فلم تستطع وعجزت وجعلت تصيح: الكرب الكرب! إلى أن ماتت.
وفى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة قبض الخليفة على أستاذ الدار مجد الدين أبى الفضل بن الصاحب وقتله، وكان قد تحكّم فى(23/309)
الدولة ليس للخليفة معه حكم. وكان الذى سعى به عند الخليفة وقبّح آثاره رجل من صنائعه وأصحابه يقال له عبيد الله بن يونس فقبض/ عليه الخليفة وقتله، وأخذ أمواله وكانت عظيمة. وكان رحمه الله حسن السيرة، واستوزر الخليفة بعده أبا المظفر عبيد الله بن يونس فى شوال، ولقبه جلال الدين، ومشى أكابر الدولة فى ركابه حتى قاضى القضاة، وكان ابن يونس هذا من شهوده، فكان يمشى ويقول:
لعن الله طول العمر!
ذكر انهزام عسكر الخليفة من طغرل
كان طغرل «1» السّلجقى قد قوى أمره فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكثر جمعه، وأرسل إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم إلىّ الديوان بعمارة دار السلطنة لأنزل فيها إذا قدمت! فرد الخليفة رسوله بعير جواب، وأمر بنقض دار السلطنة فهدّمت إلى الأرض وعفى أثرها «2» ووصل رسول قزل- وهو صاحب أران وأذربيجان وهمذان وإصفهان والرى وما بينهما- ببذل الطاعة والخدمة ويستنجد الخليفة على طغرل، فأكرم الخليفة رسوله ووعده بتجهيز العساكر إليه، وجهّزها فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وقدم عليها الوزير جلال الدين [عبيد الله] بن يونس وسيرهم لمساعدة قزل وكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر فى ثالث صفر إلى أن(23/310)
قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم. وأقبل طغرل فى عساكره، والتقوا فى ثامن شهر ربيع الأول بمرج عند همذان، فلم تثبت عساكر الخليفة وانهزمت «1» ، وبقى الوزير قائما ومعه مصحف وسيف، فأسر وأخذ ما معه من خزانة وسلاح وغيره، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
وفى سنة خمس وثمانين وخمسمائة خطب لولى العهد أبى نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد، ونثرت الدنانير والدراهم، وأرسل إلى البلاد فى إقامة الخطبة له.
وفيها فى شوال ملك الخليفة تكريت، وسبب ذلك أن صاحبها الأمير عيسى قتله إخوته وملكوا القلعة بعده، فسير الخليفة إليهم عسكرا فحصروها وتسلموها، ودخل أصحابها إلى بغداد فأعطوا إقطاعا.
وفى سنة ستّ وثمانين وخمسمائة فى شهر ربيع الأول ملك الخليفة الناصر لدين الله حديثة عانة، وكان قد سيّر إليها جيشا فى سنة خمس وثمانين وخمسمائة فحاصروها وقاتلوا عليها شديدا، وقتل من الفريقين خلق كثير، ودام الحصار فضاقت الأقوات على أهلها، فسلموها على إقطاع عيّنوه، ووصل صاحبها وأهلها بغداد وأعطوا إقطاعا ثم تفرّقوا فى البلاد، واشتدت بهم الحاجة حتى تعرّض بعضهم للسؤال وبعضهم خدم/ الناس(23/311)
وفى سنة تسع وثمانين وخمسمائة أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفا لا يقدر على مثلها.
وفيها فى شهر ربيع الأول كملت عمارة الرباط الذى أمر الخليفة بإنشائه بالحريم الطاهرى غربى بغداد على دجلة.
وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان، وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل عليها ذردارا فأساء السيرة مع جندها فغدر به بعضهم فقتله وأرسل إلى الخليفة، وأرسل إليها وملكها.
وفيها انقضّ كوكبان عظيمان بعد طلوع الفجر واصطدما وسمع صوت هدّة عظيمة وغلب ضوؤهما ضوء القمر والنهار.
وفى سنة تسعين وخمسمائة قتل السلطان طغرل السلجقى فى حرب كانت بينه وبين خوارزم شاه علاء الدين، وملك خوارزم شاه البلاد.
ذكر ملك الخليفة خوزستان
وفى سنة تسعين أيضا خلع الخليفة الناصر لدين الله على نائب الوزارة مؤيد الدين أبى عبد الله محمد بن على المعروف بابن/ القصاب خلع الوزارة، وسار فى شهر رمضان من السنة إلى بلاد خوزستان بالعساكر. وقد كان قد خدم بها أولا وعرفها، فلما ولى نيابة الوزارة ببغداد أشار على الخليفة الناصر لدين الله أن يرسله بعسكر ليملكها. واتّفق وفاة صاحبها ابن شملة التركمانى واختلاف(23/312)
أولاده، فأرسل بعضهم إلى مؤيد الدين يستنجده، فقوى طمعه فيها، فسار إليها ودخلها فى سنة إحدى وتسعين، وملكها فى المحرّم منها، وملك غيرها من البلاد والقلاع: منها قلعة الناظر، وقلعة كاكرد، وقلعة لاموج، وغيرها من القلاع والحصون، وأنفذ بنى شملة التركمانى أصحاب خوزستان إلى بغداد فوصلوا فى ربيع الأول.
ذكر ملك الوزير همذان وغيرها من بلاد العجم
قال «1» : ثم ملك الوزير مؤيد الدين المذكور همذان فى شوال سنة إحدى وتسعين وخمسمائة من عسكر خوارزم شاه وولده، فتوجه الخوارزميون إلى الرّىّ فتبعهم الوزير ففارقوها من غير قتال وتوجهوا إلى دامغان وبسطام «2» وجرجان. فعاد عسكر الخليفة إلى الرى فأقاموا بها، ثم رحل الوزير إلى همذان فأقام بها نحو ثلاثة أشهر وأتته رسل/ خوارزم شاه بطلب إعادة البلاد وتقرير قواعد الصلح فلم يجب الوزير إلى ذلك. فسار خوارزم شاه محمد بن تكش إلى همذان فوجد الوزير قد توفى فى شعبان، فوقع بينه وبين عسكر الخليفة الناصر لدين الله مصافّ فى نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين، فقتل من العسكرين خلق كثير، وانهزم عسكر الخليفة، وغنم الخوارزميون منهم شيئا كثيرا، وملك خوارزم شاه همذان ونبش الوزير وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم وأظهر أنه قتله فى المعركة، ثم رجع خوارزم شاه إلى خراسان لموجب عرض له.(23/313)
ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهان
وفى سنة إحدى وتسعين جهّز الخليفة جيشا وسيّره إلى إصفهان، ومقدم الجيش سيف الدين طغرل فقطع بلد [اللحف] «1» من العراق، وكان بإصفهان عسكر الخوارزم شاه مع ولده، وأهل إصفهان يكرهونهم. فكاتب صدر الدين الخجندى رئيس الشافعية الديوان العزيز ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل إلى الديوان العزيز بالعسّكر. فلما وصلت العساكر ظاهر إصفهان فارقها العسكر الخوارزمى إلى خراسان وتبعهم عسكرا لخليفة، فأخذوا من قدروا عليه من ساقة العسكر، ودخل عسكر الخليفة إلى/ إصفهان وملكوها.
قال «2» : واجتمع مماليك ابن البهلوان وقدّموا على أنفسهم كوكجه وهو من أعيان البهلوانية، واستولوا على الرّىّ وما حولها من البلاد، وساروا إلى إصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فسمعوا بوصول عسكر الخليفة إليها. فأرسل إلى طغرل مملوك الخليفة يعرض نفسه على خدمة الديوان وأظهر العبودية وأنه إنما قصد إصفهان فى طلب العسكر الخوارزمى، وأنه ساق فى طلبهم فلم يدركهم.
قال «3» : ثم سار عسكر الخليفة من إصفان إلى همذان، وساق كوكجه خلف العسكر الخوارزمى إلى بلاد الإسماعيلية، وعاد فقصد(23/314)
إصفهان وملكها. فأرسل إلى بغداد يسأل أن تكون له الرى وجواره «1» وساوة «2» وقم وقاجان وما ينضم إليها، وتكون إصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة. فأجيب إلى ذلك، وكتب منشوره بما طلب، وأرسلت إليه الخلع، فعظم شأنه وقوى أمره وكثرت عساكره.
وفى سنة إحدى وستمائة يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قطعت خطبة ولىّ العهد أبى نصر بن الخليفة الناصر لدين الله، وذلك أنه أظهر خطّه بدار الوزير نصير الدين الرازى إلى أبيه يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد، ويطلب الإقالة، وشهد عدلان أنه/ خطه وأن الخليفة أقاله، وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعلماء والعدول والفقهاء.
وفى سنة أربع وستمائة عزل وزير الخليفة نصير الدين ناصر ابن مهدى العلوى، وكان من أهل الدين. قدم إلى بغداد لما ملك الوزير ابن القصّاب الرّىّ، فلقى نصير الدين من الخليفة قبولا فجعله نائب الوزارة، ثم استوزره وجعل ابنه صاحب المخزن.
فلما كان فى الثانى والعشرين من جمادى الآخرة، عزل وأغلق بابه.
وسبب عزله أنه ساعات سيرته مع أكابر مماليك الخليفة حتى هرب(23/315)
من يده أمير الحج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع إلى الشام فى سنة ثلاث وستمائة وكتب إلى الخليفة أن هذا الوزير لا يبقى فى خدمة الخليفة أحدا من مماليكه، ولا شك أنه يريد أن يدّعى الخلافة، وأكثر النّاس القول فى ذلك وقالوا فيه الشعر، فمنه قول بعضهم:
ألا مبلغ عنّى الخليفة أحمدا ... توقّ وقيت السّوء ما أنت صانع
وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... فعالك يا خير البريّة ضائغ
فإن كان حقّا من سلالة أحمد ... فهذا وزير فى الخلافة طامع
وان كان فيما يدّعى غير صادق ... فأضيع ما كانت لديه الصّنائع
فعزله، وقيل فى سبب عزله غير ذلك. ولما عزل عاد أمير الحج/ من مصر وعاد قشتمر، وأقيم فى نيابة الوزارة فخر الدين أبو المنذر «1» محمد بن أمسنا الواسطى إلا أنه لم يكن متحكما.
وفيها أطلق الخليفة جميع حقّ البيع، وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات، وكان مبلغا كبيرا. وسبب ذلك أن ابنة عز الدين نجاح الشرابى توفيت فاشترى بقرة لتذبح ويتصدق بلحمها، فرفعوا فى حسابها مؤونة البقرة- وكانت كثيرة- فوقف الخليفة على ذلك، فأمر بإطلاق المؤونة جميعا.
وفيها فى شهر رمضان أمر الخليفة ببناء دور بمحال بغداد يفطر فيها الفقراء وسمّيت دور الخلافة.(23/316)
وفى سنة ستّ وستمائة فى شهر ربيع الأول عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة، وألزم بيته، ثم نقل إلى المخزن، وولى بعده لنيابة الوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن القمى كاتب الإنشاء ولقب مؤيد الدين، ونقل إلى دار الوزارة.
وفى مسنة اثنتى عشرة وستمائة فى العشرين من ذى القعدة توفى الملك المعظم أبو الحسن على ولد الخليفة الناصر لدين الله- وهو الولد الصغير- فحصل للخليفة عليه ألم عظيم لم يسمع بمثله، وأمر الخليفة أن لا يعزّوه به وكانت له جنازة عظيمة لم يسمع بمثلها، ولم ييق ببغداد منزل إلا وفيه نعى.
ذكر وفاة الناصر لدين الله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته فى آخر ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وكانت علّته عشرين يوما إصابة دوسنطاريا. وكانت مدة خلافته ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما، قال ابن الأثير «1» : وكان قبيح السيرة فى رعيته ظالما، فخرّب فى أيامه العراق وتفرّق أهله فى البلاد، فأخذ أموالهم وأملاكهم.
وكان كثير التلوّن يفعل الشىء وضدّه، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ثم قطعها، ثم عمل دارا لضيافة الحج وأبطلها، وأطلق بعض المكوس التى جددها ببغداد ثم أعادها، وجعل جلّ همه(23/317)
فى رمى البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوّة، وبطل الفتوة من البلاد أجمع إلا من لبس منه، ومنع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع من الرّمى بالبندق إلا من ادّعى له وانتسب إليه. فأجابه النّاس إلى ذلك إلا رجلا واحدا يقال له ابن السفت فإنه فارق العراق والنحق بالشام فأرسل إليه يرغبه بالمال الجريل/ ليرمى عنه وينتسب إليه فأبى. فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك فقال: يكفينى افتخارا أنّ كل رام فى الدنيا رمى الخليفة إلا أنا! والعجم ينسبون إلى الناصر أنه هو الذى راسل التتار وجرّأهم على البلاد، وهذه المصيبة العظمى إن كانت!
ذكر خلافة الظاهر بأمر الله
هو أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله، وهو الخليفة الخامس والثلاثون من الخلفاء العباسيين. بويع له البيعة العامّة بعد وفاة والده الناصر لدين الله فى شوال سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان قد خلع من ولاية العهد وقطعت خطبته كما تقدّم، وإنما فعل ذلك أبوه لميله إلى ولده الصغير، فلما مات اضطر إلى أعادته لولاية العهد.
قال «1» ولما ولى الخلافة أظهر العدل والإحسان وأمر بإبطال المظالم وكفّ الأيدى عن الناس، وأعاد على الناس ما كان أبوه قد اغتصبه من أموالهم وأملاكهم، وأبطل المكوس والحوادث. فمن ذلك أن المخزن كان له صنجة للذهب تزيد على صنجة البلد نصّف(23/318)
قيراط فى الدينار، فيقبضون بها المال ويصرفون بصنجة البلد، فسمع بذلك فخرج/ خطه للوزير أوله: «ويل للمطففين إلى قوله ليوم عظيم «1» قد بلغنا الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصحيحة المتعامل بها. فكتب إليه بعض النواب يقول «إن هذا مبلغ كبير وقد حسبناه فكان فى السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار» فأعاد عليه الجواب بالإنكار ويقول: لو كان ثلاثمائة ألف دينار وخمسين ألفا يطلق،! وأطلق زيادة صنجة الديوان وهى فى كل دينار حبة، وتقدم إلى القاضى أنّ كل من عرض كتابا قديما بملك صحيح يعيده إليه من غير إذنه. وأقام رجلا صالحا لولاية الحشرى وبيت المال وكان حنبليا فقال: إن مذهبى أن أورث ذى الأرحام فان أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا! فقال أعط كلّ ذى حقّ حقّه واتّق الله ولا تتّق سواه! وأبطل مطالعات حراس الدروب ببغداد بأخبار الناس وقال «لا يكتب إلينا إلا فما يتعلق بمصالح دولتنا» .
ومنه أنه لما ولى الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان وجّه فى خلافة الناصر لتحصيل الأموال، فأحضر ما يزيد على مائة ألف دينار وطالع بذلك، فأعاد الخليفة الظاهر الجواب بإعادة المال إلى أربابه، فأعيد إليهم. وأطلق من كان فى السجون وأمر أن يحمل إلى القاضى/ عشرة آلاف دينار يوفى بها دين من هو فى سجن الحاكم على شىء يعجز عنه. وتصدّق فى ليلة عيد الفطر(23/319)
وفرّق فى العلماء وأهل الدين مائة ألف دينار، ولم تطل مدّته فى الخلافة.
وكانت وفاته فى رابع عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فكانت مدة خلافته منذ أفضى إليه الأمر تسعة أشهر وأربعة عشر يوما. قال «1» : وأخرج قبل وفاته توقيعا بخطه إلى الوزير ليقرأ على أرباب الدولة فقال الرسول: إنّ أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم أو نفذ مثال لا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوال! فقرأ المرسوم فإذا فبه بعد البسملة «اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا ولكن نبلوكم أيكم أحسن عملا، وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشنعة وإظهار الباطل الجلىّ فى صورة الحسن الخفىّ حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاحتياج استيفاء واستدراكا لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون/ إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقّه فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون. والآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقا. ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصرّ، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى فيخوفكم(23/320)
مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم فى طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله فى أرضه وأمنائه على خلقه وإلّا هلكتم، والسلام» قال «1» :
ووجد فى داره رقاع مختومة لم يفتحها فقيل له: ما عليك لو فتحتها! فقال: لا حاجة لنا فيها كلها سعايات!
ذكر خلافة المستنصر بالله
هو أبو جعفر المنصور ولقّب فى خلافته بالمستنصر بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، وهو الخليفة السادس والثلاثون من الخلفاء العباسيين. بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله فى رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فسلك من العدل والخير والإحسان مسلك والده، ونادى بإفاضة/ العدل وأن يطالع الناس بحوائجهم. ولما كان أول جمعة أتت فى خلافته أراد أن يصلى الجمعة فى القصورة التى يصلى فيها الخلفاء فقيل له إن المطبق الذى يسلك إليها فيه خراب لا يسلك فركب فرسا وسار إلى الجامع ظاهرا للناس بخادم وركاب دار وعليه قميص أبيض وعمامة بيضاء بسكاكين حرير، ولم يترك أحدا يمشى فى خدمته. وكذلك فعل فى الجمعة الثانية حتى صلح المطبق! وفى سنة خمس وثلاثين وستمائة كانت وقعة بين التتار وعساكر الخليفة، وكان مقدم العسكر الحليفتى «2» جمال الدين بكلك(23/321)
الناصرى. وقتل من الطائفتين خلق كثير، فانهزم عسكر الخليفة وهو أول مصاف كان بين التتار وعسكر الخلفاء، ودامت أيام المنتصر إلى سنة أربعين وستمائة.
وكانت وفاته بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة منها، وكان سبب وفاته أنه فصد بمبضع مسموم فتوفى. وكانت مدّة خلافته سبع عشرة سنة إلا ثلاثة وثلاثين يوما، وكان الناس فى زمن خلافته فى شغل شاغل عن ضبط أيامه بالتاريخ، لما دهمهم من حادثة التتار «1» . فلذلك اختصرنا أيامه وسترد أخبار التتار وخروجهم وما استولوا عليه من الممالك وما فعلوه بأهل البلاد مبيّنا عند ذكرنا للدولة الخوارزمية والجنكزخانية- إن شاء الله تعالى.
ذكر خلافة المستعصم بالله
هو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبى جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد بن المستضىء بأمر الله أبى محمد الحسن بن المستنجد بالله أبى المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله أبى عبد الله بن المستظهر بالله أبى العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن ذخيرة(23/322)
الدّين أبى العباس أحمد بن القائم بأمر الله أبى جعفر عبد الله بن القادر بالله أبى العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفق بالله أبى أحمد طلحة- وهو الملقّب بالناصر- ولم يل الخلافة- بن المتوكل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن الرشيد أبى محمد هرون بن المهدى أبى عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس- رضى الله عنه- بن عبد المطلب، وهو الخليفة السابع والثلاثون من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه المستنصر بالله فى يوم الجمعة لعشر خلون/ من جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة.
وكان متديّنا متمسكا بمذهب السّنّة والجماعة، وحسّن له أصحابه جمع الأموال والاقتصار على بعض من ببغداد من الجند، وقطع الباقى، ومسالمة التتار وحمل القطيعة إليهم ليكفّوا عنهم، وقالوا له: هؤلاء ملكوا معظم بلاد الإسلام ولم يقف أحد من الملوك أمامهم» ! فأذعن إلى ذلك.
وفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة قصد التتار بغداد، حتى انتهوا إلى ظاهرها ونهبوا ما مرّوا عليه من البلاد، فخرجت إليهم العساكر الخليفتية فأجّجوا النيران بالليل ورحلوا، ودامت أيام المستعصم بالله إلى أن ملك التتار بغداد.
ذكر مقتل المستعصم بالله وانقراض الدولة العباسية واستيلاء هولاكو على بغداد
كان مقتله فى العشرين من المحرم سنة ستّ وخمسين وستمائة عندما استولى هولاكو على بغداد على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار(23/323)
التتار. ولما ملك هولاكو بغداد أحضر الخليفة المستعصم بالله وأمر أن يجعل فى عدل ويداس بأرجل الخيل حتى يموت، ففعل به ذلك «1» /ومن عادة التتار أن لا يسفكوا دماء الملوك والأكابر، وسبى كلّ من حواه قصر الخلافة من الحريم، واستولى على ذخائر الخلفاء، ونهبت بغداد، وبذلوا السيف فيها سبعة أيام متوالية ثم رفع فى اليوم الثامن «2» . وكانت خلافة المستعصم بالله خمسة عشر سنة، وسبعة أشهر، وعشرة أيام. وكان الذى بعث هولاكو على قصد بغداد أنّ الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمى كان شيعيا والشيعة يسكنون بالكرخ وهى محلة مشهورة بالجانب الغربى من بغداد، فأحدث أهلها حدثا فأمر الخليفة ينهبهم فنهبهم العوام، فوجد «3» الوزير لذلك وكاتب هولاكو، وأخذ فى التدبير على الخليفة وقطع أرزاق الجند، وأضعفهم حتّى تمكّن التتار من أخذ البلاد.
قال «4» : ولما فتح هولاكو بغداد وأحضر الوزير المذكور فقال:
كيف كانت حالك مع الخليفة؟ فذكر ما كان عليه من التقدّم ونفاذ الكلمة وكثرة الأتباع وأنه كان يركب فى جمع عظيم، فقال:
إذا كان هذا فعلك فى حقّ من قدّمك وأحسن إليك كيف يكون منك(23/324)
معنا؟ وأمر بقتله. وقيل استبقاه وأنّ امرأة رأته فى يوم وهو على برذون ليس معه أحد فنظرت إليه وقالت: يابن العلقمى هكذا كنت فى أيام أمير المؤمنين «1» ؟
جامع أخبار خلفاء الدولة العباسية بالعراق ومن ولى منهم ومدة خلافتهم
ولى منهم بالعراق سبعة وثلاثون خليفة وهم: أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس وهو السفاح، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله أخوه، ثم المهدى أبو عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور، ثم ابنه الهادى أبو محمد موسى، ثم أخوه الرشيد أبو محمد هارون، ثم ابنه الأمين أبو عبد الله محمد، ثم أخوه المأمون أبو العباس عبد الله، ثم أخوه المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد وهو أول من أضاف إلى لقبه اسم الله عزّ وجل، ثم ابنه الواثق بالله أبو جعفر هارون، ثم أخوه المتوكل على الله أبو الفضل جعفر، ثم ابنه المنتصر بالله أبو جعفر محمد، ثم المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله، ثم المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل، ثم المهتدى بالله أبو عبد الله محمد بن الواثق، ثم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله، ثم المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل، ثم المكتفى بالله أبو محمد على بن المعتضد، ثم المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن(23/325)
/ المعتضد وخلع مرتين فالأولى بويع لابن المعتز والثانية بويع للقاهر، ثم القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد، ثم الراضى بالله أبو العباس أحمد بن المقتدر، ثم المتقى لله أبو إسحاق إبراهيم ابن المقتدر، ثم المستكفى بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفى، ثم المطيع لله أبو القاسم الفضل بن المقتدر، ثم الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن المطيع، ثم القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحاق ابن المقتدر، ثم القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر، ثم المقتدى بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العباس أحمد بن القائم، ثم المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدى، ثم المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن المستظهر، ثم الراشد بالله أبو العباس جعفر المنصور بن المسترشد، ثم المقتفى لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر، ثم المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفى ثم ابنه المستضىء بأمر الله أبو محمد الحسن، ثم ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد، ثم ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد، ثم ابنه المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، ثم ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله.
وكانت مدّة خلافتهم منذ بويع أبو العباس السفاح وإلى أن قتل المستعصم بالله/ خمسمائة سنة وثلاثا وعشرين سنة وعشرة أشهر وستة أيام وانقرضت الدّولة العباسية وانقطعت دعوتهم من سائر أقطار الدنيا ثلاث سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما إلى أن عادت بالدّيار المصرية المحروسة فى الدولة الظاهرية(23/326)
ذكر عود الدولة العباسية وقيامها بالديار المصرية المحروسة
ذكر خلافة المستنصر بالله
هو أبو العباس أحمد بن الظاهر بأمر الله أبى نصر محمد بن الناصر لدين الله أبى العباس أحمد، بويع له بالخلافة بالدّيار المصرية فى التاسع من شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة.
وذلك أنه وصل إلى الديار المصرية فى هذا اليوم، فركب السّلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس للقائه فى موكب مشهود، وأنزله بقلعة الجبل وأمر بإثبات نسبه. وحضر الأمراء والوزير وقاضى القضاة ونوّاب الحكم والفقهاء والصلحاء وأكابر المشايخ وأعيان الصوفية واجتمعوا بقاعة/ العمد بقلعة الجبل وأمر السّلطان بإحضار العربان الذين حضروا مع الخليفة فحضروا وحضر خادم من البغاددة فسئلوا عنه هل هو أحمد بن الظاهر فقالوا إنه هو! فتشهد جماعة من القضاة الأكابر بالاستفاضة وهم: جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر والفقيه علم الدين ابن رشيق صدر الدين مرهوب الجزرى ونجيب الدين الحرانى، وسديد الدين التزمنتى «1» نائب الحكم بالقاهرة. أنه هو فأسجل قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأغر وحلف على نفسه بثبوت(23/327)
نسبه وهو قائم على قدميه، ولقّب المستنصر بالله على اسم أخيه.
وبايعه السلطان على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وأخذ الأموال بحقّها وصرفها فى مستحقّها، ثم بايعه النّاس على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم.
ولما تمّت بيعته قلّد السلطان البلاد الإسلامية وما يضاف إليها وما يفتحه الله تعالى على يديه من البلاد، وكتب السلطان إلى سائر الأعمال بأخذ البيعة له، وأن يخطب باسمه على المنابر، وتنقش السّكّة باسمه واسم السلطان. وخطب الخليفة بالناس فى يوم الجمعة السابع عشر من شهر رجب بجامع القلعة، ونثرت عليه الدنانير والدراهم، وخلع على السلطان/ وطوقه يوم الإثنين «1» .
واستخدم السلطان للخليفة من يحتاج إليه من أرباب الوظائف فجعل الأمير سابق الدين بوزبا «2» أتابك العسكر، وكتب له بألف فارس وجعل الطواشى بهاء الدين صندل شرابيا وكتب له بخمسمائة فارس والأمير ناصر الدين محمد بن صريم «3» خزندارا وكتب له بمائتى فارس، والأمير نجم الدين أستاذ الدار وكتب له(23/328)
بخمسمائة فارس، والأمير سيف الدين بلبان الشمسى داوادارا وكتب له بخمسمائة فارس. وأمر جماعة من العربان بالطبلخانات واشترى للخليفة مائة مملوك جعلهم جمدارية وسلحدارية وأعطى كلّا منهم ثلاثة أرؤس خيل وجملا لعدته. واستخدم له صاحب ديوان وكتّاب إنشاء وأئمة ومؤذنين، وحكماء وجرائحية «1» ، وغلمانا. وكمّل له البيونات وجهّزه وجهّز معه ملوك الشرق الذين كانوا قد وصلوا إلى السلطان وهم:
الملك الصالح عماد الدين «2» إسماعيل بن الملك الرحيم صاحب الموصل، وكتب له بالموصل وولاياتها ورساتقها ونصيبين وولاياتها، ودارا وأعمالها، والقلاع العمادية وبلادها، وغير ذلك مما جاوره. وكتب للملك المجاهد سيف الدين إسحق أخيه بلاد الجزيرة، وكتب للملك المظفر علاء الدين على سنجار وأعمالها التى كانت بيده. وأرسل إليهم الطبلخانات والسناجق، وتقدم إليهم بسفرهم/ صحبته إلى الشام ليجهزهم إلى مستقرهم صحبة الخليفة.
ذكر مسير الخليفة المستنصر بالله إلى بلاد الشرق وقتله
قال «3» : وتوجه الخليفة والسلطان والملوك إلى الشام فى سادس شوال من السنة، وكان مبلغ النفقة على الخليفة والملوك(23/329)
ألف ألف دينار وستين ألف دينار عينا، ووصلوا إلى دمشق. ونزل الخليفة بجبل الصالحية فى برية الملك الناصر «1» ، وجرد السلطان عسكرا صحبه الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى وشمس الدين سنقر الرومى وودع السلطان الخليفة والملوك وسفرهم وأوصى الرشيدىّ والرومىّ ومن معهما أن يقيموا بجهة حلب وبر الفرات ومتى طلبهم الخليفة ساروا إليه.
وسار الخليفة من دمشق وعبر الفرات- ولم يتأنّ فى أمره- فوصل عانة والحديثة. فخرج عليه مقدم من مقدمى التتار اسمه أورداى ومعه بمانا «2» ، فالتقوا واقتتلوا فاستشهد الخليفة، وقتل أكثر من كان معه.
وأما عن الملك الصالح «3» فإنه دخل الموصل وملكها واستقرّ بها، فسار إليه أورداى المذكور وحاصره، وملك البلد، وصلبه هو وابنه على باب الموصل، وانهزم أخواه الملك المجاهد والمظفر علىّ إلى الديار المصرية، فأقاما بها إلى أن ماتا فى الدولة المنصورية السيفية، رحمهما الله.
وانقضت الخلافة، وانقرضت الدّولة العباسية ثانية من سائر(23/330)
الأرض، وتعطّلت المنابر من ذكر دعوتهم إلى أن عادت بالديار المصرية أيضا ببيعة الخليفة الحاكم بأمر الله أبى العباس أحمد.
ذكر خلافة الحاكم بأمر الله
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن أبى بكر بن الحسن بن على الفتى بن الحسن بن الخليفة الراشد بالله بن جعفر المنصور بن المسترشد بالله وقد تقدم نسبه مستوفى. بويع له بالخلافة بالديار المصرية فى يوم الخميس الثانى من المحرم سنة إحدى وستين وستمائة. وذلك أنه وصل إلى الديار المصرية فى سنة ستين وستمائة، فلما كان فى هذا اليوم جلس السلطان الملك الظاهر مجلسا عاما، وحضر الخليفة راكبا إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل.
وجلس إلى جانب السلطان. وبايعه بعد ثبوت نسبه كما بايع المستنصر، ثم قلّد السلطان أمور البلاد والجيوش./ وبايعه النّاس على اختلاف طبقاتهم، وكان ذلك بحضور الرسل ومن وفد من التتار «1» .
وخطب يوم الجمعة بجامع القلعة، ثم خطب مرة ثانية فى ثامن عشر شعبان بحضور رسل بركة، ودعا للسلطان وللملك بركة «2» وصلّى بالناس. وحجب عن الناس ببرج فى القلعة إلى سنة تسعين وستمائة، فأخرجه السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين(23/331)
المنصورى من البرج وأسكنه بالمناظر الصالحية المعروفة بالكبش ووسّع عليه فى رزقه ورزق أولاده.
وحجّ فى هذه السنة ورجع، فكان بالمناظر إلى أن مات. وكانت وفاته فى الثامن عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة فى دولة السلطان الملك الناصر الثانية وصلّى عليه الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلّى الصوفى- شيخ الصوفية بمشهد السيدة نفيسة- ودفن بجوار المشهد. وكانت مدة خلافته أربعين سنة وأربعة أشهر، وستة عشر يوما. وهو أول خليفة دفن بمصر من الخلفاء العباسيين، رحمه الله.
ذكر خلافة المستكفى بالله
هو أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله/ وهو الثالث من خلفاء بنى العباس بمصر، والخليفة الأربعون من خلفائهم. بويع له يوم وفاة والده الحاكم بأمر الله فى الثامن عشر من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة وخطب له على المنابر وحضر مع السلطان الملك الناصر مصافّ مرج الصّفر «1» الذى انهرم فيه التّتار فى ثانى شهر رمضان سنة اثنتين وسبعمائة.(23/332)
واستمر فى صحبة السلطان، يركب معه إلى الصيد وإلى الميدان، ويلعب الكرة. وسكن بمناظر الكبش وغيرها من المساكن الحسنة المترفة على نهر النيل، ورتّب له من النفقات والكساوى وغير ذلك ما يحتاج إليه هو ومن عنده. وكذلك رتّب لابن أخيه إبراهيم، ولم يحجر السلطان عليهما، بل يركب كلّ منهما متى شاء ويزور من شاء «1» .(23/333)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية ببلاد الأندلس «1»
كان ابتداء هذه الدولة فى سنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائة، فى خلافة أبى جعفر المنصور الثانى من الخلفاء العباسيين،
وأول من ملك بلاد الأندلس من بنى أمية أبو المظفر عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان.
وقيل كنيته أبو المطرّف، وقيل أبو سليمان، وقيل أبو زيد، وأمه بربرية من سبى أفريقية واسمها راح ولقّب عبد الرحمن بالدّاخل عند دخوله. وكان استيلاء عبد الرحمن على الأندلس فى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وقيل تسع وثلاثين. وكان سبب دخوله إليها واستيلائه عليها أنه لما قتل مروان بن محمد، وانقرضت الدولة الأموية، وقتل من قتل من بنى أمية، وتشتتوا فى البلاد....(23/334)
/ كان عبد الرحمن هذا بذات الزّيتون «1» ففرّ منها إلى فلسطين، فأقام بها هو ومولاه بدر يتجسّس له الأخبار، فحكى عنه أنه قال:
«لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبى فطرس «2» أتانى الخبر وكنت منتبذا عن الناس. فرجعت إلى منزلى آيسا ونظرت فيما يصلحنى وأهلى، وخرجت خائفا حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض. فبينا أنا ذات يوم فيها وولدى سليمان يلعب بين يدى- وهو يومئذ ابن أربع سنين- فخرج عنى ثم دخل علىّ باكيا فزعا، فتعلق بى وجعلت أدفعه، وخرجت لأنظر فإذا بالخوف قد نزل بالقرية والرايات السّود منحطّة عليها وأخ لى حدث يقول لى: النجاة النجاة! فأخذت دنانير معى ونجوت بنفسى وأخى وأعلمت أخواتى بمقصدى وأمرتهنّ أن يلحقننى مولاى بدرا [- قال-] وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لى أثرا. فأتيت رجلا من معارفى وأمرته فاشترى لى دوابّ وما يصلحنى فدلّ علىّ عبد له العامل، فأقبل فى خيله يطلبنى فخرجنا على أرجلنا والخيل تبصرنا، فدخلنا الفرات فسبحنا فنجوت أنا والخيل ينادون بالأمان وأنا لا أرجع وأما أخى فإنه عجز عن السباحة فى نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان، فقتلوه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت ثكله/ ومضيت وتواريت فى غيضة حتى انقطع الطّلب عنى. وخرجت فقصدت(23/335)
المغرب فبلغت أفريقية، ثم ألحقتنى أختى أمّ الإصبع مولاى بدرا بنفقة وجوهر.
قال المؤرخ «1» : ولما بلغ أفريقية كان بها عبد الرحمن بن حبيب الفهرى عاملا لمروان بن محمد، فظنّ عبد الرحمن بن معاوية أن ابن حبيب يرعاهم ويحوطهم ويحسن مجاورتهم. فلما علم ابن حبيب أن مروان قد قتل وأن أهله وولده قد تفرقوا وأن رجاله قد استأمنوا إلى أعمال أبى العباس السّفاح طلب لنفسه السلامة، وكتب بالسّمع والطّاعة، وأراد قتل عبد الرحمن بن معاوية ومن معه والتقرّب بهم إلى عمال السفاح. وأرسل فى طلبه فهرب منه وأتى مكناسة وهى قبيلة من البربر وعندهم شدة، ثم هرب منهم وأتى نفراوة «2» وهم أخواله. وقيل أتى قوما من الزناتيين فأحسنوا قبوله فيهم وأخذوا فى التدبير والمكاتبة إلى الأمويين من أهل الأندلس يعلمونهم بقدومه ويدعونهم إلى عبد الرحمن.
ووجه بدرا مولاه إليهم، وكان أمير الأندلس يومذاك يوسف ابن عبد الرحمن الفهرى فسار بدر إليهم وأعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه فأجابوه، ووجّهوا إليه مركبا فيه تمّام بن علقمة ووهب بن الأصفر وشاكر بن أبى الأسمط، فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم، وأخذوه ورجعوا به إلى الأندلس/ فأرسى بالمركب(23/336)
بالجزيرة فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائة. فأتاه جماعة من رؤسائهم من أهل إشبيلية «1» ، ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه إبراهيم بن شجرة عاملها «2» . ثم سار إلى إشبيلية فبايعه أبو صالح يحيى بن يحيى، ونهض إلى قرطبة فبلغ خبره يوسف بن عبد الرحمن وكان غائبا عن قرطبة بنواحى طليطلة «3» ، فأتاه الخبر وهو راجع إلى قرطبة فتراسل هو ويوسف فى الصلح فخادعه، فلم يشك أصحاب يوسف فى انتظام الصّلح وذلك فى يومين أحدهما يوم عرفة، فأقبل يوسف فى إعداد الطعام ليأكله الناس فى يوم الأضحى وعبد الرحمن يرتّب خيله ورجله وعبر النهر فى أصحابه.
وأنشب القتال ليلة الأضحى، وصبر الفريقان حتى ارتفع النهار، وركب عبد الرحمن على بغلة وأسرع القتل فى أصحاب يوسف فانهزم وظفر عبد الرحمن بن معاوية. ولما انهزم يوسف(23/337)
أتى ماردة «1» وأتى عبد الرحمن قرطبة، وأخرج حشم يوسف وأهله من القصر على تؤدة ورفق، ودخله بعد ذلك. ثم سار فى طلب يوسف، فلما أحس به يوسف سار إلى قرطبة فدخلها وملك قصرها، وأخذ جميع أهله وماله، ولحق بمدينة إلبيرة «2» .
ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة فلم يجده فسار إلى إلبيرة، وتراسلا فى الصلح فاصطلحا على أن ينزل/ يوسف هو ومن معه بأمان وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة ويرهنه يوسف ابنه أبا الأسود محمدا وسار يوسف مع عبد الرحمن إلى قرطبة فلما دخل قرطبة تمثل:
فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة تتنصّف
قال «3» واستقر عبد الرحمن بقرطبة وبنى القصر والمسجد الجامع، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه «4» .(23/338)
ذكر مقتل عبد الرحمن بن يوسف الفهرى
قال «1» : وفى سنة إحدى وأربعين ومائة نكث يوسف بن عبد الرحمن الفهرى، وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه فى أملاكه، فإذا أظهر حجّته الشرعية لا يعمل بها، ففطن لما يراد منه. فقصد ما ردة واجتمع عليه عشرون ألفا فسار نحو عبد الرحمن، وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه إلى حصن المدور «2» ثم رأى يوسف أن يسير إلى عبد الملك ابن عمر بن مروان- وكان واليا على إشبيلية وإلى ابنه عمر بن عبد الملك وكان على المدوّر- فسار نحوهما فخرجا إليه واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب يوسف، وبقى متردّدا فى البلاد فقتله بعض أصحابه فى شهر/ رجب سنة اثنتين وأربعين ومائة بنواحى طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن بن معاوية فنصبه بقرطبة وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذى كان عنده رهينة ونصب رأسه مع رأس أبيه وبقى ابنه الأسود عند عبد الرحمن.
وفى سنة ثلاث وأربعين ومائة ثار رزق بن النعمان الغسّانى وكان على الجزيرة الخضراء «3» . فاجتمع إليه خلق كثير، فسار(23/339)
إلى شذونة «1» فملكها ودخل مدينة إشبيلية. وعاجله عبد الرحمن فحصره بها وضيّق على من فيها، فتقربوا إليه بتسليمه له.
وأمّنهم ورجع عنهم.
وفى سنة أربع وأربعين ومائة ثار هشام بن عذرة الفهرى وهو من بنى عمّ يوسف بن عبد الرحمن الفهرى بطليطلة فحاصره الأمير عبد الرحمن وشدّد عليه الحصار فمال إلى الصلح وأعطاه ابنه أفلح رهينة فأخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة. ثم عاد هشام وخلع عبد الرحمن، فعاد إليه وحاصره ونصب المجانيق عليها [أى على طليطلة] فلم يؤثر فيها لحصانتها فقتل ابنه أفلح ورمى برأسه إلى أبيه فى المنجنيق ورحل إلى قرطبة. ولم يظفر بهشام فى هذه السنة واستمر إلى سنة سبع وأربعين ومائة فبعث عبد الرحمن مولاه بدرا وتمام بن علقمة فحصرا طليطلة وضيّقا على هشام ثم أسراه هو وحيوة بن الوليد اليحصبى وعثمان بن حمزة/ بن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فأتى بهم إلى عبد الرحمن بن معاوية فى جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم.
وركبوا الحمير وهم فى السلاسل. فصلبهم بقرطبة!(23/340)
ذكر خروج العلاء وقتله
وفى سنة ستّ وأربعين ومائة سار العلاء بن مغيث اليحصبى من أفريقية إلى مدينة باجة «1» من الأندلس، ولبس السواد وقام بالدّعوة العباسية. وخطب لأبى جعفر المنصور، واجتمع إليه خلق كثير. فخرج إليه الأمير عبد الرحمن فالتقيا بنواحى إشبلية وتحاربا زمانا، فانهزم العلاء وأصحابه، وقتل فى المعركة سبعة آلاف فارس وقتل العلاء، فأمر عبد الرحمن بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس أصحابه إلى القيروان وإلقائها فى السّوق سرّا ففعل ذلك.
ثم حمل منها إلى مكة ومعه لواء أسود فوصلت والمنصور بمكة ومعه كتاب كان المنصور قد كتبه إلى العلاء «2» .
وفى سنة سبع وأربعين ومائة قدم رسول عبد الرحمن الذى أرسله إلى الشام فى إحضار ولده الأكبر سليمان، وحضر معه سليمان.
ذكر خروج سعيد اليحصبى المعروف بالمطرى وقتله
/ قال «3» : وكان خروجه فى سنة ثمان وأربعين ومائة بمدينة لبلة «4» من الأندلس وسبب ذلك أنه سكر يوما، فتذكّر(23/341)
من قتل من قومه اليمانية مع العلاء، فعقد لواء فلما صحا رآه معقودا، فسأل عنه فأخبروه فأراد حلّه ثم قال: ما كنت لأعقد لواء ثم أحلّه بغير شىء وشرع فى الخلاف، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلّب عليها وكثر جمعه، فبادره عبد الرحمن فى جموعه. فامتنع المطرى فى قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فحصره بها وضيق عليه، ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه.
وكان قد وافقه على الخلاف علقمة اللخمى وكان بمدينة شذونة وقد انضاف إليه جماعة من رؤساء القبائل وهم يريدون إمداد المطرىّ فى جمع كثير. فلما سمع عبد الرحمن بذلك سيّر إليهم بدرا مولاه فى جيش فحال بينهم وبين المطرىّ، وطال الحصار وقلّت رجاله بالقتل، وفارقه بعضهم. فخرج يوما من القلعة فقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فقدّم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فدام الحصار عليها. فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن على أن يسلموا إليه خليفة فأجابهم إلى ذلك، وتسلّم الحصن وخرّبه وقتل خليفة وخلقا كثيرا ممّن معه ثم انتقل إلى غياث الأزدى وكان ممّن وافق المطرىّ على الخلاف/ فحصره ومن معه وضيّق عليهم فطلبوا الأمان فأمّنهم إلا نفرا فقبض عليهم، وعاد إلى قرطبة فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدى بكورة جيّان «1» واجتمع إليه(23/342)
جموع فأغار على قرطبة فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فتفرق جمعه، فطلب الأمان فأمنه ووفى له.
وفى سنة تسع وأربعين ومائة أغزى عبد الرحمن مولاه بدرا إلى بلاد العدو فأخذ الجزية منهم.
وفيها عزل عبد الرحمن أبا الصباح حىّ بن يحيى عن إشبيلية فدعاه إلى الخلاف، فخدعه عبد الرحمن حتى حضر عنده فقتله.
وفيها خرج غياث بن المسيّر الأزدى، فخرج إليه عامل عبد الرحمن وقاتله فانهزم غياث ومن معه، وقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة.
وفيها أمر عبد الرحمن ببناء سور مدينة قرطبة.
ذكر أخبار شقنا «1» بن عبد الواحد وخروجه بالأندلس
كان خروجه بشرق الأندلس فى سنة إحدى وخمسين ومائة وكان من بربر مكناسة يعلّم الصبيان وكانت أمّه تدعى فاطمة فادّعى أنه من ولد فاطمة رضى الله تعالى عنها وأنه من ولد الحسين، وتسمّى بعبد الله بن/ محمد وسكن شنتبرية «2» واجتمع(23/343)
عليه خلق كثير من البربر وعظم أمره فسار إليه عبد الرحمن فلم يقف له وزاغ فى الجبال، فكان إذا أمن انبسط وإذا خاف صعد الجبال حيث يصعب طلبه. فاستعمل عبد الرحمن على طليطلة حبيب بن عبد الملك، واستعمل حبيب على شنتبرية سليمان بن عفان ابن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه، وأمر بطلب شقنا فنزل شقنا إلى سليمان فقتله. واشتدّ ذكر شقنا وطار اسمه، وغلب على ناحية قورية «1» ، وأفسد فى الأرض، فعاد عبد الرحمن وغزاه فى سنة اثنتين وخمسين ومائة بنفسه، فلم يثبت له شقنا، فأعياه أمره فعاد عنه، وسير إليه فى سنة ثلاث وخمسين بدرا مولاه، فهرب شقنا وأخلى حصنه شيطران، ثم غزاه عبد الرحمن بنفسه فى سنة أربع وخمسين فلم يثبت له، فعاد عنه وبعث لحربه أبا عثمان عبد الله بن عثمان فخدعه شقنا وأفسد عليه جنده. فهرب عبد الله وغنم شقنا عسكره، وقتل جماعة من بنى أمية كانوا فى العسكر وذلك فى سنة خمس وخمسين ومائة.
وسار شقنا إلى حصن الهواريين وبه عامل لعبد الرحمن فمكر به شقنا حتى خرج إليه، فقتله وأخذ خيله وسلاحه وما كان معه. ولم يزل/ شقنا كذلك وعبد الرحمن يغزوه تارة بنفسه وتارة بجيوشه إلى سنة ستين ومائة فاغتاله أبو معن وأبو خريم وهما من أصحابه، فقتلاه وأخذا رأسه ولحقا بعبد الرحمن واستراح الناس من شره!(23/344)
ذكر عصيان أهل اشبيلية على الأمير عبد الرحمن
قال «1» : وفى سنة خمس وخمسين ومائة خرج أهل إشبيلية عن الطاعة مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس، وكان عبد الرحمن قد خرج من قرطبة لحرب شقنا واستخلف عليها ابنه سليمان فأتاه كتابة بخروجهم عن طاعته وعصيانهم عليه واتّفاق من بها من اليمانية على ذلك. فرجع عبد الرحمن إليها ولم يدخل قرطبة، وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم، فقدّم ابنه عمّه عبد الملك ابن عمر، فلما قارب عبد الملك إشبيلية قدّم ابنه أمية ليعلمه حالهم، فرآهم متيقظين فرجع إلى أبيه فلامه أبوه على رجوعه وإظهار الوهن، فضرب عنقه وجميع بنيه وخاصّته وقال: طردنا من المشرق إلى أقصى هذا الصّقع ونحسد على لقمة تبقى الرّمق، اكسروا جفون سيوفكم فالموت أولى أو الظفر! ففعلوا، وحمل أمامهم فهزم اليمانية/ وأهل إشبيلبة فلم يقم بعدها لليمانية قائمة.
وجرح عبد الملك وبلغ الخبر عبد الرحمن فأتاه وجرحه يجرى دما وسيفه يقطر وقد لصقت يده بقائمة سيفه، فقبّل بين عينيه وجزاه خيرا وقال له: يابن عم قد أنكحت ابنى ولىّ عهدى هشاما ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا وكذا، وأولادك كذا وكذا، وأقصعتك وإياهم كذا وكذا، ووليتك الوزارة! وعبد الملك هذا هو الذى ألزم عبد الرحمن بقطع خطبة(23/345)
المنصور وقال له: تقطعها وإلا قتلت نفسى! وكان قد خطب له عشرة أشهر وقطعها.
قال «1» : وفى سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية وقتل خلقا كثيرا ممّن كان مع عبد الغفار، وبسبب هذه الوقعة وغشّ العرب مال عبد الرحمن إلى اقتناء العبيد.
وفى سنة ستّ وخمسين سخط الأمير عبد الرحمن على مولاه بدر لفرط إدلاله عليه، وأخذ ماله وسلب نعمته ونفاه إلى الثغور ولم يرع له حقوق الخدمة.
وفى سنة ثمان وخمسين ومائة زا الأمير عبد الرحمن مدينة قورية وقصد البربر الذين كانوا أسلموا عامله إلى شقنا فقتل منهم خلقا كثيرا من أعيانهم!
ذكر عبور الصقلبى الى الأندلس وما كان من أمره إلى أن نتل
وفى سنة إحدى وستين ومائة وقيل سنة ستين عبر عبد الرحمن ابن حبيب الفهرى المعروف بالصقلبى- ولم يكن صقلبيا وإنما سمّى بذلك لطوله ورقته وشقرته- من أفريقية إلى الأندلس ليحارب عبد الرحمن ويدعوه إلى طاعة المهدى بن أبى جعفر المنصور. وكان(23/346)
عبوره فى ساحل تدمير «1» ، وكاتب سليمان بن يقظان بالدّخول معه، وكان سليمان ببرشلونة فلم يجبه، فاغتاظ الصقلبى وقصد بلده فيمن معه من البربر. فقصده سليمان والتقوا واقتتلوا، فهزمه سليمان، فعاد الصقلبى إلى تدمير، وجاء عبد الرحمن نحوه وأحرق السفن ليمنعه من الهرب، فقصد الصقلبى جبلا منيعا بناحية بلنسية «2» . فبذل عبد الرحمن ألف دينار لمن يأتيه برأسه فاغتاله رجل من البربر وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألف دينار، وكان قتله فى سنة اثنتين وستين ومائة.
وفى سنة اثنتين وستين ومائة أرسل عبد الرحمن شهيد بن عيسى إلى دحيّة الغسانى وكان عاصيا فى بعض حصون إلبيرة، فقتله وسير بدرا مولاه «3» /إلى إبراهيم بن شجرة وكان قد عصى عليه فقتله. وسير تمّام بن علقمة إلى العباس البربرى- وهو فى جمع البربر وأظهر العصيان- فقتله وفرق جموعه.
وفيها سيّر جيشا مع حبيب بن عبد الملك القرشى إلى القائد السّلمى، وكان حسن المنزلة عند عبد الرحمن. فشرب ليلة وقصد باب(23/347)
القنطرة ليفتحه على سكر، فمنعه الحرس فعاد. فلما صحا من سكره خاف فهرب إلى طليطلة واجتمع إليه كثير ممّن يريد الخلاف والثّمرّ فعاجله عبد الرحمن بإنفاذ الجيوش، فحصره فى مكان كان قد تحصّن به، فطلب السّلمى البراز فبرز إليه عبد أسود فاختلفا ضربتين فوقعا صريعين ومانا جميعا.
وفى سنة ثلاث وستين ومائة أظهر الأمير عبد الرحمن النّجهّز إلى الخروج لقصد الشام لطلب الثأر من بنى العباس فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصارى بسرقسطة «1» واشتدّ أمرهما فرجع عن ذلك وترك ما كان أظهره منه.
وفى سنة خمس وستين ومائة غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة ونكث، فسيّر إليه عبد الرحمن غالب بن تمام بن علقمة فى جند كثيف فاقتتلوا، فأسر جماعة من أصحاب الحسين فيهم ابنه عيسى، فسيّرهم إلى عبد الرحمن/ فقتلهم، وأقام غالب بن تمام بن علقمة يحاصر الحسين. ثم سار عبد الرحمن فى سنة ستّ وستين إلى سرقسطة فحصرها وضايقها ونصب عليها ستّة وثلاثين منجنيقا، فملكها عنوة وقتل الحسين أقبح قتلة، ونفى أهل سرقسطة منها ليمين كانت تقدّمت منه، ثم ردّهم إليها.(23/348)
وفى سنة ستّ وستين ومائة قتل عبد الرحمن ابن أخته المغيرة ابن الوليد بن هشام وهذيل بن الصّميل وسمرة بن جبلة لاجتماعهم على خلعه مع العلاء.
ذكر مخالفة أبى الأسود محمد بن يوسف الفهرى
وفى سنة ثمان وستين ومائة ثار أبو الأسود محمد بن يوسف ابن عبد الرحمن الفهرى ببلاد الأندلس. وكان من خبره أنه كان فى السجن بقرطبة منذ هرب أبوه على ما تقدّم، فأظهر أنه عمى وصار لا يطرف عينه لشىء، وبقى دهرا طويلا حتى صح عند عبد الرحمن ذلك. وكان فى أقصى السجن سرداب يفضى إلى النّهر الأعظم يخرج منه السجونون يقضون حوائجهم من غسل وغيره، وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه فإذا رجع من النهر بقول، من يدل الأعمى إلى موضعه! وكان مولى له/ بحادثه على شاطىء النهر فلا ينكر عليه.
فواعده أن يأتيه بخيل يحمله عليها فخرج يوما ومولاه ينتظره فعبر النهر سباحة وركب الخيل ولحق بطليطلة فاجتمع إليه خلق كثير فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن. فالتقيا على الوادى الأحمر بقسطلونة «1» واشتدّ القتال فانهزم ابن الفهرى، وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردّى فى النهر. وأتبعه عبد الرحمن فقتل(23/349)
من لحق حتى جاوز قلعة رباح، ثم جمع أبو الأسود الرجال وعاد إلى قتال عبد الرحمن سنة تسع وستين ومائة فهلك بقرية من أعمال طليطلة. وقام بعده أخوه قاسم وجمع جمعا فغزاه عبد الرحمن فجاء إليه بغير أمان فقتله وفى سنة سبعين ومائة أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة- وكان موضعه كنيسة- وأخرج عليه مائة ألف دينار، ولم يتم بناؤه فى حياته فأتمه ابنه بعده
ذكر وفاة عبد الرحمن وصفته وشىء من أخباره وسيرته
/ كانت وفاته بقرطبة فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة، وقيل توفى فى غرة جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهو الصحيح وصلّى عليه ابنه عبد الله، وكان قد عهد إلى ابنه هشام بمدينة ماردة واليا عليها، وابنه سليمان بطليطلة واليا عليها، فلم يحضرا موت أبيهما.
وكان مولد عبد الرحمن بدير حنا من عمل دمشق، وقيل بالعلياء من ناحية تدمر فى سنة ثلاث عشرة ومائة فكان عمره تسعا وخمسين سنة، ومدة ولايته بالأندلس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان أصهب «1» خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم أعور، وكان فصيحا لسنا شاعرا حليما عالما حازما، سريع النهضة فى طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة،(23/350)
ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل أموره إلى غيره، ولا ينفرد فى إبرامها برأيه. وكان يشبّه بأبى جعفر المنصور فى حزمه وشدّته وضبطه لملكه «1» ، وبنى الرصافة بقرطبة تشبها بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام، وقال «2» .: وكان عبد الرحمن من ذوى الآداب، وله شعر حسن، فمن شعره ما قاله بالأندلس يتشوق معاهده بالشام:
أيّها الراكب الميمّم أرضى ... أقر من بعضى السّلام لبعضى
إنّ جسمى كما علمت بأرض ... وفؤادى كما عملت بأرض
قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفونى غمضى
قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى
ومن شعره ما قاله لما عمّر الرصافة بقرطبة، وقد رأى فيها نخلة منفردة، فقال:
تبدّت لنا بين الرّصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النّخل
فقلت شبيهى فى التّغرّب مثلها ... وطول اكتئابى عن بنىّ وعن أهلى
نشأت بأرض أنت فيه غريبة ... فمثلك فى الإقصاء والمنتأى مثلى
سقتك غوادى المزن من صوبها الذى ... يسحّ وبستمرى السّماكين بالوبل «3»(23/351)
وله غير ذلك من الشعر. وسار أحسن سيرة وكان نقش خاتمه «بالله يثق عبد الرحمن ويعتصم» . وكان له من الأولاد الذكور أحد عشر ولدا وهم أيوب الشامى ولد بالشام، وسليمان وهشام ولى عهده وهو الوالى بعده ولد بالأندلس، وعبد الله ولد ببلنسية وعرف بالبلنسى ومسلمة المعروف بكليب وأمية، ويحيى، والمنذر، وسعيد الخير، ومحمد، والمغيرة، ومعاوية، وتسع بنات.
حاجبه: تمام بن علقمة وغيره.
كتّابه: أبو عثمان، وعبد الله بن خالد، وغيرهما قضاته: يحيى بن يزيد التجيبى ومعاوية بن يوسف/ الحضرمى، وعمر بن شراحيل، وعبد الرحمن ابن طريف اليحصى.
ذكر امارة هشام
هو أبو الوليد هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان وأمه أم ولد واسمها حوراء «1» وهو الثانى من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له فى غرّة جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين ومائة عند وفاة أبيه. وقيل فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين ومائة والله أعلم.
وكان بماردة متوليا عليها- كما ذكرنا- وكان أبوه قد عهد إليه قبل وفاته، وقدّمه على سليمان وهو أكبر منه لأنه كان يتوسّم فيه الشّهامة، فلذلك عهد إليه فبايع له أخوه عبد الله وكتب إليه بنعى أبيه ويعزيه به ويعرفه أنه بايع الناس له فلما وصل إليه(23/352)
الكتاب سار من ساعته إلى قرطبة فدخلها فى ستة أيام، واستولى على الملك، وخرج عبد الله إلى داره مظهرا الطاعة وفى نفسه خلاف ذلك!
ذكر خروج سليمان وعبد الله ابنى عبد الرحمن على أخيهما هشام
/ وفى سنة ثلاث وسبعين ومائة خرجا على أخيهما، وكان عبد الله عند أخيه هشام وهو يؤثره ويبرّه ويقدمه، فلم يرضه ذلك ولا قنع إلا بمشاركته فى الأمر، ثم خاف فهرب إلى أخيه سليمان وهو بطليطلة.
فأرسل هشام فى أثره جماعة ليردّوه، فلم يدركوه، فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحصر أخويه بها.
وكان سليمان قد حشد وجمع جمعا كبيرا فلما حصرها هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلاد، وسار هو إلى قرطبة ليملكها، فعلم هشام به فلم يفارق الحصار.
وسار سليمان فوصل إلى شقندة «1» فدخلها، وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين له، ودافعوه عن المدينة. وبعث هشام فى أثر سليمان عبد الملك فى قطعة من الجيش، فلما قاربه هرب سليمان وقصد مدينة ماردة، فحاربه واليها، فانهزم سليمان. وبقى هشام على طليطلة شهرين وأياما محاصرا لها، ثم عاد منها وقد قطع أشجارها، وسار إلى قرطبة، وأتاه أخوه عبد الله بغير أمان فأكرمه وأحسن إليه.
ثم سيّر هشام ابنه معاوية فى جيش كثيف فى سنة أربع وسبعين(23/353)
إلى تدمير وبها سليمان فحاربه، وخرّب أعمال تدمير، فهرب سليمان منها، فلجأ إلى البربر بناحية بلنسية، فاعتصم بتلك الناحية الوعرة/ المسلك. وعاد معاوية إلى قرطبة، ثم استقرّت الحال بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس، وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن ميراث أبيه عبد الرحمن وسار إلى بلد البربر فأقام به.
ذكر خروج جماعة أخر على الأمير هشام
وفى سنة اثنتين وسبعين خرج عليه أيضا سعيد بن الحسين ابن يحيى الأنصارى بشاغنت- من أقاليم طرطوشة «1» فى شرق الأندلس- وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه، ودعا إلى اليمانية وتعصّب لهم، فاجتمع له خلق كثير، فملك مدينة طرطوشة فاخرج عاملها يوسف القيسىّ. فعارضه موسى بن فرتون وقام بدعوة هشام، ووافقته مضر، فاقتتلا فانهزم سعيد وقتل، وسار موسى إلى سرقسطة فملكها فخرج عليه مولى الحسين بن يحيى واسمه جحدر فى جمع كثير فقاتله فقتل موسى.
وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وخرج معه جمع كثير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقة «2» /وتغلب على تلك الناحية وقوى أمره، وكان هشام إذ ذاك فى حرب(23/354)
أخوية سليمان وعبد الله، فلما خلا وجهه من أمر أخويه انتدب لمطروح جيشا كثيفا وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان. فسار إليه وهو بسرقسطة فحصروه بها فلم يظفروا به، فرجع عنه أبو عثمان ونزل بحصن طرسونة «1» بالقرب من سرقسطة ورتّب سراياه يغيرون على أهل سرقسطة ويمنعون عنهم الميرة. ثم خرج مطروح إلى الصيد فى بعض الأيام، فلما كان آخر النهار أرسل البازى على طائر فاقتنصه فنزل مطروح ليذبحه بيده ومعه صاحبان له قد انفرد بهما عن أصحابه فقتلاه وأتيا برأسه إلى أبى عثمان، فسار إلى سرقسطة فكاتبه أهلها فقبل منهم وأرسل الرأس إلى هشام.
قال «2» : وأخذ أبو عثمان الجيش وسار بهم إلى بلاد الفرنج فأوقع بهم وظفر وقتل منهم خلقا كثيرا، وبعث هشام يوسف ابن بخت فى جيش إلى جليقية فلقى ملكهم، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الجلالقة وقتل منهم خلق كثير.
وفيها أيضا سجن هشام ابنه عبد الملك لشىء بلغه عنه، فبقى فى السجن مدة حياة أبيه وبعض ولاية أخيه إلى أن توفّى سنة ثمان وتسعين ومائة/ وفى سنة ست وسبعين ومائة غزا عبد الملك بن عبد الواحد بلاد الفرنج فغنم وظفر.(23/355)
وفيها استعمل هشام ابنه الحكم على طليطلة وسيّره إليها بضبطها، وأقام بها، وولد له بها ابنه عبد الرحمن.
ذكر غزو الفرنج
وفى سنة سبع وسبعين ومائة أغزى هشام عبد الملك بن عبد الواحد ابن مغيث فى جيش، فدخلوا بلاد الفرنج فبلغوا أربونة وجرندة «1» فبدأ بجرندة وبها حامية الفرنج فقتل رجالها وهدم أسوارها وأشرف على فتحها. ورحل عنها إلى أربونة ففعل مثل ذلك وأوغل فى بلادهم ووطىء برطانية واستباح حريمها وقتل مقاتلتها وجاس البلاد شهورا يخرّب الحصون ويحرق ويغنم. وجفل العدو بين يديه، وأوغل فى بلادهم ورجع ومعه الغنائم وما لا يحصى كثرة، وهى أشهر مغازى المسلمين بالأندلس.
وفى سنة ثمان وسبعين ومائة بعث هشام جيشا مع عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج فغزا ألبة والقلاع «2» فغنم وسلم. وسيّر جيشا آخر مع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد الجلالقة فخرّب دار ملكهم وكنائسه وغنم، فلما قفل المسلمون ضلّ الدليل بهم فنالهم مشقة شديدة ومات منهم خلق كثير، ونفقت دوابّهم وتلفت آلاتهم، وعاد من سلم منهم.(23/356)
ثم بعثه فى سنة تسع وسبعين فى جيش كثيف فساروا حتى انتهروا إلى أسترقة «1» وكان ملك الجلالقة قد جمع وحشد واستمد جيرانه من الملوك، وصار فى جمع عظيم. فلما قدم عبد الملك رجع ملك الجلالقة هيبة له، وتبعهم عبد الملك يقفو أثرهم ويخرب.
وهتك حريم ملك الجلالقة! وبلغه أنه احتمى بواد فسار إليه وواقعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة فهزمه، وقتل من قمامصتهم ورؤسائهم كثيرا، ورجع سالما.
وكان هشام قد سيّر جيشا آخر من ناحية أخرى، فدخلوا البلاد أيضا على ميعاد من عبد الملك، فأخربوا ونهبوا وغنموا فلما أرادوا الخروج من بلاد العدو عارضهم عسكر الفرنج، فنال منهم، وقتل من المسلمين، ثم تخلصوا وعادوا «2» .
ذكر فتنة تاكرتا
وفى سنة ثمان وسبعين ومائة هاجمته فتنة تاكرتا «3» بالأندلس، وخلع البربر الطاعة وأظهروا الفساد، وأغاروا على البلاد وقطعوا الطريق، فسيّر هشام إليهم جيشا كثيفا عليهم عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبى سفيان، فقصدوها وتابعو(23/357)
قتال من فيها،/ إلى أن أبادوهم قتلا وسبيا، وفرّ من بقى منهم فدخل فى سائر القبائل، وبقيت كورة تاكرتا خالية سبع سنين!
ذكر وفاة هشام بن عبد الرحمن وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته فى ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة بقصر قرطبة وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، ومدة ولايته (على القول الأول) سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما. وكان أبيض مشربا بحمرة أشهل، بعينيه حول وكان عاقلا حازما دا رأى وشجاعة وعدل، محبا لأهل الخير والصلاح، راغبا فى الجهاد. وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ومن محاسن أعماله أنه أخرج متصدقا يأخذ الصدقة على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وهو الذى تمّم بناء جامع قرطبة وبنى عدّة مساجد، وبلغ من عز الإسلام فى ولايته وذل الكفر أنّ رجلا مات وأوصى بفكّ أسير من المسلمين من تركته، فطلب ذلك فلم يوجد فى دار الكفار أسير من المسلمين يشترى ويفكّ لضعف العدو! وله مناقب كثيرة بالغ أهل الأندلس فيها حتى قالوا/ كان يشبّه بعمر بن عبد العزيز، وكان نقش خاتمه «بالله يثق هشام ويعتصم» .
وكان له من الأولاد الذكور عبد الملك الأكبر، والحكم الوالى بعده، ومعاوية، والوليد، وعبد العزيز، وخمس بنات.(23/358)
وزراؤه: أبو عثمان صاحب الأرض، ويوسف بن بخت «1» وشهيد بن عيسى وغيرهم. حجابه: عبد الواحد بن مغيث إلى أن توفى، ثم ولده عبد الملك وهو رجل الأندلس جمع الحجابة والوزارة والكتابة والتقدّم على الجيوش مع حسن الأدب والعفاف والدين والتواضع والكرم والمروءة. كتابه: فطيس بن سلمة، وخطّاب بن يزيد.
قاضيه: المصعب بن عمران الهمذانى. أصحاب شرطته: الحسن ابن بسام، ثم على بن خريم المزنى، ثم سعيد بن عياض اليحصبى.
ذكر امارة الحكم بن هشام الملقب بالمرتضى
هو أبو العاص الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه أم ولد اسمها زخرف، وهو الثالث من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة، وتولّى أخذ البيعة له عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، ولما ولى الحكم كان أول ما بدأ به الغزو فى سبيل الله تعالى.
ذكر غزو الفرنج
فى هذه السنة أعنى- سنة ثمانين ومائة- بعث الحكم جيشا مع عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فدخل البلاد وبثّ السرايا. وسيّر سرية، فجازوا خليجا من البحر كان الماء قد جزر عنه وكان الكفار قد جعلوا أموالهم وأهلهم(23/359)
وراء ذلك الخليج ظنا منهم أن أحدا لا يقدر أن يعبر إليهم. فجاءهم ما لم يكن فى حسبانهم، فغنم المسلمون جميع أموالهم، وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروا القتل، وسبوا الحريم والذّريّة، وعادوا سالمين.
وما أشبه هذه الواقعة بفتح طرابلس الشام! فإنه لما فتحها السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحى- قدّس الله روحه- فى سنة ثمان وثمانين وستمائة جزر البحر ساعة الفتح وانطرد عنها حتى دخل المسلمون بخيلهم إلى جزيرة النحله وهى بعيدة عن الميناء، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى موضعه.
قال «1» : وعاد المسلمون إلى عبد الكريم وقد ملأوا أيديهم من الغنائم.
وسير طائفة أخرى فخربوا كثيرا من بلاد فرنسية «2» وغنموا الأموال وأسروا الرجال فأخبرهم بعض الأسرى أن جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على طريقهم وبلغ ذلك عبد الكريم فجمع عساكره وسار على بغيته وجدّ السير، فلم يشعر الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم فانهزموا، وغنم المسلمون ما معهم وعادوا بالظفر والغنيمة والسلامة.(23/360)
ذكر خلاف بهلول بن مرزوق وغيره
وفى سنة إحدى وثمانين ومائة خالف بهلول بن مرزوق المعروف بأبى الحجاج فى ناحية الثغر، ودخلل مدينة سرقسطة فملكها.
وقدم على بهلول بها عبد الله بن عبد الرحمن عمّ الحكم- وهو المعروف بالبلنسى- وكان متوجّها إلى الفرنج، ثم سار إلى مدينة طلبيرة «1» فنزل بها مع عمروس «2» بن يوسف. فسار إليهم بهلول وحاصرهم فتفرق العرب عنهم، ودخل بهلول مدينة طلبيرة وسار عبد الله إلى مدينة بلنسية فأقام بها وذلك فى سنة أربع وثمانين.
وخالف عبيدة بن حمير بطليطلة، فأمر الحكم القائد عمروس ابن يوسف وهو بمدينة طلبيرة أن يحارب أهل طليطلة ففعل، وضيق عليهم، وكاتب رجالا من أهلها يعرفون ببنى مخشى واسمالهم، فوثبوا على عبيدة،/ فقتلوه وحملوا رأسه إلى عمروس فأنزلهم عنده- وكان بينهم وبين البربر الذين بمدينة طلبيرة دخول- فتسوّر البربر عليهم، فقتلوهم، فسير عمروس رؤوسهم مع رأس عبيدة إلى الحكم وأخبره الخبر(23/361)
ذكر مسير سليمان بن عبد الرحمن لقتال ابن أخيه الحكم وقتل سليمان
وفى سنة اثنتين وثمانين ومائة جاز سليمان بن عبد الرحمن إلى بلاد الأندلس من الشرق لحرب ابن أخيه الحكم، فسار إليه الحكم فى جيوش كثيرة من أهل الشقاق ومن يريد الفتنة، والتقيا واقتتلا، واشتدت الحرب فانهزم سليمان وأتبعه عسكر الحكم.
وعادت الحرب بينهما ثانية فى ذى الحجة، فانهزم سليمان واعتصم بالأوعار والجبال، فعاد الحكم، ثم عاد سليمان فجمع بربرا وأقبل إلى جانب إستجة «1» . فسار إليه الحكم فالتقوا واقتتلوا فى سنة ثلاث وثمانين، واشتد القتال فانهزم سليمان وقصد جهة ماردة «2» فتبعه طائفة من عسكر الحكم فأسروه، وأحضروه إلى الحكم فقتله، وبعث برأسه إلى قرطبة، وكتب إلى أولاد سليمان وهم بسرقسطة كتاب أمان واستدعاهم فحضروا عنده بقرطبة.
ذكر استيلاء الفرنج على برشلونة
وفى سنة خمس وثمانين ومائة ملك الفرنج- لعنهم الله تعالى- مدينة برشلونة «3» بالأندلس، وأخذوها من المسلمين، ونقلوا(23/362)
حماة ثغورهم إليها، وتأخر المسلمون إلى ورائهم وكان سبب ذلك اشتغال الحكم بمحاربة عمه [سليمان بن عبد الرحمن] «1» .
ذكر الاتفاق بين الحكم وبين عمه عبد الله البلنسى
وفى سنة ستّ وثمانين ومائة حصل الاتفاق بين الأمير الحكم بن هشام وبين عمّه عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية، وذلك أن عبد الله لما سمع بقتل أخيه سليمان عظم عليه وفتّ فى عضده، وخاف على نفسه، ولزم بلنسية ولم يتحرك لإثارة فتنة. وأرسل إلى الحكم يطلب المسالمة والدخول فى الطاعة، وقيل بل الحكم راسله فى ذلك وبذل له الأرزاق الواسعة له ولأولاده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الصلح بينهما على يد يحيى بن يحيى صاحب الإمام مالك بن أنس. وزوّج الحكم أخواته من أولاد عمه عبد الله، وأكرم عمّه وأجرى له ولأولاده الأرزاق الواسعة والصلات السنية. وقيل كانت المراسلة/ فى هذه السنة، واستقر الصلح فى سنة سبع وثمانين.
ذكر استيلاء الفرنج على مدينة تطيله
وفى سنة سبع وثمانين ومائة ملك الفرنج- لعنهم الله- مدينة تطيلة «2» . وسبب ذلك أن الحكم بن هشام استعمل على ثغور الأندلس قائدا كبيرا من قواده وهو عمروس بن يوسف.
فاستعمل عمروس ابنه يوسف على تطيلة. وكان قد انهزم من الحكم(23/363)
أهل بيت من بيوت الأندلس أولو قوّة وبأس، وخرجوا عن طاعته.
والتحقوا بالمشركين فقوى أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا إلى تطيلة فحصروها وملكوها من المسلمين، وأسروا أميرها يوسف بن عمروس وسجنوه وتقدموا بصخرة قيس. واستقر عمروس بمدينة سرقسطة ليحفظها من الكفار، وجمع العساكر وسيرها مع ابن عمّ له، فلقى المشركين فقاتلهم وفضّ جمعهم، وقتل أكثرهم، وسار إلى صخرة قيس بالجيش فحصرها وافتتحها وخلّص يوسف منها.
ذكر ايقاع الحكم بأهل قرطبة
كان ذلك فى سنة سبع وثمانين ومائة، وسببه أن الحكم فى صدر ولايته كان/ قد تظاهر بشرب الخمر والانهماك على الملذات. وكانت قرطبة دار علم وبها فضلاء أهل علم وورع، منهم يحيى بن يحيى الليثى راوى موطأ مالك بن أنس وغيره. فثار أهل قرطبة وأنكروا فعل الحكم ورموه بالحجارة وأرادوا قتله، فامتنع منهم ثم سكن الحال واجتمع بعد ذلك بأيام وجوه أهل قرطبة وفقهاؤها وحضروا عند محمد بن القاسم القرشى المروانى- عم هشام بن حمزة- وأخذوا له البيعة على أهل البلد وعرّفوه أن الناس قد ارتضوه كافّة. فاستظهرهم ليلة ليرى رأيه، ويستخير الله تعالى فانصرفوا، وحضر هو عند الحكم وأعلمه الحال وأنه على بيعته له لم يتغير، فطلب الحكم تصحيح ذلك عنده وسيّر مع محمد ابن القاسم بعض ثقاته فأجلسه محمد فى قبة فى داره وأخفى أمره.
وحضر عنده القوم يستعلمون منه هل يتقلد أمرهم أم لا(23/364)
فأراهم المخافة على نفسه وعظّم عليهم الخطب وسألهم تعداد أسمائهم ومن معهم، فذكروا له جميع من معهم من أعيان البلد وصاحب الحكم يكتب أسماءهم، فقال لهم محمد بن القاسم:
يكون هذا الأمر يوم الجمعة إن شاء الله تعالى فى المسجد الجامع! فانصرفوا ومشى إلى الحكم مع صاحبه فأعلماه جلية الحال.
وكان ذلك يوم الخميس. فما جاء الليل حتى حبس الجماعة عن آخرهم، ثم أمر بهم بعد أيام فصلبوا عند قصره/ وكانوا اثنين وسبعين رجلا، وكان يوما شنيعا ثم كانت وقعة الرّبض بعد ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ايفاع الحكم بأهل طليطلة وهى وقعة الحفرة
قال «1» : وفى سنة إحدى وتسعين ومائة أوقع الحكم بأهل طليطلة، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها. وكان سبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا فى الأمراء وخلعوهم مرّة بعد أخرى، وقويت نفوسهم؛ لحصانة بلدهم وكثرة أموالهم، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية. فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الفكرة. فاستعان بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد، وكان قد ظهر فى هذا الوقت بالثّغر الأعلى، وأظهر طاعة الحكم ودعا إليه فاطمأن إليه لهذا السبب. واستقدمه فقدم عليه، فبالغ الحكم فى إكرامه وأطلعه على عزمه فى أهل طليطلة فوافقه عليه.(23/365)
وكتب إلى أهلها يقول «إننى قد اخترت لكم فلانا وهو منكم لتطمئنّ قلوبكم إليه وأعفيتكم ممّن تكرهون من عمّالنا وموالينا، ولتعرفوا جميل رأينا فيكم» ومضى عمروس ودخل طليطلة فأنس أهلها به واطمأنوا إليه وأحسن/ عشرتهم.
وكان أول ما احتال به عليهم أن أظهر موافقتهم على بغض بنى أمية وخلع طاعتهم، فمالوا إليه ووثقوا به ورضوا بفعله ثم قال لهم: إن سبب الشرّ بينكم وبين أصحاب الأمراء اختلاطهم بكم، وقد رأيت أن أبنى بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقا بكم! فأجابوه إلى ذلك، فبنى فى وسط البلد ما أراد.
فلما مضى لذلك مدة كتب الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سرّا يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة، وطلب النجدة والعساكر، ففعل ذلك، فحشد الحكم الجيوش واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن، وجهّز معه القواد والوزراء، فسار الجيش حتى اجتاز مدينة طليطلة فلم يتعرض عبد الرحمن لدخوله إليها. وأتاه وهو عندها خبر العامل على الثغر الأعلى يقول «إن عساكر الكفرة قد تفرّقت وكفى الله شرّها» فوقف العسكر وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة: قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبى، وأنه يلزمنى الخروج إليه وقضاء حقّه، فإن نشطتم إلى ذلك وإلا سرت إليه وحدى! فقالوا: بل نكون معك.
فخرج ومعه وجوه أهل طليطلة فأكرمهم عبد الرحمن وأحسن إليهم، وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادما له ومعه كتاب لطيف(23/366)
إلى عمروس فلقيه الخادم وصافحه وسلّم الكتاب إليه من غير أن/ يحادثه. فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة، فأشار إلى عيون أهلها أن يسألوا عبد الرحمن الدّخول إليه ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم وقوتهم ومنعتهم فظنوا أنه ينصحهم، ففعلوا ذلك. وأدخلوا عبد الرحمن البلد، فنزل مع عمروس فى داره، وأتاه أهل طليطلة أرسالا يسلمون عليه، وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتّخذ لهم وليمة عظيمة. وشرع فى الاستعداد لذلك وواعدهم يوما ذكره لهم، وقرر أنهم يدخلون من باب ويخرجون من آخر ليقلّ الزحام ففعلوا ذلك! وأتى الناس أفواجا عند الميعاد، فكان إذا دخل فوج أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة فى القصر فتضرب رقابهم. فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدا فقال: أين الناس؟ فقيل له: إنهم يدخلون من هذا الباب ويخرجون من الآخر! فقال: لم ألق منهم أحدا! وعلم الحال فعاد وصاح بالناس وأعلمهم هلاك أصحابه، فكان سبب نجاة من بقى منهم، ودانوا وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن ثم كان منهم بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة
/ وفى سنة إحدى وتسعين عصى أصبغ بن عبد الله على الحكم ووافقه أهل ماردة وأخرجوا عامله عنها، فاتّصل الخبر بالحكم، فسار إليها وحصرها. فبينما هو فى ذلك أتاه الخبر عن أهل قرطبة(23/367)
أنهم أعلنوا العصيان له، فرجع إلى قرطبة مبادرا، فوصلها فى ثلاثة أيام وكشف عن الذين أثاروا الفتنة فصلبهم منكّسين، وضرب أعناق جماعة. فارتدع الباقون بذلك واشتدت كراهتهم للحكم، ولم يزل أهل ماردة تارة يطيعون وتارة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين، فضعف أمر أصبغ بن عبد الله لأن الحكم تابع إرسال الجيوش واستمال جماعة من أهل ماردة وثقات أصحابه فمالوا إلى الحكم وفارقوا أصبغ حتى أخوه، فضعفت نفسه فطلب الأمان فأمّنه الحكم، ففارق ماردة، وحضر إلى الحكم وأقام بقرطبة.
ذكر غزو الفرنج
وفى هذه السنة تجهز لذريق «1» ملك الفرنج وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة «2» ليحصرها، فبلغ ذلك الحكم فجمع العساكر وسيّرها مع ولده عبد الرحمن، فاجتمعوا فى جيش عظيم وتبعهم كثير من المتطوعة، فساروا حتى لقوا الفرنج فى أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد الإسلام شيئا، فاقتتلوا وبذل كلّ من الطائفتين جهده واستنفد وسعه فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، وهزم الكفار وكثر القتل فيهم والإسار، وانتهيت أموالهم، ورجع المسلمون بالظفر.(23/368)
ذكر عصيان حزم على الحكم
وفى هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة ووافقه غيره، وقصدوا لشبونة «1» . فلما بلغ الحكم الخبر، سار إليه الحكم فى جمع كبير، فنازله وقطع الأشجار وضيّق عليهم حتى أذعنوا إلى طلب الأمان، فأمّنه وأخذ رهائنه على المصالحة والطاعة، وعاد عنه الحكم إلى قرطبة.
ذكر عودة أهل ماردة الى العصيان وغزو الحكم بلاد الفرنج
قال «2» : ثم عاد أهل ماردة إلى العصيان والخلاف على الحكم فى سنة أربع وتسعين، فسار الحكم بنفسه إليهم وقابلهم. ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد وتقاتلهم إلى سنة ستّ وتسعين ومائة، فطمع الفرنج فى ثغور المسلمين وقصدوها بالغارات والقتل والنّهب والسّبى.
وقد شغل الحكم بأهل ماردة عنهم حتى أتاه الخبر بشدّة الأمر على أهل/ الثغور وما نال العدوّ منهم، وسمع أن امرأة مسلمة أخذت أسيرة فقالت:
واغوثاه يا حكم فعظم عليه الأمر وجمع العساكر واستعد وحشد، وسار إلى بلاد الفرنج فى سنة ست وتسعين ومائة فأثخن «3» فى بلادهم،(23/369)
وافتتح عدّة حصون وخرّب وقتل الرجال وسبى الحريم ونهب الأموال، وقصد الناحية التى بها تلك المرأة فأسر لهم من الأسرى ما يفادون به أسراهم، وبالغ فى الوصية فى تخليص تلك المرأة فخلصت من الأسر وقتل بقية الأسرى.
فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور: أغاثكم الحكم؟ قالوا:
نعم! وأثنوا عليه خيرا، وعاد إلى قرطبة مظفرا منصورا.
وفى سنة سبع وتسعين ومائة اشتد الغلاء بالأندلس وعمّ البلاد، ومات كثير من الخلق، وكان أكثر الناس يطوون للعدم «1» .
ذكر وقعة الربض بقرطبة
وفى سنة ثمان وتسعين ومائة كانت وقعة الربض بقرطبة، وسببها أن الحكم كان كثير التشاغل بالشّرب واللهو والصيد وغير ذلك مما يجانسه، وقد قدّمنا ما كان قد فعله بأهل قرطبة لما أرادوا خلعه ومن صلب منهم. فزادت كراهة أهلها فيه، وصاروا يتعرّضون لجنده بالأذى والسّبّ، وبالغوا حتى إنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان/ الصلاة يا مخمور الصلاة! وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف. فشرع فى تحصين قرطبة وعمارة أسوارها، وحفر خنادقها، وارتبط الخيل على بابه،(23/370)
واستكثر من المماليك، ورتب جمعا لا يفارقون باب قصره بالسلاح.
فزاد ذلك فى حقد أهل قرطبة، وتحققوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم، ثم وضع عليهم عشر الأطعمة فى كلّ سنة من غير حرص فكرهوا ذلك.
ثم عمد إلى عشرة من رؤسائهم فقتلهم وصلبهم، فهاج لذلك أهل الرّبض، وانضاف إلى ذلك أن مملوكا له سلّم إلى صيقل سيفا ليصقله له فمطله الصيقل، فأخذ ذلك المملوك السيف ولم يزل يضرب به ذلك الصيقل إلى أن مات وذلك فى شهر رمضان من هذه السنة، فكان أول من شهر السلاح أهل الرّبض القبلى، واجتمع أهل الأرباض جميعهم بالسلاح، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر. وفرق الحكم الخيل والسلاح، وجعل أصحابه كتائب.
ووقع القتال بين الطائفتين، فغلبهم أهل الربض وأحاطوا بالقصر، فنزل الحكم من أعلى القصر ولبس سلاحه وحرّض الناس على القتال، فقاتلوا قتالا شديدا. ثم أمر ابن عمّه عبيد الله فثلم من السور ثلمة وخرج منها بقطعة من الجيش وأتى أهل الرّبض من وراء ظهورهم فلم يشعروا به، وأضرم النار فى الرّبض.
فانهزم أهله/ وقتلوا قتلا ذريعا وأسر من وجد فى المنازل والدور فانتقى الحكم ثلاثمائة من وجوه الأسرى فصلبهم منكسين، ودام النّهب القتل والحريق فى أرباض قرطبة ثلاثة أيام.
ثم استشار الحكم فيهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فأشار عليه بالصّفح عنهم والعفو، وأشار غيره(23/371)
بالقتل، فقبل قول عبد الكريم. وأمر فنودى بالأمان على أنه من بقى من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتل وصلب، فخرج من بقى منهم بعد ذلك مستخفيا، وتحمّلوا على الصّعب والذلول وخرجوا من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم وما خفّ من أموالهم.
وقعد لهم الجند والسفلة بالمرصاد، ينهبون أموالهم، ومن امتنع عليهم قتلوه!.
فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكفّ الأذى عن حرم الناس، وجمعهن إلى مكان واحد، وأمر بهدم الرّبض القبلى. وكان بزيع مولى أمية بن الأمير عبد الرحمن بن معاوية محبوسا فى حبس الدم وفى رجله قيد ثقيل، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا عنه فأخذوا عليه العهد أن يعود فأطلقوه، فخرج فقاتل قتالا شديدا لم يكن فى الجيش من قاتل مثله، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن، فانتهى خبره إلى الحكم فأطلقه وأحسن إليه. وقيل إن هذه الوقعة كانت فى سنة اثنتين ومائتين والله أعلم./ قال بعض المؤرخين: اجتمع فى الرّبض أربعة آلاف فقيه وطالب! وكان ممّن خرج عليه يحيى بن يحيى الليثى، فهرب ونزل على حىّ من البربر، ثم أمّنه الحكم بعد ذلك وحظى عنده. ومنهم الفقيه طالوت بن عبد الجبار، ففرّ واستتر عند رجل يهودىّ عاما كاملا. وكان بينه وبين أبى البسام صداقة، فقصد فأخبر الحكم به، وأحضره إليه فعنّفه الحكم على خروجه عليه،(23/372)
ثم أمّنه وصرفه إلى منزله وسأله أين استتر فأخبره باليهودى وبأبى البسام، فاغتاظ على أبى البسام وعزله عن وزارته وكتب عهدا أن لا يخدمه أبدا. ومنهم عبد الملك بن حبيب، وغيرهم «1» .
ذكر غزو الفرنج
وفى سنة مائتين جهّز الحكم جيشا مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فسار حتى توسّط بلادهم، فخربها ونهبها وهدم عدة من حصونهم، واستنفد خزائن ملوكهم. فلما رأى ملكهم ذلك كاتب جميع ملوك تلك النواحى، واستنصر بهم فاجتمعت إليه أهل النصرانية من كلّ مكان. وأقبل فى جموع عظيمة ونزل بإزاء عسكر المسلمين وبينهم نهر، فاقتتلوا عدّة أيام والمسلمون يريدون عبور النهر إليهم وهم يمنعونهم من ذلك. فلما رأى المسلمون ذلك تأخروا عن النهر/ فعبر المشركون واقتتلوا أعظم قتال، فانهزم الكفار إلى النهر وأخذهم السّيف والأسر، فأسر جماعة من ملوكهم وكنودهم وقمامصتهم. وعاد الفرنج لزموا جانب النهر يمنعون المسلمين من عبوره فأقاموا ثلاثة عشر يوما يقتتلون فى كلّ يوم، فجاءت الأمطار وزاد النهر فتعذر جوازه، فقفل عبد الكريم عنهم فى سابع ذى الحجة من السنة.
ذكر غزو البربر بناحية مورور
وفيها خرج خارجى من البربر من ناحية مورور «2» ومعه جماعة،(23/373)
فوصل كتاب العامل بها إلى الحكم بخبره، فأخفى الحكم أمره واستدعى من ساعته قائدا من قواده فأخبره بذلك سرا وقال له:
سر من ساعتك إلى هذا الخارج وائتنى برأسه والا فرأسك عوضه وأنا قاعد فى مكانى هذا إلى أن تعود! فسار القائد إلى الخارج، فلما قاربه سأل عنه فأخبر أنه فى احتياط كثير واحتراز شديد، فعجز عنه ثم تذكر قول الحكم فأعمل الحيلة حتى دخل عليه وقتله وأتى برأسه إلى الحكم، فرآه بمكانه ذلك لم يتغير، وكانت غيبته أربعة أيام، فأحسن إلى القائد وأكرمه ووصله وأعلى محلّه.
ذكر وفاة الحكم
/ كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر لأربع بقين من ذى الحجة سنة ست ومائتين، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وقيل ثلاثا وخمسين سنة وقيل أقل من ذلك إلى تسع وأربعين سنة، ومدة إمارته ستا وعشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما. وكان طويلا أسمر نحيفا، وله شعر جيّد، وهو أول من جنّد الجنود المرتزقة بالأندلس وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الحشم والحواشى، وارتبط الخيول على بابه، واتّخذ المماليك وجعلهم فى المرتزقة فبلغت عدتهم خمسة آلاف. وكانوا يسمون الخرس لعجمة ألسنتهم، وكانوا نوابا على باب قصره «1» .
وكان يطّلع على الأمور بنفسه ما قرب منها وما بعد، وكان له نفر من ثقاة أصحابه يطالعونه بأحوال الناس، فيردع الظالم،(23/374)
وينصف المظلوم. وكان شجاعا مقداما مهيمنا وكان يقرّب الفقهاء وأهل العلم. وكان له من الأولاد أبو مطرف عبد الرحمن وثمانية عشر ولدا ذكرا. كاتبه: الوزير أبو البسام.
ذكر امارة عبد الرحمن بن الحكم
هو أبو المطرف وقيل أبو المظفر عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن الداخل، وأمه أم ولد يقال لها حلاوة، وهو الرابع من ملوك بنى أمية بالأندلس. بويع له بعد وفاة أبيه فى يوم/ الخميس لأربع بقين من ذى الحجة سنة ستّ ومائتين وذلك فى خلافة المأمون بن الرشيد العباسى.
قال «1» : ولما ولى خرج عليه عمّ أبيه عبد الله البلنسى- من بلنسية- وطمع فى الملك، فوصل إلى تدمير يريد قرطبة، فتجهز له عبد الرحمن، فلما بلغ ذلك عبد الله خاف وضعفت نفسه فرجع إلى بلنسية.
ذكر ايقاع عبد الرحمن بأهل إلبيرة وجندها
كان ذلك فى سنة سبع ومائتين وسبب ذلك أن الحكم كان قد بلغه عن عامل اسمه ربيع أنه ظلم أبناء أهل الذمة فقبض عليه وصلبه، فلما توفى الحكم وولى ولده عبد الرحمن وسمع النّاس بصلب ربيع أقبلوا إلى قرطبة من النواحى يطلبون الأموال التى كان ظلمهم ربيع فيها ظنّا منهم أنها ستردّ إليهم. وكان جند إلبيرة(23/375)
أشدّهم وأكثرهم طلبا وأشدهم إلحاحا وتألبا، فأرسل عبد الرحمن من يسكنهم، فلم يقبلوا ودفعوا من أتاهم، فخرج إليهم جمع من الجند من أصحاب عبد الرحمن فقاتلوهم فانهزم جند إلبيرة ومن معهم وقتلوا قتلا ذريعا، ونجا من بقى منهم، وأدركهم الطلب فقتل كثيرا منهم.
وفيها ثارت بمدينة تدمير فتنة بين المضريّة واليمانية فاقتتلوا بلورقة «1» فكان بينهم وقعة تعرف بيوم المصابرة قتل بينهم/ ثلاثة آلاف رجل، ودامت الحرب بين الفريقين سبع سنين، ووكل عبد الرحمن بكفّهم ومنعهم يحيى بن عبد الله ابن خالد وسيّره فى جمع من الجيش، فكانوا إذا أحسوا بقرب يحيى افترقوا وتركوا القتال وإذا عاد عنهم رجعوا إلى الفتنة حتى أعياه أمرهم.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شيديدة ذهب فيها خلق كثير وبلغ المد فى بعض المدن ثلاثين دنيارا.
وفى سنة ثمان ومائتين جهز عبد الرحمن جيشا إلى بلاد المشركين، واستعمل عليهم عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فساروا إلى بلاد ألية والقلاع فنهبوا بلاد ألبة وخربوها وأحرقوها، وفتحوا حصونا وصالحهم أهل حصون أخر على مال وإطلاق أسرى المسلمين، وذلك فى جمادى الآخرة.(23/376)
وفيها توفى عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالبلنسى.
وفى سنة عشر ومائتين سيّر عبد الرحمن سريّة كبيرة إلى بلاد الفرنج واستعمل عليهم عبيد الله بن عبد الله البلنسى، فسار ودخل بلادهم وتردّد فيها بالغارات والسّبى والقتل والأسر ولقى جيوش الأعداء فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وكان فتحا عظيما.
وفيها افتتح عسكر سيّره عبد الرحمن أيضا حصن القلعة من أرض العدو فى شهر رمضان المبارك.
وفيها أمر ببناء المسجد الجامع بجيان.
وفيها أخذ عبد الرحمن مقدم اليمانية بتدمير/ وهو رجاء بن الشماخ لتسكن الفتنة بين اليمانية والمضرية فلم تسكن ودامت، فأمر العامل بتدمير أن ينتقل منها ويجعل مرسية «1» قاعدة تلك البلاد.
وفى سنة اثنتى عشرة ومائتين سيّر عبد الرحمن جيشا إلى برشلونة من بلاد العدو فأقام الجيش شهرين يحرقون وينهبون.
وفيها كانت ميول عظيمة وأمطار متتابعة، فخربت أكثر أسوار مدن الأندلس وخربت قنطرة سرقسطة، ثم جددت عمارتها وفى سنة ثلاث عشرة ومائتين قتل أهل ماردة عاملهم فثارت(23/377)
الفتنة عندهم فسيّر إليهم عبد الرحمن جيشا فحصرهم وأفسد زرعهم وأشجارهم فعادوا للطاعة وأعطوا رهائنهم، وعاد الجيش عنهم بعد أن خربوا سور المدينة، ثم أرسل إليهم من ينقل أحجار السور إلى النهر لئلا يطمع أهلها فى عمارته، فلما رأوا ذلك عادوا إلى العصيان وأسروا العامل عليهم وبنوا السور وأتقنوه. فسار عبد الرحمن بجيوشه إليهم فى سنة أربع عشرة ومائتين ومعه رهائن أهلها فراسله أهلها وافتدوا رهائنهم بالعامل الذى أسروه وغيره وحصرهم وأفسد بلدهم ثم رحل عنهم. ثم سيّر إلهم جيشا فى سنة سبع عشرة فحصروها وضيقوا على أهلها، ودام الحصار ثم رحلوا عنهم. وسيّر إليهم جيشا فى سنة ثمانى عشرة ومائتين ففتحها وفارقها أهل الشر والفساد. وكان من أهلها/ رجل اسمه محمود بن عبد الجبار الماردى فى جماعة من الجند، فمضى بمن سلم من أصحابه إلى منت سالوط فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فى سنة عشرين ومائتين فهرب بمن معه إلى جليقية فأرسل سرية فى طلبهم، فقاتلهم محمود وهزمهم وغنم ما معهم، وقتل عدة منهم ثم مضى لوجهه فلقيه جمع من أصحاب عبد الرحمن مصادفة فقاتلوهم، ثم كفّ بعضهم عن بعض وساروا فلقيته سرية أخرى فانهزمت السرية وغنم محمود ما معهم ووصل إلى بلاد المشركين فاستولى على قلعة لهم فأقام بها خمسة أعوام وثلاثة أشهر فحصره أذفونس ملك الفرنج فملك الحصن وقتل محمودا ومن معه وذلك فى سنة خمس وعشرين فى شهر رجب.(23/378)
وفى سنة أربع عشرة ومائتين سار عبد الرحمن إلى مدينة باجة «1» وكانت عاصية عليه فملكها عنوة.
وفيها خالف هاشم الضراب بمدينة طليطلة، وكان هاشم ممن خرج من طليطلة لما أوقع الحكم بأهلها، وسار إلى قرطبة، فلما كان الآن سار إلى طليطلة فاجتمع إليه أهل الشر والفساد فسار إلى وادى جونيه «2» وأغار على البربر وغيرهم فطار اسمه واشتدّت شوكته وكثر جمعه فأوقع بأهل شنت بريّه. وكان بينه وبين البربر وقعات كثيرة، فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فقاتلوه فلم تستظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، وغلب/ هاشم على عدّة مواضع وجاوز بركة العجوز وأبعدت غارة خيله. فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا فى سنة ستّ عشرة ومائتين فلقيهم هاشم بالقرب من حصن سمسطا المجاور لرورية «3» فدامت الحرب بينهم عدّة أيّام ثم انهزم هاشم وقتل هو وكثير ممّن معه
ذكر محاصرة طليطلة وفتحها
وفى سنة تسع عشرة ومائتين جهز عبد الرحمن جيشا مع ابنه أمية إلى مدينة طليطلة فحصرها- وكانوا قد خالفوا(23/379)
وخرجوا عن الطاعة- فاشتد فى حصارهم وقطع أشجارهم وأهلك زرعهم، فلم يذعنوا إلى الطاعة فرحل عنهم وترك بقلعة رباح جيشا عليهم ميسرة المعروف بفتى أبى أيوب. فلما أبعد أمية خرج جمع كثير من أهل مدينة طليطلة لعلّهم يجدون فرصة وغفلة فينالون منه ومن أصحابه غرضا، وكان قد بلغه الخبر فكمن فى عدة مواضع. فلما وصلوا إلى قلعة رباح خرج الكمين عليهم من جوانبهم ووضعوا السّيف فيهم فأكثروا القتل وعاد من سلم منهزما إلى طليطلة، وجمعت رؤوس القتلى وحملت إلى ميسرة فلما رأى كثرتها عظم عليه وارتاع لذلك، ووجد فى نفسه غمّا شديدا، فمات بعد أيام يسيرة! ثم سيّر عبد الرحمن جيشا فى سنة/ عشرين ومائتين فقاتلوا ولم يظفروا منها بشىء. فلما كان فى سنة إحدى وعشرين ومائتين خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح وبها عسكر لعبد الرحمن فاجتمعوا كلّهم على حصار طليطة وضيّقوا على أهلها واشتدّوا فى حصارهم إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فسير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كلّ مبلغ واشتدّ عليهم طول الحصار وضعفوا عن القتال والدفع، ففتحها عنوة يوم السبت لثمان خلون من شهر رجب منها، وأمر بتجديد القصر على باب الجسر الذى كان هدم أيام الحكم، وأقام بها آخر شعبان سنة ثلاث وعشرين حتى استقرّت قواعد أهلها.
وفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين سيّر عبد الرحمن جيشا(23/380)
إلى ألبة والقلاع فنازلوا حصن الفرات، وقتلوا أهله، وغنموا ما فيه وسبوا النساء والذّرّية وعادوا.
وفى سنة أربع وعشرين سيّر جيشا عليهم عبيد الله بن عبد الله البلنسى إلى بلاد العدو، فوصلوا ألبة والقلاع فالتقوا هم والمشركون، وكانت بينهم حروب شديدة وقتال عظيم انهزم أهل الشرك، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وجمعت الرؤوس حتى كان الفارس لا يرى من يقاتله! ثم سار عبد الرحمن فى سنة خمس وعشرين فى جيش كثيف إلى بلاد المشركين فدخل بلاد جليقية وافتتح عدة حصون منها، وغنم وسبى وقتل/ وخرّب ثم عاد إلى قرطبة ولم تطل مدّة هذه الغزاة.
وفى سنة أربع وعشرين ومائتين سيّر الأمير عبد الرحمن جيشا إلى أرض العدو، فلما كانوا بين أوشنة وشرطانية «1» تجمعت الرّوم عليهم وأحاطوا بهم وقاتلوهم الليل كلّه، فلما أصبحوا أنزل الله نصره على المسلمين وهزم عدوّهم. وأبلى موسى بن موسى فى هذه الغزاة بلاء حسنا، وكان على مقدمة العسكر وهو العامل على تطيلة، وجرى بينه وبين جرير بن موفّق- وهو من أكابر الدولة- أيضا شر فخرج موسى عن طاعته.(23/381)
ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحارث بن بزيع وما كان من أمره
قال «1» : ولما بلغ عبد الرحمن خروج موسى عن الطاعة سيّر إليه جيشا، واستعمل عليهم الحارث بن بزيع فسار إليه والتقوا عند برجة «2» واقتتلوا فقتل أكثر أصحاب موسى، وقتل ابن عم له، وعاد الحارث إلى سرقسطة. فسيّر موسى ابنه إلى برحة فعاد الحارث إليها فحصرها وملكها وقتل ابن موسى وتقدم إلى مدينة تطيلة فحصرها فصالحه موسى على أن يخرج عنها فانتقل موسى إلى أرنيط «3» وبقى الحارث بتطيلة أياما ثم سار إلى موسى ليحاصره. فأرسل موسى إلى غرسية وهو من ملوك الأندلس «4» /واتّفقا على الحرب واجتمعا وجعلا للحارث كمائن فى طريقه وأعدا له الخيل والرجل بموضع يقال له ثلمة على نهر هناك، فلما جاوز الحارث النهر خرج إليه الكمناء وأحدقوا به وكانت وقعة عظيمة وأصابه ضربة فى جبهته قلعت عينيه ثم أسر، وذلك فى سنة ثمان وعشرين.
فلما بلغ خبره عبد الرحمن عظم عليه وجهّز جيشا عظيما وجعل(23/382)
عليه ابنه محمدا وسيره لقتال موسى فى شهر رمضان سنة تسع وعشرين، فوصل إلى تطيلة وحصرها وضيق على أهلها، وأهلك زرعها فصالحه موسى. وتقدم محمد إلى ينبلونة فأوقع عندها يجمع كثير من المشركين وقتل غرسية فيمن قتل، ثم عاد موسى إلى الخلاف على عبد الرحمن فجهز جيشا كثيرا وسيّرهم إلى موسى فطلب المسالمة فأجيب إليها، وأعطى ابنه إسماعيل رهينة وولّاه عبد الرحمن مدينة تطيلة فسار موسى إليها وأخرج منها من يخافه واستقرّ بها.
ذكر خروج المشركين الى بلاد الاسلام بالأندلس
قال «1» : فى سنة ثلاثين ومائتين خرج المجوس فى أقاصى بلاد الأندلس إلى بلاد المسلمين، وكان أول ظهورهم فى ذى الحجة سنة/ تسع وعشرين ومائتين وعند أشبونة فأقاموا بها ثلاثة عشر يوما كان بينهم وبين المسلمين فيها وقائع، ثم ساروا إلى قادس «2» ثم إلى شذونة وكان بينهم وبين المسلمين وقعة عظيمة، ثم قصدوا إشبيلية فى ثامن المحرم فنزلوا على اثنى عشر فرسخا منها، فخرج إليهم المسلمون فهزمهم العدوّ فى ثانى عشر المحرّم وقتل كثير منهم، ثم نزلوا على ميلين منها فخرج أهلها إليهم وقاتلوهم فانهزموا فى رابع عشر المحرم وكثر القتل والأسر(23/383)
فيهم. ولم يرفع المجوس السّيف عن أحد ولا عن دابّة، ودخلوا حاضر إشبيلية وأقاموا بها يوما وليلة وعادوا إلى مراكبهم، فوافاهم عسكر عبد الرحمن فبادر إليهم المجوس فثبت المسلمون وقاتلوهم فقتل من المشركين سبعون رجلا وانهزموا ودخلوا مراكبهم، واحجم المسلمون عنهم، فسيّر عبد الرحمن جيشا آخر فقاتلهم المجوس قتالا شديدا ورجعوا عنهم فتبعهم العسكر فى ثانى شهر ربيع الأول وقاتلوهم، وأتاهم المدد من كل ناحية فنهضوا لقتال المجوس من كل جانب فانهزم المجوس وقتل نحو خمسمائة رجل وأخذوا منهم أربعة مراكب فأخذوا ما فيها وأحرقوها.
ثم خرج المجوس إلى لبلة «1» فأصابوا سبيا ونزلوا جزيرة بالقرب من قوويس فقسموا ما كان معهم مما غنموه، فدخل المسلمون إليهم فى النهر فقتلوا رجلين ثم رحل/ المجوس فطرقوا شذونة فغنموا أطعمة وسبيا وأقاموا يومين، فوصلت مراكب عبد الرّحمن إلى إشبيلية.
فلما أحس بها المجوس لحقوا بلبلة فأغاروا وسبوا ثم لحقوا بأشبونة ثم مضوا إلى باجة، ثم قفلوا إلى مدينة أشبونة، ثم ساروا فانقطع خبرهم عن البلاد فسكن الناس.
وفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين سار جيش للمسلمين بقرطبة إلى بلاد المشركين وقصدوا جلّيقية فغنموا وقتلوا وأسروا وسبوا(23/384)
وواصلوا إلى مدينة ليون «1» فحصروها ونصبوا عليها المجانيق، فخاف أهلها وخرجوا هاربين وتركوها بما فيها، فغنم المسلمون منها ما أرادوا وأحرقوا الباقى، ولم يقدروا على هدم سورها لأن عرضه سبعة عشر ذراعا، فمضوا وقد ثلموا فيه ثلمة كبيرة» .
وفى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين غدر موسى بن موسى، فسيّر إليه عبد الرحمن جيشا مع ابنه محمد.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة، فهلك خلق كثير من الناس والدوابّ، ويبست الأشجار فاستسقى الناس فسقوا وزال القحط.
وفى سنة خمس وثلاثين ومائتين سيّر عبد الرحمن ابنه المنذر فى جيش كثيف إلى غزو الروم فبلغوا ألبة والقلاع.
وفيها كان سيل عظيم بالأندلس فخرب/ جسر إستجة والأرجاء وغرّق نهر إشبيلية ستّ عشرة قرية، وخرّب نهر باجة ثمانى عشرة قرية، وعرض حتى صار عرضه ثلاثين ميلا وكان هذا حدثا عظيما وقع فى جميع البلاد فى شهر واحد وفى سنة سبع وثلاثين ومائتين سارت جيوش المسلمين إلى بلاد العدوّ وكانت بينهم وقعة عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين وهى وقعة البيضاء.(23/385)
ذكر وفاة عبد الرحمن وشىء من أخباره
كانت وفاته فى ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل فى شهر ربيع الآخر منها.
وكان مولده فى شعبان سنة ستّ وسبعين ومائة. فكان عمره اثنتين وستين سنة ومدة ولايته إحدى وثلاثين سنة وشهرين وستة أيام.
وكان أسمر طويلا أغرّ أقنى عظيم الجبهة يخضب بالحناء. وكان له من صلبه من الأولاد الذكور والإناث سبعة وثمانون ولدا منهم خمسة وأربعون ذكرا. وكان عالما أديبا شاعرا، يعرف علوم الفلاسفة. وفى أيامه دخل زرياب «1» المغنّى إلى الأندلس فحضر/ يوما عند عبد الرحمن وغنّى وعبيد الله [بن] قزمان الشاعر حاضر فقال زرياب:
قالت ظلوم سميّة الظّلم ... مالى رأيتك ناحل الجسم
يا من رأى قلبى فأقصده ... أنت العليم بموضع السّهم
فقال عبد الرحمن: البيت الثانى منقطع عن الأول غير متصل به! فقال ابن قزمان بديهة بعد البيت الأول:
فأجبتها والدّمع منحدر ... مثل الجمان زها على النّظم
فكساه عبد الرحمن وحباه.
وهو أول من رتّب اختلاف الفقهاء إلى قصره، وأمرهم بالكلام بين يديه. وكان عبد الرحمن بعيد الهمة، اخترع قصورا ومستنزهات(23/386)
كثيرة، وزاد فى الجامع بقرطبة رواقين. وكانت أيامه أيام عافيه وسكون، وكثرت الأموال عنده وأقام أبّهة المملكة ورتّب رسومها. وكان يشبّه بالوليد بن عبد الملك فى أبّهته. وهو أول من اجتلب الماء العذب إلى قرطبة وأدخله قصوره وجعل لفصل الماء مصنعا كبيرا يرده النّاس إذا خرج من قصوره رحمه الله تعالى.
ذكر امارة محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين
/ هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان، وأمه أم ولد اسمها تهتز. وهو الخامس من أمراء بنى أمية بالأندلس، قام بالأمر بعد أبيه فى يوم الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقيل فى شهر ربيع الآخر منها، وكانت ولايته فى خلافة المتوكل إلى بعض أيام المعتمد قال «1» : ولما ولى جرى فى العدل على سبرة أبيه، وتمّم زيادة بناء أبيه فى جامع قرطبة
ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج
وفى سنة أربعين ومائتين كان بين المسلمين والفرنج حرب شديدة، وسببها أن أهل طليطلة كانوا على ما ذكرناه من الخلاف على الملوك فلما ولى محمد هذا سار بجيوشه إليها، فراسل أهلها ملك جليقية يستمدونه، فأمدّهم بالعساكر الكثيرة، فبلغ محمد ذلك(23/387)
وقد قارب طليطلة فعبّأ أصحابه وكمن الكمناء بناحية وادى سليط، وتقدم إليهم فى قلّة من العسكر فطمع فيه أهل طليطلة والفرنج، وأسرعوا إليه فلما نشبت الحرب خرجت الكمناء من كلّ جهة فقتل من المشركين ومن أهل طليطلة ما لا يحصى، وجمع من الرؤوس ثمانية آلاف/ رأس، وذكر أهل طليطلة أن عدّة القتلى عشرون ألفا «1» قال «2» : وفى سنة إحدى وأربعين ومائتين استكثر محمد الرجال بقلعة رباح ليضيّق على أهل طليطلة، وسيّر الجيوش إلى غزو الفرنج مع موسى بن موسى، فدخلوا بلادهم ووصلوا إلى ألبة والقلاع، فافتتحوا بعض حصونها وعادوا وفى سنة ثلاث وأربعين خرج أهل طليطلة واقتتلوا هم ومسعود ابن عبد الله العرّيف فانهزم أهل طليطلة وقتل أكثرهم وحمل إلى قرطبة سبعمائة رأس
ذكر خروج المجوس إلى بلاد الإسلام بالأندلس
وفى سنة خمس وأربعين ومائتين خرج المجوس فى المراكب إلى بلاد الأندلس، فوصلوا إلى إشبيلية وحلّوا بالحاضر وأحرقوا الجامع، ثم جازوا إلى العدوة، ثم عادوا إلى الأندلس فانهزم أهل تدمير، ودخلوا حصن أريوله «3» ثم تقدموا إلى خليط أفرنجه(23/388)
فأغاروا وأصابوا من النّهب والسّبى كثيرا، ثم انصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وأحرقوا مركبين من مراكب المجوس، وأخذوا مركبين وغنموا ما فيهما، فجدّ المجوس عند ذلك فى القتال واستشهد جماعة من المسلمين،/ ومضت مراكب المجوس حتى وصلوا إلى مدينة بنبلونة فأصابوا صاحبها غرسية الفرنجى ففدى نفسه بتسعين ألف دينار.
وفى سنة ستّ وأربعين ومائتين سار محمد فى جيوش عظيمة إلى بلد بنبلونة فوطىء بلادها ودوّخها وخرّب ونهب وقتل، وافتتح حصونا وأصاب فى بعضها فرتون بن غرسية فحبسه بقرطبة عشرين سنة ثم أطلقه إلى بلده، وأقام محمد بأرض بنبلونة اثنين وثلاثين يوما.
وفى سنة سبع وأربعين سار جيش المسلمين إلى بلد برشلونة وهى للفرنج فأوقعوا بأهلها، فأرسل صاحبها إلى ملك الفرنج يستمدّه فأرسل إليه جيشا كثيفا، وأرسل المسلمون يستمدون فأتاهم المدد فنازلوا برشلونة وقاتلوا قتالا شديدا، فملكوا أرباضها وبرجين من أبراج المدينة، وقتل من المشركين مالا يحصى كثرة وعاد المسلمون بالظفر والغنيمة.
وفى سنة تسع وأربعين ومائتين جهّز محمد جيشا مع ابنه إلى(23/389)
مدينة ألبة والقلاع من بلد الفرنج فغنموا وافتتحوا حصونا منيعة.
وفى سنة إحدى وخمسين ومائتين سيّر محمد جيشا إلى بلاد المشركين فى جمادى الآخرة وقصدوا الملاحة، وكانت أموال لذريق بناحية ألبة والقلاع. فلما عمّ المسلمون بلدهم بالخراب والنّهب/ جمع لذريق عسكره وسار إليهم فالتقوا بموضع يقال له فج المركون «1» ، به تعرف هذه الغزاه، واقتتلوا فكانت الهزيمة على المشركين ثم اجتمعوا بهضبة بالقرب من موضع المعركة فتبعهم المسلمون وحملوا عليهم واشتد القتال فانهزم الفرنج لا يلوون على شىء، وتبعهم المسلمون يقتلون منهم ويأسرون، وكانت هذه الوقعة فى ثانى عشر شهر رجب، وكان عدد ما أخذ من رؤوس القتلى ألفين وأربعمائة رأس وتسعين رأسا، وكان فتحا عظيما.
وفى سنة تسع وخمسين ومائتين سار محمد إلى طليطلة وحصرها- وكان أهلها قد خالفوا عليه- فطلبوا الأمان فأمّنهم وأخذ رهائنهم.
وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان وفيه سبعمائة من البربر وأهل طليطلة فى عشرة آلاف، فلما التحمت الحرب بينهم انهزم مطرّف بن عبد الرحمن بن حبيب وهو أحد مقدّمى أهل طليطلة(23/390)
فتبعة أهلها فى الهزيمة، وإنما انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة فأراد أن يوهنه بذلك فقتلوا أعظم قتل.
وفيها عاد عمروس بن عمر بن عمروس الأندلسى إلى طاعة الأمير محمد، وكان مخالفا عليه عدّة سنين، فولّاه محمد مدينة أشقة «1» .
وفى سنة ستّ وستين ومائتين أمر محمد بإنشاء مراكب/ بنهر قرطبة وحملها إلى البحر وسيّرها إلى البحر المحيط ليسير منه إلى بلاد جليقية فلما دخلته تقطعت، فلم يجتمع منها مركبان، ولم يرجع منها إلا اليسير!.
وفى سنة سبع وستين ومائتين خالف عمر بن حفصون على الأمير محمد بن عبد الرحمن فخرج إليه جيش تلك الناحية وعاملها، فقاتلوه فهزمهم. وقوى أمره وشاع ذكره، وأتاه من يريد الشّرّ والفساد، فسيّر إليه محمد عاملا آخر فى جيش فصالحه عمر، وطلب العامل كلّ من كان له مساعدة لعمر، فأهلكه، ومنهم من أبعده، واستقامت تلك الناحية.
وفى سنة ثمان وستين سيّر محمد جيشا إلى المخالفين مع ابنه المنذر فقصد مدينة شرقسطة فأهلك زرعها وخرّب بلدها. وافتتح حصن روطة، وأخذ منه عبد الواحد الرّوطى- وهو من أشجع أهل زمانه- وتقدّم إلى دير تروجة وهتكها بالغارة، وقصد مدينة(23/391)
لاردة وقرطاجنة وأخذ رهائنهم، ثم قصد مدينة ألبة والقلاع فافتتح بهما حصونا، وعاد بالظّفر والنّصر والسلامة.
ذكر وفاة الأمير محمد بن عبد الرحمن
كانت وفاته فى سلخ صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين وقيل فى يوم الأحد غرّة شهر ربيع الأول منها، وأنه خرج يوم الأحد/ إلى الرصافة متنزّها ومعه هشام بن عبد العزيز فقال له: يا سيدى ما أطيب الدنيا لولا الموت! فقال له: يابن اللخناء وهل ملّكنا هذا الذى نحن فيه إلا الموت؟ ولو بقى من كان قبلنا فمن أين كان يصل إلينا؟ ورجع من نزهته فحمّ ومات فى بقية يومه، نقله ابن الرقيق فى تاريخ أفريقية وكان مولد محمد فى ذى القعدة سنة سبع ومائتين وعمره خمسا وستين سنة وثلاثة أشهر وأياما.
وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا.
وكان أبيض مشربا بحمرة، ربع القامة أوقص «1» ، يخضب بالحناء والكتم «2» وولد له مائة ولد ذكور، مات عن ثلاثة وثلاثين منهم. وكان ذكيا فطنا بالأمور المستبهمة، محبا للعلوم، مؤثرا لأهل الحديث، عارفا حسن السيرة. قال ابن مخلد «3» الفقيه:(23/392)
ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا ولا أبلغ من الأمير محمد بن عبد الرحمن، رحمه الله تعالى. وكانت وفاة محمد فى خلافة المعتمد على الله العباسى.
ذكر امارة المنذر بن محمد
هو أبو الحكم المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها ايل «1» ، وهو السادس من أمراء بنى أمية بالأندلس. قام بالأمر فى يوم وفاة أبيه فى غرّة شهر ربيع/ الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين، وقيل بويع له بعد وفاة أبيه بثلاث ليال وخالف عليه ابن حفصون- وقد ذكرنا خلافه على أبيه- وتحصن عمر بن حفصون بطليطلة، فسار المنذر إليها وأحدق بها، فأعمل ابن حفصون الحيلة وسلك طريق المكر والخديعة، وسأل الأمان، وأظهر الرغبة فى سكن قرطبة بأهله وولده. فأمنه المنذر وكتب له بما أراد، وفصّل لأولاده الثياب. ثم سأل مائة بغل يحمل عليها أثقاله وعياله إلى قرطبة، فأمر له المنذر بها وسلّمت إليه وعليها عشرة من العرفاء.
وارتحل العسكر، فأخذ ابن حفصون البغال وقتل العرفاء، وعاد إلى سيرته الأولى. فعقد المنذر على نفسه أنه لا أعطاه صلحا ولا عهدا إلا أن يلفى بيده وينزل على حكمه، وأمر بالسكنى،(23/393)
وأن تردّ أسواق قرطبة إلى طليطلة. ودام الحصار، فمات المنذر وهو يحاصره.
وكانت وفاته فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وقيل فى نصف صفر. وعمره نحوا من ستّ وأربعين سنة وولايته سنة واحدة وأحد عشر شهرا، وأيام.
وكان أسمر طويلا، جعدا كثّ اللحية، بوجههه أثر جدرى، وخلف ستة أولاد ذكورا. وقيل لم يعقب فولى بعده أخوه! «1»
ذكر امارة عبد الله بن محمد
هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها عشار، وهو السابع من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له بعد وفاة أخيه المنذر فى يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وقيل فى منتصف صفر منها، وذلك فى خلافة المعتمد على الله العباسى.
ولما بويع له كان بالمعسكر على طليطلة فرحل نحو قرطبة، ودخل القصر بها لثلاث بقين من صفر المؤرّخ. قال إبراهيم بن الرقيق: ولما تولّى ألّب ابن حفصون عليه، وحشد كور الأندلس حتى لم ييق منها إلا قرطبة، وأقبل فيمن أطاعه من أهل الكور.(23/394)
وخرج إليه الأمير عبد الله فى أربعة عشر ألفا من أهل قرطبة خاصة، وأربعة آلاف من حشمه ومواليه. فبرز إليه ابن حفصون فى سفح الجبل وثار له، فلم تكن إلا صدمة صادقة حتى أزالوهم عن مراكزهم.
ودخل ابن حفصون الحصن كأنه يخرج من بقى فيه، فثلم فيه ثلمة أخرج منها أهله وما كان له. فلما انتهى ذلك إلى عسكره ولّوا مدبرين لا يلوى أحد منهم على أحد «1» فقتلوا قتلا ذريعا/ ودخل منهم جماعة فى عسكره فأمر بالتقاطهم وجلس لهم فى مظلة فقتل بين يديه ألف صبرا.
وكانت فى أيامه فتن عظيمة، وكثر قيام الثوّار عليه حتى لم يبق فى يده إلا مدينة قرطبة وحدها. وخالف عليه أهل إشبيلية وشذونه، ولم تبق مدينة إلا خالفت عليه. وعزموا على الدعاء على منابر الأندلس للمعتضد بالله العباسى، فكتبوا إلى إبراهيم ابن أحمد الأغلب يسألونه أن يبعث إليهم رجلا من قبله، فتثاقل عنهم إبراهيم وشغله أيضا اضطراب أهل أفريقية عليه، فأمسكوا عن ذلك! وقلّت رجال عبد الله بن محمد، وذهب من كان يصول به- هو وآباؤه- من مواليهم وأصحابهم، وقلّت الأموال فى يده لخروج أهل المدن وامتناعهم من أداء الخراح إليه. وكان خراج الأندلس(23/395)
الذى يؤدّى إلى آبائه ثلاثمائة ألف دينار فى كلّ سنة، فكانوا يعطون رجالهم وخدمهم مائة ألف دينار، وينفقون فى أمورهم ونوّابهم وجميع ما يعرض لهم مائة ألف، ويدّخرون مائة ألف «1» . فلما امتنع أهل مدن الأندلس من أداء الخراج إليهم رجعوا إلى تلك الذخائر ينفقونها، واتصلت عليهم الحروب خمس عشرة سنة فنفدت ذخائرهم واحتاجو للقروض! وكانت أيامه على هذه الحال إلى أن توفى، وكانت وفاته/ فى يوم الثلاثاء غرة شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة، وعمره سبعون سنة إلا شهورا، ومدة ولايته خمس وعشرون سنة ونصف شهر وكان مستبدا بآرائه، مخالفا لنصحائه، ليّن الجانب جدا. بلغ من لينه أنّ ابنه مطرّفا قتل أخاه محمد بن عبد الله والد الناصر فلم ينكر عليه ذلك، بل قال له: قد سوّغتك قتل أخيك فالله الله فى ابن أمية (يعنى وزيره) فإنك إن قتلته قتلتك به! ثم حذّر ابن أمية من مطرّف، وكان مطرّف قد عزم على خلعه فلم يمكنه ذلك لمكان ابن أمية، فعمل عليه حتى قتله. ولما مات عبد الله ولى بعده ابن ابنه عبد الرحمن.
ذكر امارة عبد الرحمن بن محمد
هو أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وأمه أمّ ولد اسمها مزنة، وهو الثامن من أمراء بنى أمية بالأندلس.(23/396)
بويع له بعد وفاة جدّه، فى مستهل شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة.
وقال ابن الرقيق إنه أخ لعبد الله بن محمد، وليس بصحيح! وينقض ذلك عليه أنه قال فيه: ولى وهو ابن أربع وعشرين سنة ووفاة محمد بن عبد الرحمن قبل مولد عبد الرحمن هذا بأربع سنين، وأظنه أشكل عليه أمره، والتبس عليه محمد بن/ عبد الله بجدّه محمد بن عبد الرحمن، والله تعالى أعلم..
قال «1» : ولما ولى عبد الرحمن هذا تلقّب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وهو أوّل من لقّب بأمير المؤمنين ببلاد الأندلس.
وكان من قبله يسمّون ببنى الخلائف، ويسلّم عليهم ويخطب لهم بالإمرة فقط. وإنما تسمّى هذا بأمير المؤمنين لما بلغه ضعف الخلافة بالعراق فى أيام المقتدر بالله، وظهور الشيعة بالقيروان، ودعاؤهم للمهدى. فكان فى ذلك الوقت ثلاثة خلائف تلقّب كل منهم بأمير المؤمنين؛ فالمقتدر بالعراق، والمهدى بالقيروان، وهذا الناصر بالأندلس.
قال: وولى والأندلس نار تضطرم، وجمرة تتقّد شقاقا ونفاقا، فأخمد نيرانها وسكّن زلازلها، وغزا غزوات كثيرة، وكان يشبّه بعبد الرحمن الداخل. ولم يجد من المال ما يستعين به على مصالح جيشه، فاتفق أن صاحب الدّوجر «2» أغار على قرطبة فى نحو ثلاثمائة فارس فهزمه عبد الرحمن وأسره. فسلّم إليه الحصن بجميع ما فيه فتقوّى به، ثم التقى مع ابن حفصون فى وادى التفاح(23/397)
بجيّان- وكان ابن حفصون فى عشرين ألف فارس- فهزمه عبد الرحمن وأفنى أكثر من معه قتلا وأسرا.
وبعث إلى المغرب الأوسط، فملك سبتة وفاس وسجلماسة وعمّرها وغزا الروم بعد ذلك اثنتى عشرة غزوة/ حتى دوّخ بلادها، ووضع عليهم [جزية] «1» يؤدونها. وكان فيما شرط عليهم اثنا عشر ألف صانع يصنعون له فى مدينته التى بناها وسمّاها الزهراء، وهى على ثلاثة أميال من قرطبة، أسندها إلى سفح الجبل وساق المياه إليها. وقسمها أثلاثا، فالثلث الذى يلى الجبل لقصوره ومنازله، والثلث فيه دور خدمه وكانوا اثنى عشر ألفا بمناطق الذهب والسيوف المحلاة يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، والثلث بساتين تحت مناظره وقصوره. وجلب إليها أنواع الفواكه، قال «2» : ومن غريب ما بناه فيها مجلس مشرف على البساتين مرفوع على العمد مبنى بالرخام المجزّع، مصفّح بالذهب، مرصّع باليواقيت والجواهر. وصنع أمام المجلس بحرا ملأه بالزئبق فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، فحضر إليه القاضى بقرطبة الفقيه منذر بن سعيد البلّوطى «3» فقرأ «ولولا أن يكون النّاس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج(23/398)
عليها يظهرون» إلى قوله تعالى «والآخرة عند ربّك للمتّقين» «1» فقال له وعظت فأحسنت! وأمر بنزع الصفائح.
قال «2» : وكمل بناء الزهراء فى اثنتى عشرة سنة، بألف بنّاء فى كل يوم، مع كل بنّاء اثنا عشر رقاصا، وسكنها خمسا وعشرين سنة.
وطالت أيام الناصر، وتمكن، واتسعت مملكته./ وكانت وفاته فى ليلة الأربعاء لليلتين، وقيل لثلاث خلت من شهر رمضان المعظم سنة خمسين وثلاثمائة بالزهراء. وحمل إلى مدينة قرطبة، فدفن بها مع أسلافه من بنى أمية. ومولده فى يوم الخميس لتسع بقين من شهر رمضان سنة سبع وسبعين ومائتين، وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة، ومدة ولايته خمسين سنة وستة أشهر وأياما.
وكان شهما صارما، لم يزل منذ ولى يستذل المتغلبين حتى خلصت له جميع الأندلس فى خمس وعشرين سنة من ولايته. وكان له من الأولاد الحكم ولىّ عهده، وعبد الجبار، وسليمان، وعبد الملك، وعبيد الله، والمغيرة، ولما مات ولى بعده ابنه (الحكم)
ذكر امارة الحكم المستنصر بالله
هو أبو العاص الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن(23/399)
الداخل، وأمه أم ولد اسمها مرجان، وهو التاسع من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له فى شهر رمضان سنة خمسين وثلاثمائة فى جميع مدن الأندلس وثغورها، فأحسن إلى الرعية، وعدل فيهم وضبط الثغر، وغزا الروم فى سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ففتح مدنا جليلة، وسبى وغنم/ وانصرف غانما.
ثم أصابه الفالج فتغيّب عن الناس، فلما كان فى يوم السبت لعشر خلون من المحرم سنة ستّ وستين وثلاثمائة أظهر موته، وقيل توفى فجأة ليلة الأحد لأربع خلون من صفر منها. ومولده فى يوم الجمعة مستهل شهر رجب سنة اثنتين وثلاثمائة، فمات وله من العمر ثلاث وسبعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام، ومدة ولايته خمس عشرة سنة وأربعة أشهر وأيام.
وكان حسن السيرة، جامعا للعلوم مكرما لأهلها، وجمع من الكتب على اختلاف أنواعها ما لم يجمعه غيره من الملوك قبله، واشتراها من سائر الأقطار، وغالى فى أثمانها، فحملت إليه من كل جهة. وكان قد رام قطع الخمر، من الأندلس، وأمر بإراقتها وشدّد فى استئصال شجرة العنب من جميع أعماله. فقيل له إنها تعمل من التين وغيره، فتوقف فى ذلك. وهو الذى رحل إليه أبو على القالى البغدادى صاحب الأمالى «1» ، وأبو بكر(23/400)
الزبيدى مختصر كتاب العين «1» . وكان منذر بن سعيد البلوطى قاضية وقاضى أبيه، فلما توفى ولى القضاء ابن بشير الفقيه، فاشترط على المستنصر نفوذ الحكم فيه فمن دونة.
فكان من أخباره أن امرأة منقطعة كان لها أريضة تجاور بعض قصور الأمير، فاحتاج إليها ليبنى فيها شيئا مما أراد بناءه، فساومها الوكيل فى البيع/ فامتنعت، فأخذها الوكيل قهرا وبنى فيها منظرة بديعة وأنفق عليها جملة وافرة. فوقفت المرأة لابن بشير القاضى وقصّت عليه قصتها، فركب حماره وجعل عليه خرجا كبيرا لا يطيق حمله إلا جماعة من الرجال. وقصد الزهراء والمستنصر فى تلك المنظرة، فدخل عليه فقال: ما جاء بالقاضى فى هذا الوقت؟
فقال: أريد ملء هذا الخرج من تراب هذا الموضع! فتعجّب منه الحكم وأمر فملىء الخرج ثم خلا القاضى به فقال: أدل عليك إدلال العلماء على الملوك الحلماء أن لا ينقل هذا الخرج على الحمار إلا أنا وأنت! فضحك الحكم وقال: فكيف نطيق ذلك أيها القاضى؟ فبكى ابن بشير وقال: فكيف نطيق أن نطوق هذا المكان أجمعه من سبع أرضين فى حلقى وحلقك يوم القيامة وأنا شريكك فى الإثم إن رضيت هذا الحكم؟ وقصّ عليه القصة،(23/401)
فبكى الحكم وقال: وعظت فأبلغت أيها القاضى! ثم خرج عن المكان وسلّمه إلى المرأة بكل ما بنى فيه وغرس.
قال: وكتب إليه العزيز بن المعز صاحب مصر كتابا يشتمه فيه ويسبه، فكتب إليه «أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك، والسلام» وكتب إليه قصيدة يفتخر فيها منها:
ألسنا بنى مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منا تهلّلت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
وكان للحكم من الأولاد هشام، وسليمان، وعبد الله. وحاجبه جعفر الصقلى، المعروف بالفتى!
ذكر امارة هشام المؤيد بالله
هو أبو الوليد هشام المؤيد بالله بن الحكم المستنصر بالله، وهو العاشر من أمراء بنى أمية ببلاد الأندلس. بويع له بولاية العهد فى حياة أبيه فى غرّة جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة.
وجدّدت له البيعة فى يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة ستّ وستين وثلاثمائة. وقيل فى يوم الإثنين لخمس خلون من صفر منها، وهو ابن اثنتى عشرة سنة باتفاق الوزراء. وعلموا أن عمّه المغيرة بن عبد الرحمن ينازعه فى الأمر ويتطاول إلى بعض ما عقد له ويرى أنه أحقّ بذلك منه لصغر سنّه، فهجم عليه فى(23/402)
منزله فذبح. وكان الذى تولّى قتله محمد بن أبى عامر الوزير، فصعّب الأمور لهشام.
ولما ولى احتيج إلى مدبر للمملكة، فوقع الاختيار على جعفر ابن عثمان المصحفى، فقلّده هشام حجابته وتدبير أمره، وأشرك معه فى الحجابة غالب بن عبد الرحمن. وقلّد المنصور بن أبى عامر الوزارة- وكان على الشرط والسكة- فانحط المصحفى وارتفع ابن/ أبى عامر، ثم عزل المصحفى عن الحجابة فى يوم الإثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين وحوقق وطولب بمائة ألف دينار، وتوفى فى المطبق بعد خمسة أعوام، فكانت مدة ولايته ستة أشهر وثلاثة أيام.
ذكر أخبار المنصور محمد بن أبى عامر
قال «1» : ولما عزل المصحفى اتفق الرأى على تقديم محمد بن أبى عامر المعافرى «2» ، فولى الحجابة فى يوم الإثنين المؤرّخ، وبقى غالب شريكه إلى أن قتل وتفرّد المنصور بالأمر.
قال بعض المؤرخين: كان محمد بن أبى عامر من الجزيرة الخضراء «3» ، وله بها قدر وأثرة وورد وهو شاب إلى قرطبة واشتغل بالعلم والأدب، وسمع الحديث وتميّز. وكانت له همة يحدّث بها نفسه بإدراك معالى الأمور، وكان يحدّث من يختص به(23/403)
بما يقع له من ذلك. وله أخبار كثيرة أورد منها أبو عبد الله الحميدى- فى كتابه المترجم بالأمانى الصادقة- كثيرا قال: ثم علت حاله، وتعلّق بوكالة صبح أمّ هشام المؤيد، والنظر فى أموالها؛ فزاد أمره فى التّرقّى إلى أن مات وولى ابنها هشام، فخافت اضطراب الأمر عليه، فضمن لها سكون الحال وزوال الخوف/ واستقرار الملك لابنها. فساعدته المقادير، وأمدّته المرأة بالأموال فاستمال العساكر إليه، فصار صاحب التدبير والمتغلّب على الأمر.
وحجب هشاما وتلقّب بالمنصور «1» وأقام الهيبة، فدانت له أقطار الأندلس كلها، ولم يضطرب عليه شىء منها لعظم هيبته وحسن سياسته. وكان يدخل إلى القصر ويخرج فيقول: أمر أمير المؤمنين بكذا ونهى عن كذا! فلا يعترض عليه فى مقال ولا ينازع فى أفعال.
وكان إذا غزا بلد الروم وكل بهشام من يمنعه من التصرف والظهور والإذن فى دخول أحد من الناس إلى أن يعود من سفره، فإذا كان بعد سنين أركبه وجعل عليه برنسا وألبس جواريه البرانس حتى لا يعرف منهن، ويوكل بالطرقات من يطرد الناس عنها حتى ينتهى إلى الزّهراء وغيرها من المتنزهات، ثم يعيده على مثل ذلك. وليس له من الملك إلا الدعاء على المنابر، وإثبات اسمه(23/404)
على السكة والطرر، والمنصور على أتمّ ما يكون من الحزم وسدّ الثغور وإقامة العدل وشمول الناس بالإحسان والفضل. فلم ير فى الضبط وحسن السياسة وأمن السبيل وتوفية حقوق الرياسة بجزيرة الأندلس كأيامه! ودامت له هذه الحال بضعا وعشرين سنة إلى أن توفى، وكانت وفاته فى أقصى الثغور/ بمدينة سالم «1» فى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة فى طريق الغزو.
قال «2» : وكان رحمه الله تعالى له مجلس فى الأسبوع يجتمع فيه أهل العلم للكلام بحضرته مدة بقائه بقرطبة، قال وختن أولاده فختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائه صبى ومن أولاد الضعفاء ما لم تحص عدتهم، وأنفق فيه خمسمائة ألف دينار.
وكان ذا همة عالية فى الجهاد، مواصلا لغزو الروم «3» ، وربما خرج لصلاة العيد فيقع له فيه الجهاد، فلا يرجع إلى قصده ويركب من فوره بعد انصرافه من الصلاة، فلا يصل إلى أوائل الدروب إلا وقد لحقه كل من أراد من العساكر. وغزا ستا وخمسين غزاة ذكرت فى المآثر العامرية بأوقاتها، وفتح فتوحا كثيرة، ووصل إلى معاقل جمّة امتنعت على من كان قبله. وملأ الأندلس بالغنائم والسبى.(23/405)
قال «1» : وكان إذا انصرف من قتال العدو إلى سرادقه يأمر بنفض غبار ثيابه التى شهد فيها الحرب، ويجمع ويحتفظ به.
فلما حضرته الوفاة أمر أن ينشر على كفنه ما جمع من ذلك إذا وضع فى قبره.
قال: وبنى مدينة الزاهرة بقرب قرطبة، وانتقل إليها بأهله وولده وحواشيه. وكان قد يخوّف من بنى أمية أن يثوروا به، فأخذ فى تقتيلهم صغارا وكبارا، عملا فى الباطن لنفسه وفى الظاهر إشفاقا على المؤيد منهم، حتى أفنى من يصلح منهم/ للولاية، وفرّق الباقين فى البلاد. فكان ممن هرب الوليد بن هشام الخارج على الحاكم بمصر، الملقب بأبى زكوة.
وأخبار المنصور طويلة مشهورة لو استقصيناها لطال الكتاب، وفيما نبّهنا عليه من أخباره وذكرناه من آثاره كفاية. وأخبرنى بعض أهل الأندلس أن على قبره مكتوبا:
آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتى الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمى الثغور سواه
ولما مات رحمه الله- قام بالأمر بعده ولده.
ذكر المظفر أبو مروان عبد الملك
قال «2» : وكان الناس قد تجمعوا وقصدوا الزهراء وقالوا:
لا بدّ من ظهور المؤيد وولايته الأمر بنفسه! فلما بلغه ذلك آثر(23/406)
الراحة والدعة، وأحضر عبد الملك وخلع عليه وقلّده ما كان بيد أبيه من الولاية، ونعته بالحاجب المظفر سيف الدولة. وأمر فاتن «1» الصغير الخادم أن يخرج إلى المجتمعين فيصرفهم ويخبرهم برضائه بحجبة المظفر، فأخبرهم، فأبوا! وخرج المظفر فقابلته الفئة المجتمعة فهزمهم، وأقام فى الحجبة إلى أن توفى لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة/ تسع وتسعين وثلاثمائة بموضع يقال له القبران «2» فى غزوته، فحمل فى تابوت ودفن بالزاهرة وعمره ستّ وثلاثون سنة. ومدة ولايته ستة أعوام وأربعة أشهر وأيام وغزا الروم ثمانى غزوات وبأيامه تضرب المثل بالأندلس عدلا وأمنا.
ولما مات ولى الحجبة عبد الرحمن بن المنصور محمد بن أبى عامر وهو أخو المظفر ونعت بالحاجب المأمون ناصر الدولة، ويلقب بشنشول فافتتح أموره بالخلاعة والمجانة، وكان يخرج من منية إلى منية ومن متنزه إلى متنزه بالملاهى والمضحكين، ويجاهر بشرب الخمر والتهتّك. ثم طلب من المؤيد أن يدعو له ويوليه العهد بعده، وهدّده بالفتك به إن لم يفعل، وكثر الإرجاف بذلك.
ثم ركب شنشول من الزاهرة ومعه سائر أهل الخدمة بسلاحهم، والوزير وقاضى الجماعة، والفقهاء والعدول، وأصحاب الشّرط، ووجوه الناس على طبقاتهم. وسار إلى باب القصر بقرطبة، وحضر(23/407)
المؤيد هشام، وأخرج كتابا قرىء بحضرته وهو بخط الوزير أبى عمر «1» ، وفيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين/ إلى الناس عامة، وعاهد الله- عزّ وجلّ- عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامّة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمره، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشى إن هجم محتوم ونزل مقدور به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوى إليه وملجأ تنعطف عليه.. أن يكون بلقاء ربه- تبارك وتعالى- مفرطا فيها ساهيا عن أداء الحقّ إليها ونقض عند ذلك من طبقات الناس من أحياء قريش غيرها ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته، بعد اطّراح الهوى والتحرّى للحق والتزلّف إلى الله- جلّ جلاله- مما يرضيه. بعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا هو أجدر أن يقلده عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده، بفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مركبه وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه، ومعرفته وإشرافه، وحزمه وتقاته.. من المأمون الغيب الناصح الجيب، أبى المطرّف عبد الرحمن ابن محمد المنصور أبى عامر بن أبى عامر، وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين- أيده الله- قد ابتلاه واختبره، ونظر فى شأنه واعتبره، فرآه مسارعا/ فى الخيرات سابقا فى الحلبات مستوليا على الغايات جامعا(23/408)
للمأثرات! ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه.. فلا غرو أن يبلغ من سبل البرّ مداه، ويحوى من سبيل الخير ما حواه. مع أن أمير المؤمنين- أكرمه الله- بما طالع من مكنون العلم، ودعاه من مخزون الأمر، أمّل أن يكون قد ولىّ عهده القحطانى الذى حدّث عنه عبد الله ابن عمرو بن العاص وأبو هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال:
لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه.
فلما استوى منه الاختيار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مهربا، ولا إلى غيره معدلا.. خرج إليه من تدبير الأمور فى حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مستخيرا مجتهدا. وأمضى أمير المؤمنين عهده هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه مثنوية «1» ولا خيارا، وأعطى على الوافاء به فى سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ودمه وذمّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم، وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمّة نفسه..
أن لا يبدّل، ولا يغيّر ولا يحوّل، ولا يزول، وأشهد الله تعالى وملائكته على ذلك، وكفى بالله شهيدا.. وأشهد من وقع اسمه فى هذا وهو جائز الأمر، ماضى القول والفعل/ بمحضر من ولى عهده المأمون أبى المطرف عبد الرحمن بن المنصور- وفّقه الله- وقبوله ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة» .
ثم كتب الوزراء والقضاة والفقهاء شهاداتهم بذلك، فلما تمّ(23/409)
له ما أراد من ولاية العهد ودعى له على المنابر، أخذ فى التخليط وارتكاب المحرّمات. ثم عزم على الغزاة، وتقدّم اليه هشام أن يتعمّم هو وسائر الجند ففعل، وخرجوا فى العمائم «1» - وكانوا بها فى أقبح زىّ لمخالفة العادة- وذلك فى يوم الجمعة لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى.
وسار للغزاة وهى المعروفة بغزوة الطين، وقيل إنه انتهى إلى طليطلة، فأتاه الخبر بقيام محمد بن هشام بن عبد الجبار وخلعه للمؤيد، وأنه أخرب الزاهرة، فخلف الناس لنفسه، ثم تفرقوا عنه، والتحقوا بمحمد بن هشام وكان من أمره وأمر المؤيد ما نذكره فى أيام محمد بن هشام بن عبد الجبار!
ذكر امارة محمد المهدى
هو أبو الوليد محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وهو الحادى عشر من ملوك بنى أمية بالأندلس استولى/ على الأمر فى جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ونحن نذكر سبب ذلك وكيف كان خروجه وكيف استولى على الأمر، لأنّ فى ذلك من الغرائب والحوادث ما يتعين إيراده بسببه ويفيد تجرّبه، ويعتبر به من يتأمله، ويعلم أنّ المقادير تجرى على غير قياس، وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه.
وكان ابتداء هذا الأمر أنّ هشام بن عبد الجبار والد محمد المهدى(23/410)
هذا قد ترشّح لطلب هذا الأمر لنفسه، وعزم على خلع هشام المؤيد، فبلغ ذلك المظفر عبد الملك فقتل هشام بن عبد الجبار قبل أن يستحكم أمره فى سنة تسع وتسعين. وكان محمد بن هشام جسورا مقداما شجاعا، ولم يتهيأ له أمر لهيبة عبد الملك واجتماع جنده، فلم يزل محمد يترصّد الأمر حتى مات عبد الملك وولى عبد الرحمن. وتطاول لولاية العهد ونالها، وخرج للغزاة- على ما قدّمنا- فخلا البلد من الجند. وقوّى عزم محمد رجلان وهما حسن بن حىّ الفقيه ومطرف بن ثعلبة. وكان محمد يعاشر فى مدة استتاره قوما من الصعاليك لهم إقدام على كل عظيمة، فدسّ بعضهم إلى بعض وأعطاهم من خمسة مثاقيل إلى عشرة وأكثر من ذلك، فاجتمع له منهم نحو أربعمائة رجل./ وطاوعه على ذلك جماعة من المروانيين لخروج الأمر عنهم وصرفه إلى أبى عامر.
وكان عبد الرحمن قد رتّب أمور البلد قبل مسيره، وجعل النظر فى الأموال وتدبير البلد إلى أحمد بن حزم وعبد الله بن سلمة المعروف ابن الشرس، وجعل على المدينة عبد الله بن عمرو المعروف بابن عسفلاجة وهو أحد بنى أبى عامر. وظن شنشول أن الأمور لا تتغير وأن دولتهم قد استحكم أمرها، هذا ومحمد فى تقرير حاله، فشنع الناس أنّ قائما يقوم على بنى الأغلب، فبلغ ابن عسفلاجة الخبر فأظهر البحث وبالغ فى الكشف فلم يتبيّن له شىء وهجم دورا كثيرة فلم يقف على أمر واضح.
فلما كان فى يوم الثلاثاء النصف من جمادى الآخرة مات ابن عبد الجبار بقرطبة، وتقدم إلى ثلاثين رجلا من كفاة أصحابه(23/411)
أن يشتملوا على سيوفهم ويدخلوا من باب القنطرة متفرقين حتى يقفوا على السترة التى تشرف على الرصيف والوادى، كما يفعل من يريد التفرّج بذلك المكان. وأمرهم أن لا يحدثوا حدثا حتى يأمرهم وأنذر سفهاءه وواعدهم ساعة قبل زوال الشمس، ففعل أولئك النّفر ما أمرهم به، وكان من سواهم على انتظار الوقت الذى حدّده لهم. وركب محمد بغلته وعبر القنطرة وحده حتى انتهى إلى باب الشكال ومعه نفر من أصحابه كانوا قياما على باب القنطرة/ فاقتحموا باب الشكال فأنكرهم حرس الباب وأرادوا منعهم، فبادر محمد ودخل. وسلّ أولئك النّفر سيوفهم وقصدوه، فقصدهم صاحب المدينة ابن عسفلاجة، فيقال إنه كان يشرب مع حارسين له، فأتاه محمد وهو على أهبة فقتله واحتزّوا رأسه. وتتابع أصحاب محمد من جهاتهم إليه.
واتصل الخبر بأهل الزاهرة عند العصر وقد عظم جمع محمد من أصحابه ومن اجتمع إليه من العوام وأهل البادية، فنقب القصر من ناحية باب السباع ومن ناحية باب الجنان، ولم يقدر حرس القصر على مقاومته.. ووصل إلى القصر من جهة باب السدة وأهل الزاهرة غير مصدقين بالأمر، وظنوا أنه أمر يدفعه صاحب المدينة إلى أن قوى عندهم الخبر بدخول محمد القصر، فكان حسبهم اعتصامهم بالزاهرة فى ليلتهم.
فلما صار محمد داخل القصر أرسل إليه المؤيد هشام يقول له:
تؤمننى على نفسى وأنخلع لك من الأمر! فقال «سبحان الله(23/412)
أترانى إنما قمت فى هذا الأمر لأقتل أهل بيتى، وإنما قمت غضبا له ولنفسى وبنى عمى، فإن خلع نفسه طائعا قبلت ذلك، وليس له عندى إلا ما يحبّ.
وأرسل محمد إلى الفقهاء ووجوه الناس فأحضرهم، وكتب كتاب الخلع والبيعة لمحمد، وبات تلك الليلة فى القصر وأهل بالس وهى الزهراء لم يتحرك/ منهم أحد، وكانوا جمعا كبيرا منهم أبو عمرو بن حزم وعبد الله بن سلمة وابن أبى عبيدة وابن جهور، وجماعة من الفقهاء والوزراء والصقالبة- وهم الخصيان- ونفر من الجند والخزان والكتاب.
وأصبح محمد فجعل حجابتة إلى ابن عمه محمد بن المعيرة، وجعل على المدينة ابن عمّه أمّيّة بن إسحاق. وأمرهما بإثبات كل من جاءهما فى الديوان، فلم يبق أحد حتى أثبت نفسه حتى الزهاد والعباد وأئمة المساجد وغيرهم وقبضوا العطاء، وكذلك التجار الأغنياء. واتّبعه سائر أهل البوادى والأطراف، وأرسل حاجبه محمد بن المغيرة فى خلق من العامة لمحاربة أهل بالس فردّوه أقبح ردّ وهزموه إلى داخل قرطبة. ثم كثر العامة فهزموهم إلى بالس، ودخلها الحاجب ونهبت، فسأل الوزراء والصقالبة الأمان فأمّنهم محمد، فساروا إليه فوبخهم ثم عفا عنهم ورد ابن الشرس مع الحاجب لنقل ما ببالس من الأموال والأمتعه والأثاث وقد نهب منه ما لا يحصى، ونهبت ليلة الأربعاء دور كثيرة للعامرية، ونهب ما جاوز بالس من دور الوزراء، وانتهب ما فى الزاهرة حتى قلعت الأبواب والأخشاب، والحاجب مع ذلك ينقل.(23/413)
ثم أمر محمد بعد أربعة أيام بكفّ أيدى العامة عن النّهب فمنعوا،/ وتفرّد بنقل ما يريد، فيقال إن الذى وصل إليه من الزاهرة فى ثلاثة أيام ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، ومن الدراهم الأندلسية ألفا ألف ومائة ألف، ووجد بعد ذلك خوابىّ فيها نحو من مائتى ألف دينار، وأطلقت النار فى الزاهرة لعشر بقين من جمادى الآخرة.
وخطب لمحمد بالخلافة وقطعت خطبة هشام وشنشول، وقرئ بعد صلاة الجمعه كتاب بلعن شنشول وذكر مساوئة، وقرئ كتاب آخر من محمد بإسقاط رسوم جارية وقبالات محدثة.
وصلّى محمد بالناس الجمعة لأربع من جمادى الآخرة ودعا لنفسه وتلقّب بالمهدىّ، وقرئ بعد نزوله كتاب على المنبر بالنفير لقتال شنشول. ووصل أهل الأقاليم من أقصى الأندلس، مظهرين عدّة الحرب، وولّى محمد جنده قوادا من طبيب وحائك وجزار وسرّاج، وخرج بهم ونزل يفحص السّرادق، وأمر أهل النواحى بالنزول حول سرادقه.
ذكر أخبار شنشول ومقتله
قال «1» : وأما شنشول فإنه لما بلغه الخبر- وكان قد انتهى إلى طليطلة- عاد إلى قلعة رباح «2» وقد تخاذل عنه الناس؛ فعزم(23/414)
على/ استجلاب الناس لنفسه فامتنعوا وقالوا: قد خلفنا مرة ولا يخلف أخرى! فعلم أنهم خاذلوه، فدعا محمد بن يعلى الزناتى وكان عزم على خذلانه فقال له: ما ترى فيما نحن فيه؟ فقال له: أصدقك عن نفسى وعن الجند ليس والله يقاتل معك أحد منهم! قال ما الدليل على ذلك؟ قال: تأمر بتقديم مطبخك إلى طريق طليطلة وتظهر الرحيل إليها فتعلم من يتبعك ومن يتخلّف عنك! قال: صدقت.
وكان ابن عومس القومس «1» مع شنشول يريد قرطبة معاقدا له يستنصر به على من بناوئه من القمامسة. فلما رأى اضطراب حال شنشول أشار عليه أن يرحل معه إلى بلده، ويكونوا يدا واحدة، ويلجأوا إلى مكان، فأبى ذلك وقال: لابدّ من الإشراف على قرطبة فإنى أرجو أننى إذا اطلعت عليها اختلفت كلمة محمد، ولى أنصار يميلون إلى سلطانى ويحبون ظهورى! فقال له القومس:
خذ باليقين ودع الظن، أمرك والله مختل وجندك عليك لا لك! فقال:
لا بدّ من المسير إلى قرطبة! فقال: أنا معك على كراهية لرأيك وعلم بخطاياك.
وسار شنشول من قلعة رباح والأخبار تتواتر بتظاهر أهل قرطبة مع ابن عبد الجيار، فلما بلغ منزل هانىء فارقه عامّة البربر ليلا، وذلك فى سلخ جمادى الآخرة، ثم فارقه الناس بعد ذلك وبقى فى نفر يسير من خدمه، وابن عومس فى نفر من النصارى،(23/415)
فقال له: سر بنا من هنا قبل أن يدهمنا ما يمنعنا من ذلك! فأبى شنشول وقال: قد بعثت القاضى فى طلب الأمان لى. ثم تجبر فى أمره وسار إلى دير يعرف بدير شوش «1» ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رجب.
وبلغ خبره محمد، فأرسل إليه حاجبه فى مائتى فارس، فأرسل الحاجب ابن ذرى مولى الحكم فسبقه إلى الدير فصبحه فى يوم الجمعة، فقال شنشول لما عاينه ومن معه: ما لكم علىّ سبيل، أنا فى طاعة المهدى! فاستنزلوه من الدير ومعه ابن عومس ومن تبعهما، وأخذ نساء شنشول- وهن سبعون جارية- فبعث بهن إلى قرطبة، ولحق الحاجب بابن ذرى قبل العصر من يوم الجمعة. فلما أقبل عليهم نزل شنشول فقبّل الأرض بين يدى الحاجب مرارا، فقيل له:
قبّل حافر فرسه! ففعل وقبّل رجله ويده، ثم حمل على غير فرسه وابن عومس ساكت لم ينطق، وأشار الحاجب بانتزاع قلنسوة شنشول عن رأسه فانتزعت.
ورجع يريد قرطبة، فسار إلى أن غربت الشمس، فنزل وأمر أن يكتف شنشول فعطفت يده عطفا شديدا فقال: نفّسوا عنى وأطلقوا يدى لأستريح ساعة! فنفسوا عن يده، فأخرج من خفّه سكينا كالبرق فعوجل قبل/ أن يصنع شيئا، ثم أضجعه الحاجب وذبحه. وقتل ابن عومس وأخذ رأسيهم، وحمل جثة(23/416)
شنشول، وسار بها إلى القصر بقرطبة. فأمر محمد بشقّ بطنه ونزع ما فيه وحشى بعقاقير تحفظه، ثم نصب رأسه على قناة ووقف به على باب السدة ثم ركّب على جسده، وكسى قميصا وسراويل، وأخرج فسمّر على خشبة على باب السدة. وأمر الرّسّان صاحب شرطه شنشول أن ينادى: هذا شنشول المأمون! ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك فى يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب.
وكانت مدة ولاية شنشول أربعة أشهر وأياما، وكان قبيح الفعال كثير التخليط متجاهرا بالفسق، شهد عليه بأشياء لا تصدر عن مسلم، منها أنه سمع المؤذن يقول «حىّ على الصلاة» فقال:
لو قال حىّ على الكبير لكان خيرا له! وكثير من هذا القول وما يناسبه، وانقرضت الدولة العامرية بمقتل شنشول.
قال إبراهيم بن الرقيق «1» : ومن أعجب ما رأيناه أنه كان من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة إلى نصف نهار الأربعاء الذى يليه، فتحت مدينة قرطبة وهدمت مدينة الزاهرة، وخلع خليفة وهو هشام بن الحكم، وولى خليفة وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزالت دولة/ بنى عامر، وحدثت دولة بنى أمية، وقتل وزير وهو ابن عسفلاجة، وأقيمت جيوش من العامة، ونكب خلق من الوزراء، وولى الوزارة آخرون، وكان ذلك على أيدى عشرة رجال حجّامين وجزارين وحاكة وزبالين، وهم جند ابن عبد الجبار!(23/417)
قال «1» : وفى يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب وصل كتاب واضح من مدينة سالم إلى محمد بسمعه وطاعته وإظهار الاستبشار بمقتل شنشول، فسرّ به محمد وشكر ذلك لواضح، وحمل إليه مالا كثيرا وكساء وفرشا وطرائف، وولّاه سائر الثغر.
قال: ولما استوثق الأمر لمحمد أسقط من جنده نحوا من سبعة آلاف وعادوا إلى بنيهم فانتفع بهم الناس، ثم نفى جماعة من من الصقالبة العامرية، ثم أخرج بعد ذلك صقالبة القصر وسدّ أبوابه. وأظهر محمد من الخلاعة واللهو والشّرب ما كان يفعله شنشول، واستعمل مائة عود ومائة بوق. وفى شعبان توفى رجل يهودىّ فأخذه محمد وأوقف عليه رجالا من أصحابه، وكان يشبه بهشام فشهدوا عند العامة أنهم وقفوا على هشام ميّتا لا جرح به ولا أثر وأنه مات حتف أنفه. وحضر الفقهاء والعدول وخلق من العامة إلى القصر وصلّوا عليه يوم الإثنين لأربع بقين/ من شعبان وأخفاه عند وزيره الحسن بن حىّ.
وفى شهر رمضان سجن محمد سليمان بن عبد الرحمن- وكان قد جعله ولىّ عهده- وسجن جماعة من قريش، وأظهر بغض البربر فكان يسبّهم فى مجلسه.(23/418)
ذكر قيام هشام بن سليمان
على محمد وما كان من أمره إلى أن قتل قال «1» : ولما شرع محمد بن عبد الجبار فى اطّراح البربر ودبّر فى قتل عشرة منهم، سعى هشام بن سليمان بن عبد الرحمن فى خلع محمد ووافقه جماعة من الجند واحتفل أمره، وخرج إلى فحص السرادق وانضم إليه الذين أسقطهم محمد من جنده، فراسله محمد وقبّح عليه فعله فقال: سجن والدى على غير شىء ولا أدرى ما صنع به! فأطلقه محمد فلم يرجع هشام عن رأيه، وتحرّك بالجند وأحرق سوق السّرّاجين. ثم خذله جنده وأخذوه أسيرا هو وأخوه أبو بكر وأبوه سليمان، فسلموهم إلى محمد؛ فقتل هشاما وأبا بكر صبرا، وذلك لأربع بقين من شوال. ونهبت دور البربر، ونودى فى البلد «من أتى برأس بربرىّ فله كذا وكذا» فشرع أهل قرطبة فى قتل من قدروا عليه منهم، وسبيت نساؤهم، وهرب من سلم من البربر إلى أزملاط «2» ثم جلوا إلى/ الثّغر. وكان من فرّ بعد قتل هشام سليمان بن الحكم ابن سليمان بن الناصر، فنصبه البربر خليفة.
ذكر قيام سليمان بن الحكم المستعين بالله
قال «3» : لما نصبه البربر خليفة نعت نفسه المستعين بالله، واستوزر أحمد بن سعيد، ونهض بمن معه إلى وادى الحجارة(23/419)
فدخلوه عنوة، وعرضوا أنفسهم على واضح العامرىّ غلام المنصور ابن أبى عامر صاحب مدينة سالم، فلم يقبلهم، وبعث إليه محمد ابن هشام المهدى قيصر الفتى فى جيش ليعينه على سليمان، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم واضح وقتل قيصر. ولحق واضح بمدينة سالم فتحصن بها، ومنع الميرة عن البربر، فأقاموا خمسة عشر يوما يأكلون الحشيش. فلما اشتد ذلك عليهم أرسلوا إلى ابن مادويه الرومى «1» واستنجد به، وسأله سليمان أن يدخل بينهم وبين ابن عبد الجبار وواضح فى الصلح وقال: يخرج معنا إلى واضح ويرغب إليه فى الإصلاح بيننا وبينه وبين صاحبه، فإن أبى ذلك سرنا إلى قرطبة وناجزنا ابن عبد الجبار! فسارت الرسل إليه فوجدوا رسل ابن عبد الجبار وواضح عنده يسألونه الصلح معهما على أن يعطياه ما اشترط من مدائن الثّغر،/ وأتوه بخيل وبغال ومال وكساء وجوهر وطيب وتحف كثيرة. فأجاب البربر إلى ما أرادوه من الصلح أو الاتفاق معهم على أن يعطوه ما بذل واضح والمهدىّ من مدائن الثغور إذا ظفروا.
فقبلوا ذلك منه، وردّ رسل واضح وابن عبد الجبار، ثم أرسل إلى البربر ألف عجلة تحمل الدقيق والشعير وأنواع المأكل وألف ثور وخمسة آلاف شاة وجميع ما يصلحهم من الملبس وغير ذلك.
فقويت البربر بذلك، وسار إليهم فى جموعه وساروا إلى مدينة سالم، وأرسلوا واضحا فى الصلح فأبى، فساروا إلى قرطبة فى المحرم(23/420)
سنة أربعمائة. واتبعهم واضح بمن معه وقابلهم، فانهزم وقتل خلق كثير من أصحابه، ووصل المنهزمون من أصحابه إلى قرطبة، وملك البربر جميع ما كان فى عسكر واضح. هذا وابن عبد الجبار فى لهوه واستهتاره، ثم خرج إلى فحص السرادق وخندق عليه، وأتاه واضح فى أربعمائة فارس من أهل مدينة سالم، ووصل غلامه يلبق فى مائتى فارس.
وأقبل سليمان بالبربر فنادى ابن عبد الجبار أن يخرج كل من بلغ به الحلم «1» من سائر الناس، فلم يتخلف أحد فلا ترى إلا شيخا ضعيفا أو حدثا غرّا وبقّالا ونسّاجا. فلما كان فى يوم السبت منتصف شهر ربيع الأول التقى البربر وأهل قرطبة فحمل عليهم من البربر نحو/ ثلاثين فارسا فلم يقفوا لهم وانهزموا، وسقط بعضهم على بعض. ومضى واضح من فوره إلى الثّغر لم يعرج على شىء.. ووضع البربر السيف فى أهل قرطبة فقتلوا خلقا كثيرا «2» ، وغرق فى وادى قرطبة ما لا يحصى.
وسار ابن عبد الجبار إلى القصر وأظهر هشاما المؤيد وأقعده حيث يراه الناس فى مكان يشرف على باب الشكال والقنطرة، وأرسل القاضى ابن ذكوان إلى البربر يقول: إنما أنا قائم دون هشام ونائب عنه كما يحجبه الحاجب والأمر له، وهو أمير المؤمنين! فلما أبلغهم(23/421)
القاضى الرسالة قالوا: بالأمس يموت هشام وتصلّى عليه أنت وأميرك، واليوم يعيش وترجع الخلافة إليه! فاعتذر القاضى من ذلك.
ثم خرج أهل قرطبة بأجمعهم إلى سليمان فأكرمهم، وأحسن لقاءهم. ودخل سليمان القصر، وهرب ابن عبد الجبار فكانت مدة ولايته تسعة أشهر. واستنجز ابن مادوية البربر أن يعطوه الحصون التى شرطوها له فقالوا: ليست الآن بأيدينا فإذا عهد سلطاننا أنجزنا لك ما وافقناك عليه! ورحل يوم الإثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
قال: ثم فرّق سليمان العمال فى الولايات، وأنزل البربر بالزهراء، وأعاد المؤيد إلى السجن، وأنزل شنشول عن خشبته وأمر بغسله والصلاة عليه/ ودفنه، فدفن فى دار أبيه.
وأما المهدى محمد بن هشام فإنه هرب إلى طليطلة بعد اختفائه بقرطبة، فوصل فى أول جمادى الأولى فقبله أهلها أحسن قبول، وخالفوا هشام بن سليمان. فتأهب لقصد طليطلة. ورحل يوم الإثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة. فلما قرب منها أرسل الفقهاء إلى أهلها ليعذر إليهم فرجعوا بخلافهم، فسار إليهم.
وكان رجل يعرف بالقرشى الحرّانى قد جمع جموعا عظيمة ودعا لنفسه، فسرح إليه سليمان علىّ بن وداعة فى جيش كثيف فهزم جموع القرشى وأسره وأحضره إلى سليمان، فاعتقله ثم قتله.
قال: وتجاوز سليمان طليطلة رجاء أن برجعوا إلى الطاعة، ورحل إلى الثغر ونزل على مدينة سالم. ثم التحق بمحمد بن عبد الجبار(23/422)
فى جماعة من العبيد، وانضم إليه ابن مسلمة صاحب الشرطة. وخرج واضح من مدينة سالم إلى طرطوشة وكتب إلى سليمان يرغب فى المعافاة من الخدمة ويكون فى ميورقة «1» مرابطا وينقطع عن الناس، وإنما يفعل ذلك تطمينا لسليمان حتى يحكم أمره. فأرسل سليمان إليه بالنظر فى سائر الثغر وجهاد العدوّ، فأخذ واضح فى الاتفاق مع الفرنج وشرط لهم ما أرادوه، واجتمعوا كلهم مع المهدى بطليطلة.
/ وبلغ سليمان ذلك فاستنفر الناس فاستعفاه أهل قرطبة، وذكروا عجزهم عن القتال فأعفاهم بشفاعة البربر. وخرج لقتال القوم، فالتقوا عند عقبة الثغر فى العشر الأخير من شوّال، فجعل البربر سليمان فى ساقتهم وجعلوا معه خيلا من المغاربة وقالوا له:
لا تبرح موضعك ولو وطئتك الخيل! ثم تقدموا فحملت! لفرنج عليهم حملة منكرة فأخرجوا لهم ليتمكنوا منهم، فرأى سليمان خيل الفرنج وقد خرقت صفوف البربر فلم يشك أن البربر قد اصطلمو «2» ، فانهزم فيمن معه. ثم عطف البربر على الفرنج فقتلوا ملكهم أرمغند، وستين من وجوههم. ورأى البربر هزيمة سليمان فانحازوا إلى الزّهراء، ثر خرجوا منها ليلا. ومضى سليمان إلى مدينة شاطبة «3» ، فكانت مدة ولاية سليمان سبعة أشهر.(23/423)
ذكر دولة المهدى محمد الثانية
قال «1» : ولما انهزم سليمان دخل محمد بن هشام بن عبد الجبار قرطبة ومعه الفرنج فأفسدوا غاية الفساد، ونهبوا الأموال، واستطالوا على الناس ثم سألهم المهدىّ وواضح المسير معهما لقتال البربر فخرجوا كلّهم، والتقوا بالبربر بوادى لدة «2» لستّ خلون/ من ذى القعدة، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم واضح وابن عبد الجبار والفرنج أقبح هزيمة، وقتل فى المعركه يلبق غلام واضح ومؤمن الصقلبى، وتخلّف ابن زرزور مولى الحكم وغيرهم. وقتل من الفرنج أكثر من ثلاثة آلاف وغرق فى البحر كثير، واحتوى البربر على ما فى معسكرهم، ووصل المنهزمون إلى قرطبة فى اليوم الثانى من الوقعة فزاد حنق الفرنج وعاثوا بقرطبة وقتلوا كلّ من يشبّه بالبربر بها. فسألهم محمد وواضح، ورغبا إليهم فى الرجوع معهم لقتال البربر، فأبوا عليهما وقالوا: قد قتل ملكنا وخيارنا ووجوهنا! وفارقوا مدينة قرطبة وعادوا إلى بلادهم، وكان رحيلهم عنها لشدّة خوفهم من البربر، حتى كان الرجل من أهلها يلقى الآخر فيعزيه كما يعزّى من فقد أهله وماله! ثم فرض محمد بن عبد الجبار على أهل قرطبة مالا فأدّوه، وتهيأ للخروج وخرج بواضح وأهل قرطبة والعبيد لقصد البربر. فلما ساروا ثلاثين ميلا كرّوا راجعين إلى قرطبة، وأقام من ورائه سورا(23/424)
وتحصن به. هذا والبربر يغيرون فى نواحى قرطبة، وأخذوا الجبل المعروف/ بابن حفصون- وهو كثير الماء والمرعى والثمار والزرع- فزاد ذلك فى قوّتهم. وابن عبد الجبار وجنده فى انهماك على الّلهو وارتكاب المحارم وإظهار الفسق، وإفساد ما قدروا عليه، والنزول على الناس فى دورهم، وقتل من دافعهم، فكره واضح ذلك منه- وكان قد حقد عليه ما أتاه إلى بنى أبى عامر- فأخذ فى التدبير عليه.
وبلغ ذلك محمد فجمع ما فى القصر من النفائس وسلمها إلى ابن رافع رأسه- رجل من أهل طليطلة- وأمره بالخروج إليها، وتحيّل فى الخروج فى أثره. فلما كان فى يوم الأحد الحادى عشر من ذى الحجة سنة أربعمائة- وقيل لثمان خلون منه- ركب واضح والعبيد وأهل الثغر وصاحوا: لا طاعة إلا طاعة المؤيد! ثم قصدوا القصر وأخرجوا المؤيد، وأجلسوه على منبر الخلافة وألبسوه لباسها. وكان محمد بن عبد الجبار فى الحمام، فدخل عليه ابن وداعة وأخبره الخبر، فخرج وجاء إلى هشام وأراد أن يجلس إلى جانبه، فأخذ عنبر الخادم بيده ورمى به من على المنبر وأجلسه بين يدى المؤيد. فسبّه المؤيد ووبّخه وعدّد عليه ما أتاه وما فعله معه، فأخذ عنبر بيده وأقامه وأصعده إلى السطح وأراد ضرب عنقة فتعلق به، فتعاورته سيوف العبيد والخدم والصقالبة/ فقتلوه، وأخذوا رأسه ورموا بجثته، فسقطت فى الموضع الذى كانت فيه جثة ابن عسفلاجة لما قتله. فكانت مدة ولايته هذه نحو شهر،(23/425)
ومدة مملكته الأولى والثانية عشرة أشهر، وعمره خمسا وثلاثين سنة!
ذكر دولة المؤبد هشام الثانية
قال «1» : وبايع الأجناد هشاما المؤيد فى يوم الأحد الحادى عشر من ذى الحجة سنة أربعمائة وأحضر بين يديه رأس محمد المهدى، فأمر بإرساله إلى البربر وهم يومئذ بوادى شوش فى خدمة المستعين بالله سليمان بن الحكم، طمعا أنّ البربر يفعلون به كما فعل هو بالمهدى، ويعودون إلى طاعته فيتم أمره وتستقيم دولته. فلما وصل إليهم مع جماعة من أهل قرطبة كادوا يقتلونهم، فمنعهم المستعين بالله بعد أن أفرط فى توبيخهم، فعادوا إلى قرطبة.
وتولى واضح العامرىّ حجابة المؤيد، وأمره بحفر الخندق على قرطبة فحفره، وحصنها، قال «2» : وكان لمحمد بن عبد الجبار ولد بقرطبة عمره نحو ستّ عشرة سنة فاحتال له شيعة أبيه حتى أو صلوه إلى مدينة طليطلة، فقبله أهلها، وأمّروه عليهم. فأغار على بعض ما كان لواضح، فلقيه محارب التجيبى فقهره وأسره وأرسل به إلى واضح، فقتله.
قال «3» : ثم/ قصد المستعين قرطبة فى جموعه من البربر،(23/426)
فلم يتمكن منها، فقصد الزهراء فاستولى عليها فى يوم السبت لستّ بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعمائة، وقتل من بها من الجند، وأخذ فى قتال أهل قرطبة، وواضح يتولّى حربه. ثم رحل البربر من الزهراء لخمس بقين من شعبان، وجعلوا يغيرون على البلاد ويخرّبون، فانضم أهل البوادى إلى قرطبة خوفا منهم، فصاروا أكثر من أهلها، وغلت الأسعار فمات أكثرهم جوعا. وقطع البربر الميرة عن قرطبة، فاشتد بها الغلاء فبيع مدّ القمح- وهو قفيزان ونصف بالقروى- بثلاثمائة دينار دراهم وهى مائة مثقال عينا. وجاءت رسل ابن مادويه يستنجزون تسليم الحصون إليه على أن لا يغزوهم ولا يتعرض لشىء من ثغورهم، فرضوا بهدنة وسلّموا إليه مدنا كثيرة وأكثر من مائتى حصن مما افتتحه الحكم بن عبد الرحمن ومحمد بن أبى عامر.
وسمع ابن شالوس «1» بما تسلّم ابن مادويه من الحصون، فكاتب على حصون أخرى وتوعّد وتهدّد، فأجيب إلى ما سأل وسلّمت إليه.
وأخرب البربر مدنا جليلة، وقتلوا أكثر أهلها، ولم تسلم منهم إلا طليطلة ومدينة سالم، وبلغت خيلهم أندراوه «2» وما وراءها حتى إنّ الراكب يسير شهورا لا يرى أحدا فى قرية ولا طريق. قال «3» :
واستخف جند قرطبة بواضح حتى صاروا/ يصرحون بسبّه، فعزم على مراسلة البربر فى الصلح لما رأى من اضطراب الجند عليه(23/427)
وطمعهم فيه، وأظهر أن ذلك عن رأى هشام لما فيه من الصلاح للعامة والخاصة. فبعث واضح إلى البربر رجلا يعرف بابن بكر فاجتمع بسليمان وعاد بجوابه فقتله الجند فى المجلس- ولم يقدر هشام ولا واضح على منعهم- واحتزّوا رأسه، وطافوا به البلد. فعزم واضح على الهرب إلى البربر، وكان ابن أبى وداعة يعاديه فزحف إلى داره فى عدة من الجند فأخرحوه حاسرا وعاتبوه على ما أتلف من الأموال وما عزم عليه من مصالحة البربر. وضربه ابن أبى وداعة يسيفه وحمل عليه القوم فقتلوه، واحتزوا رأسه وطافوا به، وألقوا جثته فى الرصيف بالموضع الذى ألقى فيه ابن عسقلاجة وابن عبد الجبار، ونهبت دور أصحابه.
وولّى هشام ابن أبى وداعة المدينة، فاشتدّ على أهل الريب وهاب الجند وغيرهم، وكان مقتل واضح فى يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعمائة.
ثم قدم البربر وسليمان، ونازلوا قرطبة وظاهرها وقد امتلأت أيديهم بالغنائم، وقلّت الأقوات على أهل قرطبة، وعظم عليهم الخطب، واشتد الأمر، وكان بين أهلها والبربر مراسلات وأمور يطول شرحها. كان آخر ذلك أن سليمان ملك قرطبة فى يوم/ الأحد لثلاث خلون من شوّال سنة ثلاث وأربعمائة، وكانت مدة ولاية المؤيد الثانية سنتين وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما وفقد المؤيد لخمس خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة.(23/428)
ذكر دولة المستعين بالله الثانية
قال «1» : ولما فتح سليمان بن الحكم المستعين قرطبة دخل القصر لخمس خلون من شوّال وتلقّب بالظافر بحول الله، وأحضر هشاما ووبخه وقال: قد كنت تبرأت لى من الخلافة فأعطيت صفقة يمينك فما حملك على نقض عهدك؟ فاعتذر أنه مغلوب عليه، وتبرأ له، وسلّم الأمر إليه. وضرب سرادق سليمان بشقنده، ونزل البربر حوله، وهرب كثير من موالى بنى أمية فاحتوى البربر عليها واقتسموا البلد بينهم. وطالب سليمان الناس بالأموال فغرمهم فوق طاقتهم، واشتد أمر البربر على الناس فاستباحوا الأموال والحريم وسليمان لا يمكنه دفعهم وليس فى يده مع قرطبة غير إشبيليه ولبلة والشنبة وباجة.
وكان فى عسكره رجلان «2» من ولد الحسن بن على بن أبى طالب وهما القاسم وعلى ابنا حمّود بن ميمون فقوّدهما على المغاربة، ثم ولّى عليا الأصغر منهما سبتة «3» وطنجة «4» ،/وولى القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزقاق «5» ، وسعة البحر هناك ثمانية عشرة ميلا.(23/429)
وكانت العبيد لما خرجوا من قرطبة عند دخول البربر إليها ملكوا مدنا عظيمة وتحصّنوا فيها، فراسلهم على بن حمّود وذكر أنّ هشام بن الحكم لما كان محاصرا بقرطبة كتب إليه يوليه عهده فاستجاب له العبيد وبايعوه. فزحف من سبتة إلى مالقة «1» وفيها عامر بن فتوح الفائقى مولى فائق- مولى المستنصر- فأطاعه وأدخله مالقة. فملكها علىّ بن حمود وأخرج عنها عامر بن فتوح ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فأخرج له المستعين ولده- ولى عهده محمد بن سليمان- فى عساكر البربر، ومعه أحمد بن سعيد الوزير. فانهزموا، ورجع محمد بن عبد الله الزناتى إلى قرطبة، وأخرج المستعين بالله وضمن له أن يقاتل بين يديه. فلما قربوا من عسكر على بن حمود قادوه بلجام بلغلته وسلموه لعلى، فلما حصل فى يده دخل القصر فى يوم الأحد لسبع بقين من المحرم سنة سبع وأربعمائة، وضرب عنق سليمان بيده وقتل أباه الحكم- وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة- فكانت مدة ولاية سليمان ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما. وكان مولده سنة أربع/ وخمسين وثلاثمائة، وكان أديبا شاعرا، فمن شعره:
عجبا يهاب اللّيث حدّ سنانى ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان
وهى أبيات عارض بها العباس بن الأحنف فى أبياته التى أنشدها على لسان الرشيد التى أولها:
ملك الثلاث الآنسات عنانى ... وحللن من قلبى بكلّ مكان(23/430)
وقد ذكرنا ذلك فى باب الغزل والنسيب، قال «1» : ولما قتل سليمان بن الحكم هذا انقطعت دعوة بنى أمية من سائر اقطار الأندلس وقامت دعوة الفاطميين بها. وولى منهم ثلاثة ملوك وهم على بن، حمود، والقاسم بن حمود أخوه، ويحيى بن على، ثم عادت بعد ذلك الدعوة الأمويه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر امارة الناصر على بن حمود
ابن ميمون بن أحمد بن على بن عبد الله بن عمر بن إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب، ملك قرطبة لسبع بقين من المحرم سنة سبع وأربعمائة على ما ذكرناه، وخوطب بأمير المؤمنين، وتلّقب بالناصر «2» . ولما دخل/ قرطبة أحضر الفقهاء والوزراء وسأل سليمان بحضرتهم عن المؤيد فقال «مات» فألزمه أن يريه قبره فأخرجه دفينا لا أثر فيه فأمر بتكفينه ودفنه فى الروضة. ثم استفتى الفقهاء فى قتل سليمان، فقتله هو وأباه الحكم وأخاه عبد الله وولده سليمان فى وقت واحد، وتمّ لعلى ما أراد واستقامت أموره.
وفى سنة ثمان وأربعمائة خالف عليه العبيد الذين كانوا بايعوه، وقدّموا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر [أخا المهدى] وسمّوه المرتضى وزحفوا به إلى قرطبة، ثم ندموا على إقامته لما رأوه من صرامته، وخافوا عواقب تمكّنه فانهزموا عنه(23/431)
ودسّوا عليه من قتلة غيلة. وبقى علىّ بن حمود بقرطبة إلى آخر سنة ثمان وأربعمائة فقتله صقالبته فى الحمام، فكانت مدة ولايته سنة واحدة وعشرة أشهر، وكان له من الوالد يحيى وإدريس.
ذكر ولاية المأمون القاسم بن حمود بن ميمون الفاطمىّ
ولى بعد مقتل أخيه الناصر فى أواخر سنة ثمان وأربعمائة، وكان أسنّ من الناصر بعشرة أعوام، ونعت نسفه بالمأمون/ وكان يحبّ الموادعة، فأمن الناس معه. وكان يذكر عنه أنه يتشيّع ولم يظهر ذلك، ولا غيّر للناس عادة ولا مذهبا، وكذلك سائر من ولى منهم بالأندلس. فبقى القاسم إلى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة وأربعمائة، فقام عليه ابن أخيه يحيى بن على بن حمّود بمالقة «1» ، فهرب القاسم عن قرطبة بغير قتال، وصار إلى إشبيلية.
وزحف ابن أخيه المذكور من مالقة بالعساكر، فدخل قرطبة دون مانع، وتسمّى بالخلافة وتلقّب، فبقى كذلك إلى أن اجتمع للقاسم أمره واستمال البربر، وزحف بهم إلى قرطبة فدخلها فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وهرب يحيى بن على إلى مالقة، فبقى القاسم بقرطبة شهورا.. ثم اضطرب أمره، وغلب ابن أخيه يحيى على الجزيرة الخضراء وكانت معقل القاسم وبها كانت امرأته وذخائره.
وغلب ابن أخيه إدريس بن على [شقيق يحيى] صاحب سبتة على طنجة، وكانت عدة القاسم يلجأ إليها إن رأى(23/432)
ما يخاف. وقام عليه جماعة أهل قرطبة فى المدينة، وأغلقوا أبوابه دونه، فحاصرها نيّفا وخمسين يوما، ثم زحف أهل قرطبة فانهزموا عن القاسم. ولحقت كلّ طائفة ببلد فغلبت عليه، وذلك فى شعبان سنة أربع عشرة وأبعمائة وأعاد أهل قرطبة الدولة الأموية/ على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال «1» : وأما القاسم فقصد إشبيلية وبها ابناه محمد والحسن فلما عرف أهل إشبيلية خروجه عن قرطبة ومجيئه إليهم طردوا ابنيه ومن كان معهما، وضبطوا بلدهم وقدّموا على أنفسهم ثلاثة رجال؛ منهم القاضى أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عبّاد اللخمى، ومحمد بن مرثم الإهابى، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدى، ومكثوا كذلك أياما مشتركين فى سياسة البلد وتدبيره، ثم انفرد القاضى أبو القاسم بن عباد على ما نذكره إن شاء الله.
ولحق القاسم بشريسش «2» ، واجتمع البربر على تقديم ابن أخيه يحيى، وحصروا القاسم حتى صار فى قبضة ابن أخيه. وانفرد بولاية البربر، وبقى القاسم أسيرا عنده وعند أخيه إدريس إلى أن مات إدريس، فقتل القاسم خنقا فى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وحمل إلى ابنه محمد بن القاسم بالجزيرة فدفنه هناك.(23/433)
وكانت ولاية القاسم تّسمّى بالخلافة بقرطبة إلى أن أسّره ابن أخيه ستّة أعوام، ثم كان مقبوضا عليه ستّ عشرة سنة عند ابنى أخيه إلى أن مات- قيل ومات وهو ابن ثمانين سنة- وله من الولد محمد والحسن وأمهما أميرة بنت الحسن بن فنون بن إبراهيم العلوى.
ذكر ولاية المعتلى يحيى بن على
وكنيته أبو إسحاق، وقيل أبو محمد تسمّى بالخلافة بقرطبة فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ثم هرب منها إلى مالقة فى سنة أربع عشرة. ثم سعى قوم من المفسدين فى إعادة دعوتة بقرطبة فى سنة ستّ عشرة ولم يدخلها، واستخلف عليها عبد الرحمن بن عطاف، ثم قطعت خطبته من قرطبة فى سنة سبع عشرة. وبقى يتردد إليها بالعساكر إلى أن اتفق جماعة البربر على طاعته، وسلموا إليه الحصون والقلاع والمدن، وعظم أمره فصار بقرمونة ليحاصر مدينة إشبيليه. فخرج يوما وهو سكران إلى خيل ظهرت من إشبيلية بقرب قرمونة، «1» فلقيها وقد كمن له كمناء، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك فى يوم الأحد لسبع خلون من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعائة، وكان له من الولد الحسن وإدريس.(23/434)
ذكر عود الدولة الأموية بمدينة قرطبة ومن ولى منهم
(أ) ذكر امارة المستظهر بالله
هو أبو المطرّف عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار- أخو المهدى- بويع له بالخلافة بقرطبة لثلاث عشرة من شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربمائة. وذلك أن أهل قرطبة لما هزموا البربر وأخرجوا القاسم- كما قدمنا- اتفق رأيهم على ردّ الأمر إلى بنى أمية. فاختاروا منهم ثلاثة، وهم عبد الرحمن هذا، وسليمان بن المرتضى، ومحمد بن عبد الرحمن. فاتفق رأيهم على إمارة عبد الرحمن فبايعوه، وتلقب بالمستظهر، وكان مولده فى ذى القعدة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. وقام عليه محمد بن عبد الرحمن مع طائفة من أرذال العوام فقتل عبد الرحمن لثلاث بقين من ذى القعدة منها، وقيل لثلاث خلون منه. وكان فى غاية الأدب، وله شعر. وزيره الفقيه أبو محمد على بن أحمد بن حزم «1» .
(ب) ذكر امارة المستكفى بالله
هو أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر بن هشام المستظهر، وأمه أم ولد اسمها(23/435)
حوراء «1» ولى بعد قتل المستظهر لثلاث خلون أو بقين من ذى القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وله ثمان وأربعون سنة. وكان أبوه ممن قتله الوزير محمد بن أبى عامر فى أوّل دولة المؤيد هشام لسعيه فى القيام وطلبه الأمر، فولى محمد هذا عشرة أشهر وأياما، وخلغ. وقيل بل خلع فى يوم الثلاثاء لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وخرج من قرطبة يريد الثّغر فمات بقرية من قرى شنت مرية فى أول شهر ربيع الآخر منها، فكانت مدة مملكته بقرطبة على هذا القول سنة وأربعة أشهر. وكان الحاكم فى أيامه صاحب المظالم محمد بن عبد الرؤوف.
وكان محمد بن عبد الرحمن فى نهاية التخلف، صاحب أكل وشرب ونكاح، ولم يزل متغلّبا عليه طول ولايته لا ينفذ له أمر، ولا عقب له.
وقيل فى وفاته إنه لما هرب من قرطبة سار حتى انتهى إلى قرية يقال لها سمّونت من أعمال مدينة سالم، فجلس ليأكل وكان معه عبد الرحمن بن محمد بن السليم- من ولد سعيد بن المنذر- فكره التمادى معه، فسمّه فى دجاجة فمات لوقته، فقبره هناك. ولما خلع أعيدت خطبة يحيى ابن علىّ الفاطمىّ، ثم قطعت وأعيدت الخطبة للدولة الأموية.
(ج) ذكر ولاية المعتمد على الله
هو أبو بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو أخو المرتضى «2» ، بويع له فى شهر ربيع الأول(23/436)
سنة ثمانى عشرة وأربعمائة، وقيل فى يوم الجمعة سلخ شهر ربيع الآخر منها. وذلك أنه لما قطعت خطبة يحيى بن على «1» فى سنة سبع عشرة وأربعمائة اجتمع رأى أهل قرطبة على ردّ الأمر إلى بنى أميه، وكان عميدهم فى ذلك الوزير أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور. فراسل أهل الثغور فى ذلك فاتفقوا عليه بعد مدة، فبايعوا لأبى بكر وهو بالثغر فى حصن البونت «2» عند أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم.
فبقى يتردّد فى الثغور سنتين وعشرة أشهر- وقيل سبعة أشهر وثارت هناك فتن كثيرة يطول شرحها، واضطراب شديد من الرؤساء بها، إلى أن اتفق رأيهم على أن يسير إلى قرطبة الملك. فسار إليها، ودخلها فى يوم منى ثامن ذى الحجة سنة عشرين وأربعمائة. ولم يقم إلا يسيرا حتى قامت عليه فرقة من الجند، فخلع! قال بعض المؤرخين: كان سبب خلعه أنّ وزيره ومدبّر أمره أبا العاص الحكم بن سعيد كان فاسد/ الطريقة، ولم يكن له سابقة رئاسة. فكرهه الناس فدسّوا عليه فى بعض الطرق من قال نصيحة تقربه منه- وكان أطروشا- فأصغى إليه ليقولها فى أذنه، فجرّه عن دابته فقتل.
وخلع المعتمد، وخرج إلى الثغر لينتزعه من يد المنذر بن يحيى،(23/437)
فمات بلاردة «1» - وهى فى مملكة سليمان بن هود- فى يوم الجمعة لأربع بقين من صفر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
قال: وولى قرطبة بعده قريب من ستّة، ثم دعى للمؤيد هشام- وذكر أنه حىّ- فى يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة إلى أن أشيع موت هشام هذا. فتغلب على قرطبة أبو الحزم بن جهور- على ما سنورده- وانقطعت دعوة بنى أمية من سائر البلاد إلى هلم. وكانت مدة ملك بنى أمية ببلاد الأندلس- من سنة ثمان وثلاثين ومائة وإلى هذا التاريخ- مائتى ستة وتسعين، وعدة من ملك منهم خمسة عشر ملكا وهم «2» :
عبد الرحمن بن معاوية الداخل، هشام بن عبد الرحمن، الحكم بن هشام المرتضى، عبد الرحمن بن الحكم، محمد ابن عبد الرحمن الأمين، المنذر بن محمد بن عبد الرحمن، عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله،/ الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن، هشام المؤيد بالله (دفعتين) ، محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدى (دفعتين) سليمان بن الحكم المستعين بالله (دفعتين) . ثم انقطعت دعوتهم بقيام العلويين سبع سنين، وعادت بقرطبة بإمارة المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، ثم المستكفى بالله(23/438)
محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله، ثم المعتمد على الله أبو بكر هشام ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم..
ذكر أخبار الأندلس ومن ملكها بعد انقطاع الدعوة الأموية
قال «1» : ولما انقطعت دعوة بنى أمية بعد خلع هشام تعلّب كلّ رئيس على بلد، واستولى عليها، ونحن نذكر ذلك على سبيل الاختصار. فأما قرطبة فاستولى عليها الوزير أبو الحزم جهور ابن محمد بن جهور بن عبد الله بن محمد بن العمر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبى عبيدة. قال:/ وكان من وزراء الدولة العامرية قديم الرئاسة موصوفا بالدهاء والعقل، لم يدخل فى شىء من الفتن قبل ذلك.
فلما خلا له الجوّ وأمكنته الفرصة وثب عليها، فتولّى الأمر واستقلّ به، ولم ينتقل عن رتبة الوزارة إلى الإمارة ظاهرا، بل دبّر تدبيرا حسنا لم يسبق إليه. وجعل نفسه ممسكا للوضع إلى أن يجىء مستحقّ يتفق عليه الناس فيسلمه إليه، ورتّب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور- على ما كانت عليه أيام الدولة- ولم يتحول عن داره إليها. وجعل ما يرفع من الأموال السلطانية بأيدى رجال رتّبهم لذلك وهو المشرف عليهم، وصيّر أهل الأسواق جندا وجعل أرزاقهم رؤوس أموال تكون بأيديهم(23/439)
يأخذون ربحها خاصة ورؤوس الأموال باقية، يؤخذون ويراعون فى الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها. وفرق السلاح عليهم وأمرهم أن يجعلوه فى الدكاكين والبيوت، حتى إذا دهم أمر ليلا أو نهار كان سلاح كلّ واحد معه، وكان يشهد الجنائز ويعود المرضى.
وكانت قرطبة فى أيامه حرما يأمن فيه كلّ خائف، ولم تزل أيامه على أحسن نظام وأكمل اتّاق إلى أن توفى فى صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وتولى بعده ابنه محمد.
ذكر ولاية أبى الوليد محمد بن جهور
ولى بعده أبيه فجرى على سنّته فى تدبير الأمور ورعاية قلوب الرعية إلى أن مات، وغلب عليها الأمير الملقّب بالمأمون صاحب طليطلة إلى أن مات، ثم استولى ابن عباد على قرطبة على ما نذكره.
ذكر أخبار مدينة طليطلة
ومن ملكها بعد بنى أمية وكيف كان استيلاء الفرنج عليها أول من تغلّب عليها بعد بنى أمية مع بقائهم بقرطبة رجل يقال له ابن يعيش، وذلك أن أهلها لما خلعوا طاعة بنى أمية قدّموه على أنفسهم وولّوه أمرهم، فلم تطل مدته. وصارت رئاسته إلى إسماعيل ابن عبد الرحمن بن عامر بن مطرّف بن ذى النون الهوارى «1» ، فتغلب على طليطلة. ولم تزل بيده إلى أن توفى فى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، فقام بعده ابنه.(23/440)
ذكر ولاية المأمون يحيى بن اسماعيل
ولى طليطلة بعد أبيه، ولما ولى أراد أن يستعين بالفرنج على ما/ حوله من المدائن والحصون لينتزعها ممن هى بيده. فكتب إلى ملك من ملوك الفرنج- كان قريبا منه وبينهما مودة ومراسلة- يقال له شنشكند «1» وقال له «اخرج إلىّ فى مائة من فرسانك وإننى فى مكان كذا لأجتمع بك فى أمر لك فيه راحة» فخرج إليه شنشكند فى ستة آلاف فارس، وخرج ابن ذى النون فى مائتى فارس من عسكر طليطلة.
وكمّن الفرنجىّ أصحابه خلف جبل بالقرب من الموضع وقال لهم: إذا رأيتمونا قد اجتمعنا فاخرجوا إلينا بأجمكم! فلما فعلوا ذلك ورآهم المأمون سقط فى يده، وحيل بينه وبين عقله فقال له شنشكند: يا يحيى وحقّ الإنجيل ما كنت أظنّك إلّا عاقلا وإذا بك أحمق خلق الله، خرجت إلىّ فى هذا العدد القليل وسلّمت إلىّ مهجتك بغير عهد كان بينى وبينك قبل خروجك ولا دين بجمعنا وقد أمكننى الله منك، وحقّ الإنجيل لا نجوت منى حتى تعطينى الحصن الفلانى والحصن الفلانى- وسمّى حصونا من حصون المسلمين بين طليطلة وبينه- وتجعل لى عليك مالا فى كل سنة!.
فأجابه يحيى إلى ما طلب، وسلّمّ إليه الحصون، ورجع إلى طليطلة شر رجوع. وتواتر الخذلان عليه إلى أن مات فى سنة ستين(23/441)
وأربعمائه، وصارت ولايته إلى ابنه القادر يحيى، فدام يطليطلة/ إلى أن ملكلها الفرنج.
قال: ولما ملك امتدت يده إلى أموال الرعية، واستعمل السفلة وأهل الثغور، ولم تزل النصارى تطوى حصونه حصنا بعد حصن حتى استولوا على طليطلة فى سنة ثمان وسبعين بعد أن حاصرهم ألفونش «1» سبع سنين وملكها، واتخذها دار ملك، وغيّر جامعها كنيسة وردّ المسلمين إلى مسجد غيره وعوّضهم مالا وقال:
هذه كنيسة كانت لنا فردّها الله علينا! وانتقل القادر بالله إلى بلنسية فقبله القاضى الأحنف بن حجاب.
ذكر أخبار دولة بنى عباد
وابتداء أمرهم ومن ملك منهم إلى أن انقضت مدّتهم وانقرضت دولتهم أول من قام منهم القاضى محمد بن إسماعيل بن قريش ين عبّاد ابن عمرو بن عطاف بن نعيم- ونعيم وابنه عطاف هما دخلا إلى الأندلس من المشرق- وهم من لخم من بنى المنذر بن المنذر، وفيهم بقول الشاعر:
من بنى المنذر وهو انتساب ... زاد فى فخره بنو عبّاد
فيه لما تلد سواها المعالى ... والمعالى قليلة الأولاد
/ وكان محمد بن إسماعيل هذا قد تقدّم بإشبيلية إلى أن ولى القضاء، فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم؛ فرمقته العيون، ومالت(23/442)
إليه القلوب. فلما كان فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ولى يحيى ابن علىّ الفاطمى قرطبة، وكان من أمره وأمر عمّه القاسم ما ذكرناه.
ثم إنّ أهل قرطبة أخرجوا القاسم بن حمّود فقصد مدينة إشبيلية ثم فارقها، وقصدها بعد ذلك يحيى بن علىّ المعتلى ونزل بقرمونة لحصار مدينة إشبيلية وكانت الرئاسة بها بين ثلاثة- كما ذكرنا ذلك- فاجتمع وجوه المدينة وفيهم حبيب ابن عامر القرشى ومحمد بن مرثم الإهابى ومحمد الزبيدى وغيرهم. وأتوا إلى أبى القاسم محمد بن إسماعيل وقالوا: ما ترى ما نحن فيه وما حلّ بنا من هذا الكافر وما أفسد من أموال الناس، فقم بنا نخرج إليه ونملكك ونجعل الأمر لك وننتصر لهشام! ففعل، وخرجوا لقتال يحيى بن على المعتلى، فركب إليهم وهو سكران فقتل كما قدّمنا. وملك محمد بن إسماعيل إشبيلية، وقالوا له: نخرج إلى قرمونة من قبل أن يسبقك إليها إسحاق ابن عبد الله البرزالى! فهمّ محمد بذلك فسبقه إسحاق وملكها، فكتب محمد إلى يحيى بن ذى النون الهوارى صاحب طليطلة يقول له: اخرج بعسكرك أو ابعث إلى بعسكر مع/ قائد من عندك حتى أخرج إسحاق بن عبد الله من قرمونة، وأنا أعينك على أخذ قرطبة وأجعلها لك ملكا! فلما وصل كتابه إلى المأمون خرج إليه بنفسه فى عسكر كبير، فاجتمعا ونزلا على قرمونة، وحاصراها وأخرجها عنها إسحاق. وأخذها محمد بن إسماعيل وأدخل ولده إليها، وسارا إلى قرطبة وحاصراها.(23/443)
فلما رأى [أهلها] «1» ما حلّ بهم كاتبوا محمد بن إسماعيل وقالوا أنت أولى من المأمون بالبلد وأحبّ إلينا منه! فاستوثق منهم ودخلها ليلا ويحيى لا علم له بذلك.، فلما أصبح وعلم الحال رجع بعسكره إلى طليطلة وكتب إلى ابن عكاشة- وهو رجل شجاع كان بيده بعض حصون الأندلس، يقطع حوله السبيل ويقتل التجار ويأخذ الأموال، وهو يظهر ليحيى طاعة مشوبة بمعصية- فأمره أن يجمع أصحابه وعضّده بعسكر كبير ووجههم إلى قرطبة، فتوجهوا إليها وقد فارقها محمد بن إسماعيل إلى إشبيلية وترك ولده بها.
فدخلها ابن عكاشة ليلا، ودخل القصر، وقتل كلّ من وجد من الحرس، وذبح ولد محمد بن إسماعيل بيده. فلما بلغ ذلك محمد جمع العساكر وخرج إلى قرطبة، فحصر ابن عكاشة وضيق عليه، فخرج هاربا. واستوثق من الرعية وعاد إلى إشبيلية، فوصل إليها يحيى بن ذى النون/ وتغلّب عليها. فدسّ عليه محمد بن إسماعيل طبيبه، فسمّه، فمات! فعندها خلص الأمر لمحمد بن إسماعيل، وذلك فى سنة أربع وعشرين.. هكذا نقل عز الدين عبد العزيز ابن شدّاد بن تميم بن المعز بن باديس فى كتابه المترجم بالجمع والبيان، وذكر أيضا فى هذا الكتاب أنّ يحيى توفى فى سنة ستين وأربعمائة، وهذا فيه تناف والله تعالى أعلم.(23/444)
ذكر أخبار خلف الحصرى
المشبّه بالمؤيد هشام وقيام دعوتة بمملكة محمد ابن إسماعيل، وما قيل فى ذلك فأما قيام دعوته فإن محمد بن إسماعيل لما استولى على الأمر فى سنة أربع وعشرين وأربعمائة وتعاظم أمره، حسده أمثاله وكثر الكلام فيه وقالوا «قتل يحيى بن على الحسنى من أهل البيت وقتل يحيى بن ذى النون ظلما» واتّسع القول فيه فبقى يفكر فيما يفعله.
فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل من أهل قرطبة فقال له: إنى رأيت- هشاما فى قلعة رباح! فقال له محمد: انظر ما تقول! فقال! إنى والله رأيته وهو هشام بلا شك! وكان عند محمد بن إسماعيل عبد من عبيد هشام يسمى تومرت،- وهو الذى كان يقوم على رأس هشام- فقال له محمد:/ إذا رأيت مولاك تعرفه؟ فقال: نعم ولى فيه علامات فأرسل محمد رجلين من الذين ذكروا أنهم رأوا هشاما وقال:
توجّها إلى قلعة رباح وائتيانى بهشام! وأسرعا، فتوجّها فوجداه فى مسجد فى قلعة رباح، فدخلا عليه وأعلماه أنهما رسولا القاضى محمد بن إسماعيل إليه. فسار معهما إلى إشبيلية. فلما دخل على القاضى قام إليه وسلم عليه وأنزله ووكل بخدمته تومرت مولاه. فلما رآه تومرت قبل يديه ورجليه وقال للقاضى: هو والله مولاى هشام ابن الحكم.
فعند ذلك قام إليه القاضى محمد بن إسماعيل وقبّل رأسه ويديه، وأمر بنيه فدخلوا عليه وفعلوا كفعله، وسلّموا عليه بالخلافة. وأخرجه(23/445)
محمد بن إسماعيل فى يوم الجمعة إلى الجامع بمدينة إشبيلية، ومشى هو وبنوه بين يديه رجّالة حتى أتى المسجد، فخطب الناس وصلى بهم الجمعة. وبايعه محمد بن إسماعيل وبنوه وجميع أهل البلد ورجع إلى موضعه، وتولّى محمد بن إسماعيل الخدمة بين يديه وجرى فى ذلك على طريقة ابن أبى عامر، غير أنه يخرج إلى الجمعة والأعياد ويصلى طول مدته، ومحمد فى رتبة الوزارة آمرا وناهيا عنه، واستقام لمحمد أكثر مدن الأندلس، فهذا كان سبب قيام دعوته.
وأما ما نقل من أخباره فقد ذكرنا فى أخبار بنى أمية أن/ المستعين بالله سليمان بن الحكم لما فتح قرطبة المرة الثانية فى شوّال سنة ثلاث وأربعمائة أحضره ووبّخه، وأن المؤيد فقد لخمس خلون من شوال.
وذكرنا أيضا أنّ الناصر علىّ بن حمّود الفاطمىّ لما ملك قرطبة أحضر المستعين وسأله بحضرة الفقهاء والوزراء عن المؤيد هشام فقال «مات فألزمه أن يريه قبره فأخرجه دفينا لا أثر فيه فأمر الناصر بتكفينه ودفنه فى الروضة.
وقيل بل هرب بنفسه إلى المشرق مستخفيا حتى وصل إلى مكة- شرّفها الله- وكان معه كيس فيه جوهر وياقوت ونفقة، فشعر به حرّابة مكة، فأخذوه منه، فمال إلى جهة من الحرم وأقام يومين لم يطعم طعاما. فمضى إلى المروة فأتاه رجل فقال له تحسن عمل الطين؟ قال: نعم! فمضى به إلى تراب ليعجنه ووافقه على درهم وقرصة، فقال له: عجّل القرصة فإنى جائع! فأتاه بها فأكلها، ثم عمد إلى التراب فكان مرة يعجن ومرة يجلس، فلما طال عليه ذلك تركه ومضى هاربا على وجهه.(23/446)
وخرج مع القافلة إلى الشام على أسوإ حال، فوصل إلى بيت المقدس، فمشى فى السوق فرأى رجلا يعمل الحصر الحلفاء فنظر إليه فقال له الحصرى: كأنّك تحسن هذه الصناعة! قال: لا! قال:
فتقيم عندى/ تناولنى الحلفاء وأجعل لك أجرة على ذلك. قال: أفعل فأقام عنده يناوله ويعاونه على ما يأمره به من أمور صناعته، فتعلم هشام صناعة الحصر، فصار يعملها ويتقوّت منها. وأقام ببيت المقدس أعواما كثيرة لم يعلم به أحد، ثم رجع إلى الأندلس فى سنة أربع وعشرين وأربعمائة.. هكذا روى جماعة من مشايخ الأندلس! وقال الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم فى كتابه المسمى «نقط العروس فى هذه الحكاية: أخلوقة لم يقع فى الدهر مثلها، وإنما ظهر رجل يقال له خلف الحصرى بعد نيف وعشرين سنة من موت هشام بن الحكم المؤيد وادّعى أنه هشام، وبويع له على جميع منابر الأندلس فى أوقات شتى، وسفك الدماء وتصادمت الجيوش فى أمره.
وقال أبو محمد بن حزم: وفضيحة لم يقع فى الدهر مثلها، أربعة رجال فى مسافة ثلاثة أيام فى مثلها يسمّى كلّ واحد منهم يأمير المؤمنين، ويخطب لهم فى زمن واحد أحدهم خلف الحصرىّ المذكور بإشبيلة على أنه هشام بن الحكم المؤيد، والثانى محمد ابن القاسم بن حمّود بالجزيرة الخضراء، والثالث محمد بن إدريس بن على(23/447)
ابن حمّود بمدينة مالقه، والرابع إدريس بن يحيى بن على بشنترين «1» .
/وأقام المدّعى أنه هشام بن الحكم نيّفا وعشرين سنة والقاضى محمد ابن إسماعيل فى رتبة الوزير بين يديه، والأمر إليه. وقد استقام لمحمد أكثر بلاد الأندلس، ودفع به كلام الحسّاد وأهل العناد، إلى أن توفى هشام المذكور. فاستبد القاضى بالأمر بعده وملك أكثر مدن الأندلس وحصونها. ولم ينتقل عن مدينة إشبيلية بل جعلها دار ملكه، واستقامت له الأمور، وأطاعته المدن والثغور، واجتهد فى جهاد الفرنج. وكان له فى ذلك القدم المشهور، ومات محمد فى عشر الخمسين وأربعمائة، وولى بعده ابنه عباد.
ذكر ولاية أبى عمرو عباد بن محمد
ولى بعد أبيه وتلقّب المعتضد بالله، وكان فيه كرم وبأس.
فطابت أيامه، وحسنت أفعاله، واستقامت له الأحوال، ورفعت له من بلاد الأندلس الأموال. قال «2» : واتفق له واقعة غريبة فى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وهى أنه شرب ليلة مع رجاله وندمائه فلما عملت فيه الخمر صرفهم وخرج فى الليل ومعه رجل واحد من عبيده.
وسار نحو قرمونة وهى [تبعد] «3» عن مدينة إشبيلية ثمانية عشر ميلا، وكان صاحب قرمونة إسحاق بن سليمان البرزالى وقد/ جرت بينه وبينه حروب.(23/448)
فسار عبّاد حتى أتى قرمونة، وكان إسحاق تلك الليلة فى جماعة من أهل بيته يشربون، فدخل عليه بعض خدّامه فقال: إن صاحب الحرس ذكر أنّ المعتضد عبّادا قائم على باب المدينة ليس معه إلا رجل واحد وهو يستأذن عليك! فعجب القوم من ذلك غاية العجب، وخرج إسحاق ومن عنده إلى باب المدينة فسلّم على عبّاد وأدخله إلى القصر، وأمر بتجديد الطعام والشراب. فلما شرع فى الأكل تذكر ما فعل فسقط فى يده ولم يطق أن يسفه، وندم على ما صنع لما يعلم بينه وبين برزال من الحرب وسفك الدماء، فأظهر التجلّد والانشراح ثم قال لإسحاق:
أريد أن أنام! فرفعه على الفراش، فأراهم عبّاد أنه نائم، فقال بعض القوم لبعض: هذا كبش سمين حصل لكم، والله لو أنفقتم عليه ملك الأندلس ما قدرتم على حصوله فى أيديكم، وهو شيطان الأندلس وإذا قتل خلصت لكم البلاد! فقام معاذ بن أبى قرّة وكان من كبرائهم فقال: والله لا فعلنا هذا ولا رضينا به، رجل قصدنا ونزل بنا، ولو علم أنّا نرضى فيه بقبيح لما أتانا مستأمنا إلينا، كيف تتحدث القبائل عنّا أننا قتلنا ضيفنا وخفرنا ذمّتنا، فعلى من يرضى هذا لعنة الله! وهو يسمع فنزل عن السرير فقام القوم بأجمعهم/ فقبّلوا رأسه وجددوا السلام عليه فقال لحاجبه: أين نحن؟ قال: فى منزلك وبين أهلك وإخوانك! قال: ائتونى بدواة وقرطاس.
فأتوه بهما، فكتب أسماء القوم، وكتب لكلّ واحد بخلعة ودنانير وأفراس وعبيد وجوار، وأمر أن يرسل كلّ واحد منهم رسولا ليقبض(23/449)
ذلك. ثم ركب وخرج القوم يشيّعونه إلى قرب إشبيلية، فصرفهم ودخل. وأرسلوا من قبض لهم ما كتب به، ثم أغفلهم ستّة أشهر وكتب إليهم بستدعيهم لوليمة، فجاءه سبعون رجلا منهم فأنزلهم عند رجاله، وأنزل معاذا عنده. وأمر بهم فأدخلوا حماما، وبنى عليهم بابه، فماتوا جميعا، فعزّ ذلك على معاذ بن أبى قرة فقال له عبّاد:
لا ترع فإنهم قد حضرت آجالهم وقد أرادوا قتلى، ولولاك ما كنت ناجيا منهم، وإنما جعل الله صيانه دمى بك، فإن أردت الرجوع إلى بلدك رددتك على أجمل الوجوه وأحسنها وأسرّها! فقال له معاذ:
بأىّ وجه أرجع أنا دونهم؟
فأمر له المعتضد بألف دينارة وعشرة أفراس وثلاثين جارية وعشرة أعبد، وأنزله فى قصر من أعظم قصوره، وأقطعه فى كلّ عام اثنى عشر ألف دينار، وكان ينفذ إليه فى كل يوم التّحف والطرف. ولم يكن يحضر مجلسه أحد قبله/ إلى أن مات عبّاد فأوصى ولده بمعاذ وقال: يا بنى احفظنى فيه! فجرى فيه على عاده أبيه، ودام بإشليية حتى انقرضت دولة بنى عبّاد.
قال بعض أهل إشبيلية: رأيت معاذ بن أبى قرة يوم دخل يوسف بن تاشفين إشبيلية أوّل النهار وعليه ثوب ديباج مخرطم بالذهب وأمامه نحو من ثلاثين عبدا، ورأيته آخر النهار عليه مليس «1» مشتمل به فسبحان من لا يزول ملكه، نسأل الله تعالى أن لا يسلبنا ثوب نعمة أنعمها علينا بمنّه وكرمه.(23/450)
وفى أيام عبّاد توفى الإمام الحافظ أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن سعدان بن سفيان بن يزيد الفارسى مولى يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أمية. أصل آبائه من قرية منت ليسم من عمل الولبة «1» من كور غرب الأندلس، وسكن هو وآباؤه قرطبة ونالوا بها جاها عريضا ومالا وممدودا. وولّى ابن أبى عامر جدّه سعيدا الوزارة، وولى أبو محمد هذا الوزارة فى أيام المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الأموى. وكان مولده يوم الأربعاء سلخ شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ووفاته فى سلخ شعبان سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكانت مدة حياته اثنتين وسبعين سنة وأحد عشر شهرا. وله كثير من لصنّفات،/ ذكر أنه اجتمع مع الإمام أبى الوليد سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب الباجى صاحب التواليف- وقيل بل الفقيه إبراهيم الخفاجى- فجرت بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: تعذرنى فإن أكثر مطالعتى كانت على سرج الحرّاس! فقال له ابن حزم:
وتعذرنى أيضا فإن أكثر مطالعتى كانت على منابر الذهب والفضة! «2» وفى سنة ستين وأربعمائة توفى المعتضد بالله عبّاد بن محمد، وحكى أنه استحضر مغنيا يغنيه ليجعل أوّل ما يبدأ به فألا فكان أول شعر قاله:
نطوى الليالى علما أن ستطوينا ... فشعشعينا بماء المزن واسقينا(23/451)
فمات بعد خمسة أيام رحمه الله، ولما مات ولى بعده ابنه محمد.
ذكر ولاية المعتمد على الله
محمد بن عباد ابن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عبّاد، وكنيته أبو القاسم.
ولى بعد وفاة أبيه فى سنة ستين وأربعمائة، وقيل فى سنة إحدى وستين، وكان مولده بباجة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، فكان عمره حين ولى ثلاثين سنة. وكان فيه أدب وشعر وكرم/ وتواضع وشجاعة، قال أبو بكر محمد بن عيسى المعروف بابن اللبانة كاتبه يصف الدولة العبادية «كانت الدولة العبادية تشبه العباسية، بها وسعة ملك ووثاق عهد وانتظام عقد، وعدل أئمة واعتدال أمة، كان أربابها يتنافسون فى المكارم ويتغايرون على الشرف المتقادم..
من حلبة السّبق لا برق يخاطفها ... إلى مداها ولا ريح يجاريها
تردّهم نسبة نحو السماء فهم ... من مائها، وعلاهم من دراريها
يشير إلى المنذر بن ماء السماء، ثم قال «جمعوا كرم الأخلاق إلى شرف الأعراق، وحملوا حلى الأداب على الأحساب، وعضّدوا البأس بالكرم وأيّدوا بالسيف والقلم..
نفر إلى ماء السماء نماهم ... نسب على أوج النجوم مخيّم
بالبيض والبيضات والخلق اكتسوا ... فتوسّحوا وتتوّجوا وتعمّموا(23/452)
وكان بهذا البيت سرير الفلك الدائر وغريبه البحر الزاخر المعتمد على الله المؤيد بنصر الله أبو القاسم محمد» وذكر نسبه، ثم قال:
من بنى المنذر وهو انتساب ... البيتين، وقد ذكرناهما آنفا، وقال تلوهما: وكذلك يطّرد النّسب اطراد/ الشآبيب، ويتّسق إتّساق الأنابيب، فهو كما قيل:
شرف ينقّل كابرا عن كابر ... كالرّمح أنبوب على أنبوب
إلى مركز الدائرة من لخم وواسطة المنتخبين من يعرب وقحطان! ثم ذكر مولده وولايته على ما قدمنا وذكر خلعه فى سنة أربع وثمانين على ما نذكره إن شاء الله.
وكان سبب خلعه وانقراض دولته أن الفرنج- لعنهم الله- لما استولوا على طليطلة وملكها الأذفونش- وهو ألفنش- فى سنة ثمان وسبعن وأربعمائة على ما قدمناه. وكان المعتمد. يؤدّى إليه ضريبة فى كلّ سنة، فلما سيّرها إليه بعد استيلائه على طليطلة لم يقبلها وأعادها، وأرسل إليه يتوعده ويقول له: أنا آخذ مدينة قرطبة كما أخذت طليطلة إلا أن ترفع يدك عن جميع الحصون وتسلّمها إلينا ويكون لك السّهل من البلاد! وكان الرسول سلبيب اليهودىّ ومعه خمسمائة فارس، وطلب منه اثنى عشر ألف دينار، فأمر المعتمد بإنزال الخيالة على أهل العسكر متفرقين وأمر كلّ من عنده فارس منهم أن يقتله. ولما جنّ الليل أحضر اليهودىّ وكشف رأسه، وأمر بضربه بالنعال المسمرة، حتى خرجت عيناه من رأسه. وهرب من الخيالة ثلاثة، فوصلوا(23/453)
إلى الأذفوشن وأعلموه بقتل أصحابه وكان متوجها إلى قرطبة يريد حصارها- فلما جاءه الخبر رجع إلى طليطلة ليستعد ويهيّىء آلات الحصار.
فلما سمع المعتمد برحيله إلى طليطلة سار هو إلى إشبيلية فبلّغ مشايخ قرطبة ما جرى، فاجتمعوا بالفقهاء وقالوا: هذه مدائن الأندلس قد غلب عليها الفرنج ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرّت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت! ثم ساروا إلى القاضى عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصّغار والذلة وإعطائهم الجزية إلى الفرنج بعد أن كانوا يأخذونها منهم، وابن عبّاد هو الذى حمل الفرنج على المسلمين حتى جرى ما جرى وطلب منه ما طلب، وقد دبّرنا رأيا نعرضه عليك! قال: وما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب أفريقية ونعلمهم أنهم إن وصلوا إلينا قاسمناهم فى أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين فى سبيل الله تعالى! قال: أخاف أن يخربوا الأندلس كما فعلوا بأفريقية ويتركوا الفرنج ويبدأوا بكم والمرابطون أقرب إلينا وأصلح حالا. قالوا: فكاتب يوسف بن ناشفين ورغّب إليه أن يدخل إلينا بنفسه أو يرسل إلينا قائدا من قوّاده. قال: أمّا الآن فقد أشرتم برأى فيه السّداد! وقدم المعتمد إلى قرطبة فى أثر ذلك، فدخل عليه القاضى وأعلمه بما دار بينه وبين أهل قرطبة وما اتفقوا عليه، فقال المعتمد:
نعم ما أشاروا به وأنت رسولى/ إليه! فامتنع القاضى واستعفاء(23/454)
وإنما أراد أن يقوّى عزمه على إرساله فقال: لا أجد لها غيرك.
فسار القاضى، وصحبه أبو بكر بن القصيرة الكاتب إلى أمير المسلمين، فوجداه بسبتة، فأبلغاه الرسالة. وأعلماه بحال المسلمين وما هم عليه من الخوف والجزع من الأذفونش، وأنهم يستنصرون بالله ثم به؛ وأن المعتمد يستنجده عليه. فأمر يوسف فى الحال بإدخال العساكر إلى الجزيرة الخضراء، وأقام بسبتة وأنفذ إلى مراكش فى طلب من بقى، ودخل فى آخر العساكر.. هذا ما نقله أهل التاريخ، أن القاضى وابن القصيرة كانا رسولين إليه، وقيل إن المعتمد بن عبّاد سار بنفسه بغير واسطة وتلطّف فى الدخول عليه إلى أن انتهى إلى آخر بواب فقال له: قل لأمير المسلمين إن ابن عبّاد بالباب! فلما أعلمه بذلك ارتاع وظن أنه قدم بعساكره، وسأله عن حقيقة الحال فقال: هو ببابك وحده فأذن له، فدخل عليه، فأكرمه ووعده النصر. وعاد ابن عباد، ولحقه أمير المسلمين.
ذكر وقعة الزلاقة
وانهزام الفرنج لعنهم الله/ قال «1» : وجمع المعتمد العساكر وأقبل أمير المسلمين بعساكره، واجتمعوا كلهم بإشبيلية، وخرج من أهل قرطبة- من المتطوعين- أربعة آلاف فارس وراجل. وجاء المسلمون من بلاد الأندلس، من كل بلد وحصن. واتصلت الأخبار بالأذفونش،(23/455)
فخرج من طليطلة فى أربعين ألف فارس غير من أنضاف إليها، وكتب إلى يوسف كتابا كتبه عنه رجل من أدباء المسلمين يغلظ فيه القول ويصف ما عنده من القوة والعدد والعدد، ووسّع وأطال وبالغ. ووصل الكتاب إلى يوسف بن تاشفين فأمر الكاتب أبا بكر ابن القصيرة أن يجاوبه. وكان كاتبا مجيدا- فكتب وأطال وبالغ، فلما قرأه على يوسف استطاله وكتب على ظهر كتابه» الذى يكون ستراه»
ولا كتب إلى المشرفيّة والقنا ... ولا رسل إلا بالخميس العرمرم
وردّه إليه، فلما قرأ الجواب ارتاع وقال: هذا رجل له عزم! قال «1» : ولما استعد الأذفونش للّقاء رأى فى منامه كأنه راكب فيلا وبين يديه طبل صغير ينقر فيه، فقصّ ذلك على القسيسين فلم يعرفوا تأويله، فاستحضر رجلا مسلما عالما ديّنا فاستعفاه من القول فأمّنه وعزم عليه، فقال: تأويل هذه الرؤيا فى آيتين من كتاب الله عزّ وجلّ! وقرأ سورة الفيل، وقوله تعالى «فإذا نقر فى/ النّاقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير» «2» وذلك يقتضى هلاك الجيش الذى تجمعه.
فلما اجتمع الجيشس وعبّأه أعجبته كثرته، فاستحضر المعبر وقال له: هذا الجيش الذى ترى ألقى به محمدا صاحب كتابكم! فانصرف المعبّر عنه وقال: هذا الملك هالك لا محالة وكلّ من معه(23/456)
فإنه قد أعجب بجمعه ... وذكر قول النبىّ صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات» الحديث ...
قال «1» : وسار المعتمد بن عبّاد وأمير المسلمين بالعساكر حتى أتوا موضعا يقال له الزلّاقة من بلد بطليموس «2» وأتى الأذفونش فنزل موضعا بينه وبينهم- ثمانية عشر ميلا، فقيل ليوسف بن تاشفين إنّ ابن عبّاد ربما لم ينصح ولا يبذل نفسه دونك، فأرسل تقول له «كن فى المقدمة ونكون نحن فى أثرك» .
فتقدّم ابن عباد.
وضرب الأذفونش خيامه فى سفح جبل والمعتمد بن عبّاد فى سفح جبل آخر بحيث يتراءان، ونزل يوسف بن تاشفين فى جبل من وراء الجبل الذى فيه المعتمد. وظنّ الأذفونش أن عسكر المسلمين ليس إلّا ذاك الذى يظهر له مع المعتمد والأذفونش فى زهاء خمسين ألف فارس، فما شكّ أنه الغالب واستعمل الخدعة. وأرسل ابن عبّاد فى ميقات اللقاء يوم الخميس، وقال: نحن قد وصلنا على حال تعب وأمامكم الجمعة وأمامنا الأحد فيكون اللقاء يوم/ الإثنين بعد أهبة! فاستقر الأمر بينهما على ذلك.
ثم ركب الأذفونش صبيحة الجمعة ليلا، وصبّح بجيشه جيش المعتمد، فوقع القتال بينهم، فصبر المسلمون وقتل منهم خلق كثير، وأشرفوا على الانهزام. وقد كان المعتمد أرسل إلى ابن(23/457)
تاشفين فقال للأدلّة: احملونى إلى مضارب الأذفونش! فما شعر الفرنج إلا وقد نهبت خيامهم وخزائن الأذفونش وعدده، والقتل يعمل فيهم من رواء ظهورهم. فلم يتمالك الفرنج أن انهزموا وأخذهم السيف من كلّ مكان، فقتلوا عن آخرهم، فما سلم إلا آحاد! وهرب الأذفونش فى نفر يسير ودخل طليطلة فى سبعة فوارس، ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة نفر أكثرهم رجّالة.
وكانت هذه الوقعة فى يوم الجمعة فى العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وأصاب المعتمد جراحا فى وجهه، ووصف فى ذلك اليوم بالشجاعة. وغنم المسلمون من أموال الفرنج وأسلحتهم ما لا يحصى كثرة، وجعل المسلمون رؤوس القتلى كوما كبيرا وصعدوا عليه وأذّنوا إلى أن جافت فأحرقوها!.
وعاد المعتمد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء وعدّى إلى سبته وسار إلى مراكش. وعاد فى السنة الثانية إلى جزيرة الأندلس وحاصر/ ليطة «1» هو وابن عباد وصاحب غرناطة «2» ، فلم يتهيأ لهم فتحه، فرجع وأخذ غرناطة من صاحبها عبد الله بن بلكمين، وهى أول ما ملكك من بلاد الأندلس على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(23/458)
ذكر انقراض الدولة العبادية
وشىء من أخبار المعتمد وشعره فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة أتى يوسف بن تاشفين إلى سبتة ودخل العساكر إلى الأندلس مع سيرين [بن] «1» أبى بكر، فقصدوا مدينة إشبيلية، فحصروا المعتمد وضيقوا عليه. فقاتل قتالا شديدا، وظهر من شجاعته وشدّة بأسه وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره فسمع الفرنج بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا وأكثروا وساروا لمساعدة المعتمد وإغاثته على المرابطين. فلما سمع بمسيرهم «2» فارق إشبيلية وتوجّه إلى لقاء الفرنج، وقابلهم وهزمهم، ورجع إلى إشبيلية. ودوام الحصار والقتال إلى العشرين من شهر رجب من السنة، فعظم الخطب واشتد الأمر على أهل البلد. ودخله المرابطون من واديه ونهبوا الأموال، ولم يبقوا على/ شىء حتى سلبوا الناس ثيابهم، وخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم.
وأسر المعتمد ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع أموالهم. وقيل إن المعتمد سلّم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واشتحلفهم على نفسه وأهله وماله وعبيده وجميع ما يتعلق به. فلما سلّم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وسيّر المعتمد(23/459)
إلى مدينة أغمات «1» ، فحبسوا بها، وفعل بهم أمير المسلمين أفعالا قبيحة لم يفعلها أحد قبله. وذلك أنه سجنهم ولم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كان بنات المعتمد يغرلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، فأبان أمير المسلمين فى ذلك عن لؤم طباع وضيق نفس.
قال «2» : وبقى المعتمد فى حبسه بأغمات إلى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فتوفى فيها، وقبره بأغمات. فكان من بنى عبّاد ثلاثة؛ القاضى محمد ابن إسماعيل، وابنه عباد، ومحمد بن عبّاد هذا، ومدة ملكهم ستون سنة، وكان له من الأولاد الذكور والإناث [] «3» وكان رحمه الله من محاسن الزمان كرما وعلما ورئاسة وأخباره مشهورة وآثاره مدوّنة. وقد ذكره ابن خاقان فى «قلائد العقيان» ، وذكر شيئا من نظمه ونثره. وكان شاعره أبا بكر/ محمد بن عيسى الدانى المعروف بابن اللبّانة «4» يأتيه فى سجنه فيمدحه لإحسانه القديم إليه وبرّه الذى بقيت آثاره مع طول الزمن عليه، قال ابن اللبّانة: فأمضيت عزيمتى بعد انقضاء(23/460)
الدولة فى زيارته، فوصلت إليه بأغمات، فقلت فى ذلك أبياتا عند دخولى عليه.
لم أقل فى النّقاف كان نقافا ... كنت قلبا له وكان شغافا
يمكث الزّهر فى الكمام ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درّة للمعالى ... ركّب الدّهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصا كريما ... مثل ما يحجب الدّنان السلافا
أنت للفضل كعبة ولو انّى ... كنت أسطيع لالتزمت الطّوافا
قال: وجرت بينى وبينه مخاطبات ألذّ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدلّ على السماح، من فجر على صباح- قال- فلما قاربت الصدر وأزمعت السفر، صرف حبله واستنفذ ما قبله، وبعث إلىّ شرف الدولة ابنه- وكان من أحسن الناس سمتا وأكثرهم صمتا، تخجله اللفظة وتجرحه اللحظة، حريصا على طلب الأدب مسارعا فى اقتناء الكتب، مثابرا على نسخ الدواوين ففتّح من خطّه فيها زهر البساتين- بعشرين مثقالا مرابطية «1» وثوبين/ غير مخيطين، وكتب مع ذلك أبياتا منها:
إليك النّزر من كفّ الأسير ... وإن تقنع نكن عين الشّكور
تقبّل ما ندوت به جباء ... وإن غدرته حالات الفقير(23/461)
قال ابن اللبّانة فأجبته:
حاش لله أن أحيج كريما ... يتشكّى فقرا وكم سدّ فقرا
وكفانى كلامك الرطب نيلا ... كيف ألقى درّا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
مما قاله المعتمد من شعره فى مدة أسره- فمن ذلك- قوله:
سلّت علىّ يد الخطوب سيوفها ... فجررن من جسدى الخصيف الأمتنا
ضربت بها أيدى الضروب وإنما ... ضربت رقاب الآمنين بها المنى
يا آملى العادات من نفحاتنا ... كفّوا فإن الدهر كفّ أكفّنا
وقال فى قصيدة يصف القيد فى رجليه:
تعطّف من ساقى تعطّف أرقم ... يساورها عضّما بأنياب ضيغم
وإنّى من كان الرجال بسيبه ... من سيفه فى جنّة وجهنم
وقال فى يوم عيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فصرت كالعبد فى أغمات مأسورا
قد كان دهرك إن يأمره ممتثلا ... فردّك الدّهر منهيا ومأمورا
/ من بات بعدك فى ملك يسرّ به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
وتعرّض له أهل الكدية وهو فى الحبس فقال:
سألوا اليسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحقّ منهم فاعجب
لولا الحياء وعزّة لخمية ... طىّ الحشا لحكاهم فى المطلب
ورثا ولديه وقد ذبحا بين يديه فقال:
يقولون صبرا.. لا سبيل إلى الصّبر ... سأبكى وأبكى ما تطاول من عمرى(23/462)
أفتح.. لقد فتّحت لى باب رحمة ... كما بيزيد الله قد زاد فى أجرى
هوى بكما المقدار عنّى ولم أمت ... فأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود فى الثّرى ... إذا أنتما أبصرتمانى فى الأسر
أبا خالد أورثتنى البثّ خالدا ... أبا النّصر مذ ودّعت ودّعنى نصرى
قال: وكان الشيخ عبد الجبار بن أبى بكر بن محمد بن حمد يس توجه من المغرب إلى الأندلس فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فقصد المعتمد، وأقام عنده إلى أن خلع، فكتب إليه المعتمد بعد أن عاد إلى المهدية:
غريب بأقصى المغربين أسير ... يبكّى عليه منبر وسرير
أذلّ بنى ماء السماء زمانهم ... وذلّ بنى ماء السماء كثير
فما ماؤها إلا بكاء عليهم ... يفيض على الآفاق منه بحور
فأجابه محمد بن حمد يس:
جرى لك جدّ بالكرام عثور ... وجار زمان كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظّبا فى غمودها ... إناثا بترك الضّرب وهى ذكور(23/463)
ولما رحلتم بالنّدى فى أكفّكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لسانى بالقيامة قد دنت ... ألا فانظروا كيف الجبال تسير؟
قال ولما توفى المعتمد وقف ابن اللبانة على قبره فى يوم عيد- والناس عند قبور أهاليهم- وأنشد بصوت عال:
ملك الملوك أسامع فأنادى ... أم قد عداك عن الجواب عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت فى الأعياد
قبّلت فى هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وأخذ فى إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلّهم عليه يبكون لبكائه وإنشاده. وحكى بعض المعتنين بأخبارهم أن فخر الدولة ابن المعتمد على الله مرّ يوما فى بعض شوارع مدينة إشبيلية، فطمحت عينه إلى روشن قرأى وجها حسنا فتعلّق قلبه به، ولم يمكنه الوصول، فخامره الهوى ومرض من ذلك. فاتصل خبره بأبيه، فسأل عن المرأة فقيل إنها ابنة رجل خباز، فأمر الوزير أن ينفذ إلى أبيها ويخطبها منه. فأرسل إليه الوزير فعلم ما يراد به، فامتنع من الوصول إليه وقال: هو أحقّ بالوصول إلىّ فى هذه الحالة! فأعلم المقتدر بذلك فقال: تصل إليه وتخطبها. فلما وصل إليه وخطبها قال الخباز للوزير: أله صنعة؟ فقال الوزير: ابن المعتمد يطلب منه صنعة وهو سلطان الأندلس؟ فقال له: أمها طالق إن زوجتها إلا من له صناعة يستر حاله وحالها بها إن احتاج إليها.
فأعلم الوزير المعتمد فقال: هذا رجل عاقل! فأمر بإحضار الصاغة إلى القصر وعلّم فخر الدولة الصياغة وحذق فيها فلما جرى(23/464)
عليهم ما جرى دخل حوانيت الصاغة، وصاغ بالأجره فرآه ابن اللبّانة وهو ينفخ فى بعض الحوانيت فقال:
أذكى القلوب أسى، أبكى العيون دما ... خطب وجودك فيه يشبه العدما
صرّفت فى آلة الصيّاغ أنملة ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يا صائغا كانت الدنيا تصاغ له ... حليا وكان عليه الحلى منتظما
النّفخ فى الصور هول ما حكاه سوى ... هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
قال: ولما انقرضت الدولة العبادية صار ملك بلاد المسلمين إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب مراكش والمغرب، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى أخباره.
[ذكر ممالك الأندلس الأخرى]
«1» وأما سرقسطة والثغر الأعلى/ فكان ذلك بيد منذر بن يحيى إلى أن توفى وولى بعده ابنه يحيى، ثم ولى بعده سليمان بن أحمد بن محمد ابن هود الجذامى، وكان يلقّب بالمستعين، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة مع الفرنج فى سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. ثم توفى وولى بعده ابنه أحمد المقتدر بالله، وولى بعده(23/465)
يوسف المؤتمن، ثم ولى بعده أحمد المستعين على لقب جدّه، ثم ولى ابنه عماد الدولة. ثم ابنه أحمد المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمسمائة، وصارت للملثمين.
وأما طرطوشة فوليها الفتى العامرى.
وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن محمد بن المنصور بن أبى عامر، ثم انضاف إليه إلمرية، وما كان إليها. وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذى النون فى ذى الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة..
وأما السّهلة «1» فملكها عبّود بن رزين، وأصله بربرى، ومولده بالأندلس. فلما هلك ولى بعده ابنه عبد الملك، ثم ابنه عزّ الدولة، ثم الملثمون.
وأما دانية «2» والجزائر فكانتا بيد الموفق أبى الجيش مجاهد العامرى، وسار إليه من/ قرطبة الفقيه أبو محمد عبد الله المعيطى ومعه خلق كثير. فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عن رأيه، وبايعه فى جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة. وأقام المعيطى معه بدانية نحو ثلاثة أشهر، ثم سار هو ومجاهد فى البحر إلى الجزائر وهى(23/466)
ميورقة ومنورقة ويابسة «1» . ثم بعث المعيطى بعد ذلك مجاهدا إلى سردانية فى مائة وعشرين فارسا ومعه ألف فرس، ففتحها فى شهر ربيع الأول سنة ستّ وأربعين وأربعمائة وقتل بها خلقا كثيرا من النصارى، وسبى. فسار إليه الفرنج والروم فى آخر السنة فأخرجوه منها، فرجع إلى الأندلس فوجد المعيطى قد مات. وبقى مجاهد إلى أن مات، وولى بعده اينه علىّ بن مجاهد ثم مات، فولى بعده ابنه أبو عامر.
ثم صارت دانية وسائر بلاده إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود، فى شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبى عبد الرحمن المدعو بالرئيس إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبى بكر بن عمّار الفهرى، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجّه إليه عسكرا مقدّمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق العشيرى فحصره. وضيقوا/ عليه فهرب منها، ودخلها العشيرى وملكها فعصى فيها على المعتمد ابن عبّاد إلى أن دخل فى طاعة الملثمين، وبقى بها إلى أن مات فى سنة سبع وخمسمائة.
وأما إلمرية فملكها خيران العامرىّ إلى أن توفى، وملكها زهير العامرى واتسع ملكه إلى شاطبة إلى ما يجاور عمل طليطلة. ودام إلى أن قتل وصارت مملكته إلى المنصور أبى الحسن بن أبى عامر-(23/467)
صاحب بلنسية، فولّى عليها محمدا ابنه، فأقام بها مدة فى حياة أبيه وبعد وفاته إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص معن بن محمد ابن صمادح التجيبى. ودانت له لورقة وبيّاسه «1» وجيّان وغيرها، إلى أن توفى فى سنه ثلاث وأربعين وأربعمائة، وولى بعده ابنه أبو يحيى محمد ابن معن- وهو ابن أربع عشرة سنة- فكفّله عمه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفى فى سنة ستّ وأربعين وأربعمائة. فبقى أبو يحيى مستضألا لصغره، وأخذ ما بعد من بلاده عنه، ولم يبق له غير إلمرية وما جاورها. فلما كبر أخذ نفسه بالاشتغال بالعلوم ومكارم الأخلاق، فامتد صيته واشتهر ذكره وعظم سلطانه والتحق بأكابر الملوك. ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين فمرض فى أثناء ذلك، وكان القتال/ تحت قصره فسمع يوما صياحا وجلبه فقال: يغصّ علينا كلّ شىء حتى الموت! وتوفى فى مرضه ذلك لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك الملثمون إلمرية.
ودخل أولاده وأهله فى البحر إلى بجاية «2» ، والتحقوا ببنى حمّاد.
وأما مالقة فملكها بنو على بن حمّود، فلم تزل فى مملكة العلويين يخطب لهم فيها بالخلافة إلى أن أخذها منهم باديس بن حبّوس صاحب غرناطة.(23/468)
وأما أغرناطة فملكها حيوس بن ماكسنى الصنهاجى، ثم مات فى سنة تسع وعشرين وأربعمائة وولى بعده ابنه باديس إلى أن توفى وولى بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكّين «1» . وبقى إلى أن ملكها منه الملثمون فى شهر رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة.
وانقرضت جميع هذه الدول، وصارت الأندلس جميعها للملثمين على ما نذكره إن شاء الله- عزّ وجل- فى أخبارهم أيام أمير المسلمين. يوسف بن تاشفين. ولما كانت جزيرة الأندلس بيد هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم، كانوا يسمّون بملوك الطوائف وبسبب انفراد كلّ ملك منهم بجهة استولى الفرنج على طليطلة كما ذكرنا.(23/469)
ثبت بأسماء المراجع العربية المذكورة فى الحواشى
1- مسكوبه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم ط. القاهرة سنة 1920 2- الطبرى: تاريخ الأمم والملوك ط. الاستقامة سنة 1939
3- عريب القرطبى: صلة الطبرى ط. الاستقامة سنة 1939
4- على بن موسى: المغرب فى حلى المغرب ط. دار المعارف بمصر
5- الصابى: تحفة الأمراء فى تاريخ الوزراء ط. بيروت سنة 1904
6- ابن طباطا: الفخرى فى الآداب السلطانية ط. دار المعارف (الثانية)
7- البهقى: تاريخ البهقى ط. الانجلو سنة 1956
8- ابن الجوزى: المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. ط. حيدر اباد الدكن (الأولى)
9- العماد الحنبلى: شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ط. القدسى سنة 1350
10- ابن كثير: البداية والنهاية ط. السعادة بمصر.
11- أبو المحاسن بن تغرى بردى:
النجوم الزاهرة ط. دار الكتب (الأولى)(23/471)
12- المقريزى: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك ط. دار الكتب المصرية
13- ابن حسول: تفضيل الأتراك على سائر الأجناد ط. استنبول سنة 1940
14- ابن الأثير: الكامل ط. المنيرية سنة 1348
15- ابن سليمان الراوندى:
راحة الصدور وآية السرور ط. دار القلم بالقاهرة
16- المقرى: نفح الطيب ج 1 ط. التجارية 1949
17- ياقوت: معجم البلدان ط. دار صار بيروت سنة 1952
18- الحميرى: صفة جزيرة الأندلس منتخبة من كتاب الروض المعطار فى خبر الأقطار ط. لجنه التأليف والترجمة والنشر سنة 1937(23/472)
فهرس الجزء الثالث والعشرين
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
مقدمة 5
ذكر خلافة المكتفى بالله 11
ذكر قتل بدر غلام المعتضد بالله 12
ذكر وفاة المكتفى بالله 22
ذكر خلافة المقتدر بالله 22
ذكر خلافة المتقدر بالله 23
ذكر خلع المتقدر وولاية ابن المعتز، وانتقاض ذلك وعودة المتقدر ووفاة عبد الله ابن المعتز 26
ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانى 34
ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة على بن عيسى 37
ذكر خروج الحسين بن حمدان عن طاعة المقتدر 41
ذكر وزارة ابن الفرات الثانية وعزل على بن عيسى 42
ذكر أمر يوسف بن أبى الساج 45
ذكر عزل ابن الفرات عن الوزارة ووزارة حامد بن العباس 51
ذكر قتل الحسين بن منصور الحلاج وشىء من أخباره 57
ذكر عزل حامد بن العباس وولاية ابن الفرات 62
ذكر القبض على ابن الفرات الوزير وولده المحسن 68
ذكر وزارة أبى القاسم الخاقانى 70
ذكر مقتل ابن الفرات وولده 70
ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة ووزارة أبى العباس الخصيبى 74
ذكر عزل أبى العباس الخصيبى ووزارة على بن عيسى 75
ذكر ابتداء الوحشة بين المتقدر بالله وبين مؤنس 77
ذكر عزل على بن عيسى عن الوزارة ووزارة أبى على بن مقلة 79
ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب الحال واستيحاش مؤنس 79(23/473)
ذكر خلع المقتدر بالله وبيعة القاهر 81
ذكر عود المقتدر بالله إلى الخلافة وقتل نازوك وابن حمدان 84
ذكر هلاك الرجالة المصافية 89
ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان 90
ذكر خروج صالح والأغر 91
ذكر عزل سليمان عن الوزارة وتولية أبى القاسم الكلوذانى الوزارة 93
ذكر عزل الكلوذانى ووزارة الحسين 94
ذكر تأكيد الوحشة بين مؤنس والمقتدر 95
ذكر مسير مؤنس إلى الموصل 96
ذكر عزل الحسين عن الوزارة ووزارة ابن الفرات 97
ذكر استيلاء مؤنس على الموصل 97
ذكر مقتل المقتدر بالله 98
ذكر خلافة القاهر بالله 105
ذكر خبر عبد الواحد بن المقتدر ومن معه 107
ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر 109
ذكر القبض على مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وابنه 110
ذكر مقتل مؤنس ويلبق وابنه على والنوبختى 114
ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم وعزله وولاية الحضيبى 115
ذكر القبض على طريف السبكرى 115
ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره 116
ذكر خلافة الراضى بالله 121
ذكر مقتل هارون بن غريب 123
ذكر مقتل الشلمغانى ومذهبه 124
ذكر ظهور إنسان ادعى النبوة 128
ذكر القبض على ابنى ياقوت 129
ذكر حال أبى عبد الله محمد البريدى وتقدمه 130
ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل 131
ذكر القبض على الوزير ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى وغيره 132
ذكر عزل أبى جعفر ووزارة سليمان بن الحسن 134
ذكر وزارة الفضل بن جعفر (بن الفرات) 136
ذكر مسير الراضى بالله لحرب البريدى 137
ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز 142
ذكر الحرب بين بجكم والبريدى والصلح بعد ذلك 144(23/474)
ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه 145
ذكر استيلاء بجكم على بغداد وشىء من أخباره 147
ذكر مسير الراضى بالله وبجكم إلى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام 149
ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى للخليفة الراضى بالله 151
ذكر وفاة الراضى بالله وشىء من أخباره 152
ذكر خلافة المتقى لله 154
ذكر مقتل بجكم 156
ذكر إصعاد أبى عبد الله البريدى إلى بغداد 157
ذكر عود البريدى إلى واسط هاربا 158
ذكر إمارة كور تكين الديلمى 159
ذكر عود محمد بن رائق إلى بغداد وولايته إمرة الأمراء 160
ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى 163
ذكر استيلاء البريدى على بغداد وإصعاد المتقى لله إلى الموصل 164
ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء 166
ذكر عود المتقى لله إلى بغداد وهرب البريدى عنها 167
ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدى 168
ذكر ما اتفق لسيف الدولة بواسط ورجوع ناصر الدولة إلى الموصل 168
ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة من واسط 170
ذكر عود سيف الدولة إلى بغداد وهربه منها 170
ذكر إمارة توزون 171
ذكر الوحشة بين المتقى وتوزون 171
ذكر مسير المتقى لله إلى الموصل 173
ذكر قتل أبى يوسف البريدى 174
ذكر وفاة أبى عبد الله البريدى ومن قام بعده بالأمر 175
ذكر ما كان من أمر المتقى لله إلى أن خلع وسمل 176
ذكر خلافة المستكفى بالله 179
ذكر وفاة توزون وإمارة ابن شيرزاد 182
ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد 183
ذكر خلع المستكفى بالله وسمله 184
ذكر خلافة المطيع لله 185
ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود 189
ذكر ظهور المستجير بالله 190
ذكر ضمان الحسبة والقضاء والشرطة ببغداد 190(23/475)
ذكر استيلاء الروم على عين زربة وما حولها من الحصون 191
ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس 192
ذكر البيعة لمحمد بن المستكفى وما كان من أمره 195
ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة 196
ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية 197
ذكر ملك الروم ملازكرد 198
ذكر مقتل ملك الروم نقفور 198
ذكر الفتنة ببغداد ومصادرة الخليفة المطيع لله 200
ذكر خلع المطيع لله نفسه من الخلافة وخلافة ابنه الطائع لله 201
ذكر خلافة الطائع لله 202
ذكر الحوادث فى أيام خلافته 202
ذكر القبض على الطائع وشىء من أخباره 204
ذكر خلافة القادر بالله 206
ذكر تسليم الطائع لله إلى القادر وما فعله معه 209
ذكر البيعة لولى العهد 212
ذكر الفتنة بمكة 213
ذكر البيعة لولى العهد 215
ذكر ملك الروم مدينة الرها 216
ذكر وفاة القادر بالله وشى عن أخباره وسيرته 217
ذكر خلافة القائم بأمر الله 219
ذكر الحوادث فى أيام القائم 220
ذكر أخبار أبى الحارث أرسلان البساسيرى 222
ذكر استيلاء أبى الحارث البساسيرى على العراق وخروج الخليفة القائم بأمر الله من بغداد والخطبة للمستنصر بالله العلوى صاحب مصر وقطع الدعوة العباسية 226
ذكر مقتل رئيس الرؤساء وعميد العراق 229
ذكر عود الخليفة القائم بأمر الله إلى بغداد وخروج البساسيرى منها وقتله 232
ذكر غرق بغداد 239
ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من سيرته 240
ذكر خلافة المقتدى بأمر الله 242
ذكر الحوادث فى أيام المقتدى 243
ذكر الفتنه ببغداد بين الشافعية والحنابلة 246
ذكر مسير الشيخ أبى إسحاق برسالة الخليفة إلى السلطان ملكشاه 246(23/476)
ذكر عزل عميد الدولة عن الوزارة ومسير والده إلى ديار بكر 247
ذكر وفاة المقتدى بأمر الله وشىء من أخباره 252
ذكر خلافة المستظهر بالله 253
ذكر الحوادث فى أيام المستظهر بالله 254
ذكر وفاة المستظهر بالله وشىء من أخباره وسيرته 260
ذكر خلافة المسترشد بالله 261
ذكر ظهور قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 262
ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس بن صدقة 265
ذكر الاختلاف الواقع بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان محمود 267
ذكر حصار الخليفة المسترشد بالله الموصل 271
ذكر مسير المسترشد بالله لحرب السلطان مسعود بن محمد وأسره 272
ذكر مقتل المسترشد بالله 276
ذكر خلافة الراشد بالله 277
ذكر الحرب بين عسكر الخليفة الراشد بالله وعسكر السلطان مسعود 278
ذكر مسير الراشد بالله إلى الموصل وخلعه 279
ذكر خلافة المقتفى لأمر الله 282
ذكر تفويض أمور الدولة والوزارة إلى الوزير عون الدين بن هبيرة وما أقطعه الخليفة من الأقطاعات 287
ذكر حصر تكريت وعود عسكر الخليفة عنها وأسر ابن الوزير 288
ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزا 289
ذكر وفاة المقتفى لأمر الله وشىء من أخباره 293
ذكر خلافة المستنجد بالله 294
ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكى 297
ذكر إجلاء بنى أسد من العراق 297
ذكر وفاة المستنجد بالله وشىء من أخباره وسيرته 299
ذكر خلافة المستضىء بأمر الله 300
ذكر مقتل الوزير أبى جعفر بن محمد المعروف بابن البلدى 301
ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغداد وعود عضد الدين إلى الوزارة 303
ذكر مقتل الوزير عضد الدولة وولاية ظهير الدين بن العطار 306
ذكر فتنة ببغداد وهدم بيعة اليهود 307
ذكر وفاة المستضىء بأمر الله 308
ذكر خلافة الناصر لدين الله 308
ذكر القيض على بن العطار وموته 309(23/477)
ذكر انهزام عسكر الخليفة من طغرل 310
ذكر ملك الخليفة خوزستان 312
ذكر ملك الوزير همذان وغيرها من بلاد العجم 313
ذكر ملك عسكر الخليفة إصفهان 314
ذكر وفاة الناصر لدين الله وشىء من أخباره وسيرته 317
ذكر خلافة الظاهر بأمر الله 318
ذكر خلافة المستنصر بالله 321
ذكر خلافة المستعصم بالله 322
ذكر مقتل المستعصم بالله وانقراض الدولة العباسية واستيلاء هولاكو على بغداد 323
جامع أخبار خلفاء الدولة العباسية ومن ولى منهم ومدة خلافتهم 325
ذكر خلافة المستنصر بالله 327
ذكر مسير الخليفة المستنصر بالله إلى بلاد الشرق وقتله 329
ذكر خلافة الحاكم بأمر الله 331
ذكر خلافة المستكفى بالله 332
الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية ببلاد الأندلس 334
ذكر مقتل عبد الرحمن بن يوسف الفهرى 339
ذكر خروج العلاء وقتله 341
ذكر خروج سعيد اليحصبى المعروف بالمطرى وقتله 341
ذكر أخبار شقنا بن عبد الواحد وخروجه بالأندلس 343
ذكر عصيان أهل إشبيلية على الأمير عبد الرحمن 345
ذكر عبور الصقلبى إلى الأندلس وما كان من أمره إلى أن قتل 346
ذكر مخالفة أبى الأسود محمد بن يوسف الفهرى 349
ذكر وفاة عبد الرحمن وصفته وشى من أخباره وسيرته 350
ذكر إمارة هشام 352
ذكر خروج سليمان وعبد الله ابنى عبد الرحمن على أخيهما هشام 353
ذكر خروج جماعة أخر على الأمير هشام 354
ذكر غزو الفرنج 356
ذكر فتنة تاكرنا 357
ذكر وفاة هشام بن عبد الرحمن وشىء من أخباره وسيرته 358
ذكر إمارة الحكم من هشام الملقب بالمرتضى 357
ذكر غزو الفرنج 359
ذكر خلاف بهلول بن مرزوق وغيره 361(23/478)
ذكر مسير سليمان بن عبد الرحمن لقئال ابن أخيه الحكم وقتل سليمان 362
ذكر استيلاء الفرنج على برشلونه 362
ذكر الاتفاق بين الحكم وبين عمه عبد الله البلنس 363
ذكر استيلاء الفرنج على مدينة تطيلة 363
ذكر إيقاع الحكم بأهل قرطبة 364
ذكر إيقاع الحكم بأهل طليطلة وهى وقعة الحفرة 365
ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة 367
ذكر غزو الفرنج 368
ذكر عصيان حزم على الحكم 369
ذكر عودة أهل ماردة إلى العصيان وغزو الحكم بلاد الفرنج 369
ذكر وقعة الربض بقرطبة 370
ذكر غزو الفرنج 373
ذكر غزو البربر بناحية مورور 373
ذكر وفاة الحكم 374
ذكر إمارة عبد الرحمن بن الحكم 375
ذكر إيقاع عبد الرحمن بأهل إلبيرة وجندها 375
ذكر محاصرة طليطلة وفتحها 379
ذكر الحرب بين موسى بن موسى والحارث بن بزيع وما كان من أمره 382
ذكر خروج المشركين إلى بلاد الإسلام بالأندلس 383
ذكر وفاة عبد الرحمن وشىء من أخباره 386
ذكر إمارة محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين 387
ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج 387
ذكر خروج المحبوس إلى بلاد الإسلام بالأندلس 388
ذكر وفاة الأمير محمد بن عبد الرحمن 392
ذكر إمارة المنذر بن محمد 393
ذكر إمارة عبد الله بن محمد 394
ذكر إمارة عبد الرحمن بن محمد 396
ذكر إمارة الحكم المستنصر بالله 399
ذكر إمارة هشام المؤيد بالله 402
ذكر أخبار المنصور محمد بن أبى عامر 403
ذكر المظفر أبى مروان عبد الملك 406
ذكر إمارة محمد المهدى 410(23/479)
ذكر أخبار شنشول ومقتله 414
ذكر قيام هشام بن سليمان على محمد وما كان من أمره إلى أن قتل 419
ذكر قيام سليمان بن الحكم المستعين بالله 419
ذكر دولة المهدى محمد الثانية 424
ذكر دولة المؤيد هشام الثانية 426
ذكر دولة المستعين بالله الثانية 429
ذكر إمارة الناصر على بن حمود 431
ذكر ولاية المأمون القاسم بن حمود بن ميمون الفاطمى 432
ذكر ولاية المعتلى يحيى بن على 434
ذكر عود الدولة الأموية بمدينة قرطبة ومن ولى منهم 435
(ا) ذكر إمارة المستظهر بالله 435
(ب) ذكر إمارة المستكفى بالله 435
(ج) ذكر ولاية المعتمد على الله 436
ذكر أخبار الأندلس ومن ملكها بعد انقطاع الدعوة الأموية 439
ذكر ولاية أبى الوليد محمد بن جهور 440
ذكر أخبار مدينة طليطلة 440
ذكر ولاية المأمون يحيى بن إسماعيل 441
ذكر أخبار دولة بنى عباد ذكر أخبار خلف الحصرى المشبه بالمؤيد هشام وقيام دعوته بمملكة محمد بن إسماعيل، وما قيل فى ذلك 445
ذكر ولاية أبى عمرو عباد بن محمد 448
ذكر ولاية المعتمد على الله محمد بن عباد 452
ذكر وقعة الزلاقة وانهزام الفرنج لعنهم الله 455
ذكر إنقراض الدولة العبادية وشىء من أخبار المعتمد وشعره 459
ذكر ممالك الأندلس الأخرى 465
ثبت بأسماء المراجع العربية المذكورة فى المراجع 471(23/480)
الجزء الرابع والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
يضم هذا الجزء من نهاية الأرب للنويرى تاريخ المغرب العربى، وجزيرتى صقلية وكريت (أقريطش) . أما الجزيرتان فعالج تاريخهما العربى كله. وأما المغرب العربى فأراد به ما نطلق عليه الآن ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وأرخ له منذ الفتح العربى الإسلامى إلى عصر المؤلف. فتناول عصر الولاة الخاضعين للخلافة الإسلامية فى المشرق ثم دولة الأغالبة التى كانت أول دولة نالت استقلالا ذاتيا ثم دول بنى زيرى والمرابطين والموحدين.
وأهمل تاريخ الفاطميين في هذا الجزء، لأنه جمع تاريخهم فى المغرب مع تاريخهم فى مصر والمشرق، ووضعه فى القسم الخاص بتاريخ مصر. كذلك قلت معلوماته عن بنى مرين، فاقتصر على سرد أسمائهم.
ويتجلى فى هذا الجزء من نهاية الأرب أنّ النويرى لم يكن يؤلف تاريخا للدول التى تعرض لها، وإنما كان ينسخ تاريخا لهم. فبالرغم من أنه ذكر ابن الرقيق وابن حزم مثلا من المؤرخين، كان اعتماده الأعظم على ابن الأثير فى كتابه الكامل فى التاريخ، وابن شداد فى كتابه الجمع والبيان فى أخبار(24/1)
اتخذت من هذه النسخة أصلا أول للتحقيق، تحت رمز (ع) ، واتخذت من نسخة دار الكتب أصلا ثانيا تحت الرمز (ك) .
واتخذت من نسختين أخريين مساعدا على التحقيق. أما النسخة الأولى فمصورة، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 551 معارف، وأعطيتها الرمز (ص) . وأما النسخة الثانية فالقسم الذى طبعه المستشرق جاسبار ريميرو من الكتاب ونشره فى مجلة
revista del centro de estudios historicos de granada y su reino
تحت عنوانhistoria de los musulmanes de espana y africa ,par
ennuguairi, texto arab etraduccion espanola par m. gaspar remiro
وقد كان للإمكانيات الضئيلة والزمن المتقدم أثرهما القاسى فى هذه الطبعة، التى لست أنا الذى يصلح للحكم عليها أو المقارنة بينها وبين الطبعة الراهنة. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف (ر) .
كذلك اعتمدت فى التحقيق على الترجمة التى قام بها البارون دى سلان de slane للقسم الأول الخاص بعصر الولاة من الكتاب وأعطيتها الرمز (س) .
وأستطيع أن أعد الكامل لابن الأثير نسخة أخرى، اعتمدت عليها فى تحقيق الكتاب لما ذكرت قبلا. وقد قارنت بين الكتابين كلمة فكلمة، وأبنت ما بينهما من اتفاق عند اختلاف غيرهما من المؤرخين عنهما. وأثبت ما بينهما من خلاف شأن النسخ المتعددة من الكتاب الواحد.(24/3)
ثم رجعت إلى كتب التاريخ العامة والخاص منها بتاريخ المغرب، لأستطيع أن أخلص إلى نسخة تكاد تكون نسخة المؤلف إن لم تكن هى إياها، مضيفا إليها بعض التعليقات التى تشير فى إيجاز إلى اختلاف النّويرى وانفاقه مع غيره من المؤرخين أو بعضهم.
حسين نصار(24/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وبه توفيقى
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار أفريقية وبلاد المغرب
ومن وليها من العمال، ومن استقل منهم بالملك وسميت أيامهم بالدولة الفلانية قد ذكرنا «1» فتوح إفريقية فى خلافة عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فى ولاية عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فى سنة ست وعشرين من الهجرة النبوية. وأوردنا ذلك هناك على سبيل الاختصار والإجمال «2» . ونحن الآن نذكره فى هذا الباب مبينا.
ولم نقدم ذكر أخبار المغرب «3» وملوكه على أخبار ملوك(24/5)
المشرق، إلا أنا لما ذكرنا أخبار الدولة الأموية بالأندلس ومن ملك الأندلس بعد بنى أمية، احتجنا إلى ذكر إفريقية «1» وبلاد المغرب، لتكون الأخبار يتلو بعضها بعضا. ولم نقدم أيضا ذكر الأندلس على إفريقية، مع كون إفريقية فتحت قبل الأندلس إلا للضرورة التى دعت إلى ذكر أخبار الدولة الأموية بالأندلس تلو الدولة العباسية. ولا ضرر فى التقديم والتأخير، لأنا لم نجعل التاريخ على حكم مساق السنين بل على الدول.
وأول دولة قامت على الدولة العباسية الدولة الأموية بالأندلس.
ولنذكر الآن فتوح إفريقية، ومن وليها.(24/6)
ذكر فتوح افريقية
كان فتوحها فى سنة سبع وعشرين «1» ، وذلك أن عثمان ابن عفان- رضى الله عنه- لما ولى الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وهو أخو عثمان لأمه. فكان عبد الله يبعث المسلمين فى جرائد الخيل «2» فيصيبون من إفريقية. ويكتب بذلك إلى عثمان.
فلما أراد عثمان أن يغزى إفريقية استشار الصحابة، فكلّهم أشار عليه بإنفاذ الجيش إليها إلا أبا الأعور سعيد بن أبى يزيد «3» فإنه كره ذلك. فقال له عثمان: «ما كرهت يا أبا الأعور من بعثة الجيش؟» قال: «سمعت عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يقول: لا أغزيها أحدا من المسلمين ما حملت عينى الماء «4» ولا أرى لك خلاف عمر» وقام. ثم دعا عثمان زيد بن ثابت ومحمد ابن مسلمة واستشارهما. فأشارا بإنفاذ الجيش.
فندب الناس إلى الغزو. فكان هذا الجيش يسمى جيش(24/7)
العبادلة «1» . خرج فيه من بنى هاشم: عبد الله بن عباس وكان واليا على المسلمين وعبيد الله بن عباس «2» ؛ ومن بنى تيم:
عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنهما، وعبد الرحمن بن صبيحة «3» فى عدّة من قومه، ومن بنى عدى:
عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب «4» وعبيد الله بن عمر، وعاصم بن عمر فى عدة منهم؛ ومن بنى أسد ابن عبد العزّى: عبد الله بن الزّبير فى عدة من قومه؛ ومن بنى سهم: عبد الله بن عمرو بن العاص والمطّلب بن السّائب بى أبى وداعة «5» ، فى عدة منهم. وخرج فى الجيش مروان بن الحكم، وأخوه الحارث، وجماعة من بنى أميّة، والمسور بن مخرمة ابن نوفل، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعدة من بنى زهرة؛ ومن بنى عامر بن لؤى بن غالب: السائب بن عامر(24/8)
ابن هشام «1» ، وبسر بن أرطاة؛ وعدة من بنى هذيل، منهم أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلى- وتوفى بإفريقية وواراه فى قبره عبد الله بن الزبير- وعبد الله بن أنيس «2» وأبو ذر الغفارى، والمقداد بن عمرو البهرانى «3» ، وبلال بن الحارث المزنى، وعاصم، ومعاوية بن حديج، وفضالة بن عبيد، ورويفع بن ثابت «4» ، وجرهد بن خويلد «5» وأبو زمعة البلوى، والمسيّب بن حزن، وجبلة بن عمرو الساعدى، وزياد بن الحارث الصّدائى، وسفيان بن وهب، وقيس بن يسار بن مسلمة «6»
وزهير بن قيس، وعبد الرحمن بن صخر «7» ، وعمرو بن عوف وعقبة بن نافع الفهرى. وخرج من جهينة ستمائة رجل، ومن أسلم حمزة بن عمرو الأسلمى «8» ، وسلمة بن الأكوع فى(24/9)
ثلاثمائة رجل، ومن مزينة ثمانمائة رجل، ومن بنى سليم أربعمائة رجل «1» ، ومن بنى الدّيل وضمرة وغفار خمسمائة رجل، ومن غطفان وأشجع وفزارة سبعمائة «2» رجل، ومن كعب ابن عمرو أربعمائة رجل «3» ، وكانوا آخر من قدم على عثمان، والناس معرّسون بالجرف، والجرف على ثلاثة أميال من المدينة «4» وأعان عثمان الجيش بألف بعير من ماله، فحمل عليها ضعفاء الناس، وحمل على خيل، وفرق السلاح، وأمر للناس بأعطياتهم. وذلك فى المحرم سنة سبع وعشرين.
وخطب عثمان الناس ورغّبهم فى الجهاد. وقال لهم: «قد استعملت عليكم الحارث بن الحكم «5» إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد، فيكون الأمر إليه. واستودعتكم الله» . وساروا حتى أتوا مصر.
فجمع عبد الله بن سعد جيشا عرمرما، وضمه إليه. فبلغ عسكر المسلمين «6» عشرين ألفا. واستخلف على مصر عقبة بن نافع، وتوجّه.(24/10)
وحكى الزّهرى عن ربيعة بن عباد الدّيلى قال: لما وصلنا قدّم عبد الله الطّلائع والمقدمات أمامه. وكنت أنا أكثر ما أكون فى الطلائع. فو الله إنا لبطرابلس قد أصبنا من بها من الروم قد تحصنوا منا فحاصرناهم، ثم كره عبد الله أن يشتغل بذلك عما قصد إليه، فأمر الناس بالرحيل «1» . فنحن على ذلك إذا مراكب قد أرست إلى الساحل «2» فشددنا عليها، فترامى من بها إلى الماء. فأقاموا ساعة ثم استأسروا فكتفناهم، وكانوا مائة «3» . حتى لحق بنا عبد الله فضرب أعناقهم، وأخذنا ما فى السفن. فكانت هذه أول غنيمة أصبناها.
ومضى حتى نزل بمدينة قابس فحاصرناها. فأشار عليه، الصحابة أن لا يشتغل بها عن إفريقية، فسار وبثّ السرايا فى كل وجه. وكان يؤتى بالبقر والشاء والعلف. قال: وكان ملكهم يدعى جرجير «4» ، وسلطانه من طرابلس إلى طنجة وولايته من قبل هرقل «5» . فلما بلغه الخبر بورود الجيوش الإسلامية، جمع وتأهب للّقاء، فبلغ عسكره عشرين ومائة ألف «6»(24/11)
قال: ثم ذهبنا قاصدين عسكره على تعبئة، فأقمنا أياما تجري بيننا وبينهم الرسل: ندعوه إلى الإسلام، وهو يستطيل ويتجبر وقال: «لا أقبل هذا أبدا» . فقلنا له «فخراج تخرجه كل عام» .
فقال: «لو سألتمونى درهما واحدا لم أفعل» . «1» . فتأهبنا للقتال بعد الإعذار منا «2» . فعبأ عبد الله بن سعد ميمنته وميسرته والقلب.
وفعل ملك الروم مثل ذلك. وتلاقى الجمعان فى فحص «3» متسع يسمى بعقوبة «4» ، بينه وبين دار ملك الروم مسيرة يوم وليلة، وهى المدينة المسماة سبيطلة «5» ، وكذلك مدينة قرطاجنّة، وهى مدينة عظيمة، شامخة البناء، أسوارها من الرخام الأبيض، وفيها العمد والرخام الملون ما لا يحصى.
قال: ودامت الحرب بين الفريقين وطالت، وانقطع خبر المسلمين عن عثمان. فأنفذ عبد الله بن الزبير «6» وصحبته اثنا عشر فارسا من قومه. فسار يجد السير حتى قدم على المسلمين فوصل ليلا. فسروا به ووقع فى العسكر ضجة «7» ، خافت الروم منها، وظنوا أنهم يحملون عليهم، فباتوا بشر ليلة. وأرسل ملكهم جاسوسا يستعلم الخبر. فأعلمه أن نجدة وصلت إلى المسلمين. وكان المسلمون(24/12)
يقاتلون الروم فى كل يوم إلى الظهر، ثم ترجع كل طائفة إلى معسكرها وتضع الحرب أوزارها. فلما أصبح عبد الله بن الزبير، صلى الصبح وزحف مع المسلمين وقاتل. فلقى الروم فى يومهم أشد نكال. ولم ير ابن الزبير عبد الله بن سعد فى الحرب فسأل عنه. فقالوا: «هو فى خبائه وله أيام ما خرج منه» . ولم يكن ابن الزبير اجتمع به، فمضى إليه، وسلم عليه، وبلغه وصية عثمان وسأله عن سبب تأخره. فقال: «إن ملك الروم أمر مناديا فنادى باللغة الرومية والعربية «1» : معاشر الروم والمسلمين: من قتل عبد الله بن سعد زوّجته ابنتى، ووهبت له مائة ألف دينار» وكانت ابنته بارعة الجمال، تركب معه فى الحرب، وعليها أفخر ثياب، وتحمل على رأسها مظلة من ريش الطاووس «وغير خاف عنك من معى، وأكثرهم حديثو عهد «2» بالإسلام، ولا آمن أن يرغّبهم ما بذل لهم جرجير فيقتلونى، فهذا سبب تأخرى» . فقال له ابن الزبير: «أزل هذا من نفسك، وأمر من ينادى فى عسكرك ويسمع الروم: معاشر المسلمين والروم:
من قتل الملك فله ابنته ومائة ألف دينار «3» ، وواحدة بواحدة» .
ففعل ذلك. فلما سمع ملك الروم النداء، انتقل ما كان عبد الله يجده من الخوف إليه. وبقى القتال على ما كان عليه.
فعنّ لعبد الله بن الزبير رأى. فأتى عبد الله بن سعد ليلا وقال له:
«إنى فكّرت فيما نحن فيه فرأيت أمرا يطول والقوم فى بلادهم والزيادة(24/13)
فيهم والنقصان فينا. وقد اتصل بى أنه نفّذ إلى جميع نواحيه بالحشد والجمع. وقد رأيت أصحابه إذا سمعوا الأذان أغمدوا سيوفهم ورجعوا إلى مضاربهم، وكذلك المسلمون، جريا على العادة. والرأى عندى أن تترك غدا إن شاء الله أبطال المسلمين فى خيامهم بخيلهم وعددهم، وتقاتل ببقايا الناس على العادة، وتطوّل فى القتال حتى تتعب القوم.
فإذا انصرفوا ورجع كلّ «1» إلى مضربه وأزال لأمة «2» حربه، يركب المسلمون ويحملون عليهم والقوم على غرة. فعسى الله سبحانه أن يظفرنا بهم وينصرنا عليهم، وما النصر إلا من عند الله» . فلما سمع عبد الله بن سعد ذلك، أحضر عبد الله بن عباس وإخوته والصحابة ورؤوس القبائل، وعرض عليهم ما أشار به ابن الزبير فاستصوبوا رأيه واستخاروا الله. وكتموا أمرهم وباتوا على تعبئة.
ولجئوا إلى الله تعالى وسمحوا بنفوسهم «3» فى إعزاز دين الله وإظهار كلمته.
وأصبح أبطال الإسلام فى خيامهم «4» ، وخيولهم قائمة معهم فى الخيام. وخرج لفيف الناس إلى القتال، ومعهم عبد الله بن سعد وابن الزبير، فقاتلوا أشد قتال «5» وكان يوما حارا فلقى الفريقان فيه التعب العظيم. وركب ملك الروم ومعه الصليب، وكان متوجا عندهم، عظيم القدر فيهم. وحرض أصحابه على القتال. فاشتد(24/14)
الأمر فى القتال حتى أذّن الظهر «1» فهم الروم بالانصراف جريا على على العادة. فداوم ابن الزبير القتال ساعة أخرى. فاشتد الحر وعظم الخطب حتى لم يبق لأحد من الفريقين طاقة بحمل السلاح فضلا عن القتال به. فعند ذلك رجعوا «2» إلى خيامهم، ووضعوا أسلحتهم، وسيّبوا خيولهم وألقوا أنفسهم على فرشهم.
فاستنهض عبد الله أبطال المسلمين. فلبسوا دروعهم وركبوا خيولهم فى خيامهم. وتقدم عبد الله بن الزبير فى زى رسول، وقد لبس ثوبا فوق درعه. وقال: «إذا رأيتمونى قد قربت من خيام الروم فاحملوا حملة رجل واحد» . فلما قرب من الخيام كبر المسلمون وهلّلوا، وحملوا فأعجلوا الروم عن لبس دروعهم أو ركوب خيولهم. فانهزمت الروم، وقتل ملكهم، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة وهرب من سلم منهم إلى المدينة، وغنم المسلمون ما فى معسكرهم.
وأسرت ابنة الملك وأتى بها إلى عبد الله بن سعد. فسألها «3» عن أبيها.
قالت: «قتل» . قال: «أتعرفين قاتله؟» قالت: «نعم، إذا رأيته عرفته» . وكان كثير من المسلمين ادعوا قتله. فعرض عليها من ادعى قتله «4» . فقالت: «ما من هؤلاء من قتله» . فأحضر ابن الزبير. فلما أقبل، قالت: «هذا قاتل أبى» . فقال له ابن سعد:
«ما منعك أن تعلمنا بذلك لنفى لك بما شرطناه؟» فقال:
«أصلحك الله! ما قتلته لما شرطت، والذى قتلته له يعلم ويجازى(24/15)
عليه أفضل من جزائك، ولا حاجة لى فى غير ذلك» . فنفّله ابن سعد ابنة الملك، فيقال إن ابن الزبير اتخذها أم ولد «1» .
ثم نزل المسلمون على المدينة، وحاصروها حصارا شديدا حتى فتحها الله عليهم. فأصابوا فيها خلقا كثيرا، وأكثر أموالهم الذهب والفضة. فجمع عبد الله بن سعد الغنائم وقسمها بعد أن خمسها.
فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار «2» .
وبثّ السرايا والغارات من مدينة سبيطلة فبلغت خيوله إلى قصور قفصة. فسبوا وغنموا. وجازوا إلى مرمجنّة «3» .
فأذلت تلك الوقعة من بقى من الروم. وأصابهم رعب شديد فلجئوا إلى الحصون والقلاع. واجتمع أكثرهم بفحص الأجم «4» حول الحصن، وهو من أعظم حصون إفريقية. وراسلوا عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهبا «5» على أن يكفّ عنهم ويخرج من بلادهم. فقبل ذلك منهم بعد امتناع. وقيل: إنه صالحهم(24/16)
على ألفى ألف وخمسمائة ألف «1» . وقبض المال. وكان فى شرط.
صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهولهم، وما أصابوه بعد التّرداد «2» ردوه عليهم.
ودعا عبد الله بن سعد عبد الله بن الزبير وقال: «ما أحد أحقّ بالبشارة منك، فامض وبشّر عثمان والمسلمين بما أفاء الله تعالى عليهم» .
فتوجه عبد الله يجدّ المسير. فبعض الناس يقول: دخل المدينة من سبيطلة فى عشرين ليلة، وبعضهم يقول: وافى المدينة يوم أربعة وعشرين «3» ، ولا يستغرب ذلك من مثله. فلما وصل المدينة أمره عثمان أن يصعد المنبر فيعلم الناس بما فتح الله عليهم. فبلغ الزبير. فجاء إلى المسجد ونال من عثمان بكلمات، وقال: «بلغ من عبد الله بن الزبير أن يرقى موضعا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأه بقدمه! وددت والله أنّى متّ قبل هذا» ! وقيل: إنّ عبد الله لم يرق المنبر، وإنما وقف بإزائه وخطب، وعثمان على المنبر جالسا.
قال: وكان فعل عبد الله بن الزبير فى القتال بإفريقية كفعل خالد ابن الوليد بالشام، وعمرو بن العاص بمصر، رضى الله عنهم أجمعين.
قال: ثم انصرف عبد الله بن سعد إلى مصر إثر سفر ابن الزبير.(24/17)
قال: وكان مقام الجيش بإفريقية خمسة عشر شهرا «1» ، ولم يفقد من المسلمين إلا ناس قلائل «2» . ثم كان بعد ذلك من مقتل عثمان وخلاف علىّ ومعاوية ما قدمنا ذكره «3» ، إلى أن استقر أمر معاوية فاستعمل معاوية بن حديج.
ذكر ولاية معاوية بن حديج الكندى وفتح افريقية ثانيا «4»
كانت ولايته فى سنة خمس وأربعين من الهجرة. وسبب ذلك أن هرقل صاحب القسطنطينية كان يؤدّى إليه من كل ملك من ملوك البر والبحر إتاوة معلومة فى كل سنة. فلما بلغه ما صالح عليه أهل إفريقية عبد الله «5» بن سعد بن أبى سرح، بعث بطريقا إلى إفريقية يقال له «أوليمة» وأمره أن يأخذ من أهلها ثلاثمائة قنطار ذهبا كما أخذ منهم ابن أبى سرح. فنزل البطريق قرطاجنّة وأخبرهم بأمر الملك. فأبوا عليه ونابذوه وقالوا: «الذى كان بأيدينا من الأموال فدينا به أنفسنا، والملك فهو سيدنا يأخذ منا كما كنا نعطيه فى(24/18)
كل سنة» . وكان القائم بأمر إفريقية بعد جرجير رجل يقال له «جناحة» «1» ، فطرد أوليمة البطريق.
ثم اجتمع أهل إفريقية وولوا على أنفسهم رجلا يقال له «الأطريون» وقيل فيه: «الأطيلون» . فسار جناحة إلى الشام إلى معاوية بن أبى سفيان. فذكر له حال إفريقية وسأله أن يبعث معه جيشا من العرب. فوجه معه معاوية بن حديج فى جيش كثيف. فلما انتهى إلى الإسكندرية هلك جناحة.
ومضى ابن حديج حتى انتهى إلى إفريقية، وهى حرب، وقد صارت نارا. وكان فى عسكره عبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم، وكريب بن إبراهيم بن الصباح «2» ، وخالد بن ثابت الفهمى «3» . وقيل: كان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن الزبير، وأشراف من جند الشام ومصر. فقدم ولا يشك أهل إفريقية أن جناحة معه. فنزل معاوية غربى قمونية «4» فى سفح جبل على عدة فراسخ «5» منها. فأصابه فيه نوء شديد فقال: «إن(24/19)
جبلنا هذا لممطور» فسمّى الجبل ممطورا «1» إلى اليوم. ثم قال:
«اذهبوا بنا إلى ذلك القرن» فسمى أيضا القرن «2» .
وبعث ملك الروم بطريقا يقال له نجفور «3» فى ثلاثين ألف مقاتل. فنزل على ساحل البحر بسنطبريّة «4» . فبعث ابن حديج إليه خيلا. فقاتلوه فانهزم وأقلع فى البحر.
وقاتل معاوية أهل جلّولاء «5» على باب المدينة. فكان يقاتلهم صدر النهار، فإذا مال الفىء «6» انصرف إلى معسكره بالقرن.
فقاتلهم ذات يوم. فلما انصرف نسى عبد الملك بن مروان قوسا «7» له معلقة بشجرة. فانصرف ليأخذها، وإذا جانب المدينة قد انهدم.
فصاح فى أثر الناس فرجعوا. وكانت بينهم حرب شديدة وقتال عظيم حتى دخلوا المدينة عنوة، واحتووا على جميع ما فيها، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية. وقيل: بل كان معاوية بن حديج مقيما بالقرن وبعث عبد الملك «8» بن مروان إلى جلولاء، فى ألف فارس «9» . فحاصرها أياما فلم يظفربها. وانصرف الناس منكسرين(24/20)
فلم يسر إلا يسيرا حتى رأى فى ساقة الناس غبارا كثيرا، فظنوا أن العدو قد اتبعهم. فرجعوا فإذا مدينة جلولاء قد وقع حائطها من جهة واحدة. فانصرف المسلمون إليها فقتلوا من فيها وغنموا وسبوا.
وانصرف عبد الملك إلى معاوية وهو معسكر بالقرن ينتظره. فلما أتاه بالغنائم اختلفوا فيها. فقال عبد الملك: «هى لأصحابى خاصة» .
وقال ابن حديج: «بل لجماعة المسلمين» . وكتب إلى معاوية بن أبى سفيان. فعاد جوابه: « [العسكر] «1» ردء السّرية، فأقسم بين الناس جميعهم» فوقع سهم الفارس ثلاثمائة دينار «2» .
قال البلاذرى «3» . أول من غزا صقلية معاوية بن حديج، بعث إليها عبد الله بن قيس، وسنذكر ذلك فى أخبارها إن شاء الله تعالى «4» .
قال: ثم انصرف معاوية بن حديج إلى مصر. فأقره معاوية بن أبى سفيان عليها، وعزله عن إفريقية، وأفردها عن مصر، واستعمل عليها من قبله.
ذكر ولاية عقبة بن نافع الفهرى وفتح افريقية الفتح الثالث وبناء القيروان
قال: ثم أرسل معاوية بن أبى سفيان عقبة بن نافع إلى إفريقية فى سنة خمسين، وكان مقيما ببرقة وزويلة من أيام عمرو بن العاص(24/21)
فجمع من أسلم من البربر وضمه إلى الجيش الوارد عليه. وكان جملة الجيش الوارد من معاوية عشرة آلاف فارس من المسلمين. فسار عقبة إلى إفريقية فافتتحها «1» ، ووضع السيف حتى أفنى من بها من النصارى.
ثم قال: «إن إفريقية إذا دخلها إمام تحرّموا بالإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أسلم منهم وارتد إلى الكفر «2» . وأرى لكم- يا معشر المسلمين- أن تتخذوا بها مدينة نجعل بها عسكرا وتكون عزّ الإسلام إلى آخر الدهر» . فأجابه الناس إلى ذلك.
ذكر بناء مدينة القيروان
قال المؤرخون: لما أراد عقبة بن نافع بناء مدينة القيروان وأجابه المسلمون إلى ذلك، أتى بهم إلى موضعها، وهو إذ ذاك شعارى «3» لا تسلك وقال: «شأنكم» . فقالوا له: «إنك أمرتنا بالبناء فى شعارى وغياض لا تسلك ولا ترام، ونحن نخاف من السباع والحيات وغير ذلك من خشاش الأرض» «4» . وكان عقبة مستجاب الدعوة، فدعا الله عز وجل. وجعل أصحابه يؤمّنون على دعائه. وكان فى عسكره «5» ثمانية عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه(24/22)
وسلم، فجمعهم ونادى: «أيتها الحيات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنّا إنا نازلون. ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه» . فنظر الناس فى ذلك اليوم إلى السباع تحمل أشبالها، والذئاب تحمل أجراءها، والحيات تحمل أولادها. فأسلم كثير من البربر. ونادى عقبة فى الناس «كفّوا عنهم حتى يرتحلوا عنا» . فلما خرج ما فيها من ذلك، جمع عقبة وجوه أصحابه ودار بهم حول المكان وأقبل يدعو الله ويقول: «اللهم املأها علما وفقها، واعمرها بالمطيعين والعابدين، وامنعها من جبابرة الأرض» . ثم نزل عقبة الوادى.
وأمر الناس أن يختطوا ويقلعوا الشجر. قال: فأقام أهل إفريقية بعد ذلك أربعين سنة لا يرون بها حية ولا عقربا.
قال: واختط دار الإمارة والمسجد الأعظم، ولم يحدث فيه بناء، وكان يصلى فيه وهو كذلك. فاختلف الناس فى القبلة وقالوا: «إن أهل الغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد، فاجهد نفسك فى أمرها» . فأقاموا مدة ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس. فلما رأى عقبة الاختلاف اهتم لذلك وسأل الله تعالى، فأتاه آت فى منامه فقال له: «يا ولىّ رب العالمين، إذا أصبحت فخذ اللواء واجعله على عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيرا لا يسمعه غيرك. فالموضع الذى ينقطع عنك التكبير فهو قبلتك ومحرابه مسجدك «1» . وقد رضى الله عز وجل أمر هذه المدينة وهذا المسجد. وسوف يعزّ بها دينه ويذل بها من كفره إلى آخر الدهر» .
فاستيقظ من منامه وقد جزع جزعا شديدا. فتوضأ وأخذ فى(24/23)
الصلاة فى المسجد وهو لم يبن بعد، ومعه أشراف الناس. فلما طلع الفجر وركع عقبة سمع التكبير بين يديه. فقال لمن حوله:
«ألا تسمعون؟» قالوا: «لا نسمع شيئا» . فقال: «إن الأمر من عند الله عز وجل» . وأخذ اللواء ووضعه على عاتقه. وأقبل يتتبع التكبير بين يديه حتى انتهى إلى محراب المسجد. فانقطع التكبير فركز لواءه «1» وقال: «هذا محرابكم» . ثم أخذ الناس فى بنيان الدور «2» والمساكن والمساجد فعمرت. وكان دورها ثلاثة آلاف باع «3» وستمائة باع «4» . فكملت فى سنة خمس وخمسين. وسكنها الناس وعظم قدرها. وكان فى موضع القيروان حصن لطيف للروم يسمى قمونية.
قال: ودبر عقبة أمر إفريقية أحسن تدبير إلى أن عزل معاوية ابن أبى سفيان معاوية بن حديج عن مصر وولى مسلمة بن مخلّد الأنصارى مصر وإفريقية «5» .
ذكر ولاية مسلمة بن مخلد
قال: ولما وصل مسلمة إلى مصر، استعمل على إفريقية مولى له يقال له دينارا ويكنى أبا المهاجر، وذلك فى سنة خمس وخمسين،(24/24)
وعزل عقبة. فلما وصل كره أن ينزل بالموضع الذى اختطه عقبة، فنزل عنه بمسافة ميلين. واختط مدينة وأراد أن يكون له ذكرها ويفسد ما عمله عقبة. فسماها البربر تيكيروان «1» . فأخذ فى عمارتها.
وأمر الناس أن يخربوا القيروان ويعمروا مدينته «2» .
وتوجه عقبة مغضبا إلى معاوية بن أبى سفيان. فقال له: «إنى فتحت البلاد، ودانت لى، وبنيت المساجد، واتخذت المنازل، وأسكنت الناس. ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلى» فاعتذر إليه معاوية وقال: «قد رددتك إلى عملك واليا» . وتراخى الأمر حتى توفى معاوية وولى يزيد ابنه. فلما علم حال عقبة غضب وقال:
«أدركها قبل أن تهلك وتفسد» . ورده واليا على إفريقية.
ذكر ولاية عقبة بن نافع ثانية
قال: وكانت ولايته فى سنة اثنتين وستين، «3» فسار من الشام. فلما مر على مصر، ركب إليه مسلمة بن مخلد وسلم عليه،(24/25)
واعتذر من فعل أبى المهاجر «1» ، وأقسم بالله لقد خالفه فيما صنع.
فقبل عقبة عذره. ومضى مسرعا حتى قدم إفريقية. فأوثق أبا المهاجر فى الحديد، وأمر بخراب مدينته، ورد الناس إلى القيروان ثم عزم على الغزو وترك بالقيروان جندا وعليهم زهير بن قيس «2» ودعا أولاده فقال لهم: «إنى بعت نفسى من الله تعالى بيعا مربحا أن أجاهد من كفر حتى ألحق بالله. ولست أدرى أترونى بعدها أو أراكم، لأن أملى الموت فى سبيل الله» . ثم قال: «عليكم سلام الله، اللهم تقبل منى نفسى فى رضاك» .
ومضى فى عسكر عظيم حتى أشرف على مدينة باغاية، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأخذ لهم خيلا لم ير المسلمون فى مغازيهم أصلب منها «3» . ودخل الروم حصنهم.
فكره عقبة أن يقيم عليه. فمضى إلى لميش «4» ، وهى من أعظم مدن الروم. فلجأ إليها من كان حولها منهم. وخرجوا إليه وقاتلوه قتالا شديدا حتى ظن الناس أنه الفناء. فهزمهم وتبعهم إلى باب حصنهم وأصاب غنائم كثيرة.
وكره المقام عليها فرحل «5» إلى بلاد الزاب. فسأل عن أعظم(24/26)
مدائنهم قدرا فقالوا: مدينة يقال لها أربة «1» فيها الملك، وهى مجمع ملوك الزاب، وحولها ثلاثمائة قرية وسئون قرية كلها عامرة. فلما بلغهم أمره لجئوا إلى حصنهم، وهرب بعضهم إلى الجبال والوعر. فنزل عليها وقت المساء. فلما أصبح أمر بالقتال فكانت بينهم حروب حتى يئس المسلمون من الحياة. فأعطاه الله الظفر. فانهزم القوم وقتل أكثر فرسان الروم. وذهب عزهم من الزاب وذلوا آخر الدهر.
ورحل حتى نزل تاهرت. فلما بلغ الروم خبره، استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم. فقام عقبة وخطب الناس وحرضهم على القتال والتقوا واقتتلوا فلم يكن للروم والبربر طاقة بقتالهم. فقتلهم قتلا ذريعا وفرق جموع الروم عن المدينة.
ثم رحل حتى نزل طنجة. فلقيه رجل من الروم يقال له إيليان «2» وكان شريفا فى قومه. فأهدى إليه هدية حسنة ولاطفه ونزل على حكمه. فسأله عن بحر الأندلس. فقال: «إنه محفوظ لا يرام» .
فقال: «دلنى على رجال البربر والروم» . فقال: «قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر. وفرسانهم فى عدد لا يعلمه إلا الله تعالى(24/27)
وهم أنجاد البربر وفرسانهم» . فقال عقبة: «فأين موضعهم؟» قال: «فى السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين، يأكلون الميتة؛ ويشربون الدم من أنعامهم. وهم أمثال البهائم، يكفرون بالله ولا يعرفونه» . فقال عقبة لأصحابه: «ارحلوا «1» على بركة الله» .
فرحل من طنجة إلى السّوس الأدنى، وهو فى جنوب مدينة طنجة التى تسمى تارودانت. فانتهى إلى أوائلهم فقتلهم قتلا ذريعا. وهرب من بقى منهم، وتفرقت خيله فى طلبهم.
ومضى حتى دخل السّوس الأقصى فاجتمع البربر فى عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى. فقاتلهم قتالا لم يسمع بمثله. فقتل خلقا كثيرا منهم. وأصاب نساء لم ير الناس مثلهن. فقيل: إن الجارية كانت تساوى بالمشرق ألف مثقال وأكثر وأقل.
وسار حتى بلغ البحر المحيط لا يدافعه أحد ولا يقوم له. فدخل فيه حتى بلغ الماء لبان فرسه «2» . ورفع يده إلى السماء وقال: «يا رب، لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد إلى ملك ذى القرنين «3» مدافعا عن دينك، ومقاتلا من كفر بك وعبد غيرك» «4» .
ثم قال لأصحابه: «انصرفوا على بركة الله وعونه» . فخلا الناس عن طريق عساكره هاربين. وخاف المشركون منه أشد مخافة.
وانصرف إلى إفريقية. فلما انتهى إلى ماء اسمه اليوم ماء فرس ولم(24/28)
يكن به ماء، فأصابهم «1» عطش أشفى منه عقبة ومن معه على الموت. فصلى ركعتين ودعا الله عز وجل. فجعل فرسه يبحث الأرض بيديه حتى كشف عن صفاة»
. فانفجر منها الماء. وجعل الفرس يمص ذلك الماء فنادى عقبة فى الناس أن احتفروا فحفروا سبعين حسا «3» فشربوا وأسقوا «4» . فسمى ماء فرس.
وسار حتى انتهى إلى مدينة طبنة، وبينها وبين القيروان ثمانية أيام. فأمر أصحابه أن يتقدموا فوجا بعد فوج إلى إفريقية ثقة منه بما دوخ من البلاد، وأنه لم يبق أحد يخشاه. وسار يريد تهوذة لينظر إليها وإلى بادس، ويعرف ما يسدهما من الفرسان، فيترك «5» فيهما بقدر الحاجة. فلما نظر الروم إلى قلة ما معه، طمعوا فيه وأغلقوا أبواب حصونهم دونه، وشتموه، ورموه بالنبل والحجارة، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل. فلما توسط البلاد بعث الروم إلى كسيلة ابن بهرم الأوربى «6» وكان فى عسكر عقبة.(24/29)
ذكر خروج كسيلة وقتل عقبة بن نافع واستيلائه على القيروان
كان كسيلة هذا من أكابر البربر. وكان قد أسلم فى ولاية أبى المهاجر وحسن إسلامه. وقدم عقبة فعرّفه أبو المهاجر بحال كسيلة وعظمه فى البربر وانقيادهم إليه. فلم يعبأ به «1» عقبة واستخف به وأهانه. فكان من إهانته له أنه أتى بغنم فأمر بذبحها، وأمر كسيلة أن يسلخ منها شاة. فقال: «أصلح الله الأمير! هؤلاء فتيانى وغلمانى يكفوننى المؤونة» . فسبه عقبة وأمره بالقيام. فقام مغضبا وذبح الشاة. وجعل يمسح لحيته بما على يديه من دمها. فجعلت العرب يمرون به ويقولون له: «يا بربرى، ما هذا الذى تصنع؟» . فيقول: «هذا جيد للشعر» . حتى مربه شيخ من العرب فقال: «كلا، إن البربرى يتواعدكم» . فقال أبو المهاجر لعقبة: «ما صنعت؟ أتيت إلى رجل جبار فى قومه وبدار عزه، وهو قريب عهد بالشّرك، فأفسدت قلبه.
أرى أن توثقه كتافا، فإنى أخاف عليك من فتكه «2» » . فتهاون به عقبة.
فلما رأى كسيلة الروم قد راسلوه ورأى فرصة، وثب وقام فى بنى عمه وأهله ومن اجتمع إليه من الروم. فقال أبو المهاجر لعقبة:
«عاجله قبل أن يجتمع أمره «3» » . وأبو المهاجر مع ذلك كله صحبة(24/30)
عقبة وهو فى الحديد. فزحف عقبة إلى كسيلة فتنحى عنه. فقال البربر له: «لم تنحيت من بين يديه ونحن فى خمسة آلاف «1» ؟» فقال: «إنكم كل يوم فى زيادة وهو فى نقصان، ومدد الرجل قد افترق عنه. فإذا طلب إفريقية زحفت إليه» . وأما أبو المهاجر فإنه تمثل بقول أبى محجن الثقفى «2» :
كفى حزنا أن تمزع الخيل بالقنا «3» ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا
إذا قمت غنانى الحديد وأغلقت «4» ... مصارع من دونى تصم المناديا
فبلغ ذلك عقبة بن نافع. فأطلقه «5» وقال له: «الحق بالمسلمين فقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة» . فقال أبو المهاجر: «وأنا أغتنم ما اغتنمت» . فصلى عقبة ركعتين وكسر جفن سيفه. وفعل أبو المهاجر كفعله. وكسر المسلمون أغماد سيوفهم. وأمر عقبة أن ينزلوا عن خيلهم، ففعلوا وقاتلوا قتالا شديدا. وكثر عليهم العدو فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم أحد «6» .(24/31)
فعزم زهير بن قيس على قتال البربر فخالفه بعض أصحابه «1» ففارق القيروان، وسار إلى برقة وأقام بها. وتبعه أكثر الناس. وأما كسيلة فاجتمع إليه جمع كبير «2» فقصد القيروان وبها أصحاب الأثقال والذرارى من المسلمين. فطلبوا الأمان من كسيلة فأمّنهم.
ودخل القيروان واستولى على إفريقية. وأقام بها إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان. فذكر عنده أمر القيروان ومن بها من المسلمين.
فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش إليها، ليستنقذها من يد كسيلة.
فاستعمل عليها زهير بن قيس «3» .
ذكر ولاية زهير بن قيس البلوى وقتل كسيلة البربرى
قال: ولما أشير على عبد الملك بن مروان بإرسال الجيش إلى إفريقية، قال: «لا يصلح للطلب بثأر عقبة بن نافع من المشركين إلا من هو مثله فى دين الله عز وجل» . فاتفق رأيهم على زهير بن قيس، وقالوا: «هو صاحب عقبة وأعرف الناس بسيرته وأولاهم بطلب ثأره» . وكان زهير ببرقة مرابطا منذ قفل من إفريقية. فكتب إليه عبد الملك بالخروج على أعنّة الخيل إلى إفريقية. فكتب إليه زهير يستمده بالرجال والأموال. فوجه إليه بالأموال ووجوه أهل الشام.(24/32)
فلما وصل ذلك إليه أقبل إلى إفريقية فى عسكر عظيم، وذلك فى سنة تسع وستين «1» . فبلغ خبره كسيلة فجمع البربر «2» وتحول عن القيروان إلى ممش «3» . وجاء زهير فأقام بظاهر القيروان «4» ثلاثة أيام حتى استراح وأراح. ثم رحل إلى كسيلة. والتقيا واشتد القتال وكثر القتل فى الفريقين. فأجلت الحرب عن قتل كسيلة وجماعة من أصحابه. وانهزم من بقى منهم. فتبعهم الجيش فقتلوا من أدركوه.
وعاد زهير إلى القيروان. فرأى ملك إفريقية ملكا عظيما، فقال: «إنما أحببت الجهاد، وأخاف أن أميل إلى الدنيا فأهلك» . وكان عابدا زاهدا. فترك بالقيروان عسكرا ورحل فى جمع كبير «5» يريد المشرق. وكان قد بلغ الروم بالقسطنطينية مسيره من برقة إلى إفريقية وخلوها، فخرجوا إليها فى مراكب كثيرة من جزيرة صقلية «6» .
فأغاروا على برقة وقتلوا ونهبوا. ووافق ذلك قدوم زهير من إفريقية فقاتلهم بمن معه أشدّ قتال. وترجل هو ومن معه وقاتلوا فعظم الخطب.
وتكاثر الروم عليهم فقتل زهير وأصحابه، ولم ينج منهم أحد «7» .
وعاد الروم بما غنموه إلى القسطنطينية.(24/33)
ولما بلغ عبد الملك قتل زهير عظم ذلك عليه «1» ، وكانت المصيبة به كالمصيبة بعقبة. وشغل عبد الملك عن القيروان «2» ما كان بينه وبين عبد الله بن الزبير. فلما قتل ابن الزبير جهز عبد الملك حسان ابن النعمان إليها.
ذكر ولاية حسان بن النعمان الغسانى افريقية
قال: كان عبد الملك قد أمر حسان بن النعمان بالمقام بمصر في عسكر عدته أربعون ألفا «3» . وتركه بها عدة لما يحدث. فكتب إليه بالنهوض إلى إفريقية ويقول: «إنى قد أطلقت يدك فى أموال مصر، فاعط من معك ومن ورد عليك من الناس، واخرج إلى جهاد إفريقية على بركة الله» . قال ابن الأثير فى تاريخه الكامل: إنه استعمله فى سنة أربع وسبعين بعد مقتل عبد الله بن الزبير. وقال ابن الرّقيق إنه ندبه إلى إفريقية فى سنة تسع وستين «4» . قال: فدخل إفريقية بجيش عظيم ما دخلها مثله قط. فدخل القيروان وتجهز منها إلى قرطاجنّة.(24/34)
ذكر فتح قرطاجنة وتخريبها
قال: ولما دخل حسان إلى القيروان سأل عن أعظم ملك بقى بإفريقية. فقيل له: صاحب قرطاجنة، وهى بلدة عظيمة، ولم تفتح بعد، ولا قدر عليها عقبة. فسار إليها. وقاتل من بها من الروم والبربر أشد قتال. فانهزموا وركبوا فى البحر. وسار بعضهم إلى صقلية وبعضهم إلى الأندلس. ودخل حسان قرطاجنة بالسيف فقتل وسبى ونهب. وأرسل الجيوش إلى ما حولها. ثم أمر بهدمها فهدم المسلمون منها ما أمكنهم. ثم بلغه أن الروم والبربر قد اجتمعوا فى صطفورة «1» وبنزرت. فسار إليهم وقاتلهم، فهزمهم وأكثر القتل فيهم. واستولى المسلمون على بلادهم. ولم يترك موضعا منها حتى وطئه.
فخافه أهل إفريقية خوفا شديدا. ولجأ المنهزمون من الروم إلى مدينة باجة فتحصنوا بها. وتحصن البربر بمدينة بونة. وعاد حسان إلى القيروان فأقام بها حتى أراح واستراح.
ذكر حروب حسان والكاهنة وتخريب افريقية وقتل الكاهنة
قال: ثم قال حسّان للناس: «دلونى على أعظم من بقى من ملوك إفريقية» . فدلوه على امرأة تملك البربر تعرف بالكاهنة، وقالوا:
«إنها بجبل أوراس، وهى بربرية اجتمع البربر عليها بعد قتل(24/35)
قتل كسيلة» . وكانت تخبر بأشياء فتقع كما أخبرت عنها. وعظّموا محلّها عند حسان وقالوا: «إن قتلتها لم تختلف البربر بعدها عليك» .
فسار إليها. فلما قاربها هدمت حصن باغاية، ظنّا منها أنه يريد الحصون. فلم يعرج «1» حسان على ذلك وسار إليها. فالتقوا على نهرتينى «2» واقتتلوا أشد قتال. فانهزم المسلمون وقتل منهم خلق كثير وأسرت جماعة من أصحابه»
. فأكرمتهم الكاهنة وأطلقتهم إلا خالد بن يزيد القيسى «4» ، وكان شريفا شجاعا فاتخذته ولدا.
وسار حسان منهزما وفارق إفريقية. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمره. فأمره بالمقام إلى أن يأتيه أمره. فأقام بعمل برقة خمس سنين «5» فسمّى ذلك المكان قصور حسان. وملكت الكاهنة إفريقية كلها وأساءت السيرة فى أهلها.
ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالأموال والجيوش. وأمره بالمسير إلى إفريقية وقتال الكاهنة. فسار إليها. فقالت الكاهنة لقومها:
«إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة، ونحن إنما نريد المزارع والمراعى، ولا أرى إلا خراب إفريقية حتى ييأسوا منها» . وفرقت أصحابها ليخربوا البلاد فخربوها، وهدموا الحصون، وقطعوا الأشجار(24/36)
ونهبوا الأموال. قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: «وكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلّا واحدا وقرى متصلة، فأخربت ذلك» . فلما قرب حسان من البلاد، لقيه جمع من أهلها من الروم يستغيثون به من الكاهنة. فسره ذلك. وسار إلى قابس. فلقيه أهلها بالأموال والطاعة، وكانوا قبل ذلك يتحصنون من الأمراء. فجعل فيها غلاما «1» .
وسار على قفصة «2» . فأطاعه من بها. واستولى عليها وعلى قسطيلية ونفزاوة.
وبلغ مقدمه الكاهنة، فأحضرت ولدين لها وخالد بن يزيد وقالت لهم: «إننى مقتولة، فامضوا إلى حسان وخذوا لأنفسكم منه أمانا» .
فساروا إليه. فوكل بولديها من يحفظهما. وقدم خالد بن يزيد على أعنة الخيل.
وسار حسان نحو الكاهنة فالتقوا واقتتلوا، واشتد القتال وكثر القتل حتى ظن الناس أنه الفناء. ثم نصر الله المسلمين. وانهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا. وانهزمت الكاهنة ثم أدركت فقتلت. ثم استأمن البربر إلى حسان فأمنهم. وقرر عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفا يجاهدون العدو. وقدم عليهم ابنى الكاهنة ثم فشا الإسلام فى البربر.
وعاد حسان إلى القيروان وبطل النزاع واستقامت إفريقية له.
فلما مات عبد الملك وولى الوليد- وكان على مصر وإفريقية(24/37)
عبد العزيز بن مروان «1» - فعزل حسان واستقدمه. وبعث إليه بأربعين رجلا من أشراف أصحابه، وأمرهم أن يحتفظوا بجميع ما معه.
فعلم حسان ما يراد منه، فعمد إلى الجوهر واللؤلؤ والذهب «2» ، فجعله فى قرب الماء وطرحها فى المعسكر، وأظهر ما وراء ذلك. فلما قدم على عبد العزيز بن مروان بمصر أهدى إليه مائتى جارية ووصيف من خيار ما كان معه «3» ويقال: إن حسان كان معه من السبى خمسة وثلاثون ألف رأس. فانتخب منها عبد العزيز ما أراد وأخذ منه خيلا كثيرة.
ورحل حسان بما بقى معه حتى قدم على الوليد بن عبد الملك فشكا إليه ما صنع به عبد العزيز. فغضب الوليد وأنكره. فقال حسان لمن معه:
«ائتونى بالقرب» . فأتى بها فأفرغها بين يدى الوليد. فرأى ما أذهله من أصناف الجوهر واللؤلؤ والذهب. فقال حسان: «يا أمير المؤمنين إنما خرجت مجاهدا فى سبيل الله، ولم أخن الله تعالى ولا الخليفة» .
فقال له الوليد: «أردك إلى عملك وأحسن إليك» . فحلف حسان أنه لا ولى لبنى أمية ولاية أبدا. فغضب الوليد على عمه عبد العزيز لما عامل به حسانا. وكان حسان يسمى الشيخ الأمين لثقته وأمانته ثم ولى بعده موسى بن نصير.(24/38)
ذكر ولاية موسى بن نصير افريقية وما كان من حروبه وآثاره
كانت ولايته فى سنة تسع وثمانين «1» ، وذلك أن حسان بن النعمان لما امتنع من إجابة الوليد إلى رجوعه إليها، كتب الوليد إلى عمه عبد العزيز «2» أن يوجه موسى بن نصير إلى إفريقية وأن تكون ولايته من قبل الوليد. وأفرد إفريقية عن مصر. فسار موسى حتى قدم إفريقية وعزل عنها صالحا «3» خليفة حسان بها.
فبلغه أن بأطراف إفريقية قوما خارجين عن الطاعة. فوجه إليهم ابنه عبد الله «4» فقاتلهم وظفر بهم. وأتاه بمائة ألف رأس من سبيهم.
ثم وجه ولده مروان «5» إلى جهة أخرى، فأتاه بمائة ألف رأس. ثم توجه هو بنفسه إلى جهة أخرى فأتى بمائة ألف رأس. قال الليث بن سعد: «فبلغ الخمس يومئذ ستين ألف رأس ولم يسمع بمثل هذا فى الإسلام» .(24/39)
ثم خرج غازيا إلى طنجة يريد من بقى من البربر. فهربوا منه فاتبعهم يقتل فيهم حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد.
فاستأمن البربر إليه وأطاعوه. فقبل طاعتهم وولى عليهم واليا.
ثم استعمل على طنجة وبلادها مولاه طارق بن زياد. وتركه بها فى تسعة عشر ألف فارس من البربر وطائفة يسيرة من العرب «1» لتعلّم البربر القرآن وفرائض الإسلام.
ورجع إلى إفريقية فمر بقلعه مجّانة. فتحصن أهلها منه فترك عليها من يحاصرها مع بسر بن فلان «2» ففتحها، فسميّت قلعة بسر. ولم يبق بإفريقية من ينازعه من البربر ولا من الروم.
ذكر فتح جزيرة الأندلس وشىء من أخبارها
كان فتح الأندلس فى سنة اثنتين وتسعين على يد طارق ابن زياد مولى موسى بن نصير. وقد ذكر ابن الأثير فى تاريخه الكامل «3» أخبار الأندلس وابتداء أمرها. فاخترنا إيراد ذلك لأنها من أعظم الفتوحات الإسلامية.(24/40)
قال ابن الأثير: قالوا: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلش- بشين معجمة «1» - ثم عرّب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى تسميها إشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له إشبانش «2» ، وقيل: باسم ملك كان لها «3» فى الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطش «4» . وهذا هو اسمها عند بطليموس. وقيل:
سميت بأندلس بن يافث بن نوح «5» ، وهو أول من عمرها.
وقيل: أول من سكنها بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهرا طويلا، وكانوا مجوسا. ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط. فهلك أكثرهم، وفر منها من أطاق الفرار. فخلت مائة سنة.
ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة. فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية لقحط «6» توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها.
فحملهم فى السفن مع أمير من عنده. فأرسوا بجزيرة قادس.
فرأوا الأندلس وقد أخصبت بلادها وجرت أنهارها. فسكنوها وعمروها. ونصبوا لهم ملوكا ضبطوا أمرهم «7» . وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية، بنوها وسكنوها. وأقاموا(24/41)
مدة تزيد على مائة وخمسين «1» سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكا.
ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطش «2» فغزاهم ومزقهم وقتل منهم وحاصرهم «3» بطالقة، وقد تحصنوا بها، فابتنى «4» عليها إشبانية- وهى إشبيلية- واتخذها دار مملكته.
وكثرت جموعه وعتا وتجبر. وغزا بيت المقدس وغنم ما فيه، وقتل منه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها. وغنم منه مائدة سليمان بن داوود عليهما السلام، وهى التى غنمها طارق لما فتح طليطلة، وغنم قليلة الذهب والحجر الذى لقى بماردة.
وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر «5» ، وهو يحرث الأرض فقال له: «يا إشبان، سوف تحظى وتعلو وتملك. فإذا ملكت إيليا «6» فارفق بذرية الأنبياء» . فقال له: «أتسخربى وكيف ينال مثلى الملك؟» . فقال له: «قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى» فنظر إليها، فإذا هى قد أورقت.
فارتاع وذهب عنه الخضر وقد وثق بقوله. فداخل الناس وارتقى(24/42)
حتى ملك ملكا عظيما. وكان ملكه عشرين سنة ودام ملك الإشبانية إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكا.
ثم دخل عليها من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات «1» ، وملكهم طلوبش بن بيطة «2» ، وذلك حين بعث الله المسيح عليه السّلام. فغلبوا عليها، واستولوا على ملكها، وقتلوا ملكها.
وملك منهم سبعة وعشرون ملكا. وكانت مدينة ماردة دار ملكهم.
ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم. فغلبوا على الأندلس واقتطعوها «3» من صاحب رومة. وكان ظهورهم من ناحية أنطالية «4» شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مجدونية من تلك الناحية فى أيام قليوديوس «5» قيصر، ثالث القياصرة. فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم «6» . ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر. وأعادوا الغارة. فسير إليهم جيشا فلم يثبتوا له.
وانقطع خبرهم إلى دولة ثالث ملك بعد قسطنطين، فقدموا على أنفسهم أميرا اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان. فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه وظهر منه سوء سيرة، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه. فاستعان بصاحب(24/43)
رومة. فبعث إليه «1» جيشا فهزم أخاه ودان بدين النصارى.
وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة. ثم ولى بعده أقريط، وبعده أمريق «2» وبعده وغديش «3» ، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان.
فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة. فسير إليه «4» ملك الروم جيشا فهزموه وقتلوه. ثم ملك بعده الريق.
ثم تداولها عدة ملوك ذكرهم ابن الأثير «5» : منهم من عبد الأوثان ومنهم من دان بدين النصرانية، إلى أن انتهى الملك إلى غيطشة «6» ، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة. ثم توفى وخلف ولدين. فلم يرض بهما أهل الأندلس ورضوا برجل يقال له رذريق «7» ، وكان شجاعا وليس من بيت الملك.
وكانت عادة ملوك الأندلس أنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون فى خدمة الملك لا يخدمه غيرهم، يتأدبون بذلك. فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضا(24/44)
وتولى تجهيزهم. فلما ولى رذريق، أرسل إليه يليان «1» - وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما- ابنته فاستحسنها رذريق فافتضها. فكتبت إلى أبيها بذلك. فأغضبه فكتب إلى موسى بن نصير عامل إفريقية بالسمع والطاعة. واستدعاه فسار إليه. فأدخله يليان مدائنه. وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرضى به. ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك فى آخر سنة تسعين. فكتب موسى إلى الوليد بذلك، واستأذنه فى غزوها. فأذن له إذا لم يكن الوصول إلها فى بحر متسع.
فبعث موسى مولى من مواليه، يقال له طريف «2» ، فى أربعمائة رجل ومعهم مائة فارس «3» . فساروا فى أربع سفن.
فخرجوا فى جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف. ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنائم كثيرة ورجع سالما، فى شهر رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأي الناس ذلك، تسرعوا إلى الغزو.
ثم إن موسى دعا مولاه طارق بن زياد، وكان على مقدمات جيوشه، فبعثه فى سبعة آلاف من المسلمين «4» أكثرهم البربر والموالى وأقلهم العرب. فساروا فى البحر. وقصدوا جبلا(24/45)
منيفا «1» فى البحر، وهو متصل بالبر. فنزله فسمّى الجبل جبل طارق. ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم، وجرت الألسن على الاسم الأول. وكان حلول طارق به فى شهر رجب سنة اثنتين وتسعين «2» .
قال: ولما ركب طارق البحر غلبته عينه، فرأى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون والأنصار وقد تقلدوا السيوف وتنكّبوا القسى. فقال النبى صلى الله عليه وسلم له: «يا طارق تقدم لشأنك» . وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. ونظر طارق فرأى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه. فاستيقظ من نومه، وبشر أصحابه، وقويت نفسه، وأيقن بالظفر.
فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء، وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزا. فقالت له: «إنّى كان لى زوج، وكان عالما بالحوادث، وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم ويغلب عليه، ووصف من صفته أنه ضخم الهامة وأن فى كتفه الأيسر شامة عليها شعر» . فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت فاستبشر.
قال: ولما فتح الجزيرة الخضراء وفارق الحصن الذى فى(24/46)
الجبل، بلغ رذريق خبره. فأعظم ذلك، وكان غائبا فى غزاة فرجع منها، وقد دخل طارق بلاده. فجمع له جمعا يقال بلغ مائة ألف «1» . فكتب طارق إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح. فأمده بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثنى عشر ألفا، ومعهم يليان يدلّهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. وأتاهم رذريق فى جنده. فالتقوا على نهربكّة «2» من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين. واتصلت الحرب بينهم ثمانية أيام «3» . وكان على ميمنة رذريق وميسرته ولدا الملك الذى كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك. فاتفقوا على الهزيمة بغضا لرذريق وقالوا: «إنّ المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقى الملك لنا» . فانهزموا. وهزم الله رذريق ومن معه وغرق فى النهر «4» .
وسار طارق إلى مدينة إستجة «5» فى اتباعهم. فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير. فقاتلوه قتالا شديدا ثم(24/47)
انهزم أهل الأندلس. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إستجة أربعة أميال فسميت عين طارق.
قال: ولما سمع القوط بهاتين الهزيمتين، قذف الله فى قلوبهم الرعب، وهربوا إلى طليطلة، وأخلوا مدائن من الأندلس «1» فقال له يليان: «قد فرغت من الأندلس، ففرّق جيوشك، وسر أنت إلى طليطلة» . ففرق جيوشه من مدينه إستجة: فبعث جيشا إلى قرطبة، وجيشا إلى أغرناطة «2» ، وجيشا إلى مالقة، وجيشا إلى تدمير «3» .
وسار هو ومعظم الجيش إلى طليطلة. فلما بلغها وجدها خالية وقد لحق من بها بمدينة خلف الجبل يقال لها ماية. قال: وفتح سائر الجيوش الذين بعثهم ما قصدوه من البلاد. قال: ولما رأى طارق طليطلة خالية، ضم إليها اليهود وترك معهم رجالا من أصحابه.
وسار هو إلى وادى الحجارة. وقطع الجبل من فج فيه فسمّى بفج طارق. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة «4» ، وفيها مائدة سليمان بن داوود عليهما السلام «5» ، وهى من زبرجدة(24/48)
خضراء «1» ، حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلا.
ثم مضى إلى مدينة ماية «2» فغنم منها. ورجع إلى طليطلة فى سنة ثلاث وتسعين. وقيل: إنه اقتحم أرض جلّيقية فاخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة، وانصرف إلى طليطلة. ووافته جيوشه التى وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدائن التى سيرهم إليها.
ودخل موسى بن نصير الأندلس فى شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين فى جمع كثير «3» ، وقد بلغه ما صنع طارق فحسده «4» .
فلما نزل الجزيرة الخضراء قيل له: «تسلك طريق طارق؟» فأبى.
فقال له الأدلاء: «نحن ندلّك على طرق «5» أشرف من طريقه ومدائن لم تفتح بعد» »
. ووعده يليان بفتح عظيم، فسر بذلك.
فساروا به إلى مدينة ابن السليم «7» فافتتحها عنوة. ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهى أحصن «8» مدن الأندلس. فتقدم إليها يليان وخاصته على حال المنهزمين فأدخلوهم مدينتهم. وأرسل موسى إليهم الخيل(24/49)
ففتحوها لهم ليلا. فدخلها المسلمون وملكوها. ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهى من أعظم مدائن الأندلس بنيانا وأغربها آثارا «1» فحصرها «2» أشهرا وفتحها، وهرب من بها. فأنزلها موسى اليهود.
وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه «3» قتالا شديدا. فكمن لهم موسى ليلا فى مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار. فلما أصبحوا زحف إليهم. فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم.
فخرج عليهم الكمين، وأحدقوا بهم، وحالوا بينهم وبين البلد، وقتلوهم قتلا ذريعا. ونجا من سلم منهم فدخل المدينة، وكانت حصينة. فحصرهم بها أشهرا. وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها. فخرج أهلها على المسلمين فقتلوهم عند البرج فسمّى برج الشهداء.
ثم افتتحها آخر شهر رمضان سنة أربع وتسعين صلحا «4» ، على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين «5» .
ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها، فقتلوا من بها من المسلمين. فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وقتل من بها من أهلها.(24/50)
وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكهما وعاد إلى إشبيلية.
قال: وسار موسى من مدينة ماردة فى شوال يريد طليطلة. فخرج طارق إليه فلقيه. فلما أبصره نزل إليه، فضربه موسى بالسوط على رأسه، ووبخه على ما كان من خلافه. ثم سار به إلى مدينة طليطلة وطلب منه ما غنم والمائدة. فأتاه بها وقد انتزع رجلا من أرجلها. فسأله عنها فقال: «لا علم لى بها. كذلك وجدتها» . فعمل عوضها من ذهب «1» .
وسار موسى إلى مدينة سرقسطة ومدائنها فافتتحها.
وأوغل فى بلاد الفرنج. فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما قائما، فيه مكتوب: «يا بنى إسماعيل، إلى هاهنا منتهاكم، فارجعوا. وإن سألتم إلى ماذا ترجعون، أخبركم أنكم ترجعون إلى الاختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض، وقد فعلتم» . فرجع ووافاه رسول الوليد فى أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه. فساءه ذلك ومطل الرسول، وهو يقصد بلاد العدو فى غير «2» ناحية الصنم، يقتل ويسبى ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس، حتى بلغ صخرة بلاى على البحر الأخضر «3» ، وهو فى قوة وظهور. فقدم عليه رسول آخر «4» من الوليد يستحثه، وأخذ بعنان بغلته وأخرجه. وكان موافاه الرسول له بمدينة لك(24/51)
بجليقية «1» . وخرج على الفج المعروف بفج موسى. ووافاه طارق من الثغر الأعلى فأقضله «2» معه، ومضيا جميعا.
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى. فلما عبر موسى البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك. واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله «3» .
وسار إلى الشام. وحمل الأموال التى غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة، ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم «4» .
ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى. فورد الشام، وقد مات الوليد واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفا عن موسى «5» بن نصير. فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وأغرمه غرما حتى احتاج أن يسأل العرب فى معونته «6» .
وقيل: إنه قدم إلى الشام والوليد حىّ. وكان قد كتب إليه، وادعى أنه هو الذى فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة. فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة، ومعه طارق. فقال طارق: «أنا غنمتها» . فكذبه موسى. فقال طارق للوليد: «سله عن رجلها المعدومة» . فسأله عنها، فلم يكن عنده منها علم. فأظهرها(24/52)
طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب. فعلم الوليد صدق طارق. وإنما فعل هذا لأن موسى كان قد ضربه وحبسه حتى أرسل الوليد «أخرجه» «1» وقيل: لم يحبسه.
قالوا: ولما دخلت الروم بلاد الأندلس «2» ، كان فى مملكتهم بيت إذا ولى ملك منهم أقفل عليه قفلا. فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم.
فلما ملك رذريق فتح الأقفال فرأى فى البيت صور العرب، عليهم العمائم الحمر على خيول شهب، وفيه كتاب: «إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد» . ففتحت «3» الأندلس فى تلك السنة.
ذكر غزو جزيرة سردانية
قال: ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره إلى هذه الجزيرة، وهى فى بحر الروم كثيرة الفواكه. فدخلوها فى سنة اثنتين وتسعين «4» . فعمد النصارى إلى ما يملكونه من آنية الذهب والفضة فألقوا الجميع فى الماء «5» . وجعلوا أموالهم فى سقف البيعة الكبرى التى تحت السقف الأول. وغنم المسلمون منها ما لا يحد ولا يوصف، وأكثروا الغلول «6» . واتفق أن رجلا من المسلمين اغتسل فى الماء(24/53)
فعلق فى رجله شىء. فأخرجه، فإذا هو صحفة من فضة. فأخرج المسلمون جميع ما فيه. ودخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام. فرماه بسهم فأخطأه ووقع فى السقف. فانكسر لوج ونزل منه شىء من الدنانير. فأخذوا الجميع. وزادوا فى الغلول، فكان بعضهم يذبح الهرّ، ويرمى ما فى جوفه، ويملأه دنانير، ويخيط عليها، ويلقيه فى الطريق. فإذا خرج أخذه. وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهبا. فلما ركبوا فى البحر سمعوا قائلا يقول:
«اللهم غرّقهم» . فغرقوا عن آخرهم «1» .
ذكر ولاية محمد بن يزيد مولى قريش ومقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير
قال: ثم استعمل سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد مولى قريش.
وقال له عند ولايته: «يا محمد، اتق الله وحده لا شريك له، وقم فيما وليتك بالحق والعدل. اللهم اشهد» . فخرج محمد وهو يقول:
«ما لى عذر إن لم أعدل» . وكانت ولايته فى سنة تسع وتسعين «2» .
فولى سنتين وشهورا. وكتب إليه سليمان يأمره أن يأخذ آل موسى ابن نصير وكل من انتسب إليه حتى يقوموا بما بقى عليه وهو ثلاثمائة ألف دينار ولا يرفع عنهم العذاب. فقبض على عبد الله والى القيروان(24/54)
فحبسه فى السجن. ثم وصل البريد من قبل سليمان يأمر بضرب عنقه.
وأما عبد العزيز فإنه لما استخلفه أبوه موسى على الأندلس سد ثغورها، وضبط بلادها، وافتتح مدائن كانت بقيت بعد أبيه، وكان خيرا فاضلا. فتزوج امرأة الملك لذريق. فحظيت عنده، وغلبت على رأيه. فحملته على أن يأخذ أصحابه بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كما كان يفعل بزوجها. فقال: «إن ذلك ليس من ديننا» . فلم تزل به حتى أمر بفتح باب قصير لمجلسه الذى كان يجلس فيه. فكان أحدهم إذا دخل عليه من الباب طأطأ رأسه فيصير كالراكع. فرضيت بذلك وقالت: «الآن لحقت بالملوك. وبقى أن أعمل لك تاجا مما عندى من الذهب واللؤلؤ» . فأبى. فلم تزل به حتى فعل. فانكشف للمسلمين، فقالوا: «تنصر» . وفطنوا للباب. فثاروا عليه، فقتلوه فى آخر سنة تسع وتسعين «1» فى آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. ثم مكثوا بعد ذلك سنة لا يجمعهم إمام.
وحكى الواقدى قال: لما بلغ عبد العزيز بن موسى ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته، خلع الطاعة وخالف. فأرسل إليه سليمان رسولا، فلم يرجع. فكتب سليمان إلى حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع ووجوه العرب سرّا بقتله. فلما خرج عبد العزيز إلى صلاة الصبح، قرأ فاتحة الكتاب ثم قرأ الحاقة «2» . فقال له حبيب: «حقّت عليك(24/55)
يا ابن الفاعلة» . وعلاه بالسيف فقتله «1» فحمل رأس عبد الله ورأس عبد العزيز ابنى موسى حتى وضعا بين يدى أبيهما، وعذّب حتى مات.
وأضيفت ولاية الأندلس إلى إفريقية. فاستعمل عليها محمد الحر بن عبد الرحمن القيسى. ولم يزل محمد بإفريقية إلى أن مات سليمان وولى عمر بن عبد العزيز، فعزله واستعمل إسماعيل بن عبد الله.
ذكر ولاية اسماعيل بن عبد الله ابن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم
قال: ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل إسماعيل على إفريقية، وكان خيروال. فدعا إسماعيل من بقى من البربر إلى دين الإسلام. فأسلموا وغلب الإسلام على المغرب جميعه. ودامت ولايته إلى سنة إحدى ومائة،، إلى أن توفى عمر بن عبد العزيز وولى يزيد بن عبد الملك، فاستعمل على إفريقية يزيد بن أبى مسلم مولى الحجاج فقدمها فى سنة اثنتين ومائة «2» وقتل. وقد ذكرنا سبب مقتله فى أخبار يزيد بن عبد الملك «3» .
ثم ولى بعده بشر بن صفوان الكلبى، فقدمها فى سنة ثلاث ومائة.
فلما قدم استعمل على الأندلس عنبسة الكلبى وعزل الحر بن عبد الرحمن(24/56)
القيسى «1» . ثم غزا بشر جزيرة صقلية بنفسه فأصاب سبيا»
كثيرا. ثم رجع من غزوته فتوفى بالقيروان فى سنة تسع ومائة فى خلافة هشام بن عبد الملك.
[عبيدة بن عبد الرحمان السلمى]
فلما اتصلت وفاته بهشام استعمل على إفريقية: عبيدة بن عبد الرحمن السّلمى وهو ابن أخى أبى الأعور السّلمى، صاحب خيل معاوية «3» . فأخذ عمال بشر بن صفوان فحبسهم وأغرمهم وتحامل عليهم وعذب بعضهم. وكان فيهم أبو الخطّار بن ضرار «4» الكلبى، وكان قائدا جليلا، فقال:
أفأتم بنى- مروان- قيسا دماءنا ... وفى الله إن لم يعدلوا حكم عدل «5»
كأنكم لم تشهدوا لى وقعة ... ولم تعلموا من كان قبل له الفضل «6»(24/57)
وقيناكم حرّ القنا بصدورنا ... وليس لكم خيل سوانا ولا رجل «1»
فلما بلغتم نيل ما قد أردتم ... وطاب لكم فينا المشارب والأكل «2»
تغافلتم عنا كأن لم نكن لكم ... صديقا وأنتم ما علمتم لنا وصل
وبعث بها إلى هشام. فلما قرئت عليه غضب وأمر بعزل عبيدة.
فقفل «3» عنها، واستخلف على إفريقية عقبة بن قدامة التّجيبى، وترك بها عبد الله بن المغيرة بن بردة القرشى قاضيا، وذلك فى شوال سنة أربع عشرة ومائة «4» .
[عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول]
ثم استعمل هشام عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول، وكان رئيسا كاتبا بليغا، حافظا لأيام العرب وأشعارها ووقائعها. وهو الذى بنى الجامع ودار الصناعة بمدينة تونس. وكانت ولايته فى شهر ربيع الأول سنة ست عشرة ومائة «5» .(24/58)
فاستعمل على طنجة وما والاها عمر بن عبد الله المرادى «1» .
فأساء السيرة وتعدى فى الصدقات والقسم «2» . وأراد أن يخمس البربر وزعم أنهم فىء للمسلمين، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله.
وإنما كانت الولاة يخمسون من لم يجب منهم إلى الإسلام. فانتقضت البربر بطنجة على عبيد الله وتداعت عليه بأسرها، وذلك فى سنة اثنتين وعشرين ومائة. وهى أول فتنة كانت بإفريقية فى الإسلام.
وخرج ميسرة المدغرى «3» وقتل عمر المرادى. وظهر بالمغرب فى ذلك الوقت قوم جرت منهم دعوة الخوارج، وصار منهم عدد كبير «4» وشوكة قوية. قال: فبعث عبيد الله الجيوش من أشراف «5» العرب لقتال المدغرى «6» ، وجعل عليهم خالد بن أبى حبيب الفهرى. وأردفه بحبيب بن أبى عبيدة. فسار خالد حتى أتى ميسرة دون طنجة. فالتقوا واقتتلوا قتالا لم يسمع بمثله. ثم انصرف ميسرة إلى طنجة. فأنكرت عليه البربر سوء سيرته «7» ، وتغيروا عما كانوا(24/59)
بايعوه عليه، وكان قد بويع بالخلافة فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزّناتى «1» .
ثم التقى خالد بن أبى حبيب بالبربر، وكان بينهم قتال شديد.
فبينما هم كذلك إذا غشيهم خالد بن حميد الزناتى بعسكر عظيم.
فانهزم أصحاب خالد بن أبى حبيب. وكره هو أن ينهزم فألقى «2» بنفسه هو وأصحابه فقتل هو ومن كان معه، ولم يسلم منهم أحد.
وقتل فى هذه الوقعه حماة العرب وفرسانها فسميت وقعة الأشراف.
وانتقضت البلاد ومرج الناس واختلفت الأمور على عبيد الله.
فاجتمع الناس وعزلوه عن أنفسهم وبلغ ذلك هشام «3» ابن عبد الملك فقال «4» : «أقتل أولئك الرجال الذين كانوا يقدمون علينا من العرب؟» . قيل: «نعم» فقال: «والله، لأغضبن لهم غضبة عربية، ولأبعثن إليهم جيشا أوله عندهم وآخره عندى. ثم لا تركت حصن بربرى إلا جعلت إلى جانبه خيمة قيسى أو يمنى» «5» .
وكتب إلى عبيد الله بن الحبحاب يستقدمه. فخرج فى جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين ومائة.
قال: وكان عبيد الله لما قدم إفريقية استعمل على الأندلس عقبة ابن الحجاج وعزل عنبسة «6» . فلما بلغ أهل الأندلس ثورة البربر وثبوا(24/60)
على عقبة فعزلوه. وولوا عليهم عبد الملك بن قطن الفهرى. قال:
ثم استعمل هشام بن عبد الملك على إفريقية كلثوم بن عياض القشيرى، فقدم فى شهر رمضان «1» سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد عقد له على اثنى عشر ألف فارس من أهل الشام. وكتب إلى والى كل بلد أن يخرج معه، فسار معه عمال مصر وبرقة وطرابلس. فلما قدم إفريقية نكّب عن القيروان وسار إلى سبتة. واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة الغفارى، وهو إذ ذاك قاضى إفريقية وكان حبيب بن أبى عبيدة «2» مواقف البربر. فسار كلثوم ومن معه حتى وافى البربر، وهم على وادى طنجة «3» ، وهم فى ثلاثين ألفا.
وتوجه إليهم خالد بن حميد الزناتى فصاروا فى جميع كبير «4» .
فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل كلثوم بن عياض، وحبيب ابن أبى عبيدة، وسليمان بن أبى المهاجر، ووجوه العرب. وانهزمت العرب، وكانت هزيمة أهل الشام إلى الأندلس، وعبروا فى المراكب، وهزيمة أهل مصر وأهل إفريقية إلى إفريقية.
قال: ولما بلغ أهل إفريقية قتل كلثوم، كان بها هرج. فثار عكاشة بن أيوب الفزارى مخالفا على الناس بمدينة قابس، وكان صفريا، وهو الذى قدم على طليعة أهل الشام مع عبيد الله بن الحبحاب(24/61)
فسار إليه عبد الرحمن بن عقبة فقاتله. فانهزم عكاشة، وقتل كثير من أصحابه، وتفرق من بقى منهم.
[حنظلة بن صفوان الكلبى]
ولما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك، بعث إلى إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبى، وكان عامله على مصر «1» ولاه عليها فى سنة تسع عشرة ومائة، فأقام بها إلى أن بعثه إلى إفريقية. فقدمها فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة. فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الصّفرى الخارجى فى جمع عظيم من البربر، لم ير أهل إفريقية مثله ولا أكثر منه، وكان لما انهزم جمع قبائل البربر. وزحف إلى حنظلة أيضا عبد الواحد بن يزيد الهوارى فى عدد عظيم وكانا قد افترقا من الزاب: فأخذ عكاشة على طريق مجانة فنزل القرن، وأخذ عبد الواحد على طريق الجبال فنزل «2» طبيناس، وعلى مقدمته أبو قرة المغيلى «3» . فرأى حنظلة أن يعجل قتال عكاشة قبل أن يجتمعا عليه، فزحف إليه بجماعة أهل القيروان. والتقوا بالقرن وكان بينهم قتال شديد فنى فيه خلق كثير «4» . وهزم الله عكاشة ومن معه. وقتل من البربر ما لا يحصى كثرة. وانصرف حنظلة إلى القيروان خوفا أن يخالفه عبد الواحد إليها.(24/62)
وقيل: إن عبد الواحد لما وصل إلى باجة، أخرج إليه حنظلة رجلا من لخم فى أربعين ألف فارس. فقاتلوه بباجة شهرا فى الخنادق والوعر. ثم انهزم اللخمى إلى القيروان، وفقد ممن معه عشرين ألفا.
ونزل عبد الواحد بالأصنام من جراوة ثلاثة أميال «1» عن القيروان، وكان فى ثلاثمائة ألف «2» . فأخرج حنظلة جميع ما فى الخزائن من السلاح، ونادى فى الناس. فكان يعطى لكل منهم درعا وخمسين دينارا. فلم يزل يفعل ذلك حتى كثر عليه الناس، فرد العطاء إلى أربعين ثم إلى ثلاثين. ولم يقدم إلا شابا قويّا. فعبأ الناس طول ليلته والشمع «3» حوله وبين يديه. فعبأ فى تلك الليلة خمسة آلاف دارع «4» وخمسة آلاف نابل. وأصبح وقدّم للقتال. وكسرت العرب جفون سيوفها. والتقوا واقتتلوا. ولزم الرجال الأرض وجثوا على الرّكب فانكسرت ميسرة العرب وميسرة البربر ثم كرت ميسرة العرب على ميمنة البربر. فكانت الهزيمة على البربر. وقتل عبد الواحد وأتى حنظلة برأسه فخر ساجدا لله. وقيل: إنه ما علم فى الأرض مقتلة أعظم منها قتل فيها من البربر مائة ألف وثمانون ألفا. وكانوا صفرية يستحلون الدماء وسبى النساء. ثم أتى بعكاشة أسيرا فقتله حنظلة. وكتب بذلك إلى هشام. فكان الليث بن سعد «5» يقول: «ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلى من غزوة القرن والأصنام «6» » .(24/63)
ذكر أخبار عبد الرحمن بن حبيب وتغلبه على افريقية ورجوع حنظلة الى المشرق
كان عبد الرحمن بن حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى قد هرب إلى الأندلس عند هزيمة كلثوم. فلم يزل يحاول أن يغلب «1» على الأندلس، وهو لا يمكنه ذلك، إلى أن وجّه حنظلة بن صفوان أبا الخطار بن ضرار الكلبى إلى الأندلس وأطاعه الناس ودانت له البلاد. فخاف عبد الرحمن على نفسه. فخرج مستترا وركب فى البحر إلى تونس. فنزل بها فى جمادى الأولى سنة سبع وعشرين ومائة «2» . ودعا الناس إلى نفسه فأجابوه.
وسار حتى نزل سمنجة «3» . فأراد أصحاب حنظلة الخروج لقتاله فمنعهم حنظلة كراهة لهراقة دماء المسلمين، وكان رجلا ورعا زاهدا لا يرى بذل السيف إلا فى الكفرة والصّفرية الذين يستبيحون دماء المسلمين. فوجه حنظلة إلى عبد الرحمن جماعة من وجوه أهل إفريقية يدعوه إلى مراجعة الطاعة والرجوع عما هو عليه. فلما قدموا عليه أوثقهم فى الحديد. وقال: «إن رمانى أحد من أوليائهم بحجر قتلتهم» فبلغ ذلك من الناس كل مبلغ «4» . فلما رأى حنظلة ذلك دعا القاضى وجماعة من أهل الدين والفضل. وفتح بيت المال بحضرتهم(24/64)
وأخذ منه ألف دينار وترك الباقى. وقال: «ما آخذ منه إلا بقدر ما يكفينى ويبلّغنى» ثم شخص عن إفريقية فى جمادى الآخرة «1» سنة سبع وعشرين ومائة «2» .
وأقبل عبد الرحمن بن حبيب ودخل القيروان ونادى مناديه ألا يخرج أحد إلى حنظلة ولا يشيعه. وكان حنظلة مجاب الدعوة فقال:
«اللهم لا تهنّ عبد الرحمن بن حبيب هذا الملك ولا أهله، واسفك دماءهم بأيديهم، وابعث عليهم شرار خلقك» . ودعا على أهل إفريقية «3» . فوقع الوباء والطاعون بها سبع سنين لا يكاد يرتفع إلا إلا وقتا فى الشتاء ووقتا فى الصيف.
قال: ولما ولى عبد الرحمن، ثار عليه جماعة من العرب والبربر ثم ثار عليه عروة بن الوليد الصّدفى «4» واستولى على تونس. ثم ثار عليه عرب الساحل. وقام ابن عطّاف الأزدى «5» حتى نزل بطبيناس.
وثارت البربر من الجبال. وثار ثابت الصنهاجى بباجة فأخذها.
وخرج بناحية طرابلس رجلان يقال لأحدهما عبد الجبار والآخر الحارث، وهما من البربر على دين الخوارج. فقاتل كل من خرج عليه، طائفة بعد أخرى بنفسه وبجيوشه، حتى دوّخ المغرب كله،(24/65)
وأذلّ من به من القبائل. ولم ينهزم له عسكر ولا ردّت له راية. وخافه جميع أهل المغرب.
وكتب إلى مروان بن محمد، وأهدى له هدية، وتقوّل على حنظلة، ونسب إليه ما لم يقع منه. فكتب إليه مروان بولاية إفريقية والمغرب كله والأندلس.
ثم قتل مروان وانقرضت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية. فكتب عبد الرحمن إلى أبى العباس السفاح بطاعته، وأقام الدعوة العباسية.
فلما صار الأمر إلى أبى جعفر المنصور كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الطاعة. فأجابه وكتب بطاعته، وأرسل إليه بهدية نزرة كان فيها بزاة وكلاب. وكتب إليه: «إن إفريقية اليوم إسلامية كلها، وقد انقطع السبى منها. فلا تسألنى ما ليس قبلى» . فغضب أبو جعفر المنصور وكتب إليه يتوعده. فلما وصل كتابه إليه غضب غضبا شديدا. ثم نادى: «الصلاة جامعة» . فاجتمع الناس فى المسجد الجامع. ثم خرج عبد الرحمن فى مطرف خزّ، وفى رجليه نعلان.
فصعد المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ فى سب أبى جعفر. ثم قال: «إنى ظننت هذا الخائر «1» يدعو إلى الحق ويقوم به، حتى تبين لى منه خلاف ما بايعته عليه من إقامة الحق والعدل. وأنا الآن قد خلعته كما خلعت نعلىّ هاتين» . وقذفهما وهو على المنبر. ثم دعا بخلعة أبى جعفر التى كان أرسلها إليه، وفيها سواده- وكان قد لبسها قبل ذلك ودعا(24/66)
فيها لأبى جعفر، وهو أول سواد لبس بإفريقية- فأمر بتخريقها وحرقها. وأمر كاتبه خالد بن ربيعة أن يكتب كتابا بخلعه، ويقرأ على المنابر فى سائر بلاد المغرب، ففعل ذلك.
ذكر مقتل عبد الرحمن بن حبيب وولاية أخيه الياس بن حبيب وقتله وولاية حبيب بن عبد الرحمن وقتله
كان سبب قتل عبد الرحمن أنه لما قتل مروان بن محمد الحمار هرب جماعة من بنى أمية ومعهم حريمهم نحو إفريقية، فتزوج عبد الرحمن وإخوته منهم. وكان ممن قدم عليه ابنان للوليد بن يزيد ابن عبد الملك، يقال لأحدهما العاص «1» والآخر [عبد] «2» المؤمن. وكانت ابنة عمهما تحت إلياس بن حبيب. فأنزلهما عبد الرحمن بدار شيبة «3» بن حسان. وتسلك عليهما ليسمع كلامهما وكانا على نبيذ، وغلامهما يسقيهما. فقال العاص: «ما أغفل عبد الرحمن! أيظن أنه يتهنى معنا بولاية ونحن أولاد الخلفاء؟» .
فنزل وانصرف ولم يعلما به «4» ثم أمر بقتلهما. فقالت ابنة عمهما لزوجها إلياس: «إنه قتل أختانك تهاونا بك، وجعل العهد من بعده لابنه حبيب وأنت صاحب حربه وسيفه الذى يصول به» ! ولم تزل(24/67)
تغريه به. وكان عبد الرحمن إذا ثار عليه ثائر أو خرج عليه خارجى يرسل «1» أخاه إلياس لقتاله. فإذا ظفر، نسب الظفر لابنه حبيب وجعل العهد فيه. فاجتمع رأى إلياس بن حبيب وعبد الوارث أخيه على قتل عبد الرحمن أخيهما. ووالاهما على ذلك جماعة من أهل القيروان والعرب «2» وغيرهم، على أن يكون الأمر لإلياس، والدعاء لأبى جعفر المنصور. فأتاه إلياس ليلا فاستأذن عليه بعد العشاء الآخرة. فقال: «ما جاء به وقد ودعنى؟» وكان إلياس قد عزم على الخروج إلى تونس. وأذن له، فدخل «3» عليه وهو فى غلالة وردية وابن له صغير فى حجره. فقعد طويلا وعبد الوارث يغمز. فلما قام يودعه، أكب عليه يعانقه، فوضع السكين بين كتفيه حتى صارت إلى صدره. فصاح عبد الرحمن وقال: «فعلتها يا ابن اللخناء؟» .
ثم ضربه إلياس بالسيف. فاتقاه «4» بمرفقه، فأبان يده. وضربه حتى أثخنه. ودهش إلياس وخرج هاربا. فقال له أصحابه:
«ما فعلت؟» . قال: «قتلته» . فقالوا: «ارجع وحزّ رأسه، وإلا قتلنا عن آخرنا» . ففعل. وثارت الصيحة. وأخذ إلياس «5» أبواب دار الإمارة.
وسمع حبيب بن عبد الرحمن الصيحة فهرب من القيروان.
وأصبح بقرب تونس فدخلها، واجتمع مع عمه عمران بن حبيب.(24/68)
ولحق بهما موالى عبد الرحمن من كل ناحية. فخرج إليهما إلياس إلى سمنجة. فوافياه بمن معهما، وهموا بالقتال «1» . ثم اصطلحوا على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون حبيب على قفصة وقصيطلة ونفزاوة، ولإلياس سائر إفريقية والمغرب.
ومضى إلياس مع عمران إلى تونس، وانصرف حبيب إلى القيروان. فوثب إلياس على أخيه عمران، وعلى عمر بن نافع بن أبى عبيدة الفهرى، وعلى الأسود بن موسى بن عبد الرحمن بن عقبة وعلى ابن قطن، فشدهم وثاقا، ووجههم فى سفينة إلى الأندلس إلى يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة «2» .
وانصرف إلى القيروان فبلغه عن حبيب أخبار كرهها. فأغرى إلياس به، وأرسل إليه من زين له الخروج إلى الأندلس، ففعل.
وجهزه إلياس فى سفينة. فتعذّرت عليهم الريح. فكتب إلى إلياس أن الريح قد ردته، وأن المسير لا يمكنه. فاتهمه إلياس وخاف ناحيته. وكتب إلى عامله «3» سليمان بن زياد الرّعينى يحذره أمره.
فاجتمع إلى حبيب موالى أبيه، فأسروا سليمان بن زياد وشدوه وثاقا وكان معسكرا يحارس حبيبا. وأخرجوا حبيبا إلى البر وأظهروا أمره.
فتوجه إلى الأربس «4» فأخذها.
وبلغ خبره إلياس فتوجه إليه. واجتمع لكل واحد منهما جماعة.(24/69)
فلما التقيا، قال حبيب لعمه إلياس: «لم نقتل موالينا وصنائعنا بيننا وهم لنا حصن؟ ولكن ابرز أنت وأنا، فأينا قتل صاحبه استراح منه: إن قتلتنى ألحقتنى بأبى، وإن قتلتك أدركت ثأرى منك» . فارتاب إلياس ساعة. فنادى الناس: «قد أنصفك فلاتجبن، فإن ذلك سبّة «1» عليك وعلى ولدك من بعدك» . فخرج كل منهما إلى صاحبه والتقيا ساعة. فضرب إلياس حبيبا فأعمل السيف فى ثيابه ودرعه ووصل إلى جسمه «2» . فعطف حبيب عليه وضربه بالسيف ضربة سقط بها عن فرسه إلى الأرض. فألقى حبيب نفسه عليه فحز رأسه ثم أمر برفعه على رمح. وهرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة «3» ودخل حبيب القيروان وبين يديه رأس إلياس، ورأس محمد بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع عم أبيه، ورأس محمد بن المغيرة بن عبد الرحمن القرشى. وجاءه محمد بن عمرو بن مصعب الفزارى وهو زوج عمة أبيه مهنئا له، فضرب عنقه. وكان ذلك كله فى شهر رجب سنة ثمان وثلاثين ومائة.
قال: ولما وصل عبد الوارث بن حبيب ومن معه إلى ورفجومة نزلوا على عاصم بن جميل الورفجومى. فكتب إليه حبيب يأمره أن يوجه بهم إليه، فلم يفعل، فنهد «4» إليه حبيب. ولقيه عاصم واقتتلوا فانهزم حبيب. وكان قد استخلف على القيروان أبا كريب جميل بن(24/70)
كريب القاضى. فقوى أمر ورفجومة، وكاتبهم بعض وجوه القيروان خوفا منهم على أنفسهم. فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكرّم بالبربر «1» وبمن لجأ «2» إليهم وصاروا بناحية قابس. فلما قربوا من القيروان، خرج إليهم أبو كريب القاضى بأهل القيروان. حتى إذا دنوا من بعضهم، خرج من عسكر عاصم جماعة من أهل القيروان، فخذلوا الناس ودعوهم إلى عاصم. فافترق أكثر الناس عن أبى كريب ورجعوا إلى القيروان. وثبت أبو كريب فى نحو ألف رجل من وجوه الناس، وأهل البصائر والخشية والدين. وقاتلوا فقتل أبو كريب.
وقاتل من معه حتى قتلوا. ودخلت ورفجومة القيروان. فاستحلوا المحارم وارتكبوا العظائم. ونزل عاصم بعسكره بالموضع الذى يسمى مصلى روح.
واستخلف على القيروان عبد الملك بن أبى جعدة «3» النّفزى.
وسار إلى حبيب وهو بقابس. فقاتله فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس وهم أخوال أبيه. فسار عاصم فى طلبه إلى أوراس، والتقوا واقتتلوا، فهزم عاصم وقتل هو وأكثر أصحابه. وأقبل حبيب إلى القيروان. فخرج إليه عبد الملك بن أبى جعدة والتقوا. فقتل حبيب فى المحرم سنة أربعين ومائة. فكانت ولاية عبد الرحمن بن(24/71)
حبيب عشر سنين وأشهرا «1» ، وولاية إلياس ستة أشهر، وولاية حبيب بن عبد الرحمن سنة واحدة وستة أشهر. «2» .
ذكر تغلب ورفجومة على افريقية وما كان منهم ومن ولى بعدهم الى أن ولى محمد بن الأشعث
قال: ولما حكمت «3» ورفجومة على القيروان، قتلوا من بها من قريش وساموهم سوء العذاب، وربطوا دوابهم فى المسجد الجامع.
وندم الذين أعانوهم أشد ندامة.
قال: ثم دخل رجل من الإباضية القيروان فرأى ناسا من الورفجوميين قد أخذوا امرأة وأرادوها على نفسها «4» ، والناس ينظرون. فترك حاجته التى أتى فيها، وخرج إلى أبى الخطاب عبد الأعلى «5» بن السّمح المعافرى، فأعلمه بالذى رأى. فخرج وهو يقول: «لبيك اللهم لبيك» . فاجتمع إليه أصحابه من كل(24/72)
مكان. وتوجهوا نحو طرابلس فأخرجوا منها عمر بن عثمان القرشى، واستولى عليها أبو الخطاب «1» .
ثم سار إلى القيروان فخرج إليه عبد الملك بن أبى جعدة بجماعة ورفجومة. والتقوا فقتل عبد الملك وأصحابه، وذلك فى صفر سنة إحدى وأربعين. فكان تغلّب ورفجومة على القيروان سنة وشهرين. وتبع أبو الخطاب من انهزم منهم فقتلهم. ثم انصرف إلى القيروان فولى عليها عبد الرحمن بن رستم القاضى، ومضى إلى طرابلس. فصارت طرابلس ومايليها وإفريقية كلها فى يده، إلى أن وجه أبو جعفر المنصور محمد ابن الأشعث فى سنة أربع وأربعين.
ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعى
قال: لما غلبت الصّفرية على إفريقية بعد أن قتلت ورفجومة من قتلت من عربها، خرج جماعة إلى أبى جعفر المنصور، منهم عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم، ونافع بن عبد الرحمن السّلمى، وأبو البهلول بن عبيدة، وأبو العرباض. فأتوا المنصور يستنصرون به على البربر، ووصفوا عظيم مالقوه منهم «2» . فولى المنصور أبو جعفر محمد بن الأشعث مصر «3» . فوجه أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلى(24/73)
إلى إفريقية. فهزمه أبو الخطاب فى سنة اثنتين وأربعين.
فكتب أبو جعفر المنصور إلى محمد بن الأشعث يأمره بالمسير بنفسه، ووجه إليه الجيوش. فخرج فى أربعين ألفا «1» :
ثلاثين ألف فارس من أهل خراسان، وعشرة آلاف من أهل الشام.
ووجه معه الأغلب بن سالم التّميمى والمحارب بن هلال الفارسى، والمخارق بن غفار الطائى، وأمرهم بالسمع والطاعة له. فإن حدث به حدث كان أميرهم الأغلب، فإن حدث به حدث فالمخارق، فإن حدث به حدث فالمحارب بن هلال. فمات المحارب قبل وصولهم إلى إفريقية. وبلغ أبا الخطاب خروج محمد بن الأشعث إليه، فجمع أصحابه من كل ناحية. ومضى فى عدد عظيم فوصل إلى سرت.
واستقدم عبد الرحمن بن رستم من القيروان، فقدم بمن معه.
فضاق ابن الأشعث ذرعا بلقاء أبى الخطاب لما بلغه من كثرة جموعه. فاتفق تنازع زناته وهوارة فيما بينهم. فقتلت هوارة رجلا من زناته. فاتهمت زناتة أبا الخطاب فى ميله مع هوارة، ففارقه جماعة منهم. فبلغ ذلك ابن الأشعث فسربه. وضبط أفواه السكك حتى انقطع خبره عن أبى الخطاب. فرجع إلى طرابلس.
ووصل ابن الأشعث إلى سرت. فخرج إليه أبو الخطاب حتى صار بورداسة. فلما قرب منه ذكر ابن الأشعث لأصحابه أن خبرا(24/74)
أتاه من المنصور بالرجوع إلى المشرق «1» . وأظهر لهم المسرة بالرجوع. فشاع ذلك فى الناس. وسار منصرفا ميلا ثم نزل. فانتهى ذلك إلى أبى الخطاب وسمع به من معه، فتفرق كثير منهم. ثم أصبح ابن الأشعث فسار أميالا متثاقلا فى سيره. وفعل ذلك فى اليوم الثالث.
ثم اختار أهل الجلد والقوة من جيشه «2» ، وسار بهم ليله كله.
فصبح أبا الخطاب وقد اختل عسكره. فلما التقوا ترجّل جماعة من أصحاب ابن الأشعث وقاتلوا. فانهزم البربر وقتل أبو الخطاب وعامة من معه، وذلك فى شهر ربيع الأول «3» من سنة أربع وأربعين ومائة.
فكانت عدة من قتل من البربر أربعين ألفا «4» .
ولما انتهى الخبر إلى عبد الرحمن بن رستم هرب إلى تيهرت واختطها وبلغ أهل القيروان خبر أبى الخطاب، فأوثقوا عامل ابن رستم وولوا عليهم عمرو بن عثمان القرشى إلى أن قدم محمد بن الأشعث.
ووصل ابن الأشعث إلى طرابلس فاستعمل عليها المخارق بن غفار الطائى.
ووجه إسماعيل بن عكرمة الخزاعى إلى زويلة وما والاها، ففتح تلك النواحى وقتل من بها من الخوارج.
وتوجه محمد إلى القيروان، وأمر ببناء سورها، وذلك فى يوم السبت غرة جمادى الأولى. فبنى فى ذى القعدة، وكان تمامه فى(24/75)
شهر رجب سنة ست وأربعين. وضبط إفريقية وأعمالها. وأمعن فى قتل كل من خالفه من البربر فخافوه خوفا شديدا وأذعنوا له بالطاعة.
ثم فسد عليه جنده بعد ذلك، وتحدثوا أن المنصور كتب إليه يأمره أن يقدم عليه وأنه أبى ذلك. فاجتمع رأيهم على إخراجه وتولية عيسى بن موسى الخراسانى. فلما رأى ذلك علم أنه لا طاقة له بهم. فخرج فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى من غير أمر أبى جعفر ولا رضا العامة إلا أن قواد المضرية «1» تراضوا به.
ذكر ولاية الأغلب بن سالم ابن عقال بن خفاجة التميمى
قال: ولما بلغ المنصور ما كان من المضرية وصرفهم محمد بن الأشعث، بعث إلى الأغلب عهده بولاية إفريقية، وكان بطبنة.
فقدم إلى القيروان وأخرج عيسى بن موسى فى جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين. وأخرج جماعة من قواد المضرية واستقامت له الحال.
ثم خرج عليه أبو قرّة فى جمع كثير من البربر. فسار إليه الأغلب فى جميع قواده، فهرب منه. وقدم الأغلب الزاب، وعزم على الرحيل إلى تلمسان ثم إلى طنجة. فاشتد ذلك على الجند، وجعلوا يتسللون(24/76)
عنه ويخرجون ليلا إلى القيروان، حتى بقى فى نفر يسير من وجوههم.
وكان الحسن بن حرب الكندى بتونس. فلما خرج الأغلب يريد أبا قرة، كاتب جماعة من القواد. فلحق به بعضهم الذين فارقوا الأغلب من الزاب. فأقبل إلى القيروان، ووازره على ذلك بسطام بن الهذيل القائد والفضل بن محمد وغيرهما، فدخل القيروان من غير ممانعة. وحبس سالم بن سوادة التّميمى، وهو الذى استخلفه الأغلب على القيروان عند رحيله منها. وبلغ الخبر الأغلب فأقبل فى عدة يسيرة ممن صبر على طاعته. وكتب إلى الحسن بن حرب يعرّفه «1» فضل الطاعة وعقبى المعصية. فأعاد جوابه وكتب فى آخره:
ألا قولا لأغلب غير سر ... مغلغلة من الحسن بن حرب
بأنّ البغى مرتعه وخيم ... عليك وقربه لك شرّ قرب
وإن لم تدعنى لتنال سلمى ... وإلا فادن من طعنى وضربى «2»
فأقبل الأغلب نحوه يجد السير «3» . فأشار عليه أصحابه الذين معه بالمصير إلى قابس، وأن يلطف بالناس حتى يرجعوا عن الحسن إليه. ففعل ذلك. وقدم رسول المنصور إلى الأغلب، وإلى الحسن بن حرب يدعوه إلى الطاعة فلم يفعل. فزحف إليه الأغلب(24/77)
واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزم الحسن وقتل من أصحابه خلق كثير.
فرجع إلى تونس. وأقبل الأغلب إلى القيروان.
وحشد الحسن بن حرب وسار فى عدة عظيمة إلى القيروان.
فجمع الأغلب أهل بيته وخاصته وأعلمهم أنه يلاقى الحسن وحده إن لم يعنه «1» أحد. فلما قرب، خرج إليه الأغلب فشد هو وأصحابه على الميمنة فكشفهم. ثم انصرف وهو يقول:
لم يبق إلا القلب أو أموت ... إن تحم لى الحرب فقد حميت
وإن تولّيت فلا بقيت
ثم حمل على القلب فلم يثن حدّه حتى قتل بسهم أصابه، وذلك فى شعبان سنة خمسين ومائة. قال: ولما سقط الأغلب صاح الناس:
«قتل الأمير» . وارتفعت الأصوات بذلك. قال: وكان سالم بن سوادة فى الميمنة هو وأبو العنبس «2» . فقال سالم لأبى العنبس:
«لا أنظر إلى الدنيا بعد اليوم» . ودفع فى عسكر الحسن بن حرب، فقتل من أصحاب الحسن مقتلة عظيمة. ووجد الحسن بن حرب مقتولا.(24/78)
ذكر ولاية عمر «1» بن حفص هزار مرد
وتفسيره بالفارسية ألف رجل، ويكنى أبا جعفر. وكان شجاعا بطلا. وهو من ولد قبيصة بن أبى صفرة أخى المهلّب. استعمله المنصور على إفريقية لما بلغه قتل الأغلب. فقدمها فى صفر سنة إحدى وخمسين ومائة فى خمسمائة فارس. فاجتمع إليه وجوه الناس، فوصلهم وأحسن إليهم. فاستقامت له الأمور ثلاث سنين وأشهرا من ولايته.
ثم سار إلى الزاب فنزل طبنة. واستخلف على القيروان حبيب ابن حبيب بن يزيد بن المهلب، وكان كتاب المنصور قدم عليه بالشخوص إلى الزاب لبناء طبنة. فخلت إفريقية من الجند فثار بها البربر. فخرج إليهم حبيب وقاتلهم فقتل. واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب «2» مولى كندة، وهو الذى يسمى أبا قادم. وكان عامل عمر على طرابلس الجنيد بن سيار الأزدى «3» ، فبعث إليهم الجنيد خيلا عليهم خازم بن سليمان. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم خازم وأصحابه ولحقوا بالجنيد بطرابلس.
فكتب الجنيد إلى عمر يستمده. فبعث إليه خالد بن يزيد المهلبى فى أربعمائة فارس. فاجتمع هو والجنيد والتقيا مع البربر. فانهزم خالد والجنيد إلى قابس.(24/79)
فبعث عمر بن حفص سليمان بن عباد المهلبى فى جماعة من الجند.
فلقى أبا قادم «1» بقابس، فقاتله. فانهزم سليمان إلى القيروان.
فسار إليها وحصرها، وعمر مقيم بطبنة، وقد صارت إفريقية وأعمالها نارا تتقد.
وأتى البربر من كل مكان، ومضوا إلى طبنة فأحاطوا بها وهم فى اثنى عشر عسكرا: أبو قرّة الصّفرى فى أربعين ألف فارس، وعبد الرحمن بن رستم الإباضى فى خمسة عشر ألف فارس «2» ، وأبو حاتم فى عدد كثير، وكان إباضيا، وعاصم السّدراتى الإباضى فى ستة آلاف، والمسور «3» الزّناتى الإباضى فى عشرة آلاف فارس، وعبد الملك بن سكرديد الصّنهاجى الصّفرى فى ألفى فارس، وجماعة غير هؤلاء، وليس مع عمر إلا خمسة آلاف وخمسمائة «4» .
فلما رأى ما حل به جمع قواده فاستشارهم فى مناجزتهم. فأشاروا عليه ألا يخرج من المدينة. فأعمل الحيلة فى صرف الصّفرية، ووجه إليهم رجلا من أهل مكناسة يقال له إسماعيل بن يعقوب. ودفع إليه أربعين ألف درهم وكسا كثيرة، وأمره بدفع ذلك إلى أبى قرة على أن ينصرف عنهم. فقدم عليه وعرض المال والكسا. فقال له: «أبعد أربعين سنة يسلّم على بالإمامة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا؟(24/80)
لا حاجة لى به» . فانصرف إلى ابنه وقيل إلى أخيه «1» . ودفع إليه أربعة آلاف درهم وأثوابا على أن يعمل فى صرف أبيه ورد الصفرية إلى بلدهم فعمل ذلك من ليلته. فلم يشعر أبو قرة حتى ارتحل العسكر منصرفين إلى بلدهم. فلم يجد بدا من اتباعهم.
فلما انصرف»
. الصفرية وجه عمر معمر بن عيسى السّعدى فى ألف وخمسمائة إلى ابن رستم، وهو بتهوذا فى خمسة عشر ألف فارس.
فالتقوا فانهزم ابن رستم ووصل إلى تيهرت.
ثم أقبل عمر بن حفص يريد القيروان. واستخلف على طبنة المهنا بن المخارق بن غفار الطائى. فلما بلغ أبا قرة مسيره، أقبل بجموعه وحصر المهنا بطبنة. فخرج إليه وقاتله. فانهزم أبو قرة واستباحوا عسكره.
وكان أبو حاتم لما حاصر القيروان أقام عليها ثمانية أشهر، وليس فى بيت مالها درهم واحد ولا فى أهرائها «3» شىء من الطعام.
وكان الجند فى تلك المدة يقاتلون البربر طرفى النهار حتى جهدهم الجوع، وأكلوا دوابهم وكلابهم. فجعل الناس يخرجون فيلحقون بالبربر. فبلغ ذلك عمر فأقبل يريد القيروان فى نحو سبعمائة من الجند حتى نزل مدينة الأربس فبلغ البربر إقباله، فرجعوا إليه بأجمعهم ورحلوا عن القيروان. فلما بلغه إقبالهم توجه إلى ناحية(24/81)
تونس، وأغذّ السير. ومضى البربر حتى صاروا بناحية سمنجة.
وسار عمر من تونس وخرج جميل بن صخر من القيروان، فالتقوا فى بئر السلامة. ثم أقبل حتى دخل القيروان. فبث خيوله حول القيروان وجعل يدخل إليها ما يصلحه من الطعام والحطب وغير ذلك.
واستعد للحصار، وخندق خندقا على باب أبى الربيع فعسكر فيه الجند.
ثم قدم أبو حاتم فى جنوده وقد بلغوا مائة ألف وثلاثين ألفا.
فقاتله عمر بمن معه أشد قتال. فانكشف حتى صار إلى الفسطاط.
ثم اقتتلوا بالفسطاط واشتد قتالهم وكاثروه حتى انحاز «1» إلى الخندق بباب أبى الربيع. وكان عمر يخرج إليهم فى كل يوم ويقاتلهم فمازالوا على ذلك «2» حتى فنيت أقواتهم وأكلوا دوابهم والسنانير «3» . فاضطرب على عمر أمره وضجر أصحابه وساءت آراؤهم. فقال لمن معه من الجند: «قد كان أصابكم من الجهد أمر عظيم حتى قدمت عليكم ففرج الله عنكم بعض ما كنتم فيه. وقد ترون ما أنتم الآن فيه. فإن شئتم خرجت أنا على ذراريهم وبلادهم.
وجعلت عليكم أى الرجلين شئتم: جميلا أو المخارق. وأخرج فى ناس من الجند فأغير على نواحيهم وآتيكم بالميرة» . فقالوا:
«قد رضينا» . وكان قد اجتمع حول القيروان من الإباضية مع أبى حاتم ثلاثمائة ألف وخمسين ألفا: الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا.
فلما هم بالخروج، اختلفوا عليه وقالوا: «تحب أن تخرج ونبقى(24/82)
نحن فى الحصار، لا تخرج وأقم معنا» . قال: «نعم، أقيم معكم وأخرج جميلا والمخارق ومن أحببتم» . قالوا: «نعم» . فلما جاءوا إلى باب المدينة قالوا: «تقيم أنت فى الراحة ونخرج نحن! لا والله لا نفعل» . فغضب عمر وقال: «والله لأوردنّكم حياض الموت» .
وجاءه وهو محصور كتاب خليدة بنت المعارك امرأته تخبره فيه:
إن أمير المؤمنين قد استبطأك فبعث يزيد بن حاتم إلى إفريقية، وهو قادم فى ستين ألفا، ولا خير فى الحياة بعد هذا. قال خراش «1» ابن عجلان: فأرسل إلى فجئته، وقد ثار عرق بين عينيه وكان علامة غضبه. فأقرأنى الكتاب فدمعت عيناى. فقال: «مالك؟» . فقلت:
«وما عليك أن يقدم رجل من أهلك فتخرج من هذا الحصار؟» . فقال:
«إنما هى رقدة حتى نبعث إلى الحساب فاحفظ وصيتى» .
قال خراش: فأوصى بما أحب. وخرج كالبعير الهائج. فلم يزل يطعن ويضرب حتى قتل، وذلك فى يوم السبت للنصف من ذى الحجة سنة أربع وخمسين ومائة «2» .
فلما قتل بايع الناس جميل «3» بن صخر، وهو أخو عمر لأمه.
فلما طال عليه الحصار دعاه ذلك إلى موادعة أبى حاتم. فصالحه على أن جميلا وأصحابه لا يخلعون طاعة سلطانهم ولا ينزعون سوادهم، وعلى أن كل دم أصابه الجند من البربر فهو هدر، وعلى أن لا يكرهوا أحدا(24/83)
من الجند على بيع سلاحهم ودوابهم. فأجابهم إلى ذلك أبو حاتم.
ففتح جميل أبواب المدينة وخرج أكثر الجند إلى طبنة. وأحرق أبو حاتم أبواب المدينة وأثّر فى سورها.
وبلغه قدوم يزيد بن حاتم فتوجه إلى طرابلس، واستخلف على القيروان عبد العزيز بن السّمح «1» المعافرى. ثم بعث إليه أبو حاتم يأمره بأخذ سلاح الجند، وألا يجتمع منهم اثنان فى مكان واحد، وأن يوجه إليه بهم واحدا بعد واحد. فاجتمعوا واستوثق بعضهم من بعض بالأيمان المؤكدة أن لا يرضوا بهذا. وقويت قلوبهم بيزيد بن حاتم.
فلقوا عمر بن عثمان الفهرى واتفقوا معه وولوه أمرهم. فقبله وقام على أصحاب أبى حاتم فقتلهم. واتصل ذلك بأبى حاتم فزحف من طرابلس.
فلقى عمر بن عثمان ومن معه. فاقتتلوا فقتل من البربر خلق كثير. ومضى عمر بن عثمان وأصحابه نحو تونس. ومضى جميل بن صخر والجنيد ابن سيار هاربين نحو المشرق.
وخرج أبو حاتم فى طلب عمر بن عثمان. ووجه قائدا من قواده يقال له جرير بن مسعود المديونى على مقدمته. فأدركه بجيجل من ناحية كتامة. فقاتلوه فقتل جرير بن مسعود وأصحابه. وانصرف عمر والمخارق فدخلا تونس، ومضى أبو حاتم إلى طرابلس حين بلغه قدوم يزيد بن حاتم. ولحق جميل بن صخر بيزيد وهو بسرت. فأقام إلى أن لقى أبا حاتم.(24/84)
فيقال: إنه كان بين الجند والبربر من لدن قتالهم عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة.
ذكر ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبى صفرة
قال: ولما اتصل بأبى جعفر المنصور حال عمر بن حفص وحصره ثم بلغه أنه قتل، غمّه ذلك وساءه. فوجه يزيد بن حاتم فى ثلاثين ألفا من أهل خراسان، وستين ألفا من أهل البصرة والكوفة والشام «1» . فأقبل حتى صار إلى سرت. فاجتمع بجميل ابن صخر وبمن معه من الجند القادمين عليه من القيروان، وسار نحو طرابلس. فسار أبو حاتم إلى جبال نفوسة. وجعل يزيد على مقدمته سالم بن سوادة التّميمى. فالتقى سالم هو وأبو حاتم، واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزم سالم وأصحابه، ورجعوا إلى عسكر يزيد.
وهال أبو حاتم أمر يزيد فطلب أوعر المنازل وأمنعها، فعسكر فيها، وخندق على عسكره. فأتاه يزيد من ناحية الخندق، والتقوا واقتتلوا. فقتل أبو حاتم وأهل البصائر من أصحابه، وانهزم الباقون.
وطلبهم يزيد فقتلهم قتلا ذريعا. وبعث خيله فى طلبهم بكل ناحية.
فكان عدة من قتل منهم ثلاثين ألفا. ويقال: إنه لم يقتل من الجند(24/85)
إلا ثلاثة. وذلك فى يوم الاثنين لثلاث بقين «1» من شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائة. وأقام يزيد بمكانه ذلك نحوا من شهر.
وبث خيله فى طلب الخوارج فقتلهم فى كل سهل وجبل.
ثم رحل حتى نزل قابس فدخلها لعشر بقين من جمادى الآخرة «2» .
واستقامت له الأمور بعد أن قتل البربر بكل ناحية. وبنى يزيد المسجد الأعظم بالقيروان، وجدده فى سنة سبع وخمسين «3» . ورتب أسواق القيروان، وجعل كل صناعة فى مكانها، حتى لو قيل: إنه الذى مصّرها، لم يبعد من الحق.
ولم تزل البلاد مستقيمة والأمور ساكنة مدة حياته إلى أن توفى فى شهر رمضان سنة سبعين ومائة «4» فى خلافة الرشيد. وكان كريما شجاعا نافذ الرأى، بعيد الصيت، غاية فى الجود. وهو القائل:
لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... إلا لماما قليلا ثم ينطلق «5»
يمر مرا عليها وهى تلفظه ... إنى امرؤ لم يحالف خرقتى الورق «6»(24/86)
وله أخبار بإفريقية تدل على كرمه وبعد همته. فمن مشهورها أن بعض وكلائه أتاه يوما فقال: «أعز الله الأمير! أعطيت فى الفول الذى زرعناه بفحص القيروان كذا وكذا!» . وذكر ما لا جليلا.
فسكت وأمر قهرمانه وطباخه أن يخرجا إلى ذلك الموضع. وأمر فراشيه أن يضربوا قبة، فضربوا مضارب كثيرة. وخرج مع أصحابه فتنزه فيه وأطعم. فلما أراد الانصراف دعا بالوكيل وأمر بأدبه وقال له:
«يا ابن اللّخناء، أردت أن أعيّر بالبصرة فيقال: يزيد بن حاتم باقلانى! أمثلى يبيع الفول، لا أمّ لك؟» . ثم أمر بإباحته. فخرج الناس إليه من بين آكل وشارب ومتنزه حتى أتوا على جميعه.
ومن أخباره المشهورة أنه خرج متنزها إلى منية الخيل، فنظر فى طريقه إلى غنم كثيرة. فقال: «لمن هذه؟» قالوا: «لابنك إسحاق» . فدعا به فقال له: «ألك هذه الغنم؟» . قال: «نعم» .
قال: «لم أردتها؟» . قال: «آكل من خرافها وأشرب من ألبانها وأنتفع بأصوافها» . قال: «فإذا كنت أنت تفعل هذا، فما بينك وبين الغنامين والجزارين فرق» . وأمر أن تذبح وتباح للناس.
فانتهبوها وذبحوها وأكلوا لحومها. وجعلوا جلودها على كدية، فهى تعرف بكدية الجلود «1» .
وله مكارم يطول شرحها رحمه الله تعالى.(24/87)
ذكر ولاية داود بن يزيد بن حاتم
قال: ولما مرض يزيد استخلف ابنه داود، فاستقل بالأمر بعده «1» فانتقض عليه البربر بجبال باجة، وخرج صالح بن نصير النّفرى «2» فى الإباضية. فلقيه المهلّب بن يزيد بباجة. فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة. فوجه إليهم داود سليمان بن الصّمّة بن يزيد بن حبيب ابن المهلب فى عشرة آلاف فارس. فهزم البربر وتبعهم وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف، وسلم الجند. قال: وانضم إلى صالح ابن نصير جماعة من مشيخة البربر. فزحف إليهم سليمان بن الصمة فقتل من أهل البصائر منهم وانصرف إلى القيروان.
وأقام داود على إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم أميرا. فكانت ولاية داوود تسعة أشهر ونصف شهر. وسار إلى المشرق «3» فأكرمه الرشيد وولاه مصر، ثم ولى السند فمات بها.
ذكر ولاية روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب بن أبى صفرة
قال: ولما بلغ الرشيد وفاة يزيد بن حاتم استعمل روح بن حاتم على المغرب، وكان أكبر من يزيد سنا. فوصل إلى القيروان فى شهر(24/88)
رجب سنة إحدى وسبعين ومائة «1» فى خمسمائة فارس من الجند.
ثم لحق به ابنه قبيصة فى ألف وخمسمائة فارس. ولم تزل البلاد معه هادئة والسبل آمنة. وملىء البربر منه رعبا. ورغب فى موادعة عبد الوهاب «2» بن رستم الإباضى صاحب تيهرت، وهو الذى تنسب إليه الوهبية. فلم تزل الأحوال مستقيمة مدة ولايته إلى أن توفى لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة.
ذكر ولاية نصر بن حبيب المهلبى «3»
قال المؤرخ: كان روح بن حاتم قد أسنّ وكبر، وإذا جلس للناس غلبه النوم «4» من الضعف. فكتب أبو العنبر القائد وصاحب البريد إلى الرشيد بضعفه وكبره، وأنهما لا يأمنان موته، وهو ثغر لا يقوم بغير سلطان، وذكرا نصر بن حبيب، وحسن سيرته، ومحبة الناس له. وقالا: «إن رأى أمير المؤمنين ولايته فى السر إن حدث بروح حادث حتى يرى أمير المؤمنين رأيه» . فكتب الرشيد عهده سرا.(24/89)
فلما مات روح فرش لابنه قبيصة فى الجامع فجلس واجتمع الناس للبيعة له. فركب أبو العنبر وصاحب البريد إلى نصر ومعهما عهده. فأوصلاه العهد وسلّما عليه بالإمرة «1» ، وأركباه إلى المسجد فيمن معهما. فأقاما قبيصة وأجلسا نصرا. وقرئ كتاب الرشيد على الناس فسمعوا وأطاعوا. فبسط العدل وأحسن إلى الناس. وأقام واليا على المغرب سنتين وثلاثة أشهر.
وكان الفضل بن روح لما مات أبوه عاملا على الزاب، فلما ظهر كتاب الرشيد بولاية نصر سار إلى الرشيد، ولزم بابه حتى ولاه المغرب.
ذكر ولاية الفضل بن روح
قال: ولما ولاه الرشيد كتب إلى إفريقية بعزل نصر، وأن يقوم بإفريقية المهلب بن يزيد إلى أن يقدم. ثم قدم فى المحرم سنة سبع وسبعين ومائة.
وولى على تونس ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح، وكان غرا فاستخف بالجند، وسار فيهم بغير سيرة من تقدمه، ووثق أن عمه لا يعزله. فاجتمعوا وكتبوا إلى الفضل كتابا يخبرونه بسوء صنيع المغيرة فيهم وقبيح «2» سيرته. فتثاقل الفضل عن جوابهم. فانضاف هذا إلى أمور كانوا قد كرهوها من الفضل منها استبداده برأيه دونهم. فاجتمعوا وولوا أمرهم عبد الله(24/90)
ابن الجارود وهو المعروف بعبدويه «1» وبايعوه بعد أن استوثق منهم «2» .
ثم انصرفوا إلى دار المغيرة فحصروه. فبعث إليهم يسألهم ما الذى يريدون. فقالوا: «ترحل عنا وتلحق بصاحبك أنت ومن معك» . وكتب عبدويه إلى الأمير الفضل:
«من عبد الله بن الجارود.
أما بعد، فإنا لم نخرج المغيرة إخراج خلاف عن طاعة، ولكن لأحداث أحدثها فيها فساد الدولة. فولّ علينا من نرضاه وإلا نظرنا لأنفسنا، ولا طاعة لك علينا والسلام» .
فكتب إليه: «من الفضل بن روح إلى عبد الله بن الجارود.
أما بعد، فإن الله عز وجل يجرى قضاياه فيما أحب الناس أو كرهوا، وليس اختيارى واليا اخترته لكم أو اخترتموه بحائل دون شىء أراد الله عز وجل بلوغه فيكم. وقد وليت عليكم عاملا، فإن دفعتموه فهو آية النّكث منكم. والسلام» .
وبعث عبد الله بن يزيد «3» المهلّبى عاملا على تونس. وضم إليه النّضر بن «4» حفص، وأبا العنبر، والجنيد بن سيار.
فلما وصل ظاهر تونس، أشار أصحاب عبدويه عليه بقبضه(24/91)
هو ومن معه وحبسهم. فخرج أصحاب عبدويه إلى عبد الله ابن يزيد، فحملوا عليه وقتلوه وأسروا من معه. فقال عبدويه:
«ما لهذا بعثتكم، فأما إذ وقع فما رأيكم «1» ؟» فأجمعوا على الخلاف.
وأخذوا فى المكائد. وتولى أمر عبدويه محمد بن الفارسى، وهو الذى أثار هذه الفتنة. وشرع فى مكاتبة القواد وإفسادهم، ووعد كل واحد منهم أنه يوليه الأمر. ففسد الحال على الفضل.
وكانت أمور يطول شرحها، وحرب آخرها أن ابن الجارود سار فيمن معه إلى القيروان، وقاتل الفضل وهزمه، واستولى على البلد وأخرجه منها. ثم قبض عليه وأراد أن يحبسه. فقال أصحابه:
«لا نزال فى حرب مادام الفضل حيا» . فدافع عنه محمد بن الفارسى وأشار أن لا يقتلوه. فقاموا إليه وقتلوه. فعند ذلك أمر عبدويه المهلب بن يزيد ونصر بن حبيب وخالدا وعبد الله بن يزيد بالخروج من إفريقية، فخرجوا كلهم.
ذكر أخبار عبد الله بن الجارود
قال: ولما قتل الفضل واستولى عبد الله على القيروان، سمع شمدون القائد ما صنع بالفضل، فقام غضبا له.
واجتمع فى الأربس هو وفلاح بن عبد الرحمن الكلاعى القائد، والمغيرة، وغيرهم. وأقبل عليهم أبو عبد الله مالك بن المنذر(24/92)
الكلبى من ميلة، وكان واليا عليها فى عدد كثير، فقدموه على أنفسهم. واجتمع إليهم الناس. والتقوا بابن الجارود واقتتلوا. فقتل مالك بن المنذر، وانهزم أصحابه حتى صاروا إلى الأربس.
فكتب شمدون إلى العلاء بن سعيد- وهو بالزاب- أن يقدم عليه. فأقبل إلى الأربس واجتمع بالمغيرة وشمدون وفلاح وغيرهم. وأقبل العلاء يريد القيروان فصادف ابن الجارود وقد خرج منها يريد يحيى بن موسى «1» خليفة هرثمة بن أعين، وذلك أن الرشيد لما اتصل به وثوب ابن الجارود على الفضل وإفساده إفريقية، وجّه يقطين بن موسى لمحله من دعوتهم، ومكانه من دولتهم، وكبر سنه، وحاله عند أهل خراسان. وأمره بالتلطف بابن الجارود وإخراجه من البلد. ووجه معه المهلب بن رافع. ثم وجه منصور بن زياد، وهرثمة بن أعين أميرا على المغرب. فأقام ببرقة.
وقدم يقطين القيروان فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير. ودفع إليه كتاب الرشيد، فقال ليقطين: «قد قرأت كتاب أمير المؤمنين، وأنا على السمع والطاعة. وفى كتاب أمير المؤمنين أنه ولى هرثمة بن أعين، وهو ببرقة يصل بعدكم.
ومع العلاء البربر، فإن تركت الثغر وثب البربر فأخذوه وقتلوا العلاء ولا يدخله وال لأمير المؤمنين أبدا، فأكون أشأم الخلق على هذا(24/93)
الثغر. ولكن أخرج إلى العلاء، فإن ظفر بى فشأنكم بالثغر، وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة. ثم أخرج إلى أمير المؤمنين» فاجتمع يقطين مع محمد بن يزيد الفارسى- وهو صاحب ابن الجارود- ووعده التقدم وقيادة ألف فارس وصلة وقطيعة فى أى المواضع شاء، على أن يفسد حال عبد الله بن الجارود. ففعل ذلك وسعى فى إفساد الخواطر على ابن الجارود، ورغّب الناس فى الطاعة. فمالوا إليه وانضموا له. وخرج على ابن الجارود، فخرج عبد الله لقتاله. فلما تواقفا للقتال، ناداه ابن الجارود أن اخرج إلى حتى لا يسمع كلامى وكلامك غيرنا. فخرج إليه فحدثه وشاغله بالكلام، وكان قد وضع على قتله رجلا من أصحابه يقال له أبو طالب «1» فخرج إليه- وهو مشغول بحديث عبد الله- فما شعر حتى حمل عليه وضربه فدقّ صلبه، فانهزم أصحابه.
وقدم يحيى بن موسى خليفة هرثمة إلى طرابلس. فصلى عيد الأضحى بالناس وخطبهم. وقدم عليه جماعة من القواد واستفحل أمره.
وأقبل العلاء بن سعيد يريد القيروان. فعلم ابن الجارود أنه لا طاقة له بالعلاء. فكتب إلى يحيى أن اقدم إلى القيروان فإنى مسلم إليك سلطانها. وأجاب إلى الطاعة. فخرج يحيى بن موسى بمن معه من طرابلس فى المحرم سنة تسع وسبعين ومائة «2» .
فلما بلغ قابس تلقاه بها عامة الجند الذين بالقيروان. وخرج ابن(24/94)
الجارود من القيروان فى مستهل صفر، واستخلف عليها عبد الملك بن عباس «1» . وكانت أيام ابن الجارود سبعة أشهر.
وأقبل العلاء بن سعيد ويحيى بن موسى متسابقين إلى القيروان، فسبقه العلاء إليها. فقتل منها «2» جماعة من أصحاب ابن الجارود. فبعث إليه يحيى: «إن كنت على الطاعة ففرّق جموعك» . فأمر من معه بالانصراف إلى مواضعهم. وسار فى نحو ثلاثمائة من خاصته إلى طرابلس. وكان ابن الجارود قد وصل إليها قبل وصوله وخرج مع يقطين بن موسى نحو المشرق حتى وصل إلى هارون الرشيد.
قال: وكتب العلاء إلى منصور وهرثمة أنه الذى أخرج ابن الجارود من إفريقية. فكتب إليه هرثمة بالقدوم، وأجازه بجائزة سنية. وبلغ خبره هارون، فكتب إليه بمائة ألف درهم صلة سوى الكسا، فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفى بمصر.
ذكر ولاية هرثمة بن أعين
قال: وقدم هرثمة القيروان فى مستهل شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين ومائة «3» فأمن الناس وسكنهم وأحسن إليهم.
وهو الذى بنى القصر الكبير بالمنستير «4» فى سنة ثمانين(24/95)
ومائة. وبنى أيضا سور مدينة طرابلس مما يلى البحر. وواتر الكتب إلى الرشيد أن يعفيه من إفريقية لما رأى الاختلاف بها وسوء طاعة أهلها. فكتب إليه بالقدوم إلى المشرق. فرجع فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة «1» .
ذكر ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم «2» العكى
قال: ولما كتب هرثمة إلى هارون يسأله الإعفاء وجه محمد بن مقاتل أميرا للمغرب «3» ، وكان رضيع هارون «4» .
فقدم القيروان فى شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. ولم يكن بالمحمود السيرة، فاضطربت عليه أحواله واختلف جنده، وكان سبب الاضطراب عليه أنه اقتطع من أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفى الرعية. فقام فلاح القائد، ومشى فى أهل الشام وخراسان حتى اجتمع رأيهم على تقديم مرة بن مخلد الأزدى «5» .
وخرج عليه بتونس تمام بن تميم التّميمى- وكان عامله عليها- فبايعه جماعة من القواد وأهل الشام وأهل خراسان. فخرج فى النصف من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائة إلى القيروان. وخرج إليه ابن العكى فيمن معه، فقاتله قتالا(24/96)
شديدا فى منية الخيل، فانهزم ابن العكى ودخل القيروان، وتحصن فى دار كان قد بناها، وجلا عن دار الإمارة. وأقبل تمام ودخل القيروان فى يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رمضان. فأمّنه تمام على دمه وماله، على أنه يخرج عنه.
فخرج تلك الليلة وسار حتى وصل إلى طرابلس ثم مضى إلى سرت. وعاد إلى طرابلس بمكاتبة بعض أهل خراسان فنهض إبراهيم بن الأغلب من الزاب على تمام غضبا للعكى.
فلما بلغ تماما إقباله جلا عن القيروان، ودخلها إبراهيم بن الأغلب.
فخطب الناس وأعلمهم أن أميرهم محمد بن مقاتل. وكتب إليه بالرجوع، فرجع.
ثم أخذ تمام فى مراسلة الناس وإفسادهم على العكى فمالوا إليه. فكثر جمعه وطاب نفسا بقتال العكى. وكتب إليه.
«أما بعد. فإن إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فبردك من كرامتك عليه ولا للطاعة التى يظهرها، ولكنه كره «1» أن يبلغك أنه أخذ البلاد فترجع إليه. فإن منعك كان مخالفا، وإن دفعها إليك كان كارها. فبعث إليك لترجع ثم يسلمك إلى القتل.
وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا أمس» . وفى آخره:
وما كان إبراهيم من فضل طاعة ... يرد عليك الثّغر إلا لتقتلا «2»(24/97)
فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده ... لما كنت منه يابن عك لتقبلا «1»
فلما وصل كتابه، قرأه العكى ودفعه إلى إبراهيم بن الأغلب.
فقرأه وضحك وقال: «قاتله الله! ضعف عقله زيّن له ما كتب به» فكتب إليه ابن العكى:
«من محمد بن مقاتل إلى الناكث تمام.
أما بعد، فقد بلغنى كتابك، ودلنى ما فيه على قلة رأيك.
وفهمت قولك فى إبراهيم. فإن كنت كتبت نصيحة، فليس من خان الله ورسوله وكان من المفسدين بمقبول منه ما يتنصّح به.
وإن كانت خديعة فأقبح الخدائع ما فطن له. وأما ما ذكرت من من إسلام إبراهيم إذا التقينا، فلعمر أبيك ما يلقاك أحد غيره.
وأما قولك: إنا جربنا من وقعتك أمس ما سنعرفه غدا، فإن الحرب «2» سجال: فلنا يا تمام عليك العقبى إن شاء الله» وفى أسفله:
وإنى لأرجو إن لقيت ابن أغلب ... غداة المنايا أن تفل وتقتلا «3»
تلاقى فتى يستصحب الموت فى الوغى ... ويحمى بصدر الرمح مجدا مؤئلا «4»(24/98)
فأقبل تمام من تونس فى جمع عظيم. وأمر ابن العكى من كان معه من أهل الطاعة بالخروج إليه وتقدمة إبراهيم بن الأغلب.
والتقوا واقتتلوا فانهزم تمام إلى تونس، وقتل جماعة من أصحابه.
وانصرف العكى إلى القيروان ثم أمر إبراهيم بالمسير «1» إلى تمام بتونس، وذلك فى شهر المحرم سنة أربع وثمانين ومائة.
فلما بلغ تماما إقباله كتب إليه يسأله الأمان، فأمنه. وأقبل به إلى القيروان يوم الجمعة لثمان خلون من الشهر. فلما صار الأمر إلى إبراهيم بن الأغلب بعث تمام بن تميم وغيره من وجوه «2» الجند الذين شأنهم الوثوب على الأمراء إلى بغداد، فحبسوا فى المطبق.
قال: ودام محمد بن مقاتل فى القيروان إلى أن عزله الرشيد واستعمل إبراهيم بن الأغلب، على ما نذكره فى أخبار دولة بنى الأغلب إن شاء الله تعالى.(24/99)
ذكر ابتداء دولة بنى الأغلب
هذه الدولة أول دولة قامت بإفريقية وجرى عليها اسم الدولة.
وكان من قبلهم عمالا إذا مات أحد منهم أو صدر منه ما يوجب العزل، عزله من يكون أمر المسلمين إليه من الخلفاء فى الدولة الأموية والعباسية. فلما قامت هذه الدولة كانت كالمستقلة بالأمر «1» . وإنما كانت ملوكها تراعى أوامر الدولة العباسية، وتعرف لها حق الفضل والأمر، وتظهر طاعة مشوبة بمعصية.
ولو أرادوا عزل واحد منهم والاستبدال به من غير البيت لخالفوهم «2» . وصار ملوك هذه الدولة يوصون بالملك بعدهم لمن يرونه من أولادهم وإخوتهم، فلا يخالفه قوادهم ولا يراعون أهلية من يوصى إليه بل يقدمونه على أى صفة كان مستحقا أو غير مستحق. وسنذكر من أخبارهم ما يدل على ذلك. وكان عدة من ملك منهم أحد عشر ملكا. ومدة أيامهم مائة سنة واثنتى عشرة وأياما. وأول من ملك منهم إبراهيم بن الأغلب.
ذكر ولاية ابراهيم بن الأغلب بن سالم ابن عقال بن خفاجة التميمى
قال: لما كان من أمر إبراهيم بن الأغلب ما ذكرناه، من نصرته لابن العكى وإخراجه تمام بن تميم وإعادة العكى، كتب(24/100)
يحيى بن زياد صاحب البريد بالخبر إلى هارون الرشيد. فقرأ الكتاب على أصحابه، وقال لهرثمة بن أعين: «أنت قريب العهد» . فقال: «يا أمير المؤمنين، قد سألتنى فى مقدمى منها عن طاعة أهلها، وأخبرتك أنه ليس بها أحد أفضل طاعة ولا أبعد صيتا ولا أرضى عند الناس من إبراهيم. ثم صدق قولى قيامه بطاعتك» . فأمر الرشيد بكتابة عهده على إفريقية «1» .
فلما وصل إليه العهد، أرسل إلى ابن العكى: «أقم ما شئت حتى تتجهز» .
فأقام أياما ثم رحل إلى طرابلس. فوافاه حماد السعودى بكتابين قدم بهما إلى إفريقية على العادة. فافترى ابن العكى كتابا ثالثا بعزل إبراهيم وولايته وبعث به إلى القيروان. فلما قرئ على الناس قالوا لإبراهيم: «أقم بمكانك «2» واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن ابن العكى اختلق هذا زورا، ولم يكافئك على نصرتك له وحقنك دمه» . فقال: «والله لقد ظننت ظنكم وإنما اجترأ ابن العكى على الثغر لموضعه من جعفر بن يحيى» . ثم عسكر إبراهيم يريد الخروج إلى الزاب وأتى كتاب محمد بن مقاتل إلى سهل ابن حاجب يستخلفه إلى أن يقدم. فكتب صاحب البريد إلى الرشيد. فغضب وكتب إلى ابن العكى: «أما بعد، فلم يكن آخر أمرك يشبه إلا أوله. فلأىّ مناقبك أوثرك على إبراهيم بولاية الثغر: ألفرارك وإقدامه أم لجزعك وصبره أم لخلافك(24/101)
وطاعته؟ فإذا نظرت فى كتابى، فاقدم غير محمود الفعال» .
وكتب إلى إبراهيم بتجديد ولايته. فوصل الرسول إلى القيروان وإبراهيم بالزاب فمضى إليه. وكانت ولايته الثانية التى استقر «1» بها ملكه وملك بنيه من بعده، لاثنتى عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين ومائة. وقفل ابن العكى إلى المشرق.
قال: ولما ولى إبراهيم قمع أهل الشر بإفريقية، وضبط البلاد، وأحسن إلى من بها. وبعث بأهل الشر الذين جرت عادتهم بمخالفة الأمراء والوثوب عليهم إلى بغداد كما ذكرنا «2» .
وابتنى إبراهيم قصرا وجعله متنزها. ثم جعل ينقل إليه السلاح والأموال سرا. وهو مع ذلك يراعى أمور أجناده ويصلح طاعتهم ويصبر على جفائهم. وأخذ فى شراء العبيد وأظهر أنه يحب أن يتخذ «3» من كل صناعة من يغنيه عن استعمال الرعية فى كل شىء. ثم اشترى عبيدا لحمل سلاحه وأظهر للجند أنه أراد بذلك إكرامهم عن حمله. ولما تهيأ له من ذلك ما أراده انتقل من دار الإمارة وصار إلى قصره بعبيده وحشمه وأهل بيته؛ وكان انتقاله ليلا. وأسكن معه من يثق به من الجند. وكان يتولى الصلاة بنفسه فى المسجد الجامع بالقيروان والمسجد الذى بناه بالقصر.
وفى أيامه خرج حمديس «4» بن عبد الرحمن الكندى فخلع(24/102)
السواد. وجمع جموعا كثيرة وأتى بعرب أهل البلد وبربرها، وكثرت جموعه بمدينة تونس. فبعث إليه إبراهيم عمران بن مجالد «1» ومعه وجوه القواد. فالتقوا بسبخة تونس واقتتلو قتالا شديدا، وكثر بينهم القتل. وجعل أصحاب حمديس يقولون:
«بغداد بغداد، فلا والله لا اتخذت لكم طاعة بعد اليوم أبدا» .
ثم قتل حمديس وانهزم أصحابه. ودخل عمران تونس وتتبع من كان مع حمديس وقتلهم حتى أفناهم. وكان خروجه فى سنة ست وثمانين ومائة.
وفى أيامه جمع إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن «2» بن على بن أبى طالب جموعا كثيرة، وأطاعه من حوله من القبائل. فكره إبراهيم قتاله وعمل فى إفساد «3» أصحابه عليه.
وكتب إلى بهلول بن عبد الواحد المدغرى «4» ، وكان رئيسا مطاعا فى قومه، وهو القائم بأمر إدريس وصاحب سره، ولم يزل به حتى فارقه وعاد إلى الطاعة. فلما فعل ذلك كتب إدريس إلى إبراهيم كتابا يستعطفه ويسأله الكف عنه ويذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجر بينهما حرب.
وخرج عن طاعة إبراهيم أيضا عمران بن مجالد. وكان(24/103)
سبب خروجه أن إبراهيم لما بنى قصره المعروف القديم ركب يوما وهو يفكر فى الانتقال إليه ومعه عمران بن مجالد. فجعل عمران يحادثه من حيث ركبا إلى أن بلغا مصلى روح، فلم يفقه إبراهيم من حديثه شيئا. فقال لعمران: «ألم تعلم أنى لم أسمع من حديثك شيئا. أعده على» . فغضب عمران وقال: «أحدثك من حيث خرجت وأنت لاه عنى» . وتغير من ذلك اليوم وألب على إبراهيم. فلما انتقل إبراهيم إلى قصره وأقام مدة، ثار عمران فى جيشه. واستولى على القيروان وقوى أمره وكثرت أتباعه. ودامت الحرب بينه وبين إبراهيم سنة كاملة، كانت خيل إبراهيم تضرب إلى القيروان فتقتل من قدرت عليه، وخيل عمران تفعل مثل ذلك.
ثم وصل إلى إبراهيم رسول أمير المؤمنين بأرزاق الجند فوجه ابنه عبد الله إلى طرابلس، فقبض أرزاق الجند ووصل بها إلى أبيه. فلما صار المال إليه، تطلعت أنفس الجند إلى أرزاقهم وهموا بإسلام عمران. وتبين ذلك له. فركب إبراهيم فى خيله ورجله وعبيده، وعبأ عساكره تعبئة الحرب، وتوجه إلى القيروان. حتى إذا قرب منها أمر مناديه فنادى: «من كان له اسم فى ديوان أمير المؤمنين فليقدم لقبض عطائه» . ثم انصرف إلى قصره ولم يحدث شيئا. فلما أمسى عمران أيقن أن الجند تسلمه. فركب وسار إلى الزاب ليلا ومعه عمرو بن معاوية وعامر بن المعتمر. فخلع»
إبراهيم أبواب القيروان(24/104)
وثلم فى سورها. وقوي عند ذلك أمره. وزاد فى بناء القصر القديم. وأقطع فيه الدور لأهل بيته وأنصاره ومواليه.
وبقى عمران بالزاب إلى أن توفى إبراهيم وصار الأمر إلى ابنه أبى العباس. فكتب إليه يسأله الأمان فأمنه. وقدم إليه وأسكنه القصر. ثم سعى به فقتله.
واستمرت أيام إبراهيم إلى سنة ست وتسعين ومائة، فتوفى لثمان بقين من شوال منها «1» ، وهو ابن ست وخمسين سنة.
وكانت مدة ولايته اثنتى عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام.
وكان فقيها، عالما، خطيبا، شاعرا، ذا رأى وبأس «2» ، وحزم، وعلم بالحروب ومكائدها، جرئ الجنان، طويل اللسان، حسن السيرة. قال ابن الرقيق: لم يل إفريقية قبله أحد من من الأمراء أعدل منه سيرة ولا أحسن سياسة، ولا أرفق برعية، ولا أضبط للأمر «3» . وكان كثير الطلب للعلم، والاختلاف إلى الليث بن سعد. وله أخبار حسنة وآثار جميلة، رحمه الله تعالى.
ذكر ولاية أبى العباس عبد الله ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: لما مات إبراهيم بن الأغلب، صار الأمر بعده إلى ابنه أبى العباس عبد الله، وكان إذ ذاك بطرابلس، فقام له(24/105)
أخوه زيادة الله بالأمر، وأخذ له البيعة على نفسه وأهل بيته وجميع رجاله. وقدم عبد الله من طرابلس فى صفر سنة سبع وتسعين ومائة. فتلقاه زيادة الله وسلم إليه الأمر.
قال: فحمل عبد الله فى ولايته على أخيه زيادة الله حملا شديدا وتنقصه، وأمر بإطلاق من كان فى حبسه. وزيادة الله مع ذلك يظهر له التعظيم والتبجيل.
وأراد عبد الله أن يحدث جورا عظيما على الرعية فأهلكه الله عز وجل قبل ذلك. وكان قد أمر صاحب خراجه أن لا يأخذ من الناس العشر، ولكن يجعل على كل زوج تحرث ثمانية دنانير أصاب أم لم يصب «1» . فاشتد ذلك على الرعية وسألوه فلم يجب سؤالهم. وقدم حفص بن حميد الجزرى «2» ، ومعه قوم صالحون من أهل الجزيرة وغيرها. فاستأذنوا على أبى العباس فأذن لهم. فدخلوا عليه- وكان من أجمل الناس- فكلمه حفص ابن حميد فكان فيما قال له: «أيها الأمير، اتق الله فى شبابك، وارحم جمالك وأشفق على بدنك من النار. ترى على كل زوج يحرث به ثمانية دنانير. فأزل ذلك عن رعيتك، وخذ فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن الدنيا زائلة عنك كما زالت عن غيرك» . فلم يجبه إلى شىء مما أراد. وتمادى على سوء فعله وأظهر الاستخفاف بهم. فخرج حفص بن حميد ومن(24/106)
معه فتوجهوا نحو القيروان. فلما صاروا بوادى القصارين قال لهم حفص: «قد يئسنا من المخلوقين فلا نيأس من الخالق» .
فسألوا الله وتضرعوا إليه، فدعوا الله على أبى العباس أن يمنعه مما أراده بالمسلمين ويكف جوره عنهم. ثم دخلوا «1» مدينه القيروان، فخرجت لأبى العباس قرحة تحت أذنه فقتلته فى اليوم السابع «2» من دعائهم واسود لونه. وكانت وفاته ليلة الجمعة لست خلون من ذى الحجة «3» سنة إحدى ومائتين.
فكانت مدة ولايته خمس سنين وشهرا واحدا وأربعة عشر يوما.
ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولما توفى أخوه أبو العباس صار الأمر إليه بعده. وهو أول من سمّى زيادة الله. وكذلك هبة الله بن إبراهيم بن المهدى، هو أول من سمى هبة الله.
قال: ولما ولى زيادة الله أغلظ على الجند، وأمعن فى سفك دمائهم، واستخف بهم، وحمله على ذلك سوء ظنه بهم لتوثّبهم على الأمراء قبله وخلافهم على أبيه مع عمران بن مجالد. وكان أبوه أغضى عن كثير من زلاتهم وصفح عن إساآتهم فسلك زيادة الله(24/107)
فيهم غير سبيل أبيه. وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا شرب وسكر. فخرجوا عليه. وكان الذى هاجهم على الخروج عليه أنه ولى عمر «1» بن معاوية القيسى، وكان من شجعان الجند ورؤسائهم وأهل الشرف منهم، على القصرين وما يليهما. فتغلب على تلك الناحية وأظهر الخلاف عليه. وكان له ولدان يقال لأحدهما حباب والآخر سكنان «2» . فوجه إليه زيادة الله موسى مولى إبراهيم المعروف بأبى هارون، وكان قد ولاه القيروان.
فخرج إليه وحاصره أياما. فلما ضاق به الأمر ألقى بيده ونزل معه. وسار إلى زيادة الله هو وولداه. فلما قدموا عليه حبسهم عند غلبون ابن عمه. ثم نقلهم إلى حبسه من يومه وقتلهم.
فلما بلغ منصور بن نصر الطّنبذى «3» وهو من ولد دريد «4» ابن الصّمّة ذلك ساءه، وكان على طرابلس. فقال: «يا بنى تميم، لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد» . فكتب صاحب الخبر بكلامه إلى زيادة الله. فعزله واستقدمه، فقدم.
وكان غلبون معتنيا به فأصلح أمره عند الأمير زيادة الله، فخلى عنه. فأقام أياما يتردد إلى زيادة الله حتى ذهب ما بقلبه عليه. ثم استأذنه فى الوصول إلى منزله فأذن له. فخرج إلى تونس، وكان له بإقليم المحمدية قصر يقال له طنبذة، وبه لقب الطنبذى،(24/108)
فنزل به. وجعل يراسل الجند ويذكر لهم ما يلقون من زيادة الله وما فعل بعمر بن معاوية وابنيه، ويخوفهم أن يفعل بهم وبأولادهم كفعله بعمر.
فبلغ ذلك زيادة الله فعرض الجند على عادته. ثم دعا محمد ابن حمزة فأخرجه فى خمسمائة «1» فارس بالسلاح كما عرضوا بين يديه. وقال له: «امض إلى تونس فلا يشعر منصور إلا وقد أخذته ومن معه، واقدم به موثقا» . فخرج ابن حمزة حتى أتى تونس فلقى منصورا غائبا بقصره، فنزل فى دار الصناعة «2» .
ووجه إى منصور شجرة بن عيسى القاضى وأربعين شيخا من أهل تونس، يرغبه فى الطاعة ويدعوه «3» إلى إتيانه.
فمضوا إليه وأبلغوه رسالة محمد بن حمزة فقال: «ما خلعت يدا من طاعة، ولا أحدثت حدثا، وأنا صائر إليه معكم. ولكن أقيموا علىّ يومى هذا حتى أعدّ لهولاء القوم ما يصلحهم» .
فأقاموا. فوجه إلى ابن حمزة ببقر وغنم وعلف وأحمال نبيذ.
وكتب إليه: «إنى قادم بالغداة مع القاضى» . فركن إلى قوله، وأخذ هو ومن معه فى الأكل والشرب.
فلما أمسى منصور قبض على القاضى ومن معه، وحبسهم فى قصره. وجمع خيله ورجله ومضى إلى تونس. فما شعر به محمد بن حمزة حتى ضرب طبوله على باب دار الصناعة. فقام(24/109)
ابن حمزة وأصحابه لأخذ سلاحهم وقد عمل الشراب فيهم.
فأوقع بهم منصور وأصحابه فقتلهم. ولم يسلم منهم إلا من ألقى نفسه فى البحر فسبح. وأصبح منصور، فاجتمع إليه الجند. وكان عامل زيادة الله على تونس إسماعيل بن سفيان ابن سالم «1» من أهل بيت زيادة الله، فقتله منصور وقتل ابنه.
فلما اتصل بزيادة الله قتل ابن عمه وولده ورجاله، جمع صناديد الجند، ووجّههم مع غلبون. وركب بنفسه مشيّعا له.
فلما ودع الجند قال لهم زيادة الله: «انظروا كيف تكونون وكيف تناصحون. فبالله أقسم إن انصرف إلىّ أحد «2» منكم منهزما لا جعلت عقوبته إلا السيف» . فكان ذلك مما ساءت به نفوس القوم حتى هموا بالوثوب على غلبون. فمنعهم من ذلك جعفر بن معبد وقال: «لا تحملكم إساءة زيادة الله فيكم أن تغدروا بمن أحسن إليكم وفك رقابكم» . وكان غلبون يعتنى بأمر القواد عند زيادة الله. فانصرفوا عن رأيهم فيه ومضوا حتى صاروا بسبخة تونس. فكاتب القواد الذين مع غلبون منصورا وأصحابه وأعلموهم أنهم منهزمون عنه. فلما التقوا حمل منصور وأصحابه عليهم فانهزموا بأجمعهم. ثم اجتمعوا بعد الهزيمة إلى غلبون واعتذروا وحلفوا أنهم ناصحون واجتهدوا. وقالوا: «نحن لا نأمن على أنفسنا. وإن أصبت لنا ما نأمن به قدمنا إن شاء الله» . وتفرقوا(24/110)
عنه. وسار كل «1» منهم إلى جهة فتغلب عليها. واضطربت إفريقية فصارت نارا تتّقد.
وصار الجند كلهم إلى منصور الطنبذى، وأعطوه أزمة أمورهم، وولوه على أنفسهم. وقدم غلبون على زيادة الله فأعلمه الخبر.
فكتب الأمانات وبعث بها إلى الجند والقواد. فلم يقبلوها وخلعوا الطاعة.
ثم جمعوا جمعا ووجه عليهم منصور عامر بن نافع. فعقد زيادة الله لمحمد بن عبد الله بن الأغلب، ووجه معه جيشا كثيفا وأوعب فيه من رجاله ومواليه. فالتقوا واقتتلوا، فانهزم محمد ابن عبد الله وقتل جماعة من وجوه أصحابه، منهم محمد بن غلبون، وعبد الله بن الأغلب، ومحمد بن حمزة الرازى، وغيرهم، وقتلت الرّجالة عن آخرهم. وتتبع الجند أصحاب زيادة الله فقتلوهم.
فعند ذلك زحف زيادة الله بنفسه ونزل بين القيروان «2» والقصر وخندق هناك. وكانت بينهم وقعات كثيرة تارة لهؤلاء وتارة لأولئك. ثم انهزم منصور ومن معه حتى لحقوا بتونس. وكان أهل القيروان أعانوا منصورا على قتال زيادة الله، فقال له أصحابه «ابدأ بها واقتل من فيها» . فقال: «إنى عاهدت الله تعالى إن(24/111)
ظفرت أن أعفو وأصفح «1» » . فعفا عنهم إلا أنه هدم سور القيروان ونزع أبوابها.
قال: ثم اجتمع لمنصور أصحابه وقوى أمره. ولم يبق فى يد زيادة الله من إفريقية كلها إلا الساحل وقابس «2» . فكتب الجند إلى زيادة الله: «أن ارحل حيث شئت وخلّ عن إفريقية، ولك الأمان فى نفسك ومالك وما ضمه قصرك» . فاستشار أصحابه فى ذلك. فقال له سفيان بن سوادة: «أيها الأمير، أمكّنى من ديوان رجالك حتى أنتقى مائتى فارس ممن أثق به» . فدفع إليه الديوان فاختار منه «3» مائتى فارس «4» ، وأعطاهم وأفضل عليهم «5» ثم خرج حتى أتى نفزاوة وعليها من الجند عبد الصمد بن جناح الباهلى. فدعا سفيان بربر ذلك الموضع فأجابوه. فاجتمع إليه خلق كثير من زناتة وغيرهم وسائر القبائل. ففتح البلاد بلدا بلدا حتى بلغ قسطيلية. ثم قدم على زيادة الله فى سنة ثمانى عشرة ومائتين. فكان سعيد «6» يقول: «والله، ما رأيت أعظم بركة من تلك المائتى فارس» .(24/112)
ووقع الشتات والحسد بين الجند. ووقع الخلاف بين منصور وعامر بن نافع. فحاصره عامر بقصره بطنبذة. فجرت بينهما السفراء على أن يؤمن منصورا على نفسه وماله وحشمه «1» ، ويركب سفينة «2» فيتوجه فيها إلى المشرق، فأجابه عامر إلى ذلك. فقال له بعض أصحابه: «تفعل ذلك بنفسك ويسومك الضيم؟ انهض إلى الأربس فإنهم سامعون مطيعون» . فوافق على ذلك وخرج من القصر ليلا وسار إلى الأربس. فلما أصبح عامر لم يره بقصره، فسار فى إثره إلى الأربس وحاصره. وآخر الأمر أنه عاد سأل «3» الأمان على أن يتوجه إلى المشرق ويركب فى سفينة من تونس. وخرج إلى عامر فوجه معه خيلا. وأمر صاحب الخيل أن يأخذ به على طريق قرنة «4» وأن يصيّره فى سجنها. ففعل ذلك وحبسه بها عند حمديس بن عامر «5» . ثم كتب عامر إلى ابنه أن يضرب عنقه ففعل. وضرب عامر عنق أخى منصور.
وصار أمر الجند إلى عامر بن نافع فظن أن الأمور تستقيم له.
فكتب إليه زيادة الله كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان.
فكتب إليه عامر يعدد عليه مساوئ أفعاله، ويقول فى آخره:
«ما بينى وبينك موادّة حتى تضع الحرب أوزارها ويحكم الله(24/113)
بيننا وهو خير الحاكمين» . ثم اختلف الجند على عامر، وانتقض عليه أمره، ووجد عليه قواد المضرية، لما صنع بمنصور وأخيه، فنافروه وحاربوه. وخالفه عبد السلام بن المفرّج «1» ، وكان قد استولى على باجة وبايع له جماعة من الجند. وزحف إلى عامر فاقتتلوا، فانهزم عامر، ومضى إلى قرنة، وتفرق شمل الجند وأمر زيادة الله يعلو.
ثم اعتل عامر فلما أيقن بالموت استدعى بنيه وقال لهم:
«يا بنى، ما رأيت فى الخلاف خيرا. فإذا أنا مت ودفنتمونى فلا تعرّجوا على شى حتى تلحقوا بزيادة الله، فهو من أهل بيت عفو. وأرجو أن يسركم «2» ويقبلكم أحسن قبول» . فلما مات، فعلوا ذلك وأتوا زيادة الله. وجعل الجند يتسالون «3» إلى زيادة الله ويستأمنون، وهو يؤمنهم ويحسن إليهم.
وأما عبد السلام فقاتلته عساكر زيادة الله وحصروه وضايقوه فوجد ميتا فقيل مات عطشا. فبعثوا برأسه إلى زيادة الله.
واستقامت إفريقية وصفت بعد أن دامت الفتنة ثلاث عشرة سنة.
قال: ثم أمر زيادة الله ببناء المسجد الجامع بالقيروان(24/114)
وهدم ما كان بناه يزيد بن حاتم، وذلك فى جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين ومائتين. وذكر أن زيادة الله قال يوما لخاصته «إنى لأرجو رحمة الله، وما أرانى إلا أفوز بها إذا قدمت عليه يوم القيامة وقد عملت أربعة أشياء: بنيت المسجد الجامع بالقيروان وأنفقت عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنيت قنطرة باب أبى الربيع، وقصر المرابطين بسوسة، ووليت القضاء أحمد بن أبى محرز» .
وفى أيام زيادة الله فتحت صقلية، وذلك أنه وجه إليها أسد ابن الفرات القاضى فى عشرة آلاف. فزحف إليه ملكها فى مائة وخمسين ألفا. فهزمه وفتحها. واستعمل عليها زيادة الله محمد ابن عبد الله بن الأغلب.
وكانت وفاة زيادة الله فى يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت من شهر رجب سنة ثلاثة وعشرين ومائتين، وهو ابن إحدى وخمسين سنة. وكانت ولايته على إفريقية إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام.
وكان من أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم بيانا، وكان يعرب كلامه ولا يلحن من غير تشادق ولا تقعير. وكان يقول الشعر الحسن الجيد.
حكى «1» أن رسولا أتاه من أبى عبد الله المأمون بغير(24/115)
يحب. فكتب جواب الكتاب وهو سكران، وفى آخره أبياتا، وهى:
أنا النار فى أحجارها مستكنّة ... فإن كنت ممن يقدح الزّند فاقدح
أنا الليث يحمى غيله بزئيره ... فإن كنت كلبا حان يومك فانبح
أنا البحر فى أمواجه وعبابه ... فإن كنت ممن يسبح البحر فاسبح
فلما صحا بعث فى طلب الرسول ففاته. فكتب كتابا آخر فيه تلطف. فوصل الكتاب الأول والثانى. فأعرض المأمون عن الأول وأجاب عن الثانى بكل ما أحب.
وله حكايات حسنة تدل على عفوه وصفحه وحلمه. فمن ذلك أنه بلغ أمّه جلاجل أن أخت عامر بن نافع قالت: «والله لأجعلنّ جلاجل تطبخ لى الفول بيصارا» . فلما ظفر ابنها زيادة الله بالقيروان، أمرت جلاجل بفول فطبخ بيصارا وبعث منه إليها «1» مع بعض خدمها، فوضع بين يديها، وقالت الجارية التى أحضرته إليها: «سيدتى تسلم عليك وتقول لك: قد طبخت هذا لك لأبر قسمك» . فأوحشها ذلك وقالت: «قولى لها: قد قدرت فافعلى ما شئت» . فبلغ ذلك زيادة الله فقال لأمه: «قد ساءنى ما فعلت يا أم، إن الاستطالة(24/116)
مع القدرة لؤم ودناءة، وقد كان أولى بك أن تفعلى غير هذا» .
قالت: «نعم، سأفعل ما يرضيك ويحسن الأحدوثة عنا» .
وبعثت إليها بكسوة وصلة وألطاف. ورفقت بها حتى قبلت ذلك وطابت نفسها.
ذكر ولاية أبى عقال «1» الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولما توفى زيادة الله ولى أخوه أبو عقال، وهو الملقب بخزر «2» . وكان فى مبدإ ولاية أخيه زيادة الله قد خافه على نفسه لأن الأغلب كان شقيق عبد الله. فخشى أن يطالبه زيادة الله بفعل أخيه فاستأذنه على الحج، فأذن له. فخرج وأخرج معه ابنى أخيه عبد الله، وهما محمد وإبراهيم. فحج وأقام بمصر. ثم كتب إلى زيادة الله «3» يستعطفه ويستميله. فقدم إليه «4» ، فأكرمه وأحسن إليه. وجعل أمور دولته بيده.
فلما مات زيادة الله وصار الأمر إليه، لم يكن فى أيامه حروب فأمن الجند وأحسن إليهم. وغير أحداثا كثيرة كانت للعمال، وأجرى على العمال الأرزاق الواسعة والعطايا الجزيلة. وقبض أيديهم عن أموال الناس، وكفّهم عن أشياء كانوا يتطاولون إليها.
وقطع النبيذ من القيروان.(24/117)
وتوفى فى يوم الخميس لسبع «1» بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وعشرين ومائتين. فكانت ولايته سنتين وتسعة أشهر وتسعة أيام «2» . وكان شبيها بجده الأغلب فى الخلق والخلق.
ذكر ولاية أبى العباس محمد بن الأغلب ابن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولى بعد أبيه، وكان من أجهل الناس، لكنه أعطى فى إمارته ظفرا على من ناوأه. وقلّد أخاه كثيرا من أعماله. وكان قد غلب عليه وتولى أموره ووزارته ابنا على بن حميد، وهما أبو عبد الله وأبو حميد. فساء ذلك أبا جعفر أخاه، وعظم عليه وعلى أصحابه، وحسدوهما على مكانهما من الأمير محمد وكان المقدم عند أبى جعفر أحمد بن الأغلب نصر بن حمزة الجروى. فأخذ أبو جعفر فى التدبير على أخيه الأمير محمد.
وصانع رجالا «3» من مواليه، ومحمد فى غفلة عن ذلك قد اشتغل باللهو واللعب وانهمك على الملاذّ. فلما اجتمع لأحمد من أصحابه ما علم أنه يقوم بهم ركب فى وقت الظهيرة- وقد خلا باب محمد من الرجال- فهجم على أبى عبد الله بن على بن حميد فقتله، وعلا الصياح. فبلغ الخبر محمدا فقصد قبة عمه زيادة(24/118)
الله. ووقع القتال بين رجال الأمير محمد ورجال أخيه أحمد.
فجعل أصحاب أحمد يقولون لأصحاب محمد: «ما لكم تقاتلون؟
لا طاعة إلا طاعة محمد. إنما قمنا على أولاد على بن حميد الذين قهروكم واستأثروا بمال مولاكم دونكم. وأما نحن ففى الطاعة ما خلعنا منها يدا» . فلما سمعوا ذلك فشلوا عن القتال.
ولما رأى محمد مادهمه- وهو على غير استعداد- جلس فى مجلس العامة. وأذن لأخيه أحمد والذين معه من الرجال بالدخول، فدخلوا عليه. فعاتب أخاه أحمد فقال له: «إن أولاد على بن حميد كادوا الدولة وأرادوا زوال ملكك، فقمت غضبا لك وحذرا على أيامك» . فلم يجد محمد بدا من مداراته والإغضاء عما فعل. فتحالفا أن لا يغدر أحد منهما بصاحبه «1» . واصطلحا على أن يدفع محمد لأخيه أحمد أبا حميد بن على، وكان قد لجأ «2» إليه فى وقت قتل أخيه. فدفعه إليه على أن أحمد لا يقتله ولا يصله بمكروه.
فانصرف إلى منزله.
وعظم قدر أحمد، واشتد سلطانه، وجعل الدواوين إلى نفسه.
وصار الأمر كله له، ولم يبق لمحمد من الإمارة إلا مجرد الاسم وعزل أحمد حجاب محمد، وجعل على بابه حجابا من قبله.
ووكل خمسمائة من عبيده ومواليه ببابه. وعذب أبا حميد، وأخذ أمواله. ووجه به مع أبى نصر مولى إبراهيم بن الأغلب، وأمره أن يسير به إلى طرابلس ويبعثه إلى مصر. وأسرّ إليه أنه إذا(24/119)
صار بقلشانة يقتله. ففعل ذلك وخنقه حتى مات. وحمله على نعش إلى قلشانة. وأحضر من شهد أنه لا أثر فيه ولا جرح وقال:
«إنه سقط عن الدابة فمات» .
قال: ولما صارت الأمور إلى أحمد قدم نصر بن أحمد الجروى واستوزره. وكان داود بن حمزة الرادرى يظن أنه يكون المقدم عليه لأنّه كان المدبر لهذا الأمر. ففسدت نيته وأخذ فى العمل على أحمد ومكاتبة محمد، وكان محمد قد ترك اللهو وأخذ فى الحيلة والتدبير على أخيه أحمد. وكان محمد قد ولى سالم ابن غلبون الزاب. فلما كان من أمر أحمد ما كان، خالف سالم على أحمد، ولم يطعه. وجعل محمد يبعث إلى وجوه قرابته وجنده وعبيده ويسألهم نصرته ويعدهم ويمنّيهم. فكان ممن سعى فى نصرة محمد وأتقن له الأمور وأحسن التدبير أحمد بن سفيان بن سوادة. وكان يقال لأحمد: «إن أخاك يعمل عليك» . فلا يصدق، وعنده أنه قد أتقن التدبير. وكان من حال محمد أنه إذا جاءه رسول من أخيه أحمد يستدعى كأسا كبيرا ويمسكه بيده، ويحضر الرسول فيتوهم أنه يشرب. فإذا انصرف رد الكأس فلا يشربه.
فلما كان فى اليوم الذى عزم محمد فيه على الوثوب على أخيه، بعث إلى أحمد بن سفيان. فجعل يسلك من واعده من العبيد والموالى وغيرهم حتى أدخلهم من أبواب المدينة فى الأكسية. وجعلهم يحملون على رؤوسهم جرار الماء حتى اجتمع منهم قبل الزّوال ثلاثمائة رجل. فصيّرهم أحمد بن سفيان فى داره وأعطاهم السلاح(24/120)
وكان أحمد إذا قيل له: «إنك تراد ويعمل عليك» . غضب على من يقول ذلك. واشتغل بالشراب كما كان أخوه فى أول أمره. وكان جماعة ممن نصر محمدا واعدوه أن ينزلوا بقصر الماء، والأمارة بينهم أن يسمعوا الطبل ويروا الشمع فى أعلى القبة. وكان أحمد قد دخل الحمام فى ذلك اليوم وأطال اللّبث فيه. وأتاه عثمان بن الربيع بعد الظهر؛ فأخبره أن أخاه يريده تلك الليلة، وأنه أعد رجالا بقصر الماء. فلم يصدق ذلك، ووجه خيلا إلى قصر الماء فلم يجدوا به أحدا. وكان الموعد المغرب، فازداد أحمد تكذيبا للأخبار وقلة الاكتراث بما يراد به.
فلما قربت صلاة المغرب، وجه محمد خادما له إلى جماعة رجال أخيه الذين كان قد جعلهم ببابه، فقال: «يقول لكم الأمير: إنى أحببت برّكم وإكرامكم، فاجتمعوا حتى أبعث إليكم طعاما وشرابا. فاجتمعوا، وبعث إليهم بطعام وشراب، فأكلوا وشربوا حتى إذا ظنّ أن الشراب قد عمل فيهم، أرسل الخادم إليهم وقال: يقول لكم الأمير: إنى قد أحببت أن أحلّى لكم سيوفكم، فمن كان عنده سيف فليأت به» . فجعلوا يتسابقون بسيوفهم طمعا فى ذلك. فلما كان رقت المغرب وغلّقت أبواب القصر، أتاهم عامر بن عمرون «1» القرشى فيمن معه. فوضعوا فيهم السيوف فقتلوهم «2» عن آخرهم.
ثم أمر بالطبل فضرب، والشموع فأوقدت، فأقبل أصحابه(24/121)
من كل ناحية إلى نصرته. وخرج أحمد بن سفيان بن سوادة فجعل يقتل من علم أنه من ناحية أحمد. وأقام القتال بين أحمد بن سفيان وأصحاب أحمد بن الأغلب بقية ليلتهم كلها. وبعث أحمد ابن سفيان إلى القيروان يستنصر بأهلها. فأقبلوا إليه فى جموع عظيمة وهم ينادون بطاعة محمد. فانهزم أصحاب أحمد بن الأغلب ووضعت السيوف فيهم، وهرب أحمد إلى داره.
وكان فى حبسه خفاجة بن سفيان بن سوادة، فأخرجه وقال له: «الله الله فى دمى وحرمى، فإنها حرمك» . فقال له خفاجة: «حبستنى ظلما منذ سبعة أشهر» . فقال: «ليس هذا وقت العتاب فأغثنى» فقال له خفاجة: «أعطنى فرسا وسلاحا» ففعل فركب خفاجة. وصاح به الناس: «يا خفاجة، يا ابن شيخنا ومن نكرمه ونحفظه، إنما أخرجك هذا الملعون من حبسه الساعة بعد سبعة أشهر، فما هذه النصيحة له؟» فانصرف إلى أحمد فقال له: «أما إنه لا طاقة لك بالقوم، فاستأمن إلى أخيك من قبل أن تهلك» قال: «وكيف لى بذلك؟ فكن أنت رسولى إليه» . فسار إليه واستأمن له.
فأمنه محمد وأتاه.
فأمر محمد بالخلع على أهل القيروان ومن نصره. فخلع عليهم جميع ما كان فى خزائنه «1» ، ورجع إلى ثياب حرمه.
وأمر أهل القيروان بالانصراف. ولما صار أحمد إلى أخيه(24/122)
محمد عدّد عليه ما فعل ثم أخرجه إلى مصر، وسار إلى العراق.
قال: وبنى محمد بن الأغلب القصر الذى بسوسة فى سنة ثلاثين.
وفى أيامه توفى سحنون «1» بن سعيد فى سنة أربعين ومائتين، ودفن بباب نافع. وكان يتولى المظالم بمدينة القيروان.
قال: واعتل محمد بن الأغلب فأقام بعلته أربعة أشهر. ثم توفى فى يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرم «2» سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وله ست وثلاثون سنة وولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.
ذكر ولاية أبى ابراهيم أحمد بن محمد ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب
قال: ولما مات محمد، ولى بعده ابنه أحمد. وكانت أيامه كلها ساكنة، لم يحدث فيها إلا ما كان بناحية طرابلس.
وذلك أن قبائل البربر تجمعت، فكان بينهم وبين عاملها عبد الله ابن محمد بن الأغلب حروب كثيرة. فكتب إلى أبى إبراهيم بذلك فأرسل إليهم العساكر، فكانت بينهم وبين البربر حروب شديدة. ثم انهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا. ولأبى إبراهيم(24/123)
آثار عظيمة فى المبانى بإفريقية. فمن ذلك بنيان المأجل الكبير بباب تونس. وهو بمعنى الصهريج عندنا. وزاد فى جامع القيروان البهو والمجنّبات والبقية. وبنى المأجل الذى بباب أبى الربيع والمأجل الكبير الذى بالقصر القديم، وبنى المسجد الجامع بمدينة تونس. وبنى سور مدينة سوسة. وكان آخر ما عمل المأجل الذى بالقصر القديم. فلما فرغ اعتل أبو إبراهيم فكان يسأل: هل دخله الماء، إلى أن دخله، فعرفوه فسر به وأمرهم أن يأتوه بكأس مملوءة منه، فشربها وقال: «الحمد لله، الذى لم أمت حتى كمل أمره» . ثم مات إثر ذلك. ولم يزل أهل القيروان ومن دخلها يترحمون عليه.
وفى أيامه فتحت قصريانة، وهى من أعظم مدن الروم بصقلية.
وكانت وفاة أبى إبراهيم يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت «1» من ذى القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين وله تسع وعشرون سنة «2» . ومدة ولايته سبع سنين وعشرة أشهر وخمسة عشر يوما «3» .
وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة، جميل الأثر، كريم الأخلاق والأفعال، من أجود الملوك وأسمحهم وأرفقهم برعيته، مع دين وإنصاف للمظلوم، هذا مع حداثة سنه. وكان يركب ليالى شعبان وشهر رمضان، وبين يديه الشمع. فيخرج من(24/124)
القصر القديم حتى يدخل من باب أبى الربيع، ومعه دواب محملة دراهم. فيأمر بإعطاء من لقيه حتى ينتهى إلى المسجد الجامع بالقيروان. ويقصد دور العلماء والصالحين فيأمر بقرع أبوابهم.
فإذا خرجوا إليه أمر بإعطائهم من ذلك المال.
ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن محمد «1» ابن الأغلب بن ابراهيم بن الأغلب
ولى بعد أخيه. ولم تطل أيامه حتى توفى. وكانت وفاته ليلة السبت لعشر «2» بقين من ذى القعدة سنة خمسين ومائتين فكانت ولايته سنة واحدة وسبعة أيام «3» . وكان عالما، عاقلا جميلا، حسن السيرة، جميل الأفعال، ذا رأى ونجدة وجود وشجاعة، رحمه الله تعالى.
ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أحمد بن محمد ابن الأغلب المكنى بأبى الغرانيق
ولى بعد عمه زيادة الله.
وكان مشغوفا بالصيد، فلقب أبا الغرانيق، وذلك أنه بنى(24/125)
قصرا فى السهلين لصيد الغرانيق «1» ، أنفق فيه ثلاثين ألف دينار «2» .
ولقّب فى آخر أيامه بالميت، وذلك أنه اعتل وطالت علته، فكان يشنّع عليه بالموت فى كثير من الأيام.
وكان فى أيامه حروب منها اضطراب ثغر الزاب عليه. فأخرج إليه أبا خفاجة محمد بن إسماعيل فى عسكر عظيم. ففتح فتوحات عظيمة فى طريقه. وخافه جميع البربر ولم يقم أحد له إلى أن وصل تهودة وبسكرة. وأعطاه أهل تلك النواحى أزمة أمورهم.
ثم نهض إلى طبنة، وأتى حى بن مالك البلوى فى خيل بلزمة، فصار فى عسكره.
ثم نهض إلى مدينة أبّة بجميع عساكره فنزلها. فخافه البربر وسمعوا له وأطاعوا «3» وبذلوا له الرهائن والخراج والعشور والصدقات فلم يقبل منهم.
ومضى يريد بنى كملان من هوارة، وكبيرهم فى ذلك الوقت مهلب بن صولات فتحرزوا منه، وأرسلوا إليه يطلبون الأمان، ويبذلون له كل ما طلب، فلم يقبل وقاتلهم. فلما نشبت الحرب بينهم، جرّ الهزيمة عليه حى بن مالك من أهل بلزمة «4» . فقتل أبو خفاجة فى جماعة من القواد وكثير من الناس. ووصلت الهزيمة إلى طبنة.(24/126)
وفى أيامه فتحت مالطة، وهى جزيرة فى البحر على يد أحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب.
وتوفى أبو عبد الله محمد فى يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن أربع وعشرين سنة.
وكانت مدة ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما «1» .
وكان غاية فى الجود، مسرفا فى العطاء، حسن السيرة فى الرعية رفيقا بهم، غير أن اللهو والطرب والاشتغال بالصيد واللذات والشراب غلب عليه، حتى إنه مرة سكر وهو بمدينة سوسة وقد ركب فى البحر حتى صار إلى جزيرة قوصرة. فلما ذهب عنه السكر انصرف وهو خائف. وما زال على الانهماك طول عمره. ولم تكن له همة فى جمع المال، فلما مات لم يجد إخوته فى بيت المال شيئا.
ذكر ولاية أبى اسحاق ابراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب
قال ابن الرقيق: كان أبو الغرانيق قد عقد لابنه أبى العقال ولاية العهد، وبايع له، واستحلف إبراهيم بن أحمد أخاه خمسين يمينا بجامع مدينة القيروان أن لا ينازعه فى ملكه، وذلك بحضرة مشيخة بنى الأغلب وقضاة القيروان وفقهائها. فلما مات أبو الغرانيق، أتى أهل القيروان إلى إبراهيم وهو إذ ذاك وال عليهم فقالوا له: «قم فادخل القصر فإنك الأمير» . وكان إبراهيم قد أحسن السيرة فيهم.(24/127)
فقال: «قد علمتم أن أخى عقد «1» البيعة لابنه، واستحلفنى خمسين يمينا أن لا أنازع ولده ولا أدخل قصره» . فقالوا: «نحن الدافعون له عن الأمر، والكارهون ولايته، والمانعون له. وليست له فى أعناقنا بيعة» . فركب من القيروان ومعه أكثر أهلها. فحاربوا أهل القصر حتى دخله إبراهيم. وبايعه شيوخ القيروان ووجوهها وجماعة من بنى الأغلب.
فلما ولى أمر بإنفاذ الكتب إلى العمال والجباة بحسن السيرة والرفق بالرعية. وولىّ حجابته محمد بن قرهب.
وفى صفر سنة ثلاث وستين ومائتين ابتدأ إبراهيم فى بناء رقّادة وانتقل إليها فى السنة. قال: ودورها أربعة عشر ألف ذراع «2» .
وليس بإفريقية أرق هواء ولا أعدل نسيما ولا أطيب تربة من موضعها.
قال ابن الرقيق: وقد سمعت من منتقرى «3» المعانى من يزعم أنه يعرض له فيها الضحك من غير عجب، والسرور من غير سبب.
وفى أيامه فتحت سرقوسة من صقلية فى شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، على يد أحمد بن الأغلب، وقتل فيها أكثر من أربعة آلاف علج. وأصاب من الغنائم ما لم يوجد فى مدينة من مدائن الشّرك. ولم ينج من رجالها أحد. وكان مقام المسلمين عليها إلى أن فتحت تسعة أشهر. وأقاموا بعد فتحها شهرين ثم هدموها وانصرفوا وفى سنة أربع وستين، وثب الموالى على إبراهيم وعقدوا الخلاف(24/128)
فى القصر القديم، ومنعوا من يجوز إلى رقادة من القيروان «1» .
وسبب ذلك أن إبراهيم أمر بقتل رجل منهم يقال له مطروح بن بادر «2» فخالفوا عليه لذلك. فأقبل إليهم أهل القيروان فى عدد لا يحصى. فارتدع الموالى وسألوا الأمان فأمّنوا. فلما جاءوا وقت «3» إعطاء الأرزاق، جلس إبراهيم بقصر أبى الفتح، وحضر جميع العبيد «4» لقبض أرزاقهم. فكلما تقدم رجل نزع سيفه حتى أخذوا كلهم فقتل أكثرهم بضرب السياط وصلبوا. وحبس بعضهم بسجن القيروان حتى ماتوا فيه. ونفى بعضهم إلى صقلية. وأمر بشراء العبيد فاشترى منهم عدد كثير. وحملهم وكساهم وأخرجهم فى الحروب، فظهر منهم شجاعة وجلد وقوة.
وفى سنة خمس وستين ومائتين، تجهز العباس بن أحمد بن طولون من مصر عند خروجه على أبيه يريد برقة. واجتمع إليه الناس على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الطولونية. فأخرج إليه إبراهيم حاجبه محمد بن قرهب «5» فلقيه بوادى ورداسة. فاقتتلوا فانهزم ابن قرهب. وقدم ابن طولون إلى لبدة فأخذها. ثم نهض منها يريد طرابلس فحصرها أياما. فعزم إبراهيم على الخروج بنفسه، فلما(24/129)
صار إلى قابس لقيه ابن قرهب بالفتح وهزيمة العباس. وأخذ من أمواله كثيرا.
وفى أيامه فى سنة ثمان وستين ومائتين «1» اشتد القحط وغلت الأسعار حتى بلغ قفيز القمح ثمانية دنانير. والقفيز مقدار إردب وربع بالمصرى. فهلك الناس حتى أكل بعضهم بعضا.
وفى أيامه عصت «2» وزداجة ومنعوا صدقاتهم. فقاتلهم العامل عليهم وهو الحسن بن سفيان فهزموه حتى وصل إلى باجة. فأرسل إبراهيم حاجبه محمد بن قرهب بالجيوش إليهم. فسار ونزل بجبل من جبال وزداجة يقال له المنار «3» . فكانت خيله تخرج إليهم صباحا ومساء. فلم يزل حتى أخذ رهائنهم وأطاعوا واستقاموا.
وكانت هوارة قد عاثت فى البلاد وقطعت السبل «4» فمضى الحاجب إليهم وعرض عليهم الأمان والرجوع إلى الطاعة. فأبوا فقاتلهم وهزمهم. ونهب العسكر ما فى منازلهم وأحرقها بالنار. وعاد الحاجب ثم استأمنت هوارة بعد ذلك.
ثم تجمعت لواتة بأجمعها وحاصروا مدينة قرنة أياما وانتهبوا ما كان فيها. ومضوا إلى باجة وقصر الإفريقى. فأخرج إليهم إبراهيم محمد بن قرهب. فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب ابن قرهب وكبابه فرسه فأدركوه، وهرب من كان معه. وذلك فى ذى(24/130)
الحجة سنة ثمان وستين ومائتين «1» . فاشتد ذلك على إبراهيم، وأمر بحشد الجند والأنصار والموالى. وأخرجهم مع ابنه أبى العباس عبد الله فى سنة تسع وستين. فانتهى الخبر إلى لواتة فهربوا «2» بين يديه فلحقهم بباجة وقتلهم قتلا ذريعا. وافترق من سلم منهم فى كل ناحية.
وفى سنة ثمان وسبعين ومائتين بلغ إبراهيم أن جماعة من الخدام والصقالبة يريدون قتله وقتل أمه، فقتلهم عن آخرهم. وقتل بناته بعد ذلك.
وفى هذه السنة «3» قتل رجال بلزمة بمدينة رقادة. وكان قبل ذلك قد زحف إليهم وبادرهم «4» بنفسه فلم يتمكن منهم. فأظهر العفو عنهم ورجع. ثم وفد عليه وفدهم ووفد أهل الزاب. فأنزلهم فى رقادة فى دار عظيمة كالفندق، وأجرى عليهم نزلا واسعا، وخلع عليهم وأكرمهم، حتى اجتمع نحو ألف رجل. فأحاط بهم فامتنعوا وقاتلوا، فقتلهم عن آخرهم. وكان قتلهم سبب انقطاع دولة بنى الأغلب، لأن أهل بلزمة كانوا قد أذلوا كتامة واتخذوهم خولا وعبيدا، وفرضوا عليهم العشور والصدقات وأن يحملوا ذلك على أعناقهم.
فكان الذى صنع إبراهيم بأهل بلزمة مما أنقذ كتامة من تلك الذلة وأوجدهم السبيل إلى القيام مع الشيعى.
وفى هذه السنة أمر إبراهيم بشراء العبيد السودان، فبلغت عدتهم(24/131)
مائة ألف. فكساهم وألزمهم بابه. وجعل عليهم ميمونا وراشدا.
وقتل حاجبه ابن الصمصامة وإخوته وقرابته «1» .
وولى حجابته الحسن بن ناقد، وأضاف إليه عدة ولايات، منها إمارة صقلية.
وفى سنة ثمان وسبعين «2» أيضا اضطربت إفريقية على إبراهيم.
فخالفه أهل تونس والجزيرة وصطفورة وباجة وقمودة والأربس، وذلك فى شهر رجب ولم يجتمع أهل هذه الكور بمكان واحد بل أقام كل رئيس بمكانه «3» . ولم يبق بيد إبراهيم من إفريقية وكورها إلا الساحل الشرقى. فأمر إبراهيم بحفر الخندق على رقادة. وجمع ثقاته على نفسه. وقرب السودان من قصره. وأحضر شيخا من بنى عامر ابن نافع فشاوره فى أمره. فقال له: «إن عاجلوك قبل أن تختلف كلمتهم خفت أن ينالوا منك. وإن صبروا أمكنك منهم ما تريد» .
فلما خرج من عنده، قال إبراهيم لابنه أبى العباس: «احبسه عندك لئلا يتكلم بهذا الرأى فيصل إليهم» . فحبسه حتى ظفر بهم.
وكان سبب ظفره أنه بعث عسكره إلى الجزيرة فقتل منهم خلقا كثيرا. وأخذ رئيسها المعروف بابن أبى أحمد أسيرا. وجىء به إلى إبراهيم فقتله وصلبه. ووجه صالحا الخادم إلى قمودة فهزمهم.
وبعث إلى تونس عسكرا عظيما عليهم ميمون الخادم والحسن بن ناقد حاجبه. فانهزم أهل تونس وقتلوا قتلا ذريعا بعد قتال شديد.(24/132)
ودخل العسكر إلى مدينة تونس فانتهبوا الأموال واستباحوا الحرم وسبوهم. وبعثوا إلى إبراهيم بألف ومائتى أسير، وهم أكابر القوم ورؤساؤهم. وذلك فى شهر رمضان من السنة «1» . ووصل الخبر إلى إبراهيم فى وقته على جناح طائر. فبعث إلى قائده ألا يقطع رأس قتيل. ووجه العجل فحملت القتلى وشق بها سماط القيروان.
ذكر انتقال ابراهيم الى تونس
وفى سنة إحدى وثمانين ومائتين، أمر إبراهيم أن تبنى له بتونس قصوره ومساكنه، فبنيت. ثم انتقل إليها يوم الأربعاء لستّ بقين من جمادى الأولى «2» . وانتقل أهل بيته وجميع قواده ومواليه.
وفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، تحرك إبراهيم يريد محاربة ابن طولون بمصر. وحشد وخرج من تونس لعشر خلون من المحرم. فأقام برقادة إلى سبع بقين من صفر. ثم خرج بعساكره، فاعترضه أهل نفوسة بجمع عظيم فى النصف من شهر ربيع الأول. فكان بينهم قتال عظيم، فقتل «3» ميمون الخادم وجماعة ممن معه. ثم انهزم أهل نفوسة، وتبعهم إبراهيم فقتلهم قتلا ذريعا. وتطارح منهم خلق كثير فى البحر فقتلوا حتى احمر لون الماء من دمائهم. فقال إبراهيم «لو كان هذا القتل لله لكان إسرافا» . فقال له بعض رجاله:
«ليدع الأمير بعض من أحب من مشايخهم ويسأله عن اعتقاده.(24/133)
فإذا سأله علم أن ذلك لله» . فأحضر بعضهم، فقال: «ما تقولون فى على بن أبى طالب؟» فقال: «نقول: إنه كان كافرا «1» ، فى النار من لم يكفره» . فقال إبراهيم: «فجميعكم على هذا الرأى؟» قالوا: «نعم.» قال: «الآن طابت نفسى على قتلكم» . وجلس على كرسى وبيده حربة. فكان يقدّم إليه الرجل منهم فيقد أضلاعه من تحت منكبيه ثم يطعنه فيصيب قلبه حتى قتل منهم خمسمائة رجل بيده فى وقت واحد.
ثم تمادى إبراهيم بعد فراغه من أهل نفوسة إلى طرابلس. وكان محمد بن زيادة الله عامله عليها، وكان إبراهيم كثير الحسد له من صغره على علمه وأدبه. فقتله إبراهيم وصلبه.
ثم سار من طرابلس حتى بلغ عين تاورغا «2» . فرجع كثير ممن معه «3» إلى إفريقية، ولم يبق معه إلا أقل من النصف. فلما رأى ذلك انصرف إلى رقادة ثم إلى تونس.
وفى سنة أربع وثمانين «4» ، جهز إبراهيم ابنه أبا العباس إلى صقلية لقتال أهلها. فسار إليها فى جمادى الآخرة. فقاتله أهلها قتالا شديدا ثم انهزموا. ودخل المدينة بالسيف فقتل خلقا عظيما.
ثم عفا عن الناس وأمنهم. ثم ركب حتى جاز المجاز، وأوقع بالروم فقتل المقاتلة وسبى الذرية. ورجع إلى صقلية وقد أثخن فى الروم.(24/134)
ذكر اعتزال ابراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته
وكان سبب ذلك أن رسول الخليفة المعتضد بالله العباسى قدم عليه فى سنة تسع وثمانين «1» ومائتين من بغداد إلى تونس. فخرج إبراهيم إليه وضربت له فازة «2» سوداء فى سبخة تونس. فخلا بالرسول وكان بينهما محاورة ولم يأته بكتاب. وكان المعتضد قد أرسله على غضب وسخط لشكوى أهل تونس منه، وصياحهم على المعتضد، ووصفهم له ما صنع بهم إبراهيم، وقالوا: «أهدى إليك نساءنا وبناتنا» . فغضب المعتضد، وأمره باللحاق به وأن يعتزل عن إفريقية. وولى عليها ابنه أبا العباس.
فكره إبراهيم المسير إلى المعتضد. وأظهر التوبة، ورفض الملك، ولبس الخشن من الثياب. وأمر بإخراج من فى سجونه. وقطع القبالات «3» . وبعث إلى ابنه أبى العباس وهو بصقلية ليصير إليه الملك، ويخرج له من الأمر. فقدم عليه فى شهر ربيع الأول فسلم إليه الأمر وخرج من تونس. وأظهر أنه يريد الحج. ووصل إلى سوسة، ووجه رسله إلى بغداد بذلك. ثم بعث من يذكر رجوعه عن الحج وخروجه إلى الجهاد «4» خشية من بنى طولون لئلا تسفك بينهما الدماء. واستقر الناس، ودعاهم إلى الجهاد، ووسع على من أتاه.
وخرج من سوسة لئلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخرة.(24/135)
فنزل نوبة ففرق الخيل والسلاح على أصحابه وأمر بالعطاء. فأعطى الفارس عشرين دينارا والراجل عشرة.
وخرج من نوبة إلى طرابنش «1» فى البحر. فأقام بها سبعة عشر يوما يعطى الأرزاق لمن معه.
ثم رحل فدخل مدينة بلرم «2» لليلتين بقيتا من شهر رجب.
وأمر برد المظالم. وأقام بصقلية أربعة عشر يوما يعطى أهلها ومن بها من البحريين الأرزاق.
وارتحل لتسع خلون من شعبان. فنزل على طبرمين «3» وحاصرها.
وكان بينه وبين أهلها قتال شديد حتى أثخنت الجراح فى الفريقين.
وهمّ المسلمون بالانحياز فقرأ قارىء: «هذان خصمان اختصموا فى ربهم» . الآية «4» فحمل حماة العسكر وأهل البصائر بنيات صادقة. فانهزم الكفرة هاربين. فقتلهم المسلمون أبرح قتل، وقفوا آثارهم فى بطون الأودية ورؤوس الجبال. ودخل إبراهيم ومن معه طبرمين فقتل وسبى.
وبعث زيادة الله ابن ابنه»
أبى العباس إلى قلعة ميقش «6» .(24/136)
وبعث أبا الأغلب ولده بعسكر إلى دمنيش «1» . فوجد أهلها قد هربوا على وجوههم، فأخذ جميع ما كان بها «2» .
وبعث ابنه أبا حجر «3» إلى رمطة «4» . فطلب القوم الأمان.
وأجابوا إلى الجزية.
وبعث سعدون الجلوى بطائفة إلى لياج «5» فدعوا القوم جميعا.
فأجابوا إلى أداء الجزية. فلم يجبهم ولم يرضه إلا نزولهم عن الحصون، فنزلوا. وهدم جميع القلاع ورمى حجارتها إلى البحر.
ثم تمادى بالعساكر إلى مسّينى «6» فأقام بها يومين.
وأمر الناس بالتعدية إلى قلّورية «7» لأربع بقين من شهر رمضان وتمادى فى رحيله إلى أن قرب من مدينة كسنتة «8» . فجاءته الرسل يطلبون الأمان فلم يجبهم. وسار إلى أن وصل كسنتة وقدم العساكر وبقى فى الساقة لضعف أصابه. فنزلت العساكر بالوادى. وأمر الناس بالزحف لخمس بقين من شوال. وفرق أولاده وخاصته على(24/137)
أبوابها، فقاتلوا «1» من كل ناحية، ونصبوا المجانيق.
واشتدت علة إبراهيم، وكانت علته البطن. وعرض له الفواق فأيس أصحابه منه. فقلدوا الأمر إلى زيادة الله بن ابنه أبى العباس سرا. وكانت وفاة الأمير إبراهيم فى ليلة السبت لاثنتى عشرة «2» ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فركب القواد إلى أبى مضر زيادة الله، وهو أكبر أولاد أبى العباس بن إبراهيم، فقالوا له: «تولّ هذا الأمر حتى تصل إلى أبيك» . فقال لعمه أبى الأغلب «3» : «أنت أحق بحق أخيك» . فلم يتقدم على زيادة الله، وكان يحب السلامة.
ثم طلب أهل كسنتة الأمان، وهم لا يعلمون بوفاة الأمير، فأمّنوا.
وأقام المسلمون حتى قدم عليهم من كان توجه إلى الجهات. فلما قدموا ارتحلوا بأجمعهم وعادوا إلى مدينة بلرم. ونقلوا إبراهيم معهم فدفنوه بها «4» . وبنى على قبره قصر. وعادوا إلى إفريقية بأجمعهم.
وكان مولد إبراهيم يوم الأضحى سنة خمس وثلاثين ومائتين.
فكان عمره ثلاثا وخمسين سنة وأحد عشر شهرا وأياما «5» . ومدة(24/138)
ولايته إلى حين وفاته ثمانى وعشرين سنة وستة أشهر واثنى عشر يوما «1» .
وكان لإبراهيم محاسن ومساوى ذكرها ابن الرقيق، ونحن نذكر لمعة من محاسن أفعاله ومساوئها، تدل على ما كان عليه. ونترك الإطالة جريا على القاعدة «2» فى الاختصار.
قال: كان على حالة محمودة من الحزم والضبط للأمور. وأقام سبع «3» سنين من ولايته، وهو على ما كان عليه أسلافه من حسن السيرة وجميل الأفعال، إلى أن خرج لمحاربة العباس بن طولون. فلما كفى مؤنته تغيرت حاله وحرص على جمع الأموال. ثم اشتد أمره فأخذ فى قتل أصحابه وكفاته وحجابه. ثم قتل ابنه وبناته وأتى بأمور لم يأت غيره بمثلها.
فمن محاسن أعماله أنه كان أنصف الملوك للرعية، لا يرد عنه متظلم يأتيه «4» . وكان يجلس بعد صلاة الجمعة، وينادى مناديه:
«من له مظلمة» . فربما لم يأته أحد لكفّ بعض الناس عن بعض.
وكان يقصد ذوى الأقدار والأموال فيقمعهم ويقول: «لا ينبغى أن يظلم إلا الملك، لأن هؤلاء إذا أحسوا من أنفسهم قوة بما عندهم من الأموال لم يؤمن شرّهم وبطرهم. فإذا كف الملك عنهم وأمنوا دعاهم ذلك إلى منازعته وإعمال الحيلة عليه. وأما الرعية فهم مادة الملك،(24/139)
فإن أباح ظلمهم لم يصل إليه نفعهم، ولحقه الضرر، وصار النفع لغيره» .
ووقف له رجلان من أهل القيروان، وهو بالمقصورة فى جامع رقادة. فأدناهما إليه وسألهما عن حالهما فقالا له: «كنا شريكين للسيدة. «يعنيان أمه» فى جمال وغيرها. فاحتبست لنا ستمائة دينار» .
فأرسل إليها خادما فقالت: «نعم هو كما ذكرا إلا أن بينى وبينهما حسابا. وإنما احتبست هذا المال حتى أحاسبهما. فإن بقى عليهما شىء وإلا دفعت مالهما إليهما» . فقال للخادم: «ارجع إليها وقل لها: والله لئن لم توجهى بالمال وإلا أوقفتك الساعة معهما بين يدى عيسى بن مسكين» . فوجهت بالمال إليه. فدفعه إليهما وقال:
«أما أنا فقد أنصفتكما فيما ادعيتما، فاذهبا واقطعا حسابها وإلا فأنتما أعلم» .
وكان إذا تبين له الظلم قبل أحد من أهل بيته وولده بالغ فى عقوبته والإنصاف منه. فكان ولده ورجاله يوم الخميس يأمرون «1» عبيدهم ورجالهم أن يطوفوا فى الأزقة والفنادق، ويسألوا: هل أتى شاك أو متظلّم من عبد أو وكيل؟ فإذا وجدوا أحدا أتوا به إلى دار ولد الأمير أو قرابته فينصفه.
ومن مساوىء أفعاله أنه أسرف فى سفك دماء أصحابه وحجابه حتى يقال إنه افتقد منديلا كان يمسح به فمه من شرب النبيذ- وكان قد سقط من يد بعض جواريه فأصابه خادم- فقتله وقتل بسببه ثلاثمائة خادم. وهذا غاية فى الجور ونهاية فى الظلم.(24/140)
وقتل ابنه المكنى بأبى الأغلب «1» لظنّ ظنّه به، فضرب عنقه بين يديه صبرا. وقتل ثمانية إخوة كانوا له رجالا، ضربت أعناقهم بين يديه صبرا. وكان أحدهم ثقيل البدن فسأله واسترحمه. فقال:
«لا يجوز أن تخرج عن حكم الجماعة» . وقتله. ثم قتل بناته.
وأتى بأمور لم يأت بها أحد قبله ولم يتقدمه إلى مثلها ملك ولا أمير.
فكانت أمه إذا ولد له ابنة من أحد جواريه أخفتها عنه وربتها حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جارية. فقالت له ذات يوم، وقد رأت منه طيب نفس: «يا سيدى، قد ربيت لك وصائف ملاحا، وأحب أن تراهن» . فقال: «نعم، قرّبيهن منى» . فأدخلتهن إليه فاستحسنهن. فقالت: «هذه ابنتك من جاريتك فلانة، وهذه من فلانة» . حتى عدّتهن عليه. فلما خرج قال لخادم له أسود كان سيافا يقال له ميمون: «امض فجئنى برؤوسهن» . فتوقف استعظاما منه لذلك. فسبّه وقال: «امض وإلا قدمتك قبلهن» . فمضى إليهن.
فجعلن يصحن ويبكين ويسترحمن، فلم يغن ذلك عنهن شيئا. وأخذ رؤوسهن وجاء بهن معلقة بشعورهن، فطرحها بين يديه.
ومن قبيح «2» أفعاله ما كان عليه من أمر الأحداث، وكان له نيّف وستون حدثا. وقد رتب لكل واحد منهم مرقدا ولحافا. فإذا جاء وقت النوم، طاف عليهم الموكل بهم فسقى كل واحد منهم ثلاثة أرطال، وينام كل واحد منهم فى مكانه. فبلغه أن بعضهم يمشى فى الليل إلى بعض. فجلس بباب القصر على كرسى وأمر بإحضارهم.(24/141)
فبعضهم أقر وبعضهم جحد، حتى مر به صبى كان يحبه فقال:
«والله يا مولاى ما كان من هذا شىء» . فضربه بعمود من حديد فطار دماغه. وأمر بتنور فأحمى. فكان يطرح فيه كل يوم خمسة أو ستة حتى أفناهم. وأدخل عددا منهم الحمام وأغلق عليهم البيت السخن، فماتوا من ساعتهم.
وقتل بناته وجواريه بأنواع من العذاب: منهن من بنى عليها البناء حتى ماتت جوعا وعطشا، ومنهن من أمر بخنقها، ومنهن من ذبحها، حتى لم يبق فى قصره أحد. فدخل على أمه فى بعض الأيام فقامت إليه ورحبت به. فقال لها: «إنى أحب طعامك» . فسرت بذلك وأحضرت الطعام. فأكل وشرب وانبسط. فلما رأت سروره قالت له: «إن عندى وصيفتين ربيتهما لك وادخرتهما لمسرتك. وقد طال عهدك بالأنس بعد قتل الجوارى وهما يحسنان القراءة بالألحان.
فهل لك أن أحضرهما للقراءة بين يديك؟» . قال: «افعلى» .
فأمرت بإحضارهما فأحضرتا. وأمرتهما بالقراءة فقرأتا أحسن قراءة. ثم قالت له أمه: «هل لك أن ينشداك الشعر؟» قال:
«نعم» . فغنتا بالعود والطنبور أبدع غناء حتى عمل فيه الشراب وأراد الانصراف. فقالت له: «هل لك أن تمشيا خلفك حتى تصل إلى مكانك ويقفا على رأسك ويؤنساك، فقد طال عهدك بالأنس» . قال:
«نعم.» فمضى وهما خلفه. فلم يكن إلا أقل من ساعة حتى أقبل خادم وعلى رأسه طبق وعليه منديل. فظنت أنه وجه إليها بهدية.
فوضع الخادم الطبق بين يديها ورفع المنديل، وإذا برأسيهما.(24/142)
فصرخت أمه وغشى عليها. وأفاقت بعد ساعة طويلة، وهى تدعو عليه وتلعنه. وأخباره فى أمثال «1» هذا طويلة.
وفى أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعى الداعى، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله عز وجل.
ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن ابراهيم «2» ابن أحمد بن محمد بن الأغلب
ولى الأمر كما قدمناه فى حياة أبيه ثم استقل بالأمر بعد وفاته.
وكان على خوف شديد من أبيه لسوء أخلاقه وجرأته على قتل من قرب منه أو بعد. فكان يظهر له من الطاعة والتذلل أمرا عظيما. فكان إبراهيم يكرمه ويفضله على سائر أولاده.
وكانت ولايته بعد أبيه فى يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فجلس للناس للمظالم «3» .
وليس الصوف، وأظهر العدل والإحسان والإنصاف. ولم يسكن قصر أبيه. ولكنه اشترى دارا مبنية بالطوب فسكنها إلى أن اشترى داره التى عرف بها.
وخاف من قيام ابنه زيادة الله عليه فحبسه هو وخلقا من رجاله.(24/143)
وولى أبا العباس محمد بن الأسود الصدينى «1» قضاء القيروان والأحكام والنظر فى العمال وجباة الأموال. فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان قويا فى قضائه، شديدا على رجال السلطان، رفيقا بالضعفاء والمظلومين. ولم يكن واسع العلم، فكان يشاور العلماء، فلا يقطع حكما إلا برأى ابن عبدون «2» القاضى. وكان يظهر القول بخلق القرآن فكرهه العامة.
ولم تطل أيام أبى العباس حتى وثب به ثلاثة من خدمه كان زيادة الله قد وضعهم عليه، فقتلوه وهو نائم. وأتوا بحداد إلى زيادة الله ليقطعوا قيده ويسلموا عليه بالإمارة. فخاف أن يكونوا دسيسا عليه من أبيه، فأبى ذلك. فمضوا إلى أبيه فقطعوا رأسه وأتوا به فى الليل.
فلما رأى ذلك أمر بقطع قيوده وخرج. وكان مقتل أبى العباس فى ليلة الأربعاء آخر شعبان «3» سنة تسعين ومائتين. فكانت إمارته من حين خروج أبيه وإلى أن قتل سنة واحدة واثنين وخمسين يوما، ومنذ استقل بالأمر بعد أبيه تسعة أشهر وثلاثة عشر يوما «4» .
وكان رحمه الله شجاعا بطلا عالما «5» بالحرب، حسن النظر فى الجدل «6» . وأستاذه فى ذلك عبد الله بن الأشج «7» .(24/144)
ذكر ولاية أبى مضر زيادة الله بن أبى العباس
عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب قال: ولما أفضى إليه الأمر بعد مقتل»
أبيه، كان أول ما بدأ به أنه أمر بقتل الخصيان الذين قتلوا أباه وصلبهم، وأظهر الكراهة لفعلهم.
وأرسل من إخوته وبنى عمه تسعة وعشرين رجلا إلى جزيرة فى البحر يقال لها جزيرة الكراث «2» فقتلوا فى شهر رمضان من هذه السنة.
وبعث زيادة الله خمسين فارسا مع فتوح الرومى إلى أخيه الأحول بكتاب على لسان أبيه أبى العباس يأمره فيه بالقدوم عليه ولا يتخلف- وكان أبو العباس قد أخرجه لقتال أبى عبد الله الشيعى- فرجع. فلما وصل أمر زيادة الله بقتله فقتل. فكان ذلك أعظم فتح عند الشيعى.
قال: وأمر زيادة الله بالعطاء.
وولى الوزارة والبريد عبد الله بن الصائغ. وولى الخراج أبا مسلم «3» . وعزل القاضى الصدينى لرأيه بخلق القرآن. وكتب كتابا إلى القيروان: «إنى قد عزلت عنكم الجافى الجلف، المبتدع المتعسف، ووليت القضاء حماس بن مروان لرأفته ورحمته وطهارته وعلمه بالكتاب والسنة» .(24/145)
وفى أيامه قوى أمر أبى عبد الله الشيعى، وكان قد ظهر فى أيام جده إبراهيم بن أحمد، فاستفحل الآن أمره. وكثرت أتباعه، واشتدت وطأته. ففارق زيادة الله تونس إلى رقادة ونزلها خوفا من الشيعى أن يخالفه إليها. ولما نزلها زيادة الله عمر سورها، فلم يغن ذلك عنه شيئا لأن الشيعى لما قوى أمره بكتامة، انضمت إليه القبائل واجتمعت له الرجال، وهزم جيوش زيادة الله مرة بعد أخرى وقتل جموعه.
واستولى على البلاد: فبدأ بميلة ثم بمدينة سطيف ثم غلب على البلاد والمدن بلدا بلدا ومدينة مدينة، إلى أن غلب على مدينة الأربس، وهزم إبراهيم بن أبى الأغلب «1» . وكان زيادة الله قد جهزه لقتاله فى جيوش عظيمة، وهو آخر جيش جهزه زيادة الله. فهزمه الشيعى، وذلك فى جمادى الآخرة سنة ست وتسعين «2» ومائتين، على ما نذكره إن شاء الله مبينا فى أخبار الدولة العبيدية المنسوبة للعلوية.
ذكر انهزام زيادة الله الى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب
قال: ولما بلغت هزيمة إبراهيم بن الأغلب زيادة الله- وكان هذا الجمع آخر جمع جمعه- فتّ ذلك فى عضده. وكان برقادة فأظهر أنه أتاه الفتح وأرسل إلى السجون فأتى برجال منها. فضرب أعناقهم وأمر أن يطاف برؤوسهم فى القيروان والقصر القديم.(24/146)
وأخذ في حمل «1» أثقاله وأمواله. وأرسل إلى خاصة رجاله وأهل بيته يعرّفهم الحال وأنذرهم بالخروج معه. فأشار عليه وزيره ابن الصائغ بالمقام. وقال له: «العساكر تجتمع إليك، فأخرج العطاء يأتيك الناس. والشيعى لا يجسر أن يقدم عليك» . وشجعه وقواه وذكّره بحروب جده زيادة الله، فلم يرجع إلى قوله. فلما ألح عليه ابن الصائع، قال له زيادة الله: «هذا يصدق ما قيل عنك:
إنك كاتبت الشيعى وأردت أن تمكنه منى» . فتبرأ من ذلك وأمسك عنه.
وأخذ زيادة الله فى شد الأموال والجواهر والسلاح وما خف من الأمتعة النفيسة، وفعل رجاله كذلك واتعدوا إلى الليل. ثم انتخب زيادة الله من عبيده الصقالبة ألف خادم وجعل على وسط كل خادم ألف دينار. وحمل من يعز عليه من جواريه وأمهات أولاده.
ولما عزم على الرحيل، قامت إليه جارية من قيانه، وأخذت العود واندفعت تغنى:
لم أنس يوم الرحيل موقفها ... وجفنها فى دموعها غرق «2»
وقولها، والركاب سائرة ... تتركنى سيدي وتنطلق «3»(24/147)
فدمعت عيناه وأمر بحط حمل مال عن بغل وحملها عليه «1» .
وكانت الهزيمة بلغته بعد صلاة العصر، فما أذّن مؤذن العشاء الآخرة إلا وقد رحل من رقادة «2» . واتبعه الناس قوما بعد قوم يهتدون بالمشاعل. وأخذ طريق مصر.
وخرج عبد الله بن الصائغ بعده بثقله وحشمه وأمواله. فقصد جهة لمطة، وقد كان أعد هناك مركبا لنفسه، ليركب فيه إلى صقلية ويفارق زيادة الله خوفا على نفسه من رجاله أن يحملوه على قتله، لأنه كان معاديا لأكثرهم ورموه بمكاتبة الشيعى؛ ولم يكن كذلك.
قال: ولما علم الناس بهروب زيادة الله، أسرعوا إلى رقادة، وانتهبوا ما فيها، واحتووا على قصور زيادة الله، حتى صاروا إلى البحث عن المطامير وانتزاع حديد الأبواب وحمل الأسرّة ونقل الماعون.
وأقاموا على ذلك ستة أيام، حتى تراءت خيل الشيعى. وتخلف عن زيادة الله كثير من رجاله وعبيده وأصحاب الدواوين، فافترقوا فى البلدان.
وأما إبراهيم بن أبى الأغلب، فإنه وافى القيروان فى جماعة من انضم إليه. فلما علموا بهروب زيادة الله، تفرقوا عنه وقصد كل قوم إلى ناحيتهم. وقصد إبراهيم دار الامارة فنزل بها. ونادى مناديه بالأمان، وسكّن الناس. وأرسل إلى الفقهاء ووجوه أهل القيروان، فاجتمع على بابه خلق كثير وسلموا عليه بالإمارة. فذكر لهم أحوال(24/148)
زيادة الله، وما كان عليه من سوء الحال، وأن ذلك أخل بدولته وأجلب عدوه وسلبه ملكه. وذكر الشيعى وكتامة وشنّع عليهم أقبح الأشانيع. وطلب من الناس الإعانة. وقال: «إنما قصدت المجاهدة عن حريمكم ودمائكم وأموالكم، فأعينونى على ذلك بالسمع والطاعة، وأمدونى بأموالكم ورجالكم، وادفعوا عن حريمكم ومهجكم» . فقالوا:
«أما السمع والطاعة فهما لك ولكل من ولينا. وأما إعانتك بأموالنا فهى لا تبلغ ما تريده. والقتال فما لنا به قوة ولا معرفة. وأنت فقد ناصبت هؤلاء ومعك صناديد الحرب ووجوه الرجال ووراءك بيوت الأموال، فلم تظفر بهم. وتروم الآن ذلك منا نحن وبأموالنا «1» » .
فراجعهم فى ذلك وراجعوه، حتى قال لهم: «فانظروا ما كان فى أيديكم من أموال الأحباس والودائع فأعطونى ذلك سلفا، فأنادى بالعطاء فيجتمع إلى الناس» . قالوا: «وما يغنى عنك ذلك، ولو مددت يدك إليها لأنكر الناس عليك» .
فلما يئس منهم صرفهم والناس مجتمعون حول دار الإمارة لا يعلمون ما كان الكلام. فلما خرجوا أخبروهم بما كانوا فيه. فصاحوا به: «اخرج عنا، فما لنا بك من حاجة، ولا نسمع ولا نطيع لك» .
وجلب الغوغاء وصاحوا به وشتموه. فلما سمع ذلك، وثب من كان «2» معه فى سلاحهم واقتحموا الباب. فهرب من كان على الباب.
ومضوا يركضون دوابهم، والناس يركضون وراءهم ويرجمونهم(24/149)
بالحجارة. وانضم إلى ابن الأغلب من كان قد بقى بعد زيادة الله من رجاله ممن خاف على نفسه، ولحقوا زيادة الله.
ثم دخل الشيعى رقادة وانقرضت دولة بنى الأغلب.
ذكر ما كان من أخبار زيادة الله وقتله عبد الله ابن الصائغ ومسيره الى بلاد الشرق ووفاته
قال: ولما خرج زيادة الله من رقادة، ولحق به إبراهيم بن أبى الأغلب فيمن انضم إليه، فاجتمع «1» معه خلق كثير. فسار بهم إلى طرابلس فدخلها ونزل دار الإمارة. وافتقد ابن الصائغ فلم يره، فتحقق ما كان يرمى به من مكاتبة الشيعى. وأكثر أصحابه القول فيه. وكان قد ركب فى مركب له يريد صقلية، فصرفته الريح إلى طرابلس. فدخل على زيادة الله فعاتبه على تخلّفه. فاعتذر أنه كانت معه أثقال لم يطق حملها «2» فى البر. فلما علم أصحاب زيادة الله أنه قرب ابن الصائغ ساءهم ذلك وغمهم. فأتوه وقالوا: «إنه كذبك وإنما كان يريد صقلية» . واجتمعوا كلهم وقالوا: «هذا الذى أخرجك من ملكك، وعمل فى ذهاب دولتك، وكاتب الشيعى عليك» .
فنقم عليه وأمر بتسليمه إلى راشد- وهو أحد المتعصبين عليه- فضرب عنقه بيده. وتلاعب الصبيان برأسه حتى وقع فى قناة حمام.
وحكى عن الشيعى أنه قال: «والله ما كاتبنى قط» .(24/150)
قال: وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر «1» يوما وخرج منها يريد مصر. وكان قد نقم على إبراهيم بن أبى الأغلب لما أراده من العقد لنفسه بمدينة القيروان، فاطرحه وأعرض عنه وعن أبى المصعب بن زرارة.
وسعى بهما عنده أنهما يقعان فيه وينالان منه، وقيل له: «هذا قولهما فيك وهما معك وفى قبضتك، فكيف إذا وصلا إلى مصر؟» فعزم على قتلهما. فهربا إلى الإسكندرية واستجارا بعاملها. فأجارهما ووجه بهما إلى مصر. فدخلا قبل زيادة الله، واجتمعا بعيسى النوشرى عاملها، ووقعا عنده فى زيادة الله، وذكروا سوء فعله وأنه يطمع نفسه بمصر.
فهم النوشرى أن يصد زيادة الله عن مصر إلى أن يكتب إلى بغداد.
فأتى زيادة الله الخبر من عيون كانت له بمصر، فأرسل ابن القديم بكتاب إلى النوشري، يبجّله فيه ويسأله أن ينظر له دارا «2» ينزل فيها، ويخبره أنه يقيم إلى أن يصل إليه الرسول. ثم سار زيادة الله فى أثر ابن القديم وجاء إلى مصر «3» . فأنزله النوشرى فى دار ابن الجصاص، وأنزل رجاله فى دور كثيرة.
وأقام بمصر ثمانية أيام ثم خرج يريد بغداد. فتخلف عنه بمصر جماعة ممن كان معه «4» . فسار حتى وصل إلى الرملة ففقد وجوه رجاله، فوجدهم هربوا عنه. وهرب له غلام بمائة ألف دينار، وصار إلى النوشرى والتحق بغلمانه. فكتب زيادة الله إلى بغداد بذلك. فورد(24/151)
الجواب إليه، وإلى النوشرى يؤمر فيه أن يبعث إليه بكل من تخلف عنه. ففعل النوشرى ورد غلمانه وأصحابه إليه.
وسار زيادة الله حتى وصل إلى الرقة. وكتب إلى ابن الفرات الوزير أن يستأذن له المقتدر بالله فى الدخول إلى الحضرة. فأتاه كتاب يؤمر فيه بالإقامة فى الرقة حتى يأتيه رأى المقتدر. فأقام بها سنة فتفرق عنه رجاله وتشتت أمره. وباع عليه قاضى الرقة بعض خصيانه، وذلك أنه كان معه خصيان لهم وضاءة وجمال. فلما أقام بالرقة أدمن شرب الخمر وسماع الملاهى. فاحتسب عليه محتسب عند القاضى، وأقام بينة شهدت عليه أنه يفجر بأولئك الصقالبة. فباعهم عليه.
وتلطف زيادة الله فى الدخول على المقتدر بالله فلم يؤذن له. وصرفه إلى النوشرى وابن بسطام بمصر. وكتب المقتدر إليهما بتقويته بالرجال وأن يعطى من خراج مصر ما يقيم أود عسكره حتى يعود إلى المغرب ويطلب بثأره ويسترجع دولته.
فلما وصل إلى مصر شقها متقلدا بسيفين. فأخرجه النوشرى إلى ظاهرها «1» وقال له: «تكون متبرّزا حتى تأتيك الرجال والأموال» .
وجعل يمطله ويسوّف به ويتحفه بالهدايا والخمور. فأقام على اتباع شهواته والانهماك على لذاته حتى أنفق ما كان معه وباع السلاح والعدة.
ثم اعتل فيقال إن بعض عبيده سمه فى طعام فسقط. شعر لحيته(24/152)
ورأسه. فانصرف إلى البيت المقدس فمات هناك «1» . وتفرق آل الأغلب وانقرضت دولتهم بخروج زيادة الله من الملك.
وكانت مدة ولاية زيادة الله منذ أفضى إليه الأمر بعد أبيه وإلى أن هرب إلى رقادة خمس سنين وعشرة أشهر «2» . وانقرضت دولتهم كأن لم تكن. فسبحان من لا يزول ملكه ولا ينقضى دوامه.
وبانقراض دولة بنى الأغلب زال ملك بنى مدرار بسجلماسة، وكان له مائة سنة وستون سنة، وزال ملك بنى رستم من تيهرت، وله مائة سنة وثلاثون سنة.(24/153)
ذكر أخبار من ملك المغرب بعد بنى الأغلب الى أن قامت دولة بنى زيرى بن مناد
نحن نذكر ذلك فى هذا الموضع على سبيل التنبيه عليه لا الاستيعاب له. وسنذكره إن شاء الله تعالى مبيّنا مستوفى فى أخبار الدولة العبيدية مع ملوك مصر.
فنقول هاهنا: لما قام أبو عبد الله الشيعى على دولة بنى الأغلب، وهزم جيوشهم، واستولى على بلاد المغرب وانتزعها من زيادة الله بن أبى العباس، وظهر أبو محمد عبيد الله المنعوت بالمهدى- وهو الذى كان الشيعى يدعو له- فانخلع «1» له الشيعى من الأمر كله، وسلمه إليه فى سنة ست وتسعين ومائتين. فلما استقامت الأمور للمهدى، وتوطّد ملكه، واشتدت شوكته، قتل أبا عبد الله الشيعى وأخاه، واستقل بالأمر. وبنى مدينة المهدية وانتقل إليها. ودامت أيامه إلى أن توفى فى النصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
ثم قام بالأمر بعده ولده «2» أبو القاسم محمد المنعوت بالقائم بأمر الله. فملك إلى أن توفى فى يوم الأحد الثالث عشر من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو الطاهر إسماعيل المنعوت بالمنصور بنصر الله. وبنى المنصورية. ودامت أيامه إلى أن توفى فى يوم الجمعة آخر(24/154)
شوال «1» سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو تميم معد المنعوت بالمعز لدين الله.
ودامت ولايته ببلاد المغرب إلى أن جهز القائد جوهرا إلى الديار المصرية فملكها بعد انقراض الدولة الإخشيدية. وأنشأ القاهرة المعزية، ثم كتب إلى مولاه المعز لدين الله بذلك. فتوجه المعز إلى الديار المصرية، وكان رحيله من المنصورية ووصوله إلى سردانية «2» فى يوم الاثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وسلم إفريقية وبلاد المغرب كلها ليوسف بن زيرى بن مناد فى يوم الأربعاء لسبع «3» بقين من ذى الحجة من السنة. وأمر سائر الناس بالسمع والطاعة له. ثم رحل المعز لدين الله من سردانية لخمس خلون من صفر «4» سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
ثم سار منها إلى طرابلس وأقام بها أياما. ورحل منها يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر منها. ووصل ثغر الإسكندرية لست خلون من شعبان منها «5» . فكانت مدة مقامهم ببلاد المغرب خمسا وستين سنة وشهورا «6» . وصار أمر المغرب بعده ليوسف بن زيرى ثم لبنيه من بعده، على ما نذكره إن شاء الله عز وجل. وكانوا فى مبدإ الأمر كالنواب لملوك الدولة العبيدية بمصر. ثم استقلوا بعد ذلك بالأمر على ما يأتى من أخبارهم.(24/155)
ذكر ابتداء دولة بنى زيرى بن مناد ونسبهم ومبدأ أمرهم ومن ملك منهم الى انقضاء دولتهم
أول من ملك منهم أبو الفتوح بلكّين يوسف بن زيري. ولنبدأ بذكر نسبه وأخبار آبائه ومبدإ أمرهم.
فأما نسبه «1» فهو أبو الفتوح يوسف بن زيرى بن مناد بن منقوش «2» بن زناك بن زيد الأصغر بن واشفاك بن وزعفى «3» ابن سرى بن وتلكى بن سليمان بن الحارث بن عدى الأصغر- وهو المثنى بن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد [بن الغوث] «4» الأصغر- بن سعد- وهو عبد الله بن عوف بن عدى بن مالك بن زيد ابن شداد «5» بن زرعة- وهو حمير [الأصغر] «6» بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث «7» بن قطن بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن عمرو بن حمير- وهو العرنجج- ابن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر- وهو هود.
هكذا قال عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن الأمير تميم(24/156)
ابن المعز بن باديس فى تاريخه المترجم «بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان» . وهم المقول فيهم:
ذو والملك والتّيجان والغرر التى ... حقيق بها التيجان أن تتباهى «1»
لها معجز التّأسيس فى سدّ مأرب ... وإن كان قد أوهاه فيض نداها
لها ركن بيت الله غير مدافع ... وميقات حجّ الله غير مضاهى «2»
لها اللغة العليا التى نزلت بها ... فواتح ياسين ومبدأ طه
لها يوم بدر والنّضير وخيبر ... وأىّ مناد فى حنين دعاها
قال: وأول من دخل منهم بلاد المغرب المثنى بن المسور. وكان سبب دخوله أنه لما رأى الحبشة قد غلبت على اليمن وأخرجت حمير عن ملكها، سار إلى الشّحر فوجد به كاهنا من حمير. فلما رأي المثنى، سلم عليه وسأله عن خبره وما الذى أتى به. فأعلمه أن الحبشة غلبتهم على ملكهم. فقال له الكاهن: «اذهب إلى المغرب واتخذه قرارا. فو الله، ليكونن لولدك فيه شأن، وليملكنّ منهم جماعة، ويتوارثونه، ويطول ملكهم» . فهاج ذلك المثنى على دخول المغرب فدخله. وأعلم المثنى بنيه بذلك وأعلم بنوه بنيهم.
فمازالوا يتوقعون الملك إلى أن ولد مناد بن منقوش ونشأ، فجاء شديد القوة كثير المال والبنين. فأخذ فى الإفضال على من يمر به.
فاشتهر ذكره وشاع خبره فى الناس. وكان له مسجد يطرقه كل من يأتى إليه. فإذا خرج إلى الصلاة، سلم على من ينزل المسجد من(24/157)
الأضياف وحمله إلى داره، ويضيفه ويكرمه. ويقيم عنده ما شاء الله أن يقيم «1» . فإذا أراد الانصراف، زوده وكساه ووصله وصرفه.
فإنه على ذلك، إذ أتاه آت فقال له: «إن فى المسجد رجلا وصل فى هذه الساعة، وهو يذكر أنه جاء من الحج» . وكان وقت صلاة الظهر. فخرج مناد إلى المسجد، فصلى وسلم على الرجل، وسأله عن حاله ومن يكون ومن أين أقبل فقال: «إنه من أهل المغرب، وإنه انصرف من الحج «2» فخرج عليه لصوص، وأخذوا ما كان معه فانقطع عن أصحابه، ووصل إلى إفريقية فسمع بمناد وما يفعل «3» مع أبناء السبيل، فقصده ليعينه على الوصول إلى أهله» . فقال له مناد: «قد وصلت فأبشر بالخير إن شاء الله» .
ومضى به مناد إلى منزله، فأكل ونام. وأمر مناد بشاة فذبحت وعمل طعام ثان. وأيقظ الرجل وأتى بالطعام فأكل منه. ونظر إلى كتف الشاة فأخذه وقلبه ونظر فيه وإلى مناد، وأقبل يتعجب. فقال له مناد: «لأى شىء تنظر فى الكتف وتنظر إلى؟» . قال: «لا لشىء» .
فعزم مناد عليه أن يخبره ممّ تعجّبه. فقال: «ألك امرأة حامل؟» .
قال: «بلى» . قال: «فلك منها أولاد؟» قال: «لا ولكن من غيرها» . قال: «فاعرضهم على» . فعرضهم مناد عليه، فقال:
«ألك غير هؤلاء؟» . قال: «ليس لى ذكر إلا من رأيت» . قال:
«احتفظ بالمرأة الحامل. فو الله، لتلدنّ ولدا يملك المغرب جميعه،(24/158)
ويملك بنوه من بعده. فقال له مناد: «والله، مازلنا نتوكّف «1» زمان هذا القائم منا، رواية عندنا عن أسلافنا. وكنا لا نعلم من أى فخذ من أفخاذنا يكون. والآن فقد أنبأتنى بنبأ ما كنا ننتظر من «2» هذا القائم» . قال: وأكرم مناد الرجل وصرفه.
ذكر أخبار زيرى بن مناد
قال: ووضعت زوجة مناد حملها، فجاء ذكرا فسماه أبوه زيرى.
فخرج من أجمل مولود رآه الناس، وكذلك كان أولاده يضرب بجمالهم المثل فى المغرب فيقال: «لو أنك من بنى مناد» .
فلما صار له من العمر عشر سنين، كان من رآه يظنه أنه ابن عشرين سنة لبهائه. وكانت «3» الصبيان يدورون حوله، ويدعونه بالسلطان، ويركبون العيدان يتشبهون بالعساكر. ويأمرهم بالقتال بين يديه، يغرى بعضهم ببعض. ويأتى بهم إلى أمه فتصنع لهم الطعام. فيقف على رؤوسهم ويطعمهم ولا يأكل.
فلما تكامل شبابه وقوى أمره، جمع إليه جماعة من بنى عمه ومن كان له نجدة «4» . فكان يشن بهم الغارات على القبائل من زناتة فيقتل ويسبى ويقسم على أصحابه فلا يؤثر نفسه بشىء. فحسده كثير(24/159)
من قبائل صنهاجة لأن كل قبيل كان يطمع أن يكون القائم منهم «1» .
فلما تحققوا أنه القائم اجتمعت القبائل من صنهاجة على زيرى وحاربوه. وطالت الحرب بينهم فظفر بهم وقتل وسبى ورجع بالغنائم إلى الجبل.
فلما سمعت بذلك زناتة، اجتمعوا وتحالفوا وكاتبوا من كان خالفه من صنهاجة وحالفوهم على حرب زيرى. فاتصل ذلك به فخرج إليهم وضرب على زناتة بأرض مغيلة فى الليل وهم مطمئنون، فقتلهم وسباهم، وقطع منهم رؤوسا كثيرة.
وخرج إلى جبل تيطرى وقد امتلأت أيدي أصحابه من الغنائم، وأخذ من خيلهم ثلاثمائة فرس فحمل أصحابه عليها. وشاع خبره فى سائر أقطار المغرب وتسامع الناس به، فعظموا أمره واستهالوه.
واجتمع إليه كل من فيه منعة. فكثر أصحابه وضاق بهم المتسع.
فقالوا له: «لو رأيت مكانا أوسع من مكاننا هذا» . فأتى إلى موضع آشير، وهو إذ ذاك خال ليس فيه ساكن وفيه عيون، فاستحسنه.
ذكر بناء مدينة آشير
قال: ولما نظر زيرى إلى موضعها قال لأصحابه:
«هذا موضعكم الذى يصلح أن تسكنوه» وعزم على بنائها، وذلك فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة «2»(24/160)
أيام القائم بأمر الله بن المهدى. قال: وأمر زيرى بإحضار البنائين والنجارين من حمزة والمسيلة وطبنة. وبعث إلى القائم بأمر الله فى طلب صناع. فبعث إليه برجل لم يكن بإفريقية أعلم منه. وأعانه بعدة كثيرة من الحديد وغيره.
وشرع زيرى فى البناء إلى أن كملت المدينة.
وكانت زناتة قد استطالت على أهل تلك الناحية من أيام بنى الأغلب ثم تزايد ضررهم فى أيام المهدي والقائم.
فلما سمع القائم ببناء زيرى هذه المدينة، حمد الله لى ذلك وقال: «مجاورة العرب خير لنا من مجاورة البربر» .
وأعانه وساعده. ثم خرج زيرى إلى طبنة والمسيلة وحمزة، فنقل منها وجوه الناس إلى مدينة آشير.
فعمرت وجاءت حصنا منيعا لا يقاتل إلا من شرقيها- يحميها عشرة من الرجال، ولو لم يكن عليها سور لاستغنت بعلوها عن السور. وفى وسطها عينان تجريان بماء عذب غزير. وامتلأت البلد بالعلماء والفقهاء والتجار.
وتسامع الناس بها. ولم يكن الناس إذ ذاك يتعاملون بالذهب والفضة وإنما بالبعير والبقرة والشاة، فضرب زيرى السكة. وبسط. العطاء فى الجند، وجعل لهم الأرزاق. فكثرت الدنانير والدراهم فى أيدي الناس.(24/161)
واطمأنت نفوس أهل البادية للحرث «1» والزراعة.
وصانهم زيري مما كان ينالهم من زناتة. وتمكنت العداوة بين صنهاجة وزناتة.
ثم خرج زيري إلى المغرب، وولى أخاه ما كسن بن مناد على آشير. فلما وصل إلى جراوة، خرج إليه صاحبها موسى بن أبى العافية، وكان واليا عليها لعبد الرحمن بن محمد الأموي صاحب قرطبة، بهدية سنية وجوار وغير ذلك. وقال له: «يا مولاي، إنما استعملت نفسى لبنى أمية لأرهب بهم على زناتة، وإذ قد أتانى الله بك وجمع بينى وبينك فأنا عبدك، ومنقطع إليك، وغوثك «2» .
أنت منى قريب، وسيف قريب من أمنع من سيف بعيد» .
فقربه زيرى وأدناه وقال له: «اكتب إلى بما يعن لك.
فأنا أمدك بالعساكر متى أردت» . فشكا إليه من غمارة وقال: «إنهم قوم على غير مذهب يبيحون المحارم. وقام فيهم رجل يدّعى النبوة، وسنّ سننا من المنكرات» .
فرحل زيري إلى غمارة وصحبه موسى، فأوقع بهم. وأخذ الذي يدعى النبوة فوصل به إلى آشير. وجمع عليه الفقهاء فقالوا له: «إن كنت نبيا فما علامة نبوتك؟» . فقال:
«اسمى فى القرآن» . قالوا: «وما اسمك؟» . قال: «اسمى(24/162)
حم، واسم أبى من الله، وفى القرآن حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*
«1» . فأباحوا قتله فقتل.
قال: واتصلت المودة بين زيري والقائم بأمر الله.
وسبب ذلك أبا يزيد «2» لما حاصر المهدية ومنع الميرة عنها، كتب القائم إلى زيرى يعلمه ما الناس فيه من الجهد والغلاء. فبعث إليه زيرى بألف حمل حنطة. وأخرج معها مائتى فارس من صنهاجة وخمسمائة من عبيده. فلما وصل ذلك إلى المهدية، بعث القائم له هدية لم يسمع بمثلها كسا جليلة وخيل مسوّمة بسروج محلاة.
ذكر الحرب بين زيرى وزناتة
قال: ثم إن كمات بن مدينى الزناتى سيد زناتة جيّش واحتفل ونزل على آشير، فخرج إليه زيري. وكانت بينهم حروب يطول شرحها. وكان لزيري ولد صغير اسمه كباب استخلفه على البلد، ومنعه من الخروج لصغر سنه. فلما سمع الصياح وضرب الطبول، ليس لأمة الحرب وركب- وهو إذ ذاك لم يراهق الحلم- وخرج من باب المدينة. وكان كمات قد أبلى فى ذلك اليوم بلاء حسنا،(24/163)
وقتل جماعة من أصحاب زيري. فوقعت عين كباب عليه فقصده، وعلا عليه من فوق ربوة، فضربه على عاتقه. وكانت على كمات درع، فقدّت الضربة الدرع والعاتق، وسقطت ذراع كمات إلى الأرض. فخر صريعا والناس ينظرون إليه ولا يعلمون من هو قاتله. فلما صرع انهزم أصحابه.
ورجع كباب إلى المدينة ودخل من الباب الذي خرج منه، فسمى باب كباب. قال: ولما قتل كمات وقع التكبير والصياح. فجاء بعض الجند إلى زيري- وكان قد نظر كباب وعرفه عند ضربه لكمات- وقال له: «إن ابنك كباب قاتله» . وأتى بجماعة من أصحابه أسارى، فأمر زيري بضرب أعناقهم وصلب جماعة من كبارهم.
قال: ثم ظهر فى جبل أوراس قائم يقال له سعيد بن يوسف، وأظهر النفاق على المنصور بن القائم، فأخرج إليه زيرى ولده بلكّين فى جيش كثيف «1» . فلقيه فى موضع بفحص أبى غزالة، من غربى باغاية فاقتتلوا.
وكان سعيد قد احتفل فى جمع من هوارة وغيرهم «2» .
فهزمهم بلكين وقتل سعيدا وجماعة من أصحابه. وأنفذ برؤوسهم إلى المنصور. فقوى الحسد لزيرى من جميع القبائل، وجمعوا عليه الجموع، وكان منصورا على جميع من عانده.(24/164)
ذكر مقتل زيرى
كان مقتله فى شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة فى أيام المعز لدين الله المنصور بن القائم بن المهدى.
وسبب ذلك أن جعفر بن على صاحب المسيلة كان أميرا على الزاب كله، وأبوه هو الذى بنى المسيلة. وكبر جعفر وشمخ فكان ملكا جليلا. وكان فى طاعة المعز بن المنصور، وبينه وبين زيرى ضغائن فى النفوس وعداوة فى الصدور. ثم اتفق أن المعز لدين الله أمر ببناء دار ابن رباح، وهى المعروفة فى القيروان بدار الإمارة. فشاع عند الناس أنها بنيت لجعفر بن على، وأنه يعطى ولاية إفريقية، وأن المغرب «1» كله يعطى لزيرى. فعظم ذلك على جعفر بن على وأراد أن لا يكون لأحد معه فى المغرب ولاية. فأنفذ المعز لدين الله إليه يستدعيه، فلم يأت ولم يمتنع. فأرسل إليه ثانية فرجا الصقلبى. فلما بقى بين فرج وجعفر مقدار مرحلة، وكان فى المسيلة فخرج «2» منها وأظهر المسير إلى المعز. ثم مال بعسكره ومعه السلاح والأموال ومضى إلى زتاتة. وخلع الطاعة، وأظهر أن الذى حمله على ذلك عداوة زيرى بن مناد لأنه كان(24/165)
يؤذيه فى أعماله «1» . ووصل فرج الصقلبى إلى المسيلة، فأخبروه بخبر جعفر.
قال: ولما وصل جعفر إلى زناتة، قبلوه أحسن قبول، وقدموه على أنفسهم. فبلغ الخبر زيرى، فبادر بالخروج إلى جعفر. وزحف إليه فى عسكر عظيم من صنهاجة وغيرها، وذلك فى شهر رمضان من السنة. وزحف جعفر فى زناتة والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا. فكبا بزيرى فرسه فسقط. إلى الأرض. وكانت جولة عظيمة، وقطعت قدامه خمسمائة يمين ثم قتل. وبعث جعفر بن على أخاه يحيى إلى الحكم صاحب الأندلس يبشره بقتل زيرى. ثم أحس جعفر أن زناتة يريدون الغدر به وأنهم ندموا على قتل زيرى، فاحتال لنفسه ودخل الأندلس.
قال: وكان زيرى حسن السيرة فى الرعية والتجار.
وكان له آشير التى بناها، وأعطاه المنصور تاهرت وأعمالها وباغاية وأعمالها. وكان شديدا على البربر. وأقام على ذلك ستا وعشرين سنة. ورزق من الأولاد ما يزيد على المائة،(24/166)
كلهم أنجاد فرسان كرماء كان يكتفى بهم «1» فى بعض حروبه «2» .
ذكر أخبار أبى الفتوح يوسف بلكين ابن زيرى بن مناد
ولى الرئاسة على صنهاجة بعد مقتل أبيه. فكان أول ما بدأ به أنه- لما جاءه الخبر بقتل أبيه وهو بآشير- جمع وحشد. ونهض لطلب دم أبيه، فاجتمع له خلق كثير.
فقال: «لا يخرج معى أحد ممن حضر مقتل والدى» فلم يخرج معه منهم غير ثلاثة رجال. ومضى مسرعا حتى لحق بزناتة. فجرت بينه وبينهم حروب صبرت فيها صنهاجة صبرا جميلا. ثم انهزمت زناتة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى جميع نسائهم، ونهب أموالهم. وهرب من بقى منهم. ونزل فى موضع المعركة «3» ثلاثة أيام.
فشكا صنهاجة ريح القتلى. فنادى أن لا يطبخ فى العسكر قدر إلا على ثلاثة رؤوس من رؤوس القتلى. وجعل الجثث أكواما. وصعد المؤذنون فأذّنوا عليها. ثم رجع إلى آشير.
فلما اتصل بالمعز لدين الله ما فعل يوسف بزناتة،(24/167)
أعجبه ذلك وسر بقتلهم. فزاده على ما كان لأبيه المسيلة وأعمالها التى كانت لجعفر بن على.
ثم كتب المعز إلى يوسف فى المحرم سنة إحدى وستين وثلاثمائة فى القدوم عليه وأن لا يتشاغل بقتال أحد. وأمره أن لا يعترض «1» زناتة ولا غيرها فى هذا الوقت، وأن يستعمل اللين والرفق بزناتة، ويرد عليهم ما سبى من نسائهم وأولادهم. فامتثل يوسف ما أمره المعز به. ورد على زناتة سباياهم. وتجهز للمسير إليه. واستعمل على تاهرت وآشير والمسيلة وبسكرة وطبنة وباغاية ومجانة عمالا من عبيده. وسار حتى قدم على المعز. فلما دخل عليه، أكرمه وأثنى عليه وحمد أفعاله، وذكر فراسته فيه واختياره له. وخلع عليه خلعته التى كانت عليه. ونزع سيفه فقلده إياه بيده. وأمر أن يحمل بين يديه عند خروجه من عنده أربعون تختا من فاخر الكسا ومعها رزم مما يخلع على أصحابه. وقادوا بين يديه أربعين فرسا بالسروج المحلاة المثقلة. فشق ذلك على الكتاميين وحسدوه وتكلموا عليه عند المعز وعابوه، فلم يضره ذلك. ولما عزم المعز على الرحيل إلى مصر. أتاه بلكين بألفى جمل لحمل أمواله من إبل زناتة.(24/168)
ذكر ولاية أبى الفتوح يوسف بلكين بلاد المغرب
وهو أول ملوك بنى زيرى. وذلك أن المعز لدين الله أبا تميم معد بن المنصور بنصر الله بن القائم بأمر الله بن المهدى لما توجه من المنصورية إلى ديار مصر فى سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد أن فتحها القائد جوهر له توجه بجميع من كان فى قصره وأهل بيته. ورحل معه يوسف إلى سردانية، فسلم إليه إفريقية وأعمالها وسائر أعمال المغرب، وذلك فى يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى الحجة سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وأمر سائر الناس بالسمع والطاعة له. وفوض إليه جميع الأعمال إلا جزيرة صقلية فإنها كانت بيد أبى القاسم على بن حسن بن على ابن أبى الحسين، وكذلك طرابلس فإن المعز جعل عليها عند وصوله إليها عبد الله بن يخلف الكتامى فلم تزل بيده إلى أن توفى المعز. ثم سلمها ابنه نزار إلى يوسف هى وسرت وما والاهما فى سنة سبع وستين وثلاثمائة، بسؤال يوسف لذلك.
قال: ولما ولى المعز يوسف، ولى أيضا أبا مضر زيادة الله بن عبيد الله بن القديم نظر الدواوين بسائر كور إفريقية.
وقال ليوسف عند وداعه: «إنى تركت زيادة الله بن القديم عونا لك على جميع الأموال بإفريقية، كبّره» .
وأوصاه وصايا كثيرة كان آخرها أن قال له:(24/169)
«يا يوسف، إن نسيت مما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: لا ترفع الجباية عن أهل البلاد «1» ، ولا ترفع السيف عن البربر، ولا تولّ أحدا من إخوتك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، واستوص بأبى مضر خيرا «2» » .
ثم ودعه يوسف ورجع. فكان دخوله إلى المنصورية فى يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. فنزل بقصر السلطان وخرج إليه أهل القيروان وتلقوه، وأظهروا الفرح بمقدمه والبشر والسرور. فأخرج العمال «3» وجباة الأموال إلى سائر البلدان، وعقد الولايات للعمال.
فاستقامت الأمور بحسن تدبيره.
ولما رتب ذلك كله رحل إلى المغرب فى شعبان من السنة. فوصل إلى باغاية فولى عليها عاملا، وأمره أن يلطف بأهلها. ففعل. فدخلوا فى الطاعة. ثم خالفوا فقاتلهم العامل، فتحصنوا بمدينتهم. فهم يوسف أن يرجع إليهم، فوافاه رسول خلوف «4» بن محمد عامله على تيهرت يذكر أن أهلها خالفوا. فسار إليهم وقاتلهم.
ودخل البلد بالسيف فى شهر رمضان، فقتل وسبى ونهب وأحرق البلد.(24/170)
وأراد الرجوع إلى باغاية، فأتاه الخبر أن زناتة قد نزلوا على تلمسان. فرحل إليهم فهربوا بين يديه. فحصر تلمسان مدة فنزلوا على حكمه. فعفا عنهم من القتل، ونقلهم إلى آشير، فبنوا بقربها مدينة سموها بلنسان «1» .
ذكر ولاية عبد الله بن محمد الكاتب
كان سبب ولايته أن يوسف كان قد ولى جعفر بن يموت «2» مدينة القيروان وصبرة، وجعل معه خيلا كثيرة، عند مسيره إلى بلاد المغرب فى شهر ربيع الأول. فمات فى جمادى الآخرة. فكتب ابن القديم إلى أبى الفتوح بموته، ويسأله أن يرسل إليه بدلا منه يعاونه على أمور البلد.
فاستعمل عبد الله على ذلك. فأبى عليه وامتنع واستعفى مرة بعد أخرى. فجمع يوسف حبوس «3» بن زيرى، وكرامة بن إبراهيم، وكبّاب بن زيرى، وخلوف بن أبى محمد. وأحضر عبد الله وقال لأولئك: «ما جزاء من من عاند أمرى، وخالف رأيى ومرادى، ولم يعبأ بما كلفته؟» . قالوا: «القتل، ونحن نتولى قتله» .(24/171)
فقال: «كاتبى هذا أمرته بالرجوع إلى إفريقية إذ لا ينوب عنى أحد غيره فامتنع» . فقالوا له: «إن لم ترجع وإلا قتلناك» . فرجع كارها. وعبد الله هذا من بنى الأغلب، كان أبوه محمد قد هرب «1» إلى نفزاوة فولد بها عبد الله. فرباه خاله صالح وتعلم الخط والترسّل.
فاستكتبه زيرى وهو صبى شاب. ثم استكتبه بعده أبو الفتوح، فحظى عنده. وكان فصيحا بليغا، عالما بلغة العرب ولسان البربر.
قال: فلما وصل عبد الله إلى القيروان، تلقاه ابن القديم. وترجّل كل منهما لصاحبه، وتعانقا، واتفقا وصارت كلمتهما واحدة. ثم وقع بينهما بعد ذلك، وكانت فتنة عظيمة بالقيروان يطول شرحها، انتصر فيها عبد الله وقبض على ابن القديم، وأرسله إلى الأمير أبى الفتوح، فحبسه حتى مات.
وكانت ولاية ابن القديم سنتين وشهرا ونصفا. ثم توفى فى الاعتقال يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة. واستقل عبد الله بن محمد الكاتب وحده لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وثلاثمائة.(24/172)
ذكر اخبار خلف بن خير «1»
قال: وفى سنة أربع وستين وثلاثمائة صعد خلف بن خير من بنى هراش إلى قلعة منيعة من ناحية بلده. واجتمع إليه خلق عظيم «2» من سائر قبائل البربر. وخرج إليه كل من كان قد خالف مع ابن القديم. فكتب عبد الله إلى أبى الفتوح كتابا يذكر فيه أن إفريقية قد استوت كلها له، وأنه لا خوف بها إلا من الذين اجتمعوا مع ابن خير فى القلعة. فرحل يوسف إلى القلعة ونازلها، فى عساكر عظيمة. فظفر بها فى اليوم الرابع من منازلتها، وهرب خلف، وقتل فى القلعة ما لا يحصى. وبعث منها سبعة آلاف رأس طوفها عبد الله فى القيروان ثم بعثت إلى مصر «3» . ونفى «4» أكثر ممن قتل. وغنم جميع ما فيها. وسار خلف بن خير إلى بلد كتامة. فبعث إليهم يوسف يقول: «برئت الذمة ممن دفع عنه وآواه، ومن فعل جازيته» . فأخذه القوم الذين انتهى إليهم ومعه ابنه وأخوه وخمسة من بنى عمه، وأتوا بهم إلى يوسف. فأحسن صلة من جاء بهم. وبعثهم إلى عبد الله الكاتب وأمره أن يشهرهم ويطوف بهم على الجمال. ففعل ذلك بهم ثم صلبهم وضرب أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى مصر.(24/173)
قال: ولما فتح أبو الفتوح هذه القلعة، اختار من عبيدهم أربعة آلاف من الشجعان فشح بقتلهم لشجاعتهم وقربهم، وأراد أن يجعلهم فى جملة عبيده. فاتفق أن أحدهم سأل عن أبى الفتوح وقال: «عندى نصيحة» . فأشاروا إليه إلى ابن عم لأبى الفتوح ولا يشك الذى أشار إليه أنه هو. فأتاه وقال له: «إنى أريد أن أخبرك بنصيحة» . فلما دنا منه، ضربه بسكين كانت معه فشق بطنه وأخرج أمعاءه فسقط من ساعته ميتا. وكان ذلك الغلام لرجل ممن قتله أبو الفتوح فى تلك القلعة. فعندها أمر بقتل أولئك فقتلوا فى ساعة واحدة.
ثم بعث عشرة من أهل القيروان إلى باغاية يحذرهم المخالفة ويطلب منهم النزول على حكمه، وإلا فعل بهم ما فعل بأهل القلعة فأجابوه إلى الطاعة ونزلوا على حكمه. فحكم أن يسلموا إليه المدينة «1» ويمضوا حيث شاؤوا. ففعلوا ذلك ووفى لهم. وأخرب المدينة القديمة التى عليها السور، وترك «2» الربض ثم أتى إفريقية.
وأتاه الخبر بوفاة المعز لدين الله وولاية ابنه نزار بن معد فكتب إليه يوسف فى سنة سبع وستين، يسأله «3» فى طرابلس وسرت وأجدابية، فأجابه ودفع ذلك إليه.
وفى سنة تسع وستين، رحل أبو الفتوح إلى فاس «4» ،(24/174)
وسجلماسة وأرض الهبط. فملك ذلك كله وطرد منه عمال بنى أمية.
ثم بعث إلى سبتة فى طلب من لجأ إليها من زناتة. فلقى فيما قرب منها جبالا شامخة وشعارى غامضة فأمر بقطعها وإطلاق النيران فيها حتى وجد العسكر فيها مسلكا. وأمر عساكره بالوقوف. ومضى هو بنفسه وخواص أصحابه حتى أشرف على سبتة من جبل عال مطل عليها. فخاف أهل سبتة منه وغلقوا أبوابهم. فنظر إليها ورأى منعتها، فعلم أنه لا يستطيعها إلا بالمراكب، فرجع عنها «1» .
ومضى يريد البصرة، بصرة المغرب. فلما علمت به زناتة رحلوا بأجمعهم إلى الرمال والصحارى هاربين منه. ودخل البصرة وكانت قد عمرت عمارة عظيمة مع بنى الأغلب. فأمر بنهبها وهدمها، فهدّمت وحرقت «2» .
ورحل بعساكره إلى بلد برغواطة، وكان ملكهم عيسى بن أبى الأنصار «3» شعوذيا ساحرا، فسحر من عقولهم حتى جعلوه نبيا وأطاعوه فى كل ما أمرهم به، وشرع لهم شريعة، وأتاهم بغير دين الإسلام. فاتبعوه فضلّ وأضلّهم. فغزاهم أبو الفتوح، وكانت بينهم حرب شديدة لم ير مثلها، كان الظفر للمسلمين. وقتل(24/175)
عيسى الكافر وتفرقت عساكره، فقتلوا قتلا ذريعا. وسبى من نسائهم وذراريهم ما لا يحصى كثرة، وأرسل بسبيهم إلى إفريقية.
ورجع أبو الفتوح وملك فاس وسجلماسة وبلد الهبط. «1»
والبصرة وجميع بلدان المغرب. وأقام فى تلك النواحى من سنة تسع «2» وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وسبعين.
ذكر وفاة أبى الفتوح يوسف
كانت وفاته رحمه الله فى يوم الأحد لسبع «3» بقين من ذى القعدة «4» سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، عند قفوله من برغواطة وقد فصل من سجلماسة، بموضع يقال له واركنين «5» ، ويقال فيه واركلان، بعلة القولنح، وقيل بحبة خرجت فى يده فمات منها.
حكى الشيخ أبو محمد بن حزم فى كتابه المترجم «بنقط العروس» «6» «أن بلكّين بن زيرى كان له فى موضع ألف امرأة(24/176)
لا يحل له نكاح واحدة منهن، كلهن من نسل إخوته وأخواته، ومن الرجال مثل هذا العدد.
قال: وكان له قبل أن يستخلفه المعز لدين الله على المغرب قصور تشتمل على أربعمائة جارية، فيقال: إن البشارات تواترت عليه فى يوم واحد بولادة سبعة عشر ولدا «1» .
وكانت مدة إمارته منذ تسلم المغرب من المعز لدين الله ثنتى عشرة سنة، ومنذ قام بالأمر بعد أبيه ثلاث عشرة سنة وشهورا.
ولما مات قام بالأمر بعده ابنه المنصور أبو الفتح.
ذكر ولاية أبى الفتح المنصور ابن يوسف بلكين بن زيرى
قال: ولما توفى يوسف، أسند وصيته إلى أبى زعبل بن مسلم «2» ، وكان من جملة عبيده وخاصة قواده. فكتب إلى المنصور يعرفه بوفاة أبيه، وكان المنصور إذ ذاك بآشير. فاستقل بالأمر بعد أبيه. وأتاه عبد الله بن محمد الكاتب ومشايخ القيروان والقضاة وأصحاب الخراج؛ فعزوه بأبيه وهنئوه بالولاية، فأكرمهم وعظمهم وأحسن جوائزهم وأعطاهم عشرة آلاف دينار. فدعوا له وشكروه. فقال لهم: «إن أبى وجدى أخذا الناس بالسيف قهرا، وأنا لا آخذ الناس إلا بالإحسان. ولست ممن يولّى ولا(24/177)
يعزل بكتاب. ولا أحمد فى هذا الملك إلا الله ويدى. وهذا الملك ما زال فى يد آبائى وأجدادى ورثناه عن حمير» «1» . وكلام كثير فى هذا المعنى. ثم قال لهم: «انصرفوا فى حفظ الله فإن قلوب أهليكم مشغولة بكم» فانصرفوا.
وقدم المنصور إلى رقادة فى يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. فتلقاه عبد الله الكاتب ووجوه الناس. فأظهر لهم الخير ووعدهم بكل جميل.
وأتاه العمال من كل بلد بالهدايا والأموال. وأهدى إليه عبد الله ما لا يحيط به الوصف. فجهز المنصور هدية إلى نزار بلغت قيمتها ألف ألف دينار.
وأقام برقادة إلى يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذى الحجة «2» من السنة. ورجع إلى المغرب ومعه عبد الله الكاتب. واستخلف عبد الله ابنه يوسف على القيروان، فسار أحسن سيرة.
وفى هذه السنة، أعطى المنصور أخاه يطّوفت العساكر والعدد ووجهه إلى فاس «3» وسجلماسة يطلب ردهما، وكانت زناتة قد ملكت تلك البلاد بعد موت أبى الفتوح. فمضى حتى وصل إلى قرب فاس وبها زيرى بن عطية الزناتى المعروف بالقرطاس، ومعه(24/178)
عساكر زناتة. فعاجله «1» زيرى والتقوا واقتتلوا. فانهزم يطّوفت وجميع من معه. وتبعه زيرى فقتل من عسكره خلقا عظيما وأسر وهرب من سلم إلى تيهرت. فلما بلغ المنصور هزيمة يطّوفت، أرسل أخاه عبد الله بعسكر يلقاه به ثم وصل يطوفت إلى آشير.
فلم يتعرض المنصور بعدها لشئ من بلد زناتة.
وفى سنة ست وسبعين، أخذ يوسف بن عبد الله بن محمد الكاتب فى بناء قصر المنصور. فبلغ الإنفاق عليه ثمانمائة ألف دينار «2» ثم عمل عليه وعلى قصر بجواره كان بناه قديما شفيع الصقلبى صاحب المظلة سورا محدقا عليهما. وغرست حوله الأشجار من كل جهة.
وفى سنة سبع وسبعين، وصل المنصور من آشير إلى إفريقية فى يوم الاثنين منتصف المحرم، ونزل فى قصره الذى بنى له. ونزل عبد الله الكاتب وجميع القواد حوله.
ووصل كتاب السلطان نزار إلى المنصور يعلمه أنه جعل الدعوة لعبد الله بن محمد الكاتب، ويأمره بذلك. ففعل المنصور ذلك وأمر أن يفرش له قصر السلطان فى الموضع المعروف بقصر الحجر، وذلك فى يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة منها. وجلس فيه المنصور وأقرباؤه ووجوه بنى عمه. ثم دخل عبد الله فأخذ عليهم الدعوة، وصار عبد الله داعيا. فذكر أنه لما تم هذا له مسح بيده على رأسه وقال: «الآن قد خلصت من القتل وأمنت على شعرى وبشرى» . وما علم أن ذلك سبب هلاكه.(24/179)
ذكر مقتل عبد الله بن محمد وولده يوسف
قال: كان عبد الله قد بلغ مبلغا عظيما لم يبلغه أحد من قرابة المنصور وأهل دولته، وانحصرت أمور المنصور كلها تحت قبضته.
وأعطى الرياسة حقها ووثق بما قدم من نصحه. فرفع فيه حسن ابن خاله «1» إلى المنصور أمورا من القدح فى دولته، وأنه كاتب ابن كلّس وزير نزار، واختلفت بينهم السفراء، وعقد الغدر بالمنصور. فوجد المنصور لذلك. وكان عبد الله لا يدارى أحدا من أولاد زيرى ووجوه بنى مناد وغيرهم من أكابر الدولة. فلما أحسوا من المنصور بعض الأمر وشوا بعبد الله وطعنوا عليه.
فاستراب المنصور به وأراد إبقاءه مع التحرز منه، فقال له:
«اعتزل عمل إفريقية واقتصر على الخاتم والكتابة، وكل من تولى فهو متصرف تحت أمرك ونهيك» . فكان جوابه أن قال: «القتلة ولا العزلة» . فلما كان يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة سبع «2» وسبعين وثلاثمائة، ركب المنصور فركب عبد الله وهو يقول:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
فلما نزل المنصور، نزل عبد الله فقبل يده. ثم وقف ودار(24/180)
بينهما كلام كثير لم يقف أحد على صحته. فطعنه المنصور برمحه.
فجعل أكمامه على وجهه وقال: «على ملة الله وملة رسوله» . ولم يسمع منه غير ذلك. وطعنه عبد الله أخو المنصور برمحه بين كتفيه فأخرجه من بين ثدييه. فسقط إلى الأرض. ثم أتى بابنه يوسف. فصاح واستغاث وقال: «العفو» . فضربه المنصور برمحه، وضربه ماكسن ابن زيرى، وضربه سائر من حضر. فماتا جميعا.
ولما قتلا جاء القاضى وشيوخ القيروان واجتمعوا بالمنصور. فقال لهم «ما قتلت عبد الله على مال ولا شىء اغتنمه وإنما خفته على نفسى فقتلته» .
فدعوا له بطول البقاء ثم انصرفوا. ودفن عبد الله وابنه بغير غسل ولا كفن وإنمارد عليهما التراب فى اسطبل كان للمنصور تحت الحنايا بالقرب من قصره.
قال: وولى المنصور بعده إفريقية يوسف بن أبى محمد، وكان على قفصة. فأتى يوم الخميس لخمس خلون «1» من شعبان. فأعطاه المنصور الطبول والبنود، وخلع عليه ثيابه وأنزله فى دار القائد جوهر.
فولى إلى سنة اثنتين وثمانين»
: ثم عزله يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول، وولى أبا عبد الله محمد بن أبى العرب الكاتب.(24/181)
ذكر أخبار أبى الفهم حسن بن نصرويه الخرسانى
كان أبو الفهم رجلا خراسانيّا قدم فى سنة ست وسبعين وثلاثمائة من مصر من قبل نزار داعيا. فأنزله يوسف بن عبد الله وأجرى عليه جرايات جليلة. وأعطاه أموالا سنية وبره وأكرمه. فطلب أبو الفهم الخروح إلى بلد كتامة يدعوهم وينتهى إلى ما أمره به نزار ووجهه إليه، فكاتب يوسف أباه. فكتب إليه عبد الله أن أعطه ما أراد واتركه يذهب حيث يشاء. فأعطاه يوسف ما طلب، وحمله على أفراس بسروج محلاة، وحمل بين يديه تخوت ثياب وبدر دراهم.
وتوجه إلى بلد كتامة فوصل إليهم ودعاهم. ثم تزايدت أموره حتى صار يجمع العساكر ويركب الخيل. وعمل بنودا وضرب سكة واجتمع إليه خلق كثير من كتامة، وكان هذا من الأسباب التى حقدها المنصور على عبد الله وابنه.
ثم ورد من مصر رسولان من نزار إلى المنصور فى سنة سبع وسبعين أحدهما رجل كتامى يعرف بأبى العزم، ورجل من عبيدهم يقال له محمد بن ميمون الوزان، ومعهما سجلات إلى المنصور. فقيل:
إنهما أمراه عن نزار ألا يعرض لأبى الفهم ولا لكتامة. فشتمهما المنصور وأسمعهما مكروها وقال: «أبو الفهم وكتامة فعلوا وفعلوا» .
وأغلظ لهما فى القول ولمن أرسلهما.
فأقاما عنده شعبان وشهر رمضان. ومنعهما من الخروج إلى كتامة وأبى الفهم. وقال: «امضيا معى إليه حتى تريا ما يكون منه» . ثم تهيأ المنصور للخروج إلى كتامة وأبى الفهم، وقد تفاقم أمره، وظهرت(24/182)
سكته، وصار حوله جيوش عظيمة. فسار المنصور حتى وصل إلى بلاد كتامة. وتثاقل فى سيره «1» حتى دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. فلما قرب من ميلة عزم على قتل أهلها، فخرج إليه النساء والأطفال. فلما رآهم بكى وكف عنهم القتل. ونهبت العساكر كلّ ما فيها. وأمر بهدم سورها فهدم. ونقل أهلها إلى باغاية، فاجتمعوا ومضوا إليها وقد سلم لبعضهم ما خف من عين وورق وغير ذلك. فلقيهم ماكسن بن زيرى بعسكره فأخذ كل ما كان معهم.
ثم رحل المنصور إلى داخل بلد كتامة، فجعل لا يمر للكتاميين بمنزل ولا قصر ولا دار إلا أمر بهدم ذلك وتحريقه بالنار، ومعه أبو العزم وابن ميمون ينظران إلى فعله، ويقول لهما: «هؤلاء الذين زعمتما أنهم يمضون بى بحبل فى عنقى إلى مولاكما» . وكانا قد خاطباه بذلك لما اجتمعا به.
وسار حتى بلغ مدينة سطيف وبها جمعهم. فحاربهم وظفر بهم وهزمهم. وهرب أبو الفهم إلى جبل وعر. فأرسل إليه المنصور من أخذه وجاء به إليه. فأدخله إلى حرمه فضربنه ضربا شديدا حتى أشرف على الموت. ثم أمر المنصور بإخراجه وقد بقيت فيه حشاشة من الروح «2» فنحره وشق بطنه. وأخرجت كبده فشويت وأكلت. وشرّح عبيد المنصور لحمه وأكلوه حتى لم يبق إلا عظامه.
وذلك فى يوم الثلاثاء لثلاث خلون من صفر سنة ثمان وسبعين. وقتل جماعة من وجوه كتامة، وأنزل بهم الذل والهوان. وولى بلدهم أبا زعبل(24/183)
ابن مسلم وأولاده. وبقيت ميلة خرابا ثم عمرت بعد ذلك.
ودخل المنصور إلى آشير. ورد أبا العزم وابن الوزان إلى مصر ليخبرا من أرسلهما. فأخبراه بما كان منه. وقالا: «أتينا من عند شياطين يأكلون بنى آدم، ليسوا من البشر فى شىء» .
وفى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، ثار ثائر آخر ببلد كتامة، يقال له أبو الفرج. وقيل: إنه كان يهوديا. وقال لكتامة: إنه من أولاد الأمراء الذين كانوا بالمهدية، وإن أباه كان من ولد القائم. فانضموا إليه وكثرت جموعه، واتخذ البنود والطبول. وزحف إلى عسكر أبى زعبل وقاتله فلم يقم بحربه. فكتب إلى المنصور فقدم بعساكره.
والتقوا واقتتلوا، فهزمهم المنصور وقتل من كتامة مقتلة عظيمة.
وهرب أبو الفرج واختفى فى غار فى جبل. فعمل عليه غلامان كانا له. فأخذاه وأتيابه إلى أبى زعبل. فأتى به إلى المنصور فقتله شر قتلة. وشحن بلد كتامة بالعمال والعساكر ورجع إلى آشير.
ذكر وفاة المنصور أبى الفتح بن يوسف
كانت وفاته فى يوم الخميس لثلاث «1» خلون من شهر ربيع الأول سنه ست وثمانين «2» وثلاثمائة. فكانت مدة ملكه ثنتى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام «3» . وكان ملكا كريما جوادا صارما.(24/184)
وكانت أيامه أحسن أيام وأطيبها. وما زال مظفّرا منصورا لا تردّ له راية.
ذكر ولاية أبى مناد «1» باديس بن أبى الفتح «2» المنصور بن يوسف
قال: ولما مات المنصور قام بالأمر بعده بإفريقية ولده أبو مناد، وكان مولده فى ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. فلما صار الأمر إليه رحل إلى سردانية يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ونزل فى قصرها. وأتاه الناس من كل ناحية بإفريقية للتهنئة والتعزية. وأقام بسردانية أياما ثم رجع إلى قصره. وتوفى بعد ولايته الأمير نزار وولى بعده ابنه الحاكم بأمر الله.
ذكر ولاية حماد بن يوسف مدينة آشير
قال: وفى صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، عقد أبو مناد ولاية آشير لعمه حماد بن يوسف بن زيرى، وأعطاه خيلا كثيرة وكسا.
ثم اتسعت أعماله وعظم شأنه وكثرت عساكره، واجتمعت أمواله.
وفى يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع(24/185)
وثمانين وثلاثمائة، وصل من مصر الشريف الداعى على بن عبد الله العلوى المعروف بالتّيهرتى «1» . وكان أبو مناد بعث فى حشد عساكره وأجناده، فلم يبق بإفريقية وأعمالها فارس ولا راجل إلا وصل إلى المنصورية. فنزل أبو مناد بهم إليه فى هذا اليوم، فكانوا صفوفا من باب قصر السلطان بالمنصورية إلى باب قلشانة. فرأى الداعى من العساكر والعدد ما لم ير مثله. وأتى بسجلين قرئا على منبر المنصورية والقيروان: أحدهما بولاية أبى مناد باديس، وتلقيبه نصير الدولة؛ والثانى بوفاة نزار، وولاية ابنه الحاكم، والجواب عن وفاة المنصور والعزاء عن نزار وعن المنصور. وكان معه سجل ثالث بأخذ البيعة على باديس وجماعة بنى مناد للحاكم. فأنزل الشريف بدار الأمير يوسف بجوار قصر السلطان. ثم جلس باديس بعد ذلك وأحضر الشريف. ودعا بنى مناد وسائر قبائل صنهاجة وأخذ عليهم البيعة.
ثم كان الشريف يجلس فى الدار التى نزل فيها، ويأخذ البيعة على كل من أتاه من الصنهاجيين وغيرهم. ثم وصله أبو مناد بمال جليل وتخوت ثياب وبراذين بسروج محلاة، وصرفه إلى مصر. ثم جهز هدية بعده.
ذكر خروج محمد بن أبى العرب الى زنانة
قال: وفى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وصل كتاب يطّوفت بن يوسف بن زيرى إلى ابن أخيه أبى مناد يعرفه أن زيرى بن عطية الزناتى(24/186)
قد نزل عليه بتيهرت، وسأله أن يمده بالعساكر. فأمر باديس محمد ابن أبى العرب بالخروج فنهض بالعساكر الثقيلة حتى بلغ آشير فأقام بها أياما يسيرة. ثم رحل ورحل معه حماد بن يوسف عاملها بعساكر عظيمة حتى وصلا إلى تيهرت. فاجتمعا بيطوفت فى غرة «1» جمادى الأولى من السنة. وكان زيرى بن عطية بموضع يقال له أمسان «2» على مرحلتين من تيهرت فزحفوا إليه واقتتلوا قتالا شديدا. وكان معظم جيش حماد التّلكّاتيين «3» ، وقد أساء عشرتهم، وكلف بأمورهم غلامه خلفا الجيزى «4» فسامهم الخسف. فلما حمى الوطيس واشتد البأس ولوا منهزمين، واتبعهم الناس. فكانت الهزيمة على الجميع.
ورام محمد رد الناس فلم يقدر على ذلك. ووصلوا إلى آشير، وقد أسلموا عساكرهم وما فيها من بيوت الأموال وخزائن السلاح والمضارب وغير ذلك فاحتوى زيرى على جميع ذلك وأمر ألا يتّبعوا. ووقف على باب تيهرت، فخرج إليه أهلها. فوعدهم الجميل وأطلق خلقا كثيرا ممن أسر فى المعركة أو لجأ إلى تيهرت، فمضوا حتى وصلوا إلى آشير.
وكانت هذه الهزيمة يوم السبت لأربع خلون من جمادى الأولى منها.
قال: وبلغ خبر الهزيمة الأمير باديس، فبرز بنفسه من رقادة للقاء زيرى بن عطية، وذلك لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فلما(24/187)
وصل إلى قرب طبنة بعث فى طلب فلفل بن سعيد بن خزرون. فخاف وأرسل يعتذر. وسأل أن يكتب له سجل بولاية طبنة إلى أن يقدم باديس. فكتب له سجلا بولايتها وبعث به إليه. وتمادى أبو مناد فى مسيره. فلما علم فلفل أنه أبعد عنه أتى إلى طبنة فأكل ما حولها ونهب وأفسد. ومضى إلى تيجس «1» وما والاها فنهبها. وتمادى إلى باغاية فحصرها أياما ثم رحل عنها، وباديس فى هذا مستمر السير «2» إلى آشير. فلما بلغ المسيلة «3» ، رحل زيرى بن عطية عن آشير إلى تيهرت. فرحل إليها باديس. فلما بلغها توغل زيرى هاربا منه إلى داخل المغرب.
فعند ذلك ولى أبو مناد على تيهرت وآشير عمه يطوفت.
فاستخلف يطوفت على تيهرت ابنه أيوبا وتركه فى أربعة آلاف فارس.
ثم رجع باديس إلى آشير وعمه يطوفت معه. فبلغه ما فعل فلفل ابن سعيد. فأرسل إليه أبا زعبل وجعفر بن حبيب ومحمد بن حسن فى عسكر.
ثم رحل بعدهم من آشير، وبقى يطوفت ومعه أولاد زيرى وقد سألوا باديس أن يتركهم أعوانا ليطوفت. فأبى ذلك وقال: «لا بد من رحيلكم معى» . فقالوا: «لنا أمور نقضيها ونلحق بك» . فتركهم على هذا ورحل ومعه أبو البهار بن زيرى حتى وصل إلى المسيلة، فعيّد(24/188)
بها عيد الفطر. فبينا هو فى صلاة العيد، إذ وصل إلى أبى البهار رسول أخبره أن إخوته ماكسن وزاوى ومغنين وعرما «1» نافقوا بآشير، وقبضوا على يطوفت، وأنه أفلت منهم بحيلة بعد أن عزموا على قتله. فخاف أبو البهار أن يصل يطوفت إلى باديس فيتهمه بمباطنة إخوته، فهرب لوقته. وطلب فلم يدرك. فلقى يطوفت فى طريقه فعرّفه ما كان من إخوته، فحلف أنه لم يعاقدهم على ذلك، وأنه إنما هرب خوفا على نفسه. وفارقه والتحق بإخوته. وسار يطوفت حتى لحق بابن أخيه الأمير باديس وهو بالمسيلة. فرحل إلى إفريقية، فاتصل به أن فلفل بن سعيد قتل أبا زعبل، وهزم أصحابه، وأسر حميد بن أبى زعبل فمثّل به ثم قتله، وأن فلفلا تمادى إلى القيروان.
فرحل باديس إلى باغاية فوصل إليها لإحدى عشرة بقيت من شوال. فأقام بها بقية الشهر. ورحل فى غرة ذى القعدة حتى وصل إلى مرمجنة.
فلما صار إلى بنى سعيد، زحف إليه فلفل فى يوم الخميس لست خلون من ذى القعدة. فلم يلقه باديس ولم يلتفت إليه. فلما كان يوم الاثنين، زحف فلفل إليه. فالتقيا بوادى اغلان «2» ، فكانت بينهم من الحروب العظيمة ما لم يسمع بمثلها. وقد كان اجتمع لفلفل من قبائل البربر ما لا يحصى كثرة، وكذلك من زناتة، وكلهم أصحاب خسائف. فثبتت صنهاجة بين يدى باديس. وظهر منه فى ذلك اليوم ما قرت به أعينهم. ثم أجلت الحرب عن هزيمة زناتة والبربر هزيمة(24/189)
فاحشة. وهرب فلفل واتبعته صنهاجة والعبيد حتى حال بينهم الليل.
ورحل باديس من الغد فنزل فى مناخ فلفل. وقتل من زناتة فى ذلك اليوم تسعة آلاف رجل سوى من قتل من البربر. ثم رحل باديس فوصل إلى المنصورية فى يوم الأربعاء لعشر بقين من ذى القعدة.
ثم وصل الخبر أن فلفل بن سعيد وأولاد زيرى بن مناد عمومة والدباديس تصالحوا وتعاقدوا على قتال باديس. فلما تحقق ذلك خرج إلى رقادة سنة تسعين وثلاثمائة. ورحل حتى انتهى إلى قصر الإفريقى. فبلغه أن أولاد زيرى رجعوا إلى المغرب خوفا منه، وأنه ما بقى مع فلفل منهم سوى ما كسن وولده محسن فرجع باديس الى المنصورية.
وفى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة «1» ، دخل باديس إلى المغرب فى طلب فلفل بن سعيد. فهرب منه إلى الرمال وافترق جمعه. فرجع باديس إلى إفريقية ومعه أبو البهار بن زيرى عم أبيه، وكان قبل ذلك قد أتاه معتذرا بأنه لم يدخل فى شىء مما دخل فيه إخوته. فقبل عذره وطيب قلبه. وأما فلفل بن سعيد فإنه سار إلى طرابلس، فقبله أهلها أهلها أحسن قبول، فاستوطن بها.
وفى سنة اثنتين وتسعين «2» ، وصل رسول ابن يوسف «3» إلى ابن أخيه باديس، يذكر أنه زحف إليه عمه ماكسن وأولاده(24/190)
ومن معهم. فكانت بينهم وقعة شديدة فقتل فيها ماكسن وأولاده محسن وباديس وحباسة.
ثم توفى زيرى بن عطية الزناتى بعد ذلك بتسعة أيام.
وفى سنة خمسة وتسعين، اشتد الغلاء بإفريقية وأعقبه وباء عظيم. وكان يدفن فى اليوم الألف والأكثر والأقل «1» .
وفى سنة أربعمائة مات فلفل بن سعيد الزناتى من علة أصابته.
وولى أخوه ورّو، فأطاعته زنانة. ثم سار باديس فى عساكر عظيمة لقتال زناتة. فلقيه فى بعض الطريق عبد الله وسواشى «2» أولاد ينال التركى وأصحابهما. فعرفوه أنهم لما علموا بخروجه أغلقوا أبواب طرابلس ومنعوا الزناتيين منها. فسر بذلك ووصلهم وأحسن إليهم. وسار إلى طرابلس فتلقاه أهلها فدخلها. ثم جاءته رسل ورو ابن سعيد ومن معه من الزناتيين، يرغبون فى الأمان، ويسألون أن يجعلوا عمالا كسائر رجال الدولة. ووصل جماعة منهم «3» ، فأحسن إليهم، وأعطاهم نفزاوة على أنهم يرحلون عن أعمال طرابلس.
وأعطى النّعيم «4» قصطيلية. ورجع إلى المنصورية.
ثم تغير ورو ومن معه وخلعوا الطاعة فى سنة إحدى وأربعمائة، ورحلوا عن نفزاوة. ولم يتغير النعيم. فأضاف باديس نفزاوة إلى النعيم.
وفى سنة خمس وأربعمائة، وصلت رسل الحاكم بأمر الله إلى(24/191)
المنصورية، وهما عبد العزيز بن أبى كدية وأبو القاسم بن حسين، ومعهما خلع سنية، وسيف مكلّل، وسجل من الحاكم إلى المنصور بن باديس بولاية ما يتولاه أبوه فى حياته وبعد وفاته، ولقّبه عزيز الدولة.
فقرئ السجل على الناس بالمنصورية والقيروان. وسرّ باديس به.
وتقرب وجوه الدولة إلى المنصور بالهدايا الجليلة والأموال.
ذكر خلاف حماد بن يوسف وأخيه ابراهيم على ابن أخيهما الأمير باديس
قال: كان سبب ذلك أنه- لما وصل سجل الحاكم إلى المنصور ابن باديس ولقّب- أراد أبوه أن يقدمه ويرفع قدره، ويضيف إليه أعمالا يستخدم له فيها أتباعه وصنائعه. وكانت قد اتصلت به عن حماد أمور أنكرها وأراد اختبار حقيقة ما هو عليه. فكتب إليه كتابا لطيفا يأمره فيه أن يسلم العمل الذى بيد أبى زعبل «1» ، وهو مدينة تيجس وقصر الإفريقى وقسطنطينة إلى خليفة ولده المنصور. ودعا باديس هاشم بن جعفر فخلع عليه وأعطاه الطبول والبنود. وأمره بالخروج إلى هذا العمل. فخرج بخزائن وعدد.
وبعث باديس إلى عمه إبراهيم بن يوسف يشاوره «2» : من يمضى بالكتاب إلى حماد؟ فقال إبراهيم: «لا يجد سيدنا من عبيده أنصح(24/192)
له ولا أنهض بخدمته منى» . وضمن ذلك «1» وأكد على نفسه العهود والمواثيق تبرعا منه. وذكر أنه لا يقيم فى مضيه وعوده بإحكام هذا الأمر إلا أقل من عشرين يوما. فأشار على باديس ثقاته أن يعتقل «2» إبراهيم حتى يرى ما يكون من طاعة أخيه. فأبت نفسه ذلك، وقال له: «امض إلى أخيك يا عم. فإن كنت صادقا فيما عقدته على نفسك ووفيت بعهدك، وإلا فاجعل يدك فى يده وافعلا ما تقدران عليه وتستطيعانه» .
فخرج إبراهيم بمال جملته أربعمائة ألف دينار عينا وبجميع خزائنه وذخائره ورجاله وعبيده. وكان خروجه على تلك الحال من أدل الأشياء على نفاقه. وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال سنة خمس وأربعمائة. وصحبه هاشم بن جعفر، وقد أضمر إبراهيم الغدر إذا صار إلى الموضع الذى يدخل منه إلى عمل أخيه. فلما قرب منها ترك هاشما واعتذر إليه بأشغال له بباجة، وعدل إلى طريقها، ووعده أن يلحق به «3» . ومضى إبراهيم حتى وصل إلى مدينة تامديت فكاتب أخاه حمادا بالذى فى نفسه. فوصل إليه فى ثلاثين ألف فارس. فاجتمعت كلمتهما على خلع الطاعة وأظهرا النفاق.
فانتهى ذلك إلى باديس فرحل لخمس خلون من ذى الحجة «4»(24/193)
منها. ونزل رقادة «1» ووضع العطاء. ثم رحل بعد عيد الأضحى وكتب إلى هاشم بن جعفر أن يصعد إلى قلعة شقبنا رية»
فيتحصن بها ففعل. فحاصره حماد وإبراهيم بها. ووقع بينهم قتال شديد فانهزم هاشم ومن معه إلى باجة. واحتوى حماد وإبراهيم على جميع ما كان معه من الأموال والخزائن والأثقال والخدم، ونجا هو بأولاده ووجوه أصحابه.
ورحل باديس حتى نزل بمكان يسمى قبر الشهيد. فوصل إليه جماعة كثيرة من عسكر حماد. ثم ورد عليه كتاب من حماد على يد أبى مغنين الوتلكاتى يذكر فيه أنه على الطاعة، وأنه كان قد هيأ هدية فى جملتها ألفا برذون وغير ذلك لينفذها إلى المنصور، إلى أن وافاه إبراهيم واعتذر أعذارا كثيرة، فخالفها ما يظهر من أفعاله. وذلك أنه أحرق الزرع، وسبى الذرارى، وسفك الدماء. وتواترت أصحابه واصلين إلى باديس متنصلين من فعله.
ورحل باديس حتى صار بينه وبين حماد مرحلة واحدة، وقد بلغ عسكر حماد ثلاثين ألف فارس، غير من لحق بباديس وغير الراجل.
قال: وورد الخبر وهو بتامديت بوفاة ابنه المنصور بجدرى أصابه فكتم أصحابه عنه ذلك. فبعث إليه إبراهيم يقول: «إن ولدك الذى طلبت له ما طلبت قد مات» . فما تضعضع لذلك، وتلقاه بالصبر والشكر، وجلس للعزاء، وذلك لخمس خلون من صفر.(24/194)
ثم سار ونزل بمدينة دكمة «1» . وجاءه جماعة من أقارب حماد وخواصه ورجال دولته، وكتاب من قبل خلف الجيزى «2» ، وهو الوالى على مدينة آشير، وكان عند حماد أقرب من الولد لا يوازيه فى رتبته أحد، يذكر أنه منع حمادا من الدخول إلى مدينة آشير وأغلقها دونه. فكان ذلك أول الفتح وأعظم الظفر.
قال: فلما رأى حماد مخالفة خلف عليه مضى إلى تاهرت. ورحل باديس يوم الجمعة «3» الثانى من شهر ربيع الأول. فنزل مدينة المحمدية «4» وهى المسيلة. فأقام بها ستة أيام ثم زحف إلى القلعة.
ورجع من غير قتال.
ثم أنفذ باديس أخاه كرامت إلى المدينة التى أحدثها حماد. فخرج إليها فى عسكر كثير، فهدم قصورها ومساكنها جزاء لما فعله حماد وأخوه فى البلاد. ولم يتعرض لأخذ مال ولا سفك دم. واتصل ذلك بإبراهيم، فأقبل يهدم كل قصر كان لأخيه خارجا عن القلعة، مخافة أن يسبقه كرامت إليه. وهرب من القلعة جماعة إلى باديس وتركوا نساءهم وأولادهم وأموالهم «5» . فأقبل إبراهيم يذبح الأولاد على صدور أمهاتهم، ويشق بطونهم. وفعل أفعالا شنيعة.
قال: ورحل باديس إلى آشير ثم منها إلى وادى شلف. ونزل حماد فى الجبهة الأخرى من الوادى. ورتب كل منهما عساكره وعبأها(24/195)
وتهيأ للحرب. والتقوا فى يوم الأحد غرة جمادى الأولى. وكان حماد قد أسند ظهره إلى جبل بنى واطيل، وهو جبل منيع صعب المرتفى، وبينه وبين عسكر باديس الوادى، وهو واد عميق لا يطمع فى تعديته لشدة توعره وعمق قعره وصعوبة انحداره وكثرة مائه. فلما رأى باديس ذلك حمل بفرسه واقتحم الوادى. فتبعته العساكر وعدت الرجالة سباحة. فما كان إلا كرجع الطّرف حتى صاروا فى الجهة الأخرى مع عساكر حماد «1» . ثم اصطفوا واقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل. فانكشف حماد وتفرق أصحابه عنه بعد قتال شديد.
فولّى منهزما لا يلوى على شىء، وقتل حرمه بيده. فوقف باديس عليهن وهن قتيلات. وخلص حماد فيمن ثبت معه من عبيده إلى قلعه مغيلة فى خمسمائة فرس. ولولا اشتغال الناس بالنهب لما فاتهم. وأصبح باديس فبعث فى طلب حماد فسبقهم إلى القلعة. وأراد التحصن «2» بها إن أدركته العساكر. ثم سار عنها إلى قلعته فوصل إليها لسبع مضين من جمادى الأولى، واستعد للحصار.
وسار باديس إلى المحمدية فوصل إليها لليلتين بقيتا من الشهر.
فأتاه رسول عمه إبراهيم بالاعتذار ويذكّر باديس بما سلف لحماد من الخدمة فى دولته، وأنه هو الذى سد ثغور المغرب، وقام محاميا عن هذه الدولة كقيام الحجاج بن يوسف بدولة بنى أمية، واعترف بالخطأ. فرد عليه باديس رسله بجواب. واختلفت الرسائل إليه منهما طلبا للمدافعة. فأمر باديس بالبناء. وبذل لرجاله «3» الأموال(24/196)
وأعطى الألفى دينار والخمسمائة. فاشتد ذلك على حماد، ورأى من رجاله ما أنكره، وضعفت نفسه. وغلت الأسعار عنده فجعل يكذب على من عنده، ويكتب كسبا يذكر فيها أن باديس قد عزم على الرحيل إلى إفريقية، وأن كتبه تصل إليه فى الصلح إلى غير ذلك مما يختلقه «1» . وداوم باديس الحصار حتى مات.
ذكر وفاة باديس
كانت وفاته فى ليلة الأربعاء آخر ذى القعدة سنة ست وأربعمائة وذلك أنه وصل إليه وهو فى الحصار سليمان بن خلف «2» بعساكر عظيمة، جمهورهم تلكاتة «3» وصنهاجة، فضمن لبادير فتح للقلعة وسائر بلاد المغرب. فلما كان يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذى القعدة، أمر باديس بالعرض، فعرضهم إلى الليل. ثم مات فى نصف الليل.
فخرج الخادم إلى حبيب بن أبى سعيد وباديس بن حمامة «4» وأيوب بن يطّوفت ابن عمه، وكان حبيب من أكبر رجاله، وبينه وبين باديس بن حمامة منافسه وعداوة. فلما أعلمه الخادم، خرج حبيب مسرعا إلى فازة باديس، وخرج باديس مسرعا إلى فازة حبيب.
فاجتمعا فى الطريق، فقال كل منهما لصاحبه: «بيننا عداوة(24/197)
ولا تبرح، والأولى بنا فى هذا الوقت الموافقة والاجتماع فى تدبير هذا المهم.
فإذا انقضى رجعنا إلى «1» ما كنا عليه» . فحضرا ومعهما أيوب بن يطوفت وقالا: «إن صاحب هذا الأمر بعيد منا والعدو قريب مشرف علينا. ومتى لم نقدم رأسا نرجع فى أمورنا إليه لم نأمن العدو على أنفسنا. ونحن نعلم أن ميل تلكاتة وصنهاجة المغرب إلى كرامت بن المنصور أخى باديس» . فاجتمع رأيهم على تولية كرامت ظاهرا. فإذا وصلوا موضع الأمن قدم المعز بن باديس، وينقطع الخلاف، وتصان بيوت الأموال «2» والعدد. فأحضروا كرامت وبايعوه وكتموا الأمر.
وأصبحت العساكر للسلام على ما جرت به العادة. ولم يعلم بوفاته سوى من ذكرناه «3» . فأرادوا صرف الناس بأن يقولوا: إن الأمير قد أخذ دواء. فبينا «4» هم فى ذلك أتى الخبر أن أهل مدينة المحمدية قد شاع عندهم موت باديس، وأنهم أغلقوا أبواب المحمدية، وطلعوا على سورها. وكأنما نودى فى الناس بوفاته. فاضطرب لموته بنو مناد وجميع القواد. وخافوا من الفرقة وشتات الكلمة فأظهروا ولاية كرامت وأمر بالكتب إلى سائل الأعمال باسمه، ولم يذكر المعز بن باديس.
فلما رأى عبيد باديس ومن كان على مثل رأيهم من الحشم والأجناد أنكروا ذلك إنكارا شديدا. فخلا حبيب بن أبى سعيد بأكابرهم وقال: «إنما رضيناه وقدمناه على أن يحوط الرجال، ويحرس(24/198)
الخزائن والأموال، حتى يسلم جميع ذلك إلى مستحقه وهو المعز» .
ومشى بعضهم إلى بعض وتحالفوا على ذلك سرا.
ثم اتفق رأى الجميع على تقديم «1» كرامت فى الخروج إلى آشير ليحشد قبائل تلكاتة وصنهاجة. فإذا اجتمعوا رجع بهم إلى المحمدية فيقطن بها، وترحل العساكر بتابوت باديس حتى يسلمون إلى ولده المعز. ودفعوا إلى كرامت مائة ألف دينار وخزانة سلاح وأمتعة.
وتوجه إلى مدينة آشير يوم الأحد لأربع خلون من ذى الحجة سنة ست وأربعمائة. وكان من خبره ما نذكره إن شاء الله فى أيام المعز.
وكانت مدة ولاية باديس عشرين سنة وتسعة أشهر إلا أربعة أيام. وعمره اثنان وثلاثون سنة وثمانية أشهر وأيام.
ذكر ولاية أبى تميم المعز بن أبى مناد باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى
كانت ولايته بالمحمدية «2» يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجة سنة ست وأربعمائة على ما قدمناه، وله من العمر يوم ذاك ثمان سنين وسبعة أشهر «3» . وأما ولايته بالمهدية «4» فكانت يوم الاثنين لسبع «5» بقين من ذى الحجة هذا. وذلك أن الخبر لما وصل(24/199)
بموت باديس، كانت السيدة أم ملّال «1» بالمهدية، فخرج إليها منصور بن رشيق عامل القيروان، بجماعة القضاة والفقهاء والمشايخ وشيوخ صنهاجة إلى المهدية فعزّوها. وأخرجت المعز وبين يديه الطبول والبنود. فنزل إليه الناس وهنئوه وعزّوه. وعاد إلى قصره. ودخل الناس على السيدة فهنئوها. فأمرت منصور بن رشيق بالانصراف بمن كان معه فرجعوا إلى القيروان.
قال: وأما العسكر الذى بالمحمدية فإنهم ارتحلوا عن مناخها يوم عيد الأضحى بعد أن أضرموا النار فيما كان هناك من الأبنية. وسارت العساكر على تعبئة الزحف مقدمة وساقة وقلبا، يقدمها التابوت.
وأمامه البنود والطبول والجنائب والقباب. وكان وصولهم إلى المنصورية يوم الاثنين لأربع خلون من المحرم سنة سبع وأربعمائة.
ووصلوا إلى المحمدية لثمان خلون «2» منه. فركب المعز وقام حبيب بن أبى سعيد عن يساره. ونزل الناس فوجا فوجا وحبيب يعرفه بهم قائدا قائدا وعرافة عرافة، وهو يسأل الناس عن أحوالهم ألطف سؤال.
فرأى الناس من عقله وإقباله وفطنته ما ملأ قلوبهم وأقر عيونهم. وأقاموا يركبون إليه فى كل غدوة وغشية ثلاثة أيام. ثم خرج المعز من المهدية وسار إلى القيروان. ودخل المنصورية يوم الجمعة النصف من «3» المحرم سنة سبع وأربعمائة فسر به الناس وابتهجوا.(24/200)
ذكر قتل الروافض
قال: وفى يوم السبت سادس عشر المحرم منها، ركب المعز فى القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له فمر بجماعة فسأل عنهم فقيل: «هؤلاء رفضة والذين قبلهم سنة «1» » . فقال: «وأى شىء الرّفضة والسنة؟» قالوا: «السنة يترضّون عن أبى بكر وعمر والرفضة يسبونهما» . فقال: «رضى الله عن أبى بكر وعمر» «2» .
فانصرفت العامة من فورها إلى الناحية المعروفة بدرب المقلى «3» من مدينة القيروان- وهو موضع يشتمل على جماعة منهم- فقتلوا منهم جماعة، ووقع القتل فيهم. وصادفت شهوة من العسكريين وأتباعهم طمعا فى النهب. وانبسطت أيدى العامة فيهم. فأقبل عامل القيروان يظهر أنه يسكّن الناس، وهو يحرضهم ويشير إليهم بزيادة الفتنة، لأنه كان قد أصلح البلد فبلغه أنه معزول، فأراد إفساده. فقتل من الرافضة خلق كثير فى ديارهم وحوانيتهم، وأحرقوهم بالنار. وانتهبت ديارهم وأموالهم. وزاد الأمر واتصل القتل فيهم فى جميع بلاد إفريقية. وقيل: إن القتل وقع فيهم فى جميع المغرب فى يوم واحد فى المدائن «4» والقرى، فلم يترك رجل ولا امرأة ولا طفل إلا قتل وأحرق بالنار. ونجا من بقى منهم بالمهدية إلى الجامع الذى بالحصن، فقتلوا فيه عن آخرهم.(24/201)
ولما كان فى يوم الثلاثاء لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى، خرج من بقى من المشارقة- وهم الرافضة «1» - إلى قصر المنصور بظاهر المنصورية، وهم زهاء ألف وخمسمائة، وتحصنوا به. فحاصرهم السنة فاشتد عليهم الحصار والجوع. فأقبلوا يخرجون والناس يقتلون منهم «2» ويحرقون إلى أن قتلوا عن آخرهم «3» ، وطهر الله تعالى المغرب منهم.
وعمل الشعراء فى هذه الواقعة القصائد. فممن عمل فيها أبو الحسن الكاتب المعروف بابن زيجى من قصيدة:
شفى الغيظ فى طىّ الضمير المكتّم ... دماء كلاب حلّلت فى المحرّم «4»
فلا أرقأ الله الدموع التى جرت ... أسى وجوى فيما أريق من الدم
هى المنّة العظمى التى جلّ قدرها ... وسارت بها الرّكبان فى كل موسم
فيا سمرا أمسى علالة منجد ... ويا خبرا أضحى فكاهة متهم «5»(24/202)
وبانعمة بالقيروان تباشرت ... بها عصب بين الحطيم وزمزم «1»
وأهدت إلى قبر النبىّ وصحبه ... سلاما كعرف المسك عن كل مسلم
غزونا أعادى الدين لا رمح ينثنى ... نبوا ولاحد الحسام المصمّم
بكل فتى شهم الفؤاد كأنما ... تسربل يوم الروع جلدة شيهم
إذا أمّ لم يشدد عرا متخوّف ... وإن همّ لم يحلل حبا متندّم
من القيروانيين فى المنصب الذى ... نمى، وإلى خير الصحابة ينتمى
وأوسع الشعراء فى ذلك. وقالوا فيه قصائد «2» كثيرة تركناها اختصارا.
وأما كرامت بن المنصور فإنه أقام بمدينة آشير ومعه من تلكاتة وغيرهم من قبائل صنهاجة، فما شعر إلا وقد وافاه حماد فى ألف وخمسمائة. فبرز إليه كرامت فى سبعة آلاف. فلما نشبت الحرب بينهم عمد التلكاتيون إلى بيت ماله فانتهبوه، ورجعوا على أدراجهم «3» . فكانت الهزيمة على كرامت فدخل مدينة آشير(24/203)
وحماد فى أثره. فأرسل إلى كرامت ليجتمع به فتوثّق منه وأتاه.
فزوّده «1» حماد بثلاثة آلاف دينار وبعث معه من أصحابه من يشيعه.
فوصل إلى الحضرة فى يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من المحرم سنة سبع وأربعمائة. وطلب تلكانة وصنهاجة بما صار إليهم من أموال كرامت ومواشيه، فتفرقوا عنه وامتنعوا عليه.
وفى يوم السبت لعشر بقين من صفر منها، ولى محمد بن حسن أمور المعز وجيوشه، وكان قبل ذلك على طرابلس، وأضيف إليه قابس ونفزاوة وقصطيلية وقفصة. فبعث عماله عليها. وعقد لأيوب بن يطوفت على سائر أعمال المغرب.
وفى يوم الأحد لعشر بقين من ذى الحجة سنة سبع وأربعمائة، ختن المعز وختن معه من أبناء الضعفاء عدة كثيرة. وأعطوا الكساوى والنفقة.
وفى آخر ذى الحجة هذا، وصلت الرسل من مصر بسجل الحاكم إلى المعز واللقب والتشريف، وخوطب بشرف الدولة.
ذكر مسير المعز لحرب حماد
قال: وفى يوم الخميس لسبع «2» بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة، برز المعز إلى مدينة رقادة فى عساكره وفرق الأموال.(24/204)
ثم رحل منها لأربع خلون من شهر ربيع الأول. ووصل «1» إليه عدة من القبائل من عسكر حماد ومن كتامة «2» . فجاءه الخبر أن إبراهيم وقف على باب مدينة باغاية فدعا بأيوب بن يطوفت فخرج إليه. فعاتبه على ما كان منه وذكر أنهم إخوة، وأن الذى كان إنما وقع بقضاء الله وقدره. وقال: «نحن على طاعة سيدنا المعز. وقد أردنا أن يتم الصلح على يدك. وحماد يقرأ عليك السلام ويقول لك: ابعث من تثق به أن يحلّفنى «3» ويأخذ على من العهود ما يسكن إليه قلبك، ويكتب به» .
فانخدع أيوب ودعا بحمامة أخيه وحبوس بن القاسم بن حمامة وأنفذهما معه. ثم تبعهما تورين «4» غلام أيوب، وهو أعز عنده من إخوته. فلما وصل بهم إبراهيم إلى أخيه حماد، أنزلهم «5» فى فازة السلام. ومضى إلى أخيه فأخبره. فبعث إليهما زكنون «6» ابن أبى حلا فجرد ما عليهما من الثياب، وألقى عليهما ثيابا رثة، وقيدهما بقيدين ثقيلين وأنفذهما إلى القلعة. ودعا حماد بتورين «7» فقال له: «هذان ابنا عمى وأنت فما جاء بك معهما؟ أردت أن تتحدث فتقول: قال لى حماد، وقلت لحماد!» وأمر به فضربت عنقه.(24/205)
فلما اتصل الخبر بالمعز، سار بالعساكر حتى انتهى إلى حماد. والتقوا واقتتلوا، فكانت الهزيمة على حماد وعساكره.
وقتل حماة أصحابة، وأسر إبراهيم، وفر حماد.
وعقد المعز لعمه كرامت بن المنصور على أعمال المغرب، ففرق عماله.
ذكر الصلح بين المعز وحماد عم أبيه
قال: ولما تمت الهزيمة على حماد، راسل «1» المعز فى طلب الصلح واعترف بالخطأ وسأل العفو عنه. فأنفذ المعز من يقف على صحة أمره وصدق طاعته، فعاد بسمعه وطاعته. ورغب فى ترك العمل، وأن يعقد له أخوه إبراهيم ما يسكن إليه من العهود والمواثيق التى يطمئن إليها، فيبعث حينئذ بولده «2» القائد أو يصل بنفسه. فحصل الاتفاق، وأرسل ابنه القائد إلى المعز. فوصل بعد عود المعز إلى المنصورية، وذلك فى النصف من شعبان من السنة. فأكرمه المعز وأحسن إليه. وكتب له منشورا بولاية المسيلة وطبنة ومرسى الدجاج وزواوة ومقرّة ودكمة وبلزمة وسوق حمزة، وأعطى البنود والطبول. وانصرف إلى أبيه لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثمان وأربعمائة. فلما وصل إلى أبيه أظهر الطاعة. وبقى القائد يتردد إلى المعز.(24/206)
ذكر مقتل القائد محمد بن حسن
كان مقتله لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة «1» . وذلك أنه كان قد استقل بالأمور وجبى الأموال منذ فوّضت إليه أمور الدولة. فلم يدخر درهما واحدا فى سبع سنين مع ما ورد من الهدايا الجليلة والتقادم النفيسة. وانتهت حاله إلى أن أخذ مالا من الذخيرة فلم يرد عوضه. وضاقت الدولة واتسعت أحواله وكثرت أبنيته التى لا تصلح إلا للملوك. وهادى الأكابر بمصر حتى وصل إليه سجل من الحضرة. فضاق منه المعز، فدس إليه بعض خواصه، وأشار عليه أن يقتصر على الخدمة، وله ما حصّله من الأموال والأبنية. فأبى إلا تماديا واستمرارا.
فقتله المعز فى التاريخ الذى ذكرناه، وكتب بالحوطة على أمواله ونعمه ورجاله. وقلد القاسم بن محمد بن أبى العرب سيفه. وأخرج بين يديه الطبول والبنود. وصرف إليه النظر فى سائر إفريقية.
قال: ولما قتل محمد بن حسن ثار أخوه عبد الله بن حسن عامل طرابلس وغضب لذلك. وبعث إلى زناتة فعاقدهم «2» وأدخلهم طرابلس. فقتلوا كل من كان بها «3» من صنهاجة والعسكريين وأخذوا المدينة. فلما انتهى ذلك إلى المعز. وأمر بالقبض على جميع بنى محمد وحبسهم ثم ظفر محمد بن وليمة(24/207)
بعبد الله، فأنفذه إلى المعز فاعتقله. ثم أمر بقتل الجميع «1» ، وذلك لما استغاثت نساء الصنهاجيين وأولادهم الذين قتلوا آباءهم بطرابلس.
وكان بإفريقية فى تلك السنة «2» مجاعة شديدة لم يكن مثلها قط.
وفى ليلة الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة عشرة وأربعمائة ولد للمعز مولود سماه نزار.
وفى صفر سنة تسع «3» عشرة وأربعمائة، ورد الخبر إلى المعز بوفاة حماد بن يوسف بلكّين، وهو عم أبيه. فكتب إلى ولده القائد بالتعزية بأبيه.
وفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، خرج عسكر المعز إلى الزاب. ففتح مدينة نورس «4» وقتل من البربر خلقا كثيرا.
وفتح من بلاد زنانة قلعة تسمى كردوم «5» .
وفى سنة ثلاثين وأربعمائة، دخل قائده جزيرة جربة، ففتحها وقتل رجالها، وأسر مقدمهم ابن كلدة وصلبه، لقطعهم الطريق وسوء اعتقادهم.(24/208)
وفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خرج المعز بجيوشه إلى قلعة حماد. وحاصرها مدة سنتين وضيق عليهم لرجوعهم إلى ما كانوا عليه من النفاق.
وفى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة «1» ، أظهر المعز الدعاء للدولة العباسية. ووردت عليه الرسل. ووصله السجل من القائم بأمر الله، وأوله: «من عبد الله ووليه أبى جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد نور الإسلام، وشرف الأيام «2» ، وعمدة الأنام، ناصر دين الله، وقاهر أعداء الله، ومؤيد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى تميم المعز بن باديس بن المنصور ولى أمير المؤمنين» بألفاظ طويلة، وخلع طائلة، وسيفه وفرسه وخاتمه وألوية كثيرة. فوصل ذلك فى يوم الجمعة والخطيب على المنبر فى الخطبة الثانية عند الاستغفار. فدخلت الألوية إلى الجامع، فقيل للخطيب: «اذكر الساعة ما أمكن» . فقال:
«هذا لواء الحمد يجمعكم، وهذا معز الدين يسمعكم، وأستغفر الله «3» لى ولكم» .
ذكر خروج العرب الى المغرب والسبب الموجب لذلك.
كان سبب ذلك أن المستنصر- لما ولى خلافة مصر بعد الظاهر بن الحاكم- خطب المعز فى أيامه للقائم بأمر الله العباسى. فكتب(24/209)
إليه وهو يرغبه ويرهبه، ويقول له: «هلّا اقتقيت آثار من سلف من آبائك فى الطاعة والولاء» ويتوعده «1» بإرسال الجيوش. فكتب المعز إليه: «إن آبائى وأجدادى كانوا ملوك المغرب «2» قبل أن تملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم. ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم» .
وكان المستنصر قد ولى وزارته فى اثنتين وأربعين وأربعمائة لأبى محمد الحسن بن اليازورى، ولقبه بالوزير الأجل المكين، سيد الوزراء «3» ، وتاج الأمراء، قاضى القضاة، وداعى الدعاة، علم المجد، خالصة أمير المؤمنين» . ولم يكن من أهل الوزارة ولا من الكتاب، بل كان من أهل التّناية «4» والفلاحة بالشام.
فأجراه ملوك الأطراف فى مكاتباتهم «5» على عادة الوزراء إلا المعز فإنه امتنع من مخاطبته بما كان يخاطب به الوزراء قبله، وذلك أنه كان يكاتب الوزراء بعبده فكاتبه بصنيعته. فعظم ذلك عليه «6» .
فأعمل الوزير الفكرة ودس إلى زغبة ورياح دسائس ووصلهم بصلات سنية. وبعث إليهما أحد رجال الدولة حتى أصلح بين الفئتين بعد فتن توالت وحروب استمرت ودماء أريقت. ثم أحضر أمراءهم وأباحهم على لسان المستنصر أعمال القيروان. ووعدهم(24/210)
بالمدد والعدد. وأمرهم بالعيث والإخراب. فدخلت العرب إلى بلاد المغرب فى سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وأنفذ اليازورى كتابا يقول فيه «1» : «أما بعد، فقد أرسلنا إليكم فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضى الله أمرا كان مفعولا» . ودخلت العرب فوجدوا بلادا خالية طيبة كثيرة المرعى، كانت عمارتها زناتة فأبادهم المعز. فأقاموا بها واستوطنوها وعاثوا فى أطراف البلاد.
وبلغ ذلك المعز فاستحقر أمرهم لتمام المقدور.
ذكر وفاة لقائد بن حماد وولاية ابنه وقتله وولاية بلكين بن محمد
وفى شهر رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة توفى القائد بن حماد ابن يوسف بلكين بن زيرى وكان فى مرضه ولّى محسنا، وأوصاه «2» بالإحسان إلى بنى حماد عمومته. فلما ولى خالف ما أمره به أبوه «3» وأراد عزل جميعهم. فلما سمع عمه يوسف بن حماد ما أراده من الغدر بإخوته بنى حماد خالف عليه. وجمع العساكر فاجتمع له خلق كثير. وكان يوسف قد بنى قلعة فى جبل منيع وسماها الطيارة. فلما اتصل بمحسن خلافه خرج إليه والتقى بعسكر عمه مدينى. فانهزمت تلكاتة عنه، فظفر به، فقتل من(24/211)
عمومته أربعة، وهم مدينى وإخوته مناد ونغلان «1» وتميم. وكتب إلى عمه يوسف يأمره بالقدوم إليه. فقال: «كيف أطمئن إليك وقد قتلت أربعة من عمومتك؟» .
وكان ابن عمه بلكين بن محمد متولى افريون «2» فكتب إليه محسن يأمره بالقدوم، فقدم عليه. فلما قرب منه أمر محسن قوما من العرب أن يأتوه برأسه. فلما خرجوا، قال لهم أميرهم خليفة بن مكن: «هذا بلكين لم يزل محسنا إلينا. فكيف نفعل به هذا؟» فأتوه وأعلموه بما أمروا به، فخاف عند ذلك. فقال له خليفة: «لا خوف عليك إن كنت تريد قتل محسن فأنا أقتله لك» . فتدرع بلكين وركب وأقبل يريد لقاءه. فبلغ محسنا قصده إليه، فهرب إلى القلعة. فأدركوه فى الطريق فقتله بلكين، ودخل القلعة، وولى الأمر. وذلك فى شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
[بقية أخبار المعز بن باديس]
نعود إلى أخبار المعز بن باديس، قال: ولما تكاسلت صنهاجة عن قتال زناتة، اشترى المعز العبيد، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك. وكانت العرب زغبة قد ملكوا مدينة طرابلس فى سنة ست وأربعين. ووصل مؤنس بن يحيى المرداسى إلى المعز بالقيروان.(24/212)
فأكرمه المعز وأحسن إليه. فنهاه مؤنس أن يجعل للعرب سبيلا إلى دخول إفريقية وقال: «إنهم قوم لا طاقة لك بهم» . فقال له المعز: «هم دون ذلك» . فلما رأى مؤنس استهزاء المعز بالعرب، خرج عنه ولحق بأرض طرابلس.
وتتابعت بنورياح والأثبج وبنوعدى، فدخلوا إفريقية، وقطعوا السبيل، وعاثوا فى البلاد. وعزموا على الوصول إلى القيروان.
فقال لهم مؤنس: «ليس هذا عندى برأى. وهذا يحتاج إلى تدبير» . فقالوا: «وكيف تحب «1» أن نصنع؟» قال: «ائتونى ببساط.»
فأتوه به. فبسطه وقال لهم: «من يدخل إلى وسط هذا البساط من غير أن يمشى عليه؟» قالوا: «كيف يقدر أحد على ذلك «2» » قال «أنا» . قالوا: «فأرنا كيف تقدر على ذلك» . فطوى البساط، وأتى إلى طرفه ففتح منه مقدار ذراع ووقف عليه. ثم فتح شيئا آخر ودخل إليه. وقال: «هكذا فاصنعوا ببلاد المغرب املكوها شيئا فشيئا حتى لا يبقى عليكم إلا القيروان فأتوها، فإنكم تملكونها» . فقال له رافع بن حماد: «صدقت يا مؤنس. والله إنك لشيخ العرب وأميرها. فقد قدمناك على أنفسنا فلسنا نقطع أمرا دونك» .
وقدم أمراء العرب إلى المعز، وهم مطرف بن كسلان، وفرح ابن أبى حسان، وزياد بن الدونية «3» ، وفارس بن كثير، وفارس(24/213)
ابن معروف، وهم أمراء بنى رياح وساداتهم، فأنزلهم المعز، وأكرمهم وأحسن إليهم. فخرجوا من عنده ولم يجازوه بما فعل معهم بل شنوا الغارات على البلاد، وقطعوا على الرفاق، وأفسدوا الزرع «1» ، وقطعوا الأشجار، وحاصروا المدن. فضاق الناس وساءت أحوالهم وانقطعت أسفارهم. وحل بإفريقية من البلاء ما لم ينزل بها مثله قط.
ذكر الحرب بين المعز والعرب وانتصار العرب عليه
قال: ولما كان من أمرهم ما ذكرناه، احتفل المعز وجمع العساكر. وخرج فى ثلاثين ألف فارس ومثلهم «2» رجالة «3» .
وسار حتى انتهى إلى جندران «4» ، وهو جبل على مسيرة ثلاثة أيام من القيروان. وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس «5» .
فلما شاهدوا عساكر صنهاجة هالهم ذلك. فقال مؤنس بن يحيى المرداسى: «يا وجوه العرب، ما هو يوم فرار» . فقالوا: «أين(24/214)
نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكازغندات «1» والمغافر؟» فقال أمير منهم: «فى أعينهم» . فسمى من ذلك اليوم «أبا العينين» «2» .
والتقوا والتحم القتال وحميت الحرب، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة. وتركوا المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم ويقتل أكثرهم، وبعد ذلك يرجعون على العرب. فانهزمت صنهاجة، وثبت المعز والعبيد. ووقع القتل فيهم، فقتل منهم خلق كثير. وحاولت صنهاجة الرّدة على العرب فلم يمكنهم، واستمرت الهزيمة. وقتل من صنهاجة أمة عظيمة. وانهزم المعز ودخل القيروان مهزوما على كثرة من كان معه وقلة العرب. واحتوت العرب على الخيل والعدد والمخيّم والأثقال والأموال. وفيها يقول الشاعر «3» :
وإنّ ابن باديس لأفضل ما لك ... ولكن لعمرى ما لديه رجال «4»
ثلاثون ألفا منهم غلبتهم ... ثلاثة آلاف إنّ ذا لمحال «5»
قال: ولما كان يوم عيد النحر من السنة، جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس. وهجم على العرب وهم فى صلاة العيد.(24/215)
فقطعت العرب الصلاة وركبوا خيولهم. فانهزمت صنهاجة وقتل منهم خلق كثير.
ثم جمع المعز وخرج فى صنهاجة وزنانة فى جمع عظيم. فلما أشرف على بيوت العرب، ركبت خيولها وهم زغبة وعدى، وكانوا سبعة آلاف. والتقوا واقتتلوا فانهزمت صنهاجة، وولى كل رجل منهم إلى منزله. ثم انهزمت زناتة وكان أميرها المنصور «1» ابن خزرون. وثبت المعز فيمن كان حوله من عبيده ثباتا ما سمع بمثله، ثم رجع إلى المنصورية. وأحصى من قتل من صنهاجة فى ذلك اليوم فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة «2» .
ثم أقبلت العرب حتى نزلوا بمصلى القيروان. ووقعت الحرب فقتل من أهل رقادة والمنصورية خلق كثير. فلما رأى المعز ذلك ذهب إلى رفع الحرب بينهم، وعلم عكس الدولة، وظن أنهم راجعون. فأباح لهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء. فلما دخلوا، استطال عليهم العامة وأهانوهم. فوقع «3» بينهم حرب كانت الغلبة فيها للعرب.
قال وكانت الكسرة الأولى على المعز فى سنة ثلاث وأربعين والثانية فى سنة أربع وأربعين وأربعمائة.(24/216)
ذكر انتقال المعز الى المهدية ومحاصرة العرب القيروان واستيلائهم عليها
قال: وفى سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان، وأخذ مؤنس باجة. فأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية. وشرع العرب فى هدم الحصون والقصور، وقلع الثمار، وتعمية العيون، وخراب الأنهار، فخرج المعز من القيروان إلى المهدية فى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، لليلتين مضتامن شعبان «1» وكان بها ابنه الأمير تميم. فتلقى أباه ومشى فى ركابه من ميانش «2» إلى القصر.
وفى أول شهر رمضان منها نهبت العرب القيروان.
وفى سنة خمسين وأربعمائة، خرج بلكّين بن محمد، ومعه من العرب الأثبج وعدى لحرب زنانة. فكسرهم وقتل منهم عددا كثيرا.
وفى سنة إحدى وخمسين، قتل منصور أفروم البرغواطى، قتله حمّو بن مليل «3» البرغواطى غدرا، وملك سفاقس مكانه.
وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، غدر الناصر بن علنّاس بلكين بن محمد وولى مكانه، وذلك فى غرة «4» شهر رجب.(24/217)
ذكر وفاة المعز بن باديس
كانت وفاته فى سنة ثلاث وخمسين «1» وأربعمائة بضعف «2» الكبد. وكانت مدة إقامته فى الملك سبعا «3» وأربعين سنة.
وكان رقيق القلب، كثير الرحمة، خاشعا لله، متحرزا من سفك الدماء إلا فى الحدود، حليما يتجاوز عن كبائر الجرائم، لينا لخدامه وعبيده وجلسائه وندمائه حتى كأنه واحد منهم أو أخ لهم محبا لرعيته «4» مشفقا عليهم، مكرما لأهل الفضل والعلم كثير العطاء لهم، شجاعا كريما، رحمه الله. وكان له من الأولاد الذين مات عنهم تسعة، وهم نزار، وتميم، وعبد الله، وعلى، وعمرو «5» ، وحماد، وبلكين، وحمامة، والمنصور.
ولما مات المعز ملك بعده ابنه.(24/218)
ذكر ولاية تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور بن يوسف بن زيرى
كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
وكان أبوه قد ولاه المهدية فى صفر سنة خمس وأربعين. وأقام بها إلى أن خرج المعز إليها. فدبر الأمر بين يديه إلى أن توفى المعز فاستقل بعده بالملك. ودخل القضاة ووجوه الناس إليه فعزوه بأبيه وهنئوه بالولاية. ووصل كتاب الناصر بن علناس بذلك.
ذكر خروج حمو عن طاعة الأمير تميم وحربه وانهزامه
وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة»
، خرج حمو بن مليل صاحب مدينة سفاقس عن الطاعة. فجمع أصحابه. واستعان بالعرب، فوافقته طائفة من الأثبج وعدى. فزحف بهم إلى المنزل المعروف ببئر قشيل «2» فملكه. ثم توجه منه نحو المهدية.
فخرج إليه تميم فى عساكره ومعه طائفة من العرب: زغبة ورياح ووصل إلى حمو والتقوا واقتتلوا. فكانت الهزيمة على حمو وأصحابه وأخذهم السيف. فقتل أكثر أصحابه ونجا هو بنفسه. وكانت هذه الواقعة بسلقطة «3» .(24/219)
وفيها بعد الوقعة قصد تميم مدينة سوسة وكان أهلها قد خالفوا على أبيه، فملكها وعفا عنهم وحقن دماءهم «1» .
ذكر الحرب بين بنى حماد والعرب وانتصار العرب عليهم
وفى سنة سبع وخمسين وأربعمائة، كانت الحرب بين الناصر ابن علناس بن محمد بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة وزناتة، ومن العرب عدى والأثبج؛ وبين العرب وهم رياح وزغبة وسليم، ومع هؤلاء المعز بن زيرى الزناتى. وكان سبب هذه الواقعة «2» أن حماد بن يوسف بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور الخلف الكبير «3» والحرب التى ذكرناها. ومات باديس وهو يحاصر قلعة حماد كما ذكرنا «4» .
ثم دخل حماد فى طاعة المعز. وكان القائد بن حماد بعد أبيه يضمر الغدر وخلع طاعة المعز والعجز يمنعه، إلى أن رأى قوة العرب وما نال المعز منهم. فعندها خلع الطاعة واستبد بالبلاد.
وجاء بعده ولده محسن، وبعده ابن عمه بلكين، وبعده ابن عمه الناصر بن علناس، وكل منهم متحصن «5» بالقلعة، وهى(24/220)
المعروفة بقلعة حماد وقد جعلوها دار ملكهم. فلما رحل المعز من القيروان، وصار إلى المهدية، وتمكنت العرب وأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، انتقل كثير من أهل القرى والبلاد إلى بلاد بنى حماد لحصانتها «1» . فعمرت بلادهم وكثرت أموالهم، وفى نفوسهم ما فيها من الضغائن والحقود من باديس وبنيه، يرثه صغير عن كبير.
وولى تميم بن المعز بعد أبيه، واستبد كل منهم ببلد وقلعة، وتميم يصبر ويدارى «2» .
فاتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه فى مجلسه ويذمه وأنه عزم على المسير ليحاصره بالمهدية، وأنه حالف بعض صنهاجة وزناتة وبنى هلال ليعينوه على حصار المهدية. فلما صح ذلك عنده أرسل إلى بنى رياح فأحضرهم إليه. وقال لهم: «أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع أكثرها فى البحر لا يقاتل من البر إلا من أربعة أبرجة يحميها أربعون رجلا. وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم وإلى بلادكم» . فقال له أمراء العرب: «إن الذى قاله السلطان حق ونحب منك المعونة بالعدة» . فقال: «على العدة والرّفادة» «3» . وأمر لهم بعشرة آلاف دينار، لكل أمير منهم ألف دينار، وألف درع، وألف رمح، وألف سيف هندى.
فخرجت الأمراء من عنده، وجمعوا رجالهم، وتحالفوا على لقاء الناصر. وأنفذوا شيخين سرا إلى بنى هلال الذين صاروا مع الناصر(24/221)
فقالا لهم: «كيف وقعتم فى هذا الأمر وأردتم تلاف «1» ملككم؟
هذا الناصر قد سمعتم غدر جده حماد لباديس، وغدر بنيه بعضهم بعضا، وقد اتفق مع زناتة، فإذا وطىء بلدنا بصنهاجة وزناتة قاصدا تميم بن المعز- وتميم فى حصن منيع بالمهدية لا يقدر عليه- فعندها يملك بلاد إفريقية ويخرجنا وإياكم عنها» . فقال لهم مشايخ بنى هلال: «والله، لقد صدقتم. فإذا التقينا فقاتلونا «2» فإنا ننهزم «3» ونرجع عليهم. فإذا ملكنا رقابهم كان لنا من الغنيمة الثلث ولكم الثلثان» . فقال الشيخان: «رضينا» .
وأرسل المعز بن زيرى الزناتى إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك، فوعدوه أن ينهزموا.
فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعا. وسار إليهم الناصر بصنهاجة وزناتة وبنى هلال. فالتقوا بموضع يسمى سبية. فلما ترائى الجمعان حملت «4» بنو رياح على بنى هلال. فانهزم بنو هلال كما وقع الاتفاق، وأظهروا الغدر من وراء العسكر. فانهزم عند ذلك الناصر ابن علناس، وسلم فى عشرة أفراس.
فكان جملة من قتل فى هذه الوقعة من صنهاجة وزناتة أربعة وعشرون ألفا. وصارت الغنائم كلها للعرب، وبهذه الوقعة ثم لهم ملك البلاد. فإن أكثرهم عند دخولهم كانوا رجالة، والفرسان(24/222)
منهم فى أضيق حال. فتقاسموا هذه الغنائم على ما قرروه بينهم إلا الطبول والبوقات والفازات بأبغالها «1» ، فإنهم حملوها إلى تميم.
فردها ولم يقبلها، فعزّ ذلك على العرب وقالوا: «نحن خدمك بين يديك» فقال: «ما فعلت هذا انتقاصا بكم وإنما المانع منه أننى لا أرضى أخذ سلب ابن عمى» . وظهر عليه من الحزن بقوة العرب ما لم يوصف.
ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه
قال: ولما كانت هذه الواقعة بين بنى حماد والعرب، وبلغ الناصر ما نال ابن عمه تميم من الألم والحزن، وكان وزيره أبو بكر بن أبى الفتوح محبا فى دولة تميم، فقال «2» للناصر: «يا مولاى، ألم أشر عليك ألا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب. فلو اتفقتما لأخرجتما العرب» . فصدقه الناصر ورجع إلى قوله، وقال له:
«أصلح ذات بيننا» . فأرسل الوزير رسولا من عنده إلى تميم يعتذر ويرغب فى الإصلاح. فقبل تميم قوله.
وأراد أن يرسل رسولا إلى الناصر، فاستشار أصحابه. فاتفقوا على إرسال محمد بن البعبع، وقالوا: «هذا رجل غريب، قد شمله إحسانك وبرك، وقد اقتنى من إنعامك الأموال والأملاك، وهو لا يعرف صنهاجة. فما يصلح لهذا الأمر سواه» . فأحضر تميم محمد بن(24/223)
البعبع وأمر له بعبيد وخيل وكسا ودنانير. وأوصاه وأرسله وأجاز الرسول الواصل.
وخرجا معا إلى أن وصلا إلى بجاية، وهى حينئذ منزل ينزله رعية البربر. فنظرها ابن البعبع وتأملها، وقال فى نفسه: «هذا المكان يصلح مدينة ومرسى وصناعة للسفن» . وتمادى إلى أن وصل إلى القلعة ودخل على الناصر، وقد علم ابن البعبع أن الوزير محب فى دولة تميم.
فلما انبسط ودفع المكاتبة، قال للناصر: «يا مولاى، معى وصية إليك فأحب أن يخلى المجلس» . فقال الناصر: «ليس هنا إلا الوزير، وأنا لا أخفى عنه أمرا» . فقال: «بهذا أمرنى «1» سيدنا تميم» . فقال الناصر لوزيره: «انصرف» . فلما خرج، قال محمد للناصر: «يا مولاى، إن الوزير مخامر عليك مع تميم، وهو لا يخفى عنه من أمورك شيئا، وتميم مشغول مع عبيده النصارى.
قد «2» استبد بهم واطرح صنهاجة وتلكاتة وجميع القبائل. فو الله، لو وصلت بعسكر إلى المهدية ما بتّ إلا فيها لبغض الأجناد والرعية فى تميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وقد عبرت الآن ببجاية فرأيت فيها مرافق من صناعة وميناء وجميع ما يصلح لبناء مدينة. فاجعلها لك مدينة، يكون فيها دار ملكك وتقرب من جميع بلاد إفريقية. وأنا أنتقل إليك بأهلى وولدى، وأترك مالى بالمهدية من الرياع، وأخدمك حق الخدمة» . فأجابه الناصر إلى ذلك واستراب من وزيره.(24/224)
وخرج الناصر من ساعته ومعه ابن البعبع إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة. فوصلا إليها. ورسم ابن البعبع المدينة والصناعة والميناء وموضع القصر واللؤلؤة. وأمر الناصر من ساعته «1» بالبناء والعمل.
وشكره وأثنى عليه، وعاهده على وزارته. ورجعا جميعا إلى القلعة.
وأحضر الوزير وقال: «هذا محب لدولتنا ناصح فى خدمتنا.
وقد أشار علينا ببناء بجاية. وعزم على الانتقال إلينا «2» بالأهل والولد. فاكتب له جواب كتبه إلى تميم» . وأمر له بألف دينار، وأربع وصائف، وأربع بغال من مراكبه.
وسار ابن البعبع فوصل إلى المهدية بكتب ناقصة وصلة تامة.
فاستراب به تميم. وسأله عن بناء بجاية وسببه، فقال: «يا مولاى، مالى بهذا علم. أنا رجل غريب» . فتحقق تميم أنه الذى أشار عليه ببنائها. وخرج ابن البعبع إلى داره خائفا وجلا.
وكان لما فارق الناصر سأله أن ينفّذ معه رجلا من ثقاته ينفذ معه ما يعاين من الأخبار. فنفّذ معه رجلا. فلما خرج إلى داره كتب إلى الناصر: «إننى لما وصلت إلى تميم لم يسألنى عن شىء قبل سؤاله عن أمر بجاية، إنه قد وقع على قلبه منها أمر عظيم. وقد اتهمنى فانظر من تثق به من العرب ممن يصل «3» إلى أولاد عكابش، فإننى خارج إليهم مسرعا، وقد عاهدتهم «4» على ذلك «5» . فتنفذ من بنى هلال(24/225)
من تثق به. وقد أوثقت شيوخ زويلة وغيرها على طاعتك. فالله الله أسرع إلى بمن ذكرت» .
قال: فمضى الرسول بالكتاب فقرأه الناصر وأوقف الوزير أبا بكر عليه. فاستحسن الوزير ذلك منه وقال: «لقد خدم هذا الرجل ونصح» . فقال الناصر: «خذ الكتاب إليك، وجاوب الرجل عنه، وانظر فى إنفاذ العرب إليه قولا وفعلا، ولا تؤخر ذلك عنه» . فمضى الوزير إلى داره وكتب نسخة كتاب ابن البعبع، وحكاها حتى كأنها هى، خشية أن يسأله الناصر عن الكتاب بعد ذلك.
وأنفذ كتابه الذى بخطه إلى تميم وكتب كتابا منه يصف الحال من أوله إلى آخره.
فلما وقف تميم على ذلك، عجب منه وبقى يتوقع له ما يأخذه به.
وجعل عليه من يحرسه فى ليله «1» ونهاره من حيث لا يشعر. فأتاه بعض الحرس وأخبره أن ابن البعبع صنع طعاما وأحضر عنده الشريف الفهرى- وكان هذا الشريف من خواص تميم- فلما أصبح استدعاه تميم. فحضر وقال: «يا مولاى، ما كنت إلا واصلا إليك» .
وحدثه أن محمد بن البعبع دعانى وقال لى: «أنا فى ذمامك وحسبك، أحب أن تعرفنى من أين أخرج من المهدية «2» ، فأنت أعرف الناس بذلك» . فقلت له: «ولم تفعل ذلك، وأنت فى هذه المنزلة الكبيرة مع مولانا تميم؟» فقال: «إنه اتهمنى أننى أشرت على الناصر ببناء بجاية، وقد خفت» . فقلت له: «يا أبا عبد الله،(24/226)
إن كنت سالما من قول قلته أو أمر أبرمته فلا تبال، فسيدنا تميم رجل رؤوف لا يؤاخذ بقول ولا بظن» . فقال لى: «دعنى فلا قدرة لى على المقام» . فقلت له: «أنا أنظر فى هذا الأمر بالغداة إن شاء الله وأعرفك بمن تثق به من العرب» . فأخذ يدى على ذلك.
قال: فأخرج تميم كتاب ابن البعبع الذى بخطه إلى الناصر وأوقف الشريف عليه. ثم قال له: «أحضره إلى» . فمضى الشريف إليه وقال له: «سيدنا تميم أمر بحضورك معى ولا يكون إلا خيرا» فلبس ثيابه وخرجا. فلقيهما ماضى بن عكابش فقال له: «يا أبا عبد الله، الهلاليون قد وصلوا إلينا البارحة، وهذه كتب قد وصلت إليك منهم» «1» . فتناولها الشريف من يده فقال له ابن البعبع:
«استر على ستر الله عليك» . وسأله. فدخلا القصر وابن البعبع يسأله فيها. فقال: «خذها فو الله ما ينفعك أخذها» . فتناولها.
وخرج تميم إليهما فجزع ابن البعبع حتى سقطت الكتب من يده وإذا عنوان أحدها: «من الناصر بن علناس إلى شيخنا وخليلنا» فقال له تميم: «من أين هذه الكتب؟» فسكت. فقرأها تميم فوجد فيها الحجة عليه. فقال ابن البعبع: «العفو يا مولانا» . فقال «لا عفا الله عنك؟» وأمر بضرب عنقه وتغريق جثته «2» .(24/227)
ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس
وفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، سير تميم عسكرا كثيفا «1» إلى مدينة تونس. فأقام محاصرا لها مضيّقا عليها سنة وشهرين. وكان بها أحمد بن خراسان وقد أظهر الخلاف.
وسبب ذلك أن المعز بن باديس أبا تميم- لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية- استخلف على القيروان وعلى تونس «2» قائد بن ميمون الصنهاجى. فأقام بها ثلاث سنين ثم غلبته هوارة عليها، فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية. فلما ولى تميم بعد أبيه رده إليها، فأقام بها مدة ست سنين. ثم أظهر الخلاف على تميم وأطاع الناصر بن علناس. فجرد إليه تميم عسكرا من أجناده وعبيده. فعلم أنه لا طاقة له بهم، فترك القيروان وسار إلى الناصر. ودخل عسكر تميم القيروان وخربوا قصر القائد الذى بناه بباب سلم.
وسار العسكر إلى تونس وبها ابن خراسان فحصروه، فأطاع وصالح الأمير تميما.
وأما قائد بن ميمون فإنه مكث عند الناصر سنتين «3» . ثم مضى إلى حمّو بن مليل فاشترى له مدينة القيروان من العرب وولاه عليها. فابتدأ ببناء سورها وحصّنها.(24/228)
وفى سنة سبعين وأربعمائة «1» ، تم الصلح بين تميم والناصر ابن علناس. وزوجه تميم ابنته السيدة بلارة»
وجهزها إليه من المهدية فى البر.
ذكر استيلاء مالك بن علوى الصخرى على القيروان وأخذها منه، وعودها الى تميم
وفى سنة ست وسبعين وأربعمائة، جمع مالك بن علوى العرب، وسار إلى المهدية وحصرها. فدفعه تميم عنها ولم يظفر منها بشىء.
فسار إلى القيروان فحصرها وملكها. فجرد تميم العساكر إليه فحصروه بها. فلما رأى مالك أنه لا طاقة له بعساكر تميم تركها. واستولت عساكر تميم عليها وعادت إلى ملكه كما كانت.
ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها
قال: وفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة «3» ، اجتمع الروم فى أربعمائة «4» قطعة وأعانهم الفرنج. وأتوا كلهم إلى جزيرة قوصرة(24/229)
وأخربوا ونهبوا وأحرقوا. وملكوا مدينة زويلة وهى بقرب المهدية.
وكانت عساكر تميم غائبة فى قتال الخارجين عليه، فصالح تميم الروم على ثمانين ألف دينار «1» ، بشرط. أن يردوا «2» جميع ما حووه من السبى، ففعلوا ذلك ورجعوا جميعا.
وفيها مات الناصر بن علناس. وولى ابنه المنصور فقفا آثار أبيه فى الحزم والعزم والرئاسة. وأتته كتب تميم وغيره بالتهنئة والتعزية.
ذكر خبر شاه ملك «3» التركى ودخوله الى افريقية وغدره بيحيى بن تميم
كان شاه ملك هذا من أولاد بعض أمراء الأتراك ببلاد المشرق «4» فناله فى بلده أمر أخرجه عنها. فخرج وسار «5» إلى مصر فى مائة فارس. فأكرمه الأفضل أمير الجيوش ووصله وأعطاه إقطاعا ومالا.
ثم بلغه عنه أشياء أوجبت حبسه هو وأصحابه. وجرى بمصر أمر فخرج شاه ملك «6» هو وأصحابه هاربين، واحتالوا فى خيل «7» وعدة.
وتوجهوا إلى المغرب فوصلوا إلى طرابلس المغرب وأهل البلد(24/230)
كارهون لواليها. فأدخلوهم البلد وأخرجوا الوالى. فصار شاه ملك أمير البلد. فبلغ تميم الخبر فأرسل العساكر فحصروها وفتحوها وأخذوا شاه ملك ومن معه إلى المهدية. فسر بهم تميم وقال: «قد ولد لى مائة ولد أنتفع بهم» . وكانوا لا يخطىء لهم سهم.
فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميما عليهم. فعلم شاه ملك ذلك، وكان صاحب دهاء وخبث. فلما كان فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، خرج يحيى بن تميم إلى الصيد ومعه شاه ملك ومن معه. وكان أبوه قد تقدم إليه ألا يقربه فلم يقبل منه. فلما أبعدوا فى طلب الصيد «1» ، غدر به شاه ملك، وقبض عليه، وسار به وبمن أخذ من أصحابه إلى حمو بن مليل صاحب مدينة سفاقس. فركب حمو وخرج للقاء يحيى بن تميم. وترجل وقبل يده ومشى فى ركابه وعظّمه واعترف له بالعبودية. وأقام عنده أياما ولم يذكره أبوه بكلمة واحدة.
وكان قد جعله ولى عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابنا آخر اسمه مثنى.
قال: ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد فيملكوه عليهم، فكتب إلى تميم يسأله «2» إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل إليه ابنه يحيى. ففعل ذلك بعد امتناع كثير. وقدم يحيى فحجبه أبوه عنه مدة. ثم رضى عنه وأعاده وجهزه إلى سفاقس بجيش فحصرها برا وبحرا مدة شهرين. فخرج الأتراك عنها إلى قابس.(24/231)
ذكر خلاف مثنى بن تميم على أبيه
قال: كان سبب ذلك أن تميم بن المعز لما رضى عن ابنه يحيى وأعاده إلى ولاية عهده، عظم ذلك على المثنى وداخله الحسد فلم يملك نفسه. فنقل إلى أبيه «1» عنه ما غير قلبه عليه. فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وولده وعبيده. فركب فى البحر إلى سفاقس «2» ، فلم يمكنه عاملها من الدخول إليها.
فقصد مدينة قابس، فلقيه الثائر بها مكن «3» بن كامل الدهمانى فأنزله وأكرمه. فحسن له مثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية وأطمعه فيها، وضمن له الإنفاق على الجند من ماله. فجمع ما أمكنه جمعه. وسارا إلى سفاقس ومعهما شاه ملك التركى وأصحابه فنزلو «4» على سفاقس وقاتلوا من بها فبلغ تميما الخبر فجرد إليها جندا من الرماة.
فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طمع لهم فيها تركوها. وقصدوا المهدية فنزلوا عليها وقاتلوا. فتولى قتالهم بها يحيى بن تميم وظهر من شدته وصبره وحزمه وحسن تدبيره ما استدل به على نجاح أمره وحسن عاقبته.
ولم يبلغ أولئك منها غرضا فعادوا وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره.(24/232)
ذكر ملك تميم مدينة قابس
وفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ملك تميم مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمرو «1» بن المعز. وكان أهلها ولّوه عليها بعد موت قاضى ابن إبراهيم بن بلمويه «2» . فلم يحسن عمرو السياسة ولا نهض بشرط الولاية. وكان قاضى بن إبراهيم عاصيا على تميم، وتميم يعرض عنه. فسلك عمرو طريقته فى العصيان، فأخرج تميم العساكر إلى أخيه ليأخذ قابس «3» منه. فقال له أصحابه: «يا مولانا، لما كان فيها قاضى توانيت عنه وتركته، فلما صار أمرها إلى أخيك جردت إليه العساكر!» فقال: «لما كان فيها عبد من عبيدنا كان زواله سهلا علينا. وأما الآن فابن المعز بالمهدية وابن المعز بقابس. هذا لا يمكن السكوت عليه» .
وفى فتحها يقول ابن خطيب سوسة «4» قصيدته المشهورة التى أولها:
ضحك الزمان وكان يلفى عابسا ... لما فتحت بحد سيفك قابسا «5»(24/233)
أنكحتها بكرا وما أمهرتها ... إلا قنا وصوارما وفوارسا «1»
الله يعلم ما جنيت ثمارها ... إلا وكان أبوك قبل الفارسا «2»
من كان بالسّمر العوالى خاطبا ... جليت له بيض الحصون عرائسا «3»
فأبشر تميم بن المعز بفتكة ... تركتك فى أكناف قابس قابسا «4»
ولّوا فكم تركوا هناك مصانعا ... ومقاصرا ومخالدا ومجالسا
فكأنها قلب وهنّ وساوس ... جاء اليقين فذاد عنه وساوسا
وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، فتح تميم جزيرة جربة وجزيرة قرقنة «5» ومدينة تونس. وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس.
وفى سنة ثلاث وتسعين، فتح تميم مدينة سفاقس. وخرج(24/234)
منها حمو بن مليل هاربا فقصد مكن بن كامل الدّهمانى، فأحسن إليه وأقام عنده حتى مات. وكان حمو قد تغلب عليها واشتد أمره بوزير كان عنده من كتاب المعز حسن الرأى والتدبير والسياسة، فاستقامت به دولته وعظم شأنه. فأرسل إليه تميم وبالغ فى استمالته ووعده بكل جميل فلم يقبل. فاشتد أمره على تميم فسير جيشا إلى حصار سفاقس. وأمر مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير، فإنه لا يتعرض إليه ويبالغ فى صيانته، ففعل ذلك. فلما رأى حمو ذلك اتهمه وقتله. فانحل نظام دولته وتسلم عسكر تميم البلد.
وفى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، مات المنصور بن الناصر بن علناس، وولى بعده ولده باديس. ثم مات بعد يسير فولى أخوه العزيز بالله.
ذكر وفاة تميم بن المعز
كانت وفاته فى شهر رجب سنة إحدى وخمسمائة «1» ، وله من العمر تسع وسبعون سنة «2» ، ومدة ولايته سبع وأربعون سنة وعشرة أشهر وعشرون يوما «3» .(24/235)
وكان شهما شجاعا كريما حليما كثير العفو عن الجرائم العظيمة ذكيا حسن الشعر. فمن شعره ما قاله وقد وقع «1» حرب بين طائفتين من العرب، وهما عدى ورياح فقتل رجل من رياح ثم اصطلحوا وأهدروا دمه، وكان صلحهم مما يضر بتميم وبلاده، فقال أبياتا يحرض فيها على الطلب بدم المقتول، وهى:
متى كانت دماؤكم تطل ... أما فيكم بثأر مستقل
أغانم ثم سالم إن فشلتم ... فما كانت أوائلكم تذل
ونمتم عن طلاب الثأر حتى ... كأن العز فيكم مضمحل
وما كسرتم فيه العوالى ... ولا بيض تفلّ ولا تسل
فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميرا من بنى عدى. فقامت الحرب بينهم واشتد القتال، وكثرت القتلى بينهم حتى أخرجوا بنى عدى من إفريقية، وبلغ تميم فيهم ما يريد. وكان يوقع بالشعر الحروب بين العرب فبلغ «2» بلسانه ما لم يبلغه»
بسنانه.
ومن أخباره فى رعيته وشفقته عليهم ما حكى أنه اشترى «4» جارية بثمن كثير. فبلغه أن مولاها الذى باعها ذهب عقله وأسف(24/236)
على فراقها. فأحضره تميم إلى بين يديه وأرسل الجارية إلى داره ومعها من الكسوة والأوانى والفضة «1» والطيب شيئا كثيرا. ثم أمر مولاها بالانصراف وهو لا يعلم بذلك. فلما وصل إلى داره ورآها بمنزله سقط إلى الأرض وغشى عليه لكثرة ما ناله من السرور. ثم أفاق وأصبح من الغد فحمل الثمن وجميع ما كان معها إلى دار تميم. فغضب وانتهره وأمره بإعادة ذلك إلى داره. وهذه نهاية فى الجود، وغاية فى الكرم والشفقة والإحسان.
وكان له فى البلاد أصحاب أخبار يطالعونه بأخبار الناس لئلا يظلموا.
قال: وخلّف من البنين مائة «2» ، ومن البنات ستين.
ولما مات رحمه الله ولى بعده ابنه يحيى.
ذكر ولاية يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ابن المنصور يوسف بن زيرى
كانت ولايته عند وفاة أبيه تميم فى يوم السبت النصف من شهر رجب سنة إحدى وخمسمائة، ومولده بالمهدية فى يوم الجمعة لأربع بقين من ذى الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. ولما ولى عم(24/237)
أهل دولته من الخواص والجند بالخلع السنية، ووهب الأجناد والعبيد أموالا كثيرة.
وفى هذه السنة «1» ، جرد عسكرا إلى قلعة اقليبية «2» ، وهى من أحصن قلاع إفريقية. وقدّم عليهم الشريف «على الفهرى» . فنزل عليها وحاصرها حصارا شديدا ففتحها. وكان تميم قد رامها فلم يقدر على فتحها.
وفى سنة اثنتين وخمسمائة «3» ، وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء. فكتبوا إلى يحيى يقولون إنهم يعملون الكيمياء. فأحضرهم عنده وأمرهم أن يعملوا شيئا من صناعتهم. وأحضر لهم ما طلبوه من صناعتهم، وأحضر لهم ما طلبوه من آلة وغيرها. وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن «4» . فلما رأى الكيميائية المكان خاليا ثاروا بيحيى. فضربه أحدهم على رأسه، فوقعت السكين فى عمامته فلم تصنع شيئا. ورفسه يحيى فألقاه على ظهره. ودخل يحيى بابا وأغلق على نفسه. وضرب الثانى الشريف فقتله. وأخذ إبراهيم القائد السيف فقاتل الكيميائية. ورفع الصوت فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا أولئك. وكان زيهم زى أهل الأندلس، فقتل جماعة فى البلد على مثل زيهم.
وقيل ليحيى: «إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن(24/238)
الخليفة» . واتفق أن الأمير أبا الفتوح إبراهيم أخا يحيى وصل فى تلك الساعة إلى القصر، فى أصحابه وقد لبسوا السلاح. فمنع من الدخول. فثبت عند يحيى أن ذلك بوضع منهما. فأحضر المقدم بن خليفة وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصا، لأنه كان قد قتل أباهم.
وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته إلى قصر زياد بين المهدية وسفاقس، ووكل بهما. فبقى هناك حتى مات يحيى وولى ابنه على. فسيّره إلى ديار مصر فى البحر.
وفى سنة أربع وخمسمائة، أنفذ ابنه أبا الفتوح واليا على مدينة سفاقس. فقام أهلها عليه فنهبوا قصره وهمّوا بقتله. فلم يزل يحيى يعمل الحيلة حتى فرق كلمتهم وبدد شملهم وملك رقابهم وملأ السجون منهم. ثم عفّ عن دمائهم وعفا عن ذنوبهم.
وفى أيام يحيى وصل إلى المهدية من طرابلس المهدى محمد بن تومرت، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى «2» .
ذكر وفاة يحيى بن تميم وشىء من أخباره
كانت وفاته فجأة يوم عيد الأضحى سنة تسع وخمسمائة. وكان منجمه قد قال له فى تسيير مولده «1» : «إن عليه قطعا فى هذا اليوم» .
ومنعه من الركوب فلم يركب وخرج أولاده وأهل بيته وأرباب دولته إلى المصلى. فلما انقضت الصلاة حضروا للسلام عليه وتهنئته.(24/239)
وقرأ القراء «1» وأنشد الشعراء وانصرفوا إلى الطعام. فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام «2» . فلم يمش غير ثلاث خطوات ووقع ميتا رحمه الله.
وكان عادلا فى رعيته، ضابطا لأمور دولته، مدبرا لجميع أحواله، رحيما بالضعفاء والفقراء كثير الصدقة، يقرب أهل العلم والفضل.
وكان عالما بالأخبار وأيام الناس والطب. وكان حسن الوجه، أشهل العينين، مائلا «3» فى قدّه إلى الطول.
ومات وله من العمر اثنتان وخمسون سنة إلا سبعة عشر يوما «4» .
ومدة ولايته ثمانى سنين وخمسة أشهر إلا خمسة أيام «5» .
وخلّف من الأولاد الذكور ثلاثين ولدا.
وقال عبد الجبار محمد بن حمديس الصقلى يرثيه ويهنىء ابنه عليا بالملك «6» :
ما أغمد الغضب حتى جرّد الذّكر ... ولا اختفى قمر حتى بدا قمر(24/240)
بموت يحيى أميت الناس كلهم ... حتى إذا ما علىّ جاءهم نشروا «1»
إن يبعثوا بسرور من تملّكه ... فمن منيّة يحيى بالأسى قبروا «2»
أوفى علىّ فسنّ الملك ضاحكة ... وعينه من أبيه دمعها همر «3»
شقّت جيوب المعالى بالأسى فبكت ... فى كل أفق عليه الأنجم الزّهر «4»
وقلّ لابن تميم حزن مأتمها ... فكل حزن عظيم فيه محتقر
قام الدليل ويحيى لا حياة له ... أن المنية لا تبقى ولا تذر
ذكر ولاية على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى
كانت ولايته بعد وفاة أبيه. وكان إذ ذاك بمدينة سفاقس، فاجتمع رجال الدولة منهم عبد العزيز بن عمار والقائد زكو «5» وغيرهما.(24/241)
ووقع الاتفاق على أن يكتب كتاب على لسان يحيى لولده يؤمر فيه بالوصول إليه مسرعا. فكتب وسيّر إليه فوصل إليه ليلا. فخرج لوقته ومعه طائفة من أمراء العرب «1» . وجد السير فوصل إلى المهدية الظهر من يوم الخميس الثانى «2» من يوم العيد، وهو الحادى عشر من ذى الحجة سنة تسع وخمسمائة. ودخل القصر. وبدأ بتجهيز أبيه ومواراته فى قبره ثم جلس للعزاء والهناء.
ولما استقامت له الأمور، جهز أسطولا إلى جربة، وكان أهلها يقطعون على الناس فى البحر. وجعل قائد الأسطول القائد إبراهيم قائد جيشه، وأصحبه جماعة من رجال الدولة. فمضوا إليها وحاصروها وضيقوا على أهلها، حتى أذعنوا للطاعة ونزلوا على الحكم والتزموا الكف عن الفساد. فأمن من يسافر فى البحر.
وفى سنة عشر وخمسمائة، جهز جيشا إلى مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان. فحاصرها وضيق على من بها. فصالح ابن خراسان السلطان على ما أراد.
وفتح أيضا فى هذه السنة جبل وسلات واستولى عليه. وهو جبل منيع لم يزل أهله طول الدهر يقطعون الطريق ويقتلون الناس. فملكه وقتل من فيه.
وفى سنة إحدى عشرة وخمسمائة، حاصر الأمير على مدينة قابس فى البحر. وسبب ذلك أن رافع بن مكن الدهمانى أنشأ مركبا(24/242)
بساحلها، وقصد إجراءه فى البحر فى آخر أيام يحيى فلم ينكر ذلك وأعانه بالخشب والحديد. وتوفى يحيى قبل إكماله. فلما ولى على أنف من ذلك. فعمر ست حربيات وأربع شوان. فاستعان رافع برجار صاحب صقلية، فأنفذ رجار لإعانته أصطولا «1» جملته أربعة وعشرون شينيا، لتأخذ المركب معها وتشيعه إلى صقلية لئلا تقطع عليه مراكب على. فلما اجتاز أصطول رجار بالمهدية، أخرج على الحربيات والشوانى تتبعه إلى قابس، فتوافوا «2» بها. فرجع أسطول رجار إلى صقلية وبقى أصطول على يحاصر قابس. فضيق على من بها وأثر فى مأجلها وأفسد ثم رجع إلى المهدية. وتمادى رافع فى إظهار المخالفة والتمسك بصاحب صقلية.
ذكر حصار رافع المهدية وانهزامه
قال: ثم أقبل رافع بن مكن الدهمانى على جميع قبائل العرب وحالفهم. وسار بهم لحصار المهدية ونازلها. فأمر على العسكر بالخروج وقتاله. فخرجوا عشية النهار فحملوا على رافع ومن معه حتى أزالوهم عن مواقفهم. ووصل الجند إلى أخبية العرب. فصاح الحريم: «هكذا نسبى، هكذا نستباح» . فعادت العرب ونشبت الحرب واشتد القتال إلى المغرب. ثم افترقوا، وقد قتل من عسكر رافع خلق كثير، ولم يقتل من أصحاب «3» على إلا رجل واحد. ثم(24/243)
خرج إليهم الجند مرة ثانية واقتتلوا. فكان الظهور «1» لأصحاب على.
وهرب رافع بالليل إلى القيروان فدخلها بعد قتال. فأرسل على ابن يحيى إليه عسكرا فحاصروه بالقيروان. ووقع بينهم قتال شديد قتل فيه أحمد بن إبراهيم صاحب الجيش بسهم أصابه. وكان الغلب مع ذلك لأصحاب على. ورجع رافع إلى قابس.
وتوسط ميمون بن زياد «2» لرافع فى الصلح مع على. فأجاب إلى ذلك بعد امتناع «3» . وتم الصلح بينهما وانتظم وزالت الوحشة.
ثم وصل رسول رجار صاحب صقلية بمكاتبة يلتمس فيها تأكيد العهود وتجديد العقود. فأجاب إلى ذلك. ثم وقعت الوحشة بينهما.
فأمر «4» على بتجديد الأصطول فعمر عشرة مراكب حربية، وثلاثين غرابا، وشحنها بالرجال والعدد والنفط. وجميع ما تحتاج إليه.
وكان دأبه الحزم والصرامة والشهادة والعزم إلى أن توفى.
وكانت وفاته فى يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الاخر سنة خمس عشرة وخمسمائة. وكان مولده بالمهدية صبيحة يوم الأحد للنصف من صفر سنة تسع وسبعين وأربعمائة. وكانت مدة ولايته خمس سنين وأربعة أشهر وثلاثة «5» عشر يوما. وخلف من الأولاد(24/244)
أربعة، وهم الحسن وباديس وأحمد «1» وعزيز.
ولما مات ولى بعده بعهده ولده الحسن.
ذكر ولاية الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى
كانت ولايته بعهد من أبيه. فاستقل بعد وفاة أبيه، وله من العمر إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وشهورا. فدبر دولته صندل الخصى وحفظ الملك. فلم تطل أيام صندل حتى مات. ووقع الاختلاف بين أكابر الدولة والقواد، وكل منهم يطلب التقدم على الجميع، ويبدى أنه صاحب الحل والعقد. فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى القائد أبى عزيز موفق، وهو من قواد أبيه، فصلحت الأمور.
ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة
وفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة «2» ، استولت الفرنج على جربة «3» من بلاد إفريقية. وكان أهلها لا يدخلون تحت طاعة سلطان.
فخرج إليها جيش من صقلية وأداروا المراكب بجهاتها. فقاتل أهلها قتالا شديدا فقتل منهم خلق كثير وانهزموا. وملكها الفرنج، وغنموا الأموال، وسبوا النساء والأطفال. وهلك أكثر رجالها، وعاد من(24/245)
بقى منهم فأخذوا لأنفسهم أمانا من صاحب صقلية وافتكوا أسراهم «1» وسبيهم.
ذكر ملك الفرنج مدينة طرابلس
وفى أيامه ملك الفرنج مدينة طرابلس الغرب، وذلك فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وسبب ذلك أن رجار صاحب صقلية جهز أصطولا كثيرا «2» وسيره إليها. فأحاطوا بها برا وبحرا فى ثالث المحرم من السنة. فقاتلهم أهلها ودامت الحرب بينهم ثلاثة أيام. فلما كان فى اليوم الثالث سمع الفرنج صيحة عظيمة فى البلد وخلت الأسوار من المقاتلة. وكان سبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا. وأخرجت بنو مطروح طائفة. وقدموا على أنفسهم رجلا من الملثمين «3» كان قد قدم يريد الحج ومعه جماعة، فولوه أمرهم. فلما نازلهم الفرنج، أغارت تلك الطائفة على بنى مطروح. فوقعت الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار «4» . فانتهز الفرنج الفرصة، ونصبوا السلالم، وصعدوا على السور، وملكوا المدينة. فسفكوا دماء أهلها، وسبوا نساءهم ونهبوا أموالهم «5» . وهرب من قدر على الهرب والتجئوا(24/246)
إلى البربر والعرب. ثم نودى بالأمان «1» للناس كافة. فرجع كل من فر منها. وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا أسوارها وحفروا خندقها. وعند رجوعهم أخذوا رهائن أهلها والملثم وبنى مطروح ثم أعادوا رهائنهم واستقام أمر المدينة وعمرت سريعا.
ذكر استيلاء الفرنج على مدينة المهدية وسفاقس وسوسة
كان استيلاء «2» الفرنج على ذلك فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وذلك أن الغلاء تتابع «3» فى جميع بلاد المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة، وكان أشده فى سنة اثنتين وأربعين، فإن الناس فارقوا البلاد، ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلية، وأكل الناس بعضهم بعضا، وكثر الفناء «4» . فاغتنم رجار ملك صقلية هذه الفرصة، وعمر أصطولا نحو مائة وخمسين «5» شينيا، وشحنها بالرجال والعدد. وساروا إلى جزيرة قوصرة- وهى بين المهدية وصقلية- فصادفوا بها مركبا وصل من المهدية. فأخذ أهله وأحضروا بين يدى جرجى مقدم الأصطول، فسألهم عن حال إفريقية. ووجد فى المركب قفص حمام. فأمر الرجل الذى كان(24/247)
الحمام صحبته أن يكتب بخطه: «إننا لما وصلنا إلى قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية. فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى القسطنطينية» . وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير والناس، وأراد جرجى بذلك أن يصل بغتة.
ثم سار الأصطول من قوصرة فوصل إلى المهدية فى ثانى صفر «1» فأرسل مقدم الأسطول إلى الحسن يقول: «إنا لم نأت إلا طلبا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها «2» . (وكان قد أخرج منها وبينه وبين الفرنج مودة ومصالحة) . وأما أنت فبيننا وبينك عهود ومواثيق إلى مدة، ونريد منك عهودا ومواثيق إلى مدة.
ونريد منك عسكرا يكون معنا» .
فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم. فقالوا:
«نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين «3» » . فقال: «نخشى أن ينزلوا إلى البر، ويحصرونا برا وبحرا، وتنقطع الميرة عنا وليس عندنا ما يقوم بنا شهرا واحدا. وأنا أرى سلامة المسلمين من القتل والأسر خيرا من الملك. وقد طلب منى عسكرا إلى قابس، فإن فعلت فما يحل إعانة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول:
انتقض ما بيننا من الصلح. وليس لنا بقتاله طاقة. والرأى عندى أن نخرج بالأهل والولد، ونترك البلد. فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا» . وأمر فى الحال بالرحيل وأخذ معه ما خف حمله(24/248)
وخرج، وتبعه الناس على وجوهم بأهلهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم. ومن الناس من اختفى عند النصارى وفى الكنائس هذا والأسطول فى البحر يمنعه الريح من الوصول إلى المدينة.
فما مضى ثلثا «1» النهار حتى لم يبق بالبلد ممن عزم على الخروج أحد.
ودخل الفرنج البلد بغير مانع ولا مدافع. ودخل جرجى القصر فوجده على حاله لم يأخذ منه الحسن شيئا إلا ما خف من ذخائر الملوك. ووجد فيه عدة من حظاياه. ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة، ومن كل شىء غريب فختم عليه. وجمع سرارى الحسن فى قصر. ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ثم نودى بالأمان. فخرج من كان مستخفيا. وأصبح جرجى من الغد، فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا البلد. فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة. وأرسل أمانا إلى من خرج من المهدية، ودواب يحملون عليها الأطفال فرجعوا.
قال: ولما استقر جرجى بالمهدية «2» سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس، وأسطولا إلى مدينة سوسة. فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية- وكان على بن الحسن واليا عليها- فخرج إلى أبيه، وخرج الناس لخروجه «3» . فدخلها الفرنج بغير قتال فى ثانى عشر صفر منها. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من(24/249)
العرب فامتنعوا بهم. فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد.
فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم المسلمون حتى أبعدوا عن البلد. ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى البلد، وقوم إلى البرية. وقتل منهم «1» جماعة. ودخل الفرنج البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة. وأسر من بقى من الرجال وسبى الحريم. وذلك فى الثالث عشر «2» من صفر منها. ثم نودى بالأمان فعاد أهلها إليها. ووصلت كتب من رجار صاحب صقلية بالأمان إلى جميع أهل إفريقية، والمواعيد الحسنة. وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس، ومن المغرب إلى دون القيروان.
ذكر انقراض دولة بنى زيرى من افريقية وما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية
كان انقراض دولتهم من إفريقية بخروج الحسن بن على بن يحيى بن تميم من المهدية، وكان خروجه منها على ما قدمناه فى ثانى صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ومدة ملكه سبعا وعشرين سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام.
وعدة من ولى «3» منهم تسعة ملوك، وهم زيرى بن مناد، ثم ابنه يوسف بلكّين، ثم ابنه المنصور بن يوسف، ثم ابنه باديس(24/250)
ابن المنصور، ثم ابنه المعز بن باديس، ثم ابنه تميم بن المعز، ثم ابنه يحيى بن تميم، ثم ابنه على بن يحيى، ثم ابنه الحسن ابن على هذا، وعليه انقرضت الدولة.
ومدة قيامهم منذ عمّر زيرى بن مناد مدينة آشير فى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وإلى هذا الوقت مائتى سنة وتسع عشرة سنة، ومنذ تسلم يوسف بلكين بلاد المغرب من المعز لدين الله أبى تميم معد- عند رحيله إلى الديار المصرية على ما قدمناه- مائة سنة، وإحدى وثمانين سنة وشهرا واحدا وتسعة أيام «1» .
ولم يبق منهم ببلاد المغرب غير بنى حماد، وسنذكر انقراض دولتهم فى أخبار عبد المؤمن إن شاء الله تعالى «2» .
ذكر ما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية
قال: لما خرج من المهدية سار بأهله وأولاده، وكانوا اثنى عشر ذكرا «3» غير الإناث. وقصد محرز بن زياد وهو بالمعلّقة «4» فوصل إليه فلقيه لقاء جميلا وتوجع لما حل به. وأقام عنده شهورا والحسن كاره للمقام. وأراد المسير إلى ديار مصر إلى الحافظ العبيدى، واشترى مركبا ليسافر فيه. فاتصل ذلك بجرجى الفرنجى(24/251)
المتغلب على ملكه، فجهز شوانى لأخذه «1» . فرجع الحسن عن ذلك.
وقصد المسير إلى عبد المؤمن ببلاد المغرب يستنصر به على الفرنج. فأرسل ثلاثة من أولاده، وهم يحيى وعلى وتميم، إلى يحيى بن العزيز بالله، وهو من بنى حماد، وهما ابنا عم يرجعون كلهم فى النسب إلى زيرى بن مناد، وكان يحيى هذا قد ولى بعد أبيه. واستأذنه فى الوصول إليه، وتجديد العهد به، والمسير من عنده إلى عبد المومن. فأذن له يحيى فى ذلك فسار الحسن إليه.
فلما وصل إلى بلاده لم يجتمع به وسيره إلى جزيرة بنى مزغنان «2» هو وأولاده ووكل بهم من يمنعهم من التصرف. فبقوا هناك إلى أن ملك عبد المؤمن مدينة بجاية فى سنة سبع وأربعين وخمسمائة.
ثم صار من أصحاب عبد المؤمن وشهد معه فتح المهدية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار عبد المومن «3» .(24/252)
ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم
كان ابتداء أمرهم- على ما حكاه عز الدين أبو محمد عبد العزيز ابن شداد بن الأمير تميم بن المعز بن باديس فى تاريخه المترجم «بالجمع والبيان فى أخبار المغرب والقيروان» بسند يرفعه إلى القاضى أبى الحسن على بن فنون قاضى مراكش: أن رجلا من قبيلة جدّالة من كبرائهم اسمه الجوهر أتى «1» من الصحراء إلى بلاد المغرب طالبا للحج، وذلك فى عشر الخمسين وأربعمائة «2» . وكان مؤثرا للدين، محبا فى الخير، مكرما للصالحين. فمر بفقيه يقرأ عليه مذهب الإمام مالك بن أنس وحوله جماعة. قال: والغالب أنه أبو عمران قاضى القيروان «3» . فآوى إليه وأصغى إلى ما يذكر فى مجلسه من علم الشريعة.
فأحب سماعه وأناب إليه قلبه. ثم استمر فى وجهته إلى الحج وقد أثر ذلك فى نفسه.
فلما حج وانصرف قصد المسجد الذى كان فيه الفقيه، وسمع الكلام فيما تقتضيه ملة الإسلام من الفرائض والسنن والأحكام.
فقال الجوهر: «يا فقيه، ما عندنا فى الصحراء من هذا الذى(24/253)
تذكرونه شى إلا الشهادتين»
فى العامة، والصلاة فى بعض الخاصة» .
فقال الفقيه: «فاحمل معك «2» من يعلمهم عقائد ملتهم وكمال دينهم» . فقال له الجوهر: «فابعث معى أحد الفقهاء، وعلىّ حفظه وبره وإكرامه» . وكان للفقيه ابن أخ اسمه عمر، فقال له:
«اذهب مع هذا السيد إلى الصحراء فعلّم القبائل بها ما يجب عليهم من دين الإسلام، ولك الثواب الجزيل من الله عز وجل، والذكر الجميل من الناس» فأجابه إلى ذلك. فلما أصبح عمر من الغد جاء إلى عمه فقال له: «أعفنى من الدخول إلى الصحراء فإن أهلها جاهلية «3» ، قد ألفوا سيرا نشئوا عليها فمتى نقلوا عنها قتلوا من أمرهم بخلافها» . وكان من طلبة الفقية رجل يقال له عبد الله بن ياسين الكزولى فرأى الفقيه وقد عزّ عليه مخالفة ابن أخيه، فقال: «يا فقيه، أرسلنى معه والله المعين» . فأرسله معه «4» . وتوجها إلى الصحراء. وكان عبد الله بن ياسين فقيها عالما ورعا دينا شهما قوى النفس حازما ذا رأى وصبر وتدبير حسن.
فدخل «5» الجوهر وعبد الله بن ياسين إلى الصحراء. فانتهوا إلى قبيلة لمتونة، وهى على ربوة عالية. فلما رأوها نزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين تعظيما لدين الاسلام. فأقبلت أعيان لمتونة وأكابرهم للقاء الجوهر والسلام عليه. فرأوه يقود الجمل فسألوه عنه فقال: «هو حامل سنة(24/254)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاء «1» يعلم أهل الصحراء ما يلزمهم فى دين الإسلام» . فرحبوا به وأنزلوه أكرم نزل.
ثم اجتمعت طائفة كبيرة من تلك القبيلة فى محفل وفيهم أبو بكر ابن عمر. فقالوا: «تذكر لنا ما أشرت إليه أنه يلزمنا؟» فقص عليهم عبد الله عقائد الإسلام وقواعده وبيّن لهم حتى فهم ذلك أكثرهم. ثم اقتضاهم الجواب، فقالوا: «أما ما ذكرته من الصلاة والزكاة فذلك قريب. وأما قولك: من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يجلد، فأمر لا نلتزمه «2» ولا ندخل تحته. اذهب إلى غيرنا» .
فرحلا عنهم والجوهر الجدالى يجر زمام جمل عبد الله بن ياسين فنظر إليه شيخ كبير منهم فقال: «أرأيتم هذا الجمل؟ لا بد أن يكون له فى هذه الصحراء شأن يذكر «3» فى العالم» .
قال: وكان بالصحراء قبائل العرب، وهى لمتونة وجدالة ولمطة وانبيصر «4» وايتوارى «5» ومسوفة «6» وأفخاذ عدة، وكل قبيلة قد حازت أرضا تسرح فيها مواشيهم، ويحمونها بسيوفهم. وهذه القبائل ينسبون إلى حمير، ويذكرون أن أسلافهم خرجوا من اليمن فى الجيش الذى أنفذه أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى(24/255)
الشام. وانتقلوا إلى مصر ثم توجهوا إلى المغرب مع موسى بن نصير «1» . وتوجهوا مع طارق إلى طنجة ثم اختاروا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها وأقاموا بها.
قال: وسار الجوهر حتى انتهى بعبد الله إلى قبيلة جدالة.
فخاطبهم عبد الله هم والقبائل المتصلة بهم. فمنهم من سمع وأطاع ومنهم من أعرض وعصى. ثم إن المخالفين لهم تحزبوا وانحازوا.
فقال عبد الله للذين قبلوا منه الإسلام: «قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق وأنكروا دين الإسلام. فاستعدوا لقتالهم، واجعلوا لكم حزبا، وأقيموا لكم راية، وقدموا لكم أميرا» . فقال له الجوهر:
«أنت الأمير» . فقال «2» عبد الله: «لا يمكننى هذا: إنما أنا حامل أمانة الشرع، أقص عليكم نصوصه وأبين لكم طريقه، وأعرّفكم سلوكه.
ولكن أنت الأمير» . فقال الجوهر: «لو فعلت هذا لتسلطت قبيلتى على الناس ولعاثوا فى الصحراء، ويكون وزر ذلك علىّ. لا رأى لى فى هذا» . فقال عبد الله: «فهذا أبو بكر بن عمر «3» رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل جليل القدر، مشكور الحال، محمود السيرة، مطاع فى قومه، نسير إليه ونعرض تقدمة الإمرة عليه، فلحب الرياسة يستجيب إلى ذلك بنفسه، ولمكان الجاه ستجتمع إليه طائفة من قبيلته نقوى بها على عدونا. والله المستعان» .(24/256)
ذكر ولاية أبى بكر بن عمر اللمتونى
قال: فأتوا أبا بكر بن عمر فأجاب، وعقدوا له راية وبايعوه بيعة الإسلام، وتبعه زمرة من قومه. وسماه عبد الله بن ياسين أمير المسلمين.
ورجعوا إلى جدالة وجمعوا إليهم من أمكن من الطوائف الذين حسن إسلامهم، ومن الأقوام الذين تألفت قلوبهم. وحرضهم عبد الله على الجهاد فى سبيل الله، وسماهم المرابطين. وتألبت عليهم أحزاب من الصحراء معاندين من أهل الشر والفساد، وجيشوا لمحاربتهم. فلم يناجزهم الحرب ولا بادرهم «1» بلقاء بل تلطف عبد الله وأبو بكر فى أمرهم، واستمالوهم، واستعانوا على أولئك الأشرار المفسدين بالمصلحين من قبائلهم يسبونهم «2» قوما بعد قوم بضروب من التوصل حتى حصلوا منهم تحت زرب عظيم وثيق ما ينيف على ألفى رجل من المفسدين وتركوهم فيه أياما بغير طعام وهم يحفظون الزرب من سائر جهاته، وقد خندقوا حوله. ثم أخرجوهم قوما بعد قوم وقتلوهم عن آخرهم.
فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء وهابهم كل من فيها «3» ، وقويت شوكة المرابطين. هذا وعبد الله بن ياسين يعلم الشريعة ويقرئ الكتاب والسنة، حتى صار حوله فقهاء. وكل من انقاد(24/257)
إلى الحق على طريق الورع «1» والتقى والخشية لله والمراقبة، فرتّب له أوقاتا للمواعظ. والتذكير وإيراد الوعد والوعيد. فاستقام منهم خلق كثير، وخلصت عقائدهم وزكت نفوسهم، وصفت قلوبهم.
ذكر مقتل الجوهر الجدالى
قال: كان الجوهر أصح القوم عقيدة، وأخلصهم لله دينا، وأكثرهم صوما وتهجدا. فلما استبد أبو بكر بالأمر دونه، وعبد الله ينفّذ الأمور بالسنة، فصارت الدولة لهما. وبقى الجوهر لا حكم له فداخله الحسد، وأزلّه الشيطان، فشرع فى إفساد الأمر سرا.
فعلم بذلك منه وعقد له مجلس. فثبت عليه ما ذكر عنه، فحكم عليه بالقتل لأنه نكث البيعة، وشق العصا، وهمّ بمحاربة أهل الحق. فقال الجوهر: «وأنا أيضا أحب لقاء الله عز وجل حتى أرى ما عنده» . فاغتسل وصلى ركعتين، وتقدم طائعا. فضربت عنقه رحمه الله تعالى.
قال: وكثرت طائفة المرابطين، وتتبعوا المعاندين لهم من قبائل الصحراء بالقتل والنهب والسبى إلا من أسلم منهم وسالم.
وبلغت الأخبار الفقيه بما جرى فى الصحراء على يد ابن ياسين من سفك الدماء ونهب الأموال وسبى الحريم. فعظم ذلك عليه واشمأز منه وندم على إرساله، وكتب له فى ذلك. فأجابه عبد الله بن(24/258)
ياسين: «أما إنكارك على ما فعلت وندامتك على إرسالى، فإنك أرسلتنى إلى أمة كانت جاهلية، يخرج أحدهم ابنه وابنته «1» لرعى السوام فيعزبان «2» فى المرعى. فتأتى المرأة حاملا من أخيها ولا ينكرون ذلك. وليس دأبهم إلا إغارة بعضهم على بعض وقتل بعضهم لبعض. ولادية لهم «3» فى الدماء، ولا حرمة عندهم للحريم، ولا توقى بينهم فى الأموال، فأخبرتهم بالمفروض عليهم والمسنون لهم والمحدود فيهم. فمن قبل واليته، ومن تولى أرديته، وما «4» تجاوزت حكم الله ولا تعديته. والسلام» .
ذكر خروج الملثمين الى السوس أولا وثانيا ومقتل عبد الله بن ياسين
قال: وفى سنة خمسين وأربعمائة، قحطت بلاد الملثمين وماتت مواشيهم ولقوا شدة عظيمة. فأمر عبد الله ضعفاءهم بالخروج إلى السوس الأقصى وأخذ الزكاة. فخرجوا وقالوا: «نحن مرابطون خرجنا إليكم من الصحراء نطلب حق الله من أموالكم» . فجمعوا لهم شيئا له بال. فرجعوا به إلى الصحراء.
ثم ضاقت الصحراء بالمرابطين لشظفها وكثرتهم. فطلبوا إظهار كلمة الحق، فخرجوا إلى السوس الأقصى. فتسامع بهم أهل بلاد(24/259)
السوس، فاجتمعوا وجيشوا، وخرجوا لقتالهم. وصدقوهم القتال، فكسروهم. وقتل ابن ياسين، وانهزم جيش المرابطين.
فجمع أبو بكر جيشا وخرج إلى بلاد السوس ثانية فى ألفى راكب. فاجتمع عليه من قبائل بلاد السوس وزناتة اثنى عشر ألف فارس. فأرسل إليهم رسلا وقال لهم: «افتحوا لنا الطريق، فما قصدنا إلا غزو المشركين» . فأبوا ذلك واستعدوا للقتال. فنزل أبو بكر وصلى الظهر على درقته ثم قال: «اللهم إن كنا على الحق فانصرنا عليهم، وإن كنا على الباطل فأرحنا بالموت مما نحن فيه» .
ثم ركب ولقيهم فانهزموا. وقتل فيهم قتلا ذريعا، واستباح أسلابهم وأموالهم وعددهم. فقويت نفسه ونفوس أصحابه.
ذكر استيلائه «1» على مدينة سجلماسة
قال: ثم سار أبو بكر فى أطراف البلاد إلى مدينة سجلماسة.
فنزل عليها وطلب أصحابه من أهلها الزكاة. فقالوا لهم: «إنكم لما أتيتمونا فى عدد قليل وسعكم فضلنا. والآن فضعفاؤنا فيهم كثرة، وقد آثرناكم سنين. وما هذه حالة من يطلب الزكاة بالسلاح والخيل. وإنما أنتم قوم محتالون ولو أعطيناكم أموالنا بأسرها ما عمتكم» . وخرج إليهم صاحبها فى عسكر كبير «2» فحاربوه. وطالت الحرب بينهم.(24/260)
ثم ساروا إلى قول «1» ، وهو جبل قريب من الصحراء. فاجتمع إليهم من كزولة خلق كثير. ورجعوا إلى سجلماسة، واستولوا عليها بعد حروب. وقتل مسعود بن ورو «2» . واستخلف أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين اللمتونى من بنى عمه الأقربين ورجع إلى الصحراء. وكان فتحها فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة «3» .
قال: ولما ولى يوسف بن تاشفين أحسن إلى الرعية واقتصر منهم على الزكاة.
قال: وأقام أبو بكر بالصحراء مدة ثم عاد إلى سجلماسة فأقام بها سنة، والخطبة والدعاء والأمر والنهى «4» له. ثم استخلف على سجلماسة ابن أخيه أبا بكر «5» بن إبراهيم بن عمر. وجهز يوسف بن تاشفين وجيشا من المرابطين إلى السوس ففتح له وعلى يديه.
وتوفى أبو بكر فى سنة اثنتين وستين وأربعمائة بالصحراء «6» .(24/261)
ذكر ولاية يوسف بن تاشفين
قال: ولما توفى أمير المسلمين أبو بكر بن عمر، اجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين، وولوه أمرهم، وسموه أمير المسلمين. وكانت الدولة حينئذ فى بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا فى أيام الفتن. وهى دولة رديئة مختلة سيئة السيرة مذمومة الطريقة. وكان يوسف ومن معه على نهج السنة واتباع أئمة الشريعة فاستغات به أهل بلاد المغرب، فافتتحها شرقا وغربا بأيسر سعى.
وأحبته الرعية وصلحت أحوالهم.
ذكر بناء مدينة مراكش
قال: ثم قصد أمير المسلمين موضع مدينة مراكش «1» ، وهو قاع صفصف لا عمارة فيه، وهو سقع «2» متوسط فى مملكة بلاد المغرب كالقيروان فى بلاد إفريقية، تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة وأمنعهم معقلا. فاختط المدينة هناك ليتقوى «3» على تدويخ أهل تلك البلاد. واتخذها دار ملكه، ومقر سكنه. فلم يعانده أحد من أهل تلك النواحى لهيبته فى نفوسهم وعظم ذكره بالمغرب. وملك المدائن المتصلة بالبحر مثل سبتة وسلا وطنجة وغيرها. وكثرت أمواله وجنوده «4» .(24/262)
وخرج إليه جماعة لمتونة وكثير من القبائل. وضيق لثامه هو وجماعته.
ذكر ما قيل فى سبب لثام المرابطين
قيل: إنهم كانوا فى الصحراء يتلثمون لشدة الحر والبرد كما يفعل العرب فى البرية، والغالب على ألوانهم السمرة. فلما ملكوا البلاد ضيقوا ذلك اللثام.
وقيل: إن طائفة منهم من لمتونة فى الصحراء خرجوا للإغارة على عدوهم. فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الصبيان والمشايخ والنساء. فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب رجالهن، ويتعممن بالعمائم، ويسترن وجوههن باللثام، وأن يضيقنه حتى لا يعرفن. ففعلن ذلك ولبسن السلاح. وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدرن هن بالبيوت. فلما أشرف العدو رأى جمعا عظيما هاله وقال: «هؤلاء حول حريمهم يقاتلون عليه قتال نخوة «1» وقد ترجلوا للموت. والرأى أن نسوق النعم ونمضى. فإن تبعونا قاتلناهم خارج البيوت» . فبينما هم فى جمع النعم من مراعيها إذ أقبل رجال الحى، فصار العدو بينهم، فقتلوا شر قتلة ولم يسلم منهم إلا القليل. وقتل النساء منهم «2» أكثر مما قتل الرجال. فاستنّوا اللثام من ذلك الوقت. فلا يزيلونه ليلا ولا(24/263)
نهارا حتى إن الرجل لا يأكل ولا يشرب مع أهله إلا من تحت اللثاء والمقتول منهم فى المعركة لا يعرفه أصحابه بوجهه بل بلثامه.
قال ابن شداد: ومما رأيت أنه كان لى صديق منهم بدمشق فأتيت يوما إلى زيارته. فدخلت إليه وقد غسل عمامته، وسراويله مشدودة «1» على رأسه، وقد تلثم بخلخاله. هذا بعد أن انقضت دولتهم، وتفرقت جملتهم، وتغربوا «2» فى البلاد.
قال: ولقد حكى لى من أثق به أنه رأى شيخا من الملثمين بالمغرب بعد انقضاء الدولة، منزويا فى ضفة نهر، يغسل خلقانه «3» وهو عريان، وعورته بارزة، ويده اليمنى يغسل بها والأخرى يستر بها وجهه. فقال له: «استر عورتك بيدك» . فقال: «أنا ملثم «4» بها» .
وقال بعض الشعراء فى اللثام:
قوم لهم درك العلى فى حمير ... وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا إحراز كلّ فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا(24/264)
وقال آخر «1» :
إذا التثموا بالرّيط خلت وجوههم ... أزاهر تبدو من فتوق الكمائم
أو التأموا بالسابرية أبرزوا ... عيون الأفاعى من جلود الأراقم «2»
نرجع الى أخبار يوسف بن تاشفين
قال: واستقامت له الأمور. وتزوج زينب بنت إبراهيم «3» زوجة أبى بكر بن عمر، وكانت حظية عنده، وأميرة «4» عليه.
وكذلك جميع الملثمين ينقادون لأمور نسائهم، ولا يسمون الرجل إلا بأمه فيقولون: ابن فلانة، ولا يقولون: ابن فلان.
وكانت زينب لها عزم وحزم. حكى عنها أن زرهون- ويعرف بابن خلوف- وكان له أدب «5» ، فبلغ زينب أنه مدح حواء امرأة سير بن أبى بكر وفضّلها على سائر النساء بالجمال والكمال. فأمرت بعزله عن القضاء. فوصل إلى أغمات واستأذن عليها. فدخل البواب وأعلمها به، فقالت: «قل له: امض إلى التى مدحتها تردك إلى القضاء» . فبقى بالباب أياما حتى نفدت نفقته.(24/265)
فأتى إلى خادمها فقال له: «إن مولاتك صرفتنى ونقمت على مدحى لامرأة سير. ولو علمت أن ذلك يغضبها ما قلته. وقد نفدت نفقتى، وأردت بيع هذا المهر، وعزّ على أن يصير فى يد من لا يستحقه، وأنا أحب أن تعطينى مثقالين أتزود بهما إلى أهلى. وخذ المهر فأنت أحق به» . فسر الخادم وأعطاه مثقالين وأخذ المهر.
ودخل على مولاته زينب وهو فرحان. فقالت له: «ما شأنك؟» فأخبرها الخبر. فرقت للقاضى وندمت على ما فعلت به. وقالت:
«اذهب فأتنى به الساعة» . فأحضره إليها. فقالت له: «تمدح زوجة سير وتفضلها على سائر النساء، وخرجت فى وصفك لها عن الحد، وزعمت أن ليس فى الأرض أجمل منها، وما هذه منزلة القضاء «1» ولا يليق بك أن تنزل «2» نفسك فى هذه المنزلة» . فقال ارتجالا:
أنت بالشمس لا حقه ... وهى بالأرض لاصقه
فمتى ما مدحتها ... فهى من سير طالقه
فقالت له: «يا قاضى، طلقتها منه؟» قال: «نعم، ثلاثة وثلاثة وثلاثة» . فضحكت حتى افتضحت وقالت له: «والله، لا شم «3» لها قفا أبدا» . وكتبت إلى يوسف برده إلى القضاء، فرده.(24/266)
ذكر استيلائه على مدينة أغرناطة من جزيرة الأندلس
كان سبب ذلك ما قدمناه فى أخبار الدولة العبادية أن المعتمد بن عباد لما وقع بينه وبين الأدفونش «1» ملك الفرنج صاحب طليطلة، وقتل ابن عباد رسله، وجمع الأدفونش عساكره؛ استنجد ابن عباد بأمير المسلمين «2» يوسف بن تاشفين. فدخل بعساكره إلى جزيرة الأندلس، واجتمع بالمعتمد بن عباد، وتوجها جميعا لقتال الفرنج.
وكانت وقعة الزلاقة التى انهزم فيها الأدفونش وقتل عامة عسكره على ما قدمناه مبيّنا فى أخبار المعتمد بن عباد. وذلك فى العشر الأول «3» من شهر رمضان سنه تسع وسبعين وأربعمائة «4» .
ورجع أمير المسلمين إلى مراكش فأقام بها إلى العام الآتى «5» .
ثم دخل إلى الأندلس. وخرج إليه محمد بن عباد من إشبيلية فى عسكره. وأتى عبد الله بن بلكين صاحب أغرناطة فى عسكره.(24/267)
وساروا حتى نزلوا على ليطة «1» ، وهو حصن منيع كان فيه النصارى فحاربوه أياما فلم يطيقوا فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة.
ورجع المعتمد إلى إشبيلية. وكان طريق يوسف بن تاشفين على مدينة أغرناطة. فدخل عبد الله بن بلكين إليها ليخرج إلى يوسف الوظائف. فغدر به يوسف ودخل أغرناطة وأخرجه منها واستولى عليها «2» . ودخل قصر عبد الله فوجد فيه من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك من ملوك الأندلس. ومما وجد فيه سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قوّمت كل جوهرة بمائة مثقال «3» ؛ ومن أنواع الجواهر واليواقيت والزمرد ما لا تحصى قيمته؛ من العين ألف ألف «4» دينار؛ ومن فاخر الثياب وأوانى الذهب والفضة ما لا تعرف له قيمة. وأخرج منها تميم بن بلكين أخا عبد الله، وسار بهما إلى مراكش. وذلك فى سنة ثمانين وأربعمائة «5» . ورجع أمير المسلمين إلى مراكش فأطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس وورغة وقلعة مهدى.(24/268)
ذكر ملك أمير المسلمين جزيرة الأندلس
وفى سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ملك من جزيرة الأندلس ما كان بقى بيد المسلمين بها، وهى قرطبة وإشبيلية والمرية وبطليوس.
وذلك أنه سار فى هذه السنة من مراكش إلى سبتة. وأدخل العساكر مع سير بن أبى بكر إلى الأندلس وحشد خلقا كثيرا، وأمره بمحاصرة إشبيلية. فحاصرها وفتحها فى يوم الأحد لتسع بقين من شهر رجب من هذه السنة. وأسر المعتمد بن عباد ونقله إلى أغمات فحبسه بها حتى مات، على ما قدمناه مبينا فى أخبار ابن عباد «1» .
قال: ثم خرج سير من إشبيلية إلى مدينة المرية فنزل عليها.
وكان واليها محمد بن معن بن «2» صمادح فقال لولده: «مادام المعتمد بن عباد بإشبيلية فلسنا نساءل عنه» . فأتاه الخبر بفتح إشبيلية وأسر ابن عباد فمات غما. فخرج ولده بإخوته وأهله فى مركب حربى شحنه بأمواله. وأقلع إلى الجزائر والتحق ببنى حماد، فأحسنوا إليه وأسكنوه مدينة تدلّس.
قال: وكان أبو محمد عمر بن محمد بن عبد الله بن مسلمة «3» المعروف بابن الأفطس صاحب بطليوس ممن أعان المعتمد، فلما سمع بإشبيلية رجع إلى بلده «4» . فسار إليه سير بن أبى بكر فحاربه(24/269)
وغلبه. وأتى به وبولده»
الفضل أسيرين، فأمر سير بضرب أعناقهما. فقال: «قدّموا ولدى قبلى للقتل ليكون فى صحيفتى» .
فقتل قبله ثم قتل هو بعده.
قال: ولم يترك سير من ممالك الأندلس وملوكهم سوى بنى هود.
فإنه لم يقصد بلادهم وهى شرقى الأندلس. وصاحبها يومئذ المستعين بالله [بن] «2» هود، وهو من الشجعان الذين يضرب بهم المثل.
وكان قد حصّل عنده من آلات الحصار والأقوات ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة، وكانت قلعة حصينة. وكان يهادن أمير المسلمين قبل ملكه الأندلس ويكثر مراسلته. فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه على ابن يوسف عند موته بترك التعرض إلى بلاد [بنى] هود. وقال «اتركهم بينك وبين العدو فإنهم شجعان» .
قال: وتتابعت الفتوح على أمير المسلمين حتى احتوى على جميع بلاد الأندلس التى كانت للمسلمين وما والاها من البلاد فى البر الكبير، من جميع بلاد السوس والجبال والصحراء. وفتح فى بلاد الفرنج فتوحا كثيرا.(24/270)
ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا عجيبا
قال، كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولى سيد قبيلة كزولة، ملك جبلها، وهو جبل شامخ منيف، وهى قبيلة كبيرة وكان بينه وبين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع. فلما كان فى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، أرسل يوسف إليه يطلب الاجتماع به.
فركب حتى قاربه «1» ثم رجع وخافه على نفسه. فكتب إليه أمير المسلمين يحلف «2» أنه ما أراد به سوءا ولا قصد إلا خيرا. فلم يرجع لذلك.
فدعا يوسف حجاما وأعطاه مائة دينار وضمن له مثلها إن سار إلى محمد بن إبراهيم وتحيّل فى قتله. فسار الحجام ومعه مشاريط.
مسمومة فصعد الجبل. وجعل ينادى بالقرب من مساكن محمد.
فسمعه فقال: «هذا الحجام من بلدنا؟» فقيل: «إنه غريب» .
فقال: «أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت منه» . فأحضره عنده.
واستدعى حجاما غيره وأمره أن يحجمه بمشاريطه التى معه. فامتنع الحجام الغريب. فأمسك وحجم بها، فمات. فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظا وحنقا، ولج فى السعى فى أذى يوصله إلى الكزولى.
فاستمال قوما من أصحابه فمالوا إليه. فأرسل إليهم جرارا من عسل مسموم. فحضروا عند محمد وقالوا: «قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل، وأردنا إتحافك به» . وأحضروها بين يديه.(24/271)
فلما قدمت له أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك القوم الذين أحضروا العسل أن يأكلوا منه فامتنعوا واستعفوا من الأكل. فقال: «من لم يأكل منه قتل بالسيف» . فأكلوا فماتوا عن آخرهم.
فكتب إلى أمير المسلمين: «إنك قد أردت قتلى بكل سبب فلم يظفّرك الله، وكشف لى عن سريرتك «1» . وقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطنى إلا هذا الجبل. وهو فى بلادك كالشامة البيضاء فى الثور الأسود. فلم تقنع «2» بما أعطاك الله عز وجل» .
فكفّ أمير المسلمين عنه.
ذكر ولاية أمير المسلمين من قبل الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله
قال: كان الفقهاء بالأندلس قالوا لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين:
«إنه لا تجب طاعتك على المسلمين حتى يكون لك عهد من الخليفة» .
فأرسل قوما من أهله إلى بغداد بهدية نفيسة، وكتاب يذكر فيه ما فعل بالفرنج، وما قصده من نصرة الدين والجهاد فى سبيل الله.
فجاءه رسول من أمير المؤمنين أبى العباس أحمد المستظهر بالله «3»(24/272)
بهدية وكتاب وتقليد وخلع. ودام ملك أمير المسلمين إلى سنة خمسمائة فتوفى فيها «1» . فكانت مدة ولايته ثمانى وثلاثين سنة تقريبا.
وكان ديّنا حازما سئوسا ذا دهاء، إلا أنه أبان عن لؤم لما اعتقل المعتمد بن عباد بأغمات، فإنه لم يجر «2» عليه ما يقوم به حتى كانت بناته يغزلن بالأجرة للناس وينفقن عليهن وعليه.
ولما مات يوسف ولى بعده ابنه.
ذكر ولاية على بن يوسف بن تاشفين
كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى سنة خمسمائة. وكان أبوه قد عقد له الأمر بعده فى سنة تسع وتسعين وأربعمائة «3» فاستقل بالأمر بعده وتلقب بأمير المسلمين. وكان يقتدى فى القضايا والأحكام بفقهاء بلاده، ويقربهم ويكرمهم. وإذا أتته نصيحة قبلها أو موعظة خشع لها. وسار فى رعيته أحسن سيرة، فأحبه الناس واشتملوا عليه ومالوا اليه.
ذكر محاربة الفرنج خذلهم الله تعالى وانهزامهم
وفى سنة خمس وخمسمائة «4» ، خرج ملك الفرنج صاحب(24/273)
طليطلة إلى بلاد الإسلام وجمع وحشد. وكان قد قوى «1» طمعه فى البلاد لما مات يوسف بن تاشفين. فخرج أمير المسلمين على لحربه، ولقيه واقتتلوا قتالا شديدا. وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وقتلوا قتلا «2» ذريعا، وأسر منهم أسرى كثيرة، وسبى، وغنم من أموالهم ما يخرج عن الإحصاء. فخافه الفرنج بعد لك. وامتنعوا من قصد بلاده «3» وذل الأدفونش.
ذكر الفتنة بقرطبة
وفى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقيل: أربع عشرة، كانت فتنة عظيمة بين عسكر أمير المسلمين على بن يوسف وبين أهل قرطبة وسببها أنه كان قد استعمل عليها أبا بكر يحيى بن داود «4» . فلما كان يوم عيد الأضحى، خرج الناس متفرجين. فمد عبد من عبيد أبى بكريده إلى امرأة ومسكها. فاستغاثت بالمسلمين فأعانوها «5» .
فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة. ودامت جميع النهار إلى الليل وتفرقوا. واجتمع الفقهاء والأعيان إلى أبى بكر وقالوا له:
«المصلحة أن تقتل واحدا من العسد الذين أثاروا الفتنة» . فأنكر ذلك وغضب منه.(24/274)
وأصبح من الغد وأظهر السلاح والعدد وأراد قتال أهل البلد فركب الفقهاء والأعيان والشباب، وقاتلوه فهزموه. وتحصن منهم بالقصر، فحصروه ونصبوا السلاليم وصعدوا إليه. فهرب من البلد بعد مشقة وتعب. فنهبوا القصر وأحرقوا جميع دور المرابطين «1» ونهبوا أموالهم. وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة.
واتصل الخبر بأمير المسلمين فأكبر «2» ذلك واستعظمه.
وجمع العساكر من صنهاجة وزنانة والبربر وغيرهم. وجاء إلى قرطبة فى سنة خمس عشرة وخمسمائة وحصرها. فقاتلهم أهلها قتال من يذب عن نفسه وماله وحريمه. فلما رأى شدة قتالهم دخل السفراء بينهم وسعوا فى الصلح. فأجاب إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة للمرابطين ما نهبوه من أموالهم. فاستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
وفى أيام على بن يوسف، ظهر المهدى محمد بن تومرت وعبد المؤمن بن على، فضعف أمر الملثمين. وكان بينهم من الحروب ما نذكره فى أخبار «3» الموحدين.
وكانت وفاة على بمراكش فى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة «4» .
فكانت مدة ولايته خمسا وثلاثين سنة.
وولى بعده ابنه.(24/275)
ذكر ولاية تاشفين بن على بن يوسف بن تاشفين
كان أبوه قد ولاه العهد وأخرجه لحرب «1» عبد المؤمن.
فما زال يحاربه والغلبة والظفر لعبد المؤمن إلى أن توفى والده على بن يوسف. فاستقل بالأمر بعده ولازم حرب عساكر عبد المؤمن إلى أن مات فى ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة «2»
[اسحاق بن على]
وولى بعده أخوه إسحاق بن على فضعف أمر دولتهم، واستولى عبد المؤمن على البلاد وملكها بلدا بلدا، إلى أن حاصر عبد المؤمن مراكش وملكها فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فقتله عبد المؤمن صبرا. وانقرضت دولة الملثمين.
وكانت مدة ولايتهم من حين خرجوا من البرية فى سنة خمسين وأربعمائة إلى أن قتل إسحاق إحدى وتسعين سنة. وعدة من ملك منهم خمسة ملوك، وهم أبو بكر بن عمر، ثم يوسف بن تاشفين، ثم ابنه على بن يوسف، ثم ابنه تاشفين بن على، ثم إسحاق بن على «3» . وعليه انقرضت الدولة. وسنورد فى أخبار الموحدين طرفا من أخبارهم وحروبهم، إن شاء الله تعالى.(24/276)
ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم
أول من ظهر من ملوك هذه الدولة، وأسس قواعدها، وقام بأعبائها وأنشأها، المهدى محمد بن تومرت. وكان ابتداء أمره وظهوره فى سنة أربع عشرة وخمسمائة «1» . وسنذكر ابتداء حاله وكيف تنقلت «2» به الحال وما كان منه، إن شاء الله تعالى
ذكر أخبار المهدى محمد بن تومرت
هو أبو عبد الله محمد بن تومرت الحسنى «3» ، وقبيلته من المصامدة تعرف بهرغة فى جبل السوس، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير. وكان ابتداء أمر المهدى أنه رحل فى شبيبته إلى بلاد المشرق فى طلب العلم. وكان فقيها فاضلا محدّثا، عارفا بأصولى الدين والفقه، محققا لعلم العربية، وكان ورعا ناسكا. ووصل فى سفره إلى العراق. واجتمع بالغزالى والكيا الهراسى، وقيل: لم يجتمع بالغزالى. واجتمع بأبى بكر الطرطوشى «4» بالإسكندرية. وحج ورجع إلى المغرب.
قال: ولما ركب البحر من الإسكندرية مغرّبا غيّر المنكرات(24/277)
فى المركب. وألزم من فيه بإقامة الصلاة وقراءة القرآن حتى انتهوا إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وذلك فى سنة خمس وخمسمائة. فنزل بمسجد وليس معه سوى ركوة «1» وعصا. فتسامع به أهل البلد فقصدوه يقرئون عليه أنواع العلوم. فكان إذا مر به المنكر أزاله وغيره. فلما كثر ذلك منه، أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء. فأعجبه سمته وكلامه فاحترمه وسأله الدعاء.
ثم رحل من المهدية وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين «2» مدة.
وسار إلى بجاية وفعل مثل ذلك. فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة «3» ، فلقيه بها عبد المؤمن. فرأى منه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم «4» والقيام بالأمر. فسأله عن اسمه وقبيلته. فأخبره أنه من قيس عيلان ثم من بنى سليم فقال محمد بن تومرت: «هذا الذى بشربه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: إن الله لينصر هذا الدين فى آخر الزمان برجل من قيس. فقيل: من أى قيس؟ فقال: من بنى سليم» .
واستبشر بعبد المؤمن وسرّ بلقائه. وكان مولد عبد المؤمن بمدينة(24/278)
تاجرة «1» من أعمال تلمسان، وهو من بنى عائد قبيلة من كومة «2» نزلوا بذلك الإقليم فى ثمانين ومائة.
قال: ولم يزل المهدى يلازم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى أن وصل إلى مراكش، وهى دار مملكة على بن يوسف ابن تاشفين. فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه فى طريقه.
فزاد أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكثر أتباعه وحسنت ظنون الناس فيه.
فبينما هو فى بعض الأيام فى طريقة، إذ رأى أخت أمير المسلمين فى موكبها ومعها عدة من الجوارى الحسان، وهن مسفرات. وكانت هذه من عادتهم «3» . فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن وأمرهن بستر وجوههن. وضرب هو وأصحابه دوابهن.
فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها. فرفع أمره إلى أمير المسلمين على بن يوسف. فأحضره الفقهاء لمناظرته، فأخذ يعظه ويذكّره ويخوفه، فبكى أمير المسلمين «4» . وأمر أن يناظروه فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته. وكان عند أمير المسلمين رجل من وزرائه «5» اسمه مالك بن وهيب «6» فقال له:(24/279)
«يا أمير المسلمين إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إنما هو يريد إثارة فتنة والغلبة على بعض النواحى، فاقتله وقلّدنى دمه» . فلم يفعل ذلك فقال: «إذا لم تقتله فاحبسه وخلّده فى السجن وإلا أثار شرا لا يمكن تلافيه» . فأراد حبسه فمنعه من ذلك رجل من أكابر الملثمين يسمى بنيان بن عمران «1» . فأمر بإخراجه من مراكش.
فسار إلى أغمات ولحق بالجبل. وسار منه حتى التحق بالسوس الذى فيه قبيلته هرغة وغيرهم من المصامدة، وذلك فى سنة أربع عشرة وخمسمائة. فأتوه واجتمعوا حوله. وتسامع به أهل تلك النواحى فوفدوا إليه، وحضر أعيانهم بين يديه. فجعل يعظهم، ويذكرهم شعائر الإسلام وما غيّر منها وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا تجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل بل الواجب قتالهم ومنعهم مما هم عليه. فأقام على ذلك نحو سنة. وتابعته قبيلة هرغة.
وسمى أتباعه الموحدين. وأعلمهم أن النبى صلى الله عليه وسلم بشر بالمهدى الذى يملأ الأرض عدلا، وأن مكانه الذى يخرج منه المغرب الأقصى. فقام إليه عشرة رجال منهم عبد المؤمن فقالوا:
«لا يوجد هذا إلا فيك، وأنت المهدى» . وبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين فجهز جيشا من أصحابه لقتاله.
فلما قربوا من الجبل الذى هو فيه قال لأصحابه: «إن هؤلاء يريدوننى وأخاف عليكم منهم. والرأى أن أخرج إلى غير هذه البلاد لتسلموا(24/280)
أنتم» . فقال له ابن توفيان «1» من مشايخ هرغة: «هل تخاف شيئا من السماء؟» فقال: «بل من السماء تنصرون» . فقال ابن توفيان: «فليأتنا كل من فى الأرض» . ووافقته جميع قبيلته. فقال المهدى عند ذلك: «أبشروا بالنصر والظفر «2» بهذه الشرذمة. وبعد قليل تستأصلون دولتهم وترثون أرضهم» . فنزلوا من الجبل ولقوا «3» جيش أمير المسلمين، فهزموهم وأخذوا أسلابهم. وقوى ظنهم بصدق المهدى حيث ظفروا كما أخبرهم.
فأقبلت إليه أفواج القبائل من الجبال التى حوله شرقا وغربا فأقبل عليهم واطمأن إليهم، وأتته رسل أهل تينملّ «4» بطاعتهم وطلبوه إليهم. فتوجه إلى جبل تينمل وأقام به واستوطنه.
وبايعته قبيلة هنتاتة، وهى من أقوى القبائل. وألف كتابا فى التوحيد، وكتابا فى العقيدة. ونهج لمن معه طريق الأدب مع بعضهم بعضا، والاقتصار على لباس الثياب القليلة الثمن. وهو فى خلال ذلك يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم. وبنى له مسجدا بتينمل خارج المدينة، فكان يصلى فيه الصلوات الخمس هو وجميع من معه، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة.(24/281)
فلما رأى كثرة أهل البلد وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه. فأمرهم أن يحضروا عنده بغير سلاح. ففعلوا ذلك عدة أيام. ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فقتلوهم فى ذلك المسجد.
ثم دخل المدينة فقتل فيها «1» وأكثر، وسبى الحريم، ونهب الأموال. فكانت عدة القتلى خمسة عشر ألفا. وقسم المساكن والأرض بين أصحابه. وبنى على المدينة سورا وقلعة على رأس جبل تينمل، وهو جبل عال فيه أشجار وزرع «2» وأنهار جارية، والطريق إليه صعب.
وقيل: إنه لما خاف أهل تينمل، نظر إلى أولادهم فرآهم شقرا زرقا، والذى يغلب على الآباء السمرة، فقال لهم:
«مالى أراكم سمر الألوان وأولادكم شقرا زرقا؟» فقالوا: «إن لأمير المسلمين «3» عدة من المماليك الفرنج والروم، وإنهم يصعدون إلى هذا الجبل فى كل عام مرة، يأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة من جهة السلطان، فيسكنون البيوت، ويخرجون أصحابها منها» فقبّح الصبر على هذا وأزرى عليهم وعظّم الأمر عندهم. فقالوا له: «فكيف الحيلة فى الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟» فقال: «إذا حضروا عندكم فى الوقت المعتاد وتفرقوا فى مساكنكم، فليقم كل رجل إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم فإنه لا يرام» . ففعلوا ذلك عند(24/282)
مجىء مماليك أمير المسلمين إليهم ثم خافوا على نفوسهم فامتنعوا فى الجبل وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم منه.
فقويت عند ذلك نفس المهدى ثم أرسل أمير المسلمين جيشا كثيفا. فحصرهم فى الجبل وضيق عليهم ومنع عنهم الميرة. فقلّت الأقوات عند أصحابه، فكان يطبخ لهم الحساء فى كل يوم، وجعل قوت الرجل منهم أن يغمس يده فى ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها فهو قوته فى ذلك اليوم.
فاجتمع أهل تينمل وأرادوا إصلاح حالهم مع أمير المسلمين فبلغه ذلك فأعمل «1» من الحيلة عليهم ما نذكره.
ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى «2»
قال: كان مع المهدى إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريسى، وهو يظهر الوله «3» وعدم المعرفة بشىء من العلم والقرآن، وبصاقه يجرى على صدره، وهو كالمعتوه، والمهدى يقربه ويكرمه ويقول: «إن لله سرا فى هذا الرجل سوف يظهر» .
هذا والونشريسى يشتغل بالقرآن والعلم فى السر بحيث لا يعلم به أحد.
فلما كان فى سنة تسع عشرة وخمسمائة، خاف «4»(24/283)
المهدى من أهل الجبل. فخرج يوما لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنسانا طيب الرائحة، فأظهر أنه لا يعرفه وقال: «من هذا؟» قال: «أنا أبو عبد الله الونشريسى» . فقال له المهدى: «إن أمرك لعجيب» . ثم صلى. فلما فرغ من صلاته نادى فى الجبل. فاجتمع الناس وحضروا إليه. فقال لهم:
«إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريسى، فانظروه وحققوا أمره» .
فلما أضاء النهار عرفوه. فقال له المهدى: «ما قصتك؟» قال: «إننى أتانى الليلة ملك من السماء، فغسل قلبى، وعلمنى القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث» . فبكى المهدى بحضرة الناس ثم قال: «نمتحنك؟» فقال: «افعل» .
وابتدأ بقراءة القرآن فقرأه قراءة حسنة من أى موضع سئل.
وكذلك الموطأ وغيره وكتب الفقه والعلوم والأصول. فعجب الناس من ذلك واستعظموه.
ثم قال: «إن الله قد أعطانى نورا أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة، قد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر الفلانية يشهدون بصدقى» .
فسار المهدى والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر. ووقف عند رأسها وصلى وقال: «يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله قد زعم كيت وكيت» . فسمع من أسفل البئر: «صدق، صدق» وكان قد رتب بها رجالا يفعلون ذلك. فلما تكلموا قال المهدى: «إن هذه البئر بئر مطهّرة مقدّسة قد نزل إليها(24/284)
الملائكة، والمصلحة أن تطمّ «1» لئلا يقع فيها نجاسة» .
فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها.
ثم نادى فى الجبل بالحضور للتمييز ومعناه العرض. فكان الونشريسى يعمد إلى الرجل الذى تخاف ناحيته فيقول: «هذا من أهل النار» . فيلقى من الجبل، وإلى الشاب الغر ومن لا يخشاه فيقول: «هذا من أهل الجنة» . فيترك عن يمينه.
فكانت عدة القتلى سبعين ألفا. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه. هذا هو المشهور عنه فى التمييز.
وقيل إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد فى الجبل أحضر شيوخ القبائل وقال لهم: «إنكم لا يصلح لكم دين ولا تقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإخراج المفسدين من بينكم، فابحثوا عن كل من عندكم من أهل الشر والفساد فانهوهم، فإن انتهوا وإلا فأثبتوا أسماءهم وارفعوها إلىّ لأنظر فى أمرهم.
ففعلوا ذلك وكتبوا له «2» أسماء المفسدين من كل قبيلة.
ثم أمرهم بذلك مرة ثانية «3» وثالثة. ثم جمع أوراقهم وأخذ منها ما تكرر من الأسماء «4» وأثبته عنده. ودفع ذلك إلى الونشريسى المعروف بالبشير. وأمره أن يعرض(24/285)
القبائل، وأن يجعل أولئك من جهة الشمال، ومن عداهم فى جهة اليمين، ففعل ذلك. وأمر المهدى أن يكتف من على شمال الونشريسى فكتّفوا. ثم قال: «إن هؤلاء أشقياؤكم قد وجب قتلهم» . وأمر كل قبيلة بقتل أشقيائها.
فقتلوا عن آخرهم.
قال: ولما فرغ من التمييز رأى من بقى من أصحابه على نيات خالصة وقلوب متفقة على طاعته. فجهز جيشا وسيّرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع كبير «1» من المرابطين. فقاتلوهم فانهزم أصحاب ابن تومرت «2» ، وكان أميرهم الونشريسى. وقتل كثير منهم. وجرح عمر أنتات «3» وهو الهنتاتى، وكان من أكبر أصحاب المهدى وسكن حسّه ونبضه. فقالوا: «مات» . فقال الونشريسى:
«لم يمت ولا يموت حتى يملك البلاد» . فبعد ساعة فتح عينيه وعادت قوته إليه. فافتتنوا به ورجعوا إلى ابن تومرت فوعظهم وشكر صبرهم.
ثم لم يزل بعد ذلك يرسل السرايا فى أطراف البلاد فإذا رأوا عسكرا تعلقوا بالجبل فأمنوا على أنفسهم.
وعلا أمر المهدى فرتب أصحابه على طبقات.(24/286)
ذكر ترتيب أصحاب المهدى
قال: ورتب المهدى أصحابه مراتب. فالأولى آية عشرة، يعنى أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص عمر انتات «1» وهو الهنتاتى وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى مبايعته «2» .
والثانية آية خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل «3» .
والثالثة آية سبعين، وهم دون الذين قبلهم فى الرتبة والسابقة.
[وسمى] «4» عامة أصحابه والداخلين «5» فى طاعته موحدين.
ذكر حصار مراكش ووقعة البحيرة ومقتل أبى عبد الله الونشريسى
قال: وفى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، جهز المهدى جيشا كثيفا يبلغون أربعين ألفا أكثرهم رجالة «6» . وجعل عليهم الونشريسى(24/287)
وسير معه عبد المؤمن. فساروا إلى مراكش وحصروها وضيقوا على من بها، وبها أمير المسلمين على بن يوسف. فبقى الحصار عليها عشرين «1» يوما. فأرسل أمير المسلمين «2» إلى متولى سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش. فجمع جمعا كثيرا وسار. فلما قارب عسكر المهدى، خرج أهل مراكش من غير الجهة التى أقبل «3» منها. والتقوا واقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل فى أصحاب المهدى. وقتل أميرهم الونشريسى. فولوا عبد المؤمن أمرهم، وقدموه عليهم. ودام القتال بينهم «4» عامة النهار. وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف الظهر والعصر والحرب قائمة. فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين وقوتهم أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير يسمونه عندهم البحيرة. وصاروا «5» يقاتلون من وجه واحد إلى أن حجز بينهم الليل.
قال: ولما قتل الونشريسى، دفنه عبد المؤمن لوقته سرا. فطلبه المصامدة فلم يروه فى القتلى فقالوا: «رفعته الملائكة» .
قال: ولما جنّهم الليل، سار عبد المؤمن ومن سلم من القتل «6» إلى الجبل. وسميت هذه الوقعة بالبحيرة، وعام البحيرة.(24/288)
ذكر وفاة المهدى محمد بن تومرت
كانت وفاته فى سنة أربع وعشرين وخمسمائة «1» ، وذلك أنه مرض بعد إرسال الجيش لحصار مراكش واشتد مرضه. وأتاه خبر الهزيمة وقتل الونشريسى، فسأل عن عبد المؤمن. فقيل: «هو سالم» . فقال: «ما مات أحد، والأمر قائم، وهو الذى يفتح كل البلاد» . ووصى أصحابه بتقديمه، واتباعه، وتسليم الأمر إليه، والانقياد له. ولقبه أمير المؤمنين ثم مات. وكان عمره إحدى وخمسين سنة، وقيل: مات وله خمس وخمسون سنة. ومدة ولايته عشر سنين «2» .
ذكر ولاية عبد المؤمن بن على «3»
كانت ولايته بعد وفاة المهدى محمد بن تومرت فى سنة أربع وعشرين وخمسمائة، بوصية من المهدى كما ذكرناه «4» . وكان فى الغزو فعاد إلى تينمل وتسلم «5» الأمر، وتلقّب بأمير المؤمنين على ما لقّبه به المهدى قبل وفاته. وأقام يتألف القلوب ويحسن إلى الناس إلى «6» سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.(24/289)
ذكر خروجه للغزو «1» وما فتحه من البلاد ومن «2» أطاعه من القبائل
قال: وفى هذه السنة ابتدأ عبد المؤمن بالغزو. وسار فى جيش كثيف، وجعل يمشى فى الجبل إلى أن وصل إلى تادلة «3» .
فمانعه أهلها وقاتلوه فهزمهم وفتحها. وتم منها إلى البلاد التى تليها.
ومشى فى الجبال يفتح «4» ما امتنع عليه. وأطاعه صنهاجة الجبل.
قال: فعند ذلك جعل أمير المسلمين على بن يوسف ولده تاشفين بن على ولى عهده، وأحضره من الأندلس، وكان أميرا عليها، وندبه لقتال عبد المؤمن، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين «5» . فسار تاشفين لحربه «6» ، فكان يمشى فى الصحراء وعبد المؤمن فى الجبال.
وفى سنة اثنتين وثلاثين، كان عبد المؤمن بجيشه فى النواظر- وهو جبل عال مشرف- وتاشفين فى الوطأة، ويخرج من الطائفتين قوم يتطاردون ويترامون، ولم يكن بينهم لقاء. وسمى هذا عام النواظر، ويؤرخونه به.(24/290)
وفى سنة ثلاث وثلاثين، توجه عبد المؤمن مع الجبل «1» فى الشّعراء «2» حتى انتهى إلى جبل كرانطة «3» . فأقام به فى أرض صلبة بين شجر، وتاشفين قبالته فى الوطأة فى أرض لينة «4» لا نبات بها. وكان الفصل شتاء، فتوالت الأمطار أياما كثيرة. فصار الموضع الذى فيه تاشفين وعسكره كالسباخ لا يستطيع الماشى أن ينقل فيها قدما. وقلّت الأقوات عندهم فهلكوا جوعا وبردا حتى وقدوا رماحهم وقرابيس سروجهم، وعبد المؤمن ومن معه فى تلك الأرض الصلبة والميرة تصل إليهم.
وفى ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشا إلى وجدة «5» من أعمال تلمسان. وقدم عليهم أبا عبد الله محمد بن رفوا «6» من آية خمسين.
فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى متولى تلمسان. فخرج إليهم بجيش من الملثمين فالتقوا بموضع يعرف بمرج الحمر «7» . واقتتلوا فهزمهم الموحدون. وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنم الموحدون ما معهم ورجعوا بأسلابهم إلى عبد المؤمن.(24/291)
فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى جبال غمارة فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة. وأقام عندهم مدة.
وما برح يمشى فى الجبال وتاشفين يحاذيه فى الصحارى إلى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، فتوفى على بن تاشفين بمراكش، وملك بعده ابنه تاشفين. فقوى طمع عبد المؤمن فى البلاد إلا أنه لم ينزل «1» الصحراء.
وفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، توجه عبد المؤمن إلى تلمسان.
فنازلها وضرب خيامه فى جبل عال بأعلاها يسمى بين الصخرتين.
ونزل تاشفين خارج مدينة تلمسان على باب القرمادين. وكان بين أقوام من العسكرين مراماة ومطاردة مع الأيام. ودام ذلك أشهرا. ولم يكن بينهم مناجزة.
ورحل عبد المؤمن فى سنة تسع وثلاثين «2» إلى جبل تاجرة.
ووجه جيشا مع عمر بن يحيى الهنتاتى إلى مدينة وهران. فهاجمها بغتة وصار هو وجيشه فيها. فسار إليه تاشفين فخرج الهنتاتى منها.
ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد. وذلك فى شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
فلما كان فى ليلة سبع وعشرين من الشهر. وهى ليلة معظمة سيما بالمغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون- وهو موضع معظم عندهم- فسار «3» إليه تاشفين فى(24/292)
نفر قليل من خاصة أصحابه «1» . وصعد إلى ذلك المعبد سرا بالليل، ولم يعلم به إلا النفر الذين معه. وقصد التبرك بحضور ختم القرآن مع الصالحين. فانتهى خبره إلى الهنتاتى، فسار لوقته بجميع عساكره إلى ذلك المعبد، وأحاطوا به وملكوا الربوة. فخاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه، فركب فرسه وحمل به إلى جهة البحر من جرف عال فسقط على حجارة فهلك. ورفعت جثته على خشبة، وقتل من كان معه.
وقيل: إن تاشفين قصد حصنا هناك على رابية وله فيه «2» بستان كبير فيه من كل الفواكه. واتفق أن الهنتاتى سير سرية إلى ذلك الحصن لضعف من فيه، ولم يعلم أن تاشفين هناك. فألقوا النار فى باب الحصن فاحترق. فركب تاشفين فرسه وأراد الهرب.
فوثب به الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور فسقط فى النار.
فأخذ تاشفين فعرف. فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن فمات لوقته.
وتفرق عسكره واحتمى بعضهم بمدينة وهران.
قال: وأرسل المرحدون بالخبر إلى عبد المؤمن. فجاء من تاجرة فى يومه «3» ، ودخل وهران بالسيف وقتل من فيها.(24/293)
ذكر استيلاء عبد المؤمن على تلمسان وفاس ومكناسة وسلا وسبتة
قال: ثم سار عبد المؤمن إلى تلمسان، وهى مدينتان بينهما شوط.
فرس: تاجررت «1» وبها أصحاب السلطان، والأخرى أجادير.
وتاجررت ينطق بها بجيم محيرة «2» بين الكاف والجيم، وكذلك أجادير. وتاجررت محدثة البناء، وأجادير قديمة. فامتنعت أجادير وتأهب أهلها للقتال. وأما تاجررت فكان بها يحيى بن الصحراوية «3» واليا عليها فخرج منها بعسكره فارا إلى مدينة فاس. ودخلها عبد المؤمن، فلقيه أهلها بالخضوع والاستكانة. فلم يقبل ذلك منهم وقتل أكثرهم.
ثم رحل عنها فى سنة أربعين وخمسمائة إلى مدينة فاس. ورتب على أجادير جيشا يحصرها «4» ، وجعل عليهم يوسف بن وانودين ابن تامصلت الهنتاتى «5» . فداوم الحصار وضيق على من بها، ونصب عليها المجانيق وأبراج الخشب والدبابات. ودام الحصار نحو سنة «6» وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان. فلما اشتد الحصار على أهلها،(24/294)
اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين بغير علم الفقيه، وأدخلوهم البلد. فلم يشعر أهله إلا والسيف قد أخذهم. فقتل أكثر أهل البلد، ونهبت الأموال، وسبيت الذرارى والحرم. وبيع من لم يقتل بأبخس الأثمان. وأخذ من الأموال والجواهر ما لا يحصى. وكان عدة من قتل مائة ألف. وقيل: إن عبد المؤمن هو الذى حصر تلمسان وفتحها، وسار منها إلى فاس «1» .
قال: ولما وصل عبد المؤمن إلى مدينة فاس، نزل على جبل الفرض المطل عليها. وعمل حول مخيّمه سورا وخندقا. وحصرها تسعة «2» أشهر، وبها يحيى بن الصحراوية بعسكره الذين فروا من تاجررت.
فعمد عبد المؤمن إلى نهر يدخل البلد فسكره «3» حتى صار بحيرة تسير السفن فيها. ثم هدم السّكر فجاء الماء دفعة واحدة، فخرب سور البلد. فأراد الدخول فقاتله أهلها خارج السور. وكان القائد عبد الله بن خيار الجيانى عاملا عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة أعيان «4» البلد، وكاتبوا عبد المؤمن سرا فى طلب الأمان لأهل فاس. فأجابهم عبد المؤمن إلى ذلك. ففتحوا له بابا من أبواب المدينة، فدخلها عسكره. وهرب يحيى بن الصحراوية بمن معه إلى مدينة طنجة. وكان فتحها فى أواخر سنة أربعين وخمسمائة «5» .(24/295)
ورتب عبد المؤمن أمرها وأخذ جميع ما فيها من سلاح.
وسير سرية إلى مكناسة فحصروها مدة ثم سلمها أهلها بالأمان، فوفوا لهم.
ثم سار عبد المؤمن إلى مدينة سلا ففتحها.
وحضر إليه جماعة من أعيان سبتة، فدخلوا فى طاعته وسألوا أمانه فأمنهم، وذلك فى أول سنة إحدى وأربعين «1» .
ذكر ملك عبد المؤمن مراكش وقتله اسحاق بن على وانقراض دولة الملثمين
قال: ولما فرغ عبد المؤمن من مدينة فاس وتلك النواحى، سار إلى مدينة مراكش، وهى كرسى مملكة الملثمين، وبها إسحان بن على ابن يوسف بن تاشفين، وهو صبى. فنازلها فى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وضرب خيامه فى غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره وجامعا. وجعل لنفسه بناء عاليا يشرف منه على المدينة ويري أحوال أهلها وأحوال المقاتلين. فأقام عليها أحد عشر «2» شهرا والقتال مستمر، ومن بها من المرابطين يخرجون ويقاتلون ظاهر البلد. فاشتد الجوع على أهله وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوما، وجعل لعسكره كمينا، وقال لعسكره:(24/296)
«قاتلوهم ثم انهزموا لهم» . وقال للكمين: «لا تخرجوا حتى تسمعوا الطبل» . وجلس هو على المنظرة يشاهد القتال. وتقدم أصحابه للقتال فقاتلوا وصبروا ثم انهزموا. وتبعهم أهل مراكش حتى جاوزوا الكمين ووصلوا إلى مدينة عبد المؤمن وهدموا أكثر سورها. وصاحت المصامدة ليضرب الطبل. فقال عبد المؤمن: «اصبروا حتى يخرج كل طامع من البلد» . فلما خرج أكثر أهله أمر بضرب الطبل فضرب وخرج الكمين عليهم وعطفت المصامدة. فقتلوا الملثمين كيف شاءوا وتمت الهزيمة. فمات فى زحمة الأبواب خلق كثير.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون «1» دولة إسحاق لصغر سنه.
فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبى بكر استأمن إلى عبد المؤمن، وأطلعه على عورة البلد وضعف من فيه، وقوى طمعه فيهم. فنصب عبد المؤمن عليه المجانيق والأبراج. وفنيت الأقوات فأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف «2» إنسان. فجاف «3» البلد من جثثهم.
وكان بمراكش جيش من الفرنج «4» كان المرابطون «5» قد استنجدوا بهم وأتوهم نجدة. فلما طال الأمر عليهم راسلوا عبد المؤمن يطلبون الأمان فأمنهم. ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له باب أغمات. فدخلت عساكر عبد المؤمن بالسيف، وملكوا المدينة عنوة،(24/297)
وقتلوا من وجدوه. ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا إسحاق وجميع من معه من المرابطين. وقدموهم للقتل وإسحاق يرتعد ويسأل العفو عنه رغبة فى البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكى. فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفا، فبصق فى وجهه وقال: «تبكى على أمك أم أبيك. اصبر صبر الرجال «1» فهذا رجل لا يخاف الله تعالى ولا يدينه بدين» . فقام الموحدون إليه فضربوه بالخشب حتى مات، وكان من الشجعان. وضربت عنق إسحاق.
وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة أو ثلاث وأربعين «2» .
قال: وأقام عبد المؤمن بمدينة مراكش واستوطنها واستقر ملكه بها. وقتل من أهلها فأكثر، واختفى كثير منهم. فلما كان بعد أسبوع أمر فنودى بالأمان، فخرج من اختفى من أهلها. فأراد المصامدة قتلهم، فمنعهم وقال: «هؤلاء صناع وأهل الأسواق ومن ينتفع به» . فتركوا وبنى بالقصر جامعا «3» كبيرا وزخرفه وأتقن عمله. وأمر بهدم الجامع الذى بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.(24/298)
ذكر ظفره بدكالة
وفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، سار بعض المرابطين من الملثمين «1» إلى دكّالة. فاجتمع إليه «2» قبائلها وصاروا يغيرون على أعمال مراكش، وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم. فلما كثر ذلك منهم، سار إليهم عبد المؤمن فى سنة أربع وأربعين «3» . فلما سمعت دكالة بمسيره، اجتمعت كلها وانحسروا «4» إلى ساحل البحر، وكانوا فى مائتى ألف راجل وعشرين ألف فارس، وهم من الشجاعة بالمكان المعروف. وكانت جيوش عبد المؤمن تخرج عن الحصر. وكان الموضع الذى فيه دكالة كثير الحجر والحزون، فكمنوا فيه كمينا ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه. فكان من الاتفاق الحسن أنه قصدهم من غير الجهة التى فيها الكمناء. فانحل عليهم النظام وفارقوا ذلك الموضع وأخذهم السيف فدخلوا البحر. فقتل أكثرهم، وغنمت أموالهم وأغنامهم، وسبيت نساؤهم. فبيعت الجارية بدراهم يسيرة.
وعاد عبد المؤمن إلى مراكش بالظفر والنصر. وثبت ملكه وخافه جميع من بالمغرب، وأذعنوا له بالطاعة.(24/299)
ذكر ملكه «1» جزيرة الأندلس
قال: كان ملكه لها فى سنة إحدى وأربعين «2» ، وذلك أنه لما كان يحاصر مراكش، ورد عليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين «3» ، ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل الأندلس لعبد المؤمن ودخولهم فى زمرة أصحابه الموحدين، والتزامهم لطاعته، وإقامتهم لأمره فى بلادهم. وجميع أسماء القوم الذين بايعوه مثبتة فى المكتوب. فقبل عبد المؤمن طاعتهم، وشكر هجرتهم، وطيب قلوبهم. فطلبوا منه النصرة على الفرنج، فإن الفرنج كانوا قد ملكوا من بلاد المسلمين «4» مدينة شنترين وباجة وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها، وذلك فى سنة أربعين وخمسمائة. وكان سبب ذلك ما وقع من الاختلاف بين المسلمين، فطمع العدو فيهم وأخذ هذه المدن وقوى بها. ثم ملكوا فى سنة اثنتين وأربعين مدينة المرية، ومدينة بياسة، وجميع ولاية جيان.
فجهز عبد المؤمن جيشا كثيفا وجعل مقدمه أبا عمر بن صالح من آية الخمسين. وجهز أسطولا فى البحر وجعل قائده يحيى بن(24/300)
عيسى بن ميمون «1» . فغدوا إلى جزيرة الأندلس. ودخل الأسطول إلى مدينة إشبيلية فى النهر، وحاصروها برا وبحرا، وبها جيش من الملثمين «2» . فملكتها عساكر عبد المؤمن عنوة وقتلوا فيها جماعة.
ثم أمن الناس. واستولت عساكره على البلاد الإسلامية التى بها، ودان له أهلها.
وفى سنة ثلاث وأربعين ملك الفرنج مدنا من الأندلس، وهى طرطوشة وجميع قلاعها وحصون لاردة، وذلك لاختلاف المسلمين.
ذكر حصار الفرنج مدينة قرطبة ورجوعهم عنها
قال: وفى سنة خمس وأربعين وخمسمائة، حصر السليطين- وهو الأدفونش ملك طليطلة وأعمالها، وهو من ملوك الجلالقة- مدينة قرطبة- أعادها الله- فى أربعين ألف فارس من الفرنج. فبلغ الخبر عبد المؤمن وهو بمراكش. فجهز اثنى عشر ألف فارس ومقدمهم أبو زكريا يحيى بن يومور «3» . فساروا حتى قربوا من قرطبة. فلم يقدروا على لقاء الفرنج فى الوطأة، فساروا فى الجبال الوعرة.
وجعلوا يقطعون الأشجار حتى يجدوا مسلكا. فمشوا عشرين «4»(24/301)
يوما فى الوعر مسافة أربعة أيام فى السهل. فأفضوا إلى جبل شامخ مطل على قرطبة. فلما رآه السليطين وتحقق أمرهم، رحل لوقته بجميع من معه وسار حتى غاب عن فجاج قرطبة. وكان بقرطبة القائد أبو الغمر السائب، من ولد القائد ابن غلبون من أبطال الأندلس فخرج لوقته من قرطبة وصعد إلى الجبل. واجتمع بيحيى وقال له:
«انزل بمن معك إلى قرطبة وعجّل» . ففعلوا ذلك وباتوا بها. فما أصبح اليوم الثانى إلا وعسكر السليطين قد غشى «1» الجبل الذى كان فيه يحيى. فقال لهم «2» أبو الغمر: «هذا الذى كنت خفته عليكم» . فلما علم أنهم قد فاتوه، ورأى أنه لا مطمع له فى قرطبة، رحل إلى بلاده بعد أن حاصرها ثلاثة أشهر قبل وصولهم.
ذكر ملكه مدينة بجاية وملك بنى حماد وانقراض دولتهم
وفى سنة ست وأربعين وخمسمائة، سار عبد المؤمن من مدينة مراكش إلى سبتة. وهيأ الأساطيل والناس يعتقدون أنه يدخل الأندلس. ونفّذ أعيان أصحابه إلى جميع القبائل: أن يجمعوا العساكر ويرتبوها. وقطع السابلة عن بلاد شرق المغرب برا وبحرا.
ثم خرج من سبتة فى صفر سنة سبع وأربعين «3» . وتوجه إلى(24/302)
المشرق مسرعا وطوى المراحل، والعساكر المرتبة تلقاه. فلم يشعر أهل بجاية إلا وهو فى أعمالها، وكانت ليحيى بن العزيز بالله آخر ملوك بنى حماد. وكان مولعا بالصيد واللهو واللعب لا ينظر فى شىء من أمور مملكته بل فوضها لميمون بن حمدون. فجمع ميمون العساكر وخرج عن بجاية. فأقام أياما وأحجم عن اللقاء ورجع ولم يقاتل عساكر عبد المؤمن. واعتصم يحيى بن العزيز بقلعة قسنطينة. وهرب أخوه الحارث فى مركب إلى جزيرة صقلية. ولحقه أخوه عبد الله «1» وجماعة من بنى عمه إلى صقلية «2» .
ودخل عبد المؤمن بجاية وملك جميع بلاد يحيى بن العزيز بغير قتال. ثم نزل إليه يحيى بالأمان فأمنه وأنفذه إلى المغرب، وكان فيها «3» مدة حياته رخى البال.
وانقرضت دولة بنى حماد. وكانت مدة ملكهم منذ ولى حماد مدينة آشير من قبل أبى مناد باديس بن المنصور بن يوسف فى صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة مائة سنة وستين سنة. وعدة من ملك منهم تسعة ملوك، وهم حماد بن يوسف بلكين بن زيرى، ثم القائد ابن حماد ثم محسن بن القائد بن حماد، ثم ابن عمه بلكين بن محمد، ثم الناصر بن علناس بن محمد بن حماد، ثم ابنه المنصور «4» ، ثم(24/303)
ابنه باديس بن المنصور «1» ولم تطل أيامه حتى مات، وولى بعده العزيز بالله بن المنصور بن الناصر، ثم يحيى بن العزيز هذا. وعليه انقرضت دولتهم.
وكان يحيى قد اعتقل الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس- كما ذكرناه «2» . وسر بماناله من أخذ الفرنج بلاده. فلم تطل المدة حتى فاجأه القدر واستلب ملكه. واجتمع الحسن ويحيى فى مجلس عبد المؤمن على بساط واحد. واستصحب عبد المؤمن الحسن معه، وألحقه بخاصته، وأعلى مرتبته. ولم يفارقه فى سفر ولا حضر إلى أن فتح المهدية، فأقر الحسن بها وأمر واليها أن يقتدى برأيه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ظفره بصنهاجة وملكه قلعة حماد
قال: ولما ملك عبد المؤمن بجاية، تجمعت صنهاجة فى أمم كثيرة.
وتقدم عليهم رجل اسمه أبو قبيصة «3» . واجتمع معهم من كتامة ولواتة وغيرها ما لا يحصى كثرة، وقصدوا حرب عبد المؤمن. فأرسل إليهم جيشا كثيفا، ومقدمهم أبو سعد يخلف «4» ، وهو من آية خمسين. فالتقوا فى عرض الجبل شرقى بجاية. فانهزم(24/304)
أبو قبيصة، وقتل أكثر من معه، ونهبت أموالهم، وسبيت نساؤهم وذراريهم.
ثم سار أبو سعيد إلى قلعة حماد، وهى من أحصن القلاع وأعلاها. فلما رأى أهلها عساكر الموحدين هربوا منها فى رؤوس الجبال. وملكت القلعة وحمل جميع ما فيها من الأموال والذخائر وغير ذلك إلى عبد المؤمن.
ذكر الحرب بين عبد المؤمن والعرب وظفر عساكر عبد المؤمن بهم
قال: وفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة فى صفر، كانت الحرب بين عساكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف «1» .
وذلك أن عبد المؤمن لما فتح بلاد بنى حماد اجتمعت العرب، وهم بنو هلال والأثبج وعدى ورياح وزغيف «2» وغيرهم ممن يقول بقولهم من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب. وقالوا: «إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من بلاد المغرب. وليس الرأى إلا اللقاء معه، وأخذه بالجد، وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن» . وتحالفوا على التعاون والتعاضد، وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال.
واتصل الخبر بصاحب صقلية الفرنجى، فأرسل إلى أمراء العرب وهم محرز بن زياد، وجبارة «3» بن كامل، وحسن بن(24/305)
ثعلب، وعيسى بن حسن، وغيرهم، يحثهم على ذلك، ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلاف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على أن يرسلوا إليه رهائن. فشكروه وقالوا: «لا حاجة بنا إلى نجدته، ولا نستعين على المسلمين بغيرهم» .
وساروا فى عدد لا يحصى. وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب. فلما بلغه خبرهم جهز إليهم جيشا من الموحدين زهاء ثلاثين ألف فارس، ومقدمهم أبو سعيد يخلف، وعبد العزيز وعيسى أولاد أبى مغار «1» . وكان العرب أضعافهم، فاستخرجهم الموحدون. وتبعهم العرب إلى أن وصلوا أرض سطيف بين جبال.
فصدمهم الموحدون بغتة والعرب على غير أهبة. والتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال وأعظمه. فانجلت المعركة عن هزيمة العرب.
وذلك فى يوم الخميس غرة «2» صفر. وتركوا أموالهم وأهاليهم وأولادهم ونعمهم. فأخذ الموحدون جميع ذلك وعادوا به إلى عبد المؤمن. فقسم الأموال فى عسكره وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط. ووكل بهم الخصيان يخدمونهم وأمر بصيانتهم. ونقلهم معه إلى مراكش فأنزلهم فى المساكن الفسيحة وأجرى عليهم النفقات الواسعة.
وأمر عبد المؤمن محمدا بمكاتبة العرب ويعلمهم أن نساءهم وأولادهم تحت الاحتياط والحفظ والصيانة. وأمرهم أن يحضروا(24/306)
ليسلمهم إليهم. فلما وصل كتابه إليهم سارعوا إلى المسير إلى مراكش. فأعطاهم عبد المؤمن نساءهم وأولادهم، وأحسن إليهم، ووصلهم بالأموال الجزيلة فاسترقّ «1» قلوبهم بذلك وأقاموا عنده، واستعان بهم على ولاية ابنه محمد العهد بعده.
ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد بعد أبيه
قال: وفى سنة إحدى وخمسين «2» وخمسمائة، أمر عبد المؤمن بالبيعة بولاية العهد لابنه محمد. وكان الشرط بين عبد المؤمن وعمر الهنتاتى أن يلى الأمر بعده. فلما تمكن «3» عبد المؤمن من الملك وكثرت «4» أولاده أحب أن يكون الملك فيهم. فأحضر أمراء العرب من هلال وزغبة وعدى وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم. ثم وضع عليهم من يقول لهم: «اطلبوا من عبد المؤمن أن يجعل لكم ولى عهد من ولده بعده» . ففعلوا ذلك. فلم يجبهم إكراما لعمر الهنتاتى لعلو منزلته فى الموحدين. فلما علم الهنتاتى ذلك خاف على نفسه. فحضر عند عبد المؤمن وخلع نفسه. فحينئذ بايع عبد المؤمن لابنه بولاية العهد. وكتب إلى جميع بلاده بذلك.(24/307)
وخطب له فى جميع البلاد. وأخرج من الأموال شيئا كثيرا «1» فى ذلك اليوم.
ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد وأعماله
وفى سنة إحدى وخمسين أيضا «2» ، استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد والأعمال، فجعل ابنه أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها، وأبا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها، وأبا الحسن عليا على مدينة فاس وأعمالها، وأبا سعيد «3» على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة.
ولقد سلك عبد المؤمن فى استعمالهم من حسن السياسة وجميل التدبير طريقا عجيبا يستدل به على جودة رأيه، وتوصّله إلى مقاصده بأحسن صورة وأجمل طريقة. وذلك أنه كان قد استعمل على الأعمال شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدى، فكان يتعذر عليه أن يعزلهم. فأخذ أولادهم وتركهم عنده، وأشغلهم بالعلوم. فلما مهروا فيها، قال لآبائهم: «إنى أريد أن تكونوا عندى أستعين بكم على ما أنا بصدده وتكون أولادكم فى أعمالكم» .
فأجابوا إلى ذلك وفرحوا به، فاستعمل أولادهم. ثم وضع عليهم من يعتمد عليه منهم فقال لهم: «إنى أرى أمرا عظيما قد فعلتموه فارقتم فيه الحزم والأدب» . فقالوا: «وما هو؟» قال: «أولادكم(24/308)
فى الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس إليهم «1» شىء منها مع ما هم فيه من العلم وحسن السياسة. وإنى أخاف أن ينظر فى هذا فتسقط منزلتكم عنده» فعلموا صدقه. وحضروا إلى عند عبد المؤمن وسألوه أن يستعمل أولاده. فقال: «لا أفعل» . فعزموا عليه حتى فعل بسؤالهم.
ذكر ملكه مدينة المرية من الفرنج وأغر ناطة من الملثمين
قال: وفى سنة اثنتين «2» وخمسين وخمسمائة، كاتب ميمون ابن بدر صاحب أغرناطة أبا سعيد بن عبد المؤمن صاحب مالقة والجزيرة الخضراء وسبتة أن يسلم إليه أغرناطة، فتسلمها منه.
وسار إلى مالقة «3» بأهله وولده، فسيره أبو سعيد إلى مراكش.
فأقبل عليه عبد المؤمن وأكرمه.
وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة مايرقة «4» مع حمو بن غانية اللمتونى.
قال: ولما ملك أبو سعيد أغرناطة جمع الجيوش وسلم إلى مدينة المرية- وهى بيد الفرنج، كانوا قد أخذوها فى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة- فنازلها وحصرها «5» برا وبحرا. ونزل عسكره(24/309)
على الجبل المشرف عليها. وبنى سورا على الجبل إلى البحر، وعمل عليه خندقا، فصارت المدينة والحصن الذى فيه الفرنج محصورين بهذا السور والجبل. لا يمكن أن يصل إليها من ينجدها.
وجمع السليطين ملك الفرنج بالأندلس الجيوش وجاء إليها، فلم يتمكن منها ورجع ومات قبل وصوله إلى طليطلة. وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر، فقلّت الأقوات على الفرنج فطلبوا الأمان. فأمنهم أبو سعيد وتسلّم الحصن. ورحلوا فى البحر عائدين إلى بلادهم. وكانت مدة ملكهم المرية عشر سنين.
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وجميع بلاد افريقية
كان الفرنج قد تغلبوا على مدينة المهدية وملكوها فى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، كما قدمناه فى أخبار الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس «1» ، وفعلوا بمدينة زويلة الأفعال الشنيعة من القتل والنهب والتخريب. فسار أهلها إلى عبد المؤمن وهو بمراكش يستنجدونه ويستجيرون به فأكرمهم.
وأخبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس فى ملوك الإسلام من يقصد غيره. فأطرق ثم رفع رأسه وقال: «أبشروا لأنصرنكم ولو بعد حين» .
وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفى دينار.
ثم أمر بعمل الروايا «2» والقرب والحياض وما يحتاج إليه(24/310)
العساكر. وكتب إلى جميع نوابه ببلاد المغرب وكان قد ملك إلى قريب تونس، فأمرهم بتحصيل الغلات، وأن تترك فى سنبلها وتخزن فى مواضعها، وأن يحفروا الآبار فى الطرق. ففعلوا ذلك فصارت كأنها تلال.
فلما كان فى صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة «1» ، وسار من مراكش يريد إفريقية ومعه من العساكر مائة ألف مقاتل ومن السوقة والأتباع أمثالهم. وبالغ فى حفظ العساكر حتى كانوا يسيرون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة واحدة. وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد.
وقدم بين يديه الحسن بن على بن يحيى بن تميم الذى كان صاحب المهدية وإفريقية.
فسار حتى وصل إلى مدينة تونس فى الرابع والعشرين من جمادى الآخرة. وأقبل الأسطول فى البحر فى سبعين شينيا وطريدة وشلندى. فنازلها وأرسل إلى أهلها يدعوهم إلى الطاعة. فامتنعوا وقاتلوا أشد قتال. فلما جاء الليل خرج إليهم سبعة عشر رجلا «2» من أعيان أهلها، وسألوا عبد المؤمن الأمان لأهل بلدهم. فأجابهم إلى الأمان لهم فى أنفسهم وأهلهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة «3» وأما من عداهم من أهل البلد فأمنهم فى أنفسهم وأهليهم «4» ،(24/311)
ويقاسمهم أموالهم وأملاكهم نصفين، وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله. فاستقر ذلك وتسلم «1» البلد. وأرسل أمناء ليقاسموا الناس على أموالهم. وأقام عليها ثلاثة أيام. وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى، فمن أسلم سلم، ومن أبى قتل.
وسار عبد المؤمن إلى المهدية والأسطول يحاذيه فى البحر.
فوصل إليها فى ثانى عشر «2» شهر رجب من السنة. وبها أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا مدينة زويلة وبينها وبين المهدية غلوة سهم «3» . فدخلها عبد المؤمن، وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة فى ساعة واحدة. ومن لم يكن له من العسكر موضع نزل بظاهرها. وانضاف إليهم «4» من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الإحصاء. وأقبلوا على قتال من بالمهدية، وهى لا يؤثر فيها شى لحصانتها وقوة سورها وضيق موضع القتال عليها لأن البحر دائر بأكثرها، وهى كأنها كف فى البحر وزندها متصل بالبر. فكانت شجعان الفرنج تخرج إلى أطراف العسكر فينالون منه ويسرعون العود. فأمر عبد المؤمن ببناء سور من غربى المدينة يمنعهم من الخروج. وأحاط الأسطول بها فى البحر. وهال عبد المؤمن ما رأى من حصانة البلد، وعلم أنها لا تفتح بقتال، وليس لها غير المطاولة. وقال للحسن: «كيف نزلت عن هذا الحصن؟» فقال: «لقلة من يوثق به وعدم القوت(24/312)
وحكم القدر» . فقال: «صدقت» . وأمر بجمع الغلات فلم يمض غير قليل حتى صار فى العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير.
وتمادى الحصار.
وفى مدته أطاع عبد المؤمن أهل سفاقس وطرابلس وجيال نفوسة وقصور إفريقية وما والاها. وفتح مدينة قابس وأتاه يحيى ابن تميم صاحب قفصة ومعه جماعة من أعيانها. ولما قدموا عليه دخل حاجبه عبد السلام الكومى «1» يستأذنه عليهم. فقال له عبد المؤمن:
«أتى عليك «2» ليس هؤلاء أهل قفصة» . فقال: «لم يشتبه على وإنهم أهلها» . فقال عبد المؤمن: «كيف يكون ذلك والمهدى يقول: إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها؟
ومع هذا فنقبل منهم ونكف عنهم وننتظر ما يكون، ليقضى الله أمرا كان مفعولا» «3» وقضى شغلهم وأرسل معهم طائفة من الموحدين، وفيهم زكرى بن يومون «4» ، وولاه عليها. وورد فى جملة أهل قفصة شاعر «5» منهم، فمدحه بقصيدة أولها:
ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن على
فلما أنشده هذا البيت قال: «حسبك» ووصله بألف دينار «6» .(24/313)
قال: ولما كان فى يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان سنة أربع وخمسين، جاء أسطول صاحب صقلية فى مائة وخمسين شينيا غير الطرائد، فقاتلهم أسطول عبد المؤمن فانهزموا. وتبعهم المسلمون وأخذوا منهم سبعة شوان. فحينئذ أيس من بالمهدية من النجدة.
وصبروا على الحصار إلى آخر ذى الحجة من السنة حتى فنيت أقواتهم وأكلوا خيلهم. فنزل عشرة من فرسانهم إلى عبد المؤمن وسألوه الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم، ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم. فعرض عليهم الإسلام، فأبوا. ولم يزالوا يستعطفونه حتى أجابهم وأمنهم. وأعطاهم سفنا فنزلوا فيها.
وساروا إلى جزيرة صقلية. وكان الفصل شتاء، فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية إلا القليل. وكان صاحب صقلية قد قال:
«إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم» . فأهلك الله الفرنج غرقا وكان مدة استيلاء الفرنج على المهدية اثنتى عشرة سنة.
ودخل عبد المؤمن مدينة المهدية بكرة عشوراء سنة خمس «1» وخمسين وخمسمائة. وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس. وأقام بالمهدية عشرين يوما. ورتب أحوالها، ونقل إليها الذخائر من الأقوات والسلاح والعدد والرجال. واستعمل عليها أبا عبد الله محمد ابن فرج. وجعل معه الحسن بن على بن يحيى الذى كان صاحبها.(24/314)
وأمره أن يقتدى برأيه فى أفعاله. وأقطع الحسن بها إقطاعا وأعطاه دورا بالمهدية. ورتّب لأولاده وعبيده أرزاقا. ثم رحل عبد المؤمن من المهدية فى غرة «1» صفر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
ذكر ايقاع عبد المؤمن بالعرب
كان سبب ذلك أنه- لما أراد العود إلى بلاد المغرب بعد فراغه من أمر المهدية- جمع أمراء العرب من بنى رياح الذين كانوا بإفريقية، وقال لهم: «إنه قد وجب علينا نصرة الإسلام، وإن المشركين قد استفحل أمرهم بجزيرة الأندلس. واستولوا على كثير منها مما كان بيد المسلمين، وما يقاتلهم أحد مثلكم، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام، وبكم دفع عنها العدو الأول «2» . ونريد منكم عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون فى سبيل الله» .
فأجابوه بالسمع والطاعة فحلّفهم على ذلك.
وساروا معه حتى انتهوا إلى مضيق جبل زغوان «3» . وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالك، وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيهم. فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سرا: «إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس وقالوا: ما غرض عبد المومن إلا(24/315)
إخراجنا من بلادنا، وإنهم لا يفون بأيمانهم» . فقال: «يأخذ الله تعالى الغادر» . فلما كانت الليلة الثانية، هربوا إلى عشائرهم ودخلوا البر، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق. ولم يحدث فى أمرهم شيئا.
وسار مغربا يحث السير حتى قرب من القسنطينة، ونزل فى موضع مخصب يقال له وادى النساء «1» . فأقام به وضبط الطرق فلا يسير أحد البتة «2» ودام هناك عشرين يوما. وانقطع خبره عن جميع الناس لا يعرفون للعسكر خبرا مع كثرته وعظمه، ويقولون:
«ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس» . فعادت العرب الذين أجفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه.
فلما علم برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله فى ثلاثين ألفا من أعيان الموحدين وشجعانهم. فجدوا السير وقطعوا المفاوز. فما شعرت العرب إلا والجيش قد أقبل، وجاء من ورائهم من جهة الصحراء من يمنعهم من الدخول إليها، وكانوا قد نزلوا جنوبا من القيروان عند جبل القرن، وهم زهاء ثمانين ألف بيت، ومشاهير مقدميهم محرز بن زياد وجبارة بن كامل ومسعود بن زمام وغيرهم. فلما أطلت عليهم العساكر اضطربوا وماجوا واختلفت كلمتهم. ففر «3» مسعود وجبارة ومن معهما من(24/316)
عشائرهما. وثبت محرز بن زياد ومعه جمهور العرب. فناجزهم الموحدون القتال. وذلك فى العشر الأوسط من شهر ربيع الاخر سنة ست وخمسين «1» . واشتد القتال وكثرت القتلى. فانجلت الحرب عن قتل محرز وانهزم العرب.
ولما انهزموا أسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال «2» .
فحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بتلك المنزلة. فأمر بحفظ النساء العربيات الصّرائح. وحملن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد المغرب. ثم أقبلت إليه وفود رياح، فأجمل لهم الصنيع ورد إليهم الحريم. فلم يبق منهم إلا من صار له كالعبد الطائع، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان.
ثم جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول.
قال: وجمعت عظام من قتل من العرب عند جبل القرن فبقيت دهرا طويلا كالتل يلوح للناظرين من مكان بعيد. وبقيت بلاد إفريقية بيد نواب عبد المومن آمنة ساكنة، لم يبق من العرب خارج عن الطاعة إلا مسعود بن زمام وطائفة فى أطراف البلاد.
وفى سنة ست وخمسين، توجه عبد المؤمن إلى جبل طارق، وهو على ساحل الخليج مما يلى الأندلس، فعبر المجاز إليه. وبنى عليه مدينة حصينة «3» . وأقام بها أشهرا «4» ثم انصرف إلى مراكش.(24/317)
ذكر وفاة عبد المؤمن بن على وشىء من أخباره
كانت وفاته فى العشر الآخر «1» من جمادى الآخر «2» سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بمدينة سلام. وكانت مدة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا. وخلف ستة عشر «3» ولدا ذكورا.
وكان عاقلا، حازما، سديد الرأى، حسن السياسة للأمور، كثير البذل للأموال، إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على صغار الذنوب. وكان يعظّم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس فى سائر بلاده بالصلاة. ومن رئى فى وقت الصلاة غير مصلّ قتل.
وجمع الناس على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله فى الفروع، وعلى مذهب أبى الحسن الأشعرى فى الأصول. وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين، وإليهم المرجع والكلام معهم.
قال ابن شداد: وقفت على كتاب كتبه عنه بعض كتابه، يقول فيه بعد البسملة: «من الخليفة المعصوم الرّضى الهاشمى «4» الزّكى، الدى وردت البشارة به من النبى صلّى الله عليه وسلم، العربى «5» القامع لكل مجسّم غوى، الناصر لدين الله العلى «6» ، أمير المؤمنين الولى، عبد المؤمن بن على» .(24/318)
وحكى أيضا قال: أخبر رجل من أهل المهدية اجتمعت به بمدينة صقلية سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، قال: لما فتح عبد المؤمن مدينة بجاية وجميع ملك بنى حماد، وافق ذلك وصولى بعد أيام من المهدية إلى بجاية بأحمال متاع مع قفل «1» ، فبتنا «2» على مرحلة من بجاية. فلما أصبح الصباح فقدت شدّة من المتاع، فحمدت الله «3» وسألته الخلف. ودخلنا البلد وبعت المتاع أحسن بيع وأفدت «4» فيه فائدة كبيرة»
. فقلت لصاحب الحانوت الذى بعت على يديه: «فقدت من هذا المتاع شدة، وأخلف الله على فى الباقى» . فقال لى: «وما أنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد المؤمن؟» قلت: «لا» . قال: «والله، إن علم «6» ذلك من غيرك لحقك الضرر بسترك على المفسدين. فاتق الله فى نفسك» . فرحت «7» إلى القصر واستأذنت عليه وأعلمته. ثم خرجت فسألنى خادم عن منزلى فوصفته له. ورجعت إلى صاحب الحانوت «8» فأخبرته.
فقال: «خرجت «9» من العهدة» .
فلما كان صبيحة اليوم الثالث من وصولى إليه، جاءنى غلام(24/319)
أسود فقال: «أجب أمير المؤمنين» . فخرجت معه. فلما وصلنا باب القصر وجدت جماعة كبيرة «1» والمصامدة دائرة عليهم بالرماح. فقال لى الأسود «تعلم «2» من هؤلاء؟» قلت: «لا» .
قال: «هم أهل المكان الذى أخذ متاعك فيه» . فدخلت وأنا خائف، فأجلست بين يديه. واستدعى مشايخهم وقال لى: «كم «3» صح لك فى الشدة التى فقدت أختها» . فقلت: «كذا وكذا» .
فأمر من وزن لى المبلغ ثم قال لى: «قم. أنت أخذت حقك وبقى حقى وحق الله عز وجل» . وأمر بإخراج المشايخ وقتل الجميع. وقال: «هذه طريق شوك أزيلها عن المسلمين» . فأقبلوا يبكون ويتضرعون ويقولون: «يؤاخذ سيدنا الصلحاء بالمفسدين؟» فقال: «نخرج كل طائفة منكم من فيها من المفسدين» . فصار الرجل يخرج ولده وأخاه وابن عمه «4» إلى أن اجتمع منهم نحو خمسمائة فأمر أهلهم أن يتولوا قتلهم، ففعلوا ذلك. وخرجت أنا إلى صقلية خوفا على نفسى من أولياء المقتولين.
قال: وكان عبد المؤمن لا يداهن فى دولته، ويأخذ الحق من ولده إذا وجب عليه.
قال: ولا مشرك فى بلاده ولا كنيسة فى بقعة منها، لأنه كان إذا ملك بلدا إسلاميا لم يترك فيه ذميا إلا عرض عليه الإسلام. فمن(24/320)
أسلم سلم، ومن طلب المضى إلى بلاد النصارى أذن له فى ذلك، ومن أبى قتل. فجميع أهل مملكته مسلمون لا يخالطهم سواهم.
ولا لهو ولا هزل تحت أمره بل تلاوة كتاب الله العزيز، ومدارسة الأحاديث الصحيحة النبوية، والاشتغال بالعلوم الشرعية، وإقام الصلوات. فهذا كان دأب أصحابه.
وكان لعبد المؤمن من الأولاد الذكور ستة عشر «1» ، وهم محمد وهو ولى عهده، وعلى، وعمر، ويوسف، وعثمان، وسليمان، ويحيى، وإسماعيل، والحسن، والحسين، وعبد الله، وعبد الرحمن، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب «2» .
ذكر ولاية أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على
كانت ولايته بعد وفاة أبيه. وذلك أن عبد المؤمن لما حضرته الوفاة جمع أشياخ الموحدين وقال لهم: «قد جربت ابنى محمدا فلم أجد فيه نجابة تصلح للأمر، ولا يستحق الولاية ولا يصلح لها إلا ابنى يوسف، وهو أولى بها، فقدّموه لها» . ووصاهم به فبايعوه وعقدوا له الولاية. وخوطب بأمير المؤمنين.
ثم مات عبد المؤمن فكتموا مونه وحمل فى محفة من سلا بصورة أنه مريض إلى أن وصل إلى مراكش. وكان ابنه أبو حفص حاجبا(24/321)
لأبيه فبقى مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج إلى الناس فيقول «1» أمر أمير المؤمنين بكذا وكذا، ويوسف يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له فى جميع البلاد. فأظهر موت أبيه بعد انقضاء أشهر «2» من وفاته. واستقامت الأمور لأبى يعقوب وانقاد الناس لأمره «3» .
ذكر عصيان غمارة مع مفتاح بن عمرو «4» وقتالهم وقتل مفتاح
قال. ولما تحقق الناس موت عبد المؤمن، ثارت قبائل غمارة فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة مع مفتاح بن عمرو؛ وكان مقدما كبيرا فيهم، فاتبعوه بأجمعهم، وامتنعوا فى جبالهم، وهى معاقل مانعة، وهم أمم جمة. فتجهز إليهم أبو يعقوب ومعه أخواه عمر «5» وعثمان فى جيش كثيف من الموحدين والعرب. وتقدموا إليهم والتقوا واقتتلوا فى سنة إحدى وستين. فانهزمت غمارة،(24/322)
وقتل مفتاح وجماعة من أعيانهم ومقدميهم وخلق كثير منهم. وملكوا بلادهم عنوة. وكانت قبائل كثيرة يريدون الفتنة، وهم ينظرون ما يكون من غمارة، فلما قتلوا انقادت تلك القبائل إلى الطاعة، ولم يبق متحرك لفتنة، وسكنت الدهماء فى جميع المغرب «1» .
وفى سنة خمس وستين وخمسمائة، وجه أبو يعقوب أخاه عمر ابن عبد المؤمن إلى الأندلس بالعساكر لقتال محمد بن «2» سعد ابن مردنيش. وكان قد ملك شرق الأندلس، واتفق مع الفرنج، وامتنع على عبد المؤمن ثم على ابنه، وتمادى فى عصيانه، واستفحل أمره. فدخل العسكر «3» إلى بلاده، وجاس خلال دياره، وأخذوا مدينتين من بلاده. وأقاموا مدة يتنقلون فى بلاده ويجبون أموالها.
ثم توفى محمد بن سعد فى سنة سبع «4» وستين، وأوصى أولاده أن يقصدوا الأمير أبا يعقوب، ويسلموا البلاد إليه، ويدخلوا فى طاعته. فلما مات قصدوه. فسربهم وأكرمهم وتسلم البلاد منهم، وهى مرسية، وبلنسية، وجيان، وغير ذلك، وتزوج أختهم.
وأقاموا عنده مكرمين. وكان اجتماعهم به بمدينة إشبيلية، وقد دخل الأندلس فى مائة ألف فارس فى سنة ست وستين «5» وخمسمائة.(24/323)
ذكر غزوة الفرنج
قال: وفى سنة ثمان وستين «1» ، جمع أبو يعقوب عساكره.
وسار من إشبيلة وقصد بلاد الفرنج. ونزل على مدينة وبذى «2» ، وهى بالقرب من طليطلة شرقا منها، وحصرها. فاجتمعت الفرنج مع الأدفونش «3» ملك طليطلة فى جمع كبير، فلم يقدموا «4» على لقاء المسلمين. واتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين وعدمت الأقوات عندهم.
فعادوا إلى إشبيلية.
وأقام أبو يعقوب بها إلى سنة إحدى وسبعين وهو يجهز العساكر فى كل وقت، ويرسلها إلى بلاد الفرنج «5» . وكان فى هذه المدة عدة «6» وقائع وغزوات، ظهر فيها «7» من شجاعة العرب ما لا يوصف، حتى كان الفارس من العرب يسير بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرز إليه أحد.
ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.(24/324)
ذكر ملك أبى يعقوب مدينة قفصة
قد ذكرنا أن صاحب قفصة قدم على عبد المؤمن وهو يحاصر المهدية، وأطاعه، وما قاله عبد المؤمن لحاجبه عند قدوم أهل قفصة من إخبار المهدى عن قفصة. فلما كان فى سنة ثمان وستين وخمسمائة، دخلت طائفة من الترك من ديار مصر فى أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مع قراقوش مملوك تقى الدين. واجتمع إليه مسعود بن زمام وجماعة من العرب، ونزلوا على طرابلس وملكوها، واستولى على كثير من بلاد إفريقية.
فعند ذلك طمع صاحب قفصة «1» ونزع يده من الطاعة، واستبد بالأمر. ووافقه أهل بلده فقتلوا من عندهم من الموحدين وذلك فى شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. فكتب والى بجاية إلى أبى يعقوب بالخبر واضطراب أمور البلاد. فسد الثغور التى يخشى عليها بعد مسيره. وسار إلى إفريقية فى سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها. فلما اشتد الأمر على صاحبها خرج منها مستخفيا لم يعلم به أحد من أهل البلد. وجاء إلى خيمة أبى يعقوب فاستأذن عليه. فأذن له وقد عجب من إقدامه على الدخول عليه بغير أمان. فدخل عليه واستعطفه وقال: «قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عنى(24/325)
وعن أهل بلدى، وأن يفعل ما هو أهله» . فعفا عنه وعن أهل بلده.
وتسلم المدينة فى أول سنة ست وسبعين وخمسمائة وسيره إلى المغرب فكان مكرما عزيزا، وأقطعه ولاية كبيرة «1» . ورتب لقفصة واليا من الموحدين.
ووصل مسعود بن زمام «2» أمير العرب إلى يوسف. فعفا عنه وسيره إلى مراكش. وتوجه يوسف إلى المهدية وشاهدها.
ووافاه رسول من صاحب صقلية يلتمس الصلح، فهادنه عشر سنين، ورجع إلى المغرب.
ذكر وفاة أبى يعقوب يوسف
كانت وفاته فى شهر ربيع الأول «3» سنة ثمانين وخمسمائة. وكان قد سار إلى بلاد الأندلس فى جمع عظيم. فلما عبر الخليج قصد غزو الفرنج، فحصر مدينة شنترين شهرا. فأصابه بها مرض، فمات وحمل فى تابوت إلى مدينة إشبيلية.
وكانت مدة ولايته اثنتين وعشرين سنة وشهورا «4» .
ومات وله عدة من الأولاد، رأيت فى بعض التواريخ أنهم كانوا(24/326)
خمسة عشر، وهم عمر، ويعقوب وهو ولى عهده، وأبو بكر، وعبد الله، وأحمد، ويحيى، وموسى، وإبراهيم، وإدريس، وعبد العزيز، وطلحة، وإسحاق، ومحمد، وعبد الواحد، وعثمان، وعبد الحق، وعبد الرحمن. فهذه «1» سبعة عشر عدها وجمع على خمسة عشر، والله أعلم «2» .
وذكر هذا المؤرخ أن وفاته كانت فى يوم السبت لسبع خلون من شهر رجب من السنة «3» ، من طعنة «4» طعنها على مدينة شنترين من أيدى الروم، لما عبر المسلمون وتركوه فى شرذمة يسيرة. ومات فى الليلة الثالثة. والله تعالى أعلم.
وقال أيضا: ودفن بتينمل عند أبيه وابن تومرت.
قال: وكان يحمل إليه من مال إفريقية فى كل سنة وقرمائة وخمسين بغلا، خارجا عما يرتفع إليه من سائر البلاد.
وكان حسن السيرة، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خاصته، وكان فقيها عالما حافظا متقنا، رحمه الله تعالى.(24/327)
ذكر ولاية أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن
كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى شهر ربيع الأول سنة ثمانين وخمسمائة. وكان أبوه قد مات ولم يوص لأحد بالملك، فاجتمع رأى أشياخ الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تقديم أبى يوسف يعقوب.
فبايعوه وعقدوا له الولاية وقدموه للأمر، ودعوه بأمير المؤمنين «1» .
فقام بالملك أحسن قيام، ورفع راية الجهاد، وأحسن السيرة.
فاستقامت له الدولة بأسرها مع سعة أقطارها. ورتب ثغور الأندلس، وشحنها بالرجال، ورتّب المقاتلة فى سائر بلادها، وأصلح أحوالها، وعاد إلى مدينة مراكش.
ذكر أخبار الملثمين وما ملكوه من افريقية واستعادة ذلك منهم
قال: ولما بلغ على بن إسحاق بن محمد بن على بن غانية اللمتونى صاحب جزيرة «2» ميورقة، وكان من أعيان الملثمين، وفاة أبى يعقوب، سار إلى بجاية فى عشرين شينيا. وملكها فى شعبان سنة ثمانين «3» وخمسمائة، وأخرج من كان بها من الموحدين. وكان(24/328)
الأمير بها سليمان «1» بن عبد الله بن عبد المؤمن. وخطب اللمتونى بها للخليفة الناصر لدين الله العباسى.
فاتصل الخبر بأبى يوسف فجهز العساكر واستعادها فى صفر سنة إحدى وثمانين. وكان بها يحيى وعبد الله أخوا على بن إسحاق قد تركهما بها وتوجه لحصار القسنطينة، فخرجا منها هاربين والتحقا بأخيهما. فأقلع إلى جهة إفريقية واجتمع بمن بها من العرب وانضاف إليه الترك الذين كانوا قد دخلوها من مصر. ودخل من مصر مملوك آخر اسمه بوزابه، فانضم إليه، وكثر جمعه، وقويت شوكته.
واتبعوه جميعا لأنه من بيت الملك ولقبوه بأمير المسلمين. فقصد بلاد إفريقية فملكها شرقا وغربا إلا مدينتى تونس والمهدية، فإن الموحدين حفظوهما على خوف وضيق وشدة. وانضاف «2» إلى الملثم كل مفسد يريد الفتنة والفساد والنهب.
فأرسل الوالى على تونس وهو عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتى إلى أبى يوسف يعلمه بالحال. فلما ورد عليه الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين. وقصد قلة العساكر لقلة القوت فى البلاد. وسار فى صفر سنة ثلاث وثمانين «3» ، فوصل إلى مدينة تونس. وأرسل ستة آلاف مع ابن أخيه أبى حفص «4» ، فساروا(24/329)
إلى على بن إسحاق الملثم وهو بقفصة فوافوه. وكان مع الموحدين جماعة من الترك الذين كانوا مع قراقوش، فلما التقوا خامر الترك عليهم، وانضموا إلى أصحابهم الذين مع الملثم. فانهزم الموحدون وقتل جماعة من مقدميهم.
وذلك فى شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين.
قال: فأقام أبو يوسف بمدينة تونس إلى نصف شهر رجب منها.
ثم خرج فى خمسة عشر ألف فارس من الموحدين وسار يريد حرب الملثم. فالتقوا بالقرب من مدينة قابس واقتتلوا. فانهزم الملثم ومن معه. وأكثر الموحدون القتل فيهم حتى كادوا يفنونهم.
ورجع من يومه إلى قابس ففتحها. وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وأمواله فحملهم إلى مراكش «1» .
وتوجه إلى مدينة قفصة فحصرها ثلاثة أشهر «2» ، وقطع أشجارها، وخرب ما حولها. فأرسل إليه الترك الذين كانوا بها فى السر يسألونه الأمان لأنفسهم ولأهل قفصة. فأجابهم إلى ذلك. وخرج الأتراك منها سالمين فسيرهم إلى الثغور لما رآه من شجاعتهم ونكايتهم.
وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين «3» . وهدم أسواره، وترك المدينة مثل قرية. وظهر ما قاله المهدى.
ولما فرغ من أمر قفصة واستقامت له إفريقية، عاد إلى مراكش.
فكان وصوله إليها فى سنة أربع وثمانين.(24/330)
وأما ابن غانية اللمتونى فإنه ثبت بعد انكشاف أصحابه وقاتل قتالا شديدا فأصابته جراحات كثيرة. ومر على وجهه فمات فى خيمة لعجوز أعرابية. وكان معه إخوته عبد الله ويحيى وأبو بكر وسير.
فقدموا عليهم يحيى لشجاعته وشهامته ولحقوا بالمغرب. ولم يزل بإفريقية يثور تارة ويسكن أخرى.
ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها الى المسلمين
وفى سنة ست «1» وثمانين وخمسمائة، ملك الفرنج بغرب الأندلس مدينة شلب، وهى من أكبر مدن المسلمين. فوصل الخبر إلى أبى يوسف فتجهز بالعساكر الكثيرة. وعبر المجاز إلى الأندلس، وسير طائفة كثيرة فى البحر. ونازل شلب وحصرها، وقاتل من بها قتالا شديدا حتى ذلوا وطلبوا الأمان «2» . فأمنهم وتسلم البلد.
ورجع من به إلى بلادهم.
وسير جيشا من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج.
ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة وقتلوا طائفة من الفرنج فخافهم ملك طليطلة، وأرسل فى طلب الهدنة فصالحه خمس سنين. وعاد أبو يوسف بعد ذلك إلى مدينة مراكش.(24/331)
ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة
كانت هذه الغزاة المباركة فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وكان سببها أن الفنش «1» ملك الفرنج صاحب طليطلة كتب إلى أبى يوسف كتابا، نسخته «2» :
«باسمك اللهم، فاطر السموات والأرض.
أما بعد، أيها الأمير، فإنه لا يخفى على ذى عقل لازب، ولا ذى لب وذكاء ثاقب، أنك أمير الملة الحنيفية «3» كما أنا أمير الملة النصرانية. وإنك لا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات. وأنا أسومهم سوم الخسف، وأسبى الذرارى، وأخلى الديار، وأمثّل بالكهول، وأقتل الشباب، ولا عذر لك فى التخلف عن نصرتهم، وقد أمكنتك منهم القدرة، وأنتم تعتقدون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم. والآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، وقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم «4» . ونحن الآن نقاتل عددا منكم(24/332)
بواحد منا. ولا تقدرون دفاعا ولا تستطيعون امتناعا. ثم حكى لى عنك أنك أخذت فى الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتمطل نفسك عاما بعد عام، تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى. ولا أدرى: الجبن أبطأبك أم التكذيب بما أنزل عليك؟ وحكى لى عنك أنك لا تجد سبيلا إلى جواز «1» البحر لعلة «2» ما يسوغ لك التقحّم بها فها أنا أقول لك ما فيه الراحة وأعتذر عنك. ولك أن توفينى بالعهود والمواثيق والأيمان:
أن توجّه بجملة من عبيدك «3» فى الشوانى والمراكب وأجوز إليك بجملتى. وأبارزك فى أعز الأماكن عندك. فإن كانت لك، فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك. وإن كانت لى كانت يدى العليا عليك واستحققت إمارة المسلمين والتقدم على الفئتين.
والله يسهل الإرادة ويقرب السعادة بمنه، ولا رب غيره ولا خير إلا خيره» .
قال: فلما وصل كتابه وقرأه كتب فى أعلاه «4» : «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ
«5» » . وأعاده إليه. وجمع عساكره وعبر المجاز إلى الأندلس.
وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أنه لما صالح الفرنج فى سنة ست وثمانين على ما «6» ذكرناه، بقيت طائفة من الفرنج لم(24/333)
ترض بالصلح. فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام فقتلوا وسبوا وأسروا وغنموا وعاثوا.
فانتهى ذلك إلى أبى يوسف. فجمع العساكر وعبر إلى الأندلس فى جيش يضيق به الفضاء. وجمعت الفرنج قاصيها ودانيها، وأقبلوا إليه مجدّين واثقين بالظفر لكثرتهم. والتقوا فى تاسع «1» شعبان من السنة شمالى قرطبة عند قلعة رباح بمكان يعرف بمرج الجديد «2» .
واقتتلوا قتالا عظيما. وكانت الحرب فى أولها على المسلمين ثم صارت الدائرة على الفرنج. فانهزموا أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم.
وكان عدد من قتل من الفرنج مائة ألف وستة وأربعين ألفا «3» .
وأسر ثلاثة عشر ألفا «4» . وحاز المسلمون من الخيل ستة وأربعين ألفا «5» ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف. وكان يعقوب نادى فى عسكره: «من غنم شيئا فهو له سوى السلاح» .
فأحصى ما حمل إليه، فكان يزيد على سبعين ألف لباس. وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفا. ولما انهزم الفرنج، اتبعهم أبو يوسف(24/334)
فرآهم قد خلّفوا «1» قلعة رباح وساروا عنها. فملكها «2» وجعل فيها واليا وجندا. وسار إلى مدينة إشبيلية.
وأما الفنش فإنه حلق رأسه، ونكس صلبانه، وركب حمارا، وأقسم ألا يركب فرسا ولا بغلا حتى ينصر النصرانية. فجمع جموعا كثيرة. فبلغ الخبر إلى أبى يوسف، فأرسل إلى مراكش وغيرها من بلاد الغرب «3» يستنفر الناس من غير إكراه. فاجتمع إليه جمع عظيم. فالتقوا فى شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة. وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك.
وتوجه أبو يوسف إلى مدينة طليطلة. فحصرها وقاتل من بها قتالا شديدا، وقطع أشجارها.
وشنّ الغارة على ما حولها من البلاد. وفتح عدة حصون، فقتل رجالها، وسبى حريمها، وهدم أسوارها، وخرب دورها. فضعفت النصرانية حينئذ وعظم أمر الإسلام بالأندلس. وعاد إلى إشبيلية فأقام بها.
فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، سار إلى الفرنج وفعل مثل فعله الأول والثانى. فذل العدو واجتمعت ماوك الفرنج وراسلوه فى الصلح، فأجابهم إليه بعد امتناع. وكان عزم على أن لا يجيبهم إلى(24/335)
الصلح وأن يداوم الغزو حتى يفنيهم. فأتاه خبر على «1» بن إسحاق الملثم بخروجه على إفريقية. فصالحهم «2» سنين. وعاد إلى مراكش فى آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
ذكر ما فعله الملثم بافريقية
قال: ولما عبر أبو يوسف يعقوب إلى الأندلس، وداوم الغزو، وانقطعت أخباره عن إفريقية، قوى «3» طمع على بن إسحاق «4» فيها. وكان بالبرية مع العرب «5» . فعاود قصد إفريقية. وبث جنده فى البلاد وأكثر الفساد. وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب. فوصل الخبر إلى أبى يوسف فصالح الفرنج، وعاد إلى مراكش عازما على قصده وإخراجه.
ولما عاد استعمل على مدينة تونس أبا سعيد عثمان بن عمر الهنتاتى وولى أخاه أبا على يونس بن عمر على المهدية. وجعل قائد الجيش «6» بالمهدية محمد بن عبد الكريم، وهو رجل مشهور بالشجاعة. فعظمت(24/336)
نكايته فى العرب، ولم يبق إلا من يخافه. وخرج إلى طائفة من عوف، فانهزموا منه وتركوا أموالهم وعيالهم. فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية.
وأخذ من الغنيمة والأسلاب ما شاء، وسلم البعض لأبى على، والبعض للجند. فجاءت تلك الأعراب إلى أبى سعيد بن عمر فوحّدوا «1» وصاروا من حزب الموحدين. واستجاروا بأبى سعيد فى رد عيالهم وأموالهم. فأحضر محمد بن عبد الكريم وأمره بإعادة ما أخذ لهم.
فقال: «أخذه الجند ولا أقدر على رده» . فأغلظ له فى القول وأراد أن يبطش به. فاستمهله إلى أن يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده، وما عدم غرمه من ماله؛ فأمهله. وانصرف إلى المهدية وهو لا يأمن على نفسه. فلما وصل إليها جمع أصحابه، وأعلمهم بما كان من أبى سعيد، وحالفهم على المخالفة عليه، فحلفوا له على ذلك.
فقبض على أبى على يونس «2» وتغلب على المهدية وملكها ونزع يده من الطاعة. فأرسل إليه أبو سعيد فى إطلاق أخيه يونس. فأطلقه على اثنى عشر ألف دينار، فأخذها وفرقها فى جنده. فجمع أبو سعيد الجند وأراد قصده. فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى على بن إسحاق الملثم واعتضد به. فامتنع أبو سعيد من قصده. وفى خلال ذلك مات أبو يوسف.(24/337)
ذكر وفاة أبى يوسف يعقوب
كانت وفاته فى سابع عشر شهر ربيع الآخر «1» سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة سلا. وكان قد سار إليها من مراكش، وبنى مدينة مجاورة «2» لها وسماها المهدية «3» ، وجاءت من أحسن البلاد وأنزهها. فسار ليشاهدها فتوفى بها. وقيل: بل توفى بمراكش بعد انصرافه من سلا، فى جمادى الأولى سنة خمس وتسعين. وقيل:
بل كانت وفاته فى صفر منها.
وكانت ولايته خمس عشرة سنة «4» .
وكان رحمه الله دينا، حسن السيرة، كثير الجهاد، إلا أنه كان يتمذهب بمذهب الظاهرية ولا يكتمه. فعظموا فى أيامه وانتشروا فى البلاد، ومال إليهم «5» .
وحكى بعض المؤرخين أنه كان فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة أظهر الزهد والتقشف وخشونة المأكل والملبس «6» . وانتشرت فى أيامه الصالحون وأهل الحديث. وانقطع علم الفروع. وأمر بإحراق(24/338)
كتب المذهب بعد أن يجرد منها الحديث والقرآن. فحرق منها جملة فى سائر البلاد كالمدونة وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، ومختصره، والتهذيب للبرادعى، والواضحة. وأمر بجمع الحديث من المصنفات كالبخارى، ومسلم، والترمذى، والموطأ، وسنن أبى داود، والبزار، وابن أبى شيبة، والدار قطنى، والبيهقى، فجمع ذلك كله. فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه. قال:
وانتشر هذا المجموع فى بلاد المغرب، وحفظه العوام والخواص.
وكان يجعل لمن حفظه الجوائز السنية. وكان قصده أن يمحو مذهب مالك من بلاد المغرب، ويحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة.
وكان له من الأولاد محمد وهو ولى عهده، وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح، وعثمان، ويونس، وسعد، ومساعد. فهؤلاء أربعة عشر ولدا.
ولما مات ولى بعده ابنه محمد.
ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ابن على الملقب الناصر لدين الله
كان أبوه قد ولاه العهد فى حياته. واستقل بالملك بعده، واستقام أمر دولته، وأطاعه الناس، وذلك فى جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ولما ولى اتصل به فساد إفريقية. فأنفذ عمه أبا العلاء فى سبعين شينيا مشحونة بالعدد والمقاتلة. وجهز جيشا فى(24/339)
البر مع أبى الحسن على بن أبى حفص «1» عمر بن عبد المؤمن فوصل إلى قسنطينة الهواء. ووصل الأسطول إلى بجاية. فلما اتصل خبرهم بعلى بن إسحاق «2» ومن معه من العرب هربوا وتركوا إفريقية ودخلوا إلى الصحراء. وتمادى بعض الأسطول إلى المهدية، فقبح مقدمهم على محمد بن عبد الكريم فعله. فشكا إليه ما ناله من أبى سعيد، وقال: «أنا فى طاعة سيدنا أمير المؤمنين محمد، وما أسلم المهدية إلا له أو لمن يأمرنى بتسليمها إليه. وأما أبو سعيد فلا أسلمها إليه أبدا» .
فأرسل محمد من تسلمها منه. وعاد إلى الطاعة.
قال: وجهز محمد جماعة من العرب إلى الأندلس واحتاط. واحترز.
فأتاه جماعة رسل من ملوك الفرنج يطلبون دوام الهدنة ويشاهدون أحوال الدولة. فأنزلهم على العادة، وحضروا مجلسه فطلبوا دوام الهدنة التى كانت بينهم وبين أبيه، واستقراض مائة ألف دينار.
فقال لهم: «المال والحمد لله لدينا والرجال، ونحن نجيب إلى ذلك بشرط أن ترهنوا عندنا معاقل على المال تكون بأيدينا إلى حين الوفاء.
وإن كان هذا منكم امتحانا فالسيوف التى تعرفون ما ردّت فى أغمادها والرماح ما حصلت على أوتادها» . فانصرفوا وقد ملأ قلوبهم رعبا.
وأبقوا الهدنة على ما كانت وأعرضوا عن ذكر السلف.
قال: وخرج أقارب يحيى بن إسحاق الميورقى من ميورقة لما علموا(24/340)
بموت يعقوب فى أسطول كبير إلى جزيرة منرقة، وهى فى طاعة محمد.
ففتحوها واحتووا على أموالها، وتركوا فيها جندا يحفظونها. فاتصل ذلك بالأمير محمد. فجهز أسطولا فى غير أوان ركوب البحر فى كانون، وقدم عليهم أبا زيد. فوصل إلى منرقة ففتحها عنوة بالسيف وقتل بعض من فيها «1» . وتوجه إلى جزيرة ميورقة «2» ففتحها وقتل بعض من بها من الجند. وأسر ثلاثة من أقارب يحيى ابن إسحاق وقتل منهم واحد فى المعركة. وذلك كله فى سنة خمس «3» وتسعين وخمسمائة.
انتهى تاريخ ابن شداد وابن الأثير «4» فى أخبار المغرب إلى هذه الغاية.
وقال غيرهما ممن أرخ للمغاربة: وفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، قام بالسوس رجل جزولى يعرف بأبى قصبة، ودعا لنفسه، واجتمع عليه خلق كثير ثم هزمه الموحدون وأسلمه أصحابه، وقتل.
وفى سنة إحدى وستمائة، تجهز محمد بن يعقوب فى جيوش عظيمة لقصد إفريقية، وكان يحيى بن غانية اللمتونى قد استولى عليها ما خلا قسنطينة وبجاية. فنزل إفريقية وملكها، ولم يمتنع عليه منها إلا المهدية. فأقام عليها أربعة أشهر، وكان فيها الحسن بن على بن عبد الله بن محمد بن غانية «5» واليا لابن عمه يحيى. فلما طال عليه(24/341)
الحصار سلمها وخرج يقصد ابن عمه. ثم بداله فراسل الأمير محمدا فقبله أحسن قبول ووصله بالصّلات السنية.
ثم ترك بإفريقية من يقوم بحمايتها، واستعمل عليها أبا محمد عبد الواحد. ورجع إلى مراكش فى سنة أربع «1» وستمائة. وأقام بها إلى أول سنة سبع «2» وستمائة. فقصد بلاد الروم بالغزو، ونزل على قلعة تسمى شلب ترّة «3» ففتحها. فجمع له الأذفنش «4» جموعا عظيمة من الأندلس والشام «5» والقسطنطينية. فالتقيا بموضع يعرف بالعقاب. فدهم الأدفنش المسلمين وهم على غير أهبة.
فانهزموا وقتل من الموحدين خلق كثير. وثبت الأمير محمد ثباتا لم ير من ملك قبله. ولولا ذلك لا ستؤصلت تلك الجموع. ثم رجع إلى مراكش. وكانت الهزيمة فى يوم الاثنين منتصف صفر «6» سنة تسع وستمائة. وانفصل الأدفنش، وقصد بياسة فوجدها خالية.
فقصد أبّذة فوجد فيها من المسلمين عددا كثيرا من المنهزمين وأهل بياسة. فأقام عليها ثلاثة عشر يوما، ودخلها عنوة وسبى وغنم.
فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة.(24/342)
ذكر وفاة أبى عبد الله محمد وشىء من أخباره
كانت وفاته بمدينة مراكش لعشر خلون، وقيل: لخمس خلون من شعبان سنة عشر «1» وستمائة. فكانت ولايته خمس عشرة سنة وشهورا.
وكان شديد الصمت، بعيد الغور، كثير الإطراق، حليما، شجاعا، عفيفا عن الدماء، قليل الخوض فيما لا يعنيه، إلا أنه كان نحيلا «2» ألثغ.
وكان له من الأولاد يوسف، وهو ولى عهده، ويحيى، وإسحاق توفى يحيى فى حياته.
ولما مات ولى بعده ابنه يوسف.
ذكر ولاية يوسف بن محمد بن يعقوب ابن يوسف بن عبد المؤمن بن على
كانت ولايته بعد وفاة أبيه فى شعبان سنة عشر وستمائة، وعمره يوم ذاك ست عشرة سنة. وقام ببيعته من القرابة أبو موسى عيسى ابن عبد المؤمن عم جده، الذى دخل عليه الميورقيون بجاية، وهو آخر من بقى من ولد عبد المؤمن لصلبه، وأبو زكريا يحيى بن عمر بن عبد المؤمن. بويع له البيعة الخاصة فى يومى الخميس والجمعة،(24/343)
بايعه أشياخ الموحدين والقرابة. وفى يوم السبت أذن للناس عامة وأبو عبد الله بن عياش الكاتب قائم على رأسه يقول للناس:
«تبايعون أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين «1» ، على ما بايع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السمع والطاعة فى المنشط والمكره واليسر والعسر، والنصح له ولولاته ولعامة المسلمين، هذا ماله عليكم. ولكم عليه أن يحمى ثغوركم «2» ، وأن لا يدخر عنكم شيئا مما نعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم. وأن لا يحتجب دونكم. أعانكم الله على الوفاء، وأعانه على ما قلده من أموركم» قال المؤرخ: ولما مضى من ولاية يوسف هذا أربعة أشهر، قبض على رجل كان قد ثار عليهم اسمه عبد الرحمن، ادعى أنه من أولاد العاضد من خلفاء المصرين «3» . وكان خروجه فى زمن أبيه محمد بن يعقوب، والتفّت عليه ببلاد صنهاجة جماعة كبيرة «4» .
وكان كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة. وقصد سجلماسة فى حياة محمد بن يعقوب فى جيش عظيم. فخرج إليه متوليها سليمان بن عمر بن عبد المؤمن. فهزمه عبد الرحمن هذا، وأعاده إلى سجلماسة أسوأ عود. ولم يزل يتنقل فى قبائل البربر ولا تثبت عليه جماعة لأنه غريب البلد، حتى قبض عليه بظاهر فاس.
فضربت عنقه وصلب، ووجّه برأسه إلى مراكش.(24/344)
وثار فى أيام يوسف رجل ببلاد جزولة يدعى أنه فاطمى، فقتل وجىء برأسه «1» .
وثار آخر من صنهاجة، فقتل فى سنة ثمانى عشرة وستمائة، بعد أن أثر آثارا قبيحة، وهزم بعوثا كثيرة، وأفسد خلقا من الناس.
واستمر يوسف هذا إلى سنة عشرين وستمائة.
ذكر وفاة يوسف بن محمد
كانت وفاته فى شوال أو ذى القعدة «2» سنة عشرين وستمائة.
فكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر تقريبا «3» . ولم أقف من أخباره على غير ما وضعت، فأورده.
ذكر ولاية أبى محمد عبد العزيز بن يوسف ابن عبد المؤمن «4»
كانت ولايته فى ذى القعدة سنة عشرين وستمائة بعد وفاة يوسف ابن محمد. وكان يوسف بن محمد ولاه مدينة إشبيلية حين عزل عنها أخاه أبا العلاء إدريس وولاه إفريقية. فلما توفى يوسف اضطرب(24/345)
الأمر. فاجتمع معظم الناس «1» على تقديم أبى محمد عبد العزيز. فبايعوا له وولوه أمرهم.
قالوا: وكان عبد العزيز هذا فى أيام إمارته قبل أن يصير الأمر إليه مجتهدا فى دينه، شديد البصيرة فى أمره، قوى العزيمة، شديد الشكيمة، لا تأخذه فى الله لومة لائم، أرطب الناس لسانا بذكر الله وأتلاهم لكتابه، مع دماثة خلق ولين جانب وخفض جناح لأصحابه، مع سخاء نفس وطلاقة وجه.
هذا ما وقفت عليه من أخبار ملوك دولة الموحدين مما دوّن لهم، على ما فيه من الاختصار. ثم انقطعت أخبار ملوك المغرب «2» عن الديار المصرية. فلم يصل إلينا من خبرهم إلا ما نتلقاه من أفواه الناس.
ولم يتحقق «3» من أخبارهم ما نورده «4» فتكون العمدة «5» عليه، لكنا علمنا من ولى الأمر من ملوك هذه الدولة بعد أبى محمد عبد العزيز هذا «6» واحدا بعد واحد إلى أن انقرضت الدولة وقامت دولة زناتة، من غير أن نتحقق تاريخ ولاية أحد منهم ولا وفاته. فرأينا أن نذكر ذلك مجردا عاريا من الأخبار والوقائع. ونقلت ذلك عن ثقة أخبرنى أنه نقله عن ثقات. وها أنا أورده كما أخبرنى.
قال: ولى الأمر بعد أبى محمد عبد العزيز المستنصر بالله(24/346)
أبو يعقوب يوسف بن الناصر لدين الله أبى عبد الله محمد بن المنصور بالله أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن «1» .
ثم ولى الأمر بعده أبو محمد عبد الواحد بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن.
ثم ولى الأمر بعده العادل أبو محمد عبد الله بن المنصور بالله أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
ثم ولى بعده «2» أبو زكريا يحيى بن الناصر لدين الله أبى عبد الله محمد، وهو أخو المستنصر «3» بالله المقدم ذكره.
ثم ولى بعده أبو العلاء إدريس المأمون بن المنصور أبى يوسف يعقوب.
ثم ولى بعده ابنه الرشيد عبد الواحد بن المأمون إدريس.
ثم ولى بعده «4» أخوه السعيد أبو الحسن على «5» بن المأمون إدريس، وهو المعروف بالبرّاك، وإنما سمى بالبراك لثبوته فى الحرب.
ثم ولى بعده «6» المرتضى أبو حفص عمر بن أبى إبراهيم إسحاق.(24/347)
ثم ولى بعده «1» الواثق بالله أبو العلاء إدريس المعروف بأبى دبوس ابن أبى عبد الله محمد بن عمر بن عبد المؤمن، وإنما سمى بأبى دبوس لثقل دبوسه.
ثم ولى بعده «2» ولده أبو مالك عبد الواحد بن أبى العلاء إدريس.
وعليه انقرضت دولتهم وقامت الدولة المرينية، وهم زنانة، وهى الدولة القائمة فى عصرنا «3» هذا. ولما انتزع من الملك انتقل إلى بلاد الفرنج فكان بها إلى أن ثار على بنى أبى حفص «4» بساحل «5» طرابلس الغرب وأعانته «6» الأعراب على ذلك. ثم قتل بعد أربعة أشهر أو نحوها من نهوضه ولم يتم له ما قصده.
ثم قام بعده أخوه أبو سعيد عثمان بن إدريس، وملك مدينة قابس وبلاد نفزاوة «7» ، وأقام بها مدة. ثم أخرج منها فتوجه مع العرب إلى البرية. ثم ثار معهم بإفريقية حتى انتهى إلى جبل الريحان، وهو على مرحلة من تونس. ثم خذله العرب فتوجه إلى بلاد الفرنج «8» .
قال: وكان انقراض دولة الموحدين فى سنة ست «9» وستين وستمائة تقريبا.(24/348)
جامع أخبار دولة الموحدين
كانت مدة قيام هذه الدولة من حين ظهر «1» المهدى محمد بن تومرت فى سنة أربع عشرة وخمسمائة وإلى «2» حين انقراضها فى سنة ست وستين وستمائة، مائة سنة وثلاثا وخمسين سنة تقريبا.
وعدة من ملك منهم سبعة عشر «3» ملكا، وهم:
المهدي محمد بن تومرت الحسنى.
عبد المؤمن بن على.
أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
أبو يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف «4» بن عبد المؤمن.
أبو عبد الله محمد بن أبى يوسف.
ولده يوسف بن محمد.
أبو محمد عبد العزيز بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
أبو محمد عبد الواحد بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
أبو محمد عبد الله بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن.(24/349)
أبو زكريا يحيى بن أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن.
أبو العلاء إدريس بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن.
ولده عبد الواحد بن إدريس.
أخوه أبو الحسن على بن إدريس وهو البراك.
أبو حفص عمر بن أبى إبراهيم إسحاق.
أبو العلاء إدريس بن أبى عبد الله محمد بن عمر بن عبد المؤمن.
ولده أبو مالك عبد الواحد بن أبى العلاء إدريس.(24/350)
ذكر تسمية ملوك بنى مرين
أول من قام من ملوكهم «1» أبو بكر بن عبد الحق. استولى على بعض بلاد الموحدين بنى عبد المؤمن ثم مات قبل أن يخلص له الأمر ببلاد المغرب.
فملك بعده أخوه يعقوب بن عبد الحق المعروف بابن تابطويت «2» وهى أمه نسبت إلى قبيلة بطّويت «3» ، وهى قبيلة كبيرة من قبائل زناتة. وفى أيامه انقرضت دولة بنى عبد المؤمن، وعظم شأنه، واتسع ملكه، وطالت مدته ثم مات.
فملك بعده ولده يوسف المعروف بأبى الزردات «4» واهتز له المغرب، وعظم شأنه، وهابه ملوك المغرب ومع ذلك لم يأت بطائل. وحاصر تلمسان فمكث على حصارها نحو أربع عشرة سنة، وابتنى عليها مدينة سكنها بجيوشه.
ومات قبل أن يملكها، وذلك أن بعض خدامه وثب عليه فضربه.
فلما تحقق الموت عهد بالملك إلى ولده أبى سالم إبراهيم فملك بعده.
وخالف عليه ابن أخيه أبو ثابت عامر بن عبد الله بن يوسف أبى الزردات وعمه أبو يحيى أبو بكر بن يعقوب بن عبد الحق. واجتمع عليهما بنو مرين وهم على تلمسان. فخافهما إبراهيم وهرب من ليلته، فاتّبع وقتل.
واستقر الملك لعامر وعم أبيه أبى يحيى يوما واحدا. ثم قام عبد الله ابن أبى مدين المكناسى وزير يوسف بن يعقوب- وهو المستولى على(24/351)
الدولة- وعلم أن أبا يحيى إن استمر تغلب على الملك وتحكم عليه «1» ، ورأى أنه إذا انفرد عامر بالملك مع صغر سنه كان هو المتحكم فى المملكة فأغرى عامرا بأبى يحيى، فأمر به فقتل فى اليوم الثانى. واستقل عامر بالملك مدة سنة واحدة وشهر ثم مات بطنجة.
فقام لطلب الملك بعده عمه على بن يوسف المعروف بابن رزيجة «2» ورزيجة أمه أم ولد. فلم يتم له أمر. فقام عبد الله بن أبى مدين الوزير وبايع لأبى الربيع سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب، وهو ابن سبع عشرة سنة أو نحوها. واستقر فى الملك ثلاث سنين حتى مات بناحية تازا.
ثم ملك بعده عم أبيه عثمان بن يعقوب. وقتل ابن أبى مدين فى أيام سليمان بن عبد الله بأمره بمدينة فاس. وولى الوزارة بعده لأبى الربيع سليمان أخوه محمد بن أبى مدين. وعثمان هذا هو الملك القائم فى وقتنا هذا، فى سنة تسع عشرة وسبعمائة.
وإنما اقتصرنا من أخبارهم على هذه النبذة لأنهم منعوا فى ابتداء دولتهم أن يؤرّخ لهم أو تدون أخبارهم، وقتلوا محمد بن عبد الله ابن أبى بكر القضاعى المعروف بابن الأبار، وكان قد أرخ أخبارهم وأخبار غيرهم، وأعدموا ما وجدوه عنده وعند غيره من أوراق التاريخ المنسوبة لهم ولغيرهم. فهذا هو الذى منع من انتشار أخبارهم.
فلنذكر أخبار جزيرة «3» صقلية واقريطش.(24/352)
ذكر أخبار جزيرة «1» صقلية
ومن غزاها من المسلمين وما افتتح منها، وكيف استولت الفرنج- خذلهم الله تعالى- عليها قد ذكرنا صفة جزيرة صقلية، وما بها من الأنهار والعيون والفواكه والأشجار والنبات والكلأ، وما بها من المدن المشهورة. وأنينا على ذلك مبينا، وهو فى السّفر الأول من كتابنا هذا فى أخبار الجزائر «2» .
فلنذكر الآن فى هذا الموضع خلاف ما قدمناه من أخبارها. فنقول:
أول من غزا جزيرة صقلية فى الاسلام
عبد الله بن قيس الفزارى «3» من قبل معاوية بن حديج، وكان قد بعثه من إفريقية، وذلك فى خلافة معاوية بن أبى سفيان «4» . ففتح وسبى وغنم فكان مما غنم أصناما من ذهب وفضة مكللة بالجواهر. فحملها إلى معاوية بن أبى سفيان.
فأنفذها معاوية إلى الهند لزيادة ثمنها. فأنكر المسلمون ذلك عليه.
ثم غزاها بعد ذلك محمد بن أبى إدريس «5» الأنصارى، فى أيام يزيد بن عبد الملك «6» ، فقدم بغنائم وسبايا.
ثم غزاها بشر بن صفوان الكلبى، فى أيام هشام بن عبد الملك فقدم بغنائم وسبايا.(24/353)
ثم غزاها حبيب بن أبى عبيدة، فى سنة اثنتين وعشرين ومائة ومعه ولده عبد الرحمن بن حبيب. فوجهه على الخيل «1» فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن حتى انتهى إلى سرقوسة «2» ، وهى دار الملك فقاتلوه، فهزمهم وضرب باب المدينة بسيفه فأثّر فيه.
فهابه النصارى ورضوا بالجزية. فأخذها منهم ثم توجه «3» إلى أبيه. فرجعا إلى إفريقية.
ثم غزاها عبد الرحمن بن حبيب، فى سنة ثلاثين ومائة فظفر ثم اشتغل ولاة إفريقية بالفتن التى قدمنا ذكرها فى أخبارهم فأمن «4» أهل جزيرة صقلية، وعمرها الروم من كل الجهات، وبنوا بها المعامل والحصون، ولم يتركوا جبلا إلا جعلوا عليه حصنا.
وفى سنة إحدى «5» عشرة ومائتين، ولى ملك القسطنطينية على صقلية قسنطين «6» البطريق الملقب بسودة «7» فعمر اسطولا وسيره إلى بر إفريقية. وولى عليهم فيمى الرومى، وكان مقدما من بطارقته، فاختطف من بعض سواحلها مجازا «8» ، وبقى(24/354)
مدة. فوصل كتاب صاحب القسطنطينية إلى قسنطين، يأمره بعزل فيمى وأن يعذبه لشىء بلغه عنه. فاتصل ذلك بفيمى، فمضى إلى مدينة سرقوسة. وملكها ونزع يده من الطاعة. فخرج إليه قسنطين، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قسنطين وقتل. وخوطب فيمى بالملك. وكان ممن انقطع إليه علج من الأرمنيين «1» ، يقال له بلاطة. فقدمه وولاه على ناحية من الجزيرة. فخالف على فيمى وخرج إليه وقاتله. فانهزم فيمى وقتل من أصحابه ألف رجل.
ودخل بلاطة مدينة سرقوسة.
وركب فيمى ومن معه فى البحر. وتوجه إلى إفريقية إلى زيادة الله ابن إبراهيم بن الأغلب يستنصر به. فجمع زيادة الله وجوه أهل القيروان وفقهاءها واستشارهم فى إنفاذ «2» الأسطول إلى جزيرة صقلية.
فقال بعضهم: «نغزوها ولا نسكنها ولا نتخذها وطنا» . فقال سحنون بن قادم «3» رحمه الله: «كم بينها وبين بلاد الروم؟» فقالوا: «يروح الإنسان مرتين وثلاثة فى النهار ويرجع» . قال:
«ومن ناحية إفريقية» . قالوا: «يوم وليلة» . قال: «لو كنت طائرا ما طرت عليها» . وأشار من بقى بغزوها، ورغبوا فى ذلك، وسارعوا إليه «4» . فخرج أمر زيادة الله إلى فيمى بالتوجه إلى مرسى سوسة، والإقامة هناك إلى أن يأتيه الأسطول. وجمع الأسطول(24/355)
والمقاتلة. واستعمل عليهم القاضى أسد بن الفرات. وأقلع الأسطول من مدينة سوسة يوم السبت للنصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة ومائتين، وهو نحو مائة مركب «1» سوى مراكب فيمى، وذلك فى خلافة المأمون. فوصل مازر «2» يوم الثلاثاء.
فأمر بالخيل فأخرجت من المراكب، وكانت سبعمائة فرس وعشرة آلاف راجل. وأقام ثلاثة أيام. فلم يخرج إليه إلا سرية واحدة.
فأخذها، فإذا هى من أصحاب فيمى، فتركها.
ثم رحل من مازر على تعبئة «3» قاصدا بلاطة وهو بمرج «4» ينسب إليه. فعبأ القاضى أسد أصحابه للقتال. وأفرد فيمى ومن معه ولم يستعن بهم. والتقوا واقتتلوا، فانهزم بلاطة ومن معه.
وقتل منهم خلق كثير. وغنم المسلمون ما معهم. ولحق بلاطة بقصريانة «5» ثم غلبه الخوف فخرج منها إلى أرض قلّورية «6» فقتل بها.
ثم سار القاضى أسد إلى الكنيسة التى على البحر وتعرف بأفيمية «7» واستعمل على مازر أبازكى «8» الكنانى.(24/356)
ثم سار إلى كنيسة المسلقين «1» . فلقيه طائفة من بطارقة سرقوسة فسألوه الأمان خديعة ومكرا. واجتمع أهل الجزيرة إلى قلعة الكرّاث وجمعوا فيها جميع أموال أهل الجزيرة. وذل أهل سرقوسة وألقوا بأيديهم. فلما شاهد ذلك فيمى داخلته حمية الكفر. فأرسل إليهم أن يثبتوا وأن يجدوا فى الحرب ويستعدوا. وأقام القاضى أسد فى موضعه أياما. وتبين له «2» أنهم مكروا به حتى أصلحوا حصنهم وأدخلوا إليه جميع ما كان فى الرّبض «3» وفى الكنائس من الذهب والفضة والميرة. فتقدم وناصبهم القتال. وبث السرايا فى كل ناحية فغنموا وسبوا سبيا «4» كثيرا. وأتوه بالسبى والغنائم وأتته الأساطيل من إفريقية والأندلس. وشدد القاضى الحصار على مدينة سرقوسة. فسألوه الأمان فأراد أن يفعل. فأبى عليه المسلمون وعاودوا الحرب. فمرض القاضى أسد فى خلال ذلك، ومات فى شعبان سنة ثلاث عشرة ومائتين.
ذكر ولاية محمد بن أبى الحوارى «5»
قال: ولما توفى القاضى أسد بن الفرات، ولى المسلمون على أنفسهم محمد بن أبى الحوّارى، فضيق على أهل سرقوسة. فوصل(24/357)
من القسطنطينية أسطول كبير «1» وعساكر فى البر. فعزم المسلمون على العود إلى إفريقية، فرحلوا عن سرقوسة وأصلحوا مراكبهم «2» وركبوها. فوقفت مراكب الروم على المرسى الكبير «3» ومنعوهم من الخروج.
فأحرق المسلمون مراكب نفوسهم. ورحلوا إلى حصن مناو «4» ومعهم فيمى. فملكوا الحصن وسكنوه.
وملكوا حصن جرجنت «5» وسكنه طائفة من المسلمين.
ثم خرج فيمى إلى قصريانة، فخرج إليه أهلها وبذلوا له الطاعة وخدعوه. وقالوا له: «نكون نحن وأنت والمسلمون على كلمة واحدة ونخلع طاعة الملك» . وسألوه أن يرجع عنهم ذلك اليوم لينظروا فيما يصالحون عليه. فرجع عنهم يومه ذلك. ثم جاءهم فى الغد فى نفر يسير. فخرجوا يقبلون الأرض بين يديه، وكانوا قد دفنوا سلاحا فى تلك البقعة. فلما قرب منهم، أخرجوا السلاح وثاروا به فقتلوه.
ثم وصل تودط البطرك «6» من القسطنطينية فى عساكر عظيمة(24/358)
من الأرمن «1» وغيرهم، وتوجه إلى قصريانة. وخرج بمجموعه «2» للقاء المسلمين. فالتقوا فانهزم تودط. وقتل من عسكره خلق كثير، وأسر من بطارقته تسعون «3» بطريقا. ثم توفى محمد بن أبى الحوارى فى أول سنة أربع عشرة ومائتين.
فولى المسلمون عليهم زهير بن برغوث «4» . وكان بينه وبين تودط حروب كثيرة. وحاصر المسلمين فى حصنهم وضاقت عليهم الميرة وقلّت الأقوات حتى أكلوا دوابهم. ولم يزالوا كذلك حتى قدم أصبغ بن وكيل الهوارى فى مراكب كثيرة من الأندلس قد خرجوا غزاة، وقدم سليمان بن عافية الطرطوشى «5» بمراكب. فأرسل المسلمون إليهم وسألوهم النصرة، وأرسلوا إليهم دواب. فخرجوا وقصدوا تودط، وهو مقيم على مناو. فانصرف إلى قصريانة وارتفع الحصار عن المسلمين، وذلك فى جمادى الآخرة سنة خمس «6» عشرة ومائتين.(24/359)
ذكر فتح مدينة بلرم
كان ابتداء حصارها فى جمادى الآخرة سنة خمس عشرة ومائتين.
ودام إلى شهر رجب سنة عشرين ومائتين «1» ،، وفتحت بالأمان، وذلك فى ولاية محمد بن عبد الله بن الأغلب.
وفى سنة خمس وعشرين ومائتين، استأمنت قلاع كثيرة من قلاع جزيرة صقلية منها جرصة «2» وقلعة البلوط «3» ، وابلاطنوا «4» وقلعة قرلّون «5» ، ومرتاو «6» ، وغير ذلك.
ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن الأغلب وولاية العباس بن الفضل بن يعقوب
وفى سنة ست «7» وثلاثين ومائتين، توفى محمد بن عبد الله ابن الأغلب لعشر خلون من شهر رجب. فكانت ولايته تسع عشرة سنة. وكان فى مدة ولايته لا يخرج من مدينة بلرم بل كان يخرج(24/360)
السرايا مع ولاته. فلما مات اجتمع الناس على ولاية العباس بن الفضل فولوه. وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن الأغلب أمير القيروان فولاه الجزيرة. فكان يخرج بنفسه تارة وبسراياه أخرى. وهو يخرب فى بلاد العدو وينكى، وينال منهم ومن بلادهم، ويصالحونه على الأموال والرقيق.
ذكر فتح قصريانة وهى دار مملكة الروم بجزيرة صقلية
قال المؤرخ: كانت سرقوسة دار ملك الجزيرة إلى أن فتح المسلمون بلرم.
فانتقل الروم إلى قصريانة لحصانتها وجعلوها دار ملكهم. فلما كان فى سنة أربع وأربعين «1» ومائتين، خرج العباس بن الفضل فوصل إلى قصريانة وسرقوسة. وأخرج أخاه عليا فى المراكب الحربية فى البحر. فلقيه الإقريطشى فى أربعين شلنديا. فقاتلهم أشد قتال، فهزمهم وأخذ منهم عشر شلنديات برجالها، ورجع.
ثم سير العباس سرية إلى قصريانة فغنموا وقدموا بعلج. فأمر العباس بقتله، فقال له العلج: «استبقنى ولك عندى نصيحة» .
فخلا به وسأله: «ما النصيحة؟» فقال: «أدخلك قصريانة(24/361)
فعند ذلك خرج العباس فى كانون فى أنجاد «1» رجاله، والعلج معه، وهو فى ألف فارس وسبعمائة راجل «2» ، فجعل على كل عشرة مقدما. ثم سار بهم ليلا حتى نزل على مرحلة من جبل الغدير.
وقدم عمه رباحا «3» فى خيار أصحابه. وأقام هو بموضعه وهو مستتر»
. ومضى عمه رباح بمن معه يدبون دبيبا حتى صاروا إلى جبل المدينة، والعلج معهم. فأراهم الموضع الذى ينبغى أن توضع عليه السلاليم. فتلطفوا فى الصعود إلى الجبل، وذلك الوقت قريب الصبح وقد نام الحرس. فلما وصلوا إلى السور، دخلوا من خوخة كانت فى السور يدخل منها الماء. ووضعوا السيف.
وفتحوا الأبواب. وأقبل العباس يجد السير. وقصد باب المدينة، ودخلها صلاة الصبح من يوم «5» الخميس لأربع عشرة ليلة بقيت «6» من شوال. وقتل من وجد بها من المقاتلة، وكان بها بنات البطارقة وأبناء ملوك الروم. فوجد المسلمون بها ما لا يحصى من الأموال.
وبنى العباس فيها مسجدا فى يومه، ونصب فيه «7» منبرا، وخطب عليه الخطيب يوم الجمعة.
وما زال العباس يداوم الغزو بنفسه إلى أن توفى فى يوم الجمعة(24/362)
لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة سبع «1» وأربعين ومائتين.
فكانت ولايته إحدى عشرة سنة.
قال: ولما مات العباس، ولّى الناس على أنفسهم أحمد بن يعقوب «2» .
ثم ولوا عبد الله بن العباس، وكتبوا إلى أمير القيروان. فولى خمسة أشهر.
ثم وصل إليهم خفاجة بن سفيان فى سنة ثمان وأربعين ومائتين.
ودام الغزو إلى أن اغتاله رجل من جنده عند منصرفه من غزاة فقتله.
وذلك فى يوم الثلاثاء مستهل شهر رجب «3» سنة خمس وخمسين ومائتين. ويقال: إن الذى قتله خلفون بن أبى زياد الهوارى.
قال: ولما قتل خفاجة، ولى الناس على أنفسهم ابنه محمد بن خفاجة. ثم أتته الولاية من قبل أمير القيروان. ثم قتله خدامه الخصيان لثلاث خلون من شهر رجب سنة سبع وخمسين ومائتين وهربوا. فأخذوا وقتلوا.
فولى الناس عليهم محمد بن أبى الحسين «4» ، وكتبوا إلى(24/363)
إفريقية. فبعث أمير إفريقية بولايتها إلى رباح بن يعقوب «1» .
وولّى الأرض الكبيرة «2» عبد الله بن يعقوب. فمات رباح فى المحرم سنة ثمان وخمسين ومائتين. ومات بعده أخوه فى صفر من السنة.
فولى الناس عليهم أبا العباس بن عبد الله بن يعقوب «3» فأقام أشهرا «4» ثم مات. فولوا أخاه «5» .
ثم ولى الحسين بن رباح «6» من قبل أمير إفريقية.
ثم عزله واستعمل عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب فى شوال سنة تسع وخمسين ومائتين.
ثم عزله وولى أبا مالك أحمد بن عمر بن عبد الله بن [إبراهيم] «7» ابن الأغلب المعروف بحبشى. فبقى متوليا عليها ستا وعشرين سنة.
ثم وليها أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد فى سنة سبع «8» وثمانين ومائتين. فأقام إلى أن انخلع له أبوه إبراهيم بن أحمد(24/364)
من الملك، فرده إلى إفريقية. وسار إبراهيم إلى صقلية وغزا بنفسه، كما ذكرناه فى أخباره آنفا «1» . ومات فى الغزو.
ثم وليها محمد بن السرقوسى مولى إبراهيم بن أحمد «2» .
ثم ولى على بن أبى الفوارس «3» فى سنة تسعين ومائتين.
«4» فأقام بها إلى سنة خمس وتسعين ومائتين «5» . فعزله زيادة الله.
واستعمل أحمد بن أبى الحسين بن رباح «6» .
ثم بلغ أهل صقلية تغلب أبى عبد الله الشيعى على بلاد إفريقية.
فوثب أهل صقلية على أحمد، وانتهبوا ماله وحبسوه. وولوا عليهم على بن أبى الفوارس لعشر من شهر رجب سنة ست وتسعين ومائتين. وأرسلوا ابن أبى الحسين إلى أبى عبد الله الشيعى.
وكتبوا إليه كتابا يسألونه إبقاء علىّ عليهم، فأجابهم إلى ذلك.
وكتب إليه أن يغزو برا وبحرا. وكان أحمد بن أبى الحسين آخر ولاة بنى الأغلب بصقلية.
وكان لكل واحد من الولاة الذين ذكرناهم غزوات وسرايا وجهاد فى العدو.
قال: ولما ولى المهدى بعد بنى الأغلب، كتب إليه ابن أبى الفوارس(24/365)
يستأذنه فى القدوم إلى إفريقية، فأذن له فخرج إليه. فلما وصل حبسه برقادة.
ذكر ولاية حسن بن أحمد «1» بن أبى خنزير
كانت ولايته من قبل المهدى. فوصل إلى صقلية فى عاشر ذى الحجة سنة سبع وتسعين ومائتين. فثار به أهل المدينة فى سنة ثمان وتسعين «2» وقبضوا عليه. وكان سبب ذلك أن عماله جاروا على الناس. واتفق أنه صنع طعاما ودعا إليه وجوه الناس.
فلما صاروا عنده زعم بعضهم أنه رأى عبيده يتعاطون السيوف المسلولة. فخافوا وفتحوا طاقات المجلس وصاحوا: «السلاح، السلاح» . فثار إليهم الناس، واجتمعوا حول الدار، وأطلقوا النار فى الأبواب. فأخرج إليهم من كان عنده من وجوه الناس، وأنكر أن يكون أراد بهم سوءا فلم يقبلوا منه وتألبوا عليه. فوثب من داره إلى دار رجل من جيرانه فسقط فانكسر ساقه. فأخذوه وحبسوه. وكتبوا بذلك إلى المهدى. فعزله واغتفر فعلهم. وضبط المدينة خليل صاحب الخمس «3» .
ثم استعمل المهدى على بن عمر البلوى. فوصل إلى المدينة لثلاث بقين من ذى الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين. فلم يرض أهل صقلية سيرته، وكان شيخا هينا لينا رفيقا بالرعية. فألب(24/366)
عليه أحمد بن قرهب «1» ودعا الناس إلى طاعة المقتدر بالله.
فأجابه إلى ذلك جماعة وولوه على أنفسهم «2» . ووردت عليه رسل المقتدر بالله العباسى فى سنة ثلاثمائة بكتاب بالولاية «3» والخلع والبنود وطوق ذهب وسوار. ثم عصى عليه أهل صقلية وكاتبوا المهدى. واجتمعوا إلى أبى الغفار فزحف بهم إلى ابن قرهب، وقالوا له: «اخرج عنا واذهب حيث شئت» . فأبى ذلك وقاتلهم ثم تحصن منهم ثم قتل بعد ذلك فى آخر سنة ثلاثمائة «4» .
فكانت ولايته أحد عشر شهرا.
ذكر ولاية أبى سعيد موسى بن أحمد
قال: ولما قتل ابن قرهب، أرسل المهدى موسى بن أحمد واليا. وأرسل معه جماعة ليساعدوه على أهل صقلية إن أرادوا به سوءا. فلما قدم، ورد عليه رؤساء جرجنت، فأكرمهم وكساهم.
ثم أخذ بعد ذلك أبا الغفار فقيده وحبسه. فهرب أخوه أحمد إلى جرجنت، فألب على موسى بن أحمد. فوافقه الناس عليه. وكانت بينه وبينهم حرب شديدة. ثم طلبوا الأمان فأمنهم. وكتب(24/367)
بذلك إلى المهدى، فولى مكانه سالم بن أبى راشد الكنانى فى سنة خمس وثلاثمائة «1»
ذكر ما فتح من بلاد قلورية
قال المؤرخ: وفى سنة ست «2» عشرة وثلاثمائة وصل صابر الصقلبى من إفريقية فى ثلاثين حربيا. فخرج معه سالم إلى أرض قلّورية ففتحا مدينة طارنت عنوة. ووصلا إلى مدينة أذرنت، وحاصراها وخربا منازلها. وأصاب الناس وخم فرجعوا إلى المدينة.
ثم عاودوا الغزو إلى أن أذعن أهل قلورية لإعطاء الجزية وأدوها مدة بقاء المهدى.
وفى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، أخرج القائم بن المهدى يعقوب بن إسحاق فى أسطول إلى ناحية إفرنجة، ففتح مدينة جنوة ومروا بسردانية فأوقعوا بأهلها وأحرقوا مراكب كثيرة.
وفى هذه السنة، كان الطوفان بصقلية فهدم الدور.
وفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، خالف أهل جرجنت على سالم. وأخرجوا عامله ابن أبى حمران فأخرج إليهم سالم عسكرا فهزموه. ورجعوا إلى سالم فقاتلهم سالم وهزمهم. ثم خرج على(24/368)
سالم أهل المدينة وحاربوه مع إسحاق البستانى ومحمد بن حمّو وكانت بينهم حرب. فهزمهم وحصرهم بالمدينة.
واتصل الخبر بالقائم «1» ، فأنفذ خليل بن إسحاق فى عسكر وجماعة من القواد لقتال أهل صقلية. فورد كتاب أهل البلد على القائم بطاعتهم وأنهم كرهوا أفعال سالم. فاستعمل عليهم خليل ابن إسحاق. فوصل إلى المدينة فى آخر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. فأطاعه أهل صقلية فأكرمهم. وعزل عنهم عمال سالم.
فأقام خليل بها أربع سنين ثم رجع إلى إفريقية.
فوليها محمد بن الأشعث وعطّاف فى سنة ثلاثين وثلاثمائة.
فمات محمد بن الأشعث فى سنة أربع وثلاثين.
واستقل عطّاف بالأمر إلى سنة ست وثلاثين. فكتب إلى المنصور يخبره بتحامل أهل البلد وأن أمرهم يؤول إلى فساد.
فاستعمل المنصور بن القائم بن المهدى على صقلية الحسن ابن على بن أبى الحسين الكلبى «2» ، وكان مكينا عند المنصور لمحبته ونصحه وتقدم خدمة سلفه لآبائه. فوصل إلى صقلية وأقام بها سنتين وأشهرا «3» . ورجع إلى إفريقية فى ولاية المعز لدين الله ابن المنصور. فسأله تشريف ولده أبى الحسين «4» بالولاية، فولاه فى سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.(24/369)
ذكر فتح قلعة طبرمين «1»
قال المؤرخ: وفى أيام أبى الحسين فتح المسلمون طبرمين، وكانت يومئذ أشد قلاع الروم شوكة. وكان فتحها لخمس بقين من ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، بعد أن حوصرت سبعة أشهر ونصفا، ونزلوا على حكم الملك دون القتل. فأمر المعز بتسميتها المعزّية. ووجه الأمير أحمد إلى المعز بسبيها وهو ألف وخمسمائة وسبعون رأسا.
ذكر فتح رمطة «2» وما كان بسبب ذلك من حروب
قال: لما فتح المسلمون طبرمين، وسكنوها وعمرت بهم وتحصنت، خرج أهل رمطة عن الطاعة، واستنصروا بالدّمستق «3» ملك القسطنطينية. فورد كتاب المعز إلى أحمد يأمره بإخراج الحسن بن عمار إلى حصار رمطة وقتال من بها وإزالتهم منها. فنزل ابن عمار عليها فى يوم الخميس آخر شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ونصب عليها المجانيق والعرادات. ودام القتال فى كل يوم. وبنى له قصرا وسكنه. وأخذ الناس فى بنيان البيوت.(24/370)
فلما بلغ ذلك الدمستق، أمر بالحشود، وجهز العساكر صحبة منويل، وأمرهم بالتعدية إلى صقلية. فابتدئوا بالتعدية يوم الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. وأقاموا يعدون تسعة أيام فى عدد عظيم. وحفروا خندقا حول مدينة مسّينى وشيدوا أسوارها. وكاتب الحسن بن عمار بذلك، فخرج الأمير أحمد بالجيوش. ورحل الكفرة من مسينى قاصدين الحسن بن عمار بقلعة رمطة.
ذكر وقعة الحفرة على رمطة
قال: وفى النصف من شوال سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، زحف منويل بجميع عسكره من المجوس والأرمن والروس، فى جمع لم يدخل الجزيرة مثله قط. فلما علم الحسن بن عمار بتقدمهم استعد للقاء، وجعل عسكرا فى مضيق ميقش «1» وعسكرا فى مضيق دمنّش. فبلغ ذلك منويل فوجه عسكرين بإزائهما، ووجه عسكرا ثالثا إلى طريق المدينة يمنع من يصل إليهم «2» بنجدة. ورتب الحسن المقاتلة على القلعة وبرز بالعساكر للقاء الكفرة. وقد عزموا على الموت.
وزحف الكفرة فى ستة مواكب. وأحاطوا بالمسلمين من كل ناحية. ونزل أهل رمطة إلى من يليهم. والتقوا وقاتلت كل طائفة(24/371)
من يليها. فقاتلوا «1» حتى دخل المسلمون خيام أنفسهم «2» وأيقن العدو بالظفر. فاختار المسلمون الموت، ورأوا أنه أسلم لهم وأوفر لحظوظهم، فحميت الحرب. ونادى الحسن بن عمار بأعلى صوته: «اللهم، إن بنى آدم أسلمونى فلا تسلمنى» . وحمل بمن معه حملة رجل واحد. فصاح منويل بالكفرة يقول: «أين افتخاركم بين يدى الملك؟ أين ما ضمنتم له فى هذه الشرذمة القليلة؟» . فحمى الوطيس عند ذلك. وحمل منويل وقتل رجلا من المسلمين. فطعن عدة طعنات فلم تعمل فيه شيئا لحصانة ما عليه من اللباس. فحمل عليه رجل من المسلمين فطعن فرسه فعقره، وقتل. وجاءت سحابة ذات برق ورعد وظلمة، وأيد الله المسلمين «3» بنصره. فانهزم الكفرة وركبهم المسلمون بالقتل. فمالوا إلى موضع ظنوه سهلا، فوقعوا فى الوعر، وأفضى بهم إلى حرف خندق عظيم كالحفرة من بعد قعره. فسقطوا فيها وقتل بعضهم فيها بعضا.
وامتلأت الحفرة منهم على طولها وعرضها وعمقها حتى مرت الخيل عليهم «4» مسرعة. وحصل من بقى منهم فى مواضع وعرة وخنادق هائلة. وكانت الحرب من أول النهار إلى بعد صلاة الظهر، وتمادت هزيمة من بقى إلى الليل. وبات المسلمون يقتلونهم فى كل ناحية وأسر جماعة من أكابرهم، وغنم المسلمون من الأموال والخيل(24/372)
والسلاح ما لا يحد. وبلغ القتلى «1» فوق العشرة آلاف. وكان فيما غنموه سيف فيه منقوش: «هذا سيف هندى وزنه مائة وسبعون مثقالا، طالما ضرب به بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . فبعث به الحسن إلى المعز لدين الله، مع مائتى علج من وجوههم، ودروع وجواشن وسلاح كثير. ونجا من الكفرة نفر يسير فركبوا المراكب. وجاء الخبر إلى الأمير أحمد بالهزيمة قبل وصوله إلى ابن عمار.
وفى أثر هذه الوقعة توفى الحسن بن على بن أبى الحسين والد الأمير أحمد.
قال: وبلغ «2» الدمستق خبر هذه الوقعة وكسرة أصحابه، وهو بالمصيصة وقد ضيّق على أهلها، فرجع مسرعا إلى القسطنطينية.
ودام الحصار على رمطة أشهرا. فنزل منها ألف نفس من شدة ما نالهم من الجوع. فوجه بهم الحسن بن عمار إلى المدينة وبقيت المقاتلة ثم فتحت رمطة.
وكان بين المسلمين بعد ذلك وبين الكفار وقائع كثيرة، منها وقعة الأسطول بالمجاز، قتل فيها من الكفار فى الماء حتى احمر المجاز.
ثم وقع الصلح بعد ذلك بين المعز والدمستق فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وأتته هداياه. ووصل كتاب المعز إلى الأمير(24/373)
أحمد يعرفه بالصلح، ويأمره ببناء أسوار المدينة وتحصينها ويعلمه أن البناء اليوم خير من غد، وأن يبنى فى كل إقليم من أقاليم الجزيرة مدينة حصينة وجامعا ومنبرا، وأن يأخذ أهل كل إقليم بسكنى «1» مدينتهم ولا يتركوا متفرقين فى القرى. فسارع الأمير أحمد إلى ذلك، وشرع فى بناء سور المدينة. وبعث إلى جميع الجزيرة مشايخ ليقفوا على العمارة.
ذكر اخلاء طبرمين ورمطة
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وصلت هدية ملك القسطنطينية فأمر المعز لدين الله بإخلاء طبرمين ورمطة، فاغتم المسلمون لذلك.
فأمر الأمير أحمد أخاه أبا القاسم وعمه جعفرا، فنزلا بينهما وهدمتا وأحرقتا بالنار.
وفيها أمر المعز لدين الله الأمير أحمد بمفارقة صقلية والقدوم إلى إفريقية. ففارقها بجميع أهله وماله وأولاده وإخوته. فركبوا فى ثلاثين مركبا. ولم يبق منهم بصقلية أحد. فكانت ولايته خاصة ست عشرة سنة. واستخلف على صقلية يعيش مولى أبيه «2» .(24/374)
ذكر ولاية أبى القاسم نيابة عن أخيه أحمد واستقلاله
قال: وفى نصف شعبان سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وصل الأمير أبو القاسم إلى صقلية نيابة عن أخيه الأمير أحمد. ثم توفى الأمير أحمد فى بقية السنة، فوصل سجل المعز إلى ألى القاسم بالاستقلال «1» . وكانت «2» له غزوات كثيرة مع العدو. فالأولى فى سنة خمس وستين وثلاثمائة. وفيها أمر بعمارة قلعة رمطة، فعمرت وولى بعض عبيده عليها. ودوام الغزو إلى أن استشهد فى غزاته الخامسة، فى المحرم سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.
وولى بعده الأمير جابر بن أبى القاسم «3» . وأتاه سجل العزيز بالله بن المعز لدين الله من مصر. فولى سنة.
ثم عزله العزيز واستعمل جعفر بن محمد بن الحسين «4» فوصل إلى صقلية فى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. فبقى بها إلى أن توفى فى سنة خمس «5» وسبعين.(24/375)
وولى بعده أخوه عبد الله بن محمد إلى أن توفى فى شهر رمضان سنة تسع «1» وسبعين وثلاثمائة.
وولى بعده ابنه يوسف.
ذكر ولاية أبى الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة
كانت ولايته عند وفاة والده بعهد منه، ثم أتاه سجل العزيز بالله من مصر بالولاية فضبط الجزيرة وأحسن إلى الرعايا. واستمر إلى أن أصابه الفالج، فى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، فبطل شقه الأيسر وضعف الأيمن.
فاستناب ولده جعفر، وكان بيده سجل من الحاكم بولايته بعد أبيه. ثم بعث إليه الحاكم بعد ذلك تشريفا، وعقد له لواء، ولقبه بتاج «2» الدولة سيف الملة. فضبط الأحوال إلى سلخ شهر رجب سنة خمس وأربعمائة. فأظهر عليه أخوه الأمير على بن أبى الفتح الخلاف، وخرج إلى موضع بقرب المدينة. فاجتمع إليه البربر والعبيد الذين عاقدهم على القيام معه. فأخرج إليه جعفر عسكرا فالتقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان. فجرى بينهم قتال شديد قتل فيه كثير من البربر والعبيد الذين مع على. وهرب من بقى منهم.
وأسر على وجىء به إلى أخيه الأمير جعفر فقتله. فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام. فعزّ ذلك على أبيه. ثم أمر جعفر بنفى(24/376)
من بالجزيرة من البربر بعيالاتهم، فنفوا حتى لم يبق منهم أحد.
وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم. وجعل جميع جنده من أهل صقلية. فقل العسكر عنده. وأدى ذلك إلى وثوب أهل صقلية به وإخراجه.
ذكر وثوب أهل صقلية بالأمير جعفر واخراجه
قال المؤرخ: كان سبب ذلك أنه ولى عليهم كاتبه حسن بن محمد الباغائى «1» ، فصادر الناس وعاملهم بسوء. وأشار على جعفر أن يأخذ من صقلية الأعشار فى طعامهم وثمارهم على عادة البلاد. ولم يجر لهم بذلك عادة وإنما كانت العادة أن يؤخذ على الزوج البقر شىء معلوم ولو أصاب ما أصاب. ثم أظهر جعفر الاستخفاف بأهل صقلية، وشيوخ بلادها، واستطال عليهم.
فزحف إليه أهل البلد صغيرهم وكبيرهم. فحاصروه فى قصره وهدموا بعض أرباضه. وباتوا ليلة الاثنين لست خلون من المحرم سنة عشر وأربعمائة، وقد أشرفوا على أخذه. فخرج إليهم أبوه يوسف فى محفة، وكانوا له مكرمين. فلطف بالناس ووعدهم أنه لا يخرج عن رأيهم. فذكروا له ما أحدث ولده. فقال: «أنا أكفيكم أمره، وأعتقله وأولى عليكم من ترضونه» . فوقع اختيارهم على ولده أحمد الأكحل.(24/377)
ذكر ولاية الأمير تأييد الدولة «1» أحمد الأكحل
كانت ولايته فى يوم الاثنين السادس من المحرم سنة عشر وأربعمائة. وتسلم أهل صقلية حسن الباغائى الكاتب، فقتلوه، وطافوا برأسه، وأحرقوه بالنار. وخاف يوسف على ابنه جعفر، فحمله فى مركب حربى «2» إلى مصر، وسار يوسف أيضا، ومعهما من الأموال ستمائة ألف وسبعون ألف دينار. وكان ليوسف ثلاثة عشر ألف حجر «3» سوى البغال وغيرها، فمات بمصر وليس له إلا دابة واحدة.
قال: ولما ولى الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد. فسكن الناس وصلحت أحوالهم.
ثم وصل كتاب الحاكم ولقب الأكحل تأييد الدولة.
وجمع الأكحل المقاتلة، وبث سراياه فى بلاد الكفرة، وكانوا يحرقون ويغنمون ويخربون البلاد. فأطاعه جميع القلاع.
وكان للأكحل ابن اسمه جعفر، كان يستخلفه إذا سافر للغزاة فخالف سيرة أبيه فى العدل الإحسان. ثم جمع أهل صقلية وقال:
«إنى أحب إخراج أهل إفريقية عنكم، فإنهم قد شاركوكم فى بلادكم وأموالكم» . فقالوا: «كيف يكون ذلك، وقد صاهرناهم(24/378)
واختلطنا بهم وصرنا شيئا واحدا؟» فصرفهم. ثم أرسل إلى الإفريقيين وقال لهم مثل ذلك فى حق أهل صقلية، فأجابوه إلى ما أراد. فجمعهم حوله فكان يحمى أملاكهم، ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية.
فسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وأعلموه بما حل بهم. وقالوا: «نحب أن نكون فى طاعتك وإلا سلمنا الجزيرة إلى الروم» . وذلك فى سنة سبع وعشرين «1» وأربعمائة. فوجه المعز ولده عبد الله «2» إلى صقلية بعسكر عدته ثلاثة آلاف فارس ومثلهم رجالة «3» . فسار إلى الجزيرة ووقعت بينه وبين الأكحل حروب، وحصره فى قصره بالخالصة. ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصرة الأكحل. فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز غدرا، وأتوا برأسه إلى عبد الله.
ثم رجع بعض الصقليين عن بعض، وندموا على إدخال عبد الله إلى الجزيرة، واجتمعوا على حربه، وقاتلوه فانهزم عسكر عبد الله وقتل منهم نحو ثلاثمائة «4» رجل. ورجعوا فى المراكب إلى إفريقية.
وولى أهل صقلية على أنفسهم الصمصام أخا الأكحل. واضطربت أحوال أهل الجزيرة، وانفردت كل طائفة بجهتها. فرجع أمر أهل المدينة إلى المشايخ الذين بها، وأخرجوا الصمصام. وانفرد القائد(24/379)
عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش والشاقة»
ومرسى على «2» وما حولها من البوادى. وانفرد القائد على بن نعمة المعروف بابن الجواش «3» بقلعة قصر يانة ومدينة جرجنت وقصر نوبو «4» ومايلى ذلك. واختبطت الجزيرة. ثم ثار رجل يعرف بابن الثّمنة فاستولى على مدينة سرقوسة وما يليها. وخرج منها بعسكر إلى مدينة قطانية «5» فدخلها، وقتل ابن المكلاتى «6» وملكها.
وكان ابن المكلاتى مصاهرا للقائد على بن نعمة المعروف بابن الجواش بأخته ميمونة. فلما انقضت عدّتها، خطبها ابن الثمنة لأخيها، فزوجه بها، وكانت امرأة عاقلة. فجرى بينها وبينه فى بعض الأيام خصام أدى إلى أن أغلظ لها فى القول، فأجابته بمثله.
وكان سكران، فغضب وأمر بفصدها فى عضديها وتركها لتموت.
فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء، وعالجها إلى أن عادت قوتها. ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر، فأظهرت قبول عذره. ثم طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها، فأذن لها وسير معها التحف والهدايا. فلما وصلت إليه ذكرت له ما فعل بها، فحلف(24/380)
أنه لا يعيدها إليه. فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه، فجمع عساكره، وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة وسار لحرب ابن الجواش بقصريانة. فخرج إليه وقاتله. فانهزم ابن الثمنة، وتبعه وقتل من أصحابه فأكثر. فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت أراد لانتصار بالكفار.
ذكر استيلاء الفرنج- خذلهم الله تعالى- على جزيرة صقلية
كان سبب ذلك أنه لما وقعت الحرب بين ابن الثمنة وابن الجواش وانهزم ابن الثمنة، سار إلى مدينة ملطية «1» ، وكانت بيد الفرنج ملكوها فى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة. وكان ملكها حينئذ رجار «2» الفرنجى. فوصل إليه وقال: «أنا أملّكك الجزيرة» . فسار معه فى شهر رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة. فلم يلقوا من يدافعهم، واستولوا على مامروا عليه فى طريقهم. وقصد بهم «3» قصريانة فقاتلهم ابن الجواش. فهزمه الفرنج «4» فرجع إلى الحصن. فرحلوا عنه واستولوا على مواضع كثيرة. ففارق الجزيرة كثير من العلماء والصالحين.
وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وذكروا له(24/381)
ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبة الفرنج على كثير منها.
فعمر أسطولا كبيرا وشحنه بالرجال والعدد. وكان الزمان شتاء، فساروا إلى قوصرة «1» . فهاج عليهم البحر، فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل. وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز بن باديس وقوى العرب عليه حتى أخذوا البلاد منه. فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد. واشتغل المعز بما دهمه من العرب.
ثم مات فى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولى ابنه تميم. فبعث أسطولا وعسكرا إلى الجزيرة، وقدّم عليه ولديه أيوب وعليا.
فوصلوا إلى صقلية. فنزل أيوب والعسكر المدينة، ونزل على جرجنت. ثم انتقل أيوب إلى جرجنت فأحبه أهلها. فحسده ابن الجواش فكتب إلى أهلها ليخرجوه، فلم يفعلوا. فسار إليه فى عسكره وقاتله. فقتل ابن الجواش بسهم غرب «2» أصابه. وملك أيوب ابن تميم. ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة «3» وبين عسكر أيوب فتنة، أدت إلى القتال. ثم دار الشر «4» بينهم وتراقى، فرجع أيوب وأخوه فى الأسطول إلى إفريقية، وذلك فى سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصحبهم جماعة من أعيان صقلية.
فلم يبق للفرنج مانع ولا ممانع، فاستولوا على الجزيرة. ولم يثبت(24/382)
بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت. فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين حتى أكلوا الميتة وعدموا ما يأكلونه. فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج فى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة. وبقيت قصريانة بعد ذلك ثلاث سنين. فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم. فتسلمها الفرنج خذلهم الله تعالى فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وملك رجار جميع الجزيرة، وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين. ولم يترك لأحد من أهلها حماما ولا دكانا ولا طاحونا ولا فرنا.
ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين وأربعمائة «1» ، وملك بعده ولده روجار «2» . فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والسلاحية والجاندارية «3» وغير ذلك. وخالف عادة الفرنج. وجعل له ديوانا للمظالم يرفّع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين، ومنع عنهم الفرنج فأحبوه. وعمر أسطولا كبيرا وملك الجزائر التى بين المهدية وصقلية مثل مالطة وقوصرة وغيرهما.
وتطاولوا بعد ذلك إلى سواحل إفريقية وملكوا المهدية وغيرها. ثم استرجعت منهم على ما ذكرناه فى أخبار عبد المؤمن بن على «4» .(24/383)
ذكر أخبار جزيرة أقريطش
هذه الجزيرة دون جزيرة صقلية، وهى كثيرة الخصب «1» مستطيلة الشكل.
وأول من غزاها فى الإسلام ابن أبى أمية الأزدى، فى أيام معاوية ابن أبى سفيان.
فلما كان فى أيام الوليد فتح بعضها.
ثم غزاها حميد بن معيون «2» الهمدانى فى أيام الرشيد ففتح بعضها.
ثم غزاها أبو حفص عمر بن شعيب «3» الأندلسى المعروف بالاقريطشى فى أيام المأمون. ففتح منها «4» حصنا واحدا. ولم يزل يفتح شيئا بعد شىء حتى لم يبق بها من الروم أحد، وأخرب حصونهم وتداولها بنوه بعده.
ولما جرى لأهل قرطبة مع الحكم بن هشام الأموى وقعة الربض التى ذكرناها فى سنة ثمان وسبعين ومائة «5» ، أخرج جماعة منهم.
فوصلوا إلى الإسكندرية وأقاموا بها، فعمرت بهم وصار فيها منهم خلق كثير. فغلبوا على الإسكندرية وملكوها إلى أن جاء عبد الله بن(24/384)
طاهر إلى الإسكندرية وأخرجهم منها كما ذكرنا ذلك فى أخبار الدولة العباسية فى أيام المأمون بن الرشيد. فصالحهم على مال ونقلهم إلى جزيرة أقريطش. فعمروها وملكوا عليهم رجلا منهم «1» . وعمروا فيها أربعين قطعة. وغزوا جميع ما حولها من جزائر القسطنطينية ففتحوا أكثر الجزائر وغنموا وسبوا.
ولم يكن لملك القسطنطينية بهم قبل، فأفكر فيما يفعله معهم من المكر والخديعة. فأقبل الملك أرمانوس «2» إلى عبد العزيز بن شعيب ابن عمر «3» صاحب جزيرة أقريطش. وتقرب إليه بالهدايا والتحف، وأظهر له المودة والمحبة. فلما استحكمت الوصلة بينهم وتأكدت، أنفذ أرمانوس رجلا من المسلمين ومعه هدية جليلة. فلما حضر بين صاحب أقريطش وقدم الهدية، قال له: «الملك يسلم عليك ويقول لك: نحن جيران وأصدقاء «4» ، وهؤلاء المساكين سكان الجزائر «5» قوم ضعفاء فقراء، وقد خلا أكثرهم من خوفك، وقلوبهم تحن إلى أوطانهم. ولى ولك بهم راحة وفائدة. فإن خفّ عليك أن تحسب ما يحصل لك من غزوهم فى كل عام وأنا أضاعفه لك أضعافا، وتؤمنهم وترفع عنهم الغزو وتفسح لهم فى السفر إلى(24/385)
جزيرتك، ويتوجه التجار إليك، ويحصل لك من الحقوق أضعاف ما يحصل لك من الغزو» . فأجابه إلى سؤاله. وتحالفا وتصالحا واتفقا على مال يؤدّى فى كل عام. فوفى له أرمانوس بجميع ذلك. وألزم التجار بالسفر إلى اقريطش والقسطنطينية وجميع الجزائر. فكثرت أموال صاحبها وأخذ فى جمع الأموال واختصر العطاء للجند.
ثم وقع بالقسطنطينية قحط وغلاء. فأنفذ الملك إلى صاحب اقريطش رسولا يقول: «قد وقع بالبلاد ما اتصل بك من الجدب.
ولنا خيل عراب «1» برسم النتاج تعزّ علينا، فإن رأيت أن أنفذها «2» إلى الجزيرة، وما نتجت من الذكور تكون للملك، وما نتجت من الإناث فهو لك» . فأجابه «3» إلى ذلك. فأرسل إلى الجزيرة خمسمائة فرس فى المراكب ومعها رعاتها.
فلما استقرت الخيل بالجزيرة، عبأ»
العساكر على تلطف واستخفاء، وقدم عليها نخفور «5» الدمستق وأنجاد رجاله، وذلك فى غرة المحرم سنة خمس وثلاثمائة. فدخل الأسطول إلى الجهة التى فيها الأفراس. ونزل كل فارس بسرجه ولجامه وشدوا له على فرس وفاجئوا أهل الجزيرة على غرة وغفلة. فملكوها وقتلوا صاحبها ومن معه من الجند، وعفوا عن قتل الرعية. ووجدوا الأموال التى كانوا(24/386)
بذلوها مضاعفة فأخذوها. وسبوا نساء الأجناد وذراريهم. وشحنوها بالعدد والأجناد.
ذكر تنصر أهل اقريطش
قال المؤرخ: ولما قرب عيد الميلاد، أمروا أكابر الجزيرة بالمسير إلى الملك للهناء بالعيد. فتوقف الأمائل ونفّذوا مائة رجل من أوساط القوم. فلما وصلوا إلى الملك وسلموا عليه، أمر بإكرامهم، وخلع عليهم، وأمر لكل رجل منهم بعشر أوان من الذهب. فرجعوا فرحين، وندم من تأخر عن المسير.
فلما أقبل عيد الفصح، تهيأ أكابر أهل الجزيرة للمسير، واجتمع منهم جماعة كبيرة. فلما وصلوا إلى القسطنطينية، أمر الملك أن يجعلوا فى موضع، وجعل عليهم حرسا. ومنعوا من الطعام والشراب إلى أن أيقنوا بالهلاك. فشكوا ذلك إلى الموكلين بهم وقالوا: «القتل خير لنا من هذا. وما الذى يريده الملك منا؟» قالوا «1» : «إنه يريد دخولكم فى دين النصرانية، فإن لم تجيبوا متم «2» على هذه الحالة وسبيت «3» ذراريكم» . فلما اشتد عليهم البلاء تنصروا فخلع عليهم، وتوجهوا إلى أهاليهم.(24/387)
فلما وصلوا الجزيرة منعوا الدخول «1» إلى بيوتهم. وقيل لهم:
«أنتم نصارى وهؤلاء مسلمون. فإن دخلوا فى دين الملك اجتمعتم، وإن أبوا ملكناهم» . فتنصر الباقون فى يوم واحد. ثم مات الاباء وبقى الأولاد على أشد ما يكون فى دين النصرانية والبغض فى المسلمين. نسأل الله تعالى أن لا يمكربنا ولا بأهالينا ولا بذرا رينا «2» ولا بعقبنا، ولا بمتحننا فى ديننا، وأن يجعل عواقب أمورنا خيرا من مبادئها، بمنّه وكرمه.
ولنصل هذا الفصل بذكر ما استولى عليه الفرنج من جزيرة الأندلس.
ذكر ما استولى عليه الفرنج- خذلهم الله تعالى- من البلاد الاسلامية بجزيرة الأندلس بعد أخذ طليطلة
هذه المدن التى نذكرها مما «3» استولى الفرنج خذلهم الله تعالى عليه من أعمال جزيرة الأندلس. كان الاستيلاء عليها فى التواريخ التى نذكرها، وهى فى المدة التى انقطعت فيها الأخبار وتعطلت التواريخ. فلم تصل إلينا مفصلة، ولا علمنا كيف أخذت ولا ممن انتزعت من ملوك المسلمين، فنذكر ذلك على وجهه. وإنما اطلعنا من حالها على تواريخ الاستيلاء عليها خاصة. فرأينا ذكر ذلك أولى من إهماله.(24/388)
والمدن التى أخذت هى مدينة قرطبة استولى الفرنج عليها فى يوم السبت الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة «1» .
ومدينة بلنسية، نازلها الروم وملكوها صلحا فى يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة ست وثلاثين «2» وستمائة.
وجيّان: استولوا عليها فى سنة ثلاث «3» وأربعين وستمائة.
وطرطرشة: أخذت فى سنة ثلاث «4» وأربعين وستمائة.
ولاردة: أخذت فى سنة خمس «5» وأربعين وستمائة.
ومدينة إشبيلية: أخذت فى مستهل شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة «6» .
ولم يتأخر للمسلمين بجزيرة الأندلس إلى وقتنا هذا غير الجزيرة الخضراء وما يليها. وهى «7» جزء يسير جدا بالنسبة إلى ما أخذ(24/389)
أعاد الله ما أخذ، وحمى ما بقى. وقد بلغنا أن الجزيرة الخضراء حاصرها الفرنج خذلهم الله تعالى فى سنة خمس عشرة وسبعمائة ونحوها. ولم يصل إلينا ما تجدد من ذلك. فإن وصل إلينا من خبرها شىء أوردناه فى حوادث السنين فى أخبار ملوك الديار المصرية.
إن شاء الله تعالى.
فهذا ما أمكن إيراده من أخبار بلاد المغرب. فلنذكر خلاف ذلك.(24/390)
الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها
وذلك بعد مقتل الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما كان أول من رام ذلك منهم فى الدولة الأموية:
زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم وكان ظهوره فى سنة إحدى وعشرين ومائة، وقتل فى سنة اثنتين وعشرين فى أيام هشام بن عبد الملك بن مروان «1» . وقد اختلف فى سبب قيامه وطلبه الخلافة ما هو. فقيل «2» : إن زيدا هذا وداود بن على بن عبد الله بن عباس ومحمد بن عمر بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم قدموا على خالد بن عبد الله القسرى، وهو أمير العراق. فأجازهم وأكرمهم ورجعوا إلى المدينة. فلما ولى(24/391)
يوسف بن عمر الثّقفى العراق كتب [إلى] «1» هشام بذلك. وذكر له أن خالدا ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم رد الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه ففعل. فسألهم هشام عن ذلك، فأقروا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، وحلفوا فصدقهم. وأمرهم بالمسير إلى العراق، ليقابلوا خالد بن عبد الله. فساروا على كره وقابلوا خالدا فصدقهم فعادوا نحو المدينة. فلما نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم.
وقيل: بل ادعى خالد القسرى أنه أودع زيدا وداود بن على ونفرا من قريش مالا. فكتب يوسف الثقفى بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من المدينة، وسيرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد. فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: «إن خالدا زعم أنه أودعك مالا» . قال: «كيف يودعنى وهو يشتم آبائى على منبره؟» فأرسل إلى خالد فأحضره فى عباءة «2» . فقال: «هذا زيد قد أنكر أنك قد أودعته شيئا» . فنظر خالد إليه وإلى داود، وقال ليوسف: «أتريد أن تجمع مع إثمك فى إثما فى هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر؟» فقال لخالد «3» :(24/392)
«ما دعاك إلى ما صنعت؟» فقال: «شدّد على العذاب فادّعيت ذلك، وأملت أن يأتى الله بفرج قبل قدومك» . فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.
وقيل «1» : إن يزيد بن خالد القسرى هو الذى ادعى المال وديعة عند زيد. فلما أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف، استقالوه خوفا من شر يوسف وظلمه. فقال: «أنا أكتب إليه بالكف عنكم» . وألزمهم بذلك، فساروا على كره. فجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد: «ليس لى عندهم قليل ولا كثير» .
قال يوسف: «أفبى تهزأ أم بأمير المؤمنين؟» فعذبه يومئذ عذابا كاد يهلكه. ثم أمر بالقرشيين فضربوا وترك زيدا. ثم استحلفهم وأطلقهم فلحقوا بالمدينة. وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: «والله، ما آمن إن بعثتنى إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين «2» أبدا» . قال: «لا بد من المسير إليه» .
وقيل «3» : كان السبب فى ذلك أن زيدا كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن «4» بن على فى وقوف «5» على ابن أبى طالب رضى الله عنه؛ زيد يخاصم عن بنى حسين، وجعفر(24/393)
يخاصم عن بنى حسن. فكانا يتبالغان كل غاية «1» ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفا. فلما مات جعفر نازعه عبد الله بن حسن بن الحسن. فتنازعا يوما بين يدى خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة. فأغلظ عبد الله لزيد وقال: «يابن السندية» فضحك زيد وقال: «قد كان إسماعيل لأمة، ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم تصبر غيرها» . يعنى فاطمة ابنة الحسين أم عبد الله فإنها تزوجت بعد أبيه الحسن. ثم ندم زيد واستحيى من فاطمة وهى عمته، فلم يدخل عليها زمانا. فأرسلت إليه:
«يا ابن أخى إنى لأعلم أن أمك «2» عندك كأم عبد الله عنده» وقالت لعبد الله: «بئس ما قلت لأم زيد، أم والله لنعم دخيلة القوم كانت» .
قال: فذكر أن خالدا قال لهما: «اغدوا علينا غدا. فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما» . فباتت المدينة تغلى كالمراجل يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا. فلما كان من الغد، جلس فى المسجد واجتمع الناس، فمن بين شامت ومهموم. فدعا بهما خالد، وهو يحب أن يتشاتما. فذهب عبد الله يتكلم. فقال زيد: «لا تعجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا» ثم أقبل على خالد فقال له: «أجمعت ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمر ما كان يجمعهم عليه(24/394)
أبو بكر أو عمر؟ «1» فقال خالد: «أما لهذا السفيه أحد؟» فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: «يا ابن أبى تراب، وابن حسين السفيه، أما ترى لوال عليك حقا ولا طاعة؟» فقال زيد «اسكت أيها القحطانى، فإنا لا نجيب مثلك» . قال: «ولم ترغب عنى؟ فو الله إنى لخير منك، وأبى خير من أبيك، وأمى خير من أمك» . فتضاحك زيد وقال: «يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفتذهب الأحساب؟ فو الله ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم» . فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: «كذبت والله أيها القحطانى، فو الله لهو خير منك نفسا وأما وأبا ومحتدا» . وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفا من حصباء فضرب بها الأرض ثم قال: «إنه والله ما لنا على هذا من صبر» . وقام.
وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص «2» . فكلما رفع قصة يكتب هشام فى أسفلها «ارجع إلى منزلك «3» » . فيقول زيد: «والله، لا أرجع إلى خالد أبدا» . ثم أذن له يوما بعد طول حبس، ورقى علّية طويلة.
وأمر خادما «4» أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول. فصعد زيد، وكان بادنا، فوقف فى بعض الدرجة فسمعه يقول: «والله،(24/395)
لا يحب الدنيا أحد إلا ذل» ثم صعد إلى هشام فحلف له على شىء. فقال: «لا أصدقك» فقال: «يا أمير المؤمنين إن الله لم يرفع أحدا عن أن يرضى بالله، ولم يضع أحدا عن أن لا يرضى بذلك منه» فقال هشام: «لقد بلغنى يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها.
ولست هناك وأنت ابن أمة» . قال زيد: «إن لك جوابا» قال: «فتكلم» قال: «إنه ليس أحد أولى بالله ولا أرفع درجة من نبى ابتعثه.
وقد كان إسماعيل عليه السّلام ابن أمة وأخوه من صريحة. فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر. وما على أحد من ذلك إذا كان جده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كانت أمه» . قال له هشام:
«اخرج» قال: «أخرج ثم لا أكون «1» إلا بحيث تكره» فقال له سالم «2» : «يا أبا الحسين، لا يظهرن هذا منك» .
فخرج من عنده وسار إلى الكوفة. فقال له محمد بن عمر بن أبى طالب: «أذكّرك الله يا زيد، لما لحقت بأهلك، ولا تأت أهل الكوفة فإنهم لا يفون لك» . فلم يقبل وقال: «خرج بنا أسرى على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى تيس ثقيف يلعب بنا» . وقال «3» :
بكرت تخوّفنى الحتوف كأننى ... أصبحت من غرض الحياة بمعزل(24/396)
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
إن المنية لو تمثّل مثّلت ... مثلى إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقنى حياءك لا أبا لك واعلمى ... أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل
ثم قال زيد: «أستودعك الله، وإنى أعطى الله عهدا أن [لا] دخلت يدى فى طاعة هؤلاء ما عشت» .
وفارقه وأقبل إلى الكوفة. فأقام بها مستخفيا يتنقل فى المنازل.
وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعة «1» . فيايعه جماعة منهم سلمة ابن كهيل، ونصر بن خزيمة العبسى، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصارى، وناس من وجوه أهل الكوفة. وكانت بيعته:
«إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفىء بين أهله بالسواء، ورد المظالم، وإقفال المجمر «2» ونصرة أهل البيت. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا: «نعم» . وضع يده على أيديهم ويقول: «عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لتفينّ ببيعنى، ولتقاتلن عدوى، ولتنصحن لى فى السر والعلانية» فإذا قال: «نعم» . مسح يده على يده.(24/397)
ثم قال: «اللهم اشهد» . فبايعه خمسة عشر ألفا، وقيل:
أربعون ألفا. وأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من يريد أن يفى له ويخرج معه يستعد ويتهيأ. فشاع أمره فى الناس. هذا على قول من زعم أنه أتى الكوفة من الشام واختفى بها يبايع الناس.
وأما على قول من زعم أنه أتى الكوفة إلى يوسف بن عمر لمقابلة خالد بن عبد الله القسرى أو ابنه يزيد بن خالد، فإنه يقول: إنه أقام بالكوفة ظاهرا ومعه داود بن على بن عبد الله بن عباس. وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد، وتأمره بالخروج، ويقولون: «إنا لنرجو أن تكون أنت المنصور، وأن هذا الزمان هو الذى يهلك فيه بنو أمية» . فأقام بالكوفة.
وجعل يوسف بن عمر الثقفى يسأل عنه، فيقال: «هو هاهنا» . ويبعث إليه ليسير فيقول: «نعم» ويعتل بالوجع.
فمكث ما شاء الله. ثم أرسل إليه يوسف ليسير، فاحتج بأنه يبتاع أشياء يريدها. ثم أرسل إليه يوسف بالمسير عن الكوفة، فاحتج بأنه يحاكم بعض آل طلحة بن عبيد الله فى ملك بينهما بالمدينة، فأرسل إليه ليوكل وكيلا ويرحل عنها.
فلما رأى جد يوسف فى أمره سار حتى أتى القادسية وقيل الثّعلبية. فتبعه أهل الكوفة وقالوا: «نحن أربعون ألفا لم يتخلف عنك أحد، نضرب عنك بأسيافنا، وليس هاهنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة بعض قبائلنا تكفيهم بإذن الله تعالى» . وحلفوا بالأيمان المغلظة، فجعل يقول: «إنى أخاف أن تخذلونى وتسلمونى كفعلكم بأبى وجدى» فيحلفون له. فقال له داود بن على:(24/398)
«يا ابن عم، إن هؤلاء يغرونك من نفسك، أليس قد خذلوا من كان أعز عليهم منك: جدك على بن أبى طالب حتى قتل، والحسن من بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدك الحسين وحلفوا له ثم خذلوه وأسلموه، ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم» فقالوا لزيد: «إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أولى بهذا الأمر منكم» فقال زيد لداود: «إن عليا كان يقاتله معاوية بدهائه ومكره، وإن الحسين قاتله يزيد والأمر مقبل عليهم» . فقال داود: «إنى خائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشد عليك منهم، وأنت أعلم» . ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة.
فلما رجع زيد، أتاه سلمة بن كهيل فذكر له قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحقه فأحسن. ثم قال له: «نشدتك الله: كم بايعك؟» قال: «أربعون ألفا» قال: «فكم بايع جدك؟» قال: «ثمانون ألفا» . قال: «فكم حصل معه؟» قال:
«ثلاثمائة» قال: «نشدتك الله: أنت خير أم جدك؟» قال:
«جدى» . قال: «فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟» قال:
«ذلك القرن» . قال: «أفتطمع أن يفى لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟» قال: «قد بايعونى ووجبت البيعة فى عنقى وعنقهم» . قال: «أفتأذن لى أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن يحدث حدث فلا أملك نفسى» . فأذن له فخرج إلى اليمامة.
وكتب عبد الله بن الحسن «1» بن الحسن إلى زيد: «أما(24/399)
بعد، فإن أهل الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هرج فى الرخاء «1» ، جزع فى اللقاء، تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إلى كتبهم بدعوتهم، فصممت عن ندائهم وألبست قلبى غشاء عن ذكرهم يأسا منهم واطراحا لهم. وما لهم مثل إلا ما قال «2» على بن أبى طالب رضى الله عنه: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم «3» خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم» فلم يصغ زيد إلى شىء من ذلك وأقام على حاله يبايع الناس ويتجهز للخروج.
وتزوج بالكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمى. وتزوج أيضا ابنة عبد الله بن أبى العنبس الأزدى. وكان سبب تزوجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت تتشيع، فأتت زيدا تسلم عليه، وكانت جميلة حسنة قد دخلت فى السن ولم يظهر عليها. فخطبها زيد إلى نفسها «4» . فاعتذرت بالسن وقالت له: «لى بنت «5» هى أجمل منى وأبيض وأحسن دلا وشكلا» فضحك زيد ثم تزوجها وكان ينتقل بالكوفة تارة عندها، وتارة عند زوجته الأخرى، وتارة فى بنى عبس، وتارة فى بنى نهد، وتارة فى بنى تغلب «6» وغيرهم إلى أن ظهر.(24/400)
ذكر ظهور زيد بن على بن الحسن ومقتله
كان ظهور زيد ومقتله فى سنة اثنتين وعشرين ومائة. وذلك أنه لما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج، أخذ من كان يريد الوفاء بالبيعة يتجهز. فانطلق سليمان بن سراقة البارقى إلى يوسف بن عمر فأخبره. فبعث يوسف فى طلب زيد فلم يوجد.
وخاف زيد أن يؤخذ فتعجل الخروج قبل الأجل الذى جعله بينه وبين أهل الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ الحكم بن الصّلت، وعلى شرطته عمرو بن عبد الرحمن «1» من القارة، ومعه عبيد الله بن العباس الكندى فى ناس من أهل الشام، ويوسف بن عمر بالحيرة.
فلما رأى أصحاب زيد بن على أن يوسف بن عمر قد بلغه حاله وأنه يبحث عن أمره، اجتمع إليه جماعة من رؤوسهم فقالوا «رحمك الله، ما قولك فى أبى بكر وعمر؟» قال زيد: «رحمهما الله وغفر لهما. ما سمعت أحدا من أهل بيتى يقول فيهما إلا خيرا وإن أشد ما أقول فيما ذكرتم: أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس أجمعين، فدفعونا عنه. ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا. وقد ولوا فعدلوا فى الناس، وعملوا بالكتاب والسنة» قالوا: «فلم يظلمك هؤلاء إذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم؟» فقال: «إن هؤلاء ليسوا كأولئك. هؤلاء ظالمون لى ولأنفسهم ولكم. وإنما ندعوهم إلى كتاب الله وسنة(24/401)
نبيه صلّى الله عليه وسلم، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ، فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلست عليكم بوكيل» ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: «سبق الإمام» ، يعنون محمد الباقر، وكان قد مات. وقالوا: «جعفر ابنه إمامنا اليوم بعد أبيه» فسماهم زيد الرافضة. وهم يزعمون أن المغيرة سماهم الرافضة حيث فارقوه. وكانت طائفة أتت جعفر بن محمد الصادق قبل خروج زيد فأخبروه ببيعة زيد. فقال: «بايعوه، فهو والله أفضلنا وسيدنا» فعادوا وكتموا ذلك.
وكان زيد قد واعد أصحابه أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة. فبلغ يوسف بن عمر، فبعث إلى الحكم يأمره أن يجمع أهل الكوفة فى المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فجمعهم فيه. وطلبوا زيدا فى دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة «1» الأنصارى، فخرج منها ليلا. ورفعوا النيران ونادوا: «يا منصور «2» » حتى طلع الفجر.
فلما أصبحوا بعث زيد القاسم الحضرمى وآخر من أصحابه يناديان بشعارهم. فلما كانوا بصحراء عبد القيس لقيهم جعفر بن العباس «3» الكندى. فحملوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الذى كان(24/402)
مع القاسم، وارتثّ «1» القاسم وأتى به الحكم فضرب عنقه. فكانا أول من قتل من أصحاب زيد.
فأغلق الحكم دروب السوق وأبواب المسجد على الناس.
وبعث إلى يوسف بالحيرة فأخبره الخبر. فأرسل جعفر بن العباس «2» ليأتيه بالخبر. فسار فى خمسين فارسا حتى بلغ جبانة سالم، فسأل ثم رجع إلى يوسف فأخبره. فسار يوسف إلى تل قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه أشراف الناس. فبعث الريان بن سليمة الإراشى «3» فى ألفين ومعه ثلاثمائة من القيقانية رجالة معهم النشّاب.
وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتى رجل وثمانية عشر رجلا. فقال زيد: «سبحان الله! أين الناس؟» فقيل:
«إنهم فى المسجد الأعظم محصورون» . فقال: «والله، ما هذا بعذر لمن بايعنا» وسمع نصر بن خزيمة العبسى النداء فأقبل إليه.
فلقى عمرو بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم فى خيله من جهينة فى الطريق فحمل عليه نصر، فقتل عمرو وانهزم من كان معه.
وأقبل زيد على جبانة سالم حتى انتهى إلى جبانة الصائديين «4»(24/403)
وبها خمسمائة من أهل الشام. فحمل عليهم زيد فيمن معه فهزمهم.
وانتهى زيد إلى دار أنس بن عمرو الأزدى، وكان فيمن بايعه، وهو فى الدار. فنودى فلم يجبهم. وناداه زيد فلم يخرج إليه. فقال زيد: «ما أخلّفكم! قد فعلتموها! الله حسيبكم!» ثم انتهى زيد إلى الكناسة فحمل على من بهامن أهل الشام فهزمهم. ثم سار زيد ويوسف ينظر إليه فى مائتى رجل، فلو قصده زيد لقتله، والريان يتبع آثار زيد بالكوفة فى أهل الشام. فأخذ زيد على مصلى خالد حتى دخل الكوفة. وسار بعض أصحابه نحو جبانة مخنف بن سليم فلقوا أهل الشام فقاتلوهم. فأسر أهل الشام منهم رجلا، فأمر به يوسف بن عمر فقتل.
فلما رأى زيد خذلان الناس إياه قال: «يا نصر بن خزيمة، أتخاف أن يكونوا فعلوها حسينية؟» قال: «أما أنا فو الله لأقاتلن معك حتى أموت، وإن الناس بالمسجد فامض بنا إليهم» . فلقيهم عبيد الله بن العباس الكندى عند دار عمر بن سعد» فاقتتلوا فانهزم عبيد الله وأصحابه. وجاء زيد حتى انتهى إلى باب المسجد. فجعل أصحابه يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: «يا أهل المسجد، اخرجوا من الذل إلى العز، اخرجوا إلى الدين والدنيا فإنكم لستم فى دين ولا دنيا» . فرماهم أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد.
وانصرف الريان عند المساء إلى الحيرة. وانصرف زيد فيمن معه. وخرج إليه ناس من أهل الكوفة. فنزل دار الرزق. فأتاه(24/404)
الريان بن سليمة فقاتله عن دار الرزق. وخرج أهل الشام مساء يوم الأربعاء أسوأ شئ ظنا.
فلما كان الغد أرسل يوسف بن عمر العباس بن سعد «1» المزنى فى أهل الشام، فانتهى إلى زيد فى دار الرزق. فلقيه زيد وعلى مجنبتيه نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة، فقتتلوا قتالا شديدا. وحمل نائل بن فروة العبسى من أهل الشام على نصر بن خزيمة. فضربه بالسيف فقطع فخذه، وضربه نصر فقتله. ولم يلبث نصر أن مات. واشتد قتالهم فانهزم أصحاب العباس، وقتل منهم نحو من سبعين رجلا.
فلما كان العشى عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم. فالتقوا هم وأصحاب زيد، فحمل عليهم فى أصحابه، فكشفهم. وتبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة ثم حمل عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بنى سليم.
وجعلت خيلهم لا تثبت لخيله. فبعث العباس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له: «ابعث إلى الناشبة» . فبعثهم إليه، فجعلوا يرمون أصحاب زيد. فقاتل معاوية بن إسحاق الأنصارى بين يدى زيد قتالا شديدا فقتل. وثبت زيد ومن معه إلى الليل. فرمى زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى فثبت فى دماغه. ورجع أصحابه.
ولا يظن أهل الشام أنهم رجعوا إلا للمساء والليل.
ونزل زيد فى دار من دور أرحب. وأحضر أصحابه طبيبا، فانتزع(24/405)
النصل فضج زيد. فلما نزع مات زيد رحمه الله. فقال أصحابه:
«أين ندفنه؟» فقال بعضهم: «نطرحه فى الماء» . وقال بعضهم:
«بل نقطع رأسه ونلقيه فى القتلى» . فقال ابنه يحيى: «والله، لا يأكل لحم أبى الكلاب» . وقال بعضهم: «ندفنه فى الحفرة التى يؤخذ منها الطين ونجعل عليه الماء «1» » . ففعلوا. فلما دفنوه أجروا الماء عليه. وقيل: دفن بنهر يعقوب: سكر «2» أصحابه الماء.
ودفنوه وأجروا الماء. وكان معهم مولى لزيد سندى «3» ، وقيل:
رآهم قصار، فدل عليه. وتفرق الناس عنه.
وسار ابنه يحيى نحو كربلاء. فنزل نينوى «4» على سابق مولى بشر بن عبد الملك بن بشر. ثم إن يوسف بن عمر تتبع الجرحى فى الدور. فدله السندى مولى زيد يوم الجمعة على زيد. فاستخرج من قبره فقطع رأسه وسير إلى يوسف بن عمر، وهو بالحيرة، سيره إليه الحكم بن الصلت. فأمر يوسف أن يصلب، فصلب زيد بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق وزياد النهدى.
وأمر بحراستهم. وبعث الرأس إلى هشام بن عبد الملك، فصلب على باب مدينة دمشق. ثم أرسل إلى المدينة. وبقى البدن مصلوب إلى أن مات هشام وولى الوليد، فأمر بإنزاله وإحراقه.
وقيل: كان خراش «5» بن حوشب بن يزيد الشيبانى على(24/406)
شرطة يوسف بن عمر «1» ، وهو الذى نبش زيدا «2» وصلبه.
فقال السيد الحميرى:
بت ليلى مسهّدا ... ساهر العين مقصدا «3»
ولقد قلت قولة ... وأطلت التّبلّدا:
لعن الله حوشبا ... وخراشا ومزيدا
ويزيدا فإنه ... كان أعتى وأعتدا «4»
ألف ألف وألف أل ... ف من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإل ... هـ وآذوا محمدا
شركوا فى دم الحسين وزيد تعبّدا «5» ... ثم عالوه فوق جذ
ع صريعا مجردّا ... يا خراش بن حوشب
أنت أشقى الورى غدا
وأما يحيى بن زيد بن على فإنه قيل فيه غير ما قدمناه. وهو أنه لما قتل زيد قال له رجل من بنى أسد من أهل خراسان: «إن بخراسان لكم شيعة، والرأى أن تخرج إليها» . قال: «وكيف لى بذلك؟» قال: «تتواري حتى يسكن الطلب ثم تخرج» . فواراه عنده.(24/407)
ثم خاف فأتى به عبد الملك بن بشر بن مروان فقال له: «قرابة زيد بك قريبة وحقّه عليك واجب» . فقال: «أجل، ولقد كان العفو عنه أقرب للتقوى» . فقال: «قد قتل وهذا ابنه غلام حدث لا ذنب له، وإن علم يوسف به قتله أفتجيره؟» قال: «نعم» .
فأتاه به، فأقام عنده. فلما سكن الطلب سار فى نفر من الزيدية إلى خراسان.
ذكر مسير يحيى بن زيد بن على الى خراسان ومقتله
قال: ولما سكنت الفتنة، سار يحيى إلى خراسان. فأتى بلخ فأقام بها عند الحريش بن عمرو بن داود «1» . حتى هلك هشام ابن عبد الملك وولى الوليد بن يزيد. فكتب يوسف بن عمر الثقفى إلى نصر بن سيار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله عند الحريش، وقال له: «خذه أشد الأخذ» . فأخذ «2» نصر الحريش فطالبه بيحيى.
فقال: «لا علم لى به» . فأمر به فجلد ستمائة سوط.. فقال الحريش:
«والله، لو أنه تحت قدمى ما رفعتهما عنه» . فلما رأى ذلك قريش «3» ابن الحريش قال: «لا تقتل أبى وأنا أدلك على يحيى» . فدله عليه.(24/408)
فأخذه وحبسه. وكتب نصر إلى الوليد يخبره به. فكتب إليه الوليد يأمره أن يؤمنه ويخلى سبيله وسبيل أصحابه. فأطلقه نصر، وأمره أن يلحق بالوليد، وأمر له بألفى درهم.
فسار إلى سرخس وأقام بها. فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس ابن عباد يأمره أن يسيره عنها.
فسار حتى انتهى إلى بيهق. وخاف أن يغتاله يوسف بن عمر فعاد إلى نيسابور «1» ، وبها عمرو بن زرارة «2» ، وكان مع يحيى سبعون رجلا. فرأى يحيى تجارا فأخذ هو وأصحابه دوابهم، وقالوا:
«علينا أثمانها» . فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر يخبره. فكتب إليه نصر يأمره بمحاربته. فقاتله عمرو وهو فى عشرة آلاف ويحيى فى سبعين رجلا. فهزمهم يحيى وقتل عمرا، وأصاب دواب كثيرة.
وسار حتى مر بهراة فلم يعرض لمن بها، وسار عنها. وسرّح نصر ابن سيار سلم بن أحوز «3» فى طلب يحيى. فلحقه بالجوزجان فقاتله قتالا شديدا. فرمى يحيى بسهم فأصاب جبهته: رماه رجل من عنزة يقال له عيسى. وقتل أصحاب يحيى من عند آخرهم.
وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه.
فلما بلغ الوليد بن يزيد قتل يحيى، كتب إلى يوسف بن عمر:
«خذ عجل «4» أهل العراق فأنزله من جذعه- يعنى زيدا- وأحرقه(24/409)
بالنار ثم انسفه فى اليم نسفا» . فأمر به يوسف فأحرق ثم رضّه وحمله فى سفينة. ثم ذراه فى الفرات «1» . وأما يحيى فإنه لما قتل صلب بالجوزجان. فلم يزل مصلوبا حتى ظهر أبو مسلم الخراسانى واستولى على خراسان، فأنزله وصلّى عليه ودفنه. وأمر بالنياحة عليه فى خراسان. وأخذ أبو مسلم ديوان بنى أمية، وعرف منه أسماء من حضر قتل يحيى. فمن كان حيا قتله، ومن كان ميتا خلفه فى أهله بسوء.
وكانت أم يحيى بن زيد ريطة بنت عبد الله بن محمد بن الحنفية.
وكان مقتل يحيى فى سنة خمس وعشرين ومائة.
هذا ما كان من خبر زيد وابنه يحيى، ثم ظهر عبد الله بن معاوية فكان من خبره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب «2»
كان ظهوره بالكوفة فى سنة سبع وعشرين ومائة، فى أيام مروان بن محمد الحمار بن مروان، ودعا إلى نفسه. وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي الكوفة «3»(24/410)
فأكرمه وأجازه «1» ، وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم.
فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع لهما الناس، وزاد فى العطاء، وكتب ببيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة. ثم بلغه امتناع مروان بن محمد بن البيعة ومسيره من الشام إليهما، فحبس عبد الله بن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجريه عليه، وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد، ليبايع له ويقاتل به مروان. فماج الناس وورد مروان الشام وظفر بإبراهيم.
فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسرى إلى الكوفة مسرعا، وافتعل كتابا على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة، وجمع اليمانية وأعلمهم ذلك فأجابوه. وامتنع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عنه «2» وقاتله.
فلما رأى إسماعيل الأمر كذلك، خاف أن يظهر أمره ويفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: «إنى أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم» .
فكفوا وظهر أمر إبراهيم وهربه.
ووقعت العصبية بين الناس. وكان سببها أن عبد الله بن عمر كان قد أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة. ولم يعط. جعفر بن نافع بن لقعقاع بن شور الذهلى وعثمان بن الخيبرى «3» من تيم اللات(24/411)
ابن ثعلبة شيئا، وهما من ربيعة، فكانا مغضبين وغضب لهما ثمامة بن حوشب بن رويم الشيبانى. وخرجوا من عند عبد الله بن عمر وهو بالحيرة إلى الكوفة، فنادوا: «يا آل ربيعة» فاجتمعت ربيعة وتنمروا «1» . وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فأرسل إليهم أخاه عاصما. فأتاهم وهم بدير هند. فألقى نفسه بينهم وقال: «هذه يدى لكم فاحكموا» . فاستحيوا ورجعوا وعظّموا عاصما وشكروه.
فلما كان المساء، أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثرى بمائة ألف، فقسمها فى قومه بنى همام بن مرّة بن ذهل الشّيبانى «2» ، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف، فقسمها فى قومه. وأرسل إلى جعفر بن نافع بمال، وإلى عثمان بن الخيبرى بمال.
فلما رأى الشيعة ضعف عبد الله بن عمر، طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية. واجتمعوا فى المسجد، ودعوا إلى عبد الله «3» ابن معاوية، وأخرجوه من داره، ثم أدخلوه القصر. ومنعوا عاصم ابن عمر عن القصر فلحق بأخيه بالحيرة. وجاء ابن معاوية الكوفيون وبايعوه، فيهم عمر بن الغضبان ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسرى أخو خالد. وأقام أياما يبايعه الناس وأتته البيعة من المدائن وفم النيل.
واجتمع إليه الناس، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة.(24/412)
فقيل لابن عمر: «قد أقبل ابن معاوية فى الخلق» . فأطرق رأسه عليا. وأتاه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام. فأمر بإحضاره، فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث «1» ، والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية. وفرغ من طعامه وأخرج المال وفرقه فى قواده.
ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه، كان اسمه إما ميمونا وإما رباحا أو فتحا أو اسما يتبّرك به. فأعطاه اللواء وقال: «امض به إلى موضع كذا فاركزه، وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك» .
ففعل.
وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية.
فأمر عبد الله بن عمر مناديا ينادى: «من جاء برأس فله خمسمائة» .
فأتى برؤوس كثيرة وهو يعطى ما ضمن.
وبرز رجل من أهل الشام، فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلى. فسأله الشامى فعرفه. وقال: «قد ظننت أنه لا يخرج إلىّ إلا رجل من بكر بن وائل. والله، ما أريد قتالك ولكنى أحببت أن ألقى إليك حديثا أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما إلا وقد كاتب ابن عمر، وكاتبته مضر. وما أرى لكم يا ربيعة كتابا ولا رسولا وأنا رجل من قيس، فإن أردتم الكتاب أبلغته. ونحن غدا بإزائكم، فإنهم اليوم لا يقاتلونكم» . فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبر عمر بن الغضبان.
فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما، فلم يفعل.(24/413)
وأصبح الناس [من] «1» الغد غادين على القتال. فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر، انكشفوا. ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة. فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة وابن معاوية معهم. فدخلوا القصر. وبقى من بالميسرة من ربيعة ومضر، ومن بإزائهم من أصحاب ابن عمر. فقالوا لعمر بن الغضبان:
«ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم، فانصرفوا» . وقال ابن الغضبان: «لا أبرح حتى أقتل» . فأخذ أصحابه بعنان دابته فأدخلوه الكوفة.
فلما أمسوا قال لهم ابن معاوية: «يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا، وقد أعلقنا دماءنا فى أعناقكم. فإن قاتلتم قاتلنا معكم وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم، فخذوا لنا ولهم «2» أمانا» . فقال له عمر بن الغضبان: «إما أن نقاتل معك وإما أن نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا فطيبوا نفسا» . فأقاموا فى القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياما ثم إن ربيعة أخذت أمانا لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية [ليذهبوا] «3» حيث شاءوا.
وسار ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة «4» . فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمذان وأصفهان والرى. وخرج إليه عبيد أهل الكوفة.(24/414)
ذكر غلبته على فارس وأخذها منه وقتله
كانت غلبة عبد الله بن معاوية على فارس فى سنة تسع وعشرين «1» ومائة. وذلك أنه لما غلب على ما ذكرناه أقام بأصبهان. وكان محارب «2» بن موسى مولى بنى يشكر عظيم القدر بفارس. فجاء إلى دار الإمارة باصطخر، فطرد عامل ابن عمر عنها. وبايع الناس لعبد الله بن معاوية. وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليها. وانضم إلى محارب قواد «3» من أهل الشام. فسار إلى سليم «4» بن المسبب، وهو عامل ابن عمر بشيراز، فقتله فى سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان إلى عبد الله بن معاوية، فحوله إلى اصطخر.
فاستعمل عبد الله أخاه الحسن على الجبال. وأقبل معه إلى اصطخر، فأقام بها. وأتاه الناس: بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال، وبعث العمال. وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام بن عبد الملك. وأتاه شيبان بن عبد العزيز الحرورى الخارجى، وكان قد خرج فى جموع كثيرة، كما ذكرنا فى أخباره فلم يتفق بينهما أمر «5» . وأتاه أبو جعفر المنصور وعبد الله وعيسى(24/415)
ابن على «1» .
فلما قدم ابن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابى إلى عبد الله بن معاوية. وبلغ سليمان بن حبيب أن ابن هبيرة استعمل نباتة على الأهواز، فسرح داود بن حاتم بكربج دينار «2» ليمنع نباتة من الأهواز. فقاتلة فقتل داود. وهرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور «3» وفيها الأكراد وقد غلبوا عليها. فقاتلهم سليمان فطردهم عن نيسابور وكتب إلى ابن معاوية بالبيعة.
ثم إن محارب بن موسى اليشكرى نافر ابن معاوية وفارقه.
وجمع جمعا وأتى نيسابور. فقاتله يزيد بن معاوية، فانهزم محارب. وأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه. ثم نافره فقتله ابن الأشعث وأربعة وعشرين ابناله.
ولم يزل عبد الله بن معاوية باصطخر حتى أتاه داود بن ضبارة مع داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة. وسير ابن هبيرة أيضا معن ابن زائدة من وجه آخر. فقاتلهم معن عند مرو الشاذان، ومعن يقول:
ليس أمير القوم بالخبّ الخدع ... فر من الموت وفى الموت وقع
وانهزم ابن معاوية فكف معن عنهم. وقتل فى المعركة رجل من آل(24/416)
أبى لهب، وكان يقال: يقتل «1» رجل من بنى هاشم بمرو الشاذان. وأسروا أسرى كثيرة، وقتل ابن ضبارة منهم عدة كثيرة.
وهرب منصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهيل «2» بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر.
وبعث «3» ببقية الأسرى»
إلى ابن هبيرة فأطلقهم.
ومضى ابن معاوية إلى خراسان «5» . فسار معن بن زائدة يطلب منصور بن جمهور فلم يدركه، فرجع. وكان مع ابن معاوية من الخوارج وغيرهم خلق كثير، فأسر منهم أربعون ألفا «6» ، وكان ممن أسر عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس فسبّه «7» ابن ضبارة وقال: «ما جاء بك إلى ابن معاوية وقد عرفت خلافة أمير المؤمنين» فقال: «كان علىّ دين فأتيته «8» » فشفع «9» فيه حرب بن قطن الهلالى «10» وقال: «هو ابن أختنا» فوهبه له. فعاب عبد الله بن على عبد الله بن معاوية ورمى أصحابه باللواط. فسيّره ابن ضبارة إلى ابن هبيرة ليخبره أخبار ابن معاوية.(24/417)
وسار فى طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحصره بها. فخرج عبد الله منها هاربا ومعه أخواه الحسن ويزيد ابنا معاوية وجماعة من أصحابه. وسلك «1» المفازة على كرمان. وقصد خراسان طمعا فى أبى مسلم لأنه يدعو إلى الرّضا من آل محمد، وقد استولى على خراسان. فوصل إلى نواحى هراة وعليها أبو نصر مالك بن الهيثم الخزاعى. فأرسل إلى ابن معاوية يسأله عن قدومه، فقال:
«بلغنى أنكم تدعون إلى الرضا من آل محمد» فأرسل إليه مالك:
«انتسب نعرفك» . فانتسب له فقال: «أما عبد الله وجعفر فمن أسماء آل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأما معاوية فلا نعرفه فى أسمائهم» . فقال: «إن جدى كان عند معاوية بن أبى سفيان لما ولد له أبى، فطلب إليه أن يسمى ابنه باسمه، ففعل، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم» . فأرسل إليه مالك: «لقد اشتريتم الاسم الخبيث بالثمن اليسير، ولا نرى لك حقا فيما تدعو إليه» «2» ثم أرسل إلى أبى مسلم يعرفه خبره. فأمره بالقبض عليه وعلى من معه، فقبض عليهم وحبسوا. ثم ورد عليه كتاب أبى مسلم يأمره بإطلاق الحسن ويزيد ابنى معاوية وقتل عبد الله بن معاوية.
فأمر من وضع فراشا على وجهه. فمات وأخرج فصلى عليه ودفن.
وكان عبد الله بن معاوية شاعرا مجيدا. فمن قوله:
ولا تركبّن الصّنيع الذى ... تلوم أخاك على مثله «3»(24/418)
ولا يعجبنّك قول امرئ ... يخالف ما قال فى فعله
فهؤلاء الذين ظهروا من الطالبيين فى الدولة الأموية وقتلوا. ثم ظهر فى الدولة العباسية من نذكرهم إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.(24/419)
مراجع التحقيق
1- الدكتور حسين مؤنس: فجر الأندلس، 1959 م.
2- الدكتور حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب، 1947 م.
3- اليعقوبى: تاريخه، دارا صادر وبيروت 1960
4- ابن خلدون: تاريخه، دار الكتاب اللينانى.
5- الذهبى: دول الإسلام، حيدر أباد 1364 هـ.
6- ابن عذارى المراكشى: البيان المغرب فى أخبار المغرب 1950.
7- أبو الفدا: المختصر فى أخبار البشر، المطبعة الحسينية بمصر 1325 هـ.
8- الطاهر أحمد الزاوي: تاريخ الفتح العربى فى ليبيا، دار المعارف بمصر.
9- أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، دار الكتاب بالدار البيضاء.
10- ابن العماد الحنبلى: شذرات الذهب فى أخبار من ذهب مكتبة القدسى.
11- الكندى: ولاة مصر، دار صادر وبيروت 1959.(24/421)
12- المسعودى: مروج الذهب ومعادن الجوهر، مطبعة السعادة 1958.
13- ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة فى أخبار مصر والقاهرة، طبع دار الكتب المصرية.
14- عبد الواحد المراكشى: المعجب فى تلخيص أخبار المغرب، طبع أوربا.
15- عبد الله بن أبى عبد الله: رياض النفوس، 1951 م المالكى
16- ابن القوطية: تاريخ فتح الأندلس، طبع لبنان.
17- الطبري: تاريخه، المطبعة الحسينية المصرية
18- ابن كثير: البداية والنهاية: طبع مصر.
19- ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب، طبع أوربا.
20- البلاذرى: فتوح البلدان، طبع أوربا.
21- المقرى: نفح الطيب، طبع أوربا.
22- محمد بن عبد الحليم المعروف بابن أبى زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس فى أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، 1305 هـ.
23- ابن الأثير: الكامل فى التاريخ، طبع دمشق.
24- أمارى: المكتبة الصقلية، طبع أوربا.(24/422)
25- أبو الفرج: مقاتل الطالبيين، تحقيق السيد صقر.
26- ابن أبى دينار: المؤنس فى تاريخ إفريقية والأندلس.
27- البكرى: المسالك والممالك (وصف إفريقية)
28- الإدريسى: نزهة المشتاق، طبع أوربا.(24/423)
فهرس موضوعات الجزء الرابع والعشرون
مقدمة المحقق 1
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار إفريقية وبلاد المغرب ومن وليها من العمال ومن استقل منهم بالملك وسميت أيامهم بالدولة الفلانية
ذكر فتوح إفريقية 7
ذكر ولاية معاوية بن حديج الكندى وفتح إفريقية ثانيا 18
ذكر ولاية عقبة بن نافع الفهرى وفتح إفريقية الفتح الثالث وبناء القيروان 21
ذكر بناء مدينة القيروان 22
ذكر ولاية مسلمة بن مخلد 24
ذكر ولاية عقبة بن نافع ثانية 25
ذكر خروج كسيلة وقتل عقبة بن نافع واستيلائه على القيروان 30
ذكر ولاية زهير بن قيس البلوى وقتل كسيلة البربرى 32
ذكر ولاية حسان بن النعمان الغسائى إفريقية 34
ذكر فتح قرطاجنة وتخريبها 35
ذكر حروب حسان والكاهنة وتخريب إفريقية وقتل الكاهنة 35
ذكر ولاية موسى بن نصير إفريقية وما كان من حروبه وآثاره 39
ذكر فتح جزيرة الأندلس وشىء من أخبارها 40(24/425)
ذكر غزو جزيرة سردانية 53
ذكر ولاية محمد بن يزيد مولى قريش ومقتل عبد العزيز بن موسى ابن نصير 54
ذكر ولاية اسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر مولى بنى مخزوم 56
عبيدة بن عبد الرحمن السلمى 57
عبيد الله بن الحبحاب مولى بنى سلول 58
حنظلة بن صفوان الكلبى 62
ذكر أخبار عبد الرحمن بن حبيب وتغلبه على إفريقية ورجوع حنظلة إلى المشرق 64
ذكر مقتل عبد الرحمن بن حبيب وولاية أخيه إلياس بن حبيب وقتله وولاية حبيب بن عبد الرحمن وقتله 67
ذكر تغلب ورفجومة على إفريقية وما كان منهم ومن ولى بعدهم إلى أن ولى محمد بن الأشعث 72
ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعى 73
ذكر ولاية الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى 76
ذكر ولاية عمر بن حفص هزار مرد 79
ذكر ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة 85
ذكر ولاية داود بن يزيد بن حاتم 88
ذكر ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة 88
ذكر ولاية نصر بن حبيب المهلبى 89
ذكر ولاية الفضل بن روح 90
ذكر أخبار عبد الله بن الجارود 92
ذكر ولاية هرثمة بن أعين 95
ذكر ولاية محمد بن مقاتل بن حكيم العكى 96
ذكر ابتداء دولة بنى الأغلب 100
ذكر ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى 100
ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب 105(24/426)
ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب 107
ذكر ولاية أبى عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 117
ذكر ولاية أبى العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 118
ذكر ولاية أبى إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 123
ذكر ولاية أبى محمد زيادة الله بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب 125
ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب المكنى بأبى الغرانيق 125
ذكر ولاية أبى إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب 127
ذكر انتقال إبراهيم إلى تونس 133
ذكر اعتزال إبراهيم الملك وزهده وغزوه ووفاته 135
ذكر ولاية أبى العباس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب 143
ذكر ولاية أبى مضر زيادة الله بن أبى العباس 145
ذكر انهزام زيادة الله إلى المشرق وانقراض دولة بنى الأغلب 149
ذكر ما كان من أخبار زيادة الله وقتله عبد الله بن الصائغ ومسيره إلى بلاد المشرق ووفاته 150
ذكر أخبار من ملك المغرب بعد بنى الأغلب إلى أن قامت دولة بنى زيرى بن مناد 154
ذكر ابتداء دولة بنى زيرى بن مناد ونسبهم ومبدأ أمرهم ومن ملك منهم إلى انقضاء دولتهم 156
ذكر أخبار زيرى بن مناد 159
ذكر بناء مدينة أشير 160
ذكر الحرب بين زيرى وزناته 163
ذكر مقتل زيرى 165
ذكر أخبار أبى الفتوح يوسف بلكين بن زيرى بن مناد 167
ذكر ولاية أبى الفتوح يوسف بلكين بلاد المغرب 169
ذكر ولاية عبد الله بن محمد الكاتب 171(24/427)
ذكر أخبار خلف بن خير 173
ذكر وفاة أبى الفتوح يوسف 176
ذكر ولاية أبى الفتح المنصور بن يوسف بلكين بن زيرى 177
ذكر مقتل عبد الله بن محمد وولده يوسف 180
ذكر أخبار أبى الفهم حسن بن نصرويه الخراسانى 182
ذكر وفاة المنصور أبى الفتح بن يوسف 184
ذكر ولاية أبى مناد باديس بن أبى الفتح المنصور بن يوسف 185
ذكر خروج محمد بن أبى العرب إلى زناته 186
ذكر خلاف حماد بن يوسف وأخيه إبراهيم على ابن أخيهما الأمير باديس 192
ذكر وفاة باديس 197
ذكر ولاية أبى تميم المعز بن أبى مناد باديس بن المنصور بن يوسف ابن زيرى 199
ذكر قتل الروافض 201
ذكر مسير المعز لحرب حماد 204
ذكر الصلح بين المعز وحماد عم أبيه 206
ذكر مقتل القائد محمد بن حسن 207
ذكر خروج العرب إلى المغرب والسبب الموجب لذلك 209
ذكر وفاة القائد بن حماد وولاية ابنه وقتله وولاية بلكين بن محمد 211
بقية أخبار المعز بن باديس 212
ذكر الحرب بين المعز والعرب وانتصار العرب عليه 214
ذكر انتقال المعز إلى المهدية ومحاصرة العرب القيروان واستيلائهم عليها 217
ذكر وفاة المعز بن باديس 218
ذكر ولاية تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن زيرى 219
ذكر خروج حمو عن طاعة الأمير تميم وحربه وانهزامه 219(24/428)
ذكر الحرب بين بنى حماد والعرب وانتصار العرب عليهم 220
ذكر بناء مدينة بجاية والسبب فيه 223
ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس 228
ذكر استيلاء مالك بن علوى الصخرى على القيروان وأخذها منه، وعودها إلى تميم 229
ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها 229
ذكر خبر شاه ملك التركى ودخوله إلى إفريقية وغدره بيحيى بن تميم 230
ذكر خلافة مثنى بن تميم على أبيه 232
ذكر ملك تميم مدينة قابس 233
ذكر وفاة تميم بن المعز 235
ذكر ولاية يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور يوسف بن زيرى 237
ذكر وفاة يحيى بن تميم وشىء من أخباره 239
ذكر ولاية على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن يوسف ابن زيرى 241
ذكر حصار رافع المهدية وانهزامه 243
ذكر ولاية الحسن بن على بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن يوسف بن زيرى 245
ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة 245
ذكر ملك الفرنج مدينة طرابلس 246
ذكر استيلاء الفرنج على مدينة المهدية وسفاقس وسوسة 247
ذكر انقراض دولة بنى زيرى من إفريقية وما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية 250
ذكر ما اتفق للحسن بن على بعد خروجه من المهدية 251
ذكر ابتداء دولة الملثمين وأخبارهم ومن ملك منهم 253
ذكر ولاية أبى بكر بن عمر اللمتونى 257
ذكر مقتل الجوهر الجدالى 258(24/429)
ذكر خروج الملثمين إلى السوس أولا وثانيا ومقتل عبد الله بن ياسين 259
ذكر استيلائه على مدينة سجلماسة 260
ذكر ولاية يوسف بن تاشفين 262
ذكر بناء مدينة مراكش 262
ذكر ما قيل فى سبب لثام المرابطين 263
نرجع إلى أخبار يوسف بن تاشفين 265
ذكر استيلائه على مدينة اغرناطة من جزيرة الأندلس 267
ذكر ملك أمير المسلمين جزيرة الأندلس 269
ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا عجيبا 271
ذكر ولاية أمير المسلمين من قبل الخليفة أمير المؤمنين المستظهر بالله 272
ذكر ولاية على بن يوسف بن تاشفين 273
ذكر محاربة الفرنج خذلهم الله تعالى وانهزامهم 273
ذكر الفتنة بقرطبة 274
ذكر ولاية تاشفين بن على بن يوسف بن تاشفين 276
اسحق بن على 276
ذكر ابتداء دولة الموحدين وأخبارهم وسبب ظهورهم 277
ذكر أخبار المهدى محمد بن تومرت 277
ذكر خبر أبى عبد الله الونشريسى 283
ذكر ترتيب أصحاب المهدى 287
ذكر حصار مراكش ووقعة البحيرة ومقتل أبى عبد الله الونشريسى 287
ذكر وفاة المهدى محمد بن تومرت 289
ذكر ولاية عبد المؤمن بن على 289
ذكر خروجه للغزو وما فتحه من البلاد ومن أطاعه من القبائل 290
ذكر استيلاء عبد المؤمن على تلمسان وفاس ومكناسة وسلاوسبته 294
ذكر ملك عبد المؤمن مراكش وقتله اسحق بن على وانقراض دولة الملثمين 296(24/430)
ذكر ظفره بدكالة 299
ذكر ملكه جزيرة الأندلس 300
ذكر حصار الفرنج مدينة قرطبة ورجوعهم عنها 301
ذكر ملكه مدينة بجاية وملك بنى حماد وانقراض دولتهم 302
ذكر ظفره بصنهاجة وملكه قلعة حماد 304
ذكر الحرب بين عبد المؤمن والعرب وظفر عساكر عبد المؤمن بهم 305
ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد بعد أبيه 307
ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد وأعماله 308
ذكر ملكه مدينة المرية من الفرنج وأغرناطة من الملثمين 309
ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وجميع بلاد إفريقية 310
ذكر ايقاع عبد المؤمن بالعرب 315
ذكر وفاة عبد المؤمن بن على وشىء من أخباره 318
ذكر ولاية أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن على 321
ذكر عصيان عمارة مع مفتاح بن عمرو وقتالهم وقتل مفتاح 322
ذكر غزوة الفرنج 324
ذكر ملك أبى يعقوب مدينة قفصة 325
ذكر وفاة أبى يعقوب يوسف 326
ذكر ولاية أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن 328
ذكر أخبار الملثمين وما ملكوه من إفريقية واستعادة ذلك منهم 328
ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين 331
ذكر غزوة الفرنج بالأندلس والوقعة الكبرى والثانية وحصر طليطلة 332
ذكر ما فعله الملثم بافريقية 336
ذكر وفاة أبى يوسف يعقوب 338
ذكر ولاية أبى عبد الله محمد بن أبى يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن على الملقب الناصر لدين الله 339
ذكر وفاة أبى عبد الله محمد وشىء من أخباره 343(24/431)
ذكر ولاية يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن على 343
ذكر وفاة يوسف بن محمد 345
ذكر ولاية أبى محمد عبد العزيز بن يوسف بن عبد المؤمن 345
جامع أخبار دولة الموحدين 349
ذكر تسمية ملوك بنى مرين 351
ذكر أخبار جزيرة صقلية 353
أول من غزا جزيرة صقلبة فى الإسلام 353
ذكر ولاية محمد بن أبى الحوارى 357
ذكر فتح مدينة بلرم 360
ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن الأغلب، وولاية العباس بن الفضل بن يعقوب 360
ذكر فتح قصريانة وهى دار مملكة الروم بجزيرة صقلية 361
ذكر ولاية حسن بن أحمد بن أبى خنزير 366
ذكر ولاية أبى سعيد موسى بن أحمد 367
ذكر ما فتح من بلاد قلورية 368
ذكر فتح قلعة طبرمين 370
ذكر فتح رمطة وما كان بسبب ذلك من حروب 370
ذكر وقعة الحفرة على رمطة 371
ذكر اخلاء طبرمين ورمطة 374
ذكر ولاية أبى القاسم نيابة عن أخيه أحمد واستقلاله 375
ذكر ولاية أبى الفتح يوسف الملقب بثقة الدولة 376
ذكر وثوب أهل صقلية بالأمير جعفر واخراجه 377
ذكر ولاية الأمير تأييد الدولة أحمد الأكحل 378
ذكر استيلاء الفرنج- خذلهم الله- على جزيرة صقلية 381
ذكر أخبار جزيرة اقريطش 384
ذكر تنصر أهل اقريطش 387
ذكر ما استولى عليه الفرنج- خذلهم الله من- البلاد الإسلامية بجزيرة الأندلس بعد أخذ طليطلة 388(24/432)
الباب السابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من الطالبيين فى الدولة الأموية والدولة العباسية فقتل دونها، وذلك بعد مقتل الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهما
ذكر ظهور زيد بن على بن الحسن ومقتله 401
ذكر مسير يحيى بن زيد بن على إلى خراسان ومقتله 408
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب 410
ذكر غلبته على فارس وأخذها منه وقتله 415
مراجع التحقيق 421(24/433)
الجزء الخامس والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
هذا هو الجزء الخامس والعشرون من نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويرى، يروعنا منه منهج المؤرخ النزيه، عفة في اللفظ وحيدة في الحكم ودقة في النقل، تلاحظ عفة اللفظ بخاصة وأنت تقارن لفظه وهو يتحدث عن القرمطة بلفظ غيره من المؤرخين الذين سبقوه دون استثناء، هذا بالإضافة إلى أسلوب في العرض فريد في زمنه، وإلى تضمّنه لنقول تبيّن عقائد وآراء عبثت بها الأساطير، نقلها عن الشريف محمد بن على العلوى المعروف بأخى محسن، وهو مؤرخ ضاعت- أو بتعبير أدق- لم يصلنا من كتبه إلا شىء يسير.
وهذا الجزء أيضا ثمرة لثلاث مخطوطات محفوظة بدار الكتب المصرية برقمى 549، 551 معارف عامة ورقم 699 تاريخ (الخزانة التيمورية) ، ولقد رمزت للأولى بحرف ك وللثانية بحرف اوللثالثة بحرف ت. أما المخطوطة ت فلولا ما فيها من سقط في مواضع مختلفة لكانت فائدتها محققة، أما المخطوطتان ك، افقد سبق لى أن تحدثت عنهما وأنا أقدم الجزء الثانى والعشرين، ويزيدنى هذا الجزء اقتناعا بأن المخطوطة ايتميز ناسخها بالدقة والأمانة في النقل، هذه الدقة(25/5)
فى النقل ورسم الحروف ثمرة عناية ناسخ يعمل للسلطان، ترى ذلك واضحا- على غلاف النصف الأول من هذا الجزء- بالقول قد وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم والخاقان المعظم مالك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان السلطان محمود، وقفا شرعيا لمن طالع وتبصّر واعتبر وتذكر أجزل الله تعالى لواءه وأوفره، حرره الفقير أحمد شيخ زادة المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين غفر لهما.
ومما هو جدير بالذكر، أنّه رغم هذا الوقف فقد تداولتها أيد بيعا وشراء، كما يتبين ذلك مما على غلافها، ومهما يكن من أمر هذا التداول فإنه لم يؤثر على المخطوطة تأثيرا يفسدها، وكل ما طرأ هو رغبة في تجليد ترتّب عليها تأثير المادة الملصقة على الصفحة الأولى، فذهبت أنصاف سطورها، وهو شىء يمكن تداركه بيسر.
وأخيرا أرجو أن أكون قد أديت واجبى، والله ولى التوفيق.
القاهرة في مايو سنة 1962 م د. محمد جابر الحينى(25/6)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
الباب السابع فى أخبار من نهض في طلب الخلافة من الطالبيين فى مدة الدولتين الأموية والعباسية
محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب وأخوه ابراهيم
ونحن نذكر سبب ظهورهما وما كان من أمرهما وما اتفق لأولاد الحسن رضى الله عنه بسبب ذلك، ثم نذكر ظهور محمد وما اتفق له.
إلى أن قتل، وظهور إبراهيم بعده، وما كان من خبره وحروبه ومقتله، وما يتصل بذلك فنقول:
كان سبب ظهورهما أنّ محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن «1» ابن على هذا، كان يدّعى أنّ أبا جعفر المنصور كان ممّن بايعه، لمّا تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة، عند اضطراب «2» .
أمر مروان بن محمد الحمار، فلما قامت الدولة العباسية وبويع السفاح، واتفق حج المنصور في سنة ست وثلاثين ومائة سأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله الحارثى: ما يهمك من أمرهما؟ أنا آتيك بهما،(25/7)
وكان معه بمكة، فردّه المنصور إلى المدينة، فلما استخلف المنصور لم يكن همّه إلا أمر محمد، والمسألة عنه وما يريد، فدعا بنى هاشم رجلا رجلا يسأل كل واحد سرا عنه، فكلهم يقول قد علم أنّك عرفته بطلب هذا الأمر، فهو يخافك على نفسه، وهو لا يريد لك خلافا، وما أشبه هذا الكلام، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» فإنّه أخبره خبره، وقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنّه لا ينام عنك، فأيقظ بكلامه «2» من لم ينم عنه، وزاده ذلك حرصا على طلبه، وشدة في طلبه، وكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد ذلك: اللهم اطلب حسن بن زيد «3» بدمائنا.
ثم ألحّ المنصور على عبد الله بن حسن في إحضار ابنه محمد سنة حج، فقال عبد الله لسليمان بن على بن عبد الله بن عبّاس: يا أخى بيننا من الصهر «4» والرحم ما تعلم، فما ترى؟ فقال سليمان: والله لكأنّى أنظر إلى أخى عبد الله بن على حين حال الستر «5» بيننا وبينه، وهو يشير إلينا، إن هذا الذى فعلتم بى، فلو كان المنصور عافيا عن أحد عفا عن عمّه، يشير إلى خبر المنصور لما حبس عمه عبد الله بن على،(25/8)
فقبل عبد الله بن حسن رأى «1» سليمان، وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه.
ثم شرع المنصور في إعمال الفكرة، والتوصل إلى أن يطلع على حقيقة خبر محمد بن عبد الله، وجعل عليه العيون والمراصد، وتوصل بكل طريق «2» ، حتى إنه اشترى رقيقا من رقيق الأعراب، وأعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الزود «3» ، وفرّقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضال فيسألون عنه؛ وبعث المنصور عينا وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم، وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله «4» بن حسن، [و] سأله عن ابنه محمد فكتم خبره، فتردّد إليه الرجل وألحّ في المسالة فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال له: أمرر بعلى بن حسن، الرجل الصالح الذى يدعى الأغرّ، وهو بذى الإبر، فهو يرشدك إليه، فأتاه فأرشده، وكان للمنصور كاتب على سرّه يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن حسن يخبره بخبر ذلك العين، فلما قدم الكتاب ارتاع له، وبعث إلى محمد ابنه وإلى على بن حسن يحذرهما الرجل، وأرسل بذلك أبا هبّار، فخرج أبو هبّار فنزل بعلى بن حسن وأخبره، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في(25/9)
موضعه الذى هو به، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه، وذلك العين معهم أعلاهم صوتا وأشدّهم انبساطا، فلما رأى أبا هبّار خافه، فقال أبو هبار لمحمد: إنّ لى حاجة، فقام معه فأخبره الخبر، قال: فما الرأى؟ قال: أرى إحدى ثلاث، قال: وما هى؟ قال:
تدعنى أقتل هذا الرجل، قال: ما أنا بمقارف دما إلا مكرها، قال:
أثقله حديدا، وتنقله معك حيث تنقّلت، قال: وهل بنا فراغ مع الخوف والإعجال «1» ؟ قال: تشدّه وتودعه عند بعض أهلك من جهينة قال: هذه إذن، فرجعا فلم يريا الرجل، فقال محمد: أين الرجل؟
قالوا: قام بركوة فيها ماء وتوارى، فطلبوه فلم يجدوه فكأنّ الأرض التأمت عليه، وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق، فمرّ به أعرابى معه حمولة إلى المدينة، فقال له: فرّغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها، ولك كذا وكذا ففعل، وحمله حتى أقدمه المدينة، ثم قدم على المنصور فأخبره الخبر كله، ونسى اسم أبى هبّار وكنيته، فقال: وبر «2» ، فكتب أبو جعفر في طلب وبر المرّى، فحمل إليه فسأله عن قصة محمد، فحلف أنه لا يعرف من ذلك شيئا، فأمر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات المنصور.
ثم أحضر المنصور عقبة بن سلم الأزدى، فقال له: إنى أريدك لأمر أنا به معنى، لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه، وإن كفيتنيه(25/10)
رفعتك؟ فقال: أرجو أن أصدق ظنّ أمير المؤمنين فيّ، قال: فاخف شخصك واستر أمرك، وأتنى يوم كذا وكذا في وقت كذا، فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إنّ بنى عمّنا قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم، فاخرج بكتبى وبمال وألطاف، حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية، ثم تعلم حالهم فإن كانوا نزعوا «1» عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متخشعا متقشفا، فإن جبهك- وهو فاعل- فاصبر وعاوده «2» ، حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته، فإذا ظهر لك ما قبله فعجّل إلىّ؛ فشخص عقبة حتى قدم على عبد الله بن حسن، فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم، فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به، فسأله عقبه الجواب فقال: أمّا الكتاب فإنّى لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابى إليهم، فأقرهم السلام وأعلمهم أنّ ابنىّ خارجان لوقت كذا وكذا، فرجع عقبة إلى المنصور وأعلمه الخبر، فأنشأ المنصور الحجّ، وقال لعقبة: إذا لقينى بنو حسن فيهم عبد الله بن حسن، فأنا مكرمه ورافع مجلسه وداع بالغذاء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما، فإنه سيصرف بصره عنك، فاستدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك، حتى يملأ عينه منك ثم حسبك، وإياك أن يراك ما دام يأكل؛ وخرج(25/11)
المنصور إلى الحج، فلما لقيه بنو حسن أجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ثم رفع، فأقبل المنصور على عبد الله بن حسن فقال له: قد علمت ما أعطيتنى من العهود والمواثيق ألا تبغينى سوءا.
ولا تكيد لى سلطانا، قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين، فلحظ.
المنصور عقبة بن سلم، فاستدار حتى وقف بين يدى عبد الله، فأعرض عنه، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملا عينه منه، فوثب حتى قعد بين يدى المنصور، وقال: أقلنى يا أمير المؤمنين أقالك الله، قال: لا أقالنى الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في بنى راسب، يدعو إلى نفسه، وقيل نزل على عبد الله بن شيبان- أحد بنى مرّة بن عبيد، ثم خرج منها، فبلغ المنصور مقدمه البصرة، فسار إليها مجدا «1» .
فلقيه عمرو بن عبيد «2» ، فقال له: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا، قال: لا، قال: فأقتصر على قولك وأنصرف؟
قال: نعم، وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور، فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابنى عبد الله، فخرجا حتى أتيا عدن، ثم صارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة.
وكان المنصور حجّ سنة أربعين ومائة، فقسم أموالا عظيمة في آل أبى طالب، فلم يظهر محمد وإبراهيم، فسأل أباهما عبد الله عنهما فقال: لا علم لى بهما، فتغالظا فأمصّه المنصور، فقال امصص كذا وكذا(25/12)
من أمك!! فقال عبد الله: يا أبا جعفر بأى أمهاتى نمصّنى!! أبفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أم بفاطمة بنت الحسين بن على؟! أم بأم إسحاق بنت طلحة؟! أم بخديجة بنت خويلد؟! قال لا بواحدة منهن، ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زهير، وهى امرأة من طيىء «1» ، فقال المسيّب بن زهير «2» : يا أمير المؤمنين دعنى أضرب عنق ابن الفاعلة، فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لى يا أمير المؤمنين، فأنا أستخرج لك ابنيه، فخلّصه.
وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيّبا حين حجّ المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة، وحجّا أيضا، فاجتمعوا كلهم بمكة وأرادوا اغتيال المنصور، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد: أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله عيلة أبدأ حتى أدعوه، فنقض «3» ما كانوا أجمعوا عليه، وكان قد دخل معهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان- اسمه خالد بن حسّان يدعى أبا العساكر- على ألف رجل، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب القائد فلم يظفر به، وظفر بأصحابه فقتلهم، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله فسيّره إلى خراسان، ومعه ابنه عبد الله بن محمد، ثم إن المنصور حث زياد بن عبيد الله على طلب محمد وإبراهيم، فضمن له ذلك ووعده به، فقدم محمد بن عبد الله المدينة قدمة، فبلغ ذلك زيادا فتلطّف له وأعطاه الأمان، على أن يظهر وجهه للناس، فوعده محمد ذلك، فركب(25/13)
زياد مغلسا ووعد محمدا سوق الظهر، وركب محمد فتصايح الناس: يا أهل المدينة، المهدىّ المهدىّ، فوقف هو وزياد فقال زياد: يا أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن حسن، ثم قال: إلحق بأى بلاد الله شئت، فتوارى محمد؛ وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة، وأمره: أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطّلب، وأن يقبض زيادا وأصحابه ويسير بهم إليه، فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره، وأخذ زيادا وأصحابه وسار بهم نحو المنصور، وخلّف زياد ببيت مال المدينة ثمانين ألف دينار، فسجنهم المنصور ثم منّ عليهم بعد ذلك.
واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده بالنفقة في طلبه، فقدم المدينة في شهر رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، فأخذ المال، ورفع فى محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطاه المنصور وأتهمه، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمدا، فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا السّعلاء «1» - رجلا من قيس عيلان- فى أمر محمد وأخيه، فقال: أرى أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بذحل «2» ، ويخرجونهما إليك، فقال: قاتلك الله، ما(25/14)
أجود ما رأيت!! والله ما خفى علىّ هذا، ولكنّى أعاهد الله ألّا أنتقم من بنى عمى وأهل بيتى بعدوّى وعدوّهم، ولكنّى أبعث عليهم صعيليكا من العرب يفعل بهم ما قلت، فاستشار يزيد بن أسيد «1» السّلمى، وقال له: دلّنى على فتى مقلّ من قيس أغنيه وأشرّفه، وأمكنه من سيد اليمن- يعنى ابن القسرى- «2» ، قال: نعم، رياح بن عثمان بن حيّان المرىّ، فسيّره المنصور أميرا على المدينة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة؛ وقيل إنّ رياحا ضمن للمنصور أن يخرج محمدا وإبراهيم ابنى عبد الله، إن استعمله على المدينة، فاستعمله عليها، فسار حتى دخلها، فلما دخل دار مروان، وهى التى كان ينزلها الأمراء قال لحاجب كان له، يقال له أبو البخترى، هذه دار مروان؟
قال: نعم، قال أما إنّها محلال «3» مظعان، ونحن أول من يظعن منها، فلما تفرّق الناس عنه قال لحاجبه أبى البخترى: خذ بيدى فدخل على هذا الشيخ- يعنى عبد الله بن الحسن- فدخلا عليه، فقال له رياح: أيها الشيخ، إن أمير المؤمنين- والله- ما استعملنى لرحم قريبة، ولا ليد سلفت إليه منّى، والله لا لعبت بى كما لعبت بزياد وابن القسرى، والله لأزهقنّ نفسك أو لتأتينّى بابنيك محمد وإبراهيم، فرفع عبد الله رأسه إليه وقال نعم، أما والله إنّك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة، قال، أبو البخترى:(25/15)
فانصرف- والله- رياح آخذا بيدى أجد برديده، وإنّ رجليه لتخطّان الأرض ممّا كلمه، قال: «1» فقلت له: إن هذا ما اطلع على الغيب، قال: إيها ويلك، فو الله ما قال إلا ما سمع، فذبح كما نذبح الشاة، ثم إنه دعا القسرى وسأله عن الأموال، فضربه وسجنه، وجدّ رياح في طلب محمد، فأخبر أنّه في شعب من شعاب رضوى، جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، فأمر عامله بطلب محمد.
فطلبه بالخيل والرجل، ففزع منه محمد فهرب راجلا فأفلت، وله ابن صغير ولد في خوفه ذلك، وهو مع جارية له. فسقط من الجبل فتقطع، فقال محمد:
منخرق السربال «2» يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
قال «3» : وبينا رياح يسير بالحرّة إذ لقى محمدا، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقى، فقال رياح: قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه «4» .(25/16)
ذكر حبس أولاد الحسن
قد ذكرنا أن المنصور حبس عبد الله بن حسن، وقيل إن رياحا هو الذى حبسهم، حكى عن على بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على أنه قال: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان ههنا من بنى حسن «1» فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة، وخرجوا من باب مروان، ثم قال: من كان ههنا من بنى حسن فليدخل، فدخلوا من باب المقصورة، ودخل الحدادون من باب «2» مروان، فدعا بالقيود فقيدهم وحبسهم، وكانوا: عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن على، وحسن وإبراهيم ابنى حسن، وحسن بن جعفر بن حسن ابن حسن «3» ، وسليمان وعبد الله ابنى داود بن حسن بن حسن، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بنى إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس ابن حسن بن حسن «4» ، فلما حبسهم لم يكن فيهم على بن حسن بن حسن بن على العابد، فلما كان الغد بعد الصبح وإذا برجل قد أقبل متلففا، فقال له رياح: مرحبا بك ما حاجتك؟ قال: جئتك لتحبسنى مع قومى، فإذا هو على بن حسن بن حسن، فحبسه معهم.
وكان محمد قد أرسل ابنه عليا إلى مصر يدعو إليه، فبلغ خبره(25/17)
عامل مصر، وقيل له إنّه على الوثوب بك، والقيام عليك بمن شايعه، فقبضه وأرسله إلى المنصور، فاعترف له وسمّى أصحاب أبيه، وكان فيمن سمّى عبد الرحمن بن أبى الموال «1» وأبو جبير «2» ، فضربهما المنصور وحبسهما وحبس عليا، فبقى محبوسا إلى أن مات؛ وكتب المنصور إلى رياح أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان المعروف بالديباج، وكان أخا عبد الله بن حسن بن حسن لأمه- أمهما جميعا فاطمة بنت الحسين بن على رضى الله عنهما؛ فأخذه معهم، وقيل إن المنصور حبس عبد الله بن حسن بن حسن بن على وحده وترك باقى أولاد حسن، فترك حسن بن حسن بن حسن خضابه حتى نصّل حزنا على أخيه عبد الله، فكان المنصور يقول: ما فعلت الحادّة؟ ومرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم بن حسن وهو يعلف إبلا فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس!! يا غلام- أطلق عقلها ففعل، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها بعير، فلما طال حبس عبد الله بن حسن قال عبد العزيز بن سعيد للمنصور:
أتطمع في خروج محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلّون؟! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد، فكان ذلك سبب حبس الباقين في سنة أربع وأربعين «3» .(25/18)
ذكر حملهم الى العراق
قال المؤرخ «1» : ولما حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة «2» ومالك بن أنس إلى بنى الحسن وهم في الحبس، يسألهم «3» أن يدفعوا إليه محمدا وإبراهيم ابنى عبد الله، فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلى فأبلغاهم الرسالة، فقال حسن بن حسن أخو عبد الله: هذا عمل ابنى المشئومة!! أما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملأ منّا ولا لنا فيه حيلة «4» فقال له أخوه إبراهيم: علام تؤذى أخاك في ابنيه؟! وتؤذى ابن أخيك في أمه؟! ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة، فقال:
والله، لا أرد عليكما حرفا، إن أحبّ أن يأذن لى فألقاه فليفعل، فانطلق الرسولان إلى المنصور فأبلغاه قوله، فقال: أراد أن يسحرنى لا والله لا ترى عينه عينى حنى «5» يأتينى بابنيه، وكان عبد الله بن حسن لا يحدّث أحدا قط إلا فتله «6» عن رأيه.
ثم سار المنصور لوجهه، فلما حجّ ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى(25/19)
الربذة، فخرج إليه رياح إلى الربذة فردّه إلى المدينة، وأمره بإشخاص بنى حسن إليه، ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بنى حسن لأمهم، فرجع رياح وأخذهم وسار بهم إلى الربذة، وجعلت القيود فى أرجلهم وأعناقهم، وجعلهم في محامل بغير وطاء، ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من خلف ستر يراهم ولا يرونه، وهو يبكى ودموعة تجرى على لحيته وهو يدعو الله، ثم قال: والله، لا تحفظ. لله حرمة بعد هؤلاء، ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك وقال لهما إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين، فلا يمنعكما أن تموتا كريمين، فلما وصلوا إلى الربذة أدخل محمد بن عبد الله العثمانى على المنصور، وعليه قميص وإزار رقيق، فلما وقف بين يديه قال: أيها باديوث، قال محمد: سبحان الله!! والله لقد عرفتنى بغير ذلك صغيرا وكبيرا، قال: فممّن حملت ابنتك رقيّة؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد أعطيتنى الأيمان ألّا تغشنى، ولا تمالىء علىّ عدوا، وأنت ترى ابنتك حاملا وزوجها غائب!! فأنت بين أن تكون حانثا أو ديوثا، وأيم الله إنى لأهمّ برجمها، قال محمد:
أما أيمانى فهى علىّ؛ إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية فإنّ الله قد أكرمها بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاها، ولكنى ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين(25/20)
غفلة منّا، فاغتاظ «1» المنصور من كلامه، وأمر بشق ثيابه «2» وإزاره «3» فبدت عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغ والمنصور يفترى عليه لا يكنّى «4» ، فأصاب سوط منها وجهه، فقال: ويحك!! اكفف عن وجهى، فإنّ له حرمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس، فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت، ثم أخرج وكأنه زنجى من الضرب، وكان من أحسن الناس، وكان يكنى الديباج لحسنه، فلما أخرج وثب إليه مولى له فقال: ألا أطرح ردائى عليك، قال: بلى جزيت خيرا، والله لشق إزارى أشدّ علىّ من الضرب. وكان سبب أخذه أنّ رياحا قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، أمّا أهل خراسان فشيعتك، وأمّا أهل العراق فشيعة آل أبى طالب، وأما أهل الشام فو الله ما علىّ عندهم إلا كافر، ولكن محمد بن عبد الله العثمانى لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد، فوقعت في نفس المنصور فأمر به فأخذ معهم، وكان حسن الرأى فيه قبل ذلك.
ثم إنّ أبا عون كتب إلى المنصور أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا «5»(25/21)
عنّى، وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله العثمانى، فأمر المنصور به فقتل، وأرسل رأسه إلى خراسان، وأرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله، وأنّ أمّه فاطمة بنت الحسين بن على، فلما قتل قال أخوه عبد الله بن الحسن: إنّا لله!! إن كنّا لنأمن به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا. قال: ثم سار بهم المنصور من الربذة فمرّ بهم وهو على بغلة شقراء، فناداه عبد الله بن حسن: يا أبا جعفر؛ ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر، فأخسأه «1» أبو جعفر وتغل عليه ومضى، فلما قدموا إلى الكوفة قال عبد الله لمن معه: ألا ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية!! قال:، فلقيه الحسن وعلىّ ابنا «2» حى مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا ابن رسول الله، فمرنا بالذى تريد، قال: قد قضيتما ما عليكما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئا فانصرفا، فانصرفا، ثم إن المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقىّ الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن حسن، وكان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصغر؟ قال: نعم، قال: لأقتلنّك قتلة لم أقتلها أحدا، ثم أمر به فبنى عليه أسطوانة وهو حىّ، فمات فيها، وهو أول من مات منهم، ثم عبد الله بن حسن، ثم مات على بن حسن؛ وقيل إن المنصور أمر بهم فقتلوا، وقيل بل أمر بهم فسقوا السمّ، وقيل وضع المنصور على عبد الله من قال له: إنّ ابنه محمدا قد خرج وقتل، فانصدع قلبه فمات والله أعلم، ولم ينج(25/22)
منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن «1» ، وبقيّتهم ماتوا في حبس المنصور.
ذكر ظهور محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن على بن أبى طالب
كان ظهوره بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل بل كان في رابع عشر رمضان منها. وكان سبب خروجه أن المنصور لما حمل أهله إلى العراق، وسار من الربذة، ردّ رياحا إلى المدينة أميرا عليها، فألحّ في طلب محمد، وأرهقه الطلب يوما فتدلى في بئر في المدينة، يناول أصحابه الماء، وانغمس في الماء إلى حلقه، وكان بدنه لا يخفى لعظمه، وبلغ رياحا خبره أنه بالمذاد، فركب نحوه في جنده، فتنحّى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنيّة، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان، فلما اشتد الطلب على محمد خرج قبل وقته، وكان قد واعد أخاه إبراهيم أنّه يخرج لوقت عيّنه بالمدينة، ويخرج إبراهيم بالبصرة، وقيل بل خرج لميعاده مع أخيه، وإنما أخوه تأخر لجدرى لحقه.
وكان عبيد الله بن عمرو بن أبى ذؤيب «2» وعبد الحميد بن جعفر يقولون لمحمد بن عبد الله: ما تنتظر بالخروج؟ فو الله ما على هذه(25/23)
الأمة انتقام منك، اخرج ولو لوحدك «1» ، فحرّكه ذلك للخروج أيضا، وأتى رياحا الخبر: أنّ محمدا خارج الليلة، فأحضر محمد ابن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضى المدينة والعباس بن عبد الله ابن الحارث بن العباس وغيرهما عنده، فصمت طويلا ثم قال لهم:
يا أهل المدينة؛ أمير المؤمنين يطلب محمدا في شرق الأرض وغربها، وهو بين أظهركم، أقسم بالله: لئن خرج لأقتلنكم أجمعين، وقال لمحمد بن عمران: أنت قاضى أمير المؤمنين فادع عشيرتك، فجمع بنى زهرة فجاءوا في جمع كبير، فأجلسهم بالباب، وأرسل فأخذ نفرا من العلويين وغيرهم، فيهم: جعفر بن محمد بن على بن الحسين «2» ، وحسين بن على بن حسين بن على، وحسن بن على بن حسين بن على»
، ورجال من قريش فيهم: إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد، فبيناهم عنده إذ ظهر محمد فسمعوا التكبير، فقال ابن مسلم بن عقبة المرّى: أطعنى في هؤلاء واضرب أعناقهم، فقال له الحسين بن على بن الحسين بن على:
والله، ما ذاك إليك، إنّا لعلى السمع والطاعة، وأقبل محمد من المذاد فى مائة وخمسين رجلا في بنى سلمة تفاؤلا بالسلامة، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه، وممّن كان فيه محمد بن خالد بن عبد(25/24)
الله القسرى وابن أخيه النّذير بن يزيد ورزام «1» فأخرجهم، وجعل على الرجّالة خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير «2» ، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه: لا تقتلوا لا تقتلوا، فامتنع منهم رياح فدخلوا من باب المقصورة، وأخذوا رياحا أسيرا وأخاه عباسا وابن مسلم ابن عقبة المرّى، فحبسهم في دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية- عدوّ الله أبى جعفر؛ ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التى بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيرا للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال، أنا ربكم الأعلى، وإنّ أحقّ الناس بالقيام في هذا الأمر «3» أبناء المهاجرين والأنصار المواسين، اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك، وأمّنوا من أخفت، وأخافوا من أمّنت؛ اللهم فاحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا؛ أيها الناس: إنّى والله ما خرجت بين أظهركم، وأنتم عندى أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّى اخترتكم لنفسى، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا أخذ لى فيه البيعة.
وكان المنصور يكتب إلى محمد بن عبد الله على ألسن قواده،(25/25)
يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول هذا، ويقول: لو التقينا مال القوّاد كلهم إلىّ، واستولى محمد على المدينة.
واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومى، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدّراوردى، وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة؛ وقيل كان على شرطته عبد الحميد بن جعفر فعزله، وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز:
إن «1» كنت لأظنّك ستنصرنا وتقوم معنا، فاعتذر إليه وقال أفعل، ثم انسلّ منه وأتى مكة، ولم يتخلّف عن محمد أحد من وجوه الناس، إلا نفر منهم الضحّاك بن عثمان بن عبد الله بن حزام «2» ، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد، وأبو سلمة بن عبيد الله بن الله بن «3» عمر، وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير «4» .
وكان أهل المدينة «5» قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع(25/26)
محمد، وقالوا: إنّ في أعناقنا بيعة لأبى جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين؛ وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته، وأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وكان شيخا كبيرا، فدعاه إلى بيعته فقال: يا ابن أخى أنت والله مقتول فكيف أبايعك!! فارتدع الناس عنه قليلا، وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد، فأتت حمّادة ابنة معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله، وقالت له يا عم: إن إخوتى قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنّك إن قلت هذه المقالة ثبّطت الناس عنهم، فيقتل ابن خالى وإخوتى، فأبى إسماعيل إلا النهى عنه، فيقال إن حمّادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله «1» ابن إسماعيل، وقال: أتأمر بقتل أبى وتصلّى عليه!! فنحّاه الحرس وصلّى عليه محمد.
ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسرى في حبس رياح فأطلقه، قال محمد بن خالد: لما سمعت دعوة محمد الى دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد، مات أهله جوعا وعطشا، فانهض معى فإنما هى عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف، فأبى علىّ، فبينما أنا عنده إذ قال:
ما وجدنا من حرّ المتاع «2» شيئا أجود من شىء وجدناه عند ابن أبى(25/27)
فروة ختن أبى الخصيب «1» ، وكان انتهبه، قال، فقلت له: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع، فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه، فأخذنى محمد فحبسنى حتى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إياه «2» .
وكان رجل من آل أويس بن أبى سرح العامرى- عامر بن لؤى- اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لمّا ظهر محمد، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة «3» أيام، فقدم ليلا فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى علموا به فأدخلوه، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال: لا بدّلى منه، فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره، وأنّه قد طلب مشافهته فأذن له، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال:
قتلته والله؛ إن كنت صادقا، قال: أخبرنى من «4» معه؟ فسمّى له من معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فأدخله أبو جعفر بيتا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار- غلام عيسى ابن موسى يلى أمواله بالمدينة، فأخبره بأمر محمد وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسى فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك، وأمر له بتسعة آلاف درهم، لكل ليلة ألف درهم، وأشفق من محمد، فقال له الحارثى المنجّم: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه؟! فو الله لو ملك(25/28)
الأرض ما لبث إلا تسعين يوما، فأرسل المنصور إلى عمّه عبد الله بن على وهو محبوس: إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشر به علينا، وكان ذا رأى عندهم، فقال: إن المحبوس محبوس الرأى، فأرسل إليه المنصور: لو جاءنى حتى يضرب بابى ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك، فأعاد إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتى الكوفة، فاجثم «1» على أكبادهم فإنّهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه، أو أتاها من وجه من الوجوه، فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر إليك وكان بالرىّ، واكتب إلى أهل الشام فمرهم: أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد، فأحسن جوائزهم ووجّههم مع سلم، ففعل. وقيل أرسل المنصور إلى عبد الله إخوته يستشيرونه فى أمر محمد، وقال لهم: لا يعلم عبد الله أنّى أرسلتكم إليه، فلمّا دخلوا عليه قال: لأمر ما جئتم، ما جاء بكم جميعا وقد هجرتمونى جميعا؟! قالوا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشىء، فما الخبر؟ قالوا: خرج محمد بن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعا- يعنى المنصور؟ قالوا: لا ندرى والله، قال: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، وليعط الأجناد، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم.(25/29)
قال «1» : ولمّا ورد الخبر على المنصور بخروج محمد، كان قد خطّ مدينة بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع ابن عبيد الله بن عبد المدان «2» ، فقال له المنصور: إنّ محمدا قد خرج بالمدينة، فقال عبد الله: هلك والله وأهلك، خرج في غير عدد ولا رجال. حدّثنى سعيد بن عمر بن جعدة المخزومى قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفا فقال لى مروان «3» : من هذا الذى يقاتلنى؟
قلت: عبد الله بن على بن عبد الله بن العباس، قال: وددت والله أن على بن أبى طالب يقاتلنى مكانه، إن عليا وولده لاحظ لهم في هذا الأمر، وهذا رجل من بنى هاشم وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ريح الشام ونصر الشام، يا ابن جعدة: تدرى ما حملنى على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله «4» بعدى، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله، قال ابن جعدة: لا، قال: وجدت الذى يلى هذا الأمر عبد الله وعبيد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك فعقدت له، فاستخلفه المنصور على صحة ذلك فحلف له فسرّى عنه.(25/30)
قال: ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبى أيوب وعبد الملك:
هل من رجل تعرفانه بالرأى نجمع رأيه إلى رأينا؟ قالا بالكوفة:
بديل بن يحيى، وكان السفاح يشاوره، فأرسل إليه، وقال له:
إنّ محمدا قد ظهر بالمدينة! قال: فاشحن الأهواز بالجنود، قال:
إنّه إنما ظهر بالمدينة، قال: قد فهمت، وإنما الأهواز الباب الذى تؤتون منه، فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك، قال:
فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه، وشاور المنصور أيضا جعفر بن حنظلة البهرانى عند ظهور محمد قال: وجّه الجند إلى البصرة، قال:
انصرف عنّى حتى أرسل إليك، فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه، فقال له ذلك فقال: إياها خفت، بادره بالجنود، قال:
وكيف خفت البصرة؟ قال: لأن محمدا ظهر بالمدينة وليسوا أهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبى طالب، فلم يبق إلا البصرة.
ثم إن المنصور كتب إلى محمد بن عبد الله كتابا ابتدأه بأن قال:
بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)
«1» ، ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أؤمّنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج(25/31)
وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسى من أهل بيتك، وأن أؤمّن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شىء من أمرك، ثم لا أتبع أحدا منهم بشىء كان منه أبدا، فإن أردت أن تتوثّق لنفسك فوجّه من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به والسلام.
فكتب إليه محمد: بسم الله الرحمن الرحيم (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)
«1» ، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علىّ، فإن الحق حقنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر لنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا «2» ، فإن أبانا عليا كان الوصى، وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء، ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بنى هاشم بمثل الذى نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل- وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت عمرو «3» فى الجاهلية،(25/32)
وبنو بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاطمة في الإسلام- دونكم إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيّين محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ومن السّلف أوّلهم إسلاما على بن أبى طالب، ومن الازواج أفضلهم خديجة الطاهرة، وأوّل من صلى إلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، ومن المولودين فى الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرّتين، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدنى مرّتين، من قبل حسن وحسين، وإنى أوسط بنى هاشم نسبا، وأصرحهم أما وأبا «1» ، لم تعرّق فيّ العجمة، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد، فما زال يختار لى الآباء والأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لى في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذابا في النار، فلك ذمّة الله علىّ، إن دخلت في طاعتى، وأجبت دعوتى، أن أؤمّنك على نفسك ومالك، وعلى كل حدث «2» أحدثته، إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمنى من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتنى من الأمان والعهد ما أعطيته رجالا قبلى، فأى الأمانات تعطينى؟ أمان ابن هبيرة!! أم أمان عمّك عبد الله بن على!! أم أمان أبى مسلم!! فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب الموريانى: دعنى(25/33)
أجبه عنه، قال: لا، إذا تقارعنا على الأحساب دعنى وإياه، ثم كتب إليه المنصور:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغنى كلامك، وقرأت كتابك فإذا جل فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة «1» والأولياء، لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختار الله لهن على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأولى من يدخل الجنة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما قضى فيهم «2» واصطفائه لهم؛ وأمّا ما ذكرت من فاطمة أم أبى طالب وولادتها، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام، لا بنتا ولا ابنا، ولو أن رجلا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله، ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، لكنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله عز وجل (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
«3» ، ولقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)
«4» ، فأنذرهم ودعاهم فأجاب اثنان أحدهما أبى، وأبى اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه، فلم يجعل بينه وبينهما إلّا ولا ذمة ولا ميراثا؛ وزعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار، وليس(25/34)
فى الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغى لمؤمن- يؤمن بالله- أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
«1» ؛ وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين، وأن النبىّ ولدك مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة؛ وزعمت أنك أوسط بنى هاشم نسبا وأصرحهم أما وأبا، وأنه لم تلدك العجم، ولم تعرّق «2» فيك أمّهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا!! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك- نفسا وأبا وأوّلا وآخرا «3» - إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خيار بنى أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمّهات الأولاد، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من على بن حسين، وهو لأم ولد ولهو خير من جدّك حسن بن حسن «4» ، وما كان فيكم بعده مثل محمد بن على، وجدّته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أم ولد، وهو خير منك؛ وأما قولك إنكم بنو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقول في كتابه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ... )
«5» ،(25/35)
ولكنكم بنو ابنته وإنها لقرابة قريبة، ولكنّها لا تجوّز الميراث ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة فكيف يورّث بها، ولقد طلبها أبوك بكل وجه، فأخرج فاطمة رضى الله عنها نهارا، ومرّضها سرا ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا الشيخين، ولقد جاءت السنة التى لا اختلاف فيها بين المسلمين: أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورّثون؛ وأمّا ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد رجل فلم يأخذوه «1» ، وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعا له «2» ، ولم يروا له حقا فيها؛ وأما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته وأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضى بهما، وأعطاهما عهد الله وميثاقه «3» ، فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير حله «4» ، فإن كان لكم فيها شىء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه، حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛(25/36)
ثم خرجتم على بنى أمية، فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوكم بلا وطاء فى المحامل، كالسبى المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم وطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنّينا سلفكم وفضّلناه فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له، على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّما منهم مجتمعا عليهم بالفضل، وابتلى أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا عليهم «1» وذكرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة، فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا يأبينا، حتى نعشهم «2» الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بنى عبد المطلب بعد النبى صلى الله عليه وسلم غيره، فكانت وراثته من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم، فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبى صلى الله عليه وسلم له، والخلافة في(25/37)
ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام- فى دنيا ولا آخرة- إلا والعباس وارثه ومورّثه. أمّا ما ذكرت من بدر فإنّ الاسلام جاء، والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التى أصابته، ولولا أن العبّاس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا، وللحسا جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين، فأذهب عنكم العار والسّبة، وكفاكم النفقة والمؤونة، ثم فدا عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
وكان محمد قد استعمل الحسن «1» بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى ابن عبد الله على الشام، فأما الحسن والقاسم فسارا إلى مكة، فخرج إليها السرىّ بن عبد الله، عامل المنصور على مكة، فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه، ودخل الحسن «2» مكة وأقام بها يسيرا، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه، ويخبره بمسير عيسى ابن موسى إليه ليحاربه، فسار إليه من مكة هو والقاسم، فبلغه بنواحى قديد قتل محمد، فهرب هو وأصحابه وتفرّقوا، فلحق الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم، واختفى القاسم بالمدينة(25/38)
حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر امرأة عيسى الأمان له ولإخوته معاوية وغيره، وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسرى، فانسل منه رزام بتيماء، وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسرى، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك فحبس محمد القسرى، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء ردّ غليه وغلظة، فكتب إلى محمد:
أخبرك أنى لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولا الذى قال:
والله لقد مللنا البلاء، وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا أو أمسينا من غد ليرفعنّ أمرنا؛ فكتبت إليك، وقد غيّبت وجهى، وخفت على نفسى.
ثم رجع إلى المدينة، وقيل أتى البصرة، وأرسل صاحبا له يشترى له طعاما فاشتراه، وجاء به على حمّال أسود، فأدخله الدار التى سكنها وخرج، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار، وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه فحملوا إلى محمد بن سليمان بن على بن عبد الله بن العباس، فلما رأى موسى قال: لا قرّب الله قرابتكم، ولا حيّا وجوهكم، تركت البلاد كلها إلا بلدا أنا فيه!! فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين، وإن أطعته قطعت أرحامكم، ثم أرسلهم إلى المنصور، فأمر بضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط فلم يتأوّها، فقال المنصور: عذرت أهل الباطل في صبرهم، فما بال هؤلاء!! فقال موسى: أهل الحق أولى بالصبر، ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا.(25/39)
ذكر مسير عيسى بن موسى لقتال محمد بن عبد الله بن حسن وقتل محمد
قال «1» : ثم إن المنصور أحضر ابن اخيه عيسى بن موسى بن محمد ابن على بن عبد الله بن عباس، وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد ابن عبد الله بن حسن، فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين، قال: فأين قول ابن هرمة:
نزور امرأ لا يمخض القوم سرّه ... ولا ينتجى الأدنين فيما يحلول
إذا ما أتى شيئا مضى كالذى أتى ... وإن قال إنى فاعل فهو فاعل
فقال المنصور: أمض أيها الرجل- فو الله ما يراد غيرى وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا، فسار وسيّر معه الجنود، وكان عيسى ولى عهد المنصور إذ ذاك؛ فقال المنصور حين سار عيسى:
لا أبالى أيهما قتل صاحبه؛ وبعث معه محمد بن أبى العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدى، وحميد بن قحبطة، وهزار مرد وغيرهم، وقال له المنصور حين ودّعه: يا عيسى، إنّى أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى ما بين جنبيه «2» ، فإن ظفرت بالرجل فاغمد سيفك، وابذل الأمان، وإن تغيّب فضمنهم إياه فإنّهم يعرفون مذاهبه، ومن لقيك من آل أبى طالب، فاكتب إلىّ باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله، وكان جعفر الصادق تغيّب عنه، فقبض ماله، فلما قدم المنصور(25/40)
المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديّكم، فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق الحرير، منهم عبد العزيز ابن المطلب المخزومى، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحى، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب، يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر «1» بن محمد ابن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل فأتوا عيسى.
قال: ولما بلغ محمدا قرب عيسى من المدينة، استشار أصحابه فى الخروج من المدينة والمقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وبعضهم بالمقام بها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتنى في درع حصينة فأوّلتها المدينة، فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس- رئيس سليم- يا أمير المؤمنين: نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقه لمّا أعلمه الله به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقة، وأن الذين نخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم؛ فقال له أحد بنى شجاع: خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد أنت به، وتريد أن تدع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيك!! قال:
إنه والله- يا ابن شجاع- ما شىء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شىء أحبّ إلينا من مناجزتهم، فقال محمد: إنما اتبعنا(25/41)
فى الخندق أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يردّنى أحد عنه فلست بتاركه، فأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق «1» ، الذى حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم للأحزاب، وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق:
ألا يخرج منهم أحد، ثم خطبهم فقال:
إنّ عدوّ الله وعدوّكم قد نزل الأعوص، وإنّ أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنّا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوّكم في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده، وأنّه قد بدا لى أن آذن لكم، فمن أحبّ منكم أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن؛ فخرج عالم كثير، وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقى محمد في شرذمة يسيرة «2» ، فأمر أبا القلمّس بردّ من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم فتركهم.
قال: وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى بن موسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإنى أخاف إن كشفوكم كشفة «3» أن يدخلوا عسكركم، فتأخّروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهو على أربعة أميال من المدينة، وقال: ولا يهرول الراجل أكثر من(25/42)
ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل، وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر- على ستة أميال من المدينة- فأقاموا بها، وقال:
أخاف أن ينهزم محمد فيأتى مكة، فيردّه هؤلاء، فكانوا بها حتى قتل محمد، وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور أمّنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا، إن لك برسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة قريبة، وإنى أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيّه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإنى والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله: فتكون شر قتيل، أو تقتله «1» فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال؛ وقال محمد للرسول: علام تقتلونى؟ وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل، قال: إن القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك، على ما قاتل عليه خير آبائك طلحة والزبير، على نكث بيعتهم وكيد ملكه.
قال، ونزل عيسى بالجرف لاثنتى عشرة خلت من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وذلك يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الإثنين فوقف على سلع، فنظر إلى المدينة ومن فيها، ونادى يا أهل المدينة: إن الله تعالى حرّم دماء بعضنا على بعض، فهلمّوا إلى الأمان، فمن قام تحت رايتنا فهو آمن «2» ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن،(25/43)
خلوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا وإمّا له. فشتموه فانصرف من يومه وعاد من الغد، وقد فرّق القوّاد من سائر جهات المدينة، وأخلى ناحية مسجد أبى الجرّاح وهو على بطحان، أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه ورايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد، فبرز أبو القلمّس وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد، فاقتتلوا طويلا فقتله أبو القلمّس، وبرز إليه آخر فقتله، وقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرا من ألف فاروق، وقاتل محمد يومئذ قتالا عظيما، فقتل بيده سبعين رجلا، وأمر عيسى حميد بن قحبطة فتقدم في مائة «1» كلهم راجل سواه، فزحفوا حتى بلغوا جدارا دون الخندق، عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق، ونصب عليه أبوابا وعبر هو وأصحابه عليها، فجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه أشد قتال من بكرة النهار إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقايب وغيرها في الخندق، وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانصرف محمد فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبى أنت وأمّى، والله مالك بما ترى طاقة أتيت الحسن بن معاوية بمكة فإنّ معه جلّ أصحابك!! فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت منى في سعة فاذهب حيث شئت، فمشى معه قليلا ثم رجع عنه، وتفرّق عنه جل أصحابه، حتى بقى في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، فقال بعض أصحابه: نحن اليوم بعدة(25/44)
أهل بدر؛ وصلّى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده: إلا ذهب إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: لا والله لا تبتلون بى مرّتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت، فقال ابن خضير: وأين المذهب عنك!؟ ثم مضى فأحرق الديوان، الذى فيه أسماء من بايعهم، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان، وقتل ابن مسلم بن عقبة المرسى، ومضى إلى محمد بن خالد القسرى وهو محبوس ليقتله فعلم به، فردم الأبواب دونه فلم يقدر على قتله، وكان محمد بن عبد الله قد حبس محمد بن خالد بعد ما أطلقه، ورجع عيسى بن خضير إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل، وتقدّم حميد بن قحطبة، وتقدّم محمد بن عبد الله فلما صار ببطن مسيل سلع عرقب فرسه، وعرقب بنو شجاع الجهنيون «1» دوابّهم، ولم يبق أحد منهم إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتمونى ولست بارحا حتى أقتل، فمن أحبّ أن ينصرف فقد أذنت له، واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى بن موسى مرّتين أو ثلاثا، فقال يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر «2» : ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال!! وصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع، وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس «3»(25/45)
بخمار أسود فرفع على منارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد بن عبد الله: دخلت المدينة فهربوا، فقال يزيد:
لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤنى إلا منه!! - يعنى سلعا، وفتح بنو أبى عمرو الغفاريّون طريقا في بنى غفار لأصحاب عيسى، فدخلوا منه أيضا وجاءوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: أبرز إلىّ فأنا محمد بن عبد الله، فقال حميد:
قد عرفتك، وأنت الشريف ابن الشريف، الكريم ابن الكريم، والله، لا أبرز إليك وبين يدىّ من هؤلاء الأغمار واحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك، وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان، وابن خضير يحمل على الناس راجلا، لا يصفى إلى أمانه وهو يأخذهم بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على إليته فحلها، فرجع إلى أصحابه فشدّها بثوب، ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص «1» السيف، وسقط فابندروه فقتلوه وأخذوا رأسه، وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه، فلما قتل تقدّم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهدّ الناس هدا، وكان أشبه الناس بقتال حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، ولم يزل محمد يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وجعل يذبّ عن نفسه، ويقول: ويحكم ابن نبيّكم مجرّح مظلوم، فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فأخذ رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء؛ وقيل إن عيسى بن موسى اتّهم حميد بن قحطبة وكان على الخيل، فقال(25/46)
له: ما أراك تبالغ!! فقال له: اتتهمنى!! فو الله لأضربنّ محمدا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه، قال: فمرّ به وهو مقتول فضربه ليبرّ يمينه، وقيل بل رمى بسهم وهو يقاتل، فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار، سيف على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقيل بل أعطاه رجلا من التجار، كان معه وله عليه «1» أربعمائة دينار، وقال خذه فإنّك لا تلقى أحدا من آل أبى طالب إلا أخذه وأعطاك حقّك، فلم يزل عنده حتى ولى جعفر بن سليمان المدينة، فأخبر به فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار، ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدى، ثم صار إلى الهادى فجرّبه فى كلب فانقطع السيف؛ وقيل بل بقى إلى أيام الرشيد، وكان يتقلّده وكان به ثمانى عشرة فقارة.
قال: ولما أتى عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه؟
فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم ما لهذا قاتلناه، ولكنّه خالف أمير المؤمنين، وشقّ عصا المسلمين، وإن كان لصوّاما قوّاما فسكتوا.
وأرسل عيسى بن موسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبى الكرام بن عبد الله بن على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وأرسل معه رؤوس بنى شجاع، فأمر المنصور برأس محمد فطيف به في الكوفة وسيّره إلى الآفاق. قال: ولمّا رأى المنصور رؤوس بنى شجاع قال: هكذا فليكن الناس! طلبت محمدا فاشتمل عليه(25/47)
هؤلاء، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا. وكان مقتل محمد وأصحابه يوم الاثنين بعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان خمس وأربعين ومائة.
قال «1» : وكان المنصور قد بلعه أن عيسى بن موسى قد هزم، فقال: كلا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟
ما أتى «2» لذلك بعد. ثم بلغه أنّ محمدا هرب، فقال: كلّا، إنّا أهل بيت لا نفرّ، فجاءته بعد ذلك الرؤوس. قال: ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب عنده، فلما رأى الرأس عظم عليه وتجلّد خوفا من المنصور، فالتفت المنصور إليه وقال: أهو هو؟ قال: نعم، ولوددت أن الله تعالى قاده إلى طاعتك، ولم تكن فعلت به كذا، قال: وأنا وإلّا فأم موسى طالق، ولكنه أراد قتلنا فكانت نفسنا أكرم علينا من نفسه.
قال: وأرسل عيسى بن موسى ألوية فنصبت في مواضع بالمدينة، ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن؛ وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفّين، ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قوم من الليل فواروه سرا، وبقى الآخرون ثلاثا، ثم أمر بهم عيسى فألقوا في مقابر اليهود، ثم ألقوا بعد ذلك في خندق ذباب، فأرسلت زينب بنت عبد الله،(25/48)
أخت محمد- وابنته «1» فاطمة إلى عيسى: إنّكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه، فلو أذنتم لنا في دفنه!! فأذن لهما فدفن بالبقيع. قال: وقطع المنصور الميرة عن المدينة في البحر، ثم أذن فيها المهدى.
قال: ورد الخبر بقتل محمد بن عبد الله على أخيه إبراهيم بالبصرة يوم العيد، وكان إبراهيم قد استولى على البصرة، فخرج فصلى بالناس، ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه.
قال: وكان محمد بن عبد الله بن حسن أسمر شديد السمرة سمينا شجاعا كثير الصوم والصلاة شديد القوّة رحمه الله تعالى. قال:
وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال: فتنة يقتل فيها محمد، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق، وحوافر فرسه في ماء. قال: وقال محمد بن عبد الله لعبد الله بن عامر السّلمى: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمى عند أحجار الزيت، قال:
فو الله لقد أطلّتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزتنا إلى عيسى وأصحابة فظفروا، وقتلوا محمدا ورأيت دمه عند أحجار الزيت، وكان محمد بلقّب المهدى رحمه الله.(25/49)
ذكر تسمية المشهورين ممن كان مع محمد بن عبد الله بن حسن
كان معه من بنى هاشم أخوه موسى بن عبد الله بن حسن، وحسين «1» وعلى ابنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب؛ ولمّا بلغ المنصور أن ابنى زيد أعانا محمدا عليه قال: عجبا لهما!! قد خرجا علىّ وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه وأحرقناه كما أحرقه؛ وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن على بن الحسين، وعلى وزيد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، وكان أبوهما مع المنصور، والحسن «2» ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، والمرجّى على بن جعفر بن إسحاق بن على بن عبد الله بن جعفر، وكان أبوه مع المنصور «3» ؛ وكان معه من غيرهم:
محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العاص، ومحمد بن عجلان، وعبد الله «4» بن عمر بن حفص بن عاصم أخذ أسيرا، فأتى به المنصور فقال له: أنت الخارج علىّ؟ قال: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد، وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن(25/50)
أبى سبرة، وعبد الواحد بن أبى عون- مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر ابن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدّراوردى، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب، مولى بنى سباع، وإبراهيم وإسحاق وربيعة «1» وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء، وعيسى بن خضير وعثمان بن خضير، وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير هرب بعد مقتل محمد، فأتى البصرة فأخذ منها وأتى به المنصور، فقال له:
هيه يا عثمان، أنت الخارج علىّ مع محمد!! قال: بايعته أنا وأنت بمكة، فوفيت ببيعتى وغدرت ببيعتك، قال: يا ابن اللخناء، قال:
ذاك من قامت عنه الاماء يعنى المنصور، فأمر به فقتل، وكان مع مجمد عبد العزيز بن عبد الله «2» بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخذ أسيرا فأطلقه المنصور؛ وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطبع؛ وعلى بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب؛ وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير؛ وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدى بن الخيار، وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم.(25/51)
ذكر ظهور ابراهيم بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب أخى محمد
كان ظهوره بالبصرة في أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلب، فحكت جارية له أنّهم لم تقرّهم أرض خمس سنين، مرة بفارس، ومرة بكرمان، ومرة بالجبل، ومرة بالحجاز، ومرة باليمن، ومرة بالشام، ثم إنّه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه، فحكى إبراهيم عن نفسه قال: اضطرّنى الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور، ثم خرجت وقد كفّ الطلب، وكان قوم من أهل العسكر يتشيّعون، فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم عليهم ليثبوا بالمنصور فقدم عسكر أبى جعفر وهو ببغداد وقد خطّها، وكانت له مرآة ينظر فيها، فيرى عدوّه من صديقه، فنظر فيها فقال: يا مسيّب قد رأيت إبراهيم في عسكرى، وما في الأرض أعدى لى منه، فانظر أىّ رجل يكون؟ ثم إنّ المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، فخرج إبراهيم ينظر إليها مع الناس، فوقعت عليه عين المنصور، فجلس إبراهيم وذهب في الناس، فأتى فاميا فلجأ إليه فأصعده غرفة له، وجدّ المنصور فى طلبه ووضع الرصد بكل مكان، فثبت «1» إبراهيم مكانه، فقال له صاحبه سفيان بن حيّان العمىّ «2» : قد نزل بنا ما ترى، ولا بد(25/52)
من المخاطرة، قال: فأنت وذاك، فأقبل سفيان إلى الربيع، فسأله الإذن على المنصور فأدخله إليه، فلمّا رآه شتمه فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أنى أتيتك تائبا ولك عندى كلّ ما تحبّ، وأنا آتيك بإبراهيم بن عبد الله، إنّى قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيرا، فاكتب لى جوازا ولغلام معى، واحملنى على البريد ووجّه معى جندا، فكتب له جوازا ودفع إليه جندا، وقال له: هذه ألف دينار «1» فاستعن بها، قال: لا حاجة لى فيها، فأخذ منها ثلاثمائة دينار، وأقبل والجند معه فدخل البيت على إبراهيم، وعلى إبراهيم جبة صوف وقباء كأقبية الغلمان، فصاح به فوثب فجعل يأمره وينهاه، وسار على البريد، وقيل لم يركب البريد، وسار حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع جوازه إليه، فلما جازها قال له الموكّل بالقنطرة: ما هذا غلام وإنّه لإبراهيم بن عبد الله، اذهب راشدا فأطلقهما، فركبوا سفينة حتى قدموا البصرة، فجعل يأتى بالجند الدار لها بابان، فيقعد البعض منهم على أحد البابين، ويقول:
لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرّق الجند عن نفسه وبقى وحده، وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أمير البصرة، فأرسل إلى الجند فجمعهم، وطلب العمىّ فأعجزه وكان إبراهيم قد قدم الأهواز قبل ذلك فاختفى عند الحسن بن حبيب «2» ،(25/53)
وكان محمد بن حصين يطلبه، فقال يوما: إنّ أمير المؤمنين كتب إلى يخبرنى أن المنجّمين أخبروه: أنّ إبراهيم نازل بالأهواز، وهو في جزيرة بين نهرين، وقد طلبته في الجزيرة وليس هناك، وقد عزمت أن أطلبه غدا بالمدينة، لعلّ أمير المؤمنين يعنى بقوله- بين نهرين- بين دجيل والمسرقان، فرجع الحسن بن حبيب إلى إبراهيم فأخبره، وأخرجه إلى ظاهر البلد، ولم يطلبه محمد ذلك اليوم، فلما كان آخر النهار خرج الحسن إلى إبراهيم، فأدخله البلد وهما على حمارين وقت العشاء الآخرة، فلحقه أوائل خيل ابن الحصين، فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول، فسأل ابن الحصين الحسن بن حبيب عن مجيئه، فقال: جئت من عند بعض أهلى، فمضى وتركه، ورجع الحسن إلى إبراهيم فأركبه وأدخله إلى منزله، فقال له إبراهيم: والله لقد بلت دما، فأتيت الموضع فرأيته وقد بال دما، ثم إن إبراهيم قدم البصرة، قيل قدمها في سنة خمس وأربعين ومائة، بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة، وقيل قدمها فى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وكان الذى أقدمه وتولى أمره- فى قول بعضهم- يحيى بن زياد بن حيان «1» النبطى، وأنزله في داره في بنى ليث، وقيل نزل في دار أبى فروة، ودعا الناس إلى بيعة أخيه، وكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة العبشمى، وعفو الله بن سفيان،(25/54)
وعبد الواحد بن زياد، وعمرو «1» بن سلمة الهجيمى، وعبد الله «2» ابن يحيى بن حصين الرّقاشى، وندبوا الناس، فأجابهم المغيرة بن الفزع «3» وأشباه له، وأجابه أيضا عيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ، وعبّاد بن العوّام، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومعاوية بن هشيم ابن «4» بشير، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف، وشهر أمره فقالوا له: لو كنت تحوّلت إلى وسط البصرة، أتاك الناس وهم مستريحون، فتحوّل فنزل دار أبى مروان- مولى بنى سليم- فى مقبرة بنى يشكر.
وكان سفيان بن معاوية- أمير البصرة- قد مالأ على أمره، ولما ظهر أخوة محمد كتب إليه يأمره بالظهور، فوجم لذلك واغتمّ، فجعل بعض أصحابه يسهّل عليه دلك، وقال له: قد اجتمع لك عالم من الناس، فطابت نفسه، وكان المنصور بظاهر الكوفة في قلة من العساكر، وقد أرسل ثلاثة من القوّاد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة مددا له، ليكونوا عونا له على إبراهيم، إن ظهر، فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه، فجمع القوّاد عنده، وظهر إبراهيم أول شهر(25/55)
رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغنم دوابّ أولئك الجند، وصلّى بالناس الصبح بالجامع، وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصنا، فحضره فطلب سفيان منه الأمان، فأمّنه إبراهيم ودخل إلى الدار، ففرشوا له حصيرا فهبّت الريح فقلبته قبل أن يجلس، فتطيّر الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطيّر وجلس عليه مقلوبا، وحبس القوّاد وحبس أيضا سفيان بن معاوية في القصر وقيّده بقيد خفيف، ليعلم المنصور أنه محبوس، وبلغ جعفرا ومحمدا، ابنى سليمان بن على ظهور إبراهيم، فأتيا في ستمائة رجل، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء ابن القاسم الجزرى في خمسين رجلا فهزمهما، ونادى منادى إبراهيم:
لا يتبع منهزم ولا يذفف «1» على جريح، ومضى إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن على بن عبد الله بن العباس؛ وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى بالأمان وألّا يعرض لهم أحد، فصفت له البصرة ووجد في بيت ما لها ألفى ألف درهم، فقوى بذلك وفرض لأصحابه لكل رجل خمسين درهما.
فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز، فبلغها في مائتى رجل، وكان فيها محمد بن الحصين عاملا للمنصور، فخرج إليه في أربعة آلاف فالتقوا، فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز؛ وقيل إنّما سيّر إبراهيم المغيرة إلى الأهواز بعد مسيره من البصرة إلى باخمرى، وسيّر إبراهيم إلى فارس عمرو بن سدّاد، فقدمها وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا على بن عبد الله بن العباس، فبلغهما دنو(25/56)
عمرو- وهما باصطخر- فقصدا دار بجرد فتحصّنا بها، فصارت فارس في يد عمرو، وأرسل إبراهيم، هارون بن سعد «1» العجلىّ في سبعة عشر ألفا إلى واسط، وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل المنصور- فملكها العجلىّ، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلىّ «2» فى خمسة، آلاف وقيل في عشرين ألفا، وكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب، حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور، فلما قتل إبراهيم هرب هارون بن «3» سعد عنها، واختفى حتى مات.
قال: ولم يزل إبراهيم بالبصرة، يفرّق العمّال والجيوش حتى أتاه نعى أخيه محمد قبل الفطر بثلاثة أيام، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار، فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد، فازدادوا في قتال المنصور بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة نميلة، وخلف ابنه حسنا معه.
ذكر مسير ابراهيم ومقتله
قال: ثم عزم إبراهيم على المسير، فأشار عليه أصحابه البصريون أن يقيم ويرسل الجنود، فيكون، إذا انهزم لك جند أمددنهم بغيرهم، فخيف مكانك واتقاك عدوك، وجبيت الأموال وثبتت وطأتك، فقال من عنده من أهل الكوفة: إنّ بالكوفة أقواما لو رأوك ماتوا دونك،(25/57)
وإن لم يروك قعدت «1» بهم أسباب شى؛ فسار عن البصرة إلى الكوفة، وكان المنصور- لما بلغه ظهور إبراهيم- فى قلة من العسكر فقال: والله ما أدرى كيف أصنع!! ما في عسكرى إلا ألفا رجل، فرّقت جندى!! فمع المهدى بالرىّ ثلاثون ألفا، ومع محمد بن الأشعث بأفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله:
لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكرى ثلاثون ألفا، ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعا، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرة فتركها، وعاد وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الرىّ، فقال له المنصور: اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله- إنّهما جملا بنى هاشم المقتولان، فثق بما أقول، وضمّ إليه غيره من القوّاد.
وكتب إلى المهدى يأمره بانفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز، فسيّره فى أربعة آلاف فارس فوصلها، وقاتل المغيرة، فرجع المغيرة إلى البصرة، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثا، وتوالت على المنصور الفتوق: من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمداين والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل، ينتظرون به صيحة، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد:
وجعلت نفسى للرماح دريّة ... إن الرئيس بمثل ذاك فعول «2»(25/58)
ثم إن المنصور رمى كل ناحية بحجرها، وبقى على مصلّاه خمسين يوما، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة ملوّنة، قد «1» اتسخ جيبها، ما غيّرها ولا هجر المصلى، إلا أنه، إذا ظهر للناس لبس السواد، فإذا فارقهم رجع إلى هيئته، وأهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أمة «2» الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فلم ينظر إليهما، فقيل له: إنّهما قد ساءت ظنونهما، فقال: ليست هذه أيام نساء، ولا سبيل إليهما حتى أنظر: أرأس «3» إبراهيم لى أم رأسى له؟ قال الحجّاح بن قتيبة: لما تتابعت الفتوق على المنصور، دخلت مسلما عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس، وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بازاء عسكره، تنتظر صيحة واحدة فيثبون به؛ فرأيته أحوذيا «4» مشمرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها، فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنّه لكما قال الأوّل:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكا هماما(25/59)
ثم وجّه المنصور إلى إبراهيم، عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف، وقال له- لمّا ودّعه-:
إنّ هؤلاء الخبثاء- يعنى المنجّمين- يزعمون أنّك إذا لاقيت إبراهيم، تجول أصحابك جولة حين تلقاه، ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك.
قال: ولمّا سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلة في عسكره سرا، فسمع أصوات الطنابير، ثم فعل ذلك ليلة أخرى فسمعها أيضا، فقال:
ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا، وسمع وهو ينشد في طريقه أبيات القطامىّ:
أمور لو تدبّرها حليم ... إذا لنهى وهيّب ما استطاعا
ومعصية الشفيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتباعا
ولكنّ الأديم إذا تفرّى ... بلى وتعيّبا غلب الصّناعا
فعلموا أنّه نادم على مسيره، وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف، وقيل كان معه في طريقه عشرة آلاف، وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذى فيه عيسى بن موسى ويقصد الكوفة، فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه، ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان، فلم يفعل، وقيل له ليبيّت عيسى بن موسى، فقال: أكره البيات إلا بعد الإنذار، وقال له بعض أهل الكوفة: إئذن لى بالمسير إلى الكوفة، أدعو الناس سرا ثم أجهر، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة، لم يردّ وجهه شىء دون حلوان، فاستشار إبراهيم بشير الرحّال، فقال: لو وثقنا بالذى تقول لكان رأيا، ولكنّا لا نأمن أن(25/60)
تجيئك منهم طائفة، فيرسل إليهم المنصور الخيل، فيأخذ البرىء والصغير والمرأة، فيكون ذلك تعرّضا للمآثم، فقال الكوفى: كأنّكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتوقون قتل الضعيف والصغير والمرأة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سراياه، فيقاتل ويكون نحو هذا، فقال بشير: أولئك كفار وهؤلاء مسلمون، فاتّبع إبراهيم رأيه وسار حتى نزل باخمرا، وهى من الكوفة على ستة عشر فرسخا، مقابل عيسى بن موسى، فأرسل إليه سلم بن قتيبة يقول: إنك قد أصحرت «1» ، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من وجه واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه، فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم؟! لا والله لا نفعل؛ قال: فنأتى أبا جعفر، قالوا:
ولم وهو في أيدينا، متى أردناه؟! فقال إبراهيم للرسول: أتسمع، فارجع راشدا.
ثم إنّهم تصافوا، فصفّ إبراهيم أصحابه صفا واحدا، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، فإنّ الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى سائره، فقال الباقون: لا نصفّ إلا صفّ أهل الإسلام، يعنى قول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)
«2» ، ثم التقوا(25/61)
واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فلا يلوون عليه، وأقبل حميد منهزما فقال له عيسى: الله الله والطاعة، فقال لا طاعة فى الهزيمة، ومرّ الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير، فقيل له: لو تنحّيت عن مكانك حتى يثوب إليك الناس، فتكرّ بهم؟ فقال:
لا أزول عن مكانى هذا أبدا حتى أقتل أو يفتح الله على يدى، والله لا ينظر أهل بيتى إلى وجهى أبدا وقد انهزمت عن عدوّهم، وجعل يقول لمن يمرّ به: اقرأوا أهل بيتى السلام، وقولوا لهم لم أجد فداء أفديكم به أعزّ من نفسى، وقد بذلتها دونكم، فبينما هم كذلك لا يلوى أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان بن على من ظهور أصحاب إبراهيم، ولا يشعر باقى أصحابه الذين يتّبعون المنهزمين، حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم، فعطفوا نحوه ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، فلولا جعفر ومحمد لتمّت الهزيمة، وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم، فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة فعادوا بأجمعهم، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة، وقيل أربعمائة، فقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهم عائر «1» فوقع في حلقه فنحره، فتنحّى عن موقفه وقال: أنزلونى، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول: وكان(25/62)
أمر الله قدرأ مقدورأ، أردنا أمرا وأراد الله غيره، واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه:
شدّوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدّوا عليهم فقاتلوهم أشد القتال، حتى أفرجوهم عن إبراهيم وخلصوا إليه وحزّوا رأسه، فأتوا «1» به عيسى بن موسى، فأراه ابن أبى الكرام الجعفرىّ، فقال: نعم هو رأسه «2» ، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى المنصور، وكان مقتله يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذى القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وقيل كان سبب انهزام أصحاب إبراهيم، أنّهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم نادى منادى إبراهيم: ألا تتبعوا مدبرا فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنّوهم منهزمين، فعطفوا في آثارهم وكانت الهزيمة. قال: وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولا، فعزم على اتيان الرىّ، فأتاه نوبخت المنجّم فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيقتل إبراهيم فلم يقبل منه، فبينما هو كذلك إذ أتاه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فأقطع المنصور نوبخت ألفى جريب بنهر جوبر «3» ، وحمل رأس(25/63)
إبراهيم إلى المنصور، فوضع بين يديه فلما رآه بكى، حتى جرت دموعه على خد إبراهيم، ثم قال: أما والله إن كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بى وابتليت بك، ثم جلس مجلسا عاما وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم، ويسىء القول فيه ويذكر فيه القبيح، التماسا لرضا المنصور، والمنصور ممسك متغيّر لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهرانى، فوقف فسلّم ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرط فيه من حقك، فاستقرّ لون المنصور وأقبل عليه، وقال: مرحبا أبا خالد ههنا، فعلم الناس «1» أن ذلك يرضيه، فقالوا مثل قوله. قيل ولما وضع الرأس بين يدى المنصور بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد، فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد وأمر به فجروا برجله فألقوه خارج الباب.
قال: وممّا رثى به محمد بن عبد الله وأخوه إبراهيم قول عبد الله ابن مصعب بن ثابت:
يا صاحبىّ دعا الملامة واعلما ... أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبىّ فسلّما ... لا بأس أن تقفا به فتسلّما
قبر تضمّن خير أهل زمانه ... حسبا وطيب سجية وتكرّما
رجل نفى بالعدل جور بلاده ... وعفا عظيمات الأمور وأنعما(25/64)
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ... عنه ولم يفتح بفاحشة فما
لو أعظم الحدثان شيئا قبله ... بعد النبىّ به لكنت المعظما
أو كان أمتع بالسلامة قبله ... أحدا لكان قصاره أن يسلما
ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ... فتصرّمت أيامه وتصرّما
بطلا يخوض بنفسه غمراتها ... لا طائشا رعشا ولا مستسلما
حتى مضت فيه السيوف وربما ... كانت حتوفهم السيوف وربّما
أضحى بنو حسن أبيح حريمهم ... فينا وأصبح نهبهم متقسّما
ونساؤهم في دورهنّ نوائح ... سجع الحمام إذا الحمام ترنّما
يتوسّلون بقتلهم ويرونه ... شرفا لهم عند الامام ومغنما
والله لو شهد النبىّ محمد ... صلّى الإله على النبىّ وسلّما
إشراع أمّته الأسنّة لابنه ... حتى تقطر من ظباتهم دما
حقا لأيقن أنّهم قد ضيّعوا ... تلك القرابة واستحلّوا المحرما
هذا ما كان من أخبار محمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم رحمهما الله تعالى، ثم لم يتحرك بعدهم أحد من الطالبيين إلى أن ظهر الحسين بن على بن الحسن.(25/65)
ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن ابن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو المقتول بفخ «1»
كان ظهوره بالمدينة في ذى القعدة سنة تسع وستين ومائة في خلافة الهادى موسى، وسبب ذلك أن الهادى استعمل على المدينة عمر ابن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب الشاعر الهذلى، وعمر بن سلام مولى آل عمر، على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعا، وجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فجاء الحسين بن على إلى العمرى، وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم! لأنّ أهل العراق لا يرون به بأسا، فلم تطوف بهم؟ فأمر بهم فردّوا وحبسهم؛ ثم إن الحسين ابن على هذا ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفلا الحسن بن محمد فأخرجه العمرى من الحبس، وكان قد ضمن بعض آل أبى طالب بعضا، وكانوا يعرضون، فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين، فأحضر العمرى الحسين بن على ويحيى بن عبد الله وسألهما عنه وأغلظ لهما، فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به، أو يدقّ عليه باب داره حتى يعلم أنه جاءه به، فلمّا خرجا قال له الحسين:(25/66)
سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنا؟ حلفت له بشىء لا تقدر عليه، فقال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف، فقال له الحسين: إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا من الميعاد، وكانوا قد تواعدوا على أن يظهروا بمنى أو «1» بمكة في الموسم، فقال يحيى: قد كان ذلك فانطلقا، وعملا في ذلك من ليلتهم، وخرجوا آخر الليل، وجاء يحيى حتى ضرب على العمرى باب داره فلم يجده، وجاعوا فاقتحموا المسجد بعد الصبح، فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس فبايعوه: على كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، للمرتضى من آل محمد، وجاء خالد البربرى «2» فى مائتين من الجند، وجاء العمرى ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشّروى ومعهم ناس كثير، فدنا خالد منهم فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن حسن، فضربه يحيى على أنفه فقطعه، ودار له إدريس من خلفه فضربه فصرعه ثم قتلاه، وانهزم أصحابه ودخل العمرى في المسودّة، فحمل عليهم أصحاب الحسين فهزموهم من المسجد، وانتهبوا بيت المال وكان فيه بضعة عشر ألف دينار، وقيل سبعون ألفا، وتفرّق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم، فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بنى العباس فقاتلوهم، وفشت الجراحات في الفريقين، واقتتلوا إلى الظهر ثم افترقوا، ثم إن مباركا التركى أتى شيعة بنى العباس من الغد- وكان قدم حاجا- فقاتل معهم فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار، ثم تفرّقوا ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد،(25/67)
وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال، فلمّا غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فقاتلوا شيئا من قتال إلى المغرب ثم تفرّقوا، وقيل إن مباركا أرسل إلى الحسين يقول له: والله لئن أسقط من السماء فيتخطفنى الطير أيسر علىّ من أن تشوكك شوكة، أو تقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بدّ من الإعذار، فبيّتنى فإنى منهزم عنك، فوجّه إليه حسين أو خرج إليه في نفر، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبّروا، فانهزم هو وأصحابه، وأقام الحسين وأصحابه أياما يتجهّزون، فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يوما، ثم خرجوا لست بقين من ذى القعدة، فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه الطعام الذى كانوا يأكلون وآثارهم، فدعوا عليهم.
ولما فارق الحسين المدينة قال: يا أهل المدينة، لا خلف الله عليكم بخير، فقالوا: بل أنت، لا خلف الله عليك بخير، ولا ردّك إلينا، وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فغسله أهل المدينة. قال: ولما أتى الحسين مكة فنودى: أيما عبد أتانا فهو حرّ، فأتاه العبيد، فانتهى الخبر إلى الهادى؛ وكان قد حجّ تلك السنة رجال من أهل بيته، منهم سليمان بن المنصور، ومحمد بن سليمان بن على، والعباس ابن محمد بن على، وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى، فكتب الهادى إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب، وكان قد سار من البصرة بجماعة وسلاح لخوف الطريق، فاجتمعوا بذى طوى، وكانوا قد أحرموا بعمرة، فلما قدموا مكة طافوا وسعوا وحلّوا من العمرة، وعسكروا بذى طوى وانضمّ إليهم من حجّ من شيعتهم ومواليهم وقوّادهم، والتقوا واقتتلوا يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين،(25/68)
وقتل منهم وجرح، وانصرف «1» محمد بن سلمان ومن معه إلى مكة، ولا يعلمون حال الحسين «2» ، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول: البشرى، البشرى؛ هذا رأس الحسين فأخرجه وبجبهته ضربة طولا، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا الأمان، فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن محمد، فأخذه موسى بن عيسى وعبد الله ابن العباس فقتلاه، فغضب محمد بن سليمان غضبا شديدا، وأخذ رؤوس القتلى فكانت مائة رأس ونيّفا، وفيها رأس سليمان بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن على، وأخذت «3» أخت الحسين فتركت عند زينب بنت سليمان، واختلط المنهزمون بالحاج، وأتى الهادى بستة أسرى، فقتل بعضهم واستبقى بعضهم، وغضب على موسى ابن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد، وقبض أمواله فلم تزل بيده حتى مات، وغضب على مبارك التركى، وأخذ ماله وجعله سائس الدوابّ، فبقى كذلك حتى مات الهادى، وأفلت من المنهزمين إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على «4» ، فأتى مصر وعلى بريدها واضح، مولى صالح بن المنصور، وكان شيعيا فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر، فضرب الهادى عنق واضح وصلبه، وقيل إن(25/69)
الرشيد هو الذى قتله، وأن الرشيد دسّ إلى إدريس الشمّاخ اليمامىّ، مولى المهدى، فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم وعظمه وآثره على نفسه، فمال إليه إدريس وأنزله عنده، ثم إن إدريس شكا إليه مرضا في أسنانه، فوصف له دواء وجعل فيه سما، وأمره أن يستن «1» به عند طلوع الفجر فأخذه منه، وهرب الشمّاخ ثم استعمل إدريس الدواء فمات منه، فولى الرشيد الشمّاخ بريد مصر. قال: ولما مات إدريس ابن عبد الله خلف مكانه ابنه إدريس بن إدريس، وأعقب بها وملكوها، ونازعوا بنى أميّة في إمارة الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك في أخبار الأندلس فلا فائدة في إعادته. قال: وحملت الرؤوس إلى الهادى، فلمّا وضع رأس الحسين بين يديه قال: كأنّكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت!! إنّ أقلّ ما أجزيكم أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئا.
قال: وكان الحسين شجاعا كريما، قدم على المهدى فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرّقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه، إلا وبرا «2» ليس تحته قميص، وهذا غاية في الجود ونهاية في الكرم والإيثار، رحمه الله تعالى وغفر له.(25/70)
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بن الحسن «1» ابن الحسن بن على بن أبى طالب
كان ظهوره في خلافة الرشيد بن المهدى في سنة ست وسبعين ومائة ببلاد الديلم، واشتدت شوكته وكثرت جموعه، وأتاه الناس من الأمصار، فاغتمّ الرشيد لذلك، فندب إليه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكى في خمسين ألفا، وولاه جرجان «2» وطبرستان والرى وغيرها وحمل معه الأموال، فكاتب يحيى بن عبد الله ولطف به وحذره، وأشار عليه وبسط أمله، ونزل الفضل بالطالقان «3» ، بمكان يقال له أشب، ووالى كتبه إلى يحيى، وكاتب صاحب الديلم وبذل له ألف ألف درهم، على أن يسهّل له خروج يحيى بن عبد الله، فأجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه، يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلة بنى هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن على، فأجابه الرشيد إلى ذلك، وسرّ به وعظمت منزلة الفضل عنده، وسيّر الأمان مع هدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحبّ وأمر له بمال كثير، ثم حبسه الرشيد بعد ذلك فمات في(25/71)
حبسه؛ وكان الرشيد قد عرض كتاب أمان يحيى على محمد بن الحسن الفقيه وعلى أبى البخترى القاضى، فقال محمد: الأمان صحيح، فحاجّه الرشيد، فقال محمد: وما يصنع بالأمان؟ لو كان محاربا ثم ولّى كان آمنا، وقال أبو البخترى: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد، وقد ذكرنا خبر يحيى في حبسه فيما تقدّم من كتابنا هذا، عند ذكرنا لأخبار القبض على البرامكة في أيام الرشيد، وأن الرشيد كان قد حبسه عند جعفر، فأطلقه جعفر بغير أمر الرشيد، وقيل بل أخبره بوفاته، ثم نقله إلى خراسان وأودعه عند أميرها على ابن عيسى بن ماهان، وأوصاه به أن يكون عنده موسعا عليه واستكتمه أمره، فكتب علىّ بذلك إلى الرشيد، فكان ذلك سبب زوال نعمة البرامكة، وقد تقدّم ذكر هذه القصّة هناك مبسوطة، ولا فائدة في تكرار ذلك واعادته، فلنذكر خلافه من أخبار من ظهر من الطالبيين.(25/72)
ذكر ظهور محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم ابن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنه وهو المعروف بابن طباطبا
كان ظهوره بالكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين ومائة، فى خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون، وخرج يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل بكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان القيمّ بأمره في الحرب أبو السرايا السرى بن منصور، وهو من ولد هانىء بن قبيصة ابن هانىء بن مسعود الشيبانى، فلما اشتد أمر محمد أراد أن يستقل بالأمر دون أبى السرايا، فسقاه أبو السرايا سما فمات، فى مسهّل شهر رجب من السنة المذكورة، وقد ذكرنا خبره مبيّنا في أخبار المأمون ابن الرشيد. ولما مات محمد بن إبراهيم نصب أبو السرايا مكانه غلاما أمرد يقال له:
محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على «2» وصار الحكم لأبى السرايا، واستعمل العمّال على البصرة والأهواز وفارس ومكة واليمن، وانتشر الطالبيون في البلاد وقوى أمرهم، إلى أن قتل أبو السرايا وذلك في المحرم سنة مائتين، فاستعيدت البلاد من الطالبيين على ما قدّمناه في أخبار أبى السرايا في خلافة المأمون.(25/73)
ذكر ظهور ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ابن على بن الحسين «1» بن على بن أبى طالب وما كان من أمره
كان ظهوره بمكة في سنة مائتين في خلافة المأمون، وكان أبو السرايا قد ولاه اليمن، فأتاه الخبر بمقتل أبى السرايا وهو بمكة، فسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى بن عيسى عاملا للمأمون، فلمّا بلغه قرب إبراهيم من صنعاء سار نحو مكة، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار لكثرة من قتل باليمن، وسبى وأخذ الأموال، ولم يتمّ أمره ولا أمر غيره ممّن كان أبو السرايا استعملهم، وقد «2» ذكرنا خبر الحسين بن الحسن الأفطس ومحمد بن جعفر وما كان من أمرهما بمكة في أخبار المأمون، ولا فائدة في اعادته «3» ، وقد ذكرنا أيضا خبر محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وخروجه بالطالقان، وما كان من أمره في أخبار المعتصم بالله بن الرشيد في سنة تسع عشرة ومائتين.(25/74)
ذكر ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين «1» ابن زيد بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب وهو المكنى بأبى الحسين
وكان ظهوره بالكوفة في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وسبب ظهوره أنه نالته ضائقة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقى عمر بن فرج وهو يتولى أمر الطالبيين، فكلمه في صلته فأغلظ له عمر، وحبسه فلم يزل محبوسا حتى كفله أهله، فأطلق وسار إلى بغداد، فأقام بها سنة ثم رجع إلى سامرّا، فلقى وصيفا فكلمه في رزق يجريه له، فأغلظ له وصيف وقال: لأى «2» شىء يجرى على مثلك؟
فانصرف إلى الكوفة وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان الهاشمى، عامل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع أبو الحسين جمعا كثيرا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة، وأتى الفلّوجة فكتب صاحب البريد بخبره إلى محمد بن عبد الله، فكتب محمد بن عبد الله إلى أيوب «3» وعبد الله بن محمود السرخسى، عامله على معاون السواد، يأمرهما بالاجتماع على حرب يحيى. قال: ومضى يحيى بن عمر إلى بيت مال الكوفة فأخذ ما كان فيه، وهو ألفا دينار وسبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج من فيها،(25/75)
وأخرج العمّال عن الكوفة، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسى فيمن معه، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه بها، فانهزم عبد الله، وأخذ أصحاب يحيى ما كان معهم من الدوابّ والمال، وخرج يحيى إلى سواد الكوفة، وتبعه جماعة من الزيدية وغيرهم إلى ظهر واسط، وأقام بالبستان فكثر جمعه، فوجّه محمد بن عبد الله إلى محاربته الحسين «1» بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في جمع من أهل النجدة والقوّة، فسار إليه ونزل في مقابلته ولم يقدم عليه، وسار يحيى والحسين فى أثره حتى نزل الكوفة، ولقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس قبل دخولها، فقاتلة فانهزم عبد الرحمن إلى ناحية شاهى فوافاه الحسين بها، واجتمعت الزيدية إلى يحيى بن عمر، ودعا بالكوفة إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، واجتمع الناس إليه، وتولاه العامّة من أهل بغداد، ولا يعلم أنّهم تولوا أحدا من أهل بيته سواه، وبايعه جماعة من أهل الكوفة ممّن له تدبير وبصيرة في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم، وأقام الحسين بشاهى فأراح واستراح، واتصلت به الأمداد، ويحيى بالكوفة يعدّ الرجال ويصلح السلاح، فأشار عليه جماعة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب بمعاجله الحسين بن إسماعيل، وألحّوا عليه فزحف إليه في ليلة الإثنين لثلاث عشره ليلة خلت من شهر رجب من السنة، ومعهم الهيضم العجلى وغيره، ورجاله من أهل الكوفة ليس لهم علم بالحرب(25/76)
ولا شجاعة، وأسروا ليلتهم وصبّحوا حسينا وهو مستريح، فثاروا بهم فى الغلس، فركب أصحاب الحسين وحملوا عليهم فانهزموا، ووضعوا فيهم السيف وأسروا منهم، فكان أوّل من أسر الهيضم العجلى، وانكشف العسكر عن يحيى وعليه جوشن، وقد تقطر «1» به فرسه، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير «2» ، فلم يعرفه وظنه من أهل خراسان لما رأى عليه الجوشن، فأمر رجلا فنزل إليه وأخذ رأسه، فعرفه رجل وسيّر الرأس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وادعى قتله غير واحد، فبعث محمد الرأس إلى المستعين، فنصب بسامرّا ثم حط وسيّر إلى بغداد لينصب بها، فلم يقدر محمد بن طاهر على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس، فلم ينصبه وخاف أن يأخذوه، فجعله في صندوق في بيت السلاح، ووجّه الحسين بن إسماعيل رؤوس من قتل ومن أسر إلى بغداد فحبسوا بها، وكتب محمد بن عبد الله فيهم فأمر بتخليتهم ودفن الرؤوس.
قال: ولما ورد الخير بقتل يحيى على محمد بن عبد الله جلس ليهنأ بذلك، فدخل عليه داود بن الهيثم الجعفرى فقال: أيها الأمير، إنّك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا لعزى به، فما ردّ محمد عليه شيئا، وأكثر الشعراء المراثى في يحيى، لما كان عليه من حسن السيرة والديانة، فمن ذلك قول بعضهم:
بكت الخيل شجوها بعد يحيى ... وبكاه المهند المصقول(25/77)
وبكته العراق شرقا وغربا ... وبكاه الكتاب والتنزيل
والمصلّى والبيت والركن والحج ... ر جميعا له عليه عويل
كيف لم تسقط السماء علينا ... يوم قالوا أبو الحسين قتيل
وبنات النبىّ يندبن شجوا ... موجعات دموعهن همول
قطّعت وجهه سيوف الأعادى ... بأبى وجهه الوسيم الجميل
إنّ يحيى أبقى بقلبى غليلا ... سوف يودى بالجسم ذاك الغليل
قتله مذكر لقتل على ... وحسين ويوم أو ذى الرسول
صلوات الإله «1» وقفا عليهم ... ما بكى موجّع وحن ثكول
ذكر ظهور الحسين بن محمد
وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين في زمن الخلف الذى وقع بين المستعين والمعتز، ظهر بالكوفة رجل من الطالبيين، اسمه الحسين ابن محمد «2» بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب، واستخلف بها محمد بن جعفر العلوى، فوجّه إليه المستعين مزاحم بن خاقان، وكان العلوىّ بسواد الكوفة في جماعة من بنى أسد ومن الزيدية، وأجلى عنها عامل الخليفة، وهو أحمد بن نصر «3» بن حمزة بن مالك الخزاعى إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع(25/78)
وهشام بن أبى دلف العجلى فسارا إلى الكوفة، فحمل أهل الكوفة العلوية على قتالهما ووعدوهم النصرة، فقاتلهم مزاحم وكان قد سيّر قائدا مع جماعة، فأتى الكوفة من الجهة الأخرى، فأطبقوا عليهم فلم يفلت منهم أحد، ودخل الكوفة فرماه أهلها بالحجارة فأحرقها بالنار، وأحرق منها سبعة أسواق حتى خرجت النار إلى السبيع، ثم هجم على الدار التى فيها العلوى، فهرب وأقام مزاحم بالكوفة.
ذكر خبر اسماعيل بن يوسف بن ابراهيم ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على
كان ظهوره بمكة في سنة إحدى وخمسين ومائتين، ولما ظهر هرب عاملها، وانتهب إسماعيل داره ومنازل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة وغير ذلك، وأخذ كسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتى ألف دينار، وخرج منها بعد أن نهبها وأحرق بعضها في شهر ربيع الأوّل، بعد أن أقام بها خمسين يوما، وصار إلى المدينة فتوارى عاملها، ثم رجع إلى مكة في شهر رجب، فحصرهم حتى غلت الأسعار، ولقى أهل مكة منه كل بلاء، ثم سار إلى جدّة بعد مقامه سبعة وخمسين يوما، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، ثم وافى عرفة وبها محمد بن عيسى «1» الملقب كعب البقر، وعيسى بن(25/79)
محمد المخزومى كان المعتز قد وجّههما إليها، فقاتلهما إسماعيل، وقتل من الحاج نحو ألف ومائة انسان، وسلب الناس فهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدّة فجبى «1» أموالها.
ذكر ظهور على بن زيد العلوى بالكوفة وخروجه عنها
كان ظهوره في سنة ست وخمسين ومائتين واستولى على الكوفة، وأزال عنها نائب الخليفة المعتمد على الله واستقرّ بها، فسيّر إليه المعتمد الشاه بن ميكال في جيش كثيف، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت جيوش المعتمد، وقتل جماعة منهم، فسيّر لمحاربته كنجور «2» التركى، وأمره «3» أن يدعوه إلى الطاعة ويبذل له الأمان، ففعل ذلك فطلب علىّ أمورا لم؟؟؟ نجبه كنجور «4» إليها، فخرج علىّ عن الكوفة إلى القادسية فعسكر بها، ودخل كنجور الكوفة في ثالث شوال من السنة، ومضى على بن زيد إلى خفّان، ثم دخل البرّ إلى بلاد بنى أسد وكان قد صاهرهم، فأقام هناك ثم فارقهم وصار إلى جهة «5» ، فبلغ كنجور خبره فسار إليه من الكوفة في سلخ ذى الحجة، فواقعة فانهزم علىّ وقتل نفر من أصحابه، ولم يزل علىّ بن زيد إلى سنة ستين فقتله صاحب الزنج. فلنذكر أخبار دولتهم بطبرستان.(25/80)
ذكر أخبار الدولة العلويه بطبرستان الداعى الى الحق الحسن بن زيد
كان ظهور هذه الدولة في سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين بالله، وأول من ظهر منهم الداعى إلى الحق: الحسن بن زيد بن محمد ابن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنهما، وكان سبب ظهوره أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر لما ظفر بيحيى بن عمر أقطعه المستعين بالله من صوافى السلطان بطبرستان، قطائع منها قطيعة بقرب ثغر الديلم، وهى كلار وسالوس؛ وكان بجوارها أرض يحتطب منها أهل تلك الناحية، وترعى فيها مواشيهم ليس لأحد عليها ملك، إنما هى موتان، وهى ذات عيون وأشجار وكلأ، فوجّه محمد بن عبد الله نائبه لحيازة ما أقطع، وهو جابر بن هارون النصرانى، وكان عامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله بن طاهر، خليفة عن محمد بن طاهر، وكان الغالب على أمر سليمان، محمد بن أوس البلخى، وقد فرّق محمد بن أوس هذا أولاده فى مدن طبرستان، وهم أحداث سفهاء فتأذى بهم الرعيّة، وشكوا سوء سيرتهم وسيرة أبيهم وسيرة سليمان، ثم دخل محمد بن أوس بلاد الديلم، وهم مسالمون لأهل طبرستان، فسبى منهم وقتل، وساء ذلك أهل طبرستان، ولما قدم جابر بن هارون لحيازة ما أقطع لمحمد(25/81)
ابن عبد الله عدا على تلك الأرض المباحة، فحازها إلى كلاروسالوس، وكان في تلك الناحية أخوان لهما بأس ونجدة، مذكوران ببذل الطعام وشدة الطعان، يقال لأحدهما محمد والآخر جعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات، وكانا مطاعين «1» فى تلك الناحية، فاستنهضا من أطاعهما لمنع جابر من حيازة ذلك الموات، فخافهما جابر وهرب منهما ولحق بسليمان بن عبد الله، وخاف محمد وجعفر ومن معهما من عامل طبرستان، فراسلوا من جاورهم من الديلم يذكرونهم العهد الذى بينهم ويعتذرون ممّا فعله محمد بن أوس بهم من السبى والقتل، واتفقوا على المعاونة على حرب سليمان بن عبد الله وغيره، ثم أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيين- اسمه محمد بن إبراهيم- كان بطبرستان، يدعونه إلى البيعة له فامتنع من ذلك، وقال: ولكنّى أدلّكم على رجل منّا، هو أقوم بهذا الأمر منى، فدلّهم على الحسن بن زيد وهو إذ ذاك بالرىّ، فوجّهوا إليه برسالة محمد بن إبراهيم يدعونه إلى طبرستان، فشخص إليها وقد اجتمعت كلمة الديلم وأهل كلاروسالوس على بيعته، فبايعوه وطردوا عمّال ابن أوس عنهم، فلحقوا بسليمان.
وانضم إلى الحسن بن زيد أيضا أهل جبال طبرستان، فتقدم الحسن ومن معه نحو مدينة آمل طبرستان. وهى أقرب المدن إليهم.
وأقبل ابن أوس من سارية لدفعهم عنها. والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا.
فتوجه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمل فدخلها، فلما سمع ابن أوس(25/82)
الخبر- وهو مشغول بحرب أصحاب الحسن- لم تكن له همّة إلا النجاة بنفسه، فهرب ولحق بسليمان إلى سارية، واستولى الحسن على آمل، وكثر جمعه وأتاه كل طالب نهب وفتنة. فأقام بآمل أياما ثم سار نحو سارية لحرب سليمان بن عبد الله، فالتقوا خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فسار بعض قوّاد الحسن نحو سارية فدخلها، فلما سمع سليمان الخبر انهزم هو ومن معه، وترك أهله وعياله وأثقاله بها، واستولى الحسن وأصحابه على جميع ذلك، وسيّر إليه أولاده وأهله في مركب إلى جرجان، وقيل إنّ سليمان إنّما انهزم اختيارا، لأن الطاهريّة كلها كانت تتشبع، فلما أقبل الحسن نحو طبرستان تأثم «1» سليمان من قتاله لشدة تشيعه، وقال:
نبّئت خيل ابن زيد أقبلت حينا ... تريدنا لتحسّينا الأمرّينا
يا قوم إن كانت الأنباء صادقة ... فالويل لى ولجمع الطاهريّينا
أما أنا فإذا اصطفت كتائبهم ... أكون من بينهم رأس الموّلينا
والعذر عند رسول الله منبسط ... إذا احتسبت دماء الفاطمّييينا
فلما التقوا انهزم سليمان، قال «2» : ولما اجتمعت طبرستان للحسن بن زيد وجّه إلى الرىّ جندا مع رجل من أهله، يقال له الحسن بن زيد أيضا، فملكها وطرد عامل الطاهرية عنها، واستخلف بها رجلا من العلويين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها.
قال: وورد خبر الحسن على المستعين بالله، ومدبّر أمره يومئذ(25/83)
وصيف، وكاتبه أحمد بن صالح، فوجّه إسماعيل بن فراشة في جند إلى همذان، وأمره بالمقام بها ليمنع خيل الحسن بن زيد عنها، وما عدا همذان فأمره إلى محمد بن طاهر.
قال: ولما استقرّ محمد بن جعفر الطالبى بالرىّ، ظهر منه أمور كرهها أهل الرىّ، ووجّه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر قائدا يقال له ابن ميكال، فى جمع من الجند إلى الرىّ، فالتقى هو ومحمد ابن جعفر الطالبى خارج الرىّ، فأسر محمد وانهزم جيشه، ودخل ابن ميكال إلى الرىّ وأقام بها، فوجّه إليه الحسن بن زيد عسكرا، مع قائد من قوّاده يقال له واجن، فالتقوا واقتتلوا فانهزم ابن ميكال واعتصم بالرىّ، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الرىّ في يد أصحاب الحسن بن زيد.
ثم ظهر بالرى في سنة خمسين ومائتين أيضا
أحمد بن عيسى بن على بن حسين (الصغير) بن على بن حسين ابن «1» على بن أبى طالب رضى الله عنه، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على «2» [بن أبى طالب] ، فصلى أحمد بن عيسى بأهل الرىّ صلاة العيد، ودعا إلى الرضا من آل محمد، فحاربه محمد بن على بن طاهر، فانهزم ابن طاهر وصار إلى قزوين.(25/84)
ثم مسك أحمد في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وسيّر إلى نيسابور، وكان الذى ظفر به عبد الله بن عزيز.
وفي سنة احدى وخمسين ومائتين
رجع سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى طبرستان بجمع كثير، ففارقها الحسن بن زيد ولحق بالديلم، ودخلها سليمان وقصد سارية، وأتاه أهل آمل وغيرهم، منيبين مظهرين الندم يسألون الصفح، فلقيهم بما أرادوا، ونهى أصحابه عن القتل والنهب، ثم فارقها سليمان وعاد الحسن بن زيد إليها، فسار مفلح إليه من قبل موسى بن بغا في سنة خمس وخمسين ومائتين، وحاربه فانهزم الحسن ولحق بالديلم، ودخل مفلح آمل وأحرق منازل الحسن، وسار إلى الديلم في طلبه، ثم كتب إليه موسى بن بغا بالقدوم عليه إلى الرىّ، فسار إليه ثم سار إلى سامرّا.
ذكر ملك الحسن بن زيد جرجان
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين قصد الحسن جرجان واستولى عليها، وكان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان- لما بلغه عزم الحسن على قصد جرجان- جهّز العساكر، وأخرج عليها الأموال الكثيرة، وسيّرها لحفظ جرجان، فلم يقوموا بحرب الحسن، وظفر بهم وملك البلد وقتل كثيرا من العساكر، وغنم هو وأصحابه ما معهم، فضعف حينئذ محمد بن طاهر، وانتقض عليه كثير من الأعمال التى يجبى خراجها إليه، ولم يبق في يده إلا بعض خراسان، وأكثرها بيد المتغلبين كيعقوب بن الليث الصفّار وغيره.(25/85)
وفيها فارق عبد العزيز بن أبى دلف الرىّ من غير سبب يعلم وأخلاها، فأرسل الحسن بن زيد القاسم بن على بن القاسم العلوى، فغلب عليها فأساء السيرة في أهلها، وخلع أبواب المدينة- وكانت من حديد- وسيّرها إلى الحسن، وبقى كذلك نحو سنتين «1» .
وفي سنة تسع وخمسين ومائتين
غلب الحسن بن زيد على قومس، ودخلها أصحابه، وفي سنة ستين ومائتين دخل يعقوب بن الليث الصفار طبرستان، وانهزم الحسن إلى أرض الديلم على ما نذكره في أخبار الدولة الصفارية.
ذكر وفاة الحسن بن زيد وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب سنه سبعين ومائتين، فكانت مدة ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام- وقيل- واثنى عشر يوما، وكان مهيبا عظيم الخلق. حكى صاحب كنوز المطالب في بنى أبى طالب «2» عن الصولى: أن الحسن عطس يوما عطسة، وكان رجل يؤذن في المنارة ففزع فسقط منها إلى الأرض فمات. قال:
وكان أقوى البغال لا تحمله أكثر من فرسخين، وكان في آخر عمره يشق بطنه ويخرج منه الشحم ثم يخاط. وكان جوادا ممدوحا، امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفيه يقول محمد بن إبراهيم الجرجانى وقد افتصد:(25/86)
إنّما غيّب الطبيب شبا «1» ال ... مبضع عندى في مهجة الإسلام
سرّت الأرض حين صبّ عليها ... دم خير الورى وأعلى الأنام
وكان متواضعا لله عزّ وجلّ. حكى عنه أنه مدحه شاعر فقال الله فرد وابن زيد فرد، فردّ فقال: بفيك الكثكث يا كذّاب!! لم لا قلت: الله فرد وابن زيد عبد، ثم نزل عن مكانه وخرّ ساجد الله تعالى، وألصق خدّه بالتراب وحرم ذلك الشاعر. وكان عالما بالشعر «2» والعربية.
فمدحه شاعر فقال:
لا تقل بشرى ولكن «3» بشريان ... غرّة الداعى ويوم المهرجان
فقال: كان الواجب أن تفتح الأبيات بغير لا، لأن الشاعر المجيد يتخيّر لأول القصيدة، ما يعجب السامع ويتبرّك به، ولو ابتدأت بالمصراع الثانى لكان أحسن، فقال الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجلّ من لا إله إلا الله وأوّلها لا، فقال له الحسن: أصبت، وأجازه. وأهدى إليه أبو العمر الطبرى سهمين في بعض الأعياد عليهما مكتوب:
أهديت للداعى إلى الحق ... سهمى فتوح الغرب والشرق
زجّاهما «4» النصر وريشاهما ... ريشا جناحى طائر المسبق
أيّد هذا للفال بالصدق ... هما بشيرا دعوة الحق «5»(25/87)
فسرّه الفأل، وأعطاه عشرة آلاف درهم. وحكى عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب، التى أوّلها:
وأنا الأخضر من يعرفنى ... أخضر الجلدة من بيت العرب
فلما وصل إلى قوله:
برسول الله وابنى عمّه ... وبعبّاس بن عبد المطّلب
غيّر البيت فقال: لا بعبّاس بن عبد المطّلب، فغضب الحسن وقال: يا ابن اللخناء، أتهجو بنى عمّنا بين أيدينا، وتغيّر ما مدحوا به؟!، إن فعلتها مرة ثانية لأجعلنّها آخر غنائك.
وكان الحسن شاعرا فمن شعره:
لم نمنع الدنيا لفضل بها ... ولا لأنّا لم نكن أهلها
لكن لنعطى الفوز في جنّة ... ما إن رأى ذو بصر مثلها
هاجرها خير الورى جدّنا ... فكيف نرجو بعده وصلها
وله أشعار مستحسنة تركناها اختصارا، وكان كاتبه سعيد بن محمد الطبرى. قال: ولما مات قام بالأمر بعده أخوه محمد بن زيد.
ذكر أخبار محمد بن زيد
لما مات الحسن كان أخوه هذا بجرجان، وكان في مرضه قد أمر صهره محمد بن إبراهيم العلوى- أن يكتب إلى أخيه محمد بن زيد ليسارع بالحضور، فينتصب في المملكة، فتباطأ، فلما توفى الحسن انتصب محمد ابن إبراهيم مكانه، وتلقّب بالقائم بالحق، فبلغ الخبر محمد بن(25/88)
زيد فسار من جرجان، فلمّا قرب هرب محمد بن إبراهيم إلى سالوس، فأنفد في أثره سريّة فأدرك وقتل، ولبس محمد بن زيد القلنسوة وتلقّب بالداعى.
واستقامت له طبرستان وذلك في بقية رجب سنة سبعين ومائتين، ووصل إلى الرى في جموع كثيرة، فلما كان في سنة إثنتين وسبعين ومائتين فى جمادى الأولى، سار اذكوتكين- صاحب الرى- من قزوين إلى الرى، ومعه أربعة آلاف فارس، وكان مع محمد بن زيد من الديلم والطبرية والخراسانية عالم كثير، فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر محمد وتفرّقوا، وقتل منهم ستة آلاف وأسر ألفان، وغنم اذكوتكين من أموالهم وأثقالهم ودوابّهم ما لم ير مثله.
قال «1» : وجلس اذكوتكين بالمصلّى، ليضرب أعناق الأسرى بين يديه، فمن عجيب ما اتفق أنّ ديلميا قدّم ليضرب عنقه، فوثب على السيّاف واستلب السيف من يده، وعلاه به فقتله ومرّ هاربا فلم يلحق، واذكوتكين ينظر إليه ويضحك؛ ودخل «2» اذكوتكين الرىّ وأقام بها، وأخذ من أهلها مائة ألف دينار، وفرّق عمّاله على أعمال الرى.(25/89)
وفي سنة خمس وسبعين ومائتين
استولى رافع بن هرثمة- أمير خراسان- على جرجان، وأزال عنها محمد بن زيد، فسار محمد إلى استراباد فحصره بها رافع نحو سنتين، فغلت الأسعار بحيث إنّه عدم المأكل، وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة «1» ، ففارقها محمد ليلا في نفر يسير، فبعث رافع إليه عسكرا فتحاربا، وسار محمد عن سارية وطبرستان في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين.
ثم سار إلى الديلم فدخل رافع خلفه، فوصل إلى حدود قزوين، وعاد إلى الرىّ وأقام إلى سنة تسع «2» وسبعين، حتى توفى المعتمد على الله، ودام محمد إلى أن قتل، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(25/90)
ذكر مقتل محمد بن زيد وشىء من أخباره
كان مقتله سنة ثمان وثمانين ومائتين «1» ، وكان سبب قتله أنه اتّصل به أنّ إسماعيل بن أحمد السامانى- صاحب ما وراء النهر- أسر عمرو بن الليث الصفار- أمير خراسان- فخرج من طبرستان ظنا منه أن إسماعيل السامانى لا يتجاوز عمله ولا يقصد خراسان، وأنّه «2» لا دافع له عن ملك خراسان، فلما انتهى إلى جرجان أرسل إليه إسماعيل- وقد استولى على خراسان- يقول له: ألّا يتجاوز عمله، ولا يقصد خراسان «3» وترك جرجان له، فأبى محمد ذلك، فندب إسماعيل محمد بن هارون؛ فكان محمد هذا يخلف رافع بن هرثمة أيام ولايته خراسان، فجمع محمد جمعا كثيرا من فارس وراجل، وسار نحو محمد بن زيد فالتقوا على باب جرجان، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم محمد بن هارون أولا، ثم رجع وقد تفرّقت عساكر محمد بن زيد في الطلب، فلما رأوه قد رجع ولّوا هاربين، وقتل منهم خلق كثير، وأصاب محمد بن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد وغنم ابن هارون معسكره وما فيه، ثم مات محمد بن زيد بعد أيام من الجراحات التى أصابته، فدفن على باب جرجان.
وقيل: كانت الوقعة التى جرح فيها يوم الجمعة لخمس ليال(25/91)
خلون من شوال سنة سبع وثمانين، ومات بعد ذلك بيوم، وكانت مدة قيامه- بعد وفاة أخيه- نحوا من ثمانية عشر سنة.
وكان أديبا شاعرا فاضلا حسن السيرة، قال أبو عمرو الاستراباذى:
كنت أورد على محمد بن زيد أخبار العباسيين، فقلت له: إنّهم قد لقّبوا أنفسهم، فإذا ذكرتهم عندك أسميهم أو ألقبهم؟ فقال:
الأمر موسع عليك، سمّهم ولقّبهم بأحسن ألقابهم واسمائهم وأحبّها إليهم. قال: وحمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد السامانى- لمّا أسر- فأكرمه، وكتب إليه المكتفى كتابا في حمله إليه فدافع عنه، وهو القائل:
ولقد تقول عصابة ملعونة ... غوغاء ما خلقت لغير جهنّم
من لم يسبّ بنى النبى محمد ... ويرى قتالهم فليس بمسلم
عجبا لأمّة جدّنا يجفوننا ... وتجيرنا منهم رجال الديلم
ولم يزل عند آل سامان مكرّما إلى أن مات في سنة أربع عشرة وثلاثمائة.
ولمّا مات محمد بن زيد وأسر ابنه زيد «1» بن محمد، قام بالأمر ابن ابنه المهدى أبو محمد الحسن بن زيد بن محمد بن زيد، وخطب له ببلاد الديلم، وكانت له خطوب وحروب لم نر من دوّن فيها شيئا فنورده، ولا وقفنا على تاريخ وفاته.(25/92)
قالوا: ثم كانت بين الحسنيين والحسينيين حروب على الإمارة بطبرستان والديلم، إلى أن استقرت الإمارة في بنى الحسين، وأول من قام منهم: الحسن بن على الأطروش.
ذكر أخبار الناصر للحق
هو الحسن بن على بن الحسن بن على بن عمر بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب «1» رضى الله عنه ويعرف بالأطروش، كان استيلاؤه على طبرستان في سنة إحدى وثلاثمائة، وذلك أنه لما قتل محمد ابن زيد استعمل إسماعيل بن أحمد السامانى محمد بن هارون على طبرستان، وأمره بقتل من وجد من العلويّة فهربوا في البلاد، وكان الحسن بن علىّ هذا شيخا من شيوخ الزيدية، شديد الصحبة لمحمد ابن زيد، وكان قد دخل خراسان سرا ليدعو الناس إليه، فجرت عليه مكاره وحبس، ثم هرب من السجن وعاد إلى محمد بن زيد،(25/93)
وشهد معه الحرب الذى قتل فيها؛ وكان سبب صممه أنّه ضرب في حرب مع محمد بن زيد بسيف على رأسه فطرش.
فلما وقع عليه الطلب وعلى أمثاله هرب، ودخل إلى بلاد الديلم، وأقام عند ملكهم جستان بن وهسوزان بن المرزبان «1» فأكرمه، وأنزله فأخذ في دعاء الديلم إلى الإسلام، فأسلم جمهورهم، وجعل يتنقّل على قراهم ويدعو، ثم دخل إلى بلاد الجيل، ودعاهم فأسلم «2» أكثرهم، ووقعت دعوته على حدّ النهر باسباذروذ «3» ، فاجتمع أهل دعونه عليه، وعاد من بلاد الجيل فيمن جمع، فلما دخل بلاد الديلم وجد جستان على خلاف ما فارقه عليه، لأنّه فارقه على أنّه معلم، يدعو الناس لا طالب مملكة، فمنعه جستان من الأعشار والصدقات، فوقع بينهما حرب كانت الهزيمة فيها على جستان، ثم ألجأه الأمر إلى مسالمة الناصر والدخول في طاعته.
وأقام الناصر في هرسم «4» قاعدة مملكة الديلم، واتفق أنّ محمد(25/94)
ابن هارون السرخسى- نائب إسماعيل بن أحمد على طبرستان- تخوّف منه، فهرب واستأمن إلى الحسن، وتسلّم طبرستان وجرجان محمد ابن «1» على المعروف بصعلوك السامانى وكان في عسكر كثيف، واتصل السرخسى بالناصر في عسكر قوى فاستظهر به، واجتمعا على لقاء صعلوك، فاحتال عليهما صعلوك، حتى افترقا بحيلة غريبة، فلما افترقا مضى السرخسى إلى نواحى الرىّ، ورجع الناصر إلى بلاد الديلم، ولم يتمّ له أمر، ثم أنفذ كرّة ثانية جيشا مع كالى والحسن بن الفيرزان، فهزمهما صعلوك وقتلا في الوقعة، ثم خرج الناصر بنفسه إلى سالوس، وسار إليه صعلوك ومعه اصفهبد شهريار «2» من الخراسانية، فالتقوا وكان مع الناصر كما ذكر المكثّر عشرة آلاف رجل من الديلم والجيل، وأكثرهم رجّالة ليس معهم من الخيل والأسلحة إلا القليل، وعدّة الخراسانية نيّف وثلاثون ألف رجل على غاية القوّة والمنعة، فهزمهم الناصر وقتل منهم مقتلة عظيمة، وألجأهم إلى بحر طبرستان، فكان من غرق أمثال من قتل، قال الصابى في الكتاب التاجى: يقال إنّ المفقودين كانوا نيّفا على عشرين ألفا، وقال حمزة بن الحسن الأصفهانى: كانوا سبعة آلاف «3» رجل، وكانت الوقعة في سنة ثلاثمائة، ودخل الناصر مدينة آمل في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة.(25/95)
ولما دخل طبرستان وملكها فوّض أمر الجيش إلى الحسن بن القاسم العلوى، فاستبدّ بالأمر واصطنع الرجال ووسّع عليهم في العطاء، وقبض على الناصر وحبسه، فاستكبر الديلم هذا الفعل، وحضروا إلى القاسم العلوى وطالبوه بإخراجه إليهم، ووثب إليه ليلى بن النعمان وأخوه- وهما من أكبر القوّاد- وقالا له: إن أفرجت عنه الساعة وإلا قتلناك، فأخرجه لهم وهرب إلى بلاد الجيل، فأطاعوه فتلقّب بالداعى، فتكلّم الناس عند الناصر في أن يردّه ويولّيه جيشه وعهده، وكان الناصر قد ولّى ليلى بن النعمان الجيش، فأجاب وعاد الحسن بن القاسم فوفّى له الناصر بذلك، وزوّجه بإبنة ولده على بن الناصر «1» ، واستمرت الحال على ذلك إلى أن توفى الناصر، وكانت وفاته في شعبان سنة أربع وثلاثمائة، وله من العمر تسع وسبعون سنة، وكانت مدة مملكته المستقيمة الدائمة إلى حين وفاته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما.
وكان الحسن الناصر شاعرا ظريفا كثير المجون حسن النادرة وهو الذى حرّر مذهب الزيدية وألّف فيه، وكان يقول: بزر القز ليس بمال، والديلم ليسوا بعسكر، أما البزر فلأنّه إذا أقبل الربيع صار بعوضا، وأما الديلم فلسرعة تنقّلهم من عسكر إلى عسكر. وكان يقول لأصحابه: من قتل منكم مقبلا فهو مؤمن، ومن قتل منكم مدبرا فهو كافر، فإذا أتى بجريح جرح مقبلا نثر عليه الكافور المسحوق، فيجد(25/96)
راحة ويسكن ألمه، وإذا أتى بجريح جرح مدبرا نثر عليه ملحا فيشتد أمره، فيقول: قد بان لكم أن المؤمن ينتفع بالدواء لإيمانه، والكافر لا ينتفع به لكفره.
وكان له من الأولاد أبو الحسن على، وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد. ولما مات الحسن الناصر قام بالأمر بعده.
الحسن بن القاسم «1» الداعى العلوى
وهو ولى العهد، ولبس القلنسوة، وكان أوّل ما بدأ به أن بعث أبا القاسم جعفر وأبا الحسين أحمد- ولدى الناصر- إلى جرجان لانتزاعها من أيدى الخراسانية، فلقيهما دونهما دونها إلياس بن محمد ابن اليسع الصفدى- والى جيش خراسان- بموضع يقال له سيما له «2» فلما اصطّف الجيشان برزبين الصفّين ودعا إلى المبارزة، فبرز إليه من جيش ولدى الناصر بويه بن فناخسره- جد عضد الدولة- فقتله وانفض جيش الخراسانية، فبعث إليهما بعد ذلك الأمير نصر بن أحمد السامانى جيشا عليه سيمجور الدواتى، فلقياه بحلالين «3» من سواد جرجان فهزماه،(25/97)
فوقف غير بعيد وتجمّعت الخراسانية كعادتهم في ذلك، فكرّ راجعا إليهم فهزمهم أقبح هزيمة، وقتل الديلم أفظع قتل، وانهزموا وسلكوا مضايق ليأمنوا جولان الخيل، فوصلوا جرجان فتجمّع الديلم بها، وأخلوها قاصدين طبرستان وقد اتفق رأيهم على خلع الداعى، فخلعوه في الطريق وبايعوا أبا القاسم جعفر بن الناصر، وألبسوه القلنسوة، وقيل إن المبايع أبو الحسين أحمد، وبالجملة فالأمير على الجيش أبو الحسين؛ ولما وصلا في جيوشهما إلى آمل لقيهما الداعى دونها، وخرج هاربا إلى بلاد الجيل، وملكا طبرستان مديدة، ثم كرّ راجعا- وقد احتشد- فلقياه فهزمهما، فمضيا إلى بلاد الجيل واحتشدا، وعادا فحاربهما الداعى حربا شديدا ثم انهزم واستوليا على عسكره، وهرب وحيدا متنكرا يريد بلاد الجيل، واخترق بلاده الديلم فأسره بعضهم ثم منّ عليه وأطلقه، فانتهى إلى بلاد الجيل وأقام عندهم.
واتفقت وفاة أبي الحسين فجأة، وتلاه أخوه أبو القاسم بعده، فبقى أمر الديلم بطبرستان بغير مدبّر، فعقدوا الإمرة عليهم لليلى»
ابن النعمان، فقام بأمرهم وهو يدعو للداعى إلى أن قتل بنيسابور «2» ، قتله حمّويه بن على صاحب جيش نصر بن أحمد السامانى، فعقدوا بعده لعلى بن خورشيد فعاجلته المنيّة، فعزموا على الحسن بن كالى، فأشار عليهم بأخيه ماكان بن كالى، وهو أشجع أهل الديلم بالانفاق، فلما ولى عليهم اجتمع هو وأخوه على نصب أبى علىّ محمد بن أبى الحسين(25/98)
ابن الناصر، فنصبوه فجرى على يده قتل الحسن بن كالى بسارية، وكان ما كان بآمل، ثم سقط بعد ذلك أبو على في الميدان فهلك، ولمّا اتصل بما كان ما جرى على أخيه كاتب الداعى يستدعيه، فوافى في عسكر قوى واجتمع معه وملك طبرستان، ثم سار ومعه ما كان إلى جرجان فملكها، وأقام الداعى بجرجان، وكانت في نفسه حفائظ على الديلم لنصرتهم عليه أولاد الناصر، فعمل دعوة لهم جعل يستدعيهم واحدا واحدا فيقتله، ففطنوا لذلك وهربوا إلى خراسان، ودخلوا في طاعة نصر بن أحمد السامانى، وسوّدوا أعلامهم وقدّموا على أنفسهم أسفار بن شيرويه الجيلى «1» ، وبعث معهم نصر بن أحمد جيشا كثيفا، وساروا فدخلوا جرجان، وسار الداعى منها إلى طبرستان ثم إلى الرىّ، واجتمع فيها بما كان وأمره أن يمضى إلى طبرستان لدفع أسفار عنها، فعلم أنّه لا طاقة له بذلك، فقال له: الرأى أن تمضى أنت فإنك الإمام، ولو قد رأتك الديلم لانفضّوا إليك، فاضطر الداعى إلى ذلك، وسار ووقعت الحرب بينه وبين الخراسانية، فانهزم جيشه وكان مرداويج بن زيار الجيلى يراصده، فأمكنته فرصة منه فرماه فأشواه، وولّى منهزما ودخل آمل واستتر بها، فتتبّع الديلم أثر دمه، وأظهره لهم أهل البلد، فبادروا إلى الدار التى دلوهم عليها وهجموها، فلما رآهم بادر إلى الصلاة فقتلوه، وكان مقتله يوم الثلاثاء لست بقين من شهر رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة في أيام(25/99)
المقتدر بالله، فكانت مدة مملكته ثنتى عشرة سنة وشهرا وأياما، على ما فيها من الإختلاف عليه وقيام من ذكرنا.
ملك أسفار جرجان
ولما قتل الداعى ملك أسفار جرجان، وأبو موسى هارون بن بهرام طبرستان، والدعوة فيها لنصر بن أحمد السامانى، فأجمع رأيهما على نصب أبى جعفر محمد بن أحمد الناصر بآمل، فنصباه وألبساه القلنسوة، والدعوة لنصر لم تقطع، وبلغ نصرا الخبر فأنكر على أسفار غاية الإنكار، وأمره بالقبص عليه والبعث به إليه، ففعل أسفار ذلك وبلغ ما كان الخبر وهو بالرى، فسار إلى طبرستان فهرب هارون منها إلى الديلم، وأظهر ما كان ما هو عليه من التشيّع، ونصب إسماعيل بن جعفر بن الناصر، فتوفى بعد مدّة ووقعت فترة لم يل فيها أحد من العلويين، ثم تخلّص بعد ذلك أبو الفضل جعفر بن محمد ابن الحسين «1» بن على بن الحسن بن على بن عمر بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب من حبس نصر بن أحمد، وهو ممّن قبض عليه أسفار بن شيرويه مع أبى جعفر محمد بن الناصر، وسار إلى بلد الجيل وابتدأ في الدعاء لنفسه بها في سنة عشرين وثلاثمائة ونعت نفسه بالثائر في الله، وكان ذا حزم وتدبير، وساعدته الأقدار فخرج من بلد الجيل، قاصدا طبرستان في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة(25/100)
وبها الأستاذ أبو الفضل بن العميد، وزير ركن الدولة بن بوية، وأبو الحسن على بن كامه، من قبل ركن الدولة، فاستظهر عليهما وملك البلاد، وانصرفا إلى الرىّ فأعاد ركن الدولة بن بويه أبا الحسن على بن كامة في جيش، وكتب إلى الحسن «1» بن الفيروزان- صاحب جرجان- يأمره بمعاونته ففعل، وسار إلى طبرستان في بقية سنة سبع وثلاثين، فرحل الثائر عنها وقصد الجيل، ثم خرج كرّة ثانية، واتفق مع وشمكير ولم يتم لهما أمر، ثم خرج ثالثة إلى طبرستان لاجئا إلى ركن الدولة بن بويه فنصره، وأقام مدة بها، ثم عاد إلى بلاد الجيل وملك هرسم، ولم يخرج منها إلا في سنة خمسين وثلاثمائة، فإنّه صار إلى نواحى أذربيجان زائرا للمرزبان «2» بن مسافر، وعاد فأقام بهرسم من بلاد الجيل إلى أن توفى بها، وكانت وفاته في سنة خمسين وثلاثمائة.
وملك بعده جماعة من العلويين بلاد الجيل، ولم يكن لأحد منهم دولة قائمة في بلد مشهور، فيعتنى بأمرهم وتدوّن أخبارهم، وإنما كانوا بتلك الناحية شبه الأعيان والأكابر، لا كالملوك والخلفاء، ثم ظهر بعد ذلك أبو عبد الله محمد الحسنى(25/101)
ذكر ظهور أبى عبد الله محمد بن الحسين الحسنى المعروف بابن الداعى
قال ابن الأثير «1» : كان ظهوره في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وذلك أنه هرب من بغداد وسار نحو الديلم، فاجتمع عليه عشرة آلاف رجل، فهرب ابن الناصر العلوى من بين يديه، وتلقّب ابن الداعى بالمهدى لدين الله، وعظم شأنه وهزم قائدا من قواد وشمكير.
ثم أظهر النسك والعبادة ولبس الصوف، وحارب ابن وشمكير فهزمه في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وعزم على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابا يدعوهم إلى الجهاد، هذا ما أورده ابن الأثير «2» فى خبره، ولم يذكر خبر وفاته، إلا أنّه لم يتم له أمر، ولا ظهر لغيره من أهل هذا البيت بعد ذلك بهذه الناحية ذكر، ولا كانت لهم مملكة فى جهة من الجهات، إلا ما نورده من أخبار العبيديين، الذين ملكوا المغرب والديار المصرية وغيرها، وانتسبوا إلى على بن أبى طالب ونفاهم أكثر الناس- بل عامّتهم- عن هذا النسب الشريف، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى من أخبارهم.(25/102)
الباب الثامن من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار صاحب الزنج والقرامطة والخوارج ببلاد الموصل
وإنما أفردنا هؤلاء بباب، لأنّهم ممن شاع ذكرهم وعظم محلّهم وطار اسمهم، واستولوا على كثير من البلاد وهزموا الجيوش، وأهمّ الخلافة أمرهم، وطالت مدتهم ولم يكونوا في أيام خليفة واحد، فنذكرهم في حوادث دولته، وإنما هم في أيام جماعة من الخلفاء، فلو ذكرناهم في حوادث أيامهم لانقطعت أخبارهم، وعسر على المطالع معرفتها، فلذلك أفردناهم لتكون أخبارهم سياقة، لا تنقطع بغيرها من الأخبار.(25/103)
ذكر أخبار صاحب الزنج وابتداء أمره وسبب خروجه
كان خروجه في شوّال سنة خمس وخمسين ومائتين- فى خلافة المهتدى بالله- بفرات البصرة، وزعم أنّه على بن محمد بن أحمد بن على بن عيسى بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، وجمع الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، وعبر دجلة فنزل الدينارى.
قال أبو جعفر «1» الطبرى: وكان اسمه على بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمّه ابنة «2» على بن رحيب بن محمد بن حكيم من أهل الكوفة، وهو أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك، مع زيد بن على بن الحسين، فلما قتل زيد هرب والتحق بالرى، فجاء إلى قرية ورزنين فأقام بها، وجدّه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان وقدم العراق، واشترى جارية فأوكدها محمدا أباه.
قال: وكان صاحب الزنج هذا في ابتداء أمره متصلا بجماعة من حاشية المنتصر، منهم غانم الشطرنجى وسعيد الصعير، وكان معاشه منهم ومن أصحاب السلطان، وكان يمدحهم ويستميحهم بشعره، ثم إنّه شخص من سامرّا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى(25/104)
بها أنّه على بن عبد الله «1» بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله ابن عباس بن على بن أبى طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، فاتبعة جماعة كثيره من أهلها ومن غيرها، فجرى بين الطائفتين عصبيّة قتل فيها جماعة.
قال: وكان أهل البحرين قد أخلّوه محل نبى، وجبا الخراج ونفذ فيهم حكمه، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه، ثم تنكّر له منهم جماعة، فانتقل عنهم إلى الأحسّاء، ونزل على قوم يقال لهم بنو الشمّاس من بنى سعد بن تميم فأقام فيهم، وفي صحبته جماعة من البحرين، منهم يحيى بن محمد الأزرق البحرانى، وسليمان بن جامع- وهو قائد جيشه وكان ينتقل في البادية فذكر عنه أنه قال: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتى، ظاهرة للناس، منها إنى لقّنت سورا من القرآن فجرى بها لسانى، فى ساعة واحدة وحفظتها في دفعة واحدة، منها سبحان «2» والكهف وص، ومنها أنى فكرت في الموضع الذى أقصده حيث نبت بى البلاد فأظلتنى غمامة، وخوطبت منها فقيل لى: اقصد البصرة، وقيل عنه إنه قال لأهل الباديه إنّه يحيى بن عمر أبو الحسين، المقتول بالكوفه، فخدع أهلها فأتاه منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى الرّدم «3» من البحرين، فكانت بينهم وقعة عظيمة، وكانت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، قتلوا قتلا ذريعا فتفرّقت الأعراب عنه، فسار ونزل البصرة(25/105)
فى بنى ضبيعة، فاتبعه منهم جماعة منهم على بن أبان المهلبى، وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، وعاملها يوم ذاك محمد ابن رجاء الحضارىّ.
فوافق قدومه فتنة أهل البصرة، بالبلالية والسعديّة، فطمع في إحدى الطائفتين أن تميل إليه، فأرسل إليهم يدعوهم فلم يجبه «1» من أهل البلد أحد، وطلبه ابن رجاء فهرب، فأخذ جماعة ممن كانوا يميلون إليه وحبسهم، وكان ممّن حبس ابنه وابنته وزوجته وجارية له حاملا منه، وسار يريد بغداد ومعه من أصحابه محمد بن سلم، ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، وبريش «2» القريعى، فلما صار بالبطيحة نذر به وبأصحابة، فدخل بغداد فأقام بها حولا، فانتسب إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، فزعم بها أنه ظهر له آيات عرف بها ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم، فاستمال جماعة من أهل بغداد منهم جعفر بن محمد الصّوحانى، ومحمد بن القاسم، ومشرق ورفيق غلاما يحيى بن عبد الرحمن، فسمّى مشرفا حمزة وكناة أبا أحمد، وسمّى رفيقا جعفرا وكنّاه أبا الفضل، واتفق عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فوثب رؤساء البلالية والسعدية فأخرجوا من كان في الحبس، فخلص أهله فيهم، فلما بلغه خلاص أهله رجع إلى البصرة، وكان رجوعه في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه على بن(25/106)
أبان ويحيى بن محمد وسليمان ومشرق ورفيق، فوافوا البصرة فنزل بقصر القرشى على نهر يعرف بعمود ابن المنجّم، وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ.
قال «1» : وذكر ريحان، أحد غلمان الشورجيين وهو أوّل من صحبه منهم، قال: كنت موكّلا بغلمان مولاى أنقل لهم الدقيق فأخذنى أصحابه فصاروا بى إليه، وأمرونى أن أسلّم عليه بالإمرة ففعلت، فسألنى عن الموضع الذى جئت منه فأخبرته، وسألنى عن أخبار البصرة فقلت لا علم لى، وسألنى عن غلمان الشورجيين وعن أحوالهم وما يجرى لهم فأعلمته، فدعانى إلى ما هو عليه فأجبته، فقال: إحتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم، ووعدنى أن يقوّدنى على من آتيه به، واستحلفنى ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، وخلّى سبيلى وعدت إليه من الغد، وقد أتاه جماعة من غلمان الدبّاسين، فكتب في حريرة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
... الآية) «2» ورفعها علما، وما زال يدعو غلمان أهل البصرة وهم يقبلون إليه، للخلاص من الرق والتعب، حتى اجتمع عنده خلق كثير، فخطبهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم، وحلف لهم الأيمان ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى به إليهم، فأتاه مواليهم وبذلوا له عن كل عبد خمسة دنانير، ليسلّم إليه عبده، فبطح أصحابهم وأمر كل عبد أن يضرب مولاه أو وكيل(25/107)
مولاه خمسمائة شطب «1» ، ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة.
ثم ركب في سفن هناك فعبر دجيلا إلى نهر ميمون، فأقام هناك والسودان تجتمع إليه إلى يوم الفطر، فخطبهم وصلّى بهم وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال، وأنّ الله تعالى أنقذهم من ذلك، وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال، فلما كان بعد يومين رأى أصحابه الحميرىّ، فقاتلوه حتى أخرجوه من دجلة، فاستأمن إلى صاحب الزنج رجل يكنى بأبى صالح ويعرف بالقصير، فى ثلاثمائة من الزنج، فلما كثروا جعل القوّاد منهم، وقال لهم: من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه، وكان ابن أبى عون قد نقل من واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، وسار قائد الزنج إلى المحمديّة، فلما نزلها وافاه أصحاب ابن أبى عون، فصاح الزنج: السلاح!! وقاموا وكان منهم فتح الحجّام، فقام وأخذ طبقا كان بين يديه، فلقيه رجل من الشورجيين يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذى بيده، فرمى سلاحه وولّى هاربا، وانهزم أصحابه وكانوا أربعة آلاف، وقتل منهم جماعة ومات بعضهم عطشا، وأسر منهم فضرب أعناقهم، ثم سار إلى القادسيّة فنهبها أصحابه بأمره، وما زال يتردّد إلى أنهار البصرة، فوجد بعض السودان دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه، فصار معهم ما يقاتلون به.
فأتاه وهو بالسّيب جماعة من أهل البصرة يقاتلونه، فوجّه يحيى(25/108)
ابن محمد في خمسمائة رجل فلقوا البصريين، فانهزم «1» البصريون منهم وأخذوا سلاحهم، ثم قاتل طائفة أخرى عند قرية تعرف بقرية اليهود «2» فهزمهم أيضا، وأثبت أصحابه في الصحراء، ثم أسرى إلى الجعفريّة فوضع في أهلها السيف، فقتل أكثرهم وأتى منهم بأسرى فأطلقهم، ولقى جيشا كبيرا للبصريين مع رميس وعقيل، فهزمهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وكان معهم سفن فهبّت ريح فألقتها إلى الشط، فنزل الزنج وقتلوا من وجدوا فيها وغنموا ما فيها، وكان مع رميس سفن فركبها ونجا، فأنفذ صاحب الزنج فأخذها ونهب ما فيها، ثم نهب القرية المعروفة بالمهلبيّة وأحرقها، وعاث في الأرض وأفسد، ثم لقيه قائد من قواد الأتراك، يقال له أبو هلال في أربعة آلاف مقاتل، فاقتتلوا على نهر الريّان، فحمل السودان عليهم حملة صادقة، فقتلوا صاحب علمه فانهزم أبو هلال وأصحابه، وتبعهم السودان فقتلوا من أصحاب أبى هلال أكثر من ألف وخمسمائة رجل، وأخذوا منهم أسرى فأمر صاحب الزنج بقتلهم، ثم أتاه من أخبره أنّ الزينبى قد أعدّ له الجند والمتطوّعة والبلاليّة والسعديّة، وهم خلق كثير، وأنّهم قد أعدّوا الحبال لتكتيف من يأخذونه من السودان، وأنّ المقدّم عليهم أبو منصور أحد «3» موالى الهاشميين، فأرسل على بن أبان في مائة أسود ليأتيه بخبرهم، فلقى طائفة منهم فهزمهم، وصار من معهم من العبيد إلى على بن أبان، وأرسل طائفة أخرى من أصحابه، إلى موضع فيه ألف(25/109)
وتسعمائة سفينة ومعها من يحفظها، فلما رأوا الزنج هربوا عنها، فأخذ الزنج السفن وأتوا صاحبهم بها، فلما أتوه جلس على نشز من الأرض، وكان في السفن قوم حجّاج أرادوا أن يسلكوا طريق البصرة، فناظرهم فصدقوه في قوله، وقالوا له: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك فأطلقهم، وأرسل طليعة تأتيه بخبر ذلك العسكر فأتاه بخبرهم: أنّهم قد أتوه بخلق كثير، فأمر محمد بن سلم «1» وعلى بن أبان أن يعقدوا لهم بالنخيل، وقعد هو على جبل مشرف، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال، فأمر الزنج فكبّروا وحملوا عليهم، فحملت الخيول فتراجع الزنج حتى أتوا لجبل، ثم حملوا فثبتوا لهم، وقتل من الزنج فتح الحجّام، وصدق الزنج الحملة فأخذوهم بين أيديهم، وجرح محمد بن سلم، وحملوا عليهم فقتلوا منهم، وانهزم الناس وذهبوا كل مذهب، وتبعهم السودان إلى نهر بيان فوقعوا في الوحل، فقتلهم السودان وغرق كثير منهم، وأتى الخبر إلى الزنوج بأنّ لهم كمينا، فساروا إليه فإذا الكمين في ألف من المغاربة، فقاتلوهم قتالا شديدا، ثم حمل السوان عليهم فقتلوهم أجمعين وأخذوا سلاحهم، ثم وجّه أصحابه فرأوا مائتى سفينة، فيها دقيق فأخذوه ومتاع فنهبوه، ونهب المعلّى بن أيوب «2» ، ثم سار فرأى مسلحة الزينبى فقاتلوه، فقاتلهم فقتلهم أجمعين، وكانوا مائتين، ثم سار فنهب قرية منذران «3» ، ورأى فيها جمعا من الزنج(25/110)
ففرقهم على قوّاده، ثم سار فلقيه ستمائة فارس مع سليمان؛ ابن أخى الزينبىّ، ولم يقاتله فأرسل من ينهب، فأتوه بغنم وبقر فذبحوا وأكلوا، وفرّق أصحابه في انتهاب ما هناك.
ثم سار صاحب الزنج يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحى، أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنّهم رأوا في الرياحى بارقة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى السودان: السلاح السلاح!! فأمر على بن أبان بالعبور إليهم، فعبر في ثلاثمائة رجل، وقال له:
إن احتجت إلى مدد فاستمدنى، فلما مضى على بن أبان صاح الزنج، السلاح السلاح!! لحركة رأوها في جهة أخرى، فوجّه محمد بن سلم بجمع فحاربهم من وقت الظهيرة إلى وقت العصر، ثم حمل الزنوج حملة صادقة فهزموهم، وقتلوا من أهل البصرة والأعراب زهاء خمسمائة، ورجعوا إلى صاحبهم، ثم أقبل على بن أبان في أصحابه- وقد هزموا من بإزائهم وقتلوا منهم، ومعه رأس ابن أبى الليث «1» البلالى القواريرى من أعيان البلالية، ثم سار من الغد عن ذلك المكان، ونهى أصحابه عن دخول البصرة، فتسرّع بعضهم فلقيهم أهل البصرة في جمع عظيم، وانتهى الخبر إليه فوجّه محمد بن سلم وعلى بن أبان ومشرقا وخلقا كثيرا، وجاء هو يسايرهم فلقوا البصريين، فأرسل إلى أصحابه ليتأخروا عن المكان الذى هم فيه، فتراجعوا فأكبّ عليهم أهل البصرة فانهزموا، وذلك عند العصر «2» ، ووقع الزنوج في نهر كبير، وقتل(25/111)
منهم جماعة وغرق جماعة وتفرّق الباقون، وتخلّف صاحبهم عنهم وبقى في نفر يسير فنجا، تم لحقهم وهم متحيّرون لفقده، وسأل عن أصحابه فإذا ليس معه منهم إلا خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذى يجتمعون إليه، فنفخ فيه فلم يأته أحد، وكان أهل البصرة قد انتهبوا السفن التى كانت للزنوج وبها متاعهم، فلما أصبح رأى أصحابه في ألف رجل، فأرسل محمد بن سلم إلى أهل البصرة يعظهم ويعلّمهم: ما الذى دعاه إلى الخروج؟ فقتلوه، فلما كان يوم الاثنين لأربع «1» عشرة خلت من ذى القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين جمع أهل البصرة وحشدوا، لما رأوا من ظهورهم عليه، وانتدب لذلك رجل يعرف بحمّاد «2» الساجىّ وكان من غزاة البحر، وله علم في ركوب السفن، فجمع المطوّعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خفّ معه من البلاليّة والسعديّة وغيرهم، وشحن ثلاثة مراكب مقاتلة، ومضى جمهور الناس رجّالة، منهم من معه سلاح ومنهم نظّارة، فدخلت المراكب في المدّ والرجّالة على شاطىء النهر، فلما علم صاحب الزنج بذلك وجّه طائفة من أصحابه مع زريق «3» الأصفهانى كمينا في شرفىّ النهر، وطائفة مع شبل وحسين الحمّامى فى غربيّه كمينا، وأمر على بن أبان أن يلقى أهل البصرة وأن يتستر هو ومن معه- بتراسهم، ولا يقاتل حتى يظهر أصحابه، وتقدّم إلى(25/112)
الكمينين- إذا جازوهم «1» أهل البصرة- أن يخرجوا ويصيحوا بالناس، وبقى هو في نفر يسير من أصحابه، وقد هاله ما رأى من كثرة الجمع، فثار أصحابه إليهم وظهر الكمينان من جانبى النهر وراء السفن والرجّالة، فضربوا من ولّى من الرجّالة والنظّارة، فغرقت طائفة وقتلت طائفة وهرب الباقون إلى الشط، فأدركهم السيف فمن ثبت قتل، ومن ألقى نفسه في الماء غرق، فهلك أكثر ذلك الجمع فلم ينج إلا الشريد، وكثر المفقودون من أهل البصرة، وعلا العويل من نسائهم، وهذا اليوم يسمى يوم الشذا «2» - وهو يوم أعظمه الناس، وكان فيمن قتل جماعة من بنى هاشم وغيرهم في خلق كثير لا يحصى، وجمعت الرؤوس لصاحب الزنج، فأتاه جماعة من أولياء المقتولين فأعطاهم ما عرفوا، وجمع الرؤوس التى لم تطلب في جريبيّة «3» وأطلقها، فوافت البصرة فجاء الناس وأخذوا كلّ ما عرفوه منها، وقوى صاحب الزنج بعد هذا اليوم، وتمكّن الرعب في قلوب أهل البصرة وأمسكوا عن حربه، وكتب الناس إلى الخليفة بخبر ما كان، فوجّه إليهم جعلان التركى مددا، وأمر بالأحوص «4» الباهلى بالمصير إلى الأبلّة والبا، وأمدّه بقائد من الأتراك يقال له جريح، وانصرف(25/113)
صاحب الزنج بأصحابه في آخر النهار إلى سبخة- وهى سبخة أبى قرّة- وبثّ أصحابه يمينا وشمالا للغارة والنهب.
ووصل جعلان إلى البصرة في سنة ست وخمسين ومائتين، ونزل بمكان بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، وخندق عليه وعلى أصحابه وأقام ستة أشهر في خندقه، وجعل يوجّه الزينبىّ وبنى هاشم ومن خفّ لحرب الزنج، ثم سار جعلان للقائه فلم يكن بينهم إلا الرمى بالحجارة والسهام، ولا يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق المكان عن مجال الخيل، وكان أكثر أصحاب جعلان خيّالة، فلما طال مقامه في خندقه أرسل صاحب الزنج أصحابه إلى مسالك الخندق، فبيّتوا جعلان وقتلوا من أصحابه جماعة، وخاف الباقون خوفا شديدا، وكان الزينبىّ قد جمع البلاليّة والسعديّة ووجّه بهم من مكانين، وقاتلوا صاحب الزنج فظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فترك جعلان خندقه وسار إلى البصرة، وظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج، وأمر سعيد الحاجب بمحاربتهم، وتحوّل صاحب الزنج بعد ذلك من السبخة- التى كان فيها- ونزل بنهر أبى الخصيب، وأخذ أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر، وأخذ منها أموالا عظيمة لا تحصى، وقتل من فيها وأنهبها أصحابه ثلاثة أيام، وأخذ لنفسه بعد ذلك من النهب.(25/114)
ذكر دخول الزنج الأبله
وفي سنة ست وخمسين ومائتين دخل الزنج الأبلّة، فقتلوا فيها خلقا كثيرا وأحرقوها، وكان سبب ذلك أنّ جعلان لما تنحّى عن خندقه إلى البصرة ألحّ صاحب الزنج بالغارات على الأبلّة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل، ولم يزل يحارب إلى يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رجب فافتتحها، وقتل بها الأحوص وعبد «1» الله بن حميد الطوسى وأضرمها نارا، وكانت مبنيّة بالساج فأسرعت النار فيها، وقتل من أهلها خلق كثير، وفرّق الأموال العظيمة، وكان ما أحرقت النار أكثر من الذى نهب.
قال: ولما اتصل خبر أهل الأبلّة بأهل عبّادان راسلوا صاحب الزنج في طلب الأمان، على أن يسلّموا إليه البلد، فأمّنهم وسلّموه إليه وأخذ ما فيه من الأموال والسلاح، ففرّقه في أصحابه.
ذكر أخذ الزنج الأهواز
قال: ولما فرغ صاحب الزنج من الأبلّة وعبّادان طمع في الأهواز، واستنهض أصحابه وسار إليها، فهرب من بها من الجند ومن أهلها ولم يبق إلا القليل، فدخلها وأخربها، وكان بها إبراهيم بن المدبّر يتولى الخراج فأخذوه أسيرا، بعد أن قاتل وجرح ونهب جميع ماله، وذلك(25/115)
لإثنتى عشرة ليلة مضت من رمضان من السنة، فخافه أهل البصرة وانتقل كثير من أهلها إلى البلدان.
وأما إبراهيم بن المدبّر فإنّ صاحب الزنج وكل به وحبسه في بيت يحيى بن محمد البحراني، فكان به إلى سنة سبع وخمسين ومائتين، فأرغب الموكّلين به بمال فأطلقوه، فخرج هو وابن أخ له ورجل هاشمى
ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجب وغلبة الزنج
وفي شهر رجب سنة سبع وخمسين ومائتين أوقع سعيد الحاجب بجماعة من الزنج، فهزمهم واستنقذ من معهم، وذلك في خلافة المعتمد على الله بن المتوكل، فكانت المرأة من نساء تلك الناحية تأخذ الزنجى فتأتى به عسكر سعيد فلا يمتنع عليها، ثم عبر سعيد إلى غرب دجلة فأوقع بصاحب الزنج عدّة وقعات، ثم عاد إلى معسكره بهطمة «1» فأقام من ثانى رجب إلى آخر شعبان.
ثم أوقع صاحب الزنج بسعيد، وذلك أنّه سيّر إلى سعيد جيشا، فأوقعوا به ليلا وأصابوا مقتلة من أصحاب سعيد، فقتلوا خلقا كثيرا وأحرقوا عسكره، فأمر بالمسير إلى باب الخليفة، وترك بغراج بالبصرة، فسار سعيد من البصرة وأقام بها بغراج يحمى أهلها، فردّ السلطان أمرها إلى منصور بن جعفر الخيّاط بعد سعيد، فجمع منصور الشذا وسار نحو صاحب الزنج، فكمّن له صاحب الزنج كمينا، فلما أقبل خرجوا عليه فقتلوا في أصحابه مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير، فلم يقابله منصور بعد ذلك.(25/116)
ذكر انهزام الزنج بالأهواز
قال: وفي سنة سبع وخمسين ومائتين أرسل صاحب الزنج جيشا مع على بن أبان ليقطع قنطرة أربك «1» ، فلقيهم إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس، فأوقع بهم وهزمهم وقتل منهم وجرح على بن أبان، ثم سار إبراهيم قاصدا نهر جبىّ «2» ، وأمر كاتبه شاهين بن بسطام بالمسير على طريق آخر، ليوافيه بنهر جبىّ بعد الوقعة، وكان على بن أبان قد سار من الوقعة فنزل الخيزرانيّة، فأتاه رجل فأخبره باقبال شاهين إليه، فسار نحوه فالتقيا وقت العصر بموضع بين جبىّ ونهر موسى، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة فهزموهم، وقتلوا شاهين وابن عم له وخلقا كثيرا، فلما فرغ الزنج منهم أتاهم الخبر بقرب إبراهيم بن سيما منهم، فسار علىّ نحوه فوافاه وقت العشاء الآخرة، فأوقع بإبراهيم وقعة شديدة قتل فيها جمعا كثيرا؛ قال على بن أبان: وكان أصحابى قد تفرّقوا بعد الوقعة مع شاهين، ولم يشهد معى حرب إبراهيم غير خمسين رجلا، ثم انصرف على بن أبان إلى جبىّ.(25/117)
ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبها
قال: وفي شوال سنة سبع وخمسين ومائتين جمع صاحب الزنج أصحابه لدخول البصرة، وتخريبها لضعف أهلها وتفرّقهم، وكان منصور الخيّاط قد أمسك عن حربه بعد تلك الوقعة التى ذكرناها، واقتصر على تخفير القيروانات والسفن، فامتنع أهل البصرة فعظم ذلك على صاحب الزنج، فتقدّم إلى على بن أبان بالمقام بالخيزرانيّة ليشغل منصورا عن تسيير القيروانات، وكان علىّ بنواحى جبىّ والخيزرانيّة، ثم أمر محمد بن يزيد الدارمى- وهو أحد من صحبه بالبحرين- أن يخرج إلى الأعراب فيجمعهم، فخرج إليهم فأتاه منهم خلق كثير فأناخوا بالقندل «1» ، ووجّه إليهم سليمان بن موسى الشّعرانى، وأمرهم بطرق البصرة والايقاع بها ليتمرّن الأعراب على ذلك، ثم انهض علىّ بن أبان وضمّ إليه طائفة من الأعراب، وأمره باتيان البصرة من ناحية بنى سعد، وأمر يحيى بن محمد البحرانى باتيانها من ناحية نهر عدى وضمّ إليه سائر الأعراب، فكان أوّل من واقع أهل البصرة على بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه، وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحو الجسر، فدخل على بن أبان البصرة وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت، ثم عاد يحيى إلى البصرة يوم الأحد فتلقّاه بغراج في جمع، فردّوه يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الإثنين(25/118)
فدخل وقد تفرق الجند، وانحاز بغراج ومن معه. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبى فاستأمنه لأهل البصرة فأمّنهم، فنادى منادى إبراهيم: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملأوا الرحاب، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوا فغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلك الجمع كله ولم يسلم منهم إلا النادر، ثم انصرف يومه ذلك، ودخل علىّ بن أبان إلى الجامع فأحرقه، وأحرقت البصرة من عدة مواضع، واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل، وعظم الخطب وعمّها القتل والنهب والاحراق، وقتلوا كل من رأوه بها، فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيرا قتلوه لوقته، فبقوا كذلك عدة أيام، ثم أمر يحيى أن ينادى بالأمان ليظهروا فلم يظهر أحد، ثم انتهى الخبر إلى صاحب الزنج فصرف على بن أبان عنها، وأقرّ يحيى عليها لموافقته هواه في كثرة القتل، وصرف عليا لابقائه على أهلها، فهرب الناس على وجوههم، وصرف صاحب الزنج جيشه عن البصرة.
قال: ولما أخرب البصرة انتمى إلى زيد لمصير جماعة من العلويين إليه، وترك الانتساب إلى عيسى بن زيد، وانتسب إلى يحيى بن زيد، قال القاسم بن الحسن النوفلى: كذب، ابن يحيى «1» لم يعقب غير بنت ماتت وهى ترضع.(25/119)
ذكر مسير المولد لحرب صاحب الزنج وانتصار صاحب الزنج
وفي ذى القعدة من السنة أمر المعتمد على الله المولّد بالمسير إلى البصرة لحرب الزنج، فسار فنزل الأبلّة فسيّر صاحب الزنج يحيى ابن محمد لحربه، فسار إليه فقاتله عشرة أيام، ثم وطّن المولّد نفسه على المقام، فكتب صاحب الزنج إلى يحيى يأمره بتبييت المولّد، وسيّر إليه أبا الليث الأصفهانى فبيّته، ونهض المولّد فقاتله تلك الليلة ومن الغد إلى العصر، ثم انهزم عنه ودخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه، واتبعه يحيى إلى الجامدة فأوقع بأهلها، ونهب تلك القرى وسفك ما قدر عليه من الدماء، ثم رجع إلى نهر معقل.
ذكر الحرب بين منصور الخياط والزنج وقتل منصور
قال: وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين قتل منصور بن جعفر الخياط، وسبب ذلك أن صاحب الزنج لما فرغ من أمر البصرة أمر على بن أبان بالمسير إلى جبىّ، لحرب منصور بن جعفر وهو يومئذ يلى الأهواز، فأقام بازائه شهرا وكان منصور في قلّة من الرجال، ثم وجّه صاحب الزنج جلّة أصحابه مع أبى الليث الأصفهانى، وأمره بطاعة على بن أبان فلما صار إليه خالفه واستبدّ، وجاء منصور كما كان يجىء للحرب، فتقدّم إليه أبو الليث عن غير إذن علىّ، فظفر به منصور وقتل من الزنج خلقا كثيرا، وأفلت أبو الليث ورجع إلى(25/120)
صاحب الزنج، ثم إنّ على بن أبان وجّه طلائع يأتونه بخبر منصور، وأسرى إلى وال كان لمنصور على بعض الأعمال، فقتله وقتل أكثر أصحابه وغنم ما كان معهم ورجع، وبلغ الخبر منصور بن جعفر فأسرى إلى الخيزرانيّة، وخرج إليه على بن أبان فتحاربوا إلى الظهر فانهزم منصور وتفرّق عنه أصحابه، وأدركته طائفة من الزنج فحمل عليهم، وقاتلهم حتى تكسّر رمحة وفنى نشّابه، ثم حمل حصانه ليعبر النهر فوقع في النهر، وسبب وقوعه أن بعض الزنج رآه حين أراد أن يعبر النهر، فألقى نفسه في النهر قبل منصور وتلقّى الفرس حين وثب، فنكص الفرس وسقط منصور في النهر فقتله الأسود وأخذ سلبه، وقتل معه أخوه خلف بن جعفر وغيره من أصحابه.
ذكر مسير أبى أحمد الموفق لقتال الزنج وقتل مفلح
وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين عقد المعتمد على الله لأخيه أبى أحمد الموفّق على ديار مضر وقنّسرين والعواصم، وخلع عليه وعلى مفلح في شهر ربيع الآخر وسيّرهما لحرب الزنج بالبصرة، وركب المعتمد معه وشيّعه وسار نحو البصرة، ونازل صاحب الزنج، وكان سبب ارساله ما فعله الزنج بالبصرة، فأكبر الناس ذلك وتجهّزوا إليه وساروا في عدة وعدة كاملة، وصحبه من سوقة بغداد خلق كثير، وكان على بن أبان بجبىّ، وسار يحيى بن محمد البحرانى إلى نهر العباس ومعه أكثر الزنوج، وبقى صاحبهم في قلّة من الناس، وأصحابه يغادون البصرة ويراوحونها لثقل ما نالوه منها، فلما نزل عسكر الموفّق(25/121)
نهر معقل أجفل من فيه من الزنوج إلى صاحبهم مرعوبين، وأخبروه بعظم الجيش وأنّهم لم يرد عليهم مثله، فأحضر رئيسين من أصحابه فسألهما عن قائد الجيش فلم يعرفاه، فجزع لذلك ثم سيّر إلى على ابن أبان يأمره بالمصير إليه فيمن معه، فلما كان يوم الأربعاء لإثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى أتاه بعض قوّاده، فأخبره بمجىء العساكر وتقدّمهم، وأنّهم ليس في وجوههم من الزنوج من يردّهم، فكذبه وسبّه وأمر فنودى في الزنوج بالخروج إلى الحرب فخرجوا، فرأوا مفلحا قد أتاهم في عسكر فقاتلوه، فبينما مفلح يقاتلهم إذ أتاه سهم غرب، لا يعرف من رمى به، فأصابه فرجع وانهزم أصحابه، وقتل الزنج فيهم قتلا ذريعا، وحملوا الرؤوس إلى صاحب الزنج، واقتسم الزنج لحوم القتلى، وأتى بالأسرى فسألهم عن قائد الجيش فأخبروه أنّه أبو أحمد، ومات مفلح من ذلك السهم ولم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه على بن أبان، ثم رحل الموفّق إلى الأبلّة ليجمع ما فرّقته الهزيمة ثم صار إلى نهر أبى الأسد «1» .
ذكر مقتل يحيى بن محمد البحرانى
وفي سنة ثمان وخمسين ومائتين أيضا أسر يحيى بن محمد البحرانى قائد صاحب الزنج، وكان سبب ذلك أنّه لما سافر نحو نهر العبّاس لقيه عسكر اصفجون «2» ، عامل الأهواز بعد منصور، فقاتلهم وكان(25/122)
أكثر منهم عددا، فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب وجرحوهم، فعبر يحيى النهر إليهم فانحازوا عنه، وغنم سفنا كانت مع العسكر فيها الميرة، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج، على غير الوجه الذى فيه على بن أبان لتحاسد كان بينه وبين يحيى، ووجّه يحيى طلائعه إلى دجلة فلقيهم جيش أبى أحمد الموفّق، سائرين إلى نهر أبى الأسد، فرجعوا إلى علىّ فأخبروه بمجىء الجيش، فرجع من الطريق الذى كان سلكه وسلك طريق نهر العبّاس، وعلى فم النهر مراكب تحميه من عسكر الخليفة، فلما رآهم يحيى راعه ذلك، وخاف أصحابه فنزلوا السفن وعبروا النهر، وبقى يحيى ومعه بضعة عشر رجلا، فقاتلهم هو وذلك النفر اليسير فرموهم بالسهام، فجرح ثلاث جراحات فلما جرج تفرّق أصحابه عنه، فرجع حتى دخل بعض السفن وهو مثخن بالجراح، وأخذ أصحاب السلطان الغنائم وأخذوا السفن، وعبروا إلى سفن كانت للزنج فأحرقوها، وتفرّق الزنج عن يحيى في بقيّة نهارهم، فلما رأى تفرّقهم ركب سميريّة وأخذ معه طبيبا لأجل الجراح، وسار فيها فرأى الملّاحون سميريّات السلطان فخافوا فألقوا يحيى ومن معه. فمشى وهو مثقل وقام الطبيب الذى معه فأتى أصحاب السلطان، فأخبرهم خبره فأخذوه وحملوه إلى أبى أحمد، فحمله أبو أحمد إلى سامرّا فقطعت يداه ورجلاه ثم قتل، فجزع صاحب الزنج عليه جزعا شديدا وقال لهم لما قتل يحيى: اشتدّ جزعى عليه فخوطبت أنّ قتله كان خيرا لك، إنّه كان شرها.(25/123)
ذكر عود أبى أحمد الموفق الى سامرا واستخلافه محمد المولد على حرب الزنج
وفي هذه السنة أيضا انحاز أبو أحمد الموفق إلى واسط، ثم منها إلى سامرّا، وكان سبب ذلك أنه لما صار إلى نهر أبى الأسد كثرت الأمراض في أصحابه وكثر فيهم الموت، فرجع إلى باذاورد فأقام هناك، وأمر باعطاء الجند أرزاقهم واصلاح الآلات والسميريّات وشحنها بالقوّاد، وعاد إلى عسكر صاحب الزنج، وأمر جماعة من قوّاده بقصد مواضع سمّاها من نهر أبى الخصيب وغيره «1» ، وبقى معه جماعة، فمال أكثر، الخلق حتى التقى الناس ونشبت الحرب إلى نهر أبى الخصيب «2» ، وبقى أبو أحمد في قلّة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه خوفا أن يطمع الزنج فيه، ولما رأى الزنج قلّة من معه طمعوا فيه وكثروا عليه، واشتدت الحرب عنده وكثر القتل والجراح، وأحرق أصحاب أبى أحمد منازل الزنوج، واستنقذوا من النساء جمعا كثيرا، ثم ألقى الزنج جدّهم نحوه، فلما رأى أبو أحمد ذلك علم أنّ الحزم في المحاجزة، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على مهل وتؤدة، واقتطع الزنج طائفة من أصحابه فقاتلوهم، فقتلوا من الزنج خلقا كثيرا ثم قتلوا بأجمعهم، وحملت رؤوسهم إلى قائد الزنج، وهى مائة رأس وعشرة أروس، فزاد ذلك في عتوّ صاحب الزنج، فعبىّ أبو أحمد أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في أطراف(25/124)
عسكره في يوم ريح عاصف، فاحترق كثير منه فرحل «1» إلى واسط، فلما نزل إلى واسط تفرّق عنه عامّة أصحابه، فسار منها إلى سامرّا، واستخلف على واسط لحرب الزنج محمد المولّد، ثم عاد الموفّق بعد ذلك لحرب الزنج، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر دخول الزنج الأهواز ومسير موسى بن بغا لحربهم
قال: وفي سنة تسع وخمسين ومائتين في شهر رجب دخل الزنج الأهواز، وذلك أنّ صاحبهم أنفذ على بن أبان وضمّ إليه الجيش، الذى كان مع يحيى البحرانى وسليمان بن موسى الشعرانى، وسيّره إلى الأهواز، وكان المتولى عليها بعد منصور بن جعفر رجلا يقال له اصغجون، فبلغه خبر الزنج فخرج إليهم، والتقى العسكران بدست «2» ميسان، فانهزم اصغجون وغرق وقتل وأسر خلق كثير من أصحابه، وكان ممّن أسر الحسن بن هرثمة والحسن بن جعفر، وحملت الرؤوس والأعلام والأسرى إلى صاحب الزنج، فأمر بحبس الأسرى، ودخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون فيها ويعبثون، إلى أن قدم موسى بن بغا.
قال «3» : ولما كان في ذى القعدة أمر المعتمد على الله موسى بن بغا(25/125)
بالمسير إلى حرب صاحب الزنج، فسير إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة اسحاق بن كنداجيق، وإلى باذاورد إبراهيم بن سيما، وأمرهم بمحاربة صاحب الزنج، فسار عبد الرحمن إلى محاربة على ابن أبان فتواقعا، فانهزم عبد الرحمن ثم استعدّ وعاد إلى على، فأوقع به وقعة عظيمة قتل فيها من الزنج قتلا ذريعا، وأسر خلقا كثيرا، وانهزم على بن أبان، ثم أراد ردّ الزنج فلم يرجعوا من الخوف الذى دخلهم من عبد الرحمن، فلما رأى ذلك أذن لهم بالانصراف، فانصرفوا إلى مدينة صاحبهم، ووافى عبد الرحمن حصن مهدي ليعسكر به، فسيّر إليه صاحب الزنج علىّ بن أبان فواقعة فلم يقدر عليه، ومضى يريد الموضع المعروف بادركه «1» ، وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد، فواقعه على بن أبان فهزمه علىّ، ثم واقعه ثانية فهزمه إبراهيم، فمضى علىّ بالليل حتى انتهى إلى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر في جمع من الموالى، فلم يصل إليه لامتناعه بالآجام والقصب والحلافى، فأضرمه عليه نارا فخرجوا هاربين، فأسر منهم أسرى وانصرف أصحاب عبد الرحمن بالأسرى والظفر، ثم سار عبد الرحمن نحو علىّ بن أبان بمكان نزل فيه، فكتب إلى صاحب الزنج يستمده فأمدّه بثلاث عشرة شذاة، ووافاه عبد الرحمن فتواقعا يومهما، فلما كان الليل انتخب علىّ من أصحابه جماعة ممّن يثق بهم، وسار وترك عسكره وأتى عبد الرحمن من ورائه فبيّته، فنال(25/126)
منه شيئا يسيرا وانحاز عبد الرحمن، فأخذ علىّ منهم أربع شذوات وأنى عبد الرحمن دولاب فأقام به، وسار طاشتمر إلى علىّ فوافاه وقاتله، فانهزم علىّ إلى نهر السّدره، وكتب طاشتمر يستمد عبد الرحمن ويخبره بانهزام علىّ، فأتاه عبد الرحمن وواقع عليا بنهر السّدرة وقعه عظيمة، فانهزم علىّ إلى صاحب الزنج، وعسكر عبد الرحمن ببيان «1» فكان هو وإبراهيم بن سيما يتناوبان المسير إلى عسكر الزنج فيوقعان به، واسحاق بن كنداجيق بالبصرة، وقد قطع الميرة عن الزنج، فكان صاحبهم يجمعهم يوم محاربة عبد الرحمن وإبراهيم، فإذا انقضت الحرب سيّر طائفة منهم إلى البصرة لقتال اسحاق، فأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا، إلى أن انصرف موسى بن بغا عن حرب الزنج، ووليها مسرور البلخى على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولى أبو الساج الأهواز وسيّر عبد الرحمن إلى فارس، وأمر أبو الساج بمحاربة الزنج فندب صهره «2» لمحاربتهم، فلقيه علىّ بن أبان بناحية دولاب، فقتل عبد الرحمن وانحاز أبو الساج إلى ناحية عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها وسبوا وأحرقوا، ثم انصرف أبو الساج عما كان وليه من الأهواز وحرب الزنج، ووليها إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا.(25/127)
ذكر انتداب أبى أحمد الموفق لحرب الزنج وما شغله عن ذلك واستعماله مسرورا البلخى على حربهم وما كان في خلال ذلك من أخبارهم
وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولّى المعتمد على الله أخاه أبا أحمد العهد بعد ابنه جعفر، ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه من الأعمال ما قدّمنا ذكره في أخباره الدولة العباسية، وولّى موسى بن بغا إفريقية على ما قدمناه، وأمر المعتمد على الله أخاه الموفّق بحرب الزنج، فولّى الموفّق الأهواز والبصرة وكور دجلة- وذلك من جملة ما هو مضاف إلى ولايته- مسرورا البلخى، وسيّره على مقدمته في ذى الحجة من السنة وعزم على المسير بعده، فحدث من أمر يعقوب بن الليث الصفّار ما منعه عن المسير على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة الصفارية، ثم رجع مسرور البلخى لقتال يعقوب، فخلت البلاد من العساكر السلطانية، فبثّ صاحب الزنج سراياه في تلك البلاد تنهب وتحرق وتخرّب، وذلك في سنة اثنتين وستين ومائتين، وأتته الأخبار بخلوّ البطيحة من جند السلطان، فأمر سليمان بن جامع وجماعة من أصحابة بالمسير إلى الحوانيت، وأمر سليمان بن موسى بالمصير إلى القادسية، وقدم أبّا «1» التركى في ثلاثين شذاة يريد عسكر الزنج فنهب وأحرق، فكتب صاحب الزنج إلى سليمان بن موسى يأمره بمنعه من العبور، فأخذ سليمان عليه الطريق، فقاتلهم(25/128)
شهرا حتى تخلّص، وانحاز إلى سليمان بن جامع من مذكورى البلاليّة وأنجادهم جمع كثير في خمسين ومائة سميرية، وكان مسرور البلخى قد وجّه قبل مسيره عن واسط جماعة من أصحابة في شذاة إلى سليمان، فأشار الباهليون على سليمان أن يتحصّن في عقر ما وراء «1» طهيثا والأدغال التى فيها، وكرهوا خروجه عنهم لموافقته في فعله وخافوا السلطان، فسار فنزل إليه بقربة مروان بالجانب الشرقى من نهر طهيثا، وجمع إليه رؤساء الباهليين، وكتب إلى صاحب الزنج يعلمه بما صنع، فكتب إليه يصوّب رأيه ويأمره بانفاذ ما عند من ميرة ونعم، فأنفذ ذلك إليه.
وورد الخبر على سليمان أنّ أغرتميش وخشيشا قد أقبلا في الخيل والرجال «2» والسميريات والشذاة يريدون حربه، فجزع جزعا شديدا، فلما أشرفوا عليه ورآهم أخذ جمعا من أصحابه، وسار راجلا واستدبر أغرتميش، وجدّ أغرتميش في المسير إلى عسكر سليمان، وكان سليمان قد أمر الذي استخلفه في جيشه ألّا يظهر منهم أحد لأصحاب أغرتميش، وأن يخفوا أنفسهم ما قدروا إلى أن يسمعوا أصوات طبولهم، فإذا سمعوها خرجوا عليه، وأقبل أغرتميش إليهم فجزع أصحاب سليمان جزعا شديدا فتفرّقوا، ونهضت شرذمة منهم فواقعوهم وشغلوهم عن دخول العسكر، وجاء سليمان من خلفهم وضرب طبوله، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أصحاب أغرتميش وظهر من كان(25/129)
من السودان بطهيثا، ووضعوا السيوف فيهم فقتل خشيش وانهزم أغرتميش، وتبعه الزنوج إلى عسكره فنالوا حاجتهم منه، وأخذوا شذاوات فيها مال وغيره، فعاد أغرتميش إليهم فانتزعها من أيديهم، وعاد سليمان وقد ظفر وغنم، وكتب إلى صاحب الرنج بالخبر وسيّر إليه رأس خشيش، فسيّره إلى علىّ بن أبان وهو بنواحى الأهواز، وسيّر سليمان سريّة فظفروا باحدى عشرة شذاة وقتلوا أصحابها.
ثم كانت للزنج وقعة عظيمة انهزموا فيها في سنة اثنتين وستين أيضا وكانت هذه الوقعة مع أحمد بن ليثويه، وكان سببها أن مسرورا البلخى وجّه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز، فنزل السوس وكان يعقوب الصفّار- المستولى على خراسان- قد قلّد محمد بن عبيد الله ابن هزار «1» مرد الكردى كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وأوهمه أنّه يتولى له كور الأهواز، وكان محمد يكاتبه قديما، وعزم على مداراة الصفّار وقائد الزنج، حتى يستقيم له الأمر فيها، فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما سأل، على أن يكون على بن أبان المتولّى للبلاد، ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد ذلك، فوجّه إليه على بن أبان جيشا وأمدّهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحو السوس فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنها، وقاتلهم فقتل خلقا كثيرا وأسر جماعة، وسار أحمد حتى جندى «2» سابور، وسار على بن أبان من الأهواز منجدا محمد بن(25/130)
عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فلقيه محمد «1» فى جيش كثير من الأكراد والصعاليك، ودخل محمد تستر، فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله، فخرج عن جندى سابور إلى السوس، وكان محمد قد وعد علىّ بن أبان أن يخطب لصاحبه قائد الزنج يوم الجمعة على منبر تستر، فلما كان يوم الجمعة خطب للمعتمد على الله وللصفّار، فلما علم على بن أبان ذلك انصرف إلى الأهواز، وهدم قنطرة كانت هناك لئلا تلحقه الخيل، وانتهى أصحاب علىّ إلى عسكر مكرم فنهبوها، وكانت داخلة في سلم صاحب الزنج فغدروا بها، وساروا إلى الأهواز، فلما علم أحمد ذلك أقبل إلى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فانهزم محمد ودخل أحمد تستر، وأنت الأخبار على بن أبان أنّ أحمد على قصده، فسار إلى لقائه ومحاربته فالتقيا واقتتل العسكران، فاستأمن جماعة من الأعراب، الذين كانوا مع علىّ بن أبان- إلى أحمد بن ليثويه، فانهزم باقى أصحاب علىّ وثبت معه جماعة يسيرة، فاشتد القتال وترجّل على بن أبان وباشر القتال راجلا، فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر به، فلما عرفوه انصرف هاربا، وأتاه بعض أصحابه بسميريّة فركب فيها ونجا مجروحا، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وعاد إلى الأهواز ولم يقم بها، ومضى إلى عسكر صاحبه يداوى جراحه، واستخلف على عسكره بالأهواز، فلما برئت جراحه عاد إلى الأهواز، ووجّه أخاه الخليل بن أبان في سنة ثلاث وستين ومائتين في جيش كثيف إلى(25/131)
أحمد بن ليثويه، وكان أحمد بعسكر مكرم فكمّن لهم أحمد وخرج إلى قتالهم، فالتقى الجمعان واقتتلوا أشد قتال، وخرج الكمين على الزنج فانهزموا وتفرّقوا وقتلوا، ووصل المنهزمون إلى على بن أبان، فوجّه علىّ مسلحة [إلى المسرقان] «1» ، فوجّه إليهم أحمد بن ليثويه ثلاثين فارسا من أعيان أصحابه فقتلهم الزنج جميعهم.
ذكر دخول الزنج واسط وما تقدم ذلك من الحروب والوقائع
كان دخول الزنج واسط في سنة أربع وستين ومائتين، وذلك أن سليمان بن جامع لما سار إلى البطائح في سنة اثنتين وستين- وكان بينه وبين أغرتميش ما ذكرناه- كتب إلى صاحبه يستأذنه في المسير إليه ليحدث به عهدا، فأذن له في ذلك، فأشار عليه الجبّائى «2» أن يتطرق إلى عسكر تكين البخارىّ، وهو ببردود «3» ، فقبل قوله وسار إلى تكين، فلما كان على فرسخ منه قال له الجبّائى: الرأى أن تقيم أنت هاهنا، وأمضى أنا في السميريّات فأجرّ القوم إليك فيأتونك وقد تعبوا، فتنال منهم حاجتك، ففعل سليمان ذلك وجعل بعض أصحابه كمينا، ومضى الجبّائى إلى تكين فقاتله ساعة، ثم تطارد لهم فتبعوه،(25/132)
فأرسل إلى سليمان يعلمه ذلك، وقال لأصحابه- وهو بين يدى أصحاب تكين شبه المنهزم ليسمع أصحاب تكين قوله- غرّرتمونى وأهلكتمونى!! وكنت نهيتكم عن الدخول هاهنا فأبيتم ولا أرانا ننجو منه!! فطمع أصحاب تكين وجدّوا في طلبه، وجعلوا ينادون «بلبل في قفص» ، فما زالوا كذلك حتى جاوزوا موضع الكمين وقاربوا عسكر سليمان، وقد كمّن أيضا خلف جدر هناك، فخرج سليمان إليهم فقاتلهم، وخرج الكمين من خلفهم، وعطف الجبّائى على من في النهر، فاشتد القتال، فانهزم أصحاب تكين من الوجوه كلها، وركبهم الزنج فقتلوهم وسلبوهم أكثر من ثلاثة فراسخ، وعادوا عنهم، فلما كان الليل عاد الزنج إليهم وهم في معسكرهم فكبسوهم، فقاتلهم تكين وأصحابه فانكشف سليمان، ثم عبىّ أصحابة وأمر طائفة أن تأتيه من جهة ذكرها بهم، وطائفة من الماء، وأتى هو في الباقين، وقصدوا تكين من جهاته كلها، فعلم يقف من أصحابه أحد، وانهزموا وتركوا عسكرهم فغنم الزنج ما فيه، وعادوا بالغنيمة.
واستخلف سليمان الجبّائى على عسكره، وسار إلى صاحبه وذلك فى سنة ثلاث وستين، فلما سار سليمان إلى صاحب الزنج خرج الجبّائى بالعسكر إلى مازروان «1» لطلب الميرة، فاعترضه جعلان فقاتله، فانهزم الجبّائى وأخذت سفنه، وأتته الأخبار أنّ منجور ومحمد ابن على «2» بن حبيب اليشكرى قد بلعا الحجّاجيّة، فكتب إلى(25/133)
صاحبه بذلك، فسيّر إليه سليمان فوصل إلى طهيثا مجدا، وأظهر أنّه يريد قصد جعلان، وقدم الجبّائى وأمره أن يأتى جعلان ويقف بحيث يراه ولا يقاتله، ثم سار سليمان نحو محمد بن على بن حبيب مجدا فأوقع به وقعة عظيمة، وغنم غنائم كثيرة، وقتل أخا لمحمد بن على ورجع، وذلك في شهر رجب سنة ثلاث وستين أيضا.
ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان، وبها قائد يقال له جيش «1» ابن خمارتكين فأوقع به، فهزمه ونهب القرية وأحرقها وعاد، ثم سار فى شعبان أيضا إلى مواضع فنهبها وعاد، ثم سار في رمضان وأظهر أنّه يريد جعلان بمازروان «2» ، فبلغت الأخبار جعلان «3» فضبط عسكره، فتركه سليمان وعدل إلى أبّا فأوقع به وهو غارّ، وغنم منه ست شذاوات، ثم أرسل الجبّائى في جماعة لينهب، فصادفهم جعلان فأخذ سفنهم وغنم منهم، فأتاد سليمان في البرّ فهزمه واستنقذ سفنهم، وغنم شيئا آخر وعاد، ثم سار سليمان إلى الرصافة في «4» ذى القعدة فأوقع بمطر بن جامع وهو بها، وغنم غنائم كثيرة وأحرق الرصافة «5» واستباحها، وحمل أعلاما وانحدر إلى مدينة صاحب الزنج، وأقام ليعيّد هناك بمنزله، فسار مطر إلى الحجّاجيّة فأوقع بأهلها وأسر جماعة، وكان بها قاض لسليمان فأسره مطر وحمله إلى واسط، وصار مطر إلى قريب طهيثا ورجع، فكتب الجبّائى إلى سليمان بذلك، فسار نحوه فوافاه لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين.(25/134)
ثم صرف جعلان ووافاه أحمد بن ليثويه فأقام بالشديديّة، ومضى سليمان إلى تكين في خمس شذاوات، وذلك في سنة أربع وستين، فواقعه تكين بالشديديّة، وكان أحمد بن ليثويه حينئذ قد سار إلى الكوفة، فظهر تكين على سليمان وأخذ الشذاوات بما فيها، وكان فيها صناديد سليمان وقوّاده فقتلهم، ثم إنّ أحمد عاد إلى الشديديّة وضبط تلك الأعمال، حتى وافاه محمد المولّد وقد ولّاه الموفّق مدينة واسط، فكتب سليمان إلى صاحبه يستمده، فأمدّه بالخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس «1» ، فلما أتاه المدد قصد إلى محاربة محمد المولّد، فأوقع به وهرب المولّد، ودخل سليمان مدينة واسط فقتل فيها خلقا كثيرا ونهب وأحرق، وكان بها كنجور «2» البخارى، فقاتله يومه إلى العصر ثم قتل، وانصرف سليمان عن واسط إلى جنبلاء ليعيث ويخرّب، فأقام هناك تسعين ليلة.
ذكر وقائع كانت بين الزنج وبين أحمد بن ليثويه وتكين البخارى وأغرتميش فى سنة خمس وسنة ست وستين ومائتين
وفي سنة خمس وستين كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناحية جنبلاء، وسبب ذلك أن سليمان كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يسمّى الزهيرى «3» ويسأله(25/135)
أن يأذن في عمله، ويقول إنّه متى أنفذه تهيّأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة، فأنفذ إليه زكرويه «1» لذلك، وأمره بمساعدته والنفقة على عمل النهر، فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطيّة نحوا من شهر، وشرعوا في عمل النهر، وكان أصحاب سليمان في أثناء ذلك يتطرّقون إلى ما حولهم، فواقعه أحمد بن ليثويه، وهو عامل الموفّق بجنبلاء، فقتل من الزنوج نيّفا وأربعين قائدا، ومن عامّتهم ما لا يحصى كثرة وأحرق سفنهم، فمضى سليمان مهزوما إلى طهيثا.
وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميريّة إلى جبّل «2» ، فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا. وفيها دخل الزنج النّعمانيّة فأحرقوها وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السودان بغداد.
وفيها استعمل الموفّق مسرورا البلخى على كور الأهواز، فولّى مسرور ذلك تكين البخارىّ، فسار تكين إليها، وكان على بن أبان والزنج قد أحاطوا بتستر، فخاف أهلها وعزموا على تسليمها إليهم، فوافاهم تكين وهم على تلك الحال، فواقع على بن أبان حال وصوله، فانهزم على والزنج وقتل كثير منهم وتفرقوا، ونزل تكين تستر. قال: وهذه الوقعة تعرف بوقعة كودك «3» وهى مشهورة.(25/136)
قال: ثم إن عليا قدم عليه جماعة من قوّاد الزنج، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس، فهرب منهم غلام رومى إلى تكين وأخبره بمقامهم بالقنطرة، وتشاغلهم بالنبيذ وتفرّقهم في جمع الطعام، فسار تكين إليهم ليلا فأوقع بهم، وقتل من قوّادهم جماعة وانهزم الباقون، وسار تكين إلى على بن أبان فلم يقف له علىّ وانهزم، وأسر غلام له يعرف يجعفرويه ورجع علىّ إلى الأهواز ورجع تكين إلى تستر، وكتب علىّ إلى تكين يسأله الكفّ عن قتل غلامة فحبسه، ثم تراسل علىّ وتكين ونهاديا، فبلغ الخبر مسرورا بميل تكين إلى الزنج، فسار حتى وافى تكين وقبض عليه وحبسه حتى مات، وتفرّق أصحاب تكين: ففرقة صارت إلى الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردى، فبلغ ذلك مسرورا فأمّنهم، فجاءه الباقون منهم. قال: وبعض ما ذكرناه كان في ست وستين ومائتين.
وفي سنة ست وستين ولى أغرتميش ما كان يتولاه تكين البخارى من أعمال الأهواز، فدخل تستر ومعه أبّا ومطر بن جامع، فقتل مطر جعفرويه- غلام علىّ بن أبان- وجماعة معه كانوا مأسورين، وساروا إلى عسكر مكرم، وأتاهم الزنج هناك مع على بن أبان فاقتتلوا، فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوا، ورجع علىّ إلى الأهواز وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج، وسار أغرتميش ومن معه نحو الخليل، ليعبروا إليه من قنطرة أربك، فكتب إلى أخيه علىّ فوافاه في النهر، وخاف أصحابه الذين خلفّهم بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السّدرة، وتحارب علىّ وأغرتميش يومه، ثم انصرف علىّ إلى الأهواز فلم يجد أصحابه، فرجّه من يردّهم من نهر السدرة،(25/137)
فعسر عليهم ذلك فتبعهم وأقام معهم ورجع أغرتميش، فنزل «1» عسكر مكرم واستعد لقتالهم، وبلغ ذلك أغرتميش «2» ومن معه من عسكر الخليفة، فساروا إليه فكمّن لهم علىّ، وقدّم الخليل إلى قتالهم فاقتتلوا، فكان أوّل النهار لأصحاب الخليفة، ثم خرج عليهم الكمين فانهزمو وأسر مطر بن جامع وعدّة من القوّاد، فقتله علىّ بغلامه جعفرويه وعاد إلى الأهواز، وأرسل رؤوس القتلى إلى صاحب الزنج، وكان علىّ وأغرتميش بعد ذلك في حروبهم على السواء، وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علىّ بن أبان، فلما رأى ذلك أغرنميش وادعه، وجعل علىّ يغير على النواحى، فأغار على قرية بيروذ ونهبها، ووجّه الغنائم إلى صاحبه.
ذكر دخول الزنج رامهرمز
وفي سنه ست وستين ومائتين دخل علىّ والزنج رامهرمز، وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علىّ بن أبان، لما في نفس علىّ منه لما ذكرناه، فكتب إلى انكلاى ابن صاحب الزنج، وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علىّ عنه ويكون إلى نفسه، فزاد ذلك غيظ علىّ منه، وكتب إلى صاحب الزنج بالايقاع بمحمد، ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج، فأذن له فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج، فمطله ودافعه فسار إليه علىّ وهو برامهرمز، فهرب محمد عنها ودخلها علىّ والزنج فاستباحها، ولحق محمد بأقصى معاقله، وانصرف علىّ غانما، وخاف(25/138)
محمد فكتب إليه يطلب المسالمة، فأجابه إلى ذلك على مال يؤديه إليه، فحمل إليه مائتى ألف درهم فأنفذها إلى صاحب الزنج، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله.
وفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيها، وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علىّ بن أبان بعد الصلح يسأله المعونة على طائفة من الأكراد، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم، فكتب علىّ إلى صاحبه يستأذنه، فكتب إليه أن: وجّه إليه جيشا وأقم أنت، ولا تنفذ حتى تستوثق منه بالرهن، ولا تأمن غدره والطلب بثأره، فكتب علىّ إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن، فبذل له اليمين ومطله بالرهائن، فلحرص علىّ على الغنائم أنفذ إليه جيشا، فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم ونشبت الحرب، فتخلى أصحاب محمد عن الزنج فانهزموا، وقتلت الأكراد منهم خلقا كثيرا، وكان محمد قد أعدّ لهم من يتعرض لهم إذا انهزموا، فأوقعوا بهم وسلبوهم وأخذوا دوابّهم، ورجعوا بأسوأ حال، فكتب علىّ إلى صاحب الزنج يعرّفه فقال: ضيّعت أمرى في ترك الرهائن، وكتب إلى محمد يتهدّده فخاف محمد، وكتب يخضع ويذل وردّ بعض الدواب، وقال: إنّنى كبست من كانت عندهم، وخلّصت هذه منهم، فأظهر صاحب الزنج الغضب عليه، فأرسل محمد إلى بهبوذ ومحمد بن يحيى الكرمانىّ، وكان أقرب الناس إلى علىّ، فضمن لهما ما لا إن أصلحا له عليا وصاحبه ففعلا ذلك، وأجابهما صاحب الزنج بالرضا عن محمد، على أن يخطب له على منابر بلاده، فأعلما محمدا ذلك فأجابهما إلى جميع ما طلبا، وجعل(25/139)
براوغ في الدعاء له على المنابر، ثم إنّ عليا استعدّ لمتّوث وسار إليها فلم يظفر بها، فرجع وعمل السلاليم والآلات التى يصعد بها إلى السور، واستعدّ لقصدها فعرف ذلك مسرور البلخى، وهو يومئذ بكور الأهواز، فلما سار علىّ إليها سار إليه مسرور، فوافاه قبل المغرب وهو نازل عليها، فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا ما كانوا أعدّوه وقتل منهم خلق كثير، وانصرف علىّ مهزوما، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتته الأخبار باقبال الموفّق، ولم يكن لعلىّ بعدها وقعة، حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على الموفّق؛ على ما نذكره إن شاء الله، فكتب إليه صاحبه يأمره بالعود إليه ويستحثه حثا شديدا.
ذكر مسير أبى العباس بن الموفق وهو المعتضد بالله الى حرب الزنج وانتزاعه عامة ما كان بيد سليمان ابن جامع والزنج من أعمال دجلة
كان مسيره لذلك في سنة ست وستين ومائتين، وسبب ذلك أن الزنج لما دخلوا واسط وفعلوا بها ما فعلوا- واتصل ذلك بالموفّق- أمر ابنه أبا العباس بتعجيل المسير بين يديه، إليهم، فسار في شهر ربيع الآخر وشيّعه أبوه، وسيّر معه عشرة آلاف من الرجّالة والخيّالة فى العدّة الكاملة، وأخذ معه الشذاوات والسميريّات والمعابر للرجّالة، فسار حتى وافى دير العاقول، وكان على مقدمته في الشذاوات نصير المعروف بأبى حمزة، فكتب نصير إليه يخبره أنّ سليمان بن جامع قد وافى خيله ورجله وشذاوات وسميريّات- والجبّائى على مقدمته، حتى(25/140)
نزل الجزيرة فحصر بردودا «1» ، وأنّ سليمان بن موسى الشعرانىّ قد وافى الصلح، ووجّه طلائعه ليعرف أخبارهم، فعادوا وأعلموه موافاة الزنج وجيشهم، وأن أوّلهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط.
قال: وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا: إن العباس فتى حدث غرّ بالحرب، والرأى لنا أن نرميه بحدّنا كلّه، ونجتهد فى أول مرّة نلقاه فلعلّ ذلك يروعه فينصرف عنّا، فجمعوا وحشدوا، فلما علم أبو العباس قربهم عدل عن سنن الطريق واعترض في مسيره، ولقى أصحابه أوائل الزنج فتطاردوا لهم حتى طمعوا فيهم وتبعوهم، وجعلوا يقولون: اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم قد اشتغل بالصيد، فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه، وصاح بنصير إلى أين يتأخر عن هذه الأكلب، فرجع نصير، وركب أبو العباس سميريّة وحفّ به أصحابه من جميع الجهات، فانهزمت الزنج وكثر القتل فيهم، وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله، وهى على ستة فراسخ من الموضع الذى لقوهم به وأخذوا منهم خمس شذاوات وعدّة سميريّات، وأسر جماعة واستأمن جماعة، فكان هذا أول الفتح.
فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير، وسار سليمان الشعرانىّ إلى سوق الخميس، وانحدر أبو العباس فأقام بالعمر، وهو على فرسخ من واسط، وأصلح شذاواته وأخذ يراوح القوم القتال ويعاديهم، ثم إن سليمان استعدّ وحشد وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه، وقالوا إنّه(25/141)
حدث غرّ يغرّر بنفسه وكمّنوا كمينا، فبلغ الخبر أبا العبّاس فحذر، وأقبلوا وقد كمّنوا الكمناء ليغتر باتّباعهم فيخرج الكمين عليه، فمنع أبو العبّاس أصحابه من اتّباعهم، فلما علموا أنّ كيدهم لم يتمّ خرج سليمان في الشذاوات والسميريّات، فأمر أبو العبّاس نصيرا أن يبرز إليهم، وركب هو في شذاة من شذاواته سماها الغزال، ومعه جماعة من خاصّته، وأمر الخيّالة بالمسير بازائه على شاطىء النهر إلى أن ينقطع، فيعبروا دوابّهم، ونشبت الحرب بين الفريقين فوقعت الهزيمة على الزنج، وغنم أبو العبّاس منهم أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبّائى بعد أن أشفيا على الهلاك، وبلغوا طهيثا وأسلموا ما كان معهم، ورجع أبو العباس إلى معسكره، وأقام الزنج عشرين يوما لا يظهر منهم أحد، وجعلوا على طريق الخيل آبارا وجعلوا فيها سفافيد حديد، وجعلوا على رؤوسها البوارى والتراب ليسقط فيها المجتازون، فسقط فيها رجل ففطنوا لها فتركوا ذلك الطريق. واستمد سليمان صاحب الزنج فأمدّه بأربعين سميريّة بآلاتها ومقاتليها، فعادوا للتعرض للحرب فلم يثبتوا لأبى العبّاس، ثم سيّر إليهم عدة سميريّات فأخذها الزنج، فبلغه الخبر وهو يتغدّى فركب في سميريّة ولم ينتظر أصحابه وتبعه منهم من خفّ فأدرك الزنج، فانهزموا وألقوا أنفسهم في الماء، فاستنقذ سميريّاته ومن كان فيها، وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميريّة ورمى أبو العبّاس يومئذ عن قوس حتى دميت ابهامه، فلما رجع أمر لمن معه بالخلع، وأمر باصلاح السميريّات المأخوذة من الزنج.
ثم إنّ أبا العبّاس رأى أن يتوغّل مازروان حتى يصير إلى الحجّاجيّة ونهر الأمير، ويعرف ما هناك، فقدّم نصيرا في أوّل السميريّات(25/142)
وركب أبو العبّاس في سميريّة ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يظن أنّ نصيرا أمامه، فلم يقف له على خبر، وكان قد سار على غير طريق أبى العباس، وخرج من مع أبى العبّاس من الملّاحين إلى غنم رأوها ليأخذوها، فبقى هو ومحمد بن شعيب فأتاهما جمع من الزنج من جانبى النهر، فقاتلهم أبو العباس بالنشّاب، ووافاه زيرك في باقى الشذاوات، فسلم أبو العبّاس وعاد إلى عسكره، ورجع نصير، وجمع سليمان بن جامع أصحابه وتحصّن بطهيثا، وتحصّن الشعرانىّ وأصحابه بسوق الخميس، وجعلوا يحملون الغلات إليها، واجتمع بالصينيّة جمع كثير، فوجّه أبو العباس جماعة من قوّاده على الخيل إلى ناحية الصينيّة، وأمرهم بالمسير في البرّ وإذا عرض لهم نهر عبروه، وركب هو في الشذاوات والسميريّات، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوا ولجأوا إلى الماء والسفن، فلم يلبثوا أن وافتهم الشذاوات مع أبى العبّاس، فلم يجدوا ملجأ فاستسلموا، فقتل منهم فريق وأسر فريق، وألقى فريق أنفسهم في الماء، وأخذ أصحاب أبى العبّاس سفنهم وهى مملوءة أرزا، وأخذ الصينيّة وأزاح الزنج عنها، فانحازوا إلى طهيثا وسوق الخميس، ورجع أبو العباس إلى عسكره وقد فتح الصينيّة.
وبلغه أن جيشا عظيما للزنج مع ثابت بن أبى دلف ولؤلؤ، فسار إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر، فقتل منهم خلقا كثيرا منهم لؤلؤ، وأسر ثابتا فمنّ عليه وجعله مع بعض قوّاده، واستنقذ خلقا كثيرا من النساء، فأمر بردّهنّ إلى أهلهنّ، وأخذ كلّ ما كان الزنج جمعوه، وأمر أصحابه أن يتجهزوا للمسير إلى سوق الخميس،(25/143)
وأمر نصيرا بتعبئة أصحابه للمسير، فقال له: إن نهر سوق الخميس ضيّق، فأقم أنت ونسير نحن، فأبى عليه، فقال له محمد بن شعيب: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر الشذاوات ولا الرجال فإنّ النهر ضيّق، فسار نصير بين يديه إلى فم برمساور «1» ، فوقف أبو العبّاس وتقدّمه نصير في خمس عشرة شذاة، فى نهر يؤدى إلى مدينة الشعرانىّ، التى سمّاها المنيعة في سوق الخميس، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كثيرة في البرّ على أبى العبّاس، فمنعوه من الوصول إلى المدينة، وقاتلوه قتالا شديدا من أوّل النهار إلى الظهر، وخفى عليه خبر نصير، وجعل الزنج يقولون: قد قتلنا نصيرا، فاغتمّ أبو العبّاس لذلك وأمر محمدا يتعرّف خبره، فسار فرآه عند سكر «2» الزنج، وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم، وهو يقاتلهم قتالا شديدا، فعاد إلى أبى العبّاس فأخبره فسرّ بذلك، وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العبّاس، ووقف أبو العبّاس فقاتلهم فرجعوا عنه، وكمّن بعض شذاواته وأمر أن تظهر واحدة منها، فطمعوا فيها وأدركوها فعلقوا بسكّانها، فخرجت عليهم السفن الكمائن وفيها أبو العبّاس، فانهزم الزنج وغنم أبو العبّاس منهم ست سميريّات، وانهزموا لا يلوون على شىء من الخوف، ورجع أبو العبّاس إلى عسكره سالما، وخلع على الملّاحين وأحسن إليهم.(25/144)
ذكر مسير الموفق لقتال الزنج وفتح المنيعة
قال: وفي سنة سبع وستين ومائتين أيضا سار الموفّق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج، وجمع وحشد الفرسان والرجّالة واستكثر من العدّة، وسدّ الجهات التى يخاف منها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه وكان صاحب الزنج قد أرسل إلى علىّ بن أبان المهلبىّ، يأمره أن يجتمع مع سليمان بن جامع على حرب أبى العبّاس بن الموفّق، فخاف الموفّق وهنا يتطرق إلى ابنه أبى العبّاس، فسار عن بغداد في صفر سنة سبع وستين فوصل إلى واسط في شهر ربيع الأوّل، فلقيه ابنه فأخبره بحال جنده وقوّاده فخلع عليه وعليهم، ورجع أبو العبّاس إلى معسكره بالعمر، ثم نزل الموفّق على نهر بسنداد «1» بازاء قرية عبد الله، وأمر ابنه فنزل شرقىّ دجلة بازاء فوّهة بردودا، وولّاه مقدّمته وأعطى الجيش أرزاقهم، وأمر ابنه أن يسير بما معه من الآلات الحربية إلى فوّهة برمساور، فرحل في نخبة أصحابه «2» ، ورحل الموفّق بعده فنزل قوّهة برمساور، فأقام يومين ثم وصل إلى المدينة التى سماها صاحب الزنج- المنيعة- من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين، وسلك بالسفن في برمساور وسارت الخيل شرقيّه حتى «3» حاذوا براطق، الذى يوصل إلى المنيعة، وأمر(25/145)
أن تعبر الخيل لتصير من الجانبين، وأمر ابنه أبا العبّاس بالتقدّم بالشذاوات بعامة الجيش، ففعل فلقيه الزنج فحاربوه حربا شديدة، ووافاهم أبو أحمد الموفّق والخيل من جانبى النهر، فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرّقوا، وعلا أصحاب أبى العبّاس السور ووضعوا السيوف فى من لقيهم، ودخلوا المنيعة فقتلوا بها خلقا كثيرا، وأسروا عالما عظيما، وغنموا ما كان فيها، وهرب الشعرانى ومن معه وتبعه أصحاب الموفّق إلى البطائح، فغرق منهم خلق كثير ولجأ الباقون إلى الآجام، ورجع الموفّق إلى معسكره من يومه، وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأه، سوى من ظفر به من الزنجيّات، وأمر بحفظ النساء وحملهنّ إلى واسط ليدفعن إلى أهلهنّ، ثمّ بكّر إلى المدينة وأمر الناس بأخذ ما فيها فأخذ جميعه، وأمر بهدم سورها وطمّ خندقها واحراق ما بقى فيها من السفن، وأخذوا من الطعام والشعير والأرز شيئا كثيرا، فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند.
قال: ولما انهزم سليمان لحق بالمذار، وكتب إلى صاحب الزنج بذلك، فورد الكتاب عليه- وهو يتحدّث- فانحلّ بطنه فقام إلى الخلاء دفعات، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل الذى نزل بالشّعرانىّ ويأمره بالتيقّظ. قال: وأقام الموفّق ببر مساور يومين يتعرّف أخبار الشّعرانىّ وسليمان بن جامع، فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالحوانيت، فسار حتى وافى الصينيّة، وأمر ابنه أبا العبّاس بالتقدّم بالشذاوات والسميريّات إلى الحوانيت، فسار أبو العبّاس إليها فلم ير سليمان بها، ورأى هناك جمعا من الزنج مع قائدين لهم، خلّفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلّات كثيرة لهم فيها، فحاربهم أبو(25/146)
العبّاس إلى أن حجز بينهم الليل، واستأمن إلى أبى العبّاس رجل، فسأله عن سليمان بن جامع فأخبره أنّه مقيم بطهيثا بمدينته التى سماها المنصورة، فعاد أبو العبّاس إلى أبيه بالخبر، فأمره بالمسير إليه فسار حتى نزل بردوا، فأقام بها لاصلاح ما يحتاج إليه، واستكثر من الآلات التى يسدّ بها الأنهار ويصلح بها الطرق للخيل، وخلّف ببردودا بغراج التركى.
ذكر استيلاء أبى أحمد الموفق على طهيثا
قال: ولما فرغ الموفّق من الذى يحتاج إليه سار عن بردودا إلى طهيثا لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان امسيره على الظهر في خيله، وحدّرت السفن والآلات فنزل بقرية الجوزيّة وعقد جسرا، ثم غدا فعبر خيله عليه ثم عبر بعد ذلك، فسار حتى نزل معسكرا على ميلين من طهيثا فأقام بها يومين، ومطرت لسماء مطرا شديدا فشغل عن القتال، ثم ركب لينظر موضعا للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهيثا- وهى التى سمّاها المنصورة- فتلقّاه خلق كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب وترجّل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذى كانوا فيه، وأسر من غلمان الموفّق جماعة، ورمى أبو العبّاس ابن الموفّق أحمد بن مهدى «1» الجبّائى بسهم خالط دماغه فسقط، وحمل(25/147)
إلى صاحب الزنج فلم يلبث أن مات بحضرته، فصلّى عليه وعظمت لديه المصيبة بموته، وكان أعظم أصحابه غناء، وانصرف الموفّق إلى معسكره وقت المغرب، وأمر أصحابه بالتحارس ليلتهم والتأهّب للحرب، فلما أصبحوا- وذلك في يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر- عبىّ الموفّق أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضا فرسانا ورجّالة، وأمر بالشذاوات والسميريّات أن يسار بها إلى النهر، الذى يشقّ مدينة سليمان، وهو النهر المعروف ينهر المنذر، ورتّب أصحابه في المواضع التى يخاف منها، ثم نزل فصلّى أربع ركعات وابتهل إلى الله عزّ وجلّ في النصر ثم لبس سلاحه، وأمر ابنه أبا العبّاس أن يتقدّم إلى السور، فتقدّم إليه فرأى خندقا فأحجم الناس عنه، فحرّضهم قوّادهم وترجّلوا معهم فاقتحموه وعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم، فلمّا رأى الزنج تسرّعهم إليهم ولّوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبى العبّاس فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصّنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق سورا، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق فيكشفهم أصحاب أبى العبّاس، ودخلت الشذاوات والسميريّات المدينة من النهر. فجعلت تغرق كل ما مرّت لهم به من سميريّة وشذاة، وقتلوا من بجانبى النهر وأسروا، حتى أجلوهم عن المدينة وعمّا اتصل بها، وكان مقدار العمارة بها فرسخا، وحوى الموفّق ذلك كلّه، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه، وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبو أحمد من نساء أهل واسط والكوفة والقرى وصبيانهم(25/148)
أكثر من عشرة «1» آلاف، فأمر بحملهم إلى واسط ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال، وأمر بصرف ذلك إلى الأجناد، وأسرّ عدّة من نساء سليمان وأولاده، وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفّق، ولجأ جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه بطلبهم، وأقام سبعة عشر يوما، وهدم سور المدينة وطمّ خنادقها، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا، فكان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وضمّه إلى قوّاده وغلمانه، لما كان دبّره من استمالتهم، وأرسل في طلب سليمان ابن جامع حتى بلغوا دجلة العوراء فلم يظفروا به، وأمر زيرك بالمقام بطهيثا ليتراجع أهل تلك الناحية إليها.
ذكر مسير الموفق الى الأهواز واجلاء الزنج عنها
قال: ولما فرغ أبو أحمد الموفّق من المنصورة رحل نحو الأهواز لاصلاحها واجلاء الزنج عنها، فأمر ابنه أبا العبّاس أن يتقدّمه، وأمر باصلاح الطرق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسط ابنه هارون، ولحقة زيرك فأخبره بعود أهل طهيثا إليها وأمّن الناس، فأمره الموفّق بالانحدار في الشذا والسميريّات مع نصير، ليتتبّع المنهزمين ويوقع بهم وبمن ظفروا به من الزنج، حتى ينتهى إلى مدينة صاحب الزنج بنهر أبى الخصيب، فسارا وارتحل الموفّق في مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس، وأمر مسرورا بالقدوم عليه، وهو عامله هناك فأتاه، وكان صاحب الزنج- لما بلغه ما عمل(25/149)
الموفّق بسليمان بن جامع- خاف أن يأتيه، وهو على حال تفرّق أصحابه عنه، فكتب إلى علىّ بن أبان بالقدوم عليه، وكان بالأهواز في ثلاثين ألفا، فترك جميع ما كان عنده من طعام ودوابّ وأغنام وغير ذلك، واستلخف عليه محمد بن يحيى الكرنبائىّ، فلم يقم ولا تبع عليا، وكتب صاحب الزنج أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، وهو بالفندم «1» والباسيان وما اتصل بهما، يأمره بالقدوم عليه، فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه، فحوى ذلك جميعه الموفّق وقوى به على حرب صاحب الزنج.
قال: ولما سار على بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه زهاء ألف رجل، فأرسلوا إلى الموفّق يطلبون الأمان فأمّنهم، فقدموا عليه فأجرى عليهم الأرزاق، ثم رحل عن السوس إلى جنديسابور وتستر وجبا الأموال، ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكردى- وكان خائفا منه- فأمّنه وعفا عنه وطلب منه الأموال والعساكر، فحضر عنده فأحسن إليه، ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز، ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون أن يوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك، فلقيه هناك في منتصف شهر رجب، وكان زيرك ونصير- لما خلّفهما الموفّق ليتتبّعا الزنج- انحدرا حتى وافيا الأبلّة، فاستأمن إليهما رجل أخبرهما: أن صاحب الزنج قد أرسل إليهما عددا كثيرا في الشذا والسميريّات إلى دجلة، ليمنع عنها من يريدها، وأنهم يريدون عسكر نصير- وكان عسكره بنهر المرأة،(25/150)
فرجع نصير من الأبلّة إلى عسكره لما بلغه ذلك، وسار زيرك من طريق آخر، لأنّه قدّر أن الزنج تأتى عسكر نصير من ذلك الوجه، فكان كذلك فلقيهم في طريقه فظفر بهم وانهزموا منه، وكانوا قد جعلوا كمينا فدلّ زيرك عليه، فتوغّل حتى أتاه، فقتل من الكمناء جماعة وأسر جماعة، وكان ممّن ظفر به مقدّم الزنج، وهو أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصرى، وهو من أكابر قوادهم، وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية، فجزع لذلك جميع الزنج، فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفى رجل، فكتب بذلك إلى الموفّق، فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك، فوافاه هنالك؛ وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بالمسير إلى محاربة صاحب الزنج بنهر أبى الخصيب، فسار إليه فحاربه من بكرة النهار إلى الظهر، واستأمن إليه قائد من قوّاد الزنج ومعه جماعة، فكسر ذلك صاحب الزنج، وعاد أبو العبّاس بالظفر، وكتب الموفّق إلى صاحب الزنج يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وخراب البلدان واستباحه الفروج والأموال وادعاء النبوّة والرسالة، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه فقرأه ولم يكتب جوابه.(25/151)
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنج وهى المدينة التى سماها المختارة
قال: ولما أنفذ الموفّق الكتاب إلى صاحب الزنج ولم يرد جوابه، عرض عسكره وأصلح آلاته ورتّب قوّاده، ثم سار هو وابنه أبو العبّاس فى العشرين من شهر رجب سنة سبع وستين إلى مدينة صاحب الزنج، فلما أشرف عليها وتأمّلها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق ووعور الطريق إليها وما أعدّ من المجانيق والعرّادات والقسى وسائر الآلات على سورها مما لم ير مثله ممّن تقدّم من منازعى السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتله ما استعظمه، فلما عاين الزنج أصحاب الموفّق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجّت الأرض، فأمر الموفّق ابنه بالتقدّم إلى سور المدينة ورمى من عليه بالسهام، فتقدّم حتى ألصق شذاواته بقصر صاحب الزنج، فكثر الزنج وأصحابهم على أبى العبّاس، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامّهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أو حجر، وثبت أبو العبّاس، فرأى صاحب الزنج من ثباته وثبات أصحابه ما لا رأى مثله من أحد ممّن حاربهم، ثم أمرهم الموفّق بالرجوع ففعلوا، واستأمن إلى الموفّق مقاتلة من سمارتين فأمّنهم، وخلع على من فيها من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم، وأمر بادنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أنجع المكائد، فلما رأوهم الباقون رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه وابتدروا إليه، فصار إلى الموفّق في ذلك اليوم عدد كثير من أصحاب السميريّات فعمّهم بالخلع والصلات، فلما رأى صاحب(25/152)
الزنج ذلك أمر بردّ أصحاب السميريّات إلى نهر أبى الخصيب، ووكل بفوّهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبوذ- وهو من أشرّ قوّاده، أن يخرج في الشذاوات، فخرج فبرز إليه أبو العبّاس في شذاواته وقاتله، واشتدت الحرب فانهزم بهبوذ إلى فناء قصر صاحب الزنج، وأصابته طعنتان وجرح بالسهام، فولج نهر أبى الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل ممّن كان معه قائد ذو بأس- يقال له عميرة، وظفر أبو العبّاس بشذاة فقتل أهلها، ورجع هو ومن معه سالمين، واستأمن إلى أبى العباس أهل شذاة فأمّنهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، ورجع الموفّق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمّنهم وخلع عليهم ووصلهم وأثبت أسماءهم مع أبى العبّاس، وأقام في عسكره يومين ثم نقل عسكره لست ليال بقين من شهر رجب إلى نهر جطّى فنزله، وقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.
ثم ركب في منتصف شعبان في الخيل والرّجل وأعدّ الشذاوات والسميريّات، وكان معه من الجند والمطّوعة زهاء خمسين ألفا، وكان مع صاحب الزنج أكثر من ثلاثمائة ألف انسان، كلهم ممّن يقاتل بسيف أو رمح أو مقلاع أو منجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم وهم النظّارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبو أحمد ذلك اليوم، ونودى بالأمان للناس كافّة إلا صاحب الزنج، وكتب الأمان فى رقاع ورميت في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب صاحب الزنج فاستأمن من ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.(25/153)
ثم رحل من نهر جطّى من الغد فعسكر قرب مدينة صاحب الزنج، ورتّب قوّاده وأجناده وعيّن لكل طائفة موضعا يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفّق إلى البلاد في عمل السميريّات والشذاوات والزواريق والاكثار منها، ليضبط بها الأنهار لتنقطع الميرة عن صاحب الزنج وأسّس في منزلته مدينة سمّاها الموفّقيّة، وكتب إلى عمّاله في النواحى بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بانفاذ من يصلح للاثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرا، فوردت عليه المير متتابعة، وجهّز التجار صنوف التجارات إلى الموفّقيّة، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفّق بها المسجد الجامع وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال وأدرّت الأرزاق.
قال «1» : وعبرت طائفة من الزنج فنهبوا أطراف عسكر نصير وأوقعوا به، فأمر الموفّق نصيرا بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس بالمسير إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم بالأمان، فخلع عليهم وأمّنهم ووصلهم، وأقام أبو أحمد يكايد صاحب الزنج، يبذل الأمان لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وكانت قافلة قد أتت من الأهواز فأسرى إليها(25/154)
بهبوذ في سميريات، فأخذها فعظم ذلك على الموفّق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذاوات على مخارج الأنهار، وقلّد ابنه أبا العبّاس الشذاوات وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذى هم به.
قال: وفي شهر رمضان من السنة عبرت طائفة من الزنج يريدون الايقاع بنصير، فردّهم الله خائبين، وظفروا بصندل الزنجى، وكان يكشف رؤوس المسلمات ويقلّبهن تقليب الإماء، فلما أتى به أمر الموفّق أن يرمى بالسهام ثم قتله، واستأمن إلى الموفّق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه إلى آخر شهر رمضان خمسين آلفا؛ وفي شوّال انتخب صاحب الزنج من عسكره خمسة آلاف من الشجعان والقوّاد، وأمر على بن أبان المهلبىّ بالعبور لكبس عسكر الموفّق، وكان فيهم أكثر من مائتى قائد، فعبروا ليلا واختفوا في آخر النخل، وأمرهم: أنّه إذا ظهر أصحابهم وقاتلوا الموفّق من بين يديه ظهروا وحملوا على عسكره، وهم غارون مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم انسان من الملّاحين فأخبر الموفّق، فسيّر ابنه أبا العبّاس لقتالهم وضبط الطرق التى يسلكونها، فقاتلوا قتالا شديدا، وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم ونجا بعضهم، فأمر أبو العبّاس أن تحمل الأسرى والرؤوس في السميريات، ويعبر بهم على مدينة صاحب الزنج، ففعلوا ذلك، وبلغ الموفّق أنّ صاحب الزنج قال لأصحابه: إن الأسرى والرؤوس من المستأمنة، فأمر بالقاء الرؤوس إليهم في منجنيق، فلما رأوها عرفوها فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب صاحبهم.
وفيها أمر صاحب الزنج باتخاذ شذاوات فعملت له، فكانت(25/155)
خمسين شذاة فقسمها بين ثلاثة من قوّاده، وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفّق، وكانت شذاوات الموفّق يومئذ قليلة، لأنّه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتى كانت عنده منها فرّقها على أفواه الأنهار، ليقطع الميرة عن صاحب الزنج، فخافهم أصحاب الموفّق فورد عليهم الشذاوات التى كان الموفّق أمر بعملها، فسيّر ابنه أبا العباس يوردها خوفا عليها من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذاواتهم، فقصد غلام لأبى العبّاس منعهم وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبى الخصيب، وانقطع عن أصحابه فعطفوا عليه فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوا وسلمت الشذاوات التى مع أبى العبّاس، وأصلحها ورتّب فيها من يقاتل، ثم أقبلت شذاوات صاحب الزنج على عادتها، فخرج إليهم أبو العبّاس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم وظفر منهم بعدّة شذاوات، فقتل منهم من ظفر به فيها، فمنع صاحب الزنج أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبو العبّاس الميرة عن الزنج فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحاب صاحب الزنج الأمان فأمّنوا؛ وكان منهم محمد ابن الحارث العمّى «1» ، وكان إليه ضبط السور مما يلى عسكر الموفق، فخرج ليلا فأمّنه الموفّق ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدّة دواب بآلاتها وحليتها، وأراد اخراج زوجته فلم يقدر، وأخذها صاحب الزنج فباعها؛ ومنهم أحمد البرذعى «2» ،(25/156)
وكان من أشجع رجال صاحب الزنج، فخلع عليه وعلى غيره ممّن أتاه ووصلهم بصلات كثيرة. قال: ولما انقطعت الميرة والمواد عن صاحب الزنج أمر شبلا وأبا الندا وهما رؤساء قوّاده- وكان يثق بهم- بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة وقطع الميرة عن الموفّق، فسيّر الموفّق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر فرأى كثرتهم فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموا، فوضع فيهم السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما غرق، وكان ما أخذه من سفنهم نحو أربعمائة سفينة، وأقبل بالأسرى والرؤوس إلى مدينة الموفّق.
ذكر عبور الموفق الى مدينة صاحب الزنج وخروجه عنها وعوده اليها
قال: وفي ذى الحجّة سنة سبع وستين أيضا عبر الموفّق مدينة صاحب الزنج لست بقين من الشهر، وكان سبب ذلك أنّ جماعة من قوّاد صاحب الزنج، لما رأوا ما حلّ بهم من البلاء، من قتل من يظهر منهم، وشدّة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه ويخرجون إلىّ الموفّق، فلما رأى ذلك صاحب الزنج جعل على الطريق التى يمكنهم الهرب منها من يحفظها، فأرسل جماعة من القوّاد إلى الموفّق يطلبون الأمان، وأن يوجّه لمحاربة صاحبهم جيشا ليجدوا طريقا إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العبّاس بالمصير إلى النهر(25/157)
الغربى- وبه علىّ بن أبان- ففعل، واشتدت الحرب فاستظهر أبو العباس على الزنج، فأمّدهم صاحبهم بسليمان بن جامع في جمع، واتصلت الحرب من أوّل النهار إلى العصر، وكان الظفر لأبى العبّاس وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان منه، واجتاز أبو العبّاس بمدينة صاحب الزنج عند نهر الأتراك، فرأى قلّة الزنج هناك، فطمع فيهم فقصدهم وقد انصرف أكثر أصحابه إلى الموفقيّة، فدخل البلد بمن بقى معه، وندب صاحب الزنج أصحابه لحربهم، فلما رأى أبو العباس اجتماعهم وقلّة أصحابه رجع، وأرسل إلى أبيه الموفّق يستمدّه فأتاه من خف من الغلمان وظهروا على الزنج وهزموهم، وكان سليمان ابن جامع لما رأى ظهور أبى العبّاس سار في النهر مصعدا في جمع كثير فأتى أصحاب أبى العبّاس «1» من خلفهم وهم يحاربون من بإزائهم، وخفقت طبوله فانكشف أصحاب أبى العبّاس «2» ، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفّق، وأخذ الزنج عدة أعلام وحامى أبو العبّاس عن أصحابة فسلم أكثرهم ثم انصرف وطمع الزنج بهذه الوقعة وشدّت قلوبهم، فأجمع الموفّق على العبور إلى مدينتهم بجميع جيوشه، وأمر الناس بالتأهّب وجمع المعابر والسفن وفرّقها عليهم، ودخل يوم الأربعاء لست بقين من الشهر، وفرّق أصحابه على المدينة ليضطر صاحبها إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفّق إلى ركن من أركان المدينة وهو أحصن ما فيها، وقد أنزله صاحب الزنج ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وعلىّ بن أبان، وعليه من المجانيق(25/158)
وآلات القتال ما لا يحدّ، فلما التقى الجمعان أمر الموفّق غلمانه بالدنوّ منه، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهو نهر عريض كثير الماء فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفّق وحرّضهم على العبور، فعبروا سباحة والزنج ترميهم بالمجانيق والمقاليع والحجارة والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهبوا إلى السور، ولم يكن معهم من الفعلة من كان أعدّ لهدم السور، فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهّل الله تعالى ذلك وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك إلى السور، ونصبوا علما من أعلام الموفّق، فانهزم الزنج عنه وسلّموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير، ولما علا أصحاب الموفّق السور أحرقوا ما كان عليه من مجانيق وآلات وغير ذلك، وكان أبو العبّاس قصد ناحية أخرى، فمضى على بن أبان لقتاله فهزمه أبو العبّاس وقتل جمعا كثيرا من أصحابه، ولحق أصحاب أبى العبّاس بالسور فثلموا فيه ثلمة، ودخلوه فلقيهم سليمان ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواضعهم، ثم إن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، وعملوا على الخندق جسر فعبر الناس عليه من ناحية الموفّق، فانهزم الزنج عن سور ثان «1» كانوا قد اعتصموا به، وجعل أصحاب الموفّق يقتلونهم حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدى أصحاب الموفّق فأحرقوها، وقاتلهم الزنج هناك ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان صاحبهم، فرجع في جمع من أصحابه فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجّالة الموفّق، فضرب(25/159)
وجه فرسه بترسه وذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفّق الناس بالرجوع فرجعوا، ومعهم من رؤوس أصحابه شىء كثير، وقد استأمن إلى أبى العباس أوّل النهار نفر من قوّاد صاحب الزنج، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن.
وأظلم الليل وهّبت ريح عاصف وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا من أصحابه، وقتلوا منهم نفرا، وكان بهبوذ بازاء مسرور البلخى فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفّق، وكان بعض أصحاب صاحب الزنج قد انهزم على وجهه نحو نهر الأمير وعبّادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، فأرسلوا يطلبون الأمان فأمّنهم الموفّق، وخلع عليهم وأجرى عليهم الأرزاق، وكان ممّن رغب في الأمان من قوّاده ريحان بن صالح المغربى- وكان من رؤساء أصحابه، فأرسل يطلب الأمان وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفّق فصار إليه فخلع عليه وأحسن إليه ووصله، ثم ضمّه إلى أبى العبّاس، ثم استأمن بعده جماعة من أصحابه، وكان خروج ريحان إليه لليلة بقيت من ذى الحجّة من هذه السنة.
وفي سنة ثمان وستين ومائتين في المحرّم خرج إلى الموفّق من قوّاد صاحب الزنج جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجّان، وكان من ثقات أصحابه فارتاع لذلك، وخلع عليه الموفّق وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى ازاء قصر صاحبه، وأخبرهم أنّهم في غرور وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قوّاد الزنج وغيرهم، فأحسن إليهم الموفّق وتتابع الناس في(25/160)
طلب الأمان، ثم أقام الموفّق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر من السنة.
فلما انتصف الشهر قصد الموفّق مدينة الزنج، وفرّق قوّاده على جهاتها، وجعل مع كل طائفة منهم من النقّابين جماعة لهدم السور، وتقدّم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور ولا يدخلوا المدينة، وتقدّم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من سائر جهاتها، ووصلوا إلى السور وثلموه في مواضع كثيرة، ودخل أصحاب الموفّق المدينة من تلك الثلم، وجاء أصحاب صاحب الزنج فقاتلوهم فهزمهم أصحاب الموفّق، وتبعوهم حتى أوغلوا فى طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذى وصلوا إليه في المرّة الأولى وأحرقوا وأسروا، وتراجع الزنج عليهم وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها أصحاب الموفّق، فتحيّروا ودافعوا عن أنفسهم وتراجعوا نحو دجلة، بعد أن قتل منهم جماعة وأخذ الزنج أسلابهم، ورجع الموفّق إلى مدينته وأمر بجمع أصحابه، ولامهم على مخالفته في دخولهم وافساد رأيه وتدبيره، وأمر باحصاء من فقد من أصحابه، وأقر ما كان لهم من الرزق على أولادهم وأهليهم، فحسن موقع ذلك عندهم، وزاد في صحة نيّاتهم وصدق عزائمهم.(25/161)
ذكر ايقاع أبى العباس بن الموفق بالأعراب وانقطاع الميرة عن الزنج ومقتل بهبوذ بن عبد الوهاب
وفي سنة ثمان وستين ومائتين أوقع أبو العبّاس أحمد بن الموفّق، وهو المعتضد بالله بقوم من الأعراب، كانوا يحملون الميرة إلى الزنج فقتل منهم جماعة وأسر الباقين وغنم ما كان معهم، وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة، وسيّر الموفّق رشيقا مولى أبى العبّاس، فأوقع بقوم من بنى تميم كانوا يجلبون الميرة إلى صاحب الزنج، فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرووس إلى الموفقيّة، فأمر بهم الموفّق فوقفوا بازاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والأعراب «1» ، فقطعت يده ورجله وألقى في عسكر الزنج، وأمر بضرب أعناق الأسرى فانقطعت الميرة بذلك عن صاحب الزنج «2» ، فأضرّ بهم الحصار وأضعف أبدانهم، فكان يسأل الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول: عهدى به منذ زمان طويل، فلما وصلوا إلى هذه الحال رأى الموفّق أن يتابع عليهم الحرب، ليزيدهم ضرا وجهدا، فكثر المستأمنون في هذا الوقت، وخرج كثير من أصحاب الخبيث فتفرّقوا في القرى والأنهار البعيدة فى طلب القوت، فبلغ ذلك الموفّق فأمر جماعة من قوّاد غلمانه بقصد تلك المواضع، ويدعون من بها إليه فمن أبى قتلوه، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأتاه كثير منهم، فلما كثر المستأمنون عند الموفّق عرضهم، فمن كان ذا قوّة وجلد أحسن إليه وخلطه بغلمانه، ومن كان منهم(25/162)
ضعيفا أو شيخا أو جريحا قد أزمنته الجراحة كساه وأعطاه دراهم، وأمر به أن يحمل إلى عسكر صاحب الزنج، فيذكر ما رأى من الإحسان، فتهيّأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث، وجعل الموفّق وابنه أبو العبّاس يلازمان قتال صاحب الزنج- تارة هذا وتارة هذا- وجرح أبو العبّاس ثم برىء، وكان من جملة من قتل من أعيان قوّاد صاحب الزنج بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان كثير الخروج في السميريّات، وكان ينصب عليها أعلاما تشبه أعلام الموفّق، فإذا رأى من يستضعفه أخذه، فأخذ من ذلك ما لا جزيلا، فواقعه في بعض خرجاته أبو العباس، فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم خرج مرّة أخرى فرأى سميريّة، فيها بعض أصحاب أبى العباس فقصدها طامعا في أخذها، فحاربه أهلها فطعنه غلام من غلمان أبى العبّاس في بطنه، فسقط في الماء فأخذه أصحابه فحملوه إلى عسكر صاحبه، فمات قبل وصوله وكان قتله من أعظم الفتوح، وعظمت الفجيعة على صاحب الزنج وأصحابه، فاشتد جزعهم عليه، وأحسن الموفّق إلى ذلك الغلام فوصله وكساه وطوّقه وزاد في رزقه، وفعل بكل من كان معه في تلك السميريّة نحو ذلك، ثم ظفر بالذوائبى «1» وكان ممايلا لصاحب الزنج.
وفي سنة تسع وستين ومائتين رمى الموفّق بسهم في صدره، وكان سبب ذلك أنّ بهبوذ لما هلك طمع صاحب الزنج في أخذ أمواله، وكان قد صحّ عنده أن ملكه قد حوى مائتى ألف دينار وجواهر وفضّة، فطلب(25/163)
ذلك وأخذ أهله وأصحابه فضربهم، وهدم أبنيته طمعا في المال فلم يجد شيئا، فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفّق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبوذ، فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدّم، ورأى الموفّق ما كان يتعذّر عليه من العبور إلى الزنج، فى الأوقات التى تهب فيها الرياح لتحرّك الأمواج، فعزم على أن يوسّع لنفسه ولأصحابه موضعا في الجانب الغربى، فأمر بقطع النخل واصلاح المكان، وأن تعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، فعلم صاحب الزنج أنّ الموفّق إذا جاوره قرّب على من يريد اللحاق به المسافة، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف وانتقاض تدبيره عليه فاهتمّ بمنع الموفّق من ذلك وبذل الجهد فيه وقاتل أشد القتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز صاحب الزنج الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاع المدد عنه فسيّر إليه جميع أصحابه فقاتلوه فهزموه، وقتلوا كثيرا من أصحابه ولم يجد الشذاوات التى لأصحاب الموفّق سبيلا إلى القرب منهم، خوفا من الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم وأكثروا القتل والأسر، ومن سلّم منهم ألقى نفسه في الشذاوات وعبروا إلى الموفقيّة فعظم ذلك على الناس، ونظر الموفّق فرأى أنّ نزوله بالجانب الغربى لا يأمن معه حيلة الزنج وصاحبهم وانتهاز فرصة لكثرة الأدغال وصعوبة المسالك، وأنّ الزنج أعرف بتلك المضايق وأجرأ عليها من أصحابه، فترك ذلك وجعل قصده إلى هدم سور صاحب الزنج وتوسعة الطرق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمنكى، وباشر الحرب بنفسه واشتد القتال، وكثر القتل(25/164)
والجراح من الجانبين ودام ذلك أياما عدّة، وكان أصحاب الموفّق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا على نهر منكى، وكان الزنج يعبرون عليها وقت القتال، فيأتون أصحاب الموفّق من وراء ظهورهم فينالون منهم، فأعمل الحيلة في إزالتهما، فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم عن حراستهما، وأمرهم أن يعدّوا الفؤوس والمناشير وما يحتاجون إليه من الآلات، فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار فأتاهم الزنج لمنعهم، فاقتتلوا فانهزم الزنج، وكان مقدّمهم أبا النداء فأصابه سهم، فى صدره فقتله، وقطع أصحاب الموفّق القنطرتين ورجعوا، وألحّ الموفّق على صاحب الزنج بالحرب، وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيها، وانتهوا إلى دار ابن سمعان وسليمان بن جامع فهدموهما، ونهبوا ما فيهما، وانتهوا إلى سويقة لصاحب الزنج سمّاها الميمونة، فهدمت وأخربت وهدموا دار الجبّائى وانتهبوا ما كان فيها من الخزائن، وتقدّموا إلى الجامع ليهدموه فاشتد محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفّق، لأنّه كان قد خلص مع صاحب الزنج نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم إذا قتل أو جرح اجتذبه الذى إلى جنبه ووقف مكانه، فلما رأى الموفّق ذلك أمر أبا العبّاس بقصد الجامع من أحد أركانه بشجعان أصحابه، وأضاف إليهم الفعول للهدم ونصب السلاليم ففعل ذلك، وقاتل عليه أشد قتال فوصلوا إليه فهدموه، وأخذ منبره فأتى به الموفّق، ثم عاد الموفّق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين صاحب الزنج وبعض خزانته، فظهر للموفّق أمارات الفتح، فإنّهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفّق فأصابه في صدره(25/165)
رماه به رومى كان مع صاحب الزنج اسمه قرطاس وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى، فستر الموفّق ذلك وعاد إلى مدينته فبات، ثم عاود الحرب على ما به من ألم الجراح، ليشدّ بذلك قلوب أصحابه فزاد في علّته، وعظم أمرها حتى خيف عليه، واضطرب العسكر والرعيّة وخافوا وأشار عليه بعض أصحابه وثقاته بالعود إلى بغداد، ويخلف من يقوم مقامه فأبى ذلك، وخاف أن يستقيم من حال صاحب الزنج ما فسد، واحتجب عن الناس مدّة ثم برىء من علّته، وظهر لهم ونهض لحرب صاحب الزنج وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة.
ذكر احراق قصر صاحب الزنج وما يتصل بذلك من الحروب والوقائع
قال «1» : ولما صحّ الموفّق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من حرب صاحب الزنج، وكان قد أعاد بعض الثلم في السور، فأمر الموفّق بهدم ذلك وهدم ما يتصل به وركب في بعض العشايا، وكان القتال متصلا ذلك اليوم مما يلى نهر منكى، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا أنفسهم بتلك الجهة، وظنّوا أنّهم لا يؤتون إلا منها، فأتى الموفّق ومعه الفعلة وقرب من نهر منكى وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين في الشذاوات بالمصير إلى أسفل نهر أبى الخصيب، وهو خال من المقاتلة والرجال، فتقدّم أصحاب الموفّق وأخرجوا الفعلة فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة،(25/166)
وانتهوا إلى قصور من قصور صاحب الزنج فأحرقوها وانتهبوا ما فيها واستنقذوا عددا كثيرا من النساء اللاتى كنّ فيها، وغنموا منها، وانصرف الموفّق عند غروب الشمس بالظفر والسلامة، وبكّر إلى حربهم وهدم السور، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار انكلاى، وهى متصلة بدار صاحب الزنج، فلما أعيت صاحب الزنج الحيل أشار عليه على ابن أبان باجراء الماء على السباخ، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة تمنعهم من دخول المدينة ففعل ذلك، فرأى الموفّق أن يجعل قصده طمّ الخنادق والأنهار والمواضع المعوّرة ففعل ذلك، وحامى الزنج عنه ودامت الحرب، ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وذلك لتقارب ما بين الفريقين، فلما رأى شدّة الأمر من هذه الناحية قصد احراق دار صاحب الزنج والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوقه عن ذلك كثرة ما أعدّ لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذاوات إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام والحجارة والمجانيق والمقاليع، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم فتعذّر احراقها لذلك، فأمر الموفّق أن يسقف الشذا بالأخشاب، ويعمل عليها الخيش وتطلى بالأدوية التى تمنع النار من احراقها ففعل ذلك، ورتّب فيها أنجاد أصحابه وجمعا من النفّاطين.
واستأمن إلى الموفّق محمد بن سمعان كاتب صاحب الزنج، وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب استئمانه أنّ صاحب الزنج أطلعه على أنّه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان، فأمّنه الموفّق وأحسن إليه؛ وقيل كان سبب خروجه أنّه كان كارها لصحبة صاحب الزنج، مطّلعا على كفره(25/167)
وسوء باطنه، ولم يمكنه التخلّص منه إلى الآن، ففارقه في عاشر شعبان.
فلمّا كان الغد بكّر الموفّق لمحاربة الزنج، وأمر أبا العبّاس بقصد دار محمد الكرنبائى- وهى بازاء دار صاحب الزنج- واحراقها وما يليها من منازل قوّاد الزنج، يشغلهم بذلك عن حماية دار صاحبهم وأمر المرّتين في الشذاوات المطليّة بقصد دار صاحب الزنج واحراقها ففعلوا ذلك، وألصقوا شذاواتهم بسور قصره، وحاربوهم أشد حرب فنضحهم الزنج بالنيران فلم تعمل شيئا، وأحرق من القصر الرواشين والأبنية الخارجة وعملت النار فيها، وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الزنج يرسلونه عليهم، وأمر الموفّق الذين في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها ورتّب غيرهم، وانتظر إقبال المدّ وعلوّه فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره، وأحرقوا بيوتا منه كانت تشرع على دجلة، واضطرمت النار فيها وقويت واتصلت، فأعجلت صاحب الزنج ومن كان معه عن التوقّف على ما كان فيها من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربا وتركه، وعلا غلمان الموفّق قصره مع أصحابهم فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضّة والحلىّ وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتى كان صاحب الزنج يأنس بهنّ من اللواتى كان استرقّهنّ، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاى فأحرقوها جميعا، وفرح الناس بذلك وتحاربوا، هم وأصحاب صاحب الزنج على باب قصره، فكثر القتل في أصحابه والجراح والأسر، وفعل أبو العبّاس في دار الكرنبائى من النهب والهدم والإحراق مثل ذلك، وقطع أبو العبّاس يومئذ سلسلة عظيمة كان صاحب الزنج(25/168)
قطع بها نهر أبى الخصيب، لتمتنع الشذا من دخوله، فحازها أبو العباس وأخذها معه، وعاد الموفّق بالناس مع المغرب مظفّرا، وأصيب صاحب الزنج في نفسه وماله، وجرح ابنه انكلاى في بطنه جرحا أشفى منه على الهلاك.
ذكر غرق نصير صاحب الشذا
قال: وفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبو حمزة نصير وهو صاحب الشذاوات، وكان سبب غرقه أن الموفّق بكّر إلى القتال وأمر نصيرا بقصد قنطرة لصاحب الزنج، كان عملها في نهر أبى الخصيب دون الجسرين، اللذين كان اتخذهما على النهر، وفرّق أصحابه من الجهات، فعجّل نصير فدخل في أوّل المدّ في عدة من شذاواته، فحملها الماء فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدّة من شذاوات الموفّق مع غلمانه، ولم يأمرهم بالدخول فضلّت شذاوات نصير ولم يبق للملّاحين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبى النهر، وألقى الملّاحون أنفسهم في الماء خوفا من الزنج، ودخل الزنج الشذاوات فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وصابرهم نصير حتى خاف الأسر، فقذف بنفسه في الماء فغرق، وأقام الموفّق يومه ذلك يحاربهم وينهبهم ويحرق منازلهم، ولم يزل يومه مستعليا عليهم، وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالا لأصحاب الموفّق، وثبت مكانه حتى خرج عليه كمين للموفّق فانهزم أصحابه، وجرح سليمان جراحة في ساقه، فسقط لوجهه في مكان كان به حريق وفيه بعض الجمر فاحترق بعض جسده، وحمله أصحابه بعد أن كاد يؤسر، وانصرف(25/169)
الموفّق سالما ظافرا، وأصاب الموفّق مرض المفاصل فبقى به شعبان وشهر رمضان وأياما من شوّال، وأمسك عن حرب الزنج ثم برىء وتماثل، فأمر باعداد آلة الحرب.
ذكر احراق قنطرة صاحب الزنج
قال «1» : ولما اشتغل الموفّق بعلّته أعاد صاحب الزنج القنطرة التى غرق عندها نصير، وزاد فيها وأحكمها ونصب دونها أدقال «2» ساج، وألبسها الحديد وسكر أمامها سكرا من حجارة، ليضيق المدخل على الشذا وتحتدّ جرية الماء في النهر، فندب الموفّق أصحابه، وندب طائفة من شرقىّ نهر أبى الخصيب وطائفة من غربيّه، وأرسل النجّارين والفعلة لقطع القنطرة وما جعل أمامها، وأمر بسفن مملوءة قصبا أن يصبّ عليها النفط، وتدخل النهر ويلقى فيها النار لتحرق الجسر، وفرّق جنده على أصحاب صاحب الزنج، ليمنعوهم من معاونة من عند القنطرة، فسار الناس إلى ما أمرهم به، وذلك في عاشر شوّال، وتقدّمت الطائفتان إلى الجسر فلقيهما انكلاى ابن صاحب الزنج وعلى بن أبان وسليمان بن جامع، واشتبكت الحرب ودامت وحامى أولئك عن القنطرة، لعلمهم بما عليهم في قطعها من الضرر، ودامت الحرب على القنطرة إلى العصر، ثم إنّ غلمان الموفّق أزالوا الزنج عن القنطرة، وقطعها النجّارون ونقضوها وما كان عمل(25/170)
من الأدقال الساج، وكان قطعها قد تعذّر عليهم فأدخلوا تلك السفن التى فيها القصب والنفط وأضرموها نارا، فوافت القنطرة فأحرقنها فوصل النجّارون بذلك إلى ما أرادوا، وأمكن أصحاب الشذا دخولهم النهر فدخلوا، وقتلوا الزنج حتى أجلوهم عن مواقفهم إلى الجسر الأوّل الذى يتلو هذه القنطرة، وقتل من الزنج كثير واستأمن كثير، ووصل أصحاب الموفّق إلى الجسر وقت المغرب، فكره الموفّق أن يدركهم الليل فأمرهم بالرجوع، وأثاب المحسن على قدر احسانه ليزدادوا جدا فى حرب عدوّه، وأخرب من العد برجين حجارة كانوا عملوهما، ليمنعوا الشذا من الخروج منه إذا دخلته، فلما أخربهما سهل له ما أراد من دخول النهر والخروج منه.
ذكر انتقال صاحب الزنج الى الجانب الشرقى واحراق سوقه
قال: لما أحرقت دور صاحب الزنج وقصوره ومنازل أصحابه، كما قدّمنا ذكر ذلك- ونهبت أموالهم انتقلوا إلى الجانب الشرقى من نهر أبى الخصيب، وجمع عياله حوله ونقل أسواقه، فضعف أمره بذلك ضعفا شديدا، ظهر للناس وامتنعوا من جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادّة، وبلغ الرطل من خبز البرّ عشرة دراهم، فأكّلوا الشعير وأصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به، والقوى يأكل الضعيف، ثم أكلوا أولادهم، ورأى الموفّق أن يخرب الجانب الشرقى كما أخرب الغربىّ، فأمر أصحابه بقصد دار الهمدانىّ ومعهم الفعلة، وكان هذا الموضع محصّنا بجمع كثير،(25/171)
وعليه عرّادات ومنجنيقات وقسى، فاشتبكت الحرب وكثرت القتلى فانتصر أصحاب الموفّق عليهم وقتلوهم وهزموهم، وانتهوا إلى الدار فتعذر عليهم الصعود إليها لعلوّ سورها، فلم تبلغه السلاليم الطوال فرمى بعض غلمان الموفّق كلاليب معهم، فعلّقوها في أعلام صاحب الزنج وجذبوها فتساقطت الأعلام منكوسة، فلم تشك المقاتلة عن الدار في أنّ أصحاب الموفّق قد ملكوها، فانهزموا لا يلوى أحد منهم على صاحبه فأخذها أصحاب الموفّق وصعد النفّاطون فأحرقوها وما كان عليها من المجانيق والعرّادات، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من الدور، واستنقذوا من كان فيها من النساء، وكنّ كثيرا، فحملن إلى الموفقيّة وأمر الموفّق بالإحسان إليهن، واستأمن يومئذ من أصحاب صاحب الزنج وخاصّته الذين يلون خدمته جماعة كثيرة، فأمّنهم الموفّق وأحسن إليهم، ودلّ جماعة من المستأمنة الموفّق على سوق عظيمة كانت لصاحب الزنج، متّصلة بالجسر الأوّل تسمّى المباركة، وأعلموه أنّه إن أحرقها لم يبق لهم سوق غيرها، وخرج عنهم تجّارهم الذين بهم قواهم، فعزم الموفّق على احراقها وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها ففعلوا، وأقبلت الزنج إليهم فتحاربوا أشد حرب، واتصل أصحاب الموفّق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق، واتصلت النار، وكان الناس يقتتلون والنار محيطة بهم، وسقطت على المقاتلة واحترق بعضهم، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس، ثم تحاجزوا ورجع أصحاب الموفّق إلى عسكرهم، وانتقل تجّار السوق إلى أعلى المدينة، وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم.(25/172)
قال: ثم فعل صاحب الزنج بالجانب الشرقى من حفر الخنادق وتعوير «1» الطرق مثل ما كان فعل بالجانب الغربىّ بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقا عظيما حصّن به منازل أصحابه التى على النهر الغربىّ، فرأى الموفّق أن يخرب باقى السور إلى النهر الغربىّ، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة، وكان بالجانب الغربىّ جمع من الزنج قد تحصّنوا بسور منيع، وهم أشجع أصحابه، فكانوا يحامون عنه وكانوا يخرجون على أصحاب الموفّق عند محاربتهم، فأمر الموفّق أن يقصد هذا الموضع ويخرب سوره ويخرج من فيه، وأمر ابنه أبا العبّاس والقوّاد بالتأهّب لذلك، وتقدّم إليهم وأمر أن تقرب الشذاوات من السور، ونشبت الحرب ودامت إلى بعد الظهر، وهدم في السور مواضع وأحرق ما كان عليه من العرّادات، وتحاجز الفريقان وهما على السواء سوى هذا السور واحراق عرّادات كانت عليه، ونال الفريقين من الجراح أمر عظيم، وعاد الموفّق فوصل الناس على قدر بلائهم، هكذا كان عمله في محاربته، وأقام الموفّق بعد هذه الوقعة أياما، ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه، وأنّه لا يقدر على ما يريد إلا بعد إزالته، فأعدّ الآلات ورتّب أصحابه وقصده، وقاتل من فيه وأدخلت الشذاوات النهر، واشتدت الحرب ودامت، وأمدّ صاحب الزنج بالمهلبىّ وسليمان بن جامع في جيشهما، فحملوا على أصحاب الموفّق حتى ألحقوهم بسفنهم وقتلوا منهم جماعة، فرجع الموفّق ولم يبلغ منهم ما أراد، وتبيّن له أنّه إذا(25/173)
قاتلهم من وجوه عدّة خفّت وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففرّق أصحابه على جهات أصحاب الزنج، وصار هو في جهة النهر الغربى وقاتل من فيه وصدقهم أصحابه القتال فهزموهم، فولّوا وتركوا حصنهم في أيدى أصحاب الموفّق، فهدموه وأسروا وقتلوا وخلّصوا من هذا الحصن خلقا كثيرا من النساء والصبيان، ورجع الموفّق إلى عسكره بما أراد.
ذكر استيلاء الموفّق على مدينة صاحب الزنج الغربية
قال «1» : لما هدم الموفّق سور دار صاحب الزنج أمر باصلاح المسالك، ليتسع على المقاتلة الطريق إلى الحرب، ثم رأى قلع الجسر الأوّل الذى على نهر أبى الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا، وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصبا ويجعل فيه النفط، ويوضع فى وسطها دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المدّ، فوافت الجسر وعلم بها الزنج فأتوها وطمّوها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم فخرقها فغرقت، وكان قد احترق من الجسر شىء يسير فأطفأه الزنج، فاهتم الموفّق بالجسر فندب أصحابه وأعدّ النفّاطين والفعلة والفؤوس، وأمرهم بقصده من غربىّ النهر وشرقيّة، وركب الموفّق في أصحابه وقصد فوّهة نهر أبى الخصيب، وذلك في منتصف شوّال سنة تسع وستين فسبق الطائفة التى في غرب النهر، فهزم الموكّلين على الجسر وهم سليمان بن جامع(25/174)
وانكلاى ابن صاحب الزنج وأحرقوه، وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى ففعلوا بالجانب الشرقى «1» مثل ذلك، فأحرق الجسر وتجاوزه إلى جانب حظيرة كان يعمل فيها سميريّات صاحب الزنج وآلاته، فاحترق ذلك كله إلا شيئا يسيرا من الشذاوات والسميريّات كانت فى النهر، وقصدوا سجنا للزنج فقاتلهم الزنج ساعة من النهار، ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليه فأطلقوا من فيه، وأحرقوا ما مرّوا به إلى دار مصلح- وهو من قدماء أصحابه- فدخلوها فنهبوها وما فيها وسبوا نساءه وولده واستنقذوا خلقا كثيرا، وعاد الموفّق وأصحابه بالظفر والسلامة، وانحاز صاحب الزنج واصحابه من هذا الجانب إلى الجانب «2» الشرقى من نهر أبى الخصيب، واستولى الموفّق على الجانب الغربى غير طريق يسيرة على الجسر الثانى، فأصلحوا الطرق فزاد ذلك في رعب الزنج، فأجمع كثير من القوّاد- الذين كان صاحب الزنج يرى أنّهم لا يفارقونه- على طلب الأمان فطلبوه، فبذل لهم فخرجوا أرسالا فأحسن الموفّق إليهم وألحقهم بأمثالهم، وأحب الموفّق أن يتمرّن أصحابه على سلوك النهر ليحرق الجسر الثانى فكان يأمرهم بادخال الشذا فيه واحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه في بعض الأيام قائد للزنج ومعه قاض كان لهم ففتّ ذلك فى أعضادهم، ووكّل صاحب الزنج بالجسر الثانى من يحفظه وشحنه بالرجال، فأمر الموفّق بعض أصحابه فأحرق ما عند الجسر من سفن فزاد ذلك في احتياط صاحب الزنج وحراسته للجسر، لئلا يحرق(25/175)
ويستولى الموفّق على الجانب الغربىّ، وكان قد تأخّر من أصحابه جمع فى منازلهم المقاربة للجسر الثانى، وكان أصحاب الموفّق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفيّة، فلما عرفوا ذلك عزموا على احراق الجسر الثانى، فأمر الموفّق ابنه أبا العبّاس والقوّاد أن يتجهّزوا لذلك، وأن يأتوا من عدّة جهات ليوافوا الجسر، وأعدّ معهم الفؤوس والنفط والآلات ودخل هو في الشذا ومعه أنجاد أصحابه، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا واشتد القتال، وكان في الجانب الغربى بازاء أبى العباس ومن معه انكلاى ابن صاحب الزنج وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقى بازاء راشد مولى الموفّق ومن معه صاحب الزنج والمهلبى في باقى الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات ثم انهزم الزنج لا يلوون على شىء، وأخذت السوق منهم، ووصل أصحاب الشذا النهر ودانوا من الجسر، وقاتلوا من يحميه بالسهام وأضرموه نارا، وانهزم انكلاى وسليمان وقد أثخنا بالجراح، فوافيا الجسر والنار فيه فحالت بينهما وبين العبور، فألقيا أنفسهما ومن معهما في النهر فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاى وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وقطع الجسر وأحرق وتفرّق جيش الموفّق في جانبى المدينة، وأحرق من الدور والقصور والأسواق شيئا كثيرا واستنقذ من النساء والصبيان ما لا يحصى ودخلوا الدار التى كان صاحب الزنج سكنها بعد إحراق قصره فنهبوا ما كان فيها وأحرقوها، وهرب هو واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويّات، كنّ محبسات في موضع قريب من داره فأحسن الموفّق إليهن، وفتح سجنا كان له وأخرج خلقا كثيرا ففكّ عنهم الحديد، وأخرج ذلك اليوم كلّ ما كان بنهر أتى الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن كبار(25/176)
وصغار وحرّاقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة، وأباحها أصحابه بما فيها من السلب، وكانت قيمته عظيمة، وأرسل انكلاى ابنه يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفّق إليها، فعلم أبوه بذلك فردّه عمّا عزم عليه، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال، ووجّه سليمان بن موسى الشعرانى- وهو أحد رؤساء صاحب الزنج- يطلب الأمان، فلم يجبه الموفّق إلى ذلك لما تقدّم منه من سفك الدماء والفساد، ثم اتصل به أنّ جماعة من أصحاب صاحب الزنج قد استوحشوا لذلك فأجابه وأرسل الشذا إلى موضع ذكره فخرج هو وأخوه وأهله وجماعة من قوّاده، فأرسل صاحبهم من يمنعهم من ذلك فقاتلهم ووصل إلى الموفّق فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه، وأمر باظهاره لأصحابه ليزدادوا ثقة، فلم يرجع من مكانه حتى استأمن جماعة من القوّاد، منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفّق وأرسل إليه شذاوات فركب فيها وعياله وولده وجماعة من قوّاده، فلقيهم قوم من الزنج فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفّق فأحسن إليه ووصله بصلة سنيّه، وهو من قدماء أصحاب الخبيث، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم فى الأمان قال: ولما رأى الموفّق مناصحه شبل أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلا في جمع من الزنج لم يخالطهم غيرهم إلى عسكر الزنج، فأوقع بهم وأسر منهم وقتل وعاد فأحسن إليه الموفّق وإلى أصحابه، وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل ولا يزالون يتحارسون، وأقام الموفّق ينفذ السرايا إليهم ويكيدهم ويحول بينهم وبين القوت، وأصحابه يتدرّبون في سلوك تلك المضايق التى في أرضه ويوسّعونها.(25/177)
ذكر استيلاء الموفّق على مدينة صاحب الزنج الشرقية
قال: ولما علم الموفّق أن أصحابه قد تمرّنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوها صمّم على العبور إلى محاربة صاحب الزنج من الجانب الشرقى من نهر أبى الخصيب، فجلس مجلسا عاما وأحضر قوّاد المستأمنة وفرسانهم فوقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم عرّفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم ومعصية الله عزّ وجلّ، وأنّ ذلك قد أحلّ لهم دماءهم، وأنّه غفر لهم زلّتهم وأمّنهم ووصلهم، وأن ذلك يوجب عليهم حقّه وطاعته، وأنّهم لن يرضوا ربّهم وسلطانهم بأكثر من الجدّ في محاربة الخبيث، وأنّهم يخبرون مسالك ذلك العسكر ومضايق مدينته وأولى أن يجتهدوا في الولوج عليه والتوغّل في حصونه حتى يمكنهم الله منه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصّر منهم فقد أسقط منزلته، فارتفعت أصواتهم بالدعاء والاعتراف بإحسانه، وبما هم عليه من المناصحة والطاعة وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقرّبهم منه، وسألوه أن يفردهم بناحية ليظهر من نكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وطاعتهم، فأجابهم إلى ذلك وأثنى عليهم، وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى عسكره، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريّات وأنواع السفن، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملّاح ممّن يجرى عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التى تحمل فيها الميرة ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما لكل قائد من السميريات والحربيّات والزواريق، فلما تكاملت السفن تقدّم إلى ابنه أبى العباس(25/178)
وقوّاده بقصد المدينة الشرقية من جهاتها، فسيّر ابنه إلى ناحية دار المهلبىّ أسفل العسكر، وكان قد شحنها بالرجال والمقاتلة، وأمر جميع أصحابه بقصد دار صاحب الزنج وإحراقها، فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبىّ، وسارهو في الشذا وهى مائة وخمسون قطعة فيها أنجاد غلمانه، وانتخب من الفرسان والرجّالة عشرة آلاف وأمرهم أن يسيروا على جانبى النهر إذا سار، وأن يقفوا معه إذا وقف، وبكّر يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذى القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وكانوا قد تقدّموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم، وتقدّمت كلّ طائفة إلى الجهة التى أمرهم بها، فلقيهم الزنج واشتدت الحرب وكثر القتل والجراح في الفريقين، ثم نصر الله عزّ وجلّ أصحاب الموفّق بانهزام الزنج، وقتل منهم خلق كثير وأسر من أنجادهم وشجعانهم خلق كثير فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسرى في المعركة، وقصد بجمعه الدار التى يسكنها صاحب الزنج، وكان قد لجأ إليها وجمع أبطال أصحابه للمدافعه عنها فلم يغنوا شيئا فانهزموا عنها وأسلموها. ودخلها أصحاب الموفّق، وفيها بقايا ما كان سلم من مال صاحب الزنج وولده وأثاثه فنهب ذلك أجمع وأخذوا حرمه وأولاده وكانوا عشرين «1» ما بين صبى وصبيّة، وهرب صاحب الزنج نحو دار المهلبى لا يلوى على أهل ولا مال، وأحرقت داره وأتى الموفّق بأهل صاحب الزنج وولده فسيّرهم إلى بغداد، وكان أصحاب أبى العبّاس قد قصدوا دار المهلبىّ، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين فغلبوهم عليها واشتغلوا بنهبها وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم(25/179)
وجعل من ظفر منهم بشىء حمله إلى سفينته، فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا منهم مقتله عظيمة «1» ، وكان جماعة من غلمان الموفّق قد قصدوا دار صاحب الزنج، فتشاغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضا، فأطمع ذلك الزنج فيهم فكشفوهم واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفّق فردّوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم، ودامت الحرب إلى العصر فأمر الموفّق غلمانه بصدق الحملة عليهم ففعلوا، فانهزم صاحب الزنج ومن معه وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضا، فرأى الموفّق أن يصرف أصحابه فردّهم، وقد استنقذوا جمعا من النساء المأسورات فحملن إلى الموفقيّة، وكان أبو العبّاس قد أرسل في ذلك اليوم قائدا فأحرق بيادر كانت ذخيرة لصاحب الزنج وكان ذلك مما أضعفه وأضعف أصحابه. قال: ثم وصل إلى الموفّق كتاب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون يستأذنه في القدوم عليه، فأمره بذلك وأخّر القتال إلى أن يحضر.
ذكر مقتل صاحب الزنج
قال: ولما ورد كتاب لؤلؤ على الموفّق يستأذنه في الحضور إليه أذن له، وأحبّ أن يؤخر القتال إلى أن يحضر فيشهده، وكان لؤلؤ قد خالف على مولاه أحمد بن طولون، وكان في يده حمص وقنّسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وصار إلى بالس فنهبها، وكاتب الموفّق فى المصير إليه واشترط شروطا فأجابه الموفّق إليها، وكان بالرقة(25/180)
فسار إلى الموفّق فوصل إليه في ثالث شهر المحرّم سنة سبعين ومائتين فى جيش عظيم، فأكرمه الموفّق وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم وأحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم.
ثم تقدّم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الزنج، وكان صاحب الزنج، لمّا غلب على نهر أبى الخصيب وقطعت القناطر والجسور التى عليه، أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط النهر بابا ضيّقا لتحتد جرية الماء فيه فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذّر خروجها منه في المدّ، فرأى الموفّق أنّ حربة لا يتهيّأ إلا بقلع هذا السكر، وحاول ذلك فاشتدت محاماة الزنج عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم، فيه، فشرع الموفّق في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليتمرّنوا على قتالهم ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، وأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ففعل، فرأى الموفّق من شجاعتهم وإقدامهم ما سرّه، فأمر لؤلؤا بصرفهم إشفاقا عليهم ووصلهم وأحسن إليهم، وألحّ الموفّق على هذا السكر، فكان يحارب والفعلة يعملون في قلعه، واستأمن إليه جماعة، وكان قد بقى لصاحب الزنج وأصحابه أرضين بناحية النهر الغربى، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبو العباس وفرّق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمناء، ثم أوقع بهم فانهزموا فما قصدوا جهة إلا خرج عليهم من يقاتلهم فيها، فقتلوا لم يسلم منهم إلا الشريد، وأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع(25/181)
القنطرتين، ولم يزل الموفّق يقاتلهم على سكرهم حتى تهيّأ له فيه ما أحب وحرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء صاحب الزنج، فأمر باصلاح السفن والآلات للماء والطين، وتقدّم إلى ابنه أبى العبّاس أن يأتى الزنج من ناحية دار المهلبىّ، وفرّق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمر الناس ألّا يزحفوا حتى يحرّك علما أسود كان نصبه على دار الكرنبائى، وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين «1» لثلاث بقين من المحرّم، فعجّل بعض الناس وزحف نحوهم، فلقيه الزنج فقتلوا منهم وردّوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفّق بتحريك العلم الأسود والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوا بما تهيّأ لهم، فلقيهم الجيش بنيّات صادقة وبصائر نافذة، واشتد القتال وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب صاحب الزنج وتبعهم أصحاب الموفّق، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفّق المدينة بأسرها، فغنم أصحابه ما فيها واستنقذوا من كان بقى من الأسارى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال على بن أبان المهلبىّ وبأخويه الخليل ومحمد وأولادهما، فسيّروا إلى الموفقيّة، ومضى صاحب الزنج في أصحابه ومعه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع وقوّاد من الزنج وغيرهم(25/182)
هرابا، عامدين إلى موضع كان قد أعدّه ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفيانى، وكان أصحاب الموفّق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدّم أصحاب الموفّق في الشذا نحو نهر السفيانى، وانتهى الموفّق ومن معه إلى عسكر صاحب الزنج وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه حتى عبروا النهر فاقتحم «1» لؤلؤ النهر بفرسه واتبعه أصحابه حتى انتهى إلى النهر «2» المعروف بالقريرى «3» فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه فهزموهم حتى عبروا نهر المساوان «4» ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه باتباعهم إلى هذا المكان إلى آخر النهار، فأمر الموفّق بالانصراف فعاد مشكورا محمود الفعل، فحمله الموفّق معه وجدّد له البرّ والكرامة ورفع منزلته، ورجع الموفّق فلم ير أحدا من أصحابه بمدينة الزنج، وكانوا قد انصرفوا إلى الموفقيّة بما حووا في سفنهم، فرجع الموفّق إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح، وغضب الموفّق على أصحابه لمخالفتهم أمره وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم ووبّخهم على ذلك وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنّوه من انصرافه، وأنّهم لم يعلموا بمسيره ولو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا على ألّا ينصرف منهم أحد إذا توجّهوا نحو صاحب الزنج حتى يظفروا، فإن أعياهم أقاموا حتى يحكم الله بينهم وبينه، وسألوا الموفّق أن يردّ السفن التى يعبرون فيها إلى(25/183)
صاحب الزنج، لينقطع الناس عن الرجوع فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهّب. وأقام الموفّق بعد ذلك إلى يوم الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس بالمسير إلى حرب الزنج بكرة السبت، وطاف عليهم بنفسه يعرّف كل قائد مركزه والمكان الذى يقصده.
وغدا الموفّق يوم السبت لليلتين «1» خلتا من صفر سنة سبعين وعبر الناس، وأمر بردّ السفن فردّت، وسار يقدمهم إلى المكان الذى قدّر أن يلقاهم فيه، وكان صاحب الزنج وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأمّلوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفّق المتسرّعين من غلمانه من الفرسان والرجّالة قد سبقوا الجيش، فأوقعوا بصاحب الزنج وأصحابه وهزموهم بها، وتفرّقوا لا يلوى بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفّق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، فانقطع صاحب الزنج في جماعة من حماة أصحابه منهم المهلبىّ، وفارقه ابنه انكلاى وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعا كثيفا من الجيش، وكان أبو العبّاس قد تقدّم فلقى المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع فأتوا به الموفّق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمدانى- وكان أحد أمراء جيوشه- فأمر الموفّق بالاستيثاق منهما، ثم إنّ الزنج الذين انفردوا مع صاحبهم حملوا على الناس(25/184)
حملة أزالوهم عن مواقفهم ففتروا، فجدّ الموفّق في طلبهم وأمعن، فتبعه أصحابه وانتهى إلى آخر نهر أبى الخصيب، فلقيه البشير بقتل صاحب الزنج، وأتاه بشير آخر ومعه كفّ ذكر أنّها كفّه، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس صاحب الزنج، فعرض الموفّق الرأس على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخرّ لله ساجدا وسجد معه الناس، وأمر برفع الرأس على قناة فعرفه الناس.
قال: ولما أحيط بصاحب الزنج كان معه المهلبى وحده، فولّى عنه هاربا وقصد نهر فألقى نفسه فيه، وكان انكلاى قد سار نحو الدينارىّ ورجع الموفّق والرأس بين يديه وسليمان بن جامع، فأتى مدينته وأتاه من الزنج عالم عظيم يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاى والمهلبىّ ومكانهما ومن معهما من مقدّمى الزنج، فبث أصحابه في طلبهم وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا ألّا ملجأ أعطوا بأيديهم فظفر بهم وبمن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبىّ وانكلاى، وكان ممّن هرب قرطاس الرومىّ الذى رمى الموفّق بالسهم فى صدره، فانتهى إلى رامهرمز فعرفه رجل فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيّره إلى الموفّق فقتله ابنه أبو العبّاس، ثم استأمن درمويه الزنجى إلى أبى أحمد الموفّق، وكان درمويه هذا من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان صاحب الزنج قد وجّهه قبل هلاكه بمدّة إلى موضع كثير الأدغال والشجر والآجام متصل بالبطيحة، وكان هو ومن معه يقطعون الطريق هناك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذّر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويغيرون على قرى البطيحة(25/185)
ويقطعون الطريق، فظفروا بجماعة من عسكر الموفّق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتلوا الرجال وأخذوا النساء، فسألهنّ درمويه عن الخبر فأخبرنه بقتل صاحب الزنج وأسر أصحابه وقوّاده، وأن كثيرا منهم قد صار إلى الموفّق بالأمان فأحسن إليهم، فسقط في يده ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل إلى أبى أحمد الموفّق يطلب الأمان فأجابه إلى ذلك وأمّنه، فخرج هو ومن معه حتى وافى عسكر الموفّق فأحسن إليهم وأمّنهم، فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردّها إلى أربابها ردا ظاهرا فعلم بذلك حسن نيّته فزاد الموفّق في الإحسان إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحى التى دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسارع الناس إلى ذلك.
وأقام الموفّق بالمدينة الموفقيّة ليأمن الناس بمقامه، وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة رجلا من قواده قد حمد مذهبه وعلم حسن سيرته يقال له العبّاس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد، وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس صاحب الزنج ليراه الناس، فبلغها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
قال: وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيّامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيّام.
انقضت أخبار صاحب الزنج فلنذكر أخبار القرامطة(25/186)
ذكر أخبار القرامطة وابتداء أمرهم وما كان من أخبارهم وما استولوا عليه من البلاد وغير ذلك من أخبارهم
والقرامطة منسوبون إلى قرمط، وقد اختلف فيه: فمن الناس من يقول إنّه حمدان بن الأشعث، وأنّه إنما سمّى قرمطا لأنّه كان رجلا قصيرا قصير الرجلين متقارب الخطو فسمّى بذلك، وقيل قرمط:
ثور كان لحمدان بن الأشعث هذا، وأنّه كان يحمل غلّات السواد على أثوار له بسواد الكوفة، والله تعالى أعلم.
قال ابن الأثير في تاريخه «1» الكامل في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين:
وفيها تحرّك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم: أن رجلا يقال له حمدان يظهر الدين والزهد والتقشّف، ويأكل من كسبه، وأقام على ذلك مدة، فكان إذا جالسه رجل ذاكره الدين وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم «2» ، حتى فشا ذلك بموضعه، ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب له جمع كثير وكان يقعد إلى بقّال هناك، فجاء رجل إلى البقّال يطلب منه من يحفظ له ما صرم من نخله، فدلّه عليه وقال لعلّه يجيب، فكلّموه في ذلك(25/187)
فاتفق معهم على أجرة معلومة، فكان يحفظ لهم ويصلى أكثر نهاره، ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر، يفطر عليه ويجمع نواه ويعطيه للبقّال، فلما حمل التجار تمرهم جلسوا عند البقّال وحاسبوه وأعطوه أجرته، وحاسب هو البقّال على ما أخذ من التمر وحطّ ثمن النوى فضربوه، وقالوا ألم يكفك أن تأكل تمرنا حتى تبيع نواه؟! فأوقفهم البقّال على الخبر فاعتذروا واستحلوا منه، وازداد بذلك عند أهل القرية، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا واحدا، ويزعم أنّه للإمام، واتخذ منهم إثنى عشر نقيبا أمرهم أن يدعو الناس إلى مذهبه وقال: أنتم «1» كحوارى عيسى بن مريم، فاشتعل أهل تلك الناحية عن أعمالهم، وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فرأى تقصير الأكّارة في عمارتها، فسأل عن ذلك فقيل له خبر الرجل فحبسه، وحلف ليقتلنّه لما اطّلع على مذهبه، وأغلق عليه الباب ليقتله في غد، وجعل المفتاح تحت رأسه، فسمع بعض جواريه خبره فرقّت له، فسرقت المفتاح وأخرجته وأعادت المفتاح إلى موضعه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده، فشاع ذلك في الناس فافتتنوا به وقالوا رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى، ولقى جماعة من أصحابه فسألوه عن قصّته فقال: لا يمكن أن ينالنى أحد بسوء، فعظم في أعينهم ثم خاف على نفسه فخرج إلى ناحية الشام، فلم يوقف له على خبر، هذا ما حكاه عز الدين بن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل.(25/188)
وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن على بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد ابن على بن الحسين «1» بن على بن أبى طالب- وهو المعروف بأخى محسن- فى كتاب «2» ألّفه ذكر فيه عبيد الله الملقب بالمهدى، الذى استولى على بلاد المغرب واستولى بنوه من بعده على الديار المصرية والشام وغير ذلك، وذكر الشريف أصل عبيد الله هذا ونفاه عن النسب إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه، واستدلّ على ذلك بأدلّه يطول شرحها أجاد في تبيانها، وقال في أثناء ما حكاه أنّه لما صار الأمر إلى أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان بعد أبيه- وأحمد هذا هو جد عبيد الله الملقّب بالمهدى- بعث- وهو بسلمية- الحسين الأهوازى داعية إلى العراق، فلقى حمدان بن الأشعث قرمطا بسواد الكوفة ومعه ثور ينقل عليه، فقال له الحسين الأهوازى: كيف الطريق إلى قس بهرام؟ فعرّفه حمدان أنّه قاصد إليه، وسأله الأهوازى عن قرية تعرف ببانبورا من قرى السواد، فذكر أنّها قريبة من قريته وكان حمدان هذا من قرية تعرف بالدّور على نهر هد من رستاق مهروسا «3» من طسّوج فرات بادقلى، قال: فتماشيا ساعة، فقال له حمدان: إنّى أراك جئت من سفر بعيد، وأنت معى فاركب ثورى هذا، فقال له الحسين: لم أومر بذلك، فقال له حمدان: كأنّك تعمل بأمر أمر لك؟ قال نعم، قال: ومن يأمرك وينهاك؟ قال:(25/189)
مالكى ومالكك ومن له الدنيا والآخرة، قال: فبهت حمدان قرمط مفكّرا، وأقبل ينظر إليه ثم قال له: يا هذا ما يملك ما ذكرته إلا الله تعالى! قال: صدقت، والله يهب ملكه لمن يشاء، قال له حمدان:
فما تريد في القرية التى سألتنى عنها؟ قال: دفع إلىّ جراب فيه علم سرّ من أسرار الله تعالى، وأمرت، أن أشفى هذه القرية وأغنى أهلها وأستنقذهم وأملّكهم أملاك أصحابهم.
وابتدأ يدعوه فقال له حمدان: يا هذا نشدتك الله إلا دفعت إلىّ من هذا العلم الذى معك وأنقذتنى ينقذك الله!! قال له: لا يجوز ذلك أو آخذ عليك عهدا وميثاقا أخذه الله تعالى على النبيّين والمرسلين وألقى عليك ما ينفعك، قال: فما زال حمدان يضرع إليه حتى جلسا فى بعض الطريق وأخذ عليه العهد، ثم قال له: ما اسمك؟ قال:
قرمط، ثم قال له قرمط: قم معى إلى منزلى حتى تجلس فيه، فإنّ لى إخوانا أصير بهم إليك لتأخذ عليهم العهد للمهدى، فصار معه إلى منزله، فأخذ على الناس العهد هناك، وأقام في منزل حمدان وأعجبه أمره وعظّمه وكرّمه، وكان على غاية ما يكون من الخشوع، صائما نهاره قائما ليله، وكان المغبوط «1» من أخذه إلى منزله ليلة، وكان «2» ربما خاط لهم الثياب وتكسّب بذلك، وكانوا يتبرّكون به وبخياطته.
قال: وأدرك التمر فاحتاج أبو عبد الله محمد بن عمر بن شهاب العدوى إلى عمل «3» تمره، وكان من وجوه أهل الكوفة ومن أهل العلم والفضل والتوحيد، فوصف له هذا الرجل فنصبه لحفظ تمره والقيام(25/190)
فى حظيرته، فأحسن حفظها واحتاط في أداء الأمانة، وظهر منه من التشديد في ذلك ما خرج به عن أحوال الناس في تساهلهم في كثير من الأمور، وذلك في سنة أربع وستين ومائتين، فاستحكمت ثقة الناس به، وثقته بحمدان قرمط وسكونه إليه، فأظهر له أمره وكشف له الغطاء.
قال: وكلّ ما كان هذا الداعية يفعله من الثقة والأمانة واظهار الخشوع والنسك إنما كان حيلة ومكرا وخديعة «1» وغشا، قال:
فلما حضرت هذا الطاغية الوفاة جعل مقامه حمدان بن الأشعث قرمطا، فأخذ على أكثر أهل السواد وكان ذكيا خبيثا، قال: وكان ممّن أجابه من أصحابه الذين صار لهم ذكر زكرويه بن مهرويه السلمانى وجلندى الرازى، وعكرمة البابلى، وإسحاق السّورانى، وعطيف النّيلى وغيرهم، وبث دعاته في السواد يأخذون على الناس، وكان أكبر دعاته عبدان متزوجا أخت قرمط أو قرمط متزوجا أخته، وكان عبدان رجلا ذكيا خفيفا «2» فطنا خبيثا، خارجا عن طبقة نظرائه من أهل السواد ذا فهم وخبث، فكان يعمل عند نفسه على حدّ قد نصب له، ولا يرى أنّه يجاوزه إلى غيره من خلع الإسلام، ولا يظهر غير التشيّع والعلم ويدعو إلى الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكان أحد من تبع عبدان(25/191)
زكرويه بن مهرويه، وكان زكرويه شابا فيه ذكاء وفطنة، وكان من قرية بسواد الكوفة يقال لها المنسانيّة «1» تلاصق قرية الصوّان، وهاتان القريتان على نهرهد، نصبه عبدان على إقليم نهرهد وطسّوج السالحين وإقليم نهر يوسف داعية، ومن قبله جماعة دعاة متفرقون في عمله، يدور كل واحد منهم في عمله في كل شهر مرّة، وكلّ ذلك بسواد الكوفة، ودخل في دعوته من العرب من بنى ضبيعة بن عجل- وهم من ربيعة- رجلان، أحدهما يعرف برباح والآخر يعرف بعلى بن يعقوب القمر، فأنفذهما دعاة إلى العرب في أعمال الكوفة وسورا وبربسما وبابل، ودخل في دعوته من العرب أيضا رفاعة من «2» بنى يشكر، ثمّ من بكر بن وائل رجل يعرف بسند «3» وآخر يعرف بهارون، فجعلهما دعاة نخيلة «4» وما والاها في العرب خاصة إلى حدود واسط، فمال إليه هذان البطنان ودخلا في دعوته فلم يكد يختلف رفاعى ولا ضبعى، ولم يبق من البطون المتصلة بسواد الكوفة بطن إلا(25/192)
دخل في الدعوة منه ناس كثير أو قليل، من بنى عايش وذهل وغيره وبنى عنز وتيم الله وثعل وغيرهم، وفيهم نفر يسير من بنى شيبان، فقوى قرمط بهم وزاد طمعه فأخذ في جمع أموالهم.
ذكر ما فرضه قرمط على من دخل في دعوته واستجاب له وكيف نقلهم في استئصال أموالهم من اليسير إلى الكثير حتى استقام له أمرهم
كان أول ما ابتدأ به أن فرض عليهم وامتحنهم بتأدية درهم واحد، وسمى ذلك الفطرة من كل رأس من الرجال والنساء والصبيان فسارعوا إلى ذلك، فتركهم مديدة ثم فرض عليهم الهجرة، وهو دينار على كل رأس أدرك الحنث، وتلا عليهم قوله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
«1» ، وقال: هذا تأويل هذا، فدافعوا ذلك مبادرين به إليه، وتعاونوا عليه فمن كان فقيرا أسعفوه، فتركهم مديدة ثم فرض عليهم البلغة: وهى سبعة دنانير، وزعم أنّ ذلك هو البرهان بقوله تعالى (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) *
«2» ، وزعم أنّ ذلك بلاغ من يريد الإيمان والدخول في السابقين السابقين- «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»
، وصنع لهم طعاما طيبا حلوا لذيذا وجعله على قدر البنادق، يطعم كلّ من أدّى إليه سبعة دنانير واحدة منها، وزعم أنّه طعام أهل الجنّة نزل إلى الإمام، واتخذ ذلك كالخواتيم ينقل إلى(25/193)
الداعى منها مائة بلغة ويطالبه بسبعمائة دينار، فلما توطأ له هذا الأمر فرض عليهم أخماس ما يملكون وما يتكسبون، وتلا عليهم قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... )
الآية «1» فقوّموا جميع ما يملكونه من ثوب وغيره وأدّوا خمسه إليه، حتى كانت المرأة تخرج خمس ما تغزل، والرجل خمس ما يكسب، فلما تمّ ذلك له واستقرّ فرض عليهم الألفة، وهو أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد وأن يكونوا في ذلك أسوة واحدة، لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه، وتلا عليهم قوله تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)
«2» ، وتلا عليهم قوله تعالى (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
«3» ، وعرّفهم أنّه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم، لأنّ الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم، وقال لهم: هذه محنتكم التى امتحنتم بها ليعلم كيف تعملون، وطالبهم بشراء السلاح واعداده، وذلك كلّه في سنة ست وسبعين ومائتين.
وأقام الدعاة في كل قرية رجلا مختارا من ثقانها، يجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره، فكان يكسو عاريهم وينفق عليهم ما يكفيهم، ولا يبقى فقيرا بينهم ولا محتاجا ضعيفا، وأخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته والتكسب(25/194)
بجهده، ليكون له الفضل في رتبته، وكانت المرأة تجمع إليه كسبها من مغزلها، والصبى أجر نطارته الطير، فلم يملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه، فلما استقام له ذلك كلّه وصبوا إليه وعملوا به، أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلة معروفة ويختلطن بالرجال، وقال: إنّ ذلك من صحة الودّ والألفة بينهم فربما بذل الرجل لأخيه امرأته متى أحبّ فلما تمكّن من أمورهم ووثق بطاعتهم وتبيّن مقدار عقولهم أخذ في تدريجهم إلى الضلالة، وأتاهم بحجج من مذهب الثنويّة فسلكوا معه في ذلك، حتى خلعهم من الشريعة ونقض عليهم ما كان يأمرهم به في مبدأ أمرهم من الخشوع والورع والتقى، وأباح لهم الأموال والفروج والغنى عن الصوم والصلاة والفرائض، وأنّ ذلك كلّه موضوع عنهم وأن أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم، وأنّ معرفة صاحب الحق الذى يدعو إليه يغنى عن كل شىء، ولا يخاف معه إثم ولا عذاب.
ذكر دعوة القرامطة وعهدهم الذين كانوا يأخذونه على من يغرونه، ويستميلونه الى مذهبهم، وكيف ينقلونه من مرتبة الى أخرى، حتى ينسلخ من الدين ويخلع ربقة الاسلام من عنقه
[ذكر صفة الدعوة الأولى]
قال الشريف أبو الحسين محمد بن على: أول الدعوة بعد عمل الداعى بالرزق وقوة إجابة المدعو من سائر الأمم أن يسلك به في السؤال عن المشكلات، مسلك الملحدين والشكاك، ويكثر السؤال عن تأويل الآيات ومعانى الأمور الشرعيات، وشىء من الطبائع ووجوه القول في الأمور التى تكثر فيها الشّبه، ولا يصل إليها إلا العالم المبرّز ومن(25/195)
جرى مجراه، فإن اتّفق له مجيب عارف ممارس جدل سلّم إليه الدّاعى وعظّمه وكرّمه وحشمه وصوّب قوله، وداخله بما يحب من علم شريعته التى يومى إليها، وكل ذلك ليقطع كلامه لئلا يتبيّن ما هو عليه من الحيلة والمكر، وما يدخل به على الناس من أمر الدعوة، وإن اتّفق مغرور مغفّل غليظ الحواسّ ألقى إليه ما يشغل به قلبه، مثل قوله: إنّ الدين لمكتوم وإنّ الأكثر له لمنكرون وبه جاهلون، ولو علمت هذه الأمّة ما خصّ الله به الأئمة من العلم لم تختلف، ويوهم من سمع كلامه أنّ عنده علوما خفيّة لم تصل إليهم، فتطلع نفس المستمع إلى معرفة بيان ما قال، وربما وصل أمره مع من يجالسه- واحدا كان أو جماعة- بشىء من معانى القرآن، وذكر شرائع الدين وتأويل الآيات وتنزيلها وكلام لا يشك المسلم العارف في حقيقته، ويوهم المستمعين منه أنّه قد ظفر بعلم، لو صادف له مستمعا لكان ناجيا منتفعا، وقرّر عندهم أنّ الآفة التى نزلت بالأمة وحيّرت في الديانة وشتّتت الكلمة وأورثت الأهواء المضلّة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حافظين لشرائعهم يؤدونها على حقائقها، ويحفظون عليهم معانيها وبواطنها، وأنّهم لما عدلوا عنهم ونظروا من تلقاء عقولهم، واتباعهم لمّا حسن في رأيهم وسمعوه من أسلافهم وغلاتهم «1» - اتباع الملوك في طلب الدنيا- وحاملى الغنى ومسمعى الإثم وأجناد الظلمة وأعوان الفسقة الطالبين العاجلة، والمجتهدين في الرياسة على الضعفاء، ومن يكايد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمته وغيّر كتابه وبدّل سنّته، وقتل عترته(25/196)
وخالف دعوته وأفسد شريعته وسلك بالناس غير طريقته، وعاند الخلفاء من بعده، وخلط بين حقّه وباطل غيره فتحيّر وحيّر من قبل منه، وصار الناس إلى أنواع الضلالات به وبأتباعه، وقالوا لهم حينئذ- كالنصحاء الحكماء-: إنّ دين محمد لم يأت بالتحلى ولا بالتمرّى، ولا بأمانىّ الرجال ولا شهوات الخلق، ولا بما خفّ على الألسنة وعرفته دهماء العامّة، وإنما الدين صعب مستصعب، أمر مستثقل وعلم خفى غامض، سيّره الله في حجبه وعظّم شأنه عن ابتذال الأشرار له، فهو سرّ الله عزّ وجلّ المكتوم وأمره المستور، الذى لا يطيق حمله ولا ينهض بأعبائه وثقله إلا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، فى أمثال هذا الكلام، ويموّه على من لا يعلم بأنّهم لو أظهروا ما عندهم من العلم لأنكره من يسمعه، وتعجّب منه وكفّر أهله، وهذه مقدّمة يجعلونها في نفوس المخدوعين، ليواطئوهم على ألّا ينكروا ما يسمعونه منهم ولا يدفعوه، فيجعلوا ذلك تأنيسا وتأسيسا لينخلع من الشرائع وترتيب أصولها والحرص على طلبها، وربما قالوا لهم شيئا يموّهون به أن له تفسيرا، وإنما هو تقليد فى الديانة.
فمن مسائلهم: ما معنى رمى الجمار؟ والعدو بين الصفا والمروة؟
ولم قضت الحائض الصيام ولم تقض الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق لشىء طاهر منه البشر، ولا يغتسل من البول النجس الكثير القذر، وما بال الله تعالى خلق الدنيا في ستة «1» أيام؟ أعجز(25/197)
عن خلقها في ساعة واحدة؟ وما معنى الصراط المضروب في القرآن مثلا؟ والكاتبين «1» الحافظين؟ وما لنا لا نراهما؟ أيخاف ربنا أن نكابره ونجاحده فأذكى «2» العيون وأقام علينا الشهود؟ وقيّد ذلك بالقرطاس والكتابة؟! وما تبديل الأرض «3» غير الأرض؟ وما عذاب جهنّم؟ وكيف يصحّ تبديل جلد «4» مذنب بجلد لم يذنب يعذب؟! وما معنى: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية «5» ؟
وما إبليس؟ وما ذكرته الشياطين؟ وما وصفوا به، ومقدار قدرهم؟
وما يأجوج ومأجوج؟ وهاروت وماروت؟ وما سبعة أبواب النار؟
وما ثمانية أبواب الجنّة؟ وما شجرة الزقّوم النابتة في الجحيم؟ وما دابّة الأرض؟ ورؤوس الشياطين؟ والشجرة الملعونة في القرآن؟ والتين والزيتون؟ وما الخنّس؟ وما الكنّس؟ وما معنى الم، والمص؟ وما معنى كهيعص؟ وما معنى حم عسق؟ وأمثال هذا من الكلام، ولم جعلت السماوات سبعا والأرضون سبعا؟ والمثانى من القرآن سبع آيات؟ ولم فجّرت العيون اثنتى عشرة عينا؟ ولم جعلت الشهور اثنى عشر شهرا؟ وأمثال هذا من الكلام والأمور، ممّا يوهمون أنّ فيه معانى غامضة وعلوما جليلة.
وقالوا للمغرورين: ما يعمل معكم الكتاب والسنّة ومعانى الفرائض(25/198)
اللازمة؟ وأين أرواحكم؟ وكيف صورها؟ وأين مستقرّها؟ وما أوّل أمرها؟ والإنسان ما هو؟ وما حقيقته؟ وما فرق بين حياته وحياة البهائم؟ وفرق ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما بانت به حياة الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم» ؟ وما معنى قول الفلاسفة:
الإنسان هو العالم الصغير؟ ولم جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟ ولم جعل في أربع أصابع من يدية ثلاثة شقوق وفي الإبهام شقّان؟ ولم جعل في وجهه سبعة ثقب وفي سائر بدنه ثقبان؟ ولم جعل في ظهره اثنتا عشرة عقدة وفي عنقه سبع؟ ولم جعل رأسه في صورة ميم ويداه حاء وبطنه ميما ورجلاه دالا حتى صار لذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعلت أعداد عظامكم كذا وأعداد أسنانكم كذا؟ ولم صارت الرؤساء من أعضائكم بكذا وكذا، وسألوا عن التشريح والقول في العروق وفي الأعضاء ووجوه منافع الأعضاء، ويقولون لهم: ألا تفكّرون في حالكم وتعتبرون؟ وتعلمون أنّ الذى خلقكم حكيم غير مجازف، وأنّه فعل جميع ذلك بحكمة، وله في ذلك أغراض باطنة خفيّة، حتى جمع ما جمعه وفرّق ما فرّقه، وكيف الإعراض عن هذه الأمور، وأنتم تسمعون قول الله عزّ وجلّ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)
«1» وقوله: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ)
«2» ويقول: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
«3» ويقول(25/199)
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
«1» فأى شىء رآه الكفّار في أنفسهم وفي الآفاق فعرفوا أنّه الحق؟ وأى حق عرفه من جحد الديانة؟ أولا يدلّكم هذا على أنّ الله عزّ وجلّ أراد أن يدلّكم على بواطن الأمور الخفيّة وأمور في باطنه، و [لو] «2» عرفتموه لزالت عنكم كل حيرة وشبهة، ووقعت لكم المعارف السنيّة، أولا ترون أنّكم جهلتم أنفسكم؟ التى من جهلها كان حريا بأن لا يعلم غيرها، أوليس الله تعالى يقول (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)
«3» ، وأمثال هذه الأمور مما يسألون عنه ويعرضون به من تأويل القرآن وتفسير ألفاظ كثيرة من ألفاظ السنن والأحكام، والجواب معان يفسّر بها وضع الشرائع السمعيات فيما رفع منها وما «4» نصب، وكثير من أبواب التعديل والتجويز «5» مما يأتى في المقالة الثانية إن شاء الله تعالى، فإن أوجب ذلك للمسئول عنه شكا وحيرة واضطرابا وتعلّقت نفسه بالجواب عنه، وتشوّق إلى معرقته فسألهم عنه عاملوه بمثل ما يفعل به صاحب الفأل والزرّاق والقصّاص على العوامّ عند امتلاء صدورهم بما يفخرون به أولا عندهم من أحوال قد عرفوها من أحوالهم، فهم إلى معرفتها أكثر الحاجة وعلقوا بمعرفتها أنفسهم، وعند بلوغ القصاص إلى ما يبلغون إليه يقطعون الحديث، لتعلّق قلوب المستمعين بما يكون(25/200)
بعده، وهذه صفة الدعاة وحالهم، يقدمون على الكلام والمسائل ثم يقطعون فتتعلق أنفس المغرورين، بما قد تأخّر من القول الذى قدّموا له مقدّمة، فإذا خاطبهم على علم معرفته تأويل البيان قالوا له: لا تعجل، فإنّ دين الله أجلّ وأكبر من أن يبذل لغير أهله، ويجعل عرضا للّعب وما جانسه، ويقولون: قد جرت سنّة الله جلّ وعزّ في عباده عند شرع من نصبه من النبيّين أخذ الميثاق، كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)
«1» وقال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
«2» وقال جلّ ذكره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
«3» وقال (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)
«4» وقال تعالى (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... )
«5» فى أمثال هذا خبّر الله عز وجلّ فيه أنّه لم يملك حقّه إلا لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك بالتوكيد من أيمانك وعقودك، ألّا تفشى لنا سرا ولا تظاهر علينا أحدا ولا تطلب لنا غيلة، ولا تكلّمنا إلا نصحا ولا توال علينا عدوا، فى أمثال لهذا، وإنّما غرضهم في ذلك كلّه أمور: منها أن يستدلّوا بها بظاهر(25/201)
ما يعطيهم المخدوع من انقياده وطاعته، على باطن أمره من شكّه واضطرابه، وكيف موقع ذلك منه، ومنها التوثّق بالأمن من كشف أحوالهم وانتشار أمورهم، إلا بعد توطئه ما يريدونه حالا فحالا، ومنها أن يرسموه بالذل والطاعة لهم والرضى منه بأن يكون منقادا، تابعا لهم ومكبرا، وإلا فإنّ نكث الأيمان وقلة الاكتراث بها والفكر فيها والاعتداد بها، هو دينهم عند البلوغ إلى غايتهم التى يجرون إليها، وإنّما يجعلون ذلك مانعا لأهل هذه الطبقات، ما داموا مستشعرين للعمل بالديانات، فإن سمح المدعو باعطاء عهده وتصاغر لهم بقوة اضطراب قلبه وشكّه قالوا له حينئذ: أعطنا جعلا من مالك، وغرما نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إياها، وكان ذلك مما يستظهرون به عليه بالاستدلال به أيضا على قوّة شكّه وتعلّق نفسه، وظهريا لهم على الاستعانة على أمرهم وتمكينهم لدعوتهم، ثم رسموا فى مبلغ ذلك رسما بحسب ما يراه الداعى في أمره صلاحا، وإن امتنع عليهم المخدوع في رتبة العهد واعطائه الداعى، أو في رتبة العزم وعطيّته أمسكوا عنه وزادوه أبدا في شكّه وحيرته.
فهذا حال الدعوة الأولى ووصفها وما تدرّج به الدعاة المخدوعين
ذكر صفة الدعوة الثانية
قال الشريف رحمه الله: فإذا قبل المخدوع الرتبة الأولى وحصل عليها اعتقد تهمة الأمّة، فيما نقلته عمّن، كان قبلها من علماء المسلمين، وقوى شكّه في ذلك ثم تقرّر في نفسه أن الله تعالى لم يرض في إقامة حقه وما شرعه لعباده إلا فأخذ ذلك عن أئمة نصبهم لهم(25/202)
وأقامهم لحفظ شرائعه على مراده، وسلكوا به في تقرير هذه الأمور عنده والدلالة على صواب قولهم، وجعلوا على قولهم وبرهانهم طريقا يسلكون به مسلك أصحاب الإمامة، فى تعاطى اتيانها من جهة السمع والعقل حتى يتأثر، ذلك عند من يأخذون عليه، ويقرّره في نفسه فيكون ذلك منزلة ثانية، ودعوة مرتّبة بعد الدعوة الأولى التى قدّمنا ذكرها.
ثم ينقلوه إلى الدعوة الثالثة.
ذكر صفة الدعوة الثالثة
قال: وأما الدعوة الثالثة فهى أن يقرّر الداعى عند المخدوع أنّ الذى ينبغى أن يعتقده في عدد الأئمة أنّهم سبعة، عظموا في أنفسهم وأعدادهم، ورتّبوا سبعة كما رتبت جلائل الأمور، وأصول الترتيب كالنجوم السيّارة والسماوات والأرضين، ثم يعدّد له ما في ذلك جار على هذا العدد، ممّا سنذكره في المقامة الرابعة ونبيّنه ونذكر مذهبهم فيه إن شاء الله تعالى.
قال: ثم يقرّر عند المخدوعين أمر الأئمة وعددهم، فيقول: أوّل هؤلاء الأئمة على بن أبى طالب ثم الحسن ثم الحسين ابناه، ثم على بن الحسين زين العابدين، ثم محمد «1» بن على الجليل الرضى، ثم أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق، ثم السابع وهو عندهم القائم وصاحب الزمان الآخر. وقد كان منهم من يجعل القائم محمد بن(25/203)
إسماعيل بن جعفر، ولا يبتدئ باسماعيل بن جعفر قبله، ومنهم من يجعل إسماعيل ثم القائم محمد بن اسماعيل، فمن فعل هذا خرج من أعداد السبعة، فإذا قرّر الداعى عند المخدوع: أن الأئمة سبعة، أسقط ستة لم يجعل لهم إمامة وهم موسى بن جعفر، وعلى بن موسى، ومحمد بن على، وعلى بن أحمد والحسن بن على «1» ، ومحمد المنتظر، فإذا قبل منه المغرور ما يلقى إليه من هذا القول استقر عقله، وأخذ في صرفه عن طريق الإمامة، ويقع فى أبى الحسن «2» موسى بن جعفر ويثلبه بما ليس فيه، ثم يقول له:
إن الإماميّة الذين يقولون باثنى عشر إماما ليس لهم حقيقة بما يعتقدونه يريد بهذا أن يسهّل عليه طريق المخالفة لأهل الإمامة، كما سهّل عليه التهمة لما عليه سائر الأمة من الاعتقاد- كما تقدم في الدعوة الأولى، يصدون عن طريق الإمامة في أبى الحسن، ويقال إنّ موسى بن جعفر يكنى أبا إبراهيم، يقولون: إنّا وجدنا صاحبنا محمد بن إسماعيل بن جعفر عنده علوم المستورات وبواطن المعلومات، وفقدنا ذلك عند كل أحد سواه، وربما أتوا بروايات في الطعن على أبى الحسن موسى بن جعفر ورموه بالعظائم، ويقولون: ليس له إمامة، وقد أجمعت الشيعة- التى اجماعها أولى بالاتباع والحجّة- أنّه لا يستحق الإمامة بعد مضى الحسين بن على إلا في ولد الإمام، وقد اتفقنا وهم على صحّتها وترتيبها إلى جعفر بن محمد، ثم اختلفنا في أى أولاده أحقّ بها، فوجدنا عن صاحبنا علم التأويل وتفسير ظاهر الأمور، وسرّ الله جلّ وعزّ في وجه تدبيره المكتوم، واتّفاق دلالته في كلّ أمر يسأل عنه، فى جميع(25/204)
المعدومات وتفسير المشكلات وبواطن الظاهر كلّه والتأويلات وتأويل التأويلات، فنحن الوارثون لذلك من بين طبقات الشيعة المعبّرين عنه أخذناه من جهته رويناه ممّن لا نجد من خالفنا، يمكنه أن يساوينا فيه ولا يتحقّق به ويدّعيه، فصحّ بذلك أن صاحبنا أولى بالإمامة من جميع ولد جعفر بن محمد، وربما قالوا: وجدنا فلانا من ولد جعفر ابن محمد من شأنه كذا، وفلانا من قصّته كذا، فى فروق لهم كاذبة بأقاويل لا تليق بهم، ثم يقولون: فلم يبق من سلم من الطعون المعروفة إلا صاحبنا، فوجب أن يكون هو صاحب الأمر دون كل أحد، وليس غرض هؤلاء- أصحاب هذه الدعوة الخبيثة- أن يؤخروا موسى بن جعفر، ولا يقدّموا إسماعيل بن جعفر ولا ابنه محمد، وإنّما جعلوا هذا كأداة الصانع التى لا يتم الصنعة إلا بها، فإذا انقاد لهم المغرور وسمع قولهم تيّقنوا أنهم قد تمكنوا من عقله، وسلكوا به أى مسلك أرادوه.
لهذه الدعوة الثالثة.
ذكر صفة الدعوة الرابعة
قال الشريف: اعلم أنّ الدعوة الرابعة أن تقرّر عند المدعو بأن عدد الأنبياء الناسخين للشرائع المبدلين لها أصحاب الأدوار وتقليب الأحوال الناطقين على الأمور سبعة بعدد الأئمة سواء، كل واحد منهم له صاحب يأخذ عنه دعوته، ويحفظها على أمّته، ويكون معه ظهريا فى حياته وخليفة له من بعد وفاته، إلى أن يؤديها إلى آخر، يكون سبيله معه سبيله هو مع نبيّه «1» الذى هو تابعه، ثم كذلك لكل(25/205)
مستخلف خليفة، إلى أن يمضى منهم على تلك الشريعة سبعة، ويسمّون هؤلاء السبعة الصامتين، لثباتهم على شريعة اقتفوا فيها أثر واحد هو أوّلهم، ويسمّون صاحب الأوّل سوسه، وربما عبّروا عنه بغير ذلك، ثم يزعمون أنّه لا بد عند انقضاء هؤلاء السبعة واستنفاد دورهم بشرعهم من استفتاح دورثان، ينسخ به شرع من قبله، ويكون خلفاؤه بعده يجرى أمرهم كأمر من كان قبلهم، ثم يأتى بعدهم ناسخ، ثم اتباع سبعة صمت أبدا إلى أن يأتى السابع، فينسخ لجميع ما قبله، ويكون صاحب الزمان الأخير الناطق.
ثم يرتّبون هؤلاء بالتسمية لهم والأوصاف، فيقولون: أوّل هؤلاء النطقاء آدم، وصاحبه وسوسه شيث، ويقال بابه في موضع سوسه ويسمّون بعده تمام سبعة صمتوا على شريعة آدم، ثم نوح فإنّه ناطق ناسخ وسام سوسه، ثم تمام السبعة، ثم الثالث إبراهيم وسوسه إسماعيل، ثم تمام السبعة، ثم الرابع موسى وسوسه هارون، ثم مات هارون في حياته فصار سوسه يوشع بن نون، ثم تمام السبعة بعده، ثم الخامس المسيح عيسى بن مريم أخذها عن يحيى، وهو أحد السبعة قبله، وهو أقامه ونصبه، ولهم في هذا ما سيأتى ذكره، وسوس المسيح شمعون الصفا، ثم تمام السبعة بعده، ثم السادس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسوسه على بن أبى طالب رضى الله عنه ثمّ ستة ثم السابع قائم الزمان محمد بن إسماعيل بن جعفر، وهو المنتهى إليه علوم من قبله، والقائم بعلم بواطن الأمور وكشفها، وإليه تفسيرها، وإلى أمره أجرى ترتيب سائر من قبله، فى أمور سيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى.(25/206)
فهذه درجة أخرى قرّرها الداعى عند المدعو نبوّة نبىّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وسهّل بها النقل عن شريعة، وأخرج بها المدعو إليها عما هو معلوم عند كل سامع لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنّ من دينه وما علم من مذهبه ونحلته أنّه خاتم الرسل وأنّه لا نبىّ بعده، وأنّ دولته مبقاة وشريعته مفترضة أبدا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالعلم بذلك من ديانته وما عرف من مذهبه، وأنّ أمّته بلّغت عنه ذلك وفهمته، وأنّ من مفهوم شريعته أنّه لم يكن يجوز لأحد نبوّة غيره، فى وقته ولا فيما بعده، فكانت هذه الدعوة أوّل ما أخرج الداعى بها المدعوّ عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في جملة الكفّار المرتدّين عن شريعته، وهو مع هذا لا يعد؟؟؟
ما خرج منه ولا دخل فيه.
ذكر صفة الدعوة الخامسة
قال: اعلم أنّه من يحصل على ما قدّمنا ذكره يحصل عليه، وقد؟؟؟
مهد له بطريق تعظيم الأعداد، ووكد بذكر الطبائع في أبنية العالم، وأمور كثيرة سيأتى ذكرها في المقالة الثامنة، كلها مبيّنة، على مذاهب مدخولة وأمور فاسدة مرذولة، مذاهب كثير من الملحدين المتفلسفة، مع اطّراح ما نقلت الأمّة، والاستخفاف بحال الشريعة، والاعتقاد لتعظيم الشيعة، والانتظار لفسخ ما ورث عن النبوّة، وتوقّع أمور باطنة بخلاف ما ألف من علم الظاهر، وقلّة احتفال بدلالة ظاهر القرآن وغيره من الكلام، على الأمور بحقائق اللغة العربية واقتفاء أثر العرب في أوضاع كلامهم، مع نمقيت العرب ومع تحبيب(25/207)
دناءة العجم، ويوهم أن العرب للعجم أعداء وظالمون وأنّهم لملكهم مغتصبون، هذا يقال للمدعوّ إذا كان أعجميا، فإن كان أعرابيا خوطب في حال دعوته: بأنّ العجم غلبوا على دعوته وفازوا بمملكته، وأنّ له الاسم ولهم الدنيا، وأنّه أحقّ بذلك منهم وأولى، فى أمور من هذا يطول وصفها بحسب ما يتخرّج للداعى فيها.
ثم يمكن عنده طرفا من الهندسة في الأشكال، ويعرف أنّ طبائع الأعداد في النظام، لأمر يستخرج منه علوم الأئمة، والطريق إلى علم الإله والنبوّة، ويقرّر عنده أنّ مع كل إمام حججا متفرقين في الأرض وأنّ عددهم في كل زمان اثنا عشر رجلا، كما أن عدد الأئمة سبعة، وأن دلالة ذلك ظاهرة وحجّته قاهرة، بأن تعلم بأنّ الله جلّ وعزّ لا يخلق الأمور مجازفة على غير معان توجبها الحكمة، وإلا فلم خلق النجوم، التى فيها قوام العالم سبعة؟ وجعل السماوات والأرضين سبعة؟ وأمثال هذا وبالغوا، وكذلك الإثنا عشر حجّة، عدد البروج المعظّمة، وعدد الشهور المعروفة، وعدد النقباء من بنى اسرائيل، ونقباء النبى صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وفي كفّ الإنسان أربعة أصابع في كل إصبع ثلاثة شقوق تكون اثنى عشر شقا، وفي كل يد ابهام فيها شقّان بها قوام جميع كفّه، وسداد أصابعه ومفاصله، فالبدن كالأرض، والأصابع كالجزائر الأربع، والشقوق كالحجج فيها، والإبهام كالذى يقوم الأرض بعد ما فيها، والشقّان فيها الإمام وسوسه لا يفترقان، ولذلك صار في ظهر الإنسان اثنتا عشر خرزة كالحجج، وفي عنقه سبعة عالية كالأنبياء والأئمة، وكذلك حال السبعة الأنقاب في وجه الإنسان العالية على بدنه، فى أمثال لهذا كثيرة، يحصلون بها(25/208)
المدعوّ على الأنس بتمهيد طريق للخروج عن أحوال الأنبياء وشرائعهم والعدول عن ذلك إلى أمور الفلاسفة في ترتيب شبههم أبدا، ما رأوا أنّ هناك بقيّة من دين.
ذكر صفة الدعوة السادسة
قال الشريف رحمه الله: اعلم أنّهم إذا مكّنوا ما وصفنا وأحكموه ووثقوا لمساكنة المدعوّ أخذوا في تفسير معانى الشرائع بغير ما يدين به أهلها وسهّلوا عليه العدول عنها، فرتّبوا له معانى الصلاة والزكاة والحجّ والإحرام والطهارة وسائر الفرائض، على أمور سيأتى وصفها في المقالة الثامنة، على أنّ ذلك يكون تفسيره على إحكام وتمهيد بغير مجازفة ولا استعجال، فيحصل أولا على معنى: أنّ ذلك وضع دلالة على أمور نذكرها وننبّه عليها، فإذا قوى الانسلاخ من جملة الأمّة في نفسه، وسهل عليه طريق العدول عمّا هى عليه، لم يحتشم حينئذ أن يجعل ذلك موضوعا على جهة الرموز، إلى فلسفة من الأنبياء والأئمة، وسياسة للعامّة للجياشة إلى منافعهم في ذلك، وفي شغل بعضهم عن البغى على بعض أو عن الفساد في الأرض، مع إظهار تعظيم الناصبين لذلك، وأنّهم أهل الحكمة فيما رتّبوه منه، وإذا تمكّن أيضا في نفسه ما بدأنا بذكره- نقلوه إلى التمييز بين الأنبياء وبين أفلاطون «1» وأرسطوطاليس «2» وغيرهما، وحسّنوا عنده أشياء من حكمهم، وعادوا على ناصب هذه الشرائع بالاستخفاف والمذمّة والاستحقار(25/209)
والطعن واللائمة، فيأتى ذلك على قلوب قد فرغت له، وسهل عليها فلم تنكره، ورأته مما بدأت به في تأنيسها.
ذكر صفة الدعوة السابعة
قال رحمه الله: اعلم أنّه متى أنس المدعو، بما ذكرناه كلّه أو بكثير منه، وقوى في نفس الداعى أنّه يصلح لما بعد هذا، إن كان الداعى بالغا، وبأغراض الدعوة عالما، وإلى التبليغ بمن يدعوه إلى هذه الأمور قاصدا- أتى بما نذكر؛ وأمّا إن كان الداعى مخدوعا ومتّخذا كالآلة ليتوصل به إلى التكسّب، ويمهدّ به الطريق ويرتّب، وهو غير بالغ إلى أعلى الرتبة في دعوة دون ذلك، فإنّه غافل لا يدرى كيف قصّته، ولا يظنّ أنّ الأمر الذي يراد به إلا ما عرفه وبلغه، أو ما يجانسه ويقاربه، فإذا أراد الداعى أن يسلك بالمدعو فوق ما وصفنا قال له: قد صحّ لك أنّ صاحب الدلالة الناصب للشريعة لا يستثنى بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبّر عنه، ليكونا اثنين أحدهما هو الأصل والآخر عنه كان.
واعلم أنّ ذلك لم يحصل في العالم السفلى إلا وقد يحصل مثله في العالم العلوى، فمذ بدء العالم اثنان هما أصل الترتيب وقوام النظام، أحدهما هو الأعلى والمفيد، والآخر هو الآخذ عنه المستفيد، وربما أنسوه في ذلك بأن يقولوا له: هذا هو الذى أراده الله بقوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
«1» ، وكن هو الأكبر(25/210)
فى الرتبة، وأما الثانى فهو القدر الذى قال (الله) فيه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)
«1» ، وربما قالوا: هذا معنى ما تسمعه مما جاءت به الملّة، من أنّ أوّل ما خلق الله اللوح والقلم، وقال للقلم اكتب ما هو كائن، واللوح والقلم هما ما ذكرنا، وربما قالوا: هذا معنى قول الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)
«2» ، فسلك به فى هذا الطريق العدول عن التوحيد، وأنّ الصانع اثنان، وإن كان عندهم صنع الأجسام على جهة المثل والنظام، لا على معنى الاختراع والإحداث، وسيأتى ذلك وبيانه، وإنّما قدّم هذا تمهيدا له.
ذكر صفة الدعوة الثامنة
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: اعلم أنّهم إذا رتّبوا ما ذكرنا قرّروا عند المدعوّ أنّ أحد المدبرين أسبق من الآخر في الوجود وأعلى منه في الرتبة، وأنّ الآخر مخلوق منه وكائن به، ولولاه لم يكن وأنّه كوّنه من نفسه، وأنّ السابق أنشأ الأعيان، والثانى صوّرها وركّبها، ثم ذكروا له منزلة السابق، وأنّ السابق كان عمّن كان منه، كما كان الثانى عن السابق، إلّا أنّ الذى كان عنه السابق لا اسم له ولا صفة ولا ينبغى لأحد أن يعبّر عنه ولا أن يعبده، فإذا بلغ هذه الرتبة سارعوا: إلا أنّ في الأسباب التى كان لها عندهم السابق عمّن كان منه ممّن لا اسم له ولا صفة، ما هو؟ وهل هو باختيار أم بغير اختيار؟
وكذلك الحال التى كان لها الثانى عن، السابق [اختلافا] ، فذهب(25/211)
بعضهم إلى أنّ ذلك كان لفكرة عرضت لمن كان عنه السابق، فجاء منها السابق، ثم عرضت فكرة للسابق فجاء منها الثانى، على نحو ما يقوله بعض المجوس في توليد، اتفق واهرمن «1» الذى هو الشيطان- عن القديم، وأنّ ذلك بفكرة وقعت رديّة ولدته؛ وربما قال بعضهم إنّ تلك الفكرة، لأنّ الذى لا صفة له فكّر: أقدر أخلق مثلى أم لا؟
وكان من ذلك أن تصوّر التالى، ثم فكّر التالى في ذلك فلم يأت بمثله، فى أنحاء من هذه الأمور التى سيأتى وصفها، ممّا يخرج به قائلوه عن كل ديانة دان بها أحد من أهل الشرائع، التى ينعقد معها نبوّة وشريعة ولا يكون إلا مع دهريّة أو ثنويّة «2» .
ثم رتّب هولاء أنّ التالى يدأب في أعمال منه، حتى يلحق بمنزلة السابق «3» ، وأنّ «4» الناطق في الأرض يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة التالى «5» ، فيقوم مقامه فيكون بمنزلته سواء، وأنّ السّوس يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعى يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السّوس وحاله سواء، وأن هكذا تجرى أمور العالمين في أدواره وأكواره، في أمثال لهذا.
ثم قرّر عنده أنّ القول في معنى النبىّ الصادق الناطق ليس يجرى(25/212)
على ما يقوله أهل الشرائع، من أنّه جاء بمعجزات ودلالات خارجة عن أحوال العادات، وأنّ معنى ذلك إنّما هو يأتى بأمور تنتظم بها السياسة ووجوه الحكمة، وترتّب بها الفلسفة، ومعان تنبىء «1» عن حقائق ابتداء السماوات والأرض، وبدأتها على حقائق الأمور إمّا برموز وإمّا بإفصاح، وتنظيم ذلك شريعة يقتفى عليها الناس، ورتّب له أمر القرآن، وما معنى كلام الله، بخلاف ما يدين به أهل الكتب، ورتّب له أمر القيامة وتقضّى أمر الدنيا وحصول الجزاء من الثواب والعقاب، على أمور ليست ممّا يعتقده الموحّدون في شىء، بل ذلك على معان أخر، من تقلّب الأمور وحدوث الأدوار عند انقضاء الكواكب وعوالم جماعتها، والقول في الكون والفساد على ترتيب الطبائع، على أمور كلها سيأتى شرحها إن شاء الله تعالى.
ذكر صفة الدعوة التاسعة
قال: اعلم أنّه إذا حصل المدعوّ على ما ذكرنا أحيل حينئذ على طلب الأمور وتحقيقها وحدودها والاستدلال عليها من طرق المتفلسفة وادراكها من كتبهم، وجعلوا ما قدّموه سابقا له على طرائقهم، واستنباط ما خفى عنهم وبنوه على علم الأربع طبائع، التى هى استقصّات وأصول الجواهر عندهم، وعلى ترتيب القول في الفلك والنجوم والنفس والعقل وأمثال ذلك فيما هو معروف، فيحصل الآن البالغون إلى هذه الرتب على أحد هذه الوجوه، التى يعتقدها بعض(25/213)
أهل الإلحاد ممّن يدين بقدم أعيان الجواهر، ويصير ما قدم من ذكر الحدث والأصول رموز إلى معانى المبادى، وتقلّب الجواهر وحدوث الأمور التى يكون لها على أحوال وأحكام، وعلى نحو تنزيل كثير منهم لحال العقل من حال النفس وحال الفلك من حال العقل، وحال الطبائع والأعراض من حال النفس والعقل، وحال المنقلب بالكون والفساد وما يكون من حال الهيولى بتقلّب الأعراض المختلفة «1» وترتيب العناصر، والقول في العلّة: هل تفارق المعلول أم لا؟ وإقرار بعضهم بصانع لم تزل معه العناصر والمبادىء أوّلا، وما هى تلك الأمور وكيف حدودها، وما يصحّ من صفاتها والأسباب التى تعلم بها، فربّما صار البالغ في النظر في هذا إلى اعتقاد مذهب مانى وابن ديصان، وربما صار إلى مذهب المجوس، وربما دان بما يحكى عن أرسطاطاليس، وربما صار إلى أمور تحكى عن أفلاطون «2» ، وربما اختار من تلك معانى مركبة من هذه الأمور، كما يجرى كثير من هؤلاء المتحيّرين.
قال: وجميع ما وصفنا من التدريج بالمقدّمات إنما يحصل الانسلاخ من شرائع أهل الكتب والنبوّة فقط، وجميعها يصلح أن تجعل تمهيدا ورموزا إلى جميع هذه المذاهب التى ذكرناها، وتجتذب بألفاظها إليها بالتأويل بحسب ما يريد المعتقد، لما شاء منها ممّا سنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: وأمّا سلخه من جميع ما تقدم «3» عليه من أمر الإمامة والنبوّة(25/214)
فإنّه أوّلا يجعل عنده منازل، جميعهم منقوصة غير منزلة محمد بن إسماعيل صاحب الدور الآخر، ويرتّب له أنّ جميعهم لا يأتى بوحى من الله عزّ وجلّ، ولا معجزة كما يقول الظاهرية، وإنما يختص بالصفا فيلقى في فهمه ما يريد الله، فيكون ذلك كلاما، ثم يجسّده النبى ويظهره للخلق، وينظّم الشرائع بحسب المصالح في سياسات الناس ثم يؤمر بالعمل بذلك مدّة، ثم يترك إلى أن يؤمر بذلك، يستدعى بها الناس، لا لأنّها تجب على أهل المعرفة بأعراضها وأسبابها ثم يقال له بعد ذلك إنّما هى آصار وأثقال حملها الكفار، وكذلك سائر المحرّمات، ثم يلقّن أنّ إبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء أنبياء سياسات وشرائع، فأما أنبياء الحكمة فإنّ هؤلاء أخذوا عنهم كافلاطون وأمثاله من الفلاسفة، فبنوا شرائعهم ليوصلوا بها العامّة إلى علومهم؛ ثم يقال له: انظر أيهما أحكم، فلان النبى أو فلان؟ ثم يلقّن أن في بعض أحكامهم اختلالا وفسادا، ثم يلقن البراءة منهم وسوء سيرتهم، وأنّهم قتلوا النفوس، وأمثال هذا. ويلقّن في محمد بن إسماعيل بن جعفر أنّه سيظهر، ثم يقال له بعد ذلك: إنما يظهر في العالم الروحانى إذا صرنا إليه، أما الآن فإنما يظهر أمره على ألسن أوليائه، ثم يلقّن أنّ الله أبغض العرب لما قتلت الحسين بن على فنقل خلافة الأئمة عنهم كما نقل النبوّة عن بنى إسرائيل لما قتلوا الأنبياء، ولا يقوم بخلافة الأئمة إلا أولاد كسرى، فيكون ذلك غاية ما يقدّموه في هذا الباب كلّه متى استوى لهم، فإن لم يتمّ له ذلك مع الدعوة تركه في أى منزلة نزلها، مستعيذا «1» بهذه الوجوه.(25/215)
قال: ثم اعلم- رحمك الله- أنّ هذا الترتيب والتخريج والتنزيل إنّما كانت الدعاة [عليه] عند اجتماعها على مبتدأ الدعوة، والانعقاد على طلب الغوائل للمسلمين، فيها اتفقوا على جملة منها وأصولها، وفتحوا بالفكر طريقها، ومهّدوه على معنى ما ذكرناه، وتفرّقوا في البلدان، وتمهيدهم بحسب أفكارهم واجتهادهم في الحيلة على المستمع، وتميّزوا في ذلك وتمكّنوا منه في طول الأيّام، سيّما مذ قويت أحوال الجنّابى على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخباره.
قال: فقد بيّنا خبر هذه الدعوة وكيف جرى أمرها، وكيف يسلك بالمخدوع كل مسلك، حتى يصير إلى التعطيل والإباحة، فهذا أصل هذه الدعوة الملعونة وما أسّست عليه قديما، ثم تغيّرت وتفرّعت منذ انتشرت ببلاد المغرب ومصر والشام، وجعلوا منها طرقا وأبوابا، فمنها علم القوت «1» وعلم الكفاف وبلاغات مفصّلة، وبطل الترتيب الأول الذى وصفنا: من أنّ الدعوة كانت إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، فصار موضعه من يكون من ولد عبيد الله بن ميمون القدّاح، الذين ملكوا المغرب ومصر والشام، على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبارهم، ولنصل هذا الفصل بذكر العهد الذى يحلفون به.(25/216)
ذكر العهد الذى يؤخذ على المخدوعين في مبدأ الدعوة الخبيثة
قال الشريف: يقول الداعى لمن يأخذ عليه العهد: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته، وذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبيائه وملائكته ورسله، وما أخذه على النبيّين من عهد وعقد وميثاق أنّك تستر جميع ما تسمعه وسمعته، وعلمته، وتعلمه، وعرفته وتعرفه من أمرى وأمر المقيم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام، الذى عرفت إقرارى له: ونصحى لمن عقد ذمته، وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته المطيعين له على هذا الدين ومخالصته له، من الذكور والإناث والصغار والكبار، فلا يظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا بشىء يدل عليه، إلا ما أطلقت لك أنّك تتكلم به، أو أطلقه صاحب الأمر المقيم بهذا البلد، فتعمل في ذلك بأمرنا ولا تتعدّاه ولا تزيد عليه، وليكن ما تعمل عليه قبل العهد بقولك وفعلك: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتشهد أنّ الجنّة حق وأنّ النار حق، وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق وأنّ الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتى الزكاة يحقّها، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده، على ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتوالى أولياء الله وتعادى أعداء الله وتقول بفرائض الله وسننه وسنن نبيّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين، ظاهرا وباطنا وعلانية وسرا وجهرا، فإنّ ذلك يؤكد(25/217)
هذا العهد ولا يهدمه، ويثبته ولا يزيله، ويقرّبه ولا يباعده، ويشدّه ولا يضعفه، ويوجب ذلك ولا يبطله، ويوضحه ولا يعميه، كذلك هو في الظاهر والباطن، وسائر ما جاء به النبيون من رتبهم صلوات الله عليهم أجمعين، على الشرائط المبينة في هذا العهد.
وجعلت على نفسك الوفاء بذلك- قل نعم، فيقول المغرور:
نعم، ثم يقول له: والصيانه له بذلك وأداء الأمانة له على ألا تظهر شيئا أخذ عليك في هذا العهد- في حياتنا ولا بعد وفاتنا، ولا على غضب ولا على حال رضى، ولا على حال رغبة ولا رهبة، ولا على حال شدّة ولا على حال رخاء ولا على طمع، ولا على حال حرمان، تلقى الله على الستر لذلك والصيانة له- على الشرائط المبيّنة في هذا العهد.
وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أن تمنعنى وجميع من أسمّيه معى لك وأثبته عندك، ممّا تمنع منه نفسك، وتنصح لنا ولوليّك- ولىّ الله- نصحا ظاهرا وباطنا، فلا تخن الله ووليّه، ولا تخنّا ولا أحدا من إخواننا وأوليائنا، ومن تعلم أنه منّا بسبب، في أهل ولا مال ولا رأى ولا عهد ولا عقد تتأوّل عليه بما تبطله.
فإن فعلت شيئا من ذلك- وأنت تعلم أنّك قد خالفته، وأنت على ذكر منه- فأنت برى من الله خالق السموات والأرض، الذى سوى خلقك وألّف تركيبك وأحسن إليك في دينك ودنياك وآخرتك، وتبرأ من رسله الأولين والآخرين وملائكته المقرّبين الكروبين والروحانيّين،(25/218)
والكلمات التامّات والسبع المثانى والقرآن العظيم، وتبرأ من التوراة والإنجيل والزبور والذكر الحكيم، ومن كل دين ارتضاه الله في مقدم الدار الآخرة، ومن كل عبد رضى الله عنه، وأنت خارج من حزب الله وحزب أوليائه، وخذلك الله خذلانا بيّنا، فعجّل لك بذلك النقمة والعقوبة والمصير إلى نار جهنّم، التى ليس فيها رحمة وأنت برىء من حول الله وقوّته، ملتجأ إلى حول نفسك وقوّتها، وعليك لعنة الله التى لعن بها إبليس، فحرم عليه بها الجنّة وخلّده النار.
إن خالفت شيئا من ذلك لقيت الله يوم تلقاه وهو عليك غضبان، ولله عليك أن تحجّ إلى بيته الحرام ثلاثين حجة نذرا واجبا، ماشيا حافيا، لا يقبل الله منك إلا الوفاء بذلك؛ وإن خالفت ذلك فكلّ ما تملكه في الوقت الذى تخالف فيه فهو صدقة على الفقراء والمساكين، الذين لا رحم بينك وبينهم، لا يأجرك الله عليه، ولا يدخل عليك بذلك منفعة، وكل مملوك لك- من ذكر أو أثنى- في ملكك وتستعبده إلى وقت وفاتك، إن خالفت شيئا من ذلك، فهم أحرار لوجه الله عزّ وجلّ، وكل امرأة لك وتتزوّجها إلى وقت وفاتك- إن خالفت شيئا من ذلك- فهنّ طوالق ثلاثا بتّة، طلاق الحرج والسّنة لا مثنويّة لك فيها ولا اختبار ولا رجعة ولا مشيئة، وكلّ ما كان لك من أهل ومال وغيرهما فهو عليك حرام، وكل ظهار فهو لازم لك.
وأنا المستخلف لك لإمامك وحجّتك، وأنت الحالف لهما وإن نويت أو عقدت أو أضمرت خلاف ما أحملك عليه وأحلّفك به، فهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها محدّدة عليك لازمة لك، لا يقبل الله(25/219)
منك إلا الوفاء بها، والقيام على ما عاهدت بينى وبينك، قل نعم، فيقول المخدوع: نعم.
فهذه اليمين التى يؤنس بها المخدوع من ذكر الصلاة والصيام والزكاة والحج وشرائع الإسلام، فما ينكر شيئا مما يسمع، وكل ذلك تأنيس ما «1» يتوصل به إلى هذه الأمور، التى تقدّم ذكرها على التدريج.
قال الشريف رحمه الله تعالى: ووجدت في كتاب من كتبهم يعرف بكتاب السياسة ما يشرح به ذكر ما تقدم من أمر الدعوة، فيه وصايا الدعاة، وهذا مختصر منه يقول فيه:
من وجدته شيعيا فاجعل التشيع عنده دينك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم الأمّة لعلى وولده، وقتلهم الحسين وسبيهم البنات، والتبرّى من تيم وعدى ومن بنى أميّة وبنى العبّاس، وما شاكل ذلك من الأعاجيب التى تسلك عقولهم، فمن كان بهذه الصورة أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس، حتى يتمكّن ممّا يحتاج إليه؛ ومن وجدته صائبا فداخله بالأسابيع يقرب عليك جدا، ومن وجدته مجوسيا فقد اتفقت معه في الأصل من الدرجة الرابعة، من تعظيم النار والنور والشمس، واتل عليه أمر السابق فإنّه لهرمس الذى يعرفونه بالنور «2» المكنون من ظنّه الجيّد والظلمة المكنونة من وهمه الردىء، فإنّهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا وأولاهم بنا، لولا يسير صحّفوه بجهلهم(25/220)
به؛ وإن ظفرت بيهودى فادخل عليه من جهة المسيح، يعنى مسيح اليهود الدجّال وأنّه المهدى، وأنّ عند معرفته تكون الراحة من الأعمال وترك التكليفات، كما أمر بالراحة في يوم السبت، وتقرّب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهّال، وزعمهم أن عيسى «1» لم يولد ولا أب له، وقرّر في نفوسهم أنّ يوسف النجّار أبوه، وأنّ مريم أمّه، وأنّ يوسف كان ينال منها ما ينال الرجال من نسائهم وما يشاكل ذلك، فإنّهم لا يلبثون أن يتبعوك؛ وادخل على النصارى بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وبصحة عقدهم الصليب عندهم وعرّفهم تأويله، وأفسد عليهم مما قام لهم من جحد الفار قليط، وقرّر عندهم أنه جاء وأنك إليه تدعوهم، ومن وقع إليك من المنانية فإنّه يحرّك الذى منه تغترف، فداخلهم بالممازجة من الباب السادس، وأظهر من الدرجة السادسة من حدود البلاغ، وامتزاج الظلمة بالنور إلى آخر ما في الباب من ذلك، فإنّك تملكهم به وتحيلهم، فإن أنست من بعضهم رشدا كشفت له الغطاء. ومن وقع إليك من الفلاسفة فقد علمت أن على الفلاسفة العهدة، وإنّا قد اجتمعنا وهم على نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم، لولا ما يخالفنا بعضهم فيه من أنّ للعالم مدبّرا لا يعرفونه، فإنّه وقع الإتفاق على أنّه لا مدبّر للعالم فقد زالت الشبهة فيما بيننا وبينهم، وإن لك ثنوى فبخ بخ قد ظفرت، فالمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالى ووراثة أحدهما، على ما هو مرسوم في أوّل درجة البلاغ وثالثه، وإن وقع لك سنىّ فعظّم عنده(25/221)
أبا بكر وعمر واذكر فيهما فضائل، واثلب عليا «1» وولده واذكر لهم مساوىء، ولوّح «2» له أنّ أبا بكر وعمر قد كان لهما في هذا الأمر- الذى تلقيه إليه- نسب، فإذا دخلت عليه بهذا المدخل درجته إلى ما تريد وملكته، واتخذ غليظ العهود ووكيد الأيمان وشديد المواثيق جنّة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبيك بالأشياء التى تبهر عقولهم، حتى ترقّيهم إلى المراتب حالا فحالا، ودرّجهم درجة درجة، فواحد لا تزيده على التشيّع والأيمان لمحمد بن إسماعيل شيئا، وأنّه حى لا تجاوز به هذا الحد، وأظهر لهم العفاف عن الدرهم والدينار وخفّف عليهم وطأتك، ومره بالصلاة السبعين، وحذّره الكذب والزنا واللواط وشرب الخمر، وعليك في أمره بالرفق والتؤدة والمداراة يكن لك عونا على دهرك وعلى من يعاديك أو يتغيّر عليك من أصحابك وينافسك، فلا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدبّر بشريعته، والقول بإمامة علىّ وبنيه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأقم له دلائل الأسابيع فقط، ودقّه بالصلاة دقا، فإنّك إن أومأت إلى كرائمه يوما- فضلا عن ماله- لم يمنعك، فإن أدركته الوفاة وصّى إليك بما خلف وورّثك إياه، ولم ير أنّ في العالم أوثق منك، وأخّر ترقّيه من ذلك إلى نسخ شريعة محمد، وأنّ السابع هو الخاتم للرسل، وأنّا ينطق كما ينطق كما نطقوا ويأتى بأمر جديد، وأنّ محمدا صاحب الدور السادس، وأنّ عليا لم يكن إماما، وحسّن القول فإنّ هذا باب(25/222)
كبير وعلم عظيم، مرجّى الارتقاء إلى ما هو أكبر منه، ويعينك على زوال ما جاء من قبله من وجود النبوّات، على المنهاج الذى هو عليه، وقليل من ترقّيه من هذا الباب إلى معرفة أم القرآن ومؤلفه وسننه.
وإياك أن تغتر بكثير ممّن يبلغ «1» معك إلى هذه المنزلة فترقّيه إلى غيرها، إلا من بعد طول المؤانسة والمداوسة واستحكام الثقة، إنّ ذلك يكون عونا لك عند بلاغه على تعطيل الكتب، التى يزعمون أنّها منزلة من عند الله، فيكون هذا نعم المقدّمة؛ وآخر ترقّيه من هذا إلى ما هو أعلى منه، فإنّ القائم قد مات، وأنّه يقوم روحانيا، وأنّ الخلق يرجعون إليه بصور روحانيّة، وأنّه يفصل بين العباد بأمر الله عزّ وجلّ، يشتفى من الكافرين للمؤمنين بالصور الروحانيّة، فإن ذلك يكون عونا لك عند بلاغه على إبطال المعاد، الذى يزعمونه والنشور من القبور؛ وآخر ترقّيه من هذا إلى إبطال الملائكة في السماء والجنّ في الأرض، فإنّه قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة من كتب شيوخنا المتقدّمين، فإنّ ذلك مما يعينك في وقت بلاغه، على تسهيل التعطيل لله، والإرسال بالملائكة إلى الأنبياء، والرجوع به إلى الحق، والقول بقدم العالم؛ وآخر ترقّيه إلى أوائل درج التوحيد، وتدخل عليه بما تضمّنه كتاب الدرس الشافى للنفس من أنّ لا إله لا «2» صفة ولا موصوف، فإنّ ذلك ممّا يعينك على القول بالإلهية، تستحقّها عند البلاغ إلى ذلك، ومن رقّيته إلى هذه المنزلة فعرّفه حسب ما عرّفناك حقيقة من أمر الإمام، وأنّ(25/223)
إسماعيل ومحمدا ابنه من أبوابه، وفي ذلك عون لك على إبطال إمامة ولد على بن أبى طالب، عند البلوغ والرجوع إلى القول بالحق لأهله ثم لا تزال شيئا فشيئا في أبواب البلاغ السبعة، حتى تبلغ الغاية القصوى على تدريج، وكل باب يأتى يشهد للمتقدّم قبله، والمتقدّم يشهد للمتأخر.
واستعمل في أمرك الكتمان كما يوصى بنى القوم خاصّته، فقال:
استعينوا على أموركم بالكتمان، ولا تظهر أحدا على شىء ممّا تظهر عليه من هو فوقه بوجه ولا سبب، وعليك بإظهار التقشّف للعامّة والوقار عندهم، وتجنّب ما هو منكر عندهم، ولا تنبسط كل الانبساط لإخوانك البالغين كما فعل من كان قبلك فإنه أتى بالتشديد ثم حلّ الأمور، فإذا تدبّرت بهذا التدبير وسلكت طريقته فقد سلكت طريق الأنبياء وأخذت حدودهم، وعليك بعد ذلك بالاجتهاد في معالجة خفّة اليد، والأخذ بالأعين والحذق بالشعبذة، فلن يخلو من الحاجة إلى ذلك عند قوم ينسبونك بعمله إلى إقامة المعجزات، كما نسبوا قوما تقدّموا؛ وعليك بمعرفة أحاديث الأوّلين وقصصهم وطرائقهم ومذاهبهم، لتكون بيّنة أمرك في الأقاويل على قدر ما يصلح لأهل زمانك، ترشد وتوفّق ويقدّم على الأيام أمرك، ويعلو ذكرك، ويكون الداخل في أمرك بعد وفاتك أكثر من الداخل معك في حياتك، فينفع لك ولمخلفيك من بعدك بك، وعلى يديك ويدى أمثالك من أهل النجابة والعقل دعوة الحق، وتملك لك ولعقبك وذرّيتك ملكا لا ينبغى لغيرك مثله.
فهذه وصيّتى لك مشتملة على جمل من النواميس الطارقة للأنبياء على قدر عقولهم.(25/224)
قال الشريف رحمه الله تعالى: ووجدت في هذا الكتاب المعروف بكتاب السياسة أيضا فصلا فيه (ولشيخنا الجليل المقدس) ، وهذا مختصر منه يوصى دعاته في أهل الأديان- وذلك لأمّة محمد خاصة:- فابذل الآن سيفك فيهم إذا تمكّنت منهم وصار لك حزب، وظهرت بهذه الحيل التى قد وقفتك عليها، واستملت الناس بها فإنّهم أعداؤنا، وصف أموالهم واستفرد «1» بناتهم وأولادهم، ولا تخفر «2» لهم ذمّة ولا تحفظ لهم قربة، ولا ترحم علويا، فلو تمكّن علوى كتمكّن غيره من الأنبياء للقينا منه جهدا، وعبّر بما يدّعيه من حقوق جدّه على هؤلاء الحمير ما هو أكثر مما عبره جده، وإياك والاغضاء عمّن تجده من ولد علىّ، يعنى اقتله إذا تمكّنت منه، وإيّاك والرخصة لأحد من أسنانك في الثقة بواحد منهم، تهتدى وتوفّق لازلت بالعلم سعيدا، وإلى الخير هاديا ومهديا، وعلى جميع الأحوال الحمد لإلهنا على ما منحنا، وصلواته على عباده المصطفين، يعنى إلهه الذى أباحه اللذات وأعماه عن الهدى، وفتح له طرق الضلالة، وعباده الذين اصطفى دعاته الذين بهم يضلّون الناس.
هذا ما حكاه الشريف أبو الحسين من دعواتهم التسع، وعهدهم الذى يأخذونه ووصاياهم.
وحكى عز الدين بن الأثير الجزرى رحمه الله تعالى في تاريخه الكامل- عند ذكره لأخبار القرامطة قال «3» :
وكان فيما يحكى عن مذهبهم أنّهم جاءوا بكتاب فيه- يقول(25/225)
الفرج بن عثمان- وهو من قرية يقال لها نصرانة، وهو داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدى، وهو أحمد بن محمد بن الحنفيّة، وهو جبريل، وذكر أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال: إنّك الداعية، وإنّك الحجّة، وإنّك الناقة، وإنّك الدابّة، وإنّك يحيى بن زكريا، وإنّك روح القدس، وعرّفه أن الصلاة «1» أربع ركعات- ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل «2» غروبها، وأنّ الأذان في كل صلاة أن يقول: الله أكبر، أربع مرات أشهد أنّ لا إله إلا الله مرتين، أشهد أنّ آدم رسول الله، أشهد أنّ نوحا رسول الله «3» ، أشهد أنّ إبراهيم رسول الله، أشهد أنّ موسى رسول الله، أشهد أنّ عيسى رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفيّة رسول الله، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح، وهو من المنزّل على أحمد بن محمد بن الحنفيّة، والقبلة إلى بيت المقدس، والجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شىء، والسورة التى يقرأها:
الحمد لله بكلمته وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه «4» ، قل إنّ الأهلّة مواقيت للناس ظاهرها، ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها، أوليائى الذين عرفوا عبادى، سبيلى:
اتّقونى يا أولى الألباب، وأنا الذى لا أسأل عما أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذى أبلو عبادى وأمتحن خلقى، فمن صبر على بلائى(25/226)
ومحنتى واختبارى أدخلته «1» فى جنّتى وأخلدته في نعيمى، ومن زال عن أمرى وكذّب رسلى أخلدته مهانا في عذابى، وأتممت أجلى وأظهرت أمرى على ألسنة رسلى، وأنا الذى لم يعل علىّ جبّار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس الذى أصرّ على أمره ودام على جهالته، وقال: لن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين، أولئك هم الكافرون، ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربّى ورب العزّة، وتعالى عما يقول الظالمون يقولها مرّتين، فإذا سجد قال: الله أعلى مرّتين، الله أعظم مرّتين.
ومن شرائعه أن يصوم يومين في السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأنّ النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأنّ من حاربه واجب قتله، ومن لم يحاربه ممّن خالفه أخذ منه الجزية، ولا يؤكل كلّ ذى ناب ولا ذى مخلب.
وقد أخذ هذا الفصل حقّه من الإطالة والاسهاب، فلنذكر مبدأ هذه الدعوة.
ذكر ابتداء دعوة القرامطة
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: كان مبدأ هذه الدعوة الخبيثة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، وزعموا أنّه الإمام المهدى الذى يظهر في آخر الزمان ويقيم الحق وأنّ البيعة له، وأنّ الداعى إنما يأخذها على الناس له، وأنّ ما يجمع من الأموال مخزون له إلى أن يظهر، ولم تزل هذه الدعوة إلى محمد بن إسماعيل إلى أن هرب(25/227)
سعيد المسمى بعبيد الله من سلمية إلى المغرب، وتلقّب بالمهدى فصار هو الإمام، وانتسب إلى أنّه من ولد إسماعيل بن جعفر، فنقلوا الدعوة إليه، وكان القول في المبدأ: أن محمد بن إسماعيل حىّ لم يمت، وأنّه يظهر في آخر الزمان وأنه مهدىّ الأمّة.
قال: ولم يكن غرض هذا المحتال أن يرفع محمد بن إسماعيل، ولا يأخذ له بيعة، إنّما جعله بابا يستغل به عقل من يدخل فيه «1» ويتبيّن له أنّه قد تمكّن من خديعته وبلغ المراد منه، شيعيا كان أو سنيّا.
قال: ولما أظهر اللعين ما أظهر من هذه الأقوال كلها، بعد تعلقه بذكر الأئمة والرسل والحجّة والإمام، وأنّه المعوّل والقصد والمراد، وبه اتّسقت هذه الأمور ولولا هو لهلك الحق وعدم الهدى والعلم، وظهر في كثير منهم الفجور، وبسط بعضهم أيديهم بسفك الدماء، وقتل جماعة ممّن أظهر خلافا لهم، فخافهم الناس جدا واستوحشوا من ظهور السلاح بينهم، فأظهر موافقتهم كثير من مجاوريهم، مقاربة لهم وجزعا منهم.
ثم إنّ الدعاة اجتمعوا واتّفقوا على أن يجعلوا لهم موضعا، يكون وطنا ودار هجرة يهاجرون إليها ويجتمعون بها، فاختاروا من سواد الكوفة في طسّوج الفرات- من ضياع السلطان المعروفة بالقاسميّات، قرية تعرف بمهيماباذ، فنقلوا إليها صخرا عظيما، وبنوا حولها سورا منيعا عرضه ثمانية أذرع، وجعلوا من ورائه خندقا عظيما، وفرغوا من(25/228)
ذلك في أسرع وقت «1» ، وبنوا فيها البنيان العظيم، وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان، وسمّيت دار الهجرة وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين «2» .
فلم يبق بعد هذا أحد إلا خافهم، ولا بقى أحد يخافونه لقوّتهم وتمكّنهم في البلاد، وكان الذى أعانهم على ذلك تشاغل السلطان ببقيّة الخوارج وصاحب الزنج بالبصرة، وقصر يد السلطان وخراب العراق وركوب الأعراب واللصوص وتلف «3» الرجال وفساد البلدان وقلّة رغبة من يلى الأعمال من ذوى الاصلاح والأمانة من العمّال وأصحاب الحروب، فتمكّن هؤلاء الدعاة ومن تبعهم بهذا السبب، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم، فغلبوا على ذلك سنين
ذكر انتفاض الدعوة عن حالتها الأولى ومقتل عبدان وما كان من أمر زكرويه بعده
قال الشريف: وكان قرمط يكاتب من بسلمية من الطواغيت «4» فلما توفّى من كان في وقته وجلس ابنه من بعده كتب إلى حمدان قرمط كتابا، فلما ورد عليه الكتاب وقرأه أنكر ما فيه، وتبيّن فيه ومنه ألفاظا قد تغيّرت، وشيئا ليس هو على النظام الأوّل، فاستراب به(25/229)
وفطن أنّ حادثة حدثت، فأمر قرمط ابن مليح- وكان داعيا من دعاته- أن يخرج فيتعرف الخبر، فامتنع عليه واعتذر، فأنفذ من أحضر عبدان الداعية من عمله، فلما حضر أنفذه ليتعرف ما حدث من هذا الأمر، ويكشف عن سبب تغيّره، فسار عبدان لذلك، فلما وصل عرّف بموت الطاغية الذى كانوا يكاتبونه، فاجتمع بابنه وسأله عن الحجّة ومن الإمام بعده، الذى يدعو إليه، فقال الابن: ومن الإمام؟
قال عبدان: محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان الذى كان أبوك يدعو إليه، وكان حجّته، فأنكر ذلك عليه وقال: محمد بن إسماعيل لا أصل له، ولم يكن الإمام غير أبى وهو من ولد ميمون بن ديصان، وأنا أقوم مقامه، فعرف عبدان القصة واستقصى الخبر وعلم أنّ محمد بن إسماعيل ليس له في هذا الأمر حقيقة، وإنما هو شىء يحتالون به على الناس، وأنّه ليس من ولد عقيل بن أبى طالب، فرجع عبدان إلى قرمط فعرّفه الخبر، فأمره قرمط أن يجمع الدعاة ويعرّفهم صورة الأمر وما تبين منه، ويقطع الدعوة، ففعل عبدان ذلك وقطعت الدعوة من ديارهم، ولم يمكنهم قطعها من غير ديارهم، لأنها كانت قد امتدّت في سائر الأقطار وامتدّ شرها، وفطعت الدعاة مكاتبة أصحابهم الذين بسلمية.
وكان رجل من أولاد القدّاح قد نفذ إلى الطالقان يبث الدعاة، ونزل بقرمط وهو بسواد الكوفة عند عبوره إلى الطالقان، وكانت الدعاة يكاتبونه، فلما انقطعت المكاتبة عن جميع أولاد القدّاح قطعت عن هذا الذى بالطالقان، فطال انتظاره، فشخص عن الطالقان ليقصد قرمط، وكان قرمط قد سار إلى كلواذى، فلما وصل(25/230)
إلى كلواذى سأل عن قرمط، فعرف أنّه انتقل فلا يدرى أين مضى وما عرف لقرمط بعد ذلك خبر، ولا علمت وفاته ولا ما اتفق له، فقصد ابن القدّاح سواد الكوفة، فنزل على عبدان، فعتب عليه وعلى جميع الدعاة في انقطاع كتبهم عنه، فعرّفه عبدان أنهم قطعوا الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأن أباه كان قد غرّهم «1» وادّعى نسبه من عقيل بن أبى طالب كذبا ودعا إلى المهدى، فكنّا نعمل على ذلك، فلما تبينا أنّه لا أصل لذلك، وعرفا أن أباك من ولد ميمون بن ديصان وأنّه صاحب الأمر، تبنا إلى الله تعالى مما تحمّلناه، وحسبنا ما كفرنا أبوك فتريد أن تردّنا كفارا؟! انصرف عنا إلى موضعك.
قال: وكان عبدان قد تاب من هذه الدعوة حقيقة، فلما أيس منه صار إلى زكرويه بن مهرويه، فعرّفه خبر عبدان وما ردّ عليه، فلقيه زكرويه بكل ما يحب، وقدر أنّه ينصبه داعيا مقام أبيه، فيستقيم له أخذ الأموال وجمع الرجال، وواطأه على ذلك، وقال له:
إن هذا الأمر لا يتم مع عبدان، لأنه داعى البلد كلّه، والدعاة من قبله والناس من تحت يده، وأنه لا يجيبه إلا أهل دعوته خاصة. وشرعا في إعمال الحيلة على قتل عبدان، واتّفقا على ذلك، ثم وجّه زكرويه إلى رجل من بنى تميم بن كليب وأخ له كانا من أهل دعوته، وأحضر جماعة من قراباته وثقاته فأظهرهم على ابن اللعين، وعرّفهم أنّه ابن الحجّة، وأن الحجّة توفى وأن ابنه هذا يقوم مقامه، فأجلّوه وأعظموه(25/231)
وقالوا له: مرنا بأمرك، فأمرهم بقتل عبدان، وعرّفهم أنه نافق وعصى وخرج عن الملّة، فساروا إليه من ليلتهم وبيّتوه فقتلوه، وكان زكرويه هذا من تحت يد عبدان، وعبدان هو الذى أقامه داعية فلما شاع في الناس أنّ زكرويه قتل عبدان طلبه الدعاة والقرامطة ليقتلوه فاستتر، وخالفه القوم بأسرهم إلا أهل دعوته، وخاف على نفسه، ولم يتم له أمره الذى دبّره، فقال لابن اللعين: قد ترى ما حدث، ولا آمن عليك وعلى نفسى، فارجع إلى بلدك ودعنى، فإنى أرجو أن يتغيّر الأمر، فأتمكّن من الناس وأدعوهم إليك، فإذا تمكّنت من ذلك أرسلت إليك لتصير «1» إلىّ، فانصرف إلى الطالقان واستتر زكرويه وتنقّل في القرى، وذلك في سنة ست وثمانين ومائتين، والقرامطة تطلبه وأصحاب عبدان يرصدونه، وكان قد اتّخذ مطمورة تحت الأرض على بابها صخرة، فإذا دخل قوم إلى القرية في طلبة قامت امرأة في الدار التى هو فيها إلى تنّور ينقل، فوضعته بقرب الصخرة ثم أشعلت النار، وأرت أنها تريد أن تخبز، فيخفى أمره على من يطلبه، فمكث كذلك سنة ست وسنة سبع وثمانين ومائتين فلما رأى انحراف أهل السواد عنه «2» إلا أهل دعوته وطال أمره، أنفذ ابنه الحسن في سنة ثمان وثمانين ومائتين إلى الشام، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا لأخبار أبى سعيد الجنّابى.(25/232)
ذكر أخبار أبى سعيد الجنابى وظهوره بالبحرين
هو أبو سعيد بن بهرام من أهل جنّابه، وأصله من الفرس وكان يعمل الفراء، وسبب دخوله في هذه الدعوة وظهوره، أنّه سافر إلى سواد الكوفة، فذكر «1» أنه تزوّج بقرية من سواد الكوفة، إلى قوم يقال لهم بنو القصّار، وكانوا أصولا في هذه الدعوة الخبيثة فأخذها عنهم، وقيل بل أخذ الدعوة عن نفسه، وقد قيل إنه تلقاها عن حمدان قرمط، وسار داعية من قبله فنزل القطيف، وهى حينئذ مدينة عظيمة، فجلس بها يبيع الدقيق ولزم الوفاء والصدق، ودعا الناس، فكان أوّل من أجابه الحسين وعلى وحمدان بنو سنبر «2» ، وقوم ضعفاء ما بين قصّاب وحمّال وأمثال هؤلاء.
قال الشريف أبو الحسين: فلما دعا بتلك الناحية وقويت يده واستجاب له الناس وجد بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا الصمامى كان عبدان الداعى أنفذه قبل أبى سعيد إلى القطيف وما والاه، فلما تبيّن أمره أبو سعيد الجنّابى عظم عليه أن يكون داع غيره، فقبض عليه وحبسه في بيت حتى مات هزلا. قال: وقد ذكر أنّ هذا الداعى أخذ على بنى سنبر قبل أبى سعيد، وكان في أنفسهم حقد عليه لقتله أبا زكريا.
وحكى ابن الأثير الجزرى في تاريخه الكامل ابتداء أمر القرامطة بناحية البحرين «3» :(25/233)
أن رجلا يعرف بيحيى بن المهدى قصد القطيف، ونزل على رجل يعرف بعلى بن المعلّى بن حمدان، وكان متغاليا في التشيّع، فأظهر له يحيى أنّه رسول المهدى، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذكر أنه خرج إلى شيعته يدعوهم لأمره، وأنّ خروجه قد قرب، فجمع على بن المعلّى الشيعة من أهل القطيف، وأوقفهم على الكتاب الذى أحضره يحيى بن المهدى من المهدى إليهم، فأجابوه: إنّهم خارجون معه إذا ظهر أمره، وأجابه سائر قرى البحرين بمثل ذلك، فكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنّابى، ثم غاب يحيى بن المهدى مدة، ورجع بكتاب يزعم أنّه من المهدى إلى شيعته، فيه: قد عرّفنى رسولى يحيى بن المهدى مسارعتكم إلى أمرى، فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثى دينار، ففعلوا ذلك ثم غاب وعاد بكتاب، فيه ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم، فدفعوا إليه الخمس.
قال: وحكى أن يحيى بن المهدى جاء إلى منزل أبى سعيد الجنّابى فأكل طعاما، وخرج أبو سعيد من البيت وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى، وأن لا نمنعه إذا أرادها، فانتهى الخبر إلى الوالى فضرب يحيى وحلق رأسه ولحيته، وهرب أبو سعيد إلى جنّابه، وصار يحيى إلى بنى كلاب وعقيل والحريش، فاجتمعوا معه ومع أبى سعيد فعظم أمر أبى سعيد، واشتدت وطأته وظهر أمره؛ قال: وكان ظهوره بالبحرين في سنة ست وثمانين ومائتين.(25/234)
ذكر استيلاء أبى سعيد الجنابى على هجر وما كان من خلال ذلك من حروبه ووقائعه
قال الشريف أبو الحسين: كان من الاتّفاق لأبى سعيد أن البلد الذى قصده بلد واسع كثير الناس، ولهم عادة بالحروب، ورجال شداد جهّال غفل القلوب، بعيدون من علم شريعة الإسلام ومعرفة نبوّة أو حلال أو حرام، فظفر بدعوته في تلك الناحية، ولم يناوئه مناوىء، فقاتل بمن أطاعه من عصاه حتى اشتدت شوكته جدا، وكان لا يظفر بقرية إلا قتل أهلها ونهبها، فهابه الناس وأجابه كثير منهم طلبا للسلم، ورحل من البلد خلق كثير إلى نواحى مختلفة وبلدان شتى، خوفا من شرّه، ولم يمتنع عليه إلا هجر، وهى مدينة البحرين ومنزل سلطانها والتجّار والوجوه، فنازلها شهورا يقاتل أهلها، فلما طال عليه أمرها وكل بها جلّ أصحابه من أهل النجدة، ثم ارتفع فنزل الأحساء وبينها وبين هجر ميلان، فابتنى بها دارا وجعلها منزلا، وتقدّم في زراعة الأرض وعمارتها، وكان يركب في الأيام إلى هجر هو ومن يحاصرها، ويعقب من أصحابه في كلّ أيام قوما، ثم دعا العرب فأجابه أوّل الناس، بنو الأضبط من كلاب، لأن عشيرتهم كانوا أصابوا فيهم دما، فساروا إليه بحرمهم وأموالهم فنزلوا الأحساء، وأطمعوه في بنى كلاب وسائر من يقرب منه من العرب، وطلبوا منه أن يضمّ إليهم رجالا ففعل ذلك، فلقوا بهم عشيرتهم فاقتتلوا فهزمتهم القرامطة فأكثروا فيهم القتل، وأقبلوا بالحريم والأموال والأمتعة نحو الأحساء، فاضطر المغلوبين إلى أن دخلوا في طاعته(25/235)
وصاروا تحت أمره، ثم وجّه أبو سعيد بجيش آخر إلى بنى عقيل فظفر بهم، فقصدوه ودخلوا في طاعته، فملك تلك الفلاة، وتجنّب قتاله كلّ أحد إلا بنى ضبّة، فإنها ناصبته الحرب، فلما اجتمع «1» إليه من اجتمع من العرب وغيرهم خوّفهم ومنّاهم ملك الأرض كلها، فاستجاب بعضهم إلى دعوته فردّ إليهم ما أخذ منهم من أهل وولد، وأجاب آخرون رغبة في دعوته، ولم يردّ على أحد إبلا ولا عبدا ولا أمة وأنزل الجميع معه الأحساء، وأبى قوم دعوته فردّ عليهم حرمهم ومن لم يبلغ من أولادهم أربع سنين وشيئا من الإبل يحملون عليه، وحبش ما سوى ذلك كله، وجمع الصبيان في دور وأقام عليهم قوّاما، وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه، ووسم جميعهم على الخدود لئلا يختلطوا بغيرهم، وعرّف عليهم عرفاء، وعلّم من صلح لركوب الخيل والطعان فتشأوا لا يعرفون غيره، وصارت دعوته طبعا لهم، وقبض كل مال في البلد والثمار والحنطة والشعير، وأنفذ الرعاة في الإبل والغنم، وقوما للنزول معها لحفظها والتنقّل معها على نوب معروفة، وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن يصل أحد إلى غير ما يطعمه، وهو لا يغفل مع ذلك عن هجر، فلما أضجروه وطال أمرهم وقد كان بلغ منهم الحصار كل غاية، وأكلوا السنانير والكلاب وكان حصارهم يزيد على عشرين شهرا، ثم جمع أصحابه وحشد لهم وعمل الدبّابات، ومشى بها الرجال إلى السور، فاقتتلوا أشد قتال لم يقتتلوا مثله قبل ذلك، ودام القتال عامّة النهار، وكلّ منتصف من الآخر، وكثرت(25/236)
بينهم القتلى، ثم رجع إلى الأحساء، ثم باكرهم فناوشوه فانصرف، فلما قرب من الأحساء أمر الرجّالة ومن جرح أن ينصرف، وعاود فى خيل فدار حول هجر، وفكّر فيما يكيدهم به، وإذا لهجر عين عظيمة كثيرة الماء، يخرج من نشز من الأرض غير بعيد منها، ثم يجتمع ماؤها في نهر ويستقيم حتى يمرّ بجانب هجر ملاصقا، ثم ينزل إلى التخيل فيسقيها، فكانوا لا يفقدون الماء في حصارهم، فلما تبيّن له أمر العين انصرف إلى الأحساء، ثم غدا فأوقف على باب المدينة عسكرا، ثم رجع إلى الأحساء وجمع الناس كلّهم وسار في آخر الليل فورد العين بكرة بالمعاول والرمل وأوقار الثياب الخلقان ووبر وصوف وأمر قوما بجمع الحجارة وآخرين ينفذون بها إلى العين، وأعدّ الرمل والحصى والتراب، فلما «1» اجتمع أمر أن يطرح الوبر والصوف وأوقار الثياب في العين، وأن يطرح فوقها الرمل والحصى والتراب «2» والحجارة ففعل ذلك، فقذفته العين ولم يغن ما فعلوه شيئا، فانصرف إلى الأحساء هو ومن معه، وغدا في خيل فضرب في البرّ، وسأل عن منتهى العين فقيل له إنّها تتصل بساحل البحر، وأنّها تنخفض كلّما نزلت، فردّ جميع من «3» كان معه وانحدر على النهر نحوا من ميلين ثم أمر بحفر «4» نهر هناك، ثم أقبل هو وجمعه يأتون في كل يوم، والعمّال يعملون حتى حفره إلى السباخ، ومضى الماء كله عنهم فصبّ في البحر، فلما تمّ له ذلك نزل على هجر وقد انقطع الماء عمّن بها،(25/237)
فأيقنوا بالهلاك فهرب بعضهم نحو البحر، فركبوه إلى جزيرة ادالى وسيراف وغيرهما، ودخل قوم منهم في دعوته، وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء، وبقيت طائفة لم يقدروا على الهرب ولم يدخلوا في دعوته، فقتلهم وأخذ ما في المدينة ثم أخربها، وصارت الأحساء مدينة البحرين.
ذكر الحرب بين القرامطة أصحاب أبى سعيد وأهل عمان
قال: ولما استولى على هجر وخرتها أنفذ سريّة من أصحابه ستمائة فارس إلى عمان، فوردت على غفلة فقتلوا ونهبوا وأسروا في عمل عمان وأنفذ أهل عمان سريّة إليهم في ستمائة رجل من أهل النجدة فأدركوهم فجعلت القرامطة ما غنموه وراء ظهورهم، وأقبلوا نحو أهل عمان فاقتتلوا، حتى تكسّرت الرماح وتقطّعت السيوف وتعانقوا، وتكادموا وتراضخوا بالحجارة، فلم تغرب الشمس حتى تفانوا، فبقى من أهل عمان خمسة نفر لا حراك بهم، ومن القرامطة ستة نفر مجرّحين إلا أنهم أحسن حالا من العمانيّة، فركب القرامطة ست رواحل وعادوا إلى أبى سعيد، فأخبروه الخبر واعتذروا إليه، فلم يقبل عذرهم وأمر بهم فقتلوا، وقال: هؤلاء خاسوا بعهدى ولم يواسوا أصحابهم الذين قتلوا، فأنزلت بهم ما كانوا له أهلا، وتطيّر بهلاك السريّة وأمسك عن أهل عمان. «1»(25/238)
ذكر الحرب بين القرامطة وعسكر المعتضد بالله وانتصار القرامطة
قال: ولما كان من أمر أبى سعيد الجنّابى ما كان، اتصلت أخباره بالمعتضد بالله، وكتب إليه أحمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وهو إذ ذاك يتولى البصرة- يعلمه خبر أبى سعيد، وأنّه اتّصل به أنّه يريد الهجوم على البصرة، فأمره المعتضد بالله أن يعمل على البصرة سورا فعمله، فكان مبلغ ما صرف عليه أربعة عشر ألف دينار، ثم كتب الواثقى إلى المعتضد يسأله المدد، فسيّر إليه ثلاثمائة رجل في سماريّات، وأنفذ المعتضد بالله العبّاس بن عمرو الغنوى في ألفى رجل، وأقطعه اليمامة والبحرين وأمره بمحاربة القرامطة- وكان يتولّى بلاد فارس- فسار إلى البصرة فوردها وذلك في سنة سبع «1» وثمانين ومائتين، وخرج منها نحو هجر وبينهما بضع عشرة ليلة في فلاة مقفرة، وتبعه من مطوّعة البصرة نحو من ثلاثمائة رجل من بنى ضبة وغيرهم، وعرف أبو سعيد خبرهم فسار نحوهم وقدّم أمامه مقدّمة، فلما عاينهم العبّاس بن عمرو خلف سواده وسار إليهم فيمن خفّ من أهل العسكر وأدرك أبو سعيد مقدّمته في باقى أصحابه، فتناوشوا القتال فكانت بينهم حملات، ثم حجز الليل بينهم فانصرفوا على السواء فلما جاء الليل انصرفت مطوّعة البصرة ومن معهم من بنى ضبّة، فكسر ذلك الجيش وفتّ في أعضادهم، وأصبح العباس بن عمرو فعبّى أصحابه للقتال والتقوا، فجعل بدرا غلام أحمد بن عيسى بن(25/239)
الشيخ في نحو مائة من أصحابه على ميمنة أبى سعيد، فأوغل فيهم فلم يرجع منهم أحد، وحمل أبو سعيد على العبّاس وأصحابه فانهزموا، وأسر العبّاس بن عمرو ومعه «1» نحو من سبعمائة رجل من أصحابه، واحتوى القرامطة على عسكره، وقتل أبو سعيد من غديومة جميع الأسرى ثم أحرقهم، وترك العبّاس بن عمرو «2» ومضى المنهزمون فتاه كثير منهم في البرّ وتلف كثير منهم عطشا، وورد قوم منهم البصرة فارتاع الناس لهم، حتى أخذوا في الانتقال عن البصرة فمنعهم الواثقى.
قال: ولما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد الجنّابى العبّاس ابن عمرو، وقال له: أتحب أن أطلقك؟ قال: نعم قال: على أن تبلغ عنى صاحبك ما أقول، قال: أفعل، قال: تقول الذى أنزل بجيشك ما أنزل بغيك، هذا بلد كان خارجا عن يدك غلبت عليه وأقمت به وكان فيّ من الفضل ما آخذ غيره، فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به، ولا أخفت لك سبيلا، ولا نلت أحدا من رعيّتك بسوء، فتوجيهك إلىّ الجيوش لأى سبب؟! اعلم إنّى لا أبرح عن هذا البلد ولا يوصل إليه وفيّ، وفي هذه العصابة التى معى روح، فاكفنى نفسك ولا تتعرّض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر، وأطلقه وأرسل معه من يردّه إلى مأمنه، فأوردوه بعض السواحل فصادف مركبا فركب فيه إلى الأبلة، ووصل إلى بغداد في شهر رمضان من السنة. قال: وقد كان الناس يعظّمون(25/240)
أمر العباس ويكثرون ذكره ويسمّونه قائد الشهداء، فلما وصل إلى المعتضد بالله عاتبه على تركه الاستظهار والتحرّز وأنّبه، فاعتذر بهرب بنى ضبّة ومن كان معهم من المطوّعه وهرب أصحابه عنه، وأنّه لو أراد الهرب لأمكنه، فلم يبرح حتى رضى عنه وزال همّه، ثم سأله عن خبره فعرّفه جميعه، ووصف له أحوال القرامطة وما قاله أبو سعيد بعد أن استأذنه في ذلك فأذن له، فقال: صدق ما أخذ شيئا كان في أيدينا، وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه، فقال: كذب عدوّ الله الكافر، المسلمون رعيّتى حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بى عمر لأشخصنّ بنفسى إلى البصرة وجميع غلمانى، ولأوجهنّ إليه جيشا كثيفا فإن هزمه وجّهت جيشا، فإن هزمه خرجت في جميع قوّادى وجيشى إليه، حتى يحكم الله بينى وبينه، وشغله بعد ذلك أمر وصيف غلام ابن أبى السّاج وأحفزه، فخرج في طلبه وهو عليل، وذلك في شوّال من هذه السنة، فأخذه وعاد إلى بغداد فدامت علّته واستمرّ وجعه ومات.
قال القاسم بن عبيد الله: ما زال أمير المؤمنين المعتضد بالله يذكر أمر أبى سعيد في مرضه ويتلهّف، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: حسرة في نفسى كنت أحب أن أبلغها قبل موتى، والله لقد كنت وضعت في نفسى أن أركب، ثم أخرج إلى باب البصرة متوجّها نحو البحرين، ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفى إلا ضربت عنقه، وإنى أخاف أن يكون من هناك حوادث عظيمة.
قال: وأقبل أبو سعيد بعد اطلاق العبّاس على جمع الخيل وإعدا(25/241)
السلاح واتخاذ الإبل وإصلاح الرجال ونسج الدروع والمغافر ونظم الجواشن وضرب السيوف والأسنّة واتخاذ الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب عن قربه وسدّ الوجوه التى يتعرّف منها أمر بلده وأحواله بالرجال واصلاح أراضى المزارع وأصول النخل وعمارته، واصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وإقامة العرفاء على الرجال، والاحتياط على ذلك كلّه، حتى بلغ من تفقّده واحتياطه أنّ الشاة كانت تذبح فيسلّم اللحم إلى العرفاء، ليفرّقوه على من يرسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجزّ الصوف والشعر من الغنم ويفرّقه على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبيّا وأكسبة وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال، ويسلّم الجلد إلى الدبّاغ، فإذا خرج من الدبّاغ سلّم إلى خرّازى القرب والروايا والمزاد، وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفافا عمل منه، ثم يجمع ذلك كلّه إلى خزائن، فكان ذلك دأبه لا يغفل عنه، ويوجّه في كلّ مديدة بخيل إلى ناحية البصرة، فتأخذ من وجدت فتصير بهم إليه فيستعبدهم، فزادت بلاده وعظمت هيبته فى صدور الناس.
قال الشريف أبو الحسين: وقد كان واقع بنى ضبّة عند طرده لهم عن قرب بلده، فأصاب منهم وأصابوا منه، ولم يتب عدوا عنه بعيدا، فلما شخص مع العبّاس بن عمرو منهم من شخص- فى وقت مسيره لقتاله- ازداد بذلك حنقا عليهم، فواقعهم وقائع مشهورة بالشدّة والعظم، ثم ظفر بهم فأخذ منهم خلقا، وبنى لهم حبسا عظيما وجمعهم فيه وسدّه عليهم، ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا وضجّوا(25/242)
فلم يغثهم، فمكثوا على ذلك شهرا ثم فتح عليهم، فوجد الأكثر منهم موتى، ووجد نفرا يسيرا قد بقوا على حال الموتى، وقد تغذوا بلحوم الموتى، فخصاهم وخلّاهم فمات أكثرهم.
ذكر مقتل أبى سعيد الجنابى
كان مقتله في سنة إحدى وثلاثمائة بعد أن استولى على سائر بلاد البحرين، وكان سبب مقتله أنّه لما هزم جيش العباس بن عمرو كما تقدم، واستولى على عسكره، أخذ من عسكره خادما له صقلبيا، فاستخدمه وجعله على طعامه وشرابه، فمكث كذلك مدة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصليا لله عزّ وجلّ صلاة واحدة، ولا يصوم في شهر رمضان ولا في غيره يوما واحدا، فأضمر الخادم لذلك قتله، فدخل معه الحمّام «1» يوما- وكان الحمّام في داره، فأخذ الخادم معه خنجرا ماضيا- ولم يكن معه في الحمّام «2» غيره، فلما تمكّن منه أضجعه فذبحه، ثم خرج فقال: السيد يستدعى «3» فلانا لبعض بنى سنبر فأحضر فقال: ادخل فدخل، فبادره فقبض عليه وذبحه، ولم يزل يستدعى من رؤساء القرامطة واحدا واحدا حتى قتل جماعة من الرؤساء والوجوه، إلى أن استدعى بعضهم فنظر عند دخوله إلى باب البيت الأوّل دما جاريا، فاستراب بذلك وخرج مبادرا فلم يدركه الخادم وأعلم الناس، وعمد الخادم إلى الباب فأغلقه وكان وثيقا، فاجتمع(25/243)
الناس ونقبوا نقوبا إلى أن وصلوا إليه، فأخذه ابنه سعيد فأمر بشدّه بالحبال، ثم قرض لحمه بالمقاريض حتى مات رحمه الله تعالى.
وخلّف أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيدا، وأبا طاهر سليمان، وأبا منصور أحمد، وأبا العباس «1» إبراهيم، والعبّاس محمد، وأبا يعقوب يوسف. وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته وبنى «2» زرقان، وكان أحدهم زوج ابنته، وبنى سنبر، وكان متزوجا إليهم، وهم أخوال أولاده وبهم قامت دولته وقوى أمره، فأوصى إليهم إن حدث به موت أن يكون القيّم بأمرهم ابنه سعيدا إلى أن يكبر أبو طاهر، وكان سعيد أكبر من أبى طاهر سنا، فإذا كبر أبو طاهر كان المدبّر لهم، فلما قتل جرى الأمر على ما وصّاهم به، وكان قد أخبرهم أنّ الفتوح يكون لأبى طاهر، فجلس سعيد يدبّر الأمر بعد مقتل أبيه إلى سنة خمس وثلاثمائة، ثم سلم الأمر لأخيه أبى طاهر، فدبّره وعمل أشياء موّه بها على عقول أصحابه فقبلوها وعظموا أمره، وكان من أخباره ما نذكره إن شاء الله تعالى، وكانت مدة تغلّب أبى سعيد على البحرين وما والاها نحوا من ستة عشر سنة «3» .(25/244)
ذكر أخبار أبى القاسم الصناديقى ببلاد اليمن
وفي سنة ست وثمانين ومائتين استولى أبو القاسم النجّار المعروف بالصناديقى على اليمن، وكان ابن أبى الفوارس داعى عبدان قد أنفذه داعيا إلى اليمن، وكان هذا الصناديقى من موضع يعرف بالنّرس، وكان يعمل فيه الثياب النرسيّة، وقيل إنه كان يعمل في الكتّان، فلما صار إلى اليمن أجابه رجل من الجند يعرف بابن الفضل، فقوى أمره على اقامة الدعوة الخبيثة؛ فدخل فيها خلق كثير، فخلعهم من الإسلام، وأظهر العظائم، وقتل الأطفال وسبى النساء، وتسمّى برب العزّة وكان يكاتب بذلك، وأظهر شتم النبىّ صلى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء، واتّخذ دارا سمّاها دار الصفوة، وكان يأمر الناس بجمع نسائهم من أزواجهم وبناتهم واخوانهم، ويأمرهم بالاختلاط.
بهنّ ليلا ووطئهنّ، ويحتفظ بمن تحبل منهنّ في تلك الليلة وبمن تلد من بعد ذلك، ويتخذهم لنفسه خولا ويسمّيهم أولاد الصفوة، وعظمت فتنته باليمن، وأجلى أكثر أهله عنه وأجلى السلطان، وقاتل القاسم بن أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الحسنى الهادى وقلعه عن عمله بصعدة، وألجأه إلى أن هرّب عياله إلى الرسّ حذرا منه لقوّته عليه، ثم إنّ الله عزّ وجلّ رزقه الظفر به فهزمه، وكان ذلك بلطف من ألطاف الله تبارك وتعالى، وهو أن ألقى على عسكره وقد بايته بردا وثلجا، قتل به أكثر أصحابة في ليلة واحدة، وقلّ ما يعرف مثل هذا من البرد والثلج في ذلك البلد، ولما طغى وبعى قتله الله بالأكلة وأنزل بالبلدان التى غلب عليها بثرا قاتلا، كان يخرج على كتف(25/245)
الرجل «1» منهم بثرة فيموت في سرعة، فسمّى ذلك البثر حبّة القرمطىّ، وأخرب الله تعالى أكثر تلك البلاد التى ملكها، وأفنى أهلها بموت ذريع، واعتصم ابنه بعده بالجبال والقلاع، ولم يزل بها مقيما يكاتب أهل ملّته، ويعنون كتبه، من ابن رب العزّة، ثم أهلكه الله عز «2» وجل وبقيت منهم بقيّة، فاستأمنوا إلى القاسم بن أحمد الهادى، ولم يبق للنجّار بقيّة ولا لمن كان على مذهبه.
ولنرجع إلى أخبار زكرويه بن مهرويه وخبر من أرسله إلى الشام.
ذكر ظهور القرامطة بالشام وما كان من أمرهم وحروبهم
قد قدّمنا من أخبار زكرويه بن مهرويه واختفائه وحرص أصحاب عبدان على قتله، وأنّه لما طال عليه الأمر أرسل ابنه الحسن إلى الشام وذلك في سنة ثمان وثمانين ومائتين.
قال الشريف أبو الحسين محمد بن على الحسينى «3» رحمه الله:
ولما أرسل زكرويه بن مهرويه ابنه إلى الشام أرسل معه رجلا من القرامطة من أهل نهر ملحانا، يقال له الحسن بن أحمد ويكنى بأبى الحسين، وأمره أن يقصد بنى كلب وينتسب لهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويدعوهم إلى الإمام من ولده، فاستجاب له فخذ من بنى(25/246)
العليص بن ضمضم بن عدى بن جناب بن كلب «1» بن وبرة ومواليهم وانضاف إليه طائفة من بنى الأصبع من «2» كلب، ويسمى هؤلاء بالفاطميين وبايعوه، وكان الخبيث لما رجع إلى الطالقان يكتب إلى زكرويه يستأذنه في القدوم عليه، فيجيب بالتوقّف، فخرج نحو العراق، فلما وصل إلى السواد وجد زكرويه مختفيا، فلم يزل حتى توصل إلى المكان الذى هو فيه، فلم يظهر له لوما على قدومه وبعث إليه بخبر من استجاب له بالشام، فقال: أنا أخرج حتى أظهر فيهم هناك، فوجّه إليه: نعم ما رأيت، فضمّ إليه ابن أخته «3» عيسى بن مهرويه، ويسمّى بالمدثّر لقبا وبعبد الله اسما، وغلاما من بنى مهرويه فتلقّب بالمطوّق وكان سيّاقا، وأنفذهم إلى الشام، وكتب إلى ابنه الحسن يعرّفه أنّه ابن الحجّة، ويأمره له بالسمع والطاعة، فسار حتى نزل في بنى كلب، فلقيه الحسن بن زكرويه وسرّ به، وجمع له الجمع وقال: هذا صاحب الإمام فامتثلوا أمره، وسرّوا به وقالوا له: مرنا بأمرك وبما أحببت، فقال لهم: استعدوا للحرب فقد أظلّكم النصر، ففعلوا ذلك، واتصلت أخبارهم بشبل الديلمى مولى المعتضد، وذلك في سنة تسع وثمانى ومائتين. فقصدهم فقتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه، وكانت الوقعة بالرصافة من غربى الفرات، ودخلوا الرصافة وأحرقوا مسجدها ونهبوها، وأصعدوا نحو الشام، واعترضوا الناس بالقتل والتحريق ونهب القرى، إلى أن وردوا أطراف(25/247)
دمشق، وكان هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ردّ أمر دمشق إلى طغج بن جف الفرغانى، فلقيتهم عساكره فانهزمت ولم تثبت، وقتل كثير منهم وأخذوا منهم ما قدروا عليه.
قال: ولما هزم طغج نزل على دمشق وقاتل أهل البلد، وكان يحضر الحرب على ناقة ويقول لأصحابه: لا تسيروا من مصافّكم حتى تنبعث بين أيديكم، فإذا سارت فاحملوا فإنه لا تردّ لكم دابّة إذ كانت مأمورة، فسمّى بذلك صاحب الناقة، وحصر طغج بدمشق سبعة أشهر، فكتب طغج إلى مصر بخبر من قتل من أصحابه، وأنه محصور وقد فنى أكثر الناس وخرب البلد، فأنفذوا إليه بدار الكبير غلام ابن طولون- وهو المعروف بالحمّامى- فسار حتى قرب من دمشق وخرج «1» إليه طغج واجتمعوا على محاربة القرامطة، والتقوا واقتتلوا بقرب دمشق «2» ، فأصاب رئيس القرامطة- ابن القدّاح- سهم فقتله، ويقال أصابه الزراقون بمزراق فيه نفط فاحترق، وحمى أصحابه فقاتلوا عسكر بدر الحمّامى وطغج حتى انحازوا عنهم وانصرفت القرامطة وكان صاحب الناقة هذا المقتول قد ضرب دنانير ودراهم، وكتب على السكّة على أحد الوجهين: قل جاء الحق وزهق الباطل، وعلى الوجه الآخر: لا إله إلا الله، قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى.
قال: فلما انصرفت القرامطة عن دمشق بعد قتل الطاغية بايعوا:(25/248)
الحسن «1» بن زكرويه بن مهرويه
فسمّى نفسه أحمد وتكنى بأبى العباس وهو صاحب الشامة.
قال ابن الأثير: ولما بايعه القرامطة دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادى وغيرهم، فاشتدت شوكته وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته «2» .
قال الشريف أبو الحسين وسياقه أتمّ: ولما بايعوه ثار حتى افتتح عدّة مدن من الشام، وظهر على جند حمص، وقتل خلقا كثيرا من جند المصريين «3» ، وتسمّى بأمير المؤمنين على المنابر وفي كتبه، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائتين وبعض سنة تسعين ومائتين، ثم سار بمن معه إلى نحو الرقّة، فخرج إليهم مولى الخليفة المكتفى بالله وكان عليها، فواقعهم فهزموه، وقتلوه واستباحوا عسكره ورجعوا يريدون دمشق، وجعلوا ينهبون جميع ما يمرّون به من القرى، ويقتلون ويسبون ويخربون، فلما قربوا من دمشق أخرج إليهم طغج جيشا كثيفا أمّر عليه غلامه بشيرا، فهزم القرامطة الجيش وقتل بشير في خلق من أصحابه، فلما اتصل بالمكتفى قتل غلامه الذى كان على الرقّة وخبر قتل بشير ندب أبا الأعزّ السّلمى، وضمّ إليه عشرة آلاف من الجند والموالى والأعراب، وخلع عليه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومائتين وأنفذه، فسار حتى نزل حلب ثم خرج فنزل وادى بطنان، فتفرّق الناس ودخل قوم منهم الماء يتبرّدون فيه وذلك في القيظ، ووافاهم القرامطة يقدمهم المطوّق،(25/249)
فكان كل إنسان يحذر على نفسه وينجو بها، وركب أبو الأعزّ فرسه وصاح بالناس، فسار إليه جماعة لقى بها أوائل القوم، فلم يلبث إلا اليسير حتى انهزم، وركبت القرامطة أكتاف الناس يقتلون وينهبون حتى حجز الليل بينهم، وقد أتوا على عامّة العسكر وسلم منهم قليل.
ولحق أبو الأعزّ في جميعيّة معه بحلب، ثم تلاحق به قوم حتى حصل فى نحو ألف رجل، ووافت القرامطة فنازلوا أهل حلب فحاربهم أبو الأعزّ، فلم يقدروا منه على شىء فانصرفوا، وجمع الحسين بن زكرويه أصحابه، وكان قد اتّصل به خلق كثير من اللصوص ومن بنى كلب، فسار حتى نزل أطراف حمص فخطب له على منابرها.
ثم نهض إليها فأعطاه أهلها الطاعة، وفتحوا له البلد فدخلها، ثم سار إلى حماة ومعرّة النّعمان وغيرهما فقتل الرجال والنساء والأطفال، ثم رجع إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها، ثم صار إلى سلمية فحاربه أهلها وامتنعو منه، فأعطاهم الأمان ففتحوا له «1» ، فبدأ بمن كان فيها من بنى هاشم.
وكان بها جماعة كثيرة، فقتلهم أجمعين، ثم كرّ على أهلها فأفناهم أجمعين وخرّ بها، وخرج عنها وما بها عين تطرف، وكان مع ذلك لا يمرّ بقرية فيدع فيها أحدا، حتى أخرب البلاد وسبى الذرارى وقتل الأنفس من المسلمين وغيرهم، ولم يقم له أحد.
قال الشريف: ووردت كتب التجّار وسائر الناس من دمشق وغيرها بصورة الأمر وغلظه، وأن طغج قد فنيت رجاله وبقى في عدّة يسيرة، وأنّ القرامطة تقصد دمشق في أوقات فلا يقاتلهم إلا العامّة(25/250)
وقد أشرف الناس على الهلكة وكثر الضجيج بمدينة السلام، واجتمعت العامّة إلى يوسف بن يعقوب القاضى وسألوه إنهاء أخبار الناس إلى الخليفة، فوعدهم بذلك، ووردت كتب المصريين على المكتفى بالله يعرّفونه ما قتل من عسكرهم الذى خرج إلى الشام، وأن القرامطة أفنتهم وأنّهم قد أخربوا الشام، فأمر المكتفى الجيش بالاستعداد وإخراج المضارب إلى باب الشماسيّة، وخرج إلى مضربه في القوّاد والجند، ورحل لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة تسعين ومائتين، وسلك طريق الموصل ومضى نحو الرقّة بالجيوش حتى نزلها وانبثت جيوشه من حلب وحمص، وقلّد محمد بن سليمان حرب الحسين بن زكرويه، واختار له جيشا كثيفا، وكان محمد بن سليمان صاحب ديوان العطاء وعارض الجيش، فسار نحو القرامطة بجيشه.
ذكر الحرب بين محمد بن سليمان وبين القرامطة وانهزام القرامطة والظفر بالحسن بن زكرويه صاحب الشام وأصحابه وقتلهم
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: ولما دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين كتب القاسم بن عبيد الله وهو وزير المكتفى بالله إلى محمد بن سليمان الكاتب يأمره بمناهضة القرامطة، فسار إليهم والتقى الجمعان يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم من هذه السنة، بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم، وقتل عامّة رجالهم، وورد كتاب محمد بن سليمان الكاتب إلى القاسم بن عبيد الله الوزير، يخبره بكيفيّة المصاف والقتال ومن(25/251)
كان في الميمنة والميسرة والقلب والجناحين من قوّاد عسكره، وأن القرامطة اجتمعوا ستّة كراديس، وأن ميسرتهم كان فيها ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا خلفها أربعمائة فارس، وفي القلب ألف فارس وأربعمائة فارس، وفي ميمنتهم ألف فارس وأربعمائة فارس، وكمنوا خلفها مائتى فارس، وذكر كيف كانت حملاتهم وقتالهم، وكيف كانت هزيمتهم، فى كلام مطوّل تركناه اختصارا لطوله، إلا أنّ ملخّصه أنّ القرامطة قتلوا قتلا ذريعا، وذكر أن الكردوس الذى كان في ميسرة القرامطة قصده الحسين بن حمدان، وكان في جناح ميمنة عسكر الخليفة، واقتتلوا أشدّ قتال حتى تكسّرت الرماح وتقطّعت السيوف فصرع من القرامطة ستمائة في أول دفعة، وأخذ أصحاب الحسين منهم خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضّة، وأن القرامطة ولّوا مدبرين فاتبعهم الحسين بن حمدان، فرجعوا عليه فلم يزل يحمل حملة بعد حملة- وهم في خلال ذلك يصرعون منهم الجماعة بعد الجماعة- حتى أفناهم الله تعالى، فلم يفلت منهم إلا أقل من مائتى رجل.
قال: وحمل الكردوس الذى كان في ميمنتهم على القاسم بن سهل ويمن الخادم، فاستقبلوهم بالرماح فكسروها في صدورهم وعانق بعضهم بعضا، فقتلوا من الكفرة جماعة كبيرة. قال: وأخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس «1» ومائة طوق فضّة، وأخذ أصحاب خليفة بن المبارك منهم مثل ذلك، وذكر في كتابه أنه حمل هو عليهم في القلب، فما زال أصحابه يقتلون القرامطة- فرسانهم ورجّالتهم- أكثر من خمسة(25/252)
أميال، وذكر في كتابه أن الحسن بن زكرويه لم يشهد هذا المصاف وأنّه يشخص إليه إلى سلمية. قال الشريف رحمه الله: وكان الحسن ابن زكرويه- لما أحسّ بقرب الجيوش- عرض أصحابه، وأخرج الأقوياء منهم عن الضعفة والسواد، وأنفذ الجيش وتخلّف هو في السواد والضعفة، فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك ورحل لوقته وسار خوفا من الطلب، وتلاحق به من أفلت من أصحابه، فخاطبهم بأنّهم أتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم وأنّهم لم يصدقوا الله، وحرّضهم على المعاودة إلى الحرب فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك، واعتلّوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم، فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبنى خلق من أهل بغداد بالبيعة لى، ودعاتى بها ينتظرون أمرى، وقد خلت من السلطان الآن، وأنا شاخص نحوها لأظهر بها، ومستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبى، وكتبى ترد عليه بما يعمل به فاسمعوا له وأطيعوا أمره فضمنوا له ذلك، وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمّى بالمدثّر وصاحبه المطوّق وغلام له رومىّ، وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق وساروا يريدون سواد الكوفة، وسلك البرّ وتجنّب المدن والقرى، حتى إذا صار قريبا من الدالية نفد زاده، فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بالقرب منها خلف رابية، ووجّه بعض من كان معه لابتياع ما يصلحه، فلما دخلها أنكر زيّه بعض أهلها وساء له عن أمره فورى وتلجلج، فاستراب به وقبض عليه وأتى به واليها، وكان يعرف بأبى خبزة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات، قال: والدالية قرية من عمل الفرات، قال:
فسأله أبو خبزة عن خبره ورهب عليه، فعرّفه أن القرمطى، الذى(25/253)
خرج أمير المؤمنين المكتفى بالله في طلبه، خلف رابية أشار إليها، فسار أبو خبزة إلى ذلك الموضع ومعه جماعة بالسلاح حتى أشرف عليهم، فأخذهم وشدّهم وثاقا وتوجه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد، فسار بهم إلى المكتفى وهو يومئذ بالرقّة، فأمر أن يشهّروا بها ففعل بهم ذلك، وألبس الحسن بن زكرويه درّاعة ديباج وبرنس من حرير وهو على بختىّ، والمدثّر والمطوّق على جملين عليهما درّاعتا ديباج وبرانس حرير، وهم بين يديه، وذلك في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين.
قال: وقدم محمد بن سليمان الكاتب الرقّة والجيوش معه، بعد أن تتبّعوا ما بقى من القرامطة فأسروا وقتلوا، فخلف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقّة، وشخص في خاصّته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد، وحمل القرمطى وأصحابه معه ومن أسر في الوقعة، وذلك في أول يوم من صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، فلما صار إلى بغداد عمل له دميانه غلام يا زمان كرسيّا سمكه ذراعان ونصف، وركّبه على فيل وأركبه عليه ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، عليهم دراريع الديباج والبرانس والمطوّق في وسط الأسرى على جمل، وهو غلام حدث قد جعل في فيه خشبة مخروطة قد شدّت إلى قفاه كاللجام، وذلك أنّهم في وقت دخولهم الرقّة أكثر الناس الدعاء عليهم، فكان هو يشتم الناس الذين يدعون عليهم ويبصق عليهم، وكان دخولهم كذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول من هذه السنة.(25/254)
قال: فلما وصل المكتفى إلى داره حبسهم ووكل بهم، ووصل محمد بن سليمان بعد ذلك على طريق الفرات في الجيش، وقد تلقّط، بقايا القرامطة من كل وجه، فنزل بباب الأنبار في ليلة الخميس لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل من السنة، فأمر المكتفى القوّاد وأصحاب الشرط بتلقّيه والدخول معه، فدخل محمد بن سليمان في زى حسن ومعه بين يديه نيّف وسبعون أسيرا، وخلع الخليفة على محمد بن سليمان وطوّقه بطوق من ذهب، وسوّره بسوار من ذهب، وخلع على جميع القوّاد وطوّقوا وسوّروا، وحبس الأسرى وكان المكتفى بالله وقت دخوله أمر أن تبنى له دكّة في المصلّى العتيق من الجانب الشرقى، مربّعة ذرعها عشرون ذراعا في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج، فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من شهر ربيع الأول أمر المكتفى القوّاد وجميع الغلمان وصاحب جيشه محمد ابن سليمان وصاحب شرطته أن يحضروا هذه الدكّة، فحضروها وصعد الوجوه ووقف الباقون على دوابّهم، وخرج التجّار والعامّة للنظر وحملوا الأسرى كلّهم مع خلق كثير منهم كانوا بالكوفة وحملوا إلى بغداد وغيرهم ممّن حمل ممّن كان على مذهبهم، فأحضر جميعهم على الجمال وقتلوا جميعا وعدّتهم ثلاثمائة وستون وقيل ثلاثمائة ونيّف وعشرون، وقدم الحسن بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه، وهما زميلان، على بغل في عماريّة، قد أرسل عليهما أغشية، فأصعدا إلى الدكّة وأقعدا، وقدم أربعة وثلاثون إنسانا من الأسرى من وجوه القرامطة، ممّن عرف بالنكاية والعداوة للإسلام والكلب على سفك الدماء واستباحة النساء وقتل الأطفال، وكان كل واحد منهم(25/255)
يبطح على وجهه فتقطع يده اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى ويرمى بها إلى أسفل ثم تضرب عنقه ويرمى به إلى أسفل، فلما فرغ منهم قدّم المدثر ففعل به مثل ذلك ثم كوى ليعذب ثم ضربت عنقه، ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتى سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه، ورفع رأسه على خشبة، وحملت الرؤوس فصلبت على الجسر، وصلب بدن الحسن فمكث مصلوبا نحوا من سنة، ثم سقط عليه حائط ودفنت أجساد الأسرى عند الدكة، وهدمت بعد أيام.
قال الشريف: ومن كتب اللعين الحسن بن زكرويه إلى بعض عمّاله:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله المهدى المنصور الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الداعى إلى كتاب الله، الذابّ عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المنتصرين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيّين صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين وسلّم- كتاب إلى جعفر «1» بن حميد الكردى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد «2» جدّى رسول؛ أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من(25/256)
أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد فى الأرض فأعظمنا ذلك «1» ، ورأينا أن ننفذ إلى هناك من جيوشنا من ينتقم الله به، من أعدائنا الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنفذنا جماعة من المؤمنين «2» إلى مدينة حمص ونحن في أثرهم، وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك، لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم، فينبغى أن يكون «3» قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذى لم يزل يعوّدنا في كل من مرق «4» من الطاعة وانحرف عن الإيمان، وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها، ولا تخف عنّا شيئا من أمرها.
سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على جدى رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا.
وكان عمّاله يكاتبونه بمثل هذا الصدر. قال ابن الأثير «5» :
وكان قد نجا من أعيان القرامطة رجل من بنى العليص يسمى إسماعيل ابن النعمان في جماعة معه، فكاتبه المكتفى بالله وبذل له الأمان، فحضر في نيّف «6» وستين نفسا، فأحسن الخليفة إليهم وسيّرهم إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، فأقاموا معه مدّة وعزموا على(25/257)
إنشاء فتنة بالرحبة، وكان قد انضم إليهم جماعة كثيرة، فشعر بهم القاسم فقتلهم فارتدع من كان قد بقى من موالى بنى العليص، وذلّوا ولزموا السماوة حتى جاءهم كتاب من زكرويه بن مهرويه، يذكر لهم أن ممّا أوحى إليه أن صاحب الشامة وأخاه يقتلان، وأن إمامه، الذى هو حى، يظهر بعدهما ويظفر
ذكر خبر ارسال زكرويه بن مهرويه محمد بن عبد الله الى الشام وما كان من أمره الى أن قتل
كان الحسن بن زكرويه قد خلف القاسم بن أحمد المكنى بأبى الحسين خليفة على من بسلمية من أصحابه كما قدّمنا، فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه فأخبره بخبر القوم، الذين استخلفه عليهم ابنه الحسن أنهم اضطربوا عليه، وأنه خافهم وتركهم وانصرف، فلامه زكرويه على قدومه لوما كثيرا، وقال له: ألا كاتبتنى قبل انصرافك إلىّ، ووجده على ما به تحت خوف شديد من طلب السلطان من وجه وطلب أصحاب عبدان الذى كان قد تسبّب في قتله من وجه آخر ثم إنّ زكرويه أعرض عن القاسم وأنفذ رجلا من أصحابه، كان يعلم الصبيان بالزابوقة «1» يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد «2» المكنى أبا غانم في سنة ثلاث وتسعين ومائتين فتسمى نصرا، وأمره أن يتوجّه إلى أحياء كلب ويدعوهم، فدار أحياء كلب ودعاهم فلم يقبله(25/258)
إلا رجل من بنى زياد يعرف بمقدام بن الكيّال، ثم استجاب له طوائف من الأصبعيين الذين يعرفون بالفواطم، وقوم من بنى العليص وصعاليك من بنى كلب، فسار بهم نحو الشام، وعامل المكتفى بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ، وهم بنواحى مصر على حرب إبراهيم الخليجى، وكان قد خالف كما قدّمنا ذكر ذلك، فاغتم محمد بن عبد الله بن سعيد غيبته فصار إلى مدينتى بصرى وأذرعات فحارب أهلها ثم أمّنهم فلما استسلموا قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم، وسار نحو دمشق فخرج إليه صالح بن الفضل خليفة ابن كيغلغ فيمن معه، فأثخنوا فيهم وظفروا عليهم ثم غرّوهم ببذل الأمان، فقتلوا صالحا وعسكره وقصدوا دخول دمشق فدفعهم عنها أهلها فانصرفوا إلى طبريّة، ولحق بهم جماعة من الجند ممّن سلم بدمشق، فواقعهم يوسف بن إبراهيم، عامل ابن كيغلغ على الأردن، فهزموه، وبذلوا له الأمان ثم غدروا به فقتلوه ونهبوا طبريّه وقتلوا وسبوا النساء، فأنفذ المكتفى الحسين بن حمدان في طليهم مع وجوه من القوّاد، فدخل دمشق وهم بطبريّة، فلما علموا بذلك عطفوا نحو السماوة، وأتبعهم الحسين بن حمدان في البريّة، فأقبلوا ينتقلون من ماء إلى ماء يغورون ما يرتحلون عنه من الماء، فلم يزالوا على ذلك حتى وردوا الماءين المعروفين بالدمعانة والحالّة، فانقطع عنهم لعدم الماء فمال نحو رحبة مالك بن طوق، وأسرى عدو الله حتى وافى هيت وهم غازون وذلك لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين، طلوع الشمس، فنهب ربض هيت والسفن التى فى الفرات وقتل نحو مائتى إنسان، وأقام هناك يومين والقوم(25/259)
متحصّنون، ثم رحل بما أخذه وبمائتى كرّ حنطة إلى نحو الماءين وبقيّة أصحابه هناك، فلما اتصل الخبر بالمكتفى أرسل إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداجيق ومعه جماعة من القوّاد في جيش كثيف، ثم أتبعه بمؤنس الخادم «1» ، فنهض محمد بن إسحاق نحوهم فوجدهم قد غوّروا المياه، فأنفذ إليه من بغداد بالروايا والقرب والمزاد، وكتب إلى الحسين بن حمدان بالنفوذ إليهم من الرحبة، فلما أحسّوا بذلك إئتمروا بصاحبهم نصر، فوثب عليه رجل من أصحابه يقال له الذيب بن القائم فقتله، وشخص إلى بغداد متقرّبا بذلك ومستأمنا، فأسنيت له الجائزة وكف عن طلب قومه بقتل محمد هذا، فمكث أياما ببغداد وهرب، ثم إن طلائع محمد بن كنداجيق ظفرت برأس محمد المقتول هذا، فحمل إلى بغداد.
قال: ثم إن قوما من بنى كلاب أنكروا ما فعله الذيب من قتل محمد، ورضيه آخرون فتحزّبوا أحزابا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى بينهم ثم افترقوا، فصارت الفرقة التى رضيت قتله إلى ناحية عين التمر، وتخلف من كره قتله على الماء الذى كانوا ينزلون عليه، واتصل الخبر بزكرويه بن مهرويه فردّ القاسم إليهم.(25/260)
ذكر ارسال زكرويه بن مهرويه القاسم بن أحمد ودخوله الكوفة وما كان من أمره
قال: ولما اتّصل الخبر بزكرويه كان القاسم بن أحمد عنده، فردّه إليهم لمعرفتهم به، فلما ورد عليهم جمعهم ووعظهم، وقال: أنا رسول وليّكم وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الذيب بن القائم، وأنّكم قد ارتددتم عن الدين، فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبّتهم، وذكروا ما جرى بينهم وبين أهلهم من الخلف والقتل والبعد بهذا السبب، فقال لهم: قد جئتكم الآن بما لم يأتكم به أحد تقدّمنى، وليّكم يقول لكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوادها أكثر، وموعدكم اليوم الذى ذكره الله، يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة، فإنه لا دافع لكم عنها، ومنجز وعدى الذى جاءتكم به رسلى، فسرّوا بذلك سرورا كثيرا وارتحلوا نحو الكوفة، فلما وردوا إلى القطقطانة، وهى قرية خراب في البرّ، بينها وبين الكوفة ستة وثلاثون ميلا، وذلك يوم الأربعاء قبل يوم عرفه بيوم من سنة ثلاث وتسعين ومائتين، خلّفوا بها الخدم والأموال ثم أمرهم أن يلحقوا به عين الرحبة على ستة أميال من القادسية، ثم شاور الوجوه من أصحابه فى أى وقت يأتى الكوفة؟ فقال قائل ليلا فلا يتحرك أحد إلا قتلناه، ويخرج إلينا واليها في قلة فنأخذه ونقتله، وقال آخر: نمهل إلى أن ندخلها عشاء في يوم العيد، والجند سكارى والبلد خال، فنقصد باب إسحاق وهو غافل فنأخذه ونقف على بابه، فلا يأتينا أحد إلا(25/261)
قتلناه، فإنهم لا يأتونا إلا نفر بعد نفر، وكانت شحنة الكوفة يومئذ سبعة آلاف رجل، إلا أن المقيم بالكوفة يومئذ أربعة آلاف من الدميانية والمصريين وغيرهم، والناس فيها أحياء «1» والبلد على غاية الاجتماع والحسن وكثرة الناس، وقال آخرون: نسير ليلتنا ثم نكمن في النجف في شعابه فنريح الخيل والإبل وننام، ونركب عمود الصبح فنشنّها غارة على أهل المصلّى، وقد نزل الجند للصلاة وركب غلمانهم الدوابّ، ونضع السيف وجل أهل البلد هناك، فقال اللعين: هذا هو الرأى، فركبوا وساروا حتى حصلوا في بعض المواضع فناموا، فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس يوم العيد، لطفا من الله تعالى بالناس؛ قال: وقد كان أحد ما شغلهم أنهم اجتازوا بقوم من اليهود يدفنون ميتا لهم بالنّخيلة، فشغلهم قتلهم فلم يصلوا إلى الكوفة إلا وقد صلى إسحاق بن عمران بالناس «2» العيد، وانصرف والناس متبدّدون في ظاهر الكوفة ومنهم من قد انصرف، ولاسحاق بن عمران «3» طلائع تتفقد، وكان ذلك لأمور قد أرجف الناس بها فى البلد، من فتن تحدث من غير جهة القرامطة، وقيل كانت عدّتهم ثمانمائة فارس وأربعمائة راجل: وهم يقاتلون على طمع وشبهة، فأقبلوا يقدمهم هذا المكنى بأبى الحسين. قال: وكان أحد الألطاف أنّ إسحاق بن عمران قد أحدث مصلى بالقرب من طرف البلد فصلى فيه، وكان الرجوع منه إلى البلد سهلا، فقصدت القرامطة المصلى العتيق، على ما كانوا يقدرون من اجتماع الناس فيه، فلم بصادفوا فيه أحدا،(25/262)
فأقبلت خيل منهم من تلك الجهة، فدخلوا الكوفة من يمينها، فوضعوا السيف حتى وصلوا إلى حبسها ففتحوه، وقتلوا كثيرا من الناس وأخرجوا خلقا، فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح، وتكاثر الناس على من دخل الكوفة من القرامطة، فقذفوهم بالحجارة فقتل منهم جماعة، وأقبل جل القوم نحو الخندق فقتلوا ناسا، وناوشهم طوائف من الجند تخلفوا بالصحراء وبعض ما كان أنفذ إسحاق بن عمران طليعة، فقتلوا بعضهم وأفلت بعضهم إلى البلد، وكان إسحاق بن عمران قد انصرف في أحسن زى وأجمله، فلما صار قرب داره تفرّق الجيش عنه إلا خواصا، كان قد عمل لهم سماطا في داره، فلما سار في بعض الطريق لحقه فارس من بنى أسد على فرس له بلقاء، قد طعنت في عنقها ودمها سائل على كتفها إلى الحافر، فشق الجند وزاحم غلمانه وجاوز إسحاق بن عمران، ثم قلب رأس فرسه إليه فوقف له، فقال: جاءتنا أيها الأمير خيل من الأعراب، فقتلت وسلبت وخرجت إلى الصحراء، فلما رددناهم طعنت فرسى، فقلب إسحاق بن عمران فرسه راجعا، وأمر بإخراج الجند نحو الخندق، وبين يدى إسحاق بن عمران نحو من ستين راجلا، ومعه غلمانه ونفر يسير من الجند، حتى إذا صار عند قصر عيسى بن موسى ومعه أبو عيسى صالح بن على بن يحيى الهاشمى يسايره فالتفت إليه، وقال: خذ هؤلاء الرجّالة وامض إلى قنطرة بنى عبد الوهاب- وهى إحدى قناطر الخندق- فاكشفها، فأخذهم ومضى، وتقدّم إلى عبد الله الحسين بن عمر العلوى أن يدور في البلد ويسكّن الناس، فدار وعليه السواد فسكن الناس، وخرج كثير(25/263)
من الناس بالسلاح، وتفرّق من دخل الكوفة من القرامطة لمّا رماهم أهلها، وقتل بعض القصابين رجلا منهم بساطور، وكان فيمن تفرّق منهم رجل من كلب يعرف بالمقلقل، وهو أحد رجالهم وشجعانهم في جمع معه، فأفضى به الطريق إلى دار عيسى بن على، فلقيهم أحد الفرسان من الجند يعرف بالوردانى، قد ركب لمّا سمع الصيحة، فلم يشك أنّهم من الجند لما رأى من كثرة الجواشن عليهم والدروع، فقال لهم: سيروا يا أصحابنا، فأمسكوا عنه حتى توسّطهم ثم عطفوا عليه بالسيوف فقتلوه، وأخذوا دابّته وساروا نحو الخندق للقاء أصحابهم، فلما صاروا بالصحراء من الكوفة نظر إليهم أبو عيسى، فلم يشك أنّهم من أصحاب السلطان، ثم نظر إليهم وقد لقوا جماعة من العامّة، فأقبلوا يسلبونهم، فتبيّن أمرهم فحمل عليهم فعدلوا عن سلب أولئك، وحمل فارسهم المقلقل- وكان رجلا عظيما جسيما- وفي يده سيف عريض، فالتقى هو وأبو عيسى فطعنه أبو عيسى تحت ثندوته «1» فصرعه، فحذفه المقلقل بالسيف فأصاب جحفلة «2» فرسه فعقره، وأمر أبو عيسى بعض الرجّالة فاحتزّ رأسه ووجّه به إلى إسحاق بن عمران، وقد رفع رأسه، فكان ذلك أحد ما كسرهم؛ قال: واجتمعت الخيل والرجّالة فقاتلهم إسحاق بمن معه- وليسوا بالكثيرين- قتالا شديدا، فى يوم صائف شديد الحرّ طويل إلى الزوال، وخرج الناس من العامّة فانصرف القرامطة مكدودين(25/264)
فنزلوا العدير على ميلين من الكوفة وارتحلوا عشيا نحو سوادهم، واجتازوا بالقادسية، وقد وصل إليهم رسول إسحاق بن عمران، فحذّرهم أمرهم يعنى حذّر أهل القادسيّة، وعرف يومئذ صبر إسحاق ابن عمران على حملاتهم وتشجيعه لأصحابه.
قال: وأخرج إسحاق بن عمران مضاربه بظاهر الكوفة، وخرج إليه أصحابه فعسكر، وبات الناس بالكوفة على غاية الجزع والتحارس ونصب الحجارة على الأسطحة؛ قال: ولما وصلت القرامطة إلى عين الرحبة وكانوا قد خلّفوا سوادهم هناك،؟؟؟ فرحلو ثم وساروا بهم فنزلوا عينا بسرّة العذيب تعرف بعين عبد الله، ثم رحلوا فنزلوا قرية تعرف بالصوّان على نهر هد من سواد الكوفة، ثم مضى أبو الحسين إلى قرية تعرف بالدرنه «1» على نهر زياد من سواد الكوفة، فخرج إليه بها زكرويه وكان من أمره ما نذكره.
ذكر ظهور زكرويه بن مهرويه وقتاله عساكر الخليفة وأخذه الحاج وما كان من أمره الى أن قتل
كان ظهور زكرويه بن مهرويه في سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وذلك أنّه لما وصل القاسم بن أحمد إلى الدرنة خرج زكرويه إليه(25/265)
منها، وكان بها مستترا كما ذكرنا فيما تقدّم، فقال القاسم للعسكر:
هذا صاحبكم وسيّدكم ووليّكم الذى تنتظرونه، فترجّلوا بأجمعهم وألصقوا خدودهم بالأرض، وضرب لزكرويه مضرب عظيم وطافوا به وسرّوا سرورا عظيما، واجتمع إليه أهل دعوته من أهل السواد فعظم جيشه جدا، وكان إسحاق بن عمران قد كتب إلى العباس بن الحسن «1» وزير المكتفى- يخبره خبر القرامطة ومهاجمتهم على الكوفة وما كان من خبرهم، وأثنى على من عنده من الجند وذكر حسن بلائهم، فلما وصل إليه الكتاب قلق له، وشاور بعض أصحابه في لقاء الخليفة المكتفى بالله بذلك، فأشار عليه بتعجيله بذلك، فقال الوزير:
كيف ألقاه بهذا مع ما يحتاج إليه من الأموال ولعهدى به، وقد ناظرنى منذ يومين في دينار واحد، ذكر أنّه فضل بقيّة نفقة رفعت إليه، فقال له صاحبه: أيها الوزير إن أسعفك وإلا ففى أموال خدمك وأسبابك فضل فوظفها علينا، وتنفق فيها، فقال: فرّجت، والله- عنى، ثم لبس ثيابه وأبى إلى المكتفى بالله فدخل عليه في غير وقت الدخول فعرّفه الخبر، فقال له المكتفى: كأنّك يا عباس قد قلت: كيف أخبر أمير المؤمنين بمثل هذا وقد ناظرنى في دينار فضل نفقة! فقال: قد كان ذاك يا أمير المؤمنين، قال: إنّما جرى ذلك لمثل هذا، فلا تبخل بمال في مثل هذا، وأباحه الأموال والإنفاق في(25/266)
الرجال ليلا ونهارا، فأنفذ الوزير جنىّ «1» الصفوانى ومباركا القمّى ونحرير العمرى ورائقا وطائفة من الغلمان الحجرية وجماعة من القوّاد فى جيش عظم، فوصل أوائلهم في اليوم السادس من يوم النحر، فركب إليهم إسحاق بن عمران وذكر لهم قوّة من لقى من القرامطة، وأنّه قد مارسهم، وحذّرهم أن يغتروا بهم، وقال لهم: سيروا إلى القادسيّة فإنّ بينكم وبينها مرحلة، وإذا صرتم بها فأريحوا واستريحوا وتجمّعوا، ثم سيروا إليهم وطاولوهم ونازلوهم فإنّ الظفر برجى بذلك فيهم عندى، ولا ترموا بأنفسكم عليهم فإنّهم صبر غير أنكال، فقال له بشر الأفشينى: إن رأيناهم كفيناك القول يا أبا يعقوب، إنما نخشى أن يهربوا، فدعا لهم بالنصر ورحلوا نحو القادسيّة، فباتوا بها ليلة ورحلوا في آخرها إلى الصوّان، وبين الموضعين نحو العشرة أميال، ورحلوا بالأثقال والفهود والبزاة وهم على غير تعبئة مستخفّين بهم، فأسرعوا السير ووصلوا وقد تعب ظهرهم وقلّ نشاطهم وقد عمد القرامطة فضربوا بيوتهم إلى جانب جرف عظيم لنهر هناك وأثقالهم مما يلى البيوت، والرجّالة في أيديهم السيوف، وقتالهم من وجه واحد صفا واحدا قدّام البيوت بقدر نصف غلوة، والفرسان جلوس خلف الرجّالة، فلما تراءى الفريقان ركب الفرسان وافترقوا فصاروا جناحين للرّجالة، وحملوا على الناس فصدقوهم الحملة فانكفأوا راجعين، وتلاقى الرجّالة من الفريقين، فأتت رجّالة العسكر على رجّالة القرامطة وألجأوهم إلى البيوت، وأقبلت الفرسان فنظروا إلى(25/267)
الرجّالة ينهبون بيوتهم، فترحّلوا وحمّلوا خيلهم الأمتعة، وكانت القرامطة في مجنبات الناس لما رأوا من صدق القتال، فلما رأوا الناس قد حمّلوا الدواب والجمازات وتشاغلوا حملوا على الجمازات والبغال بالرماح، فأقبلت لا يردّها شىء عن الناس تخبطهم، فانهزم الناس ووضع السيف فيهم، وقتل الأكثر وتبع الأقل نحو القادسيّة وفيهم مبارك القمّى، فأقاموا ثلاثا يجمعون السلب والأسرى، وجمع زكرويه الآلة والمتاع والأثاث والجمازات، فقيل إنّه أخذ ثلاثمائة جمل وخمسمائة بغل ممّا كان للسلطان سوى ما أخذ للقواد، وقيل إنّه قتل ألفا وخمسمائة رجل، فقوى أصحابه جدا، ودخل الكوفة فلول الجيش عراة.
ورحل زكرويه يريد الحاج وبعث دعاته إلى السواد، فلم يلحق به فيما قيل إلا النساء والصبيان، قال: ولما وقف الخليفة على صورة الأمر عظم عليه وعلى الناس وخافوا على الحجّاج، فأنفذ المكتفى بالله محمد بن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب زكرويه، وضمّ إليه خلقا عظيما وجماعة من القوّاد ونحو ألفى رجل من بنى شيبان واليمن وغيرهم، وكان زكرويه قد نزل على عين «1» الزبيديّة، ثم نزل على أربعة أميال من واقصة، فوافت القافلة لست أو سبع خلت من المحرم من سنة أربع وتسعين ومائتين، فأنذرهم أهل المنزل بالفرامطة فلم يتزلوا وطووا، فنجّاهم الله عزّ وجلّ، وكان(25/268)
معهم من أصحاب السلطان الحسن بن موسى وسيما الابراهيمى، فلما وافى زكرويه واقصة تعرّف الخبر فعرف أنّهم قد حذّروهم، فقتل جماعة من أهل المنزل ونهب وأحرق الحشيش وتحصّن الباقون منه، ورحل فلقيته الخراسانية من الحجّاج على الأرض البسيطة التى تخرج منها حجارة النار، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم، وليس معهم أحد من أصحاب السلطان، فرشقوا القرامطة بالنشّاب وقد أحاطوا بهم فانحازوا عنهم، ثم تقدّم إلى الحاج جماعة منهم فسألوهم: هل فيكم سلطان، فإنّا لا نريدكم؟ فقالوا لهم: لا، إنما نحن قوم حجّاج، فقال لهم زكرويه: امضوا، فرحلوا وأمهلهم حتى ساروا ثم قصدهم، يبعج الجمال بالرماح حتى كسر بعضها بعضا واختلطت، ووضع السيف فقتل خلقا عظيما واستولى على الأموال.
وقدم محمد بن إسحاق بن كنداج الكوفة ثم رحل إلى القادسية فلما وقف على خبر مسيرهم نحو واقصة أنفذ علّان بن كشمرد في خيل جريدة، حتى لقى فلّ الخراسانيّة فأشاروا عليه أن يلحق الحاج فإنّ القافلة الثانية تنزل العقبة الليلة أو من غد، فحثّ حتى تسبق إليها فتجتمع أنت ومن فيها على قتال الكفرة، الله الله في الناس أدركهم، فرحل راجعا نحو القادسية وقال: لا أغرّر برجال السلطان للقتل، فلقى بعد ذلك من المكتفى شرا؛ وورد زكرويه العقبة يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من المحرم وفي القافلة مبارك القمّى وأحمد ابن نصر الديلمى وأحمد بن على الهمذانى، وقد كانت كتب المكتفى اتصلت إلى أمراء القافلة الثانية والثالثة مع رسله، يأمرهم أن يتجنّبوا الطريق ويرجعوا إلى المدينة، ويأخذوا على طريق البصرة أو غيرها(25/269)
فلم يفعلوا ذلك، ولما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا فكانت الغلبة لأصحاب السلطان حتى لم يشكّوا في ذلك، ثم خرج اللعين زكرويه إلى آخر القافلة وقد رأى خللا هناك، فعمل في الجمال كما عمل في جمال الخراسانية، وقتل سائر الناس إلا يسيرا استعبدهم أو شريدا، ثم أنفذ خيلا فلحقت من أفلت من أوائل القوم حتى ردّوهم إليه، فقتلهم وأخذ النساء وجميع ما في القافلة، وقتل مباركا القمّى ومظفّرا ابنة وأسر أبا العشائر، فقطع يديه ورجليه وضرب عنقه، وأطلق من النساء ما لا حاجة له فيها، ووقع بعض الجرحى بين القتلى حتى تخلّصوا ليلا، ومات كثير من الناس جوعا وعطشا، وورد من قدّم من الناس يخبرون أن نساء القرامطة كنّ يطفن بين القتلى فيقلن:
عزيز علينا، من يرد ماء نسقيه، فإن كلّمهنّ جريح مطروح أجهزن عليه، قال: ويقال إنّ جميع القتلى كانوا نحوا من عشرين ألفا، وأخذ من الأموال ما لا يحصى كثرة.
قال: ولما اتصل خبر القافلتين بمدينة السلام جاء الناس من ذلك ما شغلهم، وتقدّم السلطان باخراج المال وإزاحة العلل، وأخرج العباس بن الحسن ومحمد بن داود الجرّاح الكاتب المتولى دواوين الخراج والضياع بالمسير إلى الكوفة لانقاذ الجيش منها، وحمل معه أموالا عظيمة، وقال: كلّما قرب نفاد ما معك كاتبنى لأمدّك بالأموال، وخرج إليها يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم، وقدّم خزانة سلاح جعلها بالكوفة فما زالت بقاياها هناك إلى أن أخذها الهجرىّ. قال: ثم رحل زكرويه يريد القافلة الثالثة فلم يدع ماء في طريقه إلا طرح فيه جيف الموتى، ونزل زبالة فقتل من(25/270)
بها من التجار، ونهب الحصن وبث الطلائع خوفه من لحوق عسكر السلطان به، فلما أبطأت القافلة عليه فنزل الشّقوق ثم نزل في رمل يقال له الهبير والطليح، وأقام ينتظر القافلة وفيها من الفوّاد نفيس المولدى، وعلى ساقتها صالح الأسود ومعه الشّمسة، وكان المعتضد جعل فيها جوهرا نفيسا ومعه الخزانة، وكان في القافلة من الوجوه إبراهيم «1» بن أبى الأشعث، ومعه كاتبه المنذر بن إبراهيم وميمون ابن إبراهيم الكاتب وكان إليه ديوان الخراج، والفرات بن أحمد ابن محمد بن الفرات، والحسن بن إسماعيل قرابة العبّاس بن الحسن، وعلى بن العبّاس النّهيكى وغيرهم من الرؤساء، وخلق من مياسير التجّار وفيها من المتاجر والرقيق ما يخرج عن الوصف، وفيها جماعة من الأشراف منهم أبو عبد الله أحمد بن موسى بن جعفر وجماعة من أهله، فأصاب بعضهم جراحات وأسر بقيّتهم، فعرفهم بعض المولّدين من وجوه عسكره فأخبره يهم، فخلّى لأبى عبد الله أحمد بن موسى وأهله الطريق، ومكّنهم من جمال تحمّلوا عليها، وكان أحمد بن موسى أحد من دخل بغداد وخبّر السلطان بأمرهم وجلالة حالهم؛ وأقاموا بفيد وقد اتّصل بهم أنّهم ينتظرون مددا من السلطان ففعل ابن كشمرد ما فعل من رجوعه إلى القادسيّة ولم ينجدهم، فلمّا طال مقامهم نفذ ما في المنزل وغلا السعر جدا، وجلوا عن الأجفر والخزيميّة ثم الثعلبية ثم الهبير، فلم يستتم نزولهم حتى ناهضهم زكرويه فقاتلهم يومهم كلّه، ثم باتوا على السواء، ثم باكرهم فقاتلهم(25/271)
فبينما هم كذلك إذ أقبلت قافلة العمرة، وكان المعتمرون يتخلّفون للعمرة بعد خروج الحاج إذا دخل المحرّم، وينفردون قافلة واحدة وانقطع ذلك من تلك السنة، فاجتمع الناس وقاتلوهم يومهم، ونفذ الماء وعطشوا ولا ماء لهم هناك، وباتوا وزكرويه مستظهر عليهم، ثم عاودوهم القتال حتى ملك القافلة، فقتل الناس وأخذ ما فيها من حريم ومال وغير ذلك، وأفلت ناس قليل قتل أكثرهم العطش، ثم سار مصعدا نحو فيد فتحصّن منه أهلها، فطاولهم فصبروا عليه ونزل منهم ثمانية عشر رجلا بالحبال من رأس الحصن، فقاتلوا رجّالتهم قتالا شديدا وقد أسندوا ظهورهم بسور الحصن، ورمى أهل الحصن بالحجارة؛ قال: سمعت داود بن عتاب الفيدى- وكان نبيلا صدوقا- قال: نزلنا إليهم نحو أربعين رجلا متزرين بالسراويلات، وقد كان لحقهم- لا أدرى- عطش قال أو جوع، قال: فطردناهم فمالوا «1» إلى حصن يقرب منّا، قد كان بيننا وبين أهله عداوة قديمة، فأخذوا منهم الأمان ونزلوا ليفتحوا لهم، فقال بعضنا لبعض:
إن ظفروا به أخذوا منه ما يحتاجون إليه، وعادوا إليكم، قال:
فطرحنا أنفسنا عليهم وأحسّ بذلك أهل الحصن فقويت قلوبهم، وخرجوا فكشفناهم، وتبعهم جماعة منّا فسلبوا منهم جمالا، وكان ذلك سبب صلاحنا مع أصحاب الحصن.
قال الشريف: ولم يبق دار بالكوفة وبغداد والعراق إلا وفيها مصيبة وعبرة سايلة وضجيج وعويل، حتى قيل إنّ المكتفى اعتزل(25/272)
النساء هما وغما، قال: وخفى أمر زكرويه، لا يعلم أين توجه، وقد كان أخذ ناحية مطلع الشمس، فتقدّم المكتفى يتتبّع أحواله وإشحان البلدان- التى يخاف مصيره إليها- بالرجال، وأنفذ وصيف ابن صوارتكين ولجيم بن الهيصم والقاسم بن سيما في جيش عظيم بالميرة والزاد والمال والجمال، لاستقبال الناس وإزاحة عللهم، وتقدّم يطلب زكرويه حيث كان، إلى أن وردت كتب أهل فيد بخبره، فكوتب عند ذلك إسحاق «1» بن كنداج بأن يلزم القادسيّة ونواحى الكوفة بجيشه، وكوتب لجيم بالمسير إلى خفّان ومعارضة زكرويه حيث كان، وأن ينفذ الطلائع والأعراب ويرغّبوا في تتبّع حاله حتى يعرف، فجاءت الأخبار بما غلب على ظنّهم، أنّه لم يخط ناحية البصرة وأنّه يقصد الاجتماع مع أبى سعيد الجنابى وهو المقدّم ذكره، فاجتمع القوّاد وتشاوروا واستقبلوا طريقا يقال له الطريق الشامى، ويقال له طريق الطف وهو بين الكوفة والبصرة، وعملوا على المقام هناك ليكونوا بين الكوفة وواسط والبصرة، فساروا مستدبرى القبلة مستقبلى البصرة يرتحلون من ماء إلى آخر، حتى نزلوا يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومائتين ركيا فيه ماء بقرية خراب يقال لها صماخ، كان يسكنها على قديم الدهر قوم من ربيعة يقال لهم بنو عنزة، وبين هذا الموضع وبين البصرة ثلاثة أيام، فلقيهم قوم من الأعراب فخبّروهم أن القرامطة بالثنىّ، وهو موضع من ذى قار الذى كانت فيه وقعة العرب مع العجم في أيام(25/273)
كسرى، وهو واد كثير الماء العذب وبينه وبين صماخ عشرة أميال، فبات الجيش بصماخ وتراءت الطلائع في عشى يومئذ، ورحل زكرويه من غد وهو طامع بالظفر، فالتقوا بقرية خراب يقال لها إرم، بينها وبين الثنىّ ثلاثة أميال، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول، فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان جميعا، ثم انهزم كرويه فقتل الجيش أكثر من معه، وأسر خلق كثير منهم وأفلت صعاليك من العرب على الخيل مجرّدين، ووصل إلى زكرويه- وهو في القبّة- فى أوائل السواد، فظنّوا أنّه في الخيل التى انهزمت، فقذف رجل بنار فوقعت في قبّته فخرج من ظهرها فألقى نفسه من مؤخّرها ولحقه بعض الرحّالة- وهو لا يعرفه- فضربه على رأسه ضربة أثخنته فسقط إلى الأرض فأدركه صاحب للجيم كان يعرفه فأخذه وصار به إليه، فأخذه لجيم وأركب الذى جاءه به نجيبا فارها، وقال له:
طر- إن أمكنك- حتى تأتى بغداد، وعرّف العبّاس بن الحسن الوزير أنّك رسولى إليه، واشرح له ما شاهدت وسلّم إليه الخاتم، فسار حتى دخل بغداد وأعلمه بالخبر.
قال: ومضى لجيم إلى وصيف والقاسم بن سيما فعرّفهما خبر زكروية واجتمعوا جميعا وكتبوا كتاب الفتح، ونهب الجيش عسكر القرامطة وأخذت زوج زكرويه واسمها مؤمنة وأخذ خليفته وجماعة من خاصّته وأقربائه وكاتبه، وانصرف العسكر نحو الكوفة فمات زكرويه بخفّان من جراحات أصابته، فصبّر وكفّن وحمل على جمل إلى بغداد، وأدخلت جثّته وزوجته وحرم أصحابه وأولادهم والأسرى ورؤوس من قتل بين يديه وخلفه ونساؤه في الجوالقات.(25/274)
قال ابن الأثير «1» : وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم أصحاب الحسين بن حمدان فقتلوا عن آخرهم، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحدّاد والآخر بالمنتقم وهو أخو امرأة زكرويه، كانا قد توجّها إليهم يدعوانهم إلى الخروج إلى صاحبهم، فسيّروهما إلى بغداد، وتتبّع الخليفة القرامطة بالعراق فقتل بعضهم وحبس بعضهم، وبادت هذه الطائفة منهم بالعراق مدّة.
ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بعد مقتل زكرويه بن مهرويه
قال الشريف أبو الحسين: ولمّا قتل زكرويه سكن أمر القرامطة وانقطعت حركاتهم وذكر دعوتهم، فلما دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين خرج رجل من السواد من الزطّ يعرف بأبى حاتم، فقصد أصحاب البورانى خاصة، وكان هذا البورانى داعيا وأصحابه يعرفون بالبورانيّة، فلما ظهر أبو حاتم حرّم عليهم الثوم والكرّاث والفجل، وحرّم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان، وأمرهم بأشياء لا يقبلها إلا الأحمق السخيف من ترك الشرائع، وهذه الطائفة من القرامطة تعرف بالبقليّة.
وأقام أبو حاتم هذا نحو سنة ثم زال، ثم اختلفوا بعده وكانوا أهل قرى بسواد الكوفة، فقالت طائفة منهم زكرويه بن مهرويه(25/275)
حى، وإنّما شبّه على الناس به، وقالت فرقة منهم الحجة لله محمد ابن إسماعيل.
ثم خرج رجل من بنى عجل قرمطى يقال له:
محمد بن قطبة فاجتمع له نحو من مائة رجل، فمضى بهم إلى نحو الجامدة من واسط، فنهب وأفسد فخرج إليهم أمير الناحية فقتلهم وأسرهم.
ذكر أخبار أبى طاهر سليمان بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى
قد قدّمنا أخبار أبيه أبى سعيد وحروبه وما استولى عليه، وذكرنا خبر مقتله وولاية ابنه سعيد، وأنّه سلّم الأمر إلى أخيه أبى طاهر سليمان، هذا في سنة خمس وثلاثمائة، وقد قيل بل عجز سعيد عن الأمر فغلبه عليه أخوه أبو طاهر سليمان. قال: وكان شهما شجاعا، وكان الخليفة المقتدر بالله قد كتب إلى أبى سعيد كتابا ليّنا في معنى من عنده من أسرى المسلمين، وناظره وأقام الدليل على فساد مذهبه، فلما وصلت الرسل إلى البصرة بلغهم موته، فكتبوا بذلك إلى الخليفة فأمرهم بالمسير إلى ابنه، فأتوا أبا طاهر بالكتاب فأكرم الرسل وأطلق الأسرى وأجاب عن الكتاب، ثم تحرّك أبو طاهر بعد ذلك في سنة عشر وثلاثمائة، وعمل على أخذ البصرة فعمل سلاليم عراضا، يصعد على كل مرقاة اثنان بزارفين- إذا احتيج إلى نصبها وتخلع إذا أريد حملها، ورحل بهذه السلالم المزرقنة يريد البصر،(25/276)
فلما قرب منها أمهل إلى أن جنّ الليل، وأمر باخراج الأسنّة وقد كانت وضعت في رمل كيلا تصدأ فركّبت على الرماح، وفرّق الجنن «1» على أصحابه، وحشيت الغرائر بالرمل وحمّلت على الجمال وحمّلت أشياء من حديد قد أعدّت لما يحتاج إليه، ثم سار بأصحابه إلى السور قبل الفجر، فوضعوا السلالم وصعد عليها قوم من جلداء أصحابه، وتقدّم إليهم بقتل من يتكلم من الموكّلين بالأبواب، ودفع للآخرين ما أعدّه لكسر الأقفال، وقد كان التوانى وقع في أرزاق الموكّلين على الأبواب، فتفرّقوا للمعاش إلا بقيّة من المشايخ القدماء فإنّ أرزاقهم كانت جارية عليهم، فصادفوا بعضهم هناك تلك الليلة فتسوّروا ونزلوا ووضعوا السيف عليهم، وجاء الآخرون فكسروا الأقفال ودخل القرامطة، فأوّل ما عملوا أن طرحوا الرمل المحمول معهم في الأبواب نحو ذراع، ليمنعوا غلقها إلا بتعب، وساروا ونذر بهم قوم فبادروا سبكا «2»
المفلحى وهو يومئذ الأمير فأعلموه، فركب وقد طلع الفجر ومعه بعض غلمانه فتلقوه وقتلوه، وفزع الناس وركبت الخيل فقتل من تسرّع منهم، وكانت العامّة قد منعها السلطان أن تحمل سلاحا، فاجتمعوا بغير سلاح ومعهم الآجر، وحضر سبك واجتمعت الجند ووقعت الحرب، فأصابت القرامطة جراحات والقتل في العامّة كثير، واستمرّ ذلك إلى آخر النهار واختلاط الظلام، ثم خرج القرامطة وقد قتلوا من الناس مقتلة عظيمة إلى خارج(25/277)
البلد فباتوا خارج الدرب، وخرج الناس بعيالاتهم فركبوا السفن، وباكر أبو طاهر البلد فنزل دار عبد السلام الهاشمى، وتفرّق أصحابه في البلد يقتلون من وجدوا وينهبون ما يجدون في المنازل، ويحمل ذلك إلى موضع قد أمر بجمعه فيه.
وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل «1»
: أن دخولهم البصرة كان في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وأنّه وصل إليها في ألف وسبعمائة رجل، وأقام بها سبعة عشر يوما يحمل منها ما يقدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان، وعاد إلى بلده.
قال الشريف: وتراجع الناس فاشتغلوا بدفن من قتل، ولم يردّ كثير منهم حريمه خوفا من عود القرامطة، قال: ولما اتصل خبر هذه الحادثة بالسلطان أنفذ ابن نفيس «2»
في عدة وعدة فسكن الناس، وولى البلد فشحن السور بالرجّالة، وتحرّز الناس وأعدوا السلاح؛ قال: وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلّد أعمال الكوفة وقصر ابن هبيرة والسواد وطريق مكة، فجرى بينه وبين البورانى وقائع عظيمة حتى ردّهم عن عمله بشجاعته وإقدامه، فعمرت البلاد وأمن الناس وصلحت الطرق واستقام عزّ السلطان، فوقف القرمطى من ذلك على ما هاله، وكانت جواسيس أبى طاهر لا تنقطع عن العراق في صور مختلفة، واتّصل به أنّ أبا الهيجاء يهوّن أمره ويتمنّى أن ينتدب لحربه، فخاف ذلك ولم يأمنه.(25/278)
ذكر أخذ أبى طاهر الحاج وأسره ابن حمدان وما كان من أمره في اطلاقه
؟؟؟ كانت هذه الحادثة في سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة، وذلك أن أبا طاهر بن أبى سعيد الجنابى القرمطى أنفذ رجلا من جواسيسه إلى مكة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد خرجت قوافل الحاج مع أبى الهيجاء بن حمدان في تلك السنة، فكان الجاسوس يقوم على المحجّة فيقول: يا معشر الناس ادعوا على القرمطى عدوّ الله وعدوّ الاسلام، ويسأل عن أمير الحاج وفي كم هو وكم أرزاقهم، ويسأل عمّن خرج من التجّار وما معهم من الأموال، فكان ذلك دأبه حتى قضى الحج، ثم خرج في أوّل النفر فأسرع إلى سواد باهلة، ثم إلى اليمامة وصار إلى الأحساء في أيام يسيرة، فأخبر سليمان القرمطى بصورة الأمر، فوجّه سليمان من يثلّ «1»
الآبار بينه وبين لبنه «2»
وبعض آبار لبنه ويسوّى حياضها، وورد بعض الأعراب إلى أبى الهيجاء- وهو بعيد ينتظر رجوع الحاج وذلك في آخر ذى الحجة من السنة- فأخبره أنّ آبار لبنه قد ثلت فاستراب بذلك، وجاء بعض الأعراب بجلّة «3»
فيها قطعة من تمر هجّر فتيقّن أمر القرامطة، فشغل ذلك قلبه، وجاءه ما لم يقدره ولا ظنه فاضطرب من ذلك اضطرابا شديدا، وورد حاتم الخراسانى بقافلة(25/279)
الحاج من مكة ثانى ذلك اليوم، ومعه قافلة عظيمة، فزاد ذلك في شغل قلب أبى الهيجاء لخوفه عليه، ولم يظهر ذلك لحاتم ولا لغيره ثم ارتحل فلم يعترض عليه، فلما صار حاتم بالثعلبيّة أنهى إليه شىء من أخبار القرامطة وأنّهم بلبنه، وكان القرمطى رحل من بلده في ستمائة فارس وألف راجل، وسار حاتم فاجتاز بالهبير ليلا فلم ينزله، وسار حتى نزل الشقوق، وأغذّ السير وسلّمه الله ومن معه، ونزلت بفيد قافلة أخرى من غد رحيل حاتم من الخراسانيّة، ثم ساروا عنها حتى إذا كانوا بالهبير ظهر لهم أبو طاهر سليمان القرمطى، فقتل بعضهم وأفلت البعض حتى وردوا الكوفة، فاشتد خوف الناس بالكوفة على الحاج واضطربوا، إلا أن نفوسهم قويّة بمقام أبى الهيجاء بفيد، وكان أبو الهيجاء قد أنفذ رجلا طائيا يعرف له أخبار القرامطة، يقال له مسبع بن العيدروس من بنى سنبس- وكان خبيرا بالبرّ، وتقدّم إليه أن يسرع إليه بالخبر ويعدل عن الطريق، ومعه جماعة قد أزاح عللهم في الرزق والمحمل، فساروا حتى قربوا من لبنه فنزل إليهم فارسان، فركبوا خيولهم وتلقّوهما فتطاردوا، وقصّرا في الركض وهبطا واديا خلفهما وخرجا منه، ولحقتهم الخيل فساروا على أرض جدب، فدفع عليهم نحو من سبعين فارسا، فلم ينته حتى طعنت فيهم وضربت، فرجع القوم على خيل مطرودة وخيول القرامطة مستريحة، فبالغوا في دفعهم بكل جهد فلم تك إلا ساعة حتى قتلوا جميعا، وأسروا مسبعا دليل القوم فحملوه إلى لبنه، فسأله القرمطى وقال: إن صدقتنى أطلقتك، فلما أخبره أمر بحفظه، قال: ولم بمض لأبى الهيجاء يومان بعد إرسال الطليعة حتى وردت قوافل الحاج(25/280)
وأصحاب السلطان معها، وفيها من الوجوه أحمد بن بدر، عم السيدة أم المقتدر بالله، وشفيع الخادم، وفلفل الأسود صاحب خزانة السلطان، وإسحاق بن عبد الملك الهاشمى صاحب الموسم وغيرهم، فأعلمهم أبو الهيجا الخبر فأجالوا الرأى، فقال لهم: قد أنفذت رجالا أثق بهم طليعة، وأخذت عليهم ألا يرجعوا حتى يشربوا من لبنه والصواب التوقّف عن الرحيل لننظر ما يأتون به، فعملوا على ذلك وأقاموا بفيد ستة أيام، ونزلت القافلة الوسطى فيد وكثر الناس وغلت الأسعار، ولم يقدروا على حشيش للعل؟؟؟ ولا خبز، فضجّ الناس وأجمعوا على الرحيل فرحلوا عن فيد يوم الأحد، وخلّف أبو الهيجاء ابن أخيه على بن الحسين بن حمدان بفيد، في خيل ينتظرون الحاج الذى مع قافلة الشّمسة؛ قال: وكان الحاج قبل ذلك يسيرون قافلة بعد قافلة لكثرتهم، ومن أراد أن يسير بعد الحاج سمار، ومن أراد أن يتخلّف ليعتمر في الحرم تخلّف، وكان الأمر يحملهم على ذلك فيسيرون قافله بعد قافلة؛ قال: ثم وردت قافلة الشمسة فيد، فجاءهم بعض التجار بخبر ما اتصل بأبى الهيجاء، وكان في القافلة أبو عيسى صالح ابن على الهاشمى، وجماعة من العبّاسيين، وأبو محمد بن الحسن «1»
ابن الحسين العلوى وعمر بن يحيى العلوى وغيرهما من الطالبيين وتجار الكوفة، فتجلّت حقيقة الأخبار من أمر القرامطة، فاجتمعوا في مضرب أبو عيسى وتشاوروا، فاجتمع رأيهم على المقام بفيد إلى أن ترتحل القافلة، ثم ينظروا لأنفسهم في عرب يخرجون معهم إلى الكوفة، فأقام(25/281)
الناس بفيد يومهم ثم رحلوا بكرة، فلما جاوزوا المنزل افتقد على ابن الحسين بن حمدان من تخلّف من القافلة، فسأل عنهم فأخبر بتخلّفهم فرجع إلى فيد ومعه بعض أصحابه فاجتمع بهم، وسألهم عن تخلّفهم فقالوا بأجمعهم لا تحبّ سلوك هذه الطرق، ودافعوا عن الأخبار بسبب تخلّفهم، وقالوا له: أنت وعمّك بريّان منّا، قال:
اكتبوا إلى خطوطكم بذلك، ففعلوا، وانصرف فسار بالناس فلما وصل إلى عمّه أبى الهيجاء عرّفه ذلك، فلامه عليه وقال: وددت أنّ جميع من ترى كان معهم، قال: ولمّا سارت القافلة مع على بن الحسين بن حمدان أحضر هؤلاء الذين تخلّفوا بفيد ابن نزار وابن توبة تاجرين من أهلها، فعرّفوهم حاجتهم إلى من يسلك بهم إلى الكوفة على غير طريق الحاج، فجمعوا لهم جماعة من سنبس وتوصلوا بهم إلى بنى زبيد من الطائيين، ثم أخذوا ينزلون على العرب يقاتلون من قاتلهم، ويصلون من استرفدهم ويبرّون ويخلعون، فسلّمهم الله حتى وردوا الكوفة، وذلك بعد شدائد عظيمة وقتال في مواضع، ولم يسلم من الحاج غيرهم والقافلة الأولى التى كانت مع حاتم.
قال: ولمّا وصل على بن الحسين بن حمدان إلى عمّه أبى الهيجاء اجتمعت القوافل، وكثر الناس، وتجلّى لهم خبر القرامطة وصحّ، فسار أبو الهيجاء بالناس إلى الخزيميّة ثم إلى الثعلبيّة، ثم ساروا يريدون البطان «1»
، واجتمع الناس من أصحاب السلطان والرؤساء(25/282)
فتشاوروا، فلم يدع الأمير أبو الهيجاء الاستعاثة بالقوم يقول: ارجعوا ودعونى ألقى القرامطة في أصحابى، فإن أصبت فمعكم من تسيرون معه، وإلا فامضوا إلى وادى القرى أو المدينة أو غير ذلك، وإن ظفرت وجّهت إليكم فعدتم وقد زال المحذور، ولم يزل يردّد عليهم هذا القول من الأجفر إلى الثعلبيّة، فمنهم من أجاب ومنهم من أبى ذلك وقال:
لانفترق، وكان أحمد بن بدر عم السيّدة ممن أبى ذلك وصمّم على الملازمة، فعمل ابن حمدان بما أرادوه دون رأية، وبات الناس على أميال بقيت من البطان والأحمال على ظهور الجمال، وذلك ليلة الأحد لأيام خلت من صفر، فلما أضاء لهم الفجر ارتحلوا، وقدّم أبو الهيجاء ستمائة راجل من الأولياء، كان السلطان أبعدهم لكثرة شغبهم ببغداد فكانوا بين يدى القوافل، وقارب بين القطر ودخل بعض الناس في بعض، وتقدّم نزار بن محمد الضبىّ فكان في أوّل القاملة في أصحابه خلف الرجّالة، وسار أبو الهيجاء في التغالبة والعجم في ميمنة القافلة، وألزم الساقة وميسرة القافلة جماعة من الأولياء مع بعض الأمراء، واحتاط بكل ما أمكن، وسار فلما أضحى النهار أقبلت عليهم خيل القرامطة، والقافلة في نهاية العظم جدا، فكان أوّل من لقيهم رجّالة أبى الهيجاء، فحملت القرامطة عليهم فخالطوهم فقتلوا جميعا إلا نحوا من عشرين رجلا، وحمل نزار في جيشه فضارب بعض خيل القرامطة بالسيوف ساعة، فلحقته ضربة فهوى إلى الأرض واعتنق فرسه، ومضى نحو المشرق وتبعه بقيّة أصحابه، فاستقاموا حتى وصلوا إلى زبالة وساروا إلى الكوفة، فلما سمع الأمير أبو الهيجاء الصوت وعرف الخبر وكان في آخر القافلة أسرع في خيله نحو أوّل(25/283)
القافلة، فوجد الأمر قد فاته بقتل من كان أمامها، وقويت القرامطة على حربه ووجد الحاج قد أخذوا يمنة ويسرة، فحمل على القرامطة فاستقبلوه فقتل جماعة من أهل بيته صبروا معه، وانهزم وضرب على رأسه ضربة لم تضره إلا أنّه قد نزف منها، وأخذ أسيرا ونزل أبو طاهر القرمطى على غلوتين من القافلة، ورجّالته «1»
نحو من ستمائة على المطى فأنفذهم وفرسانا من فرسانه فأحاطوا بالقافلة «2»
، ومنعوا الناس من الهرب، وكان قد هرب خلق منهم في وقت القتال، فتلف كثير منهم في الطريق عطشا وأخذ بعضهم الأعراب فسلبوهم، وسلم قوم منهم إلى زبالة وساروا إلى الكوفة، وأتى بأبى الهيجاء إلى سليمان فلما نظر إليه تضاحك، وقال: قد جئناك عبد الله ولم نكلّفك قصدنا، فتلطّف له أبو الهيجاء بفضل عقله ودهائه وسعة حيلته وقوّة نفسه، وألان له القول حتى أنس به، فاستأمنه على نفسه فأمّنه فخلّص بذلك ناسا كثيرا، وعمل في سلامة كثير من الحاج عملا كثيرا، ثم أمر القرمطى بتمييز الحاج وإخراجهم من القوافل، وعزل الجمّالين والصنّاع ناحية فظنّوا أنّه إنما أخرجهم للقتل فارتاعوا لذلك، وكانوا قد عطشوا عطشا شديدا، فلما جهنّم الليل ضجر الموكّلون منهم، فأخذوا ما معهم وخلوّهم، فورد من ورد منهم الكوفة بشرّ حال متورّمى الأقدام في صور الموتى، ورحل أبو طاهر من الغد بعد أن أخذ من أبى الهيجاء وحده نحوا من عشرين ألف دينار من الأموال التى لا تحصى كثرة، وقدم كثير من الناس بخبر(25/284)
أبى الهيجاء، وأنّه راكب مع القرامطة يدور معهم ويسأل في خلاص أسرى كانوا معه، منهم أحمد بن بدر عم السيدة وفلفل الأسود وأحمد بن كشمرد ونحرير الخادم صاحب الشمسة وبدر الطائى وأخوه وغيرهم.
قال: وزادت غلبة أبي طاهر لأصحابه فتنة، وعظّموا أمره وسلب عقولهم حتى قالوا فيه أقوالا مختلفة بحسب جهلهم؛ قال: ولمّا مضى لأبى الهيجاء شهور وهو عندهم أخذ يحتال في الخلاص، فمرّة يعرض به ومرّة يفصح به حتى أنس القرمطى بذلك وأجابه إليه، فسأله في ابن كشمرد وقال: هو ضعيف لكبره وعلّته، وهذا الخادم الأسود ممّن لا يضر السلطان فقده ولا ينفعه اطلاقه، وكلّمه في أحمد بن بدر فامتنع عليه، فضمن له عشرين ألف دينار وبزاة وفهودا وعبدانا وثيابا، فاستحلفه وضمنه، وتخلّص منه ناس كثير من الحاج، وأطلقه، وصار إلى بغداد فتباشر الناس بذلك وابتهجوا به.
ذكر دخول أبى طاهر القرمطى الكوفة ورجوعه
كان أبو طاهر قد كتب إلى الخليفة المقتدر بالله- بعد اطلاق أبى الهيجاء بن حمدان- يطلب منه البصرة والأهواز، فلم يجبه إلى ذلك، فسار من هجر في سنة ثنتى عشرة وثلاثمائة يريد الحاج عند توجههم إلى الحجاز، وكان جعفر بن ورقاء الشيبانى يتقلّد أعمال الكوفة وطريق مكة، فسار مع الحاج خوفا عليهم من أبى طاهر، ومعه ألف رجل من بنى شيبان، وسار مع الحجاج من أصحاب(25/285)
السلطان ثمل صاحب البحر وغيره في ستة آلاف رجل، فلقى أبو طاهر الجيش فانهزموا منه، وردّت القافلة الأولى هم وعسكر الخليفة بعد أن انحدروا من العقبة، وتبعهم أبو طاهر إلى باب الكوفة وبها يومئذ جنىّ الصفوانى، كان الخليفة قد أنفذه في جيش عظيم إلى الكوفة، وبها أيضا ثمل في جيش عظيم، وأقبل أبو طاهر حتى نزل بظاهر الكوفة في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة، وأقبل جنىّ إلى خندق الكوفة في عشية هذا اليوم، وأهل البلد والعامّة منتشرون على الخندق، وجعفر بن ورقاء في بنى شيبان نازل على القنطرة التى على الخندق مما يلى دور بنى العبّاس، ونمل على القنطرة التى تليها، وجنىّ مما يلى ذلك من ناحية يمنة الكوفة، فناوشه الناس، وخرج أبو محمد الحسن بن يحيى بن عمر العلوى فطارد بعض فرسانه، وانكفأ أبو طاهر راجعا، وبات الناس على تلك الحال وقد قوى الطمع فيه، فلما كان الليل ورد كتاب السلطان يخاطب أبا محمد بن ورقاء في تدبير الجيش، فعمل على لقاء جنىّ الخادم ليعرّفه ذلك، فأشير عليه ألا يفعل فأبى ذلك، تم ركب يعرّف جنيّا ما كتب به إليه، فأنف جنىّ أن يكون تابعا وأسرّ ذلك في نفسه، وباكرهم القرمطى بالقتال بعد أن أضحى النهار، فدخلت الرجّالة وراء الفرسان بجيش خرس عن الكلام صمت وحركات خفيّة، والبارقة فيهم ظاهرة في ضوء الشمس، وهم يزفون عسكرهم زفا، حتى إذا وصلوا إلى عسكر السلطان مالوا على جيش ابن ورقاء وهو في ميسرة الناس، فما تمهّل بنو شيبان حتى انهزموا راجعين، فعبروا القنطرة التى على الخندق إلى جانب الكوفة وتبعوهم، فصاروا من وراء جنىّ وثمل فوضعوا السيف(25/286)
في الناس، وجنى جالس قبل ذلك على كرسى حديد يبيّن أنّه لا يقاتل وكأنّه يريد قتاله بعد الناس فأسروه، وقاتله ثمل وقاومه وهو منهزم على محاملة ومدافعة، إلى أن تخلصّ وسلم جعفر بن ورقاء وكثير من أصحابه، وقتل كثير من العامّة وغيرهم في الطرقات، ووصل أبو طاهر إلى البلد فرفع السيف ونهب منازل الناس، وأقام بالكوفة ستة أيام بظاهرها يدخل البلد نهارا ويقيم بجامعها إلى الليل، ثم يخرج فيبيت بعسكره، وحمل منها ما قدر على حمله، ودخل المنهزمون بغداد ولم يحجّوا في هذه السنة، وخاف أهل بغداد وانتقل الناس إلى الجانب الشرقى.
قال: ورحل أبو طاهر عن الكوفة في يوم الاثنين لعشر بقين من ذى القعدة، وقتل يوم دخوله أبو موسى العبّاسى صاحب صلاة الكوفة ورحل مؤنس المظفر من بغداد بجيش السلطان عند اتّصال الأخبار ببغداد، فسار منها حتى دخل الكوفة، فكان وصوله إليها بعد رحيل القرامطة عنها، فأقام بها ثلاثة أيام ثم رحل عنها، ثم عاد القرمطى في سنة خمس عشرة.
ذكر دخول أبى طاهر القرمطى الى العراق وقتل يوسف بن أبى الساج
قال: وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة سار أبو طاهر من هجر إلى الكوفة، وكان المقتدر بالله قد استعمل يوسف بن أبى الساج على حرب القرامطة، فاستصعب ابن أبى الساج المسير إلى بلد القرامطة، وثقل مسيره في أرض قفر لكثرة من معه من العساكر، فاحتال على(25/287)
أبى طاهر وكتب إليه واطمعه في بغداد، وأظهر له المواطأة والتزم بمعاضدته فغرّه بذلك، حتى رحل بعيال وحشم واتباع وصبية، وجيشه على أقوى عدّة تمكّنه، وأقبل يريد الكوفة وعمّيت أخباره عن أهلها، إنّما هى أراجيف، ورحل يوسف بن أبى الساج بجيشه من واسط يريد الكوفة، فسبقه أبو طاهر إليها ودخلها في يوم الخميس لسبع خلون من شوّال من هذه السنة، وأخذ ما يحتاج إليه ونزل عسكره خارج الكوفة ما بين الحيرة إلى ناحية الخورنق، وأقبلت جيوش ابن أبى الساجّ تسيل من كل وجه على غير تعبئة، وأقبل هو في جيشه ورجاله حتى نزل في غربىّ الفرات، وعقد عليه جسرا محاذيا لأبى طاهر، وعبر إليه مستهينا بأمره مستحقرا له لا يرى أنّه يقوم به، وذلك في يوم الجمعة، فأرسل إلى أبى طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة المقتدر بالله أو الحرب في يوم الأحد، فقال:
لا طاعة إلا لله والحرب غدا، فلما كان في يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة التقوا واقتتلوا قتالا شديدا عامّة النهار، وكثير من عسكر ابن أبى الساج لم يستتم نزوله، وهو جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره، وقد تفرّق عنه عسكره تفرّقا منتشرا في فراسخ كثيرة، وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور ما؟؟؟ يمنى كثير من الناس هلاكهم. قال الشريف أبو الحسين: ولمّا لقيه بظهر الكوفة ما بين الحيرة والخورنق والنهرين من الفرات اتّفق له تلول وأنهار وموضع يضيق عن جيشه ولا يتمكّن معه الإشراف عليه، فقدّم بين يديه رجّالة بالرماح والتراس(25/288)
مع قائد يعرف بابن الزرئيخى «1»
، فأقبل القرمطى نحوه في أربعة آلاف فقاومته الرجّالة طويلا، ثم دخلتها الخيل وتعطفت عليها واضطرب الناس، فوضع فيهم السيف؛ قال الشريف: وأخبرنى بعض الجند قال: كنت والله قبل الهزيمة أريد أن أضرب دابّتى بالسوط فلا يمكننى ذلك لضيق الموضع، ووصل كثير من عسكر القرمطى إلى ابن أبى الساج في مصافه على أتمّ عدّة، فلما التقوا اقتتلوا كأعظم قتال شوهد، وكثرت القتلى والجراح في القرامطة جدا، وقتل رجّالة ابن أبى الساج، وخلص إليه فانهزم الناس وقتلوا قتلا ذريعا، حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أرجح، فلما كان عند غروب الشمس انهزم أصحاب ابن أبى الساج بعد صبر عظيم، وأسر هو وجماعة كثيرة من أصحابه، وذلك في وقت المغرب من يوم السبت، فوكل به أبو طاهر طبيبا يعالج جراحه، واحتوى القرامطة على عسكر ابن أبى الساج، ولم تكن فيهم قوّة على جمع ما فيه لضعفهم وقتل من قتل منهم، فمكث أهل السواد من الأكرة وغيرهم ينهبون القتلى نحو أربعين يوما، ووصل المنهزمون إلى بغداد بأسوأ حال، فخاف الخاص والعام ببغداد من القرامطة، وكان أبو طاهر القرمطى يظن أن مؤنسا المظفّر لا يتأخّر عن حربه، وكان على وجل منه، فلمّا لم يخرج إليه اشتد طمعه وظن أنّه لا يلقاه أحد ولا يقاومه، وأنّ ما كان قد خدع به من أنّ ببغداد من يظاهره على أمره، وينتظر وصوله إليه من الرؤساء- حق، فخرج يريد بغداد،(25/289)
فلما قرب من نواحى الأنبار وقصر ابن هبيرة ونزل بسواده وكل بهم جندا ليست بالكثير، وركب في جيشه فوافى الأنبار واحتال إلى أن عبر الفرات وصار من الجانب الغربى، وتوجّه بين الفرات ودجلة يريد مدينة السلام، وعرف الناس ذلك فكثر اضطرابهم وجزعهم، فبرز مؤنس المظفّر الخادم من بغداد للمسير إلى الكوفة، فبلغه أنّ القرامطة قد ساروا إلى عين التمر، فأرسل من بغداد خمسمائة سمارية فيها المقاتلة لتمنع من عبور الفرات، وسيّر جماعة من الجيش لحفظ الأنبار، وقصد القرامطة الأنبار فقطع أهلها الجسور، فنزلوا غرب الفرات وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة، فأتوه بسفن فعبر فيها ثلاثمائة من القرامطة، فقاتلوا عسكر الخليفة وقتلوا منهم جماعة واستولوا على الأنبار؛ قال: ولما ورد الخبر بذلك إلى بغداد خرج نصر الحاجب في عسكر جرّار، ولحق بمؤنس المظفّر فاجتمعا في نيّف وأربعين ألفا سوى الغلمان ومن يريد النهب، وكان في العسكر أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته وأصحابهم، فلما أشرف القرامطة على عسكر الخليفة هرب منه خلق كثير إلى بغداد من غير قتال؛ قال ابن الأثير «1»
: كان عسكر القرامطة ألف فارس وسبعمائة فارس وثماثمائة راجل؛ قال: وقيل كانوا ألفين وسبعمائة فارس.
قال الشريف: وسار مؤنس المظفّر حتى نازل القرامطة على قنطرة(25/290)
نهر زبارا «1»
، على نحو ثلاثة فراسخ من بغداد، وشحن الموضع بالجيش، وأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القنطرة خوفا من عبور القرمطى، وإن اتفق أدنى جولة مع امتلاء صدور الجيش من القرامطة فلا يملك البلد لشدة اضطرابه وكثرة أهله، ففعل مؤنس ذلك وقطعها وقاتل عليها نفر من القرامطة قتالا شديدا، لا يمنعهم كثرة النشاب ولا غيره، وشحن مؤنس الفرات ما بين بغداد إلى الأنبار بسماريّات، فيها رماة ناشبة تمنع أحدا من القرامطة من شرب الماء إلا بجهد، فضلا عن تمكن من العبور، وكان أحد من نصب لذلك إسحاق بن إبراهيم بن ورقاء، وكان شيخا ذا دين وبصيرة ونيّة في الخير، فأقام على حصاره لأبى طاهر وكان لا يقدر على مذهب لا إلى وجهه ولا إلى جوانبه، ومتى دنا من الماء أخذته السهام؛ قال الشريف: فحدثنى من حضر يومئذ وقد ورد كتاب المقتدر بالله، يأمر مؤنسا بمعاجلته القتال ويذكر ما لزم من الأموال إلى وقت وصوله، فكتب مؤنس كتابا ظاهرا- جواب كتاب الخليفة- يمليه على كاتبه والناس يسمعون، يقول: إن في مقامنا، أطال الله بقاء مولانا نفقة المال، وفي لقائنا نفقة الرجال، ونحن اخترنا نفقة المال على نفقة الرجال، قال: ثم انفذ المظفر مؤنس رسولا إلى القرمطى يقول: ويلك! تظن أننى كمن لقيك، أبرز لك رجالى والله ما يسرّنى أن أظفر بك بقتل رجل مسلم من أصحابى، ولكنّنى أطاولك وأمنعك مأكولا ومشروبا حتى آخذك أخذا بيدى إن شاء الله؛ قال:(25/291)
وأنفذ المظفّر حاجيه يلبق في ستة آلاف مقاتل إلى القرامطة، الذين بقصر ابن هبيرة مع سواده، ليوقعوا بهم ويخلّصوا يوسف بن أبى الساج، فعلم أبو طاهر بذلك فاضطرب واجتهد في عبور الفرات فعجز.
ثم اتّفق له طوف حطب فعبر عليه في نفر يسير، وصار إلى سواده الذى خلفه، وجاء يلبق فواقعه أبو طاهر في نفر يسير، فكرّ يلبق راجعا منهزما وسلم السواد وذلك بعد قتال شديد.
ونظر أبو طاهر إلى ابن أبى الساج- وقد خرج من الخيمة، ينظر ويرجو الخلاص، وقد ناداه أصحابه: أبشر بالفرج، فلما تمّت الهزيمة أحضره أبو طاهر وقتله وقتل من معه من الأسرى «1»
، وقصد القرامطة مدينة هيت وكان المقتدر قد سيّر إليها سعيد بن حمدان وهارون بن غريب، فسبقوا القرامطة إليها وقاتلوهم عند السور، فقتل من القرامطة جماعة فعادوا عنها، فرجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الدالية من طريق الفرات، فقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرّحبة فدخلها في ثامن عشر المحرم سنة ست عشرة وثلاثمائة، بعد أن حاربه أهلها فظفر بهم ووضع السيف فيهم، فراسله أهل قرقيسيا يطلبون الأمان فأمّنهم على ألا يظهر أحد منهم بالنهار، فأجابوا إلى ذلك، وخافه الأعراب وهربوا من بين يديه، فقرّر عليهم أتاوة عن كل رأس دينار يحملونه إلى هجر، ثم صعد من الرحبة إلى الرقّة فدخل أصحابه إلى نصيبين، وقتلوا بها ثلاثين رجلا وقتل من القرامطة جماعة، وقاتلوا ثلاثة أيام ثم انصرفوا في آخر(25/292)
ربيع الأوّل، وساروا إلى سنجار ونهبوا فطلب أهل سنجار الأمان فأمنهم، ثم عاد إلى الرحبة، ووصل مؤنس إلى الرقة بعد انصراف القرامطة عنها، فاحتال مؤنس في ارسال زواريق فيها فاكهة قد جعل فيها سموما قاتلة، فكانت القرامطة يلقونها فيأخذونها، فمات كثير منهم وضعفت أبدان بعضهم، وجهدوا وكثر فيهم الذّرب فكرّوا راجعين وهم قليلو الظهر مرضى، فلما بلغوا هيت قاتلهم أهلها من وراء السور، فقتلوا منهم رئيسا كبيرا وانصرفوا عنهم مفلولين «1» .
ثم رحل أبو طاهر فدخل قصر ابن هبيرة فنهب وقتل، ثم دخل الكوفة على حال ضعف وعلل وجراحات، وأصحابه على ظهور حمر أهل السواد، وكان دخوله إليها يوم الجمعة لثلاث ليال خلت من شهر رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة، فأقام بها إلى مستهلّ ذى الحجة من السنة، ولم يقتل في البلد ولا نهب، وساس أهل الكوفة أمرهم مع القرامطة، ورحل أبو طاهر عن الكوفة في ذى الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة.
ذكر أخبار من ظهر من القرامطة بسواد العراق في أثناء وقائع أبى طاهر الجنابى
قال ابن الأثير «2»
والشريف أبو الحسين- وقد لخّصت من روايتيهما ما أورده، ودخل خبر بعضهم في خبر بعض- ولمّا كان من أمر أبى طاهر في سنة ست عشرة وثلاثمائة ما قدّمناه، اجتمع بالسواد(25/293)
ممن يعتقد مذهت القرامطة وكان يكتمه خوفا فظهروا واجتمع منهم بسواد واسط أكثر من عشرة آلاف، وولّوا عليهم رجلا يسمّى حريث بن مسعود، فخرج إليه الأمير بواسط فنام عسكره في بعض المواضع، فكبسه القرامطة فقتلوا منهم خلقا، واستولوا على سائر ما حواه العسكر من السلاح وغيره فقوى أمرهم؛ واجتمعت طائفة أخرى بعين التمر في جمع كثير، فولوا عليهم رجلا يسمّى عيسى ابن موسى «1»
، وكانوا يدعون إلى المهدى، فسار عيسى بن موسى إلى الكوفة ونزل بظاهرها، وجيى الخراج وصرف العمال عن السواد وكان والى الكوفة قد هرب منها قبل دخولهم، ووجّهوا إلى جميع السواد من يطالبهم بالرحيل إليهم، فخرج إليهم من بين راغب وراهب، ففرّقوا العمّال في الطساسيج، وولّوا المعاون لقوم من وجوه عشائرهم، وولوا ابن أبى البوادى الكوفي خراج الكوفة، ونصبوا بعض بنى ربيعة واليا لحربها، وأقاموا في البلد أياما وراحوا إلى الجمعة بأجمعهم، وأقاموا أبا الغيث بن عبدة خطيبا، وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه، فركب إليهم أبو على عمر بن يحيى العلوى وعيسى ابن موسى نازل على شط الفرات في بعض الأيّام، فأظهروا الاستطالة على أبى على بن يحيى وانقصوا رتبته، وأقيم وحجب أوقاتا طويلة، فخرج أبو على إلى السلطان وذكر له صورة أمر القوم، وقرّر في نفسه أخذهم، فأنفذ السلطان معه صافي النصرى «2»
في جيش وضمن(25/294)
أبو على معاونته، وكان هؤلاء قد خرجوا من الكوفة وخلّفوا واليهم عليها وصاحب خراجهم، وقصدوا موضعا يعرف بالجامع وما يليه فنهبوا واستباحوا، ووثب أهل الكوفة بعد خروجهم على من خلّفوه عندهم، فقتلوا منهم جماعة وأخرجوا من بقى، واتصل الخبر بالقرامطة فانكفأوا راجعين يريدون الكوفة ليقاتلوا أهلها، فاجتمع الناس وحملوا السلاح وحفظوا البلد وطافوا به ليلا ونهارا مدة أيّام، وجاءت «1»
القرامطة فنزلوا على الكوفة ولم يكن لهم فيها مطمع فساروا إلى سورا، وقدم أبو على العلوى وصافى النصرى من بغداد، فواقعوهم على نهر بقرب اجهاباذ يعرف بنهر المجوس، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى هزمهم الله تعالى، فقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم قوم وهرب الباقون، وتفرقوا وأسر عيسى بن موسى وخلق كثير معه وأعمى كان من دعاتهم كان يقول الشعر يعرف بأبى الحسن الخصيبى، ودار أبو على في السواد فتلقّط منهم قوما، فسكن البلد وتفرّق ذلك الجمع ولم يبق لهم بقيّة قائمة، وحملت الأسرى والرؤوس إلى بغداد فقتل الأسرى بباب الكناسة وصلبوا هناك، وحبس عيسى بن موسى ثم تخلّص بغفلة السلطان وحدوث ما حدث من اضطراب الجيش وكثرة الفتن في آخر أيام المقتدر، وأقام ببغداد يدعو ويتوصل إلى ناس استغرّهم، ويعمل كتبا يجمع فيها ما يأخذه من كتب يشتريها من الورّاقين، يمخرق فيها بذكر أمور ينسخها ويوهم أنّ له بذلك علما، ورتّب كتبا ينسبها إلى عبدان الداعى، ليوهم أنّ عبدان كان(25/295)
أحد العلماء بكل فلسفة وغيرها، وأنّه يعلم ما يكون قبل كونه، ومخرق بجهده على جهّال فصاروا له أتباعا، وأفسد فسادا عظيما، قال الشريف: وادعى خلافته من مخرق بعده إلى الآن.
وحكى ابن الأثير في تاريخه الكامل «1»
: أن الخليفة المقتدر بالله أرسل إلى حريث بن مسعود، هارون بن غريب وإلى عيسى بن موسى صافى النصرى، فأوقعوا بهم وانهزمت القرامطة وقتل أكثرهم وأسروا وأخذت أعلامهم وكانت بيضاء وعليها مكتوب (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)
«2»
فدخلت بغداد منكوسة، واضمحلّ أمر القرامطة بالسواد.
نعود إلى أخبار أبى طاهر
ذكر مسير أبى طاهر الى مكة شرفها الله ونهبها وأخذ الحجر الاسود واعادته وما كان من أخباره في خلال ذلك
وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة حجّ بالناس منصور الديلمى، وسلموا في مسيرهم حتى أتوا مكة، فوافاهم أبو طاهر القرمطى بمكة يوم التروية، وهو يوم الاثنين لثمان خلون من ذى الحجة، فنهب هو وأصحابه أموال الحجّاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام والبيت، وقلعوا الحجر الأسود وأنفذوه إلى هجر، وأخذوا كسوة الكعبة وباب(25/296)
البيت، وطلع رجل منهم ليقلع الميزاب «1»
فسقط فمات، وخرج أمير مكة ابن مجلب في جماعة من الأشراف إلى أبى طاهر، وسألوه في أموالهم فلم يشفّعهم فقاتلوه فقتلهم جميعا وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الناس في المسجد الحرام حيث قتلوا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة على أحد منهم، ونهب دور أهل مكة، قال الشريف أبو الحسين: ولما نهب القرامطة مكة ورجع أبو طاهر إلى بلده لحقه كدّ شديد عند خروجه من مكة، وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة إلى أن عدل به دليل من الطريق المعروف إلى غيره، فوصل إلى بلده بعد ذلك في المحرم سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة، فأقام به ثم سار إلى الكوفة فدخلها في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، فاشتروا منها أمتعة وأسروا خلقا من السواد، وعاثوا ورجعوا بعد خمسين يوما إلى بلدهم، فأقاموا به.
وأنفذ أبو طاهر سريّة إلى جنّابه وسينيز ومهروبان في البحر، فيها وجوه أصحابه في نحو أربعين مركبا، فوافت ساحل سينيز فصعدوا من المراكب، فحملوا على أهلها حملة واحدة فانكشف الناس عنهم، فوضعوا فيهم السيف فمالقوا أحدا إلا قتلوه من رجل وامرأة، فما نجا إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء، فترك الناس الديار وخرجوا يريدون الهرب، فنادى أبو بكر الطرازى في الناس:
لا هرب أحد، فإنّا نقاتل من ورد إلينا، وضرب بالبوق ووجّه من(25/297)
حبس الناس عن سلوك الطرقات وردّهم إلى البلد، وجمع الناس بالمسجد الجامع ورغبّهم في الجهاد وأسعفهم بماله، ورغبت المتطوّعة في الاجتماع فقويت قلوب الناس، وأنفذ أبو بكر سريّة من وقته من خاصّة غلمانه في نحو ثلاثمائة رجل في البحر، ووجّه سريّة أخرى في البر، وأنفذ إلى مهروبان يخبر أنّه على لقاء العدوّ، وسألهم الإنجاد في المراكب لمعاونة أهل جنّابه على قتال القرامطة، فساروا والتقى الفريقان في البرّ والبحر من أهل جنابه وسينيز، ووافت قوارب مهروبان فأشعلوا النيران في القوارب، فأحرقوا بعضها وتخلص منهم نحو عشرين قاربا، وانتشبت الحرب فقتل الله منهم خلقا كثيرا، وأسر جماعة ولحق بعضهم بالجبال، وورد على أبى بكر الطرازى من أخبره بذلك، فجمع الناس وغدا نحو الجبال، وأرسل فارسا إلى من بسينيز من أصحابه أن يلحقوا به، وأنفذ إلى جنّابه ألّا يتخلّف عنه من فيه حراك، لتكون الوقعة بهم من كل وجه، فوافوا المنهزمين من القرامطة في بعض كهوف الجبال، وذلك في يوم الأربعاء فلمّا رأوا الناس قد أقبلوا نحوهم كسروا جفون سيوفهم، وحملوا عليهم فثبتوا لهم، ولم تزل الحرب قائمة بينهم يوم الأربعاء والخميس إلى نصف النهار، ثم نادى أبو بكر الطرازى: من جاء برأس فله خمسون درهما، فتنادى الناس بالشهادة وجدّوا ونشطوا، وقتلوا خلقا كثيرا وأخذوا جميع من بقى أسرى، وحملوا مشهرّين والناس يكثرون حمد الله عز وجلّ والثناء عليه، ولم يفلت منهم أحد.
وكتب الناس محضرا أنفذوه إلى بغداد، وحملت الأسرى والرؤوس معه، قال الشريف: ونسخة المحضر:(25/298)
بسم الله الرحمن الرحيم- حضر من وقّع بخطّه وشهادته آخر هذا الكتاب المحضر، وقد حضر عندهم ثلاثة من القرامطة- لعنهم الله- ذكر أحدهم أنّه يقال له- سيّار بن عمر بن سيّار، والآخر ذكر أنّه يقال له- على بن محمد بن عمر «1»
، والآخر ذكر أنّه يعرف بأحمد ابن غالب بن جعفر الأحساوى، فذكروا أنّهم متى نفذ رسولهم إلى صاحبهم سليمان بن الحسن القرمطى ردّ الحجر والشّمسة وكسوة البيت وأطلق الأسارى الذين في قبضته، وهادن السلطان وارتدع عن السعى بالفساد والقطع على الحاج، ولم يحفزهم ولم يعترض عليهم، ويقول هؤلاء النفر من جملة الأسرى الذين في يد محمد بن على الطرازى- وهم الذين ظفّر الله بهم- فمتى ما وفى سليمان بن الحسن القرمطى بما بذلوه عنه أفرج السلطان عنهم وردّهم إليه، وذلك في يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وأسفل ذلك خطوط أهل البلد بالشهادة.
وأحضر سيّار بن عمر بن سيّار وعلى بن محمد بن عمر المعروف بأبى الهذيل بن المهلّب وأحمد العيّار، وهم من جملة الأسرى في الوقعتين بسينيز وجنابه، فعرض عليهم رؤوس أصحابهم ممّن قتل من القرامطة، ليعرفوا باسمائهم وأنسابهم فذكروا نحو المائة رأس، ومن الأسرى نحوهم، وحملوا إلى بغداد فحبسوا وأجرى عليهم، ويقال إنّه قد كان فيهم من إخوة سليمان بن الحسن من كتم أمره.
وحدّثنى ابن حمدان أنّهم كانوا بعد خلاصهم ومصيرهم إلى(25/299)
أبى طاهر يتحدثون: أن كثيرا من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم ما يتقرّبون به إلى قلوبهم، وذكروا أنهم كانوا يكثرون الخشوع وذكر النبى صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه وإقامة الصلاة؛ قال:
ويضحكون من فعلهم هذا وخديعتهم الناس، قال: ويضحك أبو طاهر وإخوته مما يتحدثون به، قال: وكان سبب تخلص هؤلاء الأسرى أن أبا بكر بن ياقوت كتب في المهادنة، وجرى بينهم خطوب في المراسلة إلى أن وافقهم أن يردّوا الحجر الأسود ويخلوا الأسرى ولا يعرضوا للحاج، فجرى الأمر على ذلك.
قال الشريف: وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة دخل القرمطى الكوفة، واستقبل لؤلؤا الأمير خارجا بالحاج في ذى القعدة، فرجع بهم لؤلؤ إلى الكوفة وتفرّقوا فيها، بعد أن واقعته الخراسانية فلم يقدر على مقاومتهم وامتنعوا منه، إلا أن الناس تسرّبوا وافترقوا، فظفر بمن ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد، وأشار بعض أهل الكوفة على بعض أصحابه في هذه السنة- عند نزولهم بالكوفة- أن يسار في الحاج بغير ما يجرى فيهم، فقال الرجل: الذى من أصحاب القرمطى: والله ما ندرى ما عند سيّدنا أبى طاهر، من نمزيق هؤلاء الذين من شرق الأرض وغربها، واتخاذهم ومن وراءهم أعداء، وما يفوز بأكثر أموالهم إلا الأعراب والشرّاد من الناس، قال الكوفي:
فلو أنّه حين يظفر بهم دعاهم أن يؤدى كل رجل دينارا وأطلقهم وأمّنهم لم يكره أحد منهم ذلك وخفّ عليهم وسهل، وحجّ الناس من كل بلد لأنّهم ظماء إلى ذلك جدا، ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل بلده وخاصّته، فجبى في كل سنة(25/300)
ما لا يصبر إلى سلطان مثله من الخراج، واستولى على الأرض وانقاد له الناس، وإن منع من ذلك السلطان اكتسب المذمّة، وصار عند الناس هو المانع من الحج، فاستصوب رأيه وفرّج عنه، لأن أصحاب أبى طاهر كان قد ظهر منهم اضطراب عليه وقلّت طاعتهم له، قال:
حتى لقد سمعت بعضهم وقد لحقه فارس من العرفاء يركض ويدور في الكوفة ويقول: ارجع إلى العسكر فإنّ السيّد يأمرك بذلك، فذكر أمّه بقبيح من الشّتيمة بعد أن كانوا يعبدونه، قال: ولما سمع رئيس القرامطة كلام الكوفي وما أشار به من أمر الحاج وما جرى من الكلام في ذلك دخل إلى أبى طاهر فعرّفه ما جرى، فبادر من وقته ونادى في الناس بالأمان، وأحضر الخراسانيّة وقرّر معهم أنهم يحجّون ويؤدون إليه المال في كل سنة، ويكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم فلم يأمنوا له، فسلّم سياسة أمرهم إلى أبى على عمر بن يحيى العلوى، واستقرّ للقرامطة ضريبة ورسم على سفر الحاج.
قال الشريف: ولمّا كان في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة كبس أبو طاهر الكوفة عشية، وفيها شفيع اللؤلؤى أمير، فهرب من مجلسه والناس عنده، ورمى بنفسه من سطحه واستتر عند امرأة ضعيفة، وظهر الجند من الطرقات فقاوموا من لحقهم من جيشه، وامتنع أكثرهم منه وخرجوا سالمين إلا نفرا منهم أصيبوا، ووجّه أبو طاهر إلى شفيع اللؤلؤى فأمّنه وأحضره، فحضر إليه وقدّم إليه طعاما يأكله، وطلبت مائدة يأكل عليها، فقيل ما يحضر إلا مائدة نهبت من داره، فقال أبو طاهر: قبيح أن يراها فافرشوها بالرقاق لكى لا يعرفها، ففعلوا(25/301)
ذلك وقدّمت إليه، وكان يحمل إلى أبى طاهر صحفة صحفة مما يقدّم إليه، فينظر إليها أولا وينفذها إليه وكان ذلك لدناءته ومهانته، وتفرّق أصحابه عنه وقلّت طاعتهم له فاحتاج إلى المداراة، فوجّه إلى شفيع من يخاطبه في أن يمضى إلى السلطان، ويعرّفه أنّهم صعاليك لا بدّ لهم من أموال، وأنّه إن أعطاهم ما لا لم يفسدوا عليه شيئا وخدموه فما يلتمسه، وإن أبى ذلك لم يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وسيّره أبو طاهر ووصله، وخرج شفيع إلى السلطان فقدم إلى القرمطى أبو بكر بن مقاتل من قبل السلطان يناظره، ففتّ في عضده وملأ صدره من السلطان وأتباعه، فزاده ذلك انكسارا وذلة وسار عن الكوفة.
وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة فسدت رجال القرامطة وقتل بعضهم بعضا، وسبب ذلك أنّه كان منهم رجل يقال له ابن سنبر، وهو من خواص أبى سعيد الجنّابى المطلعين على سرّه، وكان له عدوّ من القرامطة اسمه أبو حفص الشريك، فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصفهان، وقال له: إذا ملّكتك أمر القرامطة نقتل عدوّى، فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه، فأطلعه على أسرار أبى سعيد وعلامات كان يذكرها في صاحبهم الذى يدعو إليه، فحضر إليه أولاد أبى سعيد فذكر لهم العلامات، فقال أبو طاهر: هذا هو الذى ندعو إليه، فأطاعوه ودانوا له حتى كان يأمر الرجل منهم بقتل أخيه فيقتله، وكان إذا كره رجل منهم يقول إنه مريض- يعنى قد شك في دينه ويأمر بقتله، وبلغ أبو طاهر أنّ الأصفهانى يريد قتله لينفرد بالأمر، فقال لإخوته:(25/302)
قد أخطأنا في هذا الرجل وسأكشف حاله، فقال له: إنّ لنا مريضا فانظر إليه ليبرأ، وأضجعوا والدتهم وغطّوها بإزار، فلما رآها قال:
إنّ هذا المريض لا ببرأ فاقتلوه، فقالوا: كذبت، هذه والدتنا ثم قتلوه، وذلك بعد أن أفتى أكثر أكابرهم بالقتل «1» .
ذكر وفاة أبى طاهر بن أبى سعيد الجنابى وأخيه وقيام أخويهما بعده
قال «2»
: وفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة هلك أبو طاهر سليمان بن أبى سعيد وأخوه أبو منصور بجدرى أصابهما، وملك التدبير بعده أخواه أبو القاسم سعيد وهو أكبرهم، وأبو العبّاس، وكانا يتّفقان معه على تدبير الأمر، وكان لهم أخ آخر لا يختلط بهم لاشتغاله بالشرب واللهو، قال: وشركهما في تدبير الأمر ابن سنبر
ذكر اعادة القرامطة الحجر الأسود الى الكعبة شرفها الله تعالى
قال: وفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أراد القرامطة أن يستميلوا أهل الإسلام، فحملوا الحجر الأسود وأتوا به الكوفة، فنصبوه في المسجد الجامع على الأسطوانة السابعة في القبلة ممّا يلى صحن المسجد حتى يراه الناس ثم حملوه إلى مكة شرفها الله تعالى، وقالوا: أخذناه بأمر ورددناه بأمر.(25/303)
قال ابن الأثير «1»
وكان بجكم الرايقى قد بذل لهم فيه خمسين ألف دينار، فلم يردّوه وردّوه الآن بغير شىء، وذلك في ذى القعدة من السنة، فكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة إلا أياما، وحكى ابن الأثير «2»
في سبب ردّه: أنّ عبيد الله المنعوت بالمهدى القائم ببلاد المغرب والمستولى عليها كتب إلى القرمطى ينكر فعله ويلومه ويلعنه، ويقول أخفقت علينا سعينا وأشهرت دولتنا بالكفر والإلحاد بما فعلت، ومتى لم ترد على أهل مكة ما أخذته وتعيد الحجر الأسود إلى مكانه وتعيد كسوة الكعبة فأنا برىء منك في الدنيا والآخرة. فلما وصل هذا الكتاب أعيد الحجز إلى مكة شرّفها الله تعالى.
ذكر ملك القرامطة دمشق وسيرهم الى الديار المصرية ومحاصرة من بها ورجوعهم عنها
قال الشريف أبو الحسين رحمه الله تعالى: وفي سنة ستين وثلاثمائة سار الحسن بن أحمد بن أبى سعيد الجنّابى، وهو الذى انتهى إليه أمر القرامطة، من بلده إلى الكوفة، وعزم على قصد الشام وسبب ذلك أنّه كان قد تقرّر للقرامطة في الدولة الاخشيديّة من مال دمشق في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملك المعز لدين الله العبيدى الديار المصرية، واستولى جعفر بن فلاح على الشام، علموا أن ذلك يفوّتهم، فسار الحسن بن أحمد إلى الكوفة، وراسل بختيار الديلمى(25/304)
أحد ملوك الدولة البويهية، في طلب السلاح والمساعدة، فأنفذ إليه خزانة سلاح من بغداد وسبب له على أبى تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان بأربعمائة ألف درهم، فرحل الحسن من الكوفة حتى أتى الرحبة وعليها أبو تغلب بن حمدان، فحمل إليه المال المسبّب له به عليه وحمل إليه العلوفة، وأرسل إليه يقول: هذا شىء كنت أردت أن أسير أنا فيه بنفسى، وأنت تقوم مقامى فيه، وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد علىّ خبرك، فإن احتجت إلى مسيرى سرت إليك، ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض عليه، فقد أذنّا له في المسير والعسكران واحد، فخرج إلى عسكر القرمطى جماعة من عسكر أبى تغلب، وكان فيه كثير من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين، صاروا إليه لما انهزموا من المغاربة عند ملكهم الديار المصريّة بعد الدولة الإخشيدية؛ قال: وسبب مظاهرة ابن حمدان للقرمطى أنّه كان قد وقع بينه وبين جعفر بن فلاح مراسلات، أغلظ جعفر فيها على أبى تغلب وتهدّده بالمسير إليه، فلما أرسل ابن جعفر إلى الحسن ابن أحمد هذه الرسالة ومكّن الجند من المسير معه سرّه ذلك وزاد قوّة، وسار عن الرّحبة وقرب من أرض دمشق ووصل إلى ضياع المرج فظفرت خيله برجل مغربى يقال له على بن مولاه، فقتلوه وقتلوا معه جماعة من المغاربة فوقعت الذلّه على المغاربه، وكان ظالم بن موهوب العقيلى على مقدّمة القرامطة في جمع من بنى عقيل وبنى كلاب، فلقى المغاربة في صحراء المزّة وأقبل شبل بن معروف العقيلى معينا لظالم، ولم يزل القتال بينهم إلى أن أقبل الحسن بن أحمد القرمطى فقوى العقيليون،(25/305)
وتشمّرت المغاربة ولم يزل القتال إلى العصر، ثم حمل ظالم ومن معه فانهزمت المغاربة وأخذهم السيف وتفرّقوا، وقتل جعفر بن فلاح ولم يعرف، واشتغلت العرب بنهب العسكر، وكانت هذه الوقعة في يوم الخميس لست خلون من ذى القعدة سنة ستين وثلاثمائة، فلما كان بعد الوقعة عثر بجعفر بن فلاح من عرفه وهو مقتول مطروح على الطريق، فاشتهر خبره في الناس، ثم نزل الحسن بن أحمد بعد الوقعة على ظاهر المزّة فجبى مالا من البلد وسار يريد الرملة، وكان جوهر القائد قد أنفذ من مصر رجلا من المغاربة يقال له سعادة بن حيّان ذكر أنّه في أحد عشر ألفا، فلما بلغ ابن حيّان أن ابن فلاح قد قتل وجاءه بعد ذلك قوم من المنهزمين فأخبروه بخبر الواقعة، تحيّر وتقطّعت به الأسباب، فلم تكن له جهة غير الدخول إلى يافا، ولم يكن له بها عدّة ولا دار، فلما دخل إليها جاءه الحسن بن أحمد فنزل عليها، واجتمعت إليه عرب الشام فنازلها وناصبها بالقتال، حتى اشتدّ الحصار وقلّ ما بها جدا، وكان يدخل إليها شىء سرا فجعل عليها حرسا، فمن وجد معه شىء من الطعام يريد الدخول به إلى يافا ضربت عنقه، فلما طال بهم الأمر أكلوا دوابّهم وجميع ما عندهم من الحيوان، ثم هلك أكثرهم من الجوع، وكان الحسن بن أحمد قد سار عن يافا نحو مصر، وخلّف على حصارها أبا المنجّى وظالما العقيلى ونزل على مصر يوم الجمعة مسّتهلّ شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة، فقاتل المغاربة على الخندق الّذى لمدينتهم، وقتل كثيرا منهم خارج الخندق وحاصرهم شهورا، ثم رحل عنها إلى الأحساء ولم يعلم الناس ما كان السبب في ذلك، فلما تيقنت المغاربة أنّه قد رحل(25/306)
إلى بلده أنفذ جوهر القائد ابن أخته نحو يافا، وبلغ من عليها يحاصرها أن الحسن بن أحمد رحل عن مصر، وأنّ إبراهيم ابن أخت جوهر خارج يريد يافا، فسار القوم عنها وتوجّهوا نحو دمشق، فنزلوا بعسكرهم على ظاهرها، فجرى بين ظالم وأبى المنجّى كلام وخلاف ذكر أنّه بسبب أخذ الخراج، وكان كل واحد منهما يريد أخذه للنفقة في رجاله، وكان أبو المنجى كبيرا عند القرمطى يستخلفه على تدبير أحواله.
قال: ولما رحل القوم عن يافا إلى دمشق جاءها إبراهيم ابن أخت جوهر القائد، فأخرج من كان بها وسار بهم إلى مصر، ورجع الحسن ابن أحمد فنزل الرمله، ولقيه أبو المنجّى وظالم فذكر أبو المنجّى للحسن ابن أحمد ما جرى من ظالم وما تكلّم به، فقبض عليه ولم يزل محبوسا حتى ضمنه شبل بن معروف فخلّى سبيله، فهرب إلى شط الفرات إلى حصن كان له في منزل بنى زياد، ثم إنّ الحسن بن أحمد طرح مراكب في البحر وجعل فيها رجالا مقاتلة، وجمع كل من قدر عليه من العرب وغيرهم وتأهّب للمسير إلى مصر، وكان جوهر يكتب إلى المعز لدين الله إلى القيروان بما جرى على عسكره، من القتل والحصار والقتل، أن الحسن بن أحمد يقاتلهم على خندق عسكرهم، وقد أشرف على أخذ مصر فقلق من ذلك قلقا شديدا، وجمع من يقدر عليه وسار إلى مصر، وهو يظن أنها تؤخذ قبل أن يصل إليها، فدخلها في يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وكان شديد الخوف من الحسن بن أحمد، فلما نزل مصر عزم على أن يكتب إلى الحسن بن أحمد كتابا يعرّفه فيه أن المذهب واحد،(25/307)
وأنهم منهم استمدوا، وأنّهم ساداتهم في هذا الأمر، وبهم وصلوا إلى هذه المرتبة وترهّب عليه، وكان غرض المعز لدين الله العبيدى في ذلك أن يعلم من جواب القرمطى ما في نفسه، وهل خافه لما وافى مصر أم لا؟ قال: والحسن بن أحمد يعرف أنّ المذهب واحد، لأنّه يعلم الظاهر من مذهبهم والباطن، لأن الجميع اتّفقوا على تعطيل الخالق وإباحة الأنفس والأموال وبطلان النبوّة، فهم متفقون على المذهب، وإذا تمكّن بعضهم من بعض يرى قتله ولا يبقى عليه.
قال الشريف: وكان عنوان الكتاب:
من عبد الله ووليّه وخيرته وصفيّه معدّ أبى تميم بن إسماعيل المعزّ الدين الله أمير المؤمنين، وسلالة خير النبيّين ونجل علىّ أفضل الوصيّين إلى الحسن بن أحمد، ونسخة الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم- رسوم النطقاء ومذاهب الأئمة والأنبياء ومسالك الرسل والأوصياء، السالف والآنف منّا صلوات الله علينا وعلى آبائنا، أولى الأيدى والابصار في متقدّم الدهور والأكوار وسالف الأزمان والأعصار عند قيامهم بأحكام الله، وانتصابهم لأمر الله، بالابتداء بالإعذار والانتهاء بالإنذار، قبل إنفاذ الأقدار في أهل الشقاق والإصرار، لتكون الحجّة على من خالف وعصى، والعقوبة على من بان وغوى، حسبما قال الله جلّ وعزّ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
«1»
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)
«2»
وقوله سبحانه(25/308)
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
«1»
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ)
«2»
، أما بعد أيها الناس:
فإنا نحمد الله بجميع محامده ونمجّده بأحسن مماجدة، حمدا دائما أبدا ومجدا عاليا سرمدا، على سبوغ نعمائه وحسن بلائه، ونبتغى إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة، على طاعته والتسديد في نصرته، ونستكفيه ممايلة الهوى والزيغ عن قصد الهدى، ونستزيد منه إتمام الصلوات وإفاضة البركات وطيب التحيات، على أوليائه الماضين وخلفائه التالين، منّا ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين، الذين قضوا بالحقّ وكانوا به يعدلون.
أيها الناس (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها)
«3» ليتذكّر من تذكر وينذر من أبصر واعتبر. أيها الناس: إن الله جلّ وعزّ إذا أراد أمرا قضاه، وإذا قضاه أمضاه، وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا، وأبرز أرواحنا بالقدرة مالكين، وبالقوّه قادرين، حين لاسماء مبنيّة، ولا أرض مدحيّة، ولا شمس تضىء، ولا قمر يسرى، ولا كوكب يجرى، ولا ليل يجنّ، ولا أفق يكنّ، ولا لسان ينطق ولا جناح يخفق، ولا ليل، ولا نهار، ولا فلك دوّار، ولا كوكب سيّار، فنحن أوّل الفكرة، وآخر العمل بقدر ومقدور، وأمر في القدم مبرور، فعند ما تكامل الأمر وصحّ العزم(25/309)
أنشأ الله جلّ وعز المنشآت فأبدأ الأمّهات من هيولانا، فطبعنا أنوارا وظلمة وحركة، وسكونا، فكان من حكمه السابق في عمله ما ترون من فلك دوّار، وكوكب سيّار، وليل ونهار، وما في الآفاق من آثار معجزات، وأقدار باهرات، وما في الأقطار «1» من الآثار، وما في النفوس من الأجناس والصور والأنواع، من كثيف ولطيف، وموجود ومعدوم وظاهر وباطن، ومحسوس وملموس، ودان وشاسع، وهابط وطالع كل ذلك لنا ومن أجلنا، دلالة علينا وإشارة إلينا، يهدى الله ما كان له لب سجيح، ورأى صحيح، قد سبقت له منّا الحسنى، فدان بالمعنى، ثم إنه جلّ وعلا أبرز من مكنون العلم ومخزون الحكم آدم وحوّاء أبوين ذكرا وأنثى، سببا لإنشاء البشرية «2» ، ودلالة لاظهار القدرة القويّة الكونيّة «3» ، وزوّج بينهما فتوالدا الأولاد، وتكاثرت الأعداد، ونحن ننقل في الأصلاب الزكيّة والأرحام الطاهرة المرضية، كلّما ضمّنا من صلب ورحم أظهر منّا قدرة وعلما وهلم جرا إلى آخر الجد الأول والأب الأفضل سيد المرسلين وإمام النبيين أحمد ومحمد صلوات الله عليه وعلى آله في كل ناد ومشهد، فحسن آلاؤه وبان غناؤه، وأباد المشركين وقصم الظالمين، وأظهر الحق واستعمل الصدق، وبان بالأحديّة ودان بالصمديّة، فعندها سقطت الأصنام وانعقد الإسلام، وظهر الإيمان وبطل السخر والقربان، وارتفع الكفر والطغيان، وخمدت بيوت(25/310)
النيران وهربت عبدة الأوثان، وأتى بالقرآن شاهدا بالحق والبرهان فيه خير ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، مبينا عن كتب تقدّمت في صحف قد نزلت، تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة ونورا وسراجا منيرا، وكل ذلك دلالات لنا ومقدّمات بين أيدينا، وأسباب لإظهار أمرنا، هدايات وآيات وشهادات، وسعادات قدسيات إلاهيات أوّليات كائنات، منشآت مبديات معيدات وما من ناطق نطق ولا نبىّ بعث ولا وصّى ظهر إلا قد أشار إلينا، ولوّح بنا ودلّ علينا في كتابه وخطابه، ومنار أعلامة ومرموز كلامه، ما هو موجود غير معدوم وظاهر وباطن، يعلمه من سمع الندا أو شاهد ورأى، من الملأ الأعلى، فمن أغفل منكم أو نسى أو ضلّ أو غوى فلينظر في الكتب الأولى «1» والصحف المنزّلة، وليتأمل آى القرآن وما فيه من البيان، وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، فقد أمر الله عز وجلّ (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) *
«2» .
قال: وهذا الكتاب طويل جدا لا طائل فيه، قطعناه ههنا وسنذكر جملة من هذا الكتاب في أخبار المعز لدين الله غير ما في هذا الموضع، على ما نقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه «3» .
قال «4» : والجواب من الحسن بن أحمد القرمطى الأعصم:
وصل إلينا كتابك الذى كثر تفصيله وقلّ تحصيله، ونحن سائرون على أثره والسلام.(25/311)
وسار الحسن بن أحمد بعد ذلك إلى مصر، فنزل بعسكره عين شمس، وناشب المغاربة القتال، وانبثت سراياه في أرض مصر وبعث عمّالا إلى الصعيد تجبى الأموال، وضيّق على المغاربة ودوامهم القتال على خندق مدينتهم، يعنى الشريف بمدينتهم القاهرة المعزيّة، قال: فذكر أنّه هزمهم حتى عبر الخندق فامتنعوا منه بالسور، وعظم ذلك على المعز لدين الله وتحيّر في أمره، ولم يجسر أن يخرج بعسكره خارج الخندق، قال: وكان ابن الجرّاح الطائى في جمع عظيم مع الحسن بن أحمد القرمطى، وكان قوة لعسكره ومنعة ومقدّمة، فنظر القوم فإذا ليس لهم بالحسن بن أحمد طاقة، ففكّروا في أمره فلم يجدوا لهم حيلة غير فلّ عسكره، وعلموا أنّه لا يقدر على فلّه إلا بابن الجراح، وأنّ ذلك لا يتمّ إلا ببذل ما يطلبه من المال، فراسلوا ابن الجرّاح وبذلوا له مائة ألف دينار، على أن يفلّ لهم عسكر القرمطى فأجابهم إلى ذلك، ثم إنهم فكروا في أمر المال فاستعظموه، فعملوا دنانير من النحاس وطلوها بالذهب وجعلوها في أكياس، وجعلوا على رأس كل كيس منها دنانير يسيرة من الذهب تغطى ما تحتها وشدّوها وحملت لابن الجراح بعد أن استوثقوا منه، وعاهدوه ألا يغدر بهم إذا وصل إليه المال، فلما وصل إليه المال عمل على فلّ عسكره، وتقدم إلى كبراء أصحابه بأن يتبعوه إذا تواقف العسكران، وقامت الحرب فلما اشتدّ القتال ولىّ ابن الجرّاح منهزما، واتّبعه أصحابه في جمع كثير، فلما نظر إليه القرمطى قد انهزم بعد الاستظهار تحيّر ولزمه أن يقاتل هو ومن معه فاجتهد في القتال حتى تخلص، ولم تكن له بهم طاقة وكانوا قد بادروه من كل جانب، فخشى على نفسه وانهزم(25/312)