دقل عظيم، وعلى الدّقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت بالمدينة، والبدّ: صنم فى بناء عظيم بأعلاه منارة عظيمة مرتفعة، والدّقل فى رأس المنارة. فرمى الدّقل بحجر «1» العروس فكسره فتطيّر الكفّار بذلك وأعظموه، ثم فتحها محمد عنوة بعد قتال، وقتل فيها ثلاثة أيام، وهرب عامل داهر عنها، وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين، وبنى جامعها، وسار إلى البيرون «2» ، وكان أهلها قد بعثوا إلى الحجّاج وصالحوه، فلقوا محمدا بالميرة، وأدخلوه مدينتهم، ثم سار عنها، وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهرا دون مهران فصالحه أهل سربيدس «3» ، ووظّف عليهم الخراج، وسار إلى سهبان «4» ففتحها، ثم أتى نهر مهران فنزل به، وبلغ خبره داهرا فاستعدّ لمحاربته. وبعث محمد جيشا إلى سدوسان «5» ، فطلب أهلها الأمان والصلح فأمّنهم، ووظّف عليهم الخراج، ثم عبر نهر مهران مما يلى بلاد راسل «6» الملك على جسر عقده، هذا وداهر مستخفّ به، فلقيه محمد ومن معه وهو على فيل، والفيلة حوله ومعه الذكاكرة «7» ،(21/305)
فاقتتلوا قتالا شديدا، وترجّل داهر، وقاتل فقتل عند المساء، وانهزم الكفار وقاتلهم المسلمون كيف شاءوا، وقال قائلهم «1» :
الخيل تشهد يوم داهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمّد
أنّى فرجت الجمع غير معرّد «2» ... حتى علوت عظيمهم بمهنّد
فتركته تحت العجاج مجندلا «3» ... متعفّر الخدّين غير موسّد
قال: ولما قتل داهر تغلّب محمد على بلاد السند وفتح راور «4» عنوة، وكان بها امرأة لداهر، فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها. ثم سار إلى برهمنا باذ «5» العتيقة، وكان المنهزمون من الكفّار قد لجئوا إليها، ففتحها عنوة بعد قتال، وقتل بها بشرا كثيرا، وسار يريد الرّور «6» وبغرور، فلقيه أهل ساوندرى «7» ، فطلبوا الأمان فأمّنهم واشترط عليهم ضيافة «8» المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك، ثم تقدم إلى بسمد «9» فصالحه أهلها، وسار إلى الرّور، وهى من مدائن(21/306)
السند على جبل، فحاصرهم شهورا فصالحوه، وسار إلى السكة «1» ففتحها، ثم قطع نهر بياس «2» إلى الملتان، فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم، وجاء إنسان فدلّه على قطع الماء الذى يدخل المدينة، فقطعه فعطشوا وألقوا بأيديهم، ونزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذّريّة وسدنة البدّ، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهبا كثيرا، فجمع فى بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوّة فى وسطه، فسمّيت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج: الثغر، وكان بدّ الملتان تهدى إليه الأموال من كل مكان ويحجّ «3» إليه من البلاد، ويحلقون عنده رءوسهم ولحاهم، ويزعمون أنّ صنمه هو أيوب النبى عليه الصلاة والسلام.
وعظمت فتوحاته، فنظر الحجاج فى النفقة على ذلك الثغر، فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر إلى»
الذى حمل إليه منه فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألف ألف، وأدركنا ثأرنا ورأس داهر.
قال: واستمر محمد بن القاسم بالهند إلى أن مات الحجاج فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، فأتاه الخبر وهو بالملتان فرجع إلى الرّور والبغرور «5» ، فأعطى الناس، ووجّه إلى البيلمان «6»(21/307)
جيشا، فأعطوا الطاعة من غير قتال، وسالمه أهل شرشت «1» ، ثم أتى محمد الكيرج، فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر.
وقيل: بل قتل، فنزل أهل المدينة على حكم محمد، فقتل المقاتلة، وسبى الذريّة؛ فقال شاعرهم:
نحن قتلنا داهرا ودوهرا ... والخيل تردى منسرا فمنسرا «2»
قال: ولما مات الوليد بن عبد الملك وولّى سليمان عزل محمّد بن القاسم عن السند، واستعمل يزيد بن أبى كبشة السكسى على السند، فأخذ محمدا وقيّده وحمله إلى العراق، فقال متمثلا «3» :
أضاعونى وأىّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فبكى أهل السند.
ولما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط فقال «4» :
فلئن ثويت بواسط وبأرضها ... رهن الحديد مكبّلا مغلولا
فلرب قينة «5» فارس قد رعتها ... ولرب قرن قد تركت قتيلا
قال: فعذّبه صالح فى رجال من آل أبى عقيل حتى قتلهم، فقال حمزة بن بيض يرثى محمدا «6» :(21/308)
إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد
قال: وأما يزيد بن أبى كبشة فإنه مات بعد مقدمه إلى السند بثمانية عشر يوما، فاستعمل سليمان على السند حبيب بن المهلب، فقدم السند وقد رجع الملوك إلى ممالكهم، ورجع حيسبة «1» بن داهر إلى برهمنا باذ، فنزل حبيب على شاطىء مهران، وحارب قوما فظفر بهم.
ثم مات سليمان، وولى عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فأسلم حيسبة والملوك، وتسمّوا بأسماء العرب، وكان عمرو بن مسلم الباهلى عامل عمر على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر بهم، ثم ولّى الجنيد بن عبد الرحمن السند أيام هشام بن عبد الملك، فأتى شطّ مهران فمنعه حيسة بن داهر من العبور، وأرسل إليه: إنى قد أسلمت وولّانى الرجل الصالح بلادى، ولست أمكنك. فأعطاه رهنا، وأخذ منه رهنا على خراج بلاده، ثم ترادّ الرهون وكفر حيسبة، وحارب.
وقيل: لم يحارب، وإنما الجنيد تجنّى عليه، فأتى الهند، فجمع جموعا وأعدّ السفن، واستعدّ للحرب، فسار إليه الجنيد فى السفن، فالتقوا، فأسر حيسبة فقتله الجنيد، وهرب صصّة بن داهر، وهو(21/309)
يريد أن يمضى إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده فى يده فقتله.
وغزا الجنيد الكيرج؛ وكانوا قد نقضوا، فظفر ودخل المدينة فغنم وسبى، ووجّه العمال إلى المرمد. «1» والمندل ودهنج «2» ، ووجّه جيشا إلى أزين «3» فأغاروا عليها، وحرقوا ربضها، وفتح الجنيد البيلمان، وحصل «4» عنده سوى ما حمله «5» أربعون ألف ألف، وحمل مثلها.
وفى أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند. ثم ولى الحكم بن عوام «6» الكلبى، وقد كفر أهل الهند إلّا أهل قصّة «7» ، فبنى مدينة سماها المحفوظة، وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم فأغزاه من المحفوظة، فقدم عليه وقد ظهر أمره، فبنى مدينة وسمّاها المنصورة، واسترجع «8» ما كان غلب عليه العدوّ، ثم قتل الحكم، فكان العمال يقاتلون العدوّ، ويفتتحون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية، ثم جاءت الدولة العباسية فكان من أمر السند ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإنما ذكرنا أخبار السند ههنا لتكون متّسقة، فلنرجع إلى تتمّة الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك:(21/310)
ذكر الغزوات الى بلاد الروم وما فتح منها وغزوات الصوائف على حكم السنين
فى سنة [86 هـ] ست وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك [أرض] «1» الروم. وغزا أيضا فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، فقتل منهم عددا كثيرا بسوسنة من ناحية المصّيصة «2» وفتح حصونا.
وقيل: إن الذى غزا فى هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وحصن بولس وقمقم، وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل، وسبى ذرّيّتهم ونساءهم. والله أعلم.
ذكر فتح طوانة «3» وغيرها من بلد الروم
وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس ابن الوليد بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرّفه أنّ الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد أجمعوا على قصد بلاده ففعلوا ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية، فتجهّزوا، وساروا نحو الجزيرة، ثم عطفوا منها إلى بلاد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم، ثم رجعوا فانهزم المسلمون، وبقى العباس فى نفر، فنادى:
يأهل القرآن؛ فأقبلوا جميعا، فهزم الله الرّوم حتى دخلوا طوانة «4» ، وحصرهم المسلمون وفتحوها فى جمادى الأولى منها.(21/311)
ثم غزا مسلمة [والعباس] «1» الروم فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، فافتح مسلمة حصن «2» سورية، وافتتح العباس أذرولية «3» ، ولقى من الروم جمعا فهزمهم «4» .
وقيل: إن مسلمة قصد عمّورية، فلقى بها جمعا كثيرا من الروم فهزمهم وافتتح هرقلية «5» وقمولية «6» . وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون «7» ، وغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك، وذلك فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين أيضا.
وغزا مسلمة الروم فى سنة [90 هـ] تسعين، ففتح الحصون الخمسة التى بسورية.
وغزا العباس حتى بلغ أرزن «8» وبلغ سورية.
وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين غزا عبد العزيز بن الوليد الصّائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك.
وغزا مسلمة الترك فى هذه السنة من ناحية أذربيجان حتى بلغ الباب، وفتح مدائن وحصونا، ونصب عليها المجانيق. وغزا مسلمة أرض الروم فى سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، ففتح حصونا ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.(21/312)
وفيها كان فتح الأندلس على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار المغرب، وغزيت جزيرة سردانية وسنذكر ذلك [أيضا] «1» إن شاء الله.
وغزا العباس الروم فى سنة [93] ثلاث وتسعين، ففتح سبسطية «2» المرزبانيين.
وغزا مروان بن الوليد الروم فبلغ خنجرة «3» ، وغزا مسلمة ففتح ماسية «4» وحصن الحديد. وغزالة من ناحية ملطية.
وغزا العباس بن الوليد الروم ففتح أنطاكية فى سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وغزا العباس فى سنة [95 هـ] خمس وتسعين، ففتح هرقلة وغيرها، وفيها قتل الوضّاحى بأرض الروم ونحو ألف رجل معه.
انتهت الغزوات فى أيام الوليد بن عبد الملك. فلنذكر خلاف ذلك من الحوادث على حكم السنين:
ذكر الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما قدمناه
سنة (86 هـ) ست وثمانين:
فى هذه السنة حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وعبد الملك عن شرطته.(21/313)
وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل المخزومى.
سنة (87 هـ) سبع وثمانين:
فى هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول، واستعمل عمر بن عبد العزيز، فقدمها فى الشهر، وثقله على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان، وأحسن السيرة فى الناس، واستعان بفقهاء المدينة، وحرّضهم على أن يبلّغوه ما يبلغهم من أخبار عمّاله، وأن يعينوه على الحقّ، وقال: إنى أريد ألّا أقطع أمرا دونكم.
وحج عمر بالناس فى هذه السنة، وكان على قضاء المدينة أبو بكر ابن عمرو بن حزم، وعلى قضاء البصرة عبد الله بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنهم.
سنة (88 هـ) ثمان وثمانين:
ذكر عمارة مسجد النبى صلى الله عليه وسلّم والزيادة فيه
فى هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى شهر ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، وأن يشترى ما فى نواحيه حتى يكون مائتى «1» ذراع، ويقول له:
قدّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك؛ فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوّموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإنّ لك فى عمر وعثمان رضى الله عنهما أسوة.
فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوا إلى أخذ الثمن؛(21/314)
فأعطاهم إياه، وهدم الحجر، وأرسل الوليد الفعلة من الشام، وبعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم ليعمره، فبعث إليه الروم مائة ألف مثقال من ذهب ومائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملا. فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس، فوضعوا أساسه.
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فى تسهيل البناء وحفر الآبار، وأمره أن يعمل الفوّارة بالمدينة، فعملها وأجرى ماءها، وكتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطّرق وعمل الآبار.
وفيها منع الوليد المجذّمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق.
وحجّ بالناس عمر بن عبد العزيز، ووصل جماعة من قريش، وساق معه بدنا، وأحرم من ذى الحليفة، فلما كان بالتّنعيم أخبر أنّ مكّة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاجّ العطش. فقال عمر:
تعالوا ندعو الله تعالى؛ فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا إلى البيت إلّا مع المطر، وسال الوادى، فخاف أهل مكّة من شدّته، ومطرت عرفة ومكة، وكثر الخصب. وقيل: إنما حجّ هذه السنة عمر بن الوليد [والله أعلم «1» ] .(21/315)
سنة (89 هـ) تسع وثمانين:
ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسرى مكة وما خطب الناس [به] «1» وقاله
وفى هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسرى، فخطب أهلها فقال:
أيها الناس، أيهما أعظم، أخليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا من فضل الخليفة إلّا أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام استسقاه فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا، يعنى بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئرا حفرها الوليد بثنية طوى فى ثنية الحجون، فكان ماؤها عذبا، وكان ينقل ماءها ويضعه فى حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها.
وقيل: كانت ولاية خالد فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين. وقيل سنة أربع.
وحج بالناس فى هذه السنة عمر بن عبد العزيز.
سنة (90 هـ) تسعين:
ذكر هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج
فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقباذ «2» للبعث، لأنّ الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وأخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته، وجعل عليهم مثل الخندق، وجعلهم فى فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل(21/316)
الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وعذّبهم؛ فكان يزيد يصبر صبرا حسنا، فكان ذلك مما يغيظ الحجاج، فقيل له: إنه رمى فى ساقه بنشّابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسّها شىء إلّا صاح، فأمر أن يعذّب فى ساقه، فعذب، فصاح، فسمعته أخته هند، وكانت عند الحجاج فصاحت، فطلقها الحجاج، ثم كفّ عنهم وجعل يستأدى «1» منهم المال، فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا وأمر لهم بشراب، فسقوا، واشتغلوا «2» ، فلبس يزيد ثياب طبّاخه وخرج، وقد جعل له لحية بيضاء، فرآه بعض الحرس، فقال: كأنّ هذه مشية يزيد، فلحقه فرأى لحيته بيضاء، فتركه، وعاد وخرج المفضّل ولم يفطن له، وكذلك عبد الملك، فجاءوا إلى سفن معدّة فركبوها، وساروا ليلتهم.
ولما أصبح الحجاج وعلم بهم الحرس رفعوا أمرهم إليه ففزع، وظن أنهم قصدوا «3» خراسان لفتنة، فبعث إلى قتيبة يأمره بالجدّ والاحتياط.
ولما دنا يزيد وإخوته من البطائح استقبلتهم خيل قد ضمّرت وأعدّت لهم، فركبوها ومعهم دليل من كلب، فأخذوا على السّماوة إلى الشام، فأتى الحجاج الخبر، فكتب إلى الوليد يعلمه. وسار يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدى، وكان كريما على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته، وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج. قال: فأتنى(21/317)
بهم، فإنهم آمنون لا يوصل «1» إليهم وأنا حىّ. فجاء بهم إليه فكانوا عنده فى مكان آمن.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إنّ آل المهلب خانوا مال «2» الله وهربوا منّى، ولحقوا بسليمان.
فلما علم أنهم عند أخيه سكن بعض مابه، وكتب إليه سليمان:
إنّ يزيد عندى وقد أمّنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، لأن الحجاج أغرمه ثلاثة آلاف ألف، والذى بقى عليه أنا أؤدّيه.
فكتب الوليد: والله لا أؤمّنه حتى تبعث به إلىّ ...
فكتب سليمان: لئن بعثت به إليك لأجيئنّ معه.
فكتب إليه: والله لئن جئتنى لا أؤمنه. فقال يزيد بن المهلّب:
أرسلنى إليه، فو الله ما أحبّ أن أوقع بينك وبينه عداوة، واكتب معى بألطف ما قدرت عليه. فأرسله، وأرسل معه ابنه أيوب.
وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيّدا. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد فى سلسلة. ففعل ذلك، فلما رأى الوليد ابن أخيه فى سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان.
ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمّه، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخفر ذمّة أبى، وأنت أحقّ من منعها، ولا تقطع منّا رجاء من رجا السلامة فى جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العزّ فى الانقطاع إلينا لعزّنا بك.(21/318)
فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع فيه، ويضمن إيصال المال.
فقال: لقد شققنا على سليمان.
وتكلم يزيد واعتذر، فأمّنه الوليد، وردّه إلى سليمان، وكتب إلى الحجاج: إنى لم أصل إلى يزيد وأهله لمكانهم من سليمان، فاكفف عنهم، وكان أبو عيينة بن المهلّب عند الحجاج عليه ألف ألف، فتركها له، وكفّ عن حبيب بن المهلب، وكان يعذّب بالبصرة، وأقام يزيد عند سليمان فى أرغد عيش، وكان لا تصل إليه هديّة إلّا بعث بنصفها إلى يزيد، ولا تعجبه جارية إلا بعث بها إليه، وكان يزيد إذا أتته هدية بعث بها إلى سليمان.
وفى هذه السنة استعمل الوليد قرّة بن شريك على مصر، وعزل أخاه عبد الله عنها.
وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد.
وحج بالناس عمر بن عبد العزيز.
وفيها مات أنس بن مالك رضى الله عنه الأنصارى. وقيل: سنة [92 هـ] اثنتين وتسعين، وكان عمره ستّا وتسعين سنة، وقيل مائة وست سنين.
سنة (91 هـ) احدى وتسعين:
فى هذه السنة حجّ الوليد بن عبد الملك بالناس، فلما قدم المدينة دخل المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، ولم يبق(21/319)
غير سعيد بن المسيّب، لم يجسر «1» أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له [رضى الله عنه] «2» : لو قمت. فقال: لا أقوم حتى يأتى الوقت الذى كنت أقوم فيه. قيل له: فلو سلّمت على أمير المؤمنين.
قال: لا، والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد فى ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة.
فقال: من ذلك الشيخ: أهو سعيد؟ قلت: نعم. ومن حاله كذا وكذا، ولو علم بمكانك لقام فسلّم عليك.
فقال الوليد: قد علمت حاله، نحن «3» نأتيه، فأتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فو الله ما تحرّك سعيد. فقال: بخير والحمد لله؛ فكيف أمير المؤمنين؟ وكيف حاله؟ فانصرف وهو يقول: هذا بقيّة الناس. وقسم الوليد بالمدينة رقيقا «4» كثيرا وآنية من ذهب وفضة وأموالا، وصلّى بالمدينة الجمعة، وخطب الخطبة الأولى جالسا والثانية قائما.
وفيها عزل الوليد عامله محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية.
واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا الترك كما تقدم.
سنة (92 هـ) اثنتين وتسعين:
فى هذه السنة حجّ بالناس عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة وكان من الغزوات والفتوحات ما تقدم ذكره.(21/320)
سنة (93 هـ) ثلاث وتسعين:
ذكر عزل عمر بن عبد العزيز
فى هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة، وكان سبب ذلك أنّ عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف لحجّاج وظلمه، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى الوليد: إن من عندى من المرّاق «1» وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن.
فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يولّيه المدينة ومكة، فأشار بخالد بن عبد الله القسرى وعثمان بن حيّان، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة، فلما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرها، وتهدّد من أنزل عراقيّا أو أجره دارا. وقيل: كان ذلك قبل هذا التاريخ. والله أعلم.
وفيها كتب الوليد إلى عمر قبل عزله يأمره أن يضرب خبيب «2» ابن عبد الله بن الزّبير، ويصب على رأسه ماء باردا، فضربه خمسين سوطا. وصبّ على رأسه ماء باردا فى يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمات من يومه.
وحج بالناس عبد العزيز بن الوليد.(21/321)
سنة (94 هـ) أربع وتسعين:
ذكر مقتل سعيد بن جبير
[رضى الله عنه] «1» فى هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير، وهو أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدى مولى بنى والية:
بطن من بنى أسد بن خزيمة.
وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن [محمد بن] «2» الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن لقتال رتبيل، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج وعبد الملك كان سعيد ممن خلع؛ فلما هزم عبد الرحمن هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عاملها يأمره بإرساله، فتحرّج العامل من ذلك، وأرسل إلى سعيد يعرّفه أن يفارق البلد، فخرج إلى أذربيجان ثم خرج إلى مكة، فكان بها حتى قدم خالد بن عبد الله مكة، وأخرج أهل العراق إلى الحجّاج، فأخذ سعيد فيمن أخذ، وسيره إلى الحجاج مع حرسيّين، فانطلق أحدهما لحاجته فى بعض الطريق وبقى الآخر فنام واستيقظ. فقال لسعيد: إنى أبرأ إلى الله من دمك، إنى رأيت فى منامى قائلا يقول لى: ويلك! تبرأ إلى الله من دم سعيد بن جبير، فاذهب حيث شئت، فإنى لا أطلبك، فأبى سعيد ذلك، ورأى الحرسىّ ذلك ثلاث مرات وهو يكرّر القول على سعيد فى الذهاب فلا يفعل. ثم قدم الكوفة فأدخل على الحجاج، فلما رآه قال: لعن الله ابن النصرانية- يعنى خالد بن عبد الله،(21/322)
أما كنت أعرف مكانه، بلى والله والبيت الذى كان فيه بمكة. ثم أقبل عليه وقال: يا سعيد، ألم أشركك فى أمانتى «1» ؟ ألم أستعملك؟
قال: بلى. قال: فما أخرجك علىّ؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطىء مرّة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج، ثم عاوده فى شىء، فقال: إنما كانت بيعته «2» فى عنقى. فغضب الحجاج وانتفخ. وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين [عبد الملك] «3» ؟
قال: بلى. قال: ثم قدمت الكوفة واليا فجدّدت البيعة فأخذت بيعتك ثانيا؟ قال: بلى. قال: فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين، وتوفى بواحدة للحائك ابن الحائك، والله لأقتلنّك. قال: إنى إذا لسعيد كما سمّتنى أمى، فأمر به فضربت رقبته. فلما سقط رأسه هلل ثلاثا؛ أفصح بمرّة «4» ولم يفصح بمرّتين، والتبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه يريد القيود، فعطفوا «5» رجلى سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
وكان الحجاج إذا نام يراه فى منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:
يا عدوّ الله، فيم قتلتنى، فيقول: مالى ولسعيد بن جبير! مالى ولسعيد بن جبير! يكررها.(21/323)
وفيها كانت الزلازل بالشام فدامت أربعين يوما، فخربت البلاد، وكان معظم «1» ذلك بأنطاكية.
ذكر وفاة زين العابدين على بن الحسين
ابن على بن أبى طالب رضى الله عنهم ونبذة من أخباره كانت وفاته بالمدينة فى أول سنة [94 هـ] أربع وتسعين. وقيل فى سنة اثنتين. وقيل سنة ثلاث. وقيل سنة تسع وتسعين. وقيل سنة مائة. حكى هذا الاختلاف أبو القاسم بن عساكر فى تاريخ دمشق، واقتصر ابن الأثير الجزرى على سنة أربع وتسعين دون غيرها.
وكان رحمه الله يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو محمد، ويقال أبو الحسن، ويقال أبو الحسين زين العابدين. ومولده سنة [33 هـ] ثلاث وثلاثين، وأمه أمّ ولد اسمها غزالة [خلف عليها بعد الحسين زييد مولى الحسين، فولدت له عبد الله بن زييد.
وقال إسماعيل بن موسى السّدّى: عبد الرحمن بن حبيب أخو علىّ ابن الحسين لأبيه] «2» ، وكان رحمه الله ثقة ورعا مأمونا كثير الحديث من أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة.
حكى أبو القاسم بن عساكر فى تاريخه عن الزهرى، قال:
شهدت علىّ بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأوثقه حديدا، ووكل به حفّاظا فاستأذنتهم «3» فى التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لى فدخلت عليه، وهو فى قبّة(21/324)
والقيود فى رجليه والغلّ فى يديه، فسكنت «1» وقلت: وددت أنى مكانك وأنت سليم. فقال: يا زهرىّ، أو تظنّ هذا مما ترى علىّ وفى عنقى. أما إنى لو شئت ما كان. ثم أخرج يديه من الغلّ ورجليه من القيد.
ثم قال: يا زهرىّ، جزت معهم على هذا منزلتين من المدينة.
فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكّلون به يطلبونه بالمدينة، فما وجدوه، فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لى بعضهم: إنا نراه متبوعا، إنه لنازل- ونحن حوله لا ننام نرصده- إذ أصبحنا، فما وجدنا إلا حديده.
قال الزهرى: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألنى عن علىّ ابن الحسين، فأخبرته، فقال لى: إنه قد جاءنى فى يوم فقده الأعوان، فدخل علىّ، فقال: أنا وأنت! فقلت: أقم عندى.
فقال: لا أحبّ، فخرج، فو الله لقد امتلأ ثوبى منه خيفة.
فقال الزهرى: فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس علىّ بن الحسين حيث تظنّ، إنه لمشغول بنفسه. فقال: نعم.
وقيل: وقع حريق بالمدينة فى بيت فيه علىّ بن الحسين، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار! فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذى ألهاك عنها؟ قال: ألهانى عنها النار الأخرى..
وقيل: كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه، ولا يخطر بيده.
وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال:
ما تدرون بين يدى من أقوم ومن أناجى.(21/325)
قيل: وكان إذا توضّأ اصفرّ فيقول له أهله: ما هذا الذى يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدى من أريد أقوم؟
وعن سفيان بن عيينة قال: حجّ على بن الحسين، فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض، ووقع عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبّى. فقيل له: ما لك لا تلبّى؟ فقال: أخشى أن أقول لبّيك، فيقول لى: لا لبّيك. فقيل له: لا بدّ من هذا. فلما لبّى غشى عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجّه.
وقيل: كان رضى الله عنه يصلّى فى كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات رضى الله عنه.
وكان يسمّى بالمدينة زين العابدين لعبادته. وقيل: إنه قاسم الله ماله مرّتين، وكان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين فى ظلمة الليل، ويقول: إن الصّدقة فى ظلمة الليل تطفئ غضب الرّبّ.
وأعتق غلاما أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم وألف دينار. قيل: وسكبت جارية عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله عزّ وجل يقول «1» :
«وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ»
. قال: قد كظمت غيظى. قالت «2» :
«وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ»
. قال: قد عفا الله عنك. قالت «3» : وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» *
. قال: اذهبى فأنت حرّة.(21/326)
قيل»
: وأذنب له غلام ذنبا استحقّ منه العقوبة، فأخذ السّوط.
فقال الغلام: «قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله» ، وما أنا كذلك، إنى لأرجو رحمة الله، وأخاف عذابه، فألقى السّوط، وقال: أنت عتيق.
وقيل: حجّ هشام بن عبد الملك فى زمن عبد الملك أو فى زمن الوليد، فلما طاف جهد أن يستلم الحجر فلم يطق لزحام الناس عليه، فنصب له منبر، وجلس ينظر إلى الناس، إذ أقبل علىّ بن الحسين رضى الله عنه من أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فطاف بالبيت، فكان كلما بلغ الحجر تنحّى الناس له حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذى قد هابه الناس هذه المهابة؟ فقال هشام:
لا أعرفه- مخافة أن يرغب الناس فيه، وكان حوله وجوه أهل الشام، والفرزدق الشاعر، فقال الفرزدق: لكننى أنا أعرفه، فقال أهل الشام: من هذا يا أبا فراس؟ فزبره هشام، وقال:
لا أعرفه. فقال الفرزدق: بل تعرفه، ثم أنشد مشيرا إليه «2» :
[هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرسول الذى انجابت به الظّلم] «3»
هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهمو ... هذا النّقى التّقىّ الطاهر العلم(21/327)
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهى الكرم
يرقى «1» إلى ذروة العزّ الذى قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام «2» والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فلا يكلّم إلا حين يبتسم
بكفّه خيزران ريحها عبق ... من كفّ أروع فى عرنينه شمم
من جدّه دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له «3» الأمم
ينشقّ نور الهدى عن نور غرّته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظّلم «4»
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصرها والخيم والشّيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا(21/328)
الله شرّفه قدما وفضّله ... جرى بذاك له فى لوحه القلم
[فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم] «1»
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستو كفان ولا يعروهما عدم «2»
حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعتزم
من معشر حبّهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشّرى والبأس محتدم(21/329)
لا ينقص العسر بسطا من أكفّهم ... سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبّهمو ... ويستردّ به الإحسان والنعم
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهمو ... فى كل أمر ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحلّ الذّلّ «1» ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أىّ الخلائق ليست فى رقابهمو ... لأوّليّة هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أوليّة ذا ... فالدّين من بيت هذا بابه الأمم
قال: فغضب هشام لذلك وتنغّص عليه يومه، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، وبلغ ذلك علىّ بن الحسين رضى الله عنه، فبعث إليه باثنى عشر ألف درهم، وقال: اعذر أبا فراس، لو كان عندنا أكثر من هذا لو صلناك بها، فردّها الفرزدق، وقال: ما قلت الذى قلت إلّا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليها شيئا، فردّها عليه، وقال: بحقّى عليك إلا قبلتها، فقد علمت أنّا أهل بيت إذا أنفذنا أمرا لا نرجع فيه،(21/330)
وقد رأى الله مكانك، وعلم نيّتك، والجزاء عليه تعالى. فقبلها.
وجعل الفرزدق يهجو هشاما، فكان مما هجاه به «1» :
أتحبسنى «2» بين المدينة والتى ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد ... وعينين حولاوين باد عيوبها
وكان على بن الحسين يقول: لقد استرقّك بالودّ من سبقك بالشكر.
ولما حضرته الوفاة أوصى ألّا يؤذنوا به أحدا، وأن يكفّن فى قطن، ولا يجعلوا فى حنوطه مسكا، ودفن بالبقيع رحمه الله ورضى عنه.
ومات أيضا فى هذه السنة عروة بن الزبير رضى الله عنهما، وسعيد بن المسيّب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام.
وحجّ بالناس مسلمة بن عبد الملك. وقيل عبد العزيز بن الوليد.
وفيها استقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب.
سنة (95 هـ) خمس وتسعين:
ذكر وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى وشىء من أخباره
هو أبو محمد الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل ابن عامر بن مسعود بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف، كانت وفاته فى شوال سنة [95 هـ] خمس وتسعين،(21/331)
وقيل لخمس بقين من شهر رمضان من السنة، وله من العمر أربع وخمسون، وقيل ثلاث وخمسون.
روى أن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار فى أيام الوليد بن عبد الملك، فقال عمر بن العزيز:
الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة؛ اللهم قد امتلأت ظلما وجورا، فأرح الناس. فلم يمض غير قليل حتى توفى الحجاج وقرّة فى شهر واحد، ثم تبعهم الوليد، وعزل عثمان بن حيّان، وخالد بن عبد الله القسرى.
واستجاب الله لعمر.
وما أشبه هذه القصة بقصة عبد الله بن عمر رضى الله عنهما لما بلغه أنّ زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية يقول: إنّى قد ضبطت العراق بشمالى ويمينى فارغة. فقال ابن عمر: اللهم أرحنا من يمين زياد، وأرح أهل العراق من شماله. فاستجاب الله له.
وكان من خبر وفاة زياد ما ذكرناه.
وكانت ولاية الحجاج العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله، وعلى حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبى كبشة، وعلى الخراج يزيد بن أبى مسلم، فأقرّهما الوليد بعده.
وكان الحجاج من أفصح الناس. قال أبو عمرو بن العلاء:
ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وقد ذكرنا من كلامه عند مقدمه الكوفة ما يدلّ على فصاحته.(21/332)
ومن أخباره أنّ عبد الملك كتب إليه يأمره بقتل أسلم بن عبد الله البكرى لشىء بلغه عنه، فأحضره الحجاج، فقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول «1» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... »
الآية. والذى بلغه عنى فباطل «2» .
فاكتب إلى أمير المؤمنين أنى أعول أربعا وعشرين امرأة، وهنّ بالباب؛ فأحضرهن، وكان فى آخرهن جارية قاربت عشر سنين.
فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته، أصلح الله الأمير، ثم أنشأت «3» :
أحجاج لو «4» تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج لا «5» تقتل به إن قتلته ... ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلا أن تزدنا تضعضعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتّلنا معا
فبكى الحجاج، وقال: والله لا أعنت الدهر عليكنّ ولازدتكنّ تضعضعا.
وكتب إلى عبد الملك بخبره وخبر الجارية، فكتب إليه:
إذا كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقّد «6» الجارية، ففعل.(21/333)
قال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتّقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ليس فيه مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا لحلّت لى دماؤكم، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أمّ عبد- يعنى ابن مسعود- إلّا ضربت عنقه، ولأحكّنّها من المصحف ولو بضلع خنزير.
قال الأوزاعى: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
قال الحسن: سمعت عليا يقول على المنبر: اللهم ائتمنتهم فخانوا، ونصحتهم فغشّونى، اللهم فسلّط عليهم غلام ثقيف يحكم فى دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية، فوصفه. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج.
قال حبيب بن أبى ثابت: قال علىّ رضى الله عنه لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل: يا أمير المؤمنين؛ ما فتى ثقيف؟
قال: ليقالنّ له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين، فلا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وبينها وبينه باب مغلق لكسره.
حتى يرتكبها، يقتل «1» من أطاعه بمن عصاه.
وقيل: أحصى من قتله الحجاج صبرا فكانوا مائة ألف وعشرين ألفا.(21/334)
وقيل: إن الحجاج مرّ بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر فى مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ فقال خالد: بخ بخ! هذا عمرو ابن العاص. فسمعها الحجاج فرجع، وقال: والله ما يسرّنى أن العاص والدى «1» ، ولكنى ابن الأشياخ من ثقيف، والعقائل من قريش، وأنا الذى ضربت «2» بسيفى هذا مائة ألف كلّهم يشهد أنّ أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولّى، وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فقد أقرّ على نفسه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد.
وحجّ بالناس فى هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك.
سنة (96 هـ) ست وتسعين:
ذكر وفاة الوليد بن عبد الملك وشىء من أخباره وسيرته وأولاده وعماله
كانت وفاته بدير «3» مرّان فى النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة. ودير مرّان كان بجبل قاسيون بظاهر دمشق، وهو الآن مدرسة وتربة منسوبة إلى الملك المعظّم شرف الدين عيسى ابن العادل ابن أيوب. كانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر. ودفن خارج الباب الصغير بدمشق. وقيل فى مقابر الفراديس «4» .
وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز. ولما دلّى فى حفرته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: عاش أبى؟ فقال له عمر بن عبد العزيز- وكان فيمن(21/335)
دفنه: عوجل والله أبوك. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر. وقيل سبعا وأربعين. وقيل ثمانيا وأربعين. والله أعلم.
وكان أسمر اللّون، جميل الوجه، أفطس الأنف. وقيل.
كان سائل الأنف جدّا وبوجهه آثار جدرى.
وكان نقش خاتمه: يا وليد، إنك ميت.
وكان له من الأولاد تسعة عشر ذكرا، وعدّهم بعض المؤرخين عشرين، وهم: يزيد، وإبراهيم- وليا الخلافة، والعباس فارس بنى مروان، وعمر فحل بنى مروان، وعبد العزيز، وبشر، وصدقة، ومحمد، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، ويحيى، هؤلاء الذكور، سوى البنات.
كتّابه: قرّة بن شريك، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحاك ابن يزيد، ثم يزيد بن أبى كبشة، ثم عبد الله بن بلال.
قضاته: عبد الله بن بلال، وسليمان بن حبيب.
حجّابه: خالد، وسعيد مولياه.
الأمراء بمصر: أخوه عبد الله، ثم قرّة بن شريك.
قاضيها: عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة «1» ، ثم صرفه قرّة وولّى عياض بن عبد الله، ثم وليها عبد الملك بن رفاعة بعد وفاة قرّة.
وكان عمّاله على الأمصار من ذكرناهم.
قال: وكان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام من أفضل(21/336)
خلفائهم «1» ، وله آثار حسنة ومبان عظيمة، وفتح فى أيامه بلاد الأندلس وماوراء النهر وبلاد الهند.
[قال] «2» : وكان الوليد يمرّ بالبقّال فيقف عليه، ويأخذ منه حزمة بقل، فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول الوليد:
زد فيها.
وبنى جامع دمشق فى سنة [86 هـ] ست وثمانين، وهدم كنيسة النصارى التى كانت إلى جانبه، وتعرف بماريو حنا، وزادها فيه.
وقيل: كان فى الجامع وهو يبنى اثنا عشر ألف مرخم. وتوفّى الوليد ولم يتمّ بناؤه، وكان الفراغ منه فى أيام سليمان أخيه.
وقيل: إن جملة ما أنفق عليه أربعمائة صندوق، فى كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة من الذهب للقناديل، ولم تطق الناس الصلاة فيه لكثرة شعاعه، فدخنت حتى اسودّت، فلما ولى عمر بن عبد العزيز جعلها فى بيت المال، وعوّضها بالحديد.
وأمر الوليد ببناء جامع البيت المقدس فى سنة [88 هـ] ثمان ثمانين.
قيل: وحجّ الوليد بالناس ثلاث «3» حجج: سنة ثمان وثمانين.
وسنة إحدى وتسعين، وسنة أربع وتسعين.
قال: وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان، ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عمّاله، ودعا الناس إلى خلعه، فلم يجبه إلى ذلك إلا الحجاج وقتيبة وخواصّ من الناس.(21/337)
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم على المسير إليه ليخلعه، وأخرج خيمة فمات قبل أن يسير إليه.
قال: وكان الوليد لحانا لا يحسن العربية، فعاتبه أبوه، وقال:
إنه لا يلى العرب إلّا من يحسن كلامهم؛ فجمع النّحاة، ودخل بيتا فلم يخرج منه ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل، فقال عبد الملك: قد أعذر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر بيعة سليمان بن عبد الملك
هو أبو أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه ولادة أم أخيه الوليد، وهو السابع من ملوك بنى أمية. بويع له يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة، وهو يوم وفاة أخيه الوليد، وكان إذ ذاك بالرّملة، وكان الوليد قد أراد خلعه من ولاية العهد، فمات قبل أن يتمّ له ما أراد من ذلك.
ولنذكر الحوادث الكائنة فى أيامه على حكم السنين:
[سنة (96 هـ) ست وتسعين:]
ذكر قتل «1» قتيبة بن مسلم
وفى هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلى بخراسان، وكان سبب ذلك أنه أجاب الوليد إلى خلع سليمان كما ذكرنا، فلما أفضت الخلافة إلى سليمان خشى قتيبة أنّ سليمان يستعمل يزيد بن المهلب على خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنّئه بالخلافة ويذكر(21/338)
بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان.
وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه بفتوحه ومكانته، وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته فى صدورهم، ويذمّ آل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.
وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من أهله، وقال له: ادفع الكتاب الأول إليه، فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الثانى. فإن قرأه ودفعه إلى يزيد فادفع إليه الثالث، وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين عنه.
فقدم رسول قتيبة، فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع إليه الكتاب الأوّل، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثانى، فقرأه وألقاه إليه، فأعطاه الثالث، فقرأه وتغيّر «1» لونه وختمه وأمسكه بيده. فقيل «2» : كان فيه: لو لم «3» تقرّنى على ما كنت عليه وتؤمننى لأخلعنّك، ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا «4» .
ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة، ثم أحضره ليلا وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان وسيّر معه رسولا، فلما كانا «5» بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان، وكان قتيبة لما همّ بخلع سليمان استشار إخوته فقال عبد الرحمن: اقطع بعثا [فوجّه] «6»(21/339)
فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فإنه لا يقيم عندك إلّا مناصح. وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فوافقه وخلع سليمان، ودعا الناس إلى خلعه فلم يجبه أحد، فغضب، وقال:
لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، وسبّهم طائفة طائفة وقبيلة قبيلة، وذكر مساويهم ومعايبهم، ونزل؛ فغضب الناس واجتمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أوّل من تكلم فى ذلك الأزد، فأتوا حضين «1» بن المنذر، فقالوا: إنّ هذا قد خلع الخليفة، وفيه فساد الدّين والدنيا، وقد شتمنا فما ترى؟ فأشار عليهم أن يأتوا وكيع بن أبى سود التميمى، ويقدّموه لرياسته فى قومه، فأتوه وسألوه أن يلى أمرهم، ففعل.
وكان بخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة «2» آلاف، ورئيسهم حضين ابن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف وعليهم ضرار بن حصين، ومن عبد القيس أربعة آلاف وعليهم عبد الله بن حوذان «3» ، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف وعليهم جهم بن زحر. ومن الموالى سبعة آلاف وعليهم حيّان النبطى مولى بنى شيبان، وهو من الدّيلم وقيل من خراسان، وإنما قيل له النبطى للكنته.(21/340)
فأرسل حيّان إلى وكيع يقول: إن أنا كففت عنك وأعنتك تجعل لى الجانب الشرقى من نهر بلخ آخذ خراجه مادمت حيا، وما دمت أميرا! قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا. ففعلوا.
وقيل لقتيبة: إن وكيعا يبايع الناس، فدسّ عليه ضرار بن سنان الضبى، فبايعه سرّا، فظهر أمره لقتيبة، فأرسل إليه يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة «1» ، وعلّق على ساقه «2» خرزا، وعنده رجلان يرقيان رجله. فقال للرسول: قد ترى ما برجلى. فرجع إليه فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول: لتأتينّى به محمولا، فأتاه فقال:
لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتنى به، فإن أبى فاضرب عنقه، ووجّه معه خيلا.
وقيل: أرسل إليه شعبة «3» بن ظهير التميمى. فقال له وكيع:
يا ابن ظهير، لبّث قليلا تلحق الكتائب. ولبس سلاحه، ونادى فى الناس، فأتوه، وركب فرسه، وخرج، فأتاه الناس أرسالا، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواصّ أصحابه وثقاته، منهم إياس ابن بيهس بن عمرو، وهو ابن عمّ قتيبة، ودعا قتيبة ببرذون له مدرّب ليركبه، فاستعصعب عليه حتى أعياه، فجلس على سريره وقال: دعوه، فإن هذا أمر يراد.
وجاء حيان فى العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو(21/341)
قتيبة: أحمل عليهم. فقال حيّان: لم يأت بعد. وقال حيّان لابنه:
إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتى وملت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلىّ. فلما حوّل حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع فكبّروا وهاجوا، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة، وجاء الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة، فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم بن «1» زحر بن قيس لسعد: انزل فحزّ رأسه، فنزل وشقّ الفسطاط، واحتزّ رأسه؛ وقتل معه من أهله وإخوته:
عبد الرحمن، وعبد الله، وصالح، وحضين، وعبد الكريم: بنو مسلم «2» .
وقتل كثير ابنه، وكان عدّة من قتل مع قتيبة من أهله أحد عشر رجلا، فأرسل وكيع إلى سليمان برأسه ورءوس أهله.
ولما قتل قال رجل من خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا فمات لجعلناه فى تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا.
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلى يرثى قتيبة «3» :
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم تشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربّه ... وراح إلى الجنّات عفّا «4» مطهّرا
فما رزى الإسلام بعد محمّد ... بمثل أبى حفص فبكّيه «5» عبهرا
وعبهر: أمّ ولد له.(21/342)
ووصل خبر مقتله إلى الشام فى اليوم الثانى من مقتله.
قال شيوخ من غسان: كنا بثنّية العقاب «1» إذا نحن برجل معه عصا وجراب، فقلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا؟ هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس، فعجبنا من قوله. فلما رأى إنكارنا قال: أين ترونى الليلة من إفريقية «2» ؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا به يسبق الطّرف. وثنيّة العقاب فى مرج دمشق على نصف مرحلة منها.
*** وفى هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيّان عن المدينة
لسبع بقين من شهر رمضان، واستعمل عليها أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر هذا ويحلق لحيته من الغد، فلما كان اليل جاء البريد إلى أبى بكر بتأميره وعزل عثمان وحده وتقييده.
وعزل سليمان أيضا يزيد بن أبى مسلم عن العراق، واستعمل يزيد بن المهلّب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره ببسط العذاب على آل أبى عقيل؛ وهم أهل الحجاج، فكان يعذّبهم، ويلى عذابهم عبد الملك بن المهلّب.
وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد «3» وعلى حرب العراق(21/343)
وصلاتها يزيد بن المهلّب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن.
وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندى من قبل يزيد، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبى موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبى سود «1» .
وفيها مات شريح القاضى، وقيل سنة [97 هـ] سبع وتسعين.
وله مائة وعشرون سنة، ومحمود بن لبيد الأنصارى وله صحبة.
سنة (97 هـ) سبع وتسعين:
ذكر ولاية يزيد بن المهلب خراسان
فى هذه السنة استعمل سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب على خراسان مضافة إلى العراق، وكان سبب ذلك أنّ سليمان لما ولى يزيد بن المهلّب العراق فوّض إليه الحرب والخراج والصلاة بها، فنظر يزيد لنفسه، فرأى أنّ الحجاج قد أخرب العراق، وأنه إن أخذ الناس بالخراج وعذّبهم عليه صار عندهم مثل الحجاج، وأنه متى لم يفعل ذلك ويأت سليمان بمثل ما كان الحجاج يأتى به لم يقبل منه، فأشار على سليمان أن يولّى صالح بن عبد الرحمن مولى تميم الخراج، فولاه الخراج وسيّره قبل يزيد، فنزل واسطا. ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد وسايره، ولم يمكنه من شىء، وضيّق عليه، فضجر يزيد من ذلك، فدعا عبد الله بن الأهتم، وقال له: إنى أريدك لأمر أهمّنى، وأحبّ أن تكفينيه. قال: أفعل.(21/344)
قال: أنا فيما ترى من الضّيق، وقد ضجرت منه، وخراسان شاغرة فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرّحنى إلى أمير المؤمنين.
فكتب يزيد إلى سليمان وأعلمه بحال العراق، وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسيّره على البريد؛ فأتى ابن الأهتم سليمان فقال له:
إن يزيد كتب إلىّ يذكر علمك بالعراق، فكيف «1» علمك بخراسان؟
قال: أنا أعلم الناس بها، ولدت بها ونشأت، ولى بها وبأهلها خبر.
قال: فأشر على برجل أولّيه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيى فيه، فسمّى رجلا من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب.
فقال: لا يصح، فإنه يضيق عن هذا، وليس له مكر أبيه ولا شجاعته «2» ، حتى ذكر رجالا، وكان آخر من ذكر وكيع ابن أبى سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم رئيس مقدام، وما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندى يدا من وكيع، لقد أدرك بثأرى وشفانى من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقا، والنصيحة له تلزمنى، إنّ وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قطّ إلا حدّث نفسه بغدرة، خامل فى الجماعة، نابه «3» فى الفتنة.
قال: فمن لها ويحك! قال: رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين.
قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لى أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرنى منه إن علم. قال: نعم، قال: يزيد بن المهلب.(21/345)
قال: العراق أحبّ إليه من خراسان؟ قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه فيستخلف على العراق [رجلا] «1» ويسير هو إلى خراسان. قال: أصبت الرأى.
فكتب عهد يزيد على خراسان، وسيّره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد، فأمر بالجهاز للمسير من ساعته، وقدم ابنه مخلدا إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمى، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكلابى، وجعل أخاه مروان بن المهلب على حوائجه وأموره بالبصرة، واستخلف على الكوفة حرملة بن عمير اللخمى أشهرا، ثم عزله، وولى بشير بن حيان النّهدى، وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فأمر سليمان يزيدا أن يسأل عن ذلك. فإن أقامت قيس البيّنة أنّ قتيبة لم يخلع فنقيد وكيعا به، فلما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه وكيع «2» فحبسه وعذّبه، وعذّب أصحابه قبل قدوم أبيه، فكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم قدم يزيد خراسان فآذى «3» أهل الشام وقوما من أهل خراسان، فقال نهار ابن توسعة رحمه الله «4» :
وما كنّا نؤمّل من أمير ... كما كنّا نؤمّل من يزيد
فأخطأ ظنّنا فيه وقدما ... زهدنا فى معاشرة الزّهيد
إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مشى الأسود.(21/346)
فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد
نجىء «1» ولا «2» نرى إلّا صدودا ... على أنّا نسلّم من بعيد
ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهّم والصّدود
*** وفى هذه السنة جهّز سليمان الجيوش إلى القسطنطينية، واستعمل ابنه داود على الصائفة، فافتتح حصن المرأة.
وفيها غزا مسلمة أرض الوضّاحية، وفتح الحصن الذى فتحه الوضّاح.
وغزا عمر بن هبيرة الروم فى البحر فشتابها. وحجّ سليمان بن عبد الملك بالناس.
وفيها عزل داود بن طلحة «3» الحضرمى عن مكة، فكان عمله عليها ستة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد.
سنة (98 هـ) ثمان وتسعين:
ذكر محاصرة القسطنطينية
فى هذه السنة بعث سليمان الجيوش إلى القسطنطينية مع أخيه مسلمة بعد أن سار سليمان إلى دابق «4» ، وكان ملك الروم قد مات، فجاء أليون من أذربيجان إلى سليمان، وأخبره بوفاته، وضمن له فتح الروم، فبعث معه مسلمة، فسار هو وأليون، فلما دنا من أرض الروم أمر كلّ فارس أن يحمل معه مدّين من طعام، فلما أتاها أمر(21/347)
بإلقاء ذلك، فصار مثل الجبال، وقال مسلمة لمن معه: لا تأكلوا منه شيئا وأغيروا «1» فى أرضهم وازرعوا، وعمل بيوتا من خشب فشتا فيها وصاف وزرع الناس، فلما «2» كثر عندهم الطعام أقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس، فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا فلم يقبل، فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملّكناك، فاستوثق منهم، وأتى مسلمة فقال له: إنّ الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا ما بأيديهم، فأمر مسلمة بالطعام فحرق، فقوى الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وداموا على ذلك حتى مات سليمان.
وقيل: إن أليون إنما خدع مسلمة بأن سأله أن يدخل من الطعام إلى الروم ما يعيشون به ليلة [واحدة] «3» ، ليصدّقوا أنّ أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم فى أمان من السّبى والخروج من بلادهم، فأذن له فى ذلك. وكان أليون قد أعدّ السّفن والرجال فنقلوا تلك الليلة الطعام كلّه، وأصبح أليون محاربا، ولقى الجند ما لم يلقه أحد «4» ، حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وسليمان مقيم بدابق ووقع «5» الشتاء فلم يقدر أن يمدّهم حتى مات.(21/348)
وفى هذه السنة بايع سليمان لابنه أيوب بولاية العهد.
وفيها فتحت مدينة الصقالبة.
وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحى الرّوم، وأسر بشرا كثيرا.
ذكر فتح قهستان «1» وجرجان وطبرستان
فى هذه السنة غزا يزيد بن المهلّب جرجان وطبرستان.
وكان سبب اهتمامه بها أنّ يزيد لما كان عند سليمان بالشام فى حياة الوليد، فكان كلما فتح قتيبة فتحا يقول سليمان ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة! فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التى قطعت الطريق، وأفسدت قومس ونيسابور، ويقول: هذه الفتوح ليست بشىء، الشأن فى «2» ، جرجان.
وكان سعيد بن العاص قد صالح أهل جرجان، فكانوا يجبون أحيانا مائة ألف، وأحيانا مائتى ألف، وأحيانا ثلاثمائة ألف، وربما منعوا ذلك، ثم أظهروا الامتناع وكفروا فلم يعطوا خراجا، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد، و [قد] «3» منعوا ذلك الطريق فلم يكن يسلك أحد طريق(21/349)
خراسان إلا على فارس وكرمان.
فلما ولى سليمان يزيد خراسان لم يكن له همّة غير جرجان، فسار إليها فى مائة ألف سوى الموالى والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة، إنما هى جبال ومخارم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدر عليه أحد، فابتدأ بقهستان «1» فحاصرها، وكان أهلها طائفة من الترك، فقاتلهم قتالا شديدا، واشتدت الحرب، وقطع عنهم الميرة، فبعث دهقانها، واسمه صول «2» يطلب من يزيد الأمان لنفسه وأهله وماله، ويسلّم إليه المدينة بما فيها، فأمّنه ووفى له، ودخل المدينة فقتل بها أربعة عشر ألف تركى صبرا، وأخذ ما فيها من الكنوز والسّبى وغير ذلك، ثم خرج حتى أتى جرجان فهابه أهلها، وأتوه وصالحوه، فأجابهم إلى ذلك، وصالحهم، فطمع فى طبرستان، فسار إليها فصالحه اصبهذها «3» على سبعمائة ألف «4» ، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران، أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضّة وسرقة حرير وكسوة، فأرسل من يقبض ذلك وانصرف إلى جرجان. [والله أعلم «5» ] .(21/350)
ذكر فتح جرجان الفتح الثانى وانشاء مدينتها
قال «1» : ولما سار يزيد إلى طبرستان غدر أهل جرجان، فعاد إليهم وعاهد الله إن ظفر بهم لا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين، فحصرهم سبعة أشهر وهم يخرجون إليه يقاتلونه «2» ويرجعون، فبينما هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيّد، وقيل من طيّئ، فأبصر وعلا فى الجبل فتبعه فلم يشعر حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، وجعل يخرّق قباءة ويعقد على الشجر علامات، فأتى يزيد فأخبره فضمن له يزيد دية إن دلّهم على الحصن؛ فانتخب معه ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم إنه خالدا، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبنّ على الموت، وإياك أن أراك عندى مهزوما، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال للرجل: متى تصل «3» ؟
قال: غدا العصر. قال يزيد: سأجهد على مناصحتهم «4» عند الظهر.
فساروا، فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كلّ حطب كان عندهم، فصار مثل الجبال من النيران، فنظر العدوّ إلى النار، فها لهم ذلك، فخرجوا إليهم؛ وتقدّم يزيد إليهم، ودهمهم ابنه بمن معه قبيل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه، فما شعروا إلا والتكبير «5» من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون؛ فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى(21/351)
ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثنى عشر ألفا إلى وادى جرجان فقتلهم، وأجرى الماء على الدم، وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ليبرّ يمينه، فطحن وخبز وأكل.
وقيل: قتل منهم أربعين ألفا، وبنى مدينة جرجان، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة، ورجع إلى خراسان، واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفى، وكتب إلى سليمان بالفتح وعظّمه «1» عنده، وأخبره أنه قد حصل عنده من الخمس ستمائة ألف ألف، فقال له كاتبه- المغيرة بن أبى قرّة مولى بنى تميم «2» : لا تكتب بتسمية المال، فإنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت به نفسه فأعطاكه فتكلفت الهدية؛ فلا يأتيه من قبلك شىء إلّا استقلّه، فكأنى بك قد استغرقت ما سمّيت ولم يقع منه موقعا، ويبقى المال الذى سميت مخلّدا فى دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه، ولكن اكتب سله «3» القدوم وشافهه بما أصبت فهو أسلم.
فلم يقبل منه، وكتب «4» ، فكان من أمره فى ذلك ما نذكره فى أخبار عمر بن عبد العزيز.(21/352)
وقيل: كان المبلغ أربعة آلاف ألف، والله تعالى أعلم.
*** وفيها توفى أيّوب بن سليمان بن عبد الملك، وهو ولىّ العهد.
وفيها غزا داود بن سليمان أرض الروم؛ ففتح حصن المرأة مما يلى ملطية.
وفيها كانت الزلازل فى الدنيا كثيرة، ودامت ستة أشهر.
وحجّ بالناس عبد العزيز بن عبد الله أمير مكة.
سنة (99 هـ) تسع وتسعين:
ذكر وفاة سليمان بن عبد الملك وشىء من أخباره وعماله
كانت وفاته يوم الجمعة لعشر مضين من صفر من السنة بدابق «1» من أرض قنّسرين بذات الجنب، وله خمس وأربعون سنة. وكانت مدة خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز؛ وكان طويلا أبيض، جميل الوجه، فصيح اللسان، معجبا بنفسه، يتوقّى سفك الدماء. وكان أكولا نكاحا، وكان حسن السيرة، وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير؛ ذهب عنهم الحجاج، وولى سليمان، فأطلق الأسارى، وأخلى السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز. ويقال: إنه فعل فى يوم واحد أكثر مما فعل عمر بن عبد العزيز جميع عمره، وذلك أنه أعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة، وكساهم.
ومن أعظم بركاته أنه جعل عمر بن عبد العزيز ولىّ عهده. وحكى(21/353)
أنه لبس يوما حلّة خضراء وعمامة خضراء، ونظر فى المرآة، فقال:
أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة.
وقيل: كانت له جارية معها مرآة، فدعاها يوما فجاءته بها، فنظر وجهه، ونظرت الجارية إليه، فقال لها: ما تنظرين؟ قالت «1» :
أنت نعم «2» المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فانى «3»
وانصرفت، فاستدعاها فجاءت بالمرآة «4» فسألها عن البيتين، فقالت: والله ما جئتك اليوم؛ فعلم أنه نعى.
وقيل: إنه شهد جنازة بدابق فدفنت فى حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التّربة، ويقول: ما أحسن هذه وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جنب ذلك القبر.
وقيل: إنه كان له من الأولاد الذكور أربعة عشر.
وكان نقش خاتمه: آمنت بالله مخلصا.
وكتّابه: يزيد بن المهلب، ثم المفضل «5» بن المهلب عم عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم.
قاضيه: محمد بن حزم.
حاجبه: أبو عبيدة «6» مولاه.
الأمير بمصر: عبد الله بن رفاعة.(21/354)
قاضيها من قبله: عبد الله بن عبد الرحمن، وهو متولّى بيت المال، ثم رد القضاء إلى عياض بن عبد الله من قبل سليمان بن عبد الملك.
ذكر بيعة عمر بن عبد العزيز
هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم؛ وأمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الثامن من ملوك بنى أمية، بويع له بدابق يوم الجمعة بعد وفاة سليمان لعشر خلون من صفر سنة [99 هـ] تسع وتسعين.
قال: وكان سليمان لما مرض بدابق عهد فى كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ الحلم، فدخل عليه رجاء بن حيوة، فقال له:
يا أمير المؤمنين؛ إنه «1» مما يحفظ الخليفة فى قبره أن يستخلف على الناس «2» الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله، وأنظر. ومكث يوما أو يومين ثم حرق «3» الكتاب، ودعا رجاء، فقال: ما ترى فى ولدى داود؟ فقال رجاء: هو غائب بالقسطنطينية، ولم يدر «4» أحىّ هو أم لا؟ قال: فما ترى فى عمر بن عبد العزيز؟
قال رجاء: أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. قال سليمان: هو على ذلك، ولئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه لتكوننّ فتنة ولا يتركونه أبدا عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده.(21/355)
فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر. وكان يزيد غائبا فى الموسم.
فكتب سليمان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز؛ إنى قد ولّيتك الخلافة من بعدى، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوا، واتّقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم.
وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن جابر «1» صاحب شرطته، فقال: ادع أهل بيتى، فجمعهم كعب، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابى هذا إليهم، ومرهم أن يبايعوا من ولّيت فيه، ففعل، وبايعوا رجلا رجلا، ولم يعلموا من فى الكتاب.
قال رجاء: فأتانى عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلىّ من هذا الأمر شيئا؛ فأنشدك الله إلّا أعلمتنى إن كان قد وقع حتى أستعفى قبل أن يأتى حال لا أقدر على ذلك فيها.
قال رجاء: فقلت: ما أنا مخبرك «2» . فذهب عنّى غضبان.
ولقينى هشام بن عبد الملك فقال: إن لى حرمة ومودّة قديمة فأعلمنى بهذا الأمر؛ فإن كان إلى غيرى تكلّمت، ولله علىّ ألّا أذكرك.
قال: فأبيت أن أخبره. قال «3» : ودخلت على سليمان عند موته فغمضته وسجّيته، وأغلقت الباب، وأرسلت إلى كعب بن جابر «4» ، فجمع أهل بيت سليمان فى مسجد دابق، فقلت: بايعوا! فقالوا:(21/356)
قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد من أمير المؤمنين، فبايعوا الثانية. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موته رأيت أنى قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، فاسترجعوا، وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام:
لا نبايعه والله أبدا. قلت: أضرب والله عنقك. قم وبايع. فقام يجرّ رجليه.
قال رجاء: وأجلست عمر على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فبايعوه.
قال: ولما دفن سليمان أتى عمر بمراكب الخلافة، فقال: دابّتى أرفق «1» لى، وركب دابّته؛ ثم أقبل سائرا، فقيل له: منازل «2» الخلافة؟ فقال: فيها عيال سليمان، وفى فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا.
قال: وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- وفاة سليمان ولم يشعر بعمر «3» ، فدعا لنفسه، فبلغه بيعة عمر، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له عمر: بلغنى أنك بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق.
قال: نعم، وذلك أنه بلغنى أنّ سليمان ما عقد لأحد فخفت على الأموال أن تنتهب. فقال [له] «4» عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه. فبايعه عبد العزيز.
قال: ولما استقرت البيعة لعمر قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك:
إن أردتنى «5» فردّى ما معك من مال وحلى وجوهر إلى بيت المال،(21/357)
فإنه للمسلمين، وإنى لا أجتمع أنا وأنت وهو فى بيت واحد، فردّته جميعه. فلما توفى عمر وولّى أخوها يزيد ردّه عليها فلم تأخذه، وقالت: ما كنت لأطيعه حيّا وأعصيه ميّتا، ففرّقه يزيد على أهله.
قال: وكان [من] «1» أول ما ابتدأ به عمر بن عبد العزيز أن ترك سبّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنابر، وكان يسبّ فى أيام بنى أمية إلى أن ولى عمر فترك ذلك، وأبدله بقول الله عز وجل «2» :
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
. فحلّ ذلك عند الناس محلّا حسنا، وأكثروا مدح عمر بسببه، فكان ممن مدحه كثيّر عزّة بقوله «3» :
وليت فلم تشتم عليّا ولم تخف ... بريّا ولم تتبع مقالة مجرم
تكلّمت بالحقّ المبين وإنما ... تبيّن آيات الهدى بالتكلم
فصدقت «4» معروف الذى قلت بالذى ... فعلت فأضحى راضيا كلّ مسلم
ألا إنما يكفى الفتى بعد زيغه ... من الأود البادى «5» ثقاف المقوّم
وفيها وجّه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجّه لهم خيلا عتاقا وطعاما كثيرا.
وفيها أغارت الترك على أذربيجان. فقتلوا من المسلمين جماعة،(21/358)
فوجّه عمر حاتم بن النعمان الباهلى فقتل أولئك الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وقدم على عمر منهم بخمسين أسيرا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلّب عن أعماله، ووجّه إلى البصرة عدى بن أرطاة الفزارى، وجعل على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب العدوى، وضمّ إليه أبا الزّناد، واستعمل على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمى.
وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان عامل المدينة، وكان العامل على مكة عبد العزيز بن [عبد الله بن خالد، وعلى الكوفة عبد الحميد] «1» ، وعلى القضاء بها [عامر الشعبى، وكان على البصرة عدىّ من أرطاة، وعلى القضاء «2» ] الحسن بن أبى الحسن البصرى، ثم استعفى عديّا فأعفاه، واستقضى إياس بن معاوية.
سنة مائة للهجرة:
ذكر خروج شوذب الخارجى
فى هذه السنة خرج شوذب واسمه بسطام من بنى يشكر فى جوخى وكان فى ثمانين رجلا، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد عامله بالكوفة ألّا يحرّكهم حتى يسفكوا الدّماء أو يفسدوا فى الأرض، فإن فعلوا وجّه إليهم رجلا صليبا حازما فى جند.
فبعث عبد الحميد محمد بن جرير بن عبد الله البجلى فى ألفين، وأمره أن يفعل ما كتب «3» به عمر، وكتب عمر إلى بسطام(21/359)
يسأل «1» عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم [عليه] «2» محمد، فكان فى كتاب عمر: بلغنى أنك خرجت غضبا لله ولرسوله، ولست بذلك أولى منى، فهلم إلىّ أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك.
فكتب إليه «3» بسطام: قد أنصفت، وقد بعثت إليك برجلين يدارسانك ويناظرانك. وأرسل إليه مولى حبشيّا لبنى شيبان اسمه عاصم، ورجلا من بنى يشكر، فقدما على عمر بخناصرة «4» ، فقال لهما: ما أخرجكما هذا المخرج؟ وما الذى نقمتم؟ قال عاصم:
ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرّى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر؛ عن رضا من الناس ومشورة، أم ابتززتم «5» أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلىّ رجل كان قبلى، فقمت، ولم ينكر علىّ أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون «6» الرّضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس، فأنزلونى «7» ذلك الرجل، فإن خالفت الحقّ وزغت «8» عنه فلا طاعة لى عليكم. قالا: بيننا وبينك أمر واحد. قال: ما هو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسمّيتها مظالم، فإن كنت على هدى وهم على(21/360)
ضلالة فالعنهم وابرأ منهم. فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إنّ الله عزّ وجل لم يبعث رسوله لعّانا. وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه «1» :
«فمن تبعنى فإنه منّى ومن عصانى فإنّك غفور رحيم» . وقال الله عز وجل «2» :
«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»
. وقد سميت أعمالهم ظلما، وكفى بذلك ذمّا ونقصا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بدّ منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرنى متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك ألّا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرّهم، ولا يسعنى ألّا ألعن أهل بيتى وهم مصلّون صائمون؟
قال عاصم: أما هم كفّار بظلمهم؟ قال: لا، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقرّبه وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد. فقال عاصم: إن رسول الله دعا الناس إلى توحيد الله تعالى والإقرار بما أنزل من عنده.
قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علمهم «3» أنه محرّم عليهم، ولكن غلب عليهم الشّقاء.
قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك وردّ أحكامهم.
قال عمر: أخبرانى «4» عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، أليسا على الحق؟ قالا: بلى. قال: أتعلمان أنّ أبا بكر حين قاتل أهل(21/361)
الرّدّة سفك دماءهم، وسبى الذّرارى، وأخذ الأموال؟ قالا: نعم.
قال: أفتعلمان أن عمر رضى الله عنه ردّ السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبى بكر؟ قالا: لا.
قال: أفتبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبرانى عن أهل النّهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان «1» أنّ أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا، وأن من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن خبّاب وجاريته وهى حامل؟ قالا: نعم.
قال: فهل برى من لم يقتل ممّن قتل؟ قالا: لا. قال: أفتبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أفيسعكم أن تتولّوا أبا بكر وعمر وأهل الكوفة وأهل البصرة وقد علمتم اختلاف أعمالهم، ولا يسعنى إلا البراءة من أهل بيتى، والدّين واحد؟ فاتقوا الله، فإنكم جهّال تقبلون من الناس ما ردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتردّون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمن وحقن دمه وماله، وأنتم تقتلونه ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرّمون دماءهم وأموالهم.
قال اليشكرى: أرأيت رجلا ولى قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيّرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدّى الحقّ الذى يلزمه لله عزّ وجلّ، وتراه قد سلّم؟ قال عمر: لا. قال: أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعلم أنه لا يقوم فيه بالحقّ. قال: إنما ولّاه(21/362)
غيرى، والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدى. قال: أفترى ذلك من صنع من ولّاه حقّا؟ فبكى عمر، وقال: أنظرانى ثلاثا «1» .
فخرجا من عنده ثم عادا إليه، فقال عاصم: أشهد أنك على حق.
فقال عمر لليشكرى: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت، ولكنى لا أفتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجّتهم. فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له بالعطاء فتوفى بعد خمسة عشر يوما، فكان عمر يقول: أهلكنى أمر يزيد، وخصمت فيه، فأستغفر الله. فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم وأن يخلع يزيد من ولاية العهد؛ فوضعوا على عمر من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد ذلك إلّا ثلاثا حتى مرض ومات، رحمه الله تعالى.
هذا ومحمد بن جرير مقابل الخوارج لا يتعرض إليهم ولا يتعرّضون إليه، فلما مات عمر وولّى يزيد كان ما نذكره فى أخبار يزيد.
*** وفى هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن خراسان وأحضره وطالبه بالمال الذى كان كتب به إلى سليمان واعتقله بحصن حلب، واستعمل على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمى، ثم عزله؛ واستعمل عبد الرحمن بن نعيم القشيرى.
وفيها كان ابتداء خروج شيعة بنى العباس على ما نذكره فى أخبار الدولة العباسية إن شاء الله تعالى.
وفيها أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة «2» بالقفول عنها إلى ملطية، وطرندة أوغل «3» فى البلاد الرّومية بثلاث(21/363)
مراحل، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثّلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن ولى عمر، فأمرهم بالعود إلى ملطية وأخلى طرندة خوفا على المسلمين من العدوّ، وأخرب طرندة، واستعمل على ملطية جعونة بن الحارث أحد بنى عامر بن صعصعة.
وفيها كتب عمر إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم من ذكرنا منهم على ما سبق ذكر ذلك.
وفيها استعمل عمر بن عبد العزيز عمر بن هبيرة الفزارى على الجزيرة.
وفيها مات أبو الطّفيل عامر بن واثلة الليثى بمكة، وهو آخر من مات من الصحابة، ومولده عام أحد.
وحجّ بالناس أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
*** سنة (101 هـ) احدى ومائة:
فى هذه السنة هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز، وذلك أنه لما اشتدّ مرض عمر بن عبد العزيز عمل يزيد فى الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لإساءة [كانت] «1» صدرت منه فى حقّه أيام سليمان، فأرسل ابن المهلب إلى مواليه فأعدّوا له خيلا وإبلا، وواعدهم مكانا يأتيهم فيه، وأرسل إلى عامل حلب وإلى الحرّاس مالا، وقال: إنّ أمير المؤمنين قد ثقل فى مرضه، وليس يرجى،(21/364)
وإن ولى يزيد سفك دمى، فأخرجوه، فهرب وقصد البصرة، وكتب إلى عمر كتابا يقول: إنى والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك ولكنى خفت أن يلى يزيد فيقتلنى شرّ قتله.
فورد الكتاب وبه رمق، فقال رضى الله عنه: اللهم إن كان يزيد يريد»
بالمسلمين سوءا فألحقه به وهضه فقد هاضنى، ثم كان من أمر ابن المهلّب ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عمر بن عبد العزيز
رضى الله عنه وشىء من أخباره وسيرته رحمه الله تعالى كانت وفاته رحمه الله بخناصرة لستّ بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة، وكانت شكواه عشرين يوما، وقيل له [فى مرضه] «2» : لو تداويت! فقال «3» : لو كان دوائى فى مسح أذنى ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربّى. ودفن «4» بدير سمعان من أرض حمص.
وقيل: به توفى، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأشهرا [وقيل أربعين سنة وأشهرا] «5» .
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما.
وكان أبيض نحيفا حسن الوجه، وهو أشجّ بنى أمية، رمحته(21/365)
دابّة فشجّته، وهو غلام، فدخل على أمه فضمّته إليها ولامت أباه حيث لم يجعل معه حاضنا «1» . فقال لها عبد العزيز: اسكتى يا أمّ عاصم، فطوبى له إن كان أشجّ بنى أميّة.
وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما يقول: يا ليت شعرى، من هذا الذى من ولد عمر فى وجهه علامة يملأ الدنيا عدلا؛ فكان عمر بن عبد العزيز؛ لأنّ أمّه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنهم أجمعين.
ذكر نبذة من سيرته رضى الله عنه
كان رحمه الله ورضى عنه قد بثّ العدل ونشره فى الدنيا واقتصر من دنياه على سدّ الخلّة «2» حتى إنّ مسلمة بن الملك عاده فى مرض موته، فرأى عليه قميصا دنسا «3» ، فقال لأخته فاطمة، وهى زوجة عمر: اغسلوا ثياب أمير المؤمنين. فقالت: نفعل. ثم عاده فرأى الثّوب بحاله، فقال: ألم آمركم أن تغسلوا قميصه. فقالت: والله ما له غيره، وكانت نفقته فى كل يوم درهمين.
قال: ولما ولى الخلافة أتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها، فأمر بها فبيعت، وجعل ثمنها فى بيت المال، وقال: بغلتى هذه تكفينى.
قال: ولما ولى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس،(21/366)
من صحبنا فليصحبنا لخمس «1» ، وإلّا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلّنا على ما لا نهتدى إليه من الخير، ولا يغتابنّ أحدا، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
فانقشع الشعراء والخطباء، وثبت عنده الفقهاء والزّهّاد، وقالوا:
ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله.
ولما ولى أحضر قريشا ووجوه الناس فقال: إنّ فدك «2» كانت بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فكان] «3» يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، وعمر كذلك، ثم أقطعها مروان.
ثم إنها صارت لى، ولم يكن من مالى أعود علىّ منها، وإنى أشهدكم أنى قد رددتها على ما كانت عليه فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: فيئس الناس من الظّلم.
وأخذ من أهله ما بأيديهم، وسمّى ذلك مظالم، ففزع بنو أمية إلى عمّته فاطمة بنت مروان فأتته، فقالت [له] «4» : تكلّم أنت يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة «5» ، ثم اختار له ما عنده، وترك للناس نهرا شربهم سواء، ثم ولى أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولى عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقى منه يزيد(21/367)
ومروان، وعبد الملك ابنه، والوليد وسليمان ابنا عبد الملك، حتى أفضى الأمر إلىّ، وقد يبس النهر الأعظم، فلن يروى «1» أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه.
فقالت: حسبك [قد أردت كلامك «2» ] ، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئا أبدا، ورجعت إليهم فأخبرتهم بكلامه.
وقد قيل: إنها قالت له: إن بنى أميّة كذا وكذا- ذكرت إنكارهم لفعله بهم- فلما تكلم بهذا قالت له: إنهم يحذّرونك يوما من أيامهم، فغضب وقال: كل يوم أخافه غير يوم القيامة؛ فلا أمّننى «3» الله شرّه.
فرجعت إليهم فأخبرتهم وقالت: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب، فجاء يشبه جدّه، فسكتوا.
قالت فاطمة امرأة عمر: دخلت عليه فى مصلّاه ودموعه تجرى على لحيته، فقلت: أحدث شىء؟ قال: إنى تقلّدت أمر أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع والعارى «4» والمظلوم والمقهور «5» ، والغريب والأسير، والشيخ الكبير وذى العيال الكثير والمال القليل وأشباههم فى أقطار الأرض، فعلمت أنّ ربى سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأنّ خصمى دونهم محمد صلّى الله(21/368)
عليه وسلّم، فخشيت ألّا تثبت حجّتى عند الخصومة، فرحمت نفسى فبكيت.
وكتب إلى عمّاله نسخة واحدة: أما بعد فإنّ الله عزّ وجل أكرم بالإسلام أهله، وشرّفهم وأعزّهم، وضرب الذّلّة والصّغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمّة أخرجت للناس، فلا تولّينّ أمر «1» المسلمين أحدا من أهل ذمتهم وخراجهم، فتنبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلّهم بعد أن أعزّهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله، وتعرّضهم لكيدهم والاستطالة عليهم، ومع هذا فلا يؤمن غشّهم إياهم، فإنّ الله عز وجل يقول «2» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ»
. وقال تعالى «3» : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ»
. والسلام.
وكتب لما ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، وهو إذ ذاك يلى العراق وخراسان:
أما بعد فإنّ سليمان كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه، واستخلفنى ويزيد بن عبد الملك من بعدى إن كان، وإن الذى ولّانى الله من ذلك وقدرّ لى ليس علىّ بهيّن، ولو كانت رغبتى فى اتخاذ أزواج واعتقاد «4» أموال لكان فى الذى أعطانى الله من ذلك ما قد بلغ بى أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا(21/369)
ومسألة غليظة إلّا ما عافى «1» الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قرأ الكتاب قيل له: لست من عمّاله، لأن كلامه ليس ككلام من مضى من أهله.
وكتب إلى عبد الرحمن بن نعيم:
أما بعد فاعمل عمل من يعلم أنّ الله لا يصلح عمل المفسدين.
وكتب إلى سليمان بن أبى السرى: أن اعمل خانات، فمن مرّ بك من المسلمين فاقروه يوما وليلة، وتعهّدوا دوابّهم. ومن كانت به علة فاقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعا [به] «2» فأبلغه بلده.
فلما أتاه كتاب عمر قال له أهل سمرقند: إنّ قتيبة ظلمنا وغدر بنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليقدم منا وفد على أمير المؤمنين، فأذن لهم، فوجّهوا وفدا إلى عمر، فكتب إلى سليمان: إنّ أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابى فأجلس لهم القاضى فلينظر فى أمرهم، فإن قضى لهم فأخرج العرب إلى معسكرهم كما كانوا قبل أن يظهر عليهم قتيبة.
فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضى، فقضى أن تخرج العرب إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا(21/370)
أو ظفرا عنوة. فقال أهل الصّغد: نرضى بما كان ولا نحدث شيئا «1» وتواصوا بذلك.
وكتب إلى عبد الحميد: أما بعد فإنّ أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة وجور فى أحكام الله؛ وسنّة خبيثة سنّها عليهم عمّال السوء، وإن قوام الدّين العدل والإحسان، فلا يكوننّ [شىء] «2» أهمّ إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم «3» ، ولا تحمل خرابا على عامر، وخذ منه ما أطاق؛ وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج فى رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذنّ أجور الضرابين ولا هديّة النوروز والمهرجان؛ ولا ثمن الصحف ولا أجور الفيوج «4» ولا أجور البيوت؛ ولا دراهم النكاح؛ ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتّبع فى ذلك أمرى، فإنى قد ولّيتك من ذلك ما ولّانى الله، ولا تعجل دونى بقطع ولا صلب حتى تراجعنى فيه، وانظر من أراد من الذريّة أن يحج فعجّل له مائة ليحجّ بها. والسلام.
قال محمد بن [على] «5» الباقر: إن لكل قوم نجيبة، وإن نجيبة بنى أمية عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلّمه؛ فلم نبرح حتى تعلّمنا منه «6» .(21/371)
وقيل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: ما كان بدء إنابتك؟
قال: أردت ضرب غلام لى، فقال لى: اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة.
وقال عمر: ما كذبت منذ علمت أنّ الكذب يضرّ أهله.
وأخباره رضى الله عنه فى الخير والعدل كثيرة لو استقصيناها أو أوردنا ما طالعناه منها لطال ولخرج عن قاعدة هذا التأليف، وناهيك بها سيرة ضرب بها المثل فى العدل والإحسان منذ كانت إلى يومنا هذا.
وكان له من الأولاد الذكور أربعة عشر وخمس بنات.
كتّابه: رجاء بن حيوة الكندى؛ وابن أبى رقبة «1» .
قاضيه: عبد الله بن سعد الأبلّى.
حجابه: جيش، ومزاحم، مولياه.
الأمير بمصر: أيوب بن شرحبيل.
وأقر على القضاء عياض بن عبد الله؛ ثم صرفه بأبى مسعود عبد الله بن حذافة.
وكان نقش خاتمه رضى الله عنه: «عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله» .
ذكر بيعة يزيد بن عبد الملك
هو أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهو التاسع من ملوك بنى أمية، بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب سنة [101 هـ] إحدى ومائة بعد وفاة(21/372)
عمر بن عبد العزيز؛ وذلك بعهد من أخيه سليمان بن عبد الملك على ما تقدّم ذكر ذلك.
قيل: ولما احتضر عمر رضى الله عنه قيل له: اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمّة. قال: بماذا أوصيه؟ إنه من بنى عبد الملك.
ثم كتب إليه: أما بعد فاتّق يا يزيد الصّرعة بعد الغفلة، حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك. والسلام.
فلما ولى يزيد نزع أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم [عن المدينة، واستعمل عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهرى عليها؛ فأراد معارضة ابن حزم] «1» فلم يجد عليه سبيلا حتى شكا عثمان بن حيّان إلى يزيد ابن عبد الملك من ابن حزم، وأنه ضربه حدّين، وطلب منه أن يقيده منه.
فكتب يزيد إلى عبد الرحمن كتابا: أما بعد فانظر فيم ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه فى أمر بيّن أو أمر مختلف فيه فلا تلتفت إليه.
فأرسل ابن الضحاك إلى ابن حزم فأحضره؛ وضربه حدّين فى مقام واحد، ولم يسأله عن شىء، وعمد يزيد إلى كلّ ما فعله عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه مما لم يوافق هواه، فرده، ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثما آجلا.(21/373)
ذكر مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك
واسم شوذب بسطام.
قد ذكرنا خروجه فى أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله ووصول رسله إلى عمر، وما كان بينهما من المناظرة، وخروج محمد بن جرير ابن عبد الله البجلى إليهم فى ألفين وموادعتهم إلى أن يعود رسولا شوذب من عند عمر؛ فلما مات عمر بن عبد العزيز أحبّ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، وهو الأمير على الكوفة، أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك؛ فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمناجزة «1» شوذب، فلما رآه يستعدّ للحرب أرسل إليه يقول:
ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة.
فأرسل إليه محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحال.
فقال الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وقتل أكثر «2» أهل الكوفة، وانهزم من بقى منهم نحو الكوفة، وتبعهم الخوارج حتى بلغوا الكوفة، ثم رجعوا إلى مكانهم.
ثم وجّه يزيد بن عبد الملك تميم بن الحباب فى ألفين فقاتلوه، فقتل «3» ، وقتل أكثر أصحابه، ولجأ من بقى منهم إلى الكوفة، والتحق بعضهم بيزيد، فأرسل إليهم يزيد نجدة بن الحكم الأزدى فى جمع، فقتلوه وهزموا أصحابه.(21/374)
وأقام شوذب بمكانه «1» حتى دخل مسلمة بن عبد الملك الكوفة، فشكا إليه أهل الكوفة مكان شوذب وحذّروه أمره، فأرسل إليه مسلمة سعيد بن عمرو الحرشىّ. فى عشرة آلاف، فقال شوذب لأصحابه:
من كان منكم يريد الشهادة فقد جاءته، ومن كان يريد الدنيا فقد ذهبت. فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف سعيد رحمه الله الفضيحة، وكان فارسا شجاعا، فوبخّ «2» أصحابه، وقبّح عليهم الفرار، فحملوا فقتلوا بسطاما ومن معه من الخوارج.
ذكر الغزوات والفتوحات فى خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
ذكر غزوة الترك
وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة كانت الحرب بين المسلمين والترك عند قصر الباهلى.
وقيل: كان سبب ذلك أنّ عظيما من عظماء الدّهاقين أراد أن يتزوّج امرأة من باهلة كانت فى ذلك القصر، فأبت فاستجاش التّرك، فجمعهم خاقان ووجّههم إلى الصّغد، فساروا وعليهم كورصول حتى نزلوا بقصر الباهلى، ورجوا أن يسبوا من فيه، وكان فيه مائة أهل بيت بذراريهم، وكان على سمرقند يومذاك عثمان بن عبد الله بن مطرّف بن الشّخّير من قبل سعيد بن عبد العزيز عامل خراسان، فكتب أهل القصر إليه، وخافوا أن يبطىء عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة؛ وانتدب «3» عثمان الناس؛ فانتدب المسيب(21/375)
ابن بشر الرّياحى، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، وعليهم شعبة بن ظهير، وكان على سمرقند قبل عثمان، فلما عسكروا قال لهم المسيّب: إنكم تقدمون على حلبة التّرك عليهم خاقان، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب إن فررتم النار؛ فمن أراد الغزو والصبر فليقدم.
فرجع عنه ألف وثلاثمائة، فلما سار فرسخا [آخر] «1» ، فقال مثل ذلك؛ فاعتزله ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال مثل ذلك، فاعتزله ألف، وبقى فى سبعمائة؛ فسار حتى بقى على فرسخين من التّرك، فأتاه الخبر أن أهل القصر قد صالحوا التّرك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وأنه لما بلغهم مسير المسلمين قتلوا الرهائن وأنهم اتّعدوا القتال غدا.
فبعث المسيّب رجلين إلى أهل القصر يعلمهم بقربه، ويستمهلهم يوما وليلة، فأتيا القصر فى ليلة مظلمة وقد أجرت «2» ، الترك الماء فى نواحى القصر، فليس يصل إليه أحد. فلما دنوا من القصر صاح بهم الرّبيئة فاستنصتاه، وقالا له: ادع لنا عبد الملك بن دثار، فدعاه، فأعلماه قرب المسيّب، [وأمراه بالصّبر غدا، ورجعا إلى المسيّب،] «3» فبايع أصحابه على الموت، فبايعوه، وسار حتى بقى «4» بينه وبين القصر نصف فرسخ، فلما أمسى أمر أصحابه بالصّبر، وقال: ليكن(21/376)
شعاركم: يا محمد، ولا تتبعوا مولّيا، وعليكم بالدوابّ فاعقروها فإنها إذا عقرت كانت أشدّ عليهم منكم، وسار بهم ليلا فوافى عسكر الترك وقت السّحر، فخالطهم المسلمون، وعقروا الدواب، فانهزمت الترك، ونادى منادى المسيّب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرّعب أتبعتوهم أم لا.
وأمر أصحابه أن يقصدوا القصر ويحملوا ما فيه من المال ومن بالقصر؛ ممن يعجز عن المشى، ففعلوا، ورجع إلى سمرقند، ورجع التّرك من الغد، فلم يروا بالقصر أحدا، ورأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين أتونا من الإنس. والله أعلم.
ذكر غزو الصغد
وفى سنة [102 هـ] اثنتين ومائة أيضا عبر سعيد النهر، وغزا الصّغد، وكانوا نقضوا العهد، وأعانوا التّرك على المسلمين، فلقيه الترك وطائفة من الصّغد، فهزمهم المسلمون وساروا حتى انتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقطعه بعضهم وقد أكمن «1» لهم التّرك، فلما جازهم المسلمون خرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادى، ثم جاء الأمير وبقيّة الجيش فانهزم العدوّ.
وفيها غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية، وهو على الجزيرة قبل أن يلى العراق، فهزمهم، وأسر منهم خلقا كثيرا. وقيل «2» سبعمائة أسير.(21/377)
وغزا عباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح دلسة «1» ، وغزا أيضا فى سنة ثلاث ومائة، ففتح مدينة يقال لها رسلة «2» .
ذكر الوقعة بين سعيد الحرشى «3» أمير خراسان وبين الصّغد
وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة غزا سعيد الحرشى، فقطع النّهر وسار فنزل قصر الرّيح على فرسخين من الدّبوسية «4» ، وكان الصّغد لما بلغهم عزل سعيد بن عبد العزيز عن خراسان واستعمال الحرشى خافوه على أنفسهم، فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: أقيموا واحملوا له خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما يأتى، وعمارة الأرض، والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن. قالوا: نخاف ألّا يقبل ذلك منا، ولكنا نأتى خجندة «5» فنستجير بملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصّفح عما كان منّا.
فوافقهم.
فخرجوا إلى خجندة، وأرسلوا إلى ملك فرغانة يسألونه أن يمنعهم، وينزلهم مدينته، فأراد أن يفعل فنهته أمه، وقالت له: فرّغ لهم رستاقا يكونون فيه؛ فأرسل إليهم: سمّوا رستاقا تكونون فيه حتى نفرغه لكم، وأجّلونى أربعين يوما.(21/378)
فاختاروا شعب عصام بن عبد الله الباهلى، فقال: نعم، وليس علىّ عقد ولا جوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل دخوله لم أمنعكم. فرضوا، وفرغ لهم الشّعب.
فلما انتهى الحرشى إلى قصر الرّيح أتاه ابن عم ملك فرغانة فقال له: إنّ أهل الصّغد بخجندة، وأخبره خبرهم، وقال: عاجلهم قبل أن يصلوا إلى الشّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضى الأجل.
فوجّه معه عبد الرحمن القشيرى أو زياد «1» بن عبد الرحمن فى جماعة، ثم ندم «2» بعد ما فصلوا، وقال: جاءنى علج لا أعلم صدق أم كذب؛ فغرّرت بجند من المسلمين.
فارتحل فى أثرهم حتى نزل أشرو سنة «3» ، فصالحهم بشىء يسير، ثم سار مسرعا حتى لحق القشيرى، وساروا حتى انتهوا إلى خجندة، فنزل عليهم وأخذ فى التأهّب. وكان الذين بخجندة قد حفروا خندقا فى ربضهم وراء الباب، وغطّوه بقصب وتراب، وأرادوا إذا التقوا إن انهرموا دخلوا من الطريق «4» ، ويشكل على المسلمين فيسقطون فى الخندق. فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا وأخطئوا «5» هم الطريق فسقطوا فى الخندق، فأخرج منهم المسلمون أربعين رجلا، وحصرهم الحرشىّ، ونصب عليهم المجانيق.
فأرسلوا إلى ملك فرغانة: إنك قد غدرت [بنا] «6» ، وسألوه(21/379)
أن ينصرهم، فقال: قد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم فى جوارى، فطلبوا الصّلح، وسألوا الحرشىّ أن يؤمنهم ويردّهم إلى الصّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا ما فى أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلّف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلّت دماؤهم.
فخرج إليهم الملوك والتجار من الصّغد، ونزل عظماء الصّغد على الجند الذين يعرفونهم، ونزل كارزنج على أيوب بن حسّان «1» ، وبلغ الحرشى أنهم قتلوا امرأة ممن كان فى أيديهم، فقال [لهم] «2» :
بلغنى أنّ ثابتا الإشتيخنى قتل امرأة؛ فجحدوا. فسأل حتى استصح الخبر، فأحضر ثابتا وقتله، فلما بلغ «3» كارزنج ذلك خاف أن يقتل فأرسل إلى ابن أخيه ليأتيه بسراويل، وكان قد قال لابن أخيه: إذا طلبت سراويل فاعلم أنه القتل. فبعث به إليه، وخرج واعترض الناس فقتل ناسا، وانتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فقتله ثابت، وقتل الصّغد مائة وخمسين رجلا كانوا عندهم من أسرى المسلمين، فأمر الحرشىّ بقتل الصّغد بعد عزل التجار عنهم، فقاتلهم الصّغد بالخشب، ولم يكن لهم سلاح، فقتلوا عن آخرهم، وكانوا ثلاثة آلاف، وقيل سبعة آلاف، واصطفى الحرشى أموال الصّغد وذراريهم، وأخذ من ذلك ما أعجبه، وقسّم ما بقى، وفتح المسلمون حصنا يطيف به وادى الصّغد من ثلاث جهات صلحا على ألّا يتعرض لنسائهم وذراريهم، ففعلوا.(21/380)
وسار الحرشى إلى كسّ «1» ، فصالحوه على عشرة آلاف رأس. وقيل:
ستة آلاف رأس، وولىّ الحرشى نصر بن سيّار قبض صلح كسّ، واستعمل سليمان بن أبى السرى على كس، ونسف- حربها وخراجها.
وكانت خزار «2» منيعة، فأرسل الحرشىّ إليها المسربل بن الخرّيت النّاجى، وكان صديقا لملكها، واسم ملكها سبغرى «3» ، فأخبر الناجى الملك بما صنع الحرشى بأهل خجندة، وخوّفه. قال: فما ترى؟
قال: أرى أن تنزل بأمان، فصالحهم فأمنوه وبلاده، ورجع الحرشى إلى مرو ومعه سبغرى فقتله وصلبه ومعه أمانه.
ذكر ظفر الخزر بالمسلمين
وفى سنة [104 هـ] أربع ومائة دخل جيش المسلمين إلى بلاد الخزر من أرمينية، وعليهم ثبيت النّهرانى «4» ، فاجتمعت الخزر فى جمع كثيف، وأعانهم قفجلق وغيرهم من التّرك، فلقوا المسلمين بمكان يعرف بمرج الحجارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من المسلمين خلق كثير، واحتوت الخزر على عسكرهم، وغنموا ما فيه، وأقبل المنهزمون [إلى الشام] «5» ، فقدموا على يزيد، فوبّخهم على الهزيمة، فقال ثبيت: يا أمير المؤمنين، ما جبنت ولا نكّبت عن لقاء العدو، ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل، ولقد طاعنت حتى انقصف رمحى، وضاربت حتى انقطع سيفى، غير أن الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء.(21/381)
ذكر فتح بلنجر وغيرها
«1» قال: لما تمّت الهزيمة المذكورة على المسلمين طمع الخزر فى البلاد.
فجمعوا وحشدوا، فاستعمل يزيد بن عبد الملك الجرّاح بن عبد الله الحكمىّ على أرمينية، وأمده بجيش كثيف، وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء وقصد بلادهم، فسار الجرّاح وتسامعت به الخزر فعادوا حتى نزلوا بالباب والأبواب، ووصل الجرّاح إلى بردعة «2» ، فأقام بها حتى استراح هو ومن معه، وسار نحو الخزر فعبر «3» نهر الكرّ، فبلغه أنّ بعض من معه كتب إلى ملك الخزر يخبره بمسير الجرّاح إليه، فأمر الجرّاح مناديا فنادى فى الناس: إنّ الأمير مقيم ها هنا عدة أيام، فاستكثروا من الميرة.
فكتب ذلك الرجل إلى ملك الخزر يخبره أن الجرّاح مقيم، ويشير عليه بترك الحركة لئلا يطمع المسلمون فيه، ثم أمر الجرّاح بالرحيل ليلا، وسار مجدّا حتى انتهى إلى مدينة الباب [والأبواب «4» ] ، فلم ير الخزر، فدخل البلد، وبثّ سراياه للنّهب والغارة، فغنموا وعادوا، وسار الخزر إليه، وعليهم ابن ملكهم فالتقوا عند نهر الرّان «5» ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزمهم المسلمون وتبعوهم يقتلون ويأسرون، فقتل منهم خلق كثير،(21/382)
وغنم المسلمون جميع ما معهم، وساروا حتى نزلوا على حصن يعرف بالحصين، فنزل أهله بالأمان على مال يحملونه، فأجابهم ونقلهم عنه، ثم سار إلى مدينة برغر «1» فأقام عليها ستة أيام، وجدّ فى قتال أهلها، فسألوا الأمان فأمّنهم وتسلّم حصنهم ونقلهم منه.
ثم سار إلى بلنجر وهو حصن مشهور من حصونهم، فنازله، وقاتل عليه قتالا شديدا، وملك الحصن عنوة، وغنم المسلمون ما فيه، فأصاب الفارس ثلاثمائة دينار، وكانوا بضعة وثلاثين ألفا، وأخذ الجراح أولاد صاحب بلنجر وأهله، وأرسل إليه فأحضره وردّ إليه أمواله وأهله وحصنه، وجعله عينا للمسلمين؛ ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر «2» ، وبه نحو أربعين ألف بيت من الترك، فصالحوا الجرّاح على مال يؤدّونه، ثم تجمّع أهل تلك البلاد، وأخذوا الطرق على المسلمين، فكتب صاحب بلنجر إلى الجرّاح يخبره بذلك، فعاد مجدّا حتى وصل إلى رستاق سلّى «3» ، وأدركهم الشتاء، فاقام المسلمون به، وكتب الجراح إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما فتح الله عليه وبجموع الكفار، ويسأله المدد، فوعده بانفاذ العساكر، فمات قبل ذلك، فأقر هشام الجرّاح على عمله، ووعده المدد.
هذا ما كان من الغزوات والفتوحات فى أيام يزيد بن عبد الملك،
فلنذكر حوادث السنين فى أيامه.(21/383)
تتمة سنة (101 هـ) احدى ومائة:
ذكر استيلاء يزيد بن المهلب بن أبى صفرة على البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك
قد ذكرنا هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأنه إنما هرب خوفا من يزيد بن عبد الملك لمنافرة كانت بينهما.
وقيل: كان السبب الذى أوجب كراهة يزيد بن عبد الملك فى يزيد بن المهلب أن ابن المهلب خرج يوما من الحمّام فى أيام سليمان وقد تضمّخ بالغالية، فاجتاز بيزيد بن عبد الملك وهو إلىّ جانب عمر ابن عبد العزيز، فقال يزيد بن عبد الملك: قبّح الله الدنيا! لوددت أنّ مثقال الغالية بألف دينار، فلا يناله إلا كلّ شريف، فقال ابن المهلّب: بل وددت أنّ الغالية فى جبهة الأسد فلا ينالها إلا لى. فقال له يزيد بن عبد الملك: والله لئن وليت يوما لأقتلنّك. فقال ابن المهلب:
والله لئن وليت هذا الأمر وأنا حىّ لاضربنّ وجهك بمائة ألف سيف.
وقيل: كان السبب أنّ يزيد بن المهلب كان قد عذّب أصهار يزيد بن عبد الملك، وكان سليمان بن عبد الملك لما ولى الخلافة طلب آل عقيل فأخذهم وسلّمهم إلى ابن المهلب ليخلّص الأموال منهم، فبعث ابن المهلب إلى البلقاء من أعمال دمشق وبها خزائن الحجاج ابن يوسف وعياله، فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتى به أمّ الحجاج زوجة يزيد بن عبد الملك.
وقيل: بل أخت لها- فعذّبها، فأتى يزيد بن عبد الملك إلى ابن المهلب فى منزله، فشفع فيها، فلم يشفعه، فقال: الذى قرّرتم عليها أنا أحمله،(21/384)
فلم يقبل منه، فقال لابن المهلب: أما والله لئن ولّيت من الأمر شيئا لأقطعنّ منك عضوا ... فقال ابن المهلّب: وأنا والله لئن كان ذلك لأرمينّك بمائة ألف سيف.
فحمل يزيد بن عبد الملك المال «1» عنها، وكان مائة ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك. والله أعلم.
قال: فلما ولى يزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، وإلى عدى بن أرطاة، يعرّفهما هرب يزيد، ويأمرهما بالتحرز منه، وأمر عديا أن يأخذ من بالبصرة من آل المهلّب ويحبسهم، فقبض عليهم وفيهم المفضّل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب نحو البصرة، وقد جمع عدىّ بن أرطاة الجموع، وخندق على البصرة، وندب الناس، وجاء يزيد فى أصحابه «2» والذين معه، فالتقاه «3» أخوه محمد بن المهلب فيمن اجتمع إليه من أهله وقومه ومواليه، فمرّ بجموع عدىّ؛ فجعل لا يمرّ بخيل من خيل عدىّ إلا تنحّوا عن طريقه، وأقبل حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، فبعث إلى عدىّ أن ابعث إلىّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإياها حتى آخذ لنفسى من يزيد ما أحب. فلم يقبل منه، وأخذ يزيد بن المهلب يعطى من أتاه قطع الذهب والفضّة؛ فمال الناس إليه؛ وكان عدىّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين، ويقول: لا يحلّ أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذه حتى يأتى الأمر، فقال الفرزدق «4» :(21/385)
أظنّ رجال الدّرهمين تقودهم «1» ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
وأكيسهم من قرّ فى قعر بيته «2» ... وأيقن أنّ الموت لا بدّ واقع
وخرج يزيد حين اجتمع الناس له حتى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف «3» فيما بينه وبين القصر، فلقيه قيس وتميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة وانهزموا، فتبعهم يزيد وأصحابه حتى دنا من القصر، وخرج إليهم عدىّ بنفسه فقتل من أصحابه وانهزم هو «4» ، وقصد قتل آل المهلب الذين فى حبسه، فأغلقوا الباب ومنعوا عن أنفسهم حتى أدركهم يزيد، ونزل فى دار سالم «5» ابن زياد بن أبيه، وهى إلى جنب القصر، ونصب السلاليم، وفتح القصر، وأتى بعدى بن أرطاة فحبسه، وقال: لولا حبسك إخوتى لما حبستك، وأخرج إخوته وهرب بوجوه أهل البصرة، فلحقوا بالكوفة، وكان يزيد قد بعث حميد بن عبد الملك بن المهلب إلى يزيد ابن عبد الملك فى طلب الأمان، فعاد بما طلب ومعه خالد القسرى وعمرو ابن يزيد الحكمى، فوجد المغيرة بن زياد وقد فرّ من يزيد ابن المهلب، فأخبرهم الخبر، فعادوا إلى يزيد بن عبد الملك ومعهم حميد، وأرسل يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثنى عليهم ويعدهم(21/386)
الزيادة، وأرسل «1» أخاه مسلمة وابن أخيه العباس بن الوليد، فى سبعين ألف مقاتل من أهل الشام والجزيرة.
وقيل: كانوا ثمانين ألفا، فساروا إلى العراق حتى بلغوا الكوفة فنزلوا بالنّخيلة «2» ، واستوثق أمر البصرة لابن المهلّب، وبعث عمّاله على الأهواز وفارس وكرمان، ثم سار يزيد من البصرة، واستعمل عليها أخاه مروان، وأتى واسطا، وأقام عليها أياما يسيرة إلى أن دخلت سنة [102 هـ] اثنتين ومائة، فسار عنها.
واستخلف عليها ابنه معاوية، ونزل «3» عنده بيت المال، وقدم أخاه عبد الملك نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد واقتتلوا، فظفر عبد الملك أوّلا، ثم كانت الهزيمة عليه، فعاد بمن معه إلى أخيه، وأقبل مسلمة يسير على شاطىء الفرات إلى الأنبار، وعقد عليها جسرا فعبر وسار حتى نزل على ابن المهلّب، والتحق بابن المهلّب «4» ناس كثير من الكوفة والثغور، وأحصى ديوانه مائة ألف وعشرين ألفا، فقال: لوددت أنّ لى بهم من بخراسان من قومى.
ثم قام فى أصحابه وحرّضهم على القتال، وكان اجتماع ابن المهلب ومسلمة ثمانية أيام، فلما كان يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من صفر سنة [102 هـ] اثنتين ومائة خرج مسلمة فى جنوده حتى قرب من ابن المهلّب، والتقوا واقتتلوا؛ فانهزم أصحاب ابن المهلب،(21/387)
فترجّل وبقى فى جماعة من أصحابه وقد استقتل وهو يتقدّم؛ فكلّما مرّ بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه؛ وأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، فلما دنا منه أدنى فرسه ليركب، فعطف عليه أهل الشام، فقتل يزيد والسّميدع «1» ومحمّد بن المهلّب، وكان رجل من كلب يقال له القحل «2» بن عيّاش لما نظر إلى يزيد قال:
هذا والله يزيد، والله لأقتلنّه أو ليقتلنى، فمن يحمل معى يكفينى أصحابه حتى أصل إليه، فحمل معه ناس، فاقتتلوا ساعة، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وأنه هو الذى قتله، وأنّ يزيد قتله، وأتى مولى لبنى مرّة برأس يزيد إلى مسلمة، فقيل له: أنت قتلته؟ قال: لا، فبعث مسلمة بالرأس إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد ابن عقبة بن أبى معيط.
وقيل: بل قتله الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابى، ولم ينزل لأخذ رأسه أنفة.
قال: ولما قتل يزيد كان المفضّل بن المهلّب يقاتل أهل الشام وهو لا يدرى بقتل أخيه ولا بهزيمة الناس، فأتاه آت وقال له: ما تصنع وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ فتفرّق الناس عنه، ومضى المفضّل إلى واسط.
وقيل: بل أتاه أخوه عبد الملك، وكره أن يخبره بقتل يزيد(21/388)
فيستقتل، فقال له: إنّ الأمير قد انحدر إلى واسط، فانحدر المفضّل بمن بقى من ولد المهلب إليها، فلما علم بقتل يزيد حلف أنّه لا يكلّم عبد الملك أبدا، فما كلّمه حتى قتل بقندابيل «1» .
قال: ولما أتت هزيمة ابن المهلّب إلى واسط أخرج ابنه معاوية اثنين وثلاثين إنسانا «2» كانوا عنده، فضرب أعناقهم، منهم عدىّ ابن أرطاة، وابنه محمد، ومالك، وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم، ثم أقبل حتى أتى البصرة بالمال والخزائن، وجاء المفضّل بن المهلب واجتمع إلى المهلّب بالبصرة، وأعدّوا السفن وتجهّزوا للركوب.
فى البحر إلى جبال كرمان، وحملوا عيالهم «3» وأموالهم فى السفن البحريّة، ولجّجوا حتى أتوا جبال كرمان، فخرجو من سفنهم، وحملوا ما معهم على الدوابّ.
وكان المقدّم عليهم المفضّل، وكان بكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبى فى طلبهم وفى أثر الفلّ، فأدرك المفضّل ومن اجتمع إليه، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتل من أصحاب المفضل جماعة، وطلب بعض من معه الأمان، ومضى آل المهلب إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب، فردّه؛ وسيّر فى أثرهم هلال بن أحوز التميمى فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخولها فمنعهم أميرها وادع بن حميد، وكان يزيد بن المهلب قد استعمله عليها، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه إن قتل فى حربه يلجأ أهله إليها ويتحصّنوا بها حتى يأخذوا أمان يزيد بن عبد الملك.(21/389)
وقال له: قد اخترتك لهم من بين قومى فكن عند حسن ظنّى؛ وعاهده ليناصحنّ أهل بيته إن هم لجئوا إليه.
فلما أتوه «1» منعهم من الدخول، وكتب إلى هلال بن أحوز، فلما التقوا نصب هلال راية أمان، فتفرّق الناس عن آل المهلب، وتقدموا هم بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، وهم المفضل، وعبد الملك، وزياد، ومروان بنو المهلب، ومعاوية بن يزيد بن المهلب.
والمنهال بن أبى عيينة بن المهلب، وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة ابن المهلّب، وحملت رءوسهم؛ وفى أذن كلّ واحد رقعة فيها اسمه، ولحق منهم برتبيل أبو عيينة بن المهلب، وعمرو «2» بن يزيد، وعثمان بن المفضل؛ وبعث هلال بالرءوس والنساء الأسرى من آل المهلّب إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بالحيرة، فبعثهم إلى يزيد ابن عبد الملك، فبعثهم «3» يزيد إلى العباس بن الوليد وهو على حلب، فنصب الرءوس، وأراد مسلمة أن يبيع الذرية، فاشتراهم منه الجرّاح بن عبد الله الحكمى بمائة ألف، وخلى سبيلهم، ولم يأخذ مسلمة بن الجرّاح شيئا، وكانت الأسرى من آل المهلّب ثلاثة عشر رجلا، فلما جىء بهم إلى يزيد بن عبد الملك كان «4» عنده كثير عزّة فقال «5» :(21/390)
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ العقاب أو عفا لم يثرّب
فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تأته من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تصفح فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب
فقال يزيد: هيهات يا أبا صخر؛ أطّت «1» بك الرّحم، لا سبيل إلى ذلك، إن الله أقاد منهم بأعمالهم الخبيثة، ثم أمر بهم فقتلوا، وبقى غلام صغير. فقال: اقتلونى، فما أنا بصغير. فقال:
انظروا، أنبت؟ فقال: أنا أعلم بنفسى، قد احتلمت ووطئت النساء، فأمر به فقتل.
والذين قتلوا من آل المهلّب بين يدى يزيد بن عبد الملك المعارك وعبد الله، والمغيرة، والمفضل، ومنجاب أولاد يزيد بن المهلب ودويّة»
والحجاج، وغسّان، وشبيب، والفضل أولاد المفضل بن المهلّب، والمفضل ابن قبيصة بن المهلب.
قال: وأما أبو عيينة بن المهلّب فأرسلت هند بنت المهلب إلى يزيد ابن عبد الملك فى أمانه فأمّنه، وبقى عمرو «3» وعثمان حتى ولى أسد ابن عبد الله القسرى خراسان، فكتب إليهما بأمانهما فقدما خراسان.
*** وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وهو عامل المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد ابن أسيد، وعلى الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشّعبى، وعلى خراسان عبد الرحمن بن نعيم.(21/391)
سنة اثنتين ومائة:
ذكر ولاية مسلمة بن عبد الملك العراق وخراسان وعزله وولاية عمر بن هبيرة
قال: ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب ابن المهلّب جمع له أخوه يزيد ولاية الكوفة والبصرة وخراسان، فأقر محمد بن عمرو ابن الوليد على الكوفة، وبعث إلى البصرة عبد الرحمن بن سليم «1» الكلبى، وعلى شرطتها عمرو بن يزيد التميمى، فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة ويقتلهم، فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام، وكتب إلى مسلمة بالخبر فعزله، واستعمل على البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، واستعمل على خراسان سعيد بن عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم بن أبى العاص بن أمية، وهو الذى يقال له سعيد خدينة «2» ، وإنما لقّب بذلك لأنه كان رجلا ليّنا متنعّما، فدخل عليه بعض ملوك العجم وسعيد فى ثياب مصبغة وحوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير. قال: خدينة.
فلقّب خدينة، وهى الدّهقانة ربّة البيت.
وكان سعيد زوج «3» ابنة مسلمة، فلذلك استعمله، فغزا سعيد الصّغد كما تقدم.
قال: ولما ولى مسلمة العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، فأراد يزيد عزله فاستحيى من ذلك، فكتب إليه أن استخلف على عملك، وأقبل. فلما قدم لقيه عمر بن هبيرة الفزاى بالطريق(21/392)
على دوابّ البريد، فسأله عن مقدمه، فقال: وجّهنى أمير المؤمنين فى حيازة أموال بنى المهلّب. ولم يكن الأمر كذلك، وإنما كان يزيد قد استعمله، فلم يلبث حتى أتاه عزل ابن هبيرة عمّاله والغلظة عليهم، وكان ابن هبيرة قبل ذلك يلى الجزيرة.
ذكر البيعة لهشام بن عبد الملك والوليد بن يزيد بولاية العهد
وفى هذه السنة أراد يزيد أن يأخذ البيعة لابنه الوليد، فقال [له] «1» مسلمة بن عبد الملك: إنّ ابّنك لم يبلغ الحلم؛ وأشار عليه بالبيعة لهشام، ففعل، وبايع لهشام بولاية العهد، ثم من بعده لابنه الوليد بن يزيد، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة ثم عاش يزيد حتى بلغ ابنه الوليد الحلم، فكان يزيد إذا رآه يقول: الله بينى وبين من جعل هشاما بينى وبينك.
ذكر مقتل يزيد بن أبى مسلم
كان يزيد بن عبد الملك قد استعمل يزيد بن أبى مسلم على إفريقية فى سنة [101 هـ] إحدى ومائة، فقتل فى هذه السنة.
وكان سبب قتله أنه أراد أن يسير فى أهل إفريقية بسيرة الحجاج فى أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن [كان] «2» أصله من السّواد من أهل الذّمة، فإنه ردهم إلى قراهم، ووضع عليهم الجزية على ما كانوا «3» عليه قبل الإسلام. فلما عزم يزيد بن مسلم على ذلك(21/393)
اجتمع رأى أهل إفريقية على قتله، فقتلوه وولّوا عليهم الوالى الذى كان قبله، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار، وكتبوا إلى يزيد ابن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من طاعة، ولكن يزيد بن أبى مسلم سامنا مالا يرضاه الله والمسلمون، فقتلناه، وأعدنا عاملك.
فكتب إليهم: إنه لم يرض بما صنع. وأقرّ محمد بن يزيد على عمله.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك، وهو عامل المدينة.
سنة (103 هـ) ثلاث ومائة:
ذكر استعمال سعيد الحرشى على خراسان وعزل سعيد خدينة «1» عنها
فى هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد خدينة عن خراسان بشكوى المجشّر بن مزاحم السلمى، وعبد الله بن عمير الليثى، واستعمل سعيد بن عمرو الحرشى، من بنى الحريش بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة، وكان خدينة بباب سمرقند، فبلغه عزله فرجع وقدم الحرشى خراسان فلم يعرض لعمال خدينة.
وقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال: صه؛ مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه برىء.
وخطب النّاس وحثّهم على الجهاد، وقال: إنكم لا تقاتلون بكثرة [ولا بعدّة] «2» ، ولكن بنصر الله وعزّ الإسلام، فقولوا:
لا حول ولا قوّة إلا بالله.(21/394)
وقال «1» :
فلست لعامر إن لم ترونى ... أمام الخيل أطعن «2» بالعوالى
وأضرب «3» هامة الجبّار منهم ... بعضب الحدّ حودث بالصّقال «4»
فما أنا فى الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرّجال
أبى لى والدى من كلّ ذمّ ... وخالى فى الحوادث غير خالى
فهابه الصّغد، وكان من قتاله إياهم وقتلهم ما ذكرناه.
ولما ظفر بهم كتب إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى ابن هبيرة فوجد عليه.
وفيها جمعت مكة والمدينة لعبد الرحمن بن الضحاك، وولى عبد الواحد ابن عبد الله النّضرى الطائف.
سنة (104 هـ) أربع ومائة:
ذكر عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة وولاية عبد الواحد
وفى هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحّاك عن مكّة والمدينة.
وسبب ذلك أن عبد الرحمن خطب فاطمة بنت الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، فقالت: ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بنىّ هؤلاء، فألحّ عليها، وقال: لئن لم تفعلى لأجلدن أكبر بنيك فى(21/395)
الخمر، يعنى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان على الديوان بالمدينة ابن هرمز رجل من [أهل] «1» الشام، وقد رفع حسابه، وهو يريد أن يسير إلى يزيد، فدخل على فاطمة يودّعها، فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من الضحاك.
وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد يخبره بذلك. فقدم ابن هرمز [على يزيد] «2» ، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل من مغرّبة خبر؟
فلم يذكر شأن فاطمة، فقال الحاجب ليزيد: بالباب رسول من فاطمة بنت الحسين. فقال ابن هرمز: إنها حملتنى رسالة؛ وأخبره الخبر، فنزل عن فراشه، وقال: لا أمّ لك! عندك هذا وما تخبرنيه! فاعتذر بالنّسيان، فأذن «3» لرسولها، فأدخل، وقرأ كتابها، وجعل يضرب بخيزران فى يده، ويقول: لقد اجترأ ابن الضحّاك، هل من رجل يسمعنى صوته فى العذاب؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله النّضرى. فكتب إليه بيده:
قد ولّيتك المدينة، فاهبط إليها، واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع صوته، وأنا على فراشى.
وسار البريد بالكتاب، ولم يدخل على ابن الضحاك، فأحسّ وأحضر البريد، وأعطاه ألف دينار ليخبره الخبر، فأخبره، فسار ابن الضحاك مجدّا فنزل على مسلمة بن عبد الملك، فاستجاربه، فحضر مسلمة عند يزيد، فطلب إليه حاجة جاء لها، فقال: كلّ(21/396)
حاجة هى لك إلا ابن الضحاك. فقال: هى والله ابن الضحّاك. فقال:
والله لا أعفيه أبدا.
ورده إلى عبد الواحد بالمدينة فعذّبه، ولبس جبّة صوف، فسأل الناس.
وكان قدوم النضرى فى شوال سنة [104 هـ] أربع ومائة، فأحسن السيرة فى الناس، وكان ابن الضحاك قد آذى «1» الأنصار طرّا، فأعفاهم الله منه.
وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيدا الحرشى عن خراسان وولّاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابى، وسبب ذلك أن الحرشى كان يستخفّ بابن هبيرة فعزله وعذّبه حتى أدّى الأموال.
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الواحد النّضرى.
سنة (105 هـ) خمس ومائة:
ذكر أخبار الخوارج فى أيام يزيد بن عبد الملك
وهؤلاء الخوارج الذين نذكرهم ذكرهم ابن الأثير «2» فى حوادث هذه السنة، ولم يذكر أنهم خرجوا فيها، فقال «3» :
وفى أيام يزيد خرج حرورى اسمه عقفان فى ثلاثين رجلا، فأراد يزيد أن يرسل إليه جندا يقاتلونه، فقيل له: إن قتل بهذه البلاد اتخذها الخوارج دار هجرة، والرأى أن تبعث إلى كلّ رجل من أصحابه رجلا من قومه يكلّمه ويردّه. ففعل ذلك، فرجعوا وبقى(21/397)
عقفان وحده، فبعث إليه يزيد أخاه فاستعطفه وردّه «1» .
فلما ولى هشام بن عبد الملك ولّاه أمر العصاة، فقدم ابنه من خراسان عاصيا، فشدّه وثاقا، وبعث به إلى هشام، فأطلقه لأبيه، وقال:
لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه، واستعمل عقفان على الصدقة فبقى إلى أن توفّى هشام.
وخرج مسعود بن أبى زينب «2» العبدى بالبحرين على الأشعث ابن عبد الله بن الجارود، ففارق الأشعث البحرين، وسار مسعود إلى اليمامة وعليها سفيان بن عمرو العقيلى من قبل ابن هبيرة، فخرج إليه سفيان فاقتتلوا بالخضرمة «3» قتالا شديدا، فقتل مسعود، وقام بأمر الخوارج بعده هلال بن مدلج، فقاتلهم يومه كلّه، فلما أمسى تفرّق عنه أصحابه، وبقى فى نفر يسير، فدخل قصرا فتحصّن به، فنصبوا عليه السلاليم، وصعدوا إليه فقتلوه.
وقيل: إن «4» مسعودا غلب على البحرين واليمامة تسع عشرة سنة حتى قتله سفيان بن عمرو. [والله أعلم] «5» .
وخرج مصعب بن محمد الوالبى، وكان من رؤساء الخوارج، فطلبه عمر بن هبيرة، وطلب معه مالك بن الصّعب وجابر بن سعد، فخرجوا واجتمعوا بالخورنق، وأمّروا عليهم مصعبا، فاستمر(21/398)
إلى أن ولى خالد القسرى العراق فى أيام هشام، فبعث إليهم جيشا، وكانوا قد صاروا بحزّة «1» من أعمال الموصل، فالتقوا واقتتلوا، فقتل الخوارج.
وقيل: كان قتلهم فى أيام يزيد. والله أعلم.
ذكر وفاة يزيد بن عبد الملك وشىء من أخباره
كانت وفاته بحوران «2» لخمس بقين من شعبان سنة [105] خمس ومائة، وله أربعون سنة.
وقيل خمس وثلاثون. وقيل: غير ذلك.
وكانت خلافته أربع سنين وشهرا. وكان جميلا أبيض جسيما مدوّر الوجه شديد الكبر عاجز الرأى، وكان صاحب لهو، وهو أول من اتخذ القيان من بنى أمية، وكان يهوى جاريتين، وهما حبابة وسلّامة، وهى سلّامة القس، وقال يوما- وقد طرب: دعونى أطير. فقالت حبابة: على «3» من تدع الأمّة؟
فقال: عليك. وغنّت يوما «4» :
بين التّراقى واللهاة حرارة ... ما تطمئنّ وما تسوغ فتبرد
فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لنا فيك حاجة.(21/399)
فقال: والله لأطيرنّ. فقالت: فعلى من تخلّف الأمّة والملك؟ فقال «1» :
عليك والله. وقبّل يدها.
وخرجت معه إلى ناحية الأردنّ للتنزه فرماها بحبّة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها حتى أنتنت، وهو يقبّلها ويشمّها وينظر إليها ويبكى، فكلّم فى أمرها فدفنها.
وقيل: إنه نبشها بعد دفنها، وبقى سبعة أيام لا يظهر للناس، وأشار «2» عليه مسلمة بذلك لئلا يظهر منه ما يسفّهه عندهم.
قال: وكان يزيد قد حجّ أيام أخيه سليمان، فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار، وكان اسمها الغالية «3» ، فقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد. فردّها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت له امرأته سعدة يوما: هل بقى من الدنيا شىء تتمنّاه؟ قال: نعم، حبابة، فأرسلت فاشترتها، وأتت بها فأجلستها من وراء الستر، وأعادت عليه القول الأول.
فقال: قد أعلمتك، فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها، فحظيت سعدة عنده، وأكرمها.
وهى سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان.
قال: وإنما قيل لسلّامة القسّ، لأن عبد الرحمن بن عبد الله [ابن] «4»(21/400)
أبى عمار أحد بنى جشم بن معاوية بن بكر كان فقيها عابدا مجتهدا فى العبادة، وكان يسمى القس لعبادته. مرّ يوما بمنزل مولاها، فسمع غناءها، فوقف يسمعه فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع! فأبى، فقال: أنا أقعدها بمكان لا تراها وتسمع غناءها. فدخل معه فغنّت «1» ، فأعجبه غناؤها. ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها وأحبها وأحبته. فقالت له يوما على خلوة: أنا والله أحبّك. قال: وأنا والله. قالت: وأحبّ أن أقبّلك. قال: وأنا والله.
قالت: وأحب أن أضع بطنى على بطنك. قال: وأنا والله. قالت:
فما يمنعك؟ قال: قوله تعالى «2» : «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ»
. وأنا أكره أن تئول «3» خلّتنا «4» إلى عداوة، ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته. وله فيها أشعار كثيرة منها قوله:
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طرّبت فى صوتها كيف تصنع
تمدّ نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع
وله فيها غير ذلك.
وأما يزيد فأخباره مع سلّامة وحبابة كثيرة مشهورة أضربنا عن ذكر كثير منها.(21/401)
فلنذكر خلاف ذلك من أخباره:
وكان له من الأولاد الذكور ثمانية، [منهم] «1» عبد الله، والوليد.
كتّابه: عمر بن هبيرة، ثم إبراهيم بن جبلة، ثم أسامة بن زيد السّليحى.
قاضيه: عبد الرحمن بن الحسحاس وغيره.
حجّابه: سعيد وخالد مولياه.
نقش خاتمه: قنى السيئات يا عزيز.
الأمير بمصر: بشر بن صفوان.
وأقرّ أبا مسعود على القضاء، ثم ولّى إمارة مصر حنظلة بن صفوان أخا بشر، وسار بشر إلى إفريقية. وولى مصر أيضا فى خلافته أسامة ابن زيد، والله أعلم.
ذكر بيعة هشام بن عبد الملك
هو أبو الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمّه أم هشام فاطمة، وقيل: عائشة بنت هشام المخزومى، وهو العاشر من ملوك بنى أميّة.
بويع له لخمس بقين من شعبان سنة [105 هـ] خمس ومائة بعد وفاة أخيه. أتته الخلافة وهو بالرّصافة «2» ، [فجاءه البريد بالخاتم(21/402)
والقضيب وسلّم عليه بالخلافة] «1» ، فركب منها، حتى أتى دمشق، وكان من أول ما ابتدأ به أن عزل عمر بن هبيرة عن العراق، واستعمل خالد بن عبد الله القسرى، وذلك فى شوال من السنة. ولنبدأ بذكر الغزوات والفتوحات فى أيامه:
ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام هشام بن عبد الملك على حكم السنين
فى سنة [105 هـ] خمس ومائة غزا الجرّاح الحكمىّ اللّان «2»
حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون وراء بلنجر، ففتح بعض ذلك وأصاب غنائم كثيرة.
وغزا سعيد بن عبد الملك أرض الرّوم، فبعث سريّة فى نحو ألف مقاتل فأصيبوا جميعا.
وغزا مسلم بن سعيد الكلابى أمير خراسان الترك بما وراء النهر فلم يفتح شيئا، وقفل فاتبعه الترك فلحقوه، والناس يعبرون جيحون، وعلى الساقة عبيد الله بن زهير بن حيّان على خيل «3» تميم، فحاموا حتى عبر الناس.
وغزا مسلم أفشين «4» ، فصالح أهلها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة.
وغزا مروان بن محمد الصائفة اليمنى، فافتتح قونية من أرض الروم، وكمخ «5» . والله سبحانه وتعالى أعلم.(21/403)
(ذكر غزوة مسلم الترك)
وفى سنة [106 هـ] ست ومائة غزا مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الترك،
فقطع النهر، فلما بلغ بخارى أتاه كتاب خالد القسرى بولايته العراق، ويأمره بإتمام غزاته، فسار إلى فرغانة «1» ، فلما وصلها بلغه أنّ خاقان قد أقبل إليه، فارتحل، فسار ثلاث مراحل فى يوم، وأقبل إليهم خاقان، فلقى طائفة من المسلمين، فقتل جماعة منهم، وأصاب دوابّ لمسلم، ورحل مسلم بالناس، فسار ثمانية أيام والترك يطيفون «2» بهم، وأحرق الناس ما ثقل عليهم من أثقالهم، فحرقوا ما قيمته ألف ألف، ونزل مسلم فى الليلة التاسعة، وأصبح فسار فورد النّهر وأقام «3» يوما ثم قطعه من الغد، واتبعهم ابن لخاقان، فعطف حميد ابن عبد الله وهو على السّاقة على طائفة من الترك نحو المائتين فقاتلهم، فأسر أهل الصّغد وقائدهم وقائد الترك فى سبعة، ومضى البقيّة.
ورجع حميد فرمى بنشّابة فى ركبته فمات.
وعطش الناس فى هذه الغزوة عطشا شديدا وأتوا خجندة وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس. وجاء عبد الرحمن بن نعيم عهده على خراسان من قبل أسد بن عبد الله أخى خالد القسرى، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة.
قال بعض من شهد هذه الغزوة، قاتلنا الترك فأحاطوا بنا حتى(21/404)
أيقنّا بالمهلاك، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحرّ بن الحنيف على الترك فى أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة. ثم رجع، وأقبل نصر بن سيّار فى ثلاثين فارسا فقاتلهم حتى أزالهم عن مواقفهم، وحمل عليهم الناس؛ فانهزم الترك، وقفل عبد الرحمن بالناس ومعه مسلم.
وغزا سعيد بن عبد الملك الصائفة فى هذه السنة.
وغزا الجرّاح بن عبد الله اللّان «1» ، فصالح أهلها وأدّوا الجزية.
(ذكر غزاة عنبسة الفرنج بالأندلس)
وفى سنة [107 هـ] سبع ومائة غزا عنبسة بن سحيم الكلبى
عامل الأندلس بلد الفرنج فى جمع كثير، فنازل «2» مدينة برشلونة، وحصر أهلها، فصالحوه على نصف أعمالها، وعلى جميع ما فى المدينة من أسرى المسلمين وأسلابهم، وأن يعطوا الجزية ويلتزموا بأحكام الذمّة.
وفيها غزا أسد بن عبد الله أمير خراسان الغور؛ وهى جبال هراة، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيّروها فى كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت، ووضع فيها الرجال، ودلّاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه.
وفيها غزا الحارث بن عمرو الطائى التّرك من جهة أرمينية فافتتح رستاقا من بلد التّرك وقرى كثيرة وأثّر أثرا حسنا.
وفى سنة [108 هـ] ثمان ومائة قطع أسد بن عبد الله النّهر،(21/405)
وأتاه خاقان، فلم يكن بينهما قتال، ثم مضى أسد إلى غوريان «1» ، فقاتلهم يوما، ثم اقتتلوا من الغد فانهزم المشركون، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد، وأسروا وسبوا وغنموا.
وفيها غزا مسلمة «2» بن عبد الملك الروم مما يلى الجزيرة ففتح قيسارية، وهى مدينة مشهورة.
وغزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا من حصون الروم.
وفيها سار ابن خاقان ملك الترك إلى أذربيجان، فحصر بعض مدنها، فسار إليه الحارث بن عمرو الطائى، فالتقوا واقتتلوا فانهزم الترك وتبعهم الحارث حتى عبر نهر روس «3» ، فعاد إليه ابن خاقان فعاودوا «4» الحرب أيضا، فانهزم ابن خاقان، وقتل من الترك خلق كثير.
وغزا معاوية بن هشام بن عبد الملك ومعه ميمون بن مهران على أهل الشام فقطعوا البحر إلى قبرس.
وغزا البرّ مسلمة بن عبد الملك بن مروان.
وفى سنة تسع ومائة غزا عبد الله بن عقبة الفهرى فى البحر،
وغزا معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح حصنا يقال له «5» طيبة،(21/406)
وغزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان فغنم وسبى وعاد.
وغزا بشر بن صفوان عامل إفريقية جزيرة صقلية، فغنم شيئا كثيرا، ثم رجع إلى القيروان فتوفى من سنته. واستعمل هشام عبيدة «1» بن عبد الرحمن بن أبى الأغرّ السلمى.
(ذكر خبر أشرس بن عبد الله السلمى أمير خراسان وأهل سمرقند وغيرها بما وراء النهر وما يتصل بذلك من الحروب)
فى سنة [110] عشرة ومائة أرسل أشرس إلى أهل سمرقند وغيرها مما وراء النّهر يدعوهم إلى الإسلام،
على أن توضع عنهم الجزية، وأرسل فى ذلك أبا الصّيداء «2» صالح بن طريف «3» مولى بنى ضبّة والرّبيع بن عمران التميمى، فقال أبو الصّيداء:
إنما أخرج على شريطة أنه «4» من أسلم لا يؤخذ منه الجزية، وإنما خراج خراسان على رءوس الرجال. فقال أشرس: نعم. فشخص إلى سمرقند وعليها الحسن بن أبى العمرّطة «5» الكندى، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام، فكتب إلى أشرس:
إنّ الخراج قد انكسر. فكتب أشرس إلى ابن أبى العمرّطة:
إنّ فى الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغنى أنّ أهل الصّغد وأشباههم(21/407)
إنما أسلموا تعوّذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه، ثم عزل أشرس ابن أبى العمرّطة عن الخراج، وصيّره إلى هانىء بن هانىء، فمنعهم أبو الصيداء من أخذ الجزية ممن تلفّظ بالإسلام، وكتب هانىء إلى أشرس:
إنّ الناس قد أسلموا وبنوا المساجد.
فكتب أشرس إليه وإلى العمال: خذوا الخراج ممّن كنتم تأخذونه عنه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزلوا فى سبعة آلاف على عدّة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصّيداء وربيع بن عمران، والهيثم «1» الشّيبانى، وأبو فاطمة الأزدى، وعامر بن قشير، وبشير الخجندى «2» ، وبيان العنبرى، وإسماعيل بن عقبة لينصروهم، فعزل أشرس ابن أبى العمرّطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشّر بن مزاحم السلمى؛ فكتب المجشّر إلى أبى الصّيداء فى القدوم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصّيداء وثابت قطنة فحبسهما، واجتمع أصحاب أبى الصّيداء وولّوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا، فقال لهم:
كفّوا حتى نكتب إلى أشرس.
فكتبوا إليه، فكتب أشرس: ضعوا عنهم الخراج. فرجع أصحاب أبى الصّيداء وضعف أمرهم، فتتبّع الرؤساء فأخذوا وحملوا إلى مرو. وألحّ هانىء فى الخراج، واستخفّوا بعظماء العجم والدّهاقين، وأخذوا الجزية ممّن أسلم، فكفرت الصّغد وبخارى، واستجاشوا(21/408)
التّرك، وخرج أشرس غازيا، فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر.
وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم، فعبر النهر فى عشرة آلاف، وأقبل أهل الصّغد وبخارى معهم خاقان والتّرك، فحصروا قطنا فى خندقه، وأرسل خاقان من أغار على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود، فوجهه مع عبد الله بن بسطام فى خيل «1» ، فقاتلوا الترك بآمل حتى استنقذوا ما كان بأيديهم، ورجع الترك.
ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن، وبعث سرية مع مسعود أحد بنى حيّان، فلقيهم العدوّ فقاتلوهم، فقتل رجال من المسلمين، وهزم مسعود. فرجع إلى أشرس.
وأقبل العدوّ، فلقيهم المسلمون، فجالوا جولة، فقتل رجال من المسلمين.
ثم رجع «2» المسلمون فصبروا، فهزم الله المشركين، وسار أشرس بالناس حتى نزل بيكند «3» ، فقطع عنهم العدوّ الماء، وأقام المسلمون يوما وليلة، وعطشوا؛ فرحلوا إلى المدينة التى قطع العدوّ بها الماء، وعلى المقدمة قطن بن قتيبة، فلقيهم العدوّ، فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال؛ فقال الحارث بن سريج «4» للناس: القتل بالسيف أكرم(21/409)
فى الدنيا وأعظم أجرا عند الله من الموت عطشا، وتقدم هو وقطن فى فوارس من تميم فقاتلوا حتى أزالوا التّرك عن الماء، فشرب الناس واستقوا، ثم قاتلوا الترك قتالا شديدا، فقتل ثابت قطنة فى جماعة من المسلمين بعد أن أبلوا أعظم بلاء وأحسنه.
ثم اجتمع رجال من المسلمين تبايعوا على الموت مع قطن بن قتيبة، وحملوا على العدوّ فقاتلوهم فكشفوهم، وركبهم المسلمون يقتلونهم حتى حجز بينهم اللّيل، وتفرّق العدوّ، وأتى أشرس بخارى، فحصر أهلها فعزل وهو يحاصرها بالجنيد بن عبد الرحمن على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وقعة كمرجة
قال: ثم إنّ خاقان حصر كمرجة «1» ، وهى من أعظم بلدان خراسان، وبها جمع من المسلمين، ومع خاقان أهل فرغانة وأفشينة «2» ، ونسف، وطوائف من أهل بخارى، فأغلق المسلمون الباب، وقطعوا القنطرة التى على الخندق، فأتاهم ابن خسرو بن يزدجرد، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم؟ أنا الذى جئت بخاقان ليردّ علىّ مملكتى، وأنا آخذ لكم الأمان، فشتموه، وأتاهم بازغرى، فقال: إنّ خاقان يقول لكم: إنى أجعل من عطاؤه منكم ستمائة ألفا، ومن عطاؤه ثلاثمائة ستمائة، ويحسن «3»(21/410)
إليكم وتكونون معه، فأبوا ذلك، فأمر خاقان بجمع الحطب «1» الرطب، وأن يلقى فى الخندق ليعبروا عليه. فجمع فى سبعة أيام، فكانوا يلقون الحطب الرّطب، ويلقى المسلمون الحطب اليابس حتى سوّى الخندق بالأرض؛ فأشعل المسلمون فيه النيران، وهاجت ريح شديدة، فاحترق الحطب الذى جمع فى سبعة أيام فى ساعة واحدة، ثم فرّق خاقان على الترك أغناما، وأمرهم أن يأكلوها ويحشوا جلودها ترابا، ويلقوها فى الخندق، ففعلوا ذلك، فأرسل الله تعالى مطرا شديدا، فاحتمل السيل ما فى الخندق، وألقاه فى النّهر الأعظم.
ورماهم المسلمون بالسهام فقتل بازغرى وكان داهية، وكان خاقان لا يخالفه؛ ففرح المسلمون بقتله، وكان عند المشركين مائة من أسرى المسلمين فيهم أبو الحوجاء «2» العتكىّ والحجاج ابن حميد النضرى، وكان عند المسلمين مائتان من أولاد المشركين رهائن فقتلوهم، واستماتوا واشتدّ القتال.
ثم وقع الاتفاق بينهم وبين الترك على أنّ خاقان يرحل عن كمرجة، ويرحلوا هم عنها أيضا إلى سمرقند والدّبوسية «3» ، فأجاب أهل كمرجة إلى ذلك، وأخذ كلّ منهم من الطائفتين رهائن من الأخرى على الوفاء، وارتحل خاقان، ثم رحلوا بعده، وسيّر معه كور صول التّركى ليمنعهم ممن يتعرّض إليهم من الترك، فلما(21/411)
انتهوا إلى الدّبوسية، وكان بها عشرة آلاف مقاتل من المسلمين، أمنوا وأطلق كلّ من الطائفتين ما بيدهم من الرهائن، وكانت مدة حصار كمرجة ثمانية وخمسين يوما، فيقال: إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يوما.
وفى هذه السنة ارتد أهل كردر «1» ، فأرسل إليهم أشرس جندا فظفروا بهم.
وغزا مسلمة التّرك من نحو باب اللّان، فلقى خاقان فى جموعه، فاقتتلوا قريبا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فانهزم خاقان ورجع مسلمة.
وغزا معاوية الروم ففتح صلم «2» .
وغزا الصائفة عبد الله بن عقبة الفهرى.
(ذكر عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد بن عبد الرحمن، وقتاله الترك)
وفى سنة [111 هـ] إحدى عشرة ومائة عزل هشام بن عبد الملك أشرس بن عبد الله عن خراسان،
واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن ابن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبى حارثة المرّى، وحمله على ثمانية من البريد، فقدم خراسان فى خمسمائة، وسار(21/412)
إلى ماوراء النّهر، وسار معه الخطاب بن محرز السلمى خليفة أشرس بخراسان، فقطعا النّهر، وأرسل الجنيد إلى أشرس، وهو يقاتل أهل بخارى والصّغد: أن أمدّنى بخيل.
وخاف أن يقطع «1» دونه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك الحمّانى، فلما كان عامر ببعض الطريق عرض له التّرك والصّغد، فدخل حائطا حصينا، وقاتلهم على الثلمة، وكان معه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم وواصل بن عمرو القيسى «2» ، فخرج واصل وعاصم بن عمير السمرقندى وغيرهما، فاستداروا خلف الترك فلم يشعر خاقان إلّا والتكبير من ورائه، وحمل المسلمون على التّرك، فقاتلوهم، وقتلوا عظيما من عظماء الترك، فانهزم التّرك، وسار عامر حتى لقى الجنيد، وأقبل معه وعلى مقدمة الجنيد عمارة ابن خريم «3» ، فلما صار على فرسخين من بيكند تلقّته خيل التّرك، فقاتلوهم، فكاد الجنيد يهلك هو ومن معه، ثم أظهره الله، وسار حتى قدم العسكر، وظفر الجنيد، وقتل من الترك، ثم زحف إليه خاقان، فالتقوا دون زرمان «4» من بلاد سمرقند، وقطن بن قتيبة على ساقة الجنيد، فأسر الجنيد ابن أخى خاقان، فبعث به إلى هشام، ورجع الجنيد بالظّفر إلى مرو.(21/413)
وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، وغزا سعيد بن هشام الصائفة اليمنى، حتى أتى قيسارية.
وغزا عبد الله بن أبى مريم البحر.
وفيها سارت التّرك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو، فهزمهم.
وفيها استعمل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمىّ على أرمينية، وعزل أخاه مسلمة، فدخل بلاد الخزر من ناحية تفليس «1» ، ففتح مدينتهم البيضاء، وانصرف سالما.
(ذكر مقتل الجراح بن عبد الله الحكمى وولاية سعيد الحرشى وحروبه مع الخزر والتّرك، وما افتتحه من البلاد)
وفى سنة [112 هـ] ثنتى عشرة ومائة قتل الجرّاح بن عبد الله الحكمى.
وسبب ذلك أنه لما هزم الخزر اجتمعوا هم والتّرك من ناحية اللّان، فلقيهم الجرّاح فيمن معه من أهل الشام، فاقتتلوا أشدّ قتال رآه الناس، وتكاثر الخزر والتّرك على المسلمين، فاستشهد الجرّاح ومن معه بمرج أردبيل «2» ، فلما قتل طمع الخزر وأوغلوا فى البلاد حتى قاربوا الموصل، وعظم الخطب على المسلمين.
فبلغ الخبر هشام بن عبد الملك، فاستشار سعيدا الحرشى،(21/414)
فقال: أرى أن تبعثنى على أربعين دابّة من دوابّ البريد، ثم تبعث إلىّ كل يوم بأربعين [رجلا] «1» ، واكتب إلى أمراء الأجناد أن يوافونى «2» . ففعل ذلك، وسار الحرشىّ وهو لا يمرّ بمدينة إلّا استنهض «3» أهلها، فيجيبه من يريد الجهاد.
ولم يزل كذلك حتى وصل إلى مدينة أرزن «4» ، فلقيه جماعة من أصحاب الجرّاح، فردّهم معه، وسار فبلغ خلاط «5» ، فحاصرها أياما وفتحها، وقسّم غنائمها فى أصحابه، ثم سار عنها وفتح الحصون والقلاع شيئا بعد شىء حتى أتى بردعة، وكان ابن خاقان يومئذ بأذربيجان يغير وينهب ويسبى ويقتل، وهو يحاصر مدينة ورثان «6» ، فأرسل الحرشىّ رجلا من أصحابه إلى أهلها يعرّفهم وصوله، ويأمرهم بالصبر، فسار ولقيه بعض الخزر، فأخذوه وسألوه عن الخبر، فأخبرهم وصدقهم، فقالوا له: إن فعلت ما نأمرك به أحسنّا إليك، وأطلقناك، وإلا قتلناك. قال: فما الذى تريدون؟ قالوا «7» : تقول لأهل ورثان: إنكم ليس لكم مدد، ولا من يكشف ما بكم، وتأمرهم بتسليم البلد إلينا. فأجابهم إلى ذلك.
فلما قارب المدينة وقف بحيث يسمع أهلها كلامه، فقال لهم:(21/415)
أتعرفونى؟ قالوا: نعم، أنت فلان. قال: فإنّ الحرشى قد وصل إلى مكان كذا فى عساكر كثيرة، وهو يأمركم بحفظ البلد، والصّبر، ففى هذين اليومين يصل إليكم.
فرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير، وقتلت الخزر ذلك الرجل، ورحلوا عن مدينة ورثان، ووصلها الحرشى، وقد ارتحل الخزر إلى أردبيل، فسبقهم «1» إليها، فساروا عنها، ونزل سعيد باجروان «2» ، فأتاه فارس على فرس أبيض، فقال له: أيها الأمير، هل لك فى الجهاد والغنيمة؟ قال: وكيف لى بذلك؟ قال: هذا عسكر الخزر فى عشرة آلاف، ومعهم خمسة آلاف بنت من المسلمين أسارى وسبايا، وهم على أربعة فراسخ.
فسار الحرشىّ إليهم ليلا، فوافاهم آخر الليل، وهم نيام، فكبسهم مع الفجر، ووضع المسلمون فيهم السيف، فما بزغت الشمس حتى قتلوا عن آخرهم غير «3» رجل واحد.
ثم أتاه ذلك الفارس الذى أتاه أولا وقال له: هذا جيش الخزر ومعهم أموال المسلمين وأولادهم، وحرم الجرّاح وأولاده، وهم بمكان كذا؛ فسار الحرشى إليهم، فما شعروا إلّا والمسلمون معهم، فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاءوا، ولم يفلت من الخزر إلا الشريد، واستنقذوا من معهم، وغنموا أموال الخزر، وحمل الأسارى إلى باجروان.(21/416)
وبلغ الخبر ابن ملك الخزر، فجمع أصحابه من نواحى أذربيجان، فاجتمع له عساكر كثيرة، فحرّضهم، وسار نحو الحرشىّ، وسار الحرشىّ إليه، فالتقيا بزرند «1» ، واقتتلوا أشدّ قتال، فانحاز المسلمون يسيرا ثم عادوا إلى القتال، فاشتدّت نكايتهم فى العدوّ، فهزموهم، وتبعهم المسلمون حتى بلغوا بهم نهر أوس «2» ، وعادوا عنهم وحووا ما فى عسكرهم من الأموال والغنائم، وأطلقوا الأسارى والسّبايا، وحملوا الجميع إلى باجروان، ثم جمع ابن ملك الخزر من لحق به من عساكره، وعاد بهم نحو الحرشى، فنزل على نهر البيلقان «3» ، فسار الحرشى نحوه؛ فوافاهم هناك، والتقوا، فكانت الهزيمة على الخزر، فكان من غرق منهم أكثر ممن قتل، وجمع الحرشى الغنائم، وعاد إلى باجروان وكتب إلى هشام بالفتح، وأرسل إليه الخمس. فكتب إليه هشام يشكره، ويثنى عليه، ويأمره بالمسير إليه، واستعمل هشام أخاه مسلمة على أرمينية وأذربيجان، فوصل إلى البلاد، وسار إلى الترك حتى جاز البلاد [فى آثارهم] «4» .
ذكر وقعة الجنيد بالشعب
وفى سنة [112 هـ] ثنتى عشرة ومائة أيضا خرج الجنيد أمير خراسان غازيا يريد طخارستان؛ فوجه عمارة بن خريم(21/417)
إلى طخارستان فى ثمانية عشر ألفا، ووجّه إبراهيم بن بسام الليثى فى عشرة آلاف إلى وجه آخر، وجاشت التّرك فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن الحر؛ فكتب إلى الجنيد أنّ خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم، فلم أطق أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث الغوث.
فعبر الجنيد النهر، وقد فرّق عساكره، فسار بمن معه حتى نزل كشّ «1» ، وتأهّب للمسير، وبلغ ذلك الترك؛ فعوّروا الآبار التى فى طريق كش، وسار الجنيد يريد سمرقند، فأخذ طريق العقبة، وارتقى فى الجبل، ثم سار حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ، ودخل الشّعب فصبّحه خاقان فى جمع عظيم؛ فكانت بينهم وقعة عظيمة صبر الناس فيها وقاتلوا حتى كانت السيوف لا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، ثم كانت المعانقة؛ ثم تحاجزوا، فاستشهد من المسلمين جماعة.
فبينما الناس كذلك إذ أقبل رهج «2» ، وطلعت الفرسان»
، فنادى منادى الجنيد: الأرض الأرض! وترجّل، وترجّل الناس، ثم أمر أن يخندق كلّ قائد على حياله، فخندقوا وتحاجزوا وقد أصيب من الأزد يومئذ مائة وتسعون رجلا، وكان قتالهم يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت قصدهم خاقان وقت الظهر، فلم ير موضعا للقتال أسهل من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد(21/418)
ابن الحارث، فقصدهم، فلما قربوا حملت بكر عليهم فأفرجوا لهم، واشتد القتال بينهم.
فلما رأى الجنيد شدّة الأمر استشار أصحابه، فقال له عبيد الله بن حبيب: اختر إمّا أن تهلك أنت أو سورة بن الحرّ.
فقال: هلاك سورة أهون على. قال: فاكتب إليه فليأتك فى أهل سمرقند؛ فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجّهوا إليه فقاتلوه.
فكتب إليه الجنيد يأمره بالقدوم، فسار فى اثنى عشر ألفا، فأصبح على رأس جبل، فتلقّاه خاقان، وقد بقى بينه وبين الجنيد نحو فرسخ فقاتلهم فاشتدّ «1» القتال، وسقط سورة بن الحرّ، فاندقّت فخذه، وقتل وتفرّق الناس، وقتلهم الترك، ولم ينج منهم غير ألفين. ويقال: ألف.
ولما استقلّ خاقان بقتال سورة خرج الجنيد مبادرا يريد سمرقند، فلقيه الترك قبل وصوله إليها، فقاتلهم قتالا شديدا.
وقال الجنيد: أىّ عبد قاتل فهو حر. فقاتل العبيد قتالا عجبت منه الناس، وهزم الله الترك.
ومضى الجنيد إلى سمرقند، وكتب إلى هشام بن عبد الملك بالخبر. فكتب إليه هشام: قد وجّهت إليك عشرة آلاف من أهل البصرة، وعشرة آلاف من أهل الكوفة، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح، ومثلها ترسة «2» ، فافرض فلا غاية لك فى الفريضة لخمسة «3» عشر ألفا.(21/419)
قال «1» : وأقام الجنيد بسمرقند، وتوجّه خاقان إلى بخارى، وعليها قطن بن قتيبة، فسار الجنيد إليه، وخلّف بسمرقند عثمان بن عبد الله ابن الشّخّير فى أربعمائة [فارس وأربعمائة] «2» راجل.
ولما انتهى الجنيد إلى كرمينية «3» أتاه خاقان وذلك فى مستهلّ رمضان من السنة، فاقتتلوا يومهم؛ ثم ارتحل الجنيد وقد قوى الساقة بالرجال، فجاءت الترك فمالوا على الساقة فاقتتلوا فاشتدّ القتال بينهم، فقتل مسلم بن أحوز عظيما من عظماء الترك، فتطيّروا من ذلك، وانصرفوا. وسار المسلمون فدخلوا بخارى، ثم قدمت الجنود من الكوفة والبصرة فسرّح الجنيد معهم حوثرة ابن زيد العنبرى فيمن انتدب معه.
وقيل: إنّ وقعة الشّعب كانت فى سنة [113 هـ] ثلاث عشرة ومائة.
[والله أعلم] «4» .
وفيها غزا معاوية بن هشام الصائفة، فافتتح خرشنة «5» .
[والله أعلم] «6» .(21/420)
ذكر غزو مسلمة وعوده
فى هذه السنة فرّق مسلمة الجيوش ببلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم وسبى وأسر وأحرق، ودان له من وراء جبال بلنجر، وأقبل ابن خاقان وقد اجتمعت عليه الخزر وغيرهم من تلك الأمم، وصار فى جموع عظيمة. فلما بلغ مسلمة الخبر أمر أصحابه فأوقدوا النيران، ثم ترك خيامهم وأثقالهم، وعاد بعسكره جريدة، وقدم الضعفة «1» وأخّر الشجعان، وطوى المراحل كلّ مرحلتين فى مرحلة حتى وصل الباب والأبواب [فى آخر رمق] «2» .
وفيها غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط. من ناحية مرعش «3» ثم رجع. والله أعلم.
(ذكر غزو مروان بن محمد بلاد الترك) ودخوله إلى بلاد ملك السّرير وغيرها من بلادهم وما افتتحه وقرره وصالح عليه الملوك
وفى سنة [114] أربع عشرة استعمل هشام بن عبد الملك مروان بن محمد بن مروان على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية.
وسبب ذلك أنه كان فى عسكر مسلمة بن عبد الملك حين غزا الخزر، فلما عاد مسلمة- كما تقدّم- سار مروان إلى هشام فلم يشعر به(21/421)
حتى دخل عليه، فسأله عن سبب قدومه، فقال: ضقت ذرعا بما أذكره، ولم أر من يحمله غيرى. قال: وما هو؟ قال:
يا أمير المؤمنين؛ إنه كان من دخول الخزر إلى بلاد الإسلام وقتل الجراح وغيره ما دخل به الوهن على المسلمين. ثم رأى أمير المؤمنين أن يوجّه أخاه مسلمة إليهم، فو الله ما وطىء من بلادهم إلّا أدناها، ثم إنه لما رأى كثرة جمعه أعجبه ذلك، فكتب إلى الخزر يؤذنهم بالحرب، وأقام بعد ذلك ثلاثة أشهر، فاستعدّ القوم وحشدوا، فلما دخل بلادهم لم يكن له فيهم نكاية، فكان قصاراه السّلامة، وقد أردت أن تأذن لى فى غزوة أذهب بها عنّا العار، وأنتقم من العدو. قال: قد أذنت لك. قال: وتمدنى بمائة ألف وعشرين ألف مقاتل؟
قال: قد فعلت. قال: وتكتم هذا الأمر عن كل أحد؟ قال:
قد فعلت. وقد استعملتك على إرمينية.
فودّعه وسار إلى إرمينية واليا عليها وسيّر إليه هشام الجنود [من الشام والعراق والجزيرة، فاجتمع عنده من الجنود] «1» والمتطوّعة مائة ألف وعشرون ألفا، فأظهر أنه يريد غزو اللّان، وأرسل إلى ملك الخزر يطلب منه المهادنة، فأجابه إلى ذلك، وأرسل «2» إليه من يقرر الصلح، فأمسك الرسول عنده إلى أن فرغ من جهازه، وأحضره، ثم أغلظ لهم فى القول وآذنهم بالحرب، وسيّر الرسول إلى صاحبه بذلك، ووكل به من يسير به(21/422)
على طريق فيه بعد، وسار هو فى أقرب الطّرق، فما وصل الرسول إلى صاحبه إلّا ومروان قد وافاهم بالجنود، فاستشار ملك الخزر أصحابه، فقالوا: إنّ هذا قد جمع ودخل بلادك، فإن أقمت إلى أن تجمع لم يجتمع جندك إلى مدّة، فيبلغ منك ما يريد، وإن أنت لقيته على حالك هذه هزمك وظفر بك، والرأى أن تتأخّر إلى أقصى بلادك، وتدعه وما يريد.
فقبل رأيهم وسار ودخل مروان البلاد، وأوغل فيها، وأخربها، وغنم وسبى، وانتهى إلى آخرها، وأقام فيها عدّة أيام أذلّهم، ودخل بلاد ملك السّرير، فأوقع بأهلها، وفتح قلاعا، ودان له الملك، وصالحه على ألف رأس: خمسمائة غلام، وخمسمائة جارية سود الشعور «1» ، ومائة ألف مدى تحمل إلى الباب، وصالح أهل تومان «2» ، على مائة رأس نصفين وعشرين ألف مدى «3» ، ثم دخل أرض زديكران «4» ، فصالحه ملكها، ثم أتى أرض حمزين، فأبى حمزين أن يصالحه، فحصرهم، وافتتح حصنهم، ثم أتى سغدان «5» ، فافتتحها صلحا، ووظف على طبر سرانشاه «6» عشرة آلاف مدى كلّ سنة تحمل إلى الباب؛ ثم(21/423)
نزل على قلعة صاحب الّلكز «1» وقد امتنع من أداء الوظيفة، فخرج ملك الّلكز يريد ملك الخزر، فقتله راع بسهم وهو لا يعرفه، فصالح أهل الّلكز مروان، واستعمل عليهم عاملا وسار إلى قلعة شروان «2» وهى على البحر، فأذعن له بالطاعة، وسار إلى الدّوادانيّة، فأوقع بهم، ثم عاد.
وغزا معاوية بن هشام الصائفة اليسرى، فأصاب ربض أقرن.
وفيها التقى عبد الله البطّال هو وقسطنطين فى جموع، فهزمهم البطّال وأسر قسطنطين.
وغزا سليمان بن هشام الصائفة اليمنى، فبلغ قيسارية.
وفى سنة [115 هـ] خمس عشرة ومائة غزا معاوية بن هشام أرض الروم.
وغزا أيضا الصائفة فى سنة [116 هـ] ست عشرة.
وفى سنة [117 هـ] سبع عشرة غزا معاوية «3» بن هشام الصائفة اليسرى، وسليمان بن هشام الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة،
وفرّق سراياه فى أرض الروم.
وبعث مروان بن محمد، وهو على إرمينية بعثين؛ فافتتح أحدهما(21/424)
حصونا ثلاثة من الّلان، ونزل الآخر على تومان شاه، فنزل أهلها على الصّلح.
وفى سنة [118 هـ] ثمان عشرة [ومائة] «1» غزا معاوية وسليمان ابنا هشام بن عبد الملك أرض الروم.
وغزا مروان بن محمد من إرمينية، ودخل أرض ورتيس «2» ، من ثلاثة أبواب، فهرب ورتيس إلى الخزر، وترك حصنه، فحصره مروان، ونصب عليه المجانيق، واتفق قتل ورتيس، قتله بعض من اجتاز به، وأرسل رأسه إلى مروان، فنصبه لأهل حصنه، فنزلوا على حكمه، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة ...
(ذكر ظفر المسلمين بالترك وقتل خاقان ملك الترك)
وفى سنة [119 هـ] تسع عشرة ومائة كانت الحرب بين أسد ابن عبد الله القسرى أمير خراسان وبين خاقان ملك التّرك.
وسبب ذلك أنّ الحارث بن سريج كان قد خلع بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين، وولى أسد خراسان على ما نذكره إن شاء الله، فكتب الحارث إلى خاقان يعلمه بضعف أسد وقلّة أصحابه، ويستدعيه لحربه.
فأقبل خاقان، وقطع النّهر إلى بلخ، فلقيه أسد، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظفر المسلمون بالتّرك، وهزموهم أقبح هزيمة، وغنموا(21/425)
أموالهم وخيولهم وأثقالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأراد خصىّ لخاقان حمل امرأة خاقان فأعجلوه فقتلها، ومضى خاقان إلى طخارستان ثم إلى بلاده. وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون، واستعدّ لغزو المسلمين، فلاعب خاقان يوما كور صول بالنّرد على خطر، فتنازعا، فضرب كور صول يد خاقان فكسرها وتنحّى عنه، وجمع جمعا، وبلغه أنّ خاقان قد حلف ليكسرنّ يده؛ فبيّت خاقان فقتله، وتفرّقت الترك واشتغلوا بأنفسهم، وأرسل أسد إلى هشام بن عبد الملك يخبره بالفتح وبقتل خاقان، فلم يصدق ذلك. وأرسل «1» مبشّرا آخر فوقف على باب هشام وكبّر، فأجابه هشام بالتكبير. فلما انتهى إليه أخبره بالفتح، فسجد شكرا لله تعالى.
وفيها غزا أسد بن عبد الله أمير خراسان الختّل «2» ، فقتل بدر طرخان [ملك الختّل] «3» ، وغلب على القلعة العظمى، وفرّق عساكره فى أودية الختّل، فملئوا أيديهم من الغنائم والسبى.
وهرب أهلها إلى الصين.
وغزا الوليد بن القعقاع أرض الروم.
وغزا مروان بن محمد من إرمينية فدخل بلاد الّلان، وسار فيها(21/426)
حتى خرج منها إلى بلاد الخزر، فمرّ ببلنجر وسمندر «1» ، وانتهى إلى البيضاء التى يكون فيها خاقان، فهرب خاقان منه.
وفى سنة [120 هـ] عشرين ومائة غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتح سندرة.
وغزا إسحاق بن مسلم العقيلى تومان شاه وافتتح قلاعه وخرّب أرضه.
(ذكر غزوات نصر بن سيار ماوراء النهر)
وفى سنة [121 هـ] إحدى وعشرين ومائة غزا نصر بن سيّار ماوراء النهر مرّتين:
إحداهما من نحو الباب الجديد، فسار «2» من بلخ، ثم رجع إلى مرو، فخطب الناس، وأخبرهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبى الخرقاء على كشف المظالم، وأنه قد وضع الجزية عمّن أسلم، وجعلها على من كان يخفّف عنه من المشركين، فلم تمض جمعة «3» حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدّون الجزية عن رءوسهم، وثمانون «4» ألفا من المشركين كانت الجزية قد وضعت عنهم، فحوّل ما كان على المسلمين عليهم، ثم صنّف الخراج ووضعه مواضعه.
ثم غزا الثانية إلى ورغسر «5» وسمرقند.(21/427)
ثم غزا الثالثة إلى شاش من مرو، فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول فى خمسة عشر ألفا، وكان معهم الحارث بن سريج «1» ، وعبر كورصول فى أربعين رجلا فبيّت العسكر فى ليلة مظلمة، ومع نصر بخارى خذاه فى أهل بخارى، ومعه أهل سمرقند وكشّ ونسف، وهم عشرون ألفا، فنادى نصر: ألا لا يخرجنّ أحد، واثبتوا على مواضعكم.
فخرج عاصم بن عمير- وهو على جند سمرقند- فمرّت به خيل الترك، فحمل على رجل فى آخرهم فأسره، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة، فأتى به إلى نصر، فقال له نصر:
من أنت؟ قال: كورصول. قال: الحمد لله الذى أمكن منك يا عدوّ الله. قال: ما ترجو من قتل شيخ، وأنا أعطيك أربعة آلاف بعير من إبل الترك وألف برذون تقوّى به جندك، وتطلق سبيلى.
فاستشار نصر الناس، فأشاروا بإطلاقه، فسأله عن عمره قال: لا أدرى. قال: كم غزوت؟ قال: ثنتين وسبعين غزاة.
قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم. قال: لو أعطيتنى ما طلعت عليه الشمس ما أفلتّ من يدى بعد ما ذكرت من مشاهدك.
وقال لعاصم بن عمير السغدى «2» : قم إلى سلبه فخذه. فقال:
من أسرنى؟ قال: نصر- وهو يضحك- أسرك يزيد بن قرّان «3» الحنظلى، وأشار إليه. قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه، أو لا يستطيع أن يتم بوله، فكيف يأسرنى؟ أخبرنى من أسرنى؟ قال:(21/428)
أسرك عاصم بن عمير. قال: لست أجد ألم «1» القتل إذا أسرنى فارس من فرسان العرب.
فقتله وصلبه على شاطىء النهر، فلما قتل أحرقت الترك أبنيته، وقطعوا آذانهم وشعورهم وأذناب خيولهم.
فلما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه، فكان ذلك أشدّ عليهم من قتله.
وارتفع إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس. وكتب يوسف ابن عمر الثقفى عاهل العراقين إلى نصر بن سيّار يأمره بالمسير إلى الشاش «2» لقتال الحارث بن سريج، فاستعمل نصر يحيى بن حصين على مقدمته، فسار إلى الشاش، فأتاهم الحارث، وأغار الأخرم، وهو فارس الترك، على المسلمين فقتلوه، وألقوا رأسه إلى الترك، فصاحوا وانهزموا، وسار نصر إلى الشاش فتلقّاه ملكها بالصلح والهديّة والرّهن، فاشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب «3» ، واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وكانوا قد علموا بمجيئة، فأحرقوا الحشيش، وقطعوا الميرة، فوجّه نصر إلى ولى عهد صاحب فرغانة فحاصره فى حصن، فخرج وقد غفل المسلمون فغنم دوابّهم، فوجّه إليهم نصر رجالا من تميم، ومعهم محمد بن المثنى، فكايدهم(21/429)
المسلمون وأهملوا دوابهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدّهقان وأسروا منهم، فكان فيمن أسر ابن الدّهقان، فقتله نصر.
وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب الصّلح إلى صاحب فرغانة، فأمر به فأدخل الخزائن ليراها، ثم رجع إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قال: سهلا كثير الماء والمرعى، فكره ذلك، وقال: ما أعلمك؟ فقال سليمان: قد غزوت غرشتان «1» وغور والختّل وطبرستان، فكيف لا أعلم؟ قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟
قال: عدّة حسنة، ولكن أما علمت أنّ المحصور لا يسلم من خصال؟ [قال: وما هن؟ قال:] «2» لا يأمن أقرب الناس إليه، وأوثقهم فى نفسه، أو يفنى ما جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت.
فكره ما قاله له، وأمره فأحضر كتاب الصلح، فأجاب إليه، وسير أمّه معه، وكانت صاحبة أمره، فقدمت على نصر فكلّمها فكلمته، وكان فيما قالت [له] «3» : كلّ ملك لا تكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزير يبثّ إليه ما فى نفسه، ويشاوره ويثق بنصيحته. وطبّاخ إذا لم يشته الطعام اتّخذ له ما يشتهى، وزوجة إذا دخل عليها مغتمّا فنظر إلى وجهها زال غمّه،(21/430)
وحصن إذا فزع أتاه فأنجاه- تعنى البرذون- وسيف إذا قاتل لم يخش خيانته. وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض.
ودخل تميم بن نصر فى جماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا:
هذا فتى خراسان تميم بن نصر. قالت: ما له نبل الكبير، ولا حلاوة الصغير.
ثم دخل الحجاج بن قتيبة، فقالت: من هذا؟ قالوا:
الحجاج بن قتيبة، فحيّته، وسألت عنه، وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء، ولا يصلح بعضكم لبعض، قتيبة الذى ذلّل لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك، فحقّه «1» أن تجلسه أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه.
ذكر غزو مروان بن محمد بن مروان
وفى سنة [121 هـ] إحدى وعشرين أيضا غزا مروان بن محمد من إرمينية وهو واليها، فأتى قلعة بيت السّرير فقتل وسبى، ثم أتى قلعة ثانية «2» فقتل وسبى، ودخل غرمسك «3» ، وهو حصن فيه بيت الملك وسريره، فهرب الملك منه إلى حصن خيزج «4» ، وهو الذى فيه السرير الذهب، فسار إليه مروان ونازله صيفة وشتوة «5» ، فصالحه الملك على ألف رأس فى كل سنة، ومائة ألف(21/431)
مدى، وسار مروان فدخل أرض أرزو بطران «1» ، فصالحه ملكها. ثم سار فى أرض تومان فصالحه وسار حتى أتى حمزين، فأخرب بلاده، وحصر حصنا له شهرا فصالحه.
ثم أتى مروان أرض مسدار «2» ، فافتتحها على صلح، ثم نزل كيران «3» فصالحه طبرسران «4» وفيلان، وكلّ هذه الولايات على شاطىء البحر من أرمينية إلى طبرستان.
وفيها غزا مسلمة بن هشام الروم فافتتح بها مطامير.
وفى سنة [124 هـ] أربع وعشرين غزا سليمان بن هشام الصائفة
فلقى أليون ملك الروم فغنم.
هذا ما أمكن إيراده من الغزوات والفتوحات فى أيام هشام
فلنذكر حوادث السنين فى أيامه.
سنة (106 هـ) ست ومائة:
ذكر ولاية أسد خراسان
فى هذه السنة استعمل خالد بن عبد الله القسرى أخاه أسدا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد بفرغانة، فلما أتى أسد النهر ليقطعه منعه الأشهب بن عبيد التميمى؛ وكان على السفن(21/432)
بامل، وقال: قد نهيت عن ذلك، فأعطاه ولاطفه، فأبى. قال: فإنى أمير، فأذن له، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه فى أمانتنا.
وأتى الصّغد فنزل بالمرج، وعلى سمرقند هانىء بن هانىء، فخرج فى الناس للقاء أسد، فرآه على حجر، فقال «1» الناس:
ما عند هذا خير، أسد على حجر، ودخل سمرقند وعزل هانئا عنها، واستعمل عليها الحسن بن أبى العمرّطة «2» الكندى، ثم كان من عزل أسد ما نذكره إن شاء الله.
وفيها استعمل هشام الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم ابن أبى العاص بن أمية على الموصل، وهو الذى عمل النّهر الذى كان بالموصل.
وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرّة فيها ماء، وهى تحملها ساعة ثم تستريح قليلا لبعد الماء، فكتب بذلك إلى هشام، فأمره أن يحفر نهرا إلى البلد، فحفره، وبقى العمل فيه عدّة «3» سنين ومات الحرّ سنة (113 هـ) ثلاث عشرة ومائة.
وفى سنة ست أيضا عزل هشام عبد الواحد النّضرى عن مكّة والمدينة والطائف، وولّى ذلك كله «4» إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فقدم المدينة فى جمادى الآخرة.
وكانت ولاية النّضرى سنة وثمانية أشهر.(21/433)
[وفيها] «1» استقضى إبراهيم بن هشام على المدينة محمد بن صفوان الجمحى «2» ، ثم عزله، واستقضى الصّلت الكندىّ، وكان العامل على العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسرى البجلى، وكان عامل خالد على البصرة عقبة بن عبد الأعلى على الصلاة. وعلى الشرطة مالك بن المنذر بن الجارود، وعلى القضاء ثمامة بن عبد الله بن أنس.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن عبد الملك.
سنة (107 هـ) سبع ومائة:
فى هذه السنة كان من خبر دعاة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة العبّاسية.
وفيها عزل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمى عن إرمينية وأذربيجان، واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فاستعمل عليها الحارث بن عمرو الطائى، فافتتح من بلاد الترك رستاقا وقرى كثيرة، وأثّر أثرا حسنا.
وفيها نقل أسد من كان بالبروقان «3» إلى بلخ من الجند، وأقطع من كان بالبروقان بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له:(21/434)
إنهم يتعصّبون؛ فخلّى بينهم، وتولّى بناء مدينة بلخ برمك، وهو أبو خالد بن برمك، وبينها وبين البروقان فرسخان.
وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام.
سنة (108 هـ) ثمان ومائة:
فى هذه السنة كان من خبر شيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها وقع الحريق بدابق، فاحترق المرعى والدوابّ والرجال.
وفيها خرج عبّاد الرّعينى «1» باليمن محكّما فقتله أميرها يوسف بن عمرو «2» ، وقتل أصحابه وكانوا ثلاثمائة.
وحج بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام.
وفيها مات محمد بن كعب القرظى، وقيل سنة سبع عشرة.
وقيل: إنه ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
سنة (109 هـ) تسع ومائة:
فى هذه السنة عزل أسد بن عبد الله القسرى عن خراسان، وسبب ذلك أنه ضرب نصر بن سيار ونفرا بالسياط، منهم عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحرّ والبخترى بن أبى درهم، وعامر بن مالك الحمّانى، وحلقهم وسيّرهم هو إلى أخيه، وكتب إليه:
إنهم أرادوا الوثوب بى.
فلما قدموا على خالد لام أسدا وعنّفه، وقال: ألا بعث إلىّ بروءسهم.
وخطب أسد يوما، فقال: قبّح الله هذه الوجوه وجوه(21/435)
أهل الشقاق والنّفاق والشّغب والفساد، اللهم فرّق بينى وبينهم، وأخرجنى إلى مهاجرى ووطنى.
فبلغ فعله هشام بن عبد الملك، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله، فرجع إلى العراق فى رمضان من السنة، واستخلف على على خراسان الحكم بن عوانة الكلبى، فأقام الحكم صيفيته فلم يغز، ثم استعمل هشام أشرس بن عبد الله السلمى على خراسان، وأمره أن يكاتب خالدا، وكان أشرس فاضلا خيّرا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله.
فلما قدم خراسان فرح الناس به، واستقضى أبا المنازل الكندى، ثم عزله واستقضى محمد بن يزيد.
وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام، فخطب الناس، فقال: سلونى، فإنكم لا تسألون أحدا أعلم منى، فسأله رجل من أهل العراق عن الأضحية أواجبة هى؟ فما درى ما يقول: فنزل.
سنة (110 هـ) عشرة ومائة:
فيها جمع خالد القسرى الصلاة والأحداث والشرط والقضاء بالبصرة لبلال بن أبى بردة، وعزل ثمامة عن القضاء.
وحجّ بالناس إبراهيم بن إسماعيل.
وفيها مات الفرزدق الشاعر، وله إحدى وتسعون سنة.
ومات جرير بن الخطفى الشاعر.(21/436)
سنة (111 هـ) إحدى عشرة ومائة:
فى هذه السنة كان عزل أشرس عن خراسان واستعمال الجنيد ابن عبد الرحمن؛ وقد تقدم ذكر ذلك فى الغزوات.
وفيها استعمل هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمى على إرمينية، وعزل أخاه مسلمة كما تقدم.
وحج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومى.
سنة (112 هـ) ثنتى عشرة ومائة:
حج بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومى. وقيل سليمان بن هشام بن عبد الملك. والله أعلم.
سنة (113 هـ) ثلاث عشرة ومائة:
فى هذه السنة قتل عبد الوهاب ابن بخت «1» ، وكان قد غزا مع البطّال أرض الرّوم، فانهزم الناس عن البطّال، فحمل عبد الوهاب، وهو يقول: ما رأيت فرسا أجبن منك، وسفك الله دمى إن لم أسفك دمك، ثم ألقى بيضته عن رأسه، وصاح:
أنا عبد الوهاب! من الجنّة تفرّون! ثم تقدم فى نحو العدو، فجاء برجل وهو يقول: واعطشهاه! فقال: تقدم، الرّىّ أمامك، وخالط القوم فقتل وقتل فرسه.
وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل إبراهيم بن هشام المخزومى، والله أعلم.
سنة (114 هـ) أربع عشرة ومائة:
فى هذه السنة كانت ولاية مروان بن محمّد بن مروان إرمينية وأذربيجان، وقد تقدم ذكر ذلك فى الغزوات.(21/437)
وفيها عزل هشام إبراهيم بن هشام المخزومى عن المدينة، واستعمل عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم فى ربيع الأول، فكانت إمرة إبراهيم على المدينة ثمانى سنين، وعزله أيضا عن مكّة والطائف، واستعمل على ذلك محمد بن هشام المخزومى.
وحجّ بالناس خالد بن عبد الملك بن الحارث وقيل: محمد ابن هشام.
وفيها توفى محمد بن على بن الحسين الباقر. وقيل سنة خمس عشرة.
سنة (115 هـ) خمس عشرة ومائة:
حجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام المخزومى، وكان الأمير بخراسان الجنيد. وقيل: بل كان قد مات، واستخلف عمارة بن خريم المرّى. [والله أعلم] «1» .
سنة (116 هـ) ست عشرة ومائة:
فى هذه السنة عزل الجنيد عن خراسان.
وسبب ذلك أنه تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام؛ واستعمل عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالى على خراسان، وكان الجنيد قد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه.
فقدم عاصم وقد مات الجنيد، واستخلف عمارة بن خريم وهو ابن عمه، فعذّبه عاصم، وعذّب عمال الجنيد لعداوة كانت بينه وبين الجنيد ...(21/438)
ذكر خلع الحارث بن سريج «1» بخراسان
وما كان من أمره وفى هذه السنة خلع الحارث بن سريج وأقبل إلى الفارياب «2» فأرسل إليه عاصم رسلا. منهم مقاتل بن حيّان النّبطى، والخطاب ابن محرز السلمى، فقالا لمن معهما: لا نلقى الحارث إلّا بأمان، فأبى القوم عليهما وأتوه، فأخذهم الحارث وحبسهم، ووكل بهم رجلا فأوثقوه، وخرجوا من السجن، فركبوا وعادوا إلى عاصم، فأمرهم فخطبوا وذمّوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدره، وكان الحارث قد لبس السّواد، ودعا إلى كتاب الله وسنّة نبيه والبيعة للرضا، فسار من الفارياب، وأتى بلخ، وعليها «3» نصر بن سيار والتّجيبى، فلقياه فى عشرة آلاف وهو فى أربعة آلاف، فقاتلهما، فانهزم أهل بلخ.
وتبعهم الحارث، فدخل مدينة بلخ، وخرج نصر بن سيّار منها، وأمر الحارث بالكف عنهم، واستعمل عليها رجلا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار إلى الجوزجان فغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الرّوذ. فلما كان بالجوزجان استشار أصحابه فى أى بلد يقصد.
فقيل له: مرو بيضة خراسان وفرسانهم كثير، ولو لم يلقوك إلا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم، فإن أتوك فقاتلهم، وإن أقاموا قطعت المادّة عنهم.(21/439)
قال: لا أرى ذلك؛ وسار إلى مرو، فأقبل إليها يقال فى ستين ألفا، ومعه فرسان الأزد وتميم، منهم محمد بن المثنّى، وحمّاد ابن عامر الحمّانى، وداود الأعسر، وبشر بن أنيف الرياحىّ، وعطاء الدبوسى.
ومن الدهاقين دهقان الجوزجان، ودهقان الفارياب «1» ، وملك الطالقان ودهقان مرو الرّوذ فى أشباههم، وخرج عاصم فى أهل مرو وغيرهم، فعسكر وقطع القناطر، وأقبل أصحاب الحارث فأصلحوها، فمال محمد بن المثنّى الفراهيدى الأزدى إلى عاصم فى ألفين، فأتى الأزد، ومال حمّاد بن عامر الحمّانى إليه، فأتى بنى تميم، وأتى الحارث وعاصم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق منهم بشر كثير، فى أنهار مرو وفى النّهر الأعظم؛ ومضت الدهاقين إلى بلادهم، وغرق خازم «2» بن عبد الله بن خازم، وكان مع الحارث. وقتل أصحاب الحارث قتلا ذريعا، وقطع الحارث وادى مرو، فضرب رواقا عند منازل الدّهاقين، وكفّ عنه عاصم «3» ؛ واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، ثم كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها عزل هشام عبد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر، واستعمله على إفريقية.
وقيل: كان ذلك فى سنة [117 هـ] سبع عشرة ومائة.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك. والله أعلم.(21/440)
سنة (117 هـ) سبع عشرة ومائة:
ذكر عزل عاصم عن خراسان
وولاية أسد وخبر الحارث بن سريج فى هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمّها إلى خالد بن عبد الله القسرى أمير العراقين، فاستعمل عليها خالد أخاه أسد بن عبد الله.
وكان سبب ذلك أنّ عاصما كتب إلى هشام: أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى العراق «1» وتكون معونتها وموادها «2» من قريب، لتباعد أمير المؤمنين [عنها] «3» وتباطىء غياثه [عنها] «4» ، فضمّ هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله، وكتب إليه: ابعث أخاك يصلح ما أفسد؛ فإن كانت رجية كانت به.
فسيّر خالد [إليها] «5» أخاه أسدا، فلما بلغ عاصم إقبال أسد، وأنه قد بعث على مقدمته محمد بن مالك الهمدانى صالح الحارث ابن سريج، وكتبا بينهما كتابا، على أن ينزل الحارث أىّ كور خراسان شاء، وأن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه كتاب الله وسنّة نبيه، فإن أبى اجتمعا عليه.
فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وأبى يحيى بن حضين بن المنذر أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين فانفسح ذلك.(21/441)
وكان عاصم بقرية بأعلى مرو؛ فأتاه الحارث بن سريج فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم الحارث، وأسر جماعة من أصحابه، منهم: عبد الله بن عمرو المازنى رأس أهل مرو الرّوذ، فقتل عاصم الأسرى، وعظّم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع فى نقض الكتاب، وكتبوا كتابا بما كان وبهزيمة الحارث وبعثوه إلى أسد، فلقيه بالرّى وقيل ببيهق «1» .
فكتب أسد إلى أخيه خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى، فأجاز خالد يحيى بعشرة آلاف دينار ومائة حلّة، وحبس أسد عاصما وحاسبه وطلب منه مائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز، وأطلق عمّال الجنيد، وقدم أسد ولم يكن لعاصم إلا مرو ونيسابور، والحارث بمرو الرّوذ، وخالد بن عبيد الله الهجرىّ بآمل موافق للحارث، فخاف أسد إن قصد الحارث بمرو الرّوذ أن يأتى الهجرى مرو من قبل آمل، وإن قصد الهجرى قصد الحارث مرو من قبل مرو الروذ، فأجمع رأيه على توجيه عبد الرحمن بن نعيم فى أهل الكوفة والشام إلى الحارث بمرو الروذ، وسار أسد بالناس إلى آمل، فلقيه خيل آمل؛ عليهم زياد القرشى مولى حيّان النبطى وغيره، فهزموا حتى رجعوا إلى المدينة، فحصرهم أسد، ونصب عليهم المجانيق؛ فطلبوا الأمان، وطلبوا كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وألّا يؤخذ أهل المدن بجنايتهم، فأجابهم أسد إلى ذلك، واستعمل عليهم يحيى ابن نعيم بن هبيرة الشيبانى؛ وسار يريد بلخ، فأخبر أنّ أهلها قد(21/442)
بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم، فسار حتى قدمها، واتّخذ سفنا، وسار منها إلى ترمذ، فوجد الحارث محاصرا لها، وبها سنان الأعرابى، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق العبور إليهم، ولا أن يمدّهم، وخرج أهل ترمذ من المدينة، وقاتلوا الحارث قتالا شديدا، فاستطرد الحارث لهم، وكان قد وضع كمينا، فلما جاوزوه خرج عليهم، فانهزموا.
ثم ارتحل أسد إلى بلخ، ثم خرج أهل ترمذ إلى الحارث، فهزموه ثم سار أسد إلى سمرقند فى طريق زمّ «1» ، فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيبانى وهو فى حصن من حصونها- وهو من أصحاب الحارث- فأمّنه، ووعده المواساة والكرامة والأمان لمن معه، وأقسم إنه إن ردّ ذلك ورمى بسهم ألّا يؤمّنه «2» أبدا، وإنه إن جعل له ألف ألف أمان لا يفى له.
فخرج إليه وسار معه إلى سمرقند، ثم ارتفع إلى ورغسر «3» - وماء سمرقند منها- فسكر «4» الوادى، وصرفه عن سمرقند.
ثم رجع إلى بلخ، فلما استقرّ بها سرّح جديعا الكرمانى إلى القلعة التى فيها ثقل الحارث وأصحابه، واسمها التبوشكان من(21/443)
طخارستان العليا وفيها بنو برزى «1» التغلبيّون أصهار الحارث، فحصرهم الكرمانى حتى فتحها، وذلك فى سنة [118 هـ] ثمان عشرة، فقتل مقاتلتهم، وسبى عامّة أهلها من العرب والموالى والذّرارى، وباعهم فيمن يزيد فى سوق بلخ.
قال: ونقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلا من أصحابه، وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضى، فقال لهم الحارث: إن كنتم لا بدّ مفارقى فاطلبوا الأمان، وأنا شاهد، فإنهم يجيبونكم. وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان. فقالوا: ارتحل أنت عنا، وخلّنا.
فأرسلوا يطلبون الأمان، فأخبر أسد أنّ القوم ليس لهم طعام ولا ماء، فسرّح إليهم أسد جديعا الكرمانى وستة آلاف، فحصرهم فى القلعة وقد عطش أهلها، وجاعوا، فسألوا أن ينزلوا على الحكم، ويترك لهم نساءهم وأولادهم، فأجابهم، فنزلوا على حكم أسد.
فأرسل أسد إلى الكرمانى يأمره أن يحمل إليه خمسون رجلا من وجوههم، فيهم المهاجر بن ميمون، فحملوا إليه فقتلهم، وكتب إلى الكرمانى أن يجعل الذين بقوا عنده أثلاثا، فثلث يقتلهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم. ففعل ذلك بهم، وأخرج أثقالهم فباعها، واتخذ أسد مدينة بلخ دارا، ونقل إليها الدواوين، ثم غزا طخارستان.
وحجّ بالناس فى سنة [117 هـ] سبع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك.(21/444)
سنة (118 هـ) ثمان عشرة ومائة:
فى هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها خالد بن محمد بن هشام بن إسماعيل، وحجّ بالناس محمد بن هشام بن إسماعيل. وكان أمير المدينة.
سنة (119 هـ) تسع عشرة ومائة:
ذكر قتل المغيرة وبيان
فى هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان فى ستّة نفر، وكانوا يسمون الوصفاء، وكان المغيرة ساحرا، وكان يقول: لو أردت أن أحيى عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا لفعلت. وبلغ خالد بن عبد الله القسرى خروجهم بظهر الكوفة، وهو يخطب، فقال: أطعمونى ماء، فقال يحيى بن نوفل فى ذلك من أبيات «1» :
وقلت لما أصابك أطعمونى ... شرابا ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ ... كبير السنّ ليس بذى نصير
فأرسل خالد فأخذهم وأمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأحرقهم بالقصب والنّفط.
وكان مذهب المغيرة التجسيم؛ يقول: إن ربّه على صورة رجل على رأسه تاج، وإنّ أعضاءه على عدد حروف الهجاء، تعالى الله عن ذلك.
وكان يقول: إنّ الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق تكلّم باسمه(21/445)
الأعظم، فطار فوقع على تاجه، ثم كتب بإصبعه على كفّه أعمال عباده من المعاصى والطاعات، فلما رأى المعاصى ارفضّ عرقا، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما ملح مظلم، والآخر عذب نيّر، ثم اطّلع فى البحر فرأى ظلّه فذهب ليأخذه، فطار فأدركه فقلع عينى ذلك الظلّ ومحقه، فخلق من عينيه الشمس وشمسا أخرى. وخلق من البحر الملح الكفّار، وخلق من البحر العذب المؤمنين.
وكان [لعنه الله «1» ] يقول بإلهية علىّ وتكفير أبى بكر وعمر وسائر الصحابة رضى الله عنهم إلّا من ثبت مع علىّ رضى الله عنه.
وكان يقول: إنّ الأنبياء لم يختلفوا فى شىء من الشرائع.
وكان يقول بتحريم ماء الفرات وكلّ نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة.
وكان يخرج إلى المقبرة فيتكلم فيرى أمثال الجراد على القبور.
وأما مذهب بيان فإنه كان يقول بآلهيّة علىّ رضى الله عنه، وإنّ الحسن والحسين إلهان، ومحمد ابن الحنفية بعده، ثم بعد ابنه أبو هاشم بن محمد بنوع من التناسخ.
وكان يقول: إن الله تعالى يفنى جميعه إلا وجهه، ويحتج بقوله تعالى «2» : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ
. تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وادّعى النبوة، وزعم أنه المراد بقوله عزّ وجلّ: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ
«3» .(21/446)
ذكر خبر الخوارج فى هذه السنة
وفى هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقّب كثارة، وهو من الموصل من شيبان، وكان سبب مخرجه أنه خرج يريد الحجّ، فأمر غلامه أن يبتاع له خلّا بدرهم، فأتاه بخمر فأمره «1» بردّه فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك، فجاء بهلول إلى صاحب القرية وهى من السّواد، فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك.
فمضى إلى الحج وقد عزم على الخروج، فلقى بمكّة من كان على مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمعوا بها- وهم أربعون رجلا- وأمّروا عليهم البهلول، وكتموا أمرهم، وجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه أنّهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال «2» ، وأخذوا دوابّ البريد.
فلما أتوا إلى القرية التى ابتاع الغلام منها الخمر قال بهلول:
نبدأ بهذا العامل، فقال أصحابه: نحن نريد قتل خالد، وإن بدأنا بهذا شهر أمرنا، وحذرنا خالد وغيره، فنشدناك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذى يهدم المساجد، ويبنى البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، لعلّنا نقتله.
قال: والله لا أدع ما يلزمنى لما بعده، وأرجو أن أقتل هذا وخالدا، فأتاه فقتله.
فعلم الناس أنهم خوارج، وهربوا، وخرجت البرد إلى خالد فأعلموه بهم، فخرج خالد من واسط، فأتى الحيرة، وبها جند قد قدموا(21/447)
من الشام مددا لعامل الهند، فأمرهم خالد بقتالهم، وقال: من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما أخذ فى الشام، وأعفيته من الدخول إلى الهند.
فسارعوا إلى ذلك، فتوجّه مقدّمهم، وهو من بنى القين، ومعه ستمائة منهم، وضمّ إليه خالد مائتين من الشرط، فالتقوا على الفرات؛ فقال القينى لمن معه من الشّرط: لا تكونوا معنا «1» ليكون الظّفر له ولأصحابه.
وخرج إليهم بهلول، فحمل على القينى فطعنه فأنفذه، وانهزم أهل الشام والشرط، وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم، حتى بلغوا الكوفة، ووجد بهلول مع القينى بدرة فأخذها.
وكان بالكوفة ستة يرون رأى «2» بهلول، فخرجوا فقتلوا بصريفين «3» ، فخرج بهلول فقال: من قتل هؤلاء، حتى أعطيه هذه البدرة؟ فجاء نفر فقالوا: نحن قتلناهم، وهم يظنّونه من عند خالد، وصدّقهم أهل القرية، فقتلهم، وترك أهل القرية.
وبلغ خالدا الخبر، فوجّه إليه قائدا من شيبان أحد بنى حوشب ابن يزيد بن رؤيم، فلقيه فيما بين الموصل والكوفة، فانهزم أهل الكوفة، فأتوا خالدا، وارتحل بهلول من يومه يريد الموصل، فكتب عامل الموصل(21/448)
إلى هشام يخبره بهم، ويسأله جندا، فكتب إليه هشام: وجّه إليهم كثارة بن بشر.
فكتب إليه: إنّ الخارج هو كثارة.
ثم قال بهلول لأصحابه: إنّا والله ما نصنع بابن النصرانيّة شيئا- يعنى خالدا- فلم لا نطلب الرأس الذى سلّط خالدا.
فسار يريد هشاما بالشام، فخاف عمّال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم، فسيّر خالد جندا من العراق، وسيّر عامل الجزيرة جندا من الجزيرة، ووجّه هشام جندا من الشام، فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول إليهم.
وقيل: التقوا بكحيل «1» دون الموصل، ونزل بهلول على باب الدّير، وهو فى سبعين، فحمل عليهم فقتل منهم نفرا ستة، وقاتلهم عامّة نهاره، وكانوا عشرين ألفا، فأكثر فيهم القتل والجراح.
ثم إنّ بهلولا وأصحابه عقروا دوابّهم وترجّلوا، فقاتلوا قتالا شديدا، فقتل كثير من أصحاب بهلول وطعن فصرع، فقال أصحابه:
ولّ أمرنا، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيبانى، فإن هلك فعمرو اليشكرى، ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وتركهم، وخرج عمرو اليشكرى فلم يلبث أن قتل.
وخرج العنزى صاحب الأشهب «2» على خالد فى ستين فوجه إليه خالد السّمط بن مسلم البجلى فى أربعة آلاف، فالتقوا بناحية(21/449)
الفرات، فانهزم الخوارج، فتلقّاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
ثم خرج وزير السّختيانى على خالد بالحيرة فى نفر، فجعل لا يمرّ بقرية إلا أحرقها، ولا يلقى أحدا إلّا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال؛ فوجّه إليه خالد جندا، فقتلوا عامّة أصحابه، وأثخن بالجراح وأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، فأعجب خالد ما سمع منه، فلم يقتله وحبسه عنده. وكان يؤتى به فى الليل فيحادثه، فسعى بخالد إلى هشام.
وقيل: أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال فجعله سميرا، فغضب هشام، وكتب إليه يأمره بقتله، فأخّر قتله، فكتب إليه ثانيا يذمّه ويأمره بقتله وإحراقه، فقتله وأحرقه ونفرا معه، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات وهو يقرأ «1» : «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» .
وخرح الصّحارىّ بن «2» شبيب بن يزيد بناحية جبّل «3» ، وكان قد أتى خالدا يسأله «4» الفريضة، فقال له: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة؟ فمضى وندم خالد، وخاف أن يفتق عليه فتقا، فطلبه فلم يرجع إليه، وسار حتى أتى جبّل، وبها نفر من بنى تيم اللات ابن ثعلبة، فأخبرهم خبره، فقالوا: وما كنت ترجو من ابن النصرانيّة؟
كنت أولى أن تسير إليه بالسيف فتضربه به. فقال: والله ما أردت(21/450)
الفريضة، وما أردت إلا التوصّل إليه لئلا ينكرنى، ثم أقتله بفلان- يعنى رجلا من الصّفريّة، كان خالد قتله صبرا.
ثم دعاهم إلى الخروج معه فتبعه منهم ثلاثون رجلا، فخرج بهم، فبلغ خبره خالدا، فقال: قد كنت خفتها منه، ثم وجّه إليه جندا فلقوه بناحية المناذر «1» ، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتلوه وجميع أصحابه.
وحجّ بالناس فى هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام.
سنة (120 هـ) عشرين ومائة:
فى هذه السنة توفى أسد بن عبد الله القسرى أمير خراسان فى شهر ربيع الأول بمدينة بلخ، واستخلف جعفر بن حنظلة البهرانى فعمل أربعة أشهر، ثم جاء عهد نصر بن سيار فى شهر رجب من السنة.
ذكر عزل خالد بن عبد الله القسرى وولاية يوسف بن عمر الثّقفى
وفى هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالدا عن جميع أعماله.
وقد اختلف فى سبب ذلك، فقيل: إن أبا المثنى فرّوخ كان على ضياع هشام بنهر الرّمّان «2» بالعراق فثقل على خالد أمره، فقال خالد لحسّان النّبطى: اخرج إلى هشام وزد على فرّوخ. ففعل حسّان ذلك وتولّاها، فصار حسّان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يؤذيه، فيقول له حسان: لا تفسدنى، وأنا صنيعتك، فأبى إلا أذاه، فلما قدم(21/451)
عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج حسّان إلى هشام، فقال له:
إنّ خالدا بثق البثوق على ضياعك، فوجّه هشام من ينظر إليها. وقال حسان «1» لخادم من خدم هشام: إن تكلّمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام فلك عندى ألف دينار. قال: فعجلها فأعطاه، وقال له:
تبكّى صبيا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت، فكأنك ابن خالد الذى غلّته عشرة آلاف «2» ألف.
ففعل الخادم، فسمعها هشام، فسأل حسان «3» عن غلّة خالد فقال: ثلاثة عشر ألف ألف، فوقرت فى نفس هشام.
وقيل: بل كانت غلّته عشرين ألف ألف، وإنه حفر بالعراق الأنهار، ومنها نهر «4» خالد وناجوى «5» وبارمانا، والمبارك «6» والجامع، وكورة سابور، والصلح، وكان كثيرا ما يقول: إنّى مظلوم ما تحت قدمى شىء إلّا وهو لى- يعنى أن عمر جعل لبجيلة ربع [خمس] «7» السواد، وأشار عليه العريان بن الهيثم وبلال بن أبى بردة بعرض أملاكه على هشام ليأخذ منها ما أراد، ويضمنان له الرّضا، فإنهما بلغهما تغيّر هشام عليه، فلم يفعل ولم يجبهم إلى شىء.
وقيل لهشام: إنّ خالدا قال لولده: ما أنت بدون مسلمة بن هشام، وقد كان يذكر هشاما، فيقول: ابن الحمقاء.(21/452)
وكان خالد يخطب فيقول: زعمتم أنى أغلى أسعاركم فعلى من يغليها لعنة الله.
وكان هشام كتب إليه لا تبيعنّ من الغلّات شيئا حتى تباع غلّات أمير المؤمنين.
وكان يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك ابن أمير المؤمنين؟
فبلغ ذلك كلّه هشاما، فتنكّر له، وبلغه أنه يستقلّ ولاية العراق، فكتب إليه هشام: يابن أمّ خالد، بلغنى أنك تقول: ما ولاية العراق لى بشرف. يابن «1» اللخناء، كيف لا تكون ولاية العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة! أما والله إنى لأظنّ أنّ أوّل من يأتيك صغير «2» من قريش يشدّ يديك إلى عنقك.
ولم يزل يبلغه عنه ما يكره، فعزم على عزله وكتم ذلك، وكتب إلى يوسف بن عمر- وهو باليمن يأمره أن يقدم فى ثلاثين من أصحابه إلى العراق، فقد ولّاه ذلك.
فسار يوسف إلى الكوفة فعرّس «3» قريبا منها، وقد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده، فأهدى إليه ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب، فمرّ بيوسف بعض أهل العراق فسألوه ما أنتم؟
وأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع؛ فأتوا طارقا فأخبروه خبرهم، وأمروه بقتلهم، وقالوا: إنهم خوارج.
وسار يوسف إلى دور ثقيف. فقيل لهم: ما أنتم؟ فكتموا(21/453)
حالهم. وأمر يوسف فجمع إليه من هناك من مضر، فلما اجتمعوا دخل المسجد مع الفجر، وأمر المؤذّن فأقام الصلاة. فصلّى، وأرسل إلى خالد وطارق فأخذهما وإنّ القدور لتغلى.
وقيل: لما أراد هشام أن يولّى يوسف العراق كتم ذلك، فقدم جندب مولى يوسف بكتاب يوسف إلى هشام، فقرأه ثم قال لسالم مولى عنبسة- وهو على الدّيوان: أجبه عن لسانك، وأتنى بالكتاب.
وكتب هشام بخطّه كتابا صغيرا إلى يوسف يأمره بالمسير إلى العراق.
فكتب سالم الكتاب وأتاه «1» به، فجعل كتابه فى وسطه وختمه، ثم دعا رسول يوسف فأمر به فضرب ومزّقت ثيابه، ودفع إليه الكتاب، فسار وارتاب بشير بن أبى ثلجة «2» وكان خليفة سالم، وقال: هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق. فكتب إلى عياض- وهو نائب سالم بالعراق: إنّ أهلك قد بعثوا إليك بالثّوب اليمانى: فإذا أتاك فالبسه، واحمد الله تعالى. وأعلم ذلك طارقا. فأعلم عياض طارق بن أبى زياد بالكتاب، ثم ندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض:
إنّ أهلك قد بدا لهم فى إمساك الثوب.
فأتى عياض بالكتاب الثانى إلى طارق، فقال طارق: الخبر فى الكتاب الأول، ولكن بشيرا ندم وخاف أن يظهر الخبر.
وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فرآه داود،(21/454)
وكان على حجابة خالد وديوانه، فأعلم خالدا فأذن له، فلما رآه قال: ما أقدمك بغير إذن؟ قال: أمر كنت أخطأت فيه، كنت قد كتبت إلى الأمير أعزّيه بأخيه أسد، وإنما كان يجب أن آتيه ماشيا، فرقّ خالد ودمعت عيناه، فقال: ارجع إلى عملك. فأخبره الخبر لمّا غاب داود «1» ؛ قال: فما الرّأى؟ قال: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه مما بلغه عنك. قال: لا أفعل ذلك بغير إذن. قال: فترسلنى إليه حتى آتيك بإذنه. قال: ولا هذا. قال:
فاضمن لأمير المؤمنين جمع ما انكسر فى هذه السنين وآتيك بعهده.
قال: وكم مبلغه؟ قال: مائة ألف ألف. قال: ومن أين أجدها؟
والله ما أجد عشرة آلاف ألف درهم. قال: أتحمّل أنا وفلان وفلان.
قال: إنى إذا للئيم، أن كنت أعطيتكم شيئا وأعود فيه. قال طارق:
إنما نقيك ونقى أنفسنا بأموالنا، ونستأنف الدّنيا وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجىء من يطالبنا بالأموال. وهى عند أهل الكوفة فيتربصون فنقتل ويأكلون تلك الأموال.
فأبى خالد، فودّعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقى فى الدنيا، ومضى إلى الكوفة، وخرج خالد إلى الحمّة «2» ، وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال: أمير المؤمنين: ساخط عليك، وقد ضربنى، ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان، فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطّه بولاية العراق، ويأمره أن يأخذ ابن النّصرانية-(21/455)
يعنى خالدا وعمّاله- فيعذّبهم، فأخذه ليلا، وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصّلت، فقدم الكوفة فى جمادى الآخرة سنة [120 هـ] عشرين ومائة، فنزل النّجف، وأرسل مولاه كيسان، وقال: انطلق فأتنى بطارق، فإن قبل فاحمله على إكاف «1» ، وإن لم يقبل فأت به سحبا، فأتى كيسان الحيرة فأخذ معه عبد المسيح سيّد أهلها إلى طارق، فقال له: إنّ يوسف قد قدم على العراق وهو يستدعيك. فقال له طارق: إن أراد الأمير المال أعطيته ما شاء.
وأقبلوا به إلى يوسف بالحيرة، فضربه ضربا مبرّحا يقال خمسمائة سوط. ودخل الكوفة، وأرسل إلى خالد بالحمّة. فأخذه وحبسه وصالحه عنه أبان بن الوليد على سبعة آلاف ألف، فقيل ليوسف:
لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف، فندم، وقال: قد رهنت لسانى معه، ولا أرجع.
وأخبر أصحاب خالد خالدا، فقال: قد أخطأتم ولا آمن أن يأخذها ثم يعود. ارجعوا، فرجعوا، فأخبروه أن خالدا لم يرض. فقال:
قد رجعتم؟ قالوا: نعم. قال: والله لا أرضى بمثلها ولا مثليها، فأخذ أكثر من ذلك.
وقيل: أخذ مائة ألف ألف، وحبس خالد بن عبد الله بالحيرة ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسماعيل وابنه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد.(21/456)
وكتب يوسف إلى هشام يستأذنه فى تعذيبه، فأذن له مرّة واحدة، فعذّبه ثم رده إلى حبسه.
وقيل: بل عذّبه عذابا كثيرا، وأمر هشام بإطلاقه فى شوال سنة [121 هـ] إحدى وعشرين ومائة، فأطلقه فأتى القرية التى بإزاء الرّصافة، فأقام بها إلى صفر سنة اثنتين وعشرين.
وخرج زيد بن على بن الحسين [رضى الله عنهم] «1» على ما نذكره إن شاء الله.
فكتب يوسف إلى هشام: إنّ بنى هاشم كانوا قد هلكوا جوعا، فكانت همّة أحدهم قوت عياله، فلما ولى خالد العراق أعطاهم الأموال، فطمحت أنفسهم إلى الخلافة، وما خرج زيد إلّا عن رأى خالد.
فقال هشام: كذب يوسف، وضرب رسوله، وقال: لسنا نتّهم خالدا فى طاعة. وسمع خالد، فسار حتى نزل دمشق، ثم كان من أمره ومقتله ما نذكره إن شاء الله فى سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة فى أيام الوليد، وكانت ولاية خالد العراق فى شوال سنة [105 هـ] خمس ومائة، وعزل فى جمادى الآخرة سنة عشرين.
قال: ولما ولى يوسف العراق كان الإسلام ذليلا والحكم إلى أهل الذمّة، فقال يحيى بن نوفل فيه «2» :
أتانا وأهل الشّرك أهل زكاتنا ... وحكامنا فيما نسرّ ونجهر
فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتّى كل واد منوّر
وحتى رأينا العدل فى الناس ظاهرا ... وما كان من قبل العقيلىّ يظهر(21/457)
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومى.
وقيل: حج بهم سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقيل: أخوه يزيد بن هشام، والله أعلم.
سنة (121 هـ) إحدى وعشرين ومائة:
فى هذه السنة كان ظهور زيد بن على بن الحسين بن على [رضى الله عنهم «1» ] على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار من نهض فى طلب الخلافة من آل أبى طالب، فقتل دونها وهو فى السّفر الثالث والعشرين من كتابنا هذا.
وفيها فرغ الوليد بن بكير عامل الموصل من حفر النهر الذى أدخله البلد، وكان مبلغ النفقة عليه ثمانية آلاف ألف درهم، وجعل عليه ثمانين حجرا تطحن. ووقف هشام هذه الأرحاء على عمل النهر.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومى
سنة (122 هـ) اثنتين وعشرين ومائة:
فى هذه السنة كان مقتل زيد بن على [رضى الله عنه «2» ] على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل البطال
فى هذه السنة قتل البطّال، وهو أبو الحسين عبد الله الأنطاكى، فى جماعة من المسلمين. وقيل: كان مقتله فى سنة [123 هـ] ثلاث(21/458)
وعشرين ومائة، وكان كثير الغزاة إلى الروم والإغارة على بلادهم، وله عندهم ذكر عظيم، وله حكايات فى غزواته يطول الشّرح بسردها.
حكى أنه دخل بلاد الروم فى بعض غاراته هو وأصحابه، فدخل قرية لهم ليلا وامرأة تقول لصغير يبكى: تسكت وإلّا سلمتك للبطّال، ثم رفعته بيدها، وقالت: يا بطّال خذه، فتناوله من يدها.
وقد وضع الناس له سيرة.
وحجّ بالناس محمد بن هشام المخزومى.
سنة (123 هـ) ثلاث وعشرين ومائة:
ذكر صلح نصر بن سيار مع الصغد
فى هذه السنة صالح نصر بن سيّار الصّغد، وكان خاقان لما قتل تفرّقت التّرك فى غارة بعضها على بعض، فطمع أهل الصّغد فى الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فراسلهم نصر بن سيّار، ودعاهم إلى الرجوع إلى بلادهم، وأعطاهم ما أرادوا، فاشترطوا شروطا منها ألّا يعاقب من كان مسلما وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدى عليهم فى دين لأحد من الناس، ولا يؤخذ أسرى المسلمين من أيديهم إلّا بقضيّة قاض وشهادة عدول.
فعاب الناس ذلك على نصر، فقال: لو عاينتم شوكتهم فى المسلمين مثل ما عاينت ما أنكرتم ذلك.
وأرسل رسولا إلى هشام فى ذلك، فأجابه إليه.
وحجّ بالناس فى هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك.(21/459)
سنة (124 هـ) أربع وعشرين ومائة:
فى هذه السنة وما قبلها كان من خبر شيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل.
سنة (125 هـ) خمس وعشرين ومائة:
ذكر وفاة هشام بن عبد الملك ونبذة من أخباره
كانت وفاته بالرّصافة لستّ خلون من شهر ربيع الآخر منها، وصلّى عليه ابنه مسلم وكان عمره ستا وخمسين سنة. وقيل أقلّ من ذلك إلى اثنتين وخمسين. ومدة خلافته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وكان أحول أبيض سمينا منقلب العينين ربعة يخضب بالسّواد، وكان حسن السياسة يقظا يباشر الأمور بنفسه، وكان له من الستور والكسوة ما لم يكن لمن قبله.
وذكر صاحب العقد «1» : أنه لما حجّ حملت ثياب لباسه «2» على ستمائة جمل، وكان جمّاعا للأموال شديد البخل كأبيه.
قال عقّال بن شبّة «3» : دخلت على هشام وعليه قباء أخضر، فجعلت أنظر إليه، فقال: مالك؟ فقلت: رأيت عليك قبل أن تلى الخلافة قباء مثل هذا. فتأمّلته هل هو هو أم غيره؟
فقال: هو والله هو. وأما ما ترون من جمع المال فهو لكم.(21/460)
قيل: وكتب له بعض عمّاله: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن «1» . فكتب إليه: قد وصل وأعجب أمير المؤمنين فزد منه واستوثق من الوعاء.
وكتب إليه عامل: قد بعثت بكمأة. فأجابه: قد وصلت الكمأة وهى أربعون، وقد تغيّر بعضها من حشوها، فإذا بعثت شيئا فأجد الحشو فى الظّرف [التى تجعلها فيه] «2» بالرّمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضه بعضا.
وقيل [له] «3» : أتطمع فى الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال:
ولم لا أطمع، وأنا عفيف حليم؟
قالوا: وخلّف من العين أربعة وأربعين ألف ألف دينار، وما لا يحصى من الورق.
ولما مات طلبوا له قمقما من بعض الخزّان يسخّن له الماء فيه، فمنعه عياض كاتب الوليد، فاستعاروا له قمقما من بعض الخزان يسخن له فيه.
وفى أيامه بنى سعيد أخوه قبّة بيت المقدس.
أولاده: كان له عشرة أولاد من الذكور والإناث، منهم: معاوية، وسليمان.
نقش خاتمه: الحكم للحكم الحكيم.(21/461)
كتّابه: سعيد بن الوليد، والأبرش الكلبى، ومحمد بن عبد الله ابن حارثة.
قاضيه: محمد بن صفوان الجمحى.
حاجبه: غالب مولاه الأمراء بمصر: محمد بن عبد الملك أخوه، ثم استعفاه فولّاها [بعده أنس بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن العاص، ثم استعفى فولاها] «1» حفص بن الوليد الحضرمى، ثم صرفه وولّاها عبد الملك ابن رفاعة، ثم مات فولّاها أخاه الوليد بن رفاعة، ثم مات فولّاها عبد الرحمن بن خالد التميمى «2» ، ثم صرفه وولّاها حنظلة بن صفوان، ثم سيّره إلى إفريقية، وولى حفصا.
وكان على قضائها من قبل هشام يحيى بن ميمون الحضرمىّ إلى أن وليها الوليد بن رفاعة فصرفه، وولّاها أبا نضلة الخيار ابن خالد، ثم مات فولى سعيد بن ربيعة الصّدفى، واستعفى، فولى توبة بن يمين «3» الحضرمى، ثم مات فولّاها جبر «4» بن نعيم الحضرمى.
ذكر بيعة الوليد بن يزيد
هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه أمّ الحجاج بنت محمد بن يوسف [أخى الحجاج بن يوسف] «5» الثقفى، وهو الحادى عشر من ملوك بنى أمية.(21/462)
بويع له لستّ مضين من شهر ربيع الآخر سنة [125 هـ] خمس وعشرين ومائة.
قال: وكان يزيد قد جعل ولاية العهد لأخيه هشام من بعده، ثم من بعده للوليد، وكان عمر الوليد إحدى عشرة سنة، ثم عاش يزيد حتى بلغ الوليد خمس عشرة سنة، فكان [يزيد] «1» يقول:
الله بينى وبين من جعل هشاما بينى وبينك «2» .
فلما ولى هشام أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون واشتهر بشرب الشراب، وكان يؤدّبه عبد الصمد بن عبد الأعلى يحمله على ذلك، واتّخذ له ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه، فولّاه الحج سنة [116 هـ] ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابا فى صناديق، وعمل قبّة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر، وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويشرب فيها الخمر، فخوّفه أصحابه، وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك، فلم يفعل.
وظهر للناس منه تهاون بالدّين واستخفاف، فطمع هشام فى البيعة لابنه مسلمة «3» ، وخلع الوليد، وأراد الوليد على ذلك فأبى، فقال له:
اجعله بعدك، فأبى؛ فتنكّر له هشام، وعمل سرّا فى البيعة لابنه مسلمة، فأجابه قوم، فكان ممن أجابه خالاه: محمد، وإبراهيم ابنا هشام ابن إسماعيل، وبنو القعقاع بن خليد العبسى وغيرهم من خاصّته.
وأفرط الوليد فى الشراب، وطلب اللذات؛ فقال له هشام: يا وليد،(21/463)
والله ما أدرى أعلى الإسلام أنت أم لا؟ ما تدع شيئا من المنكر إلّا أتيته غير متحاش؛ فكتب إليه الوليد «1» :
يأيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر
نشربها صرفا وممزوجة ... بالسّخن أحيانا وبالفاتر
فغضب هشام على ابنه مسلمة، وكان يكنى أبا شاكر، وقال له:
يعيرنى الوليد بك، وأنا أرشّحك للخلافة. فألزمه الأدب، وأحضره الجماعة، وولّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النّسك واللّين، وقسم بمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لأهل المدينة:
يأيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر
الواهب الجرد «2» بأرسانها ... ليس يزنديق ولا كافر
يعرض بالوليد.
وكان هشام ينتقص الوليد ويعيبه، فخرج الوليد ومعه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض بن مسلم عند هشام ليكاتبه بما عندهم.
وقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكاتبه فيه الوليد فلم يجبه إلى ردّه، وأمره بإخراج عبد الصمد من عنده، فأخرجه وسأله أن يأذن لابن سهيل فى الخروج إليه، فضرب هشام ابن سهيل وسيّره إليه، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه وحبسه.
فقال الوليد: من يثق بالناس، ومن يصنع المعروف؟ هذا الأحول(21/464)
المشئوم أبى، قدّمه على أهل بيته فصيّره ولىّ عهده، ثم يصنع [بى] «1» ما ترون، لا يعلم أنّ لى فى أحد هوى إلا عبث به.
وكتب إلى هشام فى ذلك يعاتبه، ويسأله أن يردّ عليه كاتبه. فلم يردّه، فكتب إليه الوليد «2» :
رأيتك تبنى دائما «3» فى قطيعتى ... ولو كنت ذا حزم «4» لهدّمت ما تبنى
تثير على الباقين مجنى ضغينة ... فويل لهم إن متّ من شرّ ما تجنى
كأنى بهم والليت أفضل قولهم ... ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغنى
كفرت يدا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنّ
قال، ولم يزل الوليد مقيما بتلك البريّة حتى مات هشام، فلما كان صبيحة اليوم الذى جاءته فيه الخلافة قال لأبى الزّبير المنذر بن أبى عمرو:
ما أتت علىّ ليلة منذ عقلت عقلى أطول من هذه الليلة، عرضت لى أمور، وحدّثت نفسى فيها بأمور من أمر هذا الرجل- يعنى هشاما- قد «5» أولع بى، فاركب بنا نتنفّس، فركبا فسارا ميلين، ووقف على كثيب، فنظر إلى رهج «6» ، فقال: هؤلاء رسل هشام، نسأل الله من خيرهم؛ إذ بدا رجلان على البريد: أحدهما مولى لأبى محمد السّفيانى، فلما قربا نزلا يعدوان حتى دنوا منه، فسلّما عليه بالخلافة،(21/465)
فوجم، ثم قال: أمات هشام؟ قالا: نعم والكتاب معنا من سالم ابن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأه؛ وسأل مولى أبى محمد السّفيانى عن كاتبه عياض، فقال «1» : لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام الموت، فأرسل إلى الخزّان فقال: احتفظوا بما فى أيديكم، فأفاق هشام فطلب شيئا فمنعوه، فقال: إنا لله، كنا خزّانا للوليد، ومات من ساعته.
وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأنزل هشاما عن فرشه وما وجدوا له قمقما يسخّن فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا له كفنا من الخزائن، فكفّنه غالب مولاه، فقال الوليد «2» :
هلك الأحول المشو ... م فقد أرسل المطر
وملكنا من بعد ذا ... ك، فقد أورق الشجر
فاشكر الله إنّه ... زائد كلّ من شكر
وقيل: إنّ هذا الشعر لغير الوليد.
قال: ولما سمع الوليد بموته كتب إلى العباس بن عبد الملك ابن مروان أن يأتى الرّصافة فيحصى ما فيها من أموال هشام وولده وعماله وحشمه إلّا مسلمة بن هشام فإنه كان يكلم أباه فى الرفق بالوليد، فقدم العباس الرّصافة ففعل ذلك وكتب به إلى الوليد، فقال الوليد «3» :
ليت هشاما كان حيّا يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا(21/466)
ليت «1» هشاما عاش حتى يرى ... مكياله الأوفر قد طبّعا «2»
كلناه بالصّاع الذى كاله «3» ... وما ظلمناه به إصبعا «4»
وما أتينا ذاك عن بدعة ... أحلّه الفرقان لى أجمعا
وضيّق الوليد على أهل هشام وأصحابه، واستعمل العمّال، وكتب إلى الآفاق بأخذ البيعة، فجاءته بيعتهم.
قال: ولما ولى الوليد أجرى على زمنى أهل الشام وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الكسوة والطّيب، وزادهم؛ وزاد الناس فى العطاء عشرات؛ ثم زاد أهل الشام بعد العشرات عشرة عشرة، وزاد الوفود، ولم يقل فى شىء يسأله: لا.
وفى هذه السنة، عقد الوليد البيعة لابنيه: الحكم، وعثمان من بعده، وكتب بذلك إلى الأمصار، وجعل الحكم مقدما والآخر من بعده.
وفيها استعمل الوليد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفى على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه محمدا وإبراهيم ابنى هشام ابن إسماعيل المخزومى موثقين فى عباءتين؛ فقدم بهما المدينة فى شعبان، فأقامهما للناس، ثم حملا إلى الشام، فأحضرا عند الوليد، فأمر، بجلدهما، فقال محمد: نسألك القرابة. قال: وأىّ قرابة بيننا!(21/467)
قال: فقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يضرب بسوط إلّا فى حد. قال: ففى حدّ أضربك وقود، أنت أوّل من فعل بالعرجى وهو ابن عمى؛ وابن أمير المؤمنين عثمان- وكان محمد قد أخذه وقيّده وأقامه للناس وجلده، وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجى «1» إياه، ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم ثم أوثقهما، وبعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو على العراق فعذّبهما حتى ماتا.
وفيها عزل الوليد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة، وولّى القضاء يحيى بن سعيد الأنصارى.
وفيها خرجت الروم إلى زبطرة «2» وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهرى، فأخربه الروم الآن فبنى بناء غير محكم، فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد ثم بناه الرشيد وشحنه بالرجال.
فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعّثوه، فأمر المأمون بمرمّته وتحصينه، ثم قصده الروم بعد ذلك أيام المعتصم.
وفيها أغزى الوليد أخاه الغمر بن يزيد، وأمّر على جيش البحر الأسود بن بلال المحاربى، وسيّره إلى قبرس ليخيّر أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فاختارت طائفة جوار المسلمين، فسيّرهم إلى الشام، واختار آخرون الروم فسيّرهم إليهم.(21/468)
وحجّ بالناس فى هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف. وغزا النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة.
سنة (126 هـ) ست وعشرين ومائة:
ذكر مقتل خالد بن عبد الله القسرى وشىء من أخباره
قد ذكرنا من أخباره فى سنة [120 هـ] عشرين ومائة ما تقدم، وذكرنا أنه لما أفرج عنه سار من الحيرة إلى دمشق.
قال: ولما قدمها كان العامل عليها يومئذ كلثوم بن عياض القشيرى، وكان يبغض خالدا، واتفق أنه ظهر فى دور [دمشق «1» ] حريق فى كل ليلة، يلقيه «2» رجل من أهل العراق يقال له: أبو العمرّس «3» فإذا وقع الحريق يسرقون.
وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام: إنّ موالى خالد يريدون الوثوب على بيت المال، وإنهم يحرقون البلد كلّ ليلة.
فكتب هشام إليه يأمره بحبس آل خالد: الصغير منهم والكبير ومواليهم، فأنفذ من أحضر أولاده وإخوته من الساحل فى الجوامع «4» ، ومعهم مواليهم، وحبس بنات خالد والنساء والصبيان، ثم ظهر على أبى العمرّس ومن كان معه.(21/469)
فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام بأخذ أبى العمرّس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم، ولم يذكر فيهم أحدا من موالى خالد.
فكتب هشام إلى كلثوم يسبّه ويأمره بإطلاق آل خالد، فأطلقهم وترك الموالى رجاء أن يشفع فيهم خالد إذا قدم من الصائفة.
ثم قدم خالد فنزل منزله بدمشق، وجاءه الناس للسلام عليه، فقال: خرجت مغازيا سميعا مطيعا، فخلفت فى عقبى، وأخذ حرمى وأهل بيتى فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين، فما منع عصابة منكم أن تقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع؟
أخفتم أن تقتلوا جميعا؟ أخافكم الله.
ثم قال: مالى ولهشام ليكفّنّ عنى أو لأدعونّ إلى عراقى الهوى، شامى الدّار، حجازى الأصل- يعنى محمد بن على بن عبد الله بن عباس.
ولقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشاما.
فلما بلغه قال: قد خرف أبو الهيثم، واستمرّ خالد مدة أيام وهو بدمشق ويوسف بن عمر يطلب ابنه يزيد بن خالد، فلم يظفر به، وبذل فيه لهشام خمسين ألف ألف.
فلما هلك هشام وقام الوليد بعده كتب إلى خالد: ما حال الخمسين ألف ألف التى تعلم؟ واستقدمه، فقدم عليه حتى وقف بباب سرادق الوليد، فأرسل إليه الوليد يقول: أين ابنك يزيد؟ فقال: كان [قد] «1» هرب من هشام، وكنا نراه عند أمير المؤمنين، فلما لم نره(21/470)
ظنناه ببلاد قومه من الشّراة. فرجع الرسول، فقال: لا، ولكنك خلّفته طلبا للفتنة. فقال: قد علم أمير المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة.
فرجع الرسول فقال: يقول أمير المؤمنين: لتأتينّ به أو لأزهقنّ نفسك. فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا والله أردت، لو كان تحت قدمى ما رفعتها عنه.
فأمر الوليد بضربه فضرب، فلم يتكلم، فحبسه حتى قدم يوسف ابن عمر من العراق بالأموال، فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف، فأرسل إليه الوليد: إنّ يوسف قد اشتراك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلّا دفعتك إليه.
فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألنى أن أضمن عودا ما ضمنته، فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه، وحمله على بعير بغير وطاء، وعذّبه عذابا شديدا، وهو لا يكلّمه كلمة واحدة، ثم حمله إلى الكوفة فعذّبه، ووضع المضرّسة على صدره فقتله، ودفنه من الليل [بالحيرة «1» ] فى العباءة التى كان فيها، وذلك فى المحرم سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة.
وقيل: بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود، وقام عليه الرّجال حتى تكسّرت قدماه، وما تكلّم ولا عبس، ثم على ساقيه وفخذيه.
ثم على صدره حتى مات.
وكانت أمّ خالد نصرانية رومية استلبها أبوه، فأولدها خالدا(21/471)
وأسدا، ولم تسلم، وبنى لها خالد بيعة فذمّه الناس على ذلك، فقال الفرزدق «1» :
ألا قطع الرحمن ظهر مطيّة ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد
فكيف يؤمّ الناس من كانت امّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد
بنى بيعة فيها النصارى لأمّه ... ويهدم من كفر منار المساجد
وكان خالد قد أمر بهدم منار المساجد؛ لأنه بلغه أنّ شاعرا قال «2» :
ليتنى فى المؤذّنين حياتى ... إنهم يبصرون من فى السطوح
ويشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كلّ ذات دلّ مليح
فلما بلغ خالدا هذا الشّعر أمر بهدمها.
ولما بلغه أنّ الناس يذمّونه لبنائه البعية لأمّه قام يعتذر إليهم، فقال: لعن الله دينهم إن كان شرّا من دينكم.
وحكى عنه أنه كان يقول: إنّ خليفة الرجل فى أهله أفضل من رسوله إليهم- يعنى أنّ هشاما أفضل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نبرأ إلى الله من ذلك.
وكان خالد يصل الهاشميين فى أيام إمارته، ويبرّهم، إلا أنه كان يبالغ فى سبّ على رضى الله عنه، ويلعنه، فقيل: إنه كان يفعل ذلك نفيا للتهمة، وتقرّبا إلى بنى أمية، فأتاه مرة محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان يستميحه «3» ، فلم ير منه(21/472)
ما يحب، فقال: أمّا الصّلة فللها شميين، وليس لنا منه إلا أن يلعن «1» عليّا، فبلغ خالدا كلامه، فقال: إن أحبّ نلنا عثمان بشىء؛ [يريد بشىء «2» ] من اللّعن أو السب، والله تعالى أعلم.
ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وشىء من أخباره
كان مقتله يوم الخميس الثامن والعشرين من جمادى الاخرة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة.
وكان سبب ذلك ما قدّمناه من اشتهاره باللهو واللّعب والخلاعة، فلما ولى الخلافة ما زاد إلّا تماديا وإصرارا، واشتهر بمنادمة القيان وشرب النبيذ، فثقل ذلك على رعيّته وجنده، وكرهوه؛ فكان من أعظم ما جنى على نفسه إفساد بنى عمّيه: هشام، والوليد؛ فإنه أخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته وغرّبه إلى عمّان من أرض الشام، فحبسه بها، فلم يزل محبوسا حتى قتل الوليد.
وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلّمه عثمان بن الوليد فى ردّها، فقال: لا أردّها. فقال: إذن تكثر الصّواهل حول عسكرك، وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وفرّق بين روح بن الوليد وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبنى أمية، وكان أشد الناس عليه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النّسك ويتواضع.(21/473)
وكان سعيد بن بيهس بن صهيب قد نهاه عن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما، فحبسه حتى مات، وفعل بخالد القسرى ما ذكرناه ففسدت عليه اليمانية وقضاعة، وهم أكثر جند الشام؛ وكان حريث وشبيب بن أبى مالك الغسّانى، ومنصور بن جمهور الكلبى؛ وابن عمه حبال ابن عمرو، ويعقوب بن عبد الرحمن، وحميد بن نصر اللّخمى، والأصبغ ابن ذؤالة والطّفيل «1» بن حارثة، والسرى بن زياد، أتوا خالد بن ابن عبد الله القسرى، فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم، وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يقتلوه، فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟
فلم يخبره، فحبسه، وطالبه بأموال العراق ثم سلّمه إلى يوسف ابن عمر كما تقدم، فقال بعض أهل اليمن شعرا على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية.
وقيل: بل قاله الوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد «2» :
ألم تهتج فتدكر «3» الوصالا ... وحبلا كان متّصلا فزالا
بلى فالدّمع «4» منك إلى انسجام ... كماء المزن ينسجل انسجالا
فدع عنك ادّكارك آل سعدى ... فنحن الأكثرون حصى «5» ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلّة والنّكالا(21/474)
وطئنا الأشعرى «1» بعزّ قيس ... فيالك وطأة لن تستقالا
وهذا خالد فينا أسيرا «2» ... ألا منعوه إن كانوا رجالا
عظيمهم وسيّدهم قديما ... جعلنا المخزيات له ظلالا
فلو كانت قبائل ذات عزّ ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... يعالج «3» من سلاسلنا الثّقالا
وكندة والسّكون فما استقاموا ... ولا برحت خيولهم الرّحالا
بها سمنا «4» البريّة كلّ خسف ... وهدّمنا السهولة والجبالا
ولكنّ الوقائع ضعضعتهم ... وجذّتهم «5» وردّتهم شلالا
فما زالوا لنا أبدا عبيدا ... نسومهم المذلّة والسفالا
فأصبحت الغداة علىّ تاج ... لملك الناس لا يبغى «6» انتقالا
فعظم ذلك عليهم، وسعوا فى قتله، وازدادوا حنقا، وقال حمزة ابن بيض «7» فى الوليد:
وصلت سماء الضّرّ بالضّرّ بعد ما ... زعمت سماء الذلّ «8» عنا ستقلع
فليت هشاما كان حيّا يسوسنا ... وكنا كما كنّا نرجّى ونطمع(21/475)
وقال أيضا «1» :
يا وليد الخنا «2» تركت الطّريقا ... واضحا وارتكبت فجّا عميقا
وتماديت واعتديت وأسرف ... ت وأغويت وانبعثت فسوقا
أبدا هات ثم هات وهاتى ... ثم هاتى حتى تخرّ صعيقا
أنت سكران لا تفيق فماتر ... تق فتقا إلّا فتقت «3» فتوقا
فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة، فاستشار عمر بن زيد الحكمى، فقال له: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع؛ فإن أبيت إلا المضىّ على رأيك فأظهر أنّ أخاك العباس قد بايعك.
وكان الشام وبيئا فخرجوا إلى البوادى، وكان العباس بالقسطل «4» ويزيد بالبادية أيضا، فأتى يزيد العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سرّا، وبثّ دعاته، فدعوا الناس، ثم عاود أخاه العباس أيضا فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزبره «5» ، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدّنّك وثاقا، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين.
فخرج من عنده، فقال العباس: إنّى لأظنّه أشأم مولود فى بنى مروان.(21/476)
وبلغ الخبر مروان بن محمد بإرمينية. فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفّهم ويحذرهم الفتنة ويخوّفهم خروج الأمر عنهم. فأعظم سعيد ذلك، وبعث الكتاب إلى العباس بن الوليد، فاستدعى العباس يزيد وتهدّده؛ فكتمه يزيد أمره فصدّقه، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد: إنى أظنّ الله قد أذن فى هلاككم يا بنى أمية، ثم تمثل «1» :
إنى أعيذكم بالله من فتن ... مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إنّ البريّة قد ملّت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدّين وارتدعوا
لا تلحمنّ ذئاب الناس أنفسكم ... إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا «2»
لا تبقرنّ بأيديكم بطونكمو ... فثمّ لا حسرة تغنى ولا جزع
قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو بالبادية أقبل إلى دمشق، وكان بينه وبينها أربع ليال، وجاء متنكرا فى سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود- وهى على مرحلة من دمشق، ثم سار فدخل دمشق ليلا، وقد بايع له أكثر أهلها سرّا، وبايع أهل المزّة «3» ؛ وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فخرج منها للوباء، فنزل قطنا «4» ، واستخلف على دمشق ابنه، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمى؛ فأجمع يزيد على الظّهور، فقيل للعامل:
إنّ يزيد «5» خارج فلم يصدّق، وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب(21/477)
ليلة الجمعة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّن بالعشاء؛ فدخلوا المسجد فصلّوا، وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل، فلما صلّى الناس أخرجهم الحرس وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق فى المسجد غيرهم، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه، وأخذ بيده، فقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله وعونه. فقام، وأقبل فى اثنى عشر رجلا.
فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم، ولقيهم زهاء مائتى رجل، فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأتوا باب المقصورة فضربوه، وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فدخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ وقبض محمد «1» بن عبيدة وهو على بعلبك، وأرسل إلى محمد بن عبد الملك بن الحجاج فأخذه، وكان بالمسجد سلاح كثير، فأخذوه.
فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وتبايع الناس، وجاءت السكاسك، وأقبل أهل داريّا ويعقوب بن عمير بن هانىء العبسى «2» .
وأقبل عيسى بن شبيب التغلبى وأهل دومة وحرستا، وأقبل(21/478)
حميد بن حبيب اللخمى «1» فى أهل دير مرّان «2» والأرزة وسطرا «3» وأقبل أهل جرش «4» وأهل الحديثة «5» وديرزكى «6» .
وأقبل ربعىّ بن هاشم «7» الحارثى فى الجماعة من بنى عذرة وسلامان، وأقبلت جهينة ومن والاهم.
ثم وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد فى مائتى فارس ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره، فأخذوه بأمان، وأصاب عبد الرحمن خرجين فى كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين الخرجين، فقال: لا تتحدث العرب عنى أنى أوّل من خان فى هذا الأمر.
ثم جهّز يزيد جيشا عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وسيّرهم إلى الوليد. وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إليه، وأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان، فضربه الوليد وحبسه، وسيّر أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فسار بعض الطريق، وأقام فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد، فبايع يزيد.(21/479)
ولما أتى الخبر الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية:
سر حتى تنزل حمص، فإنها حصينة، ووجّه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر.
فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغى للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، والله»
يؤيّد أمير المؤمنين بنصره «2» .
فأخذ بقول ابن عنبسة، وسار حتى أتى البخراء «3» - قصر النعمان بن بشير، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلا، فقالوا له: ليس لنا سلاح، فلو أمرت لنا بسلاح! فلم يعطهم شيئا، ونازله عبد العزيز.
وكتب العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد: إنى آتيك.
فأخرج الوليد سريرا وجلس عليه ينتظر العبّاس، فقاتلهم عبد العزيز، ومعه منصور بن جمهور، فبعث إليهم عبد العزيز زياد بن حصين الكلبى، يدعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيه، فقتله أصحاب الوليد واقتتلوا قتالا شديدا.
وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذى كان قد عقده بالجابية.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد، فأرسل منصور بن(21/480)
جمهور إلى طريقه، فأخذه قهرا، وأتى به عبد العزيز، فقال له:
بايع لأخيك يزيد، فبايع، ووقف ونصبوا راية، فقالوا: هذه راية العباس [قد بايع لأمير المؤمنين يزيد، فقال العباس] «1» :
إنا لله! خدعة من خدع الشيطان، هلك والله بنو مروان.
فتفرّق الناس عن الوليد، وأتوا العباس وعبد العزيز، وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقى، ويؤمّنه من كل حدث، على أن ينصرف عن قتاله، فأبى ولم يجبه، فظاهر الوليد من درعين، وأتوه بفرسيه «2» : السندى، والزائد «3» ، فقاتلهم قتالا شديدا، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارجموه بالحجارة، فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، وقال «4» :
دعوا لى سليمى «5» والطّلاء وقينة ... وكأسا، ألا حسبى بذلك مالا
إذا ما صفا عيشى «6» برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... ثباتا يساوى «7» ما حييت عقالا
وخلّوا عنانى قبل عير «8» وما جرى ... ولا تحسدونى أن أموت هزالا(21/481)
قال: وأحاط عبد العزيز بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! قال يزيد ابن عنبسة السكسكى: كلّمنى. قال: يا أخا السّكاسك، ألم أزد فى أعطياتكم! ألم أرفع المؤن عنكم! ألم أعط فقراءكم؛ ألم أخدم زمناكم؟ فقال: إنا ما ننقم عليك فى أنفسنا، إنما ننقم عليك فيما حرّم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.
قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمرى لقد أكثرت، وإن فيما أحلّ الله سعة عما ذكرت.
ورجع وجلس، وأخذ مصحفا، ونشره يقرأ فيه، وقال:
يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط، وكان أول من علاه يزيد ابن عنبسة، فنزل إليه، وأخذ بيده، وهو يريد أن يحبسه، ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة؛ فيهم: منصور بن جمهور، وعبد السلام اللخمى، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السرىّ «1» بن زياد بن أبى كبشة على وجهه، واحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى يزيد، فأتاه الرأس وهو يتغدى، فسجد وأمر بنصب الرأس. فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مرّة: إنما تنصب رءوس الخوارج؛ وهذا رأس ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته.
فلم يسمع منه، ونصبه على رمح، وطاف به دمشق؛ ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد، فلما نظر إليه سليمان قال:(21/482)
بعدا له! أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا، ولقد أرادنى على نفسى الفاسق- وكان سليمان ممّن سعى فى أمره.
وحكى يزيد بن عنبسة ليزيد بن الوليد أنّ الوليد قال فى آخر كلامه: والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم.
وكانت مدة خلافة الوليد سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما.
وكان عمره اثنتين وأربعين سنة. وقيل: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة.
وقيل: إحدى وأربعين.
وقيل: ست وأربعين سنة. والله أعلم.
وكان الوليد من فتيان بنى أمية وظرفائهم وشجعانهم، وأجوادهم، جيّد الشّعر، له أشعار حسنة فى الغزل والعتاب ووصف الخمر وغير ذلك، إلا أنه كان كثير الانهماك فى اللهو والشّرب وسماع الغناء.
ومن كلامه: المحبة للغناء تزيد الشهوة، وتهدم المروءة، وتنوب عن الخمر، وتفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنى، وإنى لأقول ذلك على أنه أحب إلىّ من كل لذة، وأشهى إلى نفسى من الماء إلى ذى الغلّة، ولكن الحقّ أحقّ أن يتّبع.
ومما اشتهر عنه أنه استفتح المصحف الكريم، فخرج له قوله(21/483)
تعالى «1» : «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»
. فألقاه ونصبه غرضا، ورماه بالسهام، وقال «2» :
تهدّدنى بجبّار عنيد ... فهأنا ذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر ... فقل يا ربّ مزّقنى الوليد
فلم يلبث بعد ذلك إلّا يسيرا حتى قتل. هذا هو المشهور عنه.
وروى أبو الفرج الأصفهانى بسنده إلى العلاء البندار، قال:
كان الوليد زنديقا، وكان رجل من كلب من أهل الشام يقول مقالة الثّنوية، فدخلت على الوليد يوما وذلك الكلبىّ عنده، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه، وإذا ما يبدو لى منه حرير أخضر؛ فقال: ادن يا علاء، فدنوت، فرفع الحريرة فإذا فى السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر «3» قد جعلا فى جفنه.
فجفنه يطرف كأنه يتحرّك، فقال: يا علاء، هذا مانى، لم يبعث الله نبيا قبله، ولا يبعث نبيا بعده؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، اتق الله ولا يغرنّك هذا الذى ترى من دينك. فقال الكلبى:
يا أمير المؤمنين، قد قلت لك: إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث.
قال العلاء: ومكثت «4» أياما، ثم جلست مع الوليد على بناء كان(21/484)
[قد «1» ] بناه فى عسكره يشرف منه والكلبىّ عنده إذ نزل من عنده، وقد كان الوليد حمله على برذون هملاج «2» أشقر من أفخر ما سخّر، فخرج على برذونه، فمضى فى الصحراء حتى غاب عن العسكر، فما شعر إلا وأعراب قد جاءوا به يحملونه منفسحة عنقه، وبرذونه يقاد، حتى أسلموه.
فبلغنى ذلك، فخرجت حتى أتيت أولئك الأعراب، وكانت لهم أبيات بالقرب من أرض البحر لا حجر فيها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصّة هذا الرجل؟ فقالوا: أقبل علينا على برذون، فو الله لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهيته، فعجبنا لذلك إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض، فأخذ بضبعيه، فاحتمله، ثم نكسه. وضرب برأسه الأرض، فدقّ عنقه، ثم غاب عن عيوننا فاحتملناه فجئنا به.
وقد نزّه قوم الوليد عما قيل، وأنكروه ونفوه عنه، وقالوا: إنه اختلق عليه وألصق به، وليس بصحيح.
حكى عن شبيب بن شيبة أنه قال: كنّا جلوسا عند المهدى، فذكروا الوليد، فقال المهدى: كان زنديقا، فقام ابن علاثة الفقيه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله عزّ وجلّ أعدل من أن يولّى خلافة النبوة وأمر الأمّة زنديقا، لقد أخبرنى من كان يشهده فى ملاعبه وشربه عنه بمروءة فى طهارته وصلاته؛ فكان إذا حضرت الصلاة(21/485)
يطرح الثياب التى عليه المطيّبة المصبّغة، ثم يتوضّأ فيحسن الوضوء، ويؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها، ويصلى فيها، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه، فهذا فعال من لا يؤمن بالله! فقال المهدى: بارك الله عليك يابن علاثة.
وللوليد كلام حسن؛ فمن أحسن كلامه ما قاله لهشام بن عبد الملك لما مات مسلمة بن عبد الملك وقعد هشام للعزاء، فأتاه الوليد وهو نشوان يجرّ مطرف خزّ عليه، فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقى لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصّيد لمن رمى، واختلّ الثّغر فهوى، وعلى أثر من سلف يمضى من خلف؛ فتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى.
فأعرض هشام ولم يحر جوابا، وسكت القوم فلم ينطقوا.
والوليد أوّل خليفة عدّ الشّعر وأجاز عن كلّ بيت ألف درهم، فإن يزيد بن ضبّة مولى ثقيف مدحه وهنّأه «1» بالخلافة فأمر أن تعدّ الأبيات ويعطى لكل بيت ألف درهم؛ فعدّت فكانت خمسين بيتا فأعطى خمسين ألف درهم.
قال: ودفن الوليد بباب الفراديس بدمشق. وقيل: إنه قتل بأرض حمص.
وحكى الدّولابى أن رأس الوليد نصب فى مسجد دمشق ولم يزل(21/486)
أثر دمه على الجدار إلى أن قدم المأمون دمشق فى سنة [215 هـ] خمس عشرة ومائتين، فأمر بحكّه.
وكان الوليد أبيض ربعة قد وخطه الشّيب.
وكان نقش خاتمه: يا وليد، احذر الموت.
وكان له من الأولاد الذكور والإناث ثلاثة عشر.
كاتبه: العباس بن مسلم.
قاضيه: محمد بن صفوان الجمحى.
حاجبه: قطرى مولاه.
الأمير بمصر: حفص بن الوليد الحضرمى، ثم صرفه عن الخراج.
قاضيها: حسين بن نعيم [والله أعلم «1» ] .
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص
هو أبو خالد يزيد بن الوليد «2» بن عبد الملك بن مروان؛ ولقّب بالناقص؛ لأنه نقص الزيادات التى كان الوليد زادها فى أعطيات الناس، وهى عشرة عشرة، وردّ العطاء إلى أيام هشام.
وقيل: أول من لقّبه بهذا اللقب مروان بن محمد.
وأم يزيد شاه آفريد «3» بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار.
بويع له لليلتين بقيتا من جمادى الاخرة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة.(21/487)
قال: ولما قتل الوليد خطب يزيد الناس فذمّ الوليد، وذكر إلحاده، وأنه قتله لفعله الخبيث، وقال: أيها الناس، إنّ لكم علىّ ألّا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرو «1» نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجة وولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتى أسدّ ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل نقلته إلى البلد الذى يليه، ولا أجمّركم فى ثغوركم فأفتنكم. ولا أغلق بابى دونكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم، ولكم أعطياتكم كل سنة وأرزاقكم فى كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم؛ فإن وفّيت بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أوف «2» فلكم أن تخلعونى، إلّا أن أتوب، وإن علمتم أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه.
أيها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. [والله الموفّق بمنّه وكرمه «3» ] .
ذكر اضطراب أمر بنى أمية
وفى سنة ست وعشرين ومائة فى أيام يزيد هذا اضطرب أمر بنى أميّة، وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام ابن عبد الملك بعمان، وكان الوليد قد حبسه بها، فلما قتل خرج(21/488)
من الحبس، وأخذ ما كان بها من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر.
ومن ذلك خلاف أهل حمص وفلسطين:
ذكر خلاف أهل حمص
قال: ولما قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكى عليه. وقيل لهم: إنّ العباس بن الوليد بن عبد الملك أعان عبد العزيز على قتله، فهدموا داره، وانتهبوها، وسلبوا حريمه، وطلبوه؛ فسار إلى أخيه يزيد، وكاتب أهل حمص الأجناد، ودعوهم إلى الطّلب بدم الوليد، فأجابوهم واتفقوا على ألّا يطيعوا يزيد، وأمّروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، ووافقهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك على ذلك، فراسلهم يزيد، فأخرجوا رسله، فسيّر إليهم أخاه مسرورا فى جمع كثير، فنزلوا حوّارين «1» ، ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام، فردّ عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، وسيّره إلى أخيه مسرور، وأمرهم بالسّمع والطاعة له؛ وكان أهل حمص يريدون السير إلى دمشق، فقال لهم مروان بن عبد الله: أرى أن تسيروا إلى هذا الجيش فتقاتلوهم، فإن ظفرتم بهم كان ما بعدهم أهون عليكم، ولست أرى المسير إلى دمشق وترك هؤلاء خلفكم.
فقال السّمط بن ثابت: إنما يريد خلافكم، وهو مائل «2» .(21/489)
ليزيد، فقتلوه وقتلوا ابنه، وولّوا عليهم أبا محمد السفيانى، وتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، وساروا إلى دمشق، فخرج سليمان مجدّا فى طلبهم، فلحقهم بالسّليمانية- مزرعة كانت لسليمان ابن عبد الملك خلف عذراء «1» .
وأرسل يزيد عبد العزيز بن الحجاج فى ثلاثة آلاف إلى ثنيّة العقاب، وأرسل هشام بن مصاد فى ألف وخمسمائة إلى عقبة السلامية. وأمرهم أن يمدّ بعضهم بعضا، ولحقهم سليمان على تعب مقاتلتهم «2» ، فانهزمت ميمنته وميسرته، وثبت هو فى القلب، ثم حمل أصحابه على أهل حمص حتى ردّوهم إلى موضعهم، وحمل بعضهم على بعض مرارا.
فبينما هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنيّة العقاب، فحمل على أهل حمص حتى دخل عسكرهم، وقتل فيه من عرض له، فانهزموا ونادوا: يا يزيد بن خالد بن عبد الله القسرى! الله الله فى قومك! فكفّ الناس، وأخذ أبو محمد السّفيانى أسيرا، ويزيد بن خالد بن معاوية، فأتى بهما سليمان فسيّرهما إلى يزيد فحبسهما.
واجتمع أمر أهل دمشق ليزيد، وبايعه أهل حمص، فأعطاهم العطاء، وأجاز الأشراف؛ واستعمل عليهم يزيد بن الوليد ابن معاوية بن يزيد بن الحصين.(21/490)
ذكر خلاف أهل فلسطين
وفى هذه السنة وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه، وكان الوليد قد استعمله عليهم، فأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، فدعا الناس إلى قتال يزيد، فأجابوه إلى ذلك؛ وبلغ أهل الأردن أمر أهل فلسطين، فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك، واجتمعوا «1» معهم على قتال يزيد ابن الوليد، فبعث يزيد إليهم سليمان بن هشام بن عبد الملك فى أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفيانى، وعدّتهم أربعة آلاف ونيّف، فبايع الناس ليزيد، واستعمل ضبعان «2» بن روح على فلسطين وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك على الأردن.
ذكر عزل يوسف بن عمر عن العراق وما كان من أمره، واستعمال منصور بن جمهور
وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق، واستعمل منصور بن جمهور، وقال له لمّا ولّاه العراق: اتّق الله واعلم أنى إنما قتلت الوليد لفسقه، ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه. فسار حتى إذا بلغ عين «3» التّمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشام يخبرهم بقتل الوليد وتأميره على العراق ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله، وبعث بالكتب(21/491)
كلّها إلى سليمان بن سليم بن كيسان ليفرقها على القوّاد، فحبس الكتب؛ وحمل كتابه فأقرأه يوسف بن عمر، فتحيّر فى أمره، وقال: ما الرّأى يا سليمان؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشام معك، ولا آمن عليك منصورا. وما الرأى إلّا أن تلحق بشامك.
قال: فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد وتدعو له فى خطبتك؛ فإذا قرب منصور تستخفى عندى وتدعه والعمل.
ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد بن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوى «1» يوسف بن عمر عنده، ففعل، فانتقل يوسف إليه، فلم «2» ير رجل كان مثل عتوّه خاف مثل خوفه.
وقدم منصور الكوفة فحضّهم وذمّ الوليد ويوسف، وقامت الخطباء فذمّوهما معه، فأتى عمرو بن محمد إلى يوسف، فأخبره:
فجعل لا يذكر له رجلا ممن ذكره بسوء إلا قال: لله علىّ أن أضربه كذا وكذا سوطا؛ فجعل عمرو يتعجّب من طمعه فى الولاية.
ويهدّده الناس.
وسار يوسف من الكوفة سرّا إلى الشام، فنزل البلقاء «3» .
فلما بلغ خبره يزيد بن الوليد وجّه إليه خمسين فارسا، فعرض رجل من بنى نمير ليوسف، وقال: يابن عمر، أنت والله مقتول، فأطعنى وامتنع.(21/492)
قال: لا، فدعنى أقتلك أنا ولا تقتلك هذه اليمانية فتغيظنا بقتلك.
قال: ما لى فيما عرضت خيار، فطلبه المسيّرون إليه، فلم يروه، فتهدّدوا ابنا له، فقال لهم: انطلق إلى مزرعة له، فساروا فى طلبه، فلما أحسّ بهم هرب وترك نعليه، ففتّشوا عليه فوجدوه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خز وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، وأخذوه، وأقبلوا به إلى يزيد، فوثب عليه بعض الحرس، فأخذ بلحيته ونتف بعضها، وكان من أعظم الناس لحية، وأصغرهم قامة.
فلما أدخل على يزيد قبض على لحية نفسه، وهى إلى سرّته، وجعل يقول: يا أمير المؤمنين؛ نتفت والله لحيتى، حتى لم يبق فيها شعرة؛ فأمر به فحبس فى الخضراء فأتاه إنسان فقال له:
أما تخاف أن يطلع عليك بعض من وترت فيلقى عليك حجرا فيقتلك؟
قال «1» : ما فطنت لهذا، فأرسل إلى يزيد يطلب منه أن يحوّل إلى حبس «2» غير الخضراء، وإن كان أضيق منه، فعجبوا من حمقه، فنقله وحبسه مع ابنى الوليد، فبقى فى الحبس ولاية يزيد وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم.
فلما قرب مروان من دمشق ولى يزيد بن خالد [القسرى] «3»(21/493)
مولى لأبيه يقال له أبو الأسد «1» قتلهم «2» ، فقتل الحكم وعثمان ويوسف على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وكان يوسف بن عمر يحمّق، وفيه أشياء متباينة متناقضة؛ كان طويل الصلاة، ملازما للمسجد، ضابطا لحشمه وأهله عن الناس، ليّن الكلام، متواضعا، حسن المملكة كثير التضرّع والدعاء، فكان يصلّى الصّبح، ولا يكلم أحدا حتى يصلى الضّحى، وهو فيما بين ذلك يقرأ القرآن ويتضرّع، وكان بصيرا بالشعر والأدب، وكان شديد العقوبة، مسرفا فى ضرب الأبشار، وكان يأخذ الثوب الجيّد فيمر ظفره عليه فإن تعلّق به طاقه ضرب صاحبه، وربما قطع يده.
حكى أنه أتى يوما بثوب فقال لكاتبه: ما تقول فى هذا الثوب؟
قال: كان ينبغى أن تكون بيوته أصغر مما هى. فقال للحائك:
صدق يابن اللخناء. فقال الحائك: نحن أعلم بهذا. فقال لكاتبه:
صدق يابن اللخناء. فقال الكاتب: هذا يعمل فى السنة ثوبا أو ثوبين وأنا يمرّ على يدى فى السنة مائة ثوب مثل هذا. فقال للحائك: صدق يابن اللّخناء، فلم يزل يكذّب هذا مرة، وهذا مرة حتى عدّ أبيات الثوب، فوجدها تنقص بيتا من أحد جانبى الثوب، فضرب الحائك مائة سوط.
وقيل: إنه أراد السفر فدعا جواريه، فقال لإحداهنّ: تخرجين معى؟ قالت: نعم. قال: يا خبيثة. كلّ هذا من حبّ النكاح،(21/494)
يا خادم، اضرب رأسها. وقال لأخرى: ما تقولين؟ فقالت: أقيم على ولدى. فقال: يا خبيثة، كلّ هذا زهادة فىّ، اضرب رأسها.
وقال لثالثة: ما تقولين؟ قالت: لا أدرى ما أقول، إن قلت ما قالت إحداهما لم آمن عقوبتك. فقال: يا لخناء وتناقضين وتحتجّين، اضرب رأسها.
وكان قصيرا، فكان يحضر الثوب الطويل ليفصّله ليلبسه، فإن قال له الخياط: إنه يفضل منه ضرب رأسه، وإن قال: لا يكفى إلّا بعد التصرّف فى التفصيل سرّه ذلك، فكانوا يفصّلون له ويأخذون ما بقى. وكان له فى ذلك أشياء كثيرة.
فلنرجع إلى أخبار منصور بن جمهور.
قال: وكان دخول منصور الكوفة لأيام خلت من شهر رجب سنة [126 هـ] ست وعشرين [ومائة «1» ] ، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من كان فى السجون من العمّال وأهل الخراج، وبايع ليزيد بالعراق، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيّام بقين منه.
وامتنع نصر بن سيّار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور، فإنّ يزيد كان قد ضمّ خراسان لمنصور مع العراق.
ذكر عزل منصور بن جمهور عن العراق وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز
وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق،(21/495)
واستعمل عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: وقال له: سر إلى العراق؛ فإنّ أهله يميلون إلى أبيك. وخاف ألّا يسلم إليه المنصور العمل، فانقاد له أهل الشام، وسلّم إليه منصور الولاية، وانصرف إلى الشام، ففرّق عبد الله العمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم، فنازعه قوّاد أهل الشام، وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا، وهم عدوّنا! فقال لأهل العراق: إنى أريد أن أردّ عليكم فيئكم، وعلمت أنكم أحقّ به، فنازعنى هؤلاء.
فاجتمع أهل الكوفة بالجبّانة، فأرسل إليهم أهل الشام يعتذرون، وثار غوغاء الناس فى الفريقين، فأصيب منهم رهط لم يعرفوا، واستعمل عبد الله بن عمر على شرطته عمر بن الغضبان ابن القبعثرى، وعلى خراج السواد والمحاسبات أيضا.
ذكر الاختلاف بين أهل خراسان
وفى سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة وقع الاختلاف بخراسان بين النّزاريّة واليمانية، وأظهر الكرمانى الخلاف لنصر بن سيّار.
وكان سبب ذلك أن نصرا رأى الفتنة قد ثارت، فرفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا، من أوان «1» كان اتّخذها للوليد بن يزيد، فطلب الناس منه العطاء، وهو يخطب؛ فقال نصر: إيّاى والمعصية، عليكم بالطاعة والجماعة. فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر، وقال: ما لكم عندى عطاء «2»(21/496)
ثم قال: كأنى بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شرّ لا يطاق، وكأنى بكم مطرّحين فى الأسواق كالجزر المنحورة، إنه لم تطل ولاية رجل إلّا ملّوها، وأنتم يأهل خراسان مسلحة فى نحور العدو، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان؛ إنكم تريشون أمرا وتريدون «1» به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم، لقد نشرتكم وطويتكم، فما عندى منكم عشرة.
فاتقوا الله، فو الله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنّينّ أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده. يأهل خراسان، إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة.
ثم تمثل بقول النابغة «2» :
فإن يغلب شقاؤكمو عليكم ... فإنّى فى صلاحكمو سعيت
وقدم على نصر عهده «3» على خراسان من قبل عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز؛ فقال الكرمانى لأصحابه: الناس فى فتنة فانظروا لأموركم رجلا.
والكرمانى اسمه جديع بن علىّ الأرذى، وإنما سمى الكرمانى لأنه ولد بكرمان، فقالوا له: أنت لنا. وقالت المضريّة لنصر: إن الكرمانى يفسد عليك الأمور، فأرسل إليه فاقتله أو احبسه.
قال: لا، ولكن لى أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بنىّ من بناته، وبناتى من بنيه.
قالوا: لا. قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، وهو بخيل،(21/497)
فلا يعطى أصحابه شيئا منها، فيتفرّقون عنه. قالوا: لا، هذه قوّة له، ولم يزالوا به حتى قالوا له: إنّ الكرمانى لو لم يقدر على السلطنة والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصّر وتهوّد.
وكان نصر والكرمانى متصافيين، وكان الكرمانىّ قد أحسن إلى نصر فى ولاية أسد [بن عبد الله «1» ] القسرى. فلما ولى نصر عزل الكرمانى عن الرياسة وولّاها غيره، فتباعد ما بينهما، فلما أكثروا على نصر فى أمره عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه [به «2» ] ، فأرادت الأزد أن تخلّصه من يده، فمنعهم من ذلك، وسار مع صاحب الحرس وهو يضحك.
فلما دخل على نصر قال له: يا كرمانى، ألم يأتنى كتاب يوسف ابن عمر بقتلك فراجعت «3» وقلت: شيخ خراسان وفارسها، فحقنت دمك؟ قال: بلى. قال: ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم، وقسمته فى أعطيات الناس؟ قال: بلى. قال: ألم أرؤّس ابنك عليّا على كره من قومك؟ قال: بلى. قال: فبدّلت ذلك إجماعا على الفتنة.
قال الكرمانى: لم يقل الأمير شيئا إلّا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان منّى أيام أسد ما قد علمت، ولست أحبّ الفتنة.(21/498)
قال سلم «1» بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، وأشار غيره بذلك، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم العامرى «2» :
لجلساء فرعون خير منكم؛ إذ قالوا «3» : «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» *
والله لا يقتل الكرمانى بقولكم، فأمر نصر بحبسه فى القهندز «4» . فحبس وذلك لثلاث بقين من شهر رمضان، فتكلمت الأزد فقال نصر: إنى حلفت أن أحبسه، ولا يناله منى سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه، فاختاروا يزيد النحوى، فكان معه؛ فجاء رجل من أهل نسف، فقال لآل الكرمانى:
ما تجعلون لى إن أخرجته؟ قالوا: كل ما سألت، فأتى مجرى الماء فى القهندز فوسعه، وقال لولد الكرمانى: اكتبوا لأبيكم «5» يستعد الليلة للخروج.
فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب فى الطعام، فتعشّى الكرمانى، ويزيد النحوى، وحصين بن حكيم؛ وخرجا من عنده.
ودخل الكرمانى السّرب، فانطوت على بطنه حيّة فلم تضرّه؛ وخرج من السّرب، وركب فرسه البشير، والقيد فى رجله، فأتوا به عبد الملك بن حرملة فأطلق عنه القيد.
وقيل: إنّ الذى خلّص الكرمانى مولى له رأى خرقا فوسّعه وأخرجه(21/499)
منه، فلم يصلّ الصّبح حتى اجتمع معه زهاء ألف، ولم يرتفع النهار حتى بلغوا ثلاثة آلاف.
وكانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة. فلما خرج الكرمانى قدمه عبد الملك.
قال: ولما خرج الكرمانى عسكر نصر بباب مرو الرّوذ، وخطب الناس، فنال من الكرمانى، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوسقوا «1» فهم أذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل «2» :
ضفادع فى ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر
ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله؛ فإنه خير لا شرّ فيه.
واجتمع إلى نصر بشر كثير، فسفر الناس بينه وبين الكرمانىّ، وسألوا نصرا أن يؤمّنه، ولا يحبسه؛ وجاء الكرمانىّ، فوضع يده فى يد نصر، فأمره بلزوم بيته، ثم بلغ الكرمانى عن نصر شىء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بباب مرو، فكلّموه فيه، فأمّنه.
فلما عزل ابن جمهور عن العراق وولّى عبد الله بن عمر فى شوّال من السنة خطب نصر، وذكره، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمّال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيّب ابن الطيّب.
فغضب الكرمانى لابن جمهور، وعاد فى جمع «3» الرجال واتخاذ السلاح؛ فكان يحضر الجمعة فى ألف وخمسمائة فيصلّى خارج(21/500)
المقصورة، ثم يدخل فيسلّم على نصر، ولا يجلس، ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف؛ فأرسل إليه مع سلّم «1» بن أحوز، يقول:
إنى والله ما أردت بحبسك سوءا، ولكن خفت فساد أمر الناس فأتنى.
فقال: لولا أنّك فى منزلى لقتلتك، ارجع إلى ابن الأقطع، فأبلغه ما شئت من خير أو شر.
فرجع إلى نصر فأخبره، فلم يزل يرسل إليه مرة بعد أخرى، فكان آخر ما قال له الكرمانى: إنى لا آمن أن يحملك قوم على «2» غير ما تريد، فتركب منا مالا بقيّة بعده، فإن شئت خرجت عنك لامن هيبة لك، ولكن أكره سفك الدماء، فتهيّأ للخروج إلى جرجان؛ ثم كان من أمر الكرمانى ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم
قال: لما قتل الوليد بن يزيد كان على اليمامة عليّ بن المهاجر، استعمله عليها يوسف بن عمر، فقال له المهير بن سلمى بن هلال أحد بنى الدؤل بن حنيفة: اترك لنا بلادنا، فأبى؛ فجمع له المهير، وسار إليه، وهو بقصره فى قاع «3» هجر، فالتقوا بالقاع، فانهزم علىّ حتى دخل قصره، ثم هرب إلى المدينة، وقتل المهير ناسا من أصحابه، وتأمّر المهير على اليمامة، ثم إنه مات، واستخلف على اليمامة عبد الله بن النعمان أحد بنى قيس بن ثعلبة بن الدؤل، فاستعمل(21/501)
عبد الله بن النعمان المندلث «1» بن إدريس الحنفى على الفلج- وهى قرية من قرى بنى عامر بن صعصعة، فجمع له بنو كعب ابن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل، فأتوا «2» الفلج، فلقيهم المندلث، وقاتلهم، فقتل المندلث وأكثر أصحابه، ولم يقتل من بنى عامر كثير، وقتل يومئذ يزيد ابن الطّثريّة «3» وهى أمّه، تنسب إلى طثر بن عنز «4» بن وائل، وهو يزيد بن المنتشر «5» .
فلما بلغ عبد الله بن النعمان قتل المندلث جمع ألفا من حنيفة وغيرها، وغزا الفلج.
فلما تصافّ الناس انهزم أبو لطيفة بن مسلم العقيلى، وطارق ابن عبد الله القشيرى، والجعونيان «6» ، وتجلّلت بنو جعدة البراذع، وولّوا، فقتل أكثرهم، وقطعت يد زياد بن حيان الجعدى؛ ثم قتل «7» .
ثم إن بنى عقيل وقشيرا وجعدة ونميرا تجمّعوا وعليهم أبو سهلة النّميرى، فقتلوا من لقوا من بنى حنيفة بمعدن الصحراء، وسبوا نساءهم، وكفّت بنو نمير عن النساء.(21/502)
ثم إنّ عمر بن الوازع الحنفى لمّا رأى ما فعل عبد الله بن النعمان قال: لست بدون عبد الله وغيره ممن يغير، وهذه فترة يؤمن فيها عقوبة السلطان، فجمع خيله وبثّها فأغارت وأغار فملأ يده من الغنائم، وأقبل بمن معه حتى أتى النّشّاش «1» ، وأقبلت بنو عامر، وقد حشدت، فلم يشعر عمر بن الوازع إلا برغاء الإبل، فجمع النساء فى فسطاط، وجعل عليهنّ حرسا، ولقى القوم فقاتلهم، فانهزم هو ومن معه، وهرب ابن الوازع، فلحق باليمامة، وكفّت قيس يوم النشّاش عن السّلب، فجاءت عكل فسلبتهم «2» .
وجمع عبيد الله بن مسلم الحنفى جمعا، وأغار على ماء لقشير يقال له حلبان «3» ، وأغار على عكل فقتل منهم عشرين رجلا.
ثم قدم المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة الفزارى واليا على اليمامة من قبل أبيه يزيد بن عمر حين ولى العراق لمروان بن محمد، فوردها وهم سلّم.
وسكنت البلاد؛ ولم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفى مستخفيا حتى قدم السرىّ بن عبد الله الهاشمى واليا على اليمامة لبنى العباس، فدلّ عليه فقتله.
وفى هذه السنة أمر يزيد بن الوليد بالبيعة [بولاية «4» ] العهد لأخيه إبراهيم، ومن بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان.(21/503)
وفيها خالف مروان بن محمد يزيد بن الوليد وأظهر الخلاف، وتجهّز للمسير إلى الشام، وعرض جند الجزيرة فى نيف وعشرين ألفا، فكاتبه يزيد ليبايع له ويوليه ما كان عبد الملك ولّى أباه محمدا من الجزيرة وإرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، وأعطاه يزيد ولاية ما شرطه «1» له.
ذكر وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك
كانت وفاته بدمشق لعشر بقين من ذى الحجة سنة [126 هـ] ستّ وعشرين ومائة؛ فكانت مدة ولايته خمسة أشهر واثنين «2» وعشرين يوما، وقيل ستة أشهر وليلتين، وقيل ستة أشهر؛ وكان عمره ستا وأربعين سنة.
واختلف فيه إلى ثلاثين سنة.
وكان أسمر نحيف البدن، ربع القامة، خفيف العارضين، فصيحا شديد العجب.
وقيل فى صفته: أسمر طويلا صغير الرأس جميلا.
وكان نقش خاتمه: يا يزيد، قم بالحق. وقيل: كان نقش خاتمه:
العظمة لله.
وكان آخر ما تكلّم به: وا حسرتاه! وا أسفاه! وكان له عقب كثير.
كاتبه: ثابت بن سليمان.
قاضيه: عثمان بن عمر بن موسى بن معمر التميمى.(21/504)
حاجبه: قطرىّ مولاه. وقيل سلام.
الأمير بمصر: حفص بن الوليد، ولم يزل عليها إلى أن ولى مروان فاستعفى.
قاضيها: حسين بن نعيم.
ويزيد أوّل من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفّين عليهم السلاح. وقيل: إنه كان قدريّا. والله أعلم.
ذكر بيعة إبراهيم بن الوليد
هو أبو إسحاق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمّه أم «1» ولد اسمها نعمة، وقيل خشف؛ وهو الثالث عشر من ملوك بنى أمية، قام بالأمر بعد وفاة أخيه يزيد فى ذى الحجة سنة [126 هـ] ست وعشرين ومائة، وكان يسلّم عليه تارة بالخلافة، وتارة بالإمارة، وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما؛ فمكث أربعة أشهر، وقيل سبعين يوما، ثم سار إليه مروان بن محمد، فخلعه على ما نذكر ذلك إن شاء الله، ثم لم يزل حيّا حتى أصيب فى سنة [132 هـ] اثنتين وثلاثين ومائة.
تتمة حوادث سنة (126 هـ) ست وعشرين ومائة:
فيها عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان، فقدمها فى ذى القعدة من السنة.
وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وقيل عمر ابن عبد الله بن عبد الملك.(21/505)
(127 هـ) سبع وعشرين ومائة:
ذكر مسير مروان بن محمد إلى الشام وخلع إبراهيم بن الوليد
فى هذه السنة سار مروان بن محمد بن مروان إلى الشام لمحاربة إبراهيم بن الوليد، فانتهى إلى قنسرين، وبها بشر «1» ومسرور، ابنا الوليد [أرسلهما «2» ] أخوه إبراهيم، فتصافوا، ودعاهم مروان إلى بيعته فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة فى القيسيّة، وأسلموا بشرا وأخاه مسرورا، فحبسهما مروان، وسار معه أهل قنسرين إلى حمص، وكان أهل حمص قد امتنعوا من بيعة إبراهيم وعبد العزيز، فوجّه إليهم إبراهيم عبد العزيز فى جند أهل دمشق، فحاصرهم فى مدينتهم، وأسرع مروان السير، فلما دنا من حمص رحل عبد العزيز عنها، وخرج أهلها إلى مروان فبايعوه، وساروا معه، ووجّه إبراهيم الجنود من دمشق مع سليمان بن هشام فى مائة وعشرين ألفا ومروان فى ثمانين ألفا، فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله وإطلاق الحكم وعثمان ابنى الوليد من السجن، وضمن لهم أنّه لا يطلب أحدا من قتلة الوليد، فلم يجيبوه وجدّوا فى قتاله فاقتتلوا «3» ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، وكثر القتل بينهم، وكان مروان ذا رأى ومكيدة، فأرسل ثلاثة آلاف فارس، وأمرهم أن يأتوا عسكر سليمان من خلفه، ففعلوا ذلك، فلم يشعر سليمان إلّا والقتل فى أصحابه من ورائهم،(21/506)
فانهزموا، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحنقهم عليهم، فقتلوا منهم سبعة عشر ألفا، وقيل ثمانية عشر ألفا، وكفّ أهل الجزيرة وقنّسرين عن قتالهم، وأتوا مروان من أسراهم بمثل القتلى، فأخذ مروان عليهم البيعة لولدى الوليد، وخلّى عنهم، وهرب يزيد ابن عبد الله بن خالد القسرى فيمن هرب إلى دمشق، فاجتمعوا مع إبراهيم وعبد العزيز، واتفقوا على قتل الحكم وعثمان ولدى الوليد، فقتلا؛ وقتل معهما يوسف بن عمر، وأرادوا قتل محمد السفيانى، فدخل بيتا من بيوت السجن وأغلقه، فلم يقدروا على فتحه، [وأرادوا «1» ] إحراقه، فقيل لهم: قد دخلت خيل مروان المدينة، فهربوا، وهرب إبراهيم، واختفى، وانتهب سليمان بن هشام ما فى بيت المال، فقسّمه فى أصحابه، وخرج من المدينة، وعاش إلى سنة [132 هـ] اثنتين وثلاثين ومائة، ثم قتله ابن عوف يوم الزّاب.
وقيل: إنه غرق فى ذلك اليوم.
وقيل: قتله مروان بن محمد وصلبه. وكان إبراهيم عاجزا ضعيف الرّأى، وكان خفيف العارضين له ضفيرتان.
وكان نقش خاتمه: توكّلت على الحىّ القيوم.
كاتبه: بكير بن السراج اللخمى.
قاضيه: عثمان بن عمر التميمى.
حاجبه: قطرىّ مولى الوليد، ثم وردان مولاه. [والله أعلم «2» ] .(21/507)
ذكر بيعة مروان بن محمد
هو أبو عبد الله مروان بن محمد بن الحكم بن أبى العاص، وأمّه لبابة جارية إبراهيم بن الأشتر، وكانت كردية، أخذها محمد من عسكر إبراهيم، فولدت له مروان وعبد العزيز، ولقب بالجعدىّ لأن خاله الجعد بن درهم، فنسب إليه. ولقب أيضا حمار الجزيرة.
بويع له فى صفر فى سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، وكان سبب بيعته أنه لما دخل دمشق وهرب إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام ثار من بدمشق من موالى الوليد بن يزيد بن عبد الملك إلى دار عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فقتلوه ونبشوا قبر يزيد بن الوليد، وأخرجوه فصلبوه على باب الجابية، وأتى مروان بالغلامين، الحكم وعثمان مقتولين، وبيوسف بن عمر، فدفنهم، وأتى بأبى محمد السّفيانى فى قيوده، فسلم على مروان بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له مروان: مه. فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشد شعرا قاله الحكم فى السجن، وكانا قد بلغا وولد لأحدهما، وهو الحكم، فقال «1» :
ألا من مبلغ مروان عنّى ... وعمّى الغمر «2» طال به «3» حنينا(21/508)
بأنّى قد ظلمت وصار قومى ... على قتل الوليد مشايعينا «1»
أيذهب كلّهم «2» بدمى ومالى ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا
ومروان بأرض بنى نزار ... كليث الغاب مفترش عرينا «3»
أتنكث بيعتى من أجل أمّى ... فقد بايعتمو قبلى هجينا
فإن أهلك أنا وولىّ عهدى ... فمروان أمير المؤمنينا
ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان «4» .
وكان أوّل من بايعه معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ورءوس أهل حمص، والناس بعد. فلما استقرّ له الأمر رجع إلى منزله بحرّان، وطلب منه الأمان لإبراهيم «5» بن الوليد وسليمان بن هشام فأمّنهما فقدما عليه، وبايعاه.
وفى هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه؛ وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم.
ذكر رجوع الحارث بن سريج
وفى هذه السنة كان رجوع الحارث بن سريج إلى مرو؛ وكان قدومه فى جمادى الآخرة سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، وكان ببلاد التّرك، وكان مقامه عندهم اثنتى عشرة سنة،(21/509)
وقد قدّمنا من أخباره طرفا.
وكان سبب عوده أنّ الفتنة لما وقعت بخراسان بين نصر بن سيار والكرمانى فى سنة [126 هـ] ست وعشرين فى خلافة يزيد ابن الوليد كما ذكرنا- خاف نصر قدوم الحارث عليه فى أصحابه، فأرسل مقاتل بن حيّان النّبطى وغيره ليردّوه من بلاد التّرك، وسار خالد بن زياد البدّى التّرمذى وخالد بن عمرو مولى بنى عامر إلى يزيد، فأخذوا للحارث منه أمانا فأمّنه، وأمر نصر بن سيار أن يردّ عليه ما أخذ له، وأمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بذلك، فلما قدم تلقّاه الناس بكشميهن «1» ، ولقيه نصر وأنزله، وأجرى عليه كلّ يوم خمسين درهما، فكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل.
وأرسل إلى نصر: إنى لست من الدنيا واللذات فى شىء، إنما أسأل كتاب الله والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك.
وأرسل الحارث إلى الكرمانى إذا أعطانى نصر العمل بالكتاب وما سألته عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل أعنتك إن ضمنت لى القيام بالعدل والسّنة.
ودعا [بنى «2» ] تميم إلى نفسه، فأجابه منهم ومن غيرهم(21/510)
جمع كثير، واجتمع إليه ثلاثة آلاف، وقال لنصر: إنما خرجت من هذه البلدة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور وأنت تريدنى عليه.
ذكر انتقاض أهل حمص
وفى هذه السنة انتقض أهل حمص بعد عود مروان إلى حرّان بثلاثة أشهر، وكان الذى دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسل أهل حمص من بتدمر من كلب، فأتاهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبى وأولاده، ومعاوية السّكسكى، وكان فارس أهل الشام وغيرهما فى نحو ألف من فرسانهم، فدخلوا حمص ليلة الفطر، فجدّ مروان فى السير إليهم ومعه إبراهيم [بن الوليد] «1» المخلوع، وسليمان ابن هشام، فبلغها بعد الفطر بيومين، وقد سدّ أهلها أبوابها، فأحدق بالمدينة ووقف بإزاء باب من أبوابها، فنادى مناديه:
ما دعاكم إلى النّكث؟ قالوا: إنّا على طاعتك لم ننكث. قال:
فافتحوا. ففتحوا الباب، فدخله عمرو بن الوضّاح فى الوضّاحية فى نحو ثلاثة آلاف، فقاتلهم من بالبلد فكسرتهم خيل مروان، فخرج من بها من باب تدمر، فقاتلهم من عليه من أصحاب مروان فقتل عامّة من خرج منه، وأفلت الأصبغ وابنه، وقتل مروان جماعة من أشرافهم، وصلب خمسمائة من القتلى حول المدينة، وهدم من سورها نحو غلوة. وقيل: كان ذلك سنة [128 هـ] ثمان وعشرين ومائة. [والله أعلم «2» ] .(21/511)
ذكر خلاف أهل الغوطة
وفى هذه السنة خالف أهل الغوطة وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسرى وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو، فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث، وعمرو بن الوضّاح فى عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج عليهم من بالمدينة؛ فانهزموا، واستباح أصحاب مروان عسكرهم، وأحرقوا المزّة «1» وقرى من قرى اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وبعث زامل برأسه إلى مروان بحمص.
ذكر خلاف أهل فلسطين
وفيها خرج ثابت بن نعيم بعد هؤلاء فى أهل فلسطين، وأتى طبرية فحاصرها، وعليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فقاتله أهلها أياما، فكتب مروان بن محمد إلى أبى الورد يأمره بالمسير إليهم، فسار فلما قرب منهم خرج أهل طبريّة على ثابت فهزموه واستباحوا عسكره، فانصرف إلى فلسطين منهزما، فتبعه «2» أبو الورد والتقوا واقتتلوا، فانهزم ثانية وتفرّق عنه أصحابه وأسر «3» ثلاثة من أولاده. وبعث بهم إلى مروان، وتغيّب ثابت وولده رفاعة.(21/512)
واستعمل مروان على فلسطين الرّماحس بن عبد العزيز «1» الكنانى، فظفر بثابت، فبعثه إلى مروان موثقا بعد شهرين، فأمر به وبأولاده الثلاثة، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وحملوا إلى دمشق، فألقوا على باب المسجد ثم صلبوا على أبواب دمشق؛ واستقام أمر الشام لمروان إلا تدمر؛ فسار مروان إليها، فنزل القسطل «2» ، وبعث إليهم فأجابوه إلى الطاعة فبايعهم، وهدم سور البلد.
وفيها بايع مروان لابنيه عبيد الله وعبد الله وزوّجهما ابنتى هشام ابن عبد الملك، وجمع لذلك بنى أميّة.
وسار مروان إلى الرّصافة، وندب يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لقتال الضحاك الخارجى، وأمر أهل الشام باللّحاق به.
ولما سار مروان استأذنه سليمان بن هشام ليقيم أيّاما ليقوّى من معه وتستريح دوابّهم، فأذن له.
وتقدّم مروان إلى قرقيسياء «3» وبها ابن هبيرة ليقدّمه إلى الضحّاك، فرجع عشرة آلاف ممّن كان مروان أخذ من أهل الشام لقتال الضحاك، فأقاموا بالرّصافة، ودعوا سليمان إلى خلع مروان فأجابهم.(21/513)
ذكر خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد
وفى هذه السنة خلع سليمان بن هشام مروان، وذلك أنه لما استأذنه فى المقام بعده، وأقام، وقدم عليه الجنود الذين ذكرناهم حسّنوا له خلع مروان وقالوا: أنت أرضى عند الناس، وأولى من مروان بالخلافة؛ فأجابهم إلى ذلك، وسار بإخوته ومواليه، فعسكر بقنّسرين، وأتاه أهل الشام من كلّ مكان.
وبلغ الخبر مروان، فرجع إليه من قرقيسياء، وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالمقام؛ وكان أولاد هشام وجماعة من موالى سليمان بحصن الكامل، فمرّ عليهم مروان فتحصّنوا منه، فأرسل إليهم يحذّرهم أن يتعرّضوا لأحد ممّن يتبعه من جنده، فإن تعرّضوا لأحد فلا أمان لهم، فأرسلوا إليه إنهم يكفّون عنهم.
ومضى مروان فجعلوا يغيرون على من يتبعه، فاشتدّ غيظه عليهم.
قال: واجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا من أهل الشام والذّكوانيّة وغيرهم، وعسكر بقرية خساف «1» من أرض قنّسرين.
وأتاه مروان والتقوا؛ واشتدّ القتال بينهم، فانهزم سليمان ومن معه، واتبعهم مروان، فاستباح عسكره، وأمر مروان بقتل من يؤتى به من الأسرى إلا عبدا مملوكا، فأحصى من قتلاهم يومئذ [ما «2» ] نيّف(21/514)
على ثلاثين ألف قتيل. وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وخالد ابن هشام المخزومى خال هشام بن عبد الملك، وادعى كثير من الجند الأسرى أنهم عبيد؛ فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد.
ومضى سليمان إلى حمص، وانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان هدمه من سورها؛ وسار مروان إلى حصن الكامل، فحصر من فيه، وأنزلهم على حكمه، فمثّل بهم، وأخذهم أهل الرّقّة فداووا جراحاتهم، فهلك بعضهم وكانت عدّتهم نحو ثلاثمائة «1» .
ثم سار إلى سليمان، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان، فتبايع تسعمائة من فرسانهم على الموت، وساروا بأجمعهم مجمعين على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم فتحرز منهم، فلم يمكّنهم أن يبيّتوه، وزحف على احتراز وتعبئة، فكمنوا فى زيتون فى طريقه، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئته، فوضعوا السلاح فيمن معه، فنادى مروان خيوله، فرجعت إليه، فقاتلوا من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، فانهزم أصحاب سليمان وقتل منهم نحو ستة آلاف.
فلما بلغ سليمان هزيمتهم خلّف أخاه سعيدا بحمص، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصر أهلها عشرة أشهر، ونصب عليهم نيّفا وثمانين منجنيقا يرمى بها الليل والنهار، وهم يخرجون إليه فى كل يوم فيقاتلونه.(21/515)
فلما تتابع عليهم البلاء طلبوا الأمان على أن يمكّنوه من سعيد ابن هشام وابنيه: عثمان ومروان، ومن رجل كان يسمى السكسكى، كان يغير على عسكره، ومن رجل حبشيّ كان يشتم مروان، فأجابهم إلى ذلك، واستوثق من سعيد وابنيه، وقتل السكسكى، وسلّم الحبشى إلى بنى سليم، لأنه كان يخصّهم بالسّبّ، فقطعوا ذكره وأنفه ومثّلوا به.
ولما فرغ مروان من حمص سار نحو الضحّاك الخارجى.
وقيل: إن سليمان لما انهزم بخساف أقبل هاربا حتى التحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق، فخرج معه [إلى «1» ] الضحاك، فقال بعض شعرائهم «2» :
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصلّت «3» قريش خلف بكر بن وائل
ذكر خروج الضحاك محكما وما كان من أمره إلى أن قتل
وفى سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة خرج الضحّاك بن قيس الشيبانى محكما ودخل الكوفة.
وكان سبب ذلك أنّ الوليد لما قتل خرج بالجزيرة حروريّ يقال له سعيد بن بهدل الشيبانى فى مائتين من أهل الجزيرة، فاغتنم سعيد قتل الوليد واشتغال مروان بالشام فخرج بأرض كفر توثا «4» ،(21/516)
وخرج بسطام البيهسىّ، وهو مخالف لرأيه فى مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه.
فلما تقاربا أرسل سعيد أحد قوّاده فى مائة وخمسين، فقتلوا بسطاما ومن معه إلا أربعة عشر رجلا. ثم مضى سعيد نحو العراق فمات فى الطريق، واستخلف الضحّاك بن قيس. فأتى أرض الموصل ثم شهرزور، فاجتمعت عليه الصّفريّة حتى صار فى أربعة آلاف، وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومروان بالجزيرة. فكتب مروان إلى النّضر بن سعيد الحرشىّ «1» - وهو أحد قوّاد ابن عمر بولاية العراق- فلم يسلّم ابن عمر إليه العمل، فشخص النّضر إلى الكوفة و [بقى] «2» عبد الله بالحيرة، وتحاربا أربعة أشهر.
فلما سمع الضحّاك باختلافهم أقبل نحوهم، وقصد العراق سنة [127 هـ] سبع وعشرين، فأرسل ابن عمر إلى النّضر فى الاجتماع عليه، فتعاقدا واجتمعا بالكوفة؛ وكان كلّ منهما يصلّى بأصحابه.
وأقبل الضحاك فنزل بالنّخيلة «3» فى شهر رجب سنة [127 هـ] سبع وعشرين ومائة، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فكشفوا ابن عمر، وقتلوا أخاه عاصما وجعفر بن العباس الكندىّ، ودخل ابن عمر خندقه، وبقى الخوارج عليهم إلى الليل ثم انصرفوا؛ وذلك(21/517)
فى يوم الخميس ثم اقتتلوا يوم الجمعة، فانهزم أصحاب ابن عمر.
فلما كان يوم السبت تسلّلوا «1» إلى واسط، فلحق بها وجوه الناس، فرحل عند ذلك ابن عمر إليها، فلم يأمنه عبيد الله بن العبّاس الكندى على نفسه، فسار مع الضحاك وبايعه.
ولما نزل ابن عمر إلى واسط نزل بدار الحجّاج بن يوسف، وعادت الحرب بينه وبين النّضر إلى ما كانت عليه، وسار الضحّاك من الكوفة إلى واسط، ونزل باب المضمار، فترك ابن عمر والنّضر الحرب بينهما، واتّفقا على قتال الضحاك، فلم يزالوا على ذلك شعبان ورمضان وشوّال، والقتال بينهم متواصل. ثم صالحه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن هشام، وبايعاه، ودفعاه إلى مروان.
قال: وكاتب أهل الموصل الضحّاك فى القدوم ليمكّنوه من البلد، فسار إلى الموصل ففتح أهلها له أبوابها، فدخلها، واستولى عليها وعلى كورها، وذلك فى سنة [128 هـ] ثمان وعشرين، فبلغ مروان خبره وهو يحاصر حمص، فكتب إلى ابنه عبد الله- وهو خليفته بالجزيرة- أن يسير إلى نصيبين، ويمنع الضحاك من توسّط الجزيرة؛ فسار إليها فى سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، وسار إليه الضحاك، فحصر عبد الله بن مروان بنصيبين، وكان مع الضحّاك ما يزيد على مائة ألف.
ثم سار مروان إليه، والتقوا بنواحى كفر توثا من أعمال(21/518)
ماردين، فقاتله يومه أجمع، فقتل الضحاك ولم يعلم به مروان ولا أصحابه؛ ثم بلغ مروان قتله، فاستخرجه من بين القتلى وفى وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة.
وبعث مروان رأسه إلى مدائن الجزيرة.
وقيل: إنّ قتله كان فى سنة [129 هـ] تسع وعشرين ومائة [والله أعلم «1» ] .
وحيث ذكرنا أخبار الضحاك فلنذكر أخبار من خرج بعده فى أيام مروان:
ذكر خبر الخيبرى (الخارجى) «2» وقتله وقيام شيبان
قال: ولما قتل الضحّاك أصبح أهل عسكره فبايعوا الخيبرىّ؛ وكان سليمان بن هشام معه، وأصبحوا واقتتلوا، فحمل الخيبرىّ على مروان فى نحو أربعمائة فارس من [أهل «3» ] الشّراة، فهزم مروان وهو فى القلب، وخرج من العسكر منهزما، ودخل الخيبرى ومن معه عسكر مروان ينادون بشعارهم ويقتلون من أدركوه، حتى انتهوا إلى خيم مروان، فدخلها الخيبرى وجلس على فرش مروان، هذا وميمنة مروان ثابتة، وعليها ابنه عبد الله؛ وميسرته [ثابتة «4» ] وعليها إسحاق بن مسلم العقيلى.
فلما رأى أهل العسكر قلّة من مع الخيبرى ثار إليه «5» عبيدهم بعمد الخيم، فقتلوا الخيبرىّ وأصحابه جميعا فى خيم مروان(21/519)
وحولها، وبلغ مروان الخبر، وقد صار بينه وبين العسكر خمسة أميال أو ستة منهزما، فانصرف إلى عسكره، وبات ليلته تلك، وانصرف الخوارج فولّوا عليهم شيبان.
ذكر أخبار شيبان الحرورى وما كان من أمره إلى أن قتل
هو شيبان بن عبد العزيز أبو الدّلفاء «1» اليشكرى.
قال: ولما بايعوه بعد قتل الخيبرىّ أقام يقاتل مروان، وتفرّق عنه كثير من أصحابه، فبقى فى نحو أربعين ألفا، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى الموصل فيجعلوها ظهرهم.
فارتحلوا وتبعهم مروان حتى انتهوا إلى الموصل فعسكروا شرقى دجلة، وعقدوا عليها جسرا، وخندق مروان بإزائهم، وأهل الموصل يقاتلون مع الخوارج، فأقام مروان ستة أشهر يقاتلهم، وقيل تسعة أشهر.
وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا، بجميع من معه إلى العراق وعلى الكوفة المثنّى ابن عمران العائذى، وهو خليفة الخوارج بالعراق، فلقى ابن هبيرة بعين التّمر، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الخوارج، ثم تجمّعوا بالكوفة بالنّخيلة فهزمهم ابن هبيرة، ثم اجتمعوا بالصّراة، فأرسل إليهم شيبان عبيد بن سوّارفى خيل عظيمة، فالتقوا بالصّراة «2» ، فانهزمت الخوارج، وقتل عبيدة، ولم يبق لهم(21/520)
بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة على العراق، وسار إلى واسط، وأخذ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، فأرسل سليمان إلى نباتة داود بن حاتم، فالتقوا على شاطىء دجيل؛ فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم.
وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما استولى على العراق يأمره بإرسال عامر بن ضبارة المرّى إليه، فسيّره فى سبعة آلاف أو ثمانية، فبلغ شيبان خبره، فأرسل الجون بن كلاب الخارجى فى جمع، فالتقوا فهزم عامر؛ فأمدّه مروان بالجنود، فقاتل الخوارج فهزمهم؛ وقتل الجون، وسار إلى الموصل، فلما بلغ [شيبان قتل] «1» الجون ومسير عامر نحوه كره أن يقيم بين العسكرين. فارتحل بمن معه، وقدم عامر على مروان بالموصل فسيّره فى جمع كثير فى أثر شيبان، وأمره ألّا يبدأه بقتال، فإن قاتله شيبان قاتله، وإن أمسك عنه أمسك. فكان كذلك، حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء فارس «2» ، وبها عبد الله بن معاوية بن جعفر.
وسار إلى نحو كرمان، فأدركه عامر، فالتقوا واقتتلوا، وانهزم شيبان إلى سجستان فهلك بها، وذلك فى سنة [130 هـ] ثلاثين ومائة.
وقيل: بل كان قتال شيبان ومروان على الموصل نحو شهر.
ثم انهزم شيبان حتى لحق بفارس، وعامر يتبعه، وسار إلى جزيرة(21/521)
ابن كاوان، ثم إلى عمان فقتله جلندى بن مسعود بن جيفر ابن جلندى «1» الأزدى سنة [134 هـ] أربع وثلاثين ومائة، وسنذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة العباسية.
فلنرجع إلى تتمة حوادث سنة [127 هـ] سبع وعشرين مائة وما بعدها.
فيها كان من أخبار الأندلس وشيعة بنى العباس ما نذكره إن شاء الله فى مواضعه.
وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مروان على مكة والمدينة والطائف، وكان العامل على العراق النّضر ابن سعيد الحرشى، وكان من أمره وأمر ابن عمر والضحاك ما قدّمنا ذكره. وكان بخراسان نصر بن سيّار [و] «2» الكرمانى، والحارث ابن سريج ينازعانه.
وفيها مات سويد بن غفلة. وقيل سنة إحدى وثلاثين.
وقيل سنة اثنتين وثلاثين، وعمره مائة وعشرون سنة. والله تعالى أعلم.(21/522)
سنة (128 هـ) ثمان وعشرين ومائة:
ذكر مقتل الحارث بن سريج وغلبة الكرمانى على مرو
وفى هذه السنة كان مقتل الحارث بن سريج وغلبة الكرمانى على مرو.
وكان سبب ذلك أنّ ابن هبيرة لما ولى العراق كتب إلى نصر ابن سيّار بعهد خراسان، فبايع لمروان بن محمد، فقال الحارث:
إنما أمّننى يزيد ولم يؤمّنى مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد، فلا آمنه. فخالف نصرا فأرسل إليه [نصر «1» ] يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة، فلم يجبه إلى ذلك، وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر: أن اجعل الأمر شورى، فأبى نصر، وأمر الحارث جهم ابن صفوان رأس الجهميّة، وهو مولى راسب، أن يقرأ سيرته وما يدعو إليه على الناس، [ففعل «2» ] ، فلما سمعوا ذلك [كثروا و «3» ] كثر جمعه.
وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود، فأرسل إليه نصر إن كنت كما تزعم وإنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون ملك بنى أمية فخذ منى خمسمائة رأس «4» ومائتى بعير، واحتمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب، وسر، فلعمرى إن كنت(21/523)
صاحب ما ذكرت إنى لفى يدك، وإن كنت لست ذاك فقد أهلكت عشيرتك؛ ثم عرض عليه نصر أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف، فلم يقبل. فقال له نصر: فابدأ بالكرمانى فإن قتلته فأنا فى طاعتك، فلم يقبل.
وأمر الحارث أن تقرأ سيرته فى الأسواق والمسجد وعلى باب نصر، فقرئت، فأتاه خلق كثير، وقرأها رجل على باب نصر.
فضربه غلمان نصر، فنابذهم الحارث وتجهّز للحرب، ودلّه رجل من أهل مرو على نقب فى سورها، فمضى إليه الحارث فنقبه.
ودخل المدينة من ناحية باب بالين. فقاتله جهم بن مسعود الناجى.
فقتل جهم، وانتهبوا منزل سلّم بن أحوز، وقتل من كان بحرس باب بالين وذلك لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة يوم الاثنين.
وركب الحارث فى سكة السغد «1» ، فرأى أعين مولى حيّان فقاتله، فقتل أعين، وركب سلّم حين أصبح، وأمر مناديا فنادى:
من جاء برأس فله ثلاثمائة. فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث بعد أن قاتلهم الليل كلّه.
وأتى سلّم عسكر الحارث فقتل كاتبه يزيد بن داود، وقتل الرجل الذى دلّ الحارث على النقب، وأرسل نصر إلى الكرمانى فأتاه على عهد، وعنده جماعة، فوقع بين سلّم بن أحوز والمقدام بن نعيم كلام، فأغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه، وأعان كلّ واحد منهما نفر من الحاضرين؛ فخاف الكرمانى أن يكون مكرا من نصر، فقام(21/524)
وتعلّقوا به، فلم يجلس، وركب فرسه، ورجع، وقال: أراد نصر الغدر بى.
وأسر يومئذ جهم بن صفوان وكان مع الكرمانى فقتل، وأرسل الحارث ابنه حاتما إلى الكرمانىّ، فقال له محمد بن المثنى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان.
فلما كان الغد ركب الكرمانىّ فقاتل أصحاب نصر، ووجّه أصحابه يوم الأربعاء إلى نصر، فتراموا ثم تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. والتقوا يوم الجمعة فانهزمت الأزد حتى وصلوا إلى الكرمانىّ، فأخذ اللواء بيده، فقاتل به فانهزم أصحاب نصر.
وأخذوا لهم ثمانين فرسا، وصرع تميم بن نصر، وسقط سلّم ابن أحوز فحمل إلى عسكر نصر.
فلما كان الليل خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدى، وكان يحمى أصحاب نصر، واقتتلوا ثلاثة أيام، فانهزم أصحاب الكرمانىّ فى آخر يوم، وهم الأزد وربيعة، فنادى الخليل بن غزوان:
يا معشر ربيعة واليمن! فدخل الحارث السوق ففتّ فى أعضاد المضريّة، وهم أصحاب نصر، فانهزموا وترجّل تميم بن نصر فقاتل.
فلما هزمت اليمانيّة مضر أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّروننى بانهزامكم. وأنا كافّ. فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانىّ.
فأخذ عليه نصر العهود بذلك، وقدم على نصر عبد الحكم «1»(21/525)
ابن سعيد العوذى «1» وأبو جعفر عيسى بن جرز من مكة: والعوذ «2» :
بطن من الأزد، فقال أبو جعفر لنصر: أيها الأمير، حسبك من الولاية وهذه الأمور «3» ، فقد أظلّك أمر عظيم، سيقوم رجل مجهول النّسب يظهر السّواد، ويدعو إلى دولة تكون فيغلب «4» على الأمر، وأنتم تنظرون.
فقال نصر: ما أشبه أن يكون كما تقول لقلّة الوفاء وسوء ذات البين «5» .
فقال: إنّ الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانى من ذلك ببعيد.
قال: ولما خرج نصر من مرو وغلب عليها الكرمانى خطب الناس فأمّنهم ثم هدم الدّور ونهب الأموال، فأنكر الحارث عليه ذلك، فهمّ الكرمانىّ به، ثم تركه، واعتزل بشر بن جرموز الضبىّ فى خمسة آلاف، وقال الحارث: إنما قاتلت معك طلبا للعدل، فأما إذ تتبع «6» الكرمانى فما تقاتل إلا ليقال غلب الحارث، وهؤلاء يقاتلون عصبيّة؛ فلست مقاتلا معك، فنحن الفئة العادلة، لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأتى الحارث مسجد عياض، وأرسل إلى(21/526)
الكرمانى يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرمانى، فانتقل الحارث عنه، وأقاموا أياما.
ثم إنّ الحارث أتى السّور فثلم فيه ثلمة، ودخل البلد، وأتى الكرمانى، فاقتتلوا، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكرهم، والحارث على بغل، فنزل عنه وركب فرسا، وبقى فى مائة، فقتل عند شجرة زيتون أو غبيراء «1» ، وقتل أخوه سوادة وغيرهما.
وقيل: كان سبب قتله أنّ الكرمانىّ خرج إلى بشر بن جرموز عند اعتزاله، ومعه الحارث، فأقام أياما بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم قرب منه ليقاتله، فندم الحارث على اتّباع الكرمانىّ وقال: لا تعجل إلى قتالهم فأنا أردّهم عليك.
فخرج فى عشرة فوارس فأتى عسكر بشر، فأقام معهم. وخرج المضريّة أصحاب الحارث إليه، فلم يبق مع الكرمانىّ مضرىّ غير سلمة بن أبى عبد الله، فإنه قال: لم أر الحارث إلّا غادرا، و [غير] «2» المهلّب بن إياس، فقاتلهم الكرمانى مرارا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم مرّة لهؤلاء ومرة لهؤلاء.
ثم ارتحل الحارث بعد أيام، فنقب سور مرو ودخلها، وتبعه الكرمانى، فدخلها أيضا، فقالت المضريّة للحارث: قد فررت غير مرّة، فترجّل، فقال: أنا لكم فارسا خير منى لكم راجلا. فقالوا:(21/527)
لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل، فاقتتلوا هم والكرمانى، فقتل الحارث وأخواه وبشر بن جرموز، وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصفت مرو للكرمانى واليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر ابن سيّار للحارث حين قتل «1» :
يا مدخل الذّلّ على قومه ... بعدا وسحقا لك من هالك
شؤمك أردى مضرا كلّها ... وعضّ «2» من قومك بالحارك
ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع فى عمرو ولا مالك «3»
ولابنى سعد إذا ألجموا ... كلّ طمرّ لونه حالك
وفى هذه السنة كان اجتماع أبى حمزة الخارجى وعبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحقّ، واتّفقا على الخروج على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وحجّ بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامل مكّة والمدينة، وكان بالعراق عمال الضحاك الخارجى وعبد الله بن عمر ابن عبد العزيز، وبخراسان نصر بن سيار والفتنة قائمة.(21/528)
سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة: ذكر مقتل الكرمانى
وهو جديع بن على الأزدى قال: ولما خلصت مرو للكرمانى وتنحّى نصر عنها أرسل نصر أصحابه لقتاله مرارا، كلّ ذلك والظفر لأصحاب الكرمانى، ثم خرجوا جميعا واقتتلوا قتالا شديدا، وذلك بعد ظهور أمر أبى مسلم الخراسانى ودعوته لبنى العباس، فكتب أبو مسلم إلى نصر والكرمانى: إن الإمام أوصانى بكما. ثم أقبل بمن معه حتى نزل خندقيهما، فهابه الفريقان. وبعث إلى الكرمانى: إنى معك. فقبل ذلك، وانضمّ أبو مسلم إليه، فاشتدّ ذلك على نصر، وأرسل إلى الكرمانى يخوّفه من أبى مسلم، ويقول له: ادخل إلى مرو، واكتب بيننا كتابا بالصّلح، وهو يريد أن يفرّق بينهما، فدخل الكرمانى منزله، وأقام أبو مسلم فى العسكر، وخرج الكرمانى حتى وقف فى الرّحبة فى مائة فارس، وأرسل إلى نصر أن اخرج لنكتب الكتاب.
فلما نظر نصر إلى غرّة الكرمانى أرسل إليه ثلاثمائة فارس، فاقتتلوا قتالا شديدا فطعن الكرمانى فى خاصرته، فخرّ عن دابّته، وحماه أصحابه حتى جاءهم مالا قبل لهم به. فقتل نصر الكرمانى وصلبه، وصلب معه سمكة.
فأقبل ابنه علىّ وقد جمع جمعا كثيرا، وانضمّ إلى أبى مسلم، وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة. ودخل أبو مسلم مرو على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الدولة العباسية.
قال: ولما رأى نصر قوة أبى مسلم كتب إلى مروان بن محمد(21/529)
يعلمه حال أبى مسلم وخروجه وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم ابن محمد، وكتب إليه بأبيات شعر، وهى «1» :
أرى بين الرّماد وميض نار «2» ... فأوشك أن يكون له «3» ضرام
فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب مبدؤها كلام «4»
فقلت من التعجّب ليت شعرى ... أيقاظ أميّة أم نيام
فكتب إليه مروان: إن الشاهد يرى مالا يرى الغائب، فاحسم الثّؤلول «5» قبلك.
فقال نصر: أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أنّه لا نصر عنده.
وكتب نصر إلى يزيد بن هبيرة بالعراق يستمدّه. فلما قرأ كتابه قال: لا تكثر، فليس له عندى رجل. ثم قبض مروان على إبراهيم الإمام وحبسه، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم.
ذكر خبر أبى حمزة المختار
ابن عوف الأزدى البصرى مع طالب الحقّ عبد الله بن محمد ابن يحيى الحضرمى كان المختار من الخوارج الأباضيّة، وكان يوافى مكة فى كل سنة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد، فلم يزل كذلك حتى وافى عبد الله بن محمد بن يحيى الحضرمى المعروف بطالب الحقّ فى آخر سنة [128 هـ] ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل،(21/530)
أسمع كلاما حسنا، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معى، فإنى رجل مطاع فى قومى، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف «1» مروان، وقد كان أبو حمزة اجتاز مرّة بمعدن بنى سليم «2» ، والعامل عليه كثير بن عبد الله، فسمع كلام أبى حمزة فجلده أربعين سوطا، فلما ملك أبو حمزة المدينة على ما نذكره تغيّب كثير.
وفى هذه السنة قدم أبو حمزة إلى الحجّ من قبل عبد الله بن محمد طالب الحقّ، فبينما الناس بعرفة ما شعروا إلّا وقد طلعت عليه أعلام وعمائم سود على رءوس الرماح، وهم سبعمائة، ففزع الناس، وسألوهم عن حالهم، فأخبروهم بخلافهم مروان وآله، فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكّة والمدينة، وطلب منهم الهدنة أيام الحج، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ وعليه أشحّ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى تنفر الناس النفر الأخير، فوقفوا بعرفة على حدة، ودفع [بالناس] «3» عبد الواحد، ونزل بمنزل السلطان بمنى، ونزل أبو حمزة بقرين الثّعالب. فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد وأخلى مكّة فدخلها أبو حمزة بغير قتال، فقال بعضهم فى عبد الواحد «4» :(21/531)
زار الحجيج عصابة قد خالفوا ... دين الإله ففرّ عبد الواحد
ترك الحلائل والإمارة هاربا ... ومضى يخبّط كالبعير الشارد
ومضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، وزاد أهلها فى العطاء عشرة عشرة، واستعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فخرجوا حتى وصلوا العقيق، وأتتهم رسل أبى حمزة يقولون: إنّنا والله ما لنا بقتالكم من حاجة، دعونا نمضى إلى عدوّنا.
فأتى أهل المدينة وساروا حتى نزلوا قديدا «1» ، وكانوا مترفين «2» ليسوا بأصحاب حرب، فلم يشعروا إلّا وقد خرج عليهم أصحاب أبى حمزة من الغياض فقتلوهم. وكانت المقتلة فى قريش، فأصيب منهم عدد كثير، وقدم المنهزمون «3» المدينة، فكانت المرأة تقيم النوائح على حميمها، ومعها النساء فتأتيهم الأخبار عن رجالهم، فيخرجن امرأة امرأة كلّ واحدة تذهب لقتل «4» رجلها فلا يبقى عندها امرأة، [وذلك] «5» لكثرة من قتل.
قيل: كان عدد القتلى سبعمائة، وكانت هذه الوقعة لسبع مضين من صفر سنة ثلاثين ومائة. [والله أعلم] «6» .(21/532)
ذكر دخول أبى حمزة المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
قال: ودخل أبو حمزة المدينة فى ثالث [عشر] «1» صفر، ومضى عبد الواحد إلى الشام.
ولما دخل أبو حمزة رقى المنبر فخطب، وقال: يأهل المدينة، مررت زمان الأحول- يعنى هشام بن عبد الملك- وقد أصاب ثماركم عاهة، فكتبتم إليه تسألونه أن يضع عنكم خرصكم «2» . ففعل فزاد الغنىّ غنى والفقير فقرا، فقلتم له: جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرا، ولا جزاه. واعلموا يأهل المدينة أنّا لم نخرج من ديارنا أشرا ولا بطرا، ولا عبثا ولا لدولة [ملك] «3» نريد أن نخوض فيه «4» ولا لثأر قديم نيل منا، ولكنا لمّا رأينا مصابيح الحقّ قد عطّلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط- ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعى الله، ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض؛ فأقبلنا من قبائل شتّى، ونحن قليلون مستضعفون فى الأرض.
فآوانا وأيّدنا بنصره، فأصبحنا بنعمته إخوانا.
ثم لقينا رجالكم فدعوناهم إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فدعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بنى مروان، فشتّان- لعمر الله- ما بين الغىّ والرّشد. ثم أقبلوا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه،(21/533)
وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنّه، وأقبل أنصار الله تعالى [كتائب] «1» بكلّ مهنّد ذى رونق، فدارت رحانا، واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون.
وأنتم يأهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين.
يأهل المدينة؛ أوّلكم خير أول، وآخركم شرّ آخر، يأهل المدينة، أخبرونى عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى فى كتابه على القوىّ والضعيف، فجاء تاسع ليس له فيها سهم، فأخذها لنفسه مكابرا محاربا ربّه.
يأهل المدينة، بلغنى أنكم تنتقصون أصحابى، قلتم: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا شبابا أحداثا، شباب والله «2» ، إنهم مكتهلون فى شبابهم، غضّة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الحقّ أقدامهم.
قال: وأحسن السيرة مع أهل المدينة، واستمال الناس حتى سمعوه يقول: من زنى فهو كافر، من سرق فهو كافر، ومن شكّ فى كفرهما فهو كافر.
وأقام أبو حمزة بالمدينة ثلاثة أشهر، ثم ودّعهم، وقال: يأهل المدينة؛ إنّا خارجون إلى مروان، فإن نظفر نعدل فى أحكامكم ونحملكم على سنّة نبيكم، وإن يكن ما تتمنّون فسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون.(21/534)
ذكر مقتل أبى حمزة
قال: ثم سار أبو حمزة نحو الشام، وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس، واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد ابن عطية السعدى- سعد هوازن- وأمره أن يجدّ السير ويقاتل الخوارج، فإن ظفر فيسير حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن «1» يحيى طالب الحقّ، فسار ابن عطية، فلقى أبا حمزة بوادى القرى، فقال أبو حمزة لأصحابه: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم. فصاحوا بهم:
ما تقولون فى القرآن والعمل به؟ فقال ابن عطية: نضعه فى جوف الجوالق. قال: فما تقولون فى مال اليتيم؟ قال ابن عطية: نأكل ماله ونفجر بأمّه- فى أشياء سألوه عنها.
فلما سمعوا كلامه قاتلوه حتى أمسوا فصاحوا: ويحك يابن عطية! إنّ الله قد جعل الليل سكنا، فاسكن.
فأبى وقاتلهم، فانهزم الخوارج، وأتوا المدينة فقتلهم أهلها، وسار ابن عطية إلى المدينة، فأقام بها شهرا وسار إلى اليمن، واستخلف على المدينة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، وعلى مكة رجل من أهل الشام.
ذكر مقتل عبد الله بن يحيى المنعوت بطالب الحقّ وقتل ابن عطية
قال: وأقبل ابن عطية إلى اليمن، فبلغ عبد الله خبره وهو بصنعاء، فأقبل إليه بمن معه، والتقوا واقتتلوا، فقتل طالب الحق، وحمل(21/535)
رأسه إلى مروان بالشام، ومضى ابن عطية إلى صنعاء. فدخلها وأقام بها، فكتب إليه مروان يأمره أن يسرع السير ليحجّ بالناس؛ فسار فى اثنى عشر رجلا ومعه أربعون ألف دينار، وخلّف عسكره وخيله بصنعاء؛ فبينا هو يسير أتاه ابنا جمانة «1» المراديّان فى جمع كثير، فقالوا له ولأصحابه: أنتم لصوص، فأخرج ابن عطيّة عهده على الحج، وقال: هذا عهد أمير المؤمنين، وأنا ابن عطية.
فقالوا: هذا باطل، وأنتم لصوص، فقاتلهم ابن عطية حتى قتل فى سنة [130 هـ] ثلاثين ومائة.
نعود إلى تتمة حوادث سنة (129 هـ) تسع وعشرين ومائة:
فى هذه السنة كان ظهور الدولة العباسية بخراسان على ما تذكره فى أخبار الدولة العباسية.
وفيها غلب عبد الله بن معاوية على فارس على ما نذكر ذلك فى فى أخبار آل أبى طالب.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الواحد، وكان هو العامل على مكّة والمدينة والطائف وعلى العراق ابن هبيرة، وعلى خراسان نصر بن سيّار، والفتنة قائمة.
سنة (130 هـ) ثلاثين ومائة:
فى هذه السنة دخل أبو مسلم الخراسانى مرو، وبايع الناس لبنى العباس على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وفيها هرب نصر بن سيّار عن خراسان.(21/536)
وفيها كان من أخبار الدولة العباسية ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها غزا الوليد بن هشام الصائفة، فنزل العمق «1» وبنى حصن مرعش.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير مكّة والمدينة والطائف.
سنة (131 هـ) إحدى وثلاثين ومائة:
فى هذه السنة مات نصر بن سيّار، ودخل قحطبة الرّىّ من قبل أبى مسلم الخراسانى، ثم دخل أصفهان، وفتحت شهرزور لبنى العباس، وسار قحطبة إلى العراق لقتال ابن هبيرة.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدى، وهو ابن أخى عبد الملك بن محمد، وكان على الحجاز؛ ولما بلغه قتل عمه عبد الملك توجّه إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة؛ وبقر بطون نسائهم، وقتل الصّبيان، وحرق بالنار من قدر عليه منهم، وكان على العراق يزيد بن هبيرة.
سنة (132 هـ) اثنتين وثلاثين ومائة:
فى هذه السنة كانت هزيمة يزيد بن هبيرة عامل العراق.
وفيها خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسرى مسوّدا بالكوفة، وأخرج عامل ابن هبيرة منها على ما نذكر ذلك [إن شاء الله تعالى] «2» .(21/537)
وفيها كان انقضاء الدّولة الأموية، وابتداء الدولة العباسية، وبيعة أبى العباس السفّاح بالخلافة.
وسار عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن عباس إلى مروان بن محمد بأمر السفاح، فلقيه بزاب الموصل، واقتتلوا، فانهزم مروان إلى مصر، فلحقه صالح بن على أخو عبد الله ببوصير «1» ، فقتله ليلة الأحد لثلاث بقين من ذى الحجة على ما نذكر ذلك إن شاء الله مبيّنا فى أخبار الدولة العباسية، جريا فى ذلك على القاعدة التى قدّمناها.
ولما قتل مروان بن محمد كان له من العمر تسع وخمسون سنة.
وقيل: أقلّ من ذلك.
وكانت ولايته إلى أن بويع للسفاح خمس سنين وشهرا، وإلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر.
وكان نقش خاتمه: اذكر الموت يا غافل.
وكان له من الأولاد: عبد الله، وعبيد الله؛ هربا بعد قتله.
فأما عبد الله فقتله الحبشة، وعبيد الله أعقب.
وقيل: إنه أخذ وحبس إلى أيام الرشيد، فمات ببغداد، بعد أن أضر.
كاتبه: عبد الحميد بن يحيى مولى بنى عامر.
قاضيه: عثمان التيمى.
حاجبه: مقلار «2» مولاه.(21/538)
الأمراء بمصر: منهم حسّان بن عتاهية، أقام ستة عشر يوما ثم وليها حفص بن الوليد، ثم عزله مروان وولى جوهر «1» بن سهل العجلانى، ثم بعثه مددا إلى ابن هبيرة، وولّاها المغيرة بن عبيد الله، ثم توفى فولّاها عبد الملك بن مروان ابن موسى بن نصير.
القاضى بها: عبد الرحمن بن سالم بعد أن صرف حسين بن نعيم، ولم يزل بها قاضيا إلى إمارة عبد الملك بن يزيد.
جامع أخبار بنى أمية
كانت مدة ولايتهم منذ خلص الأمر لمعاوية بن أبى سفيان وإلى أن قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، منها مدة عبد الله بن الزّبير تسع سنين واثنان وعشرون يوما.
وعدة من ولى منهم أربعة عشر رجلا، وهم: معاوية بن أبى سفيان، يزيد بن معاوية، الوليد بن يزيد بن عبد الملك. معاوية ابن يزيد بن معاوية. مروان بن الحكم. عبد الملك بن مروان. هشام ابن عبد الملك. سليمان بن عبد الملك. عمر بن عبد العزيز. رحمه الله تعالى.
يزيد بن عبد الملك. مروان بن محمد بن مروان. الوليد بن يزيد. يزيد ابن الوليد بن عبد الملك. إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك. يزيد ابن «2» معاوية بن عبد الملك، هذا وعليه انقرضت دولتهم بالمشرق،(21/539)
ثم قامت لهم دولة بالأندلس، سنذكرها إن شاء الله تعالى بعد ذكرنا الدولة العباسية، وإنما فصلنا ما بين دولتهم بالمشرق ودولتهم بالمغرب وجعلنا الدولة العباسية بينهما لتكون أخبار الدولتين سياقة، ولأن بعض أخبار الدولة العباسيّة متعلّق بأخبار الدولة الأموية، فإذا ذكرناها بعد لا ينقطع سياق الأخبار، لأن دولتهم بالأندلس لم تكن تلو دولتهم هذه، بل كانت بعد سنين من قيام الدولة العباسية.
فصاروا إذا كالخوارج عليهم، والله تعالى الموفق للصواب والهادى له بمنه وكرمه. يتلوه إن شاء الله بعد فى أول الجزء الموفى عشرين من الكتاب: الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية وغيرها.
وكتبه الحقير محمد ابن أبى النصر المنوفى الحنفى غفر الله له آمين. «1»
والله تعالى الموفق للصواب والهادى له(21/540)
تم الجزء الحادى والعشرون ويليه الجزء الثانى والعشرون وأوله: أخبار الدولة العباسية(21/541)
فهرس الجزء الحادى والعشرين
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
أولا- الموضوعات
مقدمة 5
أخبار المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى 7
وثوب المختار بالكوفة 12
عمال المختار بن أبى عبيد 22
قتل المختار قتلة الحسين 23
بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة 34
مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير وظهور ذلك له 35
امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية 38
مسير إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد 41
ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد 44
خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به، ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل 52
أخبار نجدة بن عامر الحنفى حين وثب باليمامة وما كان من أمره 54(21/543)
الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك 58
الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير خلاف ما ذكر فى الأعمال الداخلة فى ولايته على حكم السنين 59
سنة أربع وستين 59
سنة خمس وستين 59
بناء ابن الزبير الكعبة 60
ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان 61
سنة ست وستين 64
ذكر الفتنة بخراسان 64
سنة سبع وستين 67
سنة ثمان وستين 68
ذكر حصار الرى وفتحها 68
أخبار عبيد الله بن الحر ومقتله 68
سنة تسع وستين 77
سنة سبعين 77
يوم الجفرة 77
سنة إحدى وسبعين 80
سنة اثنتين وسبعين 80
سنة ثلاث وسبعين 80
بيعة مروان بن الحكم 81
السبب فى بيعة مروان 83
موقعة مرج راهط 88
مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها 94
ذكر البيعة لعبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان بن الحكم بولاية العهد 94(21/544)
وفاة مروان بن الحكم 96
بيعة عبد الملك بن مروان 98
مقتل عمرو بن سعيد الأشدق، وشىء من أخباره ونسبه 100
نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية 106
عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم 108
خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى وما كان بين قيس وتغلب من الحروب 110
يوم ماكسين 111
يوم الثرثار الأول 112
يوم الثرثار الثانى 112
يوم الفدين 112
يوم السكير 113
يوم المعارك 113
يوم الشرعبية 113
يوم البليخ 114
يوم الحشاك ومقتل عمير بن الحباب السلمى وابن هوبر التغلبى 114
الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى 116
خبر يوم البشر 117
مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق وقتل مصعب بن الزبير واستيلاء عبد الملك على العراق 120
خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصلح بينهما 128
مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان 132
مقتل عبد الله بن الزبير وشىء من أخباره 133
نبذة من سيرته وأخباره 143(21/545)
مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان وما فعله الحجاج من هدم الكعبة وبنائها ومسيره إلى المدينة وما فعله فيها بالصحابة رضى الله عنهم 145
أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقل بالأمر 147
مقتل أبى فديك الخارجى 150
ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة 151
إجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف 152
الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرى بن الفجاءة إياهم ومبايعتهم عبد رب الكبير والحرب بينه وبين المهلب ومقتله 155
مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة 159
خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى 161
بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث 164
الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة 165
مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه 166
الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى 167
الوقعة بين شبيب وسورة 168
الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد 169
مسير شبيب إلى الكوفة 172
محاربة شبيب أهل البادية 173
دخول شبيب الكوفة 174
محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر 175
محاربة الأمراء الذين ندبهم الحجاج لقتاله وقتال محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة 176
محاربته عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن 179(21/546)
محاربة عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما 183
قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها 188
مهلك شبيب 190
خروج مطرف بن المغيرة ومقتله 193
الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين 196
غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل 197
مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده 199
غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر 201
دخول الديلم قزوين وقتلهم 202
فتح قلعة نيزك بباذغيس 203
فتح المصيصة 204
الحوادث الكائنة فى أيام عبد الملك بن مروان 204
ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية 205
ولاية الحجاج بن يوسف العراق، وما فعله عند مقدمه 207
وثوب أهل البصرة بالحجاج 214
ما كلم به الحجاج أنس بن مالك وشكواه إياه 219
ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله 222
ولاية مجاعة بن سعر التميمى على السند ووفاته 222
خبر الزنج بالبصرة 222
ضرب الدنانير والدراهم الإسلامية 223
مقتل بكير بن وساج 224
حوادث سنة 78 هـ 227
حوادث سنة 79 هـ 228
حوادث سنة 80 هـ 228
حوادث سنة 81 هـ 229(21/547)
مقتل بحير بن ورقاء 229
خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، وما كان بينهما من الحروب 233
الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث 237
وقعة دير الجماجم 239
الوقعة بمسكن 247
مسير عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وما كان من أمره وأمر أصحابه 249
بقية حوادث سنة 81 هـ 259
حوادث سنة 82 هـ 259
وفاة المهلب بن أبى صفرة ووصيته لبنيه وولاية ابنه يزيد خراسان 259
خبر عمر بن أبى الصلت وخلعه الحجاج بالرى وما كان من أمره 261
بناء واسط 262
حوادث سنة 84 هـ 263
حوادث سنة 85 هـ 263
عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل 263
أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ 265
وفاة عبد العزيز بن مروان، وولاية عبد الملك بن عبد الله مصر والبيعة للوليد وسليمان ابنى عبد الملك بولاية العهد 275
وفاة عبد الملك بن مروان 277
وصيته بنيه عند موته 278
أولاده وأزواجه 278
شىء من أخباره وعماله 279
الأمراء بمصر وقضاتها 280
بيعة الوليد بن عبد الملك 281
الغزوات والفتوح التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك 282(21/548)
ولاية قتيبة بن مسلم خراسان، وغزواته وفتوحه 282
قتيبة ونيزك 284
غزوة بيكند وفتحها 284
غزو نومشكت، وراميثنة، وصلح أهلها، وقتال الترك والصغد وأهل فرغانة 285
غزو بخارى وفتحها 286
غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل 289
غزوة شومان وكش ونسف وفتح ذلك 294
ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد 295
فتح سمرقند 296
غزو الشاش وفرغانة 299
فتح مدينة كاشغر 301
غزوات قتيبة وفتوحاته 303
فتح السند وقتل ملكها، وما يتصل بذلك من أخبار العمال عليها 304
ذكر الغزوات إلى بلاد الروم وما فتح منها. وغزوات الصوائف على حكم السنين 311
فتح طوانة وغيرها من بلاد الروم 311
الحوادث الكائنة فى أيام الوليد بن عبد الملك خلاف ما تقدم 313
فى سنة 86 هـ 313
فى سنة 87 هـ 314
فى سنة 88 هـ 314
عمارة مسجد النبى والزيادة فيه 314
فى سنة 89 هـ 316
ولاية خالد بن عبد الله القسرى مكة، وما خطب الناس به وقاله 316
فى سنة 90 هـ 316
هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج 316
فى سنة 91 هـ 319(21/549)
فى سنة 92 هـ 320
فى سنة 93 هـ 321
عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز 321
فى سنة 94 هـ 322
مقتل سعيد بن جبير 322
وفاة زين العابدين على بن الحسين 324
شىء من سيرته 324
فى سنة 95 هـ: 331
وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى وشىء من أخباره 331
فى سنة 96 هـ: 335
وفاة الوليد بن عبد الملك وشىء من أخباره 335
بيعة سليمان بن عبد الملك 338
قتل قتيبة بن مسلم 338
فى سنة 97 هـ 344
ولاية يزيد بن المهلب خراسان 344
فى سنة 98 هـ 347
محاصرة القسطنطينية 347
فتح قهستان وجرجان وطبرستان 349
فتح جرجان الفتح الثانى وإنشاء مدينتها 351
فى سنة 99 هـ 353
وفاة سليمان بن عبد الملك وشىء من أخباره 353
بيعة عمر بن عبد العزيز 355
فى سنة مائة للهجرة 359
خروج شوذب الخارجى 359
حوادث سنة 101 هـ 364
وفاة عمر بن عبد العزيز 365(21/550)
نبذة من سيرته 366
بيعة يزيد بن عبد الملك 372
مقتل شوذب الخارجى وهزيمته بجيوش يزيد قبل ذلك 374
الغزوات والفتوح فى خلافة يزيد بن عبد الملك: 375
غزوة الترك 375
غزوة الصغد 377
الوقعة بين سعيد الحرشى أمير خراسان وبين الصغد 378
ظفر الخزر بالمسلمين 381
فتح بلنجر وغيرها 382
استيلاء يزيد بن المهلب على البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك 384
بقية أخبار سنة (101 هـ) إحدى ومائة 391
حوادث سنة اثنتين ومائة (102 هـ) 392
ولاية مسلمة بن عبد الملك العراق وخراسان وعزله، وولاية عمر بن هبيرة 392
البيعة لهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، بولاية العهد 392
مقتل يزيد بن أبى مسلم 392
حوادث سنة ثلاث ومائة (103 هـ) 394
ذكر استعمال سعيد الحرشى على خراسان، وعزل سعيد خدينة عنها 394
حوادث سنة أربع ومائة (104 هـ) : 395
عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة والمدينة وولاية عبد الواحد 395
حوادث سنة خمس ومائة (105 هـ) 397
ذكر أخبار الخوارج فى أيام يزيد بن عبد الملك 397
وفاة يزيد بن عبد الملك وشىء من أخباره 399
بيعة هشام بن عبد الملك 402(21/551)
الغزوات والفتوح فى أيام هشام بن عبد الملك على حكم السنين 403
غزوة مسلم الترك 404
غزاة عنبسة الفرنج بالأندلس 405
خبر أشرس بن عبد الله السلمى أمير خراسان 407
ذكر وقعة كمرجة 410
عزل أشرس عن خراسان، واستعمال الجنيد بن عبد الرحمن وقتاله الترك 412
مقتل الجراح بن عبد الله الحكمى وولاية سعيد الحرشى 414
وقعة الجنيد بالشعب 417
غزو مسلمة وعوده 421
غزو مروان بن محمد بلاد الترك، ودخوله إلى بلاد ملك السرير وغيرها 421
ظفر المسلمين بالترك وقتل خاقان ملك الترك 425
غزوات نصر بن سيار ما وراء النهر 427
غزو مروان بن محمد بن مروان 431
حوادث سنة ست ومائة (106 هـ) : 432
ذكر ولاية أسد خراسان 432
حوادث سنة سبع ومائة (107 هـ) : 434
حوادث سنة ثمان ومائة (108 هـ) : 435
حوادث سنة تسع ومائة (109 هـ) : 435
حوادث سنة عشرة ومائة (110 هـ) 436
حوادث سنة إحدى عشرة ومائة (111 هـ) 437
حوادث سنة اثنتى عشرة ومائة (112 هـ) 437
حوادث سنة ثلاث عشرة ومائة (113 هـ) 437(21/552)
حوادث سنة أربع عشرة ومائة (114 هـ) 437
حوادث سنة خمس عشرة ومائة (115 هـ) 438
حوادث سنة ست عشرة ومائة (116 هـ) 438
خلع الحارث بن سريج بخراسان، وما كان من أمره 439
سنة سبع عشرة ومائة (117 هـ) 441
عزل عاصم عن خراسان، وولاية أسد وخبر الحارث بن سريج 441
سنة تسع عشرة ومائة (119 هـ) : 445
قتل المغيرة وبيان 445
خبر الخوارج فى هذه السنة 447
سنة عشرين ومائة: 451
عزل خالد بن عبد الله القسرى، وولاية يوسف بن عمر الثقفى 451
حوادث سنة إحدى وعشرين ومائة (121 هـ) : 458
حوادث سنة اثنتين وعشرين ومائة (122 هـ) : 458
ذكر مقتل البطال 458
حوادث سنة ثلاث وعشرين ومائة 459
صلح نصر بن سيار مع الصغد 459
حوادث سنة خمس وعشرين ومائة (125 هـ) : 460
ذكر وفاة هشام بن عبد الملك، ونبذة من أخباره 460
ذكر بيعة الوليد بن يزيد 462
حوادث سنة ست وعشرين ومائة: 469
مقتل خالد بن عبد الله القسرى، وشىء من أخباره 469
ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وشىء من أخباره 473
ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص 487
ذكر اضطراب أمر بنى أمية 488(21/553)
خلاف أهل حمص وفلسطين: 489
خلاف أهل حمص 489
خلاف أهل فلسطين 491
عزل يوسف بن عمر عن العراق، واستعمال منصور بن جمهور 491
عزل منصور بن جمهور عن العراق، وولاية عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز 495
ذكر الاختلاف بين أهل خراسان 496
ذكر الحرب بين اليمامة وعاملهم 501
وفاة يزيد بن الوليد بن عبد الملك 504
بيعة إبراهيم بن الوليد 505
تتمة حوادث سنة ست وعشرين ومائة (126 هـ) 505
سنة سبع وعشرين ومائة (127 هـ) 506
ذكر مسيرة مروان بن محمد إلى الشام، وخلع إبراهيم بن الوليد 506
ذكر بيعة مروان بن محمد 508
رجوع الحارث بن سريج 509
انتقاض أهل حمص 511
ذكر خلاف أهل الغوطة 512
ذكر خلاف أهل فلسطين 512
خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد 514
ذكر خروج الضحاك محكما، وما كان من أمره إلى أن قتل 516
ذكر خبر الخيبرى الخارجى وقتله وقيام شيبان 519
أخبار شبيب الحرورى وما كان من أمره إلى أن قتل 520
سنة ثمان وعشرين ومائة (128 هـ) : 523
مقتل الحارث بن سريج وعتبة الكرمانى على مرو 523
سنة تسع وعشرين ومائة (129 هـ) 529
مقتل الكرمانى 529(21/554)
خبر أبى حمزة المختار بن عوف الأزدى البصرى مع طالب الحق عبد الله بن محمد بن يحيى الحضرمى 530
دخول أبى حمزة المدينة 533
مقتل أبى حمزة 535
مقتل عبد الله بن يحيى المنعوت بصاحب الحق، وقتل ابن عطية 535
تتمة حوادث سنة (129 هـ) 536
حوادث سنة ثلاثين ومائة (130 هـ) 536
حوادث سنة إحدى وثلاثين ومائة (131 هـ) 537
حوادث سنة اثنتين وثلاثين ومائة (132 هـ) : 537
جامع أخبار بنى أمية 539(21/555)
ثانيا- مراجع التحقيق
الاستيعاب لابن عبد البر مطبعة نهضة مصر
الاشتقاق لابن دريد مطبعة السنة المحمدية
الاصمعيات طبعة دار المعارف
الأغانى لأبى الفرج الاصفهانى طبعة دار الكتب
الاكمال لابن ماكولا نسختى المخطوطة المحققة
تاج العروس للزيدى دار ليبيا للنشر والتوزيع
تاريخ الطبرى طبعة دارالمعارف
ديوان الفرزدق المكتبة الاهلية
ديوان النابغة الذبيانى دارالفكر
شرح ديوان الحماسة للتبريزى طبعة التجارية
شرح ديوان الحماسة للمرزوقى لجنة التأليف
الشعر والشعراء لابن قتيبة طبعة عيسى الحلبى
العقد الفريد لابن عبد ربه لجنة التأليف
فتوح البلدان للبلاذرى شركة طبع الكتب العربية 1901 م
القاموس المحيط المطبعة المصرية
قصص العرب طبعة عيسى الحلبى
الكامل لابن الأثير إدارة الطباعة المنيرية
لب اللباب لابن الأثير مكتبة القدسى
لسان العرب لابن منظور الطبعة الأميرية
مختارات ابن الشجرى طبعة نهضة مصر
مراصد الاطلاع فى أسماء الأمكنة والبقاع مكتبة عيسى الحلبى(21/556)
مروج الذهب للمسعودى طبعة التجارية
المشتبه للذهبى طبعة مكتبة عيسى الحلبى
معجم البلدان لياقوت مطبعة السعادة
معجم الشعراء للمرزبانى طبعة مكتبة عيسى الحلبى
معجم ما استعجم للبكرى مطبعة التأليف
النجوم الزهراة طبعة دار الكتب(21/557)
الجزء الثاني والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
هذا هو الجزء الثانى والعشرون من نهاية الأرب، قد اعتمدت فى تحقيقه على ثلاث مخطوطات محفوظة بدار الكتب بأرقام 592، 551، 549 معارف عامة، رمزت للأولى 592 بحرف ف، والثانية 551 بحرف ص، والثالثة 549 بحرف ك، وهى مخطوطات تستحق الدراسة والتنويه عنها إلا أن هذا الجزء ليس موضعا لهذه الدراسة، ذلك لأن هذا الجزء سبقه واحد وعشرون، وكلها جميعا تعتمد على هذه المخطوطات.
ولكن على الرغم من هذا فأرى من واجبى- أداء للأمانة العلمة- أن أورد ملحوظة، ربما كان هذا الجزء وحده يستقل بها أو لعلها شائعة فى الأجزاء كلها، وهى على أية حال تستحق التسجيل، فقد لاحظت:
أن المخطوطة رقم 549 المرموز لها بحرف ك كثيرة الأخطاء، ولا يتحرى ناسخها الدقة فى النقل عن المصدر الذى ينقل منه، ويتفرد بخصيصة غريبة هى عدم العناية والإهمال، إهمالا جعله يضطرب فيخلط بين الأحداث، وهو- بعد هذا- لا يستقل بذلك بل يفرض نفسه على المنسوخ، يحكم(22/5)
ذوقه البيانى على ما ينقل فيقدم من حروف الجر ويؤخر وفق هواه، ويغير من الألفاظ فيأتينا بألفاظه لا بألفاظ المصدر، ولكن هذا قليل قلة يمكن التجاوز عنه، ولكن الذى لا نستطيع التجاوز عنه ولا الصبر عليه هو وضعه ألفاظا لما لم يستطع قراءته، والحق أن كل هذه العيوب تسقط من قيمة هذه المخطوطة، وفى نظرى إن عيبا واحدا منها كاف ليجعلنى أنفر أو بتعبير أدق وأصح يجعلنى أربأ بالعمل العلمى أن يجعل هذه المخطوطة إحدى عمد نشر كتاب نهاية الأرب، وأرى أن تكون عونا يسعف إذا كان فيها ما يسعف.
أما المخطوطة رقم 592 وهى المرموز لها بحرف ف فهى بلا شك يجب أن تكون إحدى عمد النشر، ذلك لأن ناسخها معاصر أو يمكن اعتباره معاصرا للمؤلف، وهذا يجعل قيمتها التاريخية فى درجة عالية، ولكن على الرغم من هذه القيمة لعلمية لهذه المخطوطة فإنها لا تسلم من العيوب، وهى عيوب خطيرة، نتجت فى رأيى من ضعف ناسخها فى قراءة نسخة المؤلف، ويجب علينا ألا ندع الحديث عن هذه المخطوطة دون أن نشير إلى أن ناسخ ك ينقل من هذه المخطوطة ف ودليل ذلك أن كل سقط فى ف نجده فى ك والعكس غير صحيح، ذلك لأننا نجد فى ك سقطا ليس فى ف.
والمخطوطة التى تستحق كل تقدير علمى هى المخطوطة رقم 551 وهى المرموز لها بحرف ص، ذلك لأن الناسخ أمين فى نقله، دقيق فى نقل الألفاظ دقة تجعله يرسم الكلمة التى لم يستطع قراءتها، وحسبك هذا لتقييم هذه المخطوطة، ولكن على الرغم من هذه القيمة العلمية فإنها لا تسلم من عيب، ذلك لأن الناسخ كثيرا ما يهمل النقط، والنقط أساس فى قراءة الكلمات العربية، ولكن الذى ييسر ويهون من خطر هذا العيب أن النويرى ينقل عن غيره بالنص رغم التزامه الإيجاز، ينقل العبارة بنص صاحبها إلا فى أندر الأحوال، ومن ثمّ كان هذا العيب لا يعوق المحقق من أداء عمله(22/6)
وبعد فهذه إشارة تغنى عن التصريح والاسهاب عن هذه المخطوطات المشار إليها فى هوامش الكتاب، وهذا هو الجزء الثانى والعشرون أرجو أن أكون قد أديت واجبى نحوه، فإن جاء مطابقا لما يطلب من المحقق شكرت ربى على التوفيق وإن كان هناك تقصير فجهدى قد بذلته والكمال لله وحده، والله ولى التوفيق.
مايو سنة 1961 محمد جابر الحينى(22/7)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره
والديار المصرية وما معها خاصة وابتداء أمر الشيعة وظهورهم وما كان منهم إلى أن أفضى إلى أبى العباس عبد الله السفاح ومن قام بالأمر بعده إلى وقتنا هذا.
[في سنة مائة من الهجرة]
ذكر ابتداء ظهور دعوة بنى العباس وأمر الشيعة
قال ابن الأثير الجزرى رحمه الله تعالى فى تاريخه الكامل، كان ابتداء ظهور دعوة بنى العباس فى خلافة عمر بن عبد العزيز، وذلك أن محمد بن على بن عبد الله بن العباس- وهو والد أبى العباس السفاح- بث دعاته فى الآفاق فى سنة مائة من الهجرة، وكان ينزل بأرض الشّراة من أعمال البلقاء بالشام، وكان أمر الشيعة بعد قتل الحسين بن على رضى الله تعالى عنهما صار إلى أخيه محمد بن الحنفية، وقال بعض المؤرخين «1» إنه صار إلى على بن الحسين، ثم إلى محمد بن على الباقر، ثم إلى جعفر بن محمد، والذى عليه الأكثر «2» أن محمد بن الحنفية أوصى به إلى ابنه أبى هاشم، فلم يزل قائما بأمر الشيعة، فلما كان فى أيام سليمان بن عبد الملك وفد عليه فأكرمه سليمان، وقال ما ظننت قرشيا قط يشبه هذا وقضى حوائجه، ثم شخص من عنده(22/9)
يريد فلسطين، فلما كان ببلد لخم وجذام ضربت له أبنية فى الطريق ومعهم اللبن المسموم، فكلما مرّ بقوم قالوا «1» : هل لك فى الشراب، فيقول جزيتم خيرا، حتى مرّ بآخرين فعرضوا عليه، وهو يظنهم «2» أنهم من لخم وجذام، فقال هاتوا وشرب، فلما استقر فى جوفه أحسّ بالسم، فقال لأصحابه إنى ميت، فانظروا من القوم؟ فنظروا من القوم فإذا هم قوّضوا «3» أبنيتهم ورحلوا، فقال ميلوا بى إلى ابن عمى وأسرعوا، فإنى أحسب أنى لا ألحقه، وكان محمد بن على والد أبى العباس السفاح بالحميمة من أرض الشراة بالشام.
ذكر تفويض أمر الشيعة إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس وبثه الدعاة
قال: فلما وصل أبو هاشم إلى محمد بن على قال: يا ابن عم، إنى ميت وأنت صاحب هذا الأمر، وولدك ابن الحارثيّة هو القائم به، ثم أخوه من بعده، والله لا يتم هذا الأمر حتى ترج الرايات السود من خراسان، ثم ليغلبنّ على ما بين حضرموت وأقصى أفريقية وما بين الهند وأقصى فرغانة، فعليك بهؤلاء الشيعة فهم دعاتك وأنصارك ولتكن دعوتك خراسان، واستبطن هذا الأمر الحىّ من اليمن، فإنّ كل ملك لا يقوم بهم، فأمره «4» إلى انتقاض وأمرهم فليجعلوا اثنى عشر نقيبا وبعدهم سبعين نقيبا، فإنّ الله تعالى لم يصلح بنى إسرائيل إلا بهم، وقد فعل ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم، فإذا مضت سنة الحمار فوجّه رسلك نحو خراسان. فمنهم من يقتل(22/10)
ومنهم من ينجو، حتى يظهر الله دعوتكم، فقال محمد بن على: أبا هاشم وما سنة الحمار، قال إنه لم تمض مائة سنة من نبوّة إلا انتقض أمرها، لقوله تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ
إلى قوله فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ
«1» .
واعلم أن صاحب هذا الأمر من ولدك عبد الله بن الحارثية، ثم مات أبو هاشم وكان قد «2» أعلم شيعته من أهل خراسان والعراق عند ترددهم إليه، أن الأمر صائر إلى ولده محمد بن على، وأمرهم بقصده بعده، فلما مات أبو هاشم قصدوا محمدا وبايعوه، وعادوا فدعوا الناس إليه فأجابوهم، وكان الذين سيّرهم إلى الآفاق جماعة، فوجّه ميسرة إلى العراق، ومحمد بن خنيس وأبا عكرمة السرّاج- وهو أبو محمد الصادق- وحيّان العطّار- خال إبراهيم بن سلمة «3» - إلى خراسان، وعليها يوم ذاك الجرّاح الحكمى، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا ثم انصرفوا بكتب من استجاب إلى محمد بن على فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها إلى محمد، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن على اثنى عشر نقيبا، منهم سليمان بن كثير الخزاعى، ولاهز بن قريظ التميمى، وقحطبة بن شبيب الطائى، وموسى ابن كعب التميمى، وخالد بن إبراهيم أبو داود من بنى شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمى، وعمران بن إسماعيل أبو النجم مولى أبى معيط، ومالك بن الهيثم الخزاعى، وطلحة بن زريق الخزاعى، وعمرو ابن أعين أبو حمزة مولى خزاعة، وشبل بن طهمان أبو على الهروى مولى لبنى حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار سبعين رجلا فكتب إليهم(22/11)
محمد بن على كتابا، ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها، وذلك فى سنة مائة من الهجرة.
[في سنة اربع ومائة من الهجرة]
ذكر مولد أبى العباس السفاح
قال: كان عبد الملك بن مروان قد منع محمد بن على أباه من زواج أمه، وهى ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان «1» الحارثى، ثم منعه الوليد وسليمان بعده لأنهم كانوا يرون أن ملكهم يزول على يد رجل من بنى العباس يقال له ابن الحارثية، فلما ولى عمر بن عبد العزيز شكى محمد بن على ذلك، وسأله ألا يمنعه من زواجها وكانت بنت خاله، فقال له عمر:
تزوّج من شئت فتزوّجها، فولدت له أبا العباس السفاح فى شهر ربيع الآخر سنة أربع ومائة، ووصل إلى أبيه محمد بن على أبو محمد الصادق من خراسان فى عدة من أصحابه، فأخرج إليهم أبا العباس فى خرقة وله خمسة عشر يوما، وقال لهم هذا صاحبكم الذى يتم الأمر على يديه، فقبلوا أطرافه، وقال لهم: والله ليتمنّ هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
وفى سنة خمس ومائة:
قدم بكير بن ماهان من السند وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن، فلما عزل الجنيد قدم بكير إلى الكوفة، ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقى أبا عكرمة الصادق، وميسرة، ومحمد بن خنيس، وسالم الأعين، وأبا يحيى مولى بنى مسلمة، فذكروا له أمر دعوة بنى هاشم فقبل ذلك، وأنفق ما معه عليهم ودخل إلى محمد بن على، فأقامه مقامه.
وفى سنة سبع ومائة.
وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة ومحمد بن خنيس(22/12)
وعمّار العبادى وزيادا- خال الوليد الأزرق- فى عدة من شيعتهم دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله القسرى وهو أمير خراسان، فوشى بهم فأتى بأبى عكرمة ومحمد بن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمّار، فقطع أسد أيدى من ظفر به منهم وصلبه، وأقبل عمار إلى بكير ابن ماهان فأخرجه، فكتب إلى محمد بن على بذلك، فأجابه: الحمد لله الذى صدق دعوتكم ومقالتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل. وقيل إن أول من قدم خراسان من دعاة بنى العباس زياد «1» أبو محمد مولى همدان.
وفى سنة تسع ومائة.
بعثه محمد بن على وقال له: انزل اليمن «2» والطف مضر، ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب، فلما قدم دعا إلى بنى العباس وذكر سيرة بنى أمية وظلمهم، وأطعم الناس الطعام، وقدم عليه غالب وتناظرا فى تفضيل آل علىّ وآل العباس، وافترقا وأقام زياد بمرو شتوة يختلف إليه من أهلها يحيى بن عقيل الخزاعى وغيره، فأخبر به «3» أسد فدعاه وقال له: ما هذا الذى بلغنى عنك؟ قال: الباطل، إنما قدمت فى تجارة وقد فرّقت مالى على الناس، فإذا اجتمع خرجت، فقال له أسد: اخرج عن بلادى، فانصرف وعاد إلى أمره، فرفع أمره إلى أسد وخوّف جانبه، فأحضره وقتله وقتل معه عشرة من أهل الكوفة، ولم ينج منهم إلا غلامان استصغرهما وقيل- أمر بزياد أن يوسط بالسيف، فضربوه فلم يعمل السيف فيه فكبّر الناس، فقال أسد: ما هذا؟ فقالوا نبا السيف عنه، ثم ضرب مرة أخرى فنبا عنه، ثم ضرب الثالثة فقطعه باثنتين، وعرض البراءة منه على أصحابه، فمن تبّرأ خلى سبيله، فتبّرأ اثنان فتركا، وأبى البراءة ثمانية فقتلوا، فلما كان الغد أقبل أحدهما إلى أسد، فقال أسألك أن تلحقنى(22/13)
بأصحابى فقتله، وذلك قبل الأضحى بأربعة أيام من سنة تسع ومائة، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرا، فنزل على أبى النجم وكان يأتيه الذين لقوا زيادا، فكان على ذلك سنة أو سنتين وكان أميا، فقدم عليه خداش واسمه عمارة، فغلب كثيرا على أمره. ويقال إن أول من أتى خراسان بكتاب محمد بن علىّ حرب بن عثمان مولى بنى قيس بن ثعلبة، من أهل بلخ- والله تعالى أعلم.
وفى سنة ثمانى عشرة ومائة:
وجّه بكير بن ماهان عمّار بن يزيد «1» الخزاعى إلى خراسان واليا على شيعة بنى العباس، فنزل مرو وغيّر اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن على فسارع إليه الناس وأطاعوه، ثم غيّر ما دعاهم إليه وأظهر دين الخرميّة، ورخّص لبعضهم فى نساء بعض، وقال لهم إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وأن تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه وكان يتأول من القرآن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2»
، قال وكان خداش نصرانيا بالكوفة فأسلم ولحق بخراسان، وكان ممن اتبعه على مقالته: مالك ابن الهيثم، والحريش بن سليم الأعجمى وغيرهما، وأخبرهم أن محمد بن علىّ أمره بذلك، فبلغ خبره أسد بن عبد الله فظفر به، فأغلظ القول لأسد فقطع لسانه وسمل عينيه، وأمر يحيى بن نعيم الشيبانى فقتله وصلبه بآمل.
وفيها مات على بن عبد الله بن عباس بالحمّيمه من أرض الشّراة بالشام، وهو ابن ثمان أو سبع وسبعين «3» ، وهو والد محمد الإمام، وقيل(22/14)
إنه ولد فى الليلة التى قتل فيها على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه فسمّاه عليّا، وقال سميته باسم أحب الناس إلىّ، وكناه بأبى الحسن، فلما قدم على عبد الملك بن مروان أكرمه وأجلسه معه على سريره، وسأله عن اسمه وكنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع هذا الاسم والكنية لأحد فى عسكرى، وسأله:
هل لك ولد؟ قال: نعم وقد سميته محمدا، قال: فأنت أبو محمد. وقيل إنه خلف اثنين وعشرين ولدا.
وفى سنة عشرين ومائة:
وجّهت الشيعة بخراسان إلى محمد الإمام سليمان بن كثير، ليعلمه أمرهم وما هم عليه، وكان محمد قد ترك مكاتبتهم ومراسلتهم، لطاعتهم لخداش وقبولهم منه ما رواه عنه من الكذب، فقدم سليمان على محمد فعنّفه محمد فى ذلك، ثم صرفه إلى خراسان ومعه كتاب مختوم، فلم يجدوا فيه إلا البسملة، فعلموا مخالفة خداش لأمره، ثم وجّه محمد إليهم «1» بكير بن ماهان بعد عود سليمان من عنده، وكتب إليهم يعلمهم كذب خداش فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد، فبعث معه بعصى مضبّبة بعضها بحديد وبعضها بنحاس، فجمع بكير النقباء والشيعة ودفع إلى كل واحد منهم عصى، فتابوا ورجعوا.
ذكر خبر أبى مسلم الخراسانى وابتداء أمره
قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل، قد اختلف الناس فى أمر أبى مسلم، فقيل كان حرا، وكان اسمه إبراهيم بن عثمان بن بشار «2» بن سدوس بن جود زده «3» من ولد بزرجمهر «4» ويكنى أبا إسحاق، ولد(22/15)
بأصفهان ونشأ بالكوفة، وكان أبوه أوصى إلى عيسى بن موسى السرّاج، فحمله إلى الكوفة وهو ابن سبع سنين، فلما اتصل بإبراهيم بن محمد بن على ابن عبد الله بن عباس الإمام قال له: غيّر اسمك فإنه لا يتم لنا الأمر إلا بتغيير اسمك، على ما وجدته فى الكتب، فسمى نفسه «1» عبد الرحمن بن مسلم وكان يكنى أبا مسلم، ومضى لشأنه، وله ذؤابة وهو على حمار بإكاف «2» وله تسع عشرة سنة، وزوّجه إبراهيم الإمام ابنة عمران بن إسماعيل الطائى المعروف بأبى النجم؛ هذا نسبه على زعم من يقول إنه حر، ولما تمكّن وقوى أمره ادّعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، وكان من حديث سليط هذا أن عبد الله بن عباس كان له جارية مولدة صفراء تخدمه، فواقعها مرة ثم تركها دهرا، فاستنكحت عبدا من أهل المدينة فولدت له غلاما، فاستعبده عبد الله بن عباس وسماه سليطا، فنشأ جلدا ظريفا وخدم ابن عباس، ثم صار له من الوليد بن عبد الملك منزلة «3» ، فادعى أنه من ولد عبد الله بن عباس، وأعانه الوليد على ذلك لما كان فى نفسه من على بن عبد الله بن عباس، وأمره بمخاصمته فخاصمه، واحتال فى شهود على إقرار عبد الله أنه ولده، فشهدوا بذلك عند قاضى دمشق، واتبع القاضى رأى الوليد فى ذلك، فأثبت نسبه وخاصم عليّا فى الميراث.
وأما من زعم أنه كان عبدا فإنه حكى، أن بكير بن ماهان كان كاتبا لبعض عمال السند، فقدم الكوفة فاجتمع بشيعة بنى العباس. فغمز بهم فحبس وخلّى عن الباقين، وكان فى الحبس أبو عاصم يونس. وعيسى بن معقل العجلى ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه، ثم قال لعيسى بن معقل: ما هذا منك؟ قال: هو مملوك. قال: أتبيعه؟ قال: هو(22/16)
لك، قال: أحب أن تأخذ ثمنه، قال هو لك بما شئت، فأعطاه أربعمائة درهم، ثم خرجوا من السجن، فبعث به بكير إلى إبراهيم الإمام، فدفعه إبراهيم إلى موسى السرّاج فسمع منه وحفظ، ثم صار يتردد إلى خراسان.
وقيل إنه كان لبعض أهل هراة بوشنج شيخ، فقدم مولاه على إبراهيم الإمام وأبو مسلم معه، فأعجبه فابتاعه منه وأعتقه، ومكث عنده عدة سنين، وكان يتردد بكتب إلى خراسان على حمار له بإكاف، ثم ولاه إبراهيم أمر الشيعة بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفى سنة أربع وعشرين ومائة:
مات محمد بن على بن عبد الله بن عباس فى قول بعضهم، وأوصى إلى ابنه إبراهيم بالقيام بأمر الدعوة، وقيل بل مات فى سنة خمس وعشرين ومائة فى ذى القعدة، هو ابن ثلاث وستين سنة.
وفى سنة ست وعشرين ومائة:
وجّه إبراهيم بن محمد «1» الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة ونعى لهم محمد بن على، ودعاهم إلى ابنه إبراهيم ودفع إليهم كتابه فقبلوه، ودفعوا له ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم.
وفى سبع وعشرين ومائة:
توجّه سليمان بن كثير، ولاهز بن قريظ، وقحطبة إلى مكة فلقوا إبراهيم الإمام بها، وأوصلوا إلى مولى له عشرين ألف دينار ومائتى ألف درهم ومسكا ومتاعا، وكان معهم أبو مسلم.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد الإمام يخبره أنه فى الموت، وأنه قد استخلف أبا سلمة حفص بن ماهان وهو رضى للأمر،(22/17)
فكتب إبراهيم إلى أبى سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه «1» ، وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إليهم فقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
قال «2» وفى سنة ثمان وعشرين ومائة:
ذكر ولاية أبى مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراسانى أمر الشيعة
وجّه إبراهيم بن محمد الإمام أبا مسلم «3» الخراسانى إلى خراسان وعمره تسع عشرة سنة، وكتب إلى أصحابه: إنى قد أمرته بأمرى، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنى قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك، فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا فالتقوا بمكة عند إبراهيم الإمام، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: هل عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علىّ؟ وكان قد عرضه على سليمان بن كثير، فقال: لا ألى على اثنين أبدا «4» ، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه قد أجمع رأيه على أبى مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة له، ثم قال: إنك رجل منّا أهل البيت، فاحفظ وصيتى: انظر هذا الحىّ من اليمن فالزمهم «5» ، واسكن بين أظهرهم فإن الله تعالى لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة فى أمرهم، وأما مضر فإنهم(22/18)
العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم العربية [فافعل «1» ] ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، ولا تخالف هذا الشيخ يعنى سليمان بن كثير ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به منّى.
وفى سنة تسع وعشرين ومائة:
ذكر إظهار الدعوة بخراسان
كتب إبراهيم الإمام إلى أبى مسلم يستدعيه، فسار فى النصف من جمادى الآخرة مع سبعين من النقباء، فلما وصل إلى قومس أتاه كتاب إبراهيم، يقول: إنى قد بعثت إليك براية النصر «2» ، فارجع من حيث لقيك كتابى، ووجّه إلىّ قحطبة بما معك يوافينى به فى الموسم، وكتابا إلى سليمان بن كثير، فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى إبراهيم بما معه من الأموال والعروض، وقدم أبو مسلم إلى مرو ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، يأمره بإظهار الدعوة، فنصبوا «3» أبا مسلم وقالوا رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بنى العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم وبعد ممن أجابهم بإظهار الدعوة، ونزل أبو مسلم قرية من قرى مرو يقال لها فنين، على أبى الحكم عيسى بن أعين النقيب، ووجّه منها أبا داود النقيب ومعه عمرو بن أعين إلى طخار ستان فما دون بلخ، وأمرهما بإظهار الدعوة فى شهر رمضان، وكان نزوله القرية فى شعبان، وبث الدعاة إلى مرو الرّوذ والطّالقان وخوارزم، وأمرهم بإظهار الدعوة فى شهر رمضان لخمس بقين منه، وقال لهم فإن أعجلكم عدوكم دون الوقت بالأذى والمكروه فقد حلّ لكم أن تدفعوا عن أنفسكم،(22/19)
وتجردوا السيوف وتجاهدوا أعداء الله، ومن شغله منكم عدوه عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعده، ثم تحرك أبو مسلم فنزل فى قرية سفيذنج على كثير بن سليمان الخزاعى لليلتين خلتا من شهر رمضان، والكرمانى وشيبان يقاتلان نصر بن سيّار، فبث أبو مسلم دعاته فى الناس وأظهر أمره، فأتاه فى ليلة واحدة نحو ستين قرية، فلما كان ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان عقد اللواء، الذى بعث به الإمام إليه ويدعى الظل «1» ، على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وهو يتلو أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2»
، ولبسوا السواد هو وأخوه سليمان بن كثير ومواليه، ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، وأوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم «3» فكانت علامتهم، فتجمعوا إليه حين أصبحوا معدين، وقدم عليه الدعاة الذين بثهم فى الدعوة بمن أجابهم، وذلك بعد ظهوره بيومين، فلما وافى عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى به وبالشيعة، ونصب له منبرا فى العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، وكان بنو أمية يبدءون بالخطبة قبل الصلاة بأذان وإقامة، وأمره أيضا أن يكبّر ست تكبيرات تباعا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر فى الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا ثم يقرأ ويركع بالسادسة، ويفتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكان «4» بنو أمية يكبّرون فى الأولى أربع تكبيرات وفى الثانية ثلاثا، فلما قضى سليمان الصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة، إلى طعام قد أعدّه لهم فأكلوا مستبشرين. وكتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار وبدأ(22/20)
بنفسه، وكتب إلى نصر ولم يقل إلى الأمير: أما بعد فإن الله تباركت أسماؤه عيّر «1» أقواما فى القرآن فقال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «2»
، فتعاظم نصر الكتاب وكسر له إحدى عينيه، وقال: هذا كتاب له أخوات «3» ثم كان من خبر الكرمانى ومقتله ما قدمناه فى أيام مروان، فلما قتل انضم ابنه علىّ إلى أبى مسلم فى جموع كثيرة، فاستصحبه معه وقاتلوا نصر بن سيّار حتى أخرجوه من دار الإمارة، وأقبل أبو مسلم إلى مرو وأتاه على بن الكرمانى وسلّم عليه بالإمارة.
وفى سنة ثلاثين ومائة:
ذكر دخول أبى مسلم مرو والبيعة بها
دخل أبو مسلم الخراسانى مرو ونزل قصر الإمارة فى شهر ربيع الآخر وقيل فى جمادى الأولى، وكان سبب ذلك وسبب اتفاق ابن الكرمانى أن ابن الكرمانى ومن معه وسائر القبائل بخراسان كانوا قد تعاقدوا على قتال أبى مسلم، فجمع أصحابه لحربهم، فكان سليمان بن كثير بإزاء ابن الكرمانى، فقال له سليمان إن أبا مسلم: يقول لك أما تأنف من مصالحة نصر وقد قتل بالأمس أباك وصلبه! وما كنت أحسبك تجامع نصرا فى مسجد تصليان فيه! فرجع ابن الكرمانى عن رأيه وانتقض صلح العرب، فبعث نصر بن سيار إلى أبى مسلم يلتمس منه أن يدخل مع(22/21)
مضر «1» ، وبعث أصحاب الكرمانى وهم ربيعة واليمن إلى أبى مسلم بمثل ذلك، وراسلوه أياما فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين، حتى يختار أحدهما ففعلوا، فأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا أصحاب الكرمانى.
فتقدم الوفدان فأجلسهم أبو مسلم، وجمع عنده من الشيعة سبعين رجلا.
فقال لهم: لتختاروا أحد الفريقين، فقام سليمان بن كثير فتكلم وكان خطيبا مفوّها، فاختار ابن الكرمانى وأصحابه واختارهم السبعون، فقام وفد نصر وعليهم الكآبة والذلة، وأرسل إليه ابن الكرمانى أن يدخل إلى مدينة مرو من ناحية، ليدخل هو وعشيرته من الناحية الأخرى، فأرسل إليه أبو مسلم أنى لست آمن أن تجمع يدك ويد نصر على محاربتى، ولكن ادخل أنت وانشب الحرب، ففعل ابن الكرمانى ودخل أبو مسلم مرو، والفريقان يقتتلان فأمرهما بالكف وتلى قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
... الآية «2» ومضى أبو مسلم إلى قصر الإمارة، وأرسل إلى الفريقين أن ينصرف كل منهما إلى عسكره ففعلوا، وصفت مرو لأبى مسلم وأمر بأخذ البيعة من الجند، وكان الذى يأخذها أبو منصور طلحة بن رزيق وهو أحد النقباء، وكان عالما بحجج الهاشمية ومعايب الأموية، وكانت البيعة: أبايعكم على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، عليك بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشى إلى بيت الله الحرام، وعلى ألا تسألوا رزقا ولا طمعا «3» حتى يبدأكم به ولاتكم.(22/22)
ذكر هرب نصر بن سيّار أمير خراسان من مرو
وكان سبب هربه أن أبا مسلم لما دخل مرو أرسل لاهز بن قريظ فى جماعة إلى نصر، يدعوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم والرضا من آل محمد، فلما نظر ما جاءه من اليمانية والربيعية والعجم وأنه لا قبل له بهم أظهر قبول ما أتاه به، وأنه يأتيه ويبايعه واستمهلهم، وأمر أصحابه بالتهيؤ والخروج إلى مكان يأمنون فيه، فأشار عليه سلّم بن أحوز بالبيات ليلته تلك والخروج من القابلة؛ فلما أصبح عبأ أصحابه وكتائبه إلى بعد الظهر، فأعاد أبو مسلم إليه لاهز بن قريظ فى جماعة، فقال: ما أسرع ما عدتم، فقال له لاهز: لا بدّ لك من ذلك، فاستمهله نصر بقدر ما يتوضأ ويصلى، ويرسل إلى أبى مسلم يستأذنه فى المضى إليه، فأجابه لاهز؛ فلما قدم نصر للوضوء تلا لاهز: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
«1» ، فدخل نصر منزله وأعلمهم أنه ينتظر عود رسوله من عند أبى مسلم، وأقام حتى جنّه الليل «2» فخرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه، والحكم بن نميلة النّميرى، وامرأته المرزبانة «3» وانطلقوا هربا، فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله فوجدوه قد هرب، فلما بلغ أبا مسلم هربه سار إلى عسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم، وفيهم سلّم بن أحوز صاحب شرطة نصر، والبخترى كاتبه، وابنان له، ويونس بن عبد ربه «4» ، ومحمد بن قطن، ومجاهد بن يحيى بن(22/23)
حضين وغيرهم، فاستوثق منهم بالحديد وحبسهم، وسار أبو مسلم وابن الكرمانى فى طلب نصر ليلتهما، فأدركا امرأته قد حلفها، وسار نصر إلى سرخس واجتمع معه ثلاثة آلاف رجل، ورجع أبو مسلم وسأل من كان أرسلهم إلى نصر: ما الذى ارتاب به نصر حتى هرب؟ وهل تكلم أحد منكم بشىء؟ فذكروا له ما تلاه لاهز بن قريظ، فقال هذا الذى دعاه للهرب، ثم قال: يا لاهز تدغل فى الدين، وقتله، واستشار أبو مسلم أبا طلحة فى أصحاب نصر، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر، فقتلهم وكانوا أربعة وعشرين رجلا، وأما نصر فإنه سار من سرخس إلى طوس فأقام بها، ودخل ابن الكرمانى مرو مع أبى مسلم وتابعه على رأيه.
ذكر مقتل ابنى الكرمانى
وفى سنة ثلاثين ومائة أيضا: قتل أبو مسلم عليا وعثمان ابنى الكرمانى.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كان وجّه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها.
ووجه أبا داود إلى بلخ وفيها زياد بن عبد الرحمن. فلما بلغه قصد أبى داود بلخ خرج فى أهلها وأهل الترمذ وغيرهما من كور طخارستان إلى الجوزجان.
فلما دنا أبو داود منهم انصرفوا منهزمين إلى ترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ.
فكتب إليه أبو مسلم بالقدوم عليه، ووجّه مكانه أبا الميلاء «1» يحيى بن نعيم على بلخ، فلما قدم كاتبه زياد بن عبد الرحمن أن يصيّر أن أيديهم واحدة فأجابه، فرجع زياد ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم «2» الباهلى وعيسى بن(22/24)
زرعة السّلمى وأهل بلخ وترمذ وملوك طخارستان وماوراء النهر ودونه فنزلوا على فرسخ من بلخ، وخرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه، فصارت كلمتهم واحدة- مضر وربيعة واليمن ومن معهم- على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النّبطى، فأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان «1» ، وكان زياد وأصحابه قد وجهوا أبا سعيد القرشى مسلحة، لئلا يأتيهم أصحاب أبى داود من خلفهم، وكانت أعلام أبى سعيد «2» سودا، فلما أقبل أبو سعيد ورأى زياد ومن معه أعلام أبى سعيد وراياته سودا ظنوهم كمينا لأبى داود فانهزموا وتبعهم أبو داود فوقع عامة أصحاب زياد فى النهر، وقتل منهم خلق كثير ممّن تخلف، ونزل أبو داود معسكرهم وحوى ما فيه، ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى ترمذ، واستقامت بلخ له فكتب إليه أبو مسلم بالقدوم عليه، ووجّه النّضر بن صبيح المرّى على بلخ، وقدم أبو داود على أبى مسلم واتفقا على أن يفرّقا بين ابنى الكرمانى، فبعث أبو مسلم عثمان بن الكرمانى عاملا على بلخ، فلما قدمها أقبلت المضرية من ترمذ وعليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلى، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب عثمان وغلب مسلم على بلخ، وكان عثمان بن الكرمانى بمرو الرّوذ لم يشهد هذه الوقعة، فلما بلغه الخبر أقبل هو والنّضر بن صبيح المرّى «3» فهرب أصحاب مسلم من ليلتهم، فلم يمعن النظر فى طلبهم، ولقيهم أصحاب عثمان فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب عثمان وقتل منهم خلق كثير، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم إلى نيسابور ومعه على بن الكرمانى، واتفق رأى أبى مسلم ورأى أبى داود على أن يقتلا ابنى(22/25)
الكرمانى «1» ، فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان «2» عاملا على الختّل «3» فلما خرج عثمان من بلخ تبعه أبو داود وأخذه هو وأصحابه فحبسهم جميعا، ثم ضرب أعناقهم صبرا، وقتل أبو مسلم فى ذلك اليوم على بن الكرمانى، وكان أبو مسلم أمره قبل ذلك أن يسمى له خاصته، ليوليهم ويأمر لهم بجوائز وكساوى، فسماهم له فقتلهم جميعا.
ذكر قدوم قحطبة بن شبيب من قبل إبراهيم الإمام على أبى مسلم
وكان قدومه سنة ثلاثين ومائة فقدم ومعه لواء عقده له إبراهيم، فوجّهه أبو مسلم فى مقدمته، وضمّ إليه الجيوش وجعل إليه العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسمع والطاعة له.
ذكر مسير قحطبة إلى نيسابور واستيلائه عليها ومن استعمله أبو مسلم على الجهات
قال: ولما استولى أبو مسلم على خراسان وقتل ابنا الكرمانى على ما تقدم بعث العمال على البلاد، فاستعمل سبّاع بن النّعمان الأزدى على سمرقند، وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ومحمد بن الأشعث على الطّبسين»
، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته، ووجّه قحطبة إلى طوس(22/26)
ومعه عدة من القواد، منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد، وخالد بن برمك، وعثمان بن نهيك، وخازم بن خزيمة وغيرهم، فلقى قحطبة من بطوس فهزمهم، وبلغ عدة القتلى بضعة عشر ألفا، ووجّه أبو مسلم القاسم ابن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجّة، وكتب إلى قحطبة يأمره «1» بقتال تميم بن نصر بن سيّار والنّابى بن سويد ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، ووجه أبو مسلم على بن معقل فى عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وأمره أن يكون مع قحطبة، وسار قحطبة إلى السوذقان- وهو «2» معسكر تميم بن نصر والنابى بن سويد، وقد عبّأ أصحابه فدعاهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإلى الرضا من آل محمد فلم يجيبوه، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل تميم فى المعركة، وقتل من أصحابه خلق كثير، وهرب النابى ابن سويد فتحصن بالمدينة، فحصره قحطبة ونقبوا سورها ودخلوا المدينة فقتلوا النابى ومن كان معه، وبلغ الخبر نصر بن سيّار فهرب إلى قومس وتفرّق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور فأقام بها هو ومن معه رمضان وشوال.
ذكر مقتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان
قد ذكرنا هرب نصر بن سيّار ولحاقه بنباتة بن حنظلة، فلما كان فى ذى القعدة أقبل قحطبة إلى جرجان، وقد نزل نباتة ونصر بن سيار بالجورجان «3» ، وخندقوا عليهم وهم فى عدد وعدد، فهابهم أهل خراسان حتى تكلّموا بذلك وظهر عليهم، فبلغ قحطبة فقام فيهم وقوّى عزائمهم(22/27)
وشجّعهم، وقال: «1» إنّ الإمام وعدكم النصر عليهم، وقد عهد إلىّ أنكم تلقونهم فينصركم الله عليهم، فالتقوا فى مستهل ذى الحجة سنة ثلاثين ومائة فى يوم الجمعة، وعلى ميمنة قحطبة ابنه الحسن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل نباتة وعشرة آلاف من أهل الشام، وانهزم من بقى منهم، وسار نصر ابن سيّار وكان بقومس فنزل خوار «2» الرىّ، وكاتب ابن هبيرة يستمده وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان، وقال له: أمدنى بعشرة آلاف قبل أن تمدنى بمائة ألف ثم لا تغنى شيئا، فحبس ابن هبيرة رسله، فأرسل إلى مروان بن محمد يعلمه ما فعل ابن هبيرة برسله، وأنه استمده فلم يمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمده، فجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا عليهم ابن عطيف إلى نصر بن سيّار، قال: أما قحطبة فإنه بلغه أن أهل جرجان يريدون الخروج عليه، فاستعرضهم وقتل منهم ما يزيد على ثلاثين ألفا.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة
ذكر وفاة نصر بن سيار ودخول قحطبة الرىّ
قال: ثم وجه قحطبة ابنه الحسن لقتال نصر فى المحرم من هذه السنة، ووجّه أبا كامل وأبا القاسم «3» محرز بن إبراهيم، وأبا العباس المروزى إلى الحسن ابنه، فلما كانوا قريبا منه انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصر بن(22/28)
سيّار فأعلمه، فصار معه وأعلمه مكان الجند، فوجه إليهم جندا فهرب جند قحطبه، وخلفوا شيئا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له ابن عطيف «1» بالريّ فأخذ الكتاب والمتاع من رسول نصر، وبعثه إلى ابن هبيرة فغضب نصر، وقال: أما والله لأدعنّ ابن هبيرة فليعرفنّ أنه ليس بشيء، وكان ابن عطيف فى ثلاثة آلاف، قد بعثه ابن هبيرة مددا لنصر، فأقام بالرى ولم يأت نصرا، فسار نصر حتى نزل الرى وعليها حبيب بن بديل «2» النهشلى، فلما قدمها سار ابن عطيف منها إلى همذان، ثم عدل إلى أصفهان إلى عامر بن ضبارة، ولما قدم نصر الريّ أقام بها يومين ثم مرض، فحمل إلى ساوة فمات بها لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول منها، وعمره خمس وثمانون سنة، ودخل أصحابه همذان؛ ولما مات نصر بعث الحسن بن قحطبة خازم بن خزيمة «3» إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان وقدم أمامه زياد بن زرارة القشيرى، وكان قد ندم على اتباع أبى مسلم، فأخذ طريق أصفهان يريد عامر بن ضبارة، فوجّه قحطبة، المسيّب بن زهير الضّبى فلحقه، وقاتله فانهزم زياد وقتل عامّة من معه، ورجع المسيّب إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدّمه إلى الرىّ، وبلغ حبيب بن بديل النّهشلى ومن معه من أهل الشام مسير الحسن، فخرجوا عن الرىّ ودخلها الحسن فى(22/29)
صفر، وأقام حتى قدم أبوه، فبعثه بعد مقدمه بثلاث ليال إلى همذان، فسار عنها مالك بن أدهم ومن كان معه من أهل الشام وأهل خراسان إلى نهاوند، فأقام بها وفارقه ناس كثير، ودخل الحسن همذان وسار منها إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ منها، وأمده أبوه بأبى الجهم بن عطية مولى باهلة فى سبعمائة فحصر المدينة.
ذكر مقتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصفهان
كان عامر بن ضبارة قد بعثه يزيد بن هبيرة لقتال عبد الله بن معاوية، لما خرج ودعا إلى نفسه على ما نذكره فى أخبار آل أبى طالب إن شاء الله، وبعث معه ابنه داود بن يزيد فهزمه «1» ابن ضبارة، وسار فى أثره، فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان كتب إلى عامر وإلى ابنه داود، أن يسيرا إلى قحطبة وكانا بكرمان، فسارا فى خمسين ألفا ونزلوا بأصفهان، وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر، فبعث قحطبة إليهم جماعة من القواد عليهم جميعا مقاتل بن حكيم العكّى، فساروا حتى نزلوا قمّ، وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بن قحطبة نهاوند، فسار ليفتن من بها من أهلها، فأرسل مقاتل إلى قحطبة يعلمه بمسيره، فأقبل قحطبة من الرىّ حتى لحق بمقاتل، ثم ساروا والتقوا بعامر بن ضبارة وداود بن يزيد، وكان عسكر قحطبة عشرين ألفا فيهم خالد بن برمك، وعسكر ابن ضبارة مائة ألف وقيل خمسون ومائة ألف، فأمر قحطبة بمصحف فوضع على رمح، ونادى يا أهل الشام إنما ندعوكم إلى ما فى هذا المصحف، فشتموه وفحشوا فى القول، فأمر قحطبة أصحابه بالحملة عليهم، فحمل عليهم العكّى وتهايج الناس، ولم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أهل الشام، وقتلوا قتلا ذريعا، فقتل ابن ضبارة وهرب داود، وأخذ أصحاب قحطبة من(22/30)
عسكرهم ما لا يعلم قدره، من السلاح والمتاع والرقيق والخيل، ومارئى عسكر قط كان فيه من أصناف الأشياء ما فى هذا العسكر، كان كأنه مدينة، فكان فيه من البرابط والطنابير والمزامير والخمر ما لا يحصى، وحقيق لعسكر فيه مثل ذلك أن ينهزم، وكانت هذه الوقعة بنواحى أصفهان فى شهر رجب.
ذكر دخول قحطبة نهاوند
قال: ولما قتل ابن ضبارة كان الحسن بن قحطبة يحاصر نهاوند، فكتب إليه أبوه بالخبر، فلما قرأ كتابه كبّر هو وجنوده ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير «1» السّغدى: ما نادوا بقتله إلا وهو حق، فاخرجوا إلى الحسن قبل أن يأتى أبوه أو يمده بمدد، فقالت الرجّالة: تخرجون وأنتم فرسان وتتركونا! فقال مالك بن أدهم: لا أبرح حتى يقدم قحطبة، وأقام قحطبة بأصفهان عشرين يوما ثم سار، فقدم على ابنه بنهاوند فحصرهم ثلاثة أشهر آخرها شوّال، ونصب عليهم المجانيق، وأرسل إلى من بنهاوند من أهل خراسان يدعوهم إليه، وبذل لهم الأمان فأبوا ذلك، فأرسل إلى من بها من أهل الشام بمثل ذلك فأجابوه، وقبلوا أمانه وبعثوا إليه أن يشغل عنهم أهل البلد بالقتال، ليفتحوا له الباب ففعل ذلك، ففتح أهل الشام الباب الذى يليهم «2» وخرجوا، فلما رأى أهل البلد ذلك سألوهم عن سبب خروجهم، فقالوا: أخذنا لنا ولكم الأمان، فخرج رؤساء خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى قائد من قواده، ثم أمر فنودى: من كان بيده أسير فليضرب عنقه وليأت برأسه، ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبى مسلم إلا قتل، إلا أهل الشام فإنه وفّى لهم وخلّى(22/31)
سبيلهم، وأخذ عليهم الأيمان والعهود. قال: ولما حاصر قحطبة نهاوند أرسل ابنه إلى مرج القلعة، فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله بن العلاء الكندى، فهرب من حلوان.
ذكر فتح شهر زور
قال: ثم وجّه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراسانى ومالك بن طواف «1» فى أربعة آلاف إلى شهر زور، وبها عثمان بن سفيان على مقدمة عبد الله بن مروان بن محمد، فنزلوا على فرسخين من شهر زور فى العشرين من ذى الحجة، وقاتلوا عثمان بعد يوم وليلة من نزولهم، فانهزم أصحاب عثمان وقتل، وأقام أبو عون فى بلاد الموصل، وقيل إن عثمان لم يقتل ولكنه هرب إلى عبد الله بن مروان، وغنم أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وسيّر قحطبة العساكر إلى أبى عون، فاجتمع معه ثلاثون ألفا، ولما بلغ مروان خبر أبى عون- وكان بحرّان- سار منها بجنود الشام والجزيرة والموصل وبنى أمية، وأقبل نحو أبى عون حتى نزل الزّاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهر زور بقية ذى الحجة والمحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض بها لخمسة «2» آلاف.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة(22/32)
ذكر مسير قحطبة لقتال ابن هبيرة بالعراق وهلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة
قال: ولما قدم داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة على أبيه منهزما، خرج يزيد نحو قحطبة فى عدد كثير لا يحصى، ومعه حوثرة بن سهيل الباهلى، وكان مروان قد أمدّه به، فسار ابن هبيرة حتى نزل جلولاء، واحتفر الخندق الذى كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء وأقام به، وأقبل قحطبة حتى نزل عكبراء، ودخل دجلة ومضى حتى نزل ما دون الأنبار، وأرسل طائفة من أصحابه إلى الأنبار وغيرها، وأمرهم بإحدار ما فيها من السفن إلى دممّا ليعبر الفرات «1» ، فحملوا إليه كل سفينة هناك، فقطع الفرات إلى غربيّة، وذلك لثمان مضين من المحرم، وارتحل ابن هبيرة منصرفا مبادرا إلى الكوفة، فعبر دجلة من المدائن، واستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيرون على جانبى الفرات، فقال قحطبة: إن الإمام أخبرنى أن لى بهذا المكان وقعة، يكون النصر لنا، واستدلّ على مخاضة فعبر منها، وقاتل حوثرة ومحمد بن نباتة فانهزم أهل الشام، وفقد قحطبة فقال أصحابه: من كان عنده علم من قحطبة فليخبرنا به، فقال مقاتل بن مالك العكى «2» : سمعت قحطبة يقول: إن حدث بى حدث فالحسن ابنى أمير الناس، فبايع الناس حميد بن قحطبة لأخيه الحسن، وكان أبوه قد سيّره فى سريّة، فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا الأمر إليه، وكشفوا عن قحطبة فوجدوه فى جدول وحرب بن سلّم «3» فتيلين، فظنوا أن كل واحد منهما قتل(22/33)
الآخر، وقيل إن معن بن زائدة ضرب قحطبة، لما عبر الفرات على حبل عاتقه فسقط فى الماء، فقال: شدوا يدى إذا أنا مت وألقونى فى الماء، لئلا يعلم الناس بقتلى، وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام، ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلّال، فسلمّوا هذا الأمر إليه، وقيل بل غرق قحطبة. ولما انهزم ابن نباثة وحوثرة لحقا بابن هبيرة فانهزم لهزيمتهم، ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك، فأمر الحسن بن قحطبة بجمع ذلك فجمع وغنموه.
ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوّدا
فى هذه السنة خرج محمد بن خالد بن عبد الله القسرى بالكوفة وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة، وأخرج عامل ابن هبيرة، وكان خروجه ليلة عاشوراء سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان على الكوفة يوم ذاك زياد بن صالح الحارثى، فسار محمد إلى القصر ودخله، وارتحل زياد ومن معه من أهل الشام، وسمع حوثرة الخير فسار نحو الكوفة، فتفرق عن محمد عامة من معه، فأرسل أبو سلمة الخلال إليه يأمره بالخروج من القصر، خوفا عليه من حوثرة، هذا ولم يبلغ أحدا من الفريقين بهلاك قحطبة، فأبى محمد أن يخرج وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيّأ لقصده، فبينما محمد فى القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: قد جاءت خيل من أهل الشام، فوجّه إليهم عدة من مواليه، فناداهم الشاميون:
نحن جئنا لندخل فى طاعة الأمير، ودخلوا وفيهم مليح بن خالد البجلى، ثم جاءه جهم بن الأصبح «1» الكنانى فى خيل أعظم من تلك، ثم جاءت خيل(22/34)
أعظم منها مع رجل من آل بحدل «1» ، فلما رأى حوثرة ذلك من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط، وكتب محمد بن خالد إلى قحطبة يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة، فقرأ الكتاب على لناس وارتحل نحو الكوفة، فوصلها يوم الإثنين، وقد قيل إن الحسن بن قحطبة أقبل نحو الكوفة، بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلى فهرب منها، فسود محمد بن خالد، وخرج فى أحد عشر رجلا وبايع الناس، ودخلها الحسن من الغد ولما دخل الحسن وأصحابه الكوفة أتوا أبا سلمة الخلال وهو فى بنى سلمة، فاستخرجوه وكان مختفيا، فعسكر بالنخيلة يومين ثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجّه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، وبايع أبا سلمة الناس وكان يقال وزير آل محمد، وهو أبو سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، واستعمل محمد بن خالد على الكوفة، ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن فى جماعة من القواد، وبعث المسيّب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقنّى، وبعث المهلّبى وشرحبيل إلى عين العمر، وبعث بسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة، فقاتله وأخرجه منها فالتحق عبد الواحد بالبصرة، وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملا عليها وعليها سلّم «2» ، وقد لحق به عبد الواحد فأرسل سفيان إليه، يأمره بالتحول من دار الإمارة فأبى، وقاتل ونادى من جاء برأس فله خمسمائة ومن جاء بأسير فله ألف درهم، فقتل معاوية وأتى برأسه إلى سلّم فأعطى قاتله عشرة آلاف، وانكسر سفيان لقتل ابنه فانهزم وذلك فى صفر.
ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام
وكان مقتله فى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وسبب ذلك أن مروان بن(22/35)
محمد أرسل للقبض عليه بالحميمة، ووصف للرسول صفة أبى العباس السفاح، لأنه كان يجد فى الكتب: أن من هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم، وسمّى لرسوله إبراهيم بن محمد، فقدم الرسول فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول إنما أمرت بإبراهيم وهذا عبد الله، فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به إلى مروان، فلما أتاه به قال: ليس هذه الصفة التى وصفت لك، فقال رسله قد رأينا الصفة وإنما سميت إبراهيم، وهذا إبراهيم فحبسه بحرّان، وأعاد الرسل فى طلب أبى العباس فلم يظفروا به، وكان قد توجّه إلى الكوفة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقد اختلف فى قتل إبراهيم، فقيل إن مروان لما حبسه حبس سعيد ابن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملك، وأبا محمد السفيانى، فهلك إبراهيم فى السجن فى وباء وقع بحرّان، وهلك العباس بن الوليد، وعبد الله ابن عمر، فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام ومن معه، وقتلوا صاحب السجن فقتلهم أهل حرّان «1» ، وتخلّف أبو محمد بالسجن فلم يخرج فيمن خرج هو وغيره، فلما قدم مروان من الزاب خلّى عنهم. وقيل إن مروان هدم «2» على إبراهيم بيتا فقتله. وقيل بل جعل رأسه فى جراب مملوء نورة فمات، وقيل إن شراحيل «3» بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوسا مع إبراهيم، فكانا يتزاوران وصار بينهما مودة، فأتى رسول من عند شراحيل إلى إبراهيم يوما بلبن، فقال: يقول لك أخوك إنى شربت من هذا اللبن فاستطبته، فأحببت أن تشرب منه، فشرب منه فشكى من ساعته، وكان يوما يزور فيه شراحيل فأبطأ عليه، فأرسل إليه شراحيل:
إنك قد أبطأت فما حبسك عنى؟ فأعاد عليه إنى لما شربت اللبن الذى بعثت(22/36)
به إلىّ فاشتكيت، فأتاه شراحيل- وحلف بالله أنه ما شرب لبنا فى يومه، ولا بعث به إليك واسترجع، وقال: احتيل والله عليك، فبات إبراهيم ليلته وأصبح ميتا. وكان إبراهيم خيّرا فاضلا كريما، قدم المدينة مرّة ففرّق فى أهلها مالا جليلا، فنال بعضهم منه ألف دينار- وخمسمائة دينار- وأربعمائة دينار، وكانت هذه عطاياه وهباته. وكان مولده فى سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية إسمها سلمى.
قال: ولما قبض على إبراهيم بالحميمة نعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبى العباس عبد الله بن محمد- وهو السفاح، وأوصاهم بالسمع والطاعة له، وأوصاه وجعله الخليفة من بعده وودّعهم، وسار فهلك على ما ذكرنا، وكان من أمر أبى العباس ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية
ذكر بيعة أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وهو ابن الحارثية الذى نصّ عليه أبو هاشم محمد بن الحنفيّة، لما فوّض أمر الشيعة إلى والده، ووعدهم أنه صاحب الأمر، وكان ذلك قبل مولد أبى العباس على ما قدّمنا، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدّان «1» الحارثى، بويع له بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وذلك أنه لما قبض على أخيه إبراهيم بن محمد الإمام عهد إليه كما ذكرناه، وأمره بالمسير إلى الكوفة؛ سار من الحميمة ومعه أهل بيته وأخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد(22/37)
ابنا أخيه إبراهيم، وعمومته داود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد- بنو على بن عبد الله بن عباس، وموسى ابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن على، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، فقدموا الكوفة فى صفر من هذه السنة، وشيعتهم من أهل خراسان بظاهر الكوفة بحمام أعين، فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد «1» مولى بنى هاشم فى بنى أود «2» ، وكتم أمرهم من جميع القواد نحو أربعين ليلة، وأراد فيما ذكر أن يحوّل الأمر إلى آل طالب، لما بلغه موت إبراهيم الإمام، فكان أبو الجهم يقول له: ما فعل الإمام، فيقول لم يقدم بعد، فلما ألحّ عليه قال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسط لم تفتح بعد، وكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل هذا دأبه حتى دخل أبو حميد محمد بن إبراهيم الحميرى من حمام أعين يريد الكناسة، فلقى خادما لإبراهيم الإمام يقال له سابق الخوارزمى فعرفه، فقال له ما فعل إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله، وأنه أوصى إلى أخيه أبى العباس من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم فقال له سابق: الوعد بينى وبينك غدا فى هذا الموضع، وكره سابق أن يأتيهم به إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد إلى أبى الجهم وأخبره، وهو فى عسكر أبى سلمة، فأمره أن يتلطف للقائهم، فرجع أبو حميد إلى موضع ميعاد سابق، فلقيه وانطلق به إليهم، فلما دخل سأل من «3» الخليفة منهم؟
فقال له داود بن على: هذا إمامكم وخليفتكم، وأشار إلى أبى العباس، فسلّم عليه بالخلافة وقبّل يديه ورجليه وعزّاه بإبراهيم، وقال: مرنا بأمرك، ثم رجع وصحبه «4» إبراهيم بن سلمة- رجل كان يخدم بنى(22/38)
العباس- إلى أبى الجهم، فأخبره عن منزلتهم وأن الإمام بعثه إلى أبى سلمة «1» ، يسأله مائة دينار يعطيها أجرة الجمال التى حملتهم، فلم يبعث بها إليهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتى دينار مع إبراهيم بن سلمة، واتفق رأى القواد أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بن كعب وأبو الجهم وغيرهم «2» من القواد إلى أبى العباس، وبلغ ذلك أبا سلمة فسأل عنهم، فقيل له إنهم دخلوا الكوفة لحاجة لهم، وأتى القوم إليهم فقالوا: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فقالوا: هذا- فسلموا عليه بالخلافة وعزّوه بإبراهيم، ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم، وأمر أبو الجهم بقية القواد فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبى الجهم: أين كنت؟ قال:
ركبت إلى إمامى، فركب أبو سلمة إلى الإمام، فأرسل أبو الجهم إلى أبى حميد: أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلنّ على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أدخلوه وحده ومنعوا حفدته من الدخول، فسلّم بالخلافة، فقال له رجل منهم: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه، فنهاه أبو العباس وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره فعاد، وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح، واصطفوا لخروج أبى العباس، وأتوه بالدواب»
فركب برذونا أبلق، وركب معه أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلّى بالناس، ثم صعد المنبر ثانية فقام فى أعلاه، وصعد عمه داود فقام دونه، فتكلم أبو العباس فقال:
الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، فكرّمه «4» وشرفه وعظّمه(22/39)
واختاره لنا، وأيّده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوّام به والذابّين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقرابته، وأنشأنا من آبائه «1» ، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك كتابا على أهل الإيمان «2» يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل فى محكم كتابه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «3»
وقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «4»
وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «5»
وقال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «6»
وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «7»
فأعلمهم جلّ ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم؛ وزعمت السبأيّة «8» الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منّا فشاهت وجوههم، ثم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتمّم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف(22/40)
وبرّ ومواساة فى دينهم، وإخوانا على سرر متقابلين فى آخرتهم، فتح الله ذلك منّة ومنحة «1» لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدّلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استضعفوا فى الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم أهل محبّتنا، ومنزل «2» مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدرككم «3» زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم فى أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح «4» ، والثائر المنيح «5» .
وكان موعكا فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقى المنبر، فقال:
الحمد لله شكرا الذى أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم. أيها الناس: الآن قد قشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من(22/41)
مطالعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، فى أهل بيت نبيّكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم.
أيها الناس: والله ما خرجنا فى طلب هذا الأمر لنكنز «1» لجينا، ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبنى قصرا، وإنما أخرجتنا الأنفة من ابترازهم حقنا، والغضب لبنى عمنا، وما كرهنا «2» من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا، ونحن على فراشنا، وتشتد علينا سوء سيرة بنى أمية فيكم واستذلالهم «3» لكم. واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. تبا تبا لبنى حرب وبنى أمية «4» ، آثروا مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم «5» ، وجاروا فى سيرتهم فى العباد وسنّتهم «6» فى البلاد «7» ، ومرحوا فى أعنة المعاصى، وركضوا فى ميدان «8» الغى، جهلا باستدارج الله. وأمنا لمكر الله فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون.
فأصبحوا أحاديث ومزّقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين، وأدالنا الله من مروان وقد غرّه بالله الغرور، وأرسل لعدو الله فى عنانه حتى عثر فى فضل(22/42)
خطامه، أظنّ عدو الله أن لن يقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده.
ورمى بكتائبه «1» . فوجد أمامه ووراءه. وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته، ما أمات باطله. ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقّنا وإرثنا.
أيها الناس: إن أمير المؤمنين- نصره الله نصرا عزيزا- إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، لأنه كره «2» أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم «3» الله بمروان. عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا فى الأرض بعد صلاحها «4» الشاب «5» المكتهل المتمهل «6» ، المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد إفسادها «7» بمعالم الهدى ومناهج التقوى. فعجّ الناس بالدعاء له ثم قال:
يا أهل الكوفة: إنا والله مازلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله (لنا) «8» شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج «9» بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، فأراكم الله بهم ما كنتم تنتظرون «10» ، وأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام،(22/43)
ونقل إليكم السلطان وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة، فخذوا ما أتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإنّ الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا، ألا وإنّه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد (وأشار بيده إلى أبى العباس) . واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلّى الله عليه وسلّم، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزلا، وداود أمامه حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس فى المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلّى بهم العصر ثم المغرب وجهنّم الليل، وخرج أبو العباس فعسكر بحمام أعين فى عسكر أبى سلمة، ونزل معه فى حجرته «1» بينهما ستر، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسّام، واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن على، وبعث عمه عبد الله بن على إلى أبى عون «2» بن يزيد بشهر زور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط «3» ، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة «4» بن محمد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف. وأقام السفاح بالعسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان قد تنكّر لأبى سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك منه.(22/44)
ذكر هزيمة مروان بالزاب
قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد «1» الملك بن يزيد الأزدى إلى شهرزور، وأنه سار إلى ناحية الموصل، وأن مروان سار من حرّان حتى بلغ الزاب وحفر خندقا، وكان فى عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجّه أبو سلمة إلى أبى عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتّان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد فى ثلاثة آلاف، فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد فى ألفين، وعبد الله الطائى فى ألف وخمسمائة، وعبد الحميد ربعى الطائى فى ألفين، ووداس بن نضلة فى خمسمائة- إلى أبى عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتى؟ قال عبد الله بن على:
أنا، فسيّره إلى أبى عون فقدم عليه، فتحوّل أبو عون عن سرادقه له، فلما كان لليلتين خلتا من شهر جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة سأل عبد الله ابن على عن مخاضة بالزاب فدلّ عليها، فأمر عيينة بن موسى فعبر فى خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله، وأصبح مروان فعقد جسرا وعبر النهر، وسيّر ابنه عبد الله فنزل أسفل من عسكر عبد الله، فبعث عبد الله بن على المخارق بن غفار فى أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فبعث ابن مروان إليه الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو، فأسر فى جماعة وسيّروهم إلى مروان، فأمر أن يؤتى برجل من الأسرى، فأتى بالمخارق، فقال له: أنت المخارق، قال: لا بل أنا من عبيد أهل العسكر، قال:
أفتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر هل تراه فى هذه الرءوس؟
فنظر إلى رأس منها فقال: هذا هو المخارق، فخلّى سبيله، ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن على أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر، وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال، قبل أن يظهر أمر المخارق،(22/45)
فنادى فى الناس بلبس السلاح والخروج إلى الحرب فركبوا، وسار نحو مروان، وكان عسكره عشرين ألفا وقيل اثنا عشر ألفا، فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنّا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، فإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله، ثم التقوا واقتتلوا فجعل عبد الله بن على يقول: يا رب حتى متى نقتل فيك!! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم واشتد القتال، فأمر مروان بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم، فجعل ناس يصيبون منها، فقيل له: إن الناس قد مالوا على المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به، فأرسل إلى ابنه عبد الله أن يسير فيقتل من أخذ من المال شيئا، فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة، الهزيمة، فانهزموا وانهزم مروان وقطع الجسر، وكان من غرق يومئذ أكثر ممّن قتل، وكان ممن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، فاستخرجوه فى الغرقى «1» ، فقرأ عبد الله: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
«2» ، وقيل بل قتله عبد الله بالشام، وحوى عبد الله عسكر مروان بما فيه، فوجد سلاحا كثيرا وأموالا وكتب إلى السفاح بالفتح، فلما أتاه الكتاب أمر لكل من شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم، وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة.
ذكر مقتل مروان بن محمد ودخول أهل الشام وغيرهم فى الطاعة
قال: ولما انهزم مروان أتى مدينة الموصل، وعليها هشام بن عمرو «3»(22/46)
التغلبى وبشر بن خزيمة الأسدى فقطعا الجسر، فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان، فقالوا: كذبتم، لا يفر، وسبّه أهل الموصل، وقالوا له: يا جعدى، يا معطل «1» ، الحمد لله الذى أزال سلطانكم، وذهب بدولتكم، الحمد لله الذى أتانا بأهل بيت نبيّنا، فسار إلى حرّان فأقام بها نيّفا وعشرين يوما، وسار عبد الله حتى دخل الموصل فعزل هشاما، واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار فى أثر مروان، فلما دنا منه حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزما، وخلّف بحرّان ابن أخيه إبان بن يزيد، فقدم عبد الله حرّان فلقيه إبان مسوّدا مبايعا، فبايعه وأمّنه هو ومن كان معه بحرّان والجزيرة، ومضى مروان إلى حمص فلقيه أهلها بالطاعة، فأقام يومين أو ثلاثا وسار، فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم فاتبعوه، والتقوا فقاتلهم وهزمهم، وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلّفه بها ومضى إلى فلسطين. قال: وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن على باتباع مروان، فسار من حرّان بعد أن هدم الدار التى كان إبراهيم قد حبس بها، ووصل إلى منج وقد سوّدوا فأقام بها، وأتته بيعة أهل قنسرين، وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن على مددا من قبل السفاح فى أربعة آلاف، فسار عبد الله الى قنسرين ثم إلى حمص فبايع أهلها، وأقام بها أياما ثم سار إلى بعلبك فأقام بها يومين، ثم سار فنزل قرية مزّة، ونزل أخوه صالح بن على مرج عذراء فى ثمانية آلاف، وكان السفاح قد بعثه مددا لعبد الله، ثم تقدم عبد الله فنزل على الباب الشرقى، ونزل صالح على باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسّام بن إبراهيم على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وبدمشق يومئذ الوليد بن معاوية فحصروه بها ودخلوها عنوة فى يوم الأربعاء لخمس مضين من شهر(22/47)
رمضان منها، فقاتلوا «1» فيها ثلاث ساعات، وقتل الوليد بن معاوية فيمن قتل، وأقام عبد الله بدمشق خمسة عشر يوما، ثم سار يريد فلسطين فلقيه أهل الأردن وقد سوّدوا، فأقام بفلسطين، وأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن على فى طلب مروان، فسار صالح فى ذى القعدة، ومعه ابن فتّان، وعامر بن إسماعيل الحارثى، وأبو عون- فبلغوا العريش، وأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام وهرب إلى جهة مصر، وسار صالح فنزل النيل، ثم نزل الفسطاط، ثم سار ونزل موضعا يقال له ذات الساحل «2» ، وهرب مروان إلى الصعيد، وقدّم صالح أبا عون، وعامر بن إسماعيل الحارثى وشعبة بن كثير المازنى- فساروا، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم وأسروا منهم رجالا، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم فأمنوهم، وساروا فوجدوه نازلا فى كنيسة ببوصير فقاتلوه ليلا، وكان أصحاب أبى عون قليلا، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا ورأوا قلّتنا أهلكونا، فكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله، وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه فصرعه، وصالح صالح جرح أمير المؤمنين فابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة- كان يبيع الرمّان- فاحتز رأسه، فأخذه عامر بن إسماعيل فبعث به إلى أبى عون، وبعثه أبو عون إلى صالح، فلما وصل إليه أمر أن يقص «3» ويقطع لسانه فأخذته هرّة، فقال صالح: لو لم ترنا الأيام من عجائبها إلا لسان مروان فى فم هرة لكفانا، وقيل: إن عبد الله بن على هو الذى قال هذا، قال: وسيّره صالح إلى عبد الله فبعثه إلى السفاح، وكان قتله لليلتين بقيتا من ذى الحجة، ورجع صالح إلى الشام، وخلف أبا عون(22/48)
بمصر. ولما وصل الرأس الى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه، فقال: الحمد لله الذى أظهرنى عليك، وأظفرنى بك، ولم يبق ثأرى قبلك وقبل رهطك أعداء الدين، ثم تمثل:
لو يشربون دمى لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ تروينى
قال: ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التى فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهنّ خادما له، وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذهن، وهنّ نساء مروان وبناته، فسيّرهن إلى صالح بن على، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين، حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوك ما وسعكم من جورنا، قال: إذن لا أستبقى منكنّ واحدة، ألم يقتل أبوك ابن أخى إبراهيم؟! ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن على بن الحسين وصلبه فى الكوفة؟! ألم يقتل الوليد بن يزيد- يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟! ألم يقتل ابن زياد الدعىّ مسلم بن عقيل؟! ألم يقتل يزيد بن معاوية- الحسين بن على وأهل بيته؟! ألم يخرج إليه بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا فوقفهن موقف السبى؟! ألم يحمل إليه رأس الحسين وقد فرغ دماغه؟! فما الذى يحملنى على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم، أما هذا فنعم، وإن أحببت زوّجتك ابنى الفضل، فقالت: بل تحملنا إلى حرّان، فحملهن إليها.
ذكر من قتل من بنى أمية بعد مقتل مروان بن محمد
قال: دخل سديف مولى للسفاح عليه وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه السفاح، فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا(22/49)
فقال سليمان قتلتنى يا شيخ ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل، قال:
ودخل شبل بن عبد الله مولى بنى هاشم على عبد الله بن على وعنده من بنى أمية نحو تسعين رجلا على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بنى العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وباس
لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وغراس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواسى
فلقد غاظنى وغاظ سوائى ... قربهم من نمارق وكراسى
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بذات «1» الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيدا ... وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذى بحرّان أضحى ... ثاويا بين غربة وتناسى
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الانطاع فأكل الطعام عليها، وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا، وأمر عبد الله بن على بنبش قبور بنى أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبى سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كالرماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا فيه جمجمة، وكان يوجد فى القبر العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا، لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط ثم صلبه ثم حرقه وذراه فى الريح، وتتبع بنى أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، فلم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، واستصفى ما لهم من أموال وغيرها، فلما فرغ منهم قال:
بنى أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لى منكم بالأول الماضى(22/50)
يطيّب النفس إن النار تجمعكم ... عوضتم من لظاها شر معتاض
إن كان غيظى لفوت منكم فلقد ... رضيت «1» منكم بما ربى به راض «2»
وقيل إن سديفا أفسد الشعر، الذى ذكرناه عنه للسفاح ومعه كانت الحادثة، وقتل سليمان بن على بن عبد الله بن العباس بالبصرة منهم جماعة.
وألقاهم على الطريق فأكلتهم الكلاب، فاختفى من قدر من بنى أمية.
وتشتت شملهم، وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان ابن عتبة بن أبى سفيان، قال: فكنت لا آتى مكانا إلا عرفت فيه، فضاقت علىّ الأرض فقصت سليمان بن على، وهو لا يعرفنى، فقلت له: لفظتنى البلاد إليك، ودلّنى فضلك عليك، فإما قتلتنى فاسترحت، وإما رددتنى سالما فأمنت، فقال من أنت؟ فعّرفته بنفسى فعرفنى، فقال: مرحبا بك.
حاجتك؟ فقلت: إن الحرم التى أنت أولى الناس بهنّ، وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا، ومن خاف خيف عليه، فبكى كثيرا ثم قال: بل يحقن الله دمك، ويوفّر مالك. ويحفظ حرمك، ثم كتب إلى السفاح: يا أمير المؤمنين، إنّه قد وفد وافد «3» بنى أمية علينا، وإنّا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإنّا يجمعنا وإياهم عبد مناف، فالرحم تبل ولا تفل «4» ، وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لى فليفعل.
وإن فعل فليجعل «5» كتابا عاما إلى البلدان، شكرا «6» لله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا، فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم أمانا، وكان هذا أول أمان بنى أمية.(22/51)
ذكر الخلاف على أبى العباس السفاح وأخبار من خالف وخلع
فى هذه السنة: خلع حبيب بن مرّة المرّى، ومعه أهل البثنيّة وحوران، وكان من قواد مروان، فحمله الخوف على نفسه على الخلاف، فخرج إليه عبد الله بن على وقاتله دفعات، ثم صالحه عبد الله لما خلع أبو الورد.
ذكر خلع أبى الورد وأهل قنّسرين ودمشق
وفيها خلع أبو الورد مجزأة «1» بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابى، وكان من أصحاب مروان وقواده، وكان قد بايع عبد الله بن على وأقام بقنّسرين، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم قائد من قواد عبد الله إلى بالس، فبعث بولد مسلمة ونسائهم، فشكى بعضهم ذلك إلى أبى الورد، فقتل ذلك القائد ومن معه وأظهر الخلع لعبد الله، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك فبيّضوا بأجمعهم، والسفاح يومئذ بالحيرة وعبد الله بن على يقاتل حبيب بن مرّة، فلما بلغ عبد الله ذلك صالح حبيب بن مرّة وأمنّه، وسار إلى قنّسرين للقاء أبى الورد، فمرّ بدمشق فخلّف بها أبا غانم «2» عبد الحميد بن ربعى الطائى فى أربعة آلاف، وكان بدمشق أهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله، فلما قدم حمص انتقض أهل دمشق وبيّضوا، وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدى فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه، وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ثقل عبد الله ولم يتعرضوا لأهله، وأجمعوا على الخلاف، وسار عبد الله وكان قد اجتمع مع أبى الورد جماعة أهل قنّسرين، وكاتبوا من يليهم من(22/52)
أهل حمص وتدمر «1» ، فقدم منهم ألوف، وقدّموا عليهم أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ودعوا إليه، وقالوا هو السفيانى، واجتمعوا فى نحو أربعين ألفا فعسكروا بمرج الأخرم، ودنا عبد الله منهم ووجّه إليهم عبد الصمد بن على فى عشرة آلاف، وكان أبو الورد هو المدبّر لعسكر قنّسرين وصاحب القتال، فناهضهم واقتتلوا وكثر القتل بينهم فانكشف عبد الصمد، ولحق بأخيه عبد الله فأقبل عبد الله والتقوا بمرج الأخرم، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب أبى الورد، وثبت هو فى خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمّن عبد الله أهل قنّسرين وسوّدوا، وبايعوه ودخلوا فى طاعته، ثم انصرف راجعا إلى دمشق، فلما دنا منها هرب الناس بغير قتال، فأمّن عبد الله أهلها ولم يؤاخذهم وبايعوه؛ وأما أبو محمد السفيانى فتغيّب إلى أيام المنصور، ولحق بالحجاز، فكان كذلك إلى أن بلغ زياد بن عبد الله الحارثى عامل المنصور مكانه، فبعث إليه خيلا فقاتلوه فقتلوه. وقيل إن حرب أبى الورد كانت فى سلخ ذى الحجة سنة ثلاث وثلاثين.
ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم
قال: وفى هذه السنة بيّض أهل الجزيرة وخلعوا السفاح، وساروا إلى حرّان وبها موسى بن كعب فى ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها، وليس على أهل الجزيرة رأس تجمعهم، فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلى من أرمينية فاجتمع عليه أهل الجزيرة، وحاصر موسى بن كعب نحوا من شهر، فوّجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة فساروا، واجتاز بقرقيسيا والرّقة وقد بيّض أهلها، فلما انتهى إلى حرّان رحل إسحاق بن مسلم إلى الرّها، وذلك فى سنة ثلاث وثلاثين، وخرج موسى بن كعب إليه، ووجّه إسحاق بن مسلم أخاه(22/53)
بكّار بن مسلم إلى جماعة ربيعة بدارا وماردين، ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحروريّة يقال له بريكة «1» ، فعمد «2» إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة فى المعركة، وانصرف بكّار بن مسلم إلى أخيه بالرها فخلّفه إسحاق بها، وسار إلى سميساط فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بها، وإسحاق يومئذ فى ستين ألفا وبينهم الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرها وحاصر إسحاق بسميساط سبعة أشهر، وكان إسحاق يقول: فى عنقى بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها مات أو قتل، فلما تيقّن قتله طلب الصلح والأمان، فكتبوا إلى السفاح فى ذلك فأمرهم أن يؤمنوه هو ومن معه، فكتبوا بينهم كتابا بذلك، وخرج إسحاق إلى أبى جعفر وكان عنده من آثر أصحابه «3» ، فاستقام أهل الجزيرة والشام، واستعمل أبو العباس السفاح أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف.
ذكر قتل أبى سلمة الخلّال وسليمان بن كثير
قد ذكرنا ما كان من أمر أبى سلمة مع أبى العباس السفاح فى مبتدأ الأمر، وما عامله به عند مقدمه وتنكّر السفاح له، فلما فارق العسكر ونزل المدينة الهاشمية كتب إلى أبى مسلم الخراسانى، يعلمه بخبره وما كان من أمره، فكتب إليه: إن كان أمير المؤمنين قد اطلع على ذلك فليقتله، فلما قدم عليه كتابه قال داود بن على: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتجّ بها أبو مسلم عليك، وأهل خراسان الذين معك أصحابه، ولكن اكتب إلى أبى مسلم أن يبعث إليه من يقتله، فكتب إليه فبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضبّى ليقتله، فقدم على السفاح وأعلمه، فأمر السفاح مناديا فنادى: إن أمير(22/54)
المؤمنين قد رضى على أبى سلمة، ودعاه فكساه، ثم دخل بعد ذلك عليه فى ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامة الليل، وانصرف إلى منزله وحده فقتله مرار بن أنس، وقالوا قتله الخوارج، ثم أخرج من الغد فصلّى عليه يحيى ابن محمد أخو السفاح؛ ودفن بالمدينة الهاشمية فقال سليمان بن المهاجر البجلى فيه:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك صار «1» وزيرا
وكان يقال لأبى سلمة وزير آل محمد، ولأبى مسلم أمين آل محمد، قال:
فلما قتل وجه السفاح أخاه أبا جعفر إلى أبى مسلم، فلما قدم سايره عبيد الله بن الحسن «2» الأعرج وسليمان بن كثير، فقال سليمان لأبى جعفر: يا هذا إنّا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظنّ عبيد الله أنه دسيس من أبى مسلم، فأتى إلى أبى مسلم وأخبره بمقالة سليمان، فأحضر أبو مسلم سليمان بن كثير وقال له: أتحفظ قول الإمام- من اتهمته فاقتله- قال: نعم، قال فإنى قد اتهمتك، قال: أنشدك الله!! قال لا تناشدنى فأنت منطو على غش الإمام، وأمر به فضربت عنقه، ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال له: لست خليفة ولا أمرك بشىء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال السفاح: فاكتمها.
ووجّه أبو مسلم الخراسانى محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يقتل عمّال أبى سلمة ففعل ذلك، فوجّه السفاح عمه عيسى بن على على فارس وعليها محمد بن الأشعث، فأراد محمد قتل عيسى فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرنى أبو مسلم أن لا يقدم علىّ أحد يدّعى الولاية من غيره إلا قتلته، ثم ترك عيسى خوفا من عاقبة قتله، واستحلف عيسى(22/55)
الأيمان المغلظة: أن لا يعلو منبرا، ولا يتقلد سيفا إلا فى جهاد، فلم يل عيسى بعدها ولاية، ولا تقلّد سيفا إلا فى غزوة، ثمّ وجّه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن على واليا على فارس.
ذكر أخبار ابن هبيرة وما كان من أمره
قد ذكرنا أنه كان قد تحصّن بواسط، وأرسل أبو سلمة الحسن بن قحطبة لحصاره فحصره بواسط، وكانت بينهم وقعات أكثرها على ابن هبيرة، فلما ظهر السفّاح بعث أخاه أبا جعفر، لقتال ابن هبيرة بعد رجوعه من خراسان، وكتب إلى الحسن: إن العسكر عسكرك، والقّواد قوّادك، ولكن أحببت أن يكون أخى حاضرا فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته؛ وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك، فلمّا قدم تحوّل الحسن عن خيمته وأنزله فيها، ودام حصاره لابن هبيرة بواسط أحد عشر شهرا، اقتتلوا فيها عدة وقعات، فلما بلغهم مقتل مروان طلبوا الصلح، وكان ابن هبيرة أراد أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن «1» علىّ، فكتب إليه فأبطأ جوابه، وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيّان، ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية السفاح فلم يفعلا، وخرجت السفراء بين أبى جعفر وابن هبيرة، حتى جعل له أمانا وكتب له كتابا، مكث ابن هبيرة يشاور العلماء فيه أربعين يوما حتى رضيه، وأمر السفاح بإمضائه، وكان رأى أبى جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان السفاح لا يقطع أمرا دون أبى مسلم، فكتب السفاح إليه بخبر ابن هبيرة، فكتب أبو مسلم إليه: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
قال: ولما تمّ الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبى جعفر فى ألف(22/56)
وثلاثمائة، وأراد أن يدخل على دابته، فقام إليه الحاجب سلّام بن سليم فقال: مرحبا يا أبا خالد، انزل راشدا فنزل، وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان، فأدخل ابن هبيرة وحده فحادثه ساعة، ثم مكث يأتيه يوما ويتركه يوما، وكان يأتيه فى خمسمائة فارس وثلاثمائة، فقيل لأبى جعفر: إن ابن هبيرة ليأتى فيتضعضع له العسكر، فأنقص من سلطانه شيئا، فأمره أبو جعفر ألا يأتى إلا فى حاشيته، فكان يأتى فى ثلاثين ثم صار يأتى فى ثلاثة أو أربعة، وألحّ السفاح على أبى جعفر بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه، حتى كتب إليه: والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرتك ويتولى قتله، فبعث أبو جعفر من ختم بيوت الأموال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة فأحضرهم، فأقبل محمد بن نباتة، وحوثرة بن سهيل فى اثنين وعشرين رجلا، فأدخل الحاجب حوثرة وابز نباتة فنزعت سيوفهما وكتّفا، واستدعى أبو جعفر رجلين رجلين ففعل بهما كذلك، فقال بعضهم: أعطيتمونا عهد الله وغدرتم، إنا لنرجو أن يدرككم الله، وبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة فى مائة إلى ابن هبيرة، فقالوا: نريد حمل المال، فقال لحاجبه دلّهم على الخزائن ففعل، فأقاموا عند كل بيت نفرا، وأقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبنىّ له صغير فى حجره، فقام حاجبه فى وجوههم فضربه الهيثم على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل، وقتل مواليه، ونحّى ابنه من حجره «1» وقال:
دونكم وهذا الصبى وخرّ ساجدا فقتل، وحملت رءوسهم إلى أبى جعفر، فأمر فنودى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك وخالد بن سلمة المخزومى، فهرب الحكم وأمّن أبو جعفر خالدا فقتله السفاح، ولم يجز أمان أبى جعفر.(22/57)
ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها
وفى هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى على الموصل، وسبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة عاملهم محمد بن صول، وقالوا:
لا يلى علينا مولى لخثعم، وأخرجوه عنهم، فكتب بذلك إلى السفاح، فاستعمل عليهم أخاه يحيى وسيّره إليها فى اثنى عشر ألفا، فنزل قصر الإمارة ولم يظهر لهم ما يكرهونه ولا عارضهم فى أمر، ثم دعاهم فقتل منهم اثنى عشر رجلا، فنفر أهل البلد وحملو السلاح فأعطاهم الأمان، وأمر فنودى من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا، أسرفوا فيه فقيل إنه قتل عشرين ألفا ممّن له خاتم «1» ، ومن ليس له خاتم ما شاء الله، فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء يبكين رجالهن، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان، فقتلوا منهم ثلاثة أيام، وكان فى عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجى، فأخذوا النساء قهرا، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب فى اليوم الرابع، وبين يديه الحراب والسيوف مصلته، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم، فقالت له: ألست من بنى هاشم؟! ألست «2» من بنى عم رسول الله؟! أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهنّ «3» الزنج؟!! فأمسك عن جوابها وبعث معها من أبلغها مأمنها، فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم. وقيل: كان السبب فى قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من كرهية بنى العباس «4» ، وأن امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمىّ من السطح،(22/58)
فوقع على رأس بعض الخراسانية فظنّها فعلت ذلك تعمدا، فاقتحم «1» الدار وقتل أهلها، فثار أهل البلد وقتلوه وثارت الفتنة، وممن قتل معروف بن أبى معروف، وكان من الزهاد العبّاد قد أدرك كثيرا من الصحابة رضى الله عنهم وروى عنهم.
ذكر عمال السفاح
فى هذه السنة كان العامل على مكة والمدينة واليمن واليمامة داود بن على عم السفّاح، وكان قبل ذلك على الكوفة وسوادها فنقله واستعمل على الكوفة وسوادها ابن أخيه عيسى بن موسى، واستقضى على الكوفة ابن أبى ليلى، وكان العامل على البصرة سفيان بن معاوية المهلّبى، وعلى قضائها الحجّاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبا جعفر عبد الله بن محمد بن على، وعلى الشام عبد الله بن على، وعلى مصر أبا عون عبد الملك بن يزيد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى خراسان والجبال أبا مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. وحج بالناس فى هذه السنة داود بن على.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
ذكر دخول ملك الروم ملطيّة وقاليقلا
فى هذه السنة أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطيّة وكمخ «2» ، فنزل كمخ فاستنجد أهلها بأهل ملطية فسار إليهم منها ثمانمائة مقاتل، فقاتلهم الروم فانهزم المسلمون، ونازل الروم ملطية وحصروها، والجزيرة يومئذ مفتونة بما ذكرناه، وعاملها موسى بن كعب بحرّان، فأرسل قسطنطين إلى(22/59)
أهل ملطية: إنى لم أحصركم إلا على علم من اختلاف المسلمين، فلكم الأمان وتعودون إلى بلاد المسلمين حتى أخرب «1» ملطية، فلم يجيبوه، فنصب المجانيق فأذعنوا وسلّموا البلد بالأمان، وانتقلوا إلى بلاد الإسلام، فخرّبها الروم ورحلوا عنها، وسار ملك الروم إلى قاليقلا فنزل مرج الخصىّ، وأرسل كوشان الأرمنى فحصرها، فنقب أخوان من الأرمن من أهل المدينة «2» سورها، فدخل كوشان ومن معه البلد فغلبوا عليها، وقاتلوا الرجال وسبوا النساء والذريّة، وساق الغنائم إلى ملك الروم.
وفيها وجّه السفاح عمه سليمان واليا على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين «3» ومهرجا نقذق واستعمل عمه إسماعيل بن على على الأهواز.
وفيها مات «4» داود بن على فى شهر ربيع الأول واستخلف ابنه موسى، فاستعمل السفاح على مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله «5» بن عبد المدان الحارثى، ووجّه محمد بن يزيد بن عبد المدان الحارثى «6» على اليمن. وفيها توجّه محمد بن الأشعث إلى أفريقية فقاتل أهلها حتى فتحها.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهرى ببخارى على أبى مسلم، ونقم عليه وقال: ما على هذا اتبعنا آل محمد، نسفك الدماء ونعمل بغير الحق، وتبعه أكثر من ثلاثين ألفا، ووجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعى فقتله زياد.(22/60)
وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل واستعمل مكانه إسماعيل بن على وفيها توجّه أبو داود خالد بن إبراهيم إلى الختّل فتحصّن ملكها منه هو وأناس، فألحّ عليه أبو داود فخرج هو ومن معه من دهاقينه، فسار حتى انتهى إلى أرض فرغانة، ودخل بلد الترك وانتهى إلى ملك الصين، وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فبعث بهم إلى أبى مسلم.
وحج بالناس فى هذه السنة زياد بن عبيد الله «1» .
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائة.
ذكر خلع بسّام بن إبراهيم وما كان من أمره وقتل أخوال السفاح
فى هذه السنة خلع بسّام بن إبراهيم، وكان من فرسان أهل خراسان، وسار من عسكر السفاح هو وجماعة على رأيه سرّا إلى المدائن، فوجّه إليهم السفاح خازم بن خزيمة فاقتتلوا، فانهزم بسّام وقتل أكثر من معه واستبيح عسكرهم، وتبعهم خازم إلى أن بلغ ماه «2» ، ثم انصرف فمرّ بذات المطامير، وبها أخوال السفاح من بنى عبد المدان وهم خمسة وثلاثون رجلا، ومن غيرهم ثمانية عشر ومن مواليهم سبعة عشر، فلم يسلّم عليهم فلما جاوزهم شتموه، وكان فى قلبه منهم، لأنه بلغه أن المغيرة بن الفزع من أصحاب بسّام لجأ إليهم، فرجع إليهم فسألهم عن المغيرة، فقالوا: مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام فى قريتنا ليلة ثم خرج منها، فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين يأتيكم عدوه فيأمن فى قريتكم!! فهلا اجتمعتم فأخذتموه!! فأغلظوا له فى الجواب فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعا،(22/61)
وهدم دورهم ونهب أموالهم ثم انصرف، فبلغ ذلك اليمانية فاجتمعوا، ودخل زياد بن عبيد الله الحارثى معهم على السفاح، فقالوا: إن خازما «1» اجترأ عليك واستخف بحقك، وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد وأتوك، معتزين بك طالبين معروفك، حتى إذا صاروا فى جوارك قتلهم خازم، ونهب أموالهم وهدم دورهم بلا حدث أحدثوه، فهمّ بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا على السفاح وصرفوه عن ذلك، وقالا إن له سابقة وإن كنت لا بد قاتله فابعثه لأمر، إن قتل فيه فقد بلغت الذى تريد، وإن ظفر كان ظفره لك. وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابركاوان «2» مع شيبان بن عبد العزيز اليشكرى، وأمر السفاح بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب إلى سليمان بن على وهو بالبصرة بحملهم فى السفن إلى جزيرة ابركاوان وعمان، فسار خازم.
ذكر خبر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز
قال: وسار خازم إلى البصرة وقد انتخب من أهله وعشيرته ومواليه ومن أهل مرو الرّوذ من يثق به، ثم سار فلما وصل إلى البصرة انضم إليه عدة من بنى تميم، فساروا فى البحر إلى جزيرة ابركاون، فوجّه خازم نضلة «3» بن نعيم النّهشلى فى خمسمائة إلى شيبان، فالتقوا وقتتلوا قتالا شديدا، فركب(22/62)
شيبان وأصحابه فى السفن إلى عمان وهم صفريّة، فقاتلهم الجلندى وأصحابه وهم أباضيّة، واشتد القتال بينهم فقتل شيبان ومن معه، وقد ذكرنا فى سنة تسع وعشرين ومائة فى أخبار مروان بن محمد قتل شيبان هذا، وليس هو شيبان الذى قتل بخراسان، ذاك شيبان بن سلمة، ثم سار خازم فى البحر بمن معه حتى أرسوا بساحل عمان، فخرجوا فلقيهم الجلندى وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل بينهم، ثم اقتتلوا من الغد فقتل من الخوارج نحو تسعمائة، وأحرقوا منهم نحو تسعين رجلا، ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم، وجعلوا النفط على أسنة رماحهم، وأضرموا بيوت أصحاب الجلندى وكانت من خشب فاحترقت، واشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأموالهم، فحمل عليهم أصحاب خازم فقتل الجلندى، وبلغ عدة القتلى عشرة آلاف، فبعث برءوسهم إلى البصرة ثم إلى السفاح، واستقدم خازما بعد ذلك بشهر فقدم عليه.
وفيها وجّه السفاح موسى بن كعب إلى السند «1» لقتال منصور بن جمهور، فسار إليه والتقوا فانهزم منصور ومن معه، فمات عطشا فى الرمال، وقيل أصابته بطنة فمات، وسمع خليفته على السند بهزيمته فرحل بعيال منصور، فدخل بهم بلاد الخزر.
وفيها توفى محمد بن يزيد وهو على اليمن، فاستعمل السفاح مكانه على ابن الربيع بن عبيد الله «2» . وفيها تحوّل السفاح من الحيرة إلى الأنبار فى ذى الحجة. وفيها ضرب المنار «3» والأميال من الكوفة إلى مكة المشرفة. وحج بالناس عيسى بن موسى وهو على الكوفة.
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
.(22/63)
ذكر خروج زياد بن صالح
فى هذه السنة خرج زياد بن صالح وراء النهر، فسار إليه أبو مسلم من مرو، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم- نصر بن راشد إلى ترمذ، مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها، ففعل ذلك نصر وأقام بها، فخرج عليه ناس من الطّالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق فقتلوا نصرا، فبعث أبو داود «1» عيسى بن ماهان فقتل قتلة نصر، ومضى أبو مسلم مسرعا حتى انتهى إلى آمل ومعه سبّاع بن النعمان الأزدى، وكان السفاح قد أرسله لقتال زياد بن صالح، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبى مسلم ويقتله، فأخبر أبا مسلم بذلك فحبس سبّاعا بآمل، وغزا أبو مسلم حتى نزل بخارى، فأتاه عدّة من قواد زياد قد خلعوا زيادا، وأخبروا أبا مسلم أن سبّاع بن النعمان أفسد «2» زيادا، فكتب إلى عامله بآمل أن يقتله فقتله، ولجأ زياد إلى دهقان هناك فقتله، وحمل رأسه إلى أبى مسلم، فرجع إلى مرو. وفيها غزا عبد الرحمن «3» بن حبيب جزيرة صقلية فغنم ونهب وسبى بعد أن غزا تلمسان. وحج بالناس فى هذه السنة سليمان بن على.
ودخلت سنة ست وثلاثين ومائة
.(22/64)
ذكر وفاة أبى العباس السفاح
فى هذه السنة: توفى أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح، وكانت وفاته بالأنبار بالمدينة التى بناها وسماها الهاشمية، لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى الحجة- وقيل لاثنتى عشرة ليلة مضت منه- بمرض الجدرى، وله ثلاث وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون، وقيل ثمان وعشرون، وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفى أربع سنين، ومن لدن بويع بالخلافة أربع سنين وتسعة أشهر، وكان جعدا أبيض طويلا، أقنى الأنف حسن الوجه واللحية، وقيل إنه سمّ.
وحكى: أنه وصل عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب بألفى ألف درهم، ولم يعط خليفة هذه الجملة. وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن. أولاده: محمد مات صغيرا ورايطة تزوجها المهدى.
وزراؤه: أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال، وهو أول من لقب بالوزارة، ولم يكن خلّالا وإنما كان منزله بالكوفة بقرب الخلّالين، فكان يجلس عندهم فسمى الخلّال، ثم قتله على ما قدمناه واستوزر خالد بن برمك وقد قدّمنا أنه كان على الخراج. وكانت الدفاتر فى الدواوين صحفا مدرجة، فأول من جعلها دفاتر من جلود خالد بن برمك. قضاته: ابن أبى ليلى الأنصارى ثم يحيى بن سعيد الأنصارى. حاجبه: أبو غسّان صالح بن الهيثم مولاه.
الأمير بمصر: صالح بن على بن عبد الله بن عباس، ثم سار عنها واستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد، ثم عاد صالح بن على وقد جمع له مصر وفلسطين وأفريقية، فسيّر أبا عون إلى أفريقية. قاضيه بها عبد الرحمن بن سالم إلى أن صرفه أبو عون وأعاد حسين بن نعيم، ثم اعتزل وولى أبو عون- عون بن سليمان.(22/65)
قال: ولما مات السفّاح صلّى عليه عمه عيسى بن على، ودفنه بالأنبار العتيقة. وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة وخمس سراويلات وأربعة طيالسة وثلاث مطارف خز.
قيل: نظر السفاح يوما فى المرآة فقال: اللهم إنى لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب، ولكنى أقول: اللهم عمّرنى طويلا فى طاعتك، متمتعا بالعافية، فما استتم كلامه حتى سمع غلاما يقول لغلام:
الأجل بينى وبينك شهران وخمسة أيام، فتطيّر من كلامه، وقال: حسبى الله ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه أستعين. فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى، ومات بعد شهرين وخمسة أيام.
ذكر خلافة المنصور
هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وأمّه سلامة بنت بشر بن يزيد، وهو الثانى من خلفاء بنى العباس. وكان أخوه السفاح قبل وفاته قد عقد البيعة له فى هذه السنة، وجعله ولىّ عهد المسلمين من بعده، وجعل من بعده ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن على، وجعل العهد فى ثوب وختمه بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى «1» ، فلما توفى السفاح كان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة له عيسى بن موسى، وكتب إلى أبى جعفر يعلمه بوفاة السفاح والبيعة له، فلقيه الرسول بمنزل صفيّة «2» ، فقال: صفت لنا إن شاء الله، وكتب إلى أبى مسلم يستدعيه، وكان قد حجّ أيضا وقد تقدّم المنصور فأقبل إليه، فلما جلس ألقى إليه الكتاب فقرأه وبكى واسترجع، ونظر إلى أبى جعفر وقد جزع جزعا شديدا، فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال أتخوّف شرّ عمى(22/66)
عبد الله وشيعة علىّ، فقال: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله تعالى، إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان، وهم لا يعصوننى فسرّى عنه، وبايع له أبو مسلم، وأقبلا حتى قدما الكوفة، قال: ولما بايع عيسى بن موسى الناس لأبى جعفر أرسل إلى عبد الله بن علىّ بالشام، يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور، وأمره أن يأخذ البيعة للمنصور فبايع لنفسه.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
. فى هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور من مكة إلى الكوفة، فصلّى بأهلها الجمعة وخطبهم، وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع أطرافه، وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم فسلّم الأمر إليه.
ذكر خروج عبد الله بن على وقتاله وهزيمته
كان عبد الله بن علىّ قدم على السفاح، فجعله على الصائفة وسيّر معه أهل الشام وخراسان، فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرب، فأتاه الخبر بوفاة السفاح وبيعة المنصور، فرجع وبايع لنفسه وأعلم الناس أن السفاح لما وجّه الجنود إلى مروان بن محمد دعا أهل بيته، وقال: من انتدب منكم لقتال مروان وسار إليه فهو ولى عهدى، فلم ينتدب غيرى وعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت، وشهد له أبو غانم الطائى وخفاف المروروزى وغيرهما من القواد فبايعوه، ومنهم حميد بن قحطبة وغيره، ثم سار عبد الله حتى أتى حرّان، وبها مقاتل العكى «1» قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة، فتحصّن منه مقاتل فحصره أربعين يوما، وكان أبو مسلم قد عاد من(22/67)
الحج مع المنصور كما ذكرناه، فقال للمنصور: إن شئت جمعت ثيابى فى منطقتى وخدمتك، وإن شئت أتيت خراسان وأمددتك بالجنود، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن على، فأمره بالمسير لحرب عبد الله، فسار نحوه فى الجنود ولم يتخلف عنه أحد، فلما بلغ عبد الله إقبال أبى مسلم الخراسانى أعطى العكّى «1» أمانا، فنزل إليه فيمن معه فوجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى الأزدى بالرقة، ومعه ابناه، وكتب معه كتابا، فلما قدموا على عثمان دفع العكّى الكتاب إليه فقتله واحتبس أولاده، قال: وخشى عبد الله ألا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، واستعمل حميد بن قحطبة على حلب، وكتب معه كتابا إلى زفر بن عاصم يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه، فلما كان ببعض الطريق قرأه، فإذا فيه قتله، فأعلم خاصته بما فيه وانقلب إلى العراق على الرصافة، فتبعه ناس كثير، وأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علىّ ليمكر به، فلما أتاه قال له: سمعت أبا العباس يقول: الخليفة بعدى عمى عبد الله، فقال له:
كذبت إنما وضعك أبو جعفر وضرب عنقه، ثم أقبل عبد الله حتى نزل نصيبين وخندق عليه، وقدم أبو مسلم ناحية نصيبين وأخذ طريق الشام ولم يعرض لعبد الله، وكتب إليه: لم أومر بقتالك، وإنما أمير المؤمنين ولّانى الشام، فأنا أريدها، فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام له: كيف نقيم معك؟ وهذا يأتى بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبى ذرارينا، ولكنّا نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله، فقال لهم عبد الله: والله ما يريد الشام وما توجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم، فأبوا إلا المسير إلى الشام، فارتحل عبد الله نحو الشام، فنزل أبو مسلم فى معسكر عبد الله،(22/68)
وغوّر ما حوله من المياه، فقال لأصحابه: ألم أقل لكم، ورجع فنزل فى مكان عسكر أبى مسلم الذى كان به أولا، ثم التقوا واقتتلوا خمسة أشهر عدة وقعات، حتى كادت الهزيمة تكون على أصحاب أبى مسلم، وانهزم بعضهم، فكان أبو مسلم يرتجز فى ذلك فيقول:
من كان ينوى أهله فلا رجع ... فرّ من الموت وفى الموت وقع
فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سبع وثلاثين التقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب عبد الله وتركوا معسكرهم فحواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى المنصور، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا من العسكر، فغضب أبو مسلم. قال: ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علىّ، فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى المنصور، وأما عبد الله فإنه أتى أخاه سليمان بن علىّ بالبصرة، فأقام عنده زمانا متواريا.
ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى
وكان مقتله لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة، قال:
وسبب ذلك أن المنصور كان قد حقد عليه أشياء كثيرة، منها أن أبا مسلم كان قد كتب إلى السفاح يستأذنه فأذن له، وكتب السفاح إلى المنصور- وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان- أن أبا مسلم استأذننى فى الحج وأذنت له، وهو يريد أن أوليه الموسم فاستأذنى أنت فى الحج، فإنك إذا كنت بمكة لا يطمع أن يتقدمك، فكتب المنصور إلى السفاح يستأذنه فى الحج فأذن له، فقال أبو مسلم: ما «1» وجد أبو «2» جعفر عاما يحج فيه غير هذا!! وحجّا معا، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب، ويصلح الآبار(22/69)
والطرق، فصار الذكر له، فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم فى الطريق على المنصور، وأتاه خبر السفاح كما قدّمناه، فكتب إلى أبى جعفر يعزيه بالسفاح ولم يهنئه بالولاية، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع، فغضب المنصور لذلك وكتب إليه كتابا غليظا، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة، وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار، فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له، فأبى عيسى وقد قيل فى أمره ما قدمناه، ثم جهّزه لمحاربة عبد الله بن على ومعه الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبى أيوب وزير المنصور يقول: إنى قد ارتبت «1» من أبى مسلم، فإنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقيه إلى أبى الهيثم ويضحكان استهزاء، فقال أبو أيوب: نحن لأبى مسلم أشد تهمة (منّا) «2» لعبد الله.
فلما انهزم عبد الله وبعث المنصور أبا الخصيب يجمع الأموال، فأراد أبو مسلم قتله فكلّم فيه فخلى سبيله، وقال: أنا أمين على الدماء خائن فى الأموال، وشتم المنصور فرجع أبو الخصيب وأخبر المنصور، فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إنى قد ولّيتك مصر والشام، فهى خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحبّ لقاءك أتيته من قرب، فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يولينى مصر والشام وخراسان لى!! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك.
وأقبل أبو مسلم من الجزيرة وقد أجمع على الخلاف، وخرج يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبى مسلم فى المسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنّا نروى عن ملوك بنى ساسان: إن أخوف ما(22/70)
يكون الوزراء إذا سكنت «1» الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطى نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسى، فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إليه: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغشيشة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وأنت فى طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر ما أنت به، وليس من الشريطة التى أوجبت منك سمع ولا طاعة، وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة، لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به ذات «2» بينك أوكد عنده وأقرب من الباب الذى فتحه عليك.
وقيل إن مكاتبة أبى مسلم إلى المنصور كانت على خلاف ما قدمناه، وأن المنصور لما سار إلى المدائن أخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن على ولمن حضره من بنى هاشم: اكتبوا إلى أبى مسلم، فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه، ويسألونه أن يتمّ ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة البغى، ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور، وبعث المنصور الكتب مع أبى حميد المروروذى وقال له: كلّم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومنّه وأعلمه أنى رافعه وصانع به ما لم أصنع بأحد- إن هو صلح وراجع فله ما أحب «3» ، فإن أبى فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتنى، إن «4» وكلت أمرك(22/71)
إلى أحد سواى، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسى، ولو خضت البحر لخضته، ولو «1» اقتحمت النار لاقتحمتها، حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، وأوصاه ألا يقول له هذا القول إلا بعد الإياس منه، فسار أبو حميد وقدم على أبى مسلم بحلوان، فدفع إليه الكتب وقال: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك- حسدا وبغيا، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك، وقال له: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس وما ذخره الله لك فى ذلك من الأجر عنده أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له: متى كنت تكلمنى بهذا الكلام!! فقال أبو حميد: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم فى بنى العباس، وأمرتنا بقتال من خالف، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا حتى أتيناهم فى بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن يفسد أمرنا وتفرّق كلمتنا؟ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه، وإن خالفتكم فاقتلونى، فأقبل أبو مسلم على أبى نصر مالك بن الهيثم، وقال: أما تسمع كلامه لى!! ما هذا بكلامه، فقال مالك: لا تسمع كلامه ولا يهولنّك هذا منه، فلعمرى ما هذا كلامه، ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنّك، ولقد وقع فى نفسه منك مالا يأمنك معه أبدا، فأمرهم بالقيام فنهضوا.
وأرسل أبو مسلم الكتب إلى نيزك فقال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتى الرى فتقيم بها، فتصيّر ما بين خراسان والرى لك، وهم جندك لا يخالفونك، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت فى جندك، وكانت خراسان من ورائك، وأنت ورأيك.(22/72)
فدعا أبا حميد وقال له: ارجع إلى صاحبك فليس من رأيى أن آتيه، قال: قد عزمت على خلافه، قال: نعم، قال: لا تفعل، قال لا أعود أبدا، فلما أيس منه أبلغه الرسالة، فوجم طويلا ثم قال: قم كررها وارتاع لقوله. وكان المنصور قد كتب لأبى داود- خليفة أبى مسلم بخراسان- حين اتهم أبا مسلم: أن لك إمرة خراسان، فكتب أبو داود إلى أبى مسلم:
إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجع إلا بأمره، فوافاه كتابه وهو على تلك الحال فزاده رعبا، فأرسل إلى أبى حميد فقال له: إنى كنت عازما على المضى إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه، فإنه ممن أثق به فوجّهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبى مسلم وقال: ما أنكرت شيئا، ورأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إلى المنصور فيعتذر إليه، فقال له نيزك:
قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة ... غلب «1» القضاء بحيلة الأقوام
قال: فإذا عزمت على هذا فخار الله لك، احفظ عنى واحدة: إذا دخلت عليه فاقتله، ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور إنه منصرف إليه، وسار نحوه واستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابى، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتمى كله فلم أختمه، وقدم المدائن فى ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان. قال: ولما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس؛ ثم قدم فدخل(22/73)
على المنصور فقبّل يده، فأمره أن ينصرف ويستريح ليلته ويدخل الحمام فانصرف.
فلما كان من الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعة من الحراس، فأمرهم أنه إذا صفّق بيده أن يقتلوا أبا مسلم وتركهم خلف الرواق، واستدعى أبا مسلم فدخل عليه، فقال له المنصور: أخبرنى عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن على، قال: هذا أحدهما، قال: أرنيه فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه، وأقبل يعاتبه وقال له: أخبرنى عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين!؟ قال:
ظننت أن أخذه لا يحلّ، فلما أتانى كتابه علمت أنه وأهل بيته معدن العلم؛ قال: أخبرنى عن تقدمك إياى بطريق مكة، قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمت للرفق؛ وذكره بذنوبه وما أنكره عليه، وكان من جملة ما ذكر له- ألست الكاتب إلىّ تبدأ بنفسك، وتخطب عمتى آمنة «1» بنت على، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت- لا أمّ لك- مرتقى صعبا، ثم قال: وما الذى دعاك إلى قتل سليمان بن كثير؟ مع أثره فى دعوتنا وهو أحد نقبائنا «2» قبل أن يدخلك فى هذا الأمر! قال: أراد الخلاف علىّ وعصانى فقتلته، فلما طال عتاب المنصور له قال: لا يقال لى هذا بعد بلالى وما كان منّى! قال: يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت فى دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، فأخذ أبو مسلم يد المنصور يقبّلها ويعتذر إليه، فقال: والله ما رأيت كاليوم، والله مازدتنى إلا غضبا، فقال أبو مسلم: دع هذا، فو الله قد أصبحت ما أخاف إلا الله، فشتمه المنصور وصفّق بيده على الأخرى، فخرج إليه الحرس فضربه عثمان(22/74)
ابن نهيك فقطع حبائل سيفه، فقال: استبقنى لعدوك يا أمير المؤمنين، فقال: لا أبقانى الله إذن، وأى عدو أعدى لى منك؟! وأخذته سيوف الحرس حتى قتلوه، وهو ينادى العفو العفو، فقال المنصور يا ابن اللخناء والسيوف قد اعتورتك!! وأنشد المنصور «1» :
اشرب بكأس كنت تسقى بها ... أمرّ فى فيك من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى ... كذبت والله أبا مجرم
قال: وكان أبو مسلم قد قتل ستمائة ألف صبرا، قال: ولما قتل قال لأصحابه اجتمعوا، فاجتمعوا فنثرت عليهم بدرة، فلما أكبوا ليلتقطوها طرح عليهم رأس أبى مسلم، فلما رأوه تخاذلوا وتفرقوا، قال: ثم خطب المنصور بعد مقتل أبى مسلم فقال:
أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدأ وأساء معقبا، وأخذ من الناس «2» أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيّته مالو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنّفنا فى إمهاله «3» ، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحلّ لنا عقوبته، وأباحنا دمه فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبيانى:(22/75)
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على الصمد «1»
ثم نزل.
قال: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة وأبى «2» الزبير المكى وثابت البنانى ومحمد بن على بن عبد الله بن عباس والسدّى وروى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ وعبد الله بن المبارك وغيرهما، وقيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيرا أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم خير من أحد، ولكنّ الحجاج كان شرا منه، وكان أبو مسلم فاتكا شجاعا ذا رأى وتدبير وحزم وعقل ومروءة.
قال: ولما قتل كتب المنصور إلى أبى نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبى مسلم يأمره بحمل ثقله، وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبى مسلم، فلما رأى الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه، فقال:
أفعلتموها، وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب المنصور له عهدا على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركى وهو على همذان، إن مرّ بك أبو نصر فاحبسه، فأتاه الكتاب وهو بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاما، فلو أكرمتنى بدخول منزلى، فحضر عنده فأخذه زهير وحبسه، وقدم صاحب العهد على أبى نصر فخلّى زهير سبيله لهواه فيه فخرج، ثم كتب المنصور إلى زهير بقتله، فقال جاءنى كتاب بعهده فخليت سبيله، ثم قدم أبو نصر على المنصور فقال: أشرت على أبى مسلم بالمضى إلى خراسان، قال: نعم، كانت له عندى أياد فنصحته، وإن اصطنعنى أمير المؤمنين نصحت له وشكرت، فعفا عنه، فلما كان يوم الراونديّة قام أبو نصر(22/76)
على باب القصر، وقال: أنا البواب اليوم، لا يدخل أحد وأنا حىّ، فعلم المنصور أنه نصح له، وقيل إن زهيرا سيّر أبا نصر إلى المنصور مقيّدا، فمنّ عليه واستعمله على الموصل والله أعلم.
ذكر خروج سنباذ بخراسان
وفى هذه السنة خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبى مسلم، وكان مجوسيا من قرية من قرى نيسابور يقال اهروانه «1» ، وكان من صنائع أبى مسلم فخرج غضبا لقتله، وكثر أتباعه وكان عامتهم من أهل الجبال، فغلب على نيسابور وقومس والرىّ وتسمى فيروز إصبهيذ، فلما صار بالرى أخذ خزائن أبى مسلم التى كان خلّفها هناك لما حجّ، وسبى الحرم ونهب الأموال ولم يتعرض للتجار، وأظهر أنه يريد قصد الكعبة ليهدمها، فوجّه إليه المنصور جمهور بن مرّار العجلى فى عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والرى على طرف المفازة، فعزم جمهور على مطاولته فلما التقوا قدّم سنباذ النساء من سبايا «2» المسلمات على الجمال فى المحامل، فلما رأين عسكر المسلمين قمن فى المحامل ونادين: وا محمداه!! ذهب الإسلام، وقعقعت الريح فى أثوابهن فنفرت الإبل، وعادت على عسكر المجوس فتفرقوا، وكانت الهزيمة عليهم وتبع المسلمون الإبل، فوضعوا السيوف فى المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاءوا، وكان عدد القتلى نحوا من ستين ألفا وسبى ذراريهم ونساءهم، ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس، وكان بين مخرجه وقتله سبعون ليلة؛ وكان سبب قتله أنه قصد طبرستان ملتجئا إلى صاحبها، فأرسل إلى طريقه غلاما «3» له اسم طوس «4» ، فضرب عنق سنباذ وأخذ ما(22/77)
معه من الأموال، وكتب إلى المنصور بقتله، فطلب المنصور الأموال التى كانت معه من صاحب طبرستان فأنكرها، فسيّر الجنود لحربه فهرب إلى بلاد الديلم.
ذكر خروج ملبّد «1» الشيبانى وقتله
وفى هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيبانى فحكم بناحية الجزيرة، فسار إليه روابط الجزيرة وهم نحو ألف فارس، فقاتلهم فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبى فهزمه ملبّد، فوجّه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان فى ألفين نخبة الجند فهزمهم، واستباح عسكرهم، ثم وجّه إليه نزارا قائدا من قواد خراسان، فقتله ملبّد وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بن مشكان فى جمع كثير فهزمهم، فوجّه إليه صالح بن صبيح فى جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة فهزمهم، ثم سار إليه حميد بن قحطبة- وهو يومئذ على الجزيرة- فهزمه ملبّد، وتحصّن منه حميد وأعطاه مائة ألف درهم، على أن يكفّ عنه، فلما بلغ ذلك المنصور وجّه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن، وضمّ إليه زياد بن مشكان، فأكمن له ملبّد مائة فارس، فلما التقوا خرج الكمين عليهم، فانهزم عبد العزيز وقتل عامة أصحابه، فوجّه إليه خازم بن خزيمة فى نحو ثمانية آلاف من المروروذية، والتقوا واقتتلوا مرة بعد أخرى، فانهزمت ميمنة خازم وميسرته وثبت هو فى القلب، فنادى فى أصحابه:
الأرض، الأرض، فنزلوا وعقروا عامة دوابهم وضربوا بالسيوف حتى تقطعت، وتراجع أصحاب خازم ورشقوا أصحاب ملبّد بالسهام، فقتل ملبّد فى ثمانمائة رجل بالنشاب- وكانوا قد ترجلوا، وقتل منهم قبل ذلك ثلاثمائة، وهرب الباقون فاتبعهم أصحاب خازم، فقتل منهم مائة وخمسون(22/78)
رجلا، وذلك فى سنة ثمان وثلاثين ومائة. وقيل إن خروجه كان فيها.
وحجّ بالناس فى هذه السنة إسماعيل بن على بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل.
ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة.
ذكر خلع جمهور بن مرّار وقتله
فى هذه السنة خلع جمهور «1» بن مرّار العجلى، وسبب ذلك أنه لما هزم سنباذ حوى ما فى عسكره، وكان فيه خزائن أبى مسلم فلم يوجهها إلى المنصور، فخاف فخلع، فوجّه المنصور لحربه محمد بن الأشعث فى جيش عظيم، فسار نحو الرىّ ففارقها جمهور نحو أصفهان فملكها، فأرسل محمد عسكرا وأقام هو بالرى، فأشار على جمهور بعض أصحابه أن يسير فى نخبة عسكره نحو محمد، فسار إليه فبلغ محمدا الخبر فاحتاط وحذر، وأتاه عسكر من خراسان فقوى بهم، والتقوا بقصر الفيروزان بين الرى وأصفهان، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب جمهور، ولحق بأذربيجان، وقتل من أصحابه خلق كثير، ثم قتله أصحابه باسباذروا «2» وحملوا رأسه إلى المنصور.
وفى هذه السنة خرج قسطنطين- ملك الروم- إلى بلاد الإسلام، فدخل ملطية عنوة وقهر أهلها وهدم سورها، وعفا عمن فيها من المقاتلة والذريّة، ثم بنى صالح بن على ما هدمه الروم من سورها.(22/79)
وفيها بايع عبد الله بن على للمنصور فى المسجد الحرام. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن صالح بن على.
ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائة
. فى هذه السنة: كان الفداء بين المنصور وملك الروم، فاستنقذ المنصور أسرى قاليقلا وغيرهم من الروم، وعمّرها وردّ أهلها إليها، وندب إليها جندا من أهل الجزيرة وغيرهم.
وفيها استولى عبد الرحمن بن معاوية على بلاد الأندلس، على ما نذكره فى أخبار الدولة الأموية بالمغرب. وفيها عزل المنصور سليمان بن على عن البصرة، فاختفى أخوه عبد الله بن على ومن معه من أصحابه، خوفا من المنصور، فأرسل المنصور إلى سليمان وعيسى ابنى علىّ فى إحضار عبد الله، وأمّنه فأحضراه إليه وقواده ومواليه فى ذى الحجة، فحبسه المنصور ومن معه من أصحابه، ثم قتل بعضهم بحضرته، وبعث بقيتهم إلى خالد بن إبراهيم- عامل خراسان- فقتلهم بها، واستعمل على البصرة سفيان بن معاوية. وحج بالناس العباس بن محمد بن على.
ودخلت سنة أربعين ومائة
. فى هذه السنة: هلك أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلى عامل خراسان، وكان سبب هلاكه أنّ ناسا من الجند ثاروا به- وهو بكشماهن- ووصلوا إلى المنزل الذى هو فيه، فأشرف عليهم من الحائط ووطىء حرف آجرة، وجعل ينادى أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة به عند الصباح، فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر، فاستعمل المنصور عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدى، فقدم وأخذ جماعة من القواد الذين أتهمهم بالدعاء لولد على بن أبى طالب فقتلهم، وحبس جماعة.(22/80)
وفيها سيّر المنصور عبد الوهاب ابن أخيه إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة، فى سبعين ألف مقاتل إلى ملطية، فعمروا ما كان خربه الروم منها فى ستة أشهر، وأسكنها أربعة آلاف من الجند، وأكثر فيها السلاح والذخائر، وبنى حصن قلوذية «1» ، فعاد إلى ملطية من كان جلا منها.
وفيها حج المنصور فأحرم من الحيرة، فلما قضى حجة توجّه إلى البيت المقدس، ثم سار منه إلى الرّقة فقتل بها منصور بن جعونة العامرى، وعاد إلى هاشمية الكوفة.
وفيها أمر المنصور بعمارة مدينة المصّيصة على يد جبريل بن يحيى، وكان سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل، فبنى السور وسماها المعمورة، وبنى بها مسجدا جامعا، وفرض فيه لألف رجل، وأسكنها كثيرا من أهلها.
ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائة.
ذكر خروج الراوندية على المنصور وقتلهم
والراوندية قوم من أهل خراسان يقولون بتناسخ الأرواح «2» ، ويزعمون أن روح آدم حلت فى عثمان بن نهيك، وأن ربّهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو المنصور، وأن جبريل هو الهيثم بن معاوية، فلما ظهروا وأتوا قصر المنصور فقالوا: هذا قصر المنصور، فقالوا هذا قصر ربنا، فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم ثمانين «3» رجلا، فغضب أصحابهم،(22/81)
وأخذوا نعشا فحملوه وليس فيه أحد، فمرّوا على باب السجن ورموا النعش، وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم، وقصدوا المنصور وهم ستمائة رجل، فغلقت أبواب المدينة، وخرج المنصور من القصر ماشيا، ولم يكن فى القصر دابة، ثم أتى بدابة فركبها، وأمر بعد ذلك اليوم أن تربط دابة معه فى القصر، وخرج المنصور لهم فتكاثروا عليه حتى كادوا يقتلونه، وجاء معن بن زائدة الشيبانى- وكان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة، وكان المنصور شديد الطلب له، وقد بذل فيه مالا كثيرا، فتلثّم وترجّل وقاتل قتالا شديدا، وكان المنصور على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه، فأتاه معن بن زائدة وقال: يا شيخ أنا أحق بهذا اللجام منك فى هذا الوقت وأعظم غناء، فقال المنصور: صدق، فدفعه إليه، فلم يزل يقاتل حتى حصل الظفر بالراوندية، فقال له المنصور: من أنت؟ قال:
طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فقال: قد آمنك الله على نفسك ومالك وأهلك، مثلك يصطنع؛ وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور، وقال: أنا البواب كما ذكرنا ذلك، ونودى فى أهل السوق فقاتلوهم، وفتح باب المدينة فدخل الناس، فحمل عليهم خازم بن خزيمة حتى ألجأهم إلى حائط، ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين، فقال الهيثم بن شعبة: إذا كرّوا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فقاتلهم، ففعل ذلك فقتلوا جميعا، وكان ذلك بالمدينة الهاشمية، وأصيب يومئذ عثمان بن نهيك بسهم، فمرض أياما ومات فصلى عليه المنصور، وجعل على الحرس أبا العباس الطّوسى ثم ولّى المنصور معن بن زائدة اليمن.
ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى إليه
وفى هذه السنة خلع عبد الجبار ابن عبد الرحمن- عامل خراسان- المنصور، وكان سبب ذلك أنه لمّا استعماء المنصور على خراسان عمد إلى(22/82)
القواد، فقتل بعضهم وحبس بعضهم، فبلغ ذلك المنصور، وأتاه كتاب بعضهم يقول: قد نغل «1» الأديم، فقال المنصور لأبى أيوب: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع، فقال اكتب إليه: إنك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوهم، فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا يمتنع، فكتب إليه المنصور فأجابه أن الترك قد جاشت «2» ، وإن فرّقت الجند ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبى أيوب وقال: ما ترى، فقال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهم إلى من غيرها، وأنا موجه إليك الجنود، ثم وجّه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن همّ بخلع أخذوا بعنقه، فلما ورد الكتاب على عبد الجبار أجابه: إن خراسان لم تكن أسوأ حالا منها العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء، فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبى أيوب، فقال له أبو أيوب: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره، فوجّه المنصور إليه المهدى، وأمره بنزول الرى، فسار المهدى ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار، ونزل المهدى نيسابور، فلما بلغ ذلك أهل مرو الروذ ساروا إلى عبد الجبار، وقاتلوه قتالا شديدا فانهزم منهم، والتجأ إلى مقطنة «3» فتوارى فيها، فعبر إليه «4» المجشّر بن مزاحم من أهل مرو الروذ فأخذه أسيرا، فلما قدم خازم أتاه به وألبسه جبة صوف، وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلى عجز البعير، وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب واستخرج منهم الأموال، ثم أمر فقطعت يد عبد الجبار ورجلاه وضربت عنقه، وأمر بتسيير ولده إلى دهلك- جزيرة باليمن، فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند(22/83)
فسبوهم فيمن سبوا، ثم فودوا بعد ذلك. وقيل كان أمر عبد الجبار فى سنة اثنتين وأربعين فى شهر ربيع الأول.
ذكر فتح طبرستان
قال: ولما ظفر المهدى بعبد الجبار بغير تعب كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التى أنفقت على المهدى، فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الرىّ، ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الإصبهبذ، وكان الإصبهبذ يومئذ محاربا المصمغان «1» ملك دنباوند، فبلغه دخول الجند بلاده، ثم قال المصمغان للإصبهبذ متى قهروك صاروا إلىّ، فاجتمعوا على حرب المسلمين وطالت تلك الحروب، فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان، وهو الذى يقول فيه بشار:
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم
وكان عالما ببلاد طبرستان، فأخذ الجنود وقصد الرويان ففتحها وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب وألحّ خازم بالقتال ففتح طبرستان وقتل منهم وأكثر، وصار الإصبهبذ إلى قلعته وطلب الأمان، على أن يسلّم القلعة وما فيها من الذخائر، فكتب المهدى بذلك إلى المنصور، فوجّه المنصور صالحا صاحب المصلى فأحصى ما فى الحصن وانصرفوا، ودخل الإصبهبذ بلاد جيلان «2» من الديلم، وأخذت ابنته وهى أم إبراهيم بن العباس بن محمد، وقصدت الجنود المصمغان فظفروا به.
وفيها عزل زياد بن عبيد الله الحارثى عن مكة والمدينة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى فى شهر رجب،(22/84)
وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية العتكى من أهل خراسان. وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن على بن عبد الله بن عباس وهو يومئذ على الشام.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة.
ذكر خلع عيينة بن موسى
فى هذه السنة خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسند وكان عاملا عليها، وسبب خلعه أن أباه كان يستخلف المسيّب بن زهير على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيّب على ما كان يلى من الشرط، وخاف أن المنصور يحضر عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه، فكتب إليه بيت شعر ولم بسب الكتاب إلى نفسه:
فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم
فخلع الطاعة، فلما بلغ المنصور الخبر سار بعسكره حتى نزل جسر البصرة، ووجه عمر بن حفص بن أبى صفرة العتكى عاملا على السند، وأمره بمحاربة عيينة فسار وغلب على السند.
ذكر نكث الإصبهبذ
فى هذه السنة: نقض الإصبهبذ بطبرستان العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده منهم، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سيّر مولاه أبا الخصيب، وخازم بن خزيمة، وروح بن حاتم، وأقاموا يحاصرون الحصن وهو فيه، ولما طال عليهم المقام احتال أبو الخصيب فى ذلك، فقال لأصحابه: اضربونى واحلقوا رأسى ولحيتى ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ فقال له: إنهم فعلوا بى هذا لأنهم تهمونى أنّ هواى معك، وقال له: إنما أدلك على عورة عسكرهم، فقبل الإصبهبذ ذلك وجعله فى خاصته، وكان باب حصنه من حجر، وكان يوكل بفتحه وغلقه ثقات(22/85)
أصحابه نوبا بينهم، فلما وثق الإصبهبذ بأبى الخصيب وكله بالباب فتولى فتحه وغلقه، فكتب أبو الخصيب إلى روح وخازم وأعلمهم أنه قد ظفر، وأوعدهم ليلة بفتح الباب، فلما كان فى تلك الليلة فتح لهم، فدخلوا الحصن فقتلوا من فيه من المقاتله وسبوا الذريّة، وأخذوا شكلة «1» أم ابراهيم ابن المهدى، وكان مع الإصبهبذ سم فشربه فمات، وقيل إن ذلك كان فى سنة ثلاث وأربعين.
وفى هذه السنة مات سليمان بن على بن عبد الله بن عباس فى جمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة، وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر «2» ، ووليها حميد بن قحطبة، وولّى المنصور أخاه العباس بن محمد على الجزيرة والثغور والعواصم، وعزل عمه إسماعيل عن الموصل واستعمل عليها مالك بن الهيثم الخزاعى. وحج بالناس إسماعيل بن على بن عبد الله بن عباس.
ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة.
فى هذه السنة: ثار الديلم بالمسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فندب الناس المنصور إلى قتال الديلم وجهادهم؛ وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، واستعمل السّرى بن عبد الله بن الحارث بن العباس؛ وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر واستعمل عليها يزيد بن حاتم «3» ، وحج بالناس فى هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله.
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة.(22/86)
فى هذه السنة: سير المنصور الناس من أهل الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم، واستعمل عليهم محمد بن أبى العباس السفاح.
وفيها عزل المنصور عن المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، واستعمل عليها رياح بن عثمان المرى، وكان سبب ذلك أن المنصور كان يتطلب محمد ابن عبد الله بن الحسن وأخاه إبراهيم بن عبد الله، فلما استعمل محمد بن خالد على المدينة أمره بطلبهما، فقدم المدينة وأنفق أموالا عظيمة فى طلبهما، فلم يظفر بهما فعزله واستعمل رياحا، وأمره بمطالبة القسرى بالأموال وطلب محمد وإبراهيم، فقدم المدينة وطالب محمد بن خالد بالمال وضربه وسجنه، وأخذ كاتبه رزاما «1» وعاقبه، وألزمه أن يذكر له ما أخذ محمد من الأموال، فلم يجبه إلى ذلك، فلما طال عليه الأمر وشدّد عليه العذاب أجابه، فقال له رياح: أحضر الرقيعة «2» وقت اجتماع الناس، فلما اجتمع الناس أحضره، فقال: أيها الناس إن الأمير أمرنى أن أرفع على محمد بن خالد، وقد كتبت كتابا وأنا أشهدكم أن كل ما فيه باطل، فأمر به رياح فضرب مائة سوط ورده إلى السجن.
وفيها حج المنصور فلما عاد من حجه إلى المدينة لم يدخلها، ونزل الرّبذة، وكان قد أمر رياحا بحبس أولاد الحسن فحبسهم، فلما رجع أمر بحملهم إلى العراق، فأخرجهم من السجن إلى الربذة والأغلال فى أعناقهم وأرجلهم، وحملوا بغير وطاء، وحبسهم بقصر ابن هبيرة، وضرب محمد ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان «3» - وكان قد حبسه معهم- خمسين ومائة سوط، فسالت إحدى عينيه بضربة أصابتها، ومحمد هذا هو الذى يسمى(22/87)
الديباج، كل ذلك لخوفه من ظهور محمد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة.
ظهور محمد بن عبد الله
فى هذه السنة: ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب «1» بالمدينة ودعا إلى نفسه، وحبس رياح بن عثمان عامل المدينة، وأخرج محمد بن خالد القسرى من الحبس، واستعمل العمال على المدينة ومكة والطائف واليمن، وكان خروجه لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة منها، وكان بينه وبين المنصور مكاتبات سنذكرها فى أخبار محمد بن عبد الله، ولم تغن شيئا، فندب المنصور لقتاله عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس، فالتقوا فقتل محمد فى يوم الإثنين بعد العصر لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان منها، وقتل معه جماعة سنذكر ذلك مستوفى فى أخباره إن شاء الله.
وفيها ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن- وهو أخو محمد- بالبصرة، وبايع الناس، وكان ظهوره فى أول شهر رمضان، وقتل يوم الإثنين لخمس بقين من ذى القعدة منها. وسنذكر ذلك مستوفى فى موضعه إن شاء الله تعالى.
ذكر وثوب السودان بالمدينة
وفى هذه السنة: ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثى فهرب منهم، وسبب ذلك أن المنصور لما استعمله قدم المدينة لخمس بقين من شوال، فنازع جنده التجار فى بعض ما يشترونه منهم، فشكوا ذلك(22/88)
إليه فانتهر التجار وشتمهم، فتزايد طمع الجند فعدوا على صيرفى فنازعوه كيسه، فاستعان بالناس فخلصوه منه «1» ، وشكا أهل المدينة إلى ابن الربيع فلم ينكره، ثم جاء رجل من الجند إلى جزار، فاشترى منه لحما فى يوم جمعة فلم يعطه الثمن، وشهر عليه السيف فضربه الجزار بشفرة فى خاصرته فقتله، واجتمع الجزارون وتنادى السودان فقاتلوهم، ونفخوا فى بوق لهم فسمع السودان من العالية والسافلة فاجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاثة، وهم: وثيق ويعقل وزمعة، فقتلوا فى الجند حتى أمسوا، وقصدوا ابن الربيع فهرب منهم، وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به، وانتهب السودان طعاما للمنصور وزيتا وغيره، فباعوا الحمل الدقيق بدرهمين، والراوية الزيت بأربعة دراهم، ولم يصل الناس فى ذلك اليوم جمعة، فذهب محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبا بموالينا، والله ما قمنا إلا أنفة بما عمل بكم، فأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد فخطبهم ابن أبى سبرة، وحثهم على الطاعة فتراجعوا، ثم قال لهم- من الغد إنكم كان منكم ما كان بالأمس «2» - نهبتهم طعام أمير المؤمنين، فلا يبقيّن عند أحد منه شىء إلا ردّه فردّوه، ورجع ابن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها
وفى هذه السنة ابتدأ المنصور فى بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك أنه كان قد ابنتى المدينة الهاشمية بنواحى الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكناها لذلك، ولجوار أهل الكوفة فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد موضعا لبنائها، وكان بعض جنده قد تخلف عنه بالمدائن لرمد أصابه،(22/89)
فسأله الطبيب الذى يعالجه عن سبب حركة المنصور فأخبره، فقال الطبيب: إنّا نجد فى كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبنى مدينة، بين دجلة والصراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه، فلم يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر زمنا طويلا ويبقى الملك فى عقبه، فقدم ذلك الجندى على المنصور وأخبره الخبر، فقال: أنا والله كنت أدعى مقلاصا ثم زال عنّى، وسار حتى نزل الدير- هو جوار قصره المعروف بالخلد، ودعا صاحب الدير والبطريق وغيرهما، فاتفق رأيهم على عمارتها فى موضعها «1» ، وابتدأ بعمارتها فى سنة خمس وأربعين ومائة، وكتب إلى سائر البلاد فى إنفاذ الصناع والفعلة، وأمر أن يختار له من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخطت المدينة بالرماد، فشقها ورآها، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ونظر إليها وهى تشتعل ففهمها، وأمر بحفر أساسها على ذلك الرسم، ووكل بها أربعة من القواد، كل قائد على ربع، ووكل أبا حنيفة بعدّ «2» الآجر واللبن، وكان قبل ذلك أراده المنصور على ولاية القضاء والمظالم فلم يجب، فحلف المنصور أنه لا بد أن يعمل له، فأجابه أن ينظر فى عمارة بغداد، ويعدّ الآجر واللبن بالقصب- وهو أول من فعل ذلك، وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وجعل فى البناء القصب والخشب، ووضع بيده أول لبنة وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، فلما بلغ السور قدر قامة جاء الخبر(22/90)
بظهور محمد بن عبد الله فقطع البناء وأقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم، ثم عاد إلى بغداد فأتم بناءها، وكان المنصور قد أعد جميع ما تحتاج إليه المدينة، من آلات البناء والخشب والساج وغيره، واستخلف حين شخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعدّ سلّم «1» مولاه، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور فأحرق جميع ذلك.
قال: ولما انقضى أمر إبراهيم عاد المنصور إلى بغداد فى صفر سنة ست وأربعين ومائة، واستشار خالد بن برمك فى نقض المدائن وإيوان كسرى، ونقل النقاضة إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام، فقال له: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم!! وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه، فلم يوف ما تحصل من النقاضة بما غرم عليه من الكلفة، فاستشار خالد بن برمك فقال: كنت لا أرى ذلك قبل، أما إذ فعلت فأرى أن يهدم لئلا يقال عجزت عن هدم ما بناه غيرك، فأعرض عنه وترك هدمه، ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وبابا جىء به من الشام، وبابا من الكوفة كان عمله خالد القسرى، وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وجعل لها سورين، فالسور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره فى وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان اللبن الذى يبنى به ذراع فى ذراع، ووزن بعض اللبن لما نقص فكان مائة رطل وسبعة عشر رطلا، وكانت الأسواق فى المدينة فجاء رسول لملك الروم، فأمر أن يطاف به المدينة، ثم قال له: كيف رأيت؟ فقال: رأيت بناء حسنا إلا أنّ أعداءك معك، وهم السوقة، فأمر المنصور بإخراجهم إلى الكرخ.
قال ابن الأثير: وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة(22/91)
وثلاثين درهما، وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة، والروز كارى «1» بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ وأخذ منهم ما بقى عندهم، فبقى عند خالد بن الصلت خمسة عشر درهما فحبسه عليها وأخذها منه.
وفى سنة خمس وأربعين خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة وحج بالناس السرى بن عبد الله بن الحارث بن العباس.
ودخلت سنة ست وأربعين ومائة
. فى هذه السنة كملت عمارة بغداد، وقد تقدم ذكر ذلك. وفيها عزل سلم بن قتيبة عن البصرة واستعمل عليها محمد بن سليمان؛ وعزل عن المدينة عبد الله بن الربيع، واستعمل عليها جعفر بن سليمان؛ وعزل عن مكة السرى بن عبد الله، ووليها عبد الصمد بن على. وحج بالناس فى هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
ودخلت سنة سبع وأربعين ومائة
. فى هذه السنة أغار استرخان الخوارزمى فى جمع من الترك بناحية أرمينية، فسبى من المسلمين وأهل الذمّة خلقا كثيرا، ودخلوا تفليس، وكان حرب بن عبد الله مقيما بالموصل فى ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزيرة، فسيّر المنصور لمحاربة الترك جبريل بن يحيى وحرب بن عبد الله، فقاتلهم فقتل حرب وهزم جبريل بن يحيى، وقتل خلق من أصحابه.
ذكر البيعة للمهدى «2» وخلع عيسى بن موسى
فى هذه السنة: كلم المنصور عيسى بن موسى فى أن يخلع نفسه من(22/92)
ولاية العهد، وتقدّم للمهدى فامتنع من ذلك، فاطرحه المنصور وحطّ من رتبته، وقدّم المهدى عليه فى الجلوس، وأذاه بأنواع الأذى وأهانه بأنواع الإهانة، وآخر الأمر إن المنصور أمر الربيع أن يخنق عيسى بحمائل سيفه، فخنقه وهو يستغيث: الله الله فى دمى يا أمير المؤمنين، والمنصور يقول:
ازهق نفسه، هذا بحضور أبيه موسى، فقام أبوه عند ذلك وبايع للمهدى، ثم جعل عيسى بن موسى بعده، فقال الناس: هذا الذى كان غدا فأصبح بعد غد هذا أحد الأقوال فى خلعه، وقيل بل شهد عليه ثلاثون نفرا من شيعة المنصور، أنه خلع نفسه وبايع للمهدى فأنكر ذلك، فلم يسمع منه، وقيل بل اشترى المنصور ولاية العهد منه بأحد عشر ألف ألف درهم، وكانت مدة ولاية عيسى الكوفة ثلاث عشرة سنة، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان.
ذكر وفاة عبد الله بن على وخبر عيسى بن موسى
قال: كان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه، وسلّم إليه عمه عبد الله بن على وأمره بقتله، وقال: إن الخلافة صائرة إليك بعد المهدى، فاضرب عنقه وإياك أن تضعف، فينتقض علىّ أمرى الذى دبرته، ثم مضى المنصور إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه:
ما فعل فى الذى أمره، فكتب إليه عيسى: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أنه قتله، وكان عيسى حين أخذ عبد الله من المنصور دعا كاتبه يونس ابن [أبى] «1» فروة، واستشاره فى أمره، فقال: إنما أراد المنصور أن يقتله ثم يقتلك به، لأنه أمرك بقتله سرا ثم يدعيه عليك علانية، فلا تقتله ولا(22/93)
تدفعه إليه سرا أبدا، واكتم أمره، ففعل عيسى ذلك، فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من حرّكهم على الشفاعة فى أخيهم عبد الله، ففعلوا فشفعهم فيه، وقال لعيسى: إنى دفعت إليك عمى وعمك عبد الله ليكون فى منزلك، وقد كلمنى عمومتك فيه وقد صفحت عنه فإيتنا به، فقال:
يا أمير المؤمنين ألم تأمرنى بقتله!! قال: ما أمرتك إلا بحبسه، قال:
بلى، قد أمرتنى، فكذّبه، ثم قال لعمومته: إن هذا قد أقر بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه لنا نقيده به، فسلمه إليهم فخرجوا به إلى الرحبة واجتمع الناس، وقام أحدهم ليقتله فقال عيسى: أفاعل أنت!! قال:
إى والله، فقال: ردّونى إلى أمير المؤمنين فردّوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلنى، هذا عمك حىّ سوىّ، قال: إيتنا به فأتاه به، فقال المنصور: يدخل حتى أرى فيه رأيى ثم صرفهم، وجعله فى بيت أساسه ملح، ثم أجرى الماء على أساسه فسقط عليه البيت فمات، ودفن بمقابر المسلمين بباب الشام وهو أول من دفن فيها، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة.
وحج المنصور فى هذه السنة بالناس
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائة.
ذكر خروج حسّان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانى
قال: وكان خروجه بنواحى الموصل بقرية بافخّارى «1» - وهى قرب الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكر الموصل فهزمهم وعليهم الصقر بن نجدة، ثم سار حسّان إلى الرقة ومنها إلى البحر، ودخل بلد السند ثم عاد إلى الموصل، فخرج إليه الصقر أيضا والحسن بن صالح بن حسّان «2» الهمدانى(22/94)
وبلال القيسى والتقوا، فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال، فقتل حسان بلالا واستبقى الحسن لأنه من همدان، ففارقه بعض أصحابه لهذا.
وفى هذه السنة استعمل الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمى على أفريقية، وبعث بعهده إليه بها؛ وحج المنصور بالناس فى هذه السنة.
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائة
. فى هذه السنة غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث فمات محمد فى الطريق وفيها استتمّ المنصور بناء سور بغداد وخندقها، وفرغ من جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل وعاد. وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد (بن على) «1» بن عبد الله بن عباس.
ودخلت سنة خمسين ومائة.
ذكر خروج استاذ سيس
«2» فى هذه السنة خرج استاذ سيس فى أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، فكان- مما قيل- فى ثلاثمائة ألف مقاتل فغلبوا على عامة خراسان، وسار حتى التقى هو وأهل مرو الروذ وعليهم الأجثم «3» المروروزى، فاقتتلوا فقتل الأجثم، وهزم استاذ سيس عدة من القواد، فوجّه المنصور خازم بن خزيمة لحربه وضمّ إليه القواد، فسار خازم والتقوا واقتتلوا، وكانت بينهم حروب آخرها أن استاذ سيس انهزم، وأكثر المسلمون القتل فى أصحابه، فكان عدة من قتل سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا، ونجا استاذ سيس إلى جبل فى نفريسير، فحصرهم خازم وقتل(22/95)
الأسرى، ووافى أبو عون وابن سلّم «1» ، فنزل استاذ سيس على حكم أبى عون، فحكم أن يوثق هو وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأمضى خازم حكمه وكسى كل رجل ثوبين، وقيل إن استاذ سيس ادعى النبوّة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل؛ وقيل إنه جد المأمون- أبو أمه مراجل.
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن على وهو عامل مكة.
ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائة
. فى هذه السنة عزل المنصور عمر «2» بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبى صفرة عن السند، واستعمل عليها هشام بن عمرو «3» التغلبى، واستعمل عمر بن حفص على أفريقية ثم عزله عنها، واستعمل يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن أبى صفرة.
ذكر بناء الرّصافة للمهدى
فى هذه السنة قدم المهدى من خراسان فى شوال، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة وغيرها، فهنأوه بقدومه فأجازهم وحملهم وكساهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك. وبنى الرصافة. وكان سبب بنائها أن بعض الجند شعبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب، فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله «4» بن العباس، وهو شيخهم وله الحرمة فيهم والتقدم(22/96)
عندهم، فقال له المنصور: أما ترى ما نحن فيه من وثوب الجند علينا، وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟
فقال: يا أمير المؤمنين عندى رأى، إن أظهرته لك فسد وإن تركتنى أمضيته وصلحت خلافتك، وهابك الجند، قال: أفتمضى فى خلافتى شيئا لا أعلمه «1» ؟ فقال له: إن كنت عندك متهما فلا تشاورنى، وإن كنت مأمونا فدعنى أفعل رأيى، فقال له: امضه، فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلاما له فقال له: إذا كان غدا فتقدّمنى فاجلس فى دار أمير المؤمنين، فإذا دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتى، واستحلفنى بحق رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، وسأنهرك وأغلظ لك فلا تجب، وعاود المسألة فسأضربك فعاود، وقل لى أى الحيين أشرف: اليمن أو مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حرّ، ففعل الغلام ما أمره به؛ فقال له قثم: مضر أشرف لأن منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله، فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيئا، فقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة!! ثم قال لغلام له: قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها، ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا:
يفعل هذا بشيخنا!! وأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فتفرّق الحيّان، ودخل قثم على المنصور، وافترقت الجند، فصارت مضر واليمن فرقة والخراسانية فرقة، فقال قثم للمنصور: قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا، كل حزب منهم يخاف أن تضربه بالآخر، وقد بقى فى التدبير بقية، وهى أن تترك ابنك فى ذلك الجانب، وتحوّل معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم(22/97)
بهؤلاء، وإن فسد هؤلاء ضربتهم بأولئك، فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى الرصافة وتولى ذلك صاحب المصلّى.
وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم الإمام، وهو عامل مكة والطائف.
وفيها قتل معن بن زائدة الشيبانى أمير سجستان، بعد منصرفه من غزاة رتبيل وانصرفه إلى بست، فاختفى بعض الخوارج فى منزله، ثم دخلوا عليه وهو يحتجم فقتلوه، وشقّ أحدهم بطنه بخنجر، وقال بعض من ضربه: أنا الغلام الطاقى، والطاق رستاق بقرب زرنج، فقتلهم يزيد بن مزيد فلم ينج منهم أحد، وقام يزيد بأمر سجستان.
ودخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة
. فى هذه السنة غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان المنصور استعمله على خراسان سنة إحدى وخمسين ومائة. وغزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم، وقيل أخوه محمد.
وحجّ بالناس فى هذه السنة المنصور
ودخلت سنة ثلاثة وخمسين ومائة.
ذكر القبض على أبى أيوب الموريانى الوزير وقتله
فى هذه السنة قبض المنصور على أبى أيوب الموريانى وعلى أخيه وبنى أخيه، وكان قد سعى بهم كاتبه إبان بن صدقة، وقيل «1» : كان سبب قبضه أن المنصور فى دولة بنى أمية ورد الموصل، وأقام بها «2» مستترا، وتزوج امرأة من الأزد فحملت منه، ثم فارق الموصل وأعطاها تذكرة،(22/98)
وقال لها: إذا سمعت بدولة بنى هاشم فأرسلى هذه التذكرة إلى صاحب الأمر فهو يعرفها، فوضعت المرأة ولدا سمته جعفرا، فنشأ وتعلّم الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب. وولى المنصور الخلافة فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبى أيوب، فجعله كاتبا [بالديوان فطلب المنصور يوما من أبى أيوب كاتبا] «1» يكتب له شيئا، فأرسل إليه جعفرا، فلما رآه المنصور مال إليه وأحبّه، فأمره بالكتابة فرآه ماهرا حاذقا، فسأله: من أين هو؟ ومن أبوه؟ فذكر له الحال وأراه التذكرة فعرفها، فصار يطلبه فى كل وقت بحجة الكتابة، فخافه أبو أيوب، ثم إن المنصور أحضره يوما وأعطاه مالا، وأمره أن يصعد إلى الموصل ويحضر والدته، وأنه إذا رجع وقارب بغداد لقيه المنصور بالعساكر وغيرها، وأمره أن يكتم حاله ويفارق الديوان مغضبا، فخرج إلى الديوان فقال له أبو أيوب: ما أبطأك؟ قال: كنت فى حاجة لأمير المؤمنين، فسأله عما كتب فقال: ما كنت لأذيع سر أمير المؤمنين، فسبّه أبو أيوب فأغلق جعفر دواته، وقال: والله لا عدت لهذا الديوان أبدا، وفارقه مغضبا فتوهم منه أبو أيوب، وتعرف أحواله ووضع عليه العيون، فقيل له: إن حاله حسنت، وأنه جدّد له مراكيب وسافر، فبعث فى أثره من اغتاله، فقتل وأحضر إليه ما كان معه، فرأى فى متاعه ما دلّه على أنه ولد أمير المؤمنين، فسقط فى يده وتوقع السوء، ولما أبطأ خبره على المنصور بعث إلى الموصل من يسأل عنه، فقالت أمه: لا علم لى به إلا أنه ببغداد، يكتب فى ديوان أمير المؤمنين، فأرسل المنصور من قصّ أثره، ولم يزل يدقّق البحث حتى علم أنّ قتله من قبل أبى أيوب، فنكبه هو وأهله.
وفيها غزا الصائفة معيوف «2» بن يحيى، ووصل إلى حصن من حصون(22/99)
الروم ليلا وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه، وقصد اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين وحجّ فى هذه السنة المهدى بن المنصور بالناس
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائة
. «1» فى هذه السنة سار المنصور إلى الشام وبيت المقدس، وبعث يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة إلى أفريقية فى خمسين ألفا، لحرب الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص.
وحجّ بالناس محمد بن إبراهيم.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائة.
فى هذه السنة سيّر المنصور المهدى لبناء الرّافقة، فسار إليها فبناها على بناء مدينة بغداد، وعمل للكوفة والبصرة سورا وخندقا، وجعل ما أنفق فيه من أموال أهلهما «2» .
قال: وأراد المنصور معرفة عددهم، فأمر أن يقسّم فيهم خمسة دراهم خمسة دراهم، فلما انحصرت له عدتهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كل واحد، فقال شاعرهم:
يالقوم ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا
ودخلت سنة ست وخمسين ومائة.
لم يكن فى هذه السنة من الحوادث ما نذكره فى هذا الموضع. وحجّ بالناس العباس بن محمد بن على.(22/100)
ودخلت سنة سبع وخمسين ومائة.
فى هذه السنة بنى المنصور قصره الذى يدعى الخلد. وفيها حوّل الأسواق إلى الكرخ وتقدم السبب فى ذلك وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس. وفيها مات عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
ودخلت سنة ثمان وخمسين ومائة.
ذكر وفاة أبى جعفر المنصور
كانت وفاته يوم السبت لست خلون من ذى الحجة من هذه السنة ببئر «1» ميمون على أميال من مكة، قال المؤرخ «2» : ورأى المنصور قبل وفاته بيسير أعاجيب كثيرة، ومواعظ مؤذنة بوفاته، منها أنه هتف به هاتف فى قصره فسمعه يقول:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن ... أحسنت فى اليوم «3» كان ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء فى فلك «4»
إلا لنقل «5» السلطان عن ملك ... قد انقضى «6» ملكه إلى ملك
حتى يصيّرانه إلى ملك ... ما عزّ سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض وال ... مرسى الجبال المسخر الفلك(22/101)
فلما سمع المنصور ذلك قال: هذا أوان أجلى، قال الطبرى «1» - وقد حكى عبد العزيز بن مسلم قال: دخلت على المنصور يوما عليه، فإذا هو باهت لا يحير جوابا، فوثبت لأنصرف لما أراه منه، فقال بعد ساعة: إنى رأيت فى المنام كأن رجلا ينشدنى:
أأخىّ أخفض من مناكا ... فكأنّ يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من ... تصريفه ما قد أراكا «2»
فإذا أردت الناقص ال ... عبد الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته ... والأمر فيه إلى سواكا
فهذا ما ترى من قلقى وغمى، فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين، ولم يلبث أن خرج إلى مكة، ومن ذلك أنّه لما نزل آخر منزل نزله من طريق مكة نظر فى صدر البيت الذى نزل فيه فإذا فيه مكتوب:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حرّ المنية مانع
فدعا المتولى لإصلاح المواضع فقال: ألم آمرك ألا يدخل أحد من الدعاة هذا البيت؟! فحلف أنه لم يدخله أحد، فقال: اقرأ ما فى صدر هذا البيت، قال: ما أرى شيئا، فالتفت إلى حاجبه وقال: اقرأ آية من كتاب الله تعالى تشوقنى إلى لقائه، فقرأ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«3» ، فقال له: ما وجدت آية غير هذه الآية، قال: والله لقد محى القرآن من قلبى غيرها.(22/102)
ذكر وصية المنصور لابنه المهدى
قال: ولما سار المنصور من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه «1» ، وأحضر المهدى وكان قد صحبه فوصّاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بكرة وعشية، فلما كان فى اليوم الذى ارتحل فيه قال له:
إنى لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل منها واحدة- وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدى: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإنّ فيه علم آبائك- ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة- فإن أهمّك أمر فانظر إلى الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فى الثانى والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل! واقطن «2» هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين لكفاك لأرزاق الجند والنفقات ومصلحة الثغور والذريّة ومصلحة البعوث، فاحتفظ به، فإنك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل! وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وأن تحسن إليهم وتقدمهم، وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر، فإنّ عزّك فى عزّهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل! وانظر إلى مواليك وأحسن إليهم وقرّبهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل.! وأوصيك بأهل خراسان فإنهم أنصارك، وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم فى دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم فى أهله وولده، وما أظنك تفعل!(22/103)
وإياك أن تبنى المدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل! وإياك أن تستعين برجل من بنى سليم، وأظنك ستفعل! وإياك أن تدخل النساء فى أمرك، واظنك ستفعل! وقيل: إنه قال له إنى ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أن أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل الله لك فيما كربك وحزبك «1» فرجا ومخرجا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى احفظ محمدا صلّى الله عليه وسلّم فى أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام فإنه خوب عند الله عظيم. وعار فى الدنيا لازم مقيم. والزم الحدود فإن فيها صلاحك فى العاجل. ولا تعتد فيها فتبور.
فإن الله تعالى لو علم شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به فى كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب. على من سعى فى الأرض فسادا. مع ما ذخره له عنده من العذاب العظيم، فقال تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
«2» الأية، فالسلطان- يا بنى- حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه القيم. فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه. وأوقع بالملحدين فيه واقمع المارقين منه واقتل الخارجين عنه بالعقاب. ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن. فاحكم بالعدل ولا تشطط. فإن ذلك اقطع للشغب. وأحسم للعدو. وأنجع فى الدواء. وعفّ عن الفىء فليس بك(22/104)
حاجة إليه مع ما أخلفه «1» لك، وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة، وإياك «2» والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبل، وسكن العامّة وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبذير فإن النوائب غير مأمونة- وهى من شيم الزمان، وأعدّ الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد فتتدارك عليك الأمور وتضيع؛ خذ «3» فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا أولا وشمّر فيها، واعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون فى الليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن وأسىء بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من أقمته على بابك، وستهل إذنك للناس وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكّل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم مذ ولى الخلافة، ولا دخل عليه الغمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك، ثم ودّعه وبكيا.
ثم سار المنصور إلى الكوفة وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدى وأشعره «4» وقلّده لأيام خلت من ذى القعدة، فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذى مات به- وهو القيام، ولما اشتد به جعل يقول للربيع: بادر بى حرم ربى هاربا من ذنوبى، وكان الربيع عديله، ووصّاه بما أراد، ولما وصل بئر ميمون مات بها فى التاريخ الذى قدّمناه، ولم يحضر عند موته أحد إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته ومنع من البكاء عليه؛ ثم أصبح فحضر أهل بيته على عادتهم، فأذن الربيع لعمه عيسى(22/105)
فمكث ساعة، ثم أذن لابنه موسى، ثم أذن للأكابر وذوى الأسنان منهم ثم لعامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدى ولعيسى بن موسى من بعده، ثم بايع القواد وعامة الناس، وسار العباس بن محمد، ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس، فبايعوا بين الركن والمقام.
وجهزوا المنصور ففرغوا منه العصر، وكفن وغطى وجهه وبدنه وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه، وصلّى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، ودفن فى مقبرة المعلاة، وحفر له مائة قبر ليغمّوه على الناس، ودفن فى غيرها، ونزل فى قبره عيسى ابن على، وعيسى بن محمد، والعباس بن محمد والربيع والريان مولياه ويقطين، وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل أربعا وستين سنة، وقيل ثمانيا وستين. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا سبعة أيام. وكان أسمر نحيفا خفيف العارضين. أولاده: محمد المهدى وجعفر الأكبر أمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميرى، وكانت تكنى أم موسى، ومات جعفر قبل المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، وجعفر الأصغر أمه أم ولد كرديّه، وصالح المسكين وأمه أم ولد روميّة، والقاسم مات قبل المنصور وله عشر سنين أمه أم ولد تعرف بأم القاسم، والعالية أمها امرأة من بنى أمية- هذا ما نقله ابن الأثير، قال غيره وعبد العزيز والعباس. وزراؤه: أبو عطية الباهلى ثم أبو أيوب الموريانى ثم الربيع مولاه، ووزر له: خالد بن برمك مدة يسيرة. قضاته: عبد الله بن محمد بن صفوان، وشريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطاة؛ وقيل إن يحيى بن سعيد وأبا عثمان التميمى قضيا فى أيامه. حجابه: الربيع مولاه قبل أن يستوزره، ثم عيسى مولاه، ثم أبو الخصيب مولاه.
الأمراء بمصر: صالح بن على واستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد،(22/106)
ثم نقل المنصور صالحا إلى الجزيرة، وأمرّ على مصر موسى بن كعب ثم صرفه، وولى محمد بن الأشعث الخزاعى ثم عزله، وولى حميد بن قحطبة، ثم يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبى صفرة، وولّى عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج فتوفى، فأمّر عليها أخاه محمد بن عبد الرحمن فتوفى فوليها موسى بن على بن رباح. القضاة بها: فى أيام المنصور غوث بن سليمان، ثم سار مع صالح بن على فولى أبو خالد يزيد بن عبد الله «1» بن عبد الرحمن بن بلال، ثم عاد غوث إليها، ثم صرفه يزيد ابن حاتم وولى أبا خزيمة إبراهيم بن يزيد الرعينى، ثم وليها أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان الحضرمى من قبل المنصور، وهو أول قاض خرج لنظر هلال شهر رمضان.
ذكر شىء من سيرة أبى جعفر المنصور
قال سلّام الأبرش: كنت أخدم المنصور وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثوبه اربد لونه واحمرت عيناه. قال: وقال لى يوما: إذا رأيتنى لبست ثيابى أو رجعت من مجلسى فلا يدنون منى أحد، قال: ولم ير فى داره لهو ولا شىء يشبه اللهو والعبث إلا مرة واحدة، رأى بعض أولاده قد ركب راحلة- وهو صبى، وتنكب قوسا فى هيئة غلام أعرابى، بين جوالقين فيهما مقل «2» وأراك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه، وعلموا أنه ضرب من عبث الملوك، قال حماد التركى: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة، فقال: انظر «3» ما هذا؟ فذهبت فإذا خادم له قد(22/107)
جلس وحوله الجوارى، وهو يضرب لهن بالطنبور وهن يضحكن فأخبرته، فقال وأى شىء الطنبور!! فوصفته له، فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور!! فقلت رأيته بخراسان، فقام المنصور إليهن فلما رأينه تفرقن، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسّر الطنبور، وباع الخادم.
قال بعض المؤرخين كان المنصور يخضب بالسواد، وقيل: كان يغير لون شيبه فى كل شهر بألف مثقال مسك. قال: وأمر بتوسعة المسجد الحرام من ناحية باب الندوة سنة تسع وثلاثين ومائة، وبنى مسجد الخيف. وفى أيامه فتحت المولتان والقندهار من أرض السند، وهدم البدّ وبنى مكانه مسجد.
وفى أيامه مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت فى سنة خمس وأربعين ومائة ومات جعفر بن محمد الصادق فى سنة ثمان وأربعين ومائة. وقد قدمنا من أخبار أبى جعفر المنصور، ومن الوقائع التى اتفقت فى أيامه وما أنشأه من المدن والعمائر ما فيه الكفاية، ولا يورد فى التواريخ المختصرة أكثر من هذا فلنذكر أخبار من قام بالأمر بعده والله الموفق.
ذكر خلافة المهدى
هو أبو عبد الله محمد بن أبى جعفر عبد الله المنصور، وأمه أروى أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميرى «1» ، وهو الثالث من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم السبت لست خلون من ذى الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة على ما قدمناه، وقيل إنه لما مات المنصور خرج الربيع وبيده قرطاس، ففتحه وقرأه فإذافيه:(22/108)
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بنى هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ثم بكى وبكى الناس. ثم قال قد أمكنكم البكاء فانصتوا رحمكم الله ثم قرأ:
أما بعد فإنى كتبت كتابى وأنا حىّ، فى آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، وأقرىء عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم من بعدى ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض، ثم أخذ فى وصيتهم وإذ كارهم البيعة له، وحثهم على الوفاء بعهده. ثم تناول يد الحسن ابن زيد العلوى فقال له: قم فبايع الناس، فقام إلى موسى بن المهدى فبايعه لأبيه، ثم بايع الناس الأول فالأول.
ودخلت سنة تسع وخمسين ومائة.
ذكر ظهور المقنّع بخراسان وهلاكه
فى هذه السنة ظهر المقنع بخراسان، وكان رجلا أعور قصيرا من أهل مرو، وكان يسمى حكيما «1» ، وكان اتخذ وجها من ذهب، وجعله على وجهه لئلا يرى فسمى المقنع، وادعى الإلهية ولم يظهر ذلك لجميع أصحابه، وكان يقول: إن الله خلق آدم فتحوّل فى صورته، ثم فى صورة نوح وهكذا إلى أبى مسلم الخراسانى، ثم تحوّل إلى هاشم، وهاشم فى دعواه هو المقنع، ويقول بالتناسخ، فبايعه خلق من ضلال الناس، وكانوا يسجدون له من أى النواحى كانوا، وكانوا يقولون فى الحرب: يا هاشم(22/109)
أعنّا، واجتمع إليه خلق كثير، وتحصّنوا فى قلعة سام «1» بزده، وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونين له، وأعانه كفار الأتراك وأغاروا على أموال المسلمين، واجتمعوا بكش وغلبوا على بعض قصورها فحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر مرة بعد مرة، ثم اشتغلوا بقتال المبيضة فقاتلوهم أربعة أشهر، وهزموهم فلحق منهزموهم بالمقنع، ثم سيّر المهدى أبا عون لمحاربة المقنّع، فلم يبالغ فى قتاله فعزله واستعمل معاذ بن مسلم، فسار معاذ فى سنة إحدى وستين ومائة فى جماعة من القواد والعساكر، فالتقوا واقتتلوا فهزموا أصحاب المقنع، فقصد المنهزمون المقنع وهو بسام، فاصلح خندقها وحصّنها، وأقبل معاذ فحاربهم وكان سعيد الحرشى مع معاذ فنافره، فكتب الحرشى إلى المهدى فى معاذ وضمن له أنه إن أفرده بحرب المقنع كفاه، فأجابه إلى ذلك وانفرد الحرشى بحربه، وأمده معاذ بابنه رجاء فى جيش وبجميع ما التمسه منه، وطال الحصار على المقنع فطلب أصحابه الأمان سرا منه، فأجابهم الحرشى فخرج إليه منهم نحو من ثلاثين ألفا، وبقى المقنع فى ألفين وضايقه العسكر، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله فسقاهم السم فأتى عليهم وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته؛ وقيل بل حرق كل ما فى قلعته من حيوان وغيره، ثم قال: من أحب أن يرتفع معى فى السماء فليلق نفسه معى فى هذه النار. وألقى نفسه مع نسائه وأهله وخواصّه فاحترقوا، ودخل العسكر القلعة فوجدوها خاوية «2» خالية، وكان ذلك مما زاد فى افتتان من بقى من أصحابه؛ وقيل بل شرب هو من السم فمات وأنفذ(22/110)
الحرشى رأسه إلى المهدى، فوصل إليه وهو بحلب فى سنة ثلاث وستين ومائة.
نعود إلى بقية حوادث سنة تسع وخمسين. وفيها توفى حميد بن قحطبة عامل خراسان واستعمل المهدى أبا عون عبد الملك. وحج بالناس يزيد بن منصور خال المهدى عند قدومه من اليمن.
ودخلت سنة ستين ومائة.
فى هذه السنة: خرج يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم بخراسان منكرا سيرة المهدى، واجتمع معه بشر كثير، وتوجّه إليه يزيد بن مزيد الشيبانى وهو ابن أخى معن بن زائدة، فاقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدى وبعث معه بوجوه أصحابه، فقطعت يدا يوسف ورجلاه، وقتل هو وأصحابه وصلبوا على الجسر؛ وقيل إنه كان حروريا وأنه تغلب على بوشنج- وعليها مصعب بن زريق «1» فهرب منه، وتغلّب أيضا على مرو الروذ والطالقان والجوزجان.
ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادى
قال: كان جماعة من بنى هاشم وشيعة المهدى خاضوا فى خلع عيسى من ولاية العهد، والبيعة لموسى الهادى بن المهدى فسّر المهدى بذلك، وكتب إلى عيسى فى القدوم عليه وهو بقريته الرحبة من أعمال الكوفة، فأحسّ بما يراد منه فامتنع من القدوم عليه، فألحّ المهدى عليه حتى بعث إليه يقول: إنك إن لم تجبنى إلى أن تنخلع من ولاية العهد لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك ما يستحلّ من أهل المعاصى، وإن أجبتنى عوضتك منها بما هو أجدى عليك وأعجل نفعا، فلم يقدم عليه وخيف(22/111)
انتقاضه، فوجّه إليه المهدى عمه العباس يستدعيه فلم يجب فلما عاد العباس وجّه المهدى أبا هريرة محمد بن فروخ «1» القائد، فى ألف من شيعة المهدى فأشخصوه إليه، فلما قدم عيسى نزل دار محمد بن سليمان، وأقام أياما يختلف إلى المهدى، وهو لا يكلّمه بشىء ولا يرى مكروها، فحضر الدار يوما قبل جلوس المهدى فجلس فى مقصورة الربيع، وقد اجتمع رؤساء شيعة المهدى على خلعه، فثاروا به وضربوا باب المقصورة بالعمد حتى هشموه، وشتموا عيسى أقبح شتم، وأظهر المهدى إنكارا لما فعلوه فلم يرجعوا، فبقوا فى ذلك أياما وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان: وكاشفه المهدى وألحّ عليه، فذكر أن عليه أيمانا فى أهله وماله، فأفتاه الفقهاء بما رأوا أنه لا يحنث فأجاب إلى خلع نفسه، فأعطاه المهدى عشرة آلاف ألف درهم وضياعا بالزاب وكسكر، وخلع نفسه لأربع بقين من المحرم وبايع للمهدى ولابنه موسى الهادى، ثم جلس المهدى من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم، ثم خرج المهدى إلى الجامع وعيسى معه فخطب الناس، وأعلمهم بخلع عيسى وبيعة الهادى، وبايعهم فسارعوا إلى بيعته، فقال بعض الشعراء:
كره الموت أبو موسى وقد ... كان فى الموت نجاء وكرم
خلع الملك وأضحى ملبسا ... ثوب لوم ما ترى منه القدم
وحجّ المهدى فى هذه السنة بالناس، واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور؛ وفيها نزع المهدى كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة، وكان سبب نزعها أنّ حجبة الكعبة ذكروا له أنهم يخافون على الكعبة أن تتهدم، لكثرة ما عليها من الكسوة فنزعها، وكانت كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وما قبلها من عمل اليمن؛ قال: وطلى جدرانها بالمسك والعنبر، وكانت الكعبة فى جانب المسجد لم تكن متوسطة، فهدم حيطان المسجد وزاد فيه زيادات، واشترى الدور(22/112)
والمنازل حتى صارت الكعبة فى الوسط على ما هى عليه الآن، وحمل من مصر إلى المسجد الحرام أربعمائة وثمانين اسطوانة، وصيّر فيه أربعمائة طاق وثمانية وتسعين طاقا، وجعل له ثلاثة وعشرين بابا، وجعل سلاسل قناديله ذهبا، وجعل ذرعه مكسرا «1» مائة ألف وعشرين ألف ذراع، وقسم مالا عظيما كان معه من العراق، مبلغه ثلاثون ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف درهم، ففرق ذلك كله وفرّق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وألبس خارج القبر المقدس الرخام، وأخذ خمسمائة من الأنصار يكونون حرسا له بالعراق، وأقطعهم بالعراق وأجرى عليهم الأرزاق. وحمل إليه محمد بن سليمان الثلج إلى مكة، وهو أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة.
ودخلت سنة إحدى وستين ومائة.
فى هذه السنة: أمر المهدى ببناء القصور بطريق مكة، وأمر باتخاذ المصانع فى كل منهل، وبتجديد الأموال والبرك «2» وحفر الركايا، وولّى ذلك يقطين بن موسى، وأمر بالزيادة فى مسجد البصرة، وأمر بتقصير المنابر فى البلاد، وجعلها بمقدار منبر النبى صلّى الله عليه وسلّم. وحج بالناس فى هذه السنة موسى الهادى ولى العهد.
ودخلت سنة اثنتين وستين ومائة.
ذكر قتل عبد السلام الخارجى
فى هذه السنة: قتل عبد السلام بن هاشم اليشكرى بقنسرين، وكان قد خرج بالجزيرة فاشتدت شوكته وكثر أتباعه، فلقيه عدة من قواد المهدى(22/113)
فيهم عيسى بن موسى القائد، فقتله فى عدة ممّن معه وهزم جماعة من القواد- فيهم شبيب بن واج المروروذى، فندب المهدى إلى شبيب ألف فارس، وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، فوافوا شبيبا فخرج بهم فى طلب عبد السلام، فهرب عبد السلام منه فأدركه بقنسرين فقاتله بها فقتله.
وفيها وضع المهدى ديوان الأزمّة «1» ، وولّى عليها عمر بن بزيع «2» مولاه. وأجرى المهدى على المجذمين وأهل السجون فى جميع الآفاق الأرزاق.
ودخلت سنة ثلاث وستين ومائة.
فى هذه السنة: تجهّز المهدى لغزو الروم فجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وسار على الموصل والجزيرة وعبر الفرات إلى حلب، وأرسل وهو بحلب فجمع الزنادقة بتلك البلاد فقتلهم وقطع كتبهم. وسار عنها مشيعا لابنه هارون حتى جاز الدرب وبلغ جيحان، وسار هارون بالعساكر فنازل حصن سمالو «3» فحصره ثمانية وثلاثين يوما، ونصب عليه المجانيق ففتحه بالأمان وفتح فتوحا كثيرة.
وفيها ولّى المهدى ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وحج بالناس فى هذه السنة على بن المهدى.
ودخلت سنة أربع وستين ومائة.
فى هذه السنة سار المهدى ليحج فلما بلغ العقبة رأى قلة الماء وحمّ(22/114)
فرجع، وسيّر أخاه صالحا ليحج بالناس، ولحق الناس عطش شديد حتى كادوا يهلكون.
ودخلت سنة خمس وستين ومائة.
فى هذه السنة: سير المهدى ابنه الرشيد لغزو الروم فى خمسة وتسعين ألفا وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلا ومعه الربيع، فوعك الرشيد فى بلاد الروم، ولقيه عسكر نقيطا «1» قومس القوامسة، فبارزه يزيد بن مزيد الشيبانى «2» فأثخنه يزيد، وانهزمت الروم وغلب المسلمون على معسكرهم، وساروا إلى الدمستق وهو صاحب المسالح، فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفا وأربعمائة وخمسين دينارا، ومن الورق أحدا وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم، وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية، والروم يومئذ بيد أغسطه «3» - امرأة إليون- لصغر ابنها، فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفدية، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق فى الطرق، وذلك لأنه دخل مدخلا ضيقا مخوفا، فأجابته إلى ذلك، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار فى كل سنه، ورجع عنها، وكانت الفدية ثلاث سنين، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسا، ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس، وقتل من الروم فى الوقائع كلها أربعة وخمسون ألفا، وقتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا.
وحج بالناس فى هذه السنة صالح بن المنصور.
ودخلت سنة ست وستين ومائة.(22/115)
فى هذه السنة: أخذ المهدى البيعة لولده هارون بولاية العهد بعد أخيه موسى الهادى، ولقب الرشيد، وفيها سخط المهدى على وزيره يعقوب بن داود وقبض عليه.
قال: وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان وهو أبو يعقوب، كان يكتب لنصر بن سيار- هو وإخوته، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمع من نصر، فلما طالب أبو مسلم الخراسانى بدم يحيى بن زيد أتاه داود فأمنه أبو مسلم فى نفسه، وأخذ ماله الذى كان قد استفاده أيام نصر، فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم، ولم تكن لهم عند بنى العباس منزلة، ولم يطمعوا فى خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، وأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من آل الحسين وطمعوا أن تكون لهم دولة، وكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله، وخرج معه فى عدة من أصحابه، فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما، فلما ولى المهدى أطلقهما فيمن أطلق، فاتصل يعقوب بالمهدى بالسعاية بآل على، ولم يزل يرتفع حتى استوزره، وكان المهدى يقول: وصف لى يعقوب فى منامى فقيل لى استورزه فلما رأيته رأيت الخلقة التى وصفت لى فاتخذته وزيرا.
فلما ولى الوزارة أرسل إلى الزيدية فجمعهم وولاهم أمور الخلافة فى الشرق والغرب، ولذلك قال بشار:
بنو أمية هبّوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم باقوم فالتمسوا «1» ... خليفة الله بين الناى «2» والعود
فحسده موالى المهدى وسعوا به، وقالوا: إن الشرق والغرب فى يد يعقوب وأصحابه، ولو كتب إليهم لوثبوا فى يوم واحد وأخذوا الدنيا، فملأ(22/116)
ذلك قلب المهدى فقبض عليه، بعد القرب منه والاختصاص به والتمكّن من دولته.
وفيها أمر المهدى بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، ولم يكن قبل ذلك. وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن يحيى.
ودخلت سنة سبع وستين ومائة.
فى هذه السنة: توفى موسى بن عيسى بالكوفة، وفيها أمر المهدى بالزيادة فى المسجد الحرام ومسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم، فدخلت فيهما دور كثيرة، وكان المتولى للبناء يقطين بن موسى، فبقى البناء إلى أن توفى المهدى.
وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس- وهو على المدينة، ثم توفى بعد فراغه من الحج بأيام وتولى مكانه إسحاق بن عيسى بن على وفيها أفسد العرب فى بادية البصرة بين اليمامة والبحرين، وقطعوا الطريق وتركوا «1» الصلاة وانتهكوا المحارم، فأرسل المهدى إليهم جيشا فقاتلوهم، فكان الظفر للعرب وقتلوا عامة العسكر، فقويت وزاد شرهم.
ودخلت سنة ثمان وستين ومائة.
فى هذه السنة: خرج بأرض الموصل خارجى اسمه ياسين من بنى تميم، فخرج إليه عسكر الموصل فهزمهم، وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فوجّه إليه المهدى أبا هريرة محمد بن فروخ «2» وهرثمة بن أعين(22/117)
مولى بنى ضبّة فحارباه، فصبر لهما حتى قتل عدة من أصحابه وانهزم الباقون.
وفيها فى شهر رمضان نقض الروم الصلح، الذى كان بينهم وبين المسلمين قبل انقضاء مدة الهدنة بأربعة أشهر، فوجّه على بن سليمان وهو على الجزيرة وقنّسرين يزيد بن «1» البطّال فى خيل فغنموا وظفروا.
وحجّ بالناس فى هذه السنة على بن المهدى.
ودخلت سنة تسع وستين ومائة.
ذكر وفاة أبى عبد الله المهدى
كانت وفاته فى يوم الخميس لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنّه كان عزم على خلع ابنه موسى الهادى من ولاية العهد، والبيعة للرشيد وتقديمه على الهادى، فبعث إليه فى ذلك وهو بجرجان فلم يفعل، فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع، فسار المهدى إليه، فلما بلغ ماسبذان قال لأصحابه: إنى أريد النوم فلا توقظونى حتى أكون أنا لذى أنتبه، ونام ونام أصحابه فاستيقظوا ببكائه فأتوه مسرعين، وسألوه عن سبب بكائه فقال: وقف على الباب رجل فقال:
كأنّى بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادى عليه معولات حلائله
فمات بعد ذلك بعشرة أيام. وقد اختلف فى سبب موته، فقيل إنّه كان يتصيّد فطردت الكلاب ظبيا وتبعته، فدخل باب خربة ودخلت(22/118)
الكلاب خلفه، وتبعها فرس المهدى فدخلها، فدقّ الباب ظهره فمات من ساعته. وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرّة لها بلبن فيه سمّ، فشرب منه فمات. وقيل: بل عمدت جاريته حسنة إلى كمثرى، فأهدته إلى طلة «1» جاريته الأخرى، وجعلت السمّ فى أبهى كمثراة فيه، فاجتاز بالمهدى فأخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صاح ومات منها، فكانت الجارية تقول فى بكائها عليه: أردت أن أنفرد بك فأوحشت نفسى منك؛ ومات فى يومه وصلّى عليه ابنه الرشيد، ومات وله من العمر ثمان وأربعون سنة وقيل ثلاث وأربعون، وكانت مدة خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يوما، ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتها.
وكان أبيض طويلا وقيل أسمر، حسن الوجه بعينه اليمنى نكتة بياض.
ذكر شىء من سيرته وأخباره
كان جوادا حازما وصولا يباشر الأمور بنفسه، وكان كثير الولاية والعزل لغير سبب، وردّ على الناس الأموال التى أخذها أبوه. وكان إذا جلس للمظالم قال: أدخلوا علىّ القضاة، فلو لم يكن ردّى للمظالم إلا للحياء منهم. وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدى حتى ظننّا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدى فوجدته قد وضع خدّه بالأرض، وهو يقول: اللهم احفظ محمدا فى أمّته، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبى فهذه ناصيتى بين يديك؛ قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنّا فيه.
قال الربيع: رأيت المهدى يصلى فى ليلة مقمرة، فقرأ قوله تعالى:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ
«2» ،(22/119)
قال: فأتم صلاته والتفت إلىّ وقال: يا ربيع، موسى، فقلت فى نفسى ما هو إلا موسى بن جعفر وكان محبوسا عندى فأحضرته، فقطع صلاته ثم قال: يا موسى إنى قرأت هذه الآية، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثّق لى أنك لا تخرج فوثق له، وخلّى المهدى سبيله.
قال: وبنى المهدى العلمين فى المسعى.
أولاده: موسى الهادى وهارون الرشيد وعلى وعبد الله ومنصور ويعقوب وإسحاق وإبراهيم والبانوقة «1» وعليّة وعباسة وسليمة. ووزراؤه:
أبو عبيد الله معاوية بن عبيد الله «2» الأشعرى ثم يعقوب بن داود بن طهمان ثم نكبه على ما ذكرناه، واستوزر الفيض بن أبى صالح. قضاته: محمد ابن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد وكانا يقضيان فى مسجد الرصافة.
حجابه: سلام الأبرش، وقيل إن الفضل بن الربيع حجبه. الأمراء بمصر:
عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحى ثم صرفه وولى واضحا «3» مولى أبى جعفر المنصور ثم صرفه وولّى أبا صالح يحيى بن داود الحرشى «4» من أهل نيسابور ثم سالم بن سوادة التميمى «5» ثم إبراهيم بن صالح ابن على بن عبد الله عباس ثم موسى بن مصعب «6» من أهل الموصل ثم الفضل بن صالح(22/120)
الهاشمى. القضاة بها: عبد الله بن لهيعة ثم إسماعيل بن اليسع الكندى الكوفى وهو أول حنفى ولى القضاء بها ثم غوث بن سليمان ثم توفى فولى القضاء المفضل بن فضالة. وكان نقش خاتم المهدى حسبى الله.
قال بعض المؤرخين: والمهدى أول من مشى بين يديه بالسيوف المصلتة والقسى والنشاب والعمد، وأول من لعب بالصوالجة فى الإسلام، وله من الآثار الحسنة فى عمارة المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والاهتمام بذلك ما قدمنا ذكره.
ذكر خلافة الهادى
هو أبو محمد موسى بن أبى عبد الله محمد المهدى بن أبى جعفر عبد الله المنصور «1» ، وأمه الخيزران مولدة وهى بنت عطاء مولى أبيه وهى أم الخلفاء، وهو الرابع من الخلفاء العباسيين، بويع له فى يوم وفاة أبيه- وهو يوم الخميس لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، وهو إذ ذاك مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان، فبايع الرشيد للهادى وكتب إلى الآفاق بذلك وردّ العسكر إلى بغداد، وسار نصير «2» الوصيف إلى الهادى بجرجان بالخبر، فنادى بالرحيل وركب على البريد مجدا فبلغ بغداد فى عشرين يوما، ولما قدم استوزر الربيع فهلك الربيع فى هذه السنة، واشتد طلب الهادى للزنادقة فى هذه السنة فقتل منهم جماعة، منهم على بن يقطين وقتل أيضا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدى فأقر بالزندقة، فقال: أم والله، لولا أنى جعلت على نفسى ألا أقتل هاشميا لقتلتك، ثم قال للهادى: أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنّه، ثم حبسه، فلما مات المهدى قتله(22/121)
الهادى. وكان أيضا قد عهد إليه بقتل ولد لداود «1» بن على بن عبد الله بن عباس وكان زنديقا، فمات فى حبس المهدى، قال ابن الأثير: ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادى، فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيها فخوّفت فماتت من الفزع.
ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن [بن الحسن] «2» بن على بن أبى طالب
قال: وظهر فى هذه السنة فى جماعة من الطالبيين، وانتهبوا بيت المال، ثم قصد الحسين مكة فبعث إليه الهادى محمد بن سليمان بن على، فأدركه بفخّ على فرسخ من مكة، فالتقوا واقتتلوا فقتل الحسين، وحمل رأسه إلى الهادى على ما نذكره فى أخبارهم إن شاء الله «3» . وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن منصور.
ودخلت سنة سبعين ومائة.
فى هذه السنة عزم الهادى على خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر، فأجابه إلى ذلك يزيد بن مزيد الشيبانى وعبد الله بن مالك وعلى بن عيسى وغيرهم، فخلعوا هارون وبايعوا لجعفر، ووضعوا الشيعة فتكلموا فى ذلك وتنقصوا الرشيد فى مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به؛ وكان يحيى بن خالد يتولى أمر الرشيد، فقيل للهادى: ليس عليك من أخيك خلاف إنما يحيى يفسده، وكان الرشيد قد اطمأن للخلع فمنعه يحيى منه، فطلب الهادى يحيى وتهدّده بالقتل ورماه بالكفر، فلم يزل يلطف به حتى سكن غضبه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين- إنّك إن حملت الناس على نكث الايمان هانت(22/122)
عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة، قال: صدقت وسكت عنه، فعاد الذين كانوا بايعوه من القواد والشيعة «1» فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع، فأحضر يحيى فكتب إليه: إنّ عندى نصيحة، فأحضره فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذى لا تبلغه- ونسأل الله أن يقدمنا «2» قبله- يعنى موت الهادى- أتظن «3» أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم؟ أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين أفتأ من أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم؟
فتكون قد أخرجت الأمر عن ولد أبيك، والله- لو أنّ هذا الأمر لم يعقده المهدى له كان ينبغى أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحلّه عنه وقد عقده المهدى!! ولكنّى أرى أن تقرّ الأمر على أخيك، فإذا بلغ جعفر خلع الرشيد نفسه وبايعه، فقبل قوله وأطلقه، ثم عاد أولئك القوّاد إلى الهادى وأعادوا القول، فضيّق على الرشيد فى ذلك، فقال له يحيى: استأذنه فى الصيد، فإذا خرجت فأبعد ودافع الأيام، ففعل ذلك فأذن له فمضى إلى قصر مقاتل «4» وأقام أربعين يوما، فأنكر الهادى أمره وكتب إليه بالعود، فتعلّل ثم اعتل الهادى ومات.
ذكر وفاة أبى محمد الهادى
كانت وفاته ليلة «5» الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول، وقيل(22/123)
لأربع عشرة ليلة خلت منه، وقيل بقيت منه سنة سبعين ومائة بعيساباد، واختلف فى سبب وفاته، فقيل كانت بقرحة فى جوفه، وقيل مرض بحديثة الموصل وعاد مريضا فمات، وقيل إن أمّه أمرت جواريها بقتله فقتلنه، قال:
وكان سبب ذلك أنه لما ولى الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه، وتسلك به مسلك المهدى، حتى مضى من خلافته أربعة أشهر، والمواكب تغدو إلى بابها؛ فكلّمته يوما فى أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلا، فقالت: لا بد منه فقد ضمنته لعبد الله بن مالك بن جعفر، فغضب الهادى وقال: والله لا قضيتها، فقالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، قال: لا أبالى والله وغضب «1» ، وقامت مغضبة، فقال: مكانك، والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحد من قوادى وخاصّتى لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك؟! أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكّرك أو بيت يصونك!! إياك إياك، لا تفتحى بابك لمسلم ولا ذمّى، فانصرفت وهى لا تعقل فلم تنطق عنده بعدها؛ ثم قال لأصحابه: أيما خير، أنا أم أنتم؟ وأمى أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير، قال: فأيّكم يحبّ أن يتحدث الرجال بخبر أمّه، فيقولوا فعلت أم فلان وصنعت؟ قالوا: لا نحبّ ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمى فتتحدثون بحديثها!! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها، ثم بعث إلى أمّه بأرز، وقال:
قد استطبتها فكلى منها، فقيل لها: أمسكى حتى تنظرى، فجاءوا بكلب وأطعموه منها فتساقط لحمه لوقته، فأرسل إليها كيف رأيت الأرز؟ قالت طيبا، قال: ما أكلت منها ولو أكلت منها لاسترحت منك، متى أفلح خليفة له أم؟! وقيل كان سبب أمرها بقتله أنه لما جدّ فى خلع الرشيد خافت عليه، فوضعت جواريها عليه فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه، حتى مات والله أعلم.(22/124)
ولما مات كان له من العمر ست وعشرون سنة، واختلف فيه إلى ثلاث وعشرين سنة. وكانت مدة خلافته سنة «1» وشهرا وأربعة وعشرين يوما، وصلّى عليه أخوه الرشيد؛ ودفن بعيساباذ الكبرى فى بستانه، وفى ليلة وفاته مات خليفة، وهو الهادى، وولى خليفة، وهو الرشيد، وولد خليفة، وهو المأمون، وكان طويلا جسيما أبيض مشربا بحمرة أفوه مقلص الشفة العليا، وكان المهدى قد وكل به خادما يقول له: موسى اطبق، فيضم شفته، وكان شجاعا بطلا جوادا سخيا أديبا صعب المرام.
وكان له من الأولاد: عيسى وإسحاق وجعفر وعبد الله وموسى وإسحاق الأصغر. وذكر ابن الأثير فى أولاده العباس وإسماعيل وسليمان ولم يذكر إسحاق الأصغر، وكان ابنه موسى ضريرا، وأم عيسى كانت عند المأمون، وأم العباس وكانت تلقب نونه «2» ، وكلهم أولاد أمهات.
وكان نقش خاتمه: الله ربى. وزراؤه: الربيع بن يونس ثم عمر بن بزيع «3» . حاجبه: الفضل بن الربيع قضاته: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بالجانب الغربى، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحى بالجانب الشرقى.
الأمير بمصر على بن سليمان بن عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس.
قاضيها أبو الطاهر «4» عبد الملك بن محمد بن أبى بكر بن محمد بن عمر بن حزم والله تعالى أعلم.
ذكر خلافة هارون الرشيد
هو أبو محمد هارون وقيل أبو جعفر بن أبى عبد الله محمد المهدى بن أبى جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس، وأمه(22/125)
الخيزران أم أخيه الهادى، وهو الخامس من الخلفاء العباسيين، بويع له بالخلافة يوم وفاة أخيه الهادى.
قال: ولما مات الهادى كان يحيى بن خالد بن برمك محبوسا، وقد عزم الهادى على قتله، فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد وأخرجه وأجلسه للخلافة، فأرسل الرشيد إلى يحيى وأخرجه من الحبس واستوزره؛ وقيل لما مات الهادى جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم فى فراشه، فقال له:
قم يا أمير المؤمنين، فقال: كم تروعنى إعجابا منك بخلافتى! فكيف يكون حالى مع الهادى إن بلغه هذا؟! فأعلمه بموته وأعطاه خاتمه. وأنشئت الكتب بوفاة الهادى وخلافة الرشيد. قال: ولما مات الهادى هجم خزيمة بن خازم على جعفر بن الهادى، وأخذه من فراشه وقال له: لتخلعنّها أو لأضربن عنقك، فأجاب إلى الخلع، وركب خزيمة من الغد وأظهر جعفرا للناس، فأشهدهم بالخلع وأحلّ الناس من بيعته، فحظى بها خزيمة عند الرشيد.
وفيها أفرد الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيّزا واحدا وسميّت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس على يد فرج الخادم التركى ونزلها الناس. وحجّ بالناس الرشيد وقسم بالحرمين عطاء «1» كثيرا.
ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائة.
فى هذه السنة خرج الصحصح الخارجى بالجزيرة وهزم عسكرها، وسار إلى الموصل فقاتله عسكرها، فقتل منهم خلقا كثيرا ورجع إلى الجزيرة، فغلب على ديار ربيعة، وعزل الرشيد أبا هريرة «2» عن الجزيرة وأحضره إلى بغداد وقتله.(22/126)
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن على بن عبد الله بن عباس.
ودخلت سنة اثنين وسبعين ومائة.
كان فى هذه السنة من الحوادث ببلاد الأندلس ما نذكره فى أخبار بنى أمية- ملوك الأندلس، وحجّ بالناس يعقوب بن المنصور.
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة.
فى هذه السنة توفى محمد بن سليمان بن على بالبصرة، فأرسل الرشيد من قبض تركته، فحمل منها «1» ما يصلح للخلافة فكان جملة ما أخذ منها ستين ألف ألف. وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد، فحمل الرشيد جنازتها ودفنها فى مقابر قريش، ولما فرغ من جنازتها أخذ الخاتم من جعفر بن يحيى ابن خالد وأعطاه للفضل بن الربيع. وحجّ الرشيد فى هذه السنة بالناس وأحرم من بغداد.
ودخلت سنة أربع وسبعين ومائة.
فى هذه السنة حج الرشيد فقسم أموالا كثيرة فى الناس. وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبى يوسف فى حياة أبيه.
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائة.
فى هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد. ولقبه الأمين وعمره خمس سنين. وحجّ الرشيد فى هذه السنة بالناس.
ودخلت سنة ست وسبعين ومائة.
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله
فى هذه السنة ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن(22/127)
أبى طالب بالديلم، واشتدت شوكته وكثرت جموعه وأتاه الناس من الأمصار، فأهمّ الرشيد أمره فندب الفضل بن يحيى فى خمسين ألفا، وولاه جرجان وطبرستان والرى وغيرها وحمل معه الأموال، فكتب إلى يحيى بن عبد الله ولاطفه وبسط أمله وحذّره، ونزل الفضل بالطالقان ووالى كتبه إلى يحيى، وكاتب صاحب الديلم وبذل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى، فأجاب يحيى إلى الصلح على أن يكتب الرشيد أمانه بخطه، ويشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلّة بنى هاشم ومشايخهم، فأجاب الرشيد إلى ذلك وبعث له بالأمان وبعث بهدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل إلى بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب وأمر له بمال كثير، ثم حبسه الرشيد فمات فى الحبس.
ذكر الفتنة بدمشق
فى هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، وكان رأس المضرية أبو الهيذام عامر بن عمارة «1» بن خريم الناعم، وكان سبب الفتنة أن غلاما للرشيد بسجستان قتل أخا لأبى الهيذام، فخرج أخوه بالشام غضبا له، وجمع جمعا عظيما ورثاه فقال:
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإنّ بها ما يدرك الطالب الوترا
ولسنا كمن ينعى «2» أخاه بعبرة ... يعصّرها من ماء مقلته عصرا
وإنّا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظهرا
ولكنّنى «3» أشفى الفؤاد بغارة ... ألهّب فى قطرى كتائبها جمرا(22/128)
ثم إن الرشيد احتال عليه بأخ له، كتب إليه وأرغبه فشد عليه وكتفه.
وأتى به الرشيد فمنّ عليه وأطلقه. وقيل فى هياج هذه الفتنة غير هذا والله أعلم.
وفيها خرج الفضل الخارجى بنواحى نصيبين، وأخذ من أهلها مالا، وسار إلى دارا وآمد وأرزن فأخذ منهم مالا، وفعل كذلك بخلاط «1» ثم عاد إلى نصيبين، وأتى الموصل فخرج إليه عسكرها فهزمهم على الزاب، ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائة.
ذكر الفتنة بالموصل
فى هذه السنة خالف العطاف بن سفيان الأزدى على الرشيد. وكان من فرسان أهل الموصل. واجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج.
وكان عامل الرشيد على الموصل محمد بن العباس الهاشمى، وقيل عبد الملك ابن صالح، والعطاف غالب على الأمر كله وهو يجبى الخراج، وأقام على ذلك سنتين، حتى خرج الرشيد إلى الموصل فهدم سورها بسببه.
وفيها عزل الرشيد حمزة بن مالك عن خراسان، واستعمل عليها الفضل بن يحيى بن خالد- مضافا إلى ما كان بيده من الأعمال وهى الرى وسجستان وغيرهما. وحج بالناس فى هذه السنة الرشيد.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائة
ذكر الفتنة بمصر
فى هذه السنة وثبت الحوفية بمصر بعاملهم إسحاق بن سليمان، وقاتلوه(22/129)
فأمده الرشيد بهرثمة بن أعين- وكان عامل فلسطين، فقاتلوا الحوفية- وهم قيس وقضاعة- فأذعنوا بالطاعة وأدّوا ما عليهم للسلطان، فعزل الرشيد إسحاق واستعمل عليها هرثمة. ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح.
ذكر خروج الوليد بن طريف
فى هذه السنة خرج الوليد بن طريف التغلبى الخارجى بالجزيرة. ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم قويت شوكة الوليد. فرحل إلى أرمينية وحصر خلاط عشرين يوما، ففدوا أنفسهم منه بثلاثين ألفا. ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان وأرض السواد. ثم عبر إلى غربى دجلة وقصد مدينة بلد- فافتدوا منه بمائة ألف. وعاث فى أرض الجزيرة، فسيّر إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة- وهو ابن أخى معن بن زائدة الشيبانى.
فقال الوليد:
ستعلم يا يزيد إذا التقينا ... بشطّ «1» الزاب أى فتى يكون
ثم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا فقتل الوليد. فقال بعض الشعراء:
وائل بعضهم يقتّل بعضا ... لا يفل الحديد إلا الحديد
قال: ولما قتل الوليد صحبتهم أخته ليلى «2» بنت طريف مستعدة عليها الدرع. فجعلت تحمل على الناس فعرفت. فقال يزيد دعوها. وخرج إليها فضرب قطاة فرسها بالرمح. ثم قال: اغربى «3» غرب الله عليك!! فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت. ورثته أخته ليلى بقصيدتها المشهورة التى تقول فيها:(22/130)
فيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع «1» على ابن طريف
فتى لا يريد «2» الزاد إلا من لتقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
وفيها فوّض الرشيد أمر دولته كلها إلى خالد بن يحيى البرمكى. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن على.
ودخلت سنة تسع وسبعين ومائة
فى هذه السنة اعتمر الرشيد فى شهر رمضان شكرا لله تعالى على قتل الوليد بن طريف، وعاد إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج، وحجّ بالناس ومشى من مكة إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيا، ورجع على طريق البصرة، وفيها مات الإمام مالك بن أنس الأصبحى رضى الله عنه ورحمه، وكانت وفاته بالمدينة وله تسعون سنة.
ودخلت سنة ثمانين ومائة.
ذكر ولاية على بن عيسى خراسان- وخبر حمزة الخارجى
فى هذه السنة عزل الرشيد منصور بن يزيد عن خراسان، واستعمل عليها جعفر بن يحيى ثم عزله بعد عشرين يوما، واستعمل عليها على بن عيسى ابن ماهان فولّيها عشر سنين. وفى ولايته خرج حمزة بن أترك الخارجى، فجاء إلى بوشنج فخرج إليه عمرويه بن يزيد الأزدى، وكان على هراة فى ستة آلاف، فقاتله فهزمه حمزة وقتل من أصحابه جماعة، ومات عمرويه فى الزحام، فوجّه إليه على بن عيسى ابنه الحسين فى عشرة آلاف، فلم يحارب حمزة فعزله وسيّر ابنه عيسى بن على، فقاتل حمزة مرة بعد أخرى، وكان حمزة بنيسابور فانهزم حمزة وقتل أصحابه وبقى فى أربعين رجلا، فقصد(22/131)
قهستان فأرسل عيسى إلى القرى التى كان أهلها يعينون الخوارج، فأحرقها وقتل الخوارج حتى انتهى إلى زرنج، فقتل ثلاثين ألفا ورجع، وخلف بزرنج عبد الله بن العباس، فجبى الأموال وسار بها فلقيه حمزة وقاتله، فصبر عبد الله وانهزم حمزة، وقتل كثير من أصحابه واختفى هو ومن سلّم من أصحابه فى الكروم، ثم سار فى القرى يقتل ولا يبقى على أحد، وكان على ابن عيسى قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج، فسار إليه حمزة وانتهى إلى مكتب فيه ثلاثون غلاما فقتلهم وقتل معلمهم، وبلغ طاهر الخبر فأتى قرية فيها قعد الخوارج. وهم الذين لا يقاتلون ولا ديوان لهم، فقتلهم طاهر وأخذ أموالهم. فكتب العقد إلى حمزة بالكفّ فكفّ، ووادعهم وأمن الناس مدة. وكانت بينه وبين أصحاب على بن عيسى حروب كثيرة.
وحج بالناس فى هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على
ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائة.
فى هذه السنة غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصّفصاف، وغزا عبد الملك بن صالح الروم فبلغ أنقرة. وافتتح مطمورة. وفيها أحدث الرشيد فى صدور الكتب الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وحج بالناس الرشيد.
ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة.
فى هذه السنة بايع الرشيد لابنه عبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين، وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان ولقبه المأمون، وسلّمه إلى جعفر بن يحيى. وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ(22/132)
دفسوس «1» مدينة أصحاب الكهف. وحج بالناس هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى.
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة.
فى هذه السنة خرج الخزر من باب الأبواب، فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مائة ألف، وانتهكوا «2» أمرا عظيما لم يسمع بمثله؛ وكان سبب ذلك أن ابنة خاقان ملك الخزر، كانت حملت فى سنة اثنتين وثمانين ومائة إلى الفضل بن يحيى، فلما بلغت برذعة ماتت، فرجع من معها إلى أبيها وأخبروه أنها قتلت غيلة فجهز العساكر إلى بلاد الإسلام ففعلوا ذلك؛ وقيل فى سبب خروجهم أن سعيد بن سلّم قتل المنجم السلمى، فدخل ابنه الخزر واستجاشهم على سعيد، فخرجوا ودخلوا أرمينية من الثلمة فانهزم سعيد، وأقاموا نحو سبعين يوما فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد. فأصلحوا ما أفسد سعيد. وأخرجوا الخزر وسدّوا الثلمة.
وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائى.
فاستقدم الرشيد على بن عيسى ثم ردّه من قبل المأمون. وأمره بحرب أبى الخصيب.
وفيها توفى موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ببغداد فى حبس الرشيد. وكان سبب حبسه أن الرشيد اعتمر فى شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومائة. فلما عاد إلى المدينة دخل قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه الناس، فلما انتهى إلى القبر الشريف وقف، فقال: السلام(22/133)
عليك يا رسول الله يا ابن عم، قال ذلك افتخارا على من حوله، فدنا.
موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت. فتغيّر وجه الرشيد وقال:
هذا الفخر يا أبا الحسن جدا. ثم أخذه معه إلى العراق فحبسه عند السّندى بن شاهك حتى مات. وكان رجلا صالحا خيّرا دينا يقوم الليل كله، وهو الملقب بالكاظم- لقّب بذلك لإحسانه لمن أساء إليه.
وحجّ بالناس فى هذه السنة العباس بن الهادى.
ودخلت سنة أربع وثمانين ومائة.
فى هذه السنة طلب أبو الخصيب النسائى الأمان، فأمّنه على بن عيسى ابن ماهان. وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن عبد الله.
ودخلت سنة خمس وثمانين ومائة.
فى هذه السنة قتل أهل طبرستان واليها مهرويه الرازى، فولّى الرشيد عبد الله بن سعيد الحرشى.
وفيها عاث حمزة الخارجى بباذغيس فقتل عيسى بن على من أصحابه عشرة آلاف. وفيها غدر أبو الخصيب النسائى ثانيا. وغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحصر مرو. ثم انهزم عنها وعاد إلى سرخس وقوى أمره.
وحج بالناس فى هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن على.
ودخلت سنة ست وثمانين ومائة.
ذكر حج هارون الرشيد وأمر كتاب العهد
فى هذه السنة حج الرشيد من الأنبار، فبدأ بالمدينة فأعطى فيها ثلاثة أعطية، أعطى هو عطاء ومحمد الأمين عطاء وعبد الله المأمون عطاء. وسار إلى مكة فأعطى أهلها فبلغ ألف دينار وخمسين دينارا. وكان الرشيد قد ولّى(22/134)
الأمين العراق والشام وإلى آخر المغرب. وضمّ إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقّبه المؤتمن، وضمّ إليه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان فى حجر عبد الله بن صالح، وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون، فلما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده والقضاة والفقهاء والقوّاد كتب كتابا، أشهد فيه على محمد الأمين، وأشهد من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتابا للمأمون أشهد فيه عليه بالوفاء للأمين، وعلّق الكتابين فى الكعبة، وجدّد العهود عليهما فى الكعبة، فقال الناس: قد ألقى بينهم شرا وحربا، وخافوا عاقبة ذلك وكان ما خافوه.
وفيها سار عيسى بن ماهان من مرو إلى نسا لحرب أبى الخصيب، فحاربه وقتله وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان.
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة.
ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى بن خالد
فى هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة ونكبهم النكبة المشهورة، وقد اختلف فى سبب ذلك، فقيل إن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عبّاسة بنت المهدى، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، فقال لجعفر أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها ولا تقربها، فأجابه إلى ذلك «1» ، فبقيا على ذلك ما شاء الله، فمالت العبّاسة إلى جعفر، وراودته فأبى وخاف على نفسه، فلما أعيتها الحيلة فى أمره علمت أن النساء أقرب إلى الخديعة، فبعثت إلى عتّابة- وهى أم جعفر، وكانت عتابة ترسل إلى ابنها جعفر فى كل ليلة جمعة جارية بكرا، فقالت العبّاسة لها: أرسلينى إلى ابنك كأنى جارية من(22/135)
جواريك، اللواتى ترسلين إليه فأبت أم جعفر. فقالت لها العبّاسة: إن لم تفعلى قلت للرشيد كلمتنى فى كيت وكيت. وإن فعلت ذلك واشتملت منه على ولد زاد فى شرف ابنك. وما عسى أن يفعل أخى لو علم. فمالت أم جعفر إلى ذلك، ووعدت ابنها أنها ترسل اليه جارية من صفتها وحسنها.
فطالبها بها مرة بعد أخرى وهى تمطله، حتى اشتاق اليها فأرسلتها إليه.
فأدخلت عليه- وكان لا يثبت صورتها. لأنّه كان إذا جلس عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها. فلما دخلت عليه كان قد شرب نبيذا. فاجتمع بها وقضى وطره. فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ وأية ابنة ملك أنت!! قالت: أنا مولاتك العبّاسة. فتألم لذلك وقال لأمه: بعتنى والله رخيصا. فاشتملت العبّاسة من ليلتها على حمل. فلما ولدته وكلت به غلاما يقال له رياش وحاضنة اسمها برّة. وبعثت بهم إلى مكة. وكان يحيى بن خالد ينظر على قصر الرشيد وحرمه وخدمه. ويغلق باب القصر بالليل وينصرف بالمفاتيح معه. فضيّق على حرم الرشيد. فشكت زبيدة أم الأمين مره إلى الرشيد، فقال له: يا أبت- وكان يدعوه بذلك- ما بال أم جعفر تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين- أمّتهم أنا فى حرمك وخدمك؟ قال:
لا. قال: فلا تقبل قولها. وزاد يحيى فى الحجر والتضييق، فدخلت زبيدة على الرشيد وقالت: ما يحمل يحيى على ما يفعل من منعه خدمى ووضعى فى غير موضعه؟ فقال: إنّه عندى غير متهم فى حرمى، فقالت: لو كان كذلك لحفظ ابنه مما ارتكبه!! قال: وما ذلك؟ فأخبرته بخبر العبّاسة، فقال:
وهل على هذا من دليل؟! قالت: وأى شىء أدل من الولد، قال: وأين هو؟ قالت: كان ها هنا فلما خافت ظهوره وجهت به إلى مكة، قال:
ويعلم بهذا سواك!! قالت ما فى قصرك جارية إلا وقد عرفت ما أخبرتك به. فسكت عنها وأظهر أنه يريد الحج. وأخذ معه جعفرا، فكتبت العبّاسة إلى الخادم والداية أن يخرجا بالصبى إلى نحو اليمن. فلما وصل الرشيد إلى مكة(22/136)
وكل من يثق به بالبحث عن ذلك، فلم يزل حتى تحقق الأمر، فأضمر السوء للبرامكة «1» .
وقبل إن سبب نكبة البرامكة أن يقطين بن موسى كان من أكابر الشيعة، وممّن كان مع إبراهيم الإمام، فقال يوما للرشيد: حدّثنى مولاى إبراهيم الإمام أن الخامس من خلفاء بنى العباس يغدر به كتّابه، فإن لم يقتلهم قتلوه، فقال له الرشيد: الله- يحدثك الإمام بهذا!! قال: نعم.
وقيل كان سبب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب إلى جعفر بن يحيى فحبسه «2» ، ثم استدعاه وسأله عن بعض أمره، فقال له: اتق الله فى أمرى. ولا تتعرض غدا أن يكون خصمك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فو الله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا، فرقّ له وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله.
فقال: كيف أذهب ولا آمن أن أوخذ؟ فوجّه معه من أوصله إلى مأمنه.
وبلغ الخبر الفضل بن الربيع فرفعه إلى الرشيد، فقال: ما أنت وهذا- فلعلّه «3» عن أمرى!! ثم أحضر جعفرا وسأله عن يحيى. فقال: هو بحاله فى الحبس، فقال بحياتى!! ففطن جعفر وقال: لا وحياتك، وقصّ عليه أمره، وقال: علمت أنّه لا مكروه عنده، فقال: نعم ما فعلت. ما عدوت ما فى نفسى، فلما قام عنه قال: قتلنى الله إن لم أقتلك. وقيل إن الرشيد لما دفعه لجعفر بقى عنده ما شاء الله، وكان جعفر يرى سرور الرشيد بموت من يموت فى حبسه من هؤلاء، فشرب جعفر عنده يوما فقال: يا أمير(22/137)
المؤمنين إنّ يحيى قد مات، فسرّ بذلك وقال: الحمد لله الذى كفانى أمره ولم يؤثمنى فيه. وانصرف جعفر فأخبر أباه يحيى بن خالد بما كان. فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إن تركناه تلفنا. وإن قتلناه فالنار لنا. ثم كتب يحيى إلى على بن عيسى بن ماهان والى خراسان يعرّفه ما جرى. وفزع إليه أن يكون عنده موسعا عليه، إلى أن يقضى الله فيه قضاءه. ولم يكن يحيى يعلم ما كان بين على بن عيسى وبين الفضل وجعفر من العداوة. فلما وصل الكتاب إلى علىّ ووصل إليه يحيى قال: هذا من حيل الفضل وجعفر علىّ. فأجاب يحيى بأنه فعل ما أراد، وأنفذ كتاب يحيى إلى الرشيد. فكتب إليه الرشيد يعرفه بحسن موقع ذلك عنده، وأمره بانفاذ يحيى بن عبد الله إليه سرا. فلما وصل إليه أوقع بالبرامكة «1» .
هذا مما قيل فى سبب نكبة البرامكة أما كيفيّة الإيقاع بهم وقتل جعفر فقيل، إن الرشيد لما قضى حجّه أرسل السندى بن شاهك، وهو أحد قوّاده، وأمره أن يمضى إلى مدينة السلام والتوكل بالبرامكة وبدور كتّابهم وأقاربهم، وأن يجعل ذلك سرّا يحيث لا يعلم به أحد حتى يصل إلى بغداد، ففعل السندى ذلك، وكان الرشيد قد نزل بالأنبار بموضع يقال له العمر «2» ومعه جعفر، فمضى جعفر إلى موضعه فى سلخ المحرم، ودعا بأبى زكار الأعمى الطنبورى، ومدّت الستارة وجلس جواريه خلفها يضربن ويغنّين، وأبو زكّار يغنّيه:
ما يريد الناس منّا ... ما ينام الناس عنّا
إنّما همهم أن ... يكشفوا ما قد دفنّا(22/138)
قال: واستدعى الرشيد من ساعته بياسر، غلام من غلمانه، وقيل بمسرور الخادم، فأرسله فى جماعة من الجند إلى جعفر، ليضرب عنقه وليأتيه برأسه، فمضى حتى دخل على جعفر وعنده بختيشوع الطبيب، وأبو زكّار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتى ... عليه الموت يطرق أو يغادى
وكل ذخيرة لا بدّ يوما ... وأن بقيت «1» تصير إلى نفاد
فقال له جعفر: قد سررتنى بإقبالك إليّ، وسؤتنى بدخولك عليّ بغير إذن، فقال: الأمر أكبر من ذلك، إن أمير المؤمنين أمرنى بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبّل يديه ورجليه، ويقول: دعنى أدخل وأوصى، فقال:
لا سبيل إلى ذلك، ولكن أوص بما شئت، فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه، ثم قال: إن لى عندك حقا ولن تجد مكافأتى إلا فى هذه الساعة، فارجع إلى أمير المؤمنين فأعلمه أنّك قد نفّذت كما أمرك به، فإن أصبح نادما كانت حياتى على يديك، وكانت لك عندى نعمة، وإن أصبح على مثل مذهبه نفّذ ما أمرك به، قال: ولا هذا، قال: فأسير معك إلى مضرب أمير المؤمنين بحيث أسمع كلامه ومراجعتك إياه، فإذا أبليت عذرا ولم يرض إلا بمصيرك إليه برأسى فعلت، قال: أما هذا فنعم، فسارا جميعا إلى مضرب الرشيد، فلما أتاه الخادم وجده فى فراشه، فلما أحس به قال: إيتنى برأسه، فعاد إلى جعفر وأخبره، فقال: الله الله، والله ما أمرك إلا وهو سكران، فدافع حتى أصبح أو راجعه ثانية، فعاد ليراجعه فقال له: يا ماص بظرأمه، إيتنى برأسه، فرجع إلى جعفر وأخبره، فقال ومرّة أخرى، فلما رجع إليه حذفه بعمود كان فى يده، وقال: نفيت عن المهدى لئن لم(22/139)
تأتنى برأسه لأقتلنّك، فخرج إلى جعفر وضرب عنقه وأتاه برأسه؛ قال: من نقل أن الرسول إلى جعفر ياسر، إنه لما وضع الرأس بين يدى الرشيد أقبل عليه مليا، ثم قال: يا ياسر جئنى بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما الرشيد: اضربا عنق ياسر، فإنى لا أقدر أن أرى قاتل جعفر «1» .
وقيل: إنه وجد على قصر على بن عيسى بن ماهان بخراسان فى صبيحة الليلة التى قتل فيها جعفر كتابة بقلم جليل:
إنّ المساكين بنى برمك ... صبّت عليهم غير الدهر
إنّ لنا فى أمرهم عبرة ... فليعتبر ساكن ذا القصر «2»
قال: وكان جعفر من أهل الفصاحة البارعة والفطنة التى لا تحد، إلا أنه كان فيه بخل بالنسبة إلى أبيه وأخيه، قال: ولما قتل جعفر أمر الرشيد بتوجيه من احتاط بيحيى وولده الفضل وجميع أسبابهم، وحبس الفضل فى بعض منازل الرشيد، وحبس يحيى فى منزله، وأخذ مالهم وما وجد لهم من ضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد بالقبض «3» على وكلائهم وأسبابهم وجميع أموالهم، وأصبح فأرسل جثة جعفر إلى بغداد وأمر بنصب رأسه وأن يقطع بدنه «4» قطعتين، ينصب كل قطعة على جسر، ولم يعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده، لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله؛ وقيل كان يسعى بهم، ثم حبس الرشيد يحيى بن خالد وبنيه الفضل ومحمد، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه من جارية وغيرها، ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمّهم سخطه فضيّق عليهم.(22/140)
وكان مقتل جعفر فى ليلة السبت مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، ولما تكبوا قال الرّقاشى: وقيل إن الشعر لأبى نواس:
ألان استرحنا واستراحت مطينا «1» ... وأمسك من يحدى ومن كان يحتدى
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطيّ الفيافى فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ... ولم «2» تظفرى من بعده بمسوّد
وقل للعطايا بعد فضل تعطّلى ... وقل للرزايا كل يوم تجدّدى
ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا ... أصيب بسيف هاشمى مهنّد
وروى أبو الفرج الأصفهانى أن الرّقاشى اجتاز بجعفر وهو مصلوب، فوقف يبكى أحرّ بكاء، ثم أنشأ يقول:
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر «3» استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساما فلّه السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السلام «4»(22/141)
فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأمر بإحضاره فأحضر، وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان إليّ محسنا، فلما رأيته على الحال التى هو عليها حرّكنى إحسانه، فما ملكت نفسى حتى قلت الذى قلت. قال: فكم كان يجرى عليك؟ قال: ألف دينار، قال: فإنّا قد أضعفناها لك.
وقال يحيى بن خالد لما نكبوا: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة.
ذكر شىء من أخبار جعفر وتمكّنه من الرشيد وما آل أمرهم إليه
قيل: كان جعفر قد بلغ من الرشيد ما لم يبلغه وزير من خليفة قبله، كان يجلسه معه فى حلة واحدة قد اتخذ لها جيبان، وبلغ عنده أن يحكم عليه فيما شاء من أمر ماله وولده، فمن ذلك ما حكاه إبراهيم بن المهدى أخو الرشيد قال: قال لى جعفر يا إبراهيم، إذا كان غدا فبكّر لى، فلما كان من الغد مشيت إليه باكرا، فجلسنا نتحدث، فلما ارتفع النهار أحضر حجاما فحجمنا، ثم قدّم لنا الطعام فطعمنا، ثم خلع علينا ثياب المنادمة، وقال جعفر لحاجبه «1» : لا يدخل علينا إلا عبد الملك القهرمان، فنسى الحاجب فجاء عبد الملك بن صالح الهاشمى، وكان رجل بنى هاشم فصاحة وملاحة وعلما وحلما وجلالة قدر وفخامة ذكر وصيانة وديانة، فظّن الحاجب أنّه الذى أمره بدخوله فأدخله، فلما رآه جعفر تغيّر لونه، فعلم عبد الملك أنهم قد احتشموا، فأراد أن يرفع خجله وخجلهم بمشاركته لهم، فقال: اصنعوا(22/142)
بنا ما صنعتموه بأنفسكم، فجاء الخادم وطرح عليه ثياب المنادمة، وجلس يشرب فلما بلغ ثلاثا قال: ليخفّف عنّا، فإنّه شىء ما شربته قط، فتهلل وجه جعفر ثم قال له: هل من حاجة تبلغها مقدرتى وتحيط بها نعمتى فأقضيها لك، مكافأة لما صنعت؟ قال: إن أمير المؤمنين عليّ غاضب فتسأله الرضى عنّى، قال: قد رضى عنك أمير المؤمنين، قال: وعليّ أربعة آلاف دينار، قال: هى حاضرة من مال أمير المؤمنين، قال: وابنى إبراهيم أريد أن أشد ظهره بصهر من أمير المؤمنين، قال: قد زوّجه أمير المؤمنين ابنته عائشة، قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه، قال: قد ولّاه أمير المؤمنين مصر؛ قال إبراهيم بن المهدى: فانصرف عبد الملك، وأنا أعجب من إقدام جعفر على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين، فلما كان من الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعى بأبى يوسف القاضى ومحمد بن واسع وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد له النكاح وحملت البدر إلى منزل عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر، فأشار إليّ فصرت إلى منزله، فقال لى: قلبك معلّق بأمر عبد الملك، قلت:
بلى، قال: دخلت على أمير المؤمنين فمثلت بين يديه، وابتدأت القصة من أوّلها إلى آخرها كما كانت، فجعل يقول أحسن والله، ثم قال: ما صنعت؟ فأخبرته بما سأل وبما أجبته، فجعل يقول فى ذلك كله أحسنت أحسنت «1» ، وفى هذه الحكاية كفاية عما سواها.
ويقال إن عليّة بنت المهدى قالت للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: ما رأيت لك يا سيدى يوم سرور تام، منذ قتلت جعفرا، فلأى شىء قتلته!! فقال لها: يا أختاه لو علمت أن قميصى يعلم السبب لحرقته.
وأمّا ما آل أمرهم إليه من الضرورة والفاقة والاحتياج والذلة، فمن ذلك ما حكاه عبد الملك بن عبد الله بن عبدون الحضرمى الإشبيلى فى كتابه(22/143)
المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرّ «1» قال:
حدث محمد بن غسان أن صاحب صلاة الكوفة وقاضيها قال:
دخلت على أمى فى يوم أضحى فرأيت عندها عجوزا فى أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمى من هذه؟ قالت: خالتك عتّابة أم جعفر بن يحيى، فسلّمت عليها فسلّمت علىّ، فقلت: أضارك الدهر إلى ما أرى «2» !! قالت: نعم- يا بنى إنما كنّا فى عوار ارتجعها الدهر منّا، فقلت: حدثينى ببعض شأنك، قالت: خذه جملة، لقد مضى علىّ أضحى مثل هذا مذ ثلاث سنين وعلى رأسى أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أنّ ابنى عاق لى، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدى شاة، أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا، قال: فغمّنى ذلك وأبكانى فوهبت لها دنانير كانت عندى «3» .
وهذه نهاية الاحتياج والضرورة والفاقة، فنسأل الله تعالى ألا يسلبنا نعمة أنعم بها علينا، ويجعل الموت قبل بلائه ومحنه.
وكتب يحيى بن خالد إلى الرشيد «4» : لأمير المؤمنين وإمام المسلمين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه وأوثقته «5» عيوبه، وخذله شقيقه ورفضه صديقه، وزلّ به الزمان وأناخ عليه الحدثان، فصار إلى الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهر وافتقد الهجوع، فساعته شهر وليلته دهر، قد عاين الموت وشارف الفوت، جزعا «6» . يا أمير المؤمنين، حجب(22/144)
الله عنّى فقدك لما أصبت به من بعدك، لا لمصيبتى «1» بالحال والمال فإنّ ذلك كان بك ولك، وكانتا عارية فى يدى منك، ولا بأس أن تسترد العوارى، فأما المحنة فى جعفر فبجرمه أخذته وبجريرته عاقبته، وما أخاف عليك زلة فى أمره، ولا مجاوزة به فوق ما يستحقه؛ فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتى وارحم ضعفى وشيبتى ووهن قوّتى، وهب لى رضى عنّى، فمن مثلى الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر ولكنى أقرّ، وقد رجوت أن يظهر عند «2» الرضى وضوح «3» عذرى، وصدق نيّتى، وظاهر طاعتى، وفلج حجّتى- ما يكفينى به أمير المؤمنين، ويرى الجلّية «4» فيه، ويبلغ المراد منه إن شاء الله، وكتب:
قل للخليفة ذى الصنا ... يع والعطايا الفاشية
وابن الخلائف من قري ... - ش والملوك «5» الهادية
ملك الملوك وخير من ... ساس الأمور الماضية «6»
إنّ البرامكة الذي ... - ن رموا لديلك بداهيه
عمّتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقيه
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز نخل خاوية
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلّة باديه
مستضعفون مطّردو ... ن بكل أرض قاصيه(22/145)
من دون ما يلقون من ... عتب «1» يشيب الناصية
أضحوا «2» وجلّ مناهم ... منك الرضا والعافية
بعد الوزارة والإما ... رة والأمور العالية
انظر إلى الشيخ الكبي ... ر فنفسه لك راجيه
أو ما سمعت مقالتى ... يا ابن «3» الفروع الزاكيه
ما زلت أرجو راحة ... فاليوم خاب رجائيه
واليوم قد سلب الزما ... ن كرامتى وبهائيه
ألقى الزمان جرانه «4» ... متشفيا بعنائيه «5»
ورمى سواد مقاتلى ... فأصاب حين رمانيه
يا من يود «6» لى الردى ... يكفيك ويحك مابيه
يكفيك أنّى مستبا ... ح عشيرتى «7» ونسائيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلّى وضيق «8» مكانيه
وذهاب «9» مالى «10» كلّه ... وفدى الخليفة ماليه
إن كان لا يكفيك إل ... لا أن أذوق حماميه
فلقد رأيت الموت من ... قبل الممات علانيه
وفجعت أعظم فجعة ... وفنيت قبل فنائيه
وهويت فى قعر السجو ... ن على رفيع بنائيه(22/146)
انظر بعينك هل ترى ... إلا قصورا خاليه
وذخائرا موروثة ... قسّمن قبل مماتيه
ومصارعا وفجائعا ... ومصائبا متواليه
ونوادبا يندبننى ... تحت الدجى بكنائية «1»
أأبا على البرمك ... ى فما أجيب الداعيه
ونداؤهنّ وقد سمع ... ت مقلقل «2» أحشائيه
أخليفة الله الرضا ... لا تشمتن أعدائيه
واذكر مقاساتى الأمو ... ر وخدمتى وغنائيه
ارحم جعلت لك الفدا ... كربى وشدة حاليه
وارحم أخاك الفضل وال ... باقين من أولاديه
أخليفة الرحمن إن ... نك لو رأيت بنانيه
وبكاء فاطمة الصغي «3» ... رة والمدامع جاريه
ومقالها بتوجع ... يا شقوتى وشقائيه
من لى وقد غضب الإما ... م على جميع رجاليه «4»
وعدمت طيب معيشتى ... وتغيّرت حالاتيه
يا نعمة الملك الرضا ... عودى علينا ثانيه
ويروى أن الرشيد لما قرأ الأبيات وقّع تحت الشعر يقول:
أجرى القضاء عليكم ... ما جئتموه علانيه
من ترك نصح إمامكم ... عند الأمور الباديه(22/147)
يا آل برمك إنما ... كنتم ملوكا عاديه
فكفرتم وعصيتم ... وجحدتم نعمائيه
فسلبتموها هكذا ... وكذا ترد العاريه «1»
هذه عقوبة من عصا ... معبوده وعصانيه
وكتب تحت الشعر وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ «2» .
قال: ولم يزل يحيى فى الحبس حتى مات سنة تسعين ومائة فى المحرم منها، وهو ابن سبعين سنة، وتوفى الفضل بن يحيى فى المحرم سنة ثلاث وتسعين ومائة.
نعود إلى بقية حوادث سنة سبع وثمانين ومائة من الهجرة.
ذكر القبض على عبد الملك بن صالح
فى هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن على «3» بن عبد الله، وكان سبب ذلك أنه كان له ولد اسمه عبد الرحمن وبه كان يكنى، فسعى به إلى الرشيد هو وقمامه كاتب أبيه، وقالا: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع، ولم يزل عبد الملك فى الحبس إلى أن مات الرشيد، فأخرجه الأمين واستعمله على الشام.
ذكر غزو الروم
فى هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم فى شعبان، فصالحه(22/148)
الروم على ثلاثمائة وعشرين أسيرا من المسلمين «1» ، على أن يرحل عنهم فأجاب إلى ذلك ورحل عنهم، وكان يملك الروم يومئذ امرأة اسمها رينى «2» ، فخلعها الروم وملّكوا عليهم نقفور، ويزعم الروم أنّه «3» من أولاد جفنة من غسّان، وكان قبل أن يملك يلى الخراج، فلما استوثق «4» الروم لنقفور كتب إلى الرشيد من نقفور- ملك الروم- إلى هارون- ملك العرب- أما بعد فإن الملكة التى كانت قبلى أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أضعافها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابى هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع من المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: من هارون- أمير المؤمنين- إلى نقفور «5» كلب الروم، قد قرأ كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة، ففتح وغنم وأحرق وخرّب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله إليه فى كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع الرشيد نقض نقفور العهد، وكان البرد قد اشتد فأمن رجعة الرشيد، فجاء الخبر بنقضه وقد بلغ الرشيد الرقة، فأشفق الناس من إعلام الرشيد، وخافوا عوده لشدة البرد، فاحتيل عليه بشاعر قيل هو أبو محمد عبد الله بن(22/149)
يوسف «1» ، وقيل هو الحجاج بن يوسف التيمى «2» فقال أبياتا منها:
نقض الذى أعطيته نقفور ... فعليه «3» دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح «4» أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح يؤمنا ... بالنصر فيه لواؤك المنصور «5»
فلما سمع الرشيد ذلك قال: أو فعل ذلك نقفور! ورجع إلى بلاد الروم فى أشد زمان، حتى بلغ بلادهم فبلغ ما أراد، وقيل كان ذلك فى سنة تسعين ومائة وفتح هرقلة- على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم سورها، ونضب ماؤها ساعة من الليل.
وحجّ بالناس عبد الله «6» بن العباس بن محمد بن على.
ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائة.
فى هذه السنة غزا إبراهيم بن جبريل «7» الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصّفصاف فخرج إليه نقفور ملك الروم، فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه، فلقى جمعا من المسلمين فجرح ثلاث جراحات وانهزم، وقتل من الروم أربعون ألفا وسبعمائة. وحج الرشيد بالناس فى هذه السنة.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائة.
ذكر مسير الرشيد إلى الرى
فى هذه السنة سار الرشيد إلى الرى، وسبب ذلك أن أهل خراسان(22/150)
تظلموا من على بن عيسى بن ماهان، وشكوا سوء سيرته فيهم، وقيل للرشيد إنه قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الرى فى جمادى الأولى ومعه ابناه المأمون والقاسم المؤتمن، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما فى عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون، وليس له فيه شىء، وأقام الرشيد بالرى أربعة أشهر، حتى أتاه على بن عيسى من خراسان فأهدى إليه الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقواده من الطرف والجواهر وغير ذلك، فرأى الرشيد خلاف ما كان يظن فردّه إلى خراسان، ورجع الرشيد إلى العراق فى آخر هذه السنة.
وفيها كان الفداء بين الروم والمسلمين، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودى به. وحج بالناس فى هذه السنة العباس بن موسى بن محمد بن على «1» ابن عبد الله.
ودخلت سنة تسعين ومائة.
ذكر فتح هرقلة
فى هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وخرّبها، وكان سبب مسيره إليها ما قدمناه فى سنة سبع وثمانين من غدر نقفور، فكان فتحها فى شوال وحصرها ثلاثين يوما. قال: ودخل البلاد فى مائة ألف وخمس وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة ومن لا ديوان لهم، ووجّه داود بن عيسى ابن موسى فى سبعين ألفا، فسار فى أرض الروم يخرب وينهب، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن وديسه «2» ، وافتتح يزيد بن محلد(22/151)
الصفصاف وملوقية «1» ، واستعمل حميد بن معيوف على ساحل الشام ومصر، فبلغ قبرس فهدم وأحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفا، فلما قدم بهم الرافقة «2» بيعوا بها، وبلغ فداء أسقف قبرس ألفى دينار، ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر، وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك؛ وكتب نقفور إلى الرشيد فى جارية من سبى هرقلة، كان خطبها لولده فبعثها إليه.
وقد ذكر أبو الفرج الأصفهانى عند ذكره ترجمة أشجع بن عمرو السّلمى، وما امتدح به الرشيد لما فتح هرقلة، وسياقه أتم من هذا السياق وأكثر تبيانا، فأحببنا أن نشرحه ها هنا ليكون خبرها على توال واتساق «3» ، فقال: أخبرنى على بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال: كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت ملكت امرأة، لأنّه لم يكن فى زمانها من أهل المملكة غيرها، وكانت تكتب إلى المهدى والهادى والرشيد- فى أول خلافته- بالتعظيم والتبجيل، وتدرّ عليه الهدايا حتى بلغ ابنها.
فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد، فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب، لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته، فاحتالت على ابنها فسملت عينيه. فبطل من الملك وعاد الملك إليها، فاستكبر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله، فخرج عليها نقفور وكان كاتبها، فأعانوه وعضدوه وقام بأمر المملكة وضبط أمر الروم، فلما قوى أمره وتمكّن من ملكه كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك(22/152)
العرب، أما بعد، فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك، ووضعت نفسها موضع السوقة، وإنى واضعك بغير ذلك الموضع، وعامل على تطرّق بلادك والهجوم على أمصارك، أو تؤدّى إلىّ ما كانت المرأة تؤديه إليك والسلام.
فلما ورد الكتاب على الرشيد كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون- أمير المؤمنين- إلى نقفور- كلب الروم- أما بعد فقد فهمت كتابك، وجوابك عندى ما تراه عيانا لا ما تسمعه. ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم، فى جمع لم يسمع بمثله، فلما بلغ نقفور ذلك ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وشاور فى أمره، وجدّ الرشيد فجعل يوغل فى بلاد الروم، فيقتل ويسبى ويغنم ويعفى الآثار ويخرّب الحصون، حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينيّة، فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمى به فى تلك الطرق وأشعلت فيه النيران، فكان الرشيد أول من لبس ثياب النفاطين فخاضها، ثم اتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا، وخضع له أشد الخضوع وأدّى له الجزية، عن رأسه فضلا عن أصحابه، فرجع هارون- لما أطاعه ما أعطاه- إلى الرقة.
فلما رجع وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة، ونقض ما كان بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى، فلم يجترئ يحيى بن خالد «1» فضلا عن غيره على إخبار الرشيد بغدر نقفور، وبذل هو وبنوه أموالا للشعراء على أن يقولوا أشعارا فى إعلام الرشيد بذلك، فكلهم أشفق إلا شاعر من أهل جدّة يكنى أبا محمد، وكان مجيدا قوىّ الشعر، فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم، ودخل إلى الرشيد فأنشده:(22/153)
نقض الذى أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح «1» أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح يؤمنّا ... بالنصر فيه لواؤك المنصور «2»
فلقد تباشرت الرعيّة أن أتى ... بالنقض منه «3» وافد وبشير
درجت يمينك أن تعجّل غزوة ... تشفى النفوس نكالها «4» مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خدّه ... حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكأنّها ... بأكفنا «5» شعل الظلام «6» تطير
وصرفت من طول «7» العساكر قافلا ... عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنّك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام لجاهل مغرور «8»
ألقاك حينك فى زواخر بحره ... فطمت عليك من الإمام بحور
إنّ الإمام على اقتسارك قادر ... قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا ... عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرّد للجهاد بنفسه ... فعدوّه أبدا به مقهور
يا من يريد رضى الإله بسعيه ... والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغشّ إمامه ... والنصح من نصحائه مشكور(22/154)
نصح الإمام على الأنام فريضة ... ولأهله «1» كفارة وظهور
قال: فلما أنشده قال الرشيد: أو قد فعل!! وعلم أن الوزراء قد احتالوا فى ذلك، قال: فسار الرشيد قاصدا إليه، وجعل قبل وصوله إلى هرقلة يفتتح الحصون والمدن ويحرقها، حتى أناخ على هرقلة وهى أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا، فتحصّن أهلها، وكان بابها على واد ولها خندق يطيف بها؛ قال: فحدثنى شيخ من مشايخ المطوّعة وملازمى الثغور، يقال له على بن عبد الله قال حدّثنى جماعة من أهل الثغر:
أنّ الرشيد لما حصر أهل هرقلة وألحّ عليهم بالمجانيق والسهام والعرّادات فتح الباب ذات يوم، فاستشرف المسلمون لذلك، فإذا رجل من أهلها كأكمل الرجال، قد خرج فى أكمل السلاح فنادى: قد طال مواقفتكم إيانا فليبرز إلىّ منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق الباب، وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه، فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه، وتأسّف لفوته، فقيل له إن الامتناع منه سيغريه «2» ويطغيه، وأحرى به أن يخرج فى غد فيطلب مثل ما طلب، فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له، فإذا بالباب قد فتح وخرج الرجل طالبا للبراز، وذلك فى يوم شديد الحر، فجعل يدعو أنه يثبت لعشرين منهم، فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلّة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن خازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه، فعزم على إخراج بعضهم، فضّج المطوعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوّادك(22/155)
مشهورون بالنجدة والبأس وعلوّ الصوت ومدارسة الحرب، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذاك، وإن قتله العلج كان وصمة على العسكر قبيحة وثلمة لا تسدّ، ونحن عامّة لم يرتفع لأحد منّا صوت إلا كما يصلح للعامّة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين ظفر بأعرفهم «1» ، على يد رجل من العامة «2» من أفناء الناس، وإن قتل الرجل فإنما استشهد، ولم يؤثر ذهابه فى العسكر ولم يثلمه رجل، وخرج إليه بعده مثله حتى يقضى الله ما شاء، فقال الرشيد: قد استصوبت رأيكم هذا، فاختاروا رجلا يعرف بابن الجزرى «3» ، وكان معروفا فى الثغر بالبأس والنجدة، فقال له الرشيد:
أتخرج؟ قال نعم وأستعين بالله تعالى، فقال «4» : أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا بفرسى أوثق، ورمحى بيدى أشد، ولكنى قد قبلت السيف والترس، فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فودّعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوّعة، فلما انقضّ فى الوادى قال لهم العلج- وهو يعدّهم واحدا واحد- إنما كان الشرط عشرين، وقد زدتم رجلا ولكن لا بأس، فنادوه ليس يخرج إليك إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزرى تأمّله الرومى، وقد أشرف أكثر الناس من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن «5» ، فقال له الرومى: أتصدقنى عما استخبرك؟ قال:
نعم، قال: أنت بالله ابن الجزرى؟ قال: اللهم نعم، فكفر له ثم أخذا فى شأنهما، فتطاعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان يقومان، وليس(22/156)
يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا «1» بشىء فزجّ كل واحد منهما رمحه، وانتضى سيفه فتجالدا مليّا، واشتد عليهما الحرّ وتبلّد الفرسان، وجعل ابن الجزرى يضرب الضربة التى يرى أنّه قد بلغ بها، فيتّقيها الرومى وكان ترسه من حديد، ويضربه الرومى ضربة معذر، فلما يئس كل واحد منهما من الوصول إلى صاحبه انهزم ابن الجزرى، فدخلت المسلمين «2» كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا، وإنما كانت هزيمته حيلة منه فاتبعه العلج، وتمكّن ابن الجزرى منه فرماه بوهق فوقع فى عنقه فما أخطأه، وركض فاستلبه عن فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون أعلى تكبير، وانخزل المشركون وبادروا الباب يغلقونه، واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار فى المجانيق، ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة، وأضرموا نارا ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذه الحجارة، وقد تصدّع فتهافت، فلما أحاطت بهم النيران فتحوا الباب مستأمنين، فقال الشاعر المكى الذى ينزل جدّة «3» :
هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما «4» ترتمى بالنفط والنار
كأنّ نيراننا فى جيب «5» قلعتهم ... مصبغات «6» على أرسان قصّار
قال محمد بن يزيد: وأعظم الرشيد الجائزة للجدّى الشاعر، وصبّ الأموال على ابن الجزرى وقوّد، فلم يقبل التقويد وسأل أن يعفى، ويترك(22/157)
مكانه من الثغر فلم يزل به طول عمره «1» . وحجّ بالناس عيسى بن موسى الهادى.
ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائة.
فى هذه السنة عزل الرشيد عن خراسان على بن عيسى بن ماهان، واستعمل عليها هرثمة بن أعين. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن على.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة.
فى هذه السنة تحرّكت الخرّميّة بناحية أذربيجان، فوجّه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك فى عشرة آلاف، فقتل وسبى وأسر. وحج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر.
ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة.
ذكر وفاة الرشيد
كانت وفاته ليلة السبت- الثالث من جمادى الآخرة- من هذه السنة، وكان قد توجّه إلى خراسان فى سنة اثنتين وتسعين ومائة، فمرض فى الطريق بجرجان فسار إلى طوس، فمات بها وصلّى عليه ابنه صالح ودفن(22/158)
بطوس. روى أبو الفرج الأصفهانى عن جحظة عن ميمون بن هارون قال «1» :
رأى الرشيد فيما يرى النائم كأن امرأة وقفت عليه، وأخذت كف تراب ثم قالت: هذه تربتك عن قليل، فأصبح فزعا فقصّ رؤياه، فقال له أصحابه: وما فى هذا!! قد يرى النائم أكثر من هذا وأغلظ ثم لا يضره فركب وقال: إنى لأرى الأمر قريبا، فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه، فقال: هذه والله التربة التى رأيتها، وهذه المرأة بعينها، ثم مات بعد مدة ودفن فى ذلك الموضع بعينه، أشترى له ودفن فيه، وأتى نعيه بغداد فقال أشجع يرثيه:
غربت بالمشرق الشم ... س فقل للعين تدمع
ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع
وكان عمره سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وخلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما، وكان جميلا وسيما أبيض جعدا قد وخطه الشيب.
وكان له من الأولاد: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، والقاسم المؤتمن، وأبو إسحاق المعتصم، وصالح، وأبو عيسى محمد، وأبو يعقوب محمد، وأبو العباس محمد، وأبو سليمان محمد، وأبو على محمد، وأبو محمد- وهو اسمه، وأبو أحمد محمد، وكلهم لأمهات أولاد إلا الأمين [1] . وله من البنات سكينة، وأم حبيب، وأروى، وأم
__________
[1] تزيد النسخة ص بعد ذلك قصة على قياس قصة المنصور التى زعمت أنه تزوج زواجا أخفاه وأثمر ولدا، كذلك هذه القصة التى توردها النسخة ص تنسب إلى الرشيد زواجا خفيا أثمر ولدا، نقلت النسخة ص قالت:
هؤلاء الذين عرفوا من أولاده الذكور وذكرهم أهل التاريخ، وقد حكى الإمام أبو الليث(22/159)
__________
السمرقندى رحمه الله فى كتابه المترجم تنبيه الغافلين (مطبوع طبعة بولاق) قال: حدثنا أبى قال: حدثنا أبو الحسن الفرا عن عبد الله بن الفرج قال: خرجت يوما فى طلب أجير يعمل لى شيئا فى الدار، فأتيت فى طلبه فإذا أنا برجل حسن الوجه وبين يديه مر وزنبيل، فقلت له:
أتعمل لى اليوم إلى آخر الليل؟ قال: نعم، قلت: بكم؟ قال: بدرهم ودانق، قلت له:
قم، فقام وأتى معى إلى منزلى، فعمل معى عملا كان يعمله غيره فى ثلاثة أيام، ثم أتيته فى اليوم الثانى أطلبه فلم أره، فسألت عنه فقيل هو رجل لا يرى فى الأسبوع إلا يوما واحدا، وقالوا لى يوم السبت، فتربصت حتى أتى ذلك اليوم، فجئت وهو جالس، فقلت له:
أتعمل اليوم معى؟ قال: نعم بدرهم ودانق، قلت: تعمل بدرهم، قال: لا، إلا بدرهم دانق، قلت قم فقام وعمل معى عملا كان يعمله غيره فى ثلاثة أيام، فلما كان وقت المساء وزنت له درهما واحدا، فقال لى: ألم أقل لك بدرهم ودانق؟ وكنت أردت أن اختبره، فقال: قد أفسدت علىّ أجرتى، ولا آخذ منك شيئا، قال: فوزنت له درهما ودانقا، فأبى أن يأخذه، فألححت عليه فقال: سبحان الله أقول لك ما آخذ وتلح علىّ!! ومضى وأقبلت إلى أهلى وأخبرتهم بقصته فقالت لى زوجتى: فعل الله بك وصنع، ما الذى أردت من رجل عمل لك عمل ثلاثة أيام فى يوم واحد!! قال فجئت يوما أسأل عنه فقيل لى إنه مريض، فاستدللت على بيته فأرشدت إليه، فأتيته وإذا هو مبطون فى خربة، ليس فيها شىء غير ذلك المر والزنبيل، فسلمت عليه فرد على، فقلت له: لى إليك حاجة، وأنت تعرف ما جاء فى إدخال السرور على العبد، فقلت: إنى أحب أن تأتى إلى بيتى حتى أمرضك فيه، قال: أتحب ذلك؟ قلت نعم، قال: آتيك على ثلاثة شرائط تقبلها منى ولا تخالفنى فيها، قلت: نعم، قال: أحدها أنك لا تعرض على طعاما حتى أسألك وآذن لك فيه، قلت:
نعم، قال: والثانى: اذا أنامت فكفنى فى كسائى هذا وجبتى هذه، فقلت: نعم، وأما الثالث: فهو أشد منهما، وسأخبرك عنه غدا إن شاء الله، قال: فحملته إلى منزلى عند الظهر، فلما أصبحت من الغد نادانى فأتيته، فقلت ما شأنك؟ قال: ألا أخبرك عن حاجتى الثالثة، أعلم أنه قد حضرت وفاتى، ثم قال: افتح هذه الصرة التى فى كم جبتى، ففتحتها فاذا فيه خاتم عليه فص أخضر، فقال لى: يا عبد الله إذا أنامت فكفنى كما أمرتك وورانى، وخذ هذا الخاتم فأدفعه إلى هارون الرشيد، وقل له: يقول لك صاحب هذا الخاتم: ويحك لا تموتن على سكرتك هذه فإنك إن مت عليها ندمت، ثم مات، فلما دفنته سألت عن يوم خروج الرشيد فأخبرت، فكتبت قصة وتعرضت له، فدفعت إليه القصة بعد أن ضربت ضربا موجعا، قال: فلما دخل القصر وقرأ القصة استدعانى، فدخلت عليه فقال: ما شأنك؟
فأخرجت الخاتم ودفعته إليه، فلما نظر إليه قال لى: من أين لك هذا الخاتم؟ قلت يا أمير المؤمنين دفعة إلىّ رجل طيان وأخبرته بقصته، فنظرت إلى دموعه تنحدر على لحيته، وهو يقول:
رجل طيان!!! وقربنى منه وأدنانى فدنوت منه، فقلت له: يا أمير المؤمنين إنه أوصانى بوصيته ألقيها إليك، قال: ألق ما معك من الوصية، قلت له: يقول لك صاحب هذا الخاتم: لا تموتن على سكرتك هذه، فإنك إن مت عليها ندمت، فقام قائما وضرب بنفسه على البساط وجعل ينتف رأسه ولحيته، ويقول: يا بنى نصحت أباك حيا وميتا، وبكى بكاء طويلا ثم جلس، وجاءوا فغسل وجهه، واستعاد القصة(22/160)
الحسن»
، وأم محمد- وهى حمدونة، وفاطمة، وأم أبيها، وأم سلمة، وخديجة، وأم القاسم، ورملة، وأم جعفر، والغالية، وريطة، كلهن لأمهات أولاد، والواحدة من بناته تعد عشرة من الخلفاء كلهم لها محرم هارون أبوها، والهادى عمها، والمهدى جدها، والمنصور جد أبيها، والسفاح عم جدها، والأمين والمأمون والمعتصم إخوتها، والواثق والمتوكل ابنا أخيها.
وكان نقش خاتمه: العظمة والقدرة لله، وقيل كن من الله على حذر. وزراؤه: يحيى بن خالد بن برمك ثم ابناه جعفر والفضل، ثم استوزر بعد البرامكة الفضل بن الربيع. قضاته: نوح بن دراج «2» بالجانب الغربى، وحفص بن غياث بالشرقى. حاجبه: بشر مولاه، ثم محمد بن
__________
فقصصتها عليه. فبكى بكاء كثيرا ثم قال: هذا أول مولود ولد لى، وكان أبى المهدى قد ذكر لى زبيدة أن يزوجنى بها، فنظرت إلى امرأة فتعلق قلبى بها فتزوجتها سرا من أبى، فأولدتها هذا المولود وأنفذت بهما إلى البصرة. ودفعت إليها هذا الخاتم وأشياء كثيرة، وقلت لها: اكتمى نفسك، فإذا بلغك أنى قد استخلفت فأتنى، فلما أفضت الخلافة إلى سألت عنها، فقيل لى إنهما ماتا، وما علمت أنه باق، فأين دفنته؟ فقلت فى مقبرة عبد الله بن مبارك، فقال إليك حاجة- وهى إذا كان بعد المغرب فقف بالباب. حتى أخرج إليك متنكرا وأمضى معك إلى قبره ففعلت فخرج والخدم حوله فدنا منّى حتى وضع يده فى يدى، فجئت به إلى قبره فما زال يبكى ليلته حتى أصبح، وهو يقول مع بكائه: يا بنى نصحت أباك حيا وميتا، فجعلت أبكى لبكائه رحمة له، ثم قال لى: قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار، وأمرت أن تجرى عليك دائما، فإذا أنا مت أوصيت لك بها من يلى الأمر بعدى، وأن تجرى عليك وعلى وعقبك مهما كان لك عقب، فإن لك حقا بدفنك ولدى، فلما أراد أن يدخل الباب قال: انظر إلى ما أوصيك به إذا طلعت الشمس ففارقته ولم أعد إليه. (راجع تنبيه الغافلين لمؤلفه نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندى ص 325، ص 326، 327- طبعة بولاق) .(22/161)
خالد بن برمك، ثم الفضل بن الربيع. الأمراء بمصر: على بن سليمان الهاشمى، ثم موسى بن عيسى، ثم «1» إبراهيم بن صالح ثم مات فوليها أحمد بن خالد «2» الأعرج، ثم إسحاق بن سليمان بن على الهاشمى، ثم هرثمة بن أعين ثم ولاه المغرب، وولى عبد الملك بن صالح بن على الهاشمى، ثم عبيد الله «3» بن المهدى، ثم إسماعيل بن صالح بن على الهاشمى، ثم الليث بن الفضل، ثم «4» أحمد بن إسماعيل بن على الهاشمى، ثم عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن على الهاشمى ويعرف بابن زينب، ثم الحسين بن جميل الأزدى، ثم مالك بن دلهم، ثم الحسن ابن البحباح «5» القضاة بها: أبو طاهر عبد الملك، ثم المفضل «6» بن فضالة، ثم محمد بن مسروق الكندى «7» ، ثم إسحاق بن الفرات، ثم عبد(22/162)
الرحمن بن عبد الله- من ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أول من دوّن الشهود.
ذكر شىء من سيرة الرشيد وأخباره
قيل: كان الرشيد يصلى فى كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، لا يقطعها إلا فى مرض، وكان يتصدق من صلب ماله فى كل يوم بألف درهم، وكان إذا حجّ حجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحجّ ثلاثمائة رجل بالنفقة التامة والكسوة، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء فى الدين، وكان يحب المديح لا سيما من شاعر فصيح، ويجزل العطاء عليه، ولما مدحه مروان بن أبى حفصة بقصيدته التى منها:
وسدّت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
أعطاه خمسة آلاف دينار وعشرة من الرقيق الرومى وبرذونا من خاص مراكبه.
وقيل: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره من جدّ وهزل، ووزراؤه البرامكة لم ير مثلهم فى السخاء، وقاضيه أبو يوسف وشاعره مروان بن أبى حفصة، ونديمه عم أبيه العباس بن محمد، وحاجبه الفضل بن الربيع، إربة الناس، ومغنيه إبراهيم الموصلى، واحد عصره فى صناعته، وضاربه زلزل، وزامره برصوما، وزوجته أم جعفر بنت جعفر، أرغب الناس فى خير، وأسرعهم إلى كل برّ، وأمه الخيزران أم الخلفاء.
قال: وبذل الرشيد الأمان للطالبيين، وأخرج الخمس لبنى هاشم، وقسم للذكر والأنثى خمسمائة، وفرض لأبناء المهاجرين والأنصار، وعمر طرسوس وجعل فيها جماعة من الموالى رحمه الله تعالى.(22/163)
ذكر خلافة الأمين
هو أبو عبد الله وقيل أبو موسى وقيل أبو العباس- محمد بن هارون الرشيد، وأمه أمة الواحد وقيل أمة العزيز «1» بنت جعفر بن أبى جعفر المنصور، ولقبت زبيدة، ولم يل الخلافة بعد على والحسن من أمه هاشمية غيره، وهو السادس من الخلفاء العباسيين؛ بويع له بالخلافة بطوس فى عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التى توفى فيها الرشيد، لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكان المأمون يومئذ بمرو، فكتب حمويه- مولى المهدى وهو صاحب البريد- إلى نائبه ببغداد، وهو أبو مسلم «2» سلام، يعلمه بوفاة الرشيد، فدخل أبو مسلم على الأمين فعزاه بأبيه وهنّأه بالخلافة، وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين بذلك مع رجاء الخادم، وأرسل معه الخاتم والقضيب والبردة، فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره الخلد إلى قصر الخلافة، وصلّى بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم الخير وأمّن الأبيض والأسود، وفرّق فى الجند الذين ببغداد رزق أربعة وعشرين شهرا، ودعا إلى البيعة فبايعه جلة أهل بيته، ووكل عم أبيه وأمه سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، وأمر السّدى بمبايعة من عداهم، وقدمت العساكر التى كانت مع الرشيد، وقدمت زبيدة امرأة الرشيد أم الامين من الرقة إلى بغداد، فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار، ومعه جميع من ببغداد من الوجوه، وكان معها خزائن الرشيد.(22/164)
وفيها ابتدأت الوحشة بين الأمين والمأمون، وظهر الخلاف فيما بعدها وتفاقم الأمر، وسنذكر ذلك كله وأسبابه فى آخر أيام الأمين، ليكون خبر ذلك متواليا لا ينقطع بخروج سنة ودخول أخرى، فلنذكر من أخبار الأمين خلاف ذلك وفيها عزل الأمين أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة، وأقرّه على العواصم، وأستعمل على الجزيرة خزيمة بن خازم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة داود بن عيسى بن موسى «1» بن محمد وهو أمير مكة.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة.
ذكر خلاف أهل حمص على الأمين
فى هذه السنة خالف أهل حمص على الأمين، فتحوّل عاملهم إسحاق بن سليمان إلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشى، فقتل عدة من وجوههم وحبس عدة، وألقى النار فى نواحيها، فسألوه الأمان فأجابهم، ثم هاجوا بعد ذلك فقتل عدة منهم.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة.
فى هذه السنة قطع الأمين خطبة المأمون، وأمر بإسقاط ما ضرب باسمه من الدنانير والدراهم بخراسان، وأمر فدعى لابنه موسى ولقّبه الناطق بالحق، ولابنه الآخر عبد الله ولقّبه القائم بالحق.
ذكر خروج السّفيانىّ وما كان من أمره
فى هذه السنة خرج السفيانى- وهو على بن عبد الله بن خالد بن يزيد(22/165)
ابن معاوية، وأمّه نفيسة بنت عبيد الله «1» بن العباس بن على بن أبى طالب، وكان يقول: أنا ابن شيخى صفين- يشير إلى على ومعاوية، وكان يلقب بأبى العميطر، لأنه قال لأصحابه: أى شىء كنية الحرذون؟ قالوا:
لا ندرى، قال: هو أبو العميطر، فلقبوه به، ولما خرج دعا لنفسه بالخلافة فى ذى الحجة، وقوى على سليمان بن المنصور عامل دمشق، وأخرجه عنها وأعانه الخطاب بن وجه الفلس مولى بنى أمية، وكان قد تغلب على صيدا، فبعث الأمين إليه الحسن بن على بن عيسى بن ماهان، فبلغ الرقة ولم يصل إلى دمشق؛ قال: وكان عمر السفيانى لما خرج تسعين سنة، وكان الناس قد أخذوا عنه علما كثيرا، وكان حسن السيرة، فلما خرج ظلم وأساء السيرة، فتركوا ما كانوا نقلوه عنه، وكان أكثر أصحابه من كلب، وكتب إلى محمد بن بيهس الكلابى «2» يدعوه إلى طاعته، ويتهدده إن لم يفعل فلم يجبه إلى ذلك، فأقبل السفيانى لقصد القيسية فكتبوا إلى محمد بن صالح، فأقبل إليهم فى ثلاثمائة فارس ومواليه، فبعث إليه السفيانى يزيد بن هشام فى اثنى عشر ألفا، فالتقوا فانهزم يزيد ومن معه، وقتل منهم زيادة على ألفين، وأسر ثلاثة آلاف فأطلقهم ابن بيهس، وحلق رءوسهم ولحاهم، فضعف السفيانى، ثم جمع جمعا وجعل عليهم ابنه القاسم، وخرجوا إلى بيهس فالتقوا فقتل القاسم وانهزم أصحاب السفيانى، وبعث رأسه إلى الأمين، ثم جمع جمعا آخر وبعثهم مع مولاه المعتمر، فلقيهم ابن بيهس فقتل المعتمر وانهزم أصحابه، فوهن أمر السفيانى وطمعت فيه قيس، ثم مرض ابن بيهس، فاستخلف مسلمة بن يعقوب بن على «3» بن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، وأمر بنى نمير بمبايعته بالخلافة، وعاد ابن بيهس إلى(22/166)
حوران، واجتمعت نمير على مسلمة وبايعوه، فدخل على السفيانى وقبض عليه وقيده، وقبض على رؤساء بنى أميّة فبايعوه، وأدنى القيسية وجعلهم خاصته، فلما عوفى محمد بن بيهس عاد إلى دمشق فحصرها، فسلمها إليه القيسية، وهرب مسلمة والسفيانى فى زى النساء إلى المزة، وذلك فى المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وغلب ابن بيهس على دمشق، إلى أن قدم عبد الله ابن طاهر دمشق ودخل إلى مصر وعاد إلى دمشق فأخذ ابن بيهس معه إلى العراق فمات بها.
وحج بالناس عامل مكة داود بن عيسى.
ودخلت سنة ست وتسعين ومائة.
فى هذه السنة استعمل الأمين على الشام عبد الملك بن صالح بن على:
فسار إليها فتوفى بالرقة قبل وصوله إلى الشام. وفيها خلع الأمين وبويع للمأمون، ثم عاد الأمين إلى الخلافة، على ما نذكره إلى شاء الله تعالى.
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائة.
فى هذه السنة حجّ بالناس العباس بن موسى بن عيسى، وجّهه طاهر بأمر المأمون. وفيها سار المؤتمن بن الرشيد ومنصور بن المهدى إلى المأمون بخراسان، فوجّه المأمون أخاه المؤتمن إلى جرجان.
ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائة.
ذكر أخبار الأمين والمأمون وما كان بينهما من الفتن والاختلاف وما أفضى إليه الأمر من قتل الأمين
كان ابتداء الخلف بينهما فى سنة ثلاث وتسعين ومائة عند وفاة الرشيد، وكان سبب ذلك أن الرشيد كان قد أشهد عليه فى سفرته التى مات فيها: أن(22/167)
جميع ما فى عسكره من مال ومتاع ورقيق وكراع وغير ذلك للمأمون، وأخذ له البيعة على جميع من فى عسكره، فعظم ذلك على الأمين، ثم بلغه شدة «1» مرض الرشيد، فأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها فى قوائم صناديق المطبخ، وألبسها جلود البقر، وقال: لا تظهرنّ أمير المؤمنين ولا غيره عليها، فإذا مات فادفع الكتب إلى أربابها، فقدم بكر إلى طوس فبلغ الرشيد قدومه، فأحضره وسأله عن موجب قدومه، قال: بعثنى الأمين لآتيه بخبرك، قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا، فأمر بتفتيش ما معه فلم يصيبوا شيئا، فأمر به فضرب فما أقرّ، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره، فإن أقرّ وإلا ضرب عنقه، ثم مات الرشيد فأخرج بكر «2» الكتب التى معه، وهى كتاب إلى المأمون يأمره بترك الجزع، وأخذ البيعة على الناس «3» لأخيهما المؤتمن، فلم يكن المأمون حاضرا وكان بمرو، وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه، وأن يتصرف هو ومن معه برأى الفضل بن الربيع، وكتاب إلى الفضل بالحفظ والاحتياط على الحرم والأموال وغير ذلك، وأقرّ كل من كان على عمل من الأعمال على عمله، من صاحب شرط «4» وحجابة وحرس، فلما قرءوا الكتب تشاور القواد فى اللحاق بالمأمون أو الأمين، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر ما أدرى ما يكون من أمره، ثم أمر الناس بالرحيل فرحلوا، محبة منهم لأهليهم ووطنهم وتركوا العهود التى كانت أخذت عليهم للمأمون، فلما بلغ المأمون ذلك جمع من كان عنده من القوّاد، وفيهم ذو الرئا ستين الفضل بن سهل، وهو أعظمهم قدرا عنده وأخصّهم به، واستشارهم فأشاروا عليه أن يلحقهم جريدة فى ألفى فارس ويردهم، فخلى به ذو(22/168)
الرئاستين وقال: إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هديّة إلى أخيك ولكن الرأى أن تكتب إليهم كتابا مع رسول من عندك، تذكّرهم البيعة وتسألهم الوفاء وتحذرهم الحنث، ففعل ووجّه سهل بن صاعد «1» ونوفلا الخادم، فلحقا الجند والفضل بنيسابور، فأوصلا الفضل كتابه فقال: إنما أنا واحد من الجند، وشدّ عبد الرحمن بن جبلة على سهل بالرمح ليطعنه، فأمّره على جنبه وقال: قل لصاحبك لو كنت حاضرا لوضعته فيك، وسبّ المأمون فرجعا إليه بالخبر فقال ذو الرئاستين: أعداء استرحت منهم، وقال له: اصبر وأنا أضمن لك الخلافة، فقال المأمون: قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به، قال ذو الرئاستين: والله لأصدقنّك، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك منّى، برياستهم المشهورة وبما عندهم من القوّة، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تباع أملك وترى رأيك، وقام ذو الرئاستين فأتاهم فى منازلهم، وذكر لهم البيعة وما يجب عليهم من الوفاء، قال: فكأنى جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم:
هذا لا يحل وأخرجه «2» ، وقال بعضهم: ومن الذى يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ قال: فجئت وأخبرته فقال: قم بالأمر، فأشار عليه أن يبعث إلى الفقهاء، ويدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة وردّ المظالم، وأن تجلس على الصوف وتكرم القوّاد، ففعل ذلك ووضع عن خراسان ربع الخراج، فحسن ذلك عند أهلها وقالوا: ابن اختنا وابن عم نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، ثم كتب المأمون إلى الأمين وعظّمه.
ولما قدم الفضل بن الربيع العراق- وقد نكث عهد المأمون- علم أنّ المأمون، إن أفضت إليه الخلافة وهو حىّ، لم يبق عليه، فسعى فى إغراء الأمين وحثّه على خلع المأمون، والبيعة لابنه موسى بولاية العهد- ولم يكن(22/169)
ذلك فى عزم الأمين، فلم يزل الفضل يصغّر أمر المأمون عنده ويزيّن له خلعه، ووافقه على ذلك على بن عيسى «1» بن ماهان والسندى وغيرهما، فرجع الأمين إلى قولهم وجمع القوّاد لذلك، فنهاه عبد الله بن خازم وأبى القواد ذلك، وربما ساعده قوم، فلما بلغ إلى خزيمة بن خازم قال له: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإنّ الغادر مخذول، والناكث مفلول، فأقبل الأمين على علىّ ابن ماهان فتبسّم وقال: لكنّ شيخ هذه الدعوة وناب «2» هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلها.
وألحّ الأمين فى خلع المأمون، فأوّل ما فعل أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء بالإمرة لابنه موسى بعد الدعاء للمأمون والمؤتمن، فلما بلغ ذلك المأمون، وأن الأمين عزل المؤتمن عما كان بيده، أسقط الأمين من الطّرز وقطع البريد عنه، وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار- لمّا بلغه حسن سيرة المأمون- طلب الأمان منه فأمّنه، فحضر عنده.
قال: ثم كتب الأمين إلى المأمون يستقدمه ويسأله أن يقدّم ابنه موسى على نفسه، وأرسل إليه أربعة «3» فى الرسالة- منهم العباس بن موسى بن عيسى، فلما أتوه امتنع من ذلك، فقال له العباس بن موسى: ما عليك أيها الأمير من ذلك؟ وقد فعله جدى عيسى بن موسى وخلع فما ضرّه ذلك، فصاح به ذو الرئاستين: فقال اسكت فإنّ جدّك كان أسيرا بين أيديهم، وهذا بين أخواله وشيعته، ثم قاموا «4» فخلى ذو الرئاستين بالعباس بن(22/170)
موسى، واستماله ووعده إمرة الموسم ومواضع، فأجاب إلى بيعة المأمون وسماه بالإمام، وكان يكتب إليهم بالأخبار من بغداد، ورجع الرسل إلى الأمين وأخبروه بامتناع المأمون، وبعث المأمون ثقة من عنده إلى الحدّ، يمنع من الدخول إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته، وضبط الطرق بثقاة أصحابه.
قال: وألحّ الفضل بن الربيع فى قطع خطبة المأمون، وأغرى الأمين بحربه، فأجابه إلى ذلك وبايع لولده موسى، وجعله فى حجر على بن عيسى بن ماهان، وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى رسائله على بن صالح صاحب المصلى، وأسقط خطبة المأمون فى سنة خمس وتسعين ومائة، وبايع لولده موسى فى صفر وقيل فى ربيع الأول، وأرسل إلى الكعبة فأتى بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد ببيعة الأمين والمأمون، فمزّقهما الفضل بن الربيع.
ذكر محاربة على بن عيسى بن ماهان وطاهر
قال: ثم أمر الأمين على بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون، وكان سبب مسيره دون غيره أنّ ذا الرئاستين كان له عين عند الفضل بن الربيع، يرجع الفضل إلى قوله ورأيه، فكتب ذو الرئاستين إلى ذلك الرجل أن يشير بانفاذ ابن ماهان لحربهم، وكان مقصده أن ابن ماهان- لمّا ولى خراسان أيام الرشيد أساء السيرة فى أهلها فظلمهم «1» - فبغضه أهل خراسان، فأراد ذو الرئاستين أن يزداد أهل خراسان جدا فى قتال الأمين وأصحابه بسببه، فأشار ذلك الرجل بابن ماهان فأمره الأمين بالمسير؛ وقيل كان سببه أنّ عليّا قال للأمين: إنّ أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنّه «2» إن(22/171)
قصدهم أطاعوه وانقادوا له، وإن كان غيره فلا، فأمره بالمسير وأقطعه كور الجبل كلها نهاوند وهمذان وقمّ وأصفهان وغير ذلك- حربها وخراجها، وأعطاه الأموال وحكّمه فى الخزائن، وجهّز معه خمسين ألف فارس، وكتب إلى أبى دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجلى «1» وهلال بن عبد الله الحضرمى بالانضمام إليه، وأمدّه بالأموال والرجال شيئا بعد شىء، وخرج فى شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، وركب الأمين يشيّعه ومعه القوّاد والجنود، وأوصاه إن قاتله المأمون يحرص على أسره.
قال: وكان المأمون- لمّا بلغه ما فعله الأمين من خلعه وتمزيق كتب البيعة- أرسل طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن أسعد «2» الخزاعى أميرا، وضمّ إليه جماعة من قوّاده وأجناده، فسار مجدا نحو الرى فنزلها ووضع المسالح والمراصد. قال: وسار ابن ماهان فلقيته القوافل عند جلولاء، فسألهم فقالوا إن طاهرا مقيم بالرى، يعرض أصحابه والأمداد تأتيه من خراسان، فجعل يسير وهو لا يعبأ بطاهر ويستقله ولا يستعد له، فقيل له فى ذلك فقال: مثل طاهر لا يستعدّ له، وإنّ حاله تؤول إلى أمرين: إما أن يتحصّن بالرى فيسلمه أهلها، وإما أن يرجع ويتركها إذا قربت خيلنا منه؛ قال: فلما دنا من الرى خرج طاهر منها، فى أقل من أربعة آلاف فارس وعسكر على خمسة فراسخ، فأتاه أحمد بن هشام وكان على شرطته فقال له: إن أتانا على بن عيسى؟ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين فأقررنا له بذلك، فليس لنا أن نحاربه. فقال طاهر: لم يأتنى فى ذلك(22/172)
شىء، فقال: دعنى وما أريد، فقال: افعل، فصعد المنبر فخلع الأمين ودعا للمأمون بالخلافة، وساروا وأقبل ابن ماهان وقد عبّأ أصحابه، وعبّأ عشر رايات مع كل راية ألف رجل، وقدّمها راية راية وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وعبّأ طاهر أصحابه كراديس، وسار بهم يحرّضهم ويوصيهم، وهرب من أصحاب طاهر نفر إلى علىّ، فجلد بعضهم وأهان الباقين، فكان ذلك مما ألب من بقى على قتاله، وزحف الناس بعضهم لبعض، فقال أحمد بن هشام لطاهر: ألا تذكّر على بن عيسى البيعة التى أخذها علينا هو للمأمون؟ قال: أفعل- فأخذ البيعة وعلّقها على رمح، وقام بين الصفين وطلب الأمان، فأمّنه علىّ بن عيسى، فقال له: ألا تتقى الله!! أليس هذه نسخة البيعة التى أخذتها أنت خاصة علينا؟؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك! فقال علىّ: من أتانى به فله ألف درهم، فسنمه أصحاب أحمد ثم وثب أهل الرى وأغلقوا باب المدينة، فقال طاهر لأصحابه:
اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم، فإنّه لا ينجيكم إلا الجد والصدق، ثم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميسرة طاهر هزيمة منكرة، وزالت ميمنته عن موضعها، فقال طاهر: اجعلوا جدّكم وبأسكم على القلب، واحملوا حملة خارجية، فحملوا على أول رايات القلب فهزموها، فرجعت الرايات بعضها على بعض وانتهت الهزيمة إلى علىّ، فجعل ينادى أصحابه:
الكرّة بعد الفرّة، فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، وحمل رأسه إلى طاهر، وحملت جثّته إليه فألقى فى بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله تعالى، وتمت الهزيمة ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف، وتبعوهم فرسخين وواقفوهم فيها اثنتى عشرة مرّة، كل مرّة يكسر عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، وغنموا غنيمة عظيمة، ونادى أصحاب طاهر: من ألقى سلاحه فهو آمن،(22/173)
فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى الرى، وكتب إلى المأمون.
بسم الله الرحمن الرحيم كتابى إلى أمير المؤمنين ورأس على بن عيسى بين يدى، وخاتمه فى أصبعى، وجنده ينصرفون تحت أمرى. والسلام.
وكتب إلى ذى الرئاستين فورد الكتاب مع البريد فى ثلاثة أيام، وبينهما نحو من خمسين ومائتى فرسخ، فدخل ذو الرئاستين على المأمون وهنّأه بالفتح وأمر الناس فدخلوا عليه وسلّموا بالخلافة، ثم وصل رأس علىّ بعد الكتاب بيومين، فطيف به فى خراسان. ولما وصل الكتاب كان المأمون قد جهّز هرثمة فى جيش كبير نجدة لطاهر، فأتاه الخبر بالفتح.
قال: وأما الأمين فإنّه أتاه نعى على بن عيسى- وهو يصطاد السمك، فقال الذى أتاه بالخبر: دعنى «1» فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما صدت شيئا، ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم- وهو وكيل المأمون على ملكه بالسواد- وكان للمأمون معه ألف ألف درهم- فأخذها منه وقبض ضياعه وغلاته، وندم الأمين على ما كان منه ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فى النصف من شوال سنة خمس وتسعين واتفقوا على طلب الأرزاق ففرّق فيهم مالا كثيرا.
ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة إلى طاهر وقتله واستيلاء طاهر على أعمال الجبل
قال: ولما اتصل بالأمين قتل على بن عيسى وهزيمة عسكره وجّه عبد(22/174)
الرحمن بن جبلة الأنبارى فى عشرين ألف رجل، نحو همذان واستعمله عليها وعلى كل ما يفتحه من ارض خراسان، فسار حتى نزل همذان فحصّنها ورمّ سورها، وأتاه طاهر إليها فخرج إليه عبد الرحمن، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عبد الرحمن، ودخل همذان فأقام بها أياما حتى قوى أصحابه واندملت جراحاتهم، ثم خرج إلى طاهر واقتتلوا وصبر الفريقان، وكثر القتل فى أصحاب ابن جبلة وقتل صاحب علمه، فانهزم أصحابه وقتلهم أصحاب طاهر إلى المدينة، وأقام طاهر على بابها محاصرا لها، فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه فأمّنه، فخرج عن همذان واستولى طاهر على قزوين وعلى سائر أعمال الجبل. قال: ولما خرج عبد الرحمن بأمان طاهر أقام مسالما لطاهر، ثم ركب فى أصحابه وهجم على طاهر وأصحابه وهم «1» آمنون، فثبت له رجّالة «2» طاهر، وقاتلوه حتى أخذ؟؟؟ ت الخيّالة أهبتها، واقتتلوا أشد قتال رآه الناس، حتى تكسرت الرماح وتقطّعت السيوف، فانهزم أصحاب عبد الرحمن وبقى فى نفر من أصحابه فقاتل، وأصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب، فقال: لا يرى أمير المؤمنين وجهى منهزما أبدا، ولم يزل يقاتل حتى قتل، وانتهى من انهزم من أصحابه إلى عبد الله واحمد ابنى الحرشى، وكانا فى جيش عظيم بقصر اللصوص قد سيّرهما الأمين معونة لعبد الرحمن فانهزما فى جندهما من غير قتال حتى دخلوا بغداد»
، وخلت البلاد لطاهر وأقبل يحوزها بلدة بلدة وكورة كورة، حتى انتهى إلى شلاشان من كور حلوان فخندق بها، وحصّن عسكره وجمع أصحابه.(22/175)
ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال
قال: وفى سنة ست وتسعين ومائة بعث الأمين أحمد بن مزيد وأمر الفضل أن يمكّنه من العسكر يأخذ منهم من أراد، وأمره بالجدّ فى السير ودفع طاهر وحربه، فاختار من العسكر عشرين ألف فارس، وسار معه عبد الله ابن حميد بن قحطية فى عشرين ألفا وسار بهم إلى حلوان، فلم يزل طاهر يحتال فى وقوع الاختلاف بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضا، ورجعوا من غير قتال، وتقدم طاهر فنزل حلوان، فلما نزلها لم يلبث إلا يسيرا حتى اتاه هرثمة، فى جيش من قبل المأمون ومعه كتاب إلى طاهر، يأمره بتسليم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة، ويتوجّه إلى الأهواز ففعل ذلك، وأقام هرثمة بحلوان وحصّنها وسار طاهر إلى الأهواز.
وفى هذه السنة خطب للمأمون بإمرة المؤمنين. ورفع منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى التّبت «1» طولا، ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضا، وجعل له عمالة ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذى شعبتين، ولقّبه ذا الرئاستين- رئاسة الحرب والقلم- وحمل اللواء على بن هشام وحمل القلم نعيم بن حازم.
وولّى الحسن بن سهل ديوان الخراج، وذلك بعد قتل على بن ماهان وعبد الرحمن بن جبلة.
قال: وأما طاهر فإنّه استولى على الأهواز، ثم سار منها إلى واسط وبها السّندى بن يحيى والهيثم بن شعبة، فهربا عنها واستولى طاهر عليها، ووجّه قائدا من قوّاده إلى الكوفة وعليها العباس بن موسى الهادى، فلما بلغه(22/176)
الخبر خلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب بذلك إلى المأمون، وغلب طاهر على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بن المهدى- وكان عاملا للأمين على البصرة- إلى طاهر ببيعته وطاعته، وأتته بيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل، وكان ذلك كله فى شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة، فأقرّهم طاهر على أعمالهم. قال: ثم سار طاهر إلى المدائن وبها جيش كبير للأمين. عليهم البرمكى وقد تحصّن بها والمدد يأتيه كل يوم والخلع والصلات. فلما سمع البرمكى بمقدم طاهر وجّه قريش بن شبل والحسن «1» ابن على المأمونى، فلما سمع أصحاب البرمكى طبول طاهر سرجوا الخيل ورجعوا، وأخذ البرمكى فى التعبئة فكان كلّما سوّى صفا اضطرب صف «2» وانتقض، فانضم أوّلهم إلى آخرهم، فقال: اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان، ثم قال لصاحب ساقته: خلّ سبيل الناس فلا خبر عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد. فنزل طاهر المدائن واستولى على تلك النواحى، ثم سار «3» إلى صرصر فعقد بها جسرا.
ذكر خلع الأمين ببغداد والبيعة للمأمون وعودة الأمين
قد قدّمنا إرسال الأمين عبد الملك بن صالح إلى الشام، واستعماله عليها ووفاته بالرقة، وكان معه الحسين بن على بن عيسى بن ماهان، فلما مات عبد الملك أقبل الحسين بالجند إلى بغداد، فلما قدم لقيه القوّاد وأهل بغداد وعملت له القباب ودخل منزله، فلما كان فى جوف الليل استدعاه الأمين. فقال للرسول: ما أنا بمغن ولا مسامر ولا مضاحك، ولا وليت له(22/177)
عملا ولا مالا ولأى شىء يريدنى فى هذه الساعة؟! انصرف، وإذا أصبحت غدوت عليه إن شاء الله تعالى، فلما أصبح وافى الحسين باب الجسر واجتمع إليه الناس، فحرّضهم على الأمين وتنقّصه ودعاهم إلى خلعه، ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا وصاروا إلى سكة باب خراسان، وأسرعت خيول الأمين إلى الحسين «1» فقاتلوه قتالا شديدا، فانهزم أصحاب الأمين، فخلع الحسين الأمين فى يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رجب، وأخذ البيعة للمأمون من الغد يوم الإثنين، فلما كان يوم الثلاثاء وثب العباس ابن موسى بن عيسى بالأمين، وأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور، وأخرج أمّه أيضا معه فجعلها مع ابنها، فلما كان يوم الأربعاء طالب الناس الحسين بالأرزاق، وماجوا بعضهم فى بعض، وقام محمد بن أبى خالد «2» وأسد الحربى وغيرهما فقاتلوا الحسين وأسروه، ودخل أسد على الأمين فكسر قيوده وأعاده الى الخلافة، وحمل اليه الحسين أسيرا فلامه فاعتذر إليه، فأطلقه وأمره بجمع الجند ومحاربة أصحاب المأمون، وخلع عليه وولّاه ما وراء بابه وأمره بالمسير إلى حلوان. فوقف الحسين بباب الجسر والناس يهنئونه. فلما خفوا عنه قطع الجسر وهرب، فنادى الأمين فى الجند بطلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد فقاتلهم فعثر به فرسه فسقط عنه، فقتل وحمل رأسه إلى الأمين، وقيل إن الأمين كان استوزره وسلّم إليه خاتمه فلما قتل جدد الجند البيعة للأمين، واختفى الفضل بن الربيع.
ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة
وفى هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على الأمين- وهو عامله على مكة والمدينة وبايع للمأمون، وسبب ذلك أنّه لما(22/178)
بلغه ما فعل طاهر، وكان الأمين قد بعث إلى داود وأخذ الكتابين من الكعبة كما تقدّم فجمع داود وجوه الناس ومن كان شهد فى الكتابين، وقال: قد علمتم ما أخذ الرشيد علينا وعليكم من العهد عند البيت «1» الحرام لابنيه، لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المغدور منهما على الغادر، وقد رأينا ورأيتم «2» أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغى والنكث على أخويه المأمون والمؤتمن، وخلعهما عاصيا لله وبايع لابنه طفل صغير رضيع، وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما، وقد رأيت خلعه والبيعة للمأمون، إذ كان مظلوما مبغيا عليه، فأجابوه إلى ذلك، فنادى فى شعاب مكة فاجتمع الناس فخطبهم بين الركن والمقام، وخلع الأمين وبايع للمأمون، وكتب إلى ابنه سليمان- وهو عامله على المدينة- أن يفعل مثل ما فعل، فخلع وبايع للمأمون وكانت هذه البيعة فى شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة، وسار داود من مكة على طريق البصرة، ثم إلى فارس وإلى كرمان حتى صار الى المأمون بمرو فأخبره، فسرّ المأمون وتيمّن ببركة مكة والمدينة، واستعمل داود عليهما وأعطاه خمسمائة ألف درهم، وبعث معه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى وجعله على الموسم، فسارا حتى أتيا طاهرا ببغداد فأكرمهما «3» ، ووجّه معهما يزيد بن جرير بن يزيد «4» بن خالد بن عبد الله القسرى واستعمله على اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة فقدمها، ودعا أهلها إلى خلع الأمين والبيعة للمأمون، فأجابوه وخلعوا وبايعوا للمأمون «5» ، فكتب بذلك إلى طاهر والمأمون.(22/179)
ذكر تجهيز الأمين الجيوش وما كان من أمرهم
وفى سنة ست وتسعين ومائة عقد محمد الأمين- فى رجب وشعبان أربعمائة لواء لقوّاد شتى، وأمّر عليهم على بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين فساروا إليه فالتقوا بنواحى النّهروان فى شهر رمضان، فأسر على بن محمد فسيّره هرثمة إلى المأمون، ورحل هرثمة فنزل النّهروان.
ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين
قد قدّمنا نزول طاهر بصرصر عند استيلائه على المدائن، فأقام بها مشمرا فى محاربة الأمين، لا يأتيه جيش إلا هزمه، فبذل الأمين الأموال فسار إليه من أصحاب طاهر خمسة آلاف، فسرّبهم ووعدهم ومنّاهم وفرّق فيهم مالا عظيما، وغلّف لحاهم بالغالية فسمّوا قواد الغالية، وفرّق الأمين الجواسيس فى أصحاب طاهر، ودسّ إلى رؤساء الجند وأطمعهم ورغبهم، فشغبوا على طاهر واستأمن كثير منهم إلى الأمين، وانضموا إلى عسكره وساروا حتى أتوا صرصر، فعبّأ طاهر أصحابه كراديس، وحرّضهم ووعدهم ومناهم وتقدّم بهم، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب الأمين وغنم عسكر طاهر ما كان لهم من سلاح ودواب وغير ذلك، فبلغ ذلك الأمين فأخرج الأموال وفرّقها، وجمع أهل الأرباض وقوّد منهم جماعة وفرق فيهم الأموال، وقواهم بالسلاح وأعطى كل قائد قارورة غالية، ولم يعط الأجناد الذين معهم شيئا، فراسلهم طاهر ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم فشغبوا على الأمين فى ذى الحجة، فأشار أصحابه عليه باستمالتهم والإحسان إليهم فلم يفعل، وأمر بقتالهم فقاتلهم جماعة من الأجناد، وراسلهم طاهر وراسلوه وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة وأعطاهم الأموال، ثم تقدم إلى باب الأنبار فى ذى الحجة، ونقب أهل السجون وخرجوا منها.(22/180)
ذكر حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها
فى سنة سبع وتسعين ومائة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب الأمين ببغداد، وتفرّقوا عليها ونصبوا عليها المجانيق والعرّادات، وحفروا حول عساكرهم الخنادق، وسوّر هرثمة حول خندقه سورا، وكان الأمين قد أنفذ ما فى خزائنه من الأموال، فأمر ببيع ما فى الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير «1» ودراهم ليفرّقها فى أصحابه. قال:
واستأمن إلى طاهر- سعيد بن مالك بن قادم، فولّاه الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان وأمدّه بالأموال والرجال، وقبض طاهر ضياع من لم يخرج إليه من بنى هاشم والقوّاد وغيرهم، وأخذ أموالهم فذلّوا وانكسروا، وضعف أجناد الأمين عن القتال وطاهر لا يفترّ عن قتالهم، فاستأمن محمد بن عيسى صاحب شرط الأمين وعلى فراهمرد، ثم كاتب طاهر جماعة القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن قبض ضياعهم، فأجابوه إلى البيعة للمأمون، فكان ممن أجابه عبد الله بن حميد بن قحطبة وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة، ويحيى بن على بن ماهان، ومحمد بن أبى العباس «2» الطائى وغيرهم، هذا والأمين مقبل على الأكل والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش، ثم منع طاهر الأقوات أن تصل إلى بغداد فغلت الأسعار، ودام الحصار والقتال على بغداد إلى سنة ثمان وتسعين ومائة، حتى ضجر الناس وملّوا القتال، فلحق خزيمة بن خازم بطاهر وفارق الأمين، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقى لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين فى ليلة الأربعاء، فلما كان الغد تقدّم طاهر إلى المدينة والكرخ، فقاتل هناك قتالا شديدا، فهزم الناس ومرّوا لا يلوون(22/181)
على شىء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه فنادى: من لزم بيته فهو آمن، وقصد مدينة المنصور وأحاط بها، وبقصر زبيدة وقصر الخلد- من باب الجسر الى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب الفرات، وشاطئ الفرات إلى مصبّها فى دجلة، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب طاهر المجانيق بإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد، وأخذ الأمين أمّه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرّق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه فى الطريق، لا يلوى بعضهم على بعض، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب.
ذكر مقتل الأمين
قال: لما دخل الأمين مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرها، جاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وغيرهما، فقالوا للأمين: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد تفرّق عنك الناس، وقد بقى معك من خيلك سبعة «1» آلاف فرس من خيارها، ونرى أن تختار ممن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة «2» آلاف، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا، على باب من هذه الأبواب فلا يثبت لنا أحد إن شاء الله تعالى، فنلحق بالجزيرة والشام فنفرض الفروض ونجبى الخراج، ونصير فى مملكة واسعة وملك جديد، فتسارع إليك الناس ويحدث الله أمورا، فصوّب رأيهم ووافقهم عليه، فنما الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان ابن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسّندى بن شاهك، وأقسم لئن لم تردوه عن هذا الرأى لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لى همة إلا أنفسكم، فدخلوا على الأمين فقالوا: قد بلغنا الذى عزمت عليه، ونحن نذكّرك الله فى نفسك، إن هؤلاء صعاليك وقد بلغ بهم الحصار إلى ما(22/182)
ترى، وهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك وعند طاهر لجدهم فى الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن تؤخذ أسيرا، أو يأخذوا رأسك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وصرفوه عن ذلك فرجع إليهم، وأجاب الى طلب الأمان والخروج، وقالوا له: إنّه لا بأس عليك من أخيك، وأنّه يجعلك حيث أحببت فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين، فدخل عليه الذين أشاروا عليه بقصد الشام وقالوا له: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة، فقال: أنا أكره طاهرا، وهرثمة مولانا وهو بمنزلة الوالد، وأرسل إلى هرثمة فى طلب الأمان، فأجابه إليه وحلف له أنّه يقاتل دونه- إن همّ المأمون بقتله، فلما علم طاهر ذلك اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة وقال: هو فى حربى «1» والجانب الذى أنا فيه، وأنا ألجأته بالحصار إلى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون الفتح له دونى، فاجتمع القوّاد أصحاب الأمين بطاهر وقالوا: إنّه لا يخرج إليك أبدا، وإنّه يخرج إلى هرثمة ببدنه ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة، فاغتنم هذا الأمر ولا تفسده، فرضى بذلك، فأتى الهرش إلى طاهر وأراد التقرب إليه، فأخبره أنّ الذى جرى بينهم مكر، وأنّ الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه وجعل حول قصر الأمين قوما فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة أرسل إليه هرثمة، يقول:
وافيت للميعاد لاحملك، ولكنّى أرى ألا تخرج هذه الليلة، فإنّى قد رأيت على الشط ما قد رابنى، وأخاف أن أغلب وتؤخذ من يدى، وتذهب نفسك ونفسى، فأقم الليلة حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك؛ فقال للرسول: ارجع إليه فقل له لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد، وقلق، وقال «2» : قد تفرّق(22/183)
عنّى الناس من الموالى والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل علىّ ويأخذنى، وخرج بعد العشاء الآخرة ليلة الأحد، لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، إلى صحن الدار وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدعا بابنيه فضمّهما إليه وقبّلهما وبكى، وقال: استودعكما الله، ثم جاء راكبا إلى الشط فإذا حرّاقة هرثمة فصعد إليها، فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم قال: كنت مع هرثمة فى الحرّاقة، فلما دخلها الأمين قمت له، وجثى هرثمة على ركبتيه واعتذر له من نقرس به، ثم احتضنه هرثمة وضمّه وجعله فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة الحراقة أن تدفع، فشدّ علينا أصحاب طاهر فى الزوارق ونقبوا الحرّاقة، ورموا بالآجر والنشاب فغرقت الحرّاقة، وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا، فتعلّق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنّه شق ثيابه لما سقط فى الماء، قال أحمد بن سلام: وخرجت أنا إلى الشط فأخذنى رجل من أصحاب طاهر، فأتى بى إلى رجل آخر من أصحابه، وأعلمه أنّى من الذين خرجوا من الحرّاقة، فسألنى: من أنا؟ فقلت: أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقنى، قلت: قد صدقتك، قال ما فعل المخلوع، قلت: رأيته قد شق ثيابه فركب، وأخذنى معه أعدو وفى عنقى حيل فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقى فاشتريت نفسى منه بعشرة آلاف درهم، فتركنى فى بيت حتى يقبض المال، وفى البيت بوارى وحصر مدرجة ووسادتان، فلما ذهب من الليل ساعة وإذا الباب قد فتح، وأدخل الأمين وهو عريان وعليه سراويل وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فلما رأيته استرجعت وبكيت فى نفسى، فسألنى عن اسمى فعرّفته، فقال:
ضمّنى إليك فإنى أجد وحشة شديدة، قال: فضممته وإذا قلبه يحفق، فقال: يا أحمد- ما فعل أخى. قلت: حىّ، قال: قبّح الله بريدهم!! كان يقول قد مات- شبه المعتذر من محاربته، فقلت: بل قبّح الله(22/184)
وزراءك، فقال: ما تراهم يصنعون بى؟ أيقتلوننى أم يفون بأيمانهم؟ فقلت:
يفون لك، وجعل بضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطّنة «1» كانت علىّ وقلت: ألق هذه عليك، فقال: دعنى فهذا من الله عز وجلّ، فى هذا الموضع خير كثير، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل، فنظر فى وجوهنا فاستثبته «2» ، فلما عرفه انصرف- وإذا هو محمد بن حميد الطاهرى، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول، فلما انتصف الليل فتح الباب ودخل قوم عجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائما وجعل يسترجع ويقول:
ذهبت- والله- نفسى فى سبيل الله، أما من مغيث!! أما من من أحد من الأبناء!! وجاءوا حتى وقفوا على باب البيت الذى نحن فيه، وجعل بعضهم يقدّم بعضا ويدفعه، وأخذ الأمين بيده وسادة ويقول: ويحكم!! أنا ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنا ابن هارون- أنا أخو المأمون- الله الله فى دمى! فضربه رجل منهم بسيف وقعت فى مقدّم رأسه، فضربه الأمين على وجهة بالوسادة، وأراد أن يأخذ السيف فصاح: قتلنى، قتلنى فدخل جماعة منهم فنخسه واحد بالسيف فى خاصرته، ورموا نفوسهم عليه فذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر، فلما كان السحر أخذوا جثّته فأدرجوها فى جلّ وحملوها، فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد- وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد، ولما قتل بدم جند طاهر وجند بغداد على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر رأسه إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن «3» بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ ذو الرئاستين الرأس وأدخله إلى المأمون على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث طاهر معه بالبردة والقضيب والخاتم ولما قتل(22/185)
الأمين نودى فى الناس كلهم بالأمان، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة وصلّى بالناس.
وحكى عن إبراهيم بن المهدى قال «1» : كنت مع الأمين لما حصره طاهر، فخرج ليلة يريد الفرجة لما هو فيه من الضيق، فصار إلى قصر بناحية الخلد، ثم أرسل إلىّ فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر فى السماء وضوء فى الماء- وكان على شاطئ دجلة- فهل لك فى الشرب؟ فقلت: شأنك، فشرب رطلا وسقانى آخر، ثم غنّيته ما كنت أعلم أنه يحبّه، ثم دعا بجارية اسمها ضعف فتطيّرت من اسمها، فقال لها غنّى فغنّت شعر الجعدى:
كليب لعمرى كان أكثر ناصرا ... وأيسر حزما منك ضرح بالدم
فتطيّر من ذلك وقال: غنى غير هذا، فغنّت:
أبكى فراقهم عينى فأرقّها ... إن التفرّق للأحباب بكّاء
ما زال يغدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء
فسبّها، وقال: أما تعرفين من الغناء غير هذا، ثم غنّته:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
الأبيات الأربعة، فغضب ولعنها فقامت، وكان له قدح من بللّور حسن الصنعة، فعثرت به فكسرته، فقال لى: ويحك يا إبراهيم! ما ترى إلى ما جاءت به هذه الجارية!! والله ما أظن أمرى إلا قد قرب، فقلت:
يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوّك، فما استتمّ الكلام حتى سمعنا صوتا قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «2»
، فقال يا إبراهيم: أما سمعت ما سمعت!! قلت ما سمعت شيئا، فقتل بعد ليلة أو ليلتين.(22/186)
ذكر صفة الأمين وعمره ومدة خلافته وشىء من أخباره
كان الأمين طويلا أبيض سمينا جميلا صغير العينين أقنى عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين؛ وكان عمرة ثمانيا وعشرين سنة وشهورا؛ ومدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام وقيل سبعة أشهر وثمانية عشر يوما؛ وكان له من الأولاد موسى، وعبد الله، وإبراهيم.
ونقش خاتمه: محمد واثق بالله؛ وزراؤه: الفضل بن الرّبيع إلى أن هرب بعد فساد حال الأمين، فوزر له إبراهيم بن صبيح وغيره؛ حاجبه:
العباس بن الفضل بن الربيع؛ قضاته: وهب بن وهب، ومحمد بن سماعة؛ الأمراء بمصر الحسن بن البحباح «1» ثم حاتم بن هرثمة بن أعين ثم جابر بن الأشعث؛ قاضيها «2» هاشم بن أبى بكر بن عبد الرحمن من ولد أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
قال: وكان الأمين ضعيف الرأى شديد القوى، حكى «3» عنه أنّه أحضر إليه أسد فى قفص حديد، فأمر بفتح القفص فوثب الأسد، فتفرق الغلمان، وانفرد بالأمين فوثب الأسد عليه، فعمد إلى مرفقة «4» تلقّاه «5» بها لحمايته، ثم قبض على أصل أذنيه وهزّه فسقط الأسد ميتا، وزاغت أكتاف «6» الأمين فأحضر الأطباء، فأعادوها إلى مكانها، وانفقأت مرارة الأسد فى جوفه «7» ، وقيل بل حاد عن الأسد حتى تجاوزه، ثم قبض على(22/187)
ذنبه وجذبه جذبة أقعى لها الأسد، وانقطع ظهره فمات، وزاغت أنامل الأمين عن منابتها.
قال: ولما استقرت للأمين استكثر من الخصيان وغالى فى ثمنهم، وصّيرهم لخلوته فى ليله ونهاره- وسمّى البيض منهم الجراديّة والحبشان والغرابية حتى رمى بهم، وقيل فيه الأشعار، وأخضر الملهين «1» من جميع البلدان وأجرى عليهم الأرزاق واحتجب عن الناس.
ذكر خلافة المأمون
هو أبو العباس- وقيل أبو جعفر- عبد الله بن هارون الرشيد، وأمه مراجل أم ولد، بويع له البيعة العامة ضبيحة الليلة التى قتل فيها الأمين، وهو يوم الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان هو بمرو.
وهو السابع من خلفاء بنى العباس وقد تقدم من أخباره وأخبار عساكره، والبيعة له بمكة والمدينة وخراسان وغيرها من الأمصار، مالا يحتاج إلى إعادته، إلا أنّ تلك المدة لا تعد خلافة مع بقاء الأمين.
قال: ولما وصل رأسة إلى المأمون- كما ذكرنا- أذن للقوّاد، وقرأ ذو الرئاستين الفضل بن سهل الكتاب عليهم فهنّأوه بالظفر، وكتب إلى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد فخلعاه فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائة، وعامل المأمون أمّ جعفر زبيدة بنت جعفر- أم الأمين- بالإكرام والبر والتلطف، ورتب لها فى كل سنة مائة «2» ألف درهم جددا، يحملها إليها ويتعاهد زيارتها.
حكى»
أبو الفرج الأصفهانى أن المأمون أغفل حمل المال إليها فى(22/188)
بعض السنين، فتقدمت إلى أبى العتاهية أن يعمل أبياتا تذكره بها فقال:
زعموا «1» لى أنّ فى ضرب السنه ... جددا بيضا وصفرا حسنه
سككا قد أحدثت لم أرها ... مثلما كنت أرى كل سنه
فلما قرأ المأمون الشعر قال: إنا لله- أغفلناها وتقدم يحمل ذلك إليها؛ قال: قال مخارق: ظهر لأم جعفر من المأمون جفاء، فبعث إلى بأبيات أمرتنى أن أغنيه بها إذا رأيته نشيطا وأسنت لى الجائزة وكان كاتبها جعفر بن الفضل، قال الأبيات هى:
ألا إنّ صرف «2» الدهر يدنى ويبعد ... ويؤنس بالألّاف طورا ويفقد
أصابت لريب الدهر منّى يدى يدى ... فسّلمت للأقدار والله أحمد
وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد الله لى يد
إذا بقى المأمون لى فالرشيد لى ... ولى جعفر لم يفقدا ومحمد
قال مخارق: ففعلت، فسألنى المأمون عن الخبر فعرفته فبكى، ورق لها وقام لوقته فدخل عليها، فقبل رأسها وقبلت يده، وقال لها: يا أمّه، ما جفوتك تعمدا ولكنى شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله، فقالت: يأمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشنى «3» ، وأتم عندها بقية يومه. نعود إلى سياق أخبار المأمون على حكم التوالى.
ذكر وثوب الجند بطاهر
قال: ووثب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين بخمسة أيام، وكان سبب ذلك أنهم طلبوا منه مالا، فلم يكن معه شىء فثاروا به، فظن أن ذلك(22/189)
بمواطأة الجند وأهل الأرباض، وأنهم معهم عليه فخشى على نفسه وهرب إلى عقرقوف «1» ، ونهبوا بعض متاعه، وخرج معهم جماعة من القواد، ثم خرج إليه القواد الذين تخلّفوا وأعيان أهل المدينة، واعتذروا إليه وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم، فقال طاهر: ما خرجت عنكم إلا لوضع السيف فيكم، وأقسم بالله عز وجل لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيى فيكم، ثم شكرهم وأمر لهم بأرزاق أربعة أشهر ووضعت الحرب أوزارها واستوثق الأمر للمأمون.
ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلى على المأمون
فى هذه السنة أظهر نصر الخلاف على المأمون، وكان يسكن كيسوم ناحية شمالى حلب، وكان فى عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى، فلما قتل الأمين أظهر الغضب وتغلّب على ما جاوره من البلاد وملك سميساط، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقى وحدثته نفسه بالتغلب عليه، وكثرت جموعه وحصر حرّان فى سنة تسع وتسعين ومائة، فأتاة نفر من شيعة الطالبيين فقالوا: قد وترت بنى العباس وقتلت رجالهم وأغلقت عنهم المغرب «2» ، فلو تابعت لخليفة كان أقوى، فقال: من أى الناس؟ فقالوا: نبايع لبعض آل على بن أبى طالب، فقال: أبايع أولاد السوداوات!! فقالوا: بايع لبعض بنى أمية، فقال: أولئك قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدا، وإنما هواى فى بنى العباسى: وإنما حاربتهم محاماة للعرب لأنّهم يقدمون عليهم العجم.
قال: ودام أمره إلى سنة تسع ومائتين، حاصره عبد الله بن طاهر(22/190)
بحصن كيسوم مدة، ثم خرج إليه بالأمان فبعثه إلى المأمون، فوصل إليه فى صفر سنة عشر ومائتين، وهدم عبد الله حصن كيسوم.
ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد
وفى هذه السنة استعمل المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما كان؟؟؟ افتتحه طاهر، من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن، وكتب إلى طاهر بتسليم ذلك إليه، فقدم الحسن بين يديه على بن أبى «1» سعيد فدافعه طاهر بتسليم الخراج إليه حتى وفّى الجند أرزاقهم، وسلّم إليه العمل، وقدم الحسن سنة تسع وتسعين ففرق العمال، وأمر طاهرا أن يسير إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث، وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فسار طاهر إلى نصر والتقوا بنواحى كيسوم، واقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر فيه لشبث، وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة، وكان قصارى أمره حفظ تلك النواحى من نصر.
وحج بالناس فى هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة
ذكر ظهور ابن طباطبا العلوى ووفاته وخبر أبى السرايا
فى هذه السنة ظهر محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب- وهو المعروف بابن طباطبا- بالكوفة، لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم والعمل بالكتاب والسنة، وكان القيّم بأمره فى الحرب أبو السّرايا السّرى بن منصور الشيبانى، وكان سبب خروجه أن المأمون لما صرف طاهرا ووجّه(22/191)
الحسن بن سهل إلى الأعمال التى ذكرناها تحدث الناس بالعراق، أن الفضل ابن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته وأولاده وقوّاده، وأنه يستبد بالأمور دونه، فغضب لذلك بنو هاشم ووجوه الناس، واجترءا على الحسن بن سهل وهاجت الفتن فى الأمصار، فكان أوّل من ظهر ابن طباطبا بالكوفة، وكان سبب اجتماع ابن طباطبا بأبى السرايا أن أبا السرايا كان يكرى الحمير ثم قوى أمره فجمع نفرا فقتل رجلا من بنى تميم بالجزيرة وأخذ ما معه، فطلب فاختفى وعبر الفرات إلى الجانب الشرقى، فكان يقطع الطريق بتلك الناحية، ثم لحق بأسد «1» بن زيد بن مزيد الشيبانى بأرمينية ومعه ثلاثون فارسا، فقوّده فجعل يقاتل معه الخرميّة فأثر فيهم، وقتل وأخذ منهم غلامه أبا الشوك، فلما عزل أسد عن أرمينية صار أبو السرايا إلى أحمد بن مزيد، فوجّه أحمد طليعة إلى عسكر هرثمة فى فتنة الأمين، واشتهرت شجاعته فراسله هرثمة واستماله فمال إليه، وانتقل إلى عسكره وقصد العرب بالجزيرة، واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة، فصار معه نحو ألفى فارس وراجل، فصار يخاطب بالأمير، فلما قتل الأمين قصّر «2» هرثمة فى أرزاقه وأرزاق من معه، فاستأذنه فى الحج فأذن له وأعطاه عشرين الف درهم، ففرّقها فى أصحابه ومضى وقال لهم: اتبعونى متفرقين، ففعلوا واجتمع معه منهم نحو مائتى فارس، فسار بهم إلى عين التمر وحصر عاملها، وأخذ ما عنده من المال فقسمه فى أصحابة، وسار فلقى عاملا آخر ومعه مال على ثلاثة بغال فأخذها، وسار فلحقه عسكر بعثه هرثمة خلفه فقاتلهم وهزمهم، ودخل البرّية وقسم المال فى أصحابه وانتشر خبره فلحق به من تخلف عنه من أصحابه وغيرهم وكثر جمعه فسار نحو دقوقا وعليها أبو ضرغامة(22/192)
العجلى فى سبعمائة فارس، فخرج إليه واقتتلوا فهزمه أبو السرايا وحصره بقصر دقوقا وأخرجه بأمان، وأخذ ما عنده من الأموال وسار إلى الأنبار، وعليها إبراهيم السّروى «1» مولى المنصور فقتله وأخذ ما فيها وسار، ثم عاد إليها عند إدراك الغلال فاحتوى عليها، ثم ضجر من طول السرى فى البلاد فقصد الرقة، فمرّ بطوق بن مالك التّغلبى وهو يقاتل القيسيّة، فأعانه وقاتل معه أربعة أشهر حتى ظفر طوق، ثم سار عنه إلى الرقة، فلما وصلها لقيه ابن طباطبا فبايعه، وقال له: انحدر أنت فى الماء وأسير أنا على البرّ حتى نوافى الكوفة فدخلاها، وأبتدأ أبو السرايا بقصر العباس بن موسى بن عيسى، وأخذ ما فيه من الأموال والجواهر- وكان عظيما لا يحصى كثرة، فبايعهم أهل الكوفة واستوثق أمرهما بها، وأتاه الناس من نواحى الكوفة والأعراب فبايعوه- أعنى ابن طباطبا، وكان العامل عليها للحسن بن سهل- سليمان بن المنصور، فلامه الحسن ووجّه زهير بن المسيّب الضبى إلى الكوفة فى عشرة آلاف فارس وراجل، فخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه، واستباحوا عسكره وكانت الوقعة فى سلخ جمادى الآخرة، فلما كان الغد مستهل رجب مات محمد بن إبراهيم ابن طباطبا فجأة سمّه أبو السرايا، وكان سبب ذلك أنه لما غنم ما فى عسكر زهير منع عنه أبا السرايا، وكان الناس له سامعين مطيعين، فعلم أبو السرايا أنّه لا حكم له معه، فسّمه ونصب مكانه غلاما أمرد، يقال له محمد بن محمد بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب وصار الحكم لأبى السرايا، ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة ووجّه الحسن بن سهل- عبدوس بن محمد بن(22/193)
أبى خالد المزوروذى فى أربعة آلاف فارس، فلقيه أبو السرايا لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رجب، فقتل عبدوسا ولم يفلت من أصحابه أحد- كانوا بين قتيل وأسير، وأنتشر الطالبيون فى البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، وسيّر جيوشه إلى البصرة وواسط ونواحيها، فولى البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفرى، وولّى مكة الحسين «1» بن الحسن بن على ابن الحسين بن على- الذى يقال له الأفطس- وجعل إليه الموسم، وولّى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وولّى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر، وولّى الأهواز زيد «2» بن موسى بن جعفر فسار إليه البصرة، وغلب عليها وأخرج عنها العباس بن محمد الجعفرى ووليها مع الأهواز، ووجّه أبو السرايا- محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن «3» بن على بن أبى طالب إلى المدائن وأمره أن يأتى بغداد من الجانب الشرقى، فأتى المدائن وأقام بها وهزم أصحاب الحسن إلى بغداد، فلما رأى الحسن بن سهل أن عسكره لا يثبت لعسكر أبى السرايا أرسل إلى هرثمة يستدعيه، وكان قد سار إلى خراسان مغاضبا للحسن، فحضر إليه بعد امتناع وسار إلى الكوفة فى شعبان، وسيّر الحسن إلى المدائن وواسط على بن أبى سعيد الحرشى، فوجّه أبو السرايا إليها جيشا فدخل جيشه المدائن فى شهر رمضان، وتقدّم هو حتى نزل بنهر صرصر، وجاء هرثمة فعسكر بإزائه بينهما النهر، وسار على بن أبى سعيد فى شوال إلى المدائن، فقاتل أصحاب أبى السرايا وهزمهم واستولى عليها، فبلغ الخبر أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة،(22/194)
وسار هرثمة فى طلبه، فوجد جماعة من أصحابه فقتلهم، ووجّه برءوسهم إلى الحسن، ونازل هرثمة أبا السريا وكانت بينهم وقعة. قتل فيها جماعة من أصحاب أبى السرايا. وانحاز إلى الكوفة ووثب من معه من الطالبيين على دور بنى العباس ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وخرّبوا ضياعهم، وأخرجوهم من الكوفة وعملوا أعمالا قبيحة، واستخرجوا الودائع التى كانت لهم عند الناس.
ذكر هرب أبى السرايا وقتله
قال: ولما انحاز أبو السرايا إلى الكوفة حاصره بها هرثمة، وقاتله ولازم قتاله فخرج أبو السرايا من الكوفة فى ثمانمائة فارس، ومعه محمد بن محمد بن زيد، ودخلها هرثمة فأمّن أهلها ولم يعرض إليهم، وكان هرثمة فى سادس عشر المحرم سنة مائتين فأتى القادسيّة، وسار منها إلى السّوس بخوزستان. فلقى مالا قد حمل من الأهواز فأخذه وقسمه بين أصحابه، فأتاه الحسن بن على المأمونى، فأمره بالخروج من عمله وكره قتاله، فأبى أبو السرايا إلا قتاله فقاتله، فهزمه المأمونى وخرج وتفّرق أصحابه، وسار هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك نحو منزل أبى السرايا برأس عين، فلما انتهوا إلى جلولاء ظفر بهم حماد الكندغوش فأخذهم، وأنتهى بهم إلى الحسن بن سهل وهو بالنهروان، فقتل أبا السرايا وبعث رأسه إلى المأمون، ونصب جثته على جسر بغداد، وسيّر محمد بن محمد إلى المأمون. وأما هرثمة فأقام بالكوفة يوما واحدا وعاد منها، واستخلف بها غسّان بن أبى الفرج، وسار على بن أبى سعيد إلى البصرة فأخذها من العلويين، وكان بها زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن(22/195)
على بن الحسين بن على «1» وهو الذى يسمى زيد النار، وإنما سمى بذلك لما أحرق بالبصرة من دور العباسيين وأتباعهم، وكان إذا أتى برجل من المسودة أحرقه، وأخذ أموالا كثيرة من التجار، فلما وصل علىّ إلى البصرة استأمنه زيد فأمّنه، وبعث إلى مكة والمدينة جيشا وأمرهم بمحاربة من بها من العلويين. وكان بين خروج أبى السرايا وقتله عشرة أشهر. نعود لمساق السنين.
ودخلت سنة مائتين
فى هذه السنة كان ظهور إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد وكان بمكة، فلما بلغه خبر أبى السرايا وما كان منه سار إلى اليمن، وبها إسحاق بن موسى بن عيسى عاملا للمأمون، فلما بلغه قرب إبراهيم من صنعاء سار نحو مكة، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزّار لكثرة من قتل باليمن وسبى وأخذ الأموال، ثم وجّه رجلا من ولد عقيل بن أبى طالب فى جند «2» ليحج بالناس، فسار العقيلى حتى أتى بستان ابن عامر، فلبغه أن أبا إسحاق المعتصم قد حجّ فى جماعة من القواد، وفيهم حمدويه بن على بن عيسى بن ماهان- وكان الحسن بن سهل قد استعمله على اليمن، فعلم العقيلى أنّه لا يقوى «3» لهم فأقام ببستان ابن عامر، فاجتازت قافلة من الحاج ومعهم كسوة الكعبة وطيبها، فأخذوا أموال التجار والكسوة والطيب. وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين، فاستشار المعتصم أصحابه فقال الجلودى: أنا أكفيك ذلك، فانتخب مائة رجل وسار بهم إلى العقيلى، وقاتلهم فانهزم(22/196)
أصحاب العقيلى وأسر أكثرهم، وأخذوا كسوة الكعبة وأموال التجار إلا ما كان مع من هرب، وضرب الأسرى كل واحد عشرة أسواط وأطلقهم.
فرجعوا إلى اليمن يستطعمون الناس، فهلك أكثرهم فى الطريق.
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة ومبايعة محمد بن جعفر وما كان من أمره وخلعه لنفسه
قد ذكرنا أن أبا السرايا كان قد بعث الحسين بن الحسن الأفطس إلى مكة فى سنة تسع وتسعين ومائة لما ظهر أمره، فدخل مكة فلما كان فى المحرم من هذه السنة نزع الحسين كسوة الكعبة. وكساها كسوة أخرى كان قد أنفذها أبو السرايا من الكوفة من القز. قال: وتتبع الحسين ودائع بنى العباس وأخذ أموال الناس بحجة الودائع، فهرب الناس منه وتطرق أصحابه إلى قلع شبابيك الحرم، وأخذ ما على الأساطين من الذهب- وهو نزر حقير. وأخذ ما فى خزانة الكعبة فقسمه مع كسوتها فى أصحابه. فلما بلغه قتل أبى السرايا.
ورأى تغيّر الناس عليه لسوء سيرته وسيرة أصحابة. فأتى هو وأصحابة إلى محمد بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على، وكان شيخا محبّبا فى الناس مفارقا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة. وكان يروى والعلم عن أبيه ويكتبه الناس عنه ويظهر الزهد. فلما أتوه قالوا: تعلم منزلتك من الناس فهلم نبايعك بالخلافة، فإن فعلت لم يختلف عليك رجلان، فامتنع من ذلك فلم يزل به ابنه علىّ وحسين بن الحسن الأفطس حتى غلباه على رأيه.
فأجابهم فأقاموه فى شهر ربيع الأول وبايعوه بالخلافة. وجمعوا له الناس فبايعوه طوعا وكرها ونعتوه بأمير المؤمنين. فبقى شهورا وليس له من الأمر شىء. وابنه علىّ وحسين بن حسن وجماعتهما أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح(22/197)
فعلا، فوثب حسين بن حسن على امرأة من بنى فهر كانت جميلة، وأرادها على نفسها فامتنعت، وأخاف زوجها وهو من بنى مخزوم حتى توارى عنه، ثم كسر باب دارها وأخذها مدة ثم هربت منه، ووثب على بن محمد بن جعفر على غلام أمرد- وهو ابن قاضى مكة اسمه إسحاق بن محمد، وكان جميلا فأخذه قهرا، فاجتمع أهل مكة ومن بها من المجاورين فصاروا فى جمع كبير، فأتوا محمد بن جعفر وقالوا: لنخلعنّك ولنقتلنّك أو لتردن علينا هذا الغلام، فأغلق بابه وكلّمهم من شباك، وطلب منهم الأمان ليركب إلى ابنه ويأخذ منه الغلام، وحلف أنّه لم يعلم به، فأمّنوه فركب إلى ابنه وأخذه منه وردّه إلى أبيه، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى قدم إسحاق بن موسى العباسى من اليمن، فنزل المشاش فاجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر وأعلموه ذلك، وحفرو خندقا وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم، فقاتلهم إسحاق ثم كره القتال فسار نحو العراق، فلقيهم الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة، ومعهم الجلودى ورجاء بن جميل فردّوه معهم، فقاتلوا الطالبيين فهزموهم، فطلب محمد بن جعفر الأمان فأمّنوه، ودخل العباسيون مكة فى جمادى الآخرة وتفّرق الطالبيون من مكة، وأما محمد بن جعفر فسار نحو الجحفة، فأدركه بعض موالى بنى العباس فأخذ جميع ما معه، وأعطاه دريهمات يتوصل بها، فسار نحو بلاد جهينة فجمع بها وقاتل هارون بن المسيّب والى المدينة عند الشجرة وغيرها، عدة وقعات فانهزم محمد وفقئت عينه بسهم، وقتل من أصحابه بشر كثير ورجع إلى موضعه، فلما انقضى الموسم طلب الأمان من الجلودى ومن رجاء بن جميل- وهو ابن عم الفضل ابن سهل فأمّناه، وضمن له رجاء عن المأمون وعن الفضل الوفاء بالأمان، فقبل ذلك وأتى مكة لعشر بقين من ذى الحجة، فخطب الناس وقال إننى(22/198)
كان بلغنى أن المأمون مات، وكانت له فى عنقى بيعة، وكانت فتنة عمت الأرض، فبايعنى الناس، ثم إنه صحّ عندى أن المأمون حىّ صحيح وانا أستغفر الله من البيعة وقد خلعت نفسى من بيعتى التى بايعتمونى عليها- كما خلعت خاتمى هذا من أصبعى، فلا بيعة لى فى رقابكم.
ثم سار فى سنة إحدى ومائتين إلى العراق، فسيّره الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو، فلما سار المأمون إلى العراق صحبه فمات بجرجان.
ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله
قال: فلما فرغ هرثمة من أمر أبى السرايا رجع ولم يأت الحسن بن سهل، وسار إلى خراسان فأتته كتب المأمون فى غير موضع، أن يأتى إلى الشام والحجاز، فقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالا منه عليه ولما يعرف من نصيحته له ولآبائه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأنه لا يدع المأمون حتى ينتقل إلى بغداد ليتوسط سلطانه، فعلم الفضل بذلك فعاجله بالتدبير عليه، وقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل «1» عليك البلاد والعباد، ودسّ أبا السرايا- وهو من جنده- ولو أراد لم يفعل ذلك، وقد كتب إليه عدة كتب ليرجع إلى الشام والحجاز فلم يفعل، وقد جاء مشاقا وإن أطلق كان هذا مفسدة لغيره، فتغير غلب المأمون وأبطأ هرثمة إلى ذى القعدة، فلما بلغ مروخشى أن يكتم قدومه عن المأمون، فأمر بالطبول فضربت لكى يسمعها المأمون فسمعها، فقال: ما هذا!!! قال: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين، ووضعت أبا السرايا ولو شئت أن تأخذهم جميعا لفعلت، فذهب هرثمة يتكلم ويعتذر،(22/199)
فلم يقبل قوله وأمر به فديس بطنه، وضرب أنفه وسحب من يديه وحمل إلى الحبس، فمكث أياما ثم دسّوا عليه من قتله وقالوا مات.
ذكر وثوب الحربيّة ببغداد
وفى هذه السنة كان الشغب ببغداد بين الحربيّة والحسن بن سهل، وسبب ذلك أن الحسن بن سهل كان بالمدائن لما شخص هرثمة إلى المأمون. فلما بلغ أهل بغداد ما صنعه المأمون بهرثمة بعث الحسن بن سهل إلى على بن هشام- وهو والى بغداد من قبله- أن امطل الجند من الحربيّة أرزاقهم.
وكانت الحربيّة قبل ذلك قد وثبوا وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن وعماله عن بغداد فطردوهم. وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدى «1» خليفة للمأمون ببغداد. واجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به. فدسّ الحسن إليهم وكاتب قوّادهم. حتى شغبوا من جانب عسكر المهدى «2» ، فحوّل الحربيّة إسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وجاء زهير بن المسيّب فنزل فى عسكر المهدى. وبعث الحسن بن سهل على بن هشام فى الجانب الآخر هو ومحمد بن أبى خالد. فدخلوا بغداد فى شعبان. وقاتل الحربيّه ثلاثة أيام على قنطرة الصراة، ثم وعدهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلّة، فسألوه تعجيل خمسين درهما لكل رجل منهم ينفقونها فى شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك وجعل يعطيهم، ثم هرب على بن هشام بعد جمعة من الحربية ونزل بصرصر، لأنه لم يف بالعطاء، وقام بأمر الحربيّة محمد بن أبى خالد لأن على ابن هشام كان يستخف به، فغضب من ذلك وتحول إلى الحربية وهزموا على(22/200)
بن هشام من صرصر، وقيل: كان السبب فى شغبهم أن الحسن بن سهل جلد عبد الله بن ماهان «1» الحد، فغضب الحربيّة وخرجوا.
وحج بالناس فى هذه السنة المعتصم.
ودخلت سنة إحدى ومائتين.
ذكر ولاية منصور بن المهدى بغداد
فى هذه السنة أراد أهل بغداد أن يبايعوا المنصور بن المهدى بالخلافة، فامتنع من ذلك فأرادوه على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك، وكان سبب ذلك أن أهل بغداد- لما أخرجوا على بن هشام من بغداد واتصل حين إخراجه بالحسن سهل سار من المدائن إلى واسط، وذلك فى أول هذه السنة، فاتبعه محمد بن أبى خالد مخالفا له، وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة بالجانب الغربى ونصر بن حمزة بن مالك بالجانب الشرقى، وكان ببغداد منصور بن المهدى والفضل بن الربيع وخزيمة بن خازم، وكان الفضل بن الربيع مختفيا كما تقدم إلى الآن، فلما رأى محمدا قد بلغ واسط طلب منه الأمان فأمّنه، وظهر الفضل وسار محمد بن أبى خالد إلى الحسن على تعبئة، وقد تحوّل الحسن عن واسط، فوجّه إليه الحسن بن سهل قواده وجنده، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم أصحاب محمد بعد العصر، وثبت هو حتى جرح جراحات شديدة، وانهزموا هزيمة قبيحة وقتل منهم كثير، وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأول، ثم أتاه الحسن بن سهل واقتتلوا، حتى جنّهم الليل فرحل محمد وأصحابه ثم التقوا واقتتلوا «2» مرة ثانية إلى الليل، فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبو(22/201)
زنبيل «1» إلى بغداد، وخلف عسكره لست خلون من ربيع الآخر، ومات محمد ابن أبى خالد فدفن فى داره سرا، وأتى أبو زنبيل خزيمة بن خازم فأعلمه وفاة أبيه، فأعلم حزيمة الناس وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد إليه، أنه قام بأمر الحرب مقام أبيه، ثم كان بين الحسن وبين أولاد محمد بن أبى خالد وقعات، وانتصر فيها أصحاب الحسن عليهم وهزموهم مرة بعد أخرى.
قال: ولما مات محمد قال بنو هاشم والقواد نصيّر «2» منا خليفة ونخلع المأمون، ثم أتاهم خبر هزيمة «3» أولاد محمد فجدّوا فى ذلك، وأرادوا منصور بن المهدى على الخلافة فأبى، فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسى ابن المجوسى الحسن بن سهل، وقال المنصور: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم، أو يولّى من أحب فرضى به الناس، وعسكر بكلواذى.
ذكر البيعة بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا
فى هذه السنة جعل المأمون على بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن أبى طالب رضى الله عنه ولى عهد المسلمين، والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمر جنده بطرح السّواد ولبس الخضرة وكتب بذلك إلى سائر الآفاق، وذلك لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، فتكلم بنو العباس فى ذلك وقال بعضهم لا نرضاه، وتكلموا فى خلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدى، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.(22/202)
ذكر فتح جبال طبرستان وأسر ملك الدّيلم
فى هذه السنة افتتح عبد الله بن خرّداذبه- والى طبرستان- البلازر «1» والشيزر من بلاد الديلم، وافتتح طبرستان وأنزل شهريار بن شروين عنها، وأسر أبا ليلى ملك الديلم.
وحج بالناس فى هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن على «2» العباسى.
ودخلت سنة اثنتين ومائتين.
ذكر بيعة إبراهيم بن المهدى ببغداد وخلع المأمون
فى هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى ولقبوه المبارك، وخلعوا المأمون وذلك فى أول المحرم، وقيل لخمس مضين من، وبايعه سائر بنى هاشم، وكان المتولى لأمر البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك، وكان سبب ذلك ما ذكرناه، من إنكار الناس ولاية الحسن بن سهل والبيعة لعلى ابن موسى، فوضع العباسيون رجلا فى يوم جمعة يقول: إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم، ووضعوا من يجيبه: إنّا لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدى ومن بعده لإسحاق بن موسى الهادى وتخلعوا المأمون «3» ، ففعلوا ذلك فلم يصّل الناس جمعة وتفرّقوا لليلتين بقيتا من ذى الحجة، ثم خلعوا المأمون وبايعوا لإبراهيم، وكان الذى سعى فى هذا الأمر السندى وصالح صاحب المصلى ونصير «4» الوصيف وغيرهم، فلما فرغوا من(22/203)
البيعة وعد الجند رزق ستة أشهر، ودافعهم بها فشغبوا فأعطاهم لكل رجل مائتى درهم، وكتب لبعضهم على السواد بقيمة مالهم حنطة وشعيرا، فخرجوا فى قبضها فانتهبوا الجميع، وأخذوا نصيب السلطان وأهل السواد.
واستولى «1» على الكوفة والسواد جميعه وعسكر بالمدائن. واستعمل على الجانب الغربى من بغداد العباس بن موسى الهادى وعلى الجانب الشرقى منها إسحاق بن موسى «2» الهادى.
ذكر أخبار إبراهيم بن المهدى وما استولى عليه من الأماكن وما كان من أمره إلى أن خلع واستتر- ذكر استيلائه على قصر ابن هبيرة والكوفة
قال: وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل، ومعه من القواد سعيد بن الساجور وأبو البط وغسّان بن أبى الفرج «3» ومحمد بن إبراهيم الإفريقى وغيرهم، وكاتبوا إبراهيم على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة، وكانوا قد انحرفوا عن حميد، وكتبوا إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميدا يكاتب إبراهيم، وكتب حميد فيهم بمثل ذلك، فاستقدم الحسن حميد بن عبد الحميد فامتنع، وخاف- إن هو سار إليه- سلّم القواد ماله وعسكره إلى إبراهيم، فألح الحسن عليه بالطلب فسار إليه فى شهر ربيع الآخر، فكتب القواد إلى إبراهيم لينفذ إليهم عيسى بن محمد بن أبى(22/204)
خالد، فوجّه إليهم عيسى فانتهبوا ما فى عسكر حميد، فكان مما أخذوا له مائة بدرة، وأخذ ابن حميد جوارى أبيه وسار إليه وهو بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فعاد الحسن إلى الكوفة فأخذ أموالها، واستعمل عليها العباس بن موسى بن جعفر العلوى، وأمره أن يدعو لأخيه على بن موسى بعد المأمون، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له: قاتل عن أخيك وأنا معك، فوجه إبراهيم إلى الكوفة سعيد بن الساجور وأبا البط لقتال العباس بن موسى، وكان العباس قد دعا أهل الكوفة فأجابه بعضهم، وأما الغلاة «1» من الشيعة فقالوا: إن كنت تدعو لأخيك وحده فنحن معك، وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه، فقال: إنما أدعو للمأمون وبعده لأخى، فقعدوا عنه؛ فلما أتاه سعيد وأبو البط نزلوا قرية شاهى، بعث إليهم العباس ابن عمه على بن محمد بن جعفر- وهو ابن الذى كان قد بويع له بمكة- وبعث معه جماعة، فاقتتلوا ساعة فانهزم العلوى وأهل الكوفة، ونزل سعيد وأصحابه الحيرة، وكان ذلك فى ثانى جمادى الآخرة، ثم تقدموا فقاتلوا أهل الكوفة، وخرج إليهم شيعة بنى العباس ومواليهم فاقتتلوا إلى الليل، وكان شعارهم: يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد وعلى أهل الكوفة الخضرة، ثم اقتتلوا من الغد فسأل رؤساء الكوفة سعيد بن الساجور الأمان للعباس وأصحابه فأمّنهم، على أن يخرجوا من الكوفة فأجابوا إلى ذلك، وأتوا العباس فأعلموه فقبل منهم وتحول عن داره، ثم شغب أصحابه على من بقى من أصحاب سعيد وقاتلوهم، فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق، ونهب أصحاب العباس دور عيسى بن موسى، وأحرقوا وقتلوا من ظفروا به، فأرسل العباسيون إلى سعيد بالحيرة يخبرونه أن العباس بن موسى قد رجع عن الأمان، فركب سعيد وأصحابه وأتوا الكوفة عتمة فقتلوا من ظفروا به ممن انتهب، ومكثوا عامة(22/205)
الليل، فخرج إليهم رؤساء الكوفة فأعلموهم أن هذا فعل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن الأمان فانصرفوا عنهم، فلما كان الغد دخلها سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان ولم يعرضوا لأحد، وولّوا الكوفة الفضل بن محمد بن «1» الصباح الكندى، ثم عزلوه لميله إلى أهل بلده، واستعملوا غسان بن أبى الفرج ثم عزلوه، واستعملوا الهول ابن أخى سعيد، فلم يزل عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد فهرب، ودام أمر إبراهيم بن المهدى إلى سنة ثلاث ومائتين ثم خلع.
ذكر خلع إبراهيم بن المهدى
وفى سنة ثلاث ومائتين خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى، وكان سبب ذلك أنه قبض على عيسى بن محمد بن أبى خالد، لأنه كان يكاتب حميد بن عبد الحميد والحسن بن سهل، ويظهر لإبراهيم الطاعة، وكان إبراهيم يأمره بالخروج لقتال حميد فيعتذر، أن الجند يطلبون أرزاقهم ومرة يقول حتى تدرك الغلة، إلى أن توثق عيسى من الجيش وفارقهم «2» على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدى فى يوم الجمعة سلخ شوال، فجاء هارون بن محمد أخو عيسى فأعلم إبراهيم بذلك، وجاء عيسى إلى باب الجسر فقال للناس: إنى قد سألت حميد بن عبد الحميد أن لا يدخل عملى ولا أدخل عمله، ثم أمر بحفر خندق بباب الجسر وباب الشام، وبلغ إبراهيم قوله وفعله، وكان عيسى قد سأل إبراهيم أن يصلى الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك ثم حذّر إبراهيم وأرسل إلى عيسى يستدعيه، فاعتلّ عليه فتابع رسله إليه فحضر عنده بالرصافة، فلما دخل عليه عاتبه ساعة وعيسى يعتذر وينكر(22/206)
بعض ذلك، ثم أمر به إبراهيم فضرب وحبس، وأخذ عدة من قوادة وأهله فحبسهم، ونجا بعضهم ومضى بعض من نجا إلى بعض، وحرّضوا الناس على إبراهيم، وكان أشدهم العباس- خليفة عيسى- فاجتمعوا وطردوا عامل إبراهيم على الجسر والكرخ وغيره، وكتب العباس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم، حتى يسلّموا إليه بغداد، فسار حميد حتى أتى نهر صرصر، وخرج إليه العباس وقوّاد بغداد فلقوه، وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطى لكل جندى خمسين درهما، فأجابهم الى ذلك ووعدهم أن يضع «1» لهم العطاء يوم السبت فى الياسريّة، على أن يدعوا للمأمون بالخلافة يوم الجمعة ويخلعوا إبراهيم فأجابوه إلى ذلك، ولما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى ومن معه من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله ويكفيه هذا الأمر فأبى ذلك، فلما كان يوم الجمعة أحضر العباس- محمد «2» بن أبى رجاء الفقيه. فصلى بالناس الجمعة ودعا للمأمون بالخلافة، وجاء حميد إلى الياسرية فعرض جند بغداد، وأعطاهم الخمسين التى وعدهم بها فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، لما تشاءموا به من على بن هشام حين أعطاهم الخمسين وقطع العطاء عنهم، فقال حميد: لا، بل أزيدكم عشرة، فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى وسأله أن يقاتل حميدا، فأجابه إلى ذلك فخلى سبيله، وكلّم عيسى الجند ووعدهم أن يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد فأبوا ذلك، فعبر إليهم عيسى وقواد الجانب الشرقى، ووعد أولئك الجند أن يزيدهم على الستين فشتموه، وقالوا: لا نريد إبراهيم، فقاتلهم ساعة ثم ألقى نفسه فى وسطهم حتى أخذوه شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله ورجع الباقون إلى إبراهيم، فأخبروه بالخبر فاغتم لذلك.(22/207)
ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدى
كان سبب ذلك أن حميد بن عبد الحميد تحول فنزل عند أرحاء عبد الله بن مالك، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقوّاده ذلك تسلّلوا فصار عامّتهم عنده، فأخرج إبراهيم جميع من بقى عنده فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بغداد، وذلك فى سلخ ذى القعدة، فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع ثم تحوّل إلى حميد، وجعل الهاشميون والقوّاد يأتون حميدا واحدا بعد واحد، فلما رأى إبراهيم ذلك سقط فى يده، وبلغه أن أصحابه يريدون أن يسلموه إليهم فداراهم حتى جنّه الليل، واختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى الحجة، ولم يزل متواريا حتى ظفر به المأمون فى سنة عشر ومائتين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكانت أيام إبراهيم سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما، واستقر بعده على بن هشام على شرقى بغداد، وحميد على غربيّها. نعود إلى بقية حوادث سنة اثنتين ومائتين خلاف أخبار إبراهيم بن المهدى.
ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذى الرئاستين الفضل بن سهل
وفى سنة اثنتين ومائة سار المأمون من مرو إلى العراق، واستخلف على خراسان غسّان بن عبّاد «1» ، وكان مسيره أن على بن موسى الرضا أخبره ما الناس فيه من الفتنة منذ قتل الأمين، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من أخبار الناس وأهل بيته «2» ، وأن الناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون(22/208)
مسحور مجنون، وأنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة، فقال له المأمون: لم يبايعوه بالخلافة وإنما صيّروه أميرا، يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه، وأنّ الحرب قائمة بين الحسن وإبراهيم، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل ومكانى وبيعتك لى من بعدك، فقال المأمون: ومن يعلم ذلك؟ فقال: يحيى «1» بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وغيرهم من وجوه العسكر، فأمر بإدخالهم فدخلوا فسألهم عما أخبر به على بن موسى، فلم يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل أن لا يعرض إليهم، فضمن لهم ذلك وكتب لهم خطه به، فأخبروه بما أخبره به على بن موسى، وأخبروه أن أهل بغداد يسمون إبراهيم الخليفة السنّى، وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان على بن موسى، وأعلموه ما الناس فيه وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاءه لينصحه فقتله الفضل، وأنه إذا لم يتدارك أمره وإلا خرجت الخلافة من يده، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى فى طاعته ما يعلمه، وأخرج من الأمر كله وضعف أمره، وشغبت عليه جنده، وأنه لو كان ببغداد ضبط الملك، وأن الدنيا قد تفتّقت من أطرافها وأقطارها، وسألوه أن يخرج إلى بغداد فإن أهلها لو رأوه أطاعوه، فلما تحقق ذلك أمر بالرحيل فعلم الفضل بالحال، فضرب بعضهم وحبس بعضهم ونتف لحى بعضهم، فذكر على ابن موسى ذلك للمأمون، فقال: أنا أدارى، ثم أرتحل، فلما أتى سرخس وثب قوم بالفضل بن سهل فقتلوه فى الحمام، وكان قتله لليلتين خلتا من شعبان، وكان الذين قتلوه أربعة: أحدهم غالب المسعودى الأسود، وقسطنطين الرومى، وفرج الديلمى، وموفّق الصقلبى وكان عمره ستين سنة، وهربوا بعد قتله فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينورى، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر(22/209)
بهم فضربت رقابهم، ثم أحضر عبد العزيز بن عمران وغيره، وسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشىء من ذلك، فلم يقبل منهم وقتلهم وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيّره مكانه، ورحل المأمون إلى العراق.
وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وفيها زوج المأمون ابنته أم حبيب من على بن موسى الرضا، وحجّ بالناس فى هذه السنة إبراهيم ابن موسى بن جعفر، ودعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد.
ودخلت سنة ثلاث ومائتين
ذكر وفاة على بن موسى الرضا ولى العهد
كانت وفاته فى آخر صفر بمدينة طوس، وكان سبب ذلك أنه أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، وصلّى عليه المأمون ودفنه عند قبر أبيه الرشيد، وقيل إن المأمون سمّه فى عنب، واستبعد ذلك جماعة وأنكروه. قال: ولما مات كتب المأمون إلى الحسن بن سهل يعلمه بموته، وما دخل عليه من المصيبة بموته، وكتب إلى أهل بغداد وبنى العباس والموالى يعلمهم بموته، وأنهم إنما نقموا بيعته وقد مات، وسألهم الدخول فى طاعته فأغلظوا له فى الجواب، وكان مولد على بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة.
وحجّ بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن على، وفيها غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغيّر عقله حتى شدّ فى الحديد وحبس، فكتب القواد إلى المأمون بذلك فجعل فى عسكره دينار بن عبد الله.
ودخلت سنة أربع ومائتين
ذكر قدوم المأمون بغداد
فى هذه السنة قدم المأمون بغداد وانقطعت الفتن، وخرج إليه أهل(22/210)
بيته والقواد ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقة ليوافيه بالنهروان فأتاه بها، ودخل بغداد فى منتصف صفر ولباسه ولباس أصحابه الخضرة، فنزل الرصافة ثم تحوّل فنزل قصره على شاطئ دجلة، وأمر القواد أن يقيموا فى معسكرهم، وكان الناس يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد على إنسان، فمكثوا ثمانية أيام كذلك، فتكلم بنو العباس وقواد خراسان، فقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه، فكان أول حاجة سألها أن يلبس السواد، فأجابه إلى ذلك وجلس المأمون للناس وأحضر سوادا فلبسه، ودعا بخلعة سوداء فألبسها طاهرا، وخلع على قوّاده السواد، وذلك لسبع بقين من صفر منها.
وفى هذه السنة أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن على بن أبى طالب «1» ، وأستعمله المأمون على الحرمين، وفى هذه السنة أعنى سنة أربع ومائتين مات الإمام محمد بن إدريس الشافعى بمصر، ومولده سنة خمسين ومائة رحمه الله ورضى عنه.
ودخلت سنة خمس ومائتين
ذكر ولاية طاهر بن الحسين خراسان
فى هذه السنة استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق- من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وكان قبل ذلك يتولى الشرط بجانبى بغداد، فشخص طاهر من يومه وذلك لليلة بقيت من ذى القعدة، وقدم(22/211)
طاهر البلد فأقام شهرا فحمل إليه عشرة آلاف ألف درهم التى تحمل لصاحب خراسان، وجعل المأمون على الشرط عبد الله بن طاهر بعد أبيه وحجّ بالناس عبيد الله العلوى.
ودخلت سنة ست ومائتين
ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرّقة وغيرها
فى هذه السنة ولّى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر، وأمره بحرب نصر بن شبث، وقال له: يا عبد الله إنى استخير الله منذ شهر وأكثر وأرجو أن يكون قد خار لى، وقد ولّيتك هذه الأعمال ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين، فعقد له، وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين، ولما سار استخلف على الشرط إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب- وهو ابن عمه، وسار عبد الله إلى عمله، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وحجّ بالناس عبيد الله العلوى.
ودخلت سنة سبع ومائتين
فى هذه السنة خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب ببلاد عكّ من اليمن، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان سبب خروجه أن عمّال اليمن أساءوا السيرة فى الناس، فبايعوا عبد الرحمن فوجّه المأمون إليه دينار بن عبد الله فى جيش كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار الموسم وحجّ بالناس، ثم سار إلى اليمن فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه فقبله، ودخل فى طاعة المأمون ووضع يده فى يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون «1» عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمرهم بلبس السواد.(22/212)
ذكر وفاة طاهر بن الحسين أمير خراسان واستعمال ابنه طلحة
كانت وفاته فى جمادى الأولى من هذه السنة، قال كلثوم بن ثابت بن أبى سعيد «1» : كنت على بريد خراسان، فلما كان فى سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فلما بلغ ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤونة من بغى عليها وحشد فيها «2» ، بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين، قال: فقلت فى نفسى أنا أول مقتول لأنى لا أكتم الخبر، فانصرفت فاغتسلت غسل الموتى وتكفّنت، وكتبت إلى المأمون، فلما كان العصر دعانى طاهر، وحدث به حادث فى جفن عينيه فسقط ميتا، فخرج إلىّ ابنه طلحة فقال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم، قال: فاكتب بوفاته وبقيام طلحة بأمر الجيش «3» ، فوردت الخريطة على المأمون بخلعه، فدعا أحمد بن أبى خالد فقال: سر فإيت بطاهر- كما زعمت وضمنت، وكان هو قد أشار على المأمون بولاية طاهر خراسان وضمنه، فقال: يا أمير المؤمنين أبيت الليلة، قال: لا، فلم يزل به حتى أذن له فى المبيت، ووافت الخريطة الأخرى ليلا بموته، فدعاه فقال: قد مات طاهر فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة، قال: اكتب بتوليته فكتب بذلك؛ ولما ورد الخبر بموت طاهر قال المأمون: لليدين والفم، الحمد لله الذى قدّمه وأخرّنا. وكان طاهر أعور وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحده ... نقصان عين ويمين زائده
وكان لقبه ذا اليمينين وكنيته أبا الطيب. وقيل إن المأمون استعمل على(22/213)
أعمال طاهر ابنه عبد الله، فسيّر إلى خراسان أخاه طلحة، وكان عبد الله بالرقة يحارب ابن شبث، فلما وجّه طلحة إلى خراسان سيّر المأمون إليه أحمد ابن أبى خالد ليقوم بأمره، فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بن خارخره «1» وابنه الفضل وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد بن أبى خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفى ألف درهم، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتبه خمسمائة ألف.
وحج بالناس فى السنة أبو عيسى بن الرشيد.
ودخلت سنة ثمان ومائتين
فى هذه السنة سار الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان فعصى بها، فسار إليه أحمد بن أبى خالد فأخذه، وأتى به المأمون فعفا عنه، وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن الرشيد.
ودخلت سنة تسع ومائتين.
فى هذه السنة حصل الظفر بنصر بن شبث، وقد قدمناه فى أخباره.
وحجّ بالناس صالح بن العباس بن محمد بن على
ودخلت سنة عشر ومائتين
فى هذه السنة ظفر المأمون إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام المعروف بابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الأفريقى ومالك بن شاهى ومن كان معهم ممن سعى فى بيعة إبراهيم بن المهدى، فأقيم ابن عائشة على باب دار المأمون ثلاثة أيام فى الشمس، ثم ضربه بالسياط وحبسه، وضرب مالك بن شاهى وأصحابهما، ثم قتل ابن عائشة وابن شاهى ورجلين(22/214)
من أصحابهما صبرا، وصلب ابن عائشة- وهو أول عباسى صلب فى الإسلام، ثم أنزل وكفّن وصلّى عليه ودفن بمقابر قريش.
ذكر ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى
فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر أخذ إبراهيم بن المهدى، وهو متنقّب فى زى امرأة بين امرأتين، أخذه حارس أسود ليلا وقال له ولهنّ:
أين تردن فى هذا الوقت؟! فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان فى يده، فاستراب منه الحارس ورفعهن إلى صاحب المسلحة «1» ، فأمرهنّ أن يسفرن عن وجوههنّ، فامتنع إبراهيم فجذبه فبدت لحيته، فدفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به، فأمره بالاحتفاظ به إلى باكر النهار، فلما كان الغد أقعد إبراهيم فى دار المأمون. والمقنعة فى عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم والناس، ويعلموا كيف أخذ، ثم حوّله إلى أحمد بن أبى خالد فحبسه عنده، ثم شفع فيه الحسن بن سهل- وقيل ابنته بوران لما بنى بها المأمون. وقيل إن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار أبى إسحاق المعتصم، وكان المعتصم عند المأمون فحمل رديفا لفرج «2» التركى، فلما دخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين ولىّ الثأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الأغترار- بما مدّ له من أسباب الشقاء- أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذى ذنب، كما جعل كل ذى ذنب دونك فإن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك، فقال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبّر وسجد. وقيل بل كتب إبراهيم هذا الكلام إلى المأمون وهو مختف، فوقّع المأمون فى رقعته:
القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله عزّ وجلّ، وهو أكبر ما نسأله «3» ، فامتدحه إبراهيم بن المهدى بقصيدته التى هى:(22/215)
يا خير من رفلت «1» يمانيه به ... بعد النبى «2» لآيس أو طامع «3»
وأبرّ من عبد الإله على التقى «4» ... غيبا «5» وأقوله «6» بحق صادع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع
متيقظا حذرا وما تخشى العدى ... نبهان من وسنان «7» ليل الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبى وأمّى فدية وبنيهما «8» ... من كل معضلة وريب «9» واقع
منها:
نفسى فداؤك إذ تضل معاذرى ... وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة «10» ... دفعت بناءك للمحل اليافع
فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة «11» كقوس النازع «12»
الله يعلم ما أقول فإنّها «13» ... جهد الأليّة من حنيف راكع(22/216)
ما إن عصيتك والغواة تقودنى «1» ... أسبابها إلا بنيّة طائع
حتى إذا علقت «2» حبائل شقوتى ... بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أن لمثل جرمى غافرا ... فوقفت أنظر «3» أى حتف مصارعى «4»
ردّ الحياة علىّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر «5» المتواضع
ومنها:
كم من يد لك لم «6» تحدثنى بها ... نفسى إذا آلت إلىّ مطامعى
أسديتها عفوا إلىّ هنيئة ... وشكرت مصطنعا لأكرم صانع
إنّ الذى قسم الخلافة حازها ... من صلب آدم فى الإمام «7» السابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع
قال: فلما أنشدها قال المأمون: أقول كما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «8» .
وروى أبو الفرج الأصفهانى بسنده عن محمد بن عمرو الأنبارى قال «9» : لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى أحب أن يوبّخه على رءوس الناس، فجىء بإبراهيم يحجل فى قيوده، فوقف على طرف الإيوان وقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلّم الله عليك ولا حفظك ولا كلأك ولا رعاك يا إبراهيم، فقال له: على رسلك يا أمير المؤمنين، فلقد أصبحت ولىّ ثأرى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الأغترار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد أصبح ذنبى فوق(22/217)
كل ذى ذنب، كما أن عفوك فوق كل ذى «1» عفو. ومن رواية أخرى أنّه قال: وقد أصبحت فوق كل ذى ذنب؛ كما أصبح كل ذى عفو دونك، فإن عاقبت «2» فبحقك وإن تعف فبفضلك، قال: فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: إن هذين أشارا علىّ بقتلك، فالتفت فإذا العباس بن المأمون والمعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين أما حقيقة الرأى فى معظم تدبير الخلافة والسياسة فقد أشارا عليك به، وما غشّاك إذ كان منّى ما كان، ولكنّ الله عوّدك من العفو عادة جريت عليها، دافعا ما تخاف بما ترجو، فكفاك الله يا أمير المؤمنين، فتبسّم المأمون ثم أقبل على ثمامة فقال: إن من الكلام ما يفوق الدر ويغلب السحر، وإنّ كلام عمى منه، أطلقوا «3» حديده وردّوه إلىّ مكرّما، فلما ردّ إليه قال: يا عم، صر إلى المنادمة وارجع إلى الأنس، فلن ترى منى أبدا إلا ما تحب، فلما كان من الغد بعث إليه بدرج فيه هذه القصيدة التى تقدّم ذكرها، لكن اختصرها أبو الفرج فذكر بعضها، فلما قرأها المأمون بكى وقال علىّ به «4» فخلع عليه «5» ، وأمر له بخمسة آلاف دينار، ودعا بالفرّاش فقال له: إذا رأيت عمى مقبلا فاطرح له متكأ، وكان ينادمه لا ينكر منه شيئا. قال أبو الفرج: وروى بعض هذا الخبر عن محمد بن الفضل الهاشمى، فقال فيه: لما فرغ المأمون من خطابه دفعه إلى ابن أبى خالد الأحول، وقال: هذا صديقك فخذه إليك، قال: وما تغنى صداقتى عنه وأمير المؤمنين ساخط عليه، أما إنى- وإن كنت صديقا له- لا أمتنع عن قول الحق فيه، قال له: قل فإنك غير متّهم، فقال- وهو يريد التسلّق على العفو عنه: إن قتلته فقد قتلت الملوك قبلك أقل جرما منه وإن عفوت عنه عقوت عمن لم يعف قبلك عن مثله،(22/218)
فسكت «1» المأمون ساعة ثم تمثل «2»
قومى هم قتلوا أميم أخى ... فإذا رميت يصيبنى سهمى
فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى
خذه إليك يا أحمد مكرّما، فانصرف به ثم كتب إلى المأمون قصيدته المذكورة، فلما قرأها رق له وأمر بردّه إلى منزله، وردّ ما قبض من أملاكه وماله. وفى خبر عن أبى داود أن المأمون تقدّم إلى محمد بن يزداد «3» - لما أطلق إبراهيم- أن يمنعه من دارى الخاصة والعامة، ووكل به رجلا من قبله يثق به ليعرفه أخباره وما يتكلّم به، فكتب إليه الموكل أن إبراهيم- لما بلغه المنع من دارى الخاصة والعامة- تمثّل:
يا سرحة الماء قد سدت مواردها «4» ... أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حيام به ... محلّا عن طريق الماء مردود «5»
فلما قرأها المأمون بكى وأمر باحضاره من وقته مكرّما، وأنزله فى مرتبته، فلما دخل على المأمون قبّل البساط وقال:
البرّ «6» بى منك وطّا العذر عندك لى ... دون اعتذارى فلم تعذر «7» ولم تلم
وقام علمك بى فاحتجّ عندك لى ... مقام شاهد عدل غير متّهم
رددت مالى ولم تمنن علىّ به ... وقبل ردّك مالى قد «8» حقنت دمى(22/219)
فبوت منك وقد كافأتها بيد ... هى الحياتان من موت ومن عدم
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به ... فلا عدمناك من عارف ومنتقم
فقال: اجلس يا عم آمنا مطمئنا. فلن ترى أبدا منّى ما تكرهه، إلا أن تحدث حدثا أو تتغير عن طاعة، وأرجو ألا يكون ذلك إن شاء الله تعالى. وروى الفضل بن مروان قال «1» : لمّا دخل إبراهيم بن المهدى على المأمون- لما ظفر به- كلّمه بكلام، كان سعيد بن العاص كلّم به معاوية بن أبى سفيان فى سخطة سخطها عليه واستعطفه به، وكان المأمون يحفظ الكلام فقال المأمون: هيهات يا إبراهيم، هذا كلام سبقك به فحل بنى أميّة وقارحهم سعيد بن العاص وخطب به معاوية بن أبى سفيان، فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين- وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بنى حرب وقارحهم إلى العفو، فلا تكن حالى عندك فى ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه وأنا اشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإنّ أعظم الهجنة تسبق أميّة هشاما إلى مكرمة فقال له:
صدقت يا عم قد عفوت عنك.
ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل
فى هذه السنة بنى المأمون بها فى شهر رمضان، وكان المأمون قد سار من بغداد إلى فم الصّلح إلى معسكر الحسن، فنزله وزفت إليه بوران، فلما دخل إليها المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة والدة الأمين وجدّتها- أم الفضل وام الحسن ابنى سهل، فلما دخل نثرت عليه جدّتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر المأمون بجمعه وأعطاه لبوران، وقال: سلى حاجتك فأمسكت، فقالت جدّتها: سلى سيدك فقد أمرك، سألته الرضا عن إبراهيم بن المهدى، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم(22/220)
جعفر فى الحج فأذن لها، وألبستها أم جعفر البدنة «1» اللؤلؤ الأموية، وأوقد المأمون فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منا، وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوما، يعدّ له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكتب الحسن أسماء ضياعه ونثرها. وحكى عبد الملك بن عبد الله بن عبدون «2» الحضرمى الشبلى، فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، قال حكى إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلى قال «3» : قال لى المأمون يوما: هذا يوم سرور، ثم قال للغلمان: خذوا علينا الباب واحضروا بالشراب، فبقينا بقية يومنا فى أنس وشرب، فلما كان الليل قال لى: يا إسحاق إنى أريد الصّبوح، فكن بمكانك حتى أدخل إلى الحرم وأخرج إليك، فأستبطأت خروجه فقلت:
اشتغل وغلب عليه النبيذ ونسينى، وكانت عندى جارية بكر كنت اشتريتها فتطلعت لها نفسى، فنهضت فقال لى العبد: قد انصرف عبدك بدابتك، فمشيت فلما صرت ببعض الطريق أحسست بالبول، فعدلت عن الطريق وقضيت حاجتى، فلما أردت أن أستجمر عدلت إلى حائط، وإذا بزنبيل كبير معلّق، قد ألبس بالديباج وفيه أربعة أحبل من الابريسم، فقلت: إنّ له لأمرا، ثم تجاسرت وجلست فيه «4» فجذب، وإذا أربع جوار يقلن بالسعة «5» : أصديق أم جديد؟ فقلت جديد، فسارت احداهن بين يدى حتى أدخلتنى إلى مجلس لم أر مثله، فجلست فى أدنى مجالسه، وإذا بوصائف بأيديهن «6» الشمع والمجامر يتبخّر فيها العود، وبينهنّ جارية كالبدر(22/221)
الطالع ذات دلّ وشكل، فنهضت لدخولها فقالت مرحبا بالضيف، [وسألتنى عن دخولى «1» ] ، فقلت: عن غير ما قصد، قالت فما السبب؟
قلت انصرفت من عند بعض أصحابى فلما رأيت الزنبيل حملنى النبيذ على الدخول فيه، قالت: فما صناعتك؟ قلت: بزّاز، قالت:
ومولدك؟ قلت: بغداد، قالت: من أى الناس؟ قلت: من أوسطهم، قالت: حيّاك الله، هل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شىء ضعيف، قالت: فذاكرنى، قلت: إن للداخل دهشة، ولكن ابدأينى فالشىء بالمذاكرة، قالت: هل تحفظ قصيدة فلان التى يقول فيها كذا وكذا، فأنشدتنى لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين، وأنا مستمع أنظر من أى أحوالها أعجب: من حسنها أو من حسن إنشادها أو من حسن أدبها أو ضبطها للغريب من النحو واللغة!! ثم قالت: قد ذهب عنك بعض الحصر، قلت: إن شاء الله لقد كان ذلك، قالت: فأنشدنى، فأنشدتها فجعلت تسألنى عن أشياء تمرّ فى الشعر كالمختبرة، ثم قالت: والله ما قصّرت ولا توهمت أن فيك هذا!! ولا رأيت فى أبناء التجار مثلك! فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟! قلت: نظرت فى شىء من ذلك، فأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ثم أحضرت نبيذا فشربت قدحا، وقالت: هذا أوان المذاكرة، فاندفعت وقلت: بلغنى كذا وكذا، وكان رجل من قصّته كذا وكذا، فسرّت بذلك، وقالت: ليس هذا من أمر التجار، وإنما هى من أحاديث الملوك، قلت: إنه كان لى جار ينادم بعض الملوك فكنت أدعوه فى بعض الأوقات إلى منزلى، فما تسمعين منّى فمن عنده أخذته، قالت: يمكن هذا!! ثم قالت: لو كان عندك شىء واحد لكنت كاملا! فحرك بعض الملاهى أو ترنّم، قلت: لا أحسن من هذا شيئا على أنى مولع بسماعه، فقالت: يا جارية- عودى، فضربت فأحسنت وغنّت غناء(22/222)
بديعا، ثم قالت: هذا الغناء لإسحاق، فلم تزل على ذلك حتى إذا كان عند الفجر قالت: المجالس بالأمانات، ثم أخذت وأخرجت إلى باب صغير، فانتهيت إلى دارى فأرسل المأمون إلىّ فمشيت إليه، وبقيت عنده إلى وقت البارحة ودخل إلى حرمه، فخرجت إلى ذلك الموضع ودخلت الزنبيل، فقالت: ضيفنا!! قلت: منوا بالصفح، قالت: فعلنا ولا تعد، فلما كان عند الصباح فعلت فعلة البارحة، وخرجت فأتيت المأمون، فقال: أين كنت!! فاعتذرت إليه، فلما كان الليل صنع صنعه وصنعت كذلك، فلما دخلت فى الزنبيل قالت: ضيفنا!! قلت: اى ها الله!!، قالت:
أجعلتها دار مقام!! قلت: الضيافة ثلاث فإن رجعت فأنت من دمى فى حلّ، فلما كان عند الوقت أفكرت فى المأمون، وعلمت أنّه لا يخلصنى منه إلا أن أخبره، وعلمت من شغفه بالنساء أنه يطالبنى بالمشى إليها، فقلت:
جعلت فداك- أتأذنين فى ذكر شىء حضر؟ قالت: قل، قلت: أراك ممّن يحب الغناء ويشغف بالأدب، ولى ابن عم هو من أهل الشعر «1» والأدب والغناء، هو أعرف خلق الله بغناء إسحاق، الذى سمعتك تثنين عليه، فقالت: طفيلى ويقترح، قلت: إنما ذكرت ذلك لك وأنت المحكّمة، قالت: فإذا كان كما ذكرت فما نكره أن نعرفه، قلت: فالليلة، قالت:
نعم، ثم انصرفت على عادتى فلما وصلت دارى أتانى رسول المأمون، فمشيت إليه وهو حنق علىّ، فقال: يا إسحاق آمرك بشىء فلا تقف عنده، وكان لا يدخل إلى حرمه حتى يأمرنى بانتظاره، فأتذكّر مجالسة الجارية فأنسى عقوبته، فقلت: لى قصّة أحتاج فيها إلى خلوة، فأومأ بيده إلى من كان واقفا فتنحّوا، فذكرت له القصة فلما فرغت من كلامى قال: كيف لى بمشاهدة ذلك الموضع؟ قلت: قد علمت أنك تطالبنى بهذا، وقد قلت لها لى ابن عم من صنعته ومن حديثه، ثم جلسنا على عادتنا فى الأيام الخوالى-(22/223)
وهو يسألنى عن حديثها، فلما جاء الليل صرنا «1» إلى ذلك الموضع، فألفينا فيه زنبيلين فدخل فى واحد ودخلت فى الآخر، فلما صرنا فى البيت جلست فى صدره، وجلس المأمون دونى، فلما أتت قالت: حيّا الله ضيفينا بالسلام، ثم رفعت مجلسه وقالت: هذا ضيف وأنت من أهل البيت، ولكل جديد لذّة، فجلس المأمون فى صدر البيت وأقبلت عليه تحدثه، وهو يأخذ معها فى كل فن فيسكتها، فالتفتت إلىّ وقالت: وفّيت بوعدك، ثم أحضرت النبيذ وجعلنا نشرب وهى مقبلة عليه، ثم قالت: وابن عمك هذا من أولاد التجار؟! إنّ حديثكما وأدبكما لمن أدب «2» الملوك، وليس للتجار هذه المنزلة فى الأحاديث والآداب، ثم قالت لى: موعدك؟ قلت: إنه ليجيب «3» ولكن حتى يسمع شيئا، فأخذت العود وغنّت فشربنا عليه رطلا ثم ثانيا وثالثا، فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال ارتاح وطرب، وكان الصوت الثالث ما يقترحه «4» علىّ أبدا، فلما سمعه نظر إلىّ نظر الأسد إلى فريسته، وقال لى: يا إسحاق غنّ لى هذا الصوت، فلما رأتنى وقفت بين يديه علمت أنّه المأمون وأنّنى إسحاق، فنهضت «5» فقال لها: ها هنا وأومأ إلى كلّة مضروبة فدخلتها، فلما فرغت من ذلك الصوت قال: يا إسحاق: انظر من صاحب هذه الدار؟ فسألت عجوز فقالت الحسن بن سهل وهذه ابنته بوران، فرجعت فأعلمته فقال: علىّ به الساعة فأحضرته فوقف بين يديه فقال: لك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: زوجنيها، قال هى أمتك وأمرها إليك، قال: فإنى أتزوّجها على ثلاثين ألفا نحملها إليك صبيحة غد، فإذا وصل إليك المال فاحملها إلينا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ثم(22/224)
نهض وفتح الباب وخرجنا، فلما صرنا إلى الدار قال لى: يا إسحاق لا يقفنّ أحد على ما وقفت عليه فإن المجالس بالأمانات، فقلت: يا أمير المؤمنين- ومثلى يحتاج إلى وصيّة! قال: فلما أصبحنا أمر بحمل المال إليه، ونقلت إليه من يومها، قال إسحاق فما فهت بالخبر إلا بعد موت المأمون.
قال ابن عبدون «1» : وذكر أنّه لما أراد أن يعرس بها أمر بإخراج الفساطيط والقباب «2» ، وأن تضرب على ضفّة دجلة فى موضع منخفض، وخرج وجوه الناس لحضور ذلك وعامّة الناس للتنزه، وكانت النفقة من عند الحسن بن سهل على كل من حضر. قال: وكان عدد الملاحين منهم خاصة أرباب الزلاليات والزواريق وماشاكلها- الذين يحملون الناس فى مراكبهم إلى موضع العرس- عشرة آلاف «3» ، ويقال إنّه لما بسطت القبّة التى دخل فيها المأمون على بوران خيّر الحسن الخاصة- ممّن حضر ذلك العرس- بين مائة دينار وحلّة أو قبضة من أرض تلك القبّة، فيقال إن القابض بكفّه من أرض القبّة كان أرجح ممن أخذ مائة دينار وحلّة، فإنه ربما كان يخرج من قبضته حجر ياقوت أو حجر زمرّد أو درّة نفيسة تساوى أضعاف ذلك القدر.
ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وفتحها وفتح الإسكندرية
وفى سنة عشر ومائتين سار عبد الله بن طاهر إلى مصر وافتتحها، واستأمن له عبيد الله «4» بن السّرى، وكان سبب مسيره أن عبيد الله بن السرى كان قد تغلّب على مصر وخلع الطاعة، وخرج جمع من الأندلس(22/225)
فغلبوا على الإسكندرية، واشتغل عبد الله بن طاهر عنهم بحرب نصر بن شبث، فلما فرغ منه سار نحو مصر، فلما قرب منها قدّم قائدا من قوّاده إليها لينظر موضعا يعسكر فيه، وكان ابن السرى قد خندق على مصر. فاتصل الخبر به فخرج إلى القائد وقاتله قتالا شديدا. والقائد فى قلة «1» فسيّر بريدا إلى عبد الله بن طاهر يخبره، فحمل عبد الله الرجال على البغال وجنّبوا الخيل، وأسرعوا السير فلحقوا القائد وهو يقاتل. فلما رأى ابن «2» السّرى ذلك لم يثبت بين أيديهم، وانهزم وتساقط أكثر أصحابه فى الخندق. فهلك منهم بالسقوط أكثر ممّن قتل بالسيف، ودخل ابن السرى مصر وأغلق الباب، وحاصره عبد الله فأرسل إليه فى الليل ألف وصيف ووصيفة مع كل واحد منهم ألف دينار. فردّهم ابن طاهر وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارا لقبلتها ليلا، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ «3»
. فعندها طلب ابن السرى الأمان فأمنّه، ثم بعث عبد الله بن طاهر إلى الإسكندرية يؤذن الذين تغلّبوا عليها بالحرب أو الدخول فى الطاعة. وكانوا قد أقبلوا من الأندلس فى مراكب، والناس فى تلك الفتن التى ذكرناها، فأرسوا بالإسكندرية وتغلّبوا عليها. وكان رئيسهم يدعى أبا حفص. فلما أتتهم رسالته سألوا الأمان. على أن يرحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم التى ليست من بلاد الإسلام، فأمّنهم على ذلك فرحلوا ونزلوا بجزيرة اقريطش.
واستوطنوها وأعقبوا وتناسلوا.
قال: وبعث ابن طاهر عبيد الله بن السرى إلى بغداد. فقدمها فى سنة إحدى عشرة ومائتين. وأنزل مدينة المنصور. وأقام ابن طاهر بمصر واليا عليها وعلى الشام وعلى الجزيرة، إلى أن نقل إلى خراسان على ما نذكره(22/226)
إن شاء الله تعالى. وروى أبو الفرج الأصفهانى «1» أنّ المأمون أعطى عبد الله ابن طاهر مال مصر لسنة خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرّقه فى الناس.
ورجع صفرا من ذلك فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه وأنشد أبياتا قالها فى هذا المعنى يقول منها:
إليك أقبلت من أرض أقمت بها ... حولين بعدك فى شوق وفى ألم
أقفو مساعيك اللاتى خصصت بها ... حذو الشراك على مثل من الأدم
وكان فضلى فيها أننى «2» تبع ... لما سننت من الإنعام والنعم
ولو وكلت إلى نفسى غنيت بها ... لكن بدأت فلم أعجز ولم ألم
فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك بمكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شىء إذا عوّدته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لمّ شعثك وإصلاح حالك؛ وزال ما كان فى نفسه.
قال «3» : وكان المال الذى فرّقه عبد الله بن طاهر- وهو على المنبر- ثلاثة آلاف ألف دينار، أجاز بها قبل نزوله عن المنبر، قال: معلّى الطائى- وقد بلغه ما صنع عبد الله بن طاهر- فقال: أصلح الله الأمير، أنا معلّى الطائى وقد بلغ منّى ما كان منك إلىّ من جفاء وغلظ، فلا يغلظنّ على قلبك، ولا يستخفنّك الذى بلغك، فأنا الذى أقول:
لو يصبح «4» النيل يجرى ماؤه ذهبا ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
تغلى «5» بما فيه رقّ الحمد تملكه ... وليس شىء أعاض الحمد بالغالى
فى أبيات أخر، قال: فضحك عبد الله وسرّ بما كان منه، وقال:(22/227)
يا فلان أقرضنى عشرة آلاف دينار- فما أمسيت أملكها- فأقرضه، فدفعها إليه.
ذكر خلع أهل قمّ المأمون وما كان من أمرهم
فى هذه السنة خلع أهل قمّ المأمون ومنعوا الخراج، وكان سبب ذلك أن المأمون لما سار من خراسان إلى العراق أقام بالرى عدة أيام، وأسقط عنهم شيئا من خراجهم، فطمع أهل قمّ أن يضع عنهم كذلك، فكتبوا إليه يسألونه الحطيطة، وكان خراجهم ألفى ألف درهم، فلم يجبهم المأمون إلى ما سألوا فامتنعوا من أدائه، فوجّه المأمون إليهم على بن هشام وعجيف بن عنبسة فحاربوهم فظفروا بهم، وقتل يحيى بن عمران وهدم سور المدينة وجباها على سبعة آلاف ألف درهم، وكانوا يتظلمون من ألفى ألف درهم.
وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد أمير مكة.
ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين
فى هذه السنة قتل السيد بن أنس الأزدى أمير الموصل، وسبب قتله أن زريق بن على بن صدقة الأزدى الموصلى كان قد تغلّب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان، وجرى بينه وبين الرشيد حروب كثيرة، فلما كان فى هذه السنة جمع زريق جمعا كثيرا، قيل كانوا أربعين ألفا، وبعثهم إلى الموصل لحرب السيد فخرج إليهم فى أربعة آلاف، فالتقوا واقتتلوا فحمل السيد بنفسه وكانت عادته، وحمل عليه رجل من أصحاب زريق، فقتل كل منهما صاحبه، ولما بلغ المأمون قتله غضب لذلك، وولّى محمد بن حميد الطوسى حرب زريق وبابك الخرّمى، واستعمله على الموصل. وفيها قدم عبد الله بن طاهر بغداد. فتلقاه العباس بن المأمون والمعتصم وسائر(22/228)
الناس. وفيها أمر المأمون مناديا برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير أو فضّله على أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وحجّ بالناس صالح بن العباس وهو أمير مكة.
ودخلت سنة اثنتى عشرة ومائتين
ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل
قد قدّمنا أن المأمون استعمله على حرب بابك الخرّمى، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل ليصلح أمرها، ويحارب زريق بن على، فسار إلى الموصل ومعه جيشه، وجمع فيها الرجال من اليمن وربيعة وسار نحوه، فالتقوا على الزاب فدعاه محمد إلى الطاعة فامتنع، فناجزه واقتتلوا فانهزم زريق وأصحابه، ثم أرسل بطلب الأمان فأمّنه محمد، فنزل إليه وسيّره إلى المأمون، وكتب المأمون إلى محمد يأمره بأخذ مالزريق من قرى ورستاق ومال وغيره. يأخذ ذلك لنفسه، فجمع محمد أولاد زريق وإخوته وأهله وأخبرهم بما أمر به المأمون، فأطاعوه لذلك، ثم قال لهم: إن أمير المؤمنين قد أمر لى به، وقد قبلته ورددته عليكم فشكروه؛ ثم سار إلى أذربيجان واستخلف على الموصل محمد بن السيد، وقصد المخالفين المتغلبين على أذربيجان، فأخذهم وسيّرهم إلى المأمون، وسار لمحاربة بابك.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وتفضيل على بن أبى طالب على جميع الصحابة رضى الله عنهم، وكان ذلك فى شهر ربيع الأول.
وحجّ بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين
فى هذه السنة ولىّ المأمون ابنه العباس الجزيرة والثّغور والعواصم،(22/229)
وولّى أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر، وأمر لكل واحد منهما ولعبد الله ابن طاهر بخمسمائة ألف درهم.
وفيها خلع عبد السلام وابن جليس المأمون بمصر فى القيسية واليمانية، وظهرا بها ووثبا بعامل المعتصم وهو عمير «1» بن الوليد الباذغيسى، فقتلاه فى شهر ربيع الأول سنة أربع عشرة، فسار المعتصم إلى مصر وقاتلهما فقتلهما وافتتح مصر واستقامت أمورها، واستعمل عليها عماله.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس.
ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين
فى هذه السنة قتل محمد الطوسى فى حرب بابك، فلما بلغ خبر قتله المأمون استعمل عبد الله بن طاهر على قتاله.
ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان
فى هذه السنة استعمل المأمون عبد الله بن طاهر على خراسان، فسار إليها وكان أخوه طلحة مات بخراسان فى سنة ثلاث عشرة، فولى خراسان على ابن طاهر خليفة لأخيه عبد الله، وكان عبد الله بالدّينور فجهّز العساكر إلى بابك، فأوقع الخوارج بخراسان بأهل قرية الحمراء من نيسابور، فأكثروا فيهم القتل فاتصل ذلك بالمأمون، فأمر عبد الله بالمسير إليها.
وحجّ بالناس فى هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد.
ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين
ذكر غزاة المأمون إلى الروم
فى هذه السنة سار المأمون من بغداد لغزو الروم فى المحرم، واستخلف(22/230)
على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولاه مع ذلك السواد وحلوان وكوردجلة، وسار المأمون على طريق الموصل إلى منبج، ثم إلى دابق ثم إلى أنطاكية ثم إلى المصّيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم فى جمادى الأولى، ودخل ابنه العباس من ملطيّة، فأقام المأمون على حصن قرّة حتى افتتحه عنوة وهدمه لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل إنه فتحه بالأمان، وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان، ووجّه إشناس إلى حصن سندس فأتاه برئيسه، ووجّه عجيفا وجعفرا الخيّاط إلى حصن سنان «1» فسمع وأطاع، وتوجّه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد
ودخلت سنة ست عشرة ومائتين
ذكر فتح هرقلة
فى هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم، وسبب ذلك أنه بلغه أن ملك الروم قتل ألفا وستمائة من أهل طرسوس والمصّيصة، فسار حتى دخل أرض «2» الروم فى جمادى الأولى، إلى منتصف شعبان، وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم «3» كتب إليه بدأ بنفسه، فسار إليه ولم يقرأ كتابه، وسار إلى هرقلة فخرج أهلها على صلح، ووجّه أخاه أبا إسحاق المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا ومطمورة ووجه يحيى بن أكثم من طوانة فأغار وقتل وسبى وحرق ورجع. ثم عاد المأمون إلى دمشق.
وفيها ظهر بمصر عبدوس الفهرى. ووثب على عمال المعتصم فقتل بعضهم فى شعبان. فسار المأمون من دمشق إلى مصر فى منتصف ذى(22/231)
الحجة، فوصل إليها فى المحرم سنة سبع عشرة فأتى بعبدوس الفهرى فضرب عنقه، وعاد إلى الشام، وفيها قدم الأفشين من برقة إلى مصر، فأقام بها ثم كان من أمره وتمكّنه ما نذكره، وفيها «1» كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلّوا، فبداوا بذلك فى منتصف شهر رمضان، فقاموا قيامه وكبروا ثلاثا، ثم فعلوا ذلك فى الصلوات المكتوبة، وفيها ماتت أم جعفر زبيدة ابنة جعفر بن المنصور أم الأمين.
وحجّ بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان وقيل عبد الله بن عبيد الله.
ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين
وفى هذه السنة ظفر الأفشين بالفرما «2» من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، وفيها قتل المأمون على بن هشام، وكان قد استعمله على أذربيجان والجبال وقمّ وأصفهان فى سنة أربع عشرة، فبلغ المأمون أنّه ظلم وأخذ الأموال وقتل الرجال، فوجّه إليه المأمون عجيف بن عنبسة فى سنة ست عشرة، فثار به على بن هشام وأراد قتله واللحاق ببابك، فظفر به عجيف وقدم به على المأمون فقتله، وقتل أخاه حسينا «3» فى جمادى الأولى، وطيف برأس علىّ فى العراق وخراسان والشام ومصر، ثم ألقى فى البحر.
وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم، فأناخ عجيف على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها فخدع أهلها عجيفا حتى أسروه «4» ، وبقى عندهم ثمانية أيام ثم(22/232)
أخرجوه؛ وجاء توفيل- ملك الروم- فأحاط بعجيف فسيّر المأمون إليه الجنود فارتحل ملك الروم قبل موافاتهم. وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان.
وحجّ بالناس فى هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن على.
ودخلت سنة ثمانى عشرة ومائتين
ذكر المحنة بالقرآن المجيد
فى هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد فى امتحان القضاة والفقهاء «1» والمحدّثين بالقرآن، فمن أقرّ أنه مخلوق محدث خلى سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمر فيه برأيه، وطوّل كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وكان الكتاب فى شهر ربيع الأول، وأمره بإنفاذ سبعة نفر منهم محمد بن سعد كاتب الواقدى «2» ، وأبو مسلم مستملى يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبى مسعود، وأحمد الدّورقى. فأشخصوا إليه فأمتحنهم وسألهم عن القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق فأعادهم إلى بغداد، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث. فأقروا بذلك فخلّى سبيلهم، وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء.
فأحضر أبا حسّان الزيادى، وبشر بن الوليد الكندى، وعلى بن أبى مقاتل «3» ، والفضل بن غانم، والذيّال بن الهيثم «4» وسجّادة، والقواريرى، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطى، وعلى بن الجعد، وإسحاق بن أبى إسرائيل، وابن الهرش، وابن عليّة الأكبر،(22/233)
ويحيى بن عبد الرحمن العمرى، وشيخا آخر من ولد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه- كان قاضى الرقة، وأبا نصر التمّار، وأبا معمر القطيعى، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرّخان، وجماعة منهم النّضر بن شميل، وابن على بن عاصم، وأبو العوّام البزّاز، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا جميعا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول فى القرآن؟ فقال: قد عرف أمير المؤمنين مقالتى غير مرّة، قال: قد تجدّد من كتاب أمير المؤمنين ما ترى، قال: أقول القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شىء، قال: والقرآن شىء؟
قال: نعم، قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس عن هذا سألتك- أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلّم فيه، وليس عندى غير ما قلت لك، فأخذ إسحاق رقعة فقرأها عليه، فقال: أشهد أنّ لا إله إلا الله أحد فرد، لم يكن قبله شىء ولا يشبهه شىء من خلقه، فى معنى من المعانى ووجه من الوجوه، قال للكاتب: اكتب ما قال. ثم قال لعلى بن أبى مقاتل: ما تقول؟ قال: قد سمعت كلامى فى هذا لأمير المؤمنين غير مرّة، وما عندى غيره، فامتحنه بالرقعة فأقرّ بما فيها، ثم قال له: القرآن مخلوق؟ قال:
القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، قال: القرآن كلام الله، فإن أمرنا أمير المؤمنين بشىء سمعناه وأطعنا، فقال للكاتب اكتب مقالته؛ ثم قال للذيّال نحوا من مقالته لعلى بن أبى مقاتل، فقال مثل ذلك؛ ثم قال لأبى حسّان الزيادى: ما عندك؟ قال: سل عمّا شئت، فقرأ عليه الرقعة فأقرّ بما فيها، قال: ومن لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شىء، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامّة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم،(22/234)
وقلّده الله أمرنا فصار يقيم حجّتنا وصلواتنا، ونؤدى إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته، فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا، قال:
والقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته، قال إسحاق فإن هذه مقالة أمير المؤمنين، فقال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس، وإن أخبرتنى أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتنى به، فإنّك الثقة فيما أبلغتنى عنه، قال: ما أمرنى أن أبلغك شيئا، فقال أبو حسّان: وما عندى إلا السمع والطاعة، فأمرنى أأتمر، فقال: ما أمرنى أن آمركم، وإنما أمرنى أن أمتحنكم؛ ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال:
أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله ما أزيد عليها، فامتحنه بالرقعة، فلما أتى إلى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
وأمسك عن لا يشبهه شىء من خلقه فى معنى من المعانى ولا وجه من الوجوه فاعرض عليه ابن البكّاء الأصغر فقال: أصلحك الله- إنه يقول سميع من أذن، بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد: ما معنى قولك سميع بصير؟ قال: كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدرى- هو كما وصف نفسه، ثم دعاهم رجلا رجلا- كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة، وعبيد الله «1» ابن محمد بن الحسن، وابن عليّة الأكبر، وابن البكّاء، وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت وهب بن منبّه، والمظفّر بن مرجّا، ورجلا من ولد عمر بن الخطاب قاضى الرقة، وابن الأحمر، فأمّا ابن البكّاء فإنّه قال: القرآن مجعول لقوله عزّ وجل إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2»
، والقرآن محدث لقوله عزّ وجل ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ «3»
، قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قال: نعم، قال: والقرآن مخلوق «4» قال:(22/235)
لا أقول مخلوق ولكنّه مجعول، فكتب مقالته ومقالات القوم ووجّهها إلى المأمون، فأجاب المأمون يذمّهم ويذكر كلا منهم ويعيبه ويقع فيه بشىء، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدى ويمتحنهما، فإن أجابا وإلا ضرب أعناقهما، وأما من سواهما فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم، فأحضرهم إسحاق وأعلمهم بما أمر المأمون فأجاب القوم كلهم إلا أربعة نفر: منهم أحمد بن حنبل، وسجّادة، والقواريرى، ومحمد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق فشدّوا فى الحديد، فلما كان الغد دعاهم فى الحديد وأعاد عليهم المحنة، فأجاب سجّادة والقواريرى، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، فشدّوا فى الحديد ووجّههما إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوه، فأجابه المأمون أنّه بلغنى عن بشر بن الوليد أنّه تناول الآية التى أنزلها الله عزّ وجل فى عمّار بن ياسر إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «1»
فقد أخطأ التأويل، إنما عنى الله تعالى بهذه الآية من كان معتقدا للإيمان مظهرا للشرك، وأما من كان معتقدا للشرك مظهرا للإيمان فليس هذا له، فأشخصهم جميعهم إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأحضرهم إسحاق وسيرهم جميعا الى العسكر وهم: أبو حسان الزيادى، وبشر بن الوليد، والفضل بن غانم، وعلى ابن أبى مقاتل، والذيّال بن الهيثم، ويحيى بن عبد الرحمن العمرى، وعلى بن الجعد، وأبو العوّام، وسجّادة، والقواريرى، وابن الحسن بن على بن عاصم، وإسحاق بن أبى اسرائيل، والنضر بن شميل: وأبو نصر التمّار، وسعدويه الواسطى، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبو معمر بن الهرش، وابن الفرخان، وأحمد بن شجاع، وأبو هارون ابن البكّاء، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.(22/236)
ذكر وفاة أبى العباس المأمون
كانت وفاته بالبذندون «1» من أرض الروم لثمان خلون من شهر رجب، وقيل لاثنتى عشرة بقيت منه، سنة ثمانى عشرة ومائتين، وكان ابتداء مرضه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة منها؛ وكان سبب مرضه ما ذكره سعيد بن «2» العلّاف القارئ، قال: دعانى المأمون يوما فوجدته جالسا على شاطئ البذندون، والمعتصم عن يمينه، وقد دلّيا أرجلهما فى الماء، فأمرنى أن أضع رجلىّ فى الماء، وقال: ذقه- هل رأيت أعذب منه! أو أصفى أو أشد بردا؟ ففعلت وقلت ما رأيت قط مثله، فقال: أى شىء أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: الرطب الآزاذ، فبينما هو يقول ذلك إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم: انظر إن كان فى هذه الألطاف رطب آزاذ فأت به؟ فمضى وعاد ومعه سلّتان فيهما منه، كأنما جنى تلك الساعة، فأظهر شكر الله تعالى وتعجبنا جميعا، وأكلنا وشربنا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلا وهو محموم، ودامت العلة بالمأمون حتى مات، ولمّا اشتدت عليه قال لأبى إسحاق: يا أبا إسحاق أدن منّى واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك فى القرآن، واعمل فى الخلافة- إذا طوّقكها الله- عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية- العوامّ العوامّ فإنّ الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفى غيرهم من المسلمين، ولا ينتهينّ إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدّمته وآثرته على غيره من هواك، وخد من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم فى شىء، وانصف بعضهم من بعض بالحق(22/237)
بينهم، وعجّل الرحلة عنّى إلى دار ملكك بالعراق «1» ، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم فى كل وقت، والخرّمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة «2» وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود، فإن طالت مدّتهم فتجرّد لهم فيمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل فى ذلك عملا مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه، ثم دعاه بعد ساعة حين اشتد وجعه وأحسّ بمجىء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لتقومنّ بحق الله فى عباده، ولتوثرنّ طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمّك ولد أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، ولا تغفل ضلاتهم فى كل سنة عند محلّها، فإنّ حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله فى أموركم كلها، أستودعكم الله ونفسى وأستغفر الله بما سلف منّى إنّه كان غفّارا، فإنّه ليعلم كيف ندمى على ذنوبى فعليه توكّلت من عظيمها وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، حسبى الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على محمد نبى الهدى والرحمة.
قال: ولما اشتد مرضه وحضره الموت كان عنده ابن ماسويه، فجاء من يلقنه فعرض عليه الشهادة، فقال الطبيب: دعه فإنه لا يفرّق فى هذه الحال بين ربه ومانى، ففتح المأمون عينيه وأراد أن يبطش به فعجز، وأراد الكلام فعجز عنه، ثم قال: يا من لا يموت ارحم من يموت، ومات من ساعته. ولما توفى حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بها بدار خاقان خادم الرشيد، وصلّى عليه المعتصم ووكلوا به حرسا من أبناء(22/238)
طرسوس وغيرهم- مائة رجل، وأجرى لكل منهم تسعين درهما. وكان مولده للنصف من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، ومدة خلافته عشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرون يوما، سوى تلك المدة التى كان فيها الاختلاف بينه وبين أخيه الأمين محصور.
ذكر صفته وشىء من أخباره وسيرته
كان المأمون ربعة ابيض طويل اللحية دقيقها قد وخطه الشيب، وقيل كان أسمر تعلوه صفرة أجنى أعين ضيّق الجبهة بخده خال أسود، وهو أول من اتخذ الأتراك للخدمة وتغالى فى أثمانهم، فكان يشترى الواحد منهم بمائة ألف ومائتى ألف درهم، وكان يحب سماع أخبار الناس، حتى جعل برسم الأخبار ببغداد ألف عجوز وسبعمائة عجوز، وكان كريما وقّع فى يوم واحد بثلاثمائة ألف دينار، وكان يقول: لو علم الناس ما عندى من حلاوة العفو لما تقرّبوا إلىّ إلا بالذنوب. وقال العتبى «1» صاحب إسحاق بن إبراهيم كنت مع المأمون بدمشق، وكان المأمون قد قلّ عنده المال حتى ضاق وشكى ذلك إلى المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنّك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وكان قد حمل إليه من خراج ما يتولاه ثلاثون ألف ألف ألف درهم، فلما ورد عليه المال قال ليحيى بن أكثم: أخرج بنا ننظر إلى هذا المال، فخرجا «2» ينظرانه وكان قد هيّئ بأحسن هيئة وحلّيت أباعره، فنظر المأمون إليه واستكثره واستبشر به الناس، فقال المأمون: يا أبا محمد- ننصرف بالمال ويرجع أصحابنا خائبين!! إنّ هذا للؤم، ودعا محمد بن يزداد فقال له: وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلها، فما زال كذلك حتى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف ألف- ورجله فى(22/239)
الركاب، ثم قال: ادفع الباقى إلى المعلى يعطيه جندنا، قال: فقمت نصب عينه فلما رآنى وقّع لى بخمسين ألفا فقبضتها.
وكان أمر المأمون نافذا من أفريقية المغرب إلى أقصى خراسان وما وراء النهر وولاية السند، وقدم ملك التبت ومعه صنم من ذهب على سرير من ذهب مرصع بالجوهر فأسلم الملك، وأخذ المأمون الصنم وأرسله إلى الكعبة وكتب «1» إليه ملك الهند مع هدية نفيسة أهداها إليه، من دهمى- ملك الهند وعظيم أركان المشرق، وصاحب بيت الذهب وأبواب الياقوت وفرش الدّر- الذى قصره مبنى من العود الذى يختم عليه، فيقبل الصورة قبول الشمع، والذى تؤخذ رائحة قصره من عشرة فراسخ- والذى يسجد أمام البد، الذى وزنه ألف ألف مثقال من ذهب، عليه مائة ألف حجر من الياقوت الأحمر والدرّ الأبيض- الذى يركب فى ألف مركب وألف راية مكللة بالدرّ، تحت كل راية ألف فارس معلّمين بالذهب والحرير- والذى فى مربطه ألف فيل، حزائمها أعنة الذهب- والذى يأكل فى صحاف الذهب على موائد الدرّ، والذى فى خزانته ألف تاج وألف حلّة جوهر لألف ملك من آبائه، والذى يستحيى من الله أن يراه خائنا فى رعيته، إذ خصّه بالأمانة عليهم والرياسة فيهم- إلى عبد الله ذى الشرف والرياسة على أهل مملكته، فى كلام طويل فى آخره- وقد افتتحنا إهداءك «2» بأن وجّهنا إليك كتابا، ترجمته صفوة الأذهان، وكانت الهديّة جام ياقوت أحمر، فتحه شبر فى غلظ الأصبع مملوءا درا، وزن كل درّة مثقال- والعدد مائة، وفراشا من جلد حيّة بوادى الدهراج تبلغ الفيل، ووشى جلدها دارات سود كالدراهم، فى أوساطها نقط بيض، لا يتخوف من جلس عليه مرض السلّ، وإن كان به سلّ وجلس عليه سبعة أيام برىء، وثلاث مصليات من(22/240)
جلد السمندل فراوزها درّ، ومائة مثقال من العود الهندى يختم عليه فيقبل الصورة، وثلاثة آلاف منّ من الكافور المحبّب، كل حبّة أكبر من اللوزة، وجارية طولها سبعة أذرع تسحب شعرها، طول كل شفر من أشفار عينيها أصبع، تبلغ إذا أطرقت نصف خدّها، ناهدا لها ثمان عكن، فى نهاية الحسن والجمال ونقاء البشرة؛ وكان الكتاب من لحاء شجر الكادى، لونه إلى الصفرة والخط باللازورد مفتح بالذهب. فأجابه المأمون من عبد الله الإمام أمير المؤمنين- الذى وهب الله له ولآبائه الشرف بابن عمه النبى المرسل صلى الله عليه وسلّم وأعلى ذكره، والمصدّق بالكتاب المنزل- إلى ملك الهند وعظيم من تحت يده من أركان المشرق، سلام عليك- وأهدى له هديّة وهى فرس بفارسه، وجميع آلاته عقيق، ومائدة جزع فيها خطوط سود وحمر وخضر على أرض بيضاء، فتحها ثلاثة أشبار وغلظها أصبعان؟؟؟، قوائمها ذهب، وثمانية أصناف من بياض مصر وخز السّوس ووشى اليمن وملحم «1» خراسان، والديباج الخرسوانى، وفرش سوسنجرد، ووشى تستر «2» ، من كل صنف مائة قطعة، ومائة طنفسه جنوية بوسائدها، وجام زجاج فرعونى فتحه شبر، فى وسطه صورة أسد أمامه رجل قد برك على ركبتيه. وفوّق السهم نحو الأسد فى قوس؛ وكان الكتاب فى طومار ذى وجهين وكان للمأمون من الأولاد: محمد الأكبر وعبد الله ومحمد الأصغر والعباس وعلى والحسن وإسماعيل والفضل وموسى وإبراهيم ويعقوب والحسين وسليمان وجعفر وإسحاق واحمد وعيسى وهارون وعشر بنات نقش خاتمة:
سل الله يعطك وزراؤه: ذو الرئاستين الفضل بن سهل ثم أخوه الحسن بن سهل ثم أحمد بن أبى خالد الأحوال ثم أحمد بن يوسف وجماعة، قيل إنه ما استوزر بعد الفضل أحدا، وإنما كانوا كتابا. حجّابه: عبد الحميد بن(22/241)
شبث ثم محمد وعلى ابنا صالح مولى المنصور ثم إسماعيل بن محمد بن صالح. قضاته: محمد بن عمر الواقدى ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومى ثم بشر بن الوليد ثم يحيى بن أكثم. الأمراء بمصر: عبّاد بن محمد البلخى ثم المطلب بن عبد الله بن مالك بن الهيثم ثم العباس بن موسى بن عيسى الهاشمى ثم عاد المطلب ثم السّرىّ ثم الحكم مولى بنى ضبّة من أهل بلخ- باجتماع من الجند عليه- ثم سليمان بن غالب ثم السرىّ بعهد من المأمون ثم مات فوليها أبو نصر محمد بن السرىّ ثم مات فوليها أخوه عبيد الله بن السرىّ- بايعه الجند- ثم عبد الله بن طاهر بن الحسين مضافة للشام وغيره، فلما سار إلى العراق استخلف عيسى بن يزيد الجلودى، ثم ابو إسحاق المعتصم مضافة إلى الشام فأقرّ الجلودى، ثم صرفه بعمير بن الوليد التميمى ثم أعاد الجلودى ثم عبدويه «1» بن جبلة ثم عيسى بن منصور، فلما قدم المأمون مصر عزل عيسى وولّى نصر بن عبد الله الصّغدى ويعرف بكيدر. القضاة بها: لهيعة بن عيسى الحضرمى ثم الفضل بن غانم ثم عاد لهيعة ثم إبراهيم بن إسحاق القارى ثم إبراهيم بن الجراح ثم عيسى بن المنكدر ثم عاد إلى بغداد؛ ووصل المأمون إلى مصر وليس بها قاض، فأمر يحيى بن أكثم أن يحكم بين الناس إلى أن سار عنها، وولّى هارون بن عبد الله من ولد عبد الرحمن بن عوف.
ذكر خلافة المعتصم بالله
هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد وأمه ماردة أم ولد، وهو الثامن من الخلفاء العباسيين، وهو أول من أضاف إلى لقبه اسم الله تعالى من الخلفاء فقيل المعتصم بالله وتداوله من بعده، بويع يوم وفاة المأمون بطرسوس لثمان خلون من شهر رجب أو لاثنتى عشرة بقيت منه سنة ثمانى عشرة ومائتين، ولم يقل ابن الأثير فى تاريخه غيره.(22/242)
قال: ولما بويع له شغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمى فسكتوا، وكان المأمون قد وجّه ابنه العباس إلى طوانة، وأمره ببنائها فى هذه السنة، وجعلها ميلا فى ميل وجعل سورها على مسافة ثلاثة فراسخ «1» ، وجعل لها أربعة أبواب على كل باب حصن، فأول ما بدأ به المعتصم أن أمر بإخراب ما كان قد بنى منها، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التى بها، وأحرق الباقى وانصرف إلى بغداد ومعه العباس بن المأمون، فقدمها فى مستهلّ شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها دخل كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وماسبذان وغيرها فى دين الخرميّة، وتجمعوا فعسكروا فى عمل همذان، فوجّه إليهم المعتصم العساكر، وكان منهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعفد له على الجبال فى شوّال، فسار إليهم فأوقع بهم فى أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين
ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوى
فى هذه السنة ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنه بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان ابتداء أمره أنه كان ملازما لمسجد النبى صلى الله عليه وسلّم حسن السيرة، فأتاه إنسان من خراسان اسمه أبو محمد كان مجاورا، فلما رآه أحبه وأعجبته طريقته، فقال له: أنت أحق بالإمامة(22/243)
من كل أحد، وحسّن له ذلك وبايعه، وصار الخراسانى يأتيه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه، فلمّا رضى بكثرة من بايعه من خراسان سارا جميعا إلى الجوزجان، واختفى هناك وجعل أبو محمد يدعو الناس إليه فعظم أصحابه، وحمله أبو محمد على إظهار أمره فأظهره بالطّالقان، وكان بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات، فانهزم هو وأصحابه وخرج هاربا، يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلما صار بنسا وبها والد «1» لبعض من معه، فمضى الرجل الذى معه يسلّم على أبيه فسلّم عليه، فسأله أبوه عن الخبر فأخبره به، فمضى الأب إلى عامل نسا وأخبره بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامل عشرة آلاف درهم، وجاء العامل إلى محمد فأخذه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فسيّره إلى المعتصم فوصل إليه فى منتصف شهر ربيع الأول فحبس عند مسرور الكبير، فلما كان ليلة الفطر اشتغل الناس بالعيد، فدلّى إليه حبل من كوّة فخرج منها، فأتوه بالطعام فى يوم الفطر فلم يجدوه، وبذل لمن أتى به مائة ألف درهم فلم يعرف له خبر بعد ذلك.
ذكر محاربة الزّط
فى هذه السنة وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة فى جمادى الأولى لحرب الزط، وكانوا قد غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبل، فسار عجيف حتى نزل واسط على نهر يقال له بردودا فسدّه وسدّ أنهارا أخر، كانوا يخرجون منها ويدخلون وأخذ عليهم الطرق، ثم حاربهم فقتل فى معركة واحدة ثلاثمائة وأسر خمسمائة، فضرب أعناقهم وبعث الرءوس إلى باب المعتصم، وأقام عجيف بإزائهم خمسة عشر يوما، فظفر منهم بخلق كثير، وكان رئيس الزّط(22/244)
يقال له محمد بن عثمان، وصاحب أمره رجل يقال له سملق «1» ، ثم استوطن عجيف وأقام بإزاء الزط ستة أشهر، وقاتلهم فطلبوا الأمان وخرجوا إليه فى ذى الحجة، وكان عدّتهم بالنساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا، المقاتلة منهم أثنا عشر ألفا، فجعلهم عجيف فى السفن وعبّأهم على تعبئتهم فى الحرب ومعهم البوقات، فأدخلهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين، فخرج المعتصم إلى الشماسية فى سفينة حتى مرّت به سفن الزط وهم ينفخون فى البوقات، وأقاموا فى سفنهم ثلاثة أيام ثم نقلوا إلى الجانب الشرقى، فسلّموا إلى بشر بن السّميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت الروم عليهم فلم يفلت منهم أحد.
وفى هذه السنة أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به فجلد جلدا شديدا حتى غاب عقله، وتقطع جلده وحبس مقيّدا.
ودخلت سنة عشرين ومائتين
فى هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاووس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك الخرّمى فسار لذلك، فكان بينهما من الحروب ما نذكره فى سنة اثنتين وعشرين، عند الظفر ببابك ونذكر أخباره هناك إن شاء الله تعالى.
ذكر بناء سامرّا وهى سرّ من رأى
فى هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرّا، وكان سبب ذلك أنه قال:
إنى هاهنا أتخوّف الحربيّة أن يصيحوا صيحة فيقتلوا غلمانى، فأريد أن أكون فوقهم فإن رابنى منهم شىء قاتلتهم فى البر والماء حتى آتى عليهم؛ وقيل كان(22/245)
سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك، وكانوا لا يزالون يرون الواحد منهم بعد الواحد قتيلا، وذلك أنّهم كانوا جفاة يركبون الدّواب فيركضونها فى الشوارع، فيصدمون الرجل والمرأة والصبى فيأخذهم الأبناء عن دوابّهم فيضربونهم، وربما هلك أحدهم؛ ثم إن المعتصم ركب يوم عيد فقام إليه شيخ، فقال له: يا أبا إسحاق لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا- والمعتصم يسمع كلامه، ولم ير راكبا بعدها أبدا بل صلّى العيد وسار إلى ناحية القاطول ولم يرجع إلى بغداد.
قال: ولما خرج المعتصم من بغداد استخلف بها ابنه الواثق، وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحوف بمصر واستخدمهم وسماهم المغاربة، وجمع خلقا من سمرقند وأشرو سنة وفرغانة وسماهم الفراغنة، وكانوا من ثقاته فتركهم بعده بها.
وكان ابتداء العمارة بسامرّا فى سنة إحدى وعشرين ومائتين، وبنيت فى أسرع مدة وهى على شاطئ دجلة، وقيل إنّه أنفق على جامعها خمسمائة ألف دينار، وانتقل إليها وجعلها مقر خلافته، وقيل إنّه سماها بهذا الاسم لأنّه لما انتقل إليها بعساكره سرّ كل منهم برؤيتها، فسمّاها سرّ من رأى، ولما خرج المعتصم من بغداد نزل القاطول.
ذكر القبض على الفضل بن مروان بن أحمد بن عمارة الوزير
كان الفضل من البردان وكان حسن الخط، فاتصل بيحيى الجرمقانى كاتب المعتصم قبل خلافته، فلما هلك الجرمقانى صار الفضل مكانه، وتوجّه مع المعتصم إلى الشام ومصر فحصّل أموالا كثيرة، فلما صار المعتصم خليفة صار له اسمها وللفضل معناها، واستولى على الدواوين كلها وكنز الأموال،(22/246)
وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغنّى والنديم فلا ينفّذ الفضل ذلك، فثقل على المعتصم، وكان له مضحك اسمه إبراهيم، فأمر له المعتصم بمال فلم يعطه الفضل، فداعب المعتصم يوما إبراهيم فقال له إبراهيم: والله لا أفلحت، فضحك وقال: وهل بقى من الفلاح شىء لم أدركه بعد الخلافة؟ فقال:
أتظن أنك أفلحت؟! لا والله- مالك من الخلافة إلا اسمها، والله ما يجاوز أمرك أذنيك- إنما الخلافة الفضل، فقال: وأى أمر لى لم ينفّذ؟
فقال: أمرت لى من شهرين بكذا وكذا فلم أعط حبّة، فحقدها المعتصم على الفضل ثم نكبه هو وأهل بيته فى صفر من هذه السنة، وصيّر مكانه محمد بن عبد الملك الزيات فصار وزيرا وكاتبا.
وحجّ بالناس فى هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
حجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى؛ وكان فيها من محاربة بغا الكبير وبابك ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
ذكر أخبار بابك الخرّمى وفتح البذ وأسر بابك وقتله
كان ابتداء أمر بابك فى سنة إحدى ومائتين فى خلافة المأمون، وتحرك فى الجاويدانية- أصحاب جاويدان بن سهل صاحب البذ «1» ، وادعى أن روح جاويدان حلّت فيه، وتفسير جاويدان: الدائم الباقى، ومعنى خرّم:
الفرج، والرجل منهم ينكح أمه وأخته وابنته- ولهذا يسمونه دين الفرج،(22/247)
ويعتقدون التناسخ وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره، وكان لبابك فى أيام المأمون حروب مع جيوش المأمون، كان الظفر فيها لبابك وأصحابه، وقتل محمد الطوسى عامل المأمون على الموصل، فى سنة أربع عشرة ومائتين فى حرب كانت بينهم ولما حضرت المأمون الوفاة كان من جملة وصيّته للمعتصم غزو الخرّمية كما ذكرنا ذلك، فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم عقد للأفشين حيدر بن كاووس على الجبال، ووجّهه لحرب بابك فى سنة عشرين ومائتين، وكان قبل ذلك قد وجّه المعتصم- أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبنى الحصون التى خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون، ووجّه بابك سريّة فى بعض غاراته فأغارت ورجعت، فبلغ ذلك أبا سعيد فخرج فى طلب السريّة، فاعترضها فى بعض الطريق فظفر بهم وقتل وأسر منهم، وبعث بالرءوس والأسرى إلى المعتصم، وكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك، ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث، وذلك أن محمدا كان فى قلعة له حصينة تسمى شاهى من أذربيجان، وله حصن آخر فى أذربيجان يسمى تبريز «1» ، وكان مصالحا لبابك تنزل سراياه عنده فيضيفهم حتى أنسوا به، ثم وجّه بابك قائدا من قوّاده اسمه عصمة فى سرية، فنزل بمحمد بن البعيث فأنزل له الضيافة على عادته، واستدعاه إليه فى خاصته ووجوه أصحابه فصعدوا إليه، فغذاهم وسقاهم الخمر حتى سكروا، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمى له رجلا رجلا من أصحابه، فكان يدعو الرجل باسمه فيصعد فيضرب عنقه حتى علموا بذلك، وسيّر عصمة إلى المعتصم، فسأله عن بلاد بابك فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها، ثم حبسه فبقى إلى أيام الواثق؛ ثم سار الأفشين بعد ذلك إلى بلاد بابك، فنزل(22/248)
برزند «1» وعسكر بها وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل، ثم سار الأفشين والتقى ببابك واقتتلوا قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة فى سنة عشرين ومائتين، قتل فيها كثير من أصحاب بابك الذين كانوا معه، وأفلت هو فى نفر يسير، واستمرت الحرب بينه وبين بابك المرة بعد المرة إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ففتح الأفشين البذّ- مدينة بابك- وأسر بابك، وخرّب المسلمون المدينة واستباحوها وذلك لعشر بقين من شهر رمضان فى هذه السنة، وكانت حروب يطول شرحها انجلت «2» عن ظفر المسلمين.
قال: وكان الأفشين قد قصّر فى الحصار، فرأى رجل من أصحابه فى منامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول له: قل للأفشين- إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت فى أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة، وشاعت هذه الرؤيا فثار المتطوّعة وصمّموا على الحصار، وحاصروا وكانت حروب عظيمة انجلت «3» عن الفتح فى التاريخ المذكور، وهرب بابك ثم أحضر هو وأخوه عبد الله لعشر خلون من شوال، وكان وصولهما إلى المعتصم بسامرّا فى صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين. ولما وصل إلى سامرّا أمر المعتصم أن يركب فيلا والناس ينظرونه، وأدخل دار المعتصم فأمر بإحضار سيّاف بابك، وأمره أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط.
ثم أمر به فذبح وشقّ بطنه، وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامرّا.
وأمر بحملّ أخيه عبد الله إلى بغداد، وأن يفعل به كما فعل ببابك، ففعل به ذلك وصلب فى الجانب الشرقى بين الجسرين. وكان من قتله بابك فى عشرين سنة مائتى ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان؛ هذا ما كان أمره على سبيل الاختصار.(22/249)
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
ذكر قدوم الأفشين إلى سامرّا وما عامله به المعتصم
فى هذه السنة قدم الأفشين ببابك إلى سامرّا، فكان من أمر بابك وأخيه ما ذكرناه، وأما الأفشين فإن المعتصم كان يوجّه إليه فى كل يوم من حين سار من برزند إلى أن وافى سامرّا خلعة وفرسا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم وأهل بيته، فلما وصل إليه توجّه المعتصم وألبسه وشاحين، ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم ففرقها فى عسكره «1» ، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.
قال: وكان الذى أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك- سوى الأرزاق والأنزال والمعاون «2» فى كل يوم يركب فيه- عشرة آلاف «3» ، وفى غيره خمسة آلاف. قال: وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة نفر، واستنقذ ممن فى يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة، وصار فى يد الأفشين من بنى بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات «4» ثلاث وعشرون امرأة.
ذكر خروج الروم إلى زبطرة
فى هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل- ملك الروم- إلى بلاد الإسلام، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها، وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيّق(22/250)
عليه الأفشين كتب إلى ملك الروم، يعلمه أن المعتصم قد وجّه عساكره إليه، وجمع مقاتلته حتى وجّه خيّاطه وطبّاخه يعنى جعفر بن دينار الخياط ويعنى بالطباخ إيتاخ، ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس فى وجهك أحد يمنع، فخرج توفيل فى مائة ألف- وقيل أكثر من ذلك، فبلغ زبطرة فقتل من بها من الرجال وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون الإسلام، وسبى المسلمات ومثّل بمن صار فى يده من المسلمين، وسمل أعينهم وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج أهل الثغور من الشام والجزيرة إلا من لم يكن له دابّة ولا سلاح
ذكر فتح عمّوريّة
قال: لما فعل توفيل ما فعل واتصل الخبر بالمعتصم كبر لديه واستعظمه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهى فى أيدى الروم- وامعتصماه!! فأجابها- وهو على سريره- لبّيك لبّيك، ونهض من ساعته وصاح فى قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته وسمّط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة فيها زاده، ولم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة وجمع العساكر، ثم جلس فى دار العامّة وأحضر قاضيى بغداد عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب «1» بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده وثلثا لله تعالى وثلثا لمواليه، ثم سار فعسكر بغربى دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى، ووجّه عجيف بن عنبسة وعمرو «2» الفرغانى وجماعة من القواد إلى(22/251)
زبطرة معونة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد أن فعل ما ذكرناه، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم «1» واطمأنوا، ثم سار المعتصم وسأل: أى بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهى عين النصرانية وأشرف عندهم من قسطنطينية، فسار المعتصم من سامرّا- وقيل كان مسيره فى سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين ومائتين وتجهز جهازا لم يتجهزه خليفة قبله قط من سلاح وآلات وعدد وغير ذلك، وبث سراياه فيها وجيوشه- يغير ويقتل ويأسر ويغنم، ثم نزل بعمورية لست خلون من شهر رمضان وحاصرها ونصب عليها المجانيق، ووالى الزحف والقتال ودام عليها خمسة وخمسين يوما وكان بطارقة الروم قد اقتسموا «2» الأبراج، وكان وندوا موكل ببعضها ومعناه بالعربية «3» ثور، فقاتل قتالا شديدا وكثرت الجراحات فى أصحابه، فمشى إلى الروم وقال: إن الحرب علىّ وعلى أصحابى، ولم يبق معى أحد إلا جرح، فإما أن تمدونى وإلا ذهبت المدينة فلم يمدوه، وكان المسلمون قد هدموا ثلمة من السور مما يلى جهة وندوا، فعزم هو وأصحابه على الخروج إلى المعتصم، يسألونه الأمان على الذريّة ويسلّمون إليه الحصن بما فيه، فلما أصبح أوقف أصحابه بجانبى الثلمة وأمرهم ألا يحاربوا، فخرج إلى المعتصم فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة وقد أمسك الروم عن القتال، ووصل المسلمون الى الثلمة ووندوا بين يدى المعتصم، والناس يتقدمون حتى دخلوا المدينة، فالتفت وندوا وضرب بيده على لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟! قال: جئت أسمع كلامك فغدرت بى، فقال له المعتصم: كل شىء تريده فهو لك. قال: ولما دخل المسلمون المدينة صارت(22/252)
طائفة من الروم إلى كنيسة كبيرة، فأحرقها المسلمون عليهم فهلكوا بأجمعهم، وجاء ناطس «1» - وهو من البطارقة- فوقف بين يدى المعتصم، فضربه المعتصم سوطا وأخذ الروم السيف، وأقبل الناس بالأسرى والسبى من كل وجه، وكثرت الغنائم حتى كان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة، ولا ينادى على الشىء أكثر من ثلاثة أصوات طلبا للسرعة، وأمر المعتصم بعمورية فهدمت وأحرقت، وفرق الأسرى على القواد وسار نحو طرسوس
ذكر القبض على العباس بن المأمون وحبسه والأمر بلعنه ووفاته
وفى هذه السنة حبس المعتصم- العبّاس بن المأمون وأمر بلعنه، وسبب ذلك أن عجيف بن عنبسة اجتمع به ووبّخه، كونه بايع المعتصم وكونه لم يطلب الأمر لنفسه، وحثّه على طلب الأمر لنفسه. فقبل العباس قوله وأخذ يدبّر فى قتل المعتصم، وشرع فى طلب البيعة ووافقه جماعة من القواد، فنمى الخبر إلى المعتصم فأحضر العباس وسقاه حتى سكر ولطف به واستعلم الخبر منه فذكر له الحال على غرة، فقيّده وسلمه للأفشين فحبسه، فلما نزل منبج طلب العباس الطعام فقدم إليه طعام كثير. فأكل ومنع الماء وأدرج فى مسح، فمات بمنبج وصلّى عليه بعض إخوته، وتتبع المعتصم من كان قد وافقه على ذلك من القواد، فمنهم من فعل به مثل ذلك ومنهم من دفنه حيا، وعاد المعتصم إلى سامرا وأمسك أولاد المأمون فحبسهم فى داره حتى ماتوا.(22/253)
ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
ذكر مخالفة مازيار بطبرستان وأسره
فى هذه السنة أظهر مازيار بن قارن بن ونداهرمز «1» الخلاف على المعتصم، وعصى وقاتل عساكره، وسبب ذلك أنّه كان منافرا لعبد الله بن طاهر لا يحمل إليه خراجه، فكاتبه المعتصم فى ذلك فقال: لا أحمله إلا إليك، وكان المعتصم يأمر بأخذه من أصحاب مازيار بهمذان، ويسلمه لوكيل عبد الله بن طاهر، فلما ظفر الأفشين ببابك وعظم محله طمع فى ولاية خراسان، فراسل الأفشين مازيار فى الخلاف والخروج، على أنّه إذا خرج احتاج المعتصم إلى إرسال الأفشين لحربه، فينتقل من ذلك إلى ولاية خراسان، فخالف مازيار فكتب المعتصم لعبد الله بن طاهر بحربه، فأرسل ابن طاهر عمّه الحسن بن الحسين فى جيش كثيف لحفظ جرجان، فنزل مقابل سرخاستان، وقد بنى سرخاستان سورا على طميس وجعل له خندقا، ومقدار السور ثلاثة أميال ليمنع من الدخول إلى طبرستان، وكانت الأكاسرة تبنيه لتمنع الترك من الدخول إليها، ووجّه حيّان بن جبلة فى أربعة آلاف إلى قومس، فعسكر على حدّ جبال شروين، ووجّه المعتصم من عنده محمد بن إبراهيم بن مصعب ومعه الحسن بن قارن الطبرى، ووجه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الرى ليدخل طبرستان من ناحية الرى، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب وكان أصحاب سرخاستان يتحدثون مع أصحاب الحسن بن الحسين على غفلة من الحسن- ونظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا- وبلغ الحسن الخبر فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم خوفا عليهم فلم يقفوا- ونصبوا علمه على معسكر(22/254)
سرخاستان وهو فى الحمام- فهرب فى غلالة، ودخل أصحاب الحسن السور وهو يقول: اللهم إنهم عصونى وأطاعوك فانصرهم، واستولوا على عسكر سرخاستان وأسر أخوه شهريار فقتله الحسن، وسار سرخاستان حتى أجهده العطش، فنزل عن دابته وشدها، فضربه غلام له اسمه جعفر وجماعة من أصحابه، فسألهم الماء فأمسكوه وقالوا: نتقرب به إلى السلطان، فرجعوا به نحو العسكر فلقيتهم خيل الحسن بن الحسين فأخذوه منهم، وأتوا به الحسن فقتله ووجه برأسه إلى عبد الله بن طاهر.
وأما حيان بن جبلة- مولى ابن طاهر- فإنه كاتب قارن بن شهريار- وهو ابن أخى مازيار، ورغّبه فى الملك وضمنه له، وكان قارن من قواد مازيار وقد أنفذه مازيار مع أخيه عبد الله بن قارن ومعه عدة من القواد فضمن له قارن عند ذلك أن تسلم إليه الجبال ومدينة سارية وات؟؟؟ قارن طعاما ودعا عمّه عبد الله والقواد فأتوه، ووضعوا سلاحهم فأحدق بهم أصحابه وقبضوا عليهم ووجّه بهم إلى حيّان فاستوثق منهم، وركب فى أصحابه ودخل جبال قارن، وبلغ الخبر مازيار فاغتّم له، قال: ولما بلغ الخبر أهل سارية أخذ سرخاستان ودخول حيان جبال شروين وثبوا على عامل مازيار بها فهرب منهم، وأتى حيان المدينة، وبلغ قوهيار أخو مازيار الخبر، فأرسل إلى حيان يطلب منه الأمان، وأن يملك على جبال أبيه وجدّه ويسلم إليه مازيار، ثم مات حيان قبل الاتفاق فوجّه عبد الله مكانه عمه محمد بن الحسين، ثم صار الحسن بن الحسين إلى خرّماباذ، فأتته رسل قوهيار ثم جاءه بنفسه فأكرمه وأجابه إلى جميع ما طلب، وتواعدوا يوما فحضر مازيار عنده، ورجع قوهيار إلى أخيه مازيار فأعلمه أنه أخذ له الأمان واستوثق له، فركب الحسن يوم الميعاد ومعه ثلاثة غلمان أتراك- وإبراهيم بن مهران يدلّه على الطريق، حتى أتيا هرمز أباذ فأتاه المازيار مع القوهيار، فأخذه ووجّهه إلى سارية، وسار الحسن إلى هرمز أباذ فأحرق قصر المازيار وانتهب ماله، وسار(22/255)
إلى خرّماباذ فأخذ إخوة المازيار وحبسهم، وسار إلى مدينة سارية فأقام بها، وأمره عبد الله بن طاهر بإرسال المازيار إلى المعتصم وأهله معه، وأن يسلمه إلى محمد بن إبراهيم ليسير به ففعل ذلك، وأمره أن يستصفى «1» أمواله ويحرزها، فأحضره وسأله عن أمواله فذكر أنها عند خزّانه فضمن القوهيار ذلك، وقال المازيار: اشهدوا على أن جميع ما أخذت من أموالى ستة وتسعون ألف «2» دينار وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت، وثمانية أحمال من ألوان الثياب، وتاج وسيف مجوهر «3» ، وخنجر»
من ذهب مكلّل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا- قيمته ثمانية عشر ألف ألف درهم، وقد سلّمت ذلك إلى خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على عسكره، وكان المازيار قد أخذ هذا ليوصله إلى الحسن ابن الحسين ليظهر للناس أنه أمنه على نفسه وماله وولده، وأنه جعل له جبال أبيه فامتنع الحسن من قبوله- وكان من أعف الناس، ثم أمر الحسن قوهيار أن يتوجه لحمل مال المازيار، وأعطاه من البغال «5» ما يحملها عليها، وأراد أن ينفذ معه جيشا فقال: لا حاجة لى بهم، وسار فى غلمانه ففتح الخزائن وأخذ الأموال، فلما عبّأها وثب عليه مماليك المازيار- وكانوا ديالم «6» ، فقالوا: إنك غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله!! وكانوا ألفا ومائتين فأخذوه وقيّدوه، فلما جنّهم الليل قتلوه وانتهبوا المال؛ وانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا ووجّه قارن جيشا، وبلغ محمد بن إبراهيم الخبر فأرسل فى أثرهم فأخذوا، وبعثهم إلى مدينة سارية(22/256)
قال: وقد قيل إن سبب أسر المازيار أنه كان له ابن عم اسمه قوهيار، كان له جبال طبرستان وللمازيار السهل، فألزمه مازيار بابه وولّى الجبال غيره، فلما خالف مازيار دعا قوهيار ابن عمه- وقيل كان أخاه، وقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين وكتبه، وأمره بالعود إلى جبله وحفظه، وأمر الذى ولّاه بعده على الجبل واسمه درّى وأمره بالانضمام إليه بالعساكر، ووجهه إلى محاربة الحسن بن الحسين، وبقى المازيار فى مدينته فى نفريسير، فدعا قوهيار الحقد الذى فى قلبه أن كاتب الحسن وكاتبه الحسن، وضمن له ما يريد وأن يعيد إليه جبله وما كان فى يده لا ينازع فيه، فرضى بذلك ووعده بتسليم الجبل، فلما جاء الميعاد تقدّم الحسن فحارب درّى، وكان درى قد انفرد بالمواضع المخوفة، وأرسل عبد الله بن طاهر جيشا كثيفا فوافوا قوهيار، فسلّم إليهم الجبل فدخلوه، ودرّى يحارب الحسن ومازيار فى قصره، فلم يشعر إلا والخيل على باب قصره فأخذوه أسيرا، وقيل أخذ وهو يتصيد، وقصدوا به نحو درى وهو يقاتل، فلم يشعر هو وأصحابه إلا والخيل من ورائهم ومعهم مازيار، فانهزم درّى فأدركوه وقتلوه وحملوا رأسه إلى عبد الله بن طاهر، وحملوا المازيار فأوعده «1» عبد الله- إن هو أظهره على كتب الأفشين- أن يسأل فيه المعتصم ليصفح عنه، فأقرّ المازيار بذلك وأحضر الكتب إليه فسيّرها إلى المعتصم، فلما توجه مازيار إلى المعتصم سأله عن الكتب فأنكرها، فضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك، وقيل إنه اعترف للمعتصم بالكتب والله أعلم، وكان قتله فى سنة خمس وعشرين.
ذكر عصيان منكجور قرابة الأفشين والظفر به
قال: وكان الأفشين قد استعمل منكجور- وهو من أقاربه- على أذربيجان، فوجد فى بعض قرى بابك مالا عظيما فأخذه، ولم يطالع به(22/257)
المعتصم ولا الأفشين، فكتب صاحب البريد بذلك إلى المعتصم، فطولب بالمال فأنكره وكذّب صاحب البريد وهّم بقتله، فمنعه أهل أردبيل منه فقاتلهم منكجور، فأمر المعتصم الأفشين بعزله فعزله، ووجه قائدا من القوّاد إليه فخلع منكجور يده من الطاعة، وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، والتجأ إلى حصن من حصون بابك الذى كان قد خرّبها بابك فعمره وأقام به، فبقى شهرا ثم وثب عليه أصحابه فسلّموه للقائد، فقدم به إلى سامرّا فى سنة خمس وعشرين. وقيل إن القائد كان بغا الكبير وأن منكجور خرج إليه بأمان، واتهم الأفشين بمباطنته.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود «1»
ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
ذكر القبض على الأفشين وحبسه ووفاته وصلبه
فى هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه، وذلك لما ظهر عنه من مباطنة المازيار وغيره، فأحضره وقوبل على ذلك وحوقق على ما كان قد قصده من الخلاف، وحبس إلى أن مات فى سنة ست وعشرين ومائتين، وقيل منع عنه الطعام حتى مات، ولما مات أمر المعتصم بإخراجه وصلبه على باب العامة، ووجد بقلفته، ثم ألقى وأحرق وأخذ ماله، ووجد فى داره أصناما وكتابا من كتب المجوس، ورتب المعتصم بعده على الحرس إسحاق بن يحيى بن معاذ. وفيها استعمل إيتاخ على اليمن وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود «2»
ودخلت سنة ست وعشرين ومائتين
فى هذه السنة حج بالناس محمد بن داود بأمر إشناس، وكان إشناس(22/258)
حاجا وقد جعل إليه ولاية كل بلد يدخله، وخطب له على منابر مكة والمدينة وغيرها من البلاد التى اجتاز بها إلى مدينة سامرّا.
ودخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
ذكر خروج المبرقع بفلسطين
وفى هذه السنة خرج أبو حرب اليمانى المبرقع بفلسطين على المعتصم، وكان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول فى داره وهو غائب، فمنعه بعض نسائه فضربها الجندى بسوط فأصاب ذراعها، فلما رجع أبو حرب إلى داره اشتكت إليه ما فعل بها الجندى، فقتله أبو حرب وهرب وتبرقع، وقصد بعض جبال الأردن فأقام به؛ وكان يظهر بالنهار متبرقعا فإذا جاءه أحد أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ويذكر الخليفة ويعيبه فاستجاب إليه قوم من فلاحى تلك الناحية، وكان يزعم أنّه أموىّ فقال أصحابه هذا السفيانى، فلما كثر أتباعه من هذه الطبقة، دعا أهل البيوتات فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس- كان مطاعا فى أهل اليمن، ورجلان من أهل دمشق، فاتصل خبره بالمعتصم فى مرضه الذى مات فيه، فسيّر لحربه رجاء بن أيوب الحضارى فى زهاء ألف رجل من الجند فرآه فى عالم كثير يبلغون مائة ألف رجل، فكره رجاء مواقعته وعسكر فى مقابلته، حتى كان أوان الزراعة وعمل الأرضين فانصرف من كان مع المبرقع إلى عملهم، وبقى فى زهاء ألف أو ألفين، وتوفى المعتصم وولى الواثق وثارت الفتنة بدمشق على ما نذكره فأمر الواثق رجاء بقتال من أثار الفتنة، والعود إلى المبرقع ففعل ذلك، وعاد والتقى العسكران، فقال رجاء لأصحابه: ما أرى فى عسكره رجلا له شجاعة غيره، وأنه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده، فإذا حمل فأفرجوا له، فما لبث أن حمل المبرقع(22/259)
فأفرجوا له فجاوزهم «1» ورجع إلى أصحابه، ثم حمل الثانية فلما أراد الرجوع أحاطوا به وأخذوه أسيرا. وقيل إنّ خروجه كان فى سنة ست وعشرين بنواحى الرملة، وصار فى خمسين ألفا، فوجّه المعتصم إليه رجاء الحضارى فقاتله وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل من أصحاب المبرقع نحوا من عشرين ألفا، وأسر المبرقع فيمن أسر، وحمل إلى سامرا والله تعالى أعلم
ذكر وفاة أبى إسحاق المعتصم وشىء من أخباره
كانت وفاته فى يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وكان بدء علّته أنّه احتجم فى أول يوم من المحرم فاعتل ومات، وكان أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون بحمرة حسن العينين وكان شديد القوة، قيل إنه كان يرفع بيده ألف رطل ويمشى بها خطوات، وكان من أشجع الناس، وقيل إنه كان أميّا لا يكتب، ومن العجب أن الرشيد أخرجه من الخلافة وعهد إلى الأمين والمأمون والمؤتمن، فساق الله الخلافة إليه، وجعل الخلافة فى ولده ولم يكن من نسل أولئك خليفة، والمعتصم هو المثمن من اثنى عشر وجها: هو الثامن من ولد العباس، الثامن من الخلفاء منهم، وولى سنة ثمانى عشرة ومائتين، وكانت خلافته ثمانى سنين، وثمانية أشهر، ومات وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وولد فى شعبان وهو الشهر الثامن من الشهور، وخلف ثمانية ذكور:
منهم هارون الواثق وجعفر المتوكل ومحمد المستعين، وثمانى بنات، وغزا ثمانى غزوات، وخلف ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها من الدراهم.
قال بعض المؤرخين: كان له من المماليك سبعون ألفا سوى الأحرار.
وكان نقش خاتمه: الله ثقة أبى إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن؛ وزراؤه.(22/260)
الفضل بن مروان بن أحمد بن «1» عمارة إلى أن نكبه كما ذكرنا، ثم محمد بن عبد الملك الزيات، وهو الذى رثاه بقوله:
قد قلت إذ غيّبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين
اذهب فنعم المعين «2» كنت على ... الدنيا ونعم الظهير «3» للدين
لن «4» يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
حجابه: وصيف مولاه ثم محمد بن حماد. قضاته: شعيب بن سهل ثم محمد بن سماعة ثم عبد الله بن غالب، وقيل إنّ أحمد بن أبى دؤاد الإيادى كان قاضى القضاة، وأن جعفر بن عيسى من ولد الحسن البصرى كان من قضاته، الأمراء بمصر: كيدر ثم ولده المظفر، ثم ردّت مصر إلى اشناس فاستخلف عليها موسى بن «5» ثابت الحنفى من أهل الشاش، ثم مالك بن كيدر ثم على بن يحيى الأرمنى. القضاة بها: هارون الزهرى ثم محمد بن أبى الليث الخوارزمى.
قال: ومن أخبار المعتصم الدالة على كرمه ومكارم أخلاقه أنه بينما هو يسير وحده- وقد انفرد عن أصحابه- إذ مرّ بشيخ معه حمار عليه شوك.
وقد زلق الحمار من المطر وسقط حمله، فسأله المعتصم عن حاله، فأخبره أنه ينتظر من يعينه على رفع الشوك على ظهر الحمار، فنزل المعتصم عن دابته وخلص الحمار من الوحل، ورفع عليه الحمل- والشيخ يقول: بأبى أنت وأمى- لا تهلك ثيابك، فيقول: لا عليك ثم غسل يديه وركب، فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شاب، ثم لحقه أصحابه فأمر للشيخ بأربعة آلاف(22/261)
درهم، ووكل به من يوصله إلى بيته؛ وقال ابن أبى دؤاد: تصدق المعتصم ووهب على يدى مائة ألف ألف درهم، هذا على يد رجل واحد فما ظنّك بغيره!! قال بعض المؤرخين: إنه لما فتح عموريه امتدحه أبو تمام حبيب ابن أوس الطائى بقصيدته التى أولها:
السيف أصدق إنباء من الكتب فأعطاه عن كل بيت بها ألف درهم، وقيل إنّه أقطعه مدينة الموصل رحمه الله تعالى.
ذكر خلافة الواثق بالله
هو أبو جعفر هارون بن المعتصم بن الرشيد هارون بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها قراطيس، وهو التاسع من الخلفاء العباسيين، بويع له فى يوم وفاة أبيه لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين ومائتين
ذكر الفتنة بدمشق
قال: لما توفى المعتصم ثارت القيسية بدمشق وعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم، فبعث الواثق إلى رجاء بن أيوب الحضارى، وكان قد توجّه لحرب المبرقع بفلسطين كما قدمناه، فرجع إليهم فنزل بدير مرّان، وكانوا معسكرين بمرج راهط فدعاهم إلى الطاعة، فلم يرجعوا وتوعدوا الحرب بدومة يوم الإثنين، فلما كان يوم الأحد تفّرقت القيسيّة، وسار رجاء إلى دومة الجندل وبعضهم فى حوائجه، فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وقتل من أصحابه ثلاثمائة، وهرب مقدّمهم وهو ابن بيهس، وصلح أمر دمشق وعاد رجاء إلى حرب المبرقع فأسره كما ذكرناه.
وحج بالناس فى هذه السنة جعفر بن المعتصم.(22/262)
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
فى هذه السنة أعطى الواثق لإشناس تاجا ووشاحين. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود، وغلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما، وأصاب الناس فى الموقف حرّ شديد، ثم أصابهم مطرفيه برد، فاشتد البرد عليهم بعد ساعة من ذلك الحر الشديد، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت عدة من الحجاج.
ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
فى هذه السنة حبس الواثق الكتاب وألزمهم أموالا عظيمة، فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومق سليمان بن وهب- كاتب إيتاخ- أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح «1» وكتابه مائة ألف دينار «2» ، ومن أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن أبى الوزير «3» مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار. وكان سبب ذلك أنه ذكر عنده نكبة البرامكة، وما حصّل الرشيد من أموالهم، فنكبهم بعد جمعة وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن داود
ودخلت سنة ثلاثين ومائتين
ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة وما كان من أمرهم
فى هذه السنة وجّه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب، الذين أغاروا بنواحى المدينة، وكان سبب ذلك أن بنى سليم كانت تفسد جول المدينة، ثم(22/263)
قويت شوكتهم واغتصبوا أموال الناس، وأوقعوا بقوم «1» من كنانة وباهلة وقتلوا بعضهم فى جمادى الآخرة من هذه السنة، فوجّه إليهم محمد بن صالح- عامل المدينة- حماد بن جرير الطبرى فى جيش فقاتلوه، واشتد القتال فقتل حمّاد وعامّة أصحابه، وأخذ بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، فزاد طمعهم ونهبوا القرى والمناهل ما بين مكة والمدينة، فوجه إليهم الواثق بغا الكبير فى جمع من الجند، فقدم المدينة فى شعبان فلقيهم ببعض مياه الحرّة- من وراء السّوارقيّة وهى قريتهم، التى يأوون إليها وبها حصون، فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم وانهزم الباقون، وأقام بغا بالسوارقيّة ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق، فأتوه متفرقين فنزل عنده من يعرف منهم بالفساد وهم زهاء ألف رجل، وخلّى سبيل الباقين وعاد بالأسرى إلى المدينة فى ذى القعدة، فحبسهم بها ثم سار إلى مكة، فلما قضى حجه سار إلى ذات عرق، وعرض على بنى هلال مثل الذى عرض على بنى سليم فقبلوه، فأخذ من مفسديهم نحو ثلاثمائة رجل إلى المدينة فحبسهم، ثم سار إلى بنى مرّة فنقب الأعراب السجن ليخرجوا، فرأت امرأة النقب فصاحت يا أهل المدينة! فجاءوا فوجدوهم قد قتلوا الموكلين وأخذوا سلاحهم، فاجتمع أهل المدينة وقاتلوهم، فقتل سودان المدينة كل من وجدوه منهم، وكان مقتلهم فى سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
وفيها- أعنى سنة ثلاثين ومائتين- مات عبد الله بن طاهر بنيسابور، وهو أمير خراسان والسواد والرى وطبرستان وكرمان وما يتصل بها، وكان خراج هذه الأعمال يوم وفاته ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فاستعمل الواثق على أعماله كلها ولده طاهر بن عبد الله بن طاهر. مات أشناس التركى بعد موت ابن طاهر بسبعة أيام(22/264)
ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
ذكر خبر أحمد بن نصر «1» بن مالك الخزاعى وما كان من أمره
فى هذه السنة تحرّك ببغداد قوم مع أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعى، وجده مالك أحد نقباء بنى العباس، وكان سبب هذه الحركة أن أحمد بن نصر كان يغشاه أصحاب الحديث كابن معين وابن الدورقى وأبى زهير، وكان يخالف من يقول بخلق القرآن ويطلق لسانه فيه، مع غلظة الواثق، وكان يقول إذا ذكر الواثق: فعل هذا الخنزير، وقال: هذا الكافر، وفشا ذلك، وكان يغشاه رجل يعرف بأبى هارون السراج وآخر يقال له طالب وغيرهما، فدعوا الناس إليه فبايعوه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفرّق أبو هارون وطالب فى الناس مالا، فأعطيا كل رجل دينارا، واتعدوا ليلة الخميس لثلاث خلون من شعبان، ليضربوا بالطبل ويثوروا «2» على السلطان، وكان أحدهما فى الجانب الشرقى من بغداد والآخر بالغربى، فاتفق أن رجلين ممّن بايعهم من بنى الأشرس شربا نبيذا ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، فلما أخذ منهم ضربوا الطبل فلم يجبهم أحد، فسمع صاحب الشرطة الطبل فسأل عن الخبر، فدل على رجل يكون فى الحمّام مصاب العين يعرف بعيسى الأعور، فأخذه وقرّره فقرّ على بنى الأشرس وأحمد بن نصر وغيرهم، فأخذ بعض من سمّى وفيهم طالب وأبو هارون، ورأى فى منزل بنى الأشرس علمين أخضرين، ثم أخذ خادما لأحمد بن نصر فقرّره فأقرّ بمثل ما قال عيسى، فأرسل إلى أحمد فأخذه وهو فى الحمام، وفتش بيته فلم يجد فيه سلاحا ولا شيئا من الآلات، فسيّرهم إلى الواثق مقيدين على بغال بأكف بغير وطاء «3» إلى سامرّا، فجلس الواثق(22/265)
مجلسا عامّا فيه أحمد بن أبى دؤاد، فلما حضر أحمد بن نصر عند الواثق لم يذكر له شيئا من فعله والخروج عليه، بل قال له: ما تقول فى القرآن؟
قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: فما تقول فى ربك- أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين- جاءت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر- لا تضامون فى رؤيته) ، وحدثنى سفيان بحديث رفعه (أنّ قلب ابن آدم [المؤمن «1» ] بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه) ، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبى على دينك، فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟! فقال عبد الرحمن بن إسحاق: هو حلال الدم، وقال بعض أصحاب ابن أبى دؤاد: اسقنى دمه، وقال ابن أبى دؤاد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل، وكان كارها لقتله، فقال الواثق: إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد، فإنى احتسب خطاى إليه، ودعا بالصّمصامة ومشى إليه وهو فى وسط الدار على نطع، فضربه على حبل عاتقه ثم ضربه على رأسه، ثم ضرب سيما الدمشقى عنقه وطعنه الواثق بطرف الصمصامة فى بطنه، وصلب عند بابك وحمل رأسه إلى بغداد فنصب بها، وكتب فى أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر، وتتبع أصحابه فجعلوا فى الحبوس هذا ما حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل.
وقد حكى الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت «2» خبر مقتله، فذكر ما تقدّم وذكر زيادات أخرى بأسانيد رفعها، قد رأينا أن نثبت منها طرفا، فقال بسند رفعه إلى محمد بن يحيى الصولى: إنّه لما حمل أحمد بن(22/266)
نصر وأصحابه إلى الواثق بسرّ من رأى جلس لهم الواثق، وقال لأحمد بن نصر: دع ما أخذت له- قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله، قال: أفترى ربك فى يوم القيامة؟
قال: كذا جاءت الرواية، قال: ويحك!! كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر!! أنا أكفر برب هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فذكر من كلام عبد الرحمن بن إسحاق ما تقدم، وقال جماعة من الفقهاء كما قال، فأظهر ابن أبى دؤاد أنّه كاره لقتله فقال للواثق: يا أمير المؤمنين- شيخ مختلّ لعله به عاهة أو تغير عقل، يؤخر أمره ويستتاب، فقال الواثق: ما أراه إلا مؤديا لكفره، قائما بما يعتقد منه، وذكر من قيام الواثق إليه نحو ما تقدّم، إلا أنّه قال إن الواثق ضرّب عنقه.
ثم قال بسند آخر رفعه إلى جعفر بن محمد الصائغ «1» أنه قال: بصر عيناى- وإلا فعميتا- وسمع أذناى- وإلا فصمتّا- أحمد بن نصر الخزاعى حيث ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.
وقال بسند آخر إلى العباس بن سعيد «2» : نسخة الرقعة المعلقة فى أذن أحمد بن نصر- بسم الله الرحمن الرحيم هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون- وهو الواثق بالله أمير المؤمنين- إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره.
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات «3» قال: ولما جلس المتوكل دخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكى فقال: يا أمير المؤمنين- ما رئى أعجب من أمر الواثق قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن، قال:
فوجد المتوكل من ذلك وساءه ما سمعه فى أخيه، إذ دخل عليه محمد بن عبد(22/267)
الملك الزيات، فقال له: يا ابن عبد الملك- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال له: يا أمير المؤمنين- أحرقنى الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، ودخل عليه هرثمة فقال: يا هرثمة- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين- قطعنى الله إربا إربا إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، قال: ودخل عليه أحمد بن أبى دؤاد، فقال:
يا أحمد- فى قلبى من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين- ضربنى الله بالفالج إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنّه هرب وتبّدى، واجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل فى الحىّ فقال: يا معشر خزاعة- هذا الذى قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه إربا إربا، وأما ابن أبى دؤاد فقد سجنه الله فى جلده.
وقال أحمد بن كامل القاضى «1» عن أبيه أنه وكل برأس أحمد بن نصر من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر ببغداد، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس بلسان طلق، وأنّه لما أخبر بذلك طلب فخاف على نفسه فهرب. وقال بسند آخر إلى إبراهيم بن إسماعيل بن خلف «2» : كان أحمد بن نصر خلّى، فلما قتل فى المحنة وصلب رأسه أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت فبت بقرب من الرأس مشرفا عليه، وكان عنده رجّالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «3»
فاقشعر جلدى، ثم رأيته بعد ذلك فى المنام وعليه السندس والاستبرق وعلى(22/268)
رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله بك يا أخى؟ قال: غفر لى وأدخلنى الجنّة، إلا أنى كنت مغموما ثلاثة أيام، قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بى فلما بلغ خشبتى حوّل وجهه عنى، فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله- قتلت على الحق أو على الباطل؟ فقال: أنت على الحق ولكن قتلك رجل من أهل بيتى، فإذا بلغت إليك أستحيى منك.
وقال بسند إلى أبى جعفر الأنصارى «1» : سمعت. محمد بن عبيد- وكان من خيار الناس- يقول: رأيت أحمد بن نصر فى منامى فقلت يا أبا عبد الله ما صنع بك ربك؟ قال: غضبت له فأباحنى النظر إلى وجهه تعالى.
قال: وكان مقتله يوم السبت غرة رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وأنزل رأسه يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وثلاثين ومائتين، وجمع رأسه وبدنه ودفن بالجانب الشرقى فى المقبرة المعروفة بالمالكية
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
فى هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فاجتمع المسلمون على نهر اللّامس على مسيرة يوم من طرسوس، واشترى الواثق من ببغداد وغيرها من الروم، وعقد الواثق لأحمد بن سلّم «2» بن قتيبة الباهلى على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وخاقان الخادم، وأمرهما أن يمتحنا أسرى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأنّ الله لا يرى فى الآخرة- فودى به وأعطى دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك فى أيدى الروم، فلما كان فى عاشوراء سنة إحدى وثلاثين اجتمع المسلمون ومن معهم من الأسرى على نهر، وأتت الروم ومن معهم من الأسرى، وكان النهر بين الطائفتين، فكان(22/269)
المسلمون يطلقون أسيرا فيطلق الروم أسيرا ويلتقيان فى وسط النهر، ويأتى هذا لأصحابه وهذا لأصحابه حتى فرغوا، وكان عدّة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين «1» نفسا، والنساء والصبيان ثمانمائة، وأهل الذمة مائة نفس.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
ذكر وفاة أبى جعفر الواثق وشىء من أخباره
كانت وفاته بسامرا فى يوم الأربعاء لست بقين من ذى الحجة منها، وكانت علته «2» الاستسقاء فعولج بالإقعاد فى تنور مسخن، فوجد لذلك خفة فأمرهم من الغد بالزيادة فى إسخانه، ففعل ذلك وجلس فيه أكثر من اليوم الأول، فحمى عليه فأخرج منه ووضع فى محفة فمات فيها، ولم يشعر به حتى ضرب وجهه المحفة؛ وقيل إن أحمد بن أبى دؤاد حضر وفاته وغمّضه، وقيل إنه لما حضرته الوفاة جعل يردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم تبقى ولا ملك
ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم ... وليس يغنى عن الأملاك «3» ما ملكوا
وأمر بالبسط فطويت وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. وقال أحمد بن محمد الواثقى: كنت فيمن يمرّض»
الواثق، فلحقته غثية وأنا وجماعة من أصحابة قيام، فقلنا لو عرفنا خبره! فتقدمت إليه فلما صرت عند رأسه فتح عينيه فكدت أموت خوفا،(22/270)
فرجعت إلى خلفى وتعلقت قنبعة «1» سيفى بعتبة المجلس، فاندقت وسلمت من جراحه، ووقفت فى موقفى ثم مات الواثق وسحبناه، وجاء الفراشون فأخذوا ما تحته فى المجلس ورفعوه لأنه مكتوب عليهم، واشتغل الناس بأخذ البيعة وجلست على باب المجلس لحفظ الميت، ورددت الباب فسمعت حسّا ففتحت الباب، فإذا جرذ قد دخل من بستان هناك فأكل إحدى عينى الواثق؛ فقلت: لا إله إلا الله- هذه العين التى فتحها من ساعة، فاندق سيفى هيبة لها، صارت طعمة لدابة ضعيفة، فسألنى ابن أبى دؤاد عن عينه فذكرت له القصة فعجب منها، وصلّى عليه ابن أبى دؤاد وأنزله فى قبره، وقيل صلّى علية أخوه المتوكل، ودفن بالهارونى، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة، وقيل ستا وثلاثين سنة وشهورا، وقيل سبعا وثلاثين، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام. وكان أبيض مشربا بحمرة جميلا ربع القامة حسن الجسم بعينه اليمنى وقيل اليسرى نكته بياض.
وقد وقفت فى أثناء مطالعتى على حكاية غريبة اتفقت للواثق، أحببت أن أضمها إلى أخباره، وهى ما رواه أبو الفرج الأصبهانى «2» بسنده إلى محمد ابن الحارث، قال: كانت لى نوبة فى خدمة الواثق فى كل جمعة. إذا حضرت ركبت إلى الدار، فإن نشط إلى الشرب أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت، وكان رسمنا الا يحضر أحد منا إلا يوم نوبته، فإنى لفى منزلى فى يوم غير يوم نوبتى إذا برسل قد هجموا على، وقالوا لى: احضر، فقلت خيرا «3» ، قالوا: خير، فقلت: إنّ هذا يوم لم يحضرنى فيه أمير المؤمنين قط، ولعلكم غلطتم، قالوا: الله المستعان- لا تطل «4» وبادر، فقد أمرنا ألا ندعك تستقر على الأرض، فدخلنى فزع شديد وخفت أن يكون سعى بى(22/271)
ساع «1» ، أو بليّة قد حدثت فى رأى الخليفة علىّ، فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار، فذهبت لأدخل على رسمى من حيث كنت أدخل فمنعت، وأخذ بيدى الخدم فعدلوا «2» بى إلى ممرات لا أعرفها، فزاد ذلك فى جزعى وغمّى، ثم لم يزل الخدم يسلموننى من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة بالصخر «3» ، ملبّسة الحيطان بالوشى المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة «4» بمثل ذلك.
قال: وإذا الواثق فى صدره على سرير مرصّع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفى حجرها عود، فلما رآنى قال: جوّدت «5» والله يا محمد- إلينا إلينا، فقبّلت الأرض ثم قلت: يا أمير المؤمنين- خيرا! قال: خيرا «6» - ما ترانا طلبت والله ثالثا يؤنسنا! فلم أر أحق بذلك منك، فبحياتى بادر فكل شيئا وبادر إلينا، والله «7» - يا سيّدى- قد أكلت وشربت أيضا، قال: اجلس فجلست.
وقال: هاتوا لمحمد رطلا فى قدح فأحضرت ذلك، واندفعت فريدة تغنى:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علىّ ولكن ملء عين «8» حبيبها
وما هجرتك النفس يا ليل أنّها ... قلتك ولا أن قلّ منك يصيبها
فجاءت والله بالسحر، وجعل الواثق يجاذبها وفى خلال ذلك نغنى «9» الصوت بعد الصوت، وأغنّى فى خلال غنائها، فمرّ لنا أحسن ما مرّ لأحد، فإنّا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة، ضربة(22/272)
تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتّت عودها، ومرّت تعدو وتصيح وبقيت كالمنزوع الروح، فلم أشك فى أنّ عينه وقعت علىّ- وقد تظرت إلىّ ونظرت إليها، فأطرق ساعة «1» إلى الأرض متحيرا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق، فإنى لكذلك إذ قال لى: يا محمد- فوثبت، فقال:
ويحك أرأيت أعجب «2» ممّا تهيّأ علينا!! فقلت: يا سيّدى الساعة «3» تخرج روحى، فعلى من أصابنا بعين لعنة الله، فما كان السبب والذنب «4» ؟
قال: لا والله، ولكنّى ذكرت «5» فى أنّ جعفرا يقعد غدا هذا المقعد، وتقعد معه كما هى قاعدة معى، فلم أطق الصبر وخامرنى ما أخرجنى إلى ما رأيت، فسرّى عنّى وقلت: بل يقتل الله جعفرا ويحيا أمير المؤمنين أبدا، وقبّلت الأرض وقلت: يا سيدى «6» إرحمها ومر بردّها، فقال لبعض الخدم الوقوف مرّ «7» وجىء بها، فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفى يدها عود، وعليها غير الثياب التى كانت عليها، فلما رآها جذبها إليه وعانقها، فبكت وجعل هو يبكى واندفعت أنا فى البكاء، فقالت: ما ذنبى يا مولاى «8» ؟ وبأى شىء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قال لى وهو يبكى «9» ، فقالت سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقى الساعة، وأرحتنى من الفكر فى هذا وأرحت قلبك من الهمّ «10» ، وجعلت تبكى ويبكى ثم مسحا أعينهما، ثم رجعت إلى الغناء، وأومأ إلى خدم وقوف بشىء(22/273)
لا أعرفه، فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق، ورزما فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه، فألبسه إياها، وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف «1» فجعلت بين يدى، وخمسة تخوت فيها ثياب، وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن ما كنّا «2» فيه، فلم نزل كذلك إلى الليل ثم تفرّقنا، وضرب الدهر ضربة وتولى المتوكل، فو الله إنى لفى منزلى بعد «3» يوم نوبتى، إذ هجم علىّ رسل «4» الخليفة فلم يمهلونى حتى ركبت وصرت إلى الدار، فأدخلت- والله- الحجرة بعينها، وإذا المتوكل فى الموضع الذى كان فيه الواثق على السرير بعينه وإلى جانبه فريدة، فلما رآنى قال: ويحك ما ترى ما «5» أنا فيه من هذه- منذ غدوة!! أطالبها أن تغنى «6» فتأبى ذلك، فقلت لها: يا سبحان الله تخالفين سيّدك وسيّدنا وسيّد البشر!! بحياته غنّى فضربت «7» والله ثم اندفعت تغنّى:
مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر والثماد «8»
فلا تبعد فكل فتى سيأتى ... عليه الموت يطرق أو يغادى
ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير، ومرّت تعدو وهى تصيح وا سيّداه، فقال لى: ويحك ما هذا فقلت: لا أدرى والله- يا سيّدى، قال: ما ترى؟ قلت أرى»
أن تحضر هذه ومعها(22/274)
غيرها فإنّ الأمر يئول إلى ما يريد أمير المؤمنين، قال: فانصرف فى حفظ «1» الله، فلم أدر ما كانت القصّة.
قال: وكان الواثق قد ذهب فى أموره مذهب المأمون، وشغل نفسه بمحنة الناس فى الدين وأفسد قلوبهم، ولما ولى الخلافة أحسن إلى العلويين واشتمل عليهم وبالغ فى إكرامهم وتعاهدهم بالأموال؛ وفرّق فى أهل الحرمين أموالا لا تحصى، حتى إنه لم يوجد فى أيامه بالحرمين سائل، حتى إنّه- لما توفى- كان أهل المدينة تخرج من نسائهم كل ليلة إلى البقيع فيبكين عليه ويندبنه، يفعلن ذلك بينهن مناوبة حزنا عليه لإحسانه لهم؛ وأطلق فى خلافته أعشار سفن البحر وكانت مالا عظيما.
وكان نقش خاتمه: الله ثقة الواثق. أولاده: محمد المهتدى بالله، وعبد الله، وإبراهيم، ومحمد وعائشة. وزيره: محمد بن عبد الملك الزيات. حجابه إيتاخ ثم وصيف مولاه ثم أحمد بن عمار. قاضيه: أحمد ابن أبى دؤاد. الأمراء بمصر: على بن يحيى الأرمنى ثم عيسى بن منصور من قبل إشناس، فلما توفى إشناس ردّت مصر إلى إيتاخ فأقرّ عيسى بن منصور عليها. قاضيها: محمد بن أبى الليث.
ذكر خلافة المتوكّل على الله
هو أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه تركية اسمها شجاع، وهو العاشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم وفاة أخيه الواثق لست بقين من ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، قال: ولما توفى الواثق حضر الدار أحمد بن أبى دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر ابن فرج وابن الزيات وأبو الوزير أحمد بن خالد، وعزموا على البيعة لمحمد(22/275)
ابن الواثق وهو غلام أمرد قصير، فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة فإذا هو قصير، فقال وصيف: أما تتقون الله- تولون مثل هذا الخلافة!! فتناظروا فيمن يولّونه فذكروا عدة ثم أحضروا المتوكل، فألبسه أحمد بن أبى دؤاد الطويلة وعمّمه وقّبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، وكان عمر المتوكل يوم ذاك ستا وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر. قال: وأراد ابن الزيات أن يلقّبه، فقال أحمد ابن أبى دؤاد: قد رأيت لقبا أرجو أن يكون موافقا- وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه فكتب به إلى الآفاق. وقيل بل رأى المتوكل فى منامه قبل أن يستخلف كأنّ سكّرا ينزل من السماء- مكتوب عليه المتوكل على الله، فقصّها على أصحابه فقالوا: هى الخلافة، فبلغ ذلك الواثق فحبسه وضيّق عليه.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات
وفى هذه السنة لسبع «1» خلون من صفر قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، وكان سبب ذلك أنّ الواثق كان قد استوزره وفوّض إليه الأمور كلها، وكان قد غضب على أخيه جعفر المتوكل، ووكل عليه من يأتيه بأخباره كلها، فجاء المتوكل إلى ابن الزيات فسأله أن يكلّم الواثق ليرضى عنه، فوقف بين يديه وهو لا يكلّمه، ثم أشار إليه بالقعود فجلس، فلما فرغ من الكتب التى بين يديه التفت إليه كالمتهدّد، وقال: ما جاء بك؟
قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنّى، فالتفت إلى من حوله وقال:
انظروا يغضب أخاه ثم يسألنى أن أسترضيه له، اذهب فإنّك- إذا(22/276)
صلحت- رضى عنك، فقام من عنده حزينا «1» وأتى أحمد بن أبى دؤاد، فقام إليه واستقبله على باب البيت وقبّل يده، وقال: ما حاجتك؟
جعلت فداك، قال: جئت لتسترضى عنّى أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، وكلّم أحمد الواثق فيه فوعده- ولم يرض غنه، ثم كلّمه ثانية فرضى عنه وكساه قال: ولما خرج المتوكل من عند ابن الزيّات، كتب أن جعفرا أتانى فى زى المخنثين له شعرقفا، يسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه، فكتب إليه الواثق: ابعث إليه وأحضره، ومر بجزّ شعر قفاه، قال المتوكل: لما أتانى رسوله لبست سوادا جديدا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنّى، فاستدعى حجاما وأخذ شعرى على السواد الجديد، ثم ضرب به وجهى، فلما ولى المتوكل الخلافة أمهله إلى صفر، وأمر إيتاخ بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستدعاه وأدخله حجرة ووكل به، وأرسل من أصحابه من هجم منازله وأخذ كل ما فيها، واستصفى أمواله وأملاكه فى جميع البلاد، ثم جعله فى تنّور كان قد عمله هو وعذّب به ابن أسباط «2» وأخذ ماله، وكان التنّور من خشب فيه مسامير من حديد، أطرافها إلى داخل التنور، يمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيّقا بحيث إن الانسان إذا دخل فيه يمد يديه إلى رأسه ليقدر على دخوله لضيقه، فبقى أياما ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول منها، وقيل: بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل مات بغير ضرب؛ وقد تقدّم أن المتوكل حرقه بالنار والله أعلم.
ولما مات ألقى على الباب بقميص فغسّل ودفن، فقيل إن الكلاب(22/277)
نبشته وأكلت لحمه. قال: وسمع قبل موته يخاطب نفسه ويقول: يا محمد لم تقنعك النعمة والدواب والدار النظيفة والكسوة وأنت فى عافية، حتى طلبت الوزارة- ذق ما عملت بنفسك ثم سكت، وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله عزّ وجل.
وفيها حبس عمر بن الفرج الرخّجى، وكان سبب ذلك أن المتوكل أتاه لما كان أخوه الواثق ساخطا عليه، ومعه صك ليختمه عمر له ليقبض أرزاقه من بيت المال، فأخذ عمر صكّه فرمى به إلى صحن المسجد، فحقدها المتوكل ثم حبسه فى شهر رمضان، وأخذ ماله وأثاث بيته وأصحابه، ثم صولح على أحد عشر «1» ألف ألف على أن يرد إليه ضياع الأهواز.
وفيها غضب المتوكل على إبراهيم «2» بن الجنيد النصرانى، وأخذ ماله ومال أخيه وكاتبه. وفيها عزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، وولّاه يحيى بن خاقان الخراسانى مولى الأزد، وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول ديوان زمام النفقات.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن داود.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
ذكر خبر إيتاخ وابتداء أمره وقتله
كان إيتاخ غلاما خزريا، وكان طبّاخا لسلّام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم فى سنة تسع وتسعين ومائة، وكان فيه شجاعة فرفعه المعتصم والواثق وضمّ إليه أعمالا كثيرة، منها المعونة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم، فلما صار(22/278)
الأمر إلى المتوكل كان معه على أكثر من ذلك، وجعل إليه الجيش والمغاربة والأتراك والأموال والبريد والحجابة ودار الخلافة، فلما تمكّن المتوكل من الخلافة شرب ليلة، وعربد على إيتاخ فهمّ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه، وقال: أنت ربّيتنى وأنت بمنزلة الوالد وما يناسب ذلك، ثم وضع عليه من يحسّن له الحج، فاستأذن فيه المتوكل فأذن له، وصيّره أمير كل بلد يدخله وخلع عليه وسار العسكر جميعه بين يديه، فلما فارق جعلت الحجابة إلى وصيف الخادم فى ذى القعدة «1» . قال: فلمّا عاد إيتاخ من مكة كتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد يأمره بحبسه، فلما قرب إيتاخ من بغداد خرج إسحاق بن إبراهيم إلى لقائه، وكان إيتاخ أراد المسير على الأنبار إلى سامرّا، فكتب إليه إسحاق: إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم فى دار خزيمة بن خازم وتأمر لهم بالجوائز، فجاء إلى بغداد فلما لقيه إسحاق أراد النزول له، فحلف إيتاخ عليه ألا يفعل- وكان فى ثلاثمائة من غلمانه، فلما حصل بباب دار خزيمة وقف إسحاق، وقال له: يدخل الأمير أصلحه الله، فدخل إيتاخ ومنع إسحاق أصحاب إيتاخ من الدخول، ووكل بالأبواب وأقام عليها الحرس، فحين رأى إيتاخ ذلك قال: قد فعلوها!! ولو لم يفعلوا ذلك ببغداد ما قدروا عليه، وأخذوا معه ولديه منصورا ومظفرا وكاتبه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فحبسوا، وقيّد إيتاخ وجعل فى عنقه ثمانون رطلا، فمات فى جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق جماعة من الأعيان أنه لا ضرب به ولا أثر، قيل إنهم أطعموه ومنعوه الماء فمات عطشا.
وحجّ بالناس محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس.(22/279)
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين.
فى هذه السنة عقد المتوكل البيعة بولاية العهد لبنيه الثلاثة، وهم محمد ولقبه المنتصر، وأبو عبد الله محمد وقيل طلحة وقيل الزبير ولقبه المعتز بالله، وإبراهيم ولقبه المؤيد بالله، وعقد لكل واحد منهم لواءين- أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل، وأعطى كل واحد منهم ما نذكره:
فأما المنتصر بالله فأقطعه أفريقية والمغرب كله والعواصم [وقنسرين] «1» والثغور جميعها الشامية والجزرية وديار مضرور بيعة وهيت والموصل وعانات «2» والخابور «3» وكوربا جرمى «4» وكور دجلة وطساسيج السواد جميعها والحرمين واليمن «5» وحضرموت [واليمامة] «6» والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصرة وماسبذان «7» ومهرجا نقذق وشهرزور «8» والصامغان وأصبهان وقمّ وقاشان «9» والجبل جميعه وصدقات العرب بالبصرة.
وأما المعتز بالله فأقطعه كور خراسان وما ينصاف إليها، وطبرستان، والرى، وأرمينية، وأذربيجان وكور فارس، ثم أضاف إليه فى سنة أربعين خزن الأموال فى جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر أن تختم «10» الدراهم باسمه.(22/280)
وأما المؤيّد بالله فإنّه أقطعه جند حمص، وجند دمشق، وجند فلسطين «1» .
ذكر ظهور رجل يدعى النبوّة
وفيها ظهر رجل بسامرّا يقال له محمود بن الفرج «2» النيسابورى، وزعم أنّه نبى وأنّه ذو القرنين، وتبعه سبعة وعشرون رجلا، وخرج من أصحابه ببغداد رجلان بباب العامة واثنان بالجانب الغربى، فأتى به وبأصحابه إلى المتوكل فضرب ضربا شديدا، وحمل إلى باب العامة فأكذب نفسه، وأمر أصحابه أن يصفعه كل واحد عشر صفعات ففعلوا، وأخذوا له كتابا فيه كلام قد جمعه وذكر أنّه قرآن، وأن جبريل نزل به عليه، ثم مات من الضرب فى ذى الحجة وحبس أصحابه، وكان فيهم شيخ يزعم أنّه نبى وأن الوحى يأتيه.
وفيها أمر المتوكل أهل الذمّة بلبس الطّيالسة العسلية، وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين فى مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفتين لون الثياب، قدر كل رقعة منهما أربع أصابع، ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليّا، ومنعهم من لباس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهى أن يستعان بهم فى أعمال السلطان- ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا فى شعانينهم صليبا، وأن يشعلوا فى الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب بذلك إلى الآفاق.
وحجّ بالناس محمد بن داود(22/281)
ودخلت سنة ست وثلاثين ومائتين
ذكر ما فعله المتوكل بمشهد الحسين بن على رضى الله عنهما
فى هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن على رضى الله عنهما، وهدم ما حوله من المنازل والدور ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فنادى فى الناس فى تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثالثة حبسناه فى المطبق، فهرب الناس وتركوا زيارته وحرث وزرع، وكان المتوكل شديد البغض لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه- ولأهل بيته، وكان يقصد من يتولى عليا وأهل بيته بأخذ المال والروح؛ وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان أصلع فيشد تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه ويرقص، [والمغنون «1» يغنون] قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يحكى بذلك على بن أبى طالب رضى الله عنه، والمتوكل يشرب ويضحك، فرآه المنتصر فتهدّده فسكت خوفا منه، فقال له المتوكل:
ما حالك! فأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين- إنّ هذا الذى يحكيه- هذا الكلب- ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطمع هذا الكلب وأمثاله فيه، فقال المتوكل للمغنين غنّوا:
غار الفتى لابن عمّه ... راس الفتى فى حرامه
وكان هذا من الأسباب التى استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل.
وفيها غزا على بن يحيى الأرمنّى الصائفة، فلقى صاحب الروم فى ثلاثين ألفا، وكان علىّ فى نحو ثلاثة آلاف، فهزم الرومىّ وقتل أكثر من عشرين ألفا، ثم مضى إلى عمّورية فافتتحها وغنم ما فيها، وأخرج منها أسارى من المسلمين وكانوا خلقا كثيرا، وخرّب كنائسها، وفتح أيضا حصنا(22/282)
يقال له الفرطس، فأخرج عشرين ألف رأس من السبى، وغنم غنيمة بلغت مائة ألف وعشرين ألفا- حكاه أبو الفرج الجوزى فى تاريخه «المنتظم فى أخبار الملوك والأمم «1» » وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وحجّ المنتصر فى هذه السنة بالناس.
ودخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين
ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم
فى هذه السنة وثب أهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فقتلوه، وكان سبب ذلك أنّه لما صار إلى أرمينية خرج إليه بطريق يقال له بقراط بن أشوط «2» - ويقال له بطريق البطارقة، فطلب الأمان فأخذه يوسف وابنه معه وسيّرهما إلى باب الخليفة، فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخى بقراط ابن أشوط، وتحالفوا على قتله ووافقهم على ذلك موسى بن زراره- وهو صهر بقراط، فأتى الخبر يوسف ونهاه أصحابه عن المقام بمكانه فلم يقبل، فلما جاء الشتاء ونزل الثلج أتوه وهو بمدينة طرون، فحصروه بها فخرج إليهم وقاتلهم فقتلوه وقتلوا من قاتل معه، وأما من لم يقاتل معه فقالوا له: انزع ثيابك وانج بنفسك عريانا، فخرجوا حفاة عراة فهلك أكثرهم من البرد، وكان ذلك فى شهر رمضان، وكان يوسف قبل ذلك قد فرّق أصحابه فى رساتيق عمله، فتوجّه إلى كل طائفة منهم طائفة من البطارقة فقتلوهم فى يوم واحد، فلما بلغ المتوكل الخبر وجّه بغا الكبير إليهم، فسار على الموصل والجزيرة فبدأ بأرزن، وبها موسى بن زراره وإخوته عيسى وإسماعيل(22/283)
وأحمد «1» ومحمد وهارون فحملهم إلى المتوكل، وأناخ على قتلة يوسف فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا، وسبى منهم خلقا كثيرا فباعهم، وسار إلى بلاد الباق فأسر أشوط «2» بن حمزة صاحب الباق من كور اليسفرّجان «3» ، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية فأقام بها شهرا، ثم سار إلى تفليس فحصرها، وبها إسحاق بن إسماعيل مولى بنى أميّة فخرج وقاتل أصحاب بغا، فأمر بغا بإحراق المدينة بالنفط فأحرقت- وكانت من خشب الصنوبر، وأسر إسحاق بن إسماعيل وأتى به إلى بغا فضرب عنقه وصلب جثته، واحترق بالمدينة نحو خمسين ألف إنسان وأسر من سلّم من النار، وفرّق بغا جيوشه فيما يجاور تفليس من الحصون ففتحها، وكان أمر تفليس فى سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
ذكر غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد وولاية يحيى بن أكثم القضاء
وفى سنة سبع وثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد، وقبض ضياعه وأملاكه وحبس ابنه أبا الوليد وسائر أولاده، فحمّل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع أملاكهم، وكان أبوهم أحمد قد فلج فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم من بغداد إلى سامرا، ورضى عنه وولّاه قضاء القضاة ثم ولاه المظالم، فولّى يحيى بن أكثم قضاء الجانب الشرقى حيّان بن بشر والجانب الغربى سوّار بن عبد الله العنبرى، وكلاهما أعور فقال الجماز:(22/284)
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة فى الخافقين
هما اقتسما العما نصفين قدرا «1» ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هزّ رأسا ... لينظر فى مواريث ودين
كأنّك قد وضعت عليه دنا ... فتحت بزاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذا افتتح القضاء بأعورين
وفيها أمر المتوكل بإنزال خشبة «2» أحمد بن نصر ودفعه إلى أوليائه، فحمل إلى بغداد وضم رأسه إلى بدنه وغسل وكفن ودفن، ونهى المتوكل عن الجدال فى القرآن وغيره وكتب بذلك إلى الآفاق وحجّ بالناس فى هذه السنة على بن عيسى بن جعفر بن المنصور.
ودخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين
ذكر مسير الروم إلى ديار مصر
فى هذه السنة جاء الروم فى ثلاثمائة مركب مع ثلاثة رؤساء، فأناخ أحدهم فى مائة مركب بدمياط، وكان على معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبى، وكان قد أمر جند الثغر أن يحضروا إلى مصر للعيد فحضروا، فاتفق وصول الروم وهى خالية من الجند، فخرج من له قوة منها والتحق بمصر، وطلع الروم إليها فنهبوا وأحرقوا الجامع، وأخذوا ما بها من سلاح ومتاع وغير ذلك، وسبوا من النساء المسلمات والذميّات نحو ستمائة امرأة، وأوقروا سفنهم وسارت الروم إلى شتوم «3» تنيس، وكان عليه سور له بابان من حديد.
فأخذوهما ونهبوا ما فيه من السلاح ورجعوا.(22/285)
ودخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين
فى هذه السنة أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس درّاعتين عسليّتين على الدراريع والأقبية، وبالاقتصار فى مراكبهم على البغال والحمير دون الخيل والبراذين.
قال ابن الجوزى «1» وفيها غزا على بن يحيى الأرمنّى الصائفة. فوصل بلاد الروم فقتل عشرة آلاف علج. وسبى سبعة عشر «2» ألف رأس. وأخذ سبعة آلاف دابة. وحرق أكثر من ألف قرية.
وحج بالناس عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى- وهو والى مكة.
ودخلت سنة أربعين ومائتين
ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم
فى هذه السنة وثب أهل حمص بعاملهم أبى المغيث موسى بن إبراهيم «3» ، وكان قد قتل رجلا من رؤسائهم فقتلوا جماعة من أصحابه وأخرجوه، فكتب إلى المتوكل فبعث عتاب»
بن عتّاب ومحمد بن عبدويه الأنبارى، وقال لعتاب: قل لهم إن أمير المؤمنين قد أبدلكم بعاملكم، فإن أطاعوا فولّ عليهم محمد بن عبدويه، فإن أبوا فأقم واعلمنى لأمدّك بالجنود، فساروا إليهم فوصلوا فى شهر ربيع الآخر فرضوا بمحمد بن عبدويه، فشرع فى أذاهم وعمل بهم الأعاجيب، فوثبوا به فى سنة إحدى(22/286)
وأربعين وأعانهم عليه قوم من نصارى حمص، فكتب إلى المتوكل فأمره بمناهضتهم، وأمدّه بجند من دمشق والرملة، فناجزهم وظفر بهم فضرب رجلين من رؤسائهم حتى ماتا وصلبهما على باب حمص، وبعث ثمانية من أشرافهم إلى المتوكل، وظفر بعد ذلك بعشرة رجال فضرب أعناقهم، وأمره المتوكل بإخراج النصارى وبهدم كنائسهم، وبإدخال البيعة التى بجانب الجامع فيه ففعل ذلك. وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة، وولّى جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن على قضاء القضاة.
وفيها أخذ أهل الذمّة بتعليم أولادهم العبرانية «1» ومنعوا من العربية، فأسلم منهم خلق كثير، حكاه أبو الفرج بن الجوزى «2» .
وفيها سمع أهل خلاط من السماء صيحة فمات خلق كثير- وكانت ثلاثة أيام، وخسف بثلاث عشرة قرية من قرى أفريقية «3» ، فلم ينج منها إلا اثنان وأربعون رجلا سود الوجوه، فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم فبنى لهم العامل حظيرة خارج المدينة فنزلوها.
وحجّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود.
ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين
ذكر الفداء بين المسلمين والروم
قال: وفى هذه السنة عرضت تدورة ملكة الروم على أسرى المسلمين النصرانية، فمن تنصّر جعلته أسوة من قبله «4» من المتنصّرة، ومن أبى(22/287)
قتلته- حتى قتلت من أسرى المسلمين أثنى عشر ألفا، ثم أرسلت تطلب المفاداة لمن بقى منهم، فأرسل المتوكل شنيفا الخادم على الفداء، وطلب قاضى القضاة جعفر بن عبد الواحد أن يحضر الفداء ويستخلف على القضاء، فأذن له المتوكل واستخلف على القضاء ابن أبى الشوارب- وهو شاب، ووقع الفداء على نهر اللّامس، فكان أسرى المسلمين من الرجال سبعمائة وخمسة وثلاثين رجلا، ومن النساء مائة وخمسا وعشرين امرأة.
ذكر غارة البجاة بمصر
فى هذه السنة غارت البجاة على أرض مصر، وكانت قبل ذلك لا تغير لهدنة قديمة، وكانوا يؤدون إلى عمال مصر الخمس مما فى بلادهم من معادن الذهب، فامتنعوا من ذلك فكتب صاحب البريد إلى المتوكل بخبرهم، وأنّهم قتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل فى المعادن، وزاد شرهم حتى خاف أهل الصعيد منهم على أنفسهم، فولّى المتوكل محمد بن عبد الله القمّى حربهم، واستعمله على معونة قفط والأقصر وأرمنت وإسنا وأسوان، وأمره بمحاربة البجاة، وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبى- عامل حرب مصر- بإزاحة علّته وإعطائه من الجند ما يحتاج إليه ففعل، وسار محمد إلى أرض البجاة وتبعه من المتطوعة وعمال المعادن خلق كثير، فبلغت عدتهم نحوا من عشرين ألفا من فارس وراجل، وحمل له فى بحر القلزم سبع مراكب موقورة بالدقيق والزيت والتمر والشعير والسويق، وسارت لتوافيه على ساحل البحر ببلاد البجاة، وسار هو إلى بلادهم فى البر حتى بلغ حصونهم، فخرج إليه ملكهم- واسمه على بابا- فى جموع عظيمة أضعاف المسلمين وهم على المهارى، فلم يصدقهم القتال وأراد مطاولتهم حتى تفنى أزوادهم، فيأخذهم باليد من غير حرب، فأقبلت المراكب التى فيها الأقوات ففرقها محمد- على من معه، فعندها صدقهم على بابا القتال(22/288)
وقاتلهم قتالا شديدا، وكانت إبلهم زعرة تنفر من كل شىء، فجمع القمى الأجراس وجعلها فى أعناق خيله، وحمل عليهم فنفرت إبل البجاة لأصواتها وتفرقت، وسارت على الجبال والأودية وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون إلى الليل، ولم يقدروا على إحصاء القتلى لكثرتهم، ثم طلب ملكهم الأمان على أن يرّد عليه مملكته وبلاده، ويؤدى الخراج للمدة التى منعها وهى أربع سنين، فأمّنه محمد وسار به إلى المتوكل، فخلع عليه وعلى أصحابه وكساهم الحلل المدبّجة، وأعاده مع «1» القمى فرجع إلى بلاده وهو على دينه، وكان معه صنم من حجر يسجد له وهو كهيئة الصبى.
وفى جمادى الآخرة منها ماجت النجوم فى السماء، وجعلت تتطاير شرقا وغربا ويتناثر بعضها خلف بعض كالجراد من قبل غروب الشفق إلى وقت الفجر، ولم يكن مثل «2» هذا إلا لظهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفيها مات الإمام أحمد بن محمد «3» بن حنبل أبو عبد الله الشيبانى ببغداد، يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وله سبع وسبعون سنة وأيام، وقيل فى هذا التاريخ من شهر ربيع الآخر والله أعلم.
وحجّ بالناس عبد الله بن محمد بن داود.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
فى هذه السنة خرجت الروم من شمشاط «4» بعد خروج على بن يحيى(22/289)
الأرمنى من الصائفة حتى قاربوا آمد، وخرجوا من الثغور الجزرية فانتهبوا وأسروا نحوا من عشرة آلاف، فكتب المتوكل إلى على بن يحيى الأرمنى أن يسير إلى بلادهم شاتيا.
قال أبو الفرج بن الجوزى رحمه الله فى المنتظم «1» وفيها فى شعبان زلزلت الدّامغان، فسقط نصفها على أهلها وعلى الوالى فقتلهم، ويذكر أن الهالكين كانوا خمسة وأربعين ألفا؛ وكانت بقومس ورساتيقها فى هذا الشهر زلازل فهدمت منها الدور، وسقطت بذش [كلها] «2» على أهلها، وسقط «3» نحو من ثلثى بسطام، وزلزلت الرى وجرجان وطبرستان ونيسابور وأصفهان وقمّ وقاشان، وذلك كله فى وقت واحد، وتقطعت جبال ودنا بعضها من بعض، ورجفت أسدأباذ رجفة أصيب فيها الناس كلهم، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية، وانشقت الأرض بقدر ما تدخل الرجل فيها؛ قال: ورجمت السويداء من أرض مصر بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة «4» أعرابى فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال، فحمل منها أربعة إلى الفسطاط وواحد إلى تنّيس؛ قال: وذكروا أنّ جبلا باليمن كان عليه مزارع لأهله سار حتى أتى مزارع قوم فصار فيها «5» ، فكتب بذلك إلى المتوكل. قال ابن حبيب: وذكر على بن الوضاح أنّ طائرا دون الرخمة وفوق الغراب أبيض وقع على ذنبه «6» بحلب لسبع مضين من شهر رمضان، فصاح يا معشر الناس: اتقوا الله الله الله، حتى صاخ أربعين صوتا ثم طار، وجاء من الغد فصاح أربعين صوتا، فكتب بذلك(22/290)
صاحب البريد وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه؛ ومات رجل فى بعض كور الأهواز فى شوال، فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخوزية: إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده «1» وحجّ بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم.
ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين
فى هذه السنة سار المتوكل إلى دمشق وعزم على المقام بها، فوصل إليها فى صفر سنة أربع وأربعين ومائتين، ونقل دواوين الملك إليها وأمر بالبناء، ثم استوبأ البلد فرجع إلى سامرّا، وكان مقامه بدمشق شهرين وأياما.
وحجّ بالناس عبد الصمد.
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
فى هذه السنة وجه المتوكل بغا الكبير لغزو الروم، وكان مسيره من دمشق لما كان المتوكل بها، فسار وفتح صملة؛ وفيها أتى المتوكل بحربة كانت للنبى صلّى الله عليه وسلّم تسمى العنزة، وكانت للنجاشى فأهداها للزبير بن العوّام فأهداها الزبير للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وهى التى كانت تركز بين بديه صلّى الله عليه وسلّم فى صلاة العيدين، فكان يحملها بين يدى المتوكل صاحب الشرطة.
وحج بالناس عبد الصمد بن موسى. وفيها اتفق عيد الأضحى والشعانين للنصارى وعيد الفطر «2» لليهود فى يوم واحد.
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين
فى هذه السنة أمر المتوكل ببناء الماحوزة وسماها الجعفرى «3» ، وأقطع(22/291)
القوّاد وأصحابه فيها وجدّ فى بنائها، وأنفق عليها- فيما قيل- ألف ألف دينار «1» ، وجمع فيها القرّاء فقرءوا وأحضر أصحاب الملاهى، فوهب أكثر من ألفى ألف درهم، وكان يسميها هو وخاصّته المتوكلية، وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة لم ير مثله، وحفر لها نهرا يسقى ما حولها، فقتل المتوكل قبل كمال حفره فبطل الحفر وأخربت الجعفرية.
وفيها زلزلت بلاد المغرب فتهدّمت الحصون والمنازل والقناطر، ففرّق المتوكل ثلاثة آلاف ألف درهم فيمن أصيب منزله، وزلزلت المدائن وأنطاكية فقتل بها خلق كثير وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيّف وتسعون برجا، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها، وتقطّع جبلها الأقرع وسقط فى البحر، وهاج البحر ذلك اليوم وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ ما علم أين ذهب؛ وسمع أهل تنيس «2» صيحة هائلة فمات منها خلق كثير؛ وزلزلت ديار الجزيرة والثغور وهرسوس وأذنة والشام، وهلك أهل اللاذقيّة وجبلة إلا اليسير.
وحج بالناس محمد بن سليمان.
ودخلت سنة ست وأربعين ومائتين
فى هذه السنة كانت للمسلمين غزوات فى الروم برا وبحرا، فغزا الفضل بن قارن فى البحر فى عشرين مركبا «3» ، فافتتح حصن أنطاكية؛ وفيها كان الفداء على يد على بن يحيى الأرمنّى، ففودى بألفين وثلاثمائة(22/292)
وسبعة «1» وستين نفسا. وفيها ورد الخبر أن سكة بناحية بلخ تعرف بسكة الدهاقين مطرت دما عبيطا.
وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن سليمان الزينبى
ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
ذكر مقتل أبى الفضل المتوكل على الله
كان مقتله فى ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوّال من هذه السنة، وكان سبب مقتله أنّه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع باصفهان والجبل، وأقطعها للفتح بن خاقان فكتبت وصارت إلى الخاتم، فبلغ ذلك وصيفا، وكان المتوكل أراد أن يصلّى بالناس أول جمعة فى شهر رمضان، وشاع ذلك وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب، فلما أراد الركوب للصلاة قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين- إن الناس قد كثروا من أهل بيتك وغيرهم، فبعض «2» متظلم وبعض يطلب حاجة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهد بالصلاة فليفعل- فأمر المنتصر، فلما نهض للركوب قالا له: يا أمير المؤمنين إن رأيت «3» أن تأمر المعتز بالصلاة لتشرفه بذلك، فأمر المعتز فصلّى بالناس، فلما فرغ من الصلاة قاما إليه فقبلا يديه ورجليه، وانصرف المعتز فى موكب الخلافة حتى دخل على أبيه، فأثنوا عليه خيرا فسره ذلك، ووجد المنتصر له أمرا عظيما، فلما كان عيد الفطر قال المتوكل مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله: قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين واجتمعوا لذلك، ولا نأمن إن هو لم يركب اليوم أن يرجف الناس بعلّته،(22/293)
فإن رأى أمير المؤمنين أن يسرّ الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل- فركب، وقد صف له الناس نحو أربعة أميال وترجّلوا بين يديه، فصلّى ورجع وأخذ حفنة من تراب فوضعها على رأسه، وقال: إنى رأيت كثرة هذا الجمع وأنّهم تحت يدى فأحببت أن أتواضع لله، فلما كان اليوم الثالث افتصد واشتهى لحم جزور فأكله، وسرّ فى ذلك اليوم، ودعا الندماء والمغنين فحضروا، وأخذ فى الشرب واللهو، ولهج «1» بأن يقول: أنا- والله- مفارقكم عن قليل، ولم يزل فى سروره ولهوه إلى الليل.
وعزم المتوكل والفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قوّاد الأتراك، هذا والمنتصر قد واعد الأتراك على قتل أبيه المتوكل، وكان ذلك لأمور: منها أن المتوكل قد عبث بالمنتصر مرة يشتمه ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرّة يأمر بصفعه، ومرّة يتهدّده بالقتل؛ ثم قال للفتح:
برئت من الله ومن قرابتى من رسول الله إن لم تلطمه، فقام إليه فلطمه مرتين: يمر بيده على قفاه «2» ، ثم قال لمن حضره: اشهدوا علىّ جميعا أنّى خلعت المستعجل يعنى المنتصر، والتفت إليه وقال: سميتك المنتصر فسمّاك الناس- لحمقك- المنتظر «3» ، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر:
لو أمرت بضرب عنقى لكان أسهل علىّ ممّا تفعل بى، فقال: اسقوه، ثم بالعشاء فأحضر فى جوف الليل فخرج المنتصر من عنده، وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال له: امض معى، فقال: إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال:
إنّه أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وأخذ المنتصر يشغل زرافة بالحديث حتى أنتهى به إلى حجرة، وأكلوا طعاما، فما لبثا أن سمعا صيحة وصراخا فقاما، فإذا بغا قد لقى المنتصر فقال له: عظّم الله أجرك يا(22/294)
أمير المؤمنين، قد مات أمير المؤمنين المتوكل، فجلس المنتصر وأمر بالباب الذى فيه المتوكل فأغلق وأغلقت الأبواب، وبعث إلى وصيف يأمره باحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وأما كيفية قتل المتوكل
فإنّه لما خرج المنتصر وأحضرت المائدة وأكل المتوكل والندماء ورفعت المائدة دخل بغا الصغير الشرابى إلى المجلس، وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة ألا أترك أحدا- وقد شرب أربعة عشر رطلا، وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة، فأخرجهم ولم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة وأبو أحمد بن المتوكل، وكان بغا قد أغلق سائر الأبواب إلا باب الشط، ومنه دخل القوم الذين قتلوه، فلما دخلوا بصربهم أبو أحمد فقال: ما هذا يا سفّل!! وإذا سيوف مسلّلة، فرفع المتوكل رأسه فرآهم فقال: يا بغا ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة فرجعوا إلى ورائهم، فقال لهم بغا: يا سفّل أنتم مقتولون لا محالة فموتوا كراما فرجعوا، فابتدره بغلون «1» وضربه على كتفه وأذنه فقدّه، فقال: مهلا- قطع الله يديك، وأراد الوثوب به، واستقبله بيده فضربها فأبانها، وشركه «2» باغر، فقال الفتح: ويلكم!! أمير المؤمنين، ورمى بنفسه على المتوكل فبعجوه بسيوفهم، فصاح الموت وتنحّى فقتلوه، وكان معهم خمسة من ولد وصيف.
قال: ولما قتلوا المتوكل والفتح خرجوا إلى المنتصر فسلّموا عليه بالخلافة، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف وقالوا: تبايع فبايع، وأرسل(22/295)
المنتصر إلى وصيف أن الفتح قتل أبى فقتلته، فأحضر فى وجوه أصحابك فحضروا وبايعوه، وكان عبيد الله بن يحيى فى حجرته وبين يديه جعفر بن حامد، فلما علم بقتل المتوكل خرج فيمن معه وكسر ثلاثة أبواب، وخرج إلى الشط وركب فى زورق فأتى منزل المعتز فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون- قتل نفسه وقتلنى، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه فى غداة يوم الأربعاء، فكانوا زهاء عشرة آلاف وقيل ثلاثة عشر ألفا، فقالوا: إنما اصطنعتنا لمثل هذا اليوم، فمرنا بأمرك واذن لنا أن نميل على القوم فنقتل المنتصر ومن معه، فأبى ذلك وقال: إنّ المعتز فى أيديهم.
وحكى عن على بن يحيى قال «1» : كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام «2» كتابا من كتب الملاحم، فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر من بنى العباس يقتل فى مجلسه فتوقفت عن القراءة فقال: مالك؟ قلت خير، قال: لا بدّ أن تقرأ فقرأت فوجم لذلك، وقال: يا ليت شعرى من هذا الشقى المقتول «3» ؟! فقلت: أخوك الواثق هو العاشر وما كل هذا يضح، قال: وكيف يكون العاشر؟ فذكرت الخلفاء وعددت منهم إبراهيم ابن المهدى فطابت نفسه.
قال: وفسّر علىّ يوما مناما فقال: رأيت دابّة تكلّمنى والله لو كانت بين ألف دابّة ميّزتها، فجرى على خاطرى قوله تعالى وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ «4»
، ثم قلت: الدابّة عجماء لا(22/296)
تتكلّم، يدل على أن الله يفتح عليك ما لم يقدر غيرك على فتحه، فلما كان بعد شهر أهديت له هدايا فرأى فيها دابّة، فقال لى: هذه والله تلك الدابّة، فقتل بعد أيام.
وقال أبو الوارث قاضى نصيبين «1» : رأيت فى النوم قائلا يقول:
يا نائم العين فى جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكى بتهتان
أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمى وبالفتح بن خاقان «2»
فأتى البريد بعد ثلاثة أيام بقتلهما. قال وكان عمره نحوا من أربعين سنة، ومدة خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام «3» ، ولما مات دفن بالقصر الجعفرى، وصلّى عليه ابنه المنتصر. وكان مربوعا أسمر خفيف العارضين نحيفا «4» ، ونقش خاتمه: على إلاهى اتكالى. أولاده: المنتصر وموسى الأحدب والمعز والمعتز والمؤيد وطلحة الموفق وإسماعيل والمعتمد وغيرهم. وزراؤه: محمد بن عبد الملك الزيات ثم محمد بن الفضل الجرجرائى ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. حجّابه: وصيف التركى ثم محمد ابن عاصم ثم يعقوب بن قوصرة ثم المرزبان ثم إبراهيم بن الحسن بن سهل وغيره. قضاته: أحمد بن أبى دؤاد ثم يحيى بن أكثم ثم جعفر بن عبد الواحد العباسى. الأمراء بمصر: هرثمة بن النضر «5» من قبل إيتاخ ثم ابنه حاتم ثم على بن يحيى الأرمنى ثم ردّت مصر إلى محمد المنتصر، فاستخلف(22/297)
إسحاق بن يحيى بن معاذ ثم عبد الواحد بن يحيى ابن عم «1» طاهر بن الحسين ثم عنبسة بن إسحاق الضّبى ثم يزيد بن عبد الله. القضاة بها: محمد بن أبى الليث ثم الحارث بن مسكين ثم القاضى بكّار بن قتيبة
ذكر خلافة المنتصر بالله
هو أبو جعفر محمد بن المتوكل أبو الفضل جعفر بن المعتصم بن الرشيد ابن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد رومية اسمها حبشية، وهو الحادى عشر من الخلفاء العباسيين بويع له على ما ذكرناه فى ليلة قتل المتوكل، قال: ولما أصبح فى يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين حضر الناس من القوّاد والكتّاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم إلى الجعفرية، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا عن المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتلته به فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان فبايع.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن سليمان الزينبى.
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
ذكر خلع المعتز والمؤيّد
قال: ولما استقامت الأمور للمنتصر قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين فيلى المعتز الخلافة فلا يبقى منّا باقية، والرأى أن نعمل فى خلع المعتز والمؤيد، فجدّ الأتراك فى ذلك وألحّوا على المنتصر، وقالوا نخلعهما من الخلافة ونبايع لابنك عبد الوهاب(22/298)
فأجابهم، وأحضر المعتز والمؤيّد بعد أربعين يوما من خلافته، وجعلا فى دار وجاءت الرسل إليهما بالخلع، فأجاب المؤيّد وامتنع المعتز وقال: إن أردتم القتل فشأنكم، فأخبروا المنتصر بقوله ثم عادوا بغلظة وشدة وأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه بيتا فدخل إليه المؤيّد، وقال له: ويلك يا جاهل، إنّهم نالوا من أبيك- وهوهو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم؟ اخلع ولا تراجعهم وإن كان فى سابق علم الله أن تلى لتلينّ، فقال أفعل، فخرج المؤيّد وقال:
قد أجاب إلى الخلع، فمضوا وأعلموا المنتصر وعادوا ومعهم كاتب، فجلس وقال للمعتز: اكتب بخطّك خلعك، فقال المؤيّد: هات قرطاسك- إمل «1» ما شئت، فأملى عليه كتابا إلى المنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه لا يحلّ له أن يأثم المتوكل بسببه، إذ لم يكن موضعا له، ويسأله الخلع ويعلمه أنه قد خلع نفسه وأحلّ الناس من بيعته- فكتب ذلك، وقال للمعتز: اكتب فأبى فأعاد عليه فكتب، وخرج الكاتب «2» عنهما ثم دعاهما المنتصر، فدخلا عليه فأجلسهما، وقال: هذا كتابكما؟
قالا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لهما- والأتراك قيام- أتريانى خلعتكما طمعا فى أن أعيش حتى يكبر ولدى وأبايع له؟ لا- والله- ما طمعت فى ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن لى فى ذلك طمع فو الله لئن يليها بنو أبى أحب إلىّ من أن يليها بنو عمى، ولكنّ هؤلاء- وأومأ إلى سائر الموالى ممن هو قائم عنده وقاعد- وقد ألحّوا فى خلعكما- فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتى عليكما فما تريانى صانعا؟ أقتله فو الله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل فقبّلا يده وضمّهما، ثم أشهدا على أنفسهما القضاة وبنى هاشم والقواد ووجوه الناس بالخلع، وكتب بذلك المنتصر إلى محمد بن طاهر وغيره.(22/299)
ذكر وفاة المنتصر بالله
كانت وفاته يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وقيل يوم الأحد وهو لخمس خلون منه «1» . وكانت علّته الذبحة فى حلقه، أخذته يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، وقيل كانت علّته من ورم فى معدته ثم صعد إلى فؤاده فمات، وقيل إنّه وجد حرارة فدعا بعض أطبائه، ففصده بمبضع مسموم فمات، وانصرف الطبيب إلى منزله وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له ليفصده، ووضع مباضعه بين يديه ليتخيّر «2» أجودها، فأخذ ذلك المبضع المسموم- وقد نسيه الطبيب- ففصده به، فلما فرغ نظر إليه فعرفه، فأيقن بالهلاك ووصّى من ساعته ومات، وقيل غير ذلك.
قال: ولما أفضت الخلافة إليه كان كثير من الناس يقولون: إنما مدة خلافته ستة أشهر- مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه، يقولها الخاصة والعامة. وقيل إنّ المنتصر رأى فى منامه رؤيا فانتبه وهو يبكى وينتحب، فسمعه عبد الله بن عمر البازيار فأتاه، فسأله عن سبب بكائه فقال: رأيت فيما يرى النائم المتوكل قد جاءنى وهو يقول: ويحك يا محمد: قتلتنى وظلمتنى وغبنتنى خلافتى، والله لا متّعت بها أبدا إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار، فقال له عبد الله: هذه رؤيا وهى تصدق وتكذب، بل يعمّرك الله ويسرك، ادع بالنبيذ وخذ فى اللهو ولا تعبأ بها، ففعل ذلك ولم يزل منكسرا «3» حتى مات. وروى أبو الفرج بن الجوزى بسنده عن على بن يحيى المنجم قال «4» : جلس المنتصر بالله فى مجلس كان أمر أن يفرش له، وكان(22/300)
فى بعض البسط دائرة كبيرة، فيها مثال فرس وعليه راكب وعلى رأسه تاج، وحوالى الدائرة كتابة بالفارسية، فلما جلس المنتصر وجلس الندماء ووقف على رأسه وجوه الموالى والقواد نظر إلى تلك الدائرة وإلى الكتابة التى حولها، فقال لبغا: إيش هذا الكتاب «1» ؟ فقال: لا أعلم يا سيدى، فسأل من حضر من الندماء، فلم يحسن أحد أن يقرأه، فالتفت إلى وصيف وقال: احضر لى من يقرأه، فأحضر رجلا فقرأ الكتابة وقطب، فقال له المنتصر: ما هو؟ فقال له «2» : يا أمير المؤمنين ليس له معنى، فألحّ عليه وغضب، فقال: يقول- أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز قتلت أبى فلم أمتّع بالملك إلا ستة أشهر، فتغيّر وجه المنتصر وقام عن مجلسه إلى النساء، فلم يمكث «3» إلا ستة أشهر ومات. وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وقيل ستة أشهر سواء، وعمره خمس وعشرون سنة وستة أشهر، وقيل أربع وعشرون سنة، ووفاته بسامرا. ولما حضرته الوفاة أنشد:
فما فرحت نفسى بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
وصلّى عليه أحمد بن المعتصم. وكان مربوعا أسمر أعين حسن الوجه ذا شهامة وشدّة. وكان له أربعة أولاد ذكور. وزيره: أحمد بن الخصيب.
حجابه: وصيف ثم بغا ثم ابن المرزبان ثم أوتامش. قاضيه: جعفر العباسى. أمير مصر: يزيد بن عبد الله. قاضيها: بكّار.
ذكر خلافة المستعين بالله
هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم بن الرشيد، وأمه أم ولد اسمها مخارق، وهو الثانى عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الإثنين(22/301)
لأربع وقيل لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكان سبب بيعته أنه لما مات المنتصر اجتمع الموالى فى الهارونى «1» من الغد، وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش وغيرهم، واستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك برأى أحمد بن الخصيب فحلفوا، وتشاوروا فأجمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم فبايعوه، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وكان ذلك فى ليلة الإثنين، فلما أصبح صار إلى دار العامة فى زى الخلفاء، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يدية الحربة قبل طلوع الشمس، واستوزر أوتامش، واستكتب أحمد بن الخصيب.
وحضر أصحاب المراتب من العباسيين والطالبيين وغيرهم، فبينما هو كذلك إذ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، وإذا نحو خمسين فارسا ذكروا أنّهم أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر. ومعهم غيرهم من أخلاط الناس والغوغاء والسوقة، فشهروا السلاح وصاحوا: معتز «2» يا منصور، وتحرّك من على باب العامة من المبيضة والشاكرية وكثروا، فحمل عليهم المغاربة وبعض الأشروسنية فهزموهم حتى أدخلوهم درب زرافة، ثم نشبت الحرب بينهم فقتل جماعة، وانصرف الأتراك بعد ثلاث ساعات وقد بايعوا المستعين هم ومن حضر من الهاشميين وغيرهم. قال: ولما دخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة انتهبوا الخزانة التى فيها السلاح، فأتاهم بغا الصغير فى جماعة فأجلوهم عن الخزانة، وقتلوا منهم عدة وكثر القتل من الفريقين.
وتحرّك أهل السجن بسامرّا فهرب منهم جماعة. ثم وضع العطاء على البيعة وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبايع له هو والناس ببغداد.(22/302)
وفى هذه السنة ورد على المستعين الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر أمير خراسان فى شهر رجب، فعقد لابنه محمد بن طاهر على خراسان ولمحمد ابن عبد الله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد وأفرده به. وفيها مات بغا الكبير فعقد لابنه موسى بن بغا على أعمال أبيه كلها؛ وفيها خرج عبيد الله «1» بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجّه خلفه ينفيه إلى برقة ومنعه من الحج؛ وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد جميع مالهما، وأشهد عليهما القضاة والفقهاء، وترك للمعتز ما يتحصّل منه فى السنة عشرين ألف دينار وللمؤيد ما يتحصل منه فى السنة خمسة آلاف دينار، وجعلا فى حجرة فى الجوسق ووكل بهما، وكان الأتراك أرادوا قتلهما حين شغب الغوغاء، فمنعهم أحمد بن الخصيب وأشار بحبسهما فحبسوهما. وفيها غضب الموالى على أحمد بن الخصيب فى جمادى الآخرة، واستصفوا ماله ومال ولده ونفى إلى إقريطش. وفيها شغب أهل حمص على عاملهم كيدر فأخرجوه، فوجّه إليهم الفضل بن قارن فقتل منهم خلقا كثيرا. وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا. وفيها عقد المستعين لأوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا. وعقد لبغا الشرابى على حلوان وماسبذان ومهرجا نقذق.
وجعل المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخاصّة أموره، وقدّمه هو وأوتامش على جميع الناس.
وحج بالناس محمد بن سليمان.
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
ذكر الفتنة ببغداد
فى هذه السنة شغب الجند الشاكرية ببغداد غضبا على الأتراك، لتمكّنهم وقتلهم المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، يقتلون من شاءوا من(22/303)
الخلفاء ويستخلفون من أحبوا من غير نظر للمسلمين. فاجتمعت العامة بالصراخ ببغداد والنداء بالنفير. وانضم الأبناء والشاكرية تظهر أنّها تطلب الأرزاق وذلك فى أول صفر. ففتحوا السجون وأخرجوا من فيها وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر، وانتهبوا دار بشر وابراهيم ابنى هارون كاتبى محمد بن عبد الله، ثم أخرج أهل اليسار من بغداد وسامرا أموالا كثيرة وفرّقوها فيمن نهض إلى الثغور، وأقبلت العامة من نواحى الجبال وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم، فلم يأمر الخليفة فى ذلك بشىء ولا بتوجيه عسكر، وكان قيام هؤلاء غضبا لقتل عمر بن عبيد الله «1» وعلى بن يحيى الأرمنى، وكانا قتلا فى غزو الروم.
وفيها فى شهر ربيع الأول وثب نفر من الناس بسامرّا لا يدرى من هم، ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه فبعث فى طلبهم جماعة من الموالى.
فوثب العامة بهم فهزموهم، فركب بغا وأوتامش ووصيف وعامة الأتراك فقتلوا من العامة جماعة، فرمى وصيف بحجر فأمر بإحراق ذلك المكان.
وانتهبت المغاربة منازل جماعة من العامة ثم سكن ذلك فى آخر النهار.
ذكر قتل أوتامش الوزير
كان مقتله فى هذه السنة، وسبب ذلك أن المستعين كان أطلق يد والدته ويد أوتامش ويد شاهك فى بيوت الأموال، وأباحهم فعل ما أرادوا فكانوا يقتسمون ما يرد من الآفاق من الأموال، وأخذ أوتامش أكثر ما فى بيوت الأموال، وكان العباس بن المستعين فى حجره فكان يأخذ له ما فضل عن هؤلاء الثلاثة من الأموال يصرفه فى نفقاته، ووصيف وبغا بمعزل عن ذلك فغضبا، وأغريا الموالى بأوتامش وأحكما أمره، فاجتمعت الأتراك والفراغنة عليه وعسكروا فى شهر ربيع الآخر، وأتوا الجوسق- وهو فيه مع(22/304)
المستعين- فأراد الهرب فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره، وأقاموا على ذلك يومين، ثم دخلوا الجوسق فأخذوه وقتلوه، وقتلوا كاتبه ابن القاسم، ونهبت دور أوتامش فأخذوا منها أموالا جمة ومتاعا وغير ذلك.
واستوزر المستعين بعده أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد «1» ، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، وولّاه عيسى بن فرّخانشاه، وولى وصيفا الأهواز، وبغا الصغير فلسطين، ثم غضب بغا على أبى صالح فهرب إلى بغداد، واستوزر المستعين محمد بن الفضل الجرجرائى.
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام.
ودخلت سنة خمسين ومائتين
فى هذه السنة ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب بالكوفة، وفتح السجون وأخرج من فيها وكثر جمعه، وكان من أخباره وقتله ما نذكره فى أخبار آل أبى طالب. وفيها كان ابتداء الدولة العلوية بطبرستان، بظهور الحسن بن زيد العلوى على ما نذكره فى أخبارهم أيضا إن شاء الله تعالى.
وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب على عاملهم- الفضل بن قارن أخى مازيار بن قارن فقتلوه، فوجّه المستعين موسى بن بغا الكبير، فلقيه أهلها فيما بين حمص والرّستن وحاربوه، فهزمهم وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من أعيانها.
وحج بالناس فى هذه السنة جعفر بن الفضل والى مكة.(22/305)
ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
ذكر قتل باغر التركى
فى هذه السنة قتل باغر التركى. قتله بغا ووصيف، وسبب ذلك أنّه أحد قتلة المتوكل على ما ذكرناه، فزيد فى أرزاقه فكان مما أقطع قرى بسواد الكوفة، فتضمنها «1»
. رجل من أهل باروسما بألفى دينار، فوثب رجل من أهل تلك الناحية يقال له ابن مارمة «2» بوكيل لباغر، فتناوله فحبس ابن مارمة وقيّد، ثم تخلّص وسار إلى سامرا فلقى دليل بن يعقوب النصرانى وهو يومئذ صاحب أمر بغا الشرابى، وكان صديقا له وكان باغر أحد قواد بغا، فمنعه دليل من ظلم أحمد بن مارمه وانتصف له منه، فغضب باغر وباين دليلا، وكان باغر شجاعا يتقيه بغا وغيره، فحضر عند بغا فى ذى الحجة سنة خمسين وهو سكران، وبغا فى الحمّام فدخل عليه وقال: ما من قتل دليل بدّ، فقال له بغا: لو أردت ولدى ما منعتك منه ولكن اصبر فإنّ أمور الخلافة بيد دليل، فإذا أقمت غيره افعل ما تريد، وأمر بغا دليلا ألا يركب وأقام فى كتابته غيره، يوهم باغر أنه قد عزله فسكن باغر، ثم أصلح بغا بينهما وباغر يتهدده. قال: ولزم باغر خدمة المستعين فثقل عليه، فلما كان نوبة بغا فى منزله قال المستعين: أى شىء كان إلى إيتاخ من الخدمة، فأخبره وصيف، فقال: ينبغى أن يجعل ذلك إلى باغر، فسمع دليل ذلك فركب إلى بغا، فقال له: أنت فى بيتك وهو فى تدبير غيرك «3» - وإذا عزلت قتلت، فركب بغا إلى دار الخليفة فى يومه، وقال لوصيف: أردت أن تعزلنى، فحلف أنّه ما علم ما أراد الخليفة، واتفقا على إخراج باغر. من الدار وحلفا على ذلك، ودبّرا فى الحيلة عليه- فأرجفوا له أنّه يؤمرّ ويخلع عليه،(22/306)
ويكون فى موضع بغا ووصيف، فأحسّ باغر بالشر فجمع إليه الجماعة الذين كانوا وافقوه على قتل المتوكل وغيرهم، فجدّد العهد عليهم فى قتل المستعين وبغا ووصيف، وقال: نبايع على بن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لنا كما هو لهذين، فأجابوه إلى ذلك وانتهى الخبر إلى المستعين، فبعث إلى بغا ووصيف وقال لهما: أنتما جعلتمانى خليفة ثم تريدان قتلى، فحلفا أنهما ما علما بشىء فأعلمهما الخبر، فاتفق رأيهم على أخذ باغر ورجلين من الأتراك وحبسهم، وطلبوه فأقبل فى عدة فعدل به إلى حمام وحبس فيه، فبلغ الأتراك الخبر فوثبوا على اسطبل الخليفة فانتهبوه، وركبوا ما فيه وحضروا إلى باب الجوسق بالسلاح، فأمر بغا ووصيف بقتل باغر فقتل.
ذكر مسير المستعين إلى بغداد
قال: ولما قتل باغر وانتهى خبر قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه، فانحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك الخادم وأحمد بن صالح ودليل إلى بغداد فى حرّاقة، وركب جماعة من قواد الأتراك إلى «1» أصحاب باغر، فسألوهم الانصراف فلم يفعلوا، فلما علموا بانحدار المستعين ومن معه ندموا، ثم قصدوا دار دليل ودور أهله وجيرانه فنهبوها، حتى صاروا إلى أخذ الخشب. قال: ومنع الناس الأتراك من الانحدار إلى بغداد، فأخذوا ملاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقلها، فامتنع أصحاب السفن؛ ووصل المستعين إلى بغداد لخمس خلون من المحرم من هذه السنة، فنزل على محمد بن عبد الله بن طاهر فى داره، ثم وافى القواد بغداد سوى جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ، وقدمها جلّة الكتّاب والعمال وبنو هاشم وجماعة من أصحاب بغا ووصيف. وبايع أولئك للمعتز وحاصروا بغداد، وكان من خلع المستعين وقتله ما نذكره فى أخبار المعتز إن شاء الله تعالى.(22/307)
ذكر البيعة للمعتز بالله
هو أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها قبيحة، وهو الثالث عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له البيعة الأولى فى هذه السنة ثم بويع له البيعة العامة ببغداد لأربع خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، بعد خلع المستعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وكان سبب البيعة له أن المستعين لما استقر ببغداد أتاه جماعة من قواد الأتراك، ودخلوا عليه وألقوا نفوسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم فى أعناقهم وسألوه الصفح عنهم، فوبخهم وسبّهم ثم عادوا سألوه وتضرّعوا له، فقال: قد رضيت عنكم وعفوت، فقال له أحدهم- واسمه بايكباك «1» -: إن كنت قد رضيت فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأمر محمد بن عبد الله بعض أصحابه فضربه، وقال له محمد: هكذا يقال لأمير المؤمنين- قم فاركب معنا!! فضحك المستعين وقال: هؤلاء قوم عجم لا يعرفون حدود الكلام، ثم قال لهم المستعين:
ارجعوا إلى سامرا فإنّ أرزاقكم دارّة عليكم، وأنظر أنا فى أمرى فرجعوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وراءهم خبرهم وزادوا وحرّفوا فأجمعوا على إخراج المعتز وكان هو والمؤيد فى حبس «2» الجوسق، وعليهم من يحفظهم، فأخرجوا المعتز من الحبس وأخذوا من شعره- وكان قد كثر، وبايعوا له بالخلافة، فأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يوف المال فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم، وكان المستعين خلّف بسامرا فى بيت المال خمسمائة ألف دينار، وفى بيت مال أم(22/308)
المستعين ما قيمته ألف ألف دينار، وفى بيت مال العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار، قال: وكان فيمن أحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه النقرس، فجىء به فى محفّة فامتنع من البيعة، وقال للمعتز: خرجت إلينا طائعا فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف، فقال: ما علمنا بإكراهك، وقد بايعنا هذا الرجل فتريد أن نطلّق «1» نساءنا ونخرج من أموالنا؟! ولا ندرى ما يكون، إن تركتنى حتى يجتمع الناس وإلا فهذا السيف، فتركه المعتز، وكان ممّن بايع إبراهيم بن الديرج وعتّاب بن عتّاب، فأما عتاب فهرب إلى بغداد، وأما الديرج فأقر على الشرطة واستعمل على الدواوين وبيت المال وعلى الكتابة وغير ذلك.
قال: ولما وصل خبر بيعة المعتز إلى محمد بن عبد الله أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق فى المسير إلى بغداد هو وأهل بيته وجنده، وكتب إلى نجوبة «2» بن قيس وهو على الأنبار فى الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلى فى منع السفن والميرة عن سامرا، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بتحصين بغداد، فتقدم فى ذلك فأدير عليها السور، وأمر بحفر الخنادق من الجانبين، وجعل على كل باب قائدا، فبلغت النفقة على ذلك ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار، ونصبت المجانيق والعرّادات على الأبواب وشحن الأسوار، وفرض فرضا للعيارين ببغداد وجعل عليهم عريفا، وعمل لهم تراسا من البوارى المقيّرة، وأعطاهم المخالى ليجعلوا فيها الحجارة للرمى، وفرض أيضا لقوم من خراسان قدموا حجاجا، وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلد وموضع أن يحملوا الخراج(22/309)
إلى بغداد، وكتب إلى الجند والأتراك الذين بسامرا بنقض بيعة المعتز- مراجعة الوفاء له، وذكر أياديه عندهم ونهاهم عن النكث؛ وجرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله مكاتبات ومراسلات، فالمعتز يدعوه إلى بيعته ويذكره بما كان المتوكل أخذ عليه من البيعة بعد المنتصر، ومحمد يدعو المعتز إلى الرجوع إلى طاعة المستعين، واحتج كل منهما على صاحبه. قال:
وكتب كل من المعتز والمستعين إلى موسى بن بغا يدعوه إلى نفسه، وكان بأطراف الشام فانصرف إلى المعتز وصار معه، وقدم عبد الله بن بغا الصغير من سامرا إلى المستعين وكان قد تخلّف بعد أبيه، فاعتذر وقال لأبيه: إنما جئت لأموت تحت ركابك، فأقام ببغداد أياما ثم هرب إلى سامرا، واعتذر إلى المعتز وقال: إنما صرت إلى بغداد لأعلم أخبارهم وآتيك بها، فقبل عذره وردّه إلى خدمته، وورد الحسن بن الأفشين بغداد فخلع عليه المستعين، وضمّ إليه جماعة من الأشروسنية وغيرهم.
ذكر حصار المستعين ببغداد
قال: ثم عقد المعتز لأخيه أبى أحمد بن المتوكل وهو الموفق لسبع بقين من المحرم على حرب المستعين ومحمد بن عبد الله. وضم إليه الجيش وجعل إليه الأمور كلها، وجعل التدبير إلى كلباتكين «1» التركى، فسار فى خمسين ألفا من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، ونزل بباب الشماسية لسبع خلون من صفر، فراسله المستعين فى الكف عن القتال، وبذل له «2» الأموال وأن يكون المعتز ولى عهده، فأبى أبو أحمد ذلك فأمر المستعين عساكره ألا يبدأوا بقتال، قال: وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم بل ادفعوهم.
قال: ثم تقدم الأتراك إلى باب الشماسية. فخرج إليهم الحسين «3» بن(22/310)
إسماعيل فاقتتلوا، فقتل من الفريقين وجرح- وانهزم أهل بغداد. وسيّر الأتراك رءوس القتلى إلى سامرا. ووجّه المعتز عسكرا من الجانب الغربى فساروا إلى قطربل لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول «1» فأخرج إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جيشا فاقتتلوا قتالا شديدا كان الظفر لأصحاب المعتز. وكان بين الفريقين عدة وقائع يطول شرحها.
قال: وكان محمد بن عبد الله بن طاهر قائما فى خدمة المستعين أحسن قيام. فغيّره عبيد الله «2» بن يحيى بن خاقان. وقال له: إنّ هذا الذى تنصره وتجدّ فى أمره هو أشد الناس نفاقا. وأبدى للمستعين مساوئ كثيرة.
فتغيّر محمد بن عبد الله بن طاهر. فلما كان يوم الأضحى صلّى المستعين بالناس، ثم حضر محمد إليه وعنده الفقهاء والقضاة. فقال له: لقد كنت فارقتنى على أن تنفّذ أمرى فى كل ما أعزم عليه. وخطك عندى بذلك.
فقال المستعين: أحضر الرقعة فأحضرها. فإذا فيها ذكر الصلح. وليس فيها ذكر الخلع فقال: نعم امض الصلح «3» . فخرج محمد بن عبد الله بن طاهر إلى ظاهر باب الشماسية. فضرب له مضرب كبير فنزل فيه ومعه جماعة من أصحابه. وجاء أبو أحمد فى سمارية فصعد إليه. وتناظرا طويلا ثم خرجا، فجاء ابن طاهر إلى المستعين فأخبره أنّه بذل له خمسين ألف دينار ويقطع عليه ثلاثين ألف دينار. وعلى أن يكون مقامه بالمدينة يتردد منها إلى مكة ويخلع نفسه من الخلافة. وأن يعطى بغا ولاية الحجاز جميعه. ويولى وصيف الجبل وما والاه. ويكون ثلث ما يجبى من المال لمحمد بن عبد الله(22/311)
وجند بغداد، والثلثان للموالى والأتراك، فامتنع المستعين من الإجابة إلى الخلع. وظن أن وصيفا وبغا معه فكاشفاه، فقال: النطع والسيف.
فقال له ابن طاهر: لا بد من خلعها طائعا أو مكرها، فأجاب إلى الخلع وكتب بما أراد لنفسه من الشروط، وذلك لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة، وجمع محمد الفقهاء والقضاة وأدخلهم على المستعين وأشهدهم عليه، أنّه صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أخذ منه جوهر الخلافة، وبعث ابن طاهر إلى قواده ليوافوه، ومع كل قائد عشرة نفر من أصحابه، فأتوه فمنّاهم، وقال: ما أردت بما فعلت إلا صلاحكم وحقن الدماء، وأمرهم بالخروج إلى المعتز بالشروط التى شرطها للمستعين ولنفسه وقوّاده، ليوقع المعتز عليها بخطه فتوجهوا إلى المعتز فأجاب إلى ما طلبوا، ووقع عليه بخطه وشهدوا على إقراره، وخلع عليهم ووجّه معهم من يأخذ البيعة له على المستعين، وحمل إلى المستعين أمه وعياله بعد أن فتشوا وأخذ ما معهم.
ذكر خلع المستعين وخلافة المعتز بالله
ودخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
قال: وخلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز بالله بن المتوكل وهى البيعة العامة للمعتز، وخطب له ببغداد يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم، وأخذ له البيعة على كل من بها. قال: ولما كتب كتاب الشروط دخل محمد [بن عبد الله] «1» بن طاهر إلى المستعين ومعه سعيد بن حميد وقد كتب شروط الأمان، فقال: يا أمير المؤمنين- قد كتب سعيد كتاب الشروط فأكده غاية التأكيد، فقرأه عليه ليسمعه. فقال المستعين: لا حاجة لى إلى توكيدها، فما القوم بأعلم بالله منك، ولقد أكّدت على نفسك قبلهم فكان ما علمت، فما ردّ محمد شيئا.(22/312)
ذكر أخبار المستعين بعد خلعه وما كان من أمره إلى أن قتل وذكر أولاده وعمّاله ومدة عمره وخلافته
قال: ولما أشهد المستعين على نفسه بالخلع نقل من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل، ومعه عياله «1» وجميع أهله، وأخذ منه البردة والقضيب والخاتم وسيّروا إلى المعتز مع عبيد الله «2» بن عبد الله بن طاهر، ومنع من الخروج إلى مكة فاختار المقام بالبصرة، فقيل له إن البصرة وبيّة، فقال:
أهى أوبأ أو ترك الخلافة؟! وقال بعض الشعراء فى خلع المستعين:
خلع الخليفة «3» أحمد بن محمد ... وسيقتل التالىّ له أو يخلع
ويزول ملك بنى أبيه ولا يرى «4» ... أحد بملك مهم يستمتع «5»
إيها بنى العباس إنّ سبيلكم ... فى قتل أعبدكم سبيل «6» مهيع
رقعتم دنياكم فتمزّقت ... بكم الحياة تمزقا لا يرقع
قال: وسيّر المستعين إلى واسط، ثم كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بتسليمه إلى سيما الخادم، فكتب محمد إلى الموكلين به بذلك، ثم أرسل أحمد بن طولون فى تسليمه فأخذه أحمد، وسار به إلى «7» القاطول فسلّمه إلى سعيد بن صالح، فأدخله سعيد منزله وضربه حتى مات. وقيل بل جعل فى رجله حجرا وألقاه فى دجلة، وقيل كان قد حمل معه داية له، فلما أخذه سعيد وضربه صاح وصاحت دابته، فقتل وقتلت(22/313)
معه وحمل رأسه إلى المعتز وهو يلعب الشطرنج، فقيل له: هذا راس المخلوع، فقال: ضعوه حتى أفرغ من الدست، فلما فرغ نظر إليه وأمر به فدفن، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولّاه معونة البصرة.
قال: وكان مقتل المستعين فى آخر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وعمره احدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر إلا أياما وقيل أكثر، ومدة خلافته إلى أن خلع نفسه ثلاث سنين وسبعة أشهر. ونقش خاتمه: فى الاعتبار غنى عن الاختبار. وكان سمينا صغير العينين كبير اللحية أسودها بوجنته خال أسود، وكان فيه لين وانقياد لأتباعه؛ قال: وسبب تلقيبه بالمستعين أنه لما بويع له بالخلافة قال: أستعين بالله وأفعل. قال: ولم يل الخلافة من لدن المنصور إلى هذا الوقت من لم يكن أبوه خليفة غيره. وذكر ابن مسكويه فى كتاب تجارب الأمم: أن المستعين أخو المتوكل لأبيه.
والصحيح أنه ولد أخيه محمد بن المعتصم، وكان له من الأولاد الذكور ستة. وقد ذكرنا وزراءه أثناء دولته. حجابه: أوتامش ثم وصيف ثم بغا.
قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب «1» الأموى وقيل جعفر بن محمد بن عمار البرجمى «2» . الأمراء بمصر: يزيد بن عبد الله. قاضيها بكّار بن قتيبة.(22/314)
نعود إلى الحوادث فى أيام المعتز بالله فى بقية شهور سنة اثنتين وخمسين.
ذكر حال وصيف وبغا
قال: وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فى اسقاط اسم بغا ووصيف ومن معهما من الدواوين، فوجّه وصيف أخته سعاد «1» إلى المؤيد وكان فى حجرها، فكلّم المؤيد المعتز فى الرضى عن وصيف فرضى عنه، وتكلم أبو أحمد ابن المتوكل فى بغا فرضى عنه، وعاد إلى سامرّا وأعادهما المعتز إلى منزلهما من الخدمة، وخلع عليهما وعقد لهما على أعمالهما، وجعل البريد إلى موسى بن بغا الكبير، واستوزر أحمد بن أبى اسرائيل.
وفيها شغب الجند ببغداد على محمد بن عبد الله فى طلب أرزاقهم، ففرّق فيهم ألفى دينار، ثم شغبوا مرة ثانية وعسكروا بباب الشماسية وباب حرب، وكانت بينهم وبين أصحاب محمد وقعات، ثم تفرّقوا ورجعوا إلى منازلهم.
ذكر خلع المؤيد وموته
وفى شهر رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد بعده، وحبسه هو وأبا أحمد وقيّد المؤيد وقيل أنه ضربه أربعين مقرعة، وأخذ خطّه بخلع نفسه، ثم بلغه أن الأتراك يريدون إخراجه فأخرجه من الغد ميتا. وأوقف القضاة والفقهاء والوجوه عليه، وأنّه لا أثر به ولا جراحة.
وحمل إلى أمّه ومعه كفنه وأمرت بدفنه، فقيل إنه أدرج فى لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات، وقيل إنّه أقعد فى الثلج وجعل على رأسه منه فمات من البرد. وكان ذلك فى شهر رجب.(22/315)
ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة
وفى مستهل شهر رجب كانت الفتنة بين الطائفتين، وسببها أن الأتراك وثبوا بعيسى بن فرّخانشاه فضربوه وأخذوا دابته، فاجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد «1» وأخرجوا الأتراك من الجوسق، وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة وتخلعون آخر وتقيمون وزيرا، وصار الجوسق وبيت المال فى أيدى المغاربة وأخذوا دواب الأتراك، والتقوا هم والمغاربة وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة، فضعف الأتراك وانقادوا، فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم على أن لا يحدثوا شيئا، فمكثوا مدة ثمّ اجتمع الأتراك فقتلوا محمد بن راشد ونصر بن سعيد.
وفيها خرج مساور بن عبد الحميد «2» البجلى الموصلى بالموصل بالبوازيج، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها عقد لعيسى بن الشيخ- وهو من ولد جسّاس بن مرّة- على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء «3» إليها فاستولى على فلسطين جميعها، فلما كان من أمر الأتراك بالعراق ما كان تغلّب على دمشق وأعمالها، وقطع ما كان يحمل من الشام إلى الخليفة واستبّد بالأموال.
وحجّ بالناس محمد بن عيسى «4»
ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
ذكر قتل وصيف
وفيها قتل وصيف وسبب ذلك أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا(22/316)
وطلبوا أرزاقهم لاربعة أشهر، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما فكلّمهم فقال لهم: خذوا التراب، ليس عندنا مال، وقال لهم بغا: نعم نسأل أمير المؤمنين، ودخلوا دار إشناس، ومضى سيما وبغا إلى المعتز وبقى وصيف فى أيديهم، فقتلوه ونصبوا رأسه على محراك تنوّر، فجعل المعتز ما كان لوصيف إلى بغا الشّرابى الصغير، وألبسه التاج والوشاحين.
ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعى
كانت وفاته فى الليلة الرابعة عشر من ذى القعدة، وكانت علّته قروحا أصابته فى حلقه ورأسه فذبحته، ولما اشتد مرضه كتب إلى عمّاله وأصحابه بتفويض ما إليه من الولاية إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فلما مات تنازع ابنه طاهر وأخوه عبيد الله الصلاة عليه، فصلّى عليه ابنه، ثم وجه المعتز بعد ذلك الخلع إلى عبيد الله.
وفيها نفى أبو أحمد بن المتوكل إلى البصرة ثم ردّ إلى بغداد، ونفى على بن المعتصم إلى واسط ثم ردّ إلى بغداد.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن محمد بن سليمان وفيها كان ابتداء دولة يعقوب بن الليث الصفّار وملك هراة وبوشنج على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
ذكر مقتل بغا الصغير الشّرابى
كان سبب قتله أنّه كان يحرّض المعتز على المسير إلى بغداد، والمعتز لا يوافقه على ذلك ويكرهه، واتفق أن بغا اشتغل بتزويج ابنته من صالح بن وصيف، فركب المعتز ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرّا إلى بايكباك(22/317)
التركى ومن معه. وهم من المنحرفين عن بغا. وبايكباك قد شرب مع بغا فعربد أحدهما على الآخر، فاختفى بايكباك. فلما أتاه المعتز اجتمع معه أهل الكرخ وأهل الدور، وأقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا فبلغ ذلك بغا.
فخرج فى ألف فارس من غلمانه وقوّاده. فصار إلى السنّ فلما جنّه الليل ركب فى زورق. ومعه خادمان وشىء من المال الذى صحبه. وكان قد صحبه تسع عشرة بدرة من الدناينير ومائة بدرة من الدراهم. ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولم يعلم به أحد من عسكره. فصار إلى الجسر فى الثلث الأول من الليل، وخرج إلى البستان الخاقانى فلحقه عدة من الموكلين بالجسر. فوقف وعرّفهم نفسه وقال: إما أن تذهبوا معى إلى صالح بن وصيف. وإما أن تصيروا معى حتى أحسن إليكم. فتوكّل به بعضهم وأرسلوا إلى المعتز بخبره فأمر بقتله فقتل وحمل رأسه إلى المعتز. فنصب بسامرا وببغداد وأحرقت المغاربة جثّته. قال: وكان أراد أن يختفى عند صالح بن وصيف، فإذا اشتغل الناس بالعيد- وكان قد قرب- خرج هو وصالح ووثبا بالمعتز. فلم يمهله القدر.
وحج بالناس على بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
ذكر خلع المعتز بالله وموته وشىء من أخباره
وفى يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر رجب منها خلع المعتز. وكان سبب ذلك أن الأتراك شغبوا فى طلب أرزاقهم. وصاروا إلى المعتز وقالوا:
أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف- وكان صالح قد دبّر عليه. فلم يجد ما يعطيهم فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار. فأرسل المعتز إلى أمّه يسألها أن تعطيه مالا يعطيه لهم. فقالت: ما عندى شىء، فلما رأى الأتراك أنّهم(22/318)
لا يحصل لهم من المعتز وأمه شىء اتفقت كلمتهم وكلمة المغاربة والفراغنة على خلع المعتز، فصاروا إليه وصاحوا به، ودخل صالح بن وصيف ومحمد بن بغا وبايكباك فى السلاح وجلسوا على بابه، وبعثوا إليه أن اخرج إلينا، فقال: قد شربت دواءا بالأمس وأفرط فى العمل، وإن كان أمر لا بدّ منه فليدخل بعضكم، فدخل إليه جماعة فجروا برجله إلى باب الحجرة.
وضربوه بالدبابيس وخرّقوا قميصه وأقاموه فى الشمس فى الدار، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبعضهم يلطمه وهو يتقى بيده، ثم أدخلوه حجرة وأحضروا ابن أبى الشوارب وجماعة فشهدوا على خلعه، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وأخته الأمان، وكانت أمه قد اتخذت فى دارها سردابا فخرجت منه هى وأخت المعتز. قال: وسلّموا المعتز إلى من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم أدخلوه سردابا وجصّصوه عليه فمات، فأخرجوه لليلتين خلتا من شعبان وأشهدوا على موته بنى هاشم والقوّاد، وأنّه لا أثر به ودفنوه بسامرّا مع المنتصر، وصلّى عليه المهتدى بالله. وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، وقيل أربعا وعشرين سنة وثلاثة وعشرين يوما.
ومدة خلافته من لدن بويع له بسامرّا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرون يوما. وكان أبيض أكحل أسود الشعر كثيفه حسن العينين- وكان يوثر اللذات. وكان نقش خاتمه: الحمد لله رب كل شىء وخالقه. ولده: عبد الله صاحب التشبيهات والشعر الرائق. وزراؤه:
جعفر بن محمود «1» الإسكافى ثم عيسى بن فرّخانشاه ثم أبو جعفر أحمد بن إسرائيل الأنبارى. قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب. حاجبه: صالح بن وصيف وكان غالبا على أمره. الأمراء بمصر: يزيد بن عبد الله ثم مزاحم بن(22/319)
خاقان «1» أخو الفتح ثم ابنه أحمد ثم أرخوز «2» التركى ثم أحمد بن طولون. قاضيها: بكّار بن قتيبة «3» .
ذكر خلافة المهتدى بالله
هو أبو عبد الله محمد بن هارون الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى ابن المنصور، وأمه رومية اسمها قرب، وهو الرابع عشر من الخلفاء العباسيين بويع له يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ولقّب بالمهتدى ولم يقبل بيعته أحد حتى أتى بالمعتز فخلع نفسه، وأقر بالعجز عما أسند إليه وبالرغبة فى تسليمها إلى محمد بن الواثق وبايعه، فبايعه الخاصة والعامة بسامرا؛ قال: وكتب إلى سليمان بن عبد الله أن يأخذ له البيعة ببغداد، فورد كتابه فى سلخ شهر رجب، وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد فأرسل سليمان إليه فأخذه إلى داره، فثار من ببغداد «4» من الجند والعامة لما بلغهم خبر المعتز، وأتوا باب سليمان فقاتلهم أصحابه، فقيل لهم ما ورد علينا من سامرا خبر فانصرفوا ورجعوا من الغد، وهجموا دار سليمان فى اليوم الثالث ونادوا باسم أبى أحمد ودعوا إلى بيعته، وسألوا سليمان أن يريهم أبا أحمد فأظهره لهم ووعدهم الخير ثم أرسل إليهم من سامرا مال ففرّق فيهم، فرضوا وبايعوا للمهتدى وذلك لسبع خلون من شعبان.
ذكر ظهور قبيحة أم المعتز بالله
كانت قد خرجت من السرداب الذى صنعته فى دارها واستترت،(22/320)
وكان سبب هربها أنّها كانت واطأت بعض الكتّاب على الفتك بصالح بن وصيف، فأوقع بهم صالح وعذّبهم فعلمت أنهم لا يكتمون عنه أمرها، فخرجت وأخرجت ما فى الخزائن إلى خارج الجوسق، فلما جرت «1» الحادثة على ابنها علمت أن حالها لا يخفى، وأن الذى تختفى عنده يطمع فى مالها وفى نفسها ويتقرّب إلى صالح، فأرسلت امرأة عطارة إلى صالح بن وصيف فتوسطت الحال بينهما، وظهرت فى شهر رمضان وأحضرت أموالها من بغداد وهى خمسمائة ألف دينار، وظفروا لها بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، من جملتها دار وجد فيها ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا فى سفط مقدار مكوك من الزمرد لم ير الناس مثله وفى سفط آخر مكوك من اللؤلؤ الكبار. وفى سفط آخر مقدار كيلجة من الياقوت الأحمر الذى لا يوجد مثله، فحمل الجميع إلى صالح. فسبّها وقال: عرّضت ابنها للقتل فى خمسين ألف دينار- وعندها هذا المال جميعه!! ثم سارت قبيحة إلى مكة فسمعت تدعو على صالح بصوت عال تقول: اللهم اخز صالحا كما هتك سترى، وقتل ولدى، وبدّد شملى، وأخذ مالى. وغرّبنى عن بلدى.
وركب الفاحشة منّى؛ وكان المتوكل سماها قبيحة لجمالها- فهو من أسماء الأضداد.
وفيها استولى مساور الخارجى على الموصل. وفيها خرج صاحب الزّنج فى فرات البصرة. وكان منه ما نذكره إن شاء الله فى أخباره. وفيها ولى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد والسواد فى شهر ربيع الأول فى أيام المعتز، وكان قد فرّ من الحسن بن زيد العلوى فاستعمله المعتز على بغداد.
فقال ابن الرومى:
من عذيرى من الخلايف ضلّوا ... فى سليمان عن سواء السبيل(22/321)
نقلوه على الهزيمة بغداد ... كأن قد أتى بفتح جليل
من يخوض الردى إذا كان من ف ... ر أثابوه بالجزاء الجليل
وحجّ بالناس: على بن الحسين بن العباس العباسى
ودخلت سنة ست وخمسين ومائتين
ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرّا واختفاء صالح بن وصيف
وفى ثانى عشر شهر المحرم دخل موسى بن بغا إلى سامرّا، وقد عبّأ أصحابه فاختفى صالح بن وصيف وجاء موسى إلى الجوسق، والمهتدى جالس للمظالم فأعلم به، فأمسك ساعة عن الأذن ثم أذن له ولمن معه فدخلوا وتناظروا وأقاموا المهتدى من مجلسه وحملوه على دابّة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان فى الجوسق وأدخلوا المهتدى دار ياجور، وكان سبب أخذه أنّ بعضهم قال: إنما هذه المطاولة حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بجيشه، فخافوا من ذلك فأخذوه، فقال لموسى: ويحك!! اتق الله فإنّك ركبت أمرا عظيما، فقال له موسى: وتربة المتوكل ما نريد إلا خيرا- ولو أراد به خيرا لقال وتربة المعتصم أو الواثق، ثم أخذوا عليه العهود ألا يميل مع صالح، ولا يضمر إلا مثل ما يظهر، ثم جدّدوا له البيعة، وطلبوا صالح بن وصيف ليحضر ويطالبوه بدم الكتّاب الذين قتلهم- وهم أحمد بن إسرائيل وأبو نوح، ويطالبوه بأموال المعتز فوعدهم بالحضور، فلما كان الليل رأى أصحابه قد تفرّقوا عنه فهرب واختفى.
ذكر قتل صالح بن وصيف
كان صالح قد اختفى وقام الأتراك فى طلبه، واتهموا الخليفة أنّه يعرف مكانه وراسلوه مراسلات وعزموا على خلعه. فحلف لهم أنه لا يعلم أين(22/322)
هو، وثارت الفتن بسببه، فجاء غلام إلى دار يطلب ماء فسمع قائلا يقول: أيها الأمير تنحّ فهذا غلام يطلب ماء، فسمع الغلام فجاء إلى عيّار فأخبره، فأخذ معه ثلاثة نفر وجاء إلى صالح وبيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته، فأخذه فتضرّع إليه فقال: لا يمكننى تركك، ولكنّى أمرّ بك على أبواب «1» أهلك وقوّادك وأصحابك، فإن اعترضك منهم اثنان أطلقتك، فأخرج حافيا وليس على رأسه شىء، والعامة تعدو خلفه وهو على برذون بإكاف، فأتوا به نحو الجوسق فقتلوه، وذلك لثمان «2» بقين من صفر منها، وأخذوا رأسه وحمل وطيف به على قناة ونادوا عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ولما قتل أنزل رأس بغا الصغير ودفع الى أهله ليدفنوه.
ذكر خلع المهتدى وموته
قال: وكان خلعه فى منتصف «3» شهر رجب سنة ست وخمسين ومائتين؛ وتوفى لاثنتى عشرة ليلة بقيت منه، وسبب ذلك أن أهل الكرخ والدور من «4» الأتراك تحركوا فى طلب أرزاقهم أول شهر رجب، فسكّنهم المهتدى فرجعوا، فبلغ أبا نصر محمد بن بغا أن المهتدى قال: إن المال عند محمد وموسى ابنى بغا، فهرب إلى أخيه وهو يقاتل مساور الخارجى، فكتب المهدى إليه أربع كتب يعطيه الأمان، فرجع هو وأخوه حبشون «5» فحبسهما ومعهما كيغلغ، وطولب أبو نصر محمد بن بغا بالمال،(22/323)
فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل لثلاث خلون من شهر رجب ورمى فى بئر فأنتن، وأخرجوه إلى منزله وصلّى عليه الحسن بن المأمون.
وكتب المهتدى إلى موسى بن بغا لما حبس أخاه يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والرجوع إليه، وكتب إلى بايكباك أن يتسلّم العسكر ويقوم بحرب مساور، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه عليه، وقال: لست أفرح بهذا فإنّه تدبير علينا جميعا- فما ترى؟ قال موسى: أرى أن تصير إلى سامرّا وتخبره أنّك فى طاعته، وناصره علىّ وعلى مفلح فإنّه يطمئن إليك ثم تدبّر فى قتله، فأقبل إلى سامرا ومعه يارجوخ «1» وأسارتكين وسيما الطويل وغيرهم، فدخلوا دار الخلافة لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر رجب، فحبس بايكباك وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيرهم من الأتراك وقالوا: لم حبس قائدنا؟ ولم قتل محمد بن بغا؟ وكان عند المهتدى صالح ابن على بن يعقوب بن المنصور فشاوره فيه، فقال: إنه لم يبلغ أحد من آبائك «2» ما بلغته من الشجاعة، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا عند أصحابه، وقد كان فيهم من يعبده، فما كان إلا أن طرح رأسه حتى سكنوا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا، فركب المهتدى وقد جمعوا له جميع المغاربة والأتراك والفراغنة، فصيّر فى الميمنة مسرورا «3» البلخى- وفى الميسرة يارجوخ- ووقف هو فى القلب مع أسارتكين وطبايغو وغيرهما من القواد، وأمر بقتل بايكباك فقتل وألقى رأسه إليهم عتّاب بن عتّاب فقتلوه، وعطفت ميمنة المهتدى وميسرته بمن فيها من الأتراك فصاروا مع إخوانهم الأتراك، فانهزم الباقون عن المهتدى وقتل جماعة من الفريقين، فانهزم المهتدى وبيده السيف وهو ينادى: يا معشر الناس- أنا أمير(22/324)
المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم فلم يجبه أحد من العامة، فصار إلى السجن وأطلق من فيه وهو يظن أنهم يعينونه فهربوا، فصار إلى دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة فدخلها وهم فى أثره، فدخلوا عليه وأخرجوه وساروا به إلى الجوسق وهو على بغل، فحبس عند أحمد بن خاقان وقبّل المهتدى يده- فيما قيل- مرارا كثيرة، وأرادوه على الخلع فأبى واستسلم للقتل، فداسوا خصيتيه فمات واشهدوا على موته أنه سليم ليس فيه أثر؛ قال: وكانوا قد خلعوا أصابع يديه ورجليه من كعبيه، وقيل إن ابن عم بايكباك وجأه بسكين فقتله وشرب من دمه، قال: وطلبوا محمد بن بغا فوجدوه ميتا فكسروا على قبره ألف سيف.
وكانت خلافة المهتدى أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة، وقيل أكثر إلى أربعين سنة وقيل اقل إلى سبع وثلاثين. وكان مربوعا أسمر واسع الجبهة رقيقا أشهل طويل اللحية عظيم «1» البطن، وكان حسن الطريقة. قال: وصلّى عليه القاضى جعفر بن عبد الواحد «2» الهاشمى، ودفن بسامرا وكان مولده بالقاطول. وكان نقش خاتمه: من تعدّى الحق ضاق مذهبه. وكان له من الأولاد خمسة عشر ذكرا. وزراؤه أبو أيوب سليمان بن وهب وجعفر بن محمود الإسكافى وأبو صالح عبد الله «3» بن محمد وغيرهم، قاضيه: الحسن بن أبى الشوارب ثم عبد الرحمن بن نائل البصرى «4» . حجابه: صالح بن وصيف وبايكباك «5» وموسى بن بغا. الأمير بمصر: أحمد بن طولون. قاضيها بكّار.(22/325)
ذكر شىء من سيرة المهتدى
كان رحمه الله من أحسن الخلفاء طريقة، وأكثرهم ورعا وعبادة، قال عبد الله بن إبراهيم «1» الإسكافى: جلس المهتدى يوما للمظالم فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه، فقال الرجل للمهتدى: والله ما أنت- يا أمير المؤمنين- إلا كما قال القائل:
حكّمتموه فقضى «2» بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة فى حكمه ... ولا يبالى عنت «3» الخاسر
فقال المهتدى: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ
«4» الآية، فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم. وقال أبو العباس هاشم بن القاسم الهاشمى: كنت عند المهتدى فى بعض عشايا رمضان، فقمت لأنصرف فأمرنى بالجلوس فجلست حتى صلّى بنا المغرب، ثم أمر بالطعام فأحضر:
طبق خلاف عليه رغيفان وفى إناء ملح وفى آخر زيت وفى آخر خلّ، فدعانى إلى الأكل فأكل وأكلت مقصرا، ظنا منّى أنّه يحضر طعاما جيدا، فلما رأى أكلى كذلك قال: أما كنت صائما؟! قلت: بلى، ولست تريد الصوم غدا؟ قلت: وكيف لا وهو شهر رمضان! فقال: كل واستوف عشاك فليس هناك غير ما ترى، فعجبت من قوله وقلت: لم- يا أمير المؤمنين؟
أسبغ الله عليك النعمة ووسّع رزقه، فقال: إن الأمر على ما ذكرت والحمد لله، ولكنى فكّرت أنّه كان من بنى أمية عمر بن عبد العزيز فغرت على بنى هاشم ألا يكون فى خلفائهم مثله، فأخذت نفسى بما رأيت؛ قال إبراهيم بن(22/326)
مخلد عن بعض الهاشميين: إنهم وجدوا للمهتدى سفطا فيه جبّة صوف وكساء وبرنس، كان يلبس ذلك بالليل ويصلّى، ويقول: أما يستحى بنو العباس ألا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز، ولما قتله الأتراك تضاربوا على السفط وقدروا أن فيه ذخائره، فلما اطلعوا على ما فيه أظهروا الندم على قتله. وكان قد اطّرح الملاهى وحرّم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم «1» .
قال ابن الجوزى «2» : وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج، يحبس نفسه فى الحسابات، وكان يجلس فى يوم الخميس والإثنين والكتّاب بين يديه رحمه الله تعالى.
ذكر خلافة المعتمد على الله
هو أبو العباس أحمد- وقيل أبو جعفر- بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها فتيان «3» ، وهو الخامس عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له فى منتصف شهر رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وذلك أنّه لما أخذ المهتدى وحبس حضر أبو العباس وكان محبوسا بالجوسق، فبايعه الأتراك وكتب إلى موسى بن بغا بذلك وكان بخانقين، فحضر إلى سامرّا وبايعه، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينية
قد ذكرنا «4» أن ابن الشيخ كان قد استولى على دمشق وقطع الحمل(22/327)
عن بغداد، واتفق أنّ ابن المدبّر حمل من مصر إلى بغداد سبعمائة ألف دينار، فأخذها عيسى بن الشيخ، فأرسل إليه من بغداد حسين الخادم فطالبه بالمال، فذكر أنّه أخرجه على الجند، فأعطاه حسين عهده على أرمينية ليقيم الدعوة للمعتمد، وكان قد امتنع من ذلك فأخذ العهد، وأقام الدعوة، ولبس السواد ظنّا منه أن الشام يكون بيده، فأنفذ المعتمد أما جور وقلّده دمشق وأعمالها، فسار إليها فى ألف رجل، فلما قرب منها أنهض عيسى إليه ولده منصورا فى عشرين ألف مقاتل، واقتتلوا فانهزم عسكر منصور وقتل هو، فوهن عيسى وسار إلى أرمينية على طريق الساحل.
وفيها ظهر على بن زيد العلوى بالكوفة، واستولى عليها وأخرج عامل الخليفة منها، وكان من أمره ما نذكره- إن شاء الله- فى أخبارهم.
ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين
ذكر ورود أبى أحمد الموفق من مكة وما عقد له المعتمد من الأعمال
كان سبب وروده أن أمر الزنج كان قد اشتد وعظم شرهم وفسادهم فى البلاد، فأرسل المعتمد على الله إلى أخيه أبى أحمد الموفّق وأحضره من مكة، فلما حضر عقد له على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز «1» ، وكان بين الزنج وعمال المعتمد وقائع كثيرة نذكرها إن شاء الله فى أخبارهم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق بن العباس العباسى «2»(22/328)
ودخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين
فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول عقد المعتمد لأخيه أبى أحمد الموفق على ديار مضر «1» وقنسرين والعواصم، وخلع على مفلح فى شهر ربيع الآخر وسيّرهما لحرب الزنج بالبصرة، فقتل مفلح بسهم أصابه.
وفيها مات يارجوخ التركى فى شهر رمضان وكان صاحب مصر ومقطعها ويدعى له فيها، فلما توفى استقل أحمد بن طولون بالأمر، وكان قبل ذلك نائبه بها.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق بن الحسن.
ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين
فى هذه السنة دخلت الزنج الأهواز، وسار موسى بن بغا لحربهم.
وفيها ملك يعقوب بن الليث نيسابور على ما نذكره. وفيها قتل كنجور، وسبب قتله أنّه كان على الكوفة، فسار عنها إلى سامرّا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى فحمل إليه مال ليفرقه فى أصحابه فلم يقنع به، وسار حتى أتى عكبرا فوجّه إليه من سامرّا عدة من القوّاد فقتلوه، وحملوا رأسه إلى سامرّا وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسى
ودخلت سنة ستين ومائتين
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم
كان المعتمد قد استعمل على الموصل أساتكين وهو من أكابر قوّاد الأتراك فسيّر إليها ابنه اذكوتكين «2» فى جمادى الأولى سنة تسع وخمسين(22/329)
ومائتين، فلما كان يوم النوروز من هذه السنة دعا وجوه أهل الموصل إلى قبّة فى الميدان، وأحضر أنواع الملاهى وتجاهر بالشرب والفسوق وفعل المنكرات، وأساء السيرة، ثم طالب أهل الموصل بالخراج عن غلات كانت قد هلكت من البرد. فاشتد ذلك على الناس، وكان لا يسمع بفرس جيد إلا أخذه من صاحبه، وأهل الموصل صابرون على ذلك كله منه. إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها من الطريق. فامتنعت واستغاثت. فقام رجل من أهل القرآن والصلاح اسمه إدريس الحميرى فخلّصها من يده. فعاد الجندى إلى ابن اساتكين فشكا من إدريس.
فأحضره وضربه ضربا شديدا من غير أن يكشف عن الأمر. فاجتمع وجوه أهل الموصل بالجامع وقالوا: قد صبرنا على أخذ الأموال وشتم الأعراض وإبطال السنن وإظهار البدع فلا نصبر على أخذ الحريم. واتفقوا على أن يشكوه إلى الخليفة، فبلغه الخبر فركب فى جنده ومعه النفّاطون، فخرجوا إليه ولقوه وقاتلوه قتالا شديدا حتى أخرجوه عن الموصل، ونهبوا داره وأصابه حجر فشجّه، ومضى من يومه إلى سامرا، فاجتمع أهل الموصل إلى يحيى بن سليمان وقلّدوه أمرهم، فبقى كذلك إلى أن انقضت سنة ستين ودخلت إحدى وستين، فكتب اساتكين إلى الهيثم «1» بن عبد الله بن المعمر التغلبى ثم العدوى «2» فى أن يتقلّد الموصل، وأرسل إليه الخلع واللواء وكان بديار ربيعة، فجمع جموعا كثيرة وسار إلى الموصل، فنزل بالجانب الشرقى وبينه وبين البلد دجلة فقاتلوه، فعبر إلى الجانب الغربى وزحف إلى باب البلد، فخرج إليه يحيى بن سليمان فى أهل الموصل فقاتلوه، فقتل منهم قتلى كثيرة وكثرت الجراحات، وعاد الهيثم عنهم فاستعمل اساتكين على الموصل إسحاق ابن أيوب التغلبى؛ فخرج فى عشرين ألفا منهم حمدان بن حمدون التغلبى(22/330)
وغيره، فنزل عند الدير الأعلى فقاتله أهل الموصل، ومنعوه وداموا على ذلك مدة، ومرض يحيى بن سليمان فطمع إسحاق فى البلد وجدّ فى الحرب، فانكشف الناس بين يديه فدخل البلد، ووصل إلى سوق الأربعاء وأحرق سوق الحشيش «1» ، فخرج بعض العدول واسمه زياد بن عبد الواحد وعلّق فى عنقه مصحفا، واستغاث بالمسلمين فأجابوه وعادت الحرب، فأخرجوا إسحاق وأصحابه عن المدينة، وبلغ سليمان الخبر فأمر أن يحمل فى محفّة ويجعل أمام الصفّ، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم واشتد قتالهم، فلم يزل الأمر على ذلك وإسحاق يراسلهم ويبذل لهم الإحسان وحسن السيرة، فأجابوه إلى أن يدخل البلد ويقيم بالربض الأعلى، فدخل وأقام سبعة أيام، ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شرور، فرجعوا إلى الحرب وأخرجوه عنها واستولى يحيى بن سليمان على الموصل، إلى أن استعمل المعتمد الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبى الموصلى فى سنة إحدى وستين.
وحجّ بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل وهو أمير مكة.
ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين
ذكر البيعة بولاية العهد للمفوّض جعفر بن المعتمد وللموفق الناصر لدين الله أبى أحمد أخى المعتمد
قال: وفى شوال من هذه السنة جلس المعتمد على الله فى دار العامة، وولّى ابنه جعفرا العهد ولقّبه المفوّض إلى الله وضمّ إليه موسى بن بغا، فولاه أفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان(22/331)
ومهرجانقذق «1» ، وولّى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر ولقّبه الناصر لدين الله الموفّق، وولّاه المشرق «2» وسواد «3» الكوفة وطريق مكة والمدينة «4» واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس واصبهان وقمّ وكرج ودينور والرىّ وزنجان «5» والسند، وعقد لكل واحد منهما «6» لواءين أبيض وأسود، وشرط إن حدث به أمر «7» وجعفر لم يبلغ أن يكون الأمر للموفّق ثم لجعفر بعده، وأخذت البيعة بذلك، فعقد جعفر لموسى على المغرب وأمر الموفّق بالمسير لحرب الزنج، فولى الموفّق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسرورا البلخى، وسيّره فى مقدمته فى ذى الحجة، وعزم على المسير بعده، ثم شغله حرب يعقوب الصفّار على ما نذكره إن شاء الله.
وفيها كان ابتداء الدولة السامانية بولاية نصر بن أحمد السامانى ما وراء النهر على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة السامانية.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن إسحاق العباسى
ودخلت سنة اثنتين وستين ومائتين
فى هذه السنة كانت الحرب بين الموفق ويعقوب بن الليث الصفّار على ما نذكره فى أخباره. وفيها وقعت الوحشة بين الموفّق وبين أحمد بن طولون أمير مصر واستحكمت، فطلب الموفّق من يتولى الديار المصرية فلم يجد أجدا، لأن ابن طولون كانت هداياه وخدمه متصلة إلى القوّاد وأرباب(22/332)
المناصب بالعراق، فكتب إلى أحمد بن طولون يتهدّده بالعزل. فأجابه بجواب فيه بعض الغلظة، فسيّر الموفّق إليه موسى بن بغا فى جيش كثيف، فسار إلى الرقّة فبلغ الخبر ابن طولون فحصّن الديار المصرية، وأقام ابن بغا بالرقّة عشرة أشهر لم يمكنه المسير لقلّة الأموال معه، وطالبه الأجناد بالعطاء فلم يكن معه ما يعطيهم، فاختلفوا عليه وثاروا بوزيره عبد الله بن سليمان فاستتر، فاضطر موسى إلى العود إلى العراق فعاد، وتصدّق ابن طولون بأموال كثيرة.
وحكى ابن الجوزى بسند رفعه إلى أبى عون الفرايضى قال «1» :
خرجت إلى مجلس أحمد بن منصور الزيادى سنة اثنتين وستين ومائتين، فلما صرت بطاق الحرّانى رأيت رجلا قد أمر بالقبض على امرأة، وأمر بجرّها فقالت له: اتق الله، فأمر أن تجرّ فلم تزل تناشده الله وهو يأمر بجرها، إلى أن بلغت إلى باب القنطرة، فلما يئست من نفسها رفعت رأسها إلى السماء، ثم قالت: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، إن كان هذا الرجل يظلمنى فخذه؛ قال أبو عون: فوقع الرجل على ظهره ميتا وأنا أراه، فحمل على جنازة وانصرفت المرأة.
وحج بالناس الفضل بن إسحاق العباسى
ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين
فى هذه السنة استولى يعقوب بن الليث على الأهواز. وفيها سلمت قلعة الصقالبة إلى الروم. وفيها مات الشارى الخارجى فبايع أصحابه أيوب(22/333)
ابن حيان الوارقى «1» ، فقتل فبايعوا محمد بن عبد الله بن يحيى الوارقى المعروف بالغلام، فقتل أيضا فبايعوا هارون بن عبد الله البجلى، وكان من أخباره ما نذكره. وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد على الله، صدمه خادم بالميدان فسقط فسال دماغه من منخريه وأذنيه فمات لوقته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، وقدم موسى بن بغا فاختفى الحسن فاستورز سليمان بن وهب.
ودخلت سنة أربع وستين ومائتين
فى هذه السنة أسرت الروم عبد الله «2» بن رشيد «3» بن كاووس، وكان سبب ذلك أنه دخل بلد الروم فى أربعين ألف مقاتل من أهل الثغور الشامية فغنم وقتل فلما رحل عن البذندون خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قرة وكوكب «4» وخرشنة وأحدقوا بالمسلمين، فنزل المسلمون وعرقبوا دوابّهم وقاتلوا، إلا خمسمائة منهم فإنهم حملوا حملة رجل واحد ونجوا على دوابهم، وقتل الروم من قتلوا وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته وحمل إلى ملك الروم. وفيها دخلت الزنج إلى واسط.(22/334)
ذكر أخبار الوزراء
فى هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا، وشيّعة الموفّق والقواد، فلما صار إلى سامرّا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيّده وانتهب داره، واستوزر الحسن بن مخلد فى ذى القعدة، فسار الموفق إلى سامرا ومعه عبد الله بن سليمان بن وهب، فلمّا قرب من سامرا تحوّل المعتمد إلى الجانب الغربى مغاضبا للموفّق، واختلفت الرسل بينهما فاتفقا، وخلع على الموفّق ومسرور وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا وأطلق سليمان بن وهب، وعاد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد ومحمد بن صالح بن شيرزاد، فكتب فى قبض أموالهما، وهرب القوّاد الذين كانوا بسامرا مع المعتمد خوفا من الموفّق، ووصلوا إلى الموصل وجبوا الخراج.
وفيها مات أماجور وملك أحمد بن طولون الشام وطرسوس على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار الدولة الطولونية وفيها ملك المسلمون مدينة سرقوسة، وهى من أعظم بلاد صقلية وذلك فى رابع عشر شهر رمضان.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمى «1»
ودخلت سنة خمس وستين ومائتين
فى هذه السنة استعمل الموفق مسرورا البلخى على أعمال الأهواز، وكانت له وقعة مع الزنج فهزمهم، وفيها كانت وفاة «2» يعقوب بن الليث الصفّار بجند يسابور فى تاسع عشر شوال، وقام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث. وفيها حبس الموفّق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وعدة من(22/335)
أصحابهما، وقبض أموالهم وضياعهم خلا أحمد بن سليمان، ثم صالح سليمان وابنه عبد الله «1» على تسعمائة ألف دينار، وجعلا فى موضع يصل إليهما من أراد. وفيها «2» عسكر موسى بن أوتامش وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا وعبروا جسر دجلة، فأتبعهم الموفق صاعد بن مخلد فردهم من صرصر وخلع عليهم «3» . وفيها خرج خمسة من بطارقة الروم إلى أذنه فقتلوا وأسروا أرخوز «4» ، وكان قبل ذلك يلى الثغور فعزل عنها وأقام مرابطا، وأسروا نحوا من أربعمائة وقتلوا نحوا من ألف وأربعمائة وذلك فى جمادى الأولى.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى.
ودخلت سنة ست وستين ومائتين
فى هذه السنة غلب أساتكين على الرىّ واخرج عاملها، ومضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ فصالحه فعاد إلى الرىّ وفيها كانت وقائع بين المتغلبين على الأطراف لا فائدة من ذكرها وحجّ بالناس هارون الهاشمى.(22/336)
ودخلت سنة سبع وستين ومائتين
فى هذه السنة كان بين الموفق والزنج حروب طويلة «1» ، ضعف بسببها أمرهم، ولم يكن من أحوال الخلافة ما نذكره، لتغلّب العمال على الأطراف واشتغال بعضهم ببعض، على ما نورد ذلك كله فى مواضعه إن شاء الله تعالى.
وحج بالناس هارون
ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين
لم تكن فى هذه السنة إلا أخبار الزنج وحروبهم والخوارج، ويرد ذلك فى موضعه.
وحج بالناس هارون
ودخلت سنة تسع وستين ومائتين
فى هذه السنة حارب الموفّق أيضا صاحب الزنج، واستولى الموفّق على مدينتى صاحب الزنج الغربية ثم الشرقية، وهدم قصره فى حروب طويلة لا فائدة فى ذكرها.
ذكر مسير المعتمد على الله إلى مصر وعوده قبل الوصول اليها
فى هذه السنة سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنّه لم يكن له من الخلافة إلا اسمها، ولا ينفذ له توقيع فى قليل ولا كثير، وكان الحكم كله للموفّق والأموال تجبى إليه، فأنف وضجر المعتمد من ذلك، وكتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه من أخيه فى السر، فأشار عليه باللحاق به بمصر ووعده النصر، وسيّر عسكرا إلى الرقة ينتظرون وصول المعتمد إليهم، فاغتنم(22/337)
المعتمد غيبة الموفّق عنه، وسار فى جمادى الأولى ومعه جماعة من القوّاد، فأقام بالكحيل يتصيّد ثم سار حتى صار إلى عمل إسحاق بن كنداجق- وهو عامل الموصل وعامة الجزيرة، فوثب إسحاق بمن مع المعتمد من القوّاد فقبضهم، وهم نيزك «1» وأحمد بن خاقان وخطارمش وقيّدهم وأخذ أموالهم ودوابهم، وكان صاعد بن مخلد وزير الموفق قد كتب إليه بذلك عن الموفّق، وكان سبب تمكّنه منهم ووصوله إلى قبضهم أنّه اظهر أنّه معهم فى طاعة المعتمد- إذ هو الخليفة، ولقيهم لما صاروا إلى عمله وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل أحمد بن طولون ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد ومع قواده، ولم يترك إسحاق أصحابه يرتحلون ثم قال للقوّاد وهم عند المعتمد: إنّكم قد قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره، وتصيرون جنده وتحت يده، أفترضون ذلك؟ وقد علمتم أنّه كواحد منكم، وتناظروا فى ذلك حتى ارتفع النهار ولم يرتحل المعتمد، ثم قال لهم: قوموا بنا حتى نتناظر فى غير حضرة أمير المؤمنين، فأخذ بأيديهم إلى خيمة له فلما دخلوا الخيمة قبض عليهم وقيّدهم وأخذ سائر من مع المعتمد من القوّاد، ثم مضى إلى المعتمد فعذله فى «2» مسيره عن دار ملكه وملك آبائه وفراق أخيه الموفّق وهو على الحال التى هوبها من الحرب، ثم حمله ابن كنداجق ومن معه حتى أدخلهم سامرا. وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون فى دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وولّى إسحاق بن كنداجق على أعمال ابن طولون، وفوّض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وولّاه شرطة الخاصة؛ وكان سبب تغيره على ابن طولون أنّه قطع خطبة الموفّق، وأسقط اسمه عن الطرز، فتقدّم الموفّق إلى المعتمد بلعنه فلعنه مكرها، وكان المعتمد فى الباطن مع ابن طولون.(22/338)
ودخلت سنة سبعين ومائتين
فى هذه السنة قتل صاحب الزنج. وفيها كانت وفاة الحسن بن زيد العلوى صاحب طبرستان فى شهر رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولى بعده أخوه محمد بن زيد. وفيها كانت وفاة أحمد بن طولون وولاية ابنه خمارويه، ومسير ابن كنداجق إلى الشام على ما نذكر ذلك كله إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الطولونية.
قال أبو الفرج بن الجوزى فى حوادث سنة سبعين ومائتين «1» : إن الروم نزلت ناحية قلمية «2» على ستة أميال من طرسوس وهم زهاء مائة ألف «3» مع بطريق البطارقة اندرياس، فبيّتهم يا زمان «4» الخادم ليلا، فقتل رئيسهم وخلقا كثيرا من أصحابه يقال إنّهم بلغوا سبعين ألفا، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة فيها صليبهم الأعظم مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل ومن السروج مثلها وسيوفا محلاة بذهب وفضة ومناطق وأربع كراسى من ذهب ومائتى طوق «5» من ذهب وآنية كثيرة.
ونحوا من عشرة آلاف علم، وذلك فى يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول.
ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين
ذكر خلاف محمد وعلى العلويين بالمدينة
فى هذه السنة دخل محمد وعلى ابنا الحسين «6» بن جعفر بن موسى بن(22/339)
جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بالمدينة وقتلا جماعة من أهلها وأخذا من قوم مالا، ولم يصلّ أهل المدينة فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع جمع، لا جمعة ولا جماعة. وفيها كانت وقعة الطواحين بين المعتضد بن الموفّق وخمارويه بن أحمد بن طولون، كان الظفر فيها لعسكر خمارويه، وهرب المعتضد إلى دمشق فمنع من دخولها.
ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين
فى هذه السنة قدم صاعد بن مخلد وزير الموفّق من فارس إلى واسط، فأمر الموفّق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه وترجلّوا له وقبّلوا يده وهو لا يكلّمهم كبرا وتيها، ثم قبض الموفّق عليه وعلى جميع أهله وأصحابه ونهب منازلهم بعد أيام، وكان قبضه فى شهر رجب، وقبض على ابنيه أبو عيسى وصالح وأخيه عبدون ببغداد، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل، واقتصر على الكتابة دون الوزارة. وفيها صلح أمر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتراجع الناس إليها.
وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى «1»
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فى هذه السنة وقع الخلاف بين أبى الساج وإسحاق بن كنداجق، وخطب لابن طولون بالجزيرة.
وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق
ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
فى هذه السنة كانت الحرب بين الموفّق وعسكر عمرو بن الليث الصفّار(22/340)
على ما نذكره فى أخبار الدولة الصفّارية.
وحج بالناس فى هذه السنة هارون
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر قبض الموفّق على ابنه المعتضد
فى هذه السنة قبض الموفّق على ابنه أبى العباس أحمد المعتضد، وسبب ذلك أن الموفّق دخل إلى واسط ثم عاد إلى بغداد، وأمر ابنه المعتضد أن يسير إلى بعض الوجوه، فقال: لا أخرج إلا إلى الشام، لأنها الولاية التى ولّانيها أمير المؤمنين. فغضب الموفّق وقبض عليه وجعله فى حجرة ووكل به، فثار القوّاد من أصحابه ومن تبعهم وركبوا، واضطربت بغداد فركب الموفّق إلى الميدان، وقال لهم: ما شأنكم!! أترون أنّكم أشفق على ولدى منى؟ وقد احتجت إلى تقويمه فانصرفوا.
ودخلت سنة ست وسبعين ومائتين
فى هذه السنة جعلت شرطة بغداد إلى عمرو بن الليث، وكتب اسمه على الأعلام والأترسه وذلك فى شوال «1» ، ثم ترتّب فى الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من قبل عمرو، ثم أمر بطرح اسم عمرو عن الأعلام وغيرها فى الشهر «2» . وفيها ورد الخبر بانفراج تلّ بنهر البصرة يعرف بتلّ بنى «3» شقيق عن سبعة أقبر شبه الأحواض، من حجر فى لون المسنّ عليها(22/341)
كتابه لا يدرى ما هى، وفيها سبعة أبدان صحيحة عليها أكفان جدد يفوح منها رائحة المسك، أحدهم شاب له جمّة وعلى شفتيه بلل كأنّه قد شرب ماء وكأنه قد كحل، وبه ضربة فى خاصرته.
وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
فى هذه السنة دعى بطرسوس لخمارويه بن أحمد. وفيها ولى يوسف بن يعقوب المظالم، وأمر أن ينادى من كان له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله الموفّق أو أحد من الناس فليحضر وحج بالناس هارون
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
فى هذه السنة كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر وأصحاب موسى ابن أخت مفلح أربعة أيام من المحرم، ثم اصطلحوا وقد قتل بينهم جماعة، ووقع بالجانب الشرقى وقعة بين النصريين وأصحاب يونس قتل فيها رجل ثم انصرفوا
ذكر وفاة أبى أحمد الموفّق
فى هذه السنة توفى أبو أحمد الموفّق بن المتوكل فى يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، ودفن ليلة الخميس بالرصافة، وكان قد مرض فى بلاد الجبل فانصرف وقد اشتد به وجع النّقرس، فلم يقدر على الركوب فحمل على سرير فيه قبة، وكان يجلس فيه هو وخادم له يبرد رجليه بالأشياء الباردة، ثم صار به داء الفيل، وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة، فقال لهم يوما وقد ضجر: أودّ أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسى.(22/342)
وآكل وأنا فى عافية؛ وقال فى مرضه: أطبق ديوانى على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالا منّى، ووصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر، وشاع موته بعد انصراف أبى الصقر من داره، وكان قد تقدّم بحفظ ابى العباس فأغلقت عليه الأبواب. قال: ووجّه أبو الصقر إلى المدائن فحمل منها المعتمد وأولاده وجىء بهم، فلما رأى غلمان الموفّق ما نزل بمولاهم كسروا الأبواب المغلقة على أبى العباس، فظن أنهم يريدون قتله فأخذ سيفه فى يده، وقال: والله لا يصلون إلىّ وفىّ شىء من الروح، فلما وصلوا إليه رأى غلامه وصيفا فألقى السيف من يده، وعلم أنّهم لا يريدون إلا الخير، وأخرجوه وأقعدوه عند أبيه وكان قد اعترته غشية، فلما أفاق ورآه قرّبه وأدناه إليه؛ وأما أبو الصقر فإنه لما حصل الإرجاف بموت الموفّق جمع القوّاد والجند وقطع الجسرين، وحاربه قوم من الجانب الشرقى فقتل منهم قتلى، فلما ظهر أن الموفّق حىّ حضر عنده محمد بن أبى الساج وفارق أبا الصقر، وتسلل القواد والناس عن ابى الصقر، فلما راى ذلك ابو الصقر حضر هو وابنه دار الموفّق، وذكر أن أبا الصقر أراد أن يتقرب إلى المعتمد بمال الموفّق واسبابه، وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفّق، فنهبوا دار أبى الصقر وما يجاوره من الدور، وأخرجوا نساءه حفاة بغير أزر، وكسرت أبواب السجون وحرج من فيها. قال: وخلع الموفّق عند إفاقته على ابنه أبى العباس وعلى أبى الصقر، وركبا جميعا فمضى أبو العباس إلى منزله وجاء أبو الصقر إلى منزله وقد نهب، فطلب له حصيرة يجلس عليها عارية، ثم مات الموفق فى التاريخ الذى ذكرناه، وجلس ابنه أبو العباس للتعزية، وكان الموفّق عاد لأحسن السيرة يجلس للمظالم وعنده القضاة والفقهاء وغيرهم، فينصف الناس بعضهم من بعض، وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك.(22/343)
ذكر البيعة للمعتضد بالله بولاية العهد
قال: ولما مات الموفّق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوّض إلى الله ابن المعتمد ولقب المعتضد بالله، وخطب له فى يوم الجمعة بعد المفوّض وذلك لسبع بقين من صفر، واجتمع عليه أصحاب أبيه وتولىّ ما كان أبوه يتولّاه.
وفيها قبض المعتضد «1» على أبى الصقر وأصحابه وانتهبت منازلهم، وطلب بنى الفرات فاختفوا، واستوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب. وفيها كان ابتداء أمر القرامطة على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم.
قال ابن الجوزى «2» : وفى هذه السنة غار ماء النيل، وكان ذلك شيئا لم يعهد مثله ولا سمع «3» فى الأخبار السالفة «4» .
وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد
ودخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
ذكر خلع المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد وولاية أبى العباس المعتضد بالله بن الموفّق
فى المحرم من هذه السنة خرج المعتمد على الله وجلس للقوّاد والقضاة ووجوه الناس، وأعلمهم أنّه خلع ابنه المفوّض إلى الله جعفرا من ولاية العهد، وجعلها للمعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفّق، وشهدوا على المفّوض أنّه قد تبرأ من العهد، وأسقط اسمه من الخطبة والسكة والطرز وغير ذلك، وخطب للمعتضد وكان يوما مشهودا.(22/344)
وفيها نودى بمدينة السلام ألا يقعد على الطريق ولا بالمسجد الجامع قاض ولا منجم ولا زاجر، وحلف الورّاقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل.
ذكر وفاة المعتمد على الله وشىء من أخباره
كانت وفاته ببغداد ليلة الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وكان قد شرب على الشط بالجسر يوم الأحد شرابا كثيرا فمات ليلا، وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إليه وحمل إلى سامرّا فدفن بها، وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام، وكان فى خلافته محكوما عليه، ضيّق عليه أخوه الموفّق حتى إنه احتاج فى بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها، فقال:
أليس من العجائب أنّ مثلى ... يرى ما قلّ ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شىء فى يديه
إليه تحمل الأموال طرا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
وهو أول من انتقل من الخلفاء من سامرّا، ولم يعد إليها بعده خليفة.
وكان طويل القدّ واللحية واسع العينين مقبلا على اللذات، مشغولا عن الرعيّة مضطرب الأحوال. وكان نقش خاتمه: السعيد من وعظ بغيره.
أولاده: عبد العزيز وجعفر ومحمد وإسحاق. وزراؤه: عبيد الله بن يحيى ابن خاقان ثم سليمان بن وهب ثم الحسن بن مخلد ثم صاعد بن مخلد أخوه ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حجّابه: موسى بن بغا ثم جعفر بن غانم بن على الجهشيارى. قضاته: الحسن بن أبى الشوارب ثم أخوه على بن محمد.
الأمراء بمصر: أحمد بن طولون ثم ابنه خمارويه. قضاتها: بكّار بن قتيبة(22/345)
إلى أن توفى فى سنة سبعين ومائتين بعد وفاة أحمد بن طولون بأربعين يوما، وكانت ولايته أربعا وعشرين سنة ونصف سنة، وبقيت مصر بغير قاض، ثم وليها أبو عبدة «1» محمد بن عبدة واستخلف أبا جعفر الطحاوى واستكتبه وأعفاه. وقد قيل فى وفاة المعتمد على الله أنّه مات مسموما والله عز وجل أعلم
خلافة المعتضد بالله
هو أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة الملقب الناصر لدين الله بن جعفر المتوكل بن المعتصم بالله بن الرشيد بن المهدى بن المنصور، وأمه أم ولد اسمها ضرار وقيل اسمها خفيرة «2» ، وهو السادس عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بعد وفاة عمّه المعتمد على الله.
قال: ولما ولى استعمل غلامه بدرا على الشرطة، واستوزر عبيد الله ابن سليمان بن وهب وجعل على حرسه محمد بن الشاه بن ميكال «3» ؛ ووصله فى شوال رسول عمرو بن الليث ومعه هدايا كثيرة، وسأله أن يوليه خراسان فعقد له عليها، وسيّر إليه الخلع واللواء والعهد، فنصب اللواء فى داره ثلاثة أيام. وفيها كانت وفاة نصر السامانى بما وراء النهر، فقام بعمله أخوه إسماعيل بن أحمد. وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر بهدايا عظيمة منّ خمارويه، فتزوج المعتضد ابنة خمارويه وهى قطر(22/346)
الندى، وأصدقها المعتضد ألف ألف درهم، وفيها ملك أحمد بن عيسى ابن «1» الشيخ قلعة ماردين- وكانت بيد إسحاق بن كنداجق.
وحج بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد العباسى، وهى آخر حجة حجّها وأول سنة حج بالناس سنة أربع وستين ومائتين.
ودخلت سنة ثمانين ومائتين
ذكر حبس عبد الله بن المهتدى وقتل محمد بن الحسن «2»
فى هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدى ومحمد بن الحسن المعروف بشيلمة وحبسهما، وكان شيلمة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه، ثم لحق بالموفّق بأمان؛ وكان سبب أخذهما أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأنّه يدعو لرجل لا يعرف اسمه، وأنّه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشىء وقال: لو كان تحت قدمى ما رفعتها عنه، فأمر به فشدّ فى خشبة من خشب الخيم، ثم أوقد نارا عظيمة وأدير عليها حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدى إلى أن علم براءته فأطلقه
ذكر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم وإغارته على الأعراب
فى أول صفر سار المعتضد من بغداد يريد بنى شيبان بالمكان الذى(22/347)
يحتمون «1» به من أرض الجزيرة، فلما بلغهم قصده جمعوا أموالهم، وأغار المعتضد على أعراب عند السنّ، فنهب أموالهم وقتل منهم مقتله عظيمة، وغرق منهم فى الزاب مثل ذلك، وعجز الناس عن حمل ما غنموه، فبيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وسار إلى الموصل وبلد فلقه بنو شيبان «2» يسألون العفو، وبذلوا له رهائن فأجابهم إلى ما طلبوا، وعاد إلى بغداد، وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطالبه بما أخذ من أموال ابن كنداجق، فبعثها إليه ومعها هدايا كثيرة.
وفيها غارت المياه بالرى وطبرستان حتى بلغ الماء ثلاثة أرطال بدرهم، وفى شوال منها انخسف القمر وأصبح أهل دبيل وقد أظلمت الدنيا عليهم، ودامت الدنيا مظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبّت ريح سوداء ودامت إلى ثلث الليل، ثم زلزلوا فى الثلث فخربت المدينة، ولم يبق من دورها إلا قدر مائة دار، وزلزلوا بعد ذلك خمس مرّات، وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسين ألف كلهم موتى.
وحج بالناس أبو بكر محمد بن هارون «3»
ودخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين
ذكر مسير المعتضد إلى ماردين وملكها
فى هذه السنة توجّه المعتضد بالله- وهى الخرجة الثانية إلى الموصل- قاصدا حمدان بن حمدون، لأنّه بلغه أنّه مايل هارون الخارجى ودعا له،(22/348)
فلما بلغ الأعراب مسير المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبئوا عساكرهم، فسار المعتضد إليهم فى خيل جريدة، فأوقع بهم وقتل منهم وغرّق فى الزاب، وسار إلى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان، فهرب حمدان منها وخلف ابنه بها فنازله المعتضد، وقاتل من فيها يومه ذلك فلما كان الغد ركب المعتضد، وصعد إلى باب القلعة وصاح لابن حمدان فأجابه، فقال: افتح الباب ففتحه، فجلس المعتضد فى باب القلعة وأمر بنقل ما فيها وهدمها، ثم وجّه خلف حمدان وطلبه أشد الطلب وأخذت أمواله، ثم ظفر به المعتضد بعد عوده من بغداد؛ وفى عوده قصد الحسنيّة وبها رجل كردى يقال له شدّاد، فى جيش كثيف قيل كانوا عشرة آلاف، فظفر به وهدم قلعته. وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل وقصد الديّنور وولّى ابنه عليا- وهو المكتفى- الرىّ وقزوين وزنجان وأبهر وقمّ وهمذان والدينور، وجعل كتابته لأحمد بن الأصبغ، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف أصفهان ونهاوند والكرخ، وعاد إلى بغداد.
ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة
فى هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه وهو بالموصل، فبادر إسحاق وتحصّن حمدان بقلاعه وأودع أمواله وحرمه، فبعث المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير «1» ونصر القشورى وغيره فساروا إلى حمدان فواقعوه، فقتل من أصحابه جماعة وانهزم، واتبعه الجند «2» حتى ضاقت عليه الأرض، فقصد خيمة إسحاق ابن أيوب وهو مع المعتضد فاستجار به، فأحضره إلى المعتضد فأمر بالاحتفاظ به وتتابع رؤساء الأكراد فى طلب الأمان.(22/349)
وفيها انهزم هارون الخارجى من عسكر الموصل على ما نذكره فى أخباره. وفيها فى ربيع الأول قبض على بكتمر بن طاشتمر وقيّد وكان أميرا على الموصل، واستعمل عليها الحسن بن على الخراسانى ويعرف بكوره.
وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه زوجة المعتضد ومعها أحد عمومتها، وكان المعتضد بالموصل وعاد إلى الجبل وبلغ الكرج، وفيها قتل خماوريه بن أحمد بن طولون على ما نذكره إن شاء الله تعالى
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
فى هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الخارجى، وأحضر الحسين بن حمدان وسيّره فى طلب هارون فى جماعة من الفرسان والرجال، فقال له الحسين: إن أنا جئت به فلى ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، أولها إطلاق أبى وحاجتان أذكرهما إذا جئت به، فقال: لك ذلك، فانتخب ثلاثمائة فارس وسار بهم نحوه، فظفر به وأحضره إلى المعتضد فانصرف إلى بغداد، فوصلها لثمان بقين من شهر ربيع الأول وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه، وخلع على إخوته وأمر بفك قيود حمدان والتوسعة عليه ووعد بإطلاقه، وأدخل هارون على فيل وصلبه.
وفيها كان الفداء بين الروم والمسلمين، وكان جملة من فودى به ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس «1» . وفيها أمر المعتضد بالكتب إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوى الأرحام وبطل ديوان المواريث وفيها قتل رافع بن الليث وجىء برأسه إلى المعتضد، فوصل فى سنة أربع وثمانين فأمر بنصبه ببغداد «2» ، وكان الذى قتله أصحاب عمرو بن الليث.(22/350)
ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين
فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول ظهر بمصر ظلمة شديدة وحمرة فى السماء، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخره، وخرج الناس من منازلهم يدعون ويتضرعون إلى الله.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على المنابر، وذكر فى الكتاب يزيد وغيره من بنى أمية، وعملت بالكتاب نسخ قرئت فى جانبى بغداد، ومنع القصاص والعامة من القعود فى الجامعين، ونهى عن الاجتماع على قاض أو مناظرة وجدل فى أمر الدين، ونهى الذين يسقون فى الجامعين ألا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه، فقال له عبيد الله بن سليمان: إنّا نخاف إضطراب العامة وإثارة فتنة، فلم يرجع إليه، فقال عبيد الله للقاضى يوسف بن يعقوب ليحتال فى منعه، وكلّم يوسف المعتضد وحذّره اضطراب العامة فلم يلتفت، فقال:
يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية، ويميل إليهم خلق كثير من الناس؟ فإذا سمع الناس ما فى هذا الكتاب مالوا إليهم، وصاروا هم أبسط ألسنة وأثبت حجة منهم اليوم، فأمسك المعتضد ولم يأمر فى الكتاب بشىء بعد ذلك.
وفيها ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه بالسيف فجرحه فهرب الخادم، ودخل الشخص فى زرع البستان فتوارى فيه، وطلب فلم يعرف له خبر واستوحش المعتضد، وكثر الناس القول حتى قالوا إنّه من الجن، وظهر مرارا كثيرة فوكل المعتضد بسور داره وأحكمه، ثم أحضر المجانين والمعزّمين بسبب الشخص، فقال المعزّمون: نحن نعزّم على بعض المجانين فإذا صرع سئل الجنّى فيخبر بخبره،(22/351)
فعزّموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعتضد ينظر إليهم، فلما صرعت أمرهم بالانصراف.
وحجّ بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمى المعروف بأثرجّة
ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين
فى هذه السنة كان بالكوفة ريح صفراء فبقيت إلى المغرب ثم اسودّت، ثم وقع مطر شديد برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمد أباذ «1» أحجار بيض وسود مختلفة الألوان، فى أوساطها ضيق «2» . وفيها كان بالبصرة ريح صفراء ثم عادت خضراء ثم سوداء، ثم تتابعت الأمطار بما لم ير مثله، ثم برد كبار الوزن البردة مائة وخمسون درهما. وفيها غزا راغب مولى الموفّق فى البحر، فغنم مراكب كثيرة من الروم فضرب أعناق ثلاثة آلاف منهم كانوا فيها، وأحرق المراكب وفتح حصونا كثيرة وعاد سالما. وفيها توفى أحمد بن عيسى بن الشيخ، وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليها على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد فوصلها فى ذى الحجة، وحصرها إلى شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق، فطلب محمد الأمان لنفسه ولمن معه فأمنّهم المعتضد، فخرج إليه وسلّم البلد فخلع عليه المعتضد وأكرمه وهدم سور البلد، ثم بلغه أن محمدا يريد الهرب فقبض عليه وعلى أهله.
وحكى أبو الفرج بن الجوزى فى المنتظم عن أبى بكر الصولى أنّه قال «3» : كان مع المعتضد رجل أعرابى فصيح يقال له شعلة بن شهاب(22/352)
اليشكرى وكان يأنس به، فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ ليرغّبه فى الطاعة ويحذّره العصيان، قال: فصرت إليه فخاطبته فلم يجبنى، فتوجهت إلى عمتّه فصرت إليها، فقالت: يا أبا شهاب كيف خلّفت أمير المؤمنين؟
فقلت: خلّفته أمارا بالمعروف فعّالا للخير، فقالت، أهل لذلك ومستحقه، وكيف لا! وهو ظل الله الممدود على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت غلاما حدثا معجبا قد استحوذ عليه السفهاء، واستبدّ بآرائهم، يزخرفون له الكذب، فقالت:
هل لك أن ترجع إليه بكتابى قبل لقاء أمير المؤمنين؟ قلت: أفعل، فكتبت إليه كتابا لطيفا أجزلت فيه الموعظة، وكتبت فى آخره:
اقبل نصيحة أمّ قلبها وجع ... خوفا عليك واشفقا وقل سددا
واستعمل الفكر فى قولى فإنّك ان ... فكّرت ألفيت فى قولى لك الرشدا
ولا تثق برجال فى قلوبهم ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولا فى بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا
وداو داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى عليك يدا
أعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالا ولا أهلا ولا ولدا
واردد أخا يشكر ردا يكون له ... ردا من السوء لا تشمت به أحدا
قال: فأخذت الكتاب وصرت إليه فلما نظر إليه رمى به إلىّ ثم قال:
يا أخا يشكر ما بآراء النساء تتم الدول، ولا بعقولهّن يستأمن «1» الملك، ارجع إلى صاحبك، ورجعت إلى المعتضد بالله فأخبرته الخبر، فأخذ الكتاب فقرأه فأعجبه شعرها وعقلها، ثم قال: إنى لأرجو أن أشفّعها فى كثير من القوم، فلما كان من فتح ما كان أرسل إلىّ المعتضد، فقال: هل عندك علم من تلك المرأة، قلت: لا، قال: فامض مع الخادم فإنّك(22/353)
ستجدها فى جملة نسائها، فمضيت فلما بصرت بى من بعيد كشفت «1» عن وجهها، وجعلت تقول:
ريب الزمان وصرفه ... وعثاره «2» كشف القناعا
وأذلّ بعد العزّ م ... نّا الصعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطع ... ت وكم صرخت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدور «3» إل ... لا أن نقسّم أو نباعا
يا ليت شعرى هل نرى ... أبدا لفرّقتنا اجتماعا
ثم بكت حتى علا صوتها وضربت بيدها على الأخرى، وقالت: إنّا لله وإنا إليه راجعون، كأنى والله كنت أرى ما أرى «4» ، فقلت لها: إن أمير المؤمنين وجّه بى إليك، وما داك إلا لجميل رأيه فيك، قالت: فهل لك أن توصل لى رقعة إليه؟ قلت: أفعل «5» ، فدفعت إلىّ رقعة فيها:
قل للخليفة والإمام المرتضى ... وابن الخلايف من قريش الأبطح
علم الهدى ومناره وسراجه ... مفتاح كل عظيمة لم تفتح
بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح
وتزحزحت بك هضبة العرب التى ... لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربّك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفو واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمىّ ومفسدىّ لمصلح
قال: فصرت بها إلى المعتضد بالله، فلما قرأها ضحك وقال: لقد نصحت لو قبل منها، وأمر أن يحمل إليها خمسون ألف درهم وخمسون تختا(22/354)
من الثياب، وأمر أن يحمل إلى ابن عيسى «1» .
وفيها «2» وصل رسول هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون إلى المعتضد على أن يقاطع على ما فى يده ويد نوّابه «3» من مصر والشام، ويسلّم أعمال قنّسرين إلى المعتضد، ويحمل فى كل سنة أربعمائة ألف دينار وخمسين «4» ألف دينار، فأجابه المعتضد إلى ذلك، وسار من آمد واستخلف ابنه المكتفى، فوصل إلى قنّسرين والعواصم فتسلّمها من أصحاب هارون بن خمارويه، وذلك فى سنة ست وثمانين- حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل وقال ابن الجوزى فى المنتظم «5» : إن هارون بذل هذا المال على أن يسلّم له أعمال قنّسرين والعواصم، وأن تجدّد له ولاية مصر والشام فأجيب إلى ذلك، والصواب ما حكاه ابن الأثير وحجّ بالناس: محمد بن عبد الله بن داود الهاشمى
ودخلت سنة ست وثمانين ومائتين
فى هذه السنة وجّه محمد بن أبى الساج- المعروف بأبى المسافر- رهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة، ومعه هدايا جليلة، وكان المعتضد قد ولّاه فى سنة خمس وثمانين أعمال أذربيجان وأرمينية وبعث إليه الخلع فقبلها بعد أن كان تغلّب على ذلك. وفيها أرسل عمرو بن الليث هديّة من نيسابور إلى المعتضد، قيمتها أربعة آلاف ألف درهم- قال ابن الجوزى «6» : كان مبلغ المال الذى وجّهه أربعة آلاف ألف درهم وعشرين من الدواب(22/355)
بسروج «1» ولجم محلاة، ومائة وعشرين «2» دابة بجلال مشهّرة، وكسوة وطيب وبزاة وطرف «3» .
وفيها كان ابتداء أمر القرامطة بالبحرين على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم. وفيها ولّى المعتضد بالله ابنه عليا المكتفى قنّسرين والعواصم والجزيرة، وكان كاتبه الحسين بن عمرو النصرانى ينظر فى الأمور.
قال أبو الفرج بن الجوزى «4» فى حوادث هذه السنة بسند رفعه إلى محمد بن نعيم الضبّى قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضى بالرىّ سنة ست وثمانين ومائتين يقول: تقدّمت امرأة فادعى ولّيها على زوجها خمسمائة دينار مهرا فأنكر، فقال القاضى: شهودك، قال:
قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها فى شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومى، فقال الزوج: تفعلون ماذا؟
قال الوكيل ينظرون إلى امرأتك وهى مسفرة، لتصحّ عندهم معرفتها، فقال الزوج: فإنى أشهد القاضى أنّ لها علّى هذا المهر الذى تدعيه ولا تسفر عن وجهها «5» ، فقالت المرأة: فإنى أشهد القاضى أنّى قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه فى الدنيا والآخرة، فقال القاضى: يكتب هذا فى مكارم الأخلاق.
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين
فى هذه السنة فى شهر ربيع الأول أسر عمرو بن الليث الصفّار، وملك إسماعيل بن أحمد السامانى خراسان على ما نذكر ذلك إن شاء الله(22/356)
تعالى فى أخبارهم وفيها قتل محمد «1» بن زيد العلوى صاحب طبرستان والديلم على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الدولة العلوية.
وحج بالناس فى هذه السنة: محمد بن عبد الله بن داود. وفيها توفيت قطر الندى بنت خماروية زوجة المعتضد لسبع خلون من شهر رجب، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
فى هذه السنة توفى عبيد الله بن سليمان الوزير، فعظم موته على المعتضد وفوّض الوزارة إلى ابنه القاسم بن عبيد الله. وكان من أخبار المتغلبين على الأطراف على ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
فى هذه السنة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول أخرج من كان له دار أو حانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أنقاضكم «2» واخرجوا، وسبب ذلك أن المعتضد بالله كان قد عزم أن يبتنى لنفسه دارا يسكنها هنالك، فخط موضع السور وحفر بعضه، وابتدأ فى دكة على دجلة لينتقل إليها فيقيم بها، إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر، فمرض المعتضد ومات قبل ذلك.
ذكر وفاة المعتضد بالله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته ليلة الإثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين(22/357)
ومائتين، قال: ولما اشتد مرضه اجتمع يونس «1» الخادم وغيره من القواد إلى الوزير القاسم ليجدّد البيعة للمكتفى، وقالوا: إنّا لا نأمن الفتنة، فقال: أخاف أن أطلق المال فيبرأ أمير المؤمنين من علّته فينكر ذلك، فقالوا: إن برىء فنحن المحتجون والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنا ونحن نطلب الأمر له، فأطلق المال وجدّد البعية للمكتفى بالله، وأحضر أولاد المعتمد ووكل بهم، ثم توفى المعتضد وكانت علّته فساد الجوف والمزاج والجفاف من «2» كثرة الجماع، وكان يؤمر بأن يقلّ الغذاء ويرطب معدته ولا يتعب نفسه، فيستعمل ضد ذلك ويريهم أنّه يحتمى، فإذا خرجوا من عنده دعا بالجبن والزيتون والسمك فأكل، فسقطت لذلك قوّته واشتدت علّته، ومات رحمه الله وتولّى غسله محمد بن يوسف القاضى، وصلّى عليه الوزير- حكاه ابن الأثير «3» . وقال أبو الفرج بن الجوزى «4» :
غسّله أحمد بن شيبة عند زوال الشمس، وصلّى عليه يوسف بن يعقوب القاضى «5» . ودفن ليلا فى دار محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّة منه، وجلس الوزير فى دار الخلافة للعزاء وجدّد البيعة للمكتفى، ومات المعتضد وله من العمر ست وأربعون «6» سنة وقيل إلا شهرين، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام «7» ، وقيل وثلاثة وعشرين يوما. وكان نحيفا خفيف العارضين يخضب بالسواد، ولما حضرته الوفاة أنشد:(22/358)
تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمننّ الدهر إنى أمنته ... فلم يبق لى حالا «1» ولم يرع لى حقا
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة «2» خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع ... فشرّدتهم غربا وشرّدتهم «3» شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لى رقا
رمانى الردى سهما فأخمد جمرتى ... فهأنذا فى حفرتى عاجلا ألقى
فياليت شعرى بعد موتى ما ألقى ... إلى نعم الرحمن «4» أم ناره ألقى
قال: وكان المعتضد ذا عزم وشهامة ونهضة، بصيرا بالأمور حسن السياسة والسيرة، ولما ولى وضع عن الناس البواقى وأسقط المكوس بالحرمين، وبث العدل فى الآفاق وبذل الأموال، وغزا وجالس المحدّثين وأهل الفضل والدين. قال ثابت بن قرة الحرّانى: ولى المعتضد الخلافة وليس فى بيت المال إلا قراريط لا تبلغ الدينار، والحضرة مطلوبة والأعمال منهوبة والأعراب والأكراد عائثون والأعداء متسلطون، فأصلح الأمور وأحسن التدبير وقمع الخوارج وبالغ فى العمارة وأنصف فى المعاملة ورفق بالرعيّة، حتى استفضل من ارتفاعه فى سنى خلافته تسعة عشر ألف ألف دينار، وتقدّم إلى اجناده وأتباعه بلزوم الطريقة الحميدة، وعرّفهم أنّه متى أفسد غلام أحد منهم كان المأخوذ به مولاه، فسمع يوما صوتا من بعض الكروم مما يلى دجلة فأمر باستعلام الحال، فأخبر أنّ غلام بعض الأمراء أخذ حصر ما من الكرم فأمر بإحضار الأمير، وتقدّم بضرب عنقه، فلم يجسر أحد من الجند بعد ذلك على الفساد؛ ثم قال المعتضد بعد ذلك لوزيره عبيد الله ابن سليمان: لعلّك أنكرت ما جرى من قتلى هذا الأمير بجرم جناه غيره،(22/359)
فقال: هو ذاك يا أمير المؤمنين، قال: كنت فى خلافة المعتمد فرأيت هذا الأمير قتل رجلا عمدا بغير ذنب، ولم يكن له وارث فنذرت لله تعالى إن ولّانى الله أن أقتله به، فلما وليت كنت أتطلّب له العورات حتى جرى ما جرى من غلامه، فقتلته بذلك الرجل وأقمت السياسة بقتله. قال:
وكان المعتضد يسمى السفّاح الثانى لأنّه جدّد ملك بنى العباس، ووطّده بعد أن كانت الأتراك قد أخلقته، وفى ذلك يقول ابن الرومى:
هنيئا بنى العبّاس إنّ إمامكم ... إمام الهدى والجود والباس أحمد
كما بأبى العبّاس أسّس ملككم ... كذا بأبى العباس أيضا تجدّد
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى فى المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «1» :
قال: كان المعتضد بالله فى بعض متصيّداته مجتازا «2» بعسكره وأنا معه، فصاح «3» ناظور فى قراح قثاء فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء شبئا، فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة نفر «4» ، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناظور: نعم، فقيّدهم فى الحال وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه، وسار فأنكر الناس ذلك وتحدّثوا به، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لى: يا أبا عبد الله- هل يعيب الناس علىّ شيئا؟ عرّفنى حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال:
أقسمت عليك بحياتى إلا صدقتنى، قلت: يا أمير المؤمنين- وأنا آمن؟(22/360)
قال: نعم، قلت: سفك «1» الدماء، قال: والله ما هرقت دما منذ وليت إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه، فقال: بحياتى ما تقول؟ فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيّب- وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، قال: دعانى إلى الإلحاد- قلت له يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلّم، وأنا الآن منتصب منصبه فألحد- حتى أكون من؟! فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: فى وجهك كلام؟ فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الذين قتلتهم فى قراح القثّاء، فقال: والله ما كان أولئك الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر القثّاء، وأردت أن أهول على الجيش بأنّ من [عاث «2» ] فى عسكرى وأفسد فى هذا القدر كانت عقوبتى له هكذا ليكفّوا عمّا فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم فى الحال، وإنما حبستهم وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنّهم أصحاب القثّاء، فقلت: فكيف تعلم العامّة هذا؟ قال: بإخراج القوم الذين أخذوا القثّاء وإطلاقهم فى هذه الساعة، ثم قال: هاتوا القوم، فجاءوا بهم وقد تغيّرت حالهم من الحبس والضرب، فقال:
ما قصّتكم؟ فقصّوا عليه قصّة القثّاء، قال: أفتتوبون من مثل هذا الفعل حتى أطلقكم؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم التوبة وخلع عليهم وأمر بإطلاقهم وردّ أرزاقهم عليهم، فاشتهرت «3» الحكاية وزالت عنه التهمة.
وحكى عبد الله بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر «4» :(22/361)
أنّ أحد كبراء دولته ووزرائه كان قد بنى بناء عاليا مشرفا على جيرانه، فلم يعارضه أحد منهم لمكانه من الخليفة، وكان يجلس فيه فنظر يوما إلى دار من دور جيرانه، فرأى جاربة بارعة الجمال فأولع بها، وسأل عنها وإذا هى ابنة أحد التجار، فخطبها «1» من أبيها فامتنع من زواجه- وكان من أهل اليسار، وقال: لا أزوّج ابنتى إلا من تاجر مثلى، فإنّه إن ظلمها قدرت على الانتصاف «2» منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على حيلة، فأرغبه بالأموال وهو يأبى، فلما أيس منه شكى ذلك إلى أحد خواصّه، فقال:
ألف مثقال تقوم لك بهذا الأمر، فقال: والله لو علمت أنى أنفق عليها مائة ألف دينار وأنالها لفعلت، قال له: لا عليك تحضر لى ألف دينار، وأمر بألف دينار فأحضرت فأخذها الرجل، ومشى بها إلى عشرة من العدول، وذكر لهم الأمر وسهّله عليهم، وقال: إنّكم تحيون نفسا قد أشرفت على الهلاك، وقال: إنّه قد بذل لها كذا وكذا من المهر وأعلى لهم، وأبوها إنما هو عاضل لها وإلا فما يمنعه، وقد خطبها مثل فلان فى جلاله قدره، وقد أعطاها صداقا لا يعطى إلا لبنت ملك، ثم هو يتأبى- هل هذا إلا عضل بيّن؟ ولكم ألف مثقال لكل منكم مائة، وتشهدون أنّه زوجها منه على صداق مبلغه كذا وكذا، ورفع قدر الصداق إلى غاية، وقال: إن أباها إذا علم أنّكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا، وليس فيه إلا الخير والعزّ، فأجابوه إلى ذلك وأخذوا الذهب، وشهدوا أن أباها زوّجها منه على صداق كبير، فلما علم أبوها بذلك زاد نفاره، فمشى الوزير إلى القاضى وقال: إنى تزوّجت ابنة فلان على هذا الصداق وهؤلاء الشهود على أبيها، وقد أنكر ذلك، فأمر القاضى بإحضار أبيها فحضر، فشهد الشهود عليه، وأحضر(22/362)
الوزير مال النقد بين يدى القاضى- والرجل متماد على الإنكار، فحكم القاضى عليه وأمر بحمل المال إليه، وأن تؤخذ ابنته أحبّ أم كره، فأخذت منه ونقلت إلى الوزير، فأعمل أبوها الحيلة فى الوصول إلى المعتضد، وكان المعتضد غليظ الحجاب لا يصل إليه غير الخاصة، فقيل للرجل: إنه يحضر ساعة فى كل يوم لبنيان بنى له بقصره، فإن استطعت أن تكون فى جملة رجال الخدمة فإنّك تصل إليه، فغيّر الرجل شكله ودخل فى جملة رجال الخدمة للبناء، فلما جاء المعتضد ترامى الرجل إلى الأرض ونثر التراب على رأسه، فسأله المعتضد عن شأنه فقصّ عليه القصّة، فأحضر الوزير وأغلظ له فى القول، فحملته هيبة المعتضد على أن ذكر له الواقعة كما وقعت، ثم أحضر الشهود فقالوا كما قال، كل ذلك إجلالا له أن يقعوا فى الكذب بين يديه، وهم يظنّون أنّه لا يؤاخذهم لتمكن ذلك الوزير منه، فلما تبيّن له الأمر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يجعل ذلك الوزير فى جلد ثور طرىّ السلخ، ويضرب حتى يختلط عظمه ولحمه بدمه، فصنع به ذلك، ثم أمر أن يفرغ بين يدى نمور كانت عنده، فلعقته تلك النمور، وأمر بتسليم الجارية إلى أبيها، وأن تعطى ما أقرّ الوزير لها به من الصداق من عقار وغيره.
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى «1» :
أنّ شيخا من التجار كان له على أحد القوّاد فى أيام المعتضد بالله مال، قال التاجر: فمطلنى «2» وكان يحجبنى إذا حضرت إلى بابه، ويضع غلمانه على الاستخفاف بى والاستطالة علىّ إذا رمت لقاء؟؟؟
وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان الوزير منه، فما نفعنى ذاك، فعزمت على الظلامة إلى المعتضد بالله، فبينما أنا مترو فى أمرى قال لى بعض أصدقائى:(22/363)
علىّ أن آخذ لك مالك من غير حاجة إلى ظلامة- فاستبعدت هذا، فقمت معه فجئنا إلى خياط شيخ فى سوق الثلاثاء، يقرأ القرآن فى مسجد هناك ويخيط بأجرة، فقصّ عليه قصّتى وشرح له الصورة «1» ، وسأله أن يقصد القائد ويخاطبه فى الخروج إلىّ من حقّى، وكانت دار القائد قريبة من مسجد الخيّاط، فنهض معنا فلما مشينا خفت بادرة القائد وسطوته، وتصورت أنّ قول الخيّاط لا ينفع مع مثله مع محلّه وبسطته، فتأخرت قلت لصديقى:
قد عرّضنا هذا الشيخ ونفوسنا لمكروه عظيم، وما هو إلا أن يراه غلمانه وقد أوقعوا به، وإن كان لم يقبل أمر الوزير فأولى ألا يقبل منه ولا يفكّر فيه، فضحك وقال: لا عليك، وجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخيّاط تلقّوه وأعظموه، وأهووا ليقبّلوا يده، فمنعهم منها، وقالوا: ما جاء بك أيها الشيخ فإنّ قائدنا راكب، فإن كان لك أمر تقدّم بذكره لنا ونحن نخبره به «2» ، وإن أردت الجلوس وانتظاره فالدار بين يديك، فلما سمعت ذلك قويت نفسى ودخلنا وجلسنا، ووافى القائد فلما رآه أكرمه إكراما شديدا، وقال له: لست أنزع ثيابى حتى تأمر بأمرك، فخاطبه فى أمرى «3» ، فقال: والله ما معى إلا خمسة آلاف درهم، فتسأله أن يأخذها ويأخذ رهونا من مراكبى الذهب والفضّة بقيمة ما بقى من ماله لأعطيه إياه بعد شهر، فبادرت أنا إلى الإجابة وأحضر الدراهم والمراكب بقيمة الباقى «4» ، وأشهدت الخيّاط وصديقى: أن الرهن عندى إلى مدة شهر، فإن جاز كنت وكيله فى بيعه وأخذ مالى من تمنه، وخرجنا فلما بلغنا مسجد الخيّاط ودخله طرحت الدراهم بين يديه، وقلت: قد ردّ الله مالى بك وعلى يديك فخذ ما تريده منه على طيب نفس منّى «5» ، فقال:(22/364)
يا هذا- ما أسرع ما قابلتنى بالقبيح على الجميل، انصرف بمالك بارك الله لك فيه، قلت: قد بقيت لى حاجة، قال: ما هى «1» ؟ قلت: أحبّ أن تخبرنى عن سبب طاعة هذا القائد لك، مع إقلاله الفكر بأكابر الدولة، فقال: قد بلغت غرضك فلا تقطعنى عن شغلى بحديث لا فائدة لك فيه، فألححت عليه فقال: أنا رجل أقرأ وأؤم وأقرئ فى هذا المسجد منذ أربعين سنة، لا أعرف كسبا إلا من الخياطة، وكنت صلّيت المغرب منذ مدة وخرجت أريد منزلى، فاجتزت على تركى كان فى هذه الدار، وأومأ إلى دار بالقرب منه، وإذا امرأة جميلة الوجه قد اجتازت عليه، فعلق بها وهو سكران وطالبها بالدخول إلى داره، وهى تمتنع وتستغيث وتقول فى جملة كلامها: إنّ زوجى قد حلف بالطلاق لا أبيت عنه، وإن أخذنى هذا وغصبنى وبيّتنى عن منزلى خرب بيتى ولحقنى من العار ما لا تدحضه «2» الأيام عنى، وما أحد يغيثها ولا يمنع منها، فجئت إلى التركى ورفقت به فى أن يخلى عنها فلم يفعل، وضرب رأسى بدبّوس كان فى يده فشجّه، وأدخل المرأة، فصرت إلى منزلى وغسلت الدم عن وجهى وشددت رأسى، وخرجت لصلاة العشاء الآخرة، فلما فرغنا منها قلت لمن حضر: قوموا معى إلى هذا التركى عدو الله، لننكر عليه ونخرج المرأة من عنده، فقاموا فجئنا وصحنا على بابه، فخرج إلينا فى عدة من غلمانه فأوقع بنا، وقصدنى من بين الجماعة بالضرب الشديد الذى كاد يتلفنى، وحملت إلى منزلى وأنا لا أعقل أمرى، فنمت قليلا للوجع ثم طار النوم عن عينى، وسهرت متقلّبا على فراشى ومفكرا فى أمر المرأة، فإنّها متى أصبحت طلّقت، ثم قلت: هذا رجل شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فربما أخرج المرأة فمضت إلى بيتها وبقيت فى حبال زوجها، فتكون قد(22/365)
تخلّصت من أحد المكروهين، فخرجت متحاملا الى المسجد وصعدت المنارة وأذّنت، وجلست أطّلع إلى الطريق فأرتقب خروج المرأة من الدار «1» ، فما مضت ساعة حتى امتلأ الشارع خيلا ورجلا ومشاعل، وهم يقولون من ذا الذى أذّن؟ ففزعت وسكتّ ثم قلت أخاطبهم وأصدقهم عن أمرى لعلّهم يعينوننى على خروج المرأة، فصحت من المنارة: أنا أذّنت، فقالوا: أنزل وأجب أمير المؤمنين، فنزلت ومضيت معهم فإذا هم غلمان بدر، فأدخلنى على المعتضد بالله فلما رأيته هبته وأخذتنى رعدة شديدة فقال لى: اسكن- ما حملك على الآذان فى غير وقته؟ وأن تغرّ الناس فيخرج ذو الحاجة فى غير حينه، ويمسك المريد للصوم وقت قد أبيح له الأكل والشرب، قلت:
يؤمّننى أمير المؤمنين لأصدقه، قال: أنت آمن، فقصصت عليه قصة التركى، وأريته الآثار التى فى رأسى ووجهى، فقال: يا بدر- علىّ بالغلام والمرأة، فجىء بهما فسألهما المعتضد عن أمرها فذكرت له مثل ما ذكرت له، فأمر بإنفاذها إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره «2» بالتمسك بها والإحسان إليها ثم استدعانى فوقفت بين يديه وجعل يخاطب الغلام ويسمعنى، ويقول له: كم رزقك؟ وكم عطاؤك؟ فيقول كذا وكذا «3» قال: فما كان لك فى هذه النعمة وفى هذه السعة وفى هؤلاء الجوارى ما يكفيك ويكفك عن محارم الله؟ وخرق سياسة السلطان والجرأة عليه؟ وما كان عذرك فى الوثوب بمن أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر «4» ؟
فأسقط فى يد الغلام ولم يكن له جواب يورده، ثم قال: يحضر جوالق ومداق الجص وقيود وغل. فأحضر جميع ذلك فقّيده وغلّه وأدخله(22/366)
الجوالق، وأمر فدقّوه بمداق الجص وهو يصيح إلى أن خفت صوته وانقطع حسّه، وأمر به فطرح إلى دجلة وتقدم إلى بدر بتحويل ما فى داره، ثم قال لى:- وقد شاهدت ذلك كله- متى رأيت يا شيخ منكرا كبيرا أو صغيرا فأنكره ولو على هذا- وأشار «1» إلى بدر، ومن تقاعس عن القبول منك فالعلامة بيينا أن تؤذن فى مثل هذا الوقت لأسمع صوتك وأستدعيك، قال الشيخ: فدعوت له وانصرفت، وشاع الخبر بين «2» الجند والغلمان، فما سألت أحدا منهم بعدها إنصافا أو كفا عن قبيح إلا أطاعتى فما رأيت خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذّن فى مثل ذلك الوقت إلى الآن.
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى أبى بكر بن حورى- وكان يصحب أبا عبد الله بن أبى عوف قال «3» كنت ألزم ابن أبى عوف سنين «4» بيننا جوار ومودة «5» ، وكان رسمى كل ليلة أن أجىء بعد العتمة، فحين يرانى يمد رجله فى حجرى فأغمزها، وأحادثه ويسألنى عن الحوادث ببغداد وكتب استقربها له، فإذا أراد أن ينام قبض رجله فقمت إلى بيتى، وقد مضى ثلث الليل أو نصفه أو أقل «6» ، فلما كان ذات يوم جاءنى رجل كان يعاملنى، فقال: قد دفعت إلى أمر إن تمّ علىّ افتقرت، قلت وما هو؟ قال: رجل كنت أعامله فاجتمع لى عليه ألف دينار، فطالبته فرهننى عقد جوهر قوّم بألف دينار إلى أن يفتكه بعد شهور أو أبيعه، وأذن لى فى ذلك، فلما كان أمس وجّه يونس «7» صاحب الشرطة(22/367)
من كبس دكانى، وفتح صندوقى وأخذ العقد، فقلت: أنا أخاطب ابن أبى عوف فيلزمه بردّه، قال: وأنا مدلّ بابن أبى عوف لمكانى منه ومكانته من المعتضد، فلما كانت تلك الليلة جئته وحادثته على رسمى، وذكرت له فى جملة حديثى حديث العقد، فلما سمع نحّى رجله من حجرى وقال: مالى ولهذا!! أعادى خادما صاحب شرطة الخليفة؟! فورد علىّ أمر عظيم وخرجت من بيته ألا أعود، فلما صلّيت العتمة من الليلة المقبلة جاءنى خادم لابن أبى عوف، وقال: يقول لك لم تأخرت الليلة؟ إن كنت مشتكيا جئناك، فاستحييت وقلت أمضى الليلة، فلما رآنى مدّ رجله وأقبلت أحدّثه بحديث متكلف، فصبر على ساعة ثم قبض رجله فقمت، فقال: يا أبا بكر انظر أى شىء تحت المصلّى فخذه، فرفعت المصلّى فإذا برقعة فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة فإذا فيها: يا يونس جسرت على قصد دكّان رجل تاجر، وفتحت صندوقه وأخذت منه عقد جوهر- وأنا فى الدنيا، والله لولا أنّها أول غلطة غلطتها ما جرى فى ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى دكّان الرجل حتى تردّ العقد فى الصندوق بيدك ظاهرا، فقلت لأبى عبد الله: ما هذا؟ فقال: خط المعتضد- مثلث بين وجدك وبين يونس فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين بما تراه، وامض وأرسله إليه، فقبّلت رأسه وجئت إلى الرجل، فأخذت بيده ومضينا إلى يونس وسلّمت التوقيع إليه، فلما رآه أسودّ وجهه وارتعد، حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا- الله بينى وبينك- هذا شىء ما علمت به، فألا تظلّمتم فإن لم أنصفكم فإلى الوزير- بلغتم الأمر أمير المؤمنين من أول وهلة! [قال] «1» فقلت: بعملك جرى والعقد معك فأحضره، فقال: خذ الألف دينار التى عليه، واكتبوا على الرجل ببطلان ما ادعاه، فقلت: لا نفعل، فقال:
ألف وخمسمائة، فقلت: والله لا نرضى حتى تركب بنفسك إلى الدكان فتردّ(22/368)
العقد، فركب وردّ العقد إلى مكانه.
وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى «1» أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «2» قال:
قال لى المعتضد ليلة- وقد قدّم له العشاء- لقّمنى، وكان الذى قدّم فراريج ودراريج، فلقّمته من صدر فرّوج، قال: لا، لقّمنى من فخده فلقّمته لقما، ثم قال: هات من الدراريج فلقّمته من أفخاذها، فقال:
ويلك- هوذا أتتنادر علىّ، هات من صدورها، فقلت: يا مولاى ركبت القياس، فضحك، فقلت: إلى كم أضحكك ولا تضحكنى، فقال: شل المطرح وخذ ما تحته، قال: فشلته فإذا دينار واحد، فقلت آخذ هذا؟ قال: نعم، فقلت: بالله هوذا تتنادر أنت الساعة علىّ، خليفة يجيز «3» نديمه بدينار!! فقال: ويلك- لا أجد لك فى بيت المال حقا أكثر من هذا، ولا تسمح نفسى أن أعطيك من مالى شيئا، ولكن هوذا احتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار، فقبّلت يده فقال: إذا كان غدا وجاء القاسم- يعنى ابن عبيد الله- فهوذا أسارّك حتى تقع عينى عليه سرارا طويلا، ألتفت فيه إليه كالمغضب وانظر أنت إليه فى خلال ذلك كالمخالس لى نظر المترثى، فإذا انقطع السرار فاخرج ولا تبرح من الدهاليز، فإذا خرج خاطبك بجميل وأخذك إلى دعوته وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلّة وقلّة حظّك معى وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك واطلب كل ما تقع عليه عينك، فإنّه لا يمنعك حتى تستوفى خمسة آلاف دينار، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى فاصدقه وإياك أن تكذبه، وعرّفه أن ذلك حيلة منّى عليه حتى وصل إليك هذا وحدّثه بالحديث كله على(22/369)
شرحه، وليكن إخبارك إياه بذلك بعد امتناع شديد، وإحلاف لك منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه وبعد أن تخرج من داره كل ما يعطيك إياه ويصير فى بيتك. قال: فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يساررنى، وفعل وفعلت كما تقرّر، ثم خرجت فإذا القاسم فى الدهليز ينتظرنى، فقال:
يا أبا محمد- ما هذا الجفاء! لا تجيئنى ولا تزورنى ولا تسألنى حاجة! فاعتذرت إليه باتصال الخدمة علىّ، فقال: لا يقنعنى إلا أن تزورنى اليوم ونتفرج، فقلت: أنا خادم الوزير- فأخذنى إلى طيّارة وجعل يسألنى عن حالى وأخبارى فأشكو إليه الخلة والإضافة والبنات وجفاء الخليفة وإمساكه يده، فيسترجع ويقول: يا هذا مالى لك ولم تضيّق عليك ما يتسع علىّ؟ أو تتجاوز نعمة خلصت لى؟ أو يتخطّاك حظ نازل [فى فنائى] «1» ؟ ولو عرّفتنى لعاونتك على إزالة هذا كله فشكرته، وبلغنا داره فصعد ولم ينظر فى شىء، وقال: هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبى محمد، ولا يقطعنى أحد عنه، وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال، وخلّانى فى دار الخلوة وجعل يجادثنى ويبسطنى، وقدّمت الفاكهة فجعل يلقمنى بيده، وجاء الطعام وكانت هذه سبيله، ووقّع لى بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت، وأحضر لى ثيابا وطيبا ومركوبا فأخذت ذلك، وكان بين يدىّ صينيّة فضّة فيها مغسل فضّة فأخذتها، وخرداذى «2» بللور وكوز وقدح بللور فأمر بحمله إلى طيّارى، وأقبلت كلما رأيت شيئا حسنا له قيمة طلبته. فحمل إلىّ فرشا «3» وقال:
هذا للبنات، فلما تقوّض المجلس خلا بى وقال لى: يا أبا محمد- أنت عالم بحقوق أبى عليك ومودّتى لك، فقلت: أنا خادم الوزير، فقال: أريد أن أسالك عن شىء وتحلف لى أنك تصدقنى عنه، فقلت: السمع(22/370)
والطاعة- فأحلفنى بالله وبالطلاق وبالعتاق على الصدق، ثم قال: بأى شىء سارّك الخليفة اليوم فى أمرى؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفا بحرف، فقال: فرّجت عنّى، ولكون هذا هكذا مع سلامة نيّته لى أسهل علىّ فشكرته وودّعته وانصرفت إلى منزلى «1» ، فلما كان من غد بكرت إلى المعتضد فقال: هات حديثك فسقته عليه، فقال: احفظ الدنانير ولا يقع لك أنّى أعمل مثلها معك بسرعة.
وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى إسماعيل ابن إسحاق القاضى «2» قال:
دخلت على المعتضد بالله وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآنى المعتضد بالله «3» ، فلما أردت القيام أشار إلىّ فمكثت ساعة، فلما خلا بى قال: أيها القاضى- والله ما حللت سراويلى على حرام قط.
وحكى أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد الحسن بن محمد الطلحى قال «4» :
حدّثنى أحد خدم المعتضد المختص «5» بخدمته، قال: كنّا حوالى سرير المعتضد ذات يوم نصف النهار وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون حول سريره أوقات منامه من ليل أو نهار، فانتبه منزعجا وقال:
يا خدم- فأسرعنا الجواب، فقال: ويلكم أغيثونى والحقوا الشط، وأول ملاح ترونه منحدرا فى سفينة فارغة فاقبضوا عليه، وجيئونى به ووكلوا بسفينته، فأسرعنا فوجدنا ملاحا فى سميرية منحدرا- وهى فارغة- فقبضنا عليه، ووكلنا بسميريّته وأصعدناه إليه، فحين رآه الملاح تلف «6» ، فصاح(22/371)
عليه صيحة عظيمة كادت روحه تخرج معها، وقال: اصدقنى يا ملعون عن قصّتك مع المرأة التى قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك، قال: فتلعثم وقال:
نعم، كنت اليوم من سحر فى مشرعتى فنزلت امرأة «1» وعليها ثياب فاخرة وحلى كثير وجوهر، فطمعت فيها فاحتلت عليها حتى سددت فاها وغرّقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجسر على حمل سلبها إلى بيتى كيلا يفشو الخبر، فعملت على الهرب وانحدرت الساعة لأمضى إلى واسط، فعلقنى هؤلاء الخدم وحملونى «2» ، فقال له: أين الحلى والسلب؟ قال:
فى «3» السفينة تحت البوارى، فقال المعتضد للخدم: جيئونى به، فمضوا «4» وأحضروه، فقال: خذوا الملّاح فغرّقوه ففعلوا، ثم أمر أن ينادى ببغداد على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانيّة سحرا وعليها الثياب والحلى فليحضر من يعرفها، ويعطى صفة ما كان عليها ويأخذه فقد تلفت المرأة، فحضر فى اليوم الثانى أو الثالث أهل المرأة، وأعطوا صفة ما كان عليها فسلّم ذلك إليهم، قال: فقلنا يا مولانا أوحى إليك، فقال: رأيت فى منامى كأنّ رجلا شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادى بالأخذ لأوّل «5» ملّاح ينحدر الساعة فاقبض عليه، وقرّره عن خبر امرأة قتلها اليوم وسلبها، وأقم عليه الحدّ- فكان ما شاهدتم.
وكان المعتضد بالله رحمه الله شجاعا مقداما، فما حكى عن شجاعته ما حكاه أبو الفرج بسند رفعه إلى خفيف السمرقندى قال «6» :
كنت مع مولاى المعتضد فى بعض متصيّداته، وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيرى، فخرج علينا أسد فقصدنا، فقال لى المعتضد:(22/372)
يا خفيف «1» - أفيك خير؟ فقلت: لا يا مولاى، قال: ولا حتى تمسك فرسى وأنزل أنا إلى الأسد، فقلت: بلى، فنزل وأعطانى فرسه وشدّ أطراف ثيابه فى منطقته، واستلّ السيف ورمى بالقراب إلىّ، فأقبل يمشى إلى الأسد، فحين قرب منه وثب الأسد عليه فتلقّاه المعتضد فضربه، فإذا يده طارت فتشاغل الأسد بالضربة، فغشيه «2»
بأخرى ففلق هامته فخرّ صريعا، فدنا منه- وقد تلف- فمسح السيف فى صوفه، فرجع إلىّ فأغمد السيف وركب، ثم عدنا إلى العسكر «3» ، فإلى أن مات ما سمعته تحدّث بحديث الأسد، ولا علمت أنّه لفظ منه «4» بلفظة، فلم أدر من أى شىء أعجب:
من شجاعته وشدته أو من قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه أو من عفوه عنّى، فما عاتبنى على ضنّى بنفسى.
وكان رحمه الله حسن الفراسة صادقا، فمن ذلك ما حكاه خفيف السمرقندى قال «5» :
كنت واقفا بحضرة المعتضد إذ دخل بدر وهو يبكى، وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان الوزير عند موته، فأعلم المعتضد بالله الخبر، فقال: أو قد صحّ الخبر؟ أو هى غشية؟ قال: بل توفى وشدّ لحينه، فرأيت المعتضد بالله وقد سجد فأطال السجود، فلما رفع رأسه قال له بدر: والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة مجتهدا فى خدمتك عفيفا عن الأموال، قال: يا بدر- أظننت أنى سجدت سرورا بموته؟ إنما سجدت شكرا لله عزّ وجل إذ وفّقنى فلم أصرفه ولم أوحشه، ورفّهت على ورثته ما خلفه لهم من كسبه معى ما يجاوز قيمته ألفى ألف دينار، وقد كنت(22/373)
عزمت على أخذ ذلك منهم، وأن استوزر أحد الرجلين: إما جرادة- وهو أقوى الرجلين فى نفسى لهيبته فى قلوب الجيش، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات وهو أعرف بمواقع الأموال، فقال له بدر: يا مولاى- غرست غرسا حتى إذا أثمر قلعته، أنت ربّيت القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين، وعرف ما يرضى حاشيتك، وجرادة رجل متكبّر ويخرج من الجيش جائعا وابن الفرات لا هيبة له فى النفوس، وإنما يصلح أن يكون بحضرة وزير ليحفظ المال، ومال القاسم وورثته لك أى وقت أردته أخذته، فراجعه المعتضد وبيّن له فساد هذا الرأى، فعدل عن المناظرة إلى تقبيل الأرض مرّات، فقال له المعتضد: قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزّه بأبيه، وبشّره بتقرير رأيى على استيزاره، وليسلو عن مصابه، ومره بالبكور إلى الجامع، قال خفيف: فولّى بدر وخرجت معه فدعانى المعتضد [فعدت] «1» ، فقال: أرأيت ما جرى؟ قلت: نعم، قال: والله ليقتلنّ بدرا القاسم «2» - وكان الأمر كذلك، قتله فى خلافة المكتفى بالله على ما نذكره إن شاء الله، فقال خفيف: رحم الله المعتضد كأنّه نظر إلى هذا من وراء ستر.
وكان المعتضد رحمه الله جيد الشعر، فمن شعره ما قاله عند موت جارية كان يحبها وتحبه غاية المحبة، فلما «3» ماتت جزع لموتها جزعا منعه عن الطعام والشراب فقال «4» :
يا حبيبا لم يكن يع ... دله عندى حبيب(22/374)
أنت عن عينى بعيد ... ومن القلب قريب
ليس لى بعدك فى شى ... ء من اللهو نصيب
لك من قلبى على قل ... بى وإن بنت رقيب
وخيالى منك مذغب ... ت خيال لا يغيب
لو ترانى كيف لى بع ... دك عول ونحيب
وفؤادى حشوه من ... حرق الحزن لهيب
لتيقّنت بأنّى ... بك محزون كئيب
ما أرى نفسى وإن طبّ ... بتها «1» عنك تطيب
لى دمع ليس يعصي ... نى وصبرء ما يجيب
وقال أيضا:
لم أبك للدار ولكن بما ... قد كان فيها مرّة ساكنا
فخاننى الدهر بفقدانه ... وكنت من قبل له آمنا
ودّعت صبرى يوم «2» توديعه ... وبان «3» قلبى معه ظاعنا
فقال له عبيد الله بن سليمان: يا أمير المؤمنين- مثلك تهون عليه المصائب، لأنه يجد من كل فقيد خلفا، ويقدر على ما يريد، والعوض منك لا يوجد، فلا ابتلى الله الإسلام بفقدك، وعمّره ببقائك. وقد قال الشاعر فى المعنى الذى ذكرته.
يبكى علينا ولا نبكى على أحد ... ونحن «4» أغلظ أكبادا من الإبل
فضحك المعتضد وعاد إلى عادته.
وقال عبد الله بن المعتز يعزى المعتضد عن هذه الجارية:(22/375)
يا إمام الهدى بنا لا بك اله ... مّ «1» وأفنيتنا وعشت سليما
أنت علّمتنا على النعم الشك ... ر وعند المصائب التسليما
فاسل عمّا مضى فإنّ التى كا ... نت سرورا صارت ثوابا عظيما
قد رضينا بأن تموت وتحيا ... إنّ عندى فى ذاك خطا جسيما
من يمت طائعا لديك فقد أع ... طى نورا ومات موتا كريما
وأخبار المعتضد بالله كثيرة، قد أشرنا إلى ما فيه كفاية.
وكان له من الأولاد على- وهو المكتفى بالله، وجعفر- وهو المقتدر بالله، وهارون، ومحمد- وهو القاهر بالله، ومن البنات إحدى عشرة وقيل تسع.
عشرة «2» .
وكان نقش خاتمه: الاضطرار يزيل الاختيار. ووزراؤه: عبيد الله ابن سليمان بن وهب ثم ابنه القاسم بن عبيد الله. قضاته: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل «3» بن حماد بن زيد، ثم أبو العباس أحمد بن محمد «4» البرتى، ثم أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكّونى، ثم يوسف بن يعقوب «5» بن إسماعيل بن حماد بن زيد، ثم على بن أبى الشوارب، ثم أبو(22/376)
عمر «1» محمد بن يوسف بن يعقوب «2» . حاجبه: صالح الأمير.
الأمراء بمصر: خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم ابنه جيش بن خمارويه، ثم هارون بن خمارويه. القضاة بها: أبو عبدة إلى أن خلع جيش ابن خمارويه فاستتر فى داره، وولى بعده أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقى من قبل هارون بن خمارويه.
(نهاية الجزء العشرين بتجزئة المؤلف)(22/377)
مراجع التحقيق
1- الأعلام لخير الدين الزركلى- طبعة القاهرة سنة 1954 م 2- الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى
- طبعة بولاق سنة 1285 هـ- طبعة الساسى سنة 1323 هـ- طبعة دار الكتب سنة 1345 هـ
3- البداية والنهاية لابن كثير- طبعة القاهرة سنة 1932 م
4- بلدان الخلافة الشرقية للسترينج- طبعة كمبردج سنة 1930 م
5- تاريخ ابن عساكر- مخطوط دار الكتب 1041 تاريخ تيمور
6- تاريخ بغداد للخطيب البغدادى- طبعة القاهرة سنة 1931 م
7- تاريخ الطبرى؛ المسمى بتاريخ الأمم والملوك- طبعة أوربا سنة 1937 م- طبعة القاهرة سنة 1939 م
8- تنبيه الغافلين للسمرقند
- طبعة بولاق سنة 1313 هـ
9- تهذيب تاريخ ابن عساكر- طبعة دمشق سنة 1351 هـ.(22/379)
10- فتوح البلدان للبلاذرى- طبعة أوربا سنة 1866 م
11- الكامل لابن الأثير- طبعة أوربا سنة 1876 م- طبعة القاهرة سنة 1357 هـ
12- كمامة الزهر وصدفة الدر، وتسمى أيضا شرح البسامة بأطواق الحمامة لابن بدرون- مطبعة السعادة، القاهرة، سنة 1340 هـ- مخطوط دار الكتب 7917 أدب
13- مسالك الممالك لأبى اسحق الأصطخرى- طبعة ليدن سنة 1870 م
14- معجم البلدان لياقوت الحموى طبعة ليبزج سنة 1866 م
15- المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزى- طبعة حيدر أباد سنة 1357 هـ- مخطوط دار الكتب 1269 تاريخ.
16- النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى- طبعة دار الكتب سنة 1929 م
17- الوزراء والكتاب للجهشيارى- طبعة القاهرة سنة 1938 م
18- وفيات الأعيان لابن خلكان- طبعة القاهرة سنة 1948 م
19- الولاة والقضاة للكندى- طبعة بيروت سنة 1908 م(22/380)
فهرس الجزء الثانى والعشرين
تقديم
الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره والديار المصرية وما معها خاصة، وابتداء أمر الشيعة وظهورهم، وما كان منهم إلى أن أفضى إلى أبى العباس عبد الله السفاح ومن قام بالأمر بعده إلى وقتنا هذا.
ذكر ابتداء ظهور دعوة بنى العباس وأمر الشيعة 9
ذكر تفويض أمر الشيعة إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس وبثه الدعاة. 10
ذكر مولد أبى العباس السفاح 12
ذكر خبر أبى مسلم الخراسانى وابتداء أمره 15
ذكر ولاية أبى مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراسانى أمر الشيعة. 18
ذكر إظهار الدعوة بخراسان 19
ذكر دخول أبى مسلم مرو والبيعة بها 21
ذكر هرب نصر بن سيار أمير خراسان من مرو 23
ذكر مقتل ابنى الكرمانى 24
ذكر قدوم قحطبة بن شبيب من قبل إبراهيم الإمام على أبى مسلم. 26
ذكر مسير قحطبة إلى نيسابور واستيلائه عليها ومن استعمله أبو مسلم على الجهات. 26
ذكر مقتل نباته بن حنظلة عامل يزيد بن هبيرة على جرجان 27(22/381)
سنة إحدى وثلاثين ومائة 28
ذكر وفاة نصر بن سيار ودخول قحطبة الرى 28
ذكر مقتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصفهان 30
ذكر دخول قحطبة نهاوند 31
ذكر فتح شهر زور 32
سنة إثنتين وثلاثين ومائة 32
ذكر مسير قحطبة لقتال ابن هبيرة بالعراق وهلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة. 33
ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا 34
ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام 35
ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية. 37
ذكر بيعة أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 37
ذكر هزيمة مروان بالزاب 45
ذكر مقتل مروان بن محمد ودخول أهل الشام وغيرهم فى الطاعة. 46
ذكر من قتل من بنى أمية بعد مقتل مروان بن محمد 49
ذكر الخلاف على أبى العباس السفاح وأخبار من خالف وخلع. 52
ذكر خلع أبى الورد وأهل قنسرين ودمشق 52
ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم 53
ذكر قتل أبى سلمة الخلال وسليمان بن كثير 54
ذكر أخبار ابن هبيرة وما كان من أمره 56
ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها 58
ذكر عمال السفاح 59
سنة ثلاث وثلاثين ومائة 59
ذكر دخول ملك الروم ملطية وقاليقلا 59
سنة أربع وثلاثين ومائة 61
ذكر خلع بسام بن إبراهيم وما كان من أمره وقتل أخوال السفاح. 61
ذكر خبر الخوارج وقتل شيبان بن عبد العزيز 62
سنة خمس وثلاثين ومائة 63
ذكر خروج زياد بن صالح 64
سنة ست وثلاثين ومائة 64
ذكر وفاة أبى العباس السفاح 65
ذكر خلافة المنصور 66(22/382)
سنة سبع وثلاثين ومائة 67
ذكر خروج عبد الله بن على وقتاله وهزيمته 67
ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى 69
ذكر خروج سنباذ بخراسان 77
ذكر خروج ملبد الشيبانى وقتله 78
سنة ثمان وثلاثين ومائة 79
ذكر خلع جمهور بن مرار وقتله 79
سنة تسع وثلاثين ومائة 80
سنة أربعين ومائة 80
سنة إحدى وأربعين ومائة 81
ذكر خروج الراوندية على المنصور وقتلهم 81
ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدى إليه 82
ذكر فتح طبرستان 84
سنة إثنتين وأربعين ومائة 85
ذكر خلع عيينة بن موسى 85
ذكر نكث الإصبهبذ 85
سنة ثلاث وأربعين ومائة 86
سنة أربع وأربعين ومائة 86
سنة خمس وأربعين ومائة 88
ظهور محمد بن عبد الله 88
ذكر وثوب السودان بالمدينة 88
ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها 89
سنة ست وأربعين ومائة 92
سنة سبع وأربعين ومائة 92
ذكر البيعة للمهدى وخلع عيسى بن موسى 92
ذكر وفاة عبد الله بن على وخبر عيسى بن موسى 93
سنة ثمان وأربعين ومائة 94
ذكر خروج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمدانى. 94
سنة تسع وأربعين ومائة 95
سنة خمسين ومائة 95
ذكر خروج استاذسيس 95(22/383)
سنة إحدى وخمسين ومائة 96
ذكر بناء الرصافة للمهدى 96
سنة إثنتين وخمسين ومائة 98
سنة ثلاث وخمسين ومائة 98
ذكر القبض على أبى أيوب الموريانى الوزير وقتله 98
سنة أربع وخمسين ومائة 100
سنة خمس وخمسين ومائة 100
سنة ست وخمسين ومائة 100
سنة سبع وخمسين ومائة 101
سنة ثمان وخمسين ومائة 101
ذكر وفاة أبى جعفر المنصور 101
ذكر وصية المنصور لابنه المهدى 103
ذكر شىء من سيرة أبى جعفر المنصور 107
ذكر خلافة المهدى 108
سنة تسع وخمسين ومائة 109
ذكر ظهور المقنع بخراسان وهلاكه 109
سنة ستين ومائة 111
ذكر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادى 111
سنة إحدى وستين ومائة 113
سنة إثنتين وستين ومائة 113
ذكر قتل عبد السلام الخارجى 113
سنة ثلاث وستين ومائة 114
سنة أربع وستين ومائة 114
سنة خمس وستين ومائة 115
سنة ست وستين ومائة 115
سنة سبع وستين ومائة 117
سنة ثمان وستين ومائة 117
سنة تسع وستين ومائة 118
ذكر وفاة أبى عبد الله المهدى 118
ذكر شىء من سيرته وأخباره 119
ذكر خلافة الهادى 121
ذكر ظهور الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب 122(22/384)
سنة سبعين ومائة 122
ذكر وفاة أبى محمد الهادى 123
ذكر خلافة هارون الرشيد 125
سنة إحدى وسبعين ومائة 126
سنة إثنتين وسبعين ومائة 127
سنة ثلاث وسبعين ومائة 127
سنة أربع وسبعين ومائة 127
سنة خمس وسبعين ومائة 127
سنة ست وسبعين ومائة 127
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله 127
ذكر الفتنة بدمشق 128
سنة سبع وسبعين ومائة 129
ذكر الفتنة بالموصل 129
سنة ثمان وسبعين ومائة 129
ذكر الفتنة بمصر 129
ذكر خروج الوليد بن طريف 130
سنة تسع وسبعين ومائة 131
سنة ثمانين ومائة 131
ذكر ولاية على بن عيسى خراسان، وخبر حمزة الخارجى. 131
سنة إحدى وثمانين ومائة 132
سنة إثنتين وثمانين ومائة 132
سنة ثلاث وثمانين ومائة 133
سنة أربع وثمانين ومائة 134
سنة خمس وثمانين ومائة 134
سنة ست وثمانين ومائة 134
ذكر حج هارون الرشيد وأمر كتاب العهد 134
سنة سبع وثمانين ومائة 135
ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى بن خالد. 135
ذكر شىء من أخبار جعفر وتمكنه من الرشيد وما آل أمرهم إليه. 142
ذكر القبض على عبد الملك بن صالح 148
ذكر غزو الروم 148
سنة ثمان وثمانين ومائة 150(22/385)
سنة تسع وثمانين ومائة 150
ذكر مسير الرشيد إلى الرى 150
سنة تسعين ومائة 151
ذكر فتح هرقلة 151
سنة إحدى وتسعين ومائة 158
سنة إثنتين وتسعين ومائة 158
سنة ثلاث وتسعين ومائة 158
ذكر وفاة الرشيد 158
ذكر شىء من سيرة الرشيد وأخباره 163
ذكر خلافة الأمين 164
سنة أربع وتسعين ومائة 165
ذكر خلاف أهل حمص على الأمين 165
سنة خمس وتسعين ومائة 165
ذكر خروج السفيانى وما كان من أمره 165
سنة ست وتسعين ومائة 167
سنة سبع وتسعين ومائة 167
سنة ثمان وتسعين ومائة 167
ذكر أخبار الأمين والمأمون وما كان بينهما من الفتن والاختلاف وما أفضى إليه الأمر من قتل الأمين 167
ذكر محاربة على بن عيسى بن ماهان وطاهر 171
ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلة إلى طاهر وقتله واستيلاء طاهر على أعمال الجبل 174
ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر وعودهم من غير قتال 176
ذكر خلع الأمين ببغداد والبيعة للمأمون وعودة الأمين 177
ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة 178
ذكر تجهيز الأمين الجيوش وما كان من أمرهم 180
ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين 180
ذكر حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها 181
ذكر مقتل الأمين 182
ذكر صفة الأمين وعمره ومدة خلافته وشىء من أخباره 187
ذكر خلافة المأمون 188
ذكر وثوب الجند بطاهر 189
ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلى على المأمون 190
ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد 191(22/386)
سنة تسع وتسعين ومائة 191
ذكر ظهور ابن طباطبا العلوى ووفاته وخبر أبى السرايا 191
ذكر هرب أبى السرايا وقتله 195
سنة مائتين 196
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة ومبايعته محمد بن جعفر وما كان من أمره وخلعه لنفسه 197
ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتله 199
ذكر وثوب الحربية ببغداد 200
سنة إحدى ومائتين 201
ذكر ولاية منصور بن المهدى بغداد 201
ذكر البيعة بولاية العهد لعلى بن موسى الرضا 202
ذكر فتح جبال طبرستان وأسر ملك الديلم 203
سنة إثنتين ومائتين 203
ذكر بيعة إبراهيم بن المهدى ببغداد وخلع المأمون 203
ذكر أخبار ابراهيم بن المهدى وما استولى عليه من الأماكن، وما كان من أمره إلى أن خلع واستتر، ذكر استيلائه على قصر ابن هبيرة والكوفة 204
ذكر خلع إبراهيم بن المهدى 206
ذكر اختفاء إبراهيم بن المهدى 208
ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذى الرئاستين الفضل بن سهل 208
سنة ثلاث ومائتين 210
ذكر وفاة على بن موسى الرضا ولى العهد 210
سنة أربع ومائتين 210
ذكر قدوم المأمون بغداد 210
سنة خمس ومائتين 211
ذكر ولاية طاهر بن الحسين خراسان 211
سنة ست ومائتين 212
ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرقة وغيرها 212
سنة سبع ومائتين 212
ذكر وفاة طاهر بن الحسين أمير خراسان واستعمال ابنه طلحة. 213
سنة ثمان ومائتين 214
سنة تسع ومائتين 214(22/387)
سنة عشر ومائتين 214
ذكر ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدى 215
ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل 220
ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصر وفتحها وفتح الإسكندرية 225
ذكر خلع أهل قم المأمون وما كان من أمرهم 228
سنة إحدى عشرة ومائتين 228
سنة اثنتى عشرة ومائتين 229
ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل 229
سنة ثلاث عشرة ومائتين 229
سنة أربع عشرة ومائتين 230
ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسان 230
سنة خمس عشرة ومائتين 230
ذكر غزاة المأمون إلى الروم 230
سنة ست عشرة ومائتين 231
ذكر فتح هرقلة 231
سنة سبع عشرة ومائتين 232
سنة ثمانى عشرة ومائتين 233
ذكر المحنة بالقرآن المجيد 233
ذكر وفاة أبى العباس المأمون 237
ذكر صفته وشىء من أخباره وسيرته 239
ذكر خلافة المعتصم بالله 242
سنة تسع عشرة ومائتين 243
ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوى 243
ذكر محاربة الزط 244
سنة عشرين ومائتين 245
ذكر بناء سامرا وهى سر من رأى 245
ذكر القبض على الفضل بن مروان بن أحمد بن عمارة الوزير 246
سنة إحدى وعشرين ومائتين 247
سنة إثنتين وعشرين ومائتين 247
ذكر أخبار بابك الحرمى وفتح البذ وأسر بابك وقتله 247
سنة ثلاث وعشرين ومائتين 250
ذكر قدوم الأفشين إلى سامرا وما عامله به المعتصم 250
ذكر خروج الروم إلى زبطرة 250(22/388)
ذكر فتح عمورية 251
ذكر القبض على العباس بن المأمون وحبسه والأمر بلعنه ووفاته 253
سنة أربع وعشرين ومائتين 254
ذكر مخالفة مازيار بطبرستان وأسره 254
ذكر عصيان متكجور قرابة الأفشين والظفر به 257
سنة خمس وعشرين ومائتين 258
ذكر القبض على الأفشين وحبسه ووفاته وصلبه 258
سنة ست وعشرين ومائتين 258
سنة سبع وعشرين ومائتين 259
ذكر خروج المبرقع بفلسطين 259
ذكر وفاة أبى إسحاق المعتصم وشىء من أخباره 260
ذكر خلافة الواثق بالله 262
ذكر الفتنة بدمشق 262
سنة ثمان وعشرين ومائتين 263
سنة تسع وعشرين ومائتين 263
سنة ثلاثين ومائتين 263
ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة وما كان من أمرهم 263
سنة إحدى وثلاثين ومائتين 265
ذكر خبر أحمد بن نصر بن مالك الخزاعى وما كان من أمره 265
ذكر الفداء بين المسلمين والروم 269
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين 270
ذكر وفاة أبى جعفر الواثق وشىء من أخباره 270
ذكر خلافة المتوكل على الله 275
سنة ثلاث وثلاثين ومائتين 276
ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات 276
سنة أربع وثلاثين ومائتين 278
ذكر خبر إيتاح وابتداء أمره وقتله 278
سنة خمس وثلاثين ومائتين 280
ذكر ظهور رجل يدعى النبوة 281
سنة ست وثلاثين ومائتين 282
ذكر ما فعله المتوكل بمشهد الحسين بن على رضى الله عنهما 282(22/389)
سنة سبع وثلاثين ومائتين 283
ذكر وثوب أهل أرمينية بعاملهم 283
ذكر غضب المتوكل على أحمد بن أبى دؤاد وولاية يحيى بن أكثم القضاء 284
سنة ثمان وثلاثين ومائتين 285
ذكر مسير الروم إلى ديار مصر 285
سنة تسع وثلاثين ومائتين 286
سنة أربعين ومائتين 286
ذكر وثوب أهل حمص بعاملهم 286
سنة إحدى وأربعين ومائتين 287
ذكر الفداء بين المسلمين والروم 287
ذكر غارة البجاة بمصر 288
سنة اثنتين وأربعين ومائتين 289
سنة ثلاث وأربعين ومائتين 291
سنة أربع وأربعين ومائتين 291
سنة خمس وأربعين ومائتين 291
سنة ست وأربعين ومائتين 292
سنة سبع وأربعين ومائتين 293
ذكر مقتل أبى الفضل المتوكل على الله 293
كيفية قتل المتوكل 295
ذكر خلافة المنتصر بالله 298
سنة ثمان وأربعين ومائتين 298
ذكر خلع المعتز والمؤيد 298
ذكر وفاة المنتصر بالله 300
ذكر خلافة المستعين بالله 301
سنة تسع وأربعين ومائتين 303
ذكر الفتنة ببغداد 303
ذكر قتل أوتامش الوزير 304
سنة خمسين ومائتين 305
سنة إحدى وخمسين ومائتين 306
ذكر قتل باغر التركى 306
ذكر مسير المستعين إلى بغداد 307
ذكر البيعة للمعتز بالله 308
ذكر حصار المستعين ببغداد 310(22/390)
سنة اثنتين وخمسين ومائتين 312
ذكر خلع المستعين وخلافة المعتز بالله 312
ذكر أخبار المستعين بعد خلعه، وما كان من أمره إلى أن قتل، وذكر أولاده وعماله ومدة عمره وخلافته 313
ذكر حال وصيف وبغا 315
ذكر خلع المؤيد وموته 315
ذكر الفتنة بين الأتراك والمغاربة 316
سنة ثلاث وخمسين ومائتين 316
ذكر قتل وصيف 316
ذكر وفاة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعى سنة أربع وخمسين ومائتين 317
ذكر مقتل بغا الصغير الشرابى 317
سنة خمس وخمسين ومائتين 317
ذكر خلع المعتز بالله وموته وشىء من أخباره 318
ذكر خلافة المهتدى بالله 320
ذكر ظهور قبيحة أم المعتز بالله 320
سنة ست وخمسين ومائتين 322
ذكر وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح بن وصيف 322
ذكر قتل صالح بن وصيف 322
ذكر خلع المهتدى وموته 323
ذكر شىء من سيرة المهتدى 326
ذكر خلافة المعتمد على الله 327
ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينية 327
سنة سبع وخمسين ومائتين 328
ذكر ورود أبى أحمد الموفق من مكة وما عقد له المعتمد من الأعمال 328
سنة ثمان وخمسين ومائتين 329
سنة تسع وخمسين ومائتين 329
سنة ستين ومائتين 329
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهم 329
سنة إحدى وستين ومائتين 331
ذكر البيعة بولاية العهد للمفوض جعفر بن المعتمد وللموفق الناصر لدين الله أبى أحمد أخى المعتمد 331(22/391)
سنة اثنتين وستين ومائتين 332
سنة ثلاث وستين ومائتين 333
سنة أربع وستين ومائتين 334
ذكر أخبار الوزراء 335
سنة خمس وستين ومائتين 335
سنة ست وستين ومائتين 336
سنة سبع وستين ومائتين 337
سنة ثمان وستين ومائتين 337
سنة تسع وستين ومائتين 337
ذكر مسير المعتمد على الله إلى مصر وعوده قبل الوصول إليها 337
سنة سبعين ومائتين 339
سنة إحدى وسبعين ومائتين 339
ذكر خلاف محمد وعلى العلويين بالمدينة 339
سنة إثنتين وسبعين ومائتين 340
سنة ثلاث وسبعين ومائتين 340
سنة أربع وسبعين ومائتين 340
سنة خمس وسبعين ومائتين 341
ذكر قبض الموفق على ابنه المعتضد 341
سنة ست وسبعين ومائتين 341
سنة سبع وسبعين ومائتين 342
سنة ثمان وسبعين ومائتين 342
ذكر وفاة أبى أحمد الموفق 342
ذكر البيعة للمعتضد بالله بولاية العهد 344
سنة تسع وسبعين ومائتين 344
ذكر خلع المفوض إلى الله جعفر بن المعتمد، وولاية أبى العباس المعتضد بالله بن الموفق 344
ذكر وفاة المعتمد على الله وشىء من أخباره 345
ذكر خلافة المعتضد بالله 346
سنة ثمانين ومائتين 347
ذكر حبس عبد الله بن المهتدى وقتل محمد بن الحسن 347
ذكر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم وإغارته على الأعراب 347
سنة إحدى وثمانين ومائتين 348
ذكر مسير المعتضد إلى ماردين وملكها 348(22/392)
سنة اثنتين وثمانين ومائتين 349
ذكر قصد حمدان وانهزامه وعوده إلى الطاعة 349
سنة ثلاث وثمانين ومائتين 350
سنة أربع وثمانين ومائتين 351
سنة خمس وثمانين ومائتين 352
سنة ست وثمانين ومائتين 355
سنة سبع وثمانين ومائتين 356
سنة ثمان وثمانين ومائتين 357
سنة تسع وثمانين ومائتين 357
ذكر وفاة المعتضد بالله وشىء من أخباره وسيرته 357
مراجع التحقيق 379(22/393)
الجزء الثالث والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الدولة العباسية بالعراق وغيره]
مقدمة
هذا هو الجزء الحادى والعشرون من «نهاية الأرب» بتجزئة النويرى، والثالث والعشرون بالتجزئة التى يصدر بها اليوم.
نختصر فى تقديمه مكتفين بما جاء قبل، مقرين بأن الطريقة هنا هى تقريبا الطريقة هناك، وأن الرجوع إلى المظان عندنا لا يختلف عن الرجوع عند غيرنا إلا فى ربط القديم بالجديد إيمانا منا بأن للتاريخ فلسفة لم يبلورها الأولون! ولقد كان العمل فى إخراج «نهاية الأرب» موكولا لأكفاء من غير شك غير أن صدور كل واحد منهم بأسلوبه الخاص أناح للجميع أن يبسطوا أديمهم ويكشفوا عن منهجهم، ومن ثم تهيأ لنا أن نتقدم بما يبيّن دورنا فى نشر هذا الجزء، وإذا كان علينا أن نقول شيئا بادئ ذى بدء قلنا إننا اعتمدنا فى نشر هذا الجزء على نسخة صوّرتها الجامعة العربية من نسخة محفوظة(23/5)
تحت رقم 1369 بأمانة خزينة فى استنبول، وقد كتب فى نهايته أنه كمل «على يد مؤلفه الفقير إلى عفو ربه أحمد بن عبد الوهاب ...
ووافق الفراغ منه فى يوم الثلاثاء لخمس ليال بقين من صفر سنة أربع وعشرين وسبعمائة» .
على أن احتمال كون هذا الجزء مع ذلك بخط المؤلف هو قدر احتماله ألا يكون؛ فإن تحرّر الخط، وجودته- برغم قلة النقط.
فيه- وعدم السقط، وندرة الأخطاء التى تقع عادة من الملخصين والنويرى واحد منهم ... كل ذلك كان من غير شك حافزا إلى أن نقابل هذه المصورة- وقد رمزنا لها بالحرف «ا» - بمصورتين أخريين إحداهما عن نسخة من كوبريللى بالآستانة، والأخرى عن نسخة من الفاتيكان.
أما مصورة كوبريللى- ونرمز لها بالحرف «ك» وهى تحت رقم 549 بدار الكتب- فهى فى جودة الخطر الذى حررت به «ا» .. بل قد تفضلها بكثرة نقطها وإن يكن الخطأ فيها متعددا! وتمتاز بزيادات مفيدة لعل لناسخها فضل إضافتها- إن كان هذا فضلا- وتدل على حسن إدراك يرفع من قيمتها على نحو من الأنحاء، ولعل هذا هو ما حدا بنا إلى أن نجعلها فى المرتبة الثانية بعد «ا» .
فإذا عرضنا لمصورة الفاتيكان 739- وهى محفوظة بدار الكتب تحت رقم 592 معارف عامة ورمزنا لها بالحرف «ف» - فكأننا نعرض للمصورة «ا» تماما.. فهى من الناحية التاريخية نسخت سنة(23/6)
739 للهجرة والنويرى مات سنة 732 كما فى المنهل الصافى، وهى من الناحية الفنية لا تخرج عن الإطار الذى حدّده المؤلف لأجزائه، بل ربما وضّحت بعض الأعلام وضبطتها.
نقول إن للمصورة «ف» هذه القيمة، إلا أن رداءة خطها- بالنسبة إلى نسخة المؤلف- وصغر حروفها، وعدم تحديد بدايات السنين، وضياع العناوين فى سياق الكلام.. كل أولئك يقيم شى صعوبات أمام القارىء العادى. ويحمّل ناسخها إبراهيم بن محمد ابن ناهض الحلبى بعض وزر ما كان يصرف أحدا عن الانتفاع بها كما ينبغى أن يكون الانتفاع.
ومع ذلك فهى كاملة إذا قيست بغيرها من المخطوطات القديمة، وهى فى 137 صفحة مزدوجة وقفنا إزاءها وقفتنا إزاء «ا» ..
فكنا نذكر رقم الصفحة الواحدة متبوعا بألف أو بباء، على حسب وقوع الكلام فيها يمينا أو شمالا؛ فذكر خلافة المتعصم بالله مثلا يقع فى صفحة 94- ا، وذكر مقتله يقع فى 94- ب، وذكر إمارة عبد الرحمن بن محمد فى صفحة 116- ا، وذكر إمارة الحكم فى 116- ب وهكذا ...
والجدير بالذكر أنها، باستثناء ما ورد فى 132- ب، تخلو من العناوين الجانبية إلا ما فات من السياق؛ فكان يثبت فى الهامش على ما جاء فى 57- ب و 67- ا،، وثمة سقط. واحد فى 61- ب، لم ينوه عنه إطلاقا، ومحو بعض كلام فى 38- ب، وبقعتا حبر فى 124(23/7)
يبقى بعد ذلك شىء طريف لا مندوحة عن ذكره، هو أن القارئ يجد لأحد رجال دار الكتب تعليقا ظهر الغلاف يقول: «بداية هذا الجزء توافق بداية الجزء الواحد والعشرين من تجزئة المؤلف وينتهى بنهايته، وما كتب على صفحة عنوانه تدليس» وأما ما كتب فهو «الجزء الثانى من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب» بخط يخالف خطّ المتن، ثم نرى ضربا بالحبر على كلام فى السياق يخفى شيئا أراد أحدهم ألا يصلنا. والظاهر أن هذه النسخة امتحنت مرتين، إحداهما حين نزع غلافها الأصلى وأضيف لها غلاف جديد، والأخرى حين طمس آثم جانبا أراد طمسه، واستتبع هذا إخفاء بعض سياق الخاتمة بالريشة نفسها، وهكذا يعبث بالتراث! وأخيرا، فكم كنا نحبّ ألا نختم هذه المقدمة الآن.. كنا نحب ألا نختمها حتى نستوفى الكلام على صنيع النويرى من تصنيف ورواية عمن سبقه فى حقل التاريخ كابن الأثير وابن الجوزى وابن الرفيق وابن شدّاد، بل على صنيعه إزاء بعض الحوادث دون بعض، ومروره على موقف مرّ المتعجل وتلبّثه على آخر تلبّث المتأنى..
ونستخرج خصائص تأليفه وسمات أسلوبه ونكشف عن شخصيته التى تركها على نقوله من غيره، بيد أننا رأينا أن هذا- فضلا عن أنه يحتاج إلى تفصيل كبير يحيد بهذا الجزء عن الطريق الذى رسم لإخوته.
من أجل ذلك طرحنا كل شىء وفى النفس أن نعود إلى المؤلّف فى مكان آخر وبدراسة أوفى.. نبين فيها ما نريد،(23/8)
ونوسع ما يضيق عنه المجال هنا، غير أننا تأمل أن تكون إشاراتنا فى الهوامش لبعض ما وقف عنده النويرى دليلا على خطره هو بين الموسوعيين الذين تفخز بهم عربيتنا على الأجيال.
إن هذا الرجل أحد المصريين القلائل الذين جمعوا إلى فن الكتابة صناعات أخر، وفى ظلّ السلطان الملك الناصر باشر نظر الجيش وتولى ديوان الدقهلية والمرتاحية، ورصد تاريخا يعتبر إلى الآن من أهم المراجع كما يقول فازيليف.
دكتور أحمد كمال زكى(23/9)
ذكر خلافة المكتفى بالله
هو أبو محمد علىّ بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفّق بالله أبى أحمد بن المهدىّ- وهو الملقب بالناصر لدين الله- بن المتوكّل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد أبى محمد بن المهدىّ أبى عبد الله محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن علىّ ابن عبد الله ابن عباس، رضى الله تعالى عنهم أجمعين «1» . وأمّه خاضع أمّ ولد وتلقّب جيجك «2» ، وقيل اسمها جنجورا، وهو الخليفة السابع عشر من الخلفاء العباسيين. بويع له يوم الإثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين-(23/11)
وكان إذ ذاك بالرقة- فبايع له الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ابن وهب، وكتب له يعلمه بوفاة أبيه وأخذ البيعة له.
فلما وصله الخبر، أخذ البيعة على من عنده من الأجناد، ووضع لهم العطاء، وسار إلى بغداد، ووجّه إلى النواحى بديار ربيعة ومضر ونواحى العرب «1» من يضبطها. ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأولى، فلما صار إلى منزله أمر بهدم المطامير التى. كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم
ذكر قتل بدر غلام المعتضد بالله
وكان سبب قتله أنّ القاسم- الوزير- كان قد همّ بنقل الخلافة إلى غير ولد المعتضد بعده، فقال لبدر ذلك فى حياة المعتضد بعد أن استحلفه أن يكتم عليه فقال بدر: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاى وولىّ نعمتى! فلم يمكنه مخالفته لأنه صاحب الجيش، وحقدها عليه فلما مات المعتضد كان بدر بفارس فعقد القاسم البيعة للمكتفى، وعمل على هلاك بدر خوفا على نفسه أن يذكر للمكتفى ما كان منه.
وكان المكتفى مباعدا لبدر فى حياة المعتضد، فوجّه إلى القوّاد الذين مع بدر يأمرهم بمفارقته والمصير إليه، ففارقه جماعة وأقبلوا إلى المكتفى فأحسن إليهم.
وسار بدر إلى الموصل وواسط فوكل المكتفى بداره، وقبض(23/12)
على أصحابه وقواده فحبسهم، وأمر بمحو اسمه من الأعلام والتّراس «1» . وسير الحسن بن على إلى كورة «2» واسط فى جيش، وأرسل بدر يعرض عليه أىّ النواحى شاء، فأبى ذلك وقال: لا بدّ من المصير إلى باب مولاى! فوجد القاسم مساغا للقول «3» ، وخوّف المكتفى غائلته.
وبلغ بدرا ما فعل بأصحابه فأرسل من يأتيه بولده هلال سرّا، فعلم الوزير بذلك فاحتاط عليه، ودعا قاضى الجانب الشرقىّ وأمره بالمسير إلى بدر وأن يطيّب قلبه عن المكتفى ويعطيه الأمان على نفسه وولده وماله، فقال القاضى أبو حازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين! فصرفه ودعا أبا عمر القاضى، وأمره بمثل ذلك فأجابه، وسار بكتاب الأمان. فسار بدر عن واسط إلى إلى بغداد فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتل سأله المهلة إلى أن يصلّى ركعتين، فأمهل حتى صلاهما. وضربت عنقه يوم الجمعة لستّ خلون من رمضان، وأخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجّه عياله من أخذها سرا وجعلوها فى تابوت، فلما كان وقت الحجّ حملوها إلى مكة فدفنوها بها- وكان أوصى بذلك- وأعتق كلّ مملوك له. ورجع أبو عمر إلى داره كئيبا لما كان منه، وقال الناس فيه الشعر، فمن ذلك قول بعضهم:(23/13)
قل لقاضى مدينة المنصور ... كيف أحللت أخذ رأس الأمير «1»
عند إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأيمان فى منشور «2»
أين أيمانك التى شهد اللّ ... هـ على أنها يمين فجور
إنّ كفيك لا تفارق كفّي ... هـ إلى أن ترى مليك السرير «3»
يا قليل الحياء يا أكذب الأم ... ة.. يا شاهدا شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ... سن أمثاله ولاة الجسور
أىّ أمر ركبت فى الجمعة الزّه ... راء منه فى خير هذى الشهور «4»
قد مضى من قتلت فى رمضان ... صائما بعد سجدة التغفير
يا بنى يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم فى غرور
بدّد الله شملكم وأرانى ... ذلّكم فى حياة هذا الوزير
فأعدوا الجواب للحكم العا ... دل من بعد منكر ونكير «5»
أنتم كلكم فداء أبى حا ... زم المستقيم كلّ الأمور «6»
وفيها «7» لحق إسحاق الفرغانى- وهو من أصحاب بدر-(23/14)
بالبادية وأظهر الخلاف على الخليفة المكتفى، فحاربه أبو الأغرّ «1» فهزمه إسحاق وقتل جماعة من أصحابه.
وفيها خلع المكتفى على هلال بن بدر وغيره من أصحاب أبيه فى جمادى الأولى.
وفيها فى فصل الصيف هبت ريح باردة بحمص وبغداد من جهة الشمال، فبرد الوقت واشتد البرد حتى جمد الماء، واحتاج الناس إلى النار. وفيها هبت ريح عاصفة بالبصرة قلعت كثيرا من نخلها، وخسف بموضع هلك فيه. ستون ألف نفس. وزلزلت بغداد فى شهر رجب عشر مرات فتضرّع الناس فى الجامع فسكنت. وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى «2» ودخلت سنة تسعين ومائتين: فى هذه السنة اشتد أمر القرامطة، فجاء أهل الشام ومصر إلى المكتفى يشكون ما يلقون من القرمطى «3» من الأسر والسّبى والتخريب؛ فأمر الجند بالتأهب، وخرج من بغداد فى شهر رمضان، وقدم بين يديه أبا الأغرّ فى(23/15)
عشرة آلاف، وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل.
فنزل أبو الأغرّ بالقرب من حلب «1» ، فكبسهم القرمطى صاحب الشامة «2» فقتل منهم خلقا كثيرا. ودخل أبو الأغر حلب فى ألف رجل وذلك فى شهر رمضان، وسار القرمطى إلى باب حلب فحاربه أبو الأغرّ بمن بقى معه وأهل البلد، فرجع عنهم. وسار المكتفى حتى نزل الرّقّة، وسيّر الجيوش إليه وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب، وكان للقرامطة حروب كثيرة ووقائع نذكرها- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «3» .
وفيها أراد المكتفى البناء بسامرّاء، وخرج إليها ومعه الصناع فقدّروا ما تحتاج إليه فكان ما لا جزيلا، فعظّم الوزير ذلك عليه وصرفه عنها، ورجع إلى بغداد.. وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله العباسى.
ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين: فى هذه السنة سار من طرسوس غلام زرافة «4» نحو بلد الروم ففتح مدينة أنطاكية عنوة بالسيف؛ فقتل خمسة آلاف وأسر نحوهم، واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف، وأخذ لهم ستين مركبا حمّلها ما غنم من الأموال، وقدّر نصيب كلّ رجل فكان ألف دينار.(23/16)
وفيها مات الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان «1» . وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين: فى هذه السنة انقرضت الدولة الطولونية، واستولى المكتفى بالله على ما بأيديهم بمصر والشام.
وأرسل محمد بن سليمان الكاتب إلى مصر بمواطأة قوّاد هارون بن خمارويه فتوجّه، وقاتله هارون فقتل هارون، واستولى ابن سليمان على مصر، على ما نذكر ذلك مبيّنا- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة الطولونية.
قال»
: وكتب ابن سليمان بالفتح إلى المكتفى بالله، فأمر باشخاص آل طولون إلى بغداد ففعل ذلك، وولى معونة مصر عيسى النّوشرى. ثم ظهر بمصر رجل يعرف بالخليجى «3» - وهو من قواد الدولة الطولونية- فخالف على الخليفة وكثر جمعه، وعجز النّوشرىّ عنه فتوجّه إلى الإسكندرية، ودخل إبراهيم الخليجى مصر. فسيّر إليه المكتفى الجنود مع فاتك «4» - ولى المكتفى- وبدر الحماص، فساروا فى شوّال فوصلوا حدود مصر(23/17)
فى صفر سنة ثلاث وتسعين «1» . وتقدّم أحمد بن كيغلغ فى جماعة من القواد، فلقيهم الخليجى فهزمهم بالقرب من العريش أقبح هزيمة. فندب من بغداد جماعة من القوّاد فيهم إبراهيم بن كيغلغ، فخرجوا فى شهر ربيع الأول. وبرز المكتفى إلى باب الشّمّاسية «2» يريد المسير لحرب الخليجى لما/ بلغه من قوّته- وكان ذلك فى شعبان- فورد كتاب فاتك فى شعبان أن «القوّاد رجعوا إلى الخليجى وقاتلوه أشدّ قتال، وكانت بينهم حروب آخرها أنه انهزم ودخل فسطاط مصر واستتربها، ودخل عسكر الخليفة المدينة وظفروا به، وحبس هو ومن استتر عنده» .
فكتب المكتفى إلى فاتك بحمله ومن معه إلى بغداد، فوصلوا بغداد فى شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين، ودخل المكتفى بغداد وأمر بردّ خزائنه وكانت قد بلغت تكريت «3» .
وصيها- أعنى سنة اثنتين وتسعين أخذ بالبصرة رجل دكر أنه أراد الخروج، وأخذ معه ولده وتسعة وثلاثون رجلا، وحملوا إلى بغداد وهم يستغيثون ويحلفون أنهم براء «4» ، فأمر المكتفى بحبسهم(23/18)
وفيها أغار أندرونقس «1» الرومى على مرعش «2» ونواحيها، فنفر أهل المصيصة وطرسوس فأصيب أبو الرجال بن أبى بكار فى جماعة من المسلمين. فعزل الخليفة أبا العشائر عن الثغور واستعمل عليهم رستم بن بدر «3» ، وافتدى رستم فكان جملة من فودى به المسلمون ألف نفس ومائتى نفس. وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الله.
وفيها كان ابتداء إمارة بنى حمدان بالموصل، وذلك أن المكتفى بالله ولّى على الموصل وأعمالها أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبىّ العدوىّ «4» ، فقدمها فى المحرم، وخرج فى اليوم الثانى من مقدمه لقتال الأكراد على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة الحمدانية.
ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين: فى هذه السنة كان الظّفر بإبراهيم الخليجى المغلّب على ديار مصر، وقد ذكرنا ذلك فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين.(23/19)
وفيها أغارت الروم على قورس- من أعمال حلب- فقاتلهم أهلها قتالا شديدا، ثم انهزموا وقتل كثير منهم «1» . ودخل الروم قورس، وأحرقوا جامعها، وأخذوا من بقى من أهلها. وحج بالناس فى هذه السنة محمد بن عبد الملك الهاشمى.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائتين: فى هذه السنة قتل زكرويه رئيس القرامطة على ما نذكره إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «2» وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبيا، ودوابّ ومتاعا، ودخل بطريق من بطارقة الروم فى الأمان فأسلم. وغزا ابن كيغلغ أيضا فبلغ شلندوا «3» وافتتح اللّيس «4» فغنم نحوا من خمسين ألف رأس، وقتل(23/20)
مقتلة عظيمة، وانصرف ومن معه سالمين. وكاتب أندرونقس البطريق المكتفى بالله فى طلب الأمان فأعطاه ما طلب- وكان على حرب الثغور من قبل ملك الروم- فخرج ومعه نحو من مائتى ألف أسير «1» من المسلمين فى السلاح، فقبضوا على بطريق كان ملك الروم أرسله ليقبض على أندرونقس- ليحاربوه- فسار إليه جمع من المسلمين لإغاثته، فبلغوا قونية «2» وانصرف الروم عنه. وسار جماعة من المسلمين إلى أندرونقس وهو فى حصنه، فخرج إليهم ومعه أهله، وسار معهم إلى يطلب وخرّب المسلمون قونية، فأرسل ملك الروم إلى الخليفة يطلب الفداء. وحج بالناس الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة خمس وتسعين ومائتين: فى هذه السنة كانت وفاة إسماعيل بن أحمد السامانى أمير خرسان وما وراء النهر وقام بعده ابنه أحمد على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «3»(23/21)
ذكر وفاة المكتفى بالله
كانت وفاة المكتفى ببغداد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين، وطالت مرضته عدّة شهور، ولما مات دفن بدار محمد بن عبد الله بن طاهر. وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، واختلف فيه إلى إحدى وثلاثين سنة وشهور «1» ، وكانت مدة خلافته ستّ سين وستّة أشهر وعشرين يوما. وكان أسمر أعين «2» ، قصيرا، حسن اللحية والوجه. وهو الذى بنى/ جامع القصر بمدينة السلام- وكان موضعه مطامير فغطاها- وبنى تاج دار الخلافة على دجلة. وأنفق الأموال العظيمة فى حرب القرامطة، وكان نقش خاتمه «بالله يثق علىّ بن أحمد» .
أولاده: المستكفى بالله، وثمانية ذكور.
وزراؤه: القاسم بن عبيد الله، ثم أبو العباس بن الحسن بن أيوب بن سواد جرجرايا «3» ، وهو أوّل وزير منع أصحاب الدواوين الوصول إلى الخليفة.(23/22)
قضاته: أبو حازم، ثم يوسف بن يعقوب، ثم أبو عمر بن على بن أبى الشوارب حاجبه: خفيف السمرقندى.
الأمراء بمصر: هارون بن خماروية، ثم سنان بن أحمد بن طولون بمبايعة الجند له، ثم محمد بن سليمان الكاتب دبّرها إلى أن قدم- بأمر المكتفى- عليها عيسى بن محمد النوشرى.
القضاة بها: أبو زرعة وأبو عبيدة مستتر إلى أن قدم محمد بن سليمان، فظهر أبو عبيدة بعد استتاره عشر سنين، وعاد إلى القضاء والله أعلم!
ذكر خلافة المقتدر بالله
هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد- وقد تقدّم ذكر نسبه- وأمّه أمّ ولد اسمها شغب! وهو الثامن عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين وعمره يومذاك ثلاث عشرة سنة.
قال ابن الأثير «1» : كان سبب ولاية المقتدر أنّ المكتفى لما ثقل مرضه فكّر الوزير أبو العباس بن الحسن فيمن يصلح للخلافة، فاستشار محمد بن داود الجراح فى ذلك فأشار بعبد(23/23)
الله بن المعتز ووصفه بالعقل والرأى والأدب، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات «1» فامتنع، وقال: هذا شىء ما جرت عادنى أشير به، وإنما أشاور فى العمال لا فى الخلفاء! فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة وليس يخفى عليك الصحيح! وألحّ عليه فقال: إن كان رأى الوزير قد استقرّ على أحد فليفعل.
فعلم أنه عنى ابن المعتز لاشتهار خبره، فقال الوزير: لا أقنع إلا أن تمحضنى «2» النصيحة! وألحّ عليه فقال ابن الفرات: فليتّق الله الوزير ولا ينصب إلا من قد عرفه واطّلع على جميع أحواله، ولا ينصب بخيلا فيضيّق على الناس ويقطع أرزاقهم، ولا طامعا فيشره فى أموالهم فيصادرهم ويأخذ أملاكهم وأموالهم، ولا قليل الدّين فلا يخاف العقوبة والآثام ويرجو الثّواب فيما يفعله، ولا من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وضيعة هذا وفرس هذا، ومن قد لقى الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه وتحنّك وحسب حساب الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم! فقال الوزير: صدقت ونصحت، فيمن تشير؟ قال:
أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد بالله. قال: ويحك هو صبى! قال: إلا أنه ابن المعتضد، ولم نأتى برجل يباشر الأمور(23/24)
بنفسه غير محتاج إلينا؟ فمالت نفس الوزير إلى ذلك، وانضاف إليه وصيّة المكتفى له بالأمر. فلما مات المكتفى بالله أرسل الوزير صافيا الحرمىّ «1» ليحدر المقتدر من داره الغربى.
فركب فى الحراقة «2» وانحدر. فلما صارت الحرّاقة مقابل دار الوزير صاح غلمان الوزير بالملّاح ليدخل إلى دار الوزير، فظنّ صافى الحرمىّ أنه يريد القبض على جعفر وينصب فى الخلافة غيره، فمنع الملّاح من ذلك. وسار إلى دار الخلافة وأخذ له صافى البيعة على جميع الخدم وحاشية الدّار، ولقب نفسه المقتدر بالله ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه ثم جهزوا- جماعة الكتاب- المكتفى ودفنوه.
قال «3» : وكان فى بيت المال حين بويع خمسة عشر ألف ألف دينار، فأطلق يد الوزير فى بيت المال فأخرج حقّ البيعة! قال: ثم استصغر الوزير المقتدر، فعزم على خلعه وتقليد الخلافة أبا عبد الله بن المعتمد على الله. فراسله فى ذلك واستقرّت الحال، وانتظر الوزير قدوم بارس «4» حاجب إسماعيل صاحب(23/25)
خراسان، وكان قد أذن له فى القدوم وأراد أن يستعين به على ذلك ويتقوّى به على غلمان المعتضد بالله، فتأخّر بارس.
واتّفق أنه وقع بين أبى عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه- صاحب الشرطة- منازعة فى ضيعة مشتركة بينهما، فأغلظ له ابن عمرويه، فغضب ابن المعتمد غضبا شديدا وأغمى عليه، وفلج فى المجلس فحمل إلى بيته فى محفّة فمات فى اليوم الثانى.
فأراد الوزير البيعة لأبى الحسن بن المتوكل فمات أيضا بعد خمسة أيام، وتمّ أمر المقتدر. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمى ودخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين:
ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز
وانتقاض ذلك وعودة المقتدر ووفاة عبد الله بن المعتزّ قال «1» : وفى هذه السنة اجتمع القوّاد والقضاة والكتاب مع الوزير «2» على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتز بالله. وأرسلوا إلى عبد الله بن المعتز فأجابهم إلى ذلك على أن لا يكون فيه سفك دم ولا حرب، فأخبروه أنّ كلمتهم اجتمعت عليه، وأنه ليس له منازع ولا محارب. وكان القائم فى ذلك الوزير المذكور ومحمد(23/26)
ابن داود الجراح وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضى، ومن القوّاد الحسين بن حمدان وبدر الأعجمى ووصيف بن صوار تكين ثم إن الوزير رأى أمره صالحا مع المقتدر، وأنه على ما يحب، فبدا له فى ذلك فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذى تولّى قتله منهم الحسين بن حمدان وبدر الأعجمى ووصيف.. لحقوه وهو سائر إلى بستان له فقتلوه، وقتلوا معه فانكا المعتضدى، وذلك فى العشرين من شهر ربيع الأول، وخلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتز.
وركض الحسين بن حمدان إلى الحلبة «1» ظنا منه أن المقتدر يلعب هناك بالكرة فيقتله، فلم يصادفه لأنه لما بلغه قتل الوزير ركض دابته «2» ودخل الدار. وغلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر! وأحضروا ابن المعتز وبايعوه بالخلافة، وتولى أخذ البيعة له محمد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس والقواد وأصحاب الدواوين سوى أبى الحسن بن الفرات وخواصّ المقتدر فإنهم لم يحضروا.
ولقّب ابن المعتزّ المرتضى بالله «3» أبا العباس عبد الله بن المعتز.
ووجه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر- التى كان(23/27)
بها قبل الخلافة- لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال الى الليل: وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد إلى دار الخلافة فقاتله الخدم والعلمان والرّجّالة «1» /من وراء السور عامة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار. فلما جنّه الليل «2» سار عن بغداد بأهله وماله الى الموصل لا يدرى لم فعل ذلك؟ ولم يكن قد بقى مع المقتدر من القوّاد غير مؤنس الخادم ومؤنس وغريب الخال «3» وحاشية الدار. فلما همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نبلى عدوا «4» ونجتهد فى دفع ما أصابنا! فاجتمع رأيهم على أن يصعدو فى الماء إلى الدار التى فيها ابن المعتز يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديات «5» وركبوا السميريات «6» . فلما رآهم من عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان ما يريد يجرى، فلهذا هرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر. ولما رأى عبد الله بن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمد بن داود وهربا،(23/28)
وغلام له ينادى: يا معشر العامة ادعوا لخليفتكم السّنىّ اليربهارى! وإنما نسبه لذلك لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهارى كان مقدّم الحنابلة والسّنّة من العامة ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول.
ثم إنّ ابن المعتزّ ومن معه ساروا نحو الصحراء ظنّا منهم أنّ من بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد. فرجعوا،/ واختفى محمد بن داود فى داره، ونزل ابن المعتزّ عن دابته ومعه غلامه يمن، وانحدرا إلى دار عبد الله بن الجصّاص، فاستجارا به. واستتر أكثر من بايع ابن المعتز، ووقعت الفتنة والنّهب والقتل ببغداد، وثار العيارون والسّفلة «1» ينهبون الدّور.
وكان ابن عمرويه- صاحب الشرطة- ممن بايع ابن المعتزّ، فلما هرب جمع ابن عمرويه أصحابه ونادى بشعار المقتدر يدلّس بذلك فناداه العامّة: يا مراء يا كذاب! وقاتلوه، فهرب واستتر وتفرّق أصحابه.
وقلّد المقتدر فى تلك الساعة الشرطة مؤنسا الخازن، وخرج بالعسكر وقبض على.. وصيف بن صوار تكين وغيره، فقتلهم.(23/29)
وقبض على القاضى أبى المثنّى أحمد بن يعقوب فقتله لأنه قيل له «بايع المقتدر» فقال: لا أبايع صبيا! فذبح، وأرسل المقتدر إلى أبى الحسن على بن الفرات- وكان مختفيا- فأحضره، واستوزره، وخلع عليه.
وكان فى هذه الحادثة عجائب منها أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لابن المعتزّ، فلم يتم ذلك، بل كان بالعكس. ومنها أنّ ابن حمدان على شدّة تشيّعه يسعى فى البيعة لابن المعتزّ على غلوّه فى النّصب «1» .
ثم إن خادما لابن الجصاص- يعرف بسوسن «2» - أخبر صافيا الحرمى أن ابن المعتز عند مولاه ومعه جماعة، فكبست داره وأخذ ابن المعتزّ منها/ وحبس إلى الليل، ثم عصرت خصيتاه حتى مات وسلّم إلى أهله «3» . وصودر ابن الجصّاص على مال كثير، وأخذ محمد بن داود وزير المعتزّ فقتل، ونفى علىّ بن عيسى إلى واسط، وصودر القاضى أبو عمرو على مائة ألف دينار، وسيّرت العساكر من بغداد فى طلب الحسين بن حمدان، فتبعوه إلى الموصل ثم إلى بلده، فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد. وأخذ الوزير الجرائد التى كان فيها أسماء من أعان(23/30)
على المقتدر فغرّقها فى دجلة، وبسط ابن الفرات العدل والإحسان وأخرج الإدارات للطالبيين والعباسيين. وأرضى القواد بالأموال، ففرّق معظم ما كان فى بيوت الأموال وفى هذه السنة كان ابتداء ظهور الدولة العبيدية المنسوبة للعلوية بأفريقية على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبارهم «1» .
وفيها سيّر المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد فى طلب الحسين بن حمدان، فساروا حتى بلغوا قرقيسيا فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان- وهو الأمير على الموصل- يأمره بطلب أخيه الحسين. فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تكريت فانهزم الحسين، وأرسل أخاه إبراهيم بن حمدان يطلب له الأمان فأجيب إلى ذلك، ودخل بغداد وخلع عليه وعقد له على قم وقاجان «2» فسار إليهما.
/ وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانى، وقلّد ديار ربيعة.
وفيها خلع على المظفر مؤنس الخادم، وأمر بالمسير إلى غزو(23/31)
الروم. فسار فى جمع كثيف فغزا من ناحية ملطية «1» ومعه أبو الأغرّ السّلمى، فظفر وغنم، وأسر منهم جماعة، وعاد.
وفيها قلّد يوسف بن أبى الساج «2» أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار.
وفيها أمر المقتدر أن لا يستعان بأحد من اليهود والنّصارى، فألزموا بيوتهم، وأخذوا بلبس العسلىّ «3» و [تعليق] «4» الرّقاع من خلف ومن قدام، وأن يكون ركبهم خشنا. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين: فى هذه السنة وجه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة «5» ، وحجّ بالناس، الفضل بن عبد الملك.
وفيها مات عيسى النّوشرى- أمير مصر- واستعمل المقتدر(23/32)
تكين «1» الخادم، وخلع عليه فى منتصف رمضان. وقال أبو الفرج بن الجوزى «2» فى حوادث هذه السنة «قال ثابت بن سنان رأيت فى صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفّان بأصابع تامة متعلقة فى رأس كتفيها لا تعمل بهما/ شيئا وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها، ورأيناها تغزل برجليها وتمدّ الطاقة وتسوّيها- قال- ورأيت امرأة أخرى بعضدين وذراعين وكفّين إلا أنّ كلّ واحد من الكفين ينخرط ويدقّ إذا فارق النّهدين حتى ينتهى إلى رأس دقيق يمتدّ ويصير إصبعا واحدة، وكذلك رجلها على هذه الصورة، ومعها ابن لها على مثل صورتها!» ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين: فى هذه السنة جعلت أم موسى الهاشمية قهرمانة دار «3» المقتدر بالله، فكانت تؤى الرسائل عن المقتدر بالله وأمّه إلى الوزراء. ثم صار لها [أن] «4» تحكم كثيرا فى الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمى.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين:(23/33)
ذكر القبض على ابن الفرات ووزارة الخاقانى
فى هذه السنة قبض المقتدر بالله على وزيره ابن الفرات، ووكل بداره، وهتك حرمه، وهب أمواله ودور أصحابه ومن يتعلّق به فافتتنت بغداد لقبضه، وكانت مدة وزارته- وهى الأولى- ثلاث سنين وثمانية أشهر/، وثلاثة عشر يوما. وقلد أبو على محمد بن يحيى بن عبيد الله بن خاقان الوزارة، فرتّب أصحاب الدواوين، وتولى مناظرة ابن الفرات «1» . ثم انجلت أمور الخاقانى لأنه كان ضجورا «2» ضيّق الصدر، مهملا لقراءة كتب العمال، وجباية الأموال، وكان يتقرّب إلى الخاصة والعامة؛ فكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامة يصلون- جماعة- ينزل ويصلّى معهم، وإذا سأله أحد حاجة دقّ صدره وقال: نعم وكرامة! فسمّى «دقّ صدره» إلا أنه قصّر فى إطلاق الأموال للقوّاد والفرسان فنفروا عنه. وكان أولاده قد تحكّموا عليه وكلّ منهم يسعى لمن يرتشى منه؛ فكان يولّى فى الأيام القليلة عدّة من العمال حتى إنه ولّى ماه الكوفة «3» فى مدة عشرة أيام «4» سبعة من العمال،(23/34)
فاجتمعوا فى الطريق فعرضوا توقيعاتهم، فسار الأخير وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده، فقيل فى ذلك:
وزير قد تكامل فى الرقاعه ... يولّى ثم يعزل بعد ساعه «1»
إذا أهل الرّشا اجتمعوا لديه ... فخير القوم أوفرهم بضاعه «2»
وليس يلام فى هذا بحال ... لأنّ الشيخ أفلت من مجاعه «3»
قال «4» : ثم زاد الأمر حتى تحكّم أصحابه، فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال؛ فانحلّت القواعد، وخبثت النيات/ واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم والرجوع إلى قول النساء والخدم والتصرف على مقتضى إرادتهم، فخرجت الممالك وطمع العمّال فى الأطراف، فصار مآل الأمر إلى ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال «5» : ثم أحضر المقتدر الوزير ابن الفرات من محبسه، وجعله فى حجرة- من ضمن الحجر- مكرّما، فكان يعرض عليه مطالعات العمال وغير ذلك بارّا به بعد أن أخذ أمواله.
وفى هذه السنة غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية(23/35)
طرسوس «1» ومعه دميانة «2» ، فحصر حصن مليح الأرمنى، ثم دخل بلده وأحرقه.
قال ابن الجوزى «3» : وفى هذه السنة ورد من مصر أربعة أحمال مال، وقيل إنه وجد هناك كنز قديم. وكان معه ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا فى عرض شبر، وزعمو أنه من قوم عاد..
وكان مبلغ المال خمسمائة ألف دينار، وكان مع ذلك هدايا عجيبة- قال- وذكر الصولى أنه كان فى الهدايا تيس له ضرع يحلب اللبن ووردت رسل أحمد بن إسماعيل بهدايا فيها بدنة «4» مرصّعة بفاخر الجوهر، وتاج من ذهب مرصّع بجوهر له قيمة كبيرة، ومناطق ذهب مرصعة، وخلع سلطانية فاخرة، وربعة ذهب مرصعة فيها شمّامات مسك وعنبر كلّه مرصع، وعشر/ أفراس بسروجها ولاحداها سرج ذهب. ووردت هدايا ابن أبى السّاج وهى أربعمائة دابّة وثمانون ألف دينار وفرش أرمنى لم ير مثله، فيه بساط طوله سبعون ذراعا فى عرض ستين، لا قيمة له! وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ.
ودخلت سنة ثلاثمائة من الهجرة النبوية(23/36)
ذكر عزل الخافانى عن الوزارة
وزارة علىّ بن عيسى فى هذه السنة ظهر للمقتدر بالله تخليط الخاقانىّ وعجزه عن الوزارة، فأراد عزله وإعادة أبى الحسن بن الفرات، فمنعه مؤنس الخادم وقال له: متى أعدته ظنّ النّاس أنّك إنما قبضت عليه شرها فى ماله! وأشار عليه باستدعاء علىّ بن عيسى من مكة وتقليده الوزارة وشكره مؤنس الخادم وأثنى عليه.
فأمر المقتدر باحضاره، فوصل إلى بعداد فى أوّل سنة إحدى وثلاثمائة، فجلس فى الوزارة وسلّم إليه الخاقانىّ فأحسن إليه ووسّع عليه. ولما تولّى علىّ بن عيسى لازم العمل والنظر فى الأمور وردّ المظالم، وأطلق من المكوس شيئا كثيرا، وأسقط زيادات كان الخاقانى قد زادها/ للجند؛ لأنه عمل معدّل الدّخل والخرج فرأى الخرج أكثر من الدّخل، فأسقط الزيادات. وأمر بعمارة المساجد والجوامع وتبييضها وبسطها بالحصر وإشعال الأضواء فيها. وأمر بإصلاح البيمارستانات وعمل ما تحتاج إليه، وغير ذلك من وجوه البر والقربات «1» .
قال «2» : ولما عزل الخاقانى أكثر الناس التزوير على خطّ الخاقانىّ بصلات وإدرارات، فنظر علىّ بن عيسى فى ذلك فأنكر(23/37)
الخطوط وأراد إسقاطها، فخاف ذمّ الناس، فأنفذها للخاقانىّ فقال: كلّها خطّى وأنا أمرت بها فلما عاد الرسول إلى علىّ بن عيسى قال: والله لقد كذب، وقد علم المزوّر من غيره ولكنه اعترف بها لتحمده الناس ويذمونى! وأمر بإحراقها «1» ، وقال الخاقانىّ لولده: يا بنى، هذه ليست خطى ولكنه أنفذها إلىّ وقد عرف الصحيح من السقيم وأراد أن نأخذ الشّوك بأيدينا ويبغضنا إلى النّاس، وقد علمت مقصوده، وعكسته عليه! قال ابن الجوزىّ «2» : وفيها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بانخساف جبل بالدّينور يعرف بالتل وخرج من تحته ماء كثير أغرق عدّة من القرى، ووصل الخبر بانخساف قطعة عظيمة من جبل لبنان وسقوطها فى البحر «3» .
وفى هذه السنة خرج أهل صقيلة عن طاعة المهدىّ صاحب/ أفريقية، وخطب للمقتدر بالله بها. وكان الذى قام بهذه الدعوة أحمد بن قرهب، فسيّر إليه الخلع السّود والألوية، ثم خرج أهل الجزيرة عليه وقبضوه وبعثوه للمهدى فقتله. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة إحدى وثلا ثمائة: وفى هذه السنة خلع المقتدر بالله على ابنه أبى العباس وقلّده أعمال مصر والمغرب وعمره أربع(23/38)
سنوات، واستخلف [له] «1» على مصر مؤنس الخادم. وهذا أبو العباس الذى ولى الخلافة بعد القاهر ولقّب الراضى بالله على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وخلع أيضا على ابنه على وولاه الرىّ «2» ودنباوند «3» وقزوين وزنجان «4» وأبهر «5» .
وفيها خالف أبو الهيجاء بن حمدان بالمؤصل على المقتدر بالله، فسير إليه المظفّر مؤنسا، فأتاه ابن حمدان مستأمنا، وورد [مؤنس] «6» معه إلى بغداد فخلع المقتدر عليهما.
وفيها استولى الحسن بن علىّ بن عمر بن الحسين بن علىّ على برسنان، وتلقّب بالناصر على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الطالبيين.
وفيها جهّز المهدىّ- صاحب أفريقية- العساكر مع ابنه القائد إلى الديار المصرية، فسار إلى برقة واستولى عليها، وسار إلى مصر فملك الإسكندرية والفيوم، وصار فى يده أكثر البلاد فسيّر المقتدر لحربه مؤنسا الخادم فى جيش كثيف،/ فحارب عساكر(23/39)
المهدىّ وأجلاهم عن الديار المصرية، فعادوا إلى المغرب منهزمين.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك أيضا ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة: فى هذه السنة أمر المقتدر بالقبض على أبى عبد الله الحسين بن عبد الله الجوهرىّ المعروف بابن الجصاص وأخذ ما فى بيته من صنوف الأموال؛ فأخذ منه ما قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وكان هو يدّعى أن ما أخذ منه عشرون ألف ألف دينار، وأكثر من ذلك «1» .
وفيها أنفذ الملقّب بالمهدى- صاحب أفريقية- جيشا إلى الد يار المصرية مع قائد من قواده يقال له حباسة «2» فى البحر، فغلب على الاسكندرية ثم سار منها إلى مصر. فأرسل المقتدر لحربه مؤنسا الخادم فى عسكر فالتقوا فى جمادى الأولى واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الفريقين وجرح خلق كثير. ثم كانت بينهم وقعة ثانية، ثم وقعة ثالثة ورابعة انهزم فيها المغاربة وقتل منهم وأسر سبعة آلاف وذلك فى سلّخ جمادى الآخرة. وعاد من بقى إلى المهدى فقتل حباسة.(23/40)
وفيها غزا بشر الخادم والى طرسوس بلاد الروم، ففتح فيها وغزا وسبى وأسر مائة وخمسين بطريقا، وكان السّبى نحوا من ألفى رأس.
وفيها قلّد أبو الهيجاء [عبد الله] بن حمدان الموصل [والجزيرة] «1» /قال ابن الجوزى «2» : وفيها فى جمادى الأولى ختن المقتدر خمسة أولاد له، ونثر عليهم خمسة آلاف دينار ومائة ألف درهم ورقا- قال- ويقال إنه بلغت النفقة فى هذا الختان ستمائة ألف دينار، وختن قبل ذلك جماعة من الأيتام وفرّقت فيهم دراهم كثيرة. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمى.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة:
ذكر خروج الحسين بن حمدان
عن طاعة المقتدر فى هذه السنة خرج الحسين بن حمدان بالجزيرة عن الطاعة، وسبب ذلك أن الوزير علىّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة- وهو يتولّاها- فدافعه فأمر بتسليم البلاد إلى العمال، فامتنع، فجهّز الوزير رائقا الكبير فى جيش لمحاربته، وكتب إلى مؤنس الخادم- وهو بمصر- يأمره بالمسير إلى الجزيرة لقتال ابن حمدان بعد فراغه من أصحاب المهدىّ. فسار رائق إلى الحسين بن حمدان(23/41)
فالتقيا واقتتلا قتلالا شديدا، فانهزم رائق، وغنم الحسين سواده، وسار رائق إلى مؤنس فأمره بالمقام بالموصل، وجدّ مؤنس فى السّير فى طلب الحسين. فلما قارب منه راسله الحسين واعتذر وتكرّرت الرسائل بينهما، فلم يستقر حال. فرحل مؤنس نحو الحسين، فسار إلى أرمينية بثقله وأولاده، وتفرق عسكر الحسين عنه، وصاروا إلى مؤنس.
ثم جهز مؤنس جيشا فى أثره مقدّمهم يلبق «1» فتبعوه إلى تلّ فافان، فإذا هى خاوية على عروشها قد قتل أهلها، وأحرقها فجدّوا فى اتّباعه، فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقى معه من أصحابه، وأسر هو وابنه عبد الوهاب وجميع أهله وأكثر من صحبه وقبض أملاكهم. وعاد مؤنس إلى بغداد على طريق الموصل والحسين معه، فأركب على جمل هو وابنه وعليهما اللّبود «2» الطّوال وقمصان من شعر أحمر. وحبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبى الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحبسوا.
وكان بعض أولاد الحسين بن حمدان قد هرب فجمع جمعا ومضى نحو آمد «3» ، فأوقع بهم مستحفظها وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.(23/42)
وفيها خرج مليح الأرمنى إلى مرعش، فعاث فى بلدها، وأسر جماعة ممّن حولها. وحجّ بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة:
ذكر وزارة ابن الفرات الثانية
وعزل على بن عيسى/ فى هذه السنة فى ذى الحجة عزل على بن عيسى عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن على بن الفرات. وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن الفرات كان محبوسا، وكان المقتدر بالله يشاوره فى الأمور وهو فى محبسه، ويرجع إلى قوله. وكان على بن عيسى يمشّى أمر الوزارة ولم يتّبع أصحاب ابن الفرات ولا أسبابه ولا غيره وكان جميل المحضر قليل الشر، فبلغه أن ابن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة فى إعادته إلى الوزارة، فاستعفى من الوزارة، وسأل فى ذلك فأنكر المقتدر عليه ومنعه من ذلك.
فلما كان فى آخر ذى القعدة جاءت أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج إليه حرم الدار والحاشية التى للدار من الكسوات والنفقات فوصلت إليه وهو نائم فقال لها حاجبه: إنه نائم ولا أجسر أن أوقظه فاجلسى فى الدار حتى يستيقظ! فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ. الوزير فى الحال فأرسل إليها حاجبه وولده يعتذر فلم تقبل منه، ودخلت إلى المقتدر وخاطبته فى عزله وحرّضته على ذلك فعزله عن الوزارة وقبض عليه فى ثامن ذى الحجة «1» .(23/43)
وأعيد ابن الفرات إلى الوزارة وضمن على نفسه أن يحمل فى كلّ يوم ألف دينار إلى بيت المال وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير علىّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانى الوزير وأصحابه، واعترض العمّال وغيرهم/ وعاد عليهم بأموال عظيمة.
وكان أبو علىّ بن مقلة قد استخفى منذ قبض على ابن الفرات إلى الآن، فلما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر فأشخصه ابن الفرات الوزير وقرّبه وأحسن إليه وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزىّ فى تاريخه المنتظم «1» أنّه لما قلّد الوزارة خلع عليه سبع خلع وحمل إليه من دار السّلطان ثلاثمائة ألف درهم، وعشرون خادما، وثلاثون دابّة لرحله، وخمسون دابة لغلمانه، وخمسون بغلا لنقله، وبغلان للعمارية بقبابها وثلاثون جملا، وعشر تخوت ثياب «2» وأنه ركب معه مؤنس الخادم، وغلمان المقتدر، وصار إلى داره بسوق العطش، وردّت إليه ضياعه، وأقطع الدار التى بالمخرم فسكنها. وأنه سقى النّاس فى ذلك اليوم وتلك الليلة أربعين ألف رطل ثلج، وزاد ثمن الشّمع والكاغد «3» وكانت هذه عادته! قال: «4»(23/44)
وكانت مدّة اعتقاله إلى أن رجع إلى الوزارة خمس سنين وأربعة أيام. قال: وسمع بعض العوام يقول يوم خلع على ابن الفرات:
والله خذلونا، أخذوا منّا مصحفا وأعطونا طنبورا! فبلغ ذلك إلى الخليفة، فكان ذلك سببا للإحسان إلى على بن عيسى وحسن النيّة فيه إلى أن خرج من الحبس [والله تعالى أعلم]
ذكر أمر يوسف بن أبى الساج
/ كان يوسف بن أبى السّاج على أذربيجان وأرمينة قد ولى الحرب والصلاة والأحكام وغيرها منذ أول وزارة ابن الفرات الأولى، فلما عزل ابن الفرات وتولى الخاقانىّ طمع فأخر حمل بعض المال، فاجتمع له من المال ما قويت به نفسه على الامتناع، وبقى كذلك إلى هذه السنة. فلما بلغه القبض على على الوزير علىّ بن عيسى أظهر أنّ الخليفة أنفذ إليه عهد الرىّ وأن الوزير علىّ بن عيسى سعى له فى ذلك، وجمع العساكر وسار إلى الرىّ وبها محمد بن صعلوك يتولّى أمرها لصاحب خراسان نصر بن أحمد السامانى. وكان ابن صعلوك قد تغلّب على الرىّ وما يليها أيام وزارة على بن عيسى، ثم أرسل إلى ديوان الخلافة يقاطع عليها بمال يحمله، «1» فلما بلغه مسير يوسف نحوه سار إلى خراسان، فدخل يوسف الرّىّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلما اتصل فعله بالمقتدر بالله أنكره(23/45)
وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرفه أنّ علىّ بن عيسى أنفذ إليه بالعهد واللواء وأنه افتتح هذه الأماكن وطرد عنها المتغلّبين عليها واعتدّ بذلك، وذكر كثرة ما أخرج عليه من الأموال، فعظم ذلك على المقتدر وأمر ابن الفرات أن يسأل علىّ بن عيسى عن الذى ذكره يوسف فأحضره وسأله فأنكر ذلك فصدّقه. وكتب ابن الفرات إلى ابن أبى الساج/ ينكر عليه تعرّضه إلى هذه البلاد وكذبه على الوزير وجهّز العساكر لمحاربته. فسارت فى سنة خمس وثلاثمائة وعليها خاقان المفلحى ومعه جماعة من القواد «1» ، فساروا ولقوا يوسف واقتتلوا، فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة وأدخلهم الرىّ مشهّرين على الجمال.
فسيّر الخليفة مؤنسا الخادم فى جيش كثيف لمحاربته، فسار وانضم إليه من كان مع خاقان، فصرف خاقان عن أعمال الجبل ووليها نحرير الصغير وسار مؤنس وأتاه أحمد بن على- وهو أخو محمد بن صعلوك- مستأمنا فأكرمه، ووصلت كتب ابن أبى الساج يسأل الرّضى عنه وأن يقاطع على أعمال الرى وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال سوى ما تحتاج إليه الجند وغيرهم، فلم يجبه المقتدر إلى ذلك وقال: لو بذل ملك الأرض لما أقررته على الرّىّ يوما واحدا لإقدامه على التّزوير! فلما عرف ابن أبى السّاج ذلك سار عن الرّىّ بعد أن أخربها وجبى خراجها فى(23/46)
عشرة أيام. وقلّد المقتدر الرّىّ وقزوين وأبهر وصيفا البكتمرىّ «1» ، وطلب يوسف بن أبى الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية فأشار ابن الفرات بإجابته إلى ذلك، فعارضه نصر الحاجب وابن الحوارىّ وقالا: لا يجاب إلى ذلك إلا بعد أن يطأ البساط.!
ونسب الوزير ابن الفرات إلى مواطأته والميل معه. فامتنع/ المقتدر بالله من إجابته إلا أن يحضر إلى الخدمة بنفسه.
فلما رأى يوسف ذلك حارب مؤنسا فانهزم مؤنس إلى زنجان، وقتل من قواده جماعة «2» وأسر جماعة منهم هلال بن بدر، فأدخلهم أردبيل مشهّرين على الجمال.
وأقام مؤنس بزنجان بجمع من العساكر ويستمد الخليفة، وكاتبه يوسف فى الصّلح وراسله فيه؛ فكتب مؤنس إلى الخليفة فلم يجبه إليه. فلما كان فى المحرم سنة نسع «3» وثلاثمائة اجتمع لمؤنس خلق كثير فسار نحو يوسف، فتواقعا على باب أردبيل، فانهزم عسكر يوسف، وأسر هو وجماعة من أصحابه فعاد بهم مؤنس إلى بغداد فدخلها فى المحرم.
وأدخل يوسف مشهّرا على جمل وعليه برنس بأذناب الثعالب، فأدخل على المقتدر، ثم حبس عند زيدان القهرمانة.(23/47)
وفى سنة أربع وثلاثمائة نوفّى الناصر العلوىّ صاحب طبرستان.
وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمد على المقتدر بكرمان- وكان يتولى الخراج- وسار منها إلى شيراز يريد التغلب على فارس، فحاربه بدر الحمامى وقتله وحمل رأسه إلى بغداد.
وفيها سار مؤنس المظفّر إلى بلاد الروم للغزاة، فسار إلى ملطية وغزا منها، وكتب إلى أبى القاسم على بن أحمد بن بسطام.
أن يغزو من طرسوس فى أهلها، ففعل وفتح مؤنس حصونا كثيرة من الروم وأثر آثارا جميلة وعاد إلى بغداد فأكرمه الخليفة وخلع عليه.
قال أبو الفرج [عبد الرحمن بن الجوزى] «1» وفيها ورد الخبر من خراسان أنه وجد بالقندهار فى أبراج سورها أزج «2» متصل بها، فيه ألف رأس فى سلاسل، من هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأسا «3» فى أذن كلّ رأس رقعة مشدودة بخيط إبريسم «4» مكتوب فيها اسم الرجل. قال وكان من الأسماء شريح بن حيان وخباب بن الزبير والخليل بن موسى وطلق ابن معاد، وحاتم بن حسنة، وهانىء بن عروة، وفى الرقاع تاريخ من سنة [سبعين من] «5» الهجرة، ووجدوا على حالهم لم لم يتغيّر شعرهم إلا أن جلودهم قد جفّت.(23/48)
ودخلت سنة خمس وثلاثمائة: قال أبو الفرج «1» : فى هذه السنة ورد على السلطان هدايا جليلة من أحمد بن هلال صاحب عمان، وفيها أنواع من الطّيب وطرائف من طرائف البحر وطائر أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغاء وظباء سود قال: ابن الأثير: «2» وفى هذه السنة من المحرم وصل رسولان من مالك الرّوم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأجاب المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء، وسير مؤنسا الخادم ليحضر الفداء، وجعله أميرا على كل بلد يدخله، يتصرف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه، وأرسل معه/ مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسارى المسلمين.
قال [أبو الفرج] بن الجوزىّ فى خبر الرسل «3» إنهما أدخلا وقد عبّىء العسكر بالأسلحة التّامة وكانوا مائة ألف وستين ألفا، وكانوا من أعلى باب الشماسية إلى الدار، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخوص بالبزة الظاهرة «4» والمناطق المحلاة، وكانوا سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، وكان الحجّاب سبعمائة حاجب، وفى دجلة الطيّارات والزّبازب والسّميريّات بأفضل زينة. فسار الرسولان فمرّا على دار نصر القشورى الحاجب، فرأيا منظرا عجيبا فظنّاه الخليفة وهاباه حتى(23/49)
قيل إنه الحاجب، ثم حملا إلى دار الوزير فرأيا أكثر من ذلك ولم يشكا أنه الخليفة فقيل إنه الوزير.
قال: وزيّنت دار الخلافة، وطيف بهما فيها فشاهدا ما هالهما، وكانت الستور ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج، المذهبة منها اثنا عشر ألفا وخمسمائة، وكانت البسط والنّخاخ «1» اثنين وعشرين ألفا وكان فى الدار من الوحش قطعان تأنس بالناس وتأكل من أيديهم، وكان هناك مائة سبع كلّ سبع بيد سبّاع.
ثم أخرجا إلى دار الشجرة، وكانت شجرة فى وسط بركة فيها ماء صاف، والشجرة/ ثمانية عشر غصنا لكلّ غصن منها شاخات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كلّ نوع مذهبة ومفضضة.
وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهبة وهى تتمايل، وبها ورق مختلف الألوان، وكل من هذه الطيور تصفر. ثم أدخلا إلى الفردوس، وكان فيه من الفراش والآلات ما لا يحصى، وفى دهاليزه عشرة آلاف جوشن «2» مذهبة معلقة قال: ويطول شرح ما شاهدا من العجائب إلى أن وصلا إلى المقتدر وهو جالس على سرير أبنوس قد فرش بالدّيبقى المطرّز وعن يمنة السرير تسعة عقود معلقة وعن يسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر يضىء ضوؤها على ضوء النهار(23/50)
قال: فلما وصل الرسولان إلى الخليفة، وقفا على نحو مائة ذراع وابن الفرات قائم بين يديه والتّرجمان قائم يخاطب الخليفة.
ثم أخرجا وطيف بهما فى الدار حتى أخرجا إلى دجلة وقد أقيمت على الشطوط الفيلة والسباع والفهود! قال: ثم خلع عليهما وحمل إليهما خمسون بدرة ورقا فى كلّ بدرة خمسة آلاف درهم.
قال: وفيها ورد كتاب من مرو أنّ نفرا عثروا على نقب فى سور المدينة فكشفوا عنه فوصلوا إلى أزج فأصابوا فيه ألف رأس، وفى أذن كلّ رأس رقعة قد أثبت فيها اسم صاحبها «1» /وفيها أطلق أبو الهيجاء بن حمدان وإخوته وأهل بيته من الحبس، وحج بالناس فى هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
ودخلت سنة ست وثلاثمائة:
ذكر عزل ابن الفرات عن الوزارة
ووزارة حامد بن العباس فى هذه السنة فى جمادى الآخرة قبض على الوزير أبى الحسن ابن الفرات، وكانت مدة وزارته هذه- وهى الثانية- سنة وخمسة أشهر وسبعة عشر يوما وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان، واحتجّ عليهم بضيق الأموال وأنها خرجت فى محاربة ابن أبى السّاج وأنّ الارتفاع نقص(23/51)
بأخذ يوسف أموال الرىّ؛ فشغب الجند شغبا عظيما وخرجوا إلى المصلّى فالتمس الوزير من المقتدر إطلاق مائتى ألف دينار من بيت مال الخاصّة ليضيف إليها مائتى ألف دينار يحصّلها ويصرف الجميع فى أرزاق الجند، فاشتد ذلك على المقتدر وأرسل إليه:
إنك ضمنت أن ترضى جميع الأجناد وتقوم بجميع النفقات وتحمل بعد ذلك ما ضمنت حمله يوما بيوم وأراك الآن تطلب من بيت مال الخاصة! فاحتج بقلة/ الارتفاع وما أخذه! ابن أبى السّاج منه وما خرج على محاربته، فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له. وقيل كان سبب قبضه أن المقتدر قيل له إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان لمحاربة ابن أبى الساج فإذا صار عنده اتفقا عليك. ثم إن ابن الفرات قال للمقتدر أن يرسل ابن حمدان لحربه فقتل ابن حمدان فى جمادى الأولى، وقبض ابن الفرات فى جمادى الآخرة.
قال: «1» وكان بعض العمال قد ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه فاستكثره، وكاتبه فى ذلك، فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بالمال، فكتب «2» إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر وضمن لهما مالا ليتحدّثا له فى الوزارة. فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه وكثرة أتباعه وأنّ له(23/52)
أربعمائة مملوك يحملون السّلاح، ووافق ذلك نفرة المقتدر عن ابن الفرات فأمره بالحضور من واسط، فحضر وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما.
ولما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيام فى دار الخلافة، فكان يتحدّث مع النّاس ويضاحكهم ويقوم لهم، فبان للخدم وحاشية الدّار قلة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه/ يا مولانا.. الوزير يحتاج إلى لبسة وجلسة وعبسة! فقال له: تعنى أنه يلبس ويقوم ويقعد ولا يقوم لأحد ولا يضحك فى وجه أحد؟ قال نعم! قال حامد: إنّ الله تعالى أعطانى وجها طلقا وخلقا حسنا وما كنت بالذى أعبس وجهى وأقبّح خلقى لأجل الوزارة «1» ! فأمر المقتدر بإطلاق علىّ بن عيسى من محبسه، وجعله يتولى الدواوين شبه النائب عن حامد «2» فكان يراجعه فى الأمور ويصدر عن رأيه.
ثم إنه استبد بالأمور دون حامد، ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعلى حتى قيل فيهما:
أعجب من كلّ ما تراه ... أنّ وزيرين فى بلاد
هذا سواد بلا وزير ... وذا وزير بلا سواد «3»(23/53)
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى «1» : وفى هذه السنة أمرت السيدة أم المقتدر. قهرمانة لها تعرف بثمل أن تجلس بالتّربة التى بنتها بالرّصافة للمظالم وتنظر فى رقاع الناس فى كل جمعة «2» ، فجلست وأحضرت القاضى أبا الحسين الإسنانى «3» وخرجت التوقيعات على السداد- قال- وقال أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ: قعدت ثمل القهرمانة فى أيام المقتدر بالله للمظالم، وحضر مجلسها القضاة والفقهاء.
/ وفيها غزا يسر الأفشينى بلاد الرّوم فافتتح عدّة حصون وغنم وسلم، وغزا ثمال «4» فى بحر الروم فغنم وسبى وعاد. وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان فبنى وأجرى عليه النفقات الكثيرة، وكان يسمّى المقتدرىّ، وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى «5» .
ودخلت سنة سبع وثلاثمائة:
فى هذه السنة وصل القائم بن المهدى من أفريقية من قبل أبيه بجيش كثيف فكان وصوله إلى الإسكندرية فى شهر ربيع(23/54)
الآخر «1» ، فخرج عنها عامل المقتدر «2» ودخل القائم، ثم رحل إلى مصر فدخل الجيزة وملك الأشمونين وأكثر الصعيد.
وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى الدّخول فى طاعته فلم يجيبوه، فبعث المقتدر بالله مؤنسا الخادم فى شعبان وجدّ فى السير فوصل إلى مصر وكان بينه وبين القائم عدة وقعات.
ووصل من أفريقية ثمانون مركبا نجدة للقائم، فأمر المقتدر بالله أن تسير مراكب طرسوس إليهم، فسارت خمسة وعشرون مركبا وفيها النّفط والعدد ومقدّمها أبو اليمن، فالتفت المراكب بالمراكب واقتتلوا على رشيد، فظفر أصحاب مراكب المقتدر بالله وأحرقوا كثيرا من مراكب أفريقية وأسر منهم كثير. وكان ممن أسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامى وهما مقدما المراكب/ فمات سليمان فى الحبس بمصر، وحمل يعقوب إلى بغداد ثم هرب منها وعاد إلى أفريقية.
وفيها ضمن حامد بن العباس الوزير أعمال الخراج والضّياع الخاصّة والعامّة والمستحدثة والفراتة بسواد بغداد والكوفة والبصرة وواسط والأهواز وأصبهان. وسبب ذلك أنه رأى أنه قد تعطّل عن الأمر والنّهى وتفرّد به علىّ بن عيسى، فشرع فى هذا ليصير له حديث وأمر ونهى، ثم استأذن المقتدر فى الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل فأذن له فانحدر إليها، واسم(23/55)
الوزارة عليه، وعلىّ يدبر الأمور! وأظهر حامد زيادة عظيمة ظاهرة فى الأموال، فسرّ المقتدر بذلك وبسط يد حامد فى الأعمال حتى خافه علىّ بن عيسى.
ثم تحرّك السّعر «1» ببغداد فثارت العامّة والخاصّة، لذلك، واستغاثوا وكسروا المنابر، وكان حامد يخزن الغلال، وكذلك غيره من القواد، فأمر المقتدر بإحضار حامد فحضر من الأهواز، فعاد النّاس إلى شغبهم. فأنفذ حامد جماعة لمنعهم، فقاتلهم العامّة، وأحرقوا الجسرين وأخرجو المحبسين من السجن ونهبو دار صاحب الشّرطة، فأنفذ المقتدر جيشا مع غريب الخال فقاتل العامّة، فانهزموا بين يديه ودخلوا الجامع بباب الطّاق، «2» فأخذوا وحبسوا، ثم ضرب بعضهم وقطعت أيدى من عرف بالفساد.
ثم أمر المقتدر من الغد فنودى/ فى النّاس بالأمان فسكنت الفتنة، ثم ركب حامد إلى دار المقتدر فى الطيّار «3» فرجمه العامّة، فأمر الخليفة بفتح مخازن الحنطة والشّعير التى لحامد ولأم المقتدر وغيرهما، وبيع ما فيها فرخصت الأسعار وسكنت الناس، فقال على بن عيسى للمقتدر:
إنّ سبب غلاء الأسعار ضمان حامد، فإنه منع بيع الغلال فى البيادر وخزنها! فأمر المقتدر بفسخ الضّمان عن حامد وصرف عمّاله عن السواد، وأمر علىّ بن عيسى أن يتولى ذلك، فسكن الناس واطمأنوا.(23/56)
وفيها قلّد ابراهيم بن حمدان ديار ربيعة، وحجّ بالناس فى هذه السنة أحمد بن العباس أخو أمّ موسى القهرمانة.
ودخلت سنة ثمان وثلاثمائة: فى هذه السنة خلع المقتدر بالله على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان، وقلّده طريق خراسان والدينور، وخلع على إخوته أبى العلاء وأبى السرايا وفيها توفى ابراهيم بن حمدان فى المحرم، وحجّ بالناس فى هذه السنة أحمد بن العباس.
ودخلت سنة تسع وثلاثمائة:
ذكر قتل الحسين بن منصور الحلاج
وشىء من أخباره وفى هذه السنة قتل الحسين بن منصور الحلّاج الصوفى، وأحرق بالنار «1» /وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزّهد والتصوّف، ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف. ويمدّ يده فى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم وعليها مكتوب «قل هو الله أحد» ويسميها دراهم القدرة. ويخبر الناس بما أكلوه وما صنعوه فى بيوتهم، ويتكلم بما فى ضمائرهم. فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، واختلفت فيه اعتقاداتهم؛ فمن قائل إنه حلّ فيه جزء إلهى ويدّعى فيه الربوبية، ومن قائل إنه ولىّ الله تعالى وإنّ الذى(23/57)
يظهر منه من جملة كرامات الصلحاء، ومن قائل إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهّن وإن الجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة فى غير أوانها.
وكان قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكة وأقام بها سنة فى الحجر لا يستظل تحت سقف صيفا ولا شتاء، وكان يصوم الدّهر فإذا جاء وقت العشاء أحضر له القوم كوزا من ماء وقرصا فيشرب وبعض من القرص ثلاث عضات من جوانبها فيأكلها ويترك الباقى فيأخذونه، ولا يأكل شيئا آخر إلى وقت الفطر من الليلة الثانية. وكان شيخ الصوفية يومئذ بمكة عبد الله المغربى فأخذ أصحابه وجاء لزيارة الحلّاج فلم بجده فى الحجر، وقيل قد صعد إلى جبل أبى قبيس، فصعد إليه فوجده على صخرة حافيا/ مكشوف الرأس، والعرق يجرى منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه وقال: هذا يتصيّر على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته! وعاد الحسين إلى بغداد.
وأما سبب قتله فإنه نقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد بن العباس أنه أحيا جماعة وأنه يحيى الموتى وأن الجنّ يخدمونه فيحضرون عنده بما يشتهى. وإنّه قدّموه على جماعة من حاشية الخليفة، وإنّ نصرا الحاجب قد مال إليه هو وغيره. فالتمس حامد من المقتدر أن يسلّم إليه الحلاج وأصحابه فدفع عنه نصر الحاجب وألح الوزير فى طلبه، فأمر المقتدر بتسليمه إليه، فأخذ وأخذ معه(23/58)
إنسان يعرف بالشميرى وغيره- قيل إنهم كانوا يعتقدون أنه إله- فقرّرهم حامد فاعترفوا أنهم قد صحّ عندهم أنه إله وأنه يحيى الموتى، وقابلوا الحلّاج على ذلك. فأنكره وقال: أعوذ بالله أن أدّعى الربوبية والنّبوّة وإنما أنا رجل أعبد الله عزّ وجل! فأحضر الوزير القاضى أبا عمر والقاضى أبا جعفر بن البهلول وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم فقالوا: لا نفسى فى أمره بشىء إلا أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول من يدّعى عليه ما ادّعاه إلا ببيّنة أو إقرار! وكان حامد يخرج الحلّاج إلى مجلسه ويستنطقه فلا يظهر منه/ ما تكرهه الشريعة، وطال الأمر وحامد مجد له فى أمره، وجرى له معه قصص يطول شرحها. وفى آخرها أن الوزير رأى له كتابا حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه أفرد من داره بيتا لا يلحقه شىء من النجاسات ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله وفعل ما يفعله الحاج بمكة، ثم يجمع ثلاثين يتيما ويعمل أجود طعام يمكنه ويطعمهم فى ذلك البيت ويتولّى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمن حج فلما قرىء هذا على الوزير قال القاضى أبو عمر للحلاج: من أين لك هذا؟ قال من كتاب الإخلاص للحسن البصرى. قال له القاضى:
كذبت يا حلال الدم قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا. فلما قال له «يا حلال الدم» وسمعها الوزير قال: له: اكتب بهذا رقعة،(23/59)
فدافعه أبو عمر فألزمه حامد فكتب بإباحة دمه وكتب بعده من حضر المجلس. قال: «1» ولما سمع الحلّاج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمى وإعتقادى الإسلام ومذهبى السنة ولى فيها كتب موجودة فالله الله فى دمى! وتفرق الناس، وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه فى قتله وأرسل إليه الفتاوى فأذن فى قتله فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة فضربه ألف سوط فما تأوّه ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم قتل/ وأحرق فى النار، فلما صار رمادا ألقى فى دجلة ونصب رأسه ببغداد وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب، وأقبل بعض أصحابه يقولون: إنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على دابّة وإنه يعود بعد أربعين يوما! وبعضهم يقول: لقيته على حمار بطريق النهروان وإنه قال لهم «لا تكونوا مثل هؤلاء النّفر الذين يظنون أنى ضربت وقتلت» ! وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمد بن نصر الحاجب، فسار إليها وأوقع بمن خالفه من الأكراد فقتل وأسر، وأرسل إلى بغداد نيّفا وثمانين أسيرا فشهروا، وفيها قلّد داود بن حمدان ديار ربيعة.
ودخلت سنة عشر وثلاثمائة: فى هذه السنة أطلق يوسف بن أبى السّاج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم، ودخل إلى المقتدر وخلع عليه، ثم عقد له على الرّىّ وقزوين وزنجان وأبهر. وقرّر(23/60)
عليه خمسمائة ألف دينار محمولة إلى بيت المال فى كلّ سنة سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد.
وفيها وصلت هدية أبى زنبور الحسين الماذرائى «1» من مصر، وفيها بغلة معها فلو «2» يتبعها ويرضع منها وغلام طويل اللسان يلحق لسانه أرنبة أنفه! وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة وكان سبب ذلك أنها/ زوّجت ابنة أخيها من أبى العباس أحمد بن محمد بن إسحاق بن المتوكل على الله وكان يرشّح للخلافة، فلما صاهرته أكثرت من النّثار والدعوات وخسرت أموالا جليلة،: فتكلم أعداؤها وسعوا بها إلى المقتدر وقالوا:
إنها قد سعت لأبى العباس فى الخلافة، وحلفت له القوّاد، وكثر القول فيها، فقبض عليها وأخذ منها أموالا جليلة وجواهر نفيسة «3» ، قال ابن الجوزى: صحّ منها لبيت المال ألف ألف دينار «4» ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:(23/61)
ذكر عزل حامد بن العباس
وولاية ابن الفرات فى هذه السنة فى شهر ربيع الآخر عزل المقتدر حامد بن العباس عن الوزارة، وعلىّ بن عيسى عن الدواوين، وخلع على أبى الحسن بن الفرات وأعيد إلى الوزارة. وكان سبب ذلك أن المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد والحرم والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم؛ فإن علىّ بن عيسى كان يؤخّرها، فإذا اجتمع لهم عدّة شهور أعطاهم البعض، وحطّ من أرزاق العمال فى كل سنة شهرين وكذلك من أرزاق من له رزق فزادت عداوة النّاس له. وكان حامد بن العباس قد ضجر من المقام ببغداد وليس له من الأمر شىء غير لبس السواد، وأنف/ من اطّراح على بن عيسى لجانبه، فإنه كان يهينه فى توقيعاته بالإطلاق عليه لضمانه بعض الأعمال، فكان بكتب ليطلق جند «1» الوزير أعزّه الله، وليبادر نائب الوزير، وكان إذا شكا إليه بعض نوّاب حامد يكتب على القصة «إنما عقد الضّمان على النائب الوزيرىّ عن الحقوق الواجبة السلطانية فليتقدم إلى عمّاله بكف الظلم عن الرّعيّة» .
فاستأذن حامد وسار إلى واسط لينظر فى ضمانه فأذن له، وجرى بين مفلح الأسود «2» وبين حامد كلام فقال له حامد:(23/62)
لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود أسميهم مفلحا وأهبهم لغلمانى فحقدها مفلح- وكان خصيصا بالمقتدر- فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة وضمن أموالا جليلة، وكتب على يده رقعة يقول إن سلّم إليه الوزير وعلىّ بن عيسى وابن الحوارى وشفيع اللؤلؤى ونصر الحاجب وأم موسى القهرمانة والماذرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار! وكان المحسن مطلقا، وكان يواصل السّعاية بهؤلاء الجماعة، وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحوارى فى كلّ سنة من المال فاستكثره.
فقبض على علىّ بن عيسى فى شهر ربيع الآخر وسلّم إلى زيدان القهرمانة فحبسته فى الحجرة التى كان ابن الفرات محبوسا فيها، وأطلق ابن الفرات وخلع عليه، وتولّى/ الوزارة وخلع على ابنه المحسن، وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات.
قال «1» : وسيّر ابن الفرات إلى واسط من يقبض على حامد فهرب واختفى ببغداد، ثم إن حامدا لبس زىّ راهب وخرج من مكانه الذى كان فيه ومشى إلى نصر الحاجب ودخل عليه وسأله إيصال حاله إلى الخليفة إذا كان عند حرمه، فاستدعى نصر مفلحا الخادم فلما رآه قال: أهلا بمولانا الوزير أين مماليك السودان الذين سمّيت كلّ واحد منهم مفلحا؟(23/63)
فسأله نصر أن لا يؤاخذه وقال له: حامد يسأل أن يكون محبسه فى دار الخلافة ولا يسلّم إلى ابن الفرات.
فدخل مفلح وقال ضدّ ما قيل له فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات، فأرسل إليه فحبسه فى دار حسنة وأجرى له من الطّعام والكسوة والطّيب وغير ذلك ما كان له وهو وزير، ثم أحضره وأحضر الفقهاء والعمال وناظره على ما وصل إليه من المال وطالبه به، فأقرّ بجهات تقارب ألف ألف دينار، وضمنه المحسن بن أبى الحسن بن الفرات الوزير من المقتدر بخمسمائة ألف دينار فسلمه إليه فعذّبه بأنواع العذاب، وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ماله هناك، وأمرهم أن يسقوه سمّا فسقوه سمّا فى بيض مشوىّ كان طلبه، فأصابه إسهال فلما وصل إلى واسط أفرط القيام به. وكان قد/ تسلّمه محمد بن على البروجردى «1» فلما رأى حاله أحضر القاضى والشهود ليشهدوا عليه أنه ليس له فى أمره صنع! فلما حضروا عند حامد قال لهم: إن أصحاب المحسن سقونى سما فى بيض مشوىّ فإنا أموت منه وليس لمحمد فى أمرى صنع، لكنه أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها فى المساور وتباع المسورة بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم فبضع من يشتريها ويحملها إليه فيكون فيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف درهم، فاشهدوا على(23/64)
ذلك! وكان صاحب الخبر حاضرا فكتب بذلك، ثم مات حامد فى شهر رمضان من هذه السنة.
وصودر على بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار وعذّبه المحسن بن الفرات وصفعه فأنكر عليه أبوه لأن عليا كان محسنا إليهم فى أيام ولايته وأعطى المحسن فى أيام نكبته عشرة آلاف درهم، فلم يرع له حقّ إحسانه. قال: «1» ولما أدّى على بن عيسى مال المصادرة سيره ابن الفرات إلى مكة وكتب إلى أميرها أن يسيّره إلى صنعاء، ثم قبض ابن الفرات على أبى علىّ بن مقلة لأنه بلغه أنه سعى به أيام نكبته ونقلّد بعض الأعمال فى أيام حامد ثم أطلقه ابن الفرات وقبض أيضا على ابن الحوارى وكان خصيصا بالمقتدر وسلمه إلى ابنه المحسن فعذّبه عذابا شديدا-/ وكان المحسن وقحا ظالما سيء الأدب ذا قسوة شديدة، وكان الناس يسمونه الخبيث بن الطيب، وسير ابن الحوارى إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال فضربه الموكّل به حتى مات. وقبض أيضا على الحسين بن أحمد ومحمد بن على الماذرائيين «2» فصادرهما على ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دنيار، ثم صادر جماعة من الكتاب ونكبهم. ثم إنّ(23/65)
ابن الفرات- خوّف المقتدر من مؤنس الخادم وأشار عليه أن يسيّره إلى الشام فأخرجه عن الحضرة فى يوم شديد المطر، ثم سعى بنصر الحاجب وأطمع المقتدر فى ماله وكثرته فالتجأ نصر إلى أم المقتدر فحمته من ابن الفرات وفيها غزا مؤنس المظفر بلاد الروم فغنم وفتح حصونا وغزا ثمال فى البحر فغنم من السبى ألف رأس، ومن الغنم ألف رأس، ومن الذهب والفضة شيئا كثيرا.
وفيها دخل القرمطىّ «1» البصرة وقتل عاملها «2» وأقام بها سبعة عشر يوما يقتل وينهب ويأسر.
ودخلت سنة اثنتى عشرة وثلاثمائة: فى هذه السنة ظهر فى دار الخليفة إنسان أعجمى عليه ثياب فاخرة وتحته مما يلى بدنه قميص صوف ومعه قدّاحة وكبريت ودواة وأقلام وسكين وكاغد، وفى كيس سويق وسكر وحبل/ طويل من القنّب، فأحضر إلى ابن الفرات الوزير فسأله عن حاله فقال:
لا أخبر إلا صاحب الدار! فأمر بضربه ليقر فقال: بسم الله بدأتم بالشر! ولزم هذا القول ثم جعل يقول بالفارسية ما معناه «لا أدرى» ثم أمر به فأحرق، وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذا الحال وعظّم الأمر بين يدى المقتدر ونسبه إلى أنه أخفاه ليقتل المقتدر، وتفاوضا فقال الحاجب: لم أسعى فى(23/66)
قتل أمير المؤمنين وقد رفعنى من الثرى إلى الثريا؟ إنما يسعى فى قتله من صادره وأخذ أمواله وضياعه وأطال حبسه! وفيها أخذ القرمطى الحاجّ بعد عودتهم من الحجاز- وكان لأبى الهيجاء طريق مكة- فسار إلى القرمطى فأوقع به، وأسر أبو الهيجاء وأحمد بن كشمرد ونحرير وأحمد بن بدر عمّ والدة المقتدر وغيرهم، وأخذ القرمطى جمال الحاجّ جميعها وما أراد من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان، وعاد إلى هجر «1» وترك الحاجّ فى مواضعهم فمات أكثرهم جوعا وعطشا، فاجتمع حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين «2» الذين نكبهم ابن الفرات وجعلن ينادين: القرمطى الصغير «3» قتل المسلمين بطريق مكة والقرمطى «4» الكبير قتل المسلمين ببغداد! وشنّعوا عليه وكسر العامّة منابر الجوامع وسوّدوا المحاريب يوم الجمعة لستّ خلون من صفر،/ فضعفت نفس ابن الفرات وحضر عند المقتدر ليأخذ أمره فيما يصنع.
وحضر نصر الحاجب المشورة فانبسط لسانه على ابن الفرات وقال: الساعة تقول: اى شىء نصنع وما هو الرأى بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرضتها للزوال؛ فى الباطن بالميل مع(23/67)
كل عدوّ يظهر ومكاتبته ومهاداته، وفى الظاهر بإبعادك مؤنسا ومن معه إلى الرّقّة وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن هذا الرجل إذا قصد الحضرة أنت أم ولدك؟ وقد ظهر الآن مقصودك بإبعاد مؤنس وبالقبض علىّ وعلى غيرى، أن تستضعف الدولة وتقوّى أعداءها لتشفى غيظك ممّن صادرك وأخذ أموالك! ومن الذى سلّم النّاس إلى القرمطى غيرك لما يجمع بينكما من التّشيّع والرّفض؟
وقد ظهر أيضا أنّ ذلك العجمى من أصحاب القرمطى وأنت أوصلته! فحلف ابن الفرات أنه ما كاتب القرمطى ولا هاداه ولا رأى ذلك الأعجمى إلا تلك الساعة، والمقتدر معرض عنه. وأشار نصر على المقتدر بالله أن يحضر مؤنسا ومن معه ففعل ذلك، وكتب إليه بالحضور ففعل وسارع، وقام ابن الفرات فركب فرجمه العامّة، ثم وصل مؤنس المظفر إلى بغداد، ولما رأى المحسن.
ابن الفرات انحلال أمورهم أخذ كل من كان محبوسا فقتله، لأنه كان قد أخذ متهم أموالا/ جليلة ولم يوصلها إلى المقتدر فخاف أن يقروا عليه بما أخذه منهم.
ذكر القبض على ابن الفرات الوزير وولده المحسن
قال «1» : ثم كثر الإرجاف على ابن الفرات فكتب إلى المقتدر يعرّفه بذلك، وأن الناس إنما عادوه لشفقته ونصحه وأخذ حقوقه منهم فأنقذ المقتدر إليه يسكّنه ويطيّب قلبه فركب هو وولده إلى المقتدر(23/68)
فطيّب قلوبهما، وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب ووكل بهما، فدخل مفلح على المقتدر وأشار عليه بتأخير عزله فأمر بإطلاقهما فخرجا، فأما المحسن فإنه اختفى، وأما الوزير فإنه جلس عامّة نهاره يقضى الأشغال إلى الليل ثم بات مفكرا، فلما أصبح سمع بعض خدمه ينشد:
وأصبح لا يدرى وإن كان حازما ... أقدّامه خير له أم وراءه
فلما ارتفع النهار وهو الثامن من شهر ربيع الأول أتاه نازوك «1» ويلبق فى عدة من الجند فدخلوا عليه وهو عند حرمه فأخرجوه حافيا مكشوف الرأس فألقى عليه يلبق طيلسانا غطّى به رأسه وحمل إلى طيّار فيه مؤنس المظفر ومعه هلال/ بن بدر «2» فاعتذر إليه ابن الفرات وألان كلامه له فقال له: أنا الآن الأستاذ وكنت بالأمس الخائن الساعى فى فساد الدّولة وأخرجتنى والمطر على رأسى ورؤوس أصحابى ولم تمهلنى! وسلّم إلى شفيع اللؤلؤى فحبس عنده، وكانت مدّة وزارته هذه عشرة أشهر وثمانية عشر يوما، وأخذ أصحابه وأولاده ولم ينج منهم إلا المحسن، وصودر ابن الفرات على ألف ألف دينار.(23/69)
ذكر وزارة ابى القاسم الخاقانى
قال «1» : ولما تغيّر حال ابن الفرات سعى عبد الله بن أبى على محمد بن عبد الله «2» بن يحيى بن خاقان فى الوزارة، وكتب خطه أنه يتكفّل ابن الفرات وأصحابه بمصادرة ألفى ألف دينار.
وسعى له مؤنس الخادم وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب فتولى أبو القاسم الوزارة فى تاسع شهر ربيع الأول، وكان المقتدر يكرهه فلما سمع ابن الفرات وهو محبوس بولايته قال: الخليفة هو الذى نكب لا أنا! يعنى أن الوزير عاجز لا يعرف أمر الوزارة، ولما ولى الخاقانىّ شفع إليه مؤنس الخادم فى إعادة علىّ بن عيسى من صنعاء إلى مكة، فكتب بإعادته وأذن له فى الاطّلاع على أعمال مصر والشام.
ذكر مقتل ابن الفرات وولده
قال كان المحسن بن الوزير أبى الحسن بن الفرات «3» مختفيا كما ذكرنا، وكان عند حماته خنزابة- «4» وهى والدة الفضل بن جعفر بن الفرات- وكانت تأخذه كلّ يوم وتتوجّه به إلى المقبرة فى زىّ النّساء وتعود به إلى المنازل التى تشق بها، فمضت به يوما إلى مقابر قريش. وأدركها اللّيل فبعدت عليها الطريق وأشارت(23/70)
عليها أمرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير، فأخذته وقصدت به تلك المرأة وقالت لها: معنا صبية [بنت] «1» بكر نريد منك بيتا تكون فيه! فأمرتهم بالدّخول إلى بيتها وسلّمت إليهم قبّة فى الدار، فأدخلوا المحسن إليها، وجلس النساء الذين معه فى صفّه أمام القبة، فجاءت جارية سوداء فرأت المحسن فأخبرت مولاتها أنّ فى الدار رجلا، فجاءت المرأة صاحبة الدار فرأته وعرفته- وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره فلما رأى الناس يعذبون فى داره مات «2» فجأة- فلما رأت المرأة المحسن ركبت فى سفينة وقصدت دار الخليفة وقالت عندى نصيحة.
فأحضرها نصر الحاجب فأخبرته الخبر فطالع به المقتدر، فأمر صاحب الشرطة أن يسير معها فسار معها إلى منزلها وأخذ/ المحسن وجاء به إلى المقتدر، فبعث به إلى دار الوزارة فعذّب بأنواع العذاب ليجيب إلى مال يحمله فقال: لا أجمع بين الروح والمال! فأمر المقتدر بحمله مع أبيه «3» إلى دار الخلافة فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس وهارون بن غريب الخال ونصر الحاجب: إن نقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله وأطمع المقتدر فى أموالنا وضمننا منه وتسلّمنا فأهلكنا! فوضعوا القواد(23/71)
والجند وقالوا: لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده فإننا لا نأمن على أنفسنا ما داما فى الحياة! فأمر المقتدر نازوك بقتلهما فبدأ بقتل المحسن فذبحه كما تذبح الشاه وحمل رأسه إلى أبيه فارتاع لذلك، ثم عرض أبوه على السّيف فقال: راجعوا فى أمرى فإنّ عندى أموالا جمّة وجواهر كثيرة، فقبل له جلّ الأمر عن ذلك. ثم ذبح فى يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الآخر منها، وكان عمره إحدى وسبعين سنة وعمر ولده ثلاثا وثلاثين سنة وحمل رأساهما «1» إلى المقتدر فأمر بتغريقهما ولما قتلا ركب هارون بن غريب الخال مسرعا إلى الوزير الخاقانى وهنأه بقتلهما فأغمى عليه حتى ظنّ هارون ومن هناك أنه مات، وصرخ عليه أهله، ثم أفاق من غشينه وأعطى هارون ألفى دينار. وشفع/ مؤنس فى إبنى ابن الفرات عبد الله وأبى نصر فأطلقا له، فخلع عليهما ووصلهما بعشرين ألف دينار من ماله.
قال: «2» وكان ابن الفرات كريما ذا رياسة وكفاية فى عمله، حسن السؤال والجواب، وكان مصطنعا للناس؛ فإنّ جميع كتّابه الذين اصطنعهم صاروا وزراء. وكان يستغلّ من ضياعه فى كلّ سنة ألفى ألف دينار وينفقها، وكان إذا وزر غلا الشّمع والكاغد والسكر والكافور لكثرة استعماله لذلك! وكان يجرى على(23/72)
خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوتات والفقراء، قال الصولى «1» : ومن فضائله التى لم يسبق إليها أنه كان إذا رفعت له قضية فيها سعاية بأحد خرج «2» من حضرته غلام فينادى.
ابن فلان بن فلان الساعى! فامتنع النّاس من السّعاية بأحد، ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنّ أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون ويظلمون فلا يمنعهم؛ فمن ذلك أن بعضهم ظلم امرأة فى ملك لها فكتبت إليه نشكو غير مرة ولا يرد لها جوابا فلقيته يوما فقالت: أسألك بالله أن تسمع كلامى! فوقف لها فقالت:
قد كتبت إليك فى ظلامتى غير مرة فلم تجبنى وقد تركتك وكتبتها إلى الله تعالى! فلما رأى تغيّر حاله قال لمن معه: قد خرج جواب رقعة تلك المظلومة.
/ وفى هذه السنة دخل أبو طاهر القرمطىّ الكوفة وأقام بها ستة أيام يقيم بالجامع نهارا فإذا أمسى خرج إلى عسكره وحمل منها ما قدر على حمله من الأموال وغيرها وعاد إلى هجر، ولم يحج فى هذه السنة أحد.
وفيها ظهر «3» عند الكوفة رجل ادعى أنه محمد بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه- وهو رئيس الإسماعيلية وجمع جمعا عظيما من الأعراب(23/73)
وأهل السّواد واستفحل «1» أمره فى شوال، فسيّر إليه جيش من بعداد، فقاتلوه وظفروا به وانهزم وقتل كثير ممّن معه.
ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة:
ذكر عزل الخاقانى عن الوزارة ووزارة أبى العباس الخصيبى
فى هذه السنة فى شهر رمضان، عزل أبو القاسم الخاقانى عن الوزارة.
وكان سبب ذلك أنّ أبا العباس الخصيبى علم مكان أمرأة المحسن بن الفرات فسأل أن يتولى النّظر فى أمرها فأذن له المقتدر فى ذلك، فاستخلص منها سبعمائة ألف دينار إلى المقتدر، وصار له معه حديث. فخافه الخاقانى فوضع من وقع عليه وسعى به فلم يصغ المقتدر إلى ذلك، فلما علم الخصيبى بالحال كتب إلى المقتدر يذكر معائب الخاقانى وابنه عبد الوهاب وعجزهما وضياع الأموال وطمع العمال. ثم مرض الخاقانى مرضا شديدا وطال به، فوقفت الأحوال وطلب الجند أرزاقهم وشغبوا فأرسل المقتدر إليه فى ذلك فلم يقدر على شىء فعزله، واستوزر أبا العباس وخلع عليه. وكان يكتب لأم المقتدر قبل ذلك، ولما ولى أقر علىّ بن عيسى على الإشراف على أعمال مصر والشام فكان يتردد من مكة إليهما فى الأوقات.
وفيها كتب ملك الرّوم إلى أهل الثغور يأمرهم بحمل الخراج إليه فإن فعلوا وإلا قصدهم فقتل الرجال وسبى الذرية، وقال:
إننى صحّ عندى ضعف ولاتكم! فلم يفعلوا ذلك، فسار إليهم(23/74)
وأخرب البلاد، ودخل ملطية فى سنة أربع عشرة وثلاثمائة؛ فأخربها وسبى ونهب، وأقام بها ستة عشر يوما.
ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة:
ذكر عزل أبى العباس الخصيبى ووزارة علىّ بن عيسى
فى هذه السنة فى ذى القعدة عزل المقتدر أبا العباس/ الخصيبى عن الوزارة، وسبب ذلك أنه أضاق «1» إضاقة شديدة. ووقفت أمور السلطان، واضطرب أمر الخصيبى، وكان حين ولى الوزارة قد اشتغل بالشرب كلّ ليلة ويصبح وهو سكران لا فضل فيه لعمل. وكان يترك الكتب الواردة عليه من العمال، فلا يقرؤها إلا بعد مدّة ويهمل الأجوبة عنها فضاعت [الأموال] «2» وفاتت المصالح، ثم وكل الأمور إلى نوّابه وأهمل الاطّلاع عليهم فباعوا مصلحته بمصلحة نفوسهم.
فلما صار الأمر إلى هذه الصورة أشار مؤنس المظفر بعزله وتولية علىّ بن عيسى، فقبض عليه «3» ، فكانت وزارته سنة وشهرين، وأخذ ابنه وأصحابه فحبسوا. وأرسل المقتدر يستدعى علىّ بن عيسى، وأمر أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذانىّ بالنيابة عن على إلى أن يحضر وقدم علىّ بغداد فى أوائل سنة خمس عشرة،(23/75)
واشتغل بأمور الوزارة، «1» ولازم النظر فيها. فمشت الأمور واستقامت الأحوال. وكان قد اجتمع عند الخصيبى عدّة من رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمال بما ضمنوا من الأموال بالسّواد وفارس والأهواز والمغرب «2» ، فنظر فيها وأرسل فى طلب الأموال فأتته شيئا بعد شىء فأدرّ الأرزاق وأخرج العطاء، وأسقط من الجند من لا يحمل السلاح، ومن أولاد المرتزقة من هو/ فى المهد.. فانّ آباءهم أثبتوا أسماءهم! ومن أرزاق المغنين والمساخرة «3» والصّغاغنة «4» والندماء. وتولى الأعمال بنفسه ليلا ونهارا، فاختار الكفاة «5» من العمال واستعملهم فى الولايات.
وأمره المقتدر بالله بمناظرة أبى العباس الخصيبى، فأحضره، وأحضر الفقهاء والقضاة والكتّاب وغيرهم فسأله عما صحّ من الأموال والمصادرات والبواقى القديمة وغير ذلك فقال: لا أعلم! وما أجاب عن شىء، فأنكر عليه كونه دخل فى الوزارة وهو لا يعرفها، ووبّخه توبيخا كثيرا.
وفيها فى شهر ربيع الأول خرجت الروم إلى ملطية وما يليها(23/76)
مع الدّمستق ومعه مليح الأرمنى صاحب الدروب، فحصروا ملطية ودخلوا الرّبض فقاتلهم أهله وأخرجوهم منه، فلم يظفروا من المدينة بشىء، وخرّبوا قرى كثيرة من قراها، ونبشوا الأموات ومثّلوا بهم ثم رحلوا، وقصد أهل ملطية بغداد مستغيثين فلم يغاثوا، فعادو إلى بلدهم بغير مقصود! ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة:
ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر بالله وبين مؤنس
فى هذه السنة هاجت الرّوم وقصدوا الثعور ودخلوا شمشاط «1» /وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك، ودقّوا الناقوس فى الجامع ثم خرج المسلمون فى أثر الروم فقاتلوهم وغنموا منهم غنيمة عظيمة، فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفّر، وخلع عليه فى شهر ربيع الآخر ولم يبق غير الوداع، فامتنع مؤنس من الدخول إلى دار الخليفة واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك. وكان قد أتاه بعض خدّام المقتدر وقال له:(23/77)
إنّ الخليفة أمر خواصّ خدمه أن يحفروا جبّا فى دار الشجرة ويغطّوه ببراية «1» وتراب فإذا حضرت ألقيت فيه وخنقت! فامتنع وركب إليه جميع الأجناد وفيهم عبد الله بن حمدان وإخوته وخلت دار المقتدر بالله، وقالوا لمؤنس: نحن نقاتل بين يديك حتى تنبت لك لحية! فوجّه المقتدر رقعة بخطّه يحلف أنه ما أراد به سوءا، فصرف مؤنس الجيش وكتب الجواب أنه العبد المملوك، وأنّ الذى أبلغه ذلك قد كان وضعه من يريد إيحاشه «من مولانا» وأنه ما استدعى الجند وإنما هم حضروا وقد فرّقهم! ثم قصد دار الخليفة فى جميع القوّاد ودخل إليه وقبّل يده وحلف له المقتدر على صفاء نيته له وودّعه وسار إلى الثّغر وخرج لوداعه أبو العباس بن المقتدر والوزير علىّ بن عيسى.
وفيها قتل أبو طاهر القرمطىّ يوسف بن أبى السّاج فى وقعة/ كانت بينهما. وكان يوسف قد ندب لقتال القرامطة فأسره القرمطى، ثم قتله.
وفيها سار الدمستق فى جيش عظيم من بلاد الروم إلى مدينة دبيل «2» وبها نصر السبكى فى عسكر يحميها وكان مع الدمستق دبّابات ومجانيق، فحاصروا المدينة ونقبوا السّور ودخلوها فقاتلهم(23/78)
أهلها ومن فيها قتالا شديدا، فانتصر المسلمون وأخرجوا الرّوم منها وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل.
ودخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة:
ذكر عزل على بن عيسى عن الوزارة ووزارة أبى علىّ بن مقلة
فى هذه السنة عزل علىّ بن عيسى عن وزارة الخليفة ورتّب فيها علىّ بن مقلة، وكان سبب ذلك أنّ عليا لما رأى نقص الارتفاع واختلال الأعمال بوزارة الخاقانىّ والخصيبى وزيادة النفقات استعفى من الوزارة واحتجّ بالشيخوخة وقلّة النّهضة، فأمره المقتدر بالصّبر وقال له: أنت عندى بمنزلة والدى المعتضد! فألحّ فى الاستعفاء، فشاور المقتدر مؤنسا فى ذلك فأشار بمداراته وإبقائه. ثم لقى مؤنس الوزير ولاطفه وسكّنه فأبى/ إلا العزل، وبلغ الخبر ابن مقلة فسعى وضمن الضمانات الكثيرة وواصل بالهدايا واستمال نصرا الحاجب، فساعده عند المقتدر، فأمر فى نصف شهر ربيع الأول بالقبض على علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وخلع على أبى على بن مقلة واستوزره وأعانه عليها أبو عبد الله البريدى لمودّة كانت بينهما.
ذكر الحرب بين نازوك وهارون بن غريب الخال واستيحاش مؤنس
فى هذه السنة وقعت الفتنة بين نازوك- صاحب الشرطة- وهارون بن غريب، وأدّت إلى خلع المقتدر. وسبب ذلك أنّ ساسة(23/79)
دوابّ هارون وساسة دوّاب نازوك تغايروا «1» على غلام أمرد «2» وتضاربوا بالعصىّ، فضرب نازوك ساسة هارون وحبسهم. فسار أصحاب هارون إلى مجلس الشرطة، ووثبوا على نائب نازوك وانتزعوا أصحابهم من الحبس، فركب نازوك وشكا إلى المقتدر بالله فقال:
كلاكما عزيز ولست أدخل بينكما! فعاد وجمع رجاله وجمع هارون رجاله، وزحف أصحاب نازوك إلى دار هارون فأغلق بابه، وبقى بعض أصحابه خارج الدار فقتّل فيهم أصحاب نازوك وجرحوا. ففتح هارون الباب، وخرج أصحابه فوضعوا السلاح فى أصحاب نازوك، فقتلوا منهم وجرحوا، واشتبكت الحرب بينهم. وأرسل المقتدر ينكر عليهما ذلك فكفّا، وسكنت الفتنة، واستوحش نازوك. ثم ركب إليه هارون وصالحه، وخرج بأصحابه ونزل بالبستان النجمى ليبعد عن نازوك، فأكثر النّاس الأراجيف وقالوا: قد صار هارون أمير الأمراء! فعظم ذلك على أصحاب مؤنس وكتبوا له بذلك وهو بالرّقّة، فأسرع العود إلى بغداد، ونزل بالشمّاسية فى أعلى بغداد. ولم يلق المقتدر فصعد إليه أبو العباس بن المقتدر والوزير ابن مقلة فأبلغاه سلام المقتدر واستيحاشه له ثم عادا واستشعر كلّ من المقتدر(23/80)
ومؤنس من صاحبه «1» فأحضر المقتدر هارون بن غريب الخال- وهو ابن خاله- فجعله معه فى داره. فلما علم مؤنس بذلك ازداد نفورا واستيحاشا وأقبل أبو الهيجاء بن حمدان من بلاد الجبل فى عسكر كبير فنزل [عند] «2» مؤنس وترددت المراسلات من الخليفة إلى مؤنس، وانقضت السّنة وهم على ذلك.
ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة:
ذكر خلع المقتدر بالله وبيعة القاهرة
فى هذه السنة خلع المقتدر بالله من الخلافة وبويع أخوه القاهر بالله محمد بن المعتضد، فبقى يومين ثم أعيد المقتدر بالله. قال «3» : ولما نزل مؤنس باب الشمّاسية وانضم إليه ابن حمدان ونازوك صاحب الشرطة وغيرهما جمع المقتدر عنده هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجّالة المصافية وغيرهم. فلما كان آخر النهار مستهلّ المحرم انفضّ أكثر من عند المقتدر، وخرجوا إلى مؤنس. ثم كتب إلى المقتدر رقعة يذكر أنّ الجيش عاتب منكر للسّرف فيما يطلق باسم الخدم والحرم من الأموال والضياع، ولدخولهم فى الرّأى وتدبير المملكة، ويطالبون بخروجهم من الدار وأخذ ما فى أيديهم من الأموال(23/81)
والأملاك، وإخراج هارون بن غريب من الدار. فأجابه المقتدر أنه يفعل من ذلك ما يمكنه ويقتصر على ما لا بدّ له منه، واستعطفه وذكره ومن معه ببيعته التى فى أعناقهم مرة بعد أخرى وخوّفهم عاقبة النكث. وأمر هارون أن يخرج من بغداد وأقطعه الثغور الشامية والجزيرية فخرج فى تاسع المحرم، فعندها دخل مؤنس وابن حمدان ونازوك إلى بغداد، وأرجف النّاس أن مؤنسا ومن معه قد عزموا على خلع المقتدر.
فلما كان فى الثانى عشر من المحرم خرج مؤنس بالجيش إلى باب الشماسية فتشاوروا ساعة ثم زحفوا «1» /بأسرهم إلى دار الخليفة، فلما قربوا منها هرب المظفّر بن ياقوت الحاجب وسائر الحجّاب والخدم والوزير ابن مقلة، ودخل مؤنس والجيش إلى دار الخليفة وأخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه وأولاده من دار الخلافة، وحملوا إلى دار مؤنس واعتقلوا بها. وبلغ الخبر هارون وهو بقطربّل «2» فدخل بغداد واستتر، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه بالخلافة ولقّبوه القاهر بالله، وأحضروا القاضى أبا عمر عند المقتدر ليشهدوا عليه بالخلع وعنده مؤنس ونازوك وابن حمدان وبنىّ بن يعيش «3» فقال مؤنس للمقتدر ليخلع نفسه من(23/82)
الخلافة فأجاب وأشهد عليه القاضى بالخلع، فقام ابن حمدان وقال للمقتدر: يا سيدى يعزّ علىّ أن أراك على هذه الحال وقد كنت أخافها عليك وأحذرها وأنصح لك وأحذّرك عاقبة القبول من الخدم والنساء فتؤثر أقوالهم على قولى، وكأنى كنت أرى هذا، وبعد فنحن عبيدك وخدمك! ودمعت عيناه وعينا المقتدر وشهد الجماعة على المقتدر بالخلع وأودعوا الكتاب عند القاضى أبى عمر فكتمه ولم يظهر عليه غيره. فلما عاد المقتدر إلى الخلافة سلّمه إليه وأعلمه أنه ما أطلع عليه أحدا، فاستحسن ذلك منه، وولّاه قضاء القضاة قال «1» : ولما استقرّ/ أمر القاهر بالله أخرج مؤنس المظفر علىّ بن عيسى من الحبس وأقر أبا علىّ بن مقلة على وزارته، وأضاف نازوك مع الشرطة حجبة الخليفة وأقطع ابن حمدان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خرسان حلوان «2» والدّينور وهمذان وكنكور «3» وكرمان شاهان «4»(23/83)
والراذانات ودقوقا «1» وخانيجار «2» ونهاوند والصيمرة «3» والسّيروان «4» وماسبذان «5» وغيرها. ونهبت دار الخليفة ومضى بننىّ بن يعيش إلى بريّة لوالدة المقتدر فأخرج من قبر فيها ستمائة ألف دينار وحملها إلى دار الخليفة. وكان خلع المقتدر للنصف من المحرم منها، ثم سكن النّهب وانقطعت الفتنة.
قال «6» : ولما تقلّد نازوك حجبة الخليفة أمر الرجّاله المصافية «7» بقلع خيامهم من دار الخليفة وأن لا يعبر الدار إلا من له وطر، وأمر رجاله وأصحابه أن يقيموا مقام المصافية، فعظم ذلك عليهم وتقدم إلى خلفاء الحجّاب أن لا يمكّنوا أحدا أن يدخل إلى دار الخليفة إلا من كانت له مرتبة، فاضطرب الحجرية من ذلك.
ذكر عود المقتدر بالله الى الخلافة وقتل نازوك وابن حمدان
/ قال «8» : ولما كان فى يوم الإثنين سابع عشر المحرم بكّر(23/84)
النّاس إلى دار الخلافة لأنه يوم موكب ودولة جديدة، فامتلأت الممرات والرّحاب وشاطىء دجلة من الناس، وحضر الرجالة المصافية فى السلاح يطالبون بحقّ البيعة ورزق سنة وهم حنقون لما فعل بهم نازوك، ولم يحضر مؤنس المظفّر ذلك اليوم. وارتفعت الأصوات وزعقات الرّجال، فسمعها نازوك فأشفق أن يقع بينهم وبين أصحابه فتنة وقتال. فأمر أصحابه أن لا يتعرّضوا لهم ولا يقاتلوهم، فزاد شغب الرجالة وهجموا يريدون الصّحن التسعينى، فلم يمنعهم أصحاب نازوك. ودخل من كان على الشّطّ بالسّلاح، وقويت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وعنده الوزير ابن مقلة، ونازوك «1» وأبو الهيجاء ابن حمدان، فقال القاهر لنازوك: اخرج إليهم فسكّنهم وطيّب قلوبهم! فخرج إليهم نازوك وهو مخمور قد شرب طول ليلته، فلما رآه الرجالة تقدموا إليه ليشكوا إليه حالهم بسبب أرزاقهم فخافهم على نفسه وهرب منهم، فطمعوا فيه وتبعوه، فانتهى به الهرب إلى باب كان هو سدّه بالأمس فقتلوه عنده، وقتلوا خادمه عجيبا وصاحوا: مقتدر يا منصور! فهرب كلّ من كان فى الدّار من الوزير والحجّاب وسائر الطبقات وبقيت الدار فارغة. وصلبوا نازوك وعجيبا بحيث يراهما من على شاطىء دجلة، ثم صار الرجّالة إلى دار مؤنس يصيحون ويطالبونه بالمقتدر بالله. وبادر الخدم فأغلقوا أبواب دار الخليفة وكانوا جميعا خدم المقتدر ومماليكه وصنائعه.(23/85)
وأراد ابن حمدان الخروج من الدار فتعلّق به القاهر وقال:
أنا فى ذمامك فقال: والله لا أسلّمك أبدا! وأخذ بيده وقال: قم بنا نخرج جميعا، وأدعو أصحابى وعشيرتى فيقاتلون دونك! فقاما ليخرجا فوجدا الأبواب مغلقة ومعهما فائق المعروف بوجه القصعة، فأشرف القاهر من سطح فرأى كثرة الجمع، فنزل هو وابن حمدان وفائق فقال ابن حمدان للقاهر: قف حتى أعود إليك! ونزع سواده وثيابه وأخذ جبّة صوف لغلام هناك فلبسها ومشى نحو باب النوبىّ «1» فرآه مغلقا والناس حوله. فعاد إلى القاهر وتأخر عنهما وجه القصعة، وأمر من معه من الخدم بقتلهما أخذا بثأر المقتدر وما صنعا به، فعاد إليهما عشرة من الخدم بالسّلاح «2» ، فعاد إليهم أبو الهيجاء وسيفه بيده فقاتلهم فقتلوه، وهرب القاهر إلى آخر البستان واختفى.
وأما الرجّالة فإنهم لما انتهوا إلى دار مؤنس وسمع زعقاتهم قال: ما الذى تريدون؟ قالوا: نريد المقتدر! فأمر/ بتسليمه إليهم فامتنع المقتدر من ذلك وخاف أن تكون حيلة، فحمل وأخرج إليهم فحملوه على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة. فلما حصل فى الصّحن التسعينى اطمأنّ وجلس وسأل عن أخيه القاهر وعن ابن حمدان فقيل إنهما حيّان فامّنهما بخطّه، وأمر خادما بالسّرعة بكتاب الأمان لئلا يحدث على أبى الهيجاء حادث، فمضى بالخط إليه فلقيه خادم(23/86)
ومعه رأسه فرجع به إلى المقتدر، فلما رآه استرجع وقال: ما كان يدخل إلىّ ويسلينى ويطهّر لى الغمّ غيره! ثم أخذ القاهر وأحضر إلى المقتدر فأجلسه إلى جانبه وقبّل جبينه وقال: قد علمت أنّك لا ذنب لك وأنك قهرت ولو لقّبوك بالمقهور كان أولى بك من القاهر! والقاهر يبكى ويقول: يا أمير المؤمنين نفسى نفسى اذكرنّ الرّحم التى بينى وبينك! فحلف له أنه لا يناله بسوء أبدا «1» ، فسكن.
قال»
: ثم أخرج رأس نازوك ورأس أبى الهيجاء وشهرا، ونودى عليهما «هذا جزاء من عصى مولاه» وأما بنىّ بن يعيش فإنه كان من أشدّ القوم على المقتدر بالله، فهرب عن بغداد وغيّر زيّه وسار حتى بلغ الموصل ومنها إلى أرمينية، وسار حتى دخل القسطنطينة وتنصّر. وهرب أبو السرايا نصر بن حمدان أخو أبى الهيجاء إلى الموصل وسكنت الفتنة. وعاد الوزير ابن مقلة إلى/ وزارته، وكتب إلى البلاد بهذه الحادثة، وأطلق للجند أرزاقهم وزادهم وباع ما فى الخزائن من الأمتعة والجواهر، وأذن فى بيع الأملاك من الناس فبيع ذلك بأرخص الأثمان لتتم أعطيات الجند. وقيل إن مؤنسا المظفر لم يكن مؤثرا لما جرى على المقتدر من الخلع، وإنما وافق الجماعة مغلوبا على رأيه ولعلمه أنه إن خالفهم لم ينتفع به المقتدر فوافقهم ليأمنوه وسعى مع الغلمان المصافية والحجربة ووضع قوادهم على أن عملوا ما عملوا، فلهذا أمّنه المقتدر. وأما القاهر(23/87)
فإن المقتدر حبسه عند والدته فأحسنت إليه وأكرمته ووسعت عليه النّفقة واشترت له السرارى والجوارى للخدمة وبالغت فى إكرامه نعود إلى بقية حوادث سنة ست عشرة [وثلاثمائة] فيها وصل الدمستق «1» فى جيش كبير «2» من الروم إلى أرمينية فحصروا خلاط «3» فصالحه أهلها، وأخرج المنبر من الجامع وجعل مكانه صليبا ورحل إلى بدليس «4» ففعل بها مثل ذلك وخافه أهل أرزن «5» الروم وغيرهم، ففارقوا بلادهم، وانحدر أعيانهم إلى بغداد فلم يغاثوا.
وفيها وصل سبعمائة رجل من الروم والأرمن إلى ملطية ومعهم الفؤوس والمعاول وأظهروا أنهم يتكسبون بالعمل، ثم ظهر أن مليحا الأرمنى صاحب الدروب/ وضعهم ليكونوا بها، فإذا حضر سلّموها إليه، فعلم بهم أهل ملطية فقتلوهم [عن آخرهم «6» وفى سنة سبع عشرة جاء أبو طاهر القرمطى إلى مكة يوم التروية «7» فنهب أموال الحجاج، وقتلوهم حتى فى المسجد الحرام وفى البيت، وقلع الحجر الأسود، وفعل ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.(23/88)
ودخلت سنة ثمانى عشرة وثلاثمائة:
ذكر هلاك الرجالة المصافية
فى هذه السنة هلك الرجالة المصافية فى المحرم. وسبب ذلك أنهم لما أعادوا المقتدر إلى الخلافة- كما ذكرنا- زاد إدلالهم واستطالتهم، وصاروا يقولون أشياء لا يحتملها الخلفاء، منها أنهم يقولون: من أعان ظالما سلّط عليه، ومن يصعد الحمار إلى السّطح يقدر أن يحطه وإن لم يفعل المقتدر معنا ما نستحقه قابلناه بما يستحق! إلى غير ذلك، وكثر شغبهم ومطاولتهم وأدخلوا فى الأرزاق أولادهم وأهليهم ومعارفهم وأثبتوا أسماءهم، فصار لهم فى الشهر مائة ألف وثلاثون ألف دينار.
واتفق أن الفرسان شعبوا فى طلب أرزاقهم فقيل لهم إن بيت المال فارغ وقد انصرفت الأموال إلى الرّجّالة، فثار بهم الفرسان واقتتلوا «1» /فقتل من الفرسان جماعة فاحتج المقتدر على الرجالة بقتلهم وأمر محمد ابن ياقوت «2» صاحب الشرطة فطرد الرّجّالة من دار المقتدر ونودى فيهم بخروجهم عن بغداد ومن أقام حبس، وهدّمت دور عرفائهم وقبضت أملاكهم، وظفر بعد النّداء بجماعة منهم فضربهم وحلق لحاهم وشعورهم(23/89)
وشهرهم. وهاج السودان تعصّبا للرّجّالة فركب محمد أيضا فى الحجربة وأوقع بهم وأحرق منازلهم، فاحترق فيها جماعة منهم ومن أولادهم ونسائهم، فخرجوا إلى واسط واجتمع منهم جمع كبير وتغلّبوا عليها وطردوا عامل الخليفة، فسار إليهم مؤنس فأوقع بهم وأكثر القتل فبهم، فلم يقم لهم بعدها قائمة.
ذكر عزل ابن مقلة ووزارة سليمان
فى هذه السنة عزل أبو على محمد بن مقلة عن وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أن المقتدر كان يتهمه بالميل إلى مؤنس المظفّر وكان المقتدر مستوحشا من مؤنس ويظهر له الجميل، فاتّفق أنّ مؤنسا خرج إلى أوانا وعكبرا، فركب ابن مقلة إلى دار المقتدر آخر جمادى الأولى فقبض عليه وكان بين ابن مقلة وبين محمد بن ياقوت عداوة فأنفذ إلى داره من حرقها ليلا.
قال: وأراد المقتدر أن/ يستوزر الحسين بن القاسم بن عبد الله وكان مؤنس قد عاد، فأنفذ إلى المقتدر يسأل أن يعاد ابن مقلة فلم يجبه إلى ذلك وأراد قتله، فردّه علىّ بن عيسى عن ذلك فسأل مؤنس أن لا يستوزر الحسين، فتركه واستوزر سليمان بن الحسن فى منتصف جمادى الآخرة، وأمر المقتدر علىّ بن عيسى بالاطّلاع على الدواوين وأن لا ينفرد سليمان عنه(23/90)
بشىء. وصودر ابن مقلة بمائى ألف دينار، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة «1» أيام وفيها أمر المقتدر بالقبض على أولاد البريدى. وكان ابن مقلة لما ولى الوزارة قلّدهم الأعمال، فقلد أبا عبد الله الأهواز جميعها سوى السوس «2» وجنديسابور وقلّد أخاه الحسين الفراتية، وقلد أخاهما يوسف الخاصة والأسافل، وارتشى منهم على ذلك عشرين ألف دينار من أبى عبد الله. فلما قبض على ابن مقلة كتب المقتدر بخطّه إلى أحمد بن نصر القشورى الحاجب يأمره بالقبض عليهم، ثم استحضرهم إلى بغداد، وصودروا على أربعمائة ألف دينار، وكان لا يطمع منهم بهذا المبلغ وإنما طلب منهم ليجيبوا إلى بعضه فأجابوا إلى الجميع.
ذكر خروج صالح والأغر
فى هذه السنة فى جمادى الأولى خرج خارجى من بجيلة من أهل/ البوازيج «3» بها اسمه صالح بن محمود وعبر إلى البريّة، واجتمع إليه جماعة من بنى مالك. وسار إلى سنجار «4» فأخذ من أهلها مالا وخطب بها، فذكّر بأمر الله وحذّر وأطال فى هذا(23/91)
ثم قال: نتولّى الشيخين ونبرأ من الخبيثين ولا نرى المسح على الخفّين! وسار منها إلى الشجاجية من أرض الموصل فطالب أهلها بالعشر ثم انحدر إلى الحديثة تحت الموصل وطالب المسلمين بزكاة أموالهم والنّصارى بجزية رؤوسهم فجرى بينهم حرب فقتل من أصحابه جماعة، فعبر إلى الجانب الغربى فأسر أهل الحديثة ابنا له اسمه محمد فأدخلوه الموصل. ثم صار صالح إلى السن «1» فصالحه أهلها على مال أخذه، وانحدر إلى تكريت فحاربه أهلها فقتل منهم جماعة ثم صالحوه على مال أخذه منهم، وانصرف إلى البوازيج وتنقّل فى بلاد الموصل فسار إليه نصر بن حمدان لخمس خلون من شعبان من السنة فقاتله قتالا شديدا فقتل من رجال صالح نحو مائة رجل، وأسر صالح وابنان له فأدخلوا إلى الموصل، وحملوا إلى بغداد فأدخلوا مشهّرين.
وخرج فى شعبان خارجىّ بارض الموصل اسمه الأغرّبن مطر «2» الثغلبى، وسار من رأس عين إلى كفرتوثا واجتمع عليه ألف رجل فدخلها ونهبها وقتّل فيها، وسار إلى نصيبين فنزل بالقرب منها فقاتله/ أهلها ومعهم جمع من الجند فقتل منهم مائة رجل وأسر ألف رجل فباعهم نفوسهم، وصادر أهلها على أربعمائة ألف درهم. وبلغ خبره ناصر الدولة بن حمدان- وهو أمير ديار ربيعة-(23/92)
فسيّر إليه جيشا فقاتلوه فظفروا به وأسروه فسيّره ناصر الدولة إلى بغداد.
وفيها خلع المقتدر بالله على ابنه هارون، وركب معه الوزير والجيش وأعطاه ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران. وفيها أيضا خلع على ابنه أبى العباس الراضى وأقطعه بلاد المغرب ومصر والشام وجعل مؤنسا المظفر يخلفه فيها، وحج بالناس عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمى.
ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة
ذكر عزل سليمان عن الوزارة
وتولية أبى القاسم الكلوذانى الوزارة فى هذه السنة قبض المقتدر على وزيره سليمان. وسبب ذلك أن الأموال ضاقت عليه، وكثرت المطالبات من الجند وغيرهم بأرزاقهم، واتصلت رقاع من يرشّح للوزارة بالسّعاية فيه والضمان بالقيام بأرزاق الجند وأرباب الوظائف، فأمر المقتدر بالقبض عليه/ وكان المقتدر يميل إلى وزارة الحسين بن القاسم، فامتنع مؤنس من الموافقة عليه، وأشار بتولية أبى القاسم الكلوذانىّ فاستوزره المقتدر بالله لثلاث بقين من شهر رجب، فكانت وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين، ولم يستمر الكلوذانىّ فى الوزارة غير شهرين وثلاثة أيام.(23/93)
ذكر عزل الكلوذانى ووزارة الحسين
فى هذه السنة عزل أبو القاسم الكلودانىّ عن وزارة الخليفة، ووزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب. وكان سبب ذلك أنه كان ببغداد إنسان يعرف بالدانيالى وكان زرّافا ذكيا محتالا، فكان يعتّق الكاغد ويكتب فيه أشياء قد وقعت فيما مضى من الزمان وأشياء تقع فى المستقبل ويرى ذلك للناس. واتصل هذا الدانيالى بمفلح الخادم وأظهره على أشياء استماله بها. فتوصّل الحسين لهذا الرجل حتى جعل اسمه فى جملة كتاب وضعه وعتّقه، وذكر فيه علامة فى وجهه وما فيه من الآثار ويقول «إنه يزر للخليفة الثامن عشر من الخلفاء العباسيين وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعادى» وذكر فى هذا الكتاب حوادث وقعت وحوادث تقع فى المستقبل، ونسب ذلك إلى دانيال. وقرأ الكتاب على مفلح فأخذه/ منه وأوقف المقتدر عليه فقال له: أتعرف فى الكتاب من هو بهذه الصفة؟ فقال: ما أعرف إلا الحسين بن القاسم قال:
صدقت، قلبى يميل إليه، فإن جاءتك رقعة منه فاعرضها علىّ واكتم حاله.
فخرج مفلح إلى الدنيالى وقال: هل تعرف فى الكتّاب من هو بهذه الصفة؟ قال: لا! قال: فمن أين لك هذا الكتاب؟ قال:
ورثته عن أبى، وورثه أبى عن آبائه، وهو من ملاحم دانيال عليه السلام! فأعاد ذلك إلى المقتدر بالله فقبله. فكتب الحسين(23/94)
رقعة إلى مفلح وهو يطلب الوزارة، فكان ذلك من أعظم الأسباب لوزارته مع كثرة الكارهين له.
ثم اتفق أنّ الكلوذانىّ عمل حسبة بما يحتاج إليه من النفقات ومالهم «1» من الأموال وعليها خطوط الدواوين فبقى يحتاج إلى سبعمائة ألف دينار لا جهة لها، فعرضها على المقتدر وقال: ليس لهذه جهة إلا ما يطلقه أمير المؤمنين من بيت مال الخاصة! فعظم ذلك على المقتدر، وكتب الحسين رقعة عندما بلغه ذلك سأل فيها الوزارة وأنه يضمن جميع النفقات ويستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار تكون فى بيت المال، فاستقال الكلوذانى، فعزل لليلتين بقبتا من شهر رمضان، واستوزر المقتدر بالله الحسين بن القاسم فى هذا التاريخ
ذكر تأكيد الوحشة بين مؤنس والمقتدر
/ فى هذه السنة فى ذى الحجة تجددت الوحشة بينهما.
وسبب ذلك أن مؤنسا بلغه أنّ الوزير قد وافق جماعة من القوّاد فى التدبير عليه، فتنكّر له مؤنس. وبلغ الوزير أن مؤنسا يريد أن يكبس داره ليلا ويقبض عليه، فتنقل فى عدّة مواضع ثم انتقل إلى دار الخلافة. وطلب مؤنس من المقتدر عزل الحسين ومصادرته فأجابه إلى عزله ولم يصادره، وأمر الحسين بلزوم داره فلم يقنع مؤنس بذلك فبقى فى وزارته. فأوقع الحسين عند المقتدر أن مؤنسا(23/95)
يريد أخذ ولده أبى العباس ويسيره إلى الشام ويبايع له، فردّه المقتدر إلى دار الخلافة فعلم ذلك أبو العباس، فلما أفضت إليه الخلافة فعل بالحسين ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكتب الحسين إلى هارون- وهو يريد العاقول- بعد انصرافه من حرب مرداويج وانهزامه وهو يستقدمه إلى بغداد، وكتب إلى محمد بن ياقوت- وهو بالأهواز- يأمره بالإسراع إلى بغداد، فصحّ عند مؤنس أن الوزير يدبّر عليه وزاد مؤنسا نفارا.
ودخلت سنة عشرين وثلاثمائة:
ذكر مسير مؤنس الى الموصل
فى هذه السنة فى المحرم سار مؤنس المظفر إلى الموصل مغاضبا، للمقتدر لما صح عنده إرسال الوزير إلى هارون بن غريب الخال ومحمد بن ياقوت يستحضرهما. قال: «1» وسير مؤنس خادمه بشرى «2» برسالة إلى المقتدر، فسأله الحسين عن الرسالة فقال: لا أذكرها إلا لأمير المؤمنين. فأنفذ إليه المقتدر يأمره بذكر رسالته للوزير فامتنع وقال: ما أمرنى صاحبى بهذا! فسبه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار وأخذ خطّه بها وحبسه ونهب داره. فلما بلغ مؤنسا ما جرى على خادمه وكان ينتظر أنّ المقتدر يطيّب قلبه ويعيده، سار ومعه جميع قوّاده ومماليكه، ومعه من الساجية ثمانمائة رجل. فتقدم الوزير بقبض إقطاع(23/96)
مؤنس وأملاكه وأملاك من معه، فحصّل من ذلك أموالا عظيمة فزاد ذلك فى محلّه عند المقتدر ولقّبه عميد الدولة وضرب اسمه على الدنانير والدراهم وتمكّن من الوزارة وولى وعزل ثم أخذ فى التهوير فعزله المقتدر بالله.
ذكر عزل الحسين عن الوزارة
ووزارة ابن الفرات كان سبب عزله أنه ضاقت عليه الأموال وكثر الخرج، فاستسلف جملة من مال هذه السنة وأخرجها فى سنة تسعة عشر.
فأنهى هارون/ بن غريب ذلك إلى المقتدر، فرتّب معه الخصيبى.
فلما تولّى معه نظر فى أعماله فرآه قد عمل حسبة للمقتدر ليس فيها عليه [وجه] «1» فأظهر ذلك للمقتدر، فأمر بجمع الكتّاب وكشف الحال. فاعترفوا بصدق الخصيبى وقابلوا الوزير، فقبض عليه فى شهر ربيع الآخر فكانت وزارته سبعة أشهر إلا أياما.
واستوزر المقتدر بالله الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات «2» ، وسلم إليه الحسين بن القاسم فلم يؤاخذه بإساءته.
ذكر استيلاء مؤنس على الموصل
قال «3» : ولما سار مؤنس إلى الموصل كتب الحسين الوزير إلى سعيد وداود ابنى حمدان وإلى ابن أخيهما ناصر الدولة الحسن(23/97)
ابن عبد الله بن حمدان يأمرهم بمحاربته وصدّه عن الموصل، فاجتمع بنو حمدان على محاربته إلا داود فإنه امتنع لإحسان مؤنس إليه؛ فإنه قد كان ربّاه فى حجره بعد أبيه فما زال به إخوته حتى وافقهم، ولما أجابهم قال لهم: إنكم لتحملونى على البغى وكفران النّعمة والإحسان وما آمن أن يجيئنى سهم عاثر فيقع فى نحرى فيقتلنى! فلما التقوا أتاه سهم كما وصف فقتله، ولما قرب مؤنس من الموصل كان فى ثمانمائة فارس. واجتمع بنو حمدان فى ثلاثين ألفا فالتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدن/ ودخل مؤنس الموصل واستولى على أموال بنى حمدان وديارهم، فخرج إليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر، وعاد إليه ناصر الدولة بن حمدان فصار معه وكان دخول مؤنس إلى الموصل فى ثالث صفر، وأقام بها سبعة أشهر، وعزم على الانحدار إلى بغداد.
ذكر مقتل المقتدر بالله
قال «1» : ولما اجتمعت العساكر إلى مؤنس بالموصل قالوا له:
اذهب بنا إلى الخليفة فإن أنصفنا وأجرى أرزاقنا وإلا قاتلناه فانحدر مؤنس من الموصل فى شوّال، وبلغ خبره جند بغداد فشغبوا وطلبوا أرزاقهم، ففرّق المقتدر فيهم أموالا كثيرة إلا أنها لم تسعهم وأنفذ المقتدر أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصرى فى خيل عظيمة إلى سامراء. وأنفذ أبا بكر محمد(23/98)
ابن ياقوت فى ألفى فارس ومعه الغلمان الحجرية إلى المعشوق.
فلما وصل مؤنس إلى تكريت جعل العسكر الذين مع ابن ياقوت يتسللون ويهربون إلى بغداد، ونزل مؤنس بباب الشمّاسية فلما رأى ذلك رجع ابن ياقوت إلى عكبرا، وسار مؤنس فتأخر ابن ياقوت وغيره وعادوا إلى بعداد. ونزل مؤنس بباب الشماسيّة، ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم واجتهد المقتدر بخاله «1» هارون بن غريب/ ليخرج فلم يفعل وقال: أخاف من عسكرى فإنّ بعضهم أصحاب مؤنس وبعضهم قد انهزم أمس من مرداويج فأخاف أن يسلمونى وينهزموا عنى! فلم يزل به حتى أخرجه، وأشار النّاس على المقتدر بإخراج المال منه ومن أمّه ليرضى الجند وقالوا: إنه متى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرقوا عنه، فاضطر إلى الهرب فقال: لم يبق لى ولا لوالدتى شىء! وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط ويكاتب العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان وغيرها ويترك بغداد لمؤنس إلى أن يجتمع إليه العساكر ويعود إلى قتاله، فردّد ابن ياقوت عن ذلك، وزيّن له اللقاء وقوّى نفسه أنّ القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه فرجع إلى قوله وهو كاره، ثم أشار عليه بحضور الحرب فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف منشورة وعليه البردة «2»(23/99)
والناس حوله، فوقف على تلّ عال بعيد من المعركة فأرسل إليه قواده يسألونه التّقدّم مرة بعد أخرى، فلما ألحّوا عليه تقدّم من موضعه فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم. وكان قد أمر فنودى.
«من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة» .
فلما انهزم أصحابه لقيه علىّ بن يلبق- وهو من أصحاب مؤنس- فترجّل وقبل الأرض وقال له: أين تمضى؟ ارجع، فلعن الله من أشار عليك/ بالحضور! فأراد الرّجوع، فلحقه قوم من المغاربة والبربر، فتركه علىّ وسار، فشهروا سيوفهم فقال: ويحكم أنا الخليفة! فقالوا:
قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إبليس، تبذل فى كلّ رأس خمسة دنانير وفى كلّ أسير عشرة دنانير. وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض، وذبحه بعضهم- وقيل إنّ علىّ بن يلبق رمز إلى بعضهم فقتله- وذلك فى يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوّال سنة عشرين وثلاثمائة.
قال «1» : ولما قتل رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل أكّار فستره بحشيش، ثم حفر له فى موضعه ودفن، وعفا قبره. هذا ومؤنس فى الراشدية لم يشهد الحرب، فلما حمل رأس المقتدر إليه بكى ولطم وجهه ورأسه وقال: يا مفسدون ما هكذا أوصيتكم، والله لنقتلنّ كلّنا، وأقلّ ما فى الأمر أن تظهروا أنكم قتلتموه خطأ ولم تعرفوه!(23/100)
وتقدم مؤنس إلى الشمّاسية، وأنفذ إلى دار الخلافة من يمنعها من النّهب. ومضى عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن غريب ومحمد ابن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن. وكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم واستبدادهم، وانحرفت حرمة الخلافة لقتل المقتدر، وضعف أمرها حتى انتهى إلى ما نذكره إن شاء الله تعالى «1» .
قال «2» : وقتل وعمره ثمان وثلاثون سنة وخمسة أيام، وكان مدّة خلافته أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وستة عشر يوما، وكان ربع «3» القامة درّىّ اللون أحور أصهب، وكان نقش خاتمة «الحمد لله الذى ليس كمثله شىء وهو السميع خالق كل شىء» ويقال إن المقتدر بذّر من الأموال تضييعا فى غير وجهها نيّفا وتسعين ألف ألف دينار «4» سوى ما أنفقه فى الوجوه، وكان يصرف إلى الحرمين وفى طريقهما فى كلّ سنة ثلاثمائة ألف وخمسة عشر ألف دينار وأربعمائة وستة وعشرين دينارا، وإلى الثغور أربعمائة الف وواحدا وتسعين ألفا وأربعمائة وستة وخمسين دينارا وكان يجرى على القضاة فى كلّ الممالك ستة وخمسين ألفا(23/101)
وخمسمائة وواحدا وأربعين دينارا. وعلى الفقهاء بالحضرة ثلاثة عشر ألفا وخمسمائة وتسعة وستين دينارا، وعلى من يتولّى الحسبة والمظالم فى جميع البلاد أربعة وثلاثين ألفا وأربعمائة وتسعة وثلاثين دينارا، وعلى أصحاب البريد تسعة وسبعين ألفا وأربعمائة دينار، وغير ذلك من الجرايات على أصناف الناس وطبقاتهم. وعجز ارتفاع ممالكه عن نفقاته ألفى ألف وتسعة وثمانين ألفا وثمانمائة وأربعة وسبعين دينارا، ولم ينقض أحدا شيئا فأنفق ما كان فى بيوت الأموال قبله «1» .
قال «2» : ومات فى أيامه خمسة عشر ألف أمير ومقدّم مذكور فكانت والدته تطوى عنه الرزايا والفجائع وتقول: إظهارها يؤلم قلبه! فأدّى ذلك إلى انتشار الفساد فى ممالكه» .
وكان الناس قد ملّوا أيّامه لطولها، حتى إذا تصرّمت تمنّوا ساعة منها، فأعوزتهم، وشملتهم الحوادث والطوارق. وكان له من الأولاد الرّاضى والمتقى والمطيع وعبد الواحد وعباس وهارون وعلىّ وإسماعيل وعيسى وموسى وأبو العباس «4» .(23/102)
ووزر له من ذكرنا وهم: العباس بن الحسن «1» ، وأبو الحسن بن الفرات ثلاث دفعات وقد ذكرنا أخباره، ومحمد بن عبد الله بن خاقان. وعلى بن عيسى دفعتين، وكان موصوفا بالعلم والدين والعقل، وساس الدنيا السياسة التى عمّرت البلاد، وكان يستغل ضياعه فى السنة سبعمائة ألف دينار يخرج منها فى وجوه البرّ ستمائة ألف دينار وينفق أربعين ألف دينار على خاصته، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله، ولما حبس كان يلبس ثيابه ويتوضأ ويقوم ليخرج إلى صلاة الجمعة فيرده الموكلون به فيقول: اللهمّ اشهد! وكانت له آثار حسنة ومآثر جميلة منها أنه أشار على المقتدر/ أن يوقف المستغلّات ببغداد على الحرس والثغور- وغلّتها فى كلّ شهر ثلاثة عشر ألف دينار- والضياع الموروثة بالسّواد وارتفاعها نيّف وثمانون ألف دينار سوى الغلة، ففعل ذلك وأفرد لهذا الوقف ديوانا سمّاه ديوان البرّ، وكان يجرى على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنة لم يزل فيها نعمة أحد ولم يقتل أحدا، ولم يسع فى ذمّه ولم يهتك حرمة أحد، ومات فى آخر ذى الحجة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة «2» وله تسع وثمانون سنة وستة أشهر ويوم واحد، رحمه الله!(23/103)
ووزر له حامد بن العباس، وأبو القاسم الخاقانى، وأحمد بن عبد الله الخصيبى، وأبو على بن مقلة، وسليمان بن الحسين بن مخلد، وعبد الله الكلوذانىّ، والحسين بن القاسم بن عبيد الله، والفضل ابن جعفر بن الفرات.
قضاته: يوسف بن يعقوب ثم ابنه محمد «1» بن يوسف، ثم أبو عمر، ثم عبد الله بن أبى الشوارب، ثم ابنه محمد، ثم أحمد بن إسحاق بن البهلول، ثم عمر بن محمد بن يوسف، والحسن بن عبد الله، وعمر بن الحسن بن أبى الشوارب.
حجّابه: سوسن مولى المكتفى؛ ونصر القشورىّ، وياقوت مولى المعتضد، وغيرهم.
الأمراء بمصر: عيسى النّوشرى، ثم تكين الخزرى «2» ، ثم وصل مؤنس/ إلى مصر فصرف تكين وولّاها ذكاء الأعور ثم مات فأعيد تكين، ثم هلال بن بدر، ثم أحمد بن كيغلغ «3» ، ثم تكين مرة ثالثة.
القضاة بها: أبو عبيد الله بن على بن الحسين البزّاز «4» إلى أن ورد كتاب ابن الفرات بصرفه وردّ القضاء إلى عبد الله بن(23/104)
مكرم شابّ من شهود أبى عمر، فاستخلف له أبو الذكر محمد بن يحيى التمّار، ثم ورد إبراهيم بن محمد الطبرى خليفة لعبد الله، ثم صرف عبد الله وولى إبراهيم بن حمّاد فاستخلف أبا علىّ عبد الرحمن بن إسحاق، ثم صرف هارون وولى أبو محمد عبد الله بن أحمد بن رزين، وولىّ تكين أبا هاشم إسماعيل بن عبد الواحد الرّبعى.
ذكر خلافة القاهر بالله
هو أبو منصور محمد بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد و [قد] «1» تقدم ذكر نسبه، وأمّه أمّ ولد اسمها قبول. وهو التاسع عشر من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد مقتل أخيه المقتدر فى يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. قال. «2» ولمّا قتل المقتدر بالله عظم قتله على مؤنس كما ذكرناه فقال:/ الرأى ننصب ولده أبا العباس فى الخلافة فإنه تربيتى، وهو صبىّ عاقل فيه دين وكرم ووفاء بما يقول، فإذا جلس فى الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه ببذل الأموال ولم ينتطح فى قتل المقتدر عنزان! فعارضه أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختى «3» وقال:
بعد الكدّ استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبرونه فنعود إلى تلك الحالة، لا والله لا نرضى إلا برجل كامل يدبر نفسه ويدبرنا!(23/105)
وما زال حتى ردّ مؤنسا عن رأيه، وذكر له أبا منصور محمد فأجابه مؤنس إلى ذلك. وكان النوبختى فى ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه! فإنّ القاهر قتله كما نذكر إن شاء الله تعالى، فأمر مؤنس بإحضاره فبايعوه بالخلافة، ولقّبوه القاهر بالله. وكان مؤنس كارها لخلافته والبيعة له ويقول: أنا عارف بشرّه وسوء نيته ولكن لا حيلة! قال: «1» ولما بويع استحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه علىّ بن يلبق، وأخذ خطّه بذلك.
ولما استقرّت الخلافة له وبايعه النّاس استوزر أبا علىّ بن مقلة وكان بفارس فاستقدمه، واستحجب علىّ بن يلبق. وشرع القاهر فى البحث عمن استتر من أولاد أخيه المقتدر وحرمه، وأحضر والدته «2» - وكانت مريضة بالاستسقاء- وسألها عن المال/ فاعترفت له بما عندها من المصوغ والثياب ولم تعترف بشىء من المال والجوهر، فضربها أشدّ ما يكون من الضرب وعلّقها برجلها وضرب المواضع المستورة من بدنها فحلفت أنها لا تملك غير ما أطلعته عليه وقالت: لو كان عندى مال لما سلّمت ولدى للقتل! ولم تعترف بشىء وصادر جميع حاشية المقتدر بالله وأصحابه، وأخرج والدته لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنها قد حلّت أوقافها ووكّلت فى بيعها، فامتنعت من ذلك وقالت: قد أوقفتها على أبواب البرّ والقربات(23/106)
بمكة والمدينة والثّغور وعلى الضعفاء والمساكين ولا أستحل حلّها ولا بيعها، وإنما أوكل فى بيع أملاكى! فلما علم القاهر بذلك أحضر القاضى والشهود وأشهد هم على نفسه أنه قد حل وقوفها جميعها ووكل فى بيعها، فبيع ذلك كله واشتراه الجند من أرزاقهم.
وتقدم القاهر بكبس الدار التى سعى إليه أنّ أولاد المقتدر اختفوا بها، فلم يزل كذلك إلى أن وجد منهم أبا العباس الراضى وعليّا والعباس وهارون وإبراهيم والفضل فحملوا إلى دار الخلافة فصودروا على مال كثير، وسلّمهم على بن يلبق لكاتبه الحسن بن هارون، فأحسن صحبتهم وخدمهم. قال: «1» وقبض الوزير على جماعة من العمال وعزل بنى البريدىّ وصادرهم.
/ ودخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة:
ذكر خبر عبد الواحد بن المقتدر ومن معه
كان عبد الواحد بن المقتدر بالله قد هرب عند قتل أبيه ومعه هارون بن غريب ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق إلى المدائن كما قدمنا، ثم انحدروا منها إلى واسط، فخافهم الناس.
فأما هارون بن غريب «2» فإنه كتب إلى بغداد فى طلب الأمان لنفسه ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه وينزل(23/107)
عن الأملاك التى استأجرها، ويؤدى من أملاكه حقوق بيت المال القديمة. فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك، وكتب له كتاب أمان.
وقلّد أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهرجانقذق، وسار إلى بغداد وأما عبد الواحد فإنه خرج من واسط فيمن بقى معه ومضوا إلى السوس وسوق الأهواز فجنوا المال وطردوا العمال، وأقاموا بالأهواز، فجهز مؤنس إليهم جيشا كثيفا وجعل عليه يلبق وكان الذى حرّضهم على إيفاد الجيش أبو عبد الله البريدى وبذل مساعدته معجلة خمسين ألف دينار على أن يولىّ الأهواز وعند استقراره فى الولاية يعجّل ما بقى. فسنار الجيش وفيهم أبو عبد الله، وكان محمد بن ياقوت قد استبدّ/ بالأموال والأمر، فنفرت قلوب من معه من القوّاد لذلك. فلما قرب يلبق من واسط أظهروا ما فى نفوسهم وفارقوه. ولما وصل إلى السوس فارق عبد الواحد ومحمد بن ياقوت الأهواز وسار إلى تستر، وفارقهما من معهما من القواد إلى يلبق بأمان.
وبقى مفلح وسرور الخادم مع عبد الواحد فقالا لمحمد بن ياقوت: أنت معتصم بهذه المدينة وبمالك ورجالك ونحن لا مال معنا ولا رجال ومقامنا يضرّك ولا ينفعك وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر،! فأذن لهما فى ذلك فكتب إلى يلبق فأمّنهم، فعبروا إليه. وبقى محمد بن ياقوت منفردا فتحير وضعفت نفسه فتراسل هو ويلبق واستقر بينهما أن يلبق يؤمنه ويضمن له أمان مؤنس والقاهر، ففعل. وخرج محمد بن ياقوت(23/108)
معه إلى بغداد ولما وصلوا وفى لهم القاهر بالله، وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لوالدته المصادرة التى كان صادرها بها. واستولى أبو عبد الله البريدىّ على البلاد، وعسف أهلها، وأخذ أموال التجار وعمل بأهل البلاد ما لا تعمله الفرنج ولم يمنعه أحد عما يريد وأعاد إخوانه إلى أعمالهم.
ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر
/ فى هذه السنة استوحش مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وولده علىّ والوزير أبو على بن مقلة من القاهر بالله وضيقّوا عليه وعلى أسبابه. وكان سبب ذلك أن محمد بن ياقوت تقدم عند القاهر وعلت منزلته وصار يخلوبه ويشاوره، فعظم ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين ابن ياقوت؛ فألقى إلى مؤنس أن محمدا يسعى به عند القاهر وأن عيسى الطبيب يسفر بينهما فى التدبير عليه، فوجّه مؤنس علىّ بن يلبق لإحضار عيسى الطبيب فوجده بين يدى القاهر، فأخذه وأحضره عند مؤنس فسيره من ساعته إلى الموصل، واجتمعوا على الإيقاع بمحمد بن ياقوت وكان فى الخيام. فركب على ابن يلبق فى جند ليكسه، فوجده قد اختفى فنهب أصحابه، واستتر محمد بن ياقوت.
ووكل على بن يلبق على دار الخليفة أحمد بن زيزك «1» وأمره بالتضييق على القاهر بالله وتفتيش كل من يدخل الدار ويخرج منها،(23/109)
وأن يكشف وجوه النساء، وإن وجد رقعة رفعها إلى مؤنس ففعل ذلك وزاد عليه حتى إنه جمل إلى دار القاهر لبن فأدخل يده فيه. ونقل يلبق من كان بدار القاهر محبوسا إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها، وقطع أرزاق حاشيته. فعلم القاهر أن العتاب لا يفيد وأنّ ذلك برأى مؤنس وابن مقلة، فأخذ فى الحيلة والتدبير/ على جماعتهم. وكان قد عرف فساد قلب طريف السبكرى وبشرى خادم مؤنس «1» وحسدهما ليلبق وولده على مراتبهما، فشرع فى إغرائهما بيلبق وابنه. وعلم أيضا أن مؤنسا ويلبق أكثر اعتمادهما على الساجية أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمان المنتقلين إليهما بعده، وكانا قد وعداهم بالموصل مواعد أخلفاها فأرسل القاهر إليهم وأغراهم بهما وحلف لهم على الوفاء بما أخلفاه، فتغيرت قلوب الساجية. ثم أرسل أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله وكان صاحب مشورة ابن مقلة، ووعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار.
ذكر القبض على مؤنس المظفر ويلبق الحاجب وابنه
وسبب ذلك أنه صحّ عندهم أن القاهر يدبّر عليهم فخافوه، وحملهم الخوف على الجدّ فى خلعه، واتّفق رأيهم على البيعة لأبى أحمد بن المكتفى، فاستخلفوه وعقدوا له البيعة سرّا، وحلف له يلبق وابنه علىّ والوزير ابن مقلة والحسن بن هارون ثم كشفوا الأمر لمؤنس فقال: لست أشكّ فى شرّ القاهر وخبثه، ولقد كنت كارها(23/110)
/ لخلافته وأشرت بابن المقتدر بالله فخالفتم رأيى، وفد بالغتم فى الاستهانة به وما صبر على الهوان إلا من خبث طويّته ليدبّر عليكم، فلا تعجلوا حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم تعرفوا من وطأه من القواد والساجبة والحجرية واعملوا بعد ذلك! فقال علىّ بن يلبق والحسن بن هارون: ما يحتاج إلى هذا التطويل فإن الحجبة لنا والدار فى أيدينا وما نحتاج [إلى] «1» أن نستعين فى القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر فى قفص! وعملوا على معالجته.
فاتفق أن سقط يلبق من الدّابة فاعتلّ ولزم بيته، فاتفق على وابن مقلة وحسّنا لمؤنس خلع القاهر وهوّنا عليه أمره، فأذن لهما.
فاتّفق رأيهما على أن يظهر أنّ أبا طاهر القرمطى دخل الكوفة وأن علىّ بن يليق سائر لقتاله ومنعه من بغداد، فإذا دخل لوداع القاهر بالله قبض عليه،. فأشاعا ذلك، وكتب ابن مقلة رقعة إلى الخليفة يعرّفه ذلك ويقول: «إننى قد جهّزت علىّ بن يلبق ليسير فى هذا اليوم وأن يحضر العصر للخدمة ليأمره مولانا بما يراه» فكتب القاهر فى جوابه يشكره ويأذن فى حضور ابن يلبق. فجاء جواب الخليفة وابن مقلة نائم فتركوه ولم يوصلوه إليه. فلما استيقظ كتب رقعة أخرى فى المعنى، فأنكر القاهر الحال.
فهو فى هذا إذ وصلته رقعة طريف السبكرى يذكر أن عنده نصيحة وأنه قد حضر فى زىّ النّساء لينهيها إليه، فاجتمع به القاهر، فذكر له جميع ما عزموا عليه [وما هم فيه] «2» وما فعلوه من(23/111)
التدبير. فأنفذ القاهر إلى الساجية فأحضرهم متفرقين وكمنهم فى الدهاليز والمرات والرّواقات، وحضر على بن يلبق بعد العصر وفى رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من أصحابه فى طيار له. وأمر جماعة من أصحابه بالركوب إلى الأبواب وصعد من الطيار وطلب إذن القاهر فلم يأذن له فغضب وأساء أدبه وقال: لا بدّ من لقائه شاء أو أبى! فأمر القاهر الساجية بردّه، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه، وشهروا سلاحهم وتقدموا إليه، ففرّ أصحابه عنه وألقى نفسه فى الطيّار وعبر إلى الجانب الغربى واختفى من ساعته.
وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر، واستتر الحسن بن هارون، فلما سمع طريف الخبر ركب فى أصحابه بالسلاح، وحضر إلى دار الخليفة ووقف عند القاهر بالله. فعظم الأمر حينئذ على ابن يلبق وجماعتهم وأنكر يلبق ما جرى على ابنه، وسبّ الساجية وركب إلى دار الخليفة فى جميع القوّاد الذين بدار مؤنس، فلم يصل إلى القاهر وقبض عليه وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة وحبسهما وحصل الجيش/ كلّهم فى الدّار فأنفذ القاهر إليهم وطيّب قلوبهم ووعدهم الزيارة، وأنه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثم يطلقهم ويحسن إليهم فعادوا وراسل القاهر مؤنسا فى الحضور عنده ليعرض عليه ما وقع عليهم ليفعل ما يراه وقال:: إنه عندى بمنزلة الوالد، وما أحبّ أن أعمل إلا عن رأيه! فاعتذر مؤنس عن الحركة، ونهاه أصحابه عن الحضور إليه فلما كان من الغد أحضر القاهر طريفا السبكرى وناوله خاتمه(23/112)
وقال له: قد فوّضت إلى ولدى عبد الصّمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمد وقلدتك خلافته ورئاسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان ذلك إلى مؤنس فامض إليه واحمله إلى الدار فإنه مادام فى منزله يجتمع إليه من يريد الشر ولا نأمن أمره! فمضى إلى دار مؤنس وعنده أصحابه فى السلاح فسأله أصحاب مؤنس عن الحال فذكر سوء صنيع يلبق وابنه فكلّهم سبّهما، وعرّفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود فسكنوا. ودخل إلى مؤنس وقد استولى عليه الكبر والضّعف وأشار عليه بالحضور عند القاهر وقال: إن تأخرت طمع ولو رآك نائما ما تجاسر أن يوقظك! / فسار إليه، فلما دخل الدّار قبض عليه وحبسه، وذلك فى مستهل شهر شعبان.
وأمر القاهر بالختم على دور من قبض عليهم ونقل دوابّهم ووكل بحريمهم، وأمر بنقل ما فى دار ابن مقلة وحرقها، ونهبت دور المعتقلين بها. وظهر محمد بن ياقوت وقام بالحجبة، ثم رأى كراهة طريف والساجية له فاختقى وهرب إلى ابنه بفارس، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب وقلده كور الأهواز، واستقدم القاهر عيسى الطبيب من الموصل، وجدّ القاهر بالله فى طلب أحمد بن المكتفى، فظفر به، فبنى عليه حائطا وهو حىّ فمات. وظفر بعلى بن يلبق، واستعمل على الحجبة سلامة الطولونىّ وعلى الشرطة أحمد بن خافان.(23/113)
ذكر مقتل مؤنس ويلبق وابنه على والنوبختى
كان مقتل هؤلاء فى شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وسبب ذلك أن أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا، وتبعهم سائر الجند، ونادوا بشعار مؤنس، وقالوا لا نرضى إلا بإطلاقه. وكان القاهر قد ظفر بعلىّ بن يلبق، وأفرد كلّ واحد منهم فى بيت، فلما/ شغب الجند دخل القاهر إلى على بن يلبق فأمر به فذيح وجعل رأسه فى طست. ومضى والطست بين يديه حتى دخل على يلبق، فلما رأى رأس ابنه بكى وقبّله، فأمر به القاهر فذبح وجعل رأسه فى طست. وحملا بين يديه، ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه.
فلما رآهما تشهّد واسترجع ولعن قاتلهما، فقال القاهر:
جرّوا برجل الكلب الملعون! فجرّوا برجله وذبحوه، وجعلوا رأسه فى طست. وطيف بالرؤوس فى جانبى بغداد وتودى عليها «هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى فى فساد دولته» ثم أعيدت فنظّفت وجعلت فى خزانة الرؤوس على العادة «1» . ولما قتلهم القاهر بالله اشتد أمره، وقويت نفسه، وخافه من حوله ممّن وافقه وباطنه على قتلهم. وقتل أبا يعقوب النوبختى، ولقّب نفسه بعد ذلك «القاهر بالله المنتقم من أعداء الله لدين الله.» وضرب ذلك على الدنانير والدراهم.(23/114)
ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم وعزله وولاية الخصيبى
قال «1» : ولما قبض القاهر بالله على من ذكرناه وهرب ابن مقلة سأل:/ من يصلح للوزارة؟ فدلّ على أبى جعفر ابن القاسم بن عبيد الله، فاستوزره فى شعبان فبقى وزيرا إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذى القعدة من السنة، فقبض القاهر بالله عليه وعلى أولاده وأخيه عبيد الله وحرمه، وكان مريضا بقولنج، فبقى محبوسا ثمانية عشر يوما ومات، فحمل إلى منزله وأطلق أولاده. واستوزر أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبى فكانت وزارة أبى جعفر ثلاثة أشهر واثنى عشر يوما [والله تعالى أعلم] «2» .
ذكر القبض على طريف السبكرى
كان طريف كما ذكرناه قد أعان القاهر بالله على القبض على من ذكرنا، وثبّت قواعد دولته. فلما قوى القاهر بالله لم يقف عند أيمانه لطريف وبقى يسمعه ما يكره، ويستخّف به، ويعرض له بالأذى. فلما رأى ذلك خافه وتيقن السوء، فلما قبض القاهر على الوزير أبى جعفر أحضر طريفا وقبض عليه، فبقى محبوسا يتوقع القتل صباحا ومساء إلى أن خلع القاهر بالله.(23/115)
وفى هذه السنة أمر القاهر بتحريم الخمرة والغناء «1» وسائر الأنبذة، ونفى بعض من كان يعرف بذلك إلى البصرة والكوفة وأمر ببيع الجوارى والمغنيات على أنّهنّ سواذج لا يعرفن/ الغناء، ثم وضع من يشترى له كلّ حاذقة فى صنعة الغناء، فاشترى له منهن ما أراد بأبخس الأثمان. وكان القاهر مشتمهرا بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقا إلى تحصيل غرضه، وهذه نهاية فى الخسّة والشّحّ، نعوذ بالله من ذلك! وفيها كان ابتداء الدولة الدّيلمية البويهية، وسيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى «2» . وفيها أمر علىّ بن يلبق- قبل القبض عليه- بلعن معاوية بن أبى سفيان وابنه يزيد على المنابر «3» .
ودخت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:
ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره
كان خلع القاهر وسمله فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى من هذه السنة، وسبب ذلك أنّ أبا علىّ بن مقلة والحسن بن(23/116)
هارون كانا قد استترا من القاهر، وجدّ فى طلبهما فلم يظفر بهما فكانا يراسلان قوّاد السّاجية والحجرية ويخوّفانهم من شرّه ويذكران غدره، وأنه لا يتمسّك بأيمانه، وأنه قبض على طريف بعد نصحه له، إلى غير ذلك. وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلا- تارة فى زىّ أعمى وتارة فى زىّ مكد وتارة فى زىّ امرأة- ويغربهم بالقاهر. ثم إنه أعطى منجما كان لسيما رئيس الساجية ومقدّمهم مائتى دينار،/ وأعطاه الحسن مائة دينار فكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضى أنّ القاهر ينكبه ويقتله. وأعطى ابن مقلة.
أيضا شيئا لمعبّر «1» كان لسيما، فكان يحذّره من القاهر [بالله] «2» فازداد نفورا ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد القبض عليه، فجمع الساجية وأعطاهم السّلاح، وأنفذ إلى الحجرية فاجتمعوا وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم. فاتصل ذلك بالقاهر وبوزيره الخصيبى فأرسل إليهم «ما الذى حملكم على هذا؟» فقالوا: قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما وقد عمل مطامير ليحبس قوادنا فيها!.
فلما كان فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجية والحجرية عند سيما وتحالفوا على القبض على القاهر، فقال سيما: قوموا بنا الساعة حتى نمضى العزم، فإنه إن تأخر علم به واحترز وأهلكنا! وبلغ ذلك الوزير فأرسل سلّاما الحاجب(23/117)
وعيسى الحاجب وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدر على إعلامه بذلك،. وزحف الحجرية والساجية إلى دار الخلافة، ووكل سيما بأبوابها من يحفظها، وبقى هو على باب العامّة وهاجموا الدّار من سائر الأبواب. فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة استيقظ وهو مخمور، وطلب بابا يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال/ فهرب إلى سطح حمام ودخل القوم فلم يجدوه، فدلّهم خادم صغير على موضعه فقصدوه.
فإذا بيده سيف فألانوا له واجتهدوا به، فلم ينزل وقال: من صعد إلىّ قتلته! فأخذ بعضهم سهما وقال:: إن نزلت وإلا وضعته فى نحرك! فنزل حينئذ إليهم وساروا إلى الموضع الذى فيه طريف السبكرى فأخرجوه وحبسوا القاهر مكانه «1» واستدعوا فى تلك الليلة أحمد بن أبى الحسين الصابىّ فكحل «2» القاهر بعد أن أقيم بين يدى الراضى بالله، وسلّم عليه بالإمارة.
وقيل فى سبب خلعه إنه لما تمكّن من الخلافة تنّقص الساجية والحجرية على مرّ الأيام حتى كان لا يقضى لأكابرهم حاجة، ويلزمهم النّوبة فى داره، ويؤخر أعطياتهم ويغلظ لمن يخاطبه منهم فى أمر، فأقبل بعضهم ينذر بعضا ويتشاكون. ثم كان يقول(23/118)
لسلامة حاجبه: أنت بين يدىّ كنز مال يمشى فأى شىء يتبيّن فى مالك لو أعطيتنى ألف ألف دينار! فيحمل ذلك على الهزل، وكان وزيره الخصيبى خائفا لما يرى منه ثم إنّه حفر فى الدار نحو خمسين مطمورة وأحكم أبوابها، فقيل إنها لمقدّمى الساجية والحجرية، فازدادوا نفورا، ثم إنّ جماعة من القرامطة أخذوا من فارس وأرسلوا إلى بغداد فحبسوا فى تلك المطامير، فتقدم القاهر سرّا بفتح الأبواب/ عليهم والإحسان إليهم، وعزم على أن يتقوّى بهم بالقبض على مقدّمى الساجية والحجرية. فأنكروا حال القرامطة وكونهم معه فى داره وهو يحسن إليهم، وذكروا ذلك لوزيره وحاجبه فقالا له، فأخرجهم من دار الخلافة وسلّمهم إلى محمد بن ياقوت وهو على شرطة بغداد فأنزلهم فى دار وأحسن إليهم. ثم صار القاهر يذمّ الساجية والحجرية فى مجلسه ويظهر كراهتهم، فلما تبينوا ذلك من وجهه وحركاته أظهروا أنّ لبعض قوادهم عرسا، فاجتمعوا بحجبته «1» وقرروا بينهم ما أرادوا وافترقوا. وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر «2» وكان قد اختصّ به فقالوا له: قد علمت ما فعل القاهر بمولاتك وقد ركبت فى موافقته كلّ عظيم فإن وافقتنا على ما نحن عليه وتقدمت إلى الخدم بحفظه فعفا الله عما سلف منك وإلا فنحن نبدأ بك!(23/119)
فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر، وأنه موافقهم، هذا وابن مقلة يسعى كما ذكرنا قال «1» : ولما قبض على القاهر هرب وزيره الخصيبى وحاجبه سلامة، فكانت خلافة القاهر بالله سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام وهو أول خليفة سمل، ولم يزل فى دار السلطان إلى أن أخرج المستكفى بالله فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وردّه إلى داره فأقام/ مدة ثم خرج إلى جامع المنصور فى يوم الجمعة، وقام فعرّف النّاس نفسه وتصدّق منهم وقال: أنا خليفتكم بالأمس وسائلكم اليوم! فأعطاه ابن أبى موسى ألف درهم»
وردّه إلى داره وتوفى فى خلافة المطيع فى يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين، ودفن فى دار طاهر وله اثنتان وخمسون سنة. وكان أبيض يعلوه حمرة مربوعا أعين وافر اللحية ألثغ شديد الإقدام على سفك الدّماء، أهوج محبّا لجمع المال قبيح السياسة.
وقد تقدم من أفعاله وضربه لوالدة أخيه المقتدر ومصادرتها ومصادرة أولاد أخيه وأمهات أولاده ما يستدل به على قبح أفعاله وسوء طويّته وعدم تمسكه بما يبذله من الأيمان المغلّظة والعهود المؤكّده ثم لا يقف عند ذلك. وكان نقش خاتمه «محمد رسول الله» وكان له من الأولاد أبو الفضل عبد الصمد وأبو القاسم عبد العزيز وهو ولى عهده.(23/120)
وزراؤه: أبو على بن مقلة، ثم محمد بن القاسم، ثم أحمد بن عبد الله الخصيبى.
حجّابه: على بن يلبق، ثم سلامة الطولونى.
قاضيه: عمر بن محمد بن يوسف.
الأمراء بمصر: تكين ثم محمد بن صغج الفرغانى «1» المعروف بالإخشيد، ثم أحمد بن كيغلع، وتغلّب محمد بن تكين فى أيامه ثم عاد الأمر إلى ابن كيعلغ.
القضاة بها: ولّى القاهر محمد بن الحسين بن أبى الشوارب فاستخلف أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن قتيبة فشغب الرعية عليه ولم يزل إلى أن صرف ابن أبى الشوارب، ورد القضاء إلى أبى عثمان أحمد ابن إبراهيم بن حماد وإلى عبد الله بن موسى السرخسى.
ذكر خلافة الراضى بالله
هو أبو العباس أحمد بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وأمه أم ولد اسمها ظلوم، وهو الخليفة العشرون من الخلفاء العباسيين بويع له بعد خلع عمّه القاهر فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وذلك أنه لما قبض القاهر كما ذكرناه سألوا الخدم عن المكان الذى هو فيه وكان محبوسا هو ووالدته، فدلّوهم عليه فقصدوه وفتحوا عليه وسلموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر بالله ولقبوه الراضى(23/121)
بالله، وبايعه القوّاد والناس، وأقيم القاهر بين يديه وسلّم عليه بالإمارة..
قال «1» : ولما ولى أمر بإحضار علىّ بن عيسى وزير المقتدر بالله وأخيه عبد الرحمن وصدر/ «2» عن رأيهما فيما يفعله. وأراه علىّ بن عيسى على الوزارة فامتنع، لكبره وضعفه، وأشار بابن مقلة ثم قال سيما للراضى بالله: إن الوقت لا يحتمل أخلاق علىّ وابن مقلة أليق، فكتب له أمانا فحضر واستوزره.
فلما وزر أحسن إلى كلّ من أساء إليه وقال عاهدت الله عند استتارى بذلك! وأرسل إلى الخصيبى وعيسى الطبيب بالأمان فظهرا، فأحسن ابن مقلة إليهما، فاستعمل الخصيبى واستعمل [أبا] «3» الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه على سائر الأعمال بالموصل والجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزيرية والشامية، وأجناد الشام ومصر. واستعمل الراضى بالله على الشرطة بدرا الخرشنى واستعمل محمد بن ياقوت على الحجبة ورئاسة الجيش، وأدخل يده فى أمر الدواوين، وتقدم إليهم بأن لا يقبلوا توقيعا بولاية وعزل وإطلاق إلا إذا خطّه عليه، وأمرهم بحضور مجلسه فصبر ابن مقلة على ذلك وألزم نفسه بالمصير إلى دار إبن ياقوت فى بعض الأوقات كالمتعطل.(23/122)
ذكر مقتل هارون بن غريب
فى هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال، وسبب ذلك أن القاهر بالله كان استعمله على ماه الكوفة وماسبذان وغير ذلك كما ذكرناه. فلما استخلف الراضى بالله رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لقرابته من الراضى بالله. وكاتب القوّاد ببغداد يعدهم الإحسان والزيادة فى الأرزاق، ثم سار من الدينور إلى خانقين «1» ، فعظم ذلك على ابن مقلة وابن ياقوت والحجرية والساجية، وشكوا ذلك إلى الراضى بالله فأعلمهم أنه كاره له وأذن لهم فى منعه. فراسلوا له وبذلوا طريق خراسان زيادة على ما بيده، فلم يقنع وتقدّم إلى النّهروان وشرع فى جباية الأموال، وظلم النّاس وسفهم؟؟؟ وقويت شوكته. فخرج إليه محمد بن ياقوت فى سائر جيوش بغداد ونزل قريبا منه، فهرب بعض أصحاب محمد ابن ياقوت إلى هارون. فراسله ابن ياقوت يستميله، ويبذل له فقال: لا بدّ من دخول بغداد! فلما كان فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران واشتد القتال فاستظهر أصحاب هارون لكثرتهم، وانهزم أكثر من مع ابن ياقوت ونهب أكثر سوادهم وكثر فيهم القتل والجراح، فسار محمد حتى قطع قنطرة نهر هناك. فبلغ ذلك هارون، فسار نحو القنطرة منفردا عن أصحابه طمعا فى أسر محمد بن ياقوت وقتله،(23/123)
فتقنطر به فرسه فسقط عنه فى ساقية فلحقه غلام له اسمه يمن فضربه بالطبرزين حتى أثخنه/ وكسر عظامه ثم نزل إليه فذبحه، ثم رفع رأسه وكبّر فانهزم أصحابه وتفرقوا ودخل بعضهم بغداد سرّا. ونهب سواد هارون، وقتل جماعة قواده، وأسر جماعة، وسار محمد إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه وأمر بغسله وتكفينه وصلّى عليه ودفنه، ودخل بغداد ورأس هارون بين يديه ورؤوس جماعة من قواد هارون فنصبت ببغداد!
ذكر مقتل ابن الشلمغانى ومذهبه
فى هذه السنة قتل أبو جعفر محمد بن على الشّلمغانى المعروف بابن أبى العراقيد «1» ، وشلمغان التى ينسب إليها قرية بنواحى واسط، وكان سبب ذلك أنه قد أحدث مذهبا غاليا فى التشيّع والتناسخ وحلول الإلهية فيه، إلى غير ذلك، وكان ظهوره فى مبدأ وزارة حامد بن العباس أحد وزراء المقتدر بالله، ثم اتصل الشّلمععانى بالمحسن بن الفرات فى وزارة أبيه الثالثة، ثم طلب في وزارة الخاقانى فاستتر وهرب إلى الموصل. وبقى سنين عند ناصر الدولة بن حمدان، ثم انحدر إلى بغداد واستتر، ثم ظهر عنه أنه يدّعى الربوبية لنفسه. وقيل إنه اتّبعه على ذلك الحسين ابن القاسم بن عبيد الله «2» بن سليمان بن وهب/ الذى(23/124)
وزر للمقتدر بالله، وأبو جعفر، وأبو على ابنا بسطام، وإبراهيم ابن محمد بن أبى عون، وابن شبيب ويزيد وأحمد بن محمد بن عبدوس.. كانوا يعتقدون ذلك فيه وظهر ذلك عنهم، وطلبوا فى وزارة بن مقلة للمقتدر فلم يوجدوا.
فلما كان فى شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ظهر ابن الشّلمغانىّ فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه وكبس داره فوجد فيها رقاعا وكتبا ممّن يدعى فيه الربوبية يخاطبونه بما لا تخاطب به البشر بعضهم بعضا. وفيها خط الحسين بن القاسم، فعرضت الخطوط عليه فأقرّ أنها خطوطهم وأنكر مذهبه، وأظهر الإسلام وتبّرأ مما يقال فيه. فأخذ ابن أبى عون وابن عبدوس فأحضرا معه عند الخليفة وأمرا بصفعه فامتنعا، فلما أكرها صفعه ابن عبدوس، ومدّ ابن أبى عون يده إلى لحيته ورأسه فارتعدت يده فقبّل لحيته ورأسه وقال: إلهى وسيدى ورازقى! فقال له الراضى: قد زعمت أنك لا تدّعى الإلهيه فما هذا؟ فقال: وما علىّ من قول ابن أبى عون، والله يعلم أننى ما قلت له إنى إله قط! فقال ابن عبدوس: إنه لم يدّع الإلهية وإنما ادّعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان الحسين بن روح! ثم أحضروا عدة مرات ومعهم القضاة والفقهاء وغيرهم، وفى آخر الأمر أفتى الفقهاء بإباحة دمه/ فصلب هو وابن أبى عون، وأحرقا بالنّار فى ذى القعدة. وكان الحسين بن القاسم بالرّقّة فأرسل الراضى بالله إليه فقتل فى ذى القعدة، وحمل رأسه إلى بغداد.(23/125)
وكان مذهب الشلمغانى أنه إله الآلهة بحقّ الحق، وأنه الأول القديم، الظاهر الباطن، الرازق التام، المومأ إليه بكلّ معنى. وكان يقول: إن الله سبحانه وتعالى يحلّ فى كل شىء على قدر ما يحتمل، وإنه خلق الضّدّ ليدلّ على المضدود، فمن ذلك أنه حل فى آدم عليه السلام لما خلقه، وفى إبليس لما خلقه وكلاهما ضدّ لصاحبه لمضادته إياه فى معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ، وأن الضد أقرب إلى الشى من شبيهه، وأن الله عزّ وجلّ إذا حلّ فى جسد ناسوتى أظهر من المقدرة المعجزة ما يدل على أنه هو، وأنه لما غاب آدم ظهر اللاهوت فى خمسة ناسوتية كلما غاب منهم واحد ظهر مكانه آخر فى خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية فى إدريس وإبليسه وتفرّقت بعدهما كما تفرقت بعد آدم، واجتمعت فى نوح عليه السلام وإبليسه وتفرّقت بعدهما، واجتمعت فى صالح وإبليسه عاقر الناقة وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى إبراهيم عليه السلام وإبليسه نمرود وتفرقت لمّا غابا واجتمعت فى موسى وإبليسه/ فرعون وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى سليمان وإبليسه وتفرقت بعدهما، واجتمعت فى عيسى وإبليسه فلما غابا تفرقت فى تلاميذ عيسى وأبالستهم، ثم اجتمعت فى على بن أبى طالب وإبليسه.
وإنّ الله يظهر فى كل شىء وكلّ معنى، وإنه فى كل أحد بالخاطر الذى يخطر فى قلبه فيتصوّر له ما يغيب عنه حتّى كأنه يشاهده. وإن الله اسم لمعنى، وإن من احتاج الناس إليه فهو إله،(23/126)
ولهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمى إلها، وأن كل أحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه ربّ لمن هو فى دون درجته. وأن الرجل منهم يقول «أنا رب لفلان وفلان رب ربى» حتى يقع الانتهاء إلى ابن الشلمعانى فيقول: أنا رب الأرباب لا ربوبية بعده! ولا ينسبون الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما إلى علىّ، لأن من اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولد ولا والد.
وكانوا يسمون موسى ومحمدا صلوات الله عليهما الخائنين، لأنهم يدّعون أن هارون أرسل موسى وعليا أرسل محمدا فخاناهما.
ويزعمون أن عليا أمهل محمدا عدة سنين أصحاب الكهف فإذا انقضت العدة وهى ثلاثمائة وخمسون سنة انتقلت الشريعة.
ويقولون: إن الملائكة كل من ملك نفسه وعرف الحق، وإن الجنة معرفتهم وانتحال مذهبهم والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم/ ويعتقدون ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقد ويبيحون الفروج، ويقولون: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم بعث إلى كبراء قريش وجهابذة العرب ونفوسهم أبية فأمرهم بالسجود، وإن من الحكمة الآن أن يمتحن النّاس بإباحة فروج نسائهم، وإنه يجوز أن يجامع الإنسان من شاء من ذوى رحمه وحرم صديقه وابنه بعد أن يكون على مذهبه، وإنه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النورّ فيه، ومن امتنع من ذلك قلب فى الدور الذى يأتى بعد هذا العالم إمرأة؛ إذ كان مذهبهم التناسخ.(23/127)
وكانوا يعتقدون إهلاك الطالبيين والعباسيين، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبير! وهذه المقالة شبيهة بالمقالة النصيرية، فإنهم يعتقدون فى ابن الفرات، ويجعلونه رأسا فى مذهبهم.
ذكر ظهور انسان ادعى النبوة
وفى هذه السنة ظهر بباسند «1» من أعمال الصغانيان رجل ادّعى النبوة فقصده فوج بعد فوج واتّبعه خلق كثير وحارب من خالفه، فقتل خلقا كثيرا ممن كذبه، وكثر أتباعه خصوصا من أهل الشاش. وكان صاحب حيل ومخاريق، وكان يدخل يده فى حوض ماء فيخرجها مملوءة دنانير إلى غير ذلك من المخاريق، فكثر جمعه. فأنفذ إليه، أبو على بن المظفر، جيشا فحاربوه وضيّقوا عليه- وهو فوق جبل عال- حتى قبضوا عليه، وقتلوه وحملوا رأسه إلى أبى على، وقتلوا خلقا كثيرا ممن اتبعه وآمن به. وكان يدّعى أنه متى مات عاد إلى الدنيا، فبقى جماعة كبيرة بتلك الناحية مدة طويلة على ما دعاهم إليه ثم اضمحلوا وفنوا.
وفيها سار الدمستق قرقاش فى خمسين ألفا من الروم فنازل ملطية وحصرها مدة طويلة حتى هلك أهلها بالجوع، وضرب خيمتين(23/128)
على إحداهما صليب وقال: من أراد النصرانية انحاز إلى خيمة الصليب ليردّ عليه أهله وماله، ومن أراد الإسلام انحاز إلى الخيمة الأخرى وله الأمان على نفسه ونبلغه مأمنه، فانحاز أكثر المسلمين إلى خيمة الصّليب طمعا فى أهلهم ومالهم. وسيّر مع الباقين بطريقا يبلغهم مأمنهم، وفتحها بالأمان فى مستهل جمادى الآخرة، وملكوا شمشاط «1» وخرّبوا الأعمال، وأكثروا القتل، وفعلوا الأفاعيل الشنيعة، وصار أكثر البلاد فى أيديهم.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة:
ذكر القبض على ابنى ياقوت
/ فى هذه السنة فى جمادى الأولى قبض الراضى بالله على محمد والمظفر ابنى ياقوت، وكان سبب ذلك أن الوزير أبا على بن مقلة كان قد قلق لتحكّم محمد بن ياقوت فى الدولة بأسرها، وأنه هو ليس له حكم فى شىء، فسعى به إلى الرّاضى وأدام السّعاية.
فلما كان فى خامس الشهر ركب جميع القواد إلى دار الخليفة على عادتهم، وحضر الوزير وأظهر الرّاضى أنه يريد يقلد جماعة من القواد أعمالا، وحضر محمد بن ياقوت للحجبة ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطى. فخرج الخدم فاستدعوا محمد بن ياقوت إلى الخليفة فدخل مبادرا، فعدلوا به إلى حجرة هناك فحبسوه، ثم استدعوا القراريطى فدخل فعدلوا به إلى حجرة، ثم استدعوا(23/129)
المظفر من بيته وكان مخمورا فحبسوه أيضا،. وأنفذ الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من يحفظها من النّهب، وكان ياقوت حينئذ مقيما بواسط، فلما بلغه القبض على ابنيه انحدر يطلب فارس ليحارب ابن بويه، وكتب إلى الراضى بالله يستعطفه ويسأل إيفاد ولديه ليساعداه على حربه.
ذكر حال أبى عبد الله محمد البريدى وتقدمه
فى هذه السنة قوى أمر أبى عبد الله البريدى وعظم شأنه،/ وسبب ذلك أنه كان ضامنا لأعمال الأهواز، ثم استولى عليها عسكر مرداويج الدّيلمى «1» ، وهزم ياقوت، فجاء إلى البصرة وصار يتصرف فى أسافل أعمال الأهواز مضافا إلى كتابة ياقوت. وادّعى أخواه- وكان إليهما ضمان السوس وجند يسابور أنّ دخل البلاد لسنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج وأنّ دخل البلاد لسنة ثلاث وعشرين لا يحصل منه شىء، لأنّ نوّاب مرداويج ظلموا الناس فلم يبق لهم ما يزرعونه. وكان الأمر بضدّ ذلك فى السنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مقلة فأنفذ نائبا له ليحقّق الحال فواطأ ابنى البريدى وكتب بصدقهما فحصّل لهما بذلك مالا عظيما وقويت نفوسهما وكان مبلغ ما أخذاه أربعة آلاف ألف دينار.
وفيها قتل ناصر الدولة بن حمدان عمّه أبا العلاء بن حمدان،(23/130)
وسبب ذلك أن أبا العلاء سعيدا ضمن الموصل وديار ربيعة سرا، وكان بها ناصر الدولة أميرا. فلما وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه للقائه فخالفه فى الطريق قصدا منه، فوصل أبو العلاء ودخل دار ابن أخيه وقعد ينتظره، فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه.
ذكر مسير ابن مقلة الى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة
/ قال «1» : لما قتل ناصر الدّولة عمّه أبا العلاء واتّصل خبره بالراضى بالله عظم ذلك عليه وأنكره، وأمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها فى شعبان بالعساكر. فلما قاربها رحل عنها ناصر الدولة ودخل الزوزان «2» ، وتبعه الوزير إلى جبل التّنين «3» ثم عاد عنه، وأقام بالموصل يجبى أموالها.
فلما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير- وكان ينوب عنه فى الوزارة ببغداد- فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه فكتب إليه يقول: إن الأمور بالحضرة قد اختلّت وإنّ تأخّره لم يؤمن معه حدوث ما يبطل أمرهم.
فانزعج الوزير لذلك، واستعمل على الموصل علىّ بن خلف بن(23/131)
طباب «1» وما كرد الدّيلمى- وهو من الساجية- وانحدر إلى بغداد فى منتصف شوال. فلما فارق الموصل عاد إليها [ناصر الدولة] «2» بن حمدان فاقتتل هو وما كرد الديلمى، فانهزم ابن حمدان. ثم عاد وجمع عسكرا آخر، والتقوا على نصيبين فى ذى الحجة فانهزم ما كرد إلى الرّقّة ثم إلى بغداد، وانحدر ابن طباب أيضا، واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد وكتب إلى الخليفة يسأله الصّلح وأن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك. وفيها فى المحرم قلّد الراضى بالله ولديه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتى المشرق والمغرب مما/ بيده، وكتب بذلك إلى البلاد.
وفيها فى ليلة الثانى عشر من ذى القعدة انقضّت الكواكب انقضاضا دائما مستمرا من أوّل الليل إلى آخره، وهى الليلة التى أوقع القرمطى فيها بالحجاج.
وفيها مات محمد بن ياقوت فى الحبس، وانهم ابن مقلة أنه سمه وأطلق أخوه المظفر من الحبس بشفاعة ابن مقلة، وحلف للوزير أنه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له ولا لولده بمكروه فلم يف له.
وفيها أرسل الوزير ابن مقلة رسولا إلى محمد بن رائق بواسط وكان قطع الحمل عن الخليفة فطالبه بارتفاع أموال واسط والبصرة(23/132)
وما بينهما فأحسن إلى رسوله وردّه برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة يغالطه، وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضى بالله مضمونها أنه إن استدعى إلى الحضور وفوّضت إليه الأمور وتدبير الدولة، فام بجميع ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند. ولما سمع الخليفة، لم يعد إليه جوابها.
ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة:
ذكر القبض على الوزير ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى وغيره
فى هذه السنة عزم الوزير على المسير إلى ابن رائق لما عاد رسوله/ بغير مال، وحضر إلى دار الراضى فى منتصف جمادى الأولى. فلما حضر الدّار قبض عليه المظفر بن ياقوت والحجرية وأعلموا الراضى بذلك، فوافق رأيه فيه، واستحسن فعلهم «1» . واختفى أبو الحسين بن أبى على بن مقلة الوزير، وسائر أولاده، وحرمه وأصحابه. وطلب الحجرية والساجية من الخليفة أن يشير بوزير فردّ الاختيار إليهم، فأشاروا بوزارة على بن عيسى، فأحضره الراضى بالله، فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره. وسلّم إليه ابن مقلة فصادره، ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه المال فاستعفى من الوزارة وقبض عليه وعلى أخيه علىّ فى سابع شهر رجب، واستوزر أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخى،(23/133)
وخلع عليه وسلّم إليه على بن عيسى فصادره على مائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بسبعين «1» ألف دينار.
وفيها قتل ياقوت، وعظم البريدى وإخوته، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عزل أبى جعفر ووزارة سليمان بن الحسن «2»
قال «3» : ولما تولى أبو جعفر الكرخى الوزارة رأى قلة الأموال وانقطاع/ المواد فعجز عن تدبير الحال، وضاق الأمر عليه، وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البريدى حمل الأهواز وأعمالها. وكان ابن بويه قد تغلب على فارس، فتحير أبو جعفر وكثرت المطالبات عليه ونقصت هيبته، فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فاستوزر الراضى أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان فى الوزارة كأبى جعفر فى وقوف الحال وقلة المال «4» ! ذكر استيلاء ابن رائق على العراق وتغلب الملوك على الأعمال وخروجهم عن الطاعة وتغير أحوال الوزارة وإبطال الدواوين قال «5» : لما رأى الراضى بالله وقوف الحال بالحضرة ألجأته(23/134)
الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمد بن رائق وهو بواسط يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد. فلما أتاه الرسول فرح بذلك وشرع يتجهز للمسير إلى بغداد، فأنفذ إليه الراضى بالله الساجية وقلّده إمارة الجيش وجعله أمير الأمراء وولّاه الخراج والمعاون فى جميع البلاد والدواوين.
وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه الخلع وانحدر إليه أصحاب الدواوين/ والكتّاب والحجّاب وتأخر الحجرية. فلما استقر الذين نزلوا إلى واسط بها قبض على الساجية فى ذى الحجة ونهب أموالهم ودوابّهم، وأظهر أنه إنما فعل ذلك لتتوفّر أرزاقهم على الحجرية، فاستوحش الحجرية من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغد لنا وخيّموا بدار الخلافة. وصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم، فخلع الخليفة عليه فى أواخر ذى الحجة، وأتاه الحجرية يسلّمون عليه فأمرهم بقلع خيامهم فقلعوها وعادوا إلى منازلهم.
وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، فلم يكن الوزير ينظر فى شىء من الأمور، إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران فى الأمور جميعها «1» ، وكذلك كل من تولّى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تحمل إلى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون، وبطلت بيوت الأموال. وتغلب أصحاب الأطراف وخلعوا الطاعة، ولم يبق بيد الخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم فى جميعها لابن رائق ليس(23/135)
للخليفة حكم. وأما باقى الأطراف فكانت البصرة بيد ابن رائق، وخوزستان والأهواز فى يد البريدى، وفارس فى يد عماد الدّولة ابن بويه، وكرمان فى يد أبى محمد على بن إلياس، والرى وأصفهان والجبل فى يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكير أخى مرداويج يتنازعان عليها،/ والموصل وديار بكر ربيعة ومضر فى يد بنى حمدان، ومصر والشام فى يد إلاخشيد أبى بكر محمد بن طغج والمغرب وأفريقية فى يد أبى القاسم القائم بأمر الله بن المهدى، والأندلس فى يد عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموى، وخراسان وما وراء النهر فى يد نصر بن أحمد السامانى، وطبرستان وجرجان فى يد الدّيلم، والبحرين واليمامة فى يد أبى طاهر القرمطى «1» .
ذكر وزارة الفضل بن جعفر [ابن الفرات]
«2» قال «3» : ولما ولى ابن رائق كتب كتابا عن الراضى بالله إلى أبى الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات يستقدمه للوزارة. وكان يتولى الخراج بمصر والشام، فظن ابن رائق أنه إن استوزر جبى له أموال الشام ومصر، فنفذت إليه الخلع قبل وصوله فلقيته بهيت، فلبسها ودخل بغداد وتولى وزارة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعا.
ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة:(23/136)
ذكر مسير الراضى بالله لحرب البريدى
فى هذه السنة أشار ابن رائق على الراضى بالله بالانحدار/ معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل أبا عبد الله البريدى، فإن أجاب إلى ما يطلب منه وإلا قرّب قصده عليه، فأجاب الراضى بالله إلى ذلك. وانحدر أول المحرم فخالف الحجرية وقالوا:
هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجية! فلم يلتفت ابن رائق إليهم، وانحدر ومعه بعضهم، ثم انحدروا بعده.
فلما صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق فأسقط أكثرهم، فاضطربوا وثاروا فقاتلهم قتالا شديدا، فانهزم الحجرية وقتل منهم جماعة. ولما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشرطية ببغداد، ولقيهم وأوقع بهم، فاستتروا، فنهبت دورهم وقبضت أملاكهم، وقطعت أرزاقهم.
ولما فرغ ابن رائق منهم قتل من كان قد اعتقله من الساجية سوى صافى الخازن وهارون بن موسى، ثم أخرج مضاربه ومضارب الراضى بالله نحو الأهواز، وراسل البريدىّ فى تأخير الأموال وما قد ارتكبه من الاستبداد وإفساد الجيوش إلى غير ذلك، ثم قال له بعد ذلك: إنه إن حمل الواجب عليه وسلّم الجند الذين أفسدهم أقرّ على عمله وإن أبى قوبل بما يستحق. فلما سمع الرسالة جدّد ضمان الأهواز فى كل سنة بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار يحمل كل شهر بقسطه وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من/ يؤمر بتسليمه إليه، ممن يسير بهم إلى قتال ابن بويه إذ كانوا(23/137)
كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة. فعقد عليه الضمان وعاد الراضى وابن رائق إلى بغداد فدخلاها فى ثامن صفر، وكان هذا القول من البريدى خديعة ومكرا؛ فإنه ما حمل من المال درهما واحدا ولا سلّم الجيش.
قال «1» : ثم سعى ابن مقاتل عند ابن رائق فى عزل وزيره الحسين بن على النّوبختى، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريدى وأن يجعله وزيرا، وبذل له ثلاثين ألف دينار، فأجاب ابن رائق إلى ذلك بعد امتناع شديد وأمر ابن مقاتل أن يكتب إلى البريدىّ أن يرسل من ينوب عنه فى وزارته فكتب إليه بإنفاذ أحمد الكوفى لينوب عنه فى وزارة محمد بن رائق فأنفذه واستولى على الأمور هو وابن مقاتل، وشرعا فى تضمين البصرة من أبى يوسف أخى أبى عبد الله البريدى. فامتنع ابن رائق فخدعاه حتى أجاب إليه، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمد بن يزداد، وقد أساء السيرة وظلم أهلها، فوعدهم يوسف ومنّاهم وذمّ ابن رائق عنده بما كان يفعله ابن يزداد، فدعوا له. ثم أنفذ أبو عبد الله البريدىّ غلامه إقبالا فى ألفى رجل وأمرهم بالمقام بحصن مهدى إلى أن يأمرهم بأمره، فلما علم ابن يزداد بهم علم أن البريدىّ يريد/ التغلّب على البصرة، وأمر البريدىّ بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة، فاطمأنوا وقاتلوا معه عسكر ابن(23/138)
رائق، ثم عطف عليهم بعد ذلك وعمل بهم أعمالا تمنّوا أيام ابن رائق وعدّوها أعيادا!
ذكر الوحشة بين محمد بن رائق والبريدى والحرب بينهما
فى هذه السنة ظهرت الوحشة بينهما، وكان لذلك أسباب منها أن ابن رائق لما عاد إلى بغداد أمر بظهور من اختفى من الحجرية، واستخدم منهم نحو ألفى رجل، وأمر من بقى بطلب أرزاقهم؛ فخرجوا [من بغداد] والتحقوا بأبى عبد الله البريدىّ فأكرمهم وأحسن إليهم وذمّ ابن رائق وعابه، وكتب إلى بغداد يقول: إنى خفتهم فلهذا قبلتهم! وجعلهم طريقا إلى قطع ما استقر عليه من المال، وذكر أنهم اتفقوا مع الجيش الذى عنده ومنعوه من حمل المال؛ فأنفذ إليه ابن رائق يلزمه بإيفادهم فاعتذر ولم يفعل.
ومنها أنه بلغه ما ذمّه به عند أهل البصرة فساءه ذلك وبلغه مقام إقبال فى جيشه بحصن مهدى فعظم عليه، فأمر الكوفى أن يكتب/ إلى البريدى يعاتبه على هذه الأشياء ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهدىّ، فكتب إليه فى ذلك فأجاب «أن أهل البصرة يخافون القرامطة وأنّ ابن يزداد عاجز عن حمايتهم وقد تمسكوا لخوفهم بأصحابى» فسار ابن رائق إلى واسط فبلغ البريدى، فكتب إلى عسكره بحصن مهدىّ يأمرهم بدخول البصرة وقتال من منعهم «1» ،(23/139)
وأنفذ إليهم جماعة من الحجرية فقدموا وقاتلوا ابن يزاداد مرة بعد أخرى وهزموا إلى الكوفة، فكتب ابن رائق إلى البريدىّ يأمره بإعادة أصحابه من البصرة وتهدّده إن لم يفعل، فاعتذر إليه وغالطه!
ذكر استيلاء بجكم على الأهواز وخروج ابن البريدى منها
قال «1» : ولما وصل جواب رسالة ابن البريدىّ إلى محمد بن رائق بالمعالطة عن إعادة جنده من البصرة استدعى بدرا الخرشنى وخلع عليه وعلى بجكم وسيّرهما فى جيش وأمرهما أن يقيما بالجامدة، فبادر بجكم ولم يتوقف على بدر وسار إلى السوس، فأخرج إليه البريدىّ جيشا مع غلامه المعروف بالحمال عدته ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا بظاهر السوس. وكان مع/ بجكم مائتان وسبعون رجلا من الأتراك فانهزم أصحاب البريدى وعادوا إلى صاحبهم فضرب الحمال وسبّه ووبّخه على انهزامه ثم ردّه وأضاف إليه من لم يشهدوا الواقعة فبلغوا ستة آلاف رجل.
فلما التقوا انهزموا من غير قتال، فلما رآهم البريدى ركب هو وإخوته ومن يلزمه فى سفينة «2» ومعه ما بقى عنده من المال وهو ثلاثمائة ألف دينار فغرقت السفينة بهم، فأخرجهم الغواصّون وقد كادوا يهلكون، وأخرج الغواصون باقى المال لبجكم ووصل(23/140)
أولاد البريدى إلى البصرة وأقاموا بالأبلة «1» وأعدّوا المراكب للهرب إن هزم إقبال، وسيّر أبو عبد الله البريدى غلامه إقبالا إلى مطارا فالتقوا مع أصحاب ابن رائق فانهزمت الرائقية وأسر منهم جماعة فأطلقهم البريدى، وكتب إلى ابن رائق يستعطفه، وأرسل إليه جماعة من أعيان البصرة فلم يجبهم وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة ليكونوا معه، فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنها ويقتل كل من فيها فازدادوا بصيرة فى قتاله واطمأن البريدىّ وأقام بالبصرة.
ثم جهز ابن رائق جيشا آخر وسيّره فى البرّ وفى الماء، فالتقى عسكره الذى فى البرّ مع عسكر البريدى فانهزم الرائقية، وأما عسكر الماء فانهم استولوا على الكلاء «2» فلما رأى أبو عبد الله/ البريدى ذلك ركب فى السفن وهرب إلى جزيرة أوال، وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة فى عسكر يحميها. فخرج أهل البصرة مع أبى الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاء فقاتلوهم وأجلوهم عنه فسار ابن رائق بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم ليلحق به فأتاه فيمن عنده من الجند، فتقدّموا وقاتلوا أهل البصرة فاشتد القتال. فرجع ابن رائق وبجكم إلى معسكرهم، وأما أبو عبد الله البريدى فإنه سار إلى عماد(23/141)
الدولة بن بويه واستجار به وأطمعه فى العراق وهوّن عليه أمر الخليفة وابن رائق، فنفّذ معه أخاه معز الدولة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: «1» ولما سمع ابن رائق إقبالهم من فارس إلى الأهواز سيّر بجكم إليها، ثم قصد جماعة من أصحاب البريدىّ عسكر ابن رائق ليلا فصاحوا فى جوانبه، فانهزموا. فلما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريديون. وسار إلى الأهواز جريدة «2» وأقام بها أياما، وعاد إلى واسط وكان باقى عسكره قد سبقه إليها.
ودخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة:
ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز
/ فى هذه السنة سار معزّ الدّولة أبو الحسين بن بويه «3» إلى الأهواز وتلك النواحى فملكها، وسبب ذلك ما(23/142)
ذكرناه من مسير أبى عبد الله البريدى إلى عماد الدولة بن بويه وترك البريدى ولديه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفيّاض عند عماد الدولة رهينة. وساروا فبلغ الخبر بجكم بنزولهم أرّجان «1» ، فسار لحربهم فانهزم من بين أيديهم إلى الأهواز، ثم إلى واسط.
وأرسل إلى ابن رائق يعلمه الخبر ويقول له «إن العسكر يحتاج إلى المال فإن كان معك مائتا ألف درهم فأقم بواسط حتى نصل إليك وتنفق فيهم المال وإلا فالرأى أن تعود إلى بغداد» فعاد ابن رائق من واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط.
قال «2» : ودخل [معز الدولة] «3» بن بويه الأهواز فأقام بها خمسة وثلاثين يوما، ثم هرب البريدى خوفا منه على نفسه، وأمر جيشه الذين بالسوس فصاروا إلى البصرة، وكاتب معز الدولة أن يفرج له عن الأهواز حتى يتمكن من ضمانه؛ فإنه كان قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة فى كل سنة بثمانية عشر ألف ألف درهم. فرحل عنها عسكر مكرم «4» وأنفذ البريدى خليفته إلى الأهواز وأنفذ إلى معز الدولة يذكر خوفه ويطلب منه أن ينتقل إلى السوس ليبعد عنه ويأمن بالأهواز،(23/143)
فامتنع/ معز الدولة من ذلك وعلم بجكم بذلك فأنفذ جماعة من أصحابه واستولوا على السوس وجنديسابور وبقيت الأهواز بيد البريدى، ولم يبق مع معزّ الدّولة من كور الأهواز إلا عسكر مكرم فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأراد الرجوع إلى فارس فكتب إلى أخيه عماد الدّولة يعرّفه الحال فأنفذ إليه جيشا تقوّى بهم، وعاد استولى على الأهواز، وهرب البريدى إلى البصرة. واستقر ابن بويه بالأهواز، وبجكم بواسط طامعا فى الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، وهو لا يظهر ذلك.
قال «1» : ولمّا رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأمور أطمع ابن رائق فى مصر والشام، وصاهره وعقد بينه وبين ابن طغج عهدا وصهرا وقال لابن رائق: أنا أجبى لك مال مصر والشام إن سيرتنى إليهما! فسيره إلى الشام فى شهر ربيع الآخر.
ذكر الحرب بين بجكم والبريدى
والصلح بعد ذلك قال: «2» ولما أقام بجكم بواسط وعظم شأنه خافه ابن رائق أن يتغلّب على العراق، فراسل أبا عبد الله البريدى وطلب منه/ الصلح على بجكم، فإذا انهزم تسلّم البريدىّ واسطا وضمنها بستمائة ألف دينار فى السنة. فسمع بجكم بذلك(23/144)
فاستشار أصحابه فيما يفعله فأشاروا عليه أن يبتدئ بأبى عبد الله البريدىّ وأن لا يهجم إلى حضرة الخلافة ولا يكاشف ابن رائق إلا بعد الفراغ من البريدىّ. فجمع عسكره وسار إلى البصرة يريد البريدى، فسير أبو عبد الله البريدىّ جيشا بلغت عدّتهم عشرة آلاف رجل عليهم علامة أبو جعفر محمد الحمال، فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر البريدى فلم يتبعهم بجكم وكفّ عنهم. ثم أرسل إلى البريدى فى ثانى يوم الهزيمة يعتذر إليه مما جرى ويقول له: أنت بدأت وتعرّضت لى وقد عفوت عنك وعن أصحابك ولو تبعتهم لقتلت أكثرهم «1» ، وأنا أصالحك على أن أقلدك واسطا إن ملكت الحضرة وأصاهرك! فسجد البريدى شكرا لله تعالى وحلف لبجكم وتصالحا، وعاد إلى واسط وأخذ فى التدبير على ابن رائق
ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه
فى هذه السنة فى منتصف شوال قطعت يد الوزير أبى على بن مقلة «2» وكان سبب ذلك أنّ الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الراضى بالله أبا على/ بن مقلة وليس له من الأمر شىء، وإنما الأمر والنّهى لمحمد بن رائق.
وكان ابن رائق قد قبض على أموال ابن مقلة وأملاكه وأملاك ابنه،(23/145)
فخاطبه فى ردّها فلم يفعل، فاستمال أصحابه وسألهم مخاطبته فى ردّها فوعدوه ولم يفعلوا. فلما رأى ذلك سعى بابن رائق فكاتب بجكم يطمعه فى موضع ابن رائق، وكتب إلى وشمكير مثل ذلك، وكتب إلى الراضى بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق فأطمعه الراضى وهو كاره لما قاله، فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضى ويستحثه على الحركة والمجىء إلى بغداد. وطلب ابن مقلة من الراضى بالله أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتّفقا عليه، فأذن له فى ذلك فحضر متنكرا فى آخر ليلة من شهر رمضان. فلما حضر إلى دار الخلافة لم يصل إلى الراضى وأمر باعتقاله فاعتقل فى حجرة.
فلما كان من الغد أرسل الراضى إلى ابن رائق يعرفه الحال، وعرض عليه خطّ ابن مقلة، وما زالت الراسل تتردد بينهما فى المعنى إلى منتصف شوال، فأخرج ابن مقلة من محبسه وقطعت يده، وعولج فبرأ.
ثم كاتب الراضى يخطب الوزارة ويذكر/ أنّ قطع يده لم يمنعه من عمله، وكان يشدّ القلم على يده المقطوعة ويكتب، فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك فقال: إن وصل بجكم فهو يستخلصنى وأكافئ ابن رائق! وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده، فوصل خبره إلى الراضى بالله وابن رائق فأمر(23/146)
بقطع لسانه، ثم نقل فى محبس ضيّق ولم يكن عنده من يخدمه، فآلت به الحال إلى أن كان يستقى الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه وناله شقاء شديد إلى أن مات فى حادى عشر شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ودفن بدار الخلافة ثم إن أهله سألوا فنبش وسلّم إليهم فد فنوه، ثم نبشته زوجته ودفنته فى دارها. ومن العجب أنه ولى الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لئلاثة خلفاء وسافر ثلاث سفرات اثنتين منفيا إلى شيراز وواحدة إلى الموصل فى وزارته، ودفن بعد موته ثلاث مرات وخصّ به من خدمه ثلاثة، وكان فى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فى شهر ربيع الآخر ضرب ابن شنّبوذ «1» سبع درر لقراءات أنكرت عليه، فدعا عليه بقطع اليد وتشتيت الشّمل، فاستجاب الله له!
ذكر استيلاء بحكم على بغداد
وشىء من أخباره وكيف تنقّلت به الحال إلى أن بلغ هذه الرتبة «2» قال ابن الأثير الجزرى فى تاريخه الكامل «3» : كان بجكم هذا(23/147)
من غلمان أبى العارض وزير ماكان بن كالى الدّيلمى فطلبه ما كان منه فوهبه له، ثم فارق ما كان مع من فارقه. من أصحابه، والتحق بمرداويج، وكان من جملة من قتله، وسار إلى العراق والتحق بمحمد بن رائق. وكان من أمره ما ذكرناه، فلما استقر بواسط تعلقت همته بالاستيلاء على حضرة الخليفة، وهو مع ذلك يظهر التبعية لابن رائق، وكان على أعلامه وتراسه بجكم الرائقى. فلما وصلته كتب [الوزير] «1» ابن مقلة تذكر أنه استقرّ مع الراضى أن يقلده إمرة الأمراء زاد طمعه فى ذلك وكاشف ابن رائق وقلع نسبته إليه من أعلامه، وسار من واسط نحو بغداد فى غرة ذى القعدة. واستعدّ ابن رائق لحربه وسأل الراضى أن يكتب إلى بجكم يأمره بالعود إلى واسط، فكتب إليه فلما قرأ الكتاب ألقاه من يده وسار حتى نزل شرقى نهر ديالى. وكان أصحاب ابن رائق على غير تعبئة، فألقى أصحاب بجكم نفوسهم فى الماء فانهزم أصحاب ابن رائق، وعبر أصحاب بجكم وساروا إلى بغداد، وخرج/ ابن رائق عنها إلى عكبرا. وكان دخول يجكم بغداد فى ثالث عشر ذى القعدة، ولقى الراضى من الغد وخلع عليه وجعله أمير الأمراء، وكتب كتابا عن الراضى إلى القواد الذين كانوا مع إبن رائق بالرجوع إلى بغداد، ففارقوه جميعهم وعادوا. فلما رأى ابن رائق ذلك عاد(23/148)
إلى بغداد واستتر، فكانت مدة إمارته سنة واحدة وعشرة أشهر وستة عشر يوما.
ودخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة:
ذكر مسير الراضى بالله وبجكم الى الموصل وظهور ابن رائق ومسيره إلى الشام
فى هذه السنة فى المحرم سار الراضى وبجكم إلى الموصل وديار ربيعة لقصد ناصر الدّولة ابن حمدان، فإنه كان قد أخّر المال المقرّر عليه من ضمان البلاد، فلما بلعا تكريت «1» أقام الراضى بها وسار بجكم، فلقيه [ناصر الدولة] «2» بن حمدان على ستّة فراسخ من الموصل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم ابن حمدان إلى نصيبين وتبعه بجكم إليها، فسار إلى آمد ثم وقع الصّلح بينهما على أن يحمل ابن حمدان خمسمائة ألف درهم معجلة فأجابه إلى ذلك.
قال «3» : وفى هذه الغيبة ظهر ابن رائق ببغداد واستولى عليها ولم يتعرض لدار الخليفة/ فعاد الراضى وبجكم إليها فراسلهما ابن رائق فى طلب الصلح فأجابا إلى ذلك، فعقد له الخليفة على طريق الفرات، وديار مضر حرّان والرّها وما(23/149)
جاورهما، وجند قنسرين والعواصم، فأجاب ابن رائق أيضا وسار عن بغداد إلى ولايته، ودخل الراضى وبجكم بغداد فى تاسع شهر ربيع الآخر، ثم استولى ابن رائق على الشام وملك مدينة حمص ثم سار إلى دمشق وبها بدر بن عبد الله الإخشيدى المعروف ببدير واليا عليها من قبل الإخشيد، فأخرجه ابن رائق وملكها. وسار إلى الرّملة وإلى عريش مصر يريد الدّيار المصرية، فلقيه الإخشيد وحاربه فانهزم الإخشيد. واشتغل أصحاب ابن رائق بالنّهب ونزلوا فى خيم الإخشيدية، فخرج عليهم كمين للإخشيد فأوقع بهم وهزمهم، فنجا ابن رائق فى سبعين رجلا ووصل إلى دمشق فى أقبح صورة.
فسيّر إليه الإخشيد أخاه أبا نصر بن طغج فى جيش كثيف، فالتقوا فى رابع ذى الحجة سنة ثمان وعشرين فانهزم الإخشيديون وقتل أبو نصر فأخذه ابن رائق وكفّنه وحمله إلى أخيه بمصر، وأنفذ معه ابنه مزاحما، وكتب إلى الإخشيد يعزّيه بأخيه ويعتذر مما جرى ويحلف أنه ما أراد قتله، وأنه قد أنقذ ابنه ليقيده به إن أحبّ ذلك،/ فلقى الإخشيد مزاحم بن محمد بن رائق بالجميل وخلع عليه وردّه إلى أبيه واصطلحا، على أن تكون الرّملة وما وراءها إلى مصر للإخشيد وباقى الشام لمحمد بن رائق، ويحمل إليه الإخشيد عن الرّملة فى كلّ سنة مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار.
نعود إلى أخبار الراضى وبجكم.(23/150)
ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى
للخليفة الراضى بالله وفى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة سعى أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد «1» وزير بجكم فى الصلح بين بجكم والبريدىّ «2» حتّى تمّ وضمن البريدىّ أعمال واسط بستمائة ألف دينار فى كل سنة. ثم شرع ابن شيرزاد فى تقليد البريدىّ الوزاره، فأرسل إليه الراضى فى ذلك فأجاب إليه، وذلك فى شهر رجب واستناب بالحضرة عبد الله بن على النقرى.
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى: «3» كان الحج قد بطل من سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فلم يحج أحد من العراق، فلما كان فى هذه السنة كاتب أبو على عمر بن يحيى العلوى القرامطة وسألهم أن يؤمّنوا الحاج ليسيربهم ويعطيهم عن كل جمل خمسة دنانير ومن المحمّل سبعة دنانير، فأذنوا له فى الحج فحج الناس.
وهى أوّل سنة مكس «4» فيها الحاجّ. وخرج فى تلك السنة القاضى أبو على بن أبى هريرة الشافعى فلما طولب بالخفارة لوى راحلته(23/151)
ورجع وقال: لم أرجع شحا على الدراهم ولكن قد سقط الحج بهذا المكس! ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة: فى هذه السنة سار ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى واسط فنزل بالجانب الشرقى، وكان البريدى بالجانب الغربىّ فاستأمن من أصحاب ابن بويه مائة إلى البريدى «1» . ثم سار الراضى وبجكم من بغداد نحو واسط يريدان حرب ابن بويه فاد إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز «2» .
وفيها استولى بجكم على واسط فى ذى الحجة، وسار إليها ففارقها ابن البريدى إلى البصرة، وأسقط بجكم اسم البريدى من الوزارة، وجعل مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد.
ودخت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر وفاة الراضى بالله وشىء من أخباره
كانت وفاته فى منتصف شهر ربيع الأول من هذه السنة، وكانت مدة خلافته ستّ سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وعمره/ اثنتان وثلاثون سنة وأشهرا «3» ، وكانت علّته الاستسقاء، وكان أديبا شاعرا، فمن شعره:(23/152)
يصفرّ وجهى إذا ما تأمّله ... طرفى ويحمرّ وجهه خجلا
حتى كأنّ الذى بوجنته ... من دم جسمى إليه قدنقلا «1»
وقال يرثى أباه المقتدر بالله:
ولو أنّ حيّا كان قبرا لميّت ... لصيّرت أحشائى لأعظمه قبرا
ولو أن عمرى كان طوع مشيئتى ... وساعدنى التقدير قاسمته العمرا
بنفسى ثرى ضاجعت فى تربة البلى ... لقد ضمّ منك الغيث والليث والبدرا
وكان سمحا سخيا، يحبّ محادثة الأدباء والفضلاء. وكان الراضى بالله أسمر أعين، خفيف العارضين. وختم الخلفاء فى عدّة أشياء فمنها أنه آخر خليفة له شعر يدوّن، وآخر خليفة خطب على المنبر كثيرا- وإن كان غيره خطب نادرا- وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل النّدماء، وآخر خليفة كانت [له] «2» نفقاته وجوائزه وعطاياه وخزائنه ومطابخه وجراياته وخدّامه وحجّابه وأموره على ترتيب الخلفاء المتقدمين «3» . وكان له من الأولاد أبو جعفر أحمد، وأبو الفضل عبد الله.
وزراوه: أبو على بن مقلة، وابنه الحسن، ثم عبد الرحمن بن عيسى، ثم محمد بن القاسم الكرخى، ثم سليمان بن الحسين بن(23/153)
مخلد، ثم الفضل بن جعفر بن الفرات، ثم أبو عبد الله البريدى.
قضائه: عمر بن محمد بن يوسف، ثم ابنه يوسف بن عمر حجابه: محمد بن ياقوت، وذكا مولاه الأمير بمصر: الإخشيد محمد بن طعج بن جفّ الفرغانى القضاة بها: محمد بن الحسن بن أبى الشوارب من قبل الراضى واستخلف أبا بكر محمد بن بدر «1» ، ثم صرفه بعبد الرحمن بن أحمد بن الزين، ثم ولّى الإخشيد الحسين بن محمد بن أبى زرعة القضاء، واستخلف له أبا بكر محمد بن أحمد بن الحدّاد الشافعى، ثم ورد العهد للحسين بن محمد بن أبى زرعة من قبل محمد بن أبى الشوارب، ثم صرفه محمد بأبى نصر يوسف بن عمر بن أبى عمر القاضى، وأقرّ الحسين بن أحمد إلى أن توفى وأبو بكر بن الحداد خليفته، ثم صرف يوسف بن عمر عن قضائها بمحمد بن أبى الشوارب واستخلف أحمد بن بدر ثانية، ثم صرف ابن أبى الشوارب بالحسين بن عيسى بن هارون فأقرّ محمد بن بدر، ثم عاد ابن أبى الشوارب فاستخلف عبيد الله بن أحمد بن رزين، ثم استخلف عبد الله بن الوليد من قبل الحسين بن على
ذكر خلافة المتقى لله
هو أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله، وأمّه أم ولد اسمها خلوب. وهو الخليفة الحادى(23/154)
والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
قال «1» : ولما مات الراضى بالله بقى الأمر فى الخلافة موقوفا انتظارا لورود خبر من بجكم، فإنه كان بواسط واحتيط على دار الخلافة. فورد كتاب بجكم مع كاتبه أبى العباس عبد الله الكوفى يأمر فيه بأن يجتمع مع أبى القاسم سليمان بن الحسن وزير الرّاضى وكلّ من تقلّد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والعباسيون والقضاة ووجوه البلد ويشاورهم الكوفى فيمن ينصب للخلافة ممّن يرضى مذهبه وطريقه. فجمعهم الكوفى واستشارهم، فذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر وتفرّقوا على هذا، فلما كان الغد اتّفق النّاس عليه فأحضروه إلى دار الخلافة وبويع له فى التاريخ الذى تقدم، وعرضت عليه ألقاب فاختار منها المتقى لله. وبايعه/ الناس كافّة وسيّر الخلع واللواء إلى بجكم بواسط «2» وكان بجكم بعد موت الراضى وقبل استخلاف المتقى أرسل إلى دار الخلافة أخذ منها فرشا وآلات كان يستحسنها، وجعل سلامة الطولونى حاجبه، وأقرّ سليمان بن الحسين على وزارته وليس له من الوزارة إلا اسمها والتدبير كله للكوفى كاتب بجكم «3» .(23/155)
ذكر مقتل بجكم
كان سبب قتله أن أبا عبد الله البريدى أنفذ جيشا من البصرة إلى المذار، فأنفذ بجكم جيشا إليهم عليه توزون «1» فاقتتلوا قتالا شديدا. كانت الحرب أولا على توزون فكتب إلى بجكم أن يلحق به فسار من واسط فى منتصف شهر رجب، فلقيه كتاب توزون «أنه ظفر بهم وهزمهم» فأراد الرجوع إلى واسط، فأشار عليه بعض أصحابه أن يتصيّد فقبل منه وتصيّد حتى بلغ نهر جور «2» ، فسمع أن هناك أكرادا لهم مال وثروة فشرهت نفسه فى أموالهم فقصدهم فى قلة من أصحابه وهو بغير جنّة «3» تقيه، فهرب الأكراد من بين يديه فأتاه غلام من الأكراد من خلفه وطعنه فى خاصرته فقتله وهو لا يعرفه، وذلك لأربع بقين من شهر رجب/ واختلف عسكره فمضى الدّيلم خاصة نحو البريدى- وكانوا ألفا وخمسمائة- فأحسن إليهم وأضعف أرزاقهم وأوصلها إليهم دفعة واحدة، وعاد الأتراك إلى واسط وكان تكينك محبوسا بها- حبسه بجكم- فأخرجوه فسار بهم إلى بغداد وأظهروا طاعة المتقى. وصار أبو الحسين أحمد بن ميمون يدبّر الأمور.
قال «4» : واستولى المتقى لله على دار بجكم وأخذ ما فيها،(23/156)
وكان مبلغ ما أخذه من دفائنه ألف ألف ومائتى ألف دينار «1» ، وكانت مدة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام
ذكر اصعاد أبى عبد الله البريدى الى بغداد
قال «2» : لما قتل بجكم وسارت الدّيلم إلى [أبى عبد الله] «3» البريدى تقوّى بهم وعظمت شوكته، فأصعدوا من البصرة إلى واسط فى شعبان، فأرسل المتقى إليهم يأمرهم أن لا يصعدوا فقالوا:
نحن محتاجون إلى مال! فأنفذ إليهم مائة ألف وخمسين ألف دينار، فقال الأتراك للمتقى: نحن نقاتل بنى البريدىّ فأطلق لنا مالا وانصب لنا مقدّما! فأنفق فيهم وفى جند بغداد القدماء أربعمائة ألف دينار وجعل عليهم سلامة الطولونى، وبرزوا مع المتقى لله إلى نهر ديالى «4» يوم الجمعة لثمان بقين من شعبان. وسار البريدى من واسط إلى بغداد، فلما قرب منها اختلفت الأتراك البجكمية، واستأمن بعضهم إلى البريدى، وبعضهم [استتر] «5» وسار إلى الموصل، واستتر سلامة الطولونىّ وأبو عبد الله الكوفى، ولم يحصل الخليفة(23/157)
إلا على أخراج المال «1» . وهمّ أرباب النّعم والأموال بالانتقال من بغداد خوفا من ظلم البريدى وتهوّره.
ودخل أبو عبد الله البريدى إلى بغداد فى ثانى شهر رمضان ونزل بالشفيعى، ولقيه الوزير أبو الحسين والقضاة والكتّاب وأعيان الناس. وأنفذ إليه المتقى يهنّئه بالسلامة، وأنفذ له طعاما وغيره عدّة ليال، وكان يخاطب بالوزير، وكذلك أبو الحسين بن ميمون وزير الخليفة، ثم عزل أبو الحسين، وكانت مدة وزارته ثلاثة وثلاثين يوما، وقبض عليه وسيّره إلى البصرة فحبسه بها إلى أن مات فى صفر سنة ثلاثين.
قال «2» : ثم أنفذ البريدىّ إلى المتقى لله يطلب منه خمسمائة ألف دينار ليفرّقها فى الجند، فامتنع فأرسل إليه يتهدّده ويذكّره بما جرى على المعتز والمستعين والمهتدى، وترددت الرسائل حتى أنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار، ولم يلق أبو عبد الله البريدىّ المتّقى مدة مقامه ببغداد «3» .
ذكر عود البريدى الى واسط هاربا
قال «4» : كان البريدى يأمر الجند بطلب الأموال من الخليفة، فلما أنفذ إليه الخليفة المال انصرفت أطماع الجند عن الخليفة(23/158)
إلى البريدى، فشغب الجند عليه. وكان الديلم قد قدّموا على أنفسهم كورتكين الديلمى، وقدّم الأتراك عليهم تكينك التركى غلام بجكم. وسار الدّيلم إلى دار البريدى فأحرقوا دار أخيه أبى الحسين التى كان ينزلها، وانضاق تكينك التركى إليهم واتفقوا على قصد البريدىّ ونهب ما عنده. فساروا إلى النجمى ووافقهم العامة، فقطع البريدىّ الجسر ووقعت الحرب فى الماء ووثب العامّة بالجانب العربى على أصحاب البريدىّ، فهرب هو وإخوته وابنه وانحدروا فى الماء إلى واسط، ونهبت داره ودور قواده، وكان هربه فى سلخ شهر رمضان من السنة.
ذكر امارة كورتكين الديلمى
لما هرب البريدى استولى كورتكين الديلمى على الأمور ببغداد، ورحل إلى المتقى لله فقلّده إمارة الأمراء، وخلع عليه.
واستدعى المتقى/ علىّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن، فأمر عبد الرحمن فدبّر الأمر من غير تسميته بوزارة، ثم قبض كورتكين على تكينك «1» التركى فى خامس شهر شوال وغرّقه وتفرّد بالأمر. ثم اجتمع العامّة يوم الجمعة سادس شوال وتظلموا من الدّيلم ونزولهم فى دورهم فلم ينكر ذلك، فمنعوا الخطيب من الصلاة واقتتلوا هم والدّيلم فقتل من الفريقين جماعة.(23/159)
ذكر عود محمد بن رائق الى بغداد وولايته إمرة الأمراء
كان سبب عوده أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون، فساروا نحو الشام إلى ابن رائق، وكان فيهم من القوّاد توزون وجخجخ ونوشتكين وصيغون. فلما وصلوا إليه أطمعوه فى العود إلى العراق، ثم وصل إليه كتب المتقى تستدعيه، فسار من دمشق فى العشرين من شهر رمضان واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن على بن مقاتل، وسار حتّى وصل إلى الموصل فتنحّى عن طريقه ناصر الدولة.
ابن حمدان، ثم تراسلا وتصالحا على مائة ألف دينار يحملها [ناصر الدولة] «1» ابن حمدان إليه.
وسار ابن رائق إلى بغداد، وخرج كورتكين إلى عكبرا، ووصل/ إليه ابن رائق فوقعت الحرب بينهما عدّة أيام. فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذى الحجة سار ابن رائق ليلا من عكبرا هو وجيشه فأصبح ببغداد، فدخلها من الجانب الغربى، ونزل فى النجمى، وعبر من الغد إلى الخليفة فلقبه، وركب المتقى معه.
ووصل فى هذا اليوم بعد الظهر كورتكين من الجانب الشرقى بجميع جيشه وهم يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون:
أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام؟ ولما دخل كورتكين(23/160)
بغداد أيس «1» ابن رائق من ولايتها وعزم على العود، وأمر بحمل أثقاله فرفعت، ثم عزم على أن يناوشهم شيئا من قتال قبل مسيره، فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم. ثم ركب هو فى سميرية وركب معه عدّة من أصحابه فى عشرين سميرية ووقفوا يترامون بالنشاب، ووصل أصحابه وصاحوا من خلفهم، واجتمعت العامة وصاحوا على أصحاب كورتكين فانهزم هو وأصحابه واختفى هو. ورجمتهم العامّة بالآجرّ وغيره، وقوى أمر ابن رائق، وقتل من أساء إليه من الدّيلم وكانوا نحو أربعمائة، وقتل من قوادهم بضعة عشر رجلا، وخلع عليه المتقى وجعله أمير الأمراء، ثم ظفر بكورتكين فحبسه بدار الخليفة.
وفى هذه السنة فى شوال استوزر المتقى لله/ أبا إسحاق محمد ابن أحمد الإسكافى المعروف بالقراريطى بعد عود البريدى، وجعل بدرا الخرشنى «2» حاجبه، فبقى وزيرا إلى الخامس والعشرين من ذى القعدة فقبض عليه كورتكين واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخى، فبقى وزيرا إلى الثامن والعشرين من ذى الحجة منها فعزله ابن رائق، ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد الكوفى كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة.(23/161)
وفيها انقطع الغيث بالعراق فاستسقى الناس فى شهر ربيع الأول فسقوا مطرا قليلا لم يجر منه ميزاب، فاشتد الغلاء والوباء وكثر الموت حتى دفن الجماعة فى القبر الواحد من غير غسل ولا صلاة عليهم، ورخص العقار والأثاث ببغداد حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم، وانقضى تشرين الأول وتشرين الثانى وكانون الأول وكانون الثانى وشباط الأول ولم يمطر الناس غير المطرة التى كانت عند الاستسقاء، ثم جاء المطر فى آذر ونيسان.
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى فى سبب هذا المطر بسند رفعه إلى أبى محمد الصّليحى «1» الكاتب أنه قال: لما نادى المتقى فى زمن خلافته فى الأسواق أن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته: إنّ امرأة صالحة رأت النبىّ صلى الله عليه وسلم فى منامها فشكت/ احتباس المطر فقال لها: «قولى للناس يخرجون فى يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون ويدعون فإنه يسقيهم فى يومهم» وإن أمير المؤمنين يأمركم كما أمركم رسول الله صلى الله وسلم عليه، وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نيّاتكم وإقلاع عن ذنوبكم- قال- فأخبرنى الجمّ الغفير «2» أنهم لما سمعوا النداء ضجّت الأسواق بالبكاء والدعاء، فشق ذلك علىّ وقلت: «منام امرأة لا ندرى ما تأويله، هل يصحّ أم لا، ينادى به فى الأسواق فى مدينة السلام، فإن لم يسقوا كيف يكون(23/162)
حالنا مع الكفار؟ فليته أمر الناس بالخروج ولم يذكر هذا» وما زلت قلقا حتى أتى يوم الثلاثاء فقيل لى: إن الناس قد خرجوا إلى المصلى مع أبى الحسين أحمد بن الفضل بن عبد الملك إمام الجامع، وخرج أكثر أصحاب السلطان والفقهاء والأشراف، فلما كان قبل الظهر ارتفعت «1» سحابة ثم طبقت الآفاق ثم أسلمت غزالتها «2» بمطر جود، فرجع الناس حفاة من الوحل.
ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة
ذكر وزارة أبى عبد الله البريدى
/ فى هذه السنة وزر أبو عبد الله البريدى للخليفة المتقى لله، وسبب ذلك أن ابن رائق استوحش منه لأنه أخّر حمل المال وانحدر إلى واسط عاشر المحرم، فهرب البريدى إلى البصرة وسعى أبو عبد الله الكوفى للبريدى وإخوته حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار، وضمنوها كلّ سنة بستمائة ألف دينار. وعاد ابن رائق إلى بغداد فشغب الجند عليه ثانى شهر ربيع الآخر وفيهم توزون وغيره من القواد، وتوجّهوا إلى البريدى فى العشر الآخر من شهر ربيع الآخر بواسط، فقوى بهم فاحتاج ابن رائق إلى مداراته فكاتبه بالوزارة، وأنفذ إليه(23/163)
الخلع واستخلف أبا عبد الله بن شيرزاد. ثم وردت الأخبار إلى بغداد فعزم البريدىّ على الإصعاد إلى بغداد، فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه، وأعاد أبا إسحاق القراريطى ولعن بنو البريدى على المنابر بجانبى بغداد.
ذكر استيلاء البريدى على بغداد وإصعاد المتقى لله إلى الموصل
قال «1» : وسير أبو عبد الله البريدى أخاه أبا الحسين إلى بغداد فى/ جميع الجيش من الأتراك والدّيلم، فعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخلافة، فأصلح سورها ونصب عليها العرادات «2» والمجانيق وعلى دجلة، وأنهض العامة وجنّد بعضهم؛ فثاروا فى بغداد وأحرقوا ونهبوا، وأخذوا الناس ليلا ونهارا. وخرج المتقى لله وابن رائق إلى نهر ديالى فى منتصف جمادى الآخرة، ووافاهم أبو الحسين فى الماء والبر، واقتتل النّاس فانهزم أهل بغداد، واستولى أصحاب البريدىّ على دار الخلافة ودخلوا إليها من الماء، وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة. وهرب المتّقى وابنه الأمير أبو منصور فى نحو عشرين فارسا، ولحق بهما ابن رائق فى جيشه، وساروا جميعا إلى الموصل.
وقتل أصحاب البريدىّ من وجدوه فى دار الخليفة من الحاشية، ونهبوا دور الحرم، وكثر النّهب فى بغداد ليلا ونهارا.(23/164)
وأخرجوا كورتكين من محبسه، فأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط، فكان آخر العهد به. ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التى يسكنها ابن رائق، وأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقى بغداد، وجعل نوشتكين على شرطة الجانب الغربىّ فسكن الناس، وأخذ أبو الحسين رهائن القواد فسيّرهم إلى أخيه أبى عبد الله بواسط.
قال «1» : وعسف أهل العراق وظلمهم ظلما لم يسمع بمثله قطّ، ذكر/ ابن الأثير رحمه الله ذلك فى تاريخه الكامل وأفرده بترجمة وهى «ذكر ما فعله البريدىّ ببغداد» ، ولما انتهى كلامه قال «وإنما ذكرنا هذا الفصل ليعلم الظّلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا إذا لم يتركوه لله سبحانه وتعالى «2» » وأظنه رحمه الله تعالى قال هذا لما علمه من حال الظلمة فى عصره، وأنهم يستقبحون الظلم.
ويتركونه خشية أن ينقل عنهم. وإنما تركت أن أشرح ما قاله من ظلم البريدى خوفا أن يسمعه ظلمة هذا العصر فيقتدون بأفعاله ويحملون الناس على مثاله؛ فإن فيهم من يتحلى بالظلم ولا يتحاشى من فعله ويردّ فرع كل مظلمة إلى أصله ويقول: قد فعله فلان وفلان وجرت عليه القاعدة فى كل عصر وأوان! ويبرز بالظّلم بروز الليث من غابه، وتصدر عنه الحوادث كصدور الغيث من(23/165)
سحابه، ويرى أنّ ذلك فرصة يغتنمها وكعبة يستلمها، ثم لا يقنعه ذلك إلى أن يسمّى المظالم بالحقوق الواجبة، ويرى الملازمة عليها من السنن الراتبة. لا جرم أن الله تعالى يأخذه من مأمنه، ويسلبه ما حوله من نعمه ومننه، لأن ملك هذا العصر «1» - خلّد الله سلطانه وثبّت أركانه ونصر جيوشه وأعوانه-/ ينكر المظالم إذا أنهيت إليه ويزيل اسمها، ويمحو من دواوين دولته رسمها، ويكف الأكفّ العادية إذا عدت، ويقبض الأيدى الجارية إذا انبسطت فى العالم واعتدت «2» .
ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء
كان المتقى لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريدىّ، فأرسل أخاه سيف الدولة «3» نجدة فى جيش كثيف، فلقى المتقى لله وابن رائق بتكريت قد انهزما، فخدم سيف الدّولة المتقى خدمة عظيمة، وسار معه إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقى وتوجه نحو معلثايا «4» وترددت الرسائل بينه وبين ابن رائق. ثم تعاهدا واتفقا فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقى، فعبر إليه(23/166)
الأمير أبو منصور بن المتقى وابن رائق يسلمان عليه، فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقى. فلما أراد الانصراف من عنده ركب ولد المتقى وأراد ابن رائق الركوب فقال له ناصر الدولة:
أقم اليوم عندى لنتحدث فيما تفعله! فاعتذر بابن المتقى، فألح عليه ابن حمدان فاستراب به/ وجذب كمّه من يده فقطعه، وأراد الركوب فشبّ به فرسه فسقط، فصاح ابن حمدان «أن اقتلوه» فقتلوه وألقوه فى دجلة. وأرسل ابن حمدان إلى المتقى يقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله ففعل ما فعل «1» ، فردّ عليه المتقى ردا جميلا وأمره بالمسير إليه فسار ناصر الدولة إليه فخلع المتقى عليه ولقّبه ناصر الدّولة وجعله أمير الأمراء، وذلك فى مستهل شعبان، وخلع على أخيه أبى الحسين ولقّبه سيف الدولة، وكان قتل ابن رائق يوم الإثنين لسبع بقين من شهر رجب «2» ، ولما قتل سار الإخشيد من مصر إلى الشام فتسلمها.
ذكر عود المتقى لله الى بغداد وهرب البريدى عنها
قال «3» : ولما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدىّ لسوء سيرته فهرب جخجخ وتوزون إلى المتقى فى جماعة من الأتراك، فأتوا الموصل فى خامس شهر رمضان فقوى(23/167)
بهم ابن حمدان، وسار هو والمتقى لله إلى بغداد. فلما قارباها هرب أبو الحسين البريدىّ منها إلى واسط، وكان مقامه ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. ودخل المتقى إلى بغداد ومعه بنو حمدان فى/ جيوش كثيرة، واستوزر المتقى أبا إسحاق القراريطى وقلّد توزون جانبى بغداد وذلك فى شوال.
ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدى
قال «1» : ثم خرج بنو حمدان نحو واسط لقتال البريدى، وسار أبو الحسين البريدى من واسط أيضا لقتالهم. فأقام ناصر الدولة بالمدائن وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه الحسين بن سعيد فى الجيش لقتاله، فالتقوا تحت المدائن بفرسخين واقتتلوا عدّة أيام آخرها رابع ذى الحجة فانهزم سيف الدّولة إلى أخيه، فأضاف إليه جماعة وردّه، فقاتل وهزم أبا الحسين البريدىّ وأسر جماعة من أصحابه وقتل جماعة.
وعاد ناصر الدّولة إلى بغداد، فدخلها فى ثالث عشر ذى الحجة، وانحدر سيف الدولة من موضع المعركة إلى واسط فرأى البريدىّ قد انحدر منها إلى البصرة، فأقام سيف الدولة بها.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
ذكر ما اتفق لسيف الدولة بواسط ورجوع ناصر الدولة إلى الموصل
قال «2» : ولما أقام سيف الدولة بواسط، قصد الانحدار إلى(23/168)
البصرة ليأخذها من البريديين، فلم يمكنه لقلة المال عنده. فكتب إلى أخيه ناصر الدولة مرة بعد أخرى فأنفذ إليه مالا مع أبى عبد الله الكوفى ليفرّقه فى الأتراك فأسمعه توزون وجخجخ المكروه وثارا به فغيّبه سيف الدولة عنهما، وسيّره إلى بغداد. وأمر توزون أن يسير إلى الجامدة «1» ويأخذها وينفرد بحاصلها، وأمر جخجخ أن يسير إلى المذار «2» ويأخذ حاصلها.
وكان سيف الدولة يزهّد الأتراك فى العراق ويحسّن لهم قصد الشّام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويقع فى أخيه عندهم، فكانوا يصدقونه فى أخيه ولا يجيبونه إلى الشام ويتجنّون عليه، ثم ثاروا به فى سلخ شعبان وكبسوه ليلا، فهرب من معسكره إلى بغداد ونهب سواده وقتل جماعة من أصحابه.
وأما ناصر الدولة فإنه لما وصل إليه الكوفىّ وأخبره الخبر برز للمسير إلى الموصل، فركب المتقى إليه وسأله التوقّف عن المسير، فأظهر له الإجابة إلى أن عاد ثم سار إلى الموصل، ونهبت داره، ودبّر الأمر أبو إسحاق القراريطى من غير تسمية بوزارة، وكانت إمارة ناصر الدولة ببغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام، ووصل سيف الدولة إلى بغداد!(23/169)
ذكر حال الأتراك بعد إصعاد سيف الدولة من واسط
قال «1» : ولما هرب سيف الدولة عاد الأتراك إلى معسكرهم، فوقع الخلاف بين توزون وجخجخ وتنازعا الإمارة، ثم استقرت الحال أن يكون توزون أميرا وجخجخ صاحب الجيش، وتصاهرا.
وطمع البريدى فى واسط فأصعد إليها، وتراسل هو وتوزون ولم يتفقا، ثم بلغ توزون أن جخجخ يريد الانتقال إلى البريدى فكبسه فى فراشه فى ليلة الثانى عشر من شهر رمضان وسمله «2» .
ذكر عود سيف الدولة الى بغداد وهربه منها
قال «3» : ولما هرب سيف الدولة من واسط قصد بغداد، وأرسل إلى المتقى لله يطلب منه ما لا ليقاتل توزون إن قصد بغداد، فأنفذ إليه أربعمائة ألف درهم ففرقها فى أصحابه. وكان وصوله فى ثالث عشر شهر رمضان، ولما بلغ توزون وصول [ابن حمدان] «4» سيف الدولة إلى بغداد ترك كيغلغ بواسط فى ثلاثمائة رجل وأصعد إلى بغداد/، فلما سمع سيف الدولة بإصعاده رحل من بغداد.(23/170)
ذكر امارة توزون
قال «1» : ولما فارق سيف الدولة بغداد دخلها توزون، وكان دخوله فى الخامس والعشرين من شهر رمضان، فخلع عليه المتقى لله وجعله أمير الأمراء، وصار أبو جعفر الكرخى ينظر فى الأمور كما كان الكوفى ينظر فيها. ولما سار توزون عن واسط أصعد إليها البريدى، فهرب من بها من أصحاب توزون إلى بغداد، فلم يمكنه المبادرة إلى واسط، حتى استقرّت الأمور ببغداد، ثم انحدر إلى واسط فى ذى القعدة، فأتاه أبو جعفر بن شيرزاد هاربا من البريدىّ، ففرح «2» توزون به وقلّده جميع أموره.
ذكر الوحشة بين المتقى وتوزون
قال «3» : كان محمد بن ينال الترجمان أكبر قواد توزون- وهو خليفته ببغداد- فلما انحدر إلى واسط سعى بمحمد إليه وقبّح ذكره عنده «4» فبلغ ذلك محمدا، فنفر منه. وكان الوزير أبو الحسين ابن مقلة ضمن القرى المختصة بتوزون ببغداد فخسر فيها جملة، فخاف أن يطالب بها، وانضاف إلى ذلك اتصال ابن شيرزاد بتوزون/ فخافه الوزير وغيره، وظنوا أن مسيره إلى توزون(23/171)
باتّفاق من البريدىّ، فاتفق الترجمان وابن مقلة، وكتبا إلى ابن حمدان لينفذ عسكرا يسير صحبة المتقى لله، وقالا للمتقى:
قد رأيت ما فعل البريدىّ معك بالأمس، أخذ منك خمسمائة ألف دينار وأخرجت على الأجناد مثلها، وقد ضمنك البريدى من توزون بخمسمائة ألف دينار أخرى رغم أنها فى يدك من تركة بجكم، وابن شيرزاد واصل ليتسلمك ويخلعك ويسلمك إلى البريدىّ! فانزعج لذلك، وعزم على الإصعاد إلى ابن حمدان، وورد ابن شيرزاد جريدة «1» فى ثلاثمائة رجل، فوصل فى خامس المحرم.
وفيها تزوج الأمير أبو منصور بن المتقى لله بابنة ناصر الدولة بن حمدان، وكان الصداق ألف ألف درهم، والحمل مائة ألف دينار.
وفيها صرف ناصر الدولة أبا إسحاق القراريطى عن الوزارة وقبض عليه، واستوزر أبا العباس، أحمد بن عبد الله الأصفهانى فى شهر رجب، ثم استوزر المتقى لله بعد إصعاد ناصر الدولة من بغداد إلى الموصل أبا الحسين بن مقلة فى ثامن شهر رمضان.
وفيها أرسل ملك الروم إلى المتقى لله يطلب منديلا زعم أن المسيح مسح به وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه فى بيعة الرّها «2» ، وذكر أنه إن أرسل إليه أطلق عددا كبيرا(23/172)
من أسارى المسلمين، فأحضر المتقى لله الفقهاء والقضاة واستفتاهم فاختلفوا فيه، فقال بعضهم إنّ فى تسليمه غضاضة على الإسلام، وبعضهم رأى تسليمه وفكاك الأسرى أولى من بقائه، فقال على ابن عيسى الوزير: إن خلاص المسلمين من الأسر والضّرّ والضّنك الذى هم فيه أولى من حفظ هذا المنديل! فأمر الخليفة المتقى لله بتسليمه إليهم وإطلاق الأسرى من بلاد الروم، فأطلقوا «1» ! ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة
ذكر مسير المتقى لله الى الموصل
فى هذه السنة أصعد المتقى لله إلى الموصل، وسبب ذلك ما ذكرناه من إغراء من أغراه بتوزون وخوفه منه ووصول ابن شيرزاد إلى بغداد فى خامس المحرم جريدة، فازداد خوف المتقى لله.
وأقام ابن شيرزاد ببغداد يأمر وينهى ولا يراجع المتقى فى شىء، وكان المتقى قد أنفذ فى طلب جيش من ناصر الدولة ليصحبه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمه الحسين بن سعيد، فوصلوا إلى بغداد ونزلوا بباب حرب. فاستتر ابن شيرزاد وخرج المتقى لله إليهم فى حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد، ولما سار المتقى لله من بغداد ظلم ابن شيرزاد الناس وعسفهم وصادرهم/، وأرسل إلى توزون وهو بواسط يخبره بذلك. فلما بلغه الخبر عقد ضمان واسط على البريدى وزوّجه ابنته وسار إلى بغداد، وسار(23/173)
ناصر الدولة للقاء المتقى إلى تكريت فوصل فى الحادى والعشرين من شهر ربيع الآخر وركب إليه الخليفة وأكرمه. وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وسار توزون نحو تكريت فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخين فاقتتلوا ثلاثة أيام ثم انهزم سيف الدولة لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، وغنم توزون سواده وسواد أخيه ناصر الدّولة. وعادا من تكريت إلى الموصل ثم التقوا مرة ثانية فانهزم سيف الدولة وتبعه توزون، فسار المتقى لله وبنو حمدان إلى نصيبين ودخل توزون الموصل وسار المتّقى إلى الرّقّة، ولحقه سيف الدولة.
وأرسل المتقى لله إلى توزون يذكر أنه استوحش منه لاتصاله بالبريدىّ، فإن آثر رضاه يصالح ناصر الدولة وسيف الدولة ليعود إلى بغداد، وترددت الرسائل بين المتقى وتوزون حتى تم الصلح، وعقد الضمان على ناصر الدولة عمّا بيده من البلاد «1» ثلاث سنين كلّ سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وعاد توزون إلى بغداد وأقام المتقى لله عند بنى حمدان.
ذكر قتل أبى يوسف البريدى
فى هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدىّ أخاه أبا يوسف، وسبب ذلك أنّ أبا عبد الله كان نفذ ما عنده من المال فى محاربة بنى حمدان ومقامهم بواسط ومحاربة توزون، فلما رأى جنده(23/174)
قلة ماله مالوا إلى أخيه أبى يوسف لكثرة أمواله، فاستقرض أبو عبد الله منه المال مرة بعد أخرى فكان يعطيه القليل من المال ويعيبه ويذكر تضييعه وهوجه وتهوّره، فبلغ ذلك أبا عبد الله. ثم صحّ عنده أنه يريد القبض عليه والاستبداد بالأمر وحده، واستوحش كل منهما من صاحبه؛ فدبّر أبو عبد الله عليه وأقام غلمانه فى طريق مسقف بين داره والشط، فدخل أبو يوسف فى ذلك الطريق فثار به الغلمان فقتلوه وهو يستغيث: يا أخى قتلونى! وهو يقول: إلى لعنة الله! ولما قتل دفنه فثار الجند وشغبوا ظنّا منهم أنه حى، فأمر به فنبش وألقاه على الطريق، فلما رأوه سكتوا فأمر بدفنه. وانتقل أبو عبد الله إلى دار أبى يوسف، فأخذ ما فيها ولم يحصل من مال أخيه على طائل فإن أكثره انكسر عند الناس!
ذكر وفاة أبى عبد الله البريدى ومن قام بعده بالأمر
وفى هذه السنة فى شوال مات أبو عبد الله البريدى بعد أن قتل أخاه بثمانية أشهر/ واستقر الأمر بعده لأخيه أبى الحسين؛ فأساء السيرة فى الجند، فثاروا به ليقتلوه فهرب إلى هجر واسنجار بالقرامطة، ونصب الجند أبا القاسم بن أبى عبد الله.
قال «1» : لو سار أخوان لأبى طاهر مع أبى الحسين فى جيش إلى البصرة، فرأوا أبا القاسم قد حفظها صلحوا بينه وبين ابن(23/175)
أخيه، وعادوا ودخل أبو الحسين البصرة، فتجهز منها وسار إلى توزون ببغداد، واستقام أمر أبى القاسم بن أبى عبد الله البريدى.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة
ذكر ما كان من أمر المتقى لله إلى أن خلع وسمل
كان المتقى لله قد راسل توزون فى طلب العود إلى بغداد، وسبب ذلك أنه رأى من بنى حمدان تضجّرا «1» منه وإيثارا لمفارقته، فاضطر إلى مراسلة توزون. فأرسل إليه الحسن بن هارون وأبا عبد الله بن أبى موسى الهاشمى فى الصلح، فلقيهما توزون وابن شيرزاد بنهاية الرّغبة فيه والحرص عليه واستوثقا من/ توزون وحلّفاه للمتقى وحضر اليمين خلق كثير من القضاة والعدول، والعباسيون والعلويون وغيرهم. وحلف توزون للمتقى والوزير، وكتبوا خطوطهم بذلك، وكان ذلك فى سنة اثنتين وثلاثين.
وكان أيضا قد كتب إلى الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يشكو إليه حاله ويستقدمه، فقدم إليه إلى الرّقّة فى منتصف المحرم من هذه السنة ووقف بين يديه موقف الغلمان، ومشى بين يديه، وحمل إلى المتقى لله هدايا جليلة وإلى الوزير أبى الحسين بن مقلة وسائر الأصحاب، واجتهد بالمتقى ليسير معه إلى مصر والشام ويكون بين يديه فلم يفعل، فأشار عليه(23/176)
بالمقام مكانه ولا يرجع إلى بغداد وخوفه من توزون فأبى إلا العود إلى بغداد. وعرض على ابن مقلة المسير معه إلى مصر ليحكّمه فى جميع بلاده، فلم يجبه إلى ذلك، فخوّفه أيضا من توزون، فكان ابن مقلة يقول بعد ذلك: نصحنى الإخشيد فلم أقبل نصيحته.!
ثم انحدر المتقى لله إلى بغداد لأربع بقين من المحرم، وعاد الإخشيد إلى مصر، فلما وصل المتقى لله إلى هيت «1» أقام بها وأنفذ من يجدّد اليمين على توزون، فحلف وسار عن بغداد لعشر بقين من صفر للقاء المتقى لله، فلقيه بالسندية ونزل توزون وقبّل الأرض بين يدى المتقى وقال: ها أنا قد وفيت بيمينى/ والطاعة لك! ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزلهم فى مضربه مع حرم المتقى ثم كحله فأذهب عينيه، فصاح وصاح من عنده من الحرم والخدم فارتجّت الأرض فأمر توزون بضرب الدبادب «2» فخفيت الأصوات، وعمى المتقى «3» وانحدر توزون من الغد إلى بغداد، وكان خلع المتقى لله وسمله فى يوم السبت لعشر بقين من صفر، فكانت مدة خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا، وعاش إلى أيام المطيع، وتوفى فى منتصف شعبان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وله ستون سنة وأمر المطيع أبا تمام الزينبى فصلّى عليه وكبر خمسا، ودفن فى(23/177)
داره ثم ابتاعها عز الدولة بختيار من ورثتة بثلاثين ألف دينار فنقلوه إلى تربة بإزائها فامتحن فى الحياة وفى الممات.
قال أبو الحسين عياش اجتمع فى أيام المتقى إسحاقات كثيرة، فانسحقت خلافة بنى العباس فى أيامه وانهدمت قبّة المنصور الخضراء التى كان فخرهم بها، قيل له ما كانت الإسحاقات؟ قال: كان يكنى أبا إسحاق، وكان وزيره القراريطى يكنى بأبى إسحاق، وكان قاضيه ابن إسحاق الخرقى «1» وكان محتسبه أبو إسحاق بن بطحاء، وكان صاحب شرطته أبو إسحاق بن أحمد أمير خراسان،/ وكانت داره القديمة دار إسحاق بن إبراهيم المعصبى وهى دار إسحاق ابن كنداج «2» وكان المتقى لله أبيض أشهل العينين «3» أشقر الشعر. قال بعض المؤرخين: كان فى أيامه غلاء وشدة حتى بيع كرّ الحنطة بمائتين وعشرة دنانير، وخرج عدة من الخدم من قصر الخلافة بالرصافة ينادون: الجوع الجوع! «4» وكان نقش خاتمه «المتقى لله» .
ولده ولى عهده: أبو منصور، وزراؤه: قد تقدم ذكرهم فى أنباء دولته، ولم يكن لهم من الأمر شىء على ما قدمناه(23/178)
قضاته: أبو نصر يوسف بن عمر، ثم أخوه أبو محمد الحسين، ثم محمد بن عيسى بن إبراهيم، ثم أبو طاهر محمد بن أحمد بن نصر، ثم أبو الحسن أحمد بن أبى موسى.
حجابه: سلامة الطولونى مولى خمارويه، ثم بدر الخرشنى «1» ثم أحمد بن خاقان. الأمير بمصر: الإخشيد محمد بن طغج.
القضاة بها: عبد الله بن الوليد، ثم محمد بن بدر، ثم أبو الذكر التمّار، ثم الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق، ثم أحمد بن عبد الله الليثى، ثم عبد الله بن وليد.
ذكر خلافة المستكفى بالله
/ هو أبو القاسم عبد الله بن المكتفى بالله أبى محمد على ابن المعتضد بالله أبى العباس أحمد بن الموفق بالله بن المتوكل على الله أبى الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد أبى محمد بن المهدى أبى عبد الله محمد ابن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم. يجتمع هو والمتقى لله فى المعتضد بالله، وأمّه أمّ ولد اسمها غصن، وهو الخليفة الثانى والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد خلع المتقى لله لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.(23/179)
قال «1» : ولما قبض توزون على المتقى أحضر المستكفى إلى السندية وبايعه هو وعامّة الناس، وكان سبب البيعة له ما حكاه أبو العباس التميمى الرازى وكان من خواصّ توزون قال: أنا كنت السبب فى البيعة للمستكفى، وذلك أننى دعانى إبراهيم بن الزوبيندار «2» الديلمى فمضيت إليه، فذكر لى أنه تزوج [إلى] قوم وأن امرأة منهم قالت له: «إن هذا المتقى قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم ولا يصفوا قلبه لكم، وهاهنا رجل من أولاد الخلفاء/ من ولد المكتفى» وذكرت عقله ودينه «تنصبونه للخلافة فيكون صنيعتكم وغرسكم، وبدلكم على أموال جليلة لا يعرفها غيره، وتستربحون من الخوف والحراسة» - قال- فعلمت أنّ هذا أمر لا يتم إلا بك، فدعوتك له فقلت: أريد أسمع كلام المرأة، فجاءنى بها فرأيت امرأة عاقلة جزلة فذكرت لى نحوا من ذلك، فقلت: لا بد أن ألقى الرجل! فقالت:
تعود [غدا] «3» إلى هاهنا حتى أجمع بينكما فعدت من الغد فوجدته قد أخرج من دار ابن طاهر فى زىّ امرأة فعرّفنى نفسه وضمن لى إظهار ثمانمائة ألف دينار منها مائة ألف لتوزون، وذكر وجوهها وخاطبنى خطاب رجل فهم عاقل، ورأيته يتشيع- قال- فأتيت توزون فأخبرته فوقع الكلام بقلبه وقال: أريد أبصر الرجل! فقلت: لك ذلك، ولكن اكتم أمرنا من ابن شيرزاد [فقال:(23/180)
أفعل!] «1» - قال- وعدت إليهم وأخبرتهم الذى جرى، ووعدتهم حضور توزون من الغد، فلما كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر مشيت مع توزون مستخفيّين واجتمعنا به، وخاطبه توزون وبايعه تلك الليلة وكتم الأمر. فلما وصل المتقى قلت لتوزون: أنت على ذلك العزم؟ قال: نعم! قلت: فافعله الساعة فإنه إن دخل الدار بعد عليك مرامه، فوكل به وسمله وجرى ما جرى، وبويع للمستكفى بالخلافة،/ وأحضر المتقى فبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفى وسمّت نفسها «علم» وغلبت على أمره كلّه، واستوزر المستكفى بالله أبا الفرج محمد ابن على السامرى «2» يوم الأربعاء لست بقين من صفر منها ولم يكن [له] «3» غير اسم الوزارة ومعناها لابن شيرزاد، ثم قبض عليه المستكفى فى شهر ربيع الآخر وصادره على ثلاثمائة ألف درهم فكانت وزارته اثنين وأربعين يوما.
قال «4» : وخلع المستكفى بالله على توزون وتوّجه، وطلب أبا الفضل بن المقتدر بالله- وهو الذى ولى الخلافة ولقب المطيع لله- لأنه كان يعرفه يطلب الخلافة فاستتر مدّة خلافة المستكفى بالله فهدّمت داره حتى لم يبق منها شىء.(23/181)
ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
فى هذه السنة فى المحرم لقّب المستكفى بالله نفسه إمام الحق، وضرب ذلك على الدنانير والدارهم، وكان يخطب له بلقبين إمام الحق والمستكفى بالله.
ذكر وفاة توزون وامارة ابن شيرزاد
فى هذه السنة فى المحرم مات توزون ببغداد، وكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما. ولما مات كان ابن شيرزاد كاتبه ببغداد بهيت ليخلّص أموالها، فلما بلغه الخبر أراد عقد/ الإمارة لناصر الدولة بن حمدان فاضطرب الجند، وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فعاد إلى بغداد ونزل بباب حرب «1» فى مستهل صفر. وخرج إليه الأجناد جميعهم وحلفوا له ووجّه إلى المستكفى بالله ليحلف له فأجابه إلى ذلك، وحلف له بحضرة القضاة والعدول ودخل إليه وولاه إمرة الأمراء. فزاد الأجناد زيادة كثيرة فضاقت عليه الأموال، فأرسل إلى ناصر الدّولة يطالبه بحمل المال ويعده بردّ الرياسة إليه، فأرسل له خمسمائة ألف درهم ففرقها فى عسكره فلم تغن شيئا، فقسط أرزاق الجند على العمال والكتّاب والتجار وغيرهم، وظلم الناس ببغداد. واستعمل على واسط ينال كوشة وعلى تكريت الفتح اليشكرى، فأما ينال فإنه كاتب معز الدولة بن بويه واستقدمه وصار معه، وأما الفتح فإنه التحق بناصر الدولة بن حمدان وصار معه فأقره على تكريت.(23/182)
ذكر استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد
قال «1» : لما كاتب ينال كوشة معز الدولة بن بويه وهو بالأهواز ودخل فى طاعته سار نحوه، فاضطرب الناس فلما وصل إلى باجسرى «2» اختفى المستكفى بالله وابن شيرزاد. فلما استترا سار الأتراك إلى الموصل، فلما بعدوا ظهر المستكفى بالله وعاد إلى دار الخلافة. وقدم أبو محمد الحسن بن محمد المهلّبى صاحب معز الدولة إلى بغداد فاجتمع بابن شيرزاد بمكانه الذى استتر فيه، ثم اجتمع بالمستكفى بالله فأظهر السّرور بقدوم معزّ الدولة بن بويه وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك ليتفرقوا ليحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال.
ثم وصل معز الدولة إلى بغداد لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى فنزل بباب الشمّاسية ودخل من الغد إلى المستكفى وبايعه، وحلف له المستكفى. وسأله معز الدولة أن يأذن لابن شيرزاد بالظهور وأن يأذن له أن يستكتبه فأجابه إلى ذلك، فظهر ولقى معزّ الدولة فولّاه الخراج وجباية الأموال. وخلع الخليفة على معز الدولة ولقبه بهذا اللقب، وأمر بضرب ألقابه وألقاب إخوته وكناهم على الدنانير والدارهم «3» . ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه(23/183)
فى دور الناس فنال الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما علهم وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله.
وأقيم للمستكفى بالله فى كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكانت ربما/ تأخرت عنه فأقرت له بعد ذلك ضياع سلّمت إليه تولاها له أبو أحمد الشيرازى كاتبه!
ذكر خلع المستكفى بالله وسمله
فى هذه السنة خلع المستكفى بالله لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكان سبب ذلك أن علم القهرمانة صنعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الدّيلم والأتراك، فاتهمها معزّ الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ البيعة للمستكفى بالله ويزيلوا معز الدولة، فساء ظنه لذلك. فلما كان فى التاريخ المذكور حضر معز الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خراسان ومعز الدولة جالس، ثم حضر رجلان من نقباء الدّيلم فتناولا يد الخليفة فظنّ أنهما يريدان يقبّلان يده، فجذباه عن سريره وجعلا عمامته فى حلقه.
ونهض معزّ الدولة، واضطرب النّاس وأخرج الديلميان المستكفى بالله إلى دار معز الدولة ماشيا واعتقل بها، ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شىء، وقبض على أبى أحمد الشيرازى كاتب المستكفى وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها. وكانت مدة خلافة المستكفى بالله سنة واحدة وأربعة أشهر وما زال مغلوبا/ على أمره.
ولما بويع للمطيع لله سلّم إليه المستكفى فسمله، وبقى محبوسا إلى أن توفى فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وله ست(23/184)
وأربعون سنة. وكان أبيض حسن الوجه قد وخطه الشيب، ولقّب نفسه فى آخر سنة ثلاث وثلاثين إمام الحق، ونقشه على الدنانير والدراهم وقد تقدم ذكر ذلك، وكان نقش خاتمه «المستكفى بالله» .
وزراؤه: محمد بن على السامرى وهو آخر من دعى بالوزارة، ثم استكتب أحمد بن عبد الرحمن الشيرازى. قضاته فى الجانبين:
أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وقلّد محمد بن أبى الحسن بن أبى الشوارب [الجانب] «1» الشرقىّ والمدينة ثم صرفه عن الشرقى بأبى الطّاهر محمد بن أحمد بن نصر، وعن المدينة بأبى السّائب عتبة بن عبد الله الهمدانى، ثم جمع لعتبة الجانبين بعد وفاة ابن أبى موسى، وجعل المدينة إلى محمد بن صالح بن شيبان الكوفى الهاشمى. حاجبه: أحمد بن خاقان. الأمير بمصر: الإخشيد بن طغج.
القضاة بها: الحسين بن عيسى بن هارون، ثم الوليد من قبل المستكفى.
ذكر خلافة المطيع لله
هو أبو القاسم الفضل وقيل أبو العباس بن المقتدر بالله/ أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى العباس أحمد، وأمّه أم ولد اسمها مشعلة، وهو الخليفة الثالث والعشرون من الخلفاء العباسيين بويع له يوم خلع المستكفى، وهو يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان مستترا كما قد مناه من(23/185)
أول خلافة المستكفى بالله. فلما قدم معزّ الدّولة إلى بغداد قيل إن المطيع انتقل إليه واستتر عنده وأغراه بالمستكفى بالله حتى قبض عليه وسمله، وبويع للمطيع بالله ولقب بهذا اللقب، وحضر المستكفى عنده فسلم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع.
وزاد أمر الخلافة إدبارا ولم يبق لهم من الأمر شىء ألبتّة، وقد كانوا يراجعون قبل ذلك والحرمة قائمة بعض شىء، فلما كان فى أيام معزّ الدولة زال ذلك جميعه بحيث إن الخليفة لم يبق له وزير، إنما كان له كاتب يدير إقطاعه وأخراجاته لا غير. وصارت الوزارة إلى معز الدولة يستوزر لنفسه من يريد، وكان الديلم يغالون فى التشيع «1» ويعتقدون أن بنى العباس قد غصبوا الخلافة وأخذوها من مستحقّيها فلم يكن باعث دينى يحثهم على الطاعة حتى قيل إنّ معز الدولة قصد إخراج الأمر عن بنى العباس والبيعة للمعتز لدين الله العلوى أو لغيره/ من العلويين.
واستشار جماعة من خواصّ أصحابه فكلّهم أشار عليه بذلك إلا بعض خواصّه، فإنه قال: ليس هذا برأى فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته ولو أمرتهم بقتله لقتلوك! فأعرض عن ذلك.
ومن حيث استقل معزّ الدّولة بالأمر اختصرنا الأخبار فى أيام(23/186)
الخلفاء، ونذكر ذلك فى أخبار الدّولة البويهية وغيرها من الدول؛ فإن الأمر والنّهى صار لهم دون الخلفاء، ولم يبق للخليفة من الأمر شىء إلا ما أقطعه له معزّ الدّولة ما يقوم ببعض حاجته. فالذى نذكره الآن فى أيام الخلفاء بنى العباس ما يتعلق بحال الخليفة وأتباعه وأقاربه ومن خرج عليه من أهل بيته، وننبه على ابتداء دول الملوك وانقراضها ونحيل عليها فى موضعها الذى تشرح فيه، ونذكر أيضا فى أيام الخلفاء ما غلب عليه الروم والفرنج من البلاد الإسلامية وما وقع من الحوادث العامة كالزلازل العظيمة والسيول، وما يناسب ذلك على ما يراه المطالع فى مواضعه إن شاء الله تعالى.
/ وفى هذه السنة توفى القائم بن المهدى صاحب إفريقية والمغرب، وولى بعده ابنه المنصور.
وفيها توفى الإخشيد صاحب مصر والشام وولى بعده ابنه أبو القاسم ودبر الأمر كافور الخادم بمصر «1» ، واستولى سيف الدولة بن حمدان على دمشق.
وفيها اشتدّ الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير، وأخذ بعضهم ومعه صبىّ قد شواه ليأكله، وأعقبه وباء حتى عجز النّاس عن دفن موتاهم فكانت الكلاب تأكل الناس والناس تأكل الكلاب.(23/187)
قال أبو الفرج بن الجوزى «1» : وفى هذه السنة كثر القمل برستاق اليمن الكبرى «2» حتى يئس الناس من غلاتهم فانحط من الطير طائر يزيد على جرم العصفور، فكان الطائر يعلو على شجرة فيصفر فتطير الطير أفواجا، فينحطّ كلّ فوج منها على ضيعة فيلقط القمل حتى فنى! ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. فى هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم على يد نصر الثملى «3» أمير الثغور لسيف الدولة، وكان عدّة الأسرى ألفين وأربعمائة أسير وثمانين أسيرا.
وفى سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة استولى معزّ الدولة بن بويه على البصرة وهرب أبو القاسم بن أبى عبد الله البريدى منها إلى هجر إلى القرامطة، ثم/ استأمن بعد ذلك، ووصل إلى بغداد فى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فأحسن إليه وأقطعه.
وفى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ملك الروم مرعش من سيف الدولة بن حمدان، وكان قد قاتلهم فهزموه.
وفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كانت وفاة عماد الدولة أبى الحسن على بن بويه بمدينة شيراز «4» .(23/188)
ذكر اعادة القرامطة الحجر الأسود
وفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة شرفها الله تعالى وقالوا: أخذناه بأمر وأعدناه بأمر! وكان بجكم قد بذل لهم فى رده خمسين ألف دينار فلم يجيبو إلى رده وردوه الآن بغير شىء فى ذى القعدة، وكانوا أخذوه فى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة. ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة وعلقوه بجامعها، حتى رآه الناس ثم حلوه إلى مكة «1» .
وفى سنة تسع وثلاثين أيضا توفى أبو نصر محمد بن الفارابى الحكيم الفيلسوف صاحب التصانيف، وكانت وفاته بدمشق.
وفى سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة توفى المنصور العلوىّ صاحب المغرب/، وملك بعده ابنه المعزّ لدين الله.
وفيها ملك الرّوم مدينة سروج «2» وسبوا أهلها وغنموا أموالهم وخرّبوا المساجد.
وفى سنة ست وأربعين نقص البحر ثمانين باعا فظهر فيه جبال وجزائر لم تعرف قبل ذلك. وفيها كان بالعراق وبلاد الجبل وقمّ ونواحيها زلازل كثيرة متتابعة دامت نحو أربعين يوما، تسكن(23/189)
وتعود؛ فتهدمت الأبنية، وغارت المياه وهلك تحت الرّدم ما لا يحصى من العالم، وكذلك كانت أيضا بالرّىّ والطالقان «1» .
ذكر ظهور المستجير بالله
وفى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ظهر بأدربيجان رجل من أولاد عيسى بن المكتفى بالله وتلقّب بالمستجير بالله وبايع للوصى من آل محمد، ولبس الصّوف، وأظهر العدل، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر. وكثر أتباعه واستفحل أمره، فسار إليه جستان «2» وإبراهيم ابنا المرزبان صاحب أذربيجان والتقوا فاقتتلوا، فانهزم أصحاب المستجير وأخذوه أسيرا فعدم فقيل إنه مات! وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتى ألف خركاه «3» .
ذكر ضمان الحسبة والقضاء والشرطة ببغداد
/ وفى سنة خمسين وثلاثمائة مات القاضى أبو السائب «4» عتبة بن عبد الله وقبضت أملاكه وتولى قضاء القناة أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبى الشوارب، وضمن أن يؤدى فى كل سنة مائتى ألف درهم ولم يسمع بمثل ذلك فيما سلف! فلم يأذن له الخليفة المطيع لله بالدخول إليه، وأمر أن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء، ثم ضمنت الحسبة والشرطة. ثم عزل ابن أبى الشوارب عن(23/190)
القضاء وأمر بإبطال أحكامه وسجلاته، وذلك فى سنة اثنتين وخمسين وتقلّد القضاء بعده أبو بشر بن أكثم بغير ضمان
ذكر استيلاء الروم على عين زربة وما حولها من الحصون
وفى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فى المحرم نزل الدمستق بالروم على عين زربة «1» ، وهى فى سفح جبل عظيم والجبل مشرف عليها.
وكان فى جمع عظيم «2» فأنفذ بعض عسكره، فصعدوا الجبل وملكوه. فلما رأى أهلها ذلك وأنّ الدمستق قد ضيق عليهم ووصل إلى السور وشرع فى التقرب طلبوا الأمان، فأمّنهم الدمستق ففتحوا أبواب المدينة فدخلها، فرأى أصحابه الذين فى الجبل نزلوا إلى المدينة فندم على إجابتهم إلى/ الأمان ونادى فى البلد أن يخرج أهله إلى المسجد الجامع ومن تأخّر فى منزله قتل.
وكان ذلك فى أول الليل، فخرج إلى الجامع من أمكنه الخروج، فلما أصبح أنفذ رجّالته إلى المدينة وأمرهم بقتل من يجدونه فى منزله، فقتلوا خلقا كثيرا. ثم أمر من بالمسجد أن يخرجوا من البلد حيث شاءوا، فخرجوا على وجوههم لا يرون أين يتوجهون فماتوا فى الطرقات.
وقتل الرّوم من وجدوه بالمدينة إلى آخر النهار، وهدم سور المدينة.
وأقام الدمستق فى بلاد الإسلام واحدا وعشرين يوما، وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصنا للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها(23/191)
بالأمان، فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد العيد، وخلف جيشه بقيسارية وراسله أهل بغراس «1» وبذلوا له مائة ألف درهم فأقرهم وترك معارضتهم.
وفيها استولى الدمستق على مدينة حلب وعاد عنها، على ما نذكره فى أخبار ابن حمدان.
ذكر استيلاء الروم على المصيصة وطرسوس
كان استيلاؤهم عليهما فى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وذلك أن الدمستق حصر المصيصة فى سنة ثلاث وخمسين «2» وقاتل أهلها ونقب أسوارها واشتد القتال وأحرق الروم رستاقها/ ورستاق «3» أذنه وطرسوس لمساعدتهم أهلها، وقتل من المسلمين خمسة عشر ألف رجل.
ثم ضاقت الميرة على الروم فرحل الدمستق إلى بلاد الروم، وأرسل إلى أهل المصيصة وأذنه وطرسوس «أنى منصرف عنكم لا لعجز ولكن لضيق العلوفة وشدة الغلاء، وأنا عائد إليكم، فمن انتقل منكم فقد نجا ومن وجدته بعد عودى قتلته «4» .(23/192)
ونزل ملك الروم أيضا على طرسوس وحصرها وجرى بينه وبين أهلها حروب كثيرة سقط فى بعضها الدمستق ابن الشمشقيق «1» إلى الأرض وكاد يؤسر فقاتل عليه الروم وخلصوه. وأسر أهل طرسوس بطريقا كبيرا من بطارقة الروم، ورحل الروم عنهم لاشتداد الغلاء والعناء.
وكان نقفور «2» ملك الروم قد بنى بقيسارية «3» مدينة وأقام بها بأهله ليقرب من بلاد الإسلام، فلما كان فى سنة أربع وخمسين أرسل أهل طرسوس والمصيصة إليه يبذلون الطاعة ويطلبون منه أن ينفذ إليهم بعض أصحابه ليقيم عندهم، فعزم على إجابتهم إلى ذلك فأتاه الخبر أنهم قد ضعفوا وعجزوا وأنهم لا ناصر لهم وأن الغلاء قد اشتد عندهم وعدموا القوت وأكلوا الكلاب والميتة وكثر فيهم الوباء فيموت منهم فى اليوم ثلاثمائة نفس، فرجع نقفور عن إجابتهم وأحضر الرسول وأحرق الكتاب على/ رأسه فاحترقت لحيته وقال لهم: أنتم كالحية فى الشتاء تخدر وتذبل حتى تكاد تموت، فإن أخذها إنسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ونهشته، وأنتم إنما أطعتم لضعفكم، وإن تركتم حتى تستقيم أحوالكم تأذّيت بكم!(23/193)
وأعاد الرسول وجمع جيوش الروم وسار إلى المصيصة بنفسه، فحاصرها وفتحها عنوة يوم السبت ثالث عشر شهر رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ووضع السيف فى أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم أمر برفع السيف عنهم، ونقل كل من بقى منهم إلى بلد الروم، وكانوا نحو سائتى ألف إنسان. ثم سار إلى طرسوس فحاصرها فأذعن أهلها بالطاعة وطلبوا الأمان فأمّنهم، وفتحوا له البلد فلقيهم بالجميل وأمرهم أن يحملوا من سلاحهم وأموالهم ما يطيقون حمله ففعلوا ذلك برّا وبحرا، وسير معهم من يحميهم حتى بلغوا أنطاكية.
وجعل الملك المسجد الجامع إسطبلا لدوابه، وأحرق المنبر، وعمّر طرسوس وحصّنها، وجلب إليها الميرة حتى رخصت الأسعار ورجع إليها كثير من أهلها ودخلوا فى طاعة الملك وتنصّر بعضهم، وأراد المقام بها ليقرب من بلاد الإسلام ثم عاد إلى القسطنطينية.
وأراد الدمستق وهو ابن الشمشقيق أن يقصد ميافارقين وبها سيف الدولة بن/ حمدان فأمره الملك باتباعه إلى القسطنطينية فمضى إليه.
ثم فتح نقفور أذنه.
وفى سنة أربع وخمسين أيضا قتل المتنبى الشاعر واسمه أحمد بن الحسين الجعفىّ «1» بالقرب من النعمانية وقتل معه ابنه، وكان قد عاد من عند عضد الدولة بفارس فقتله الأعراب وأخذوا ما معه.(23/194)
وفى سنة ست وخمسين وثلاثمائة كانت وفاة معز الدولة بن بويه وولاية ابنه عز الدولة بختيار على ما نذكره فى أخباره. ومات وشمكير بن زيار، والحسن بن الفيرزان، وكافور الإخشيدى «1» ، ونقفور ملك الروم، وأبو على محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدولة بن حمدان.
وفيها توفى أبو الفرج على بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصفهانى الأموى، وهو من ولد مروان بن الحكم وكان شيعيا وهذا من العجب، وهو صاحب كتاب الأغانى «2» .
ذكر البيعة لمحمد بن المستكفى وما كان من أمره
وفى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة «3» ظهر ببغداد بين الخاص والعام دعوة إلى رجل من أهل البيت اسمه محمد بن عبد الله، وقيل إنه الرجل الذى وعد به النبى صلّى الله عليه وسلم، وإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحدد ما عفى من أمور الدين، فمن كان من السّنة قال: إنه عباسى، ومن كان من الشيعة قال: إنه(23/195)
علوى. فكثرت دعاته وظهرت بيعته، وكان الرجل بمصر وقد أكرمه كافور الإخشيدىّ وأحسن إليه. وكان فى جملة من بايع له سبكتكين العجمى «1» من أكابر قواد معز الدولة وكان يتشيع فظنه علويا، فكتب إليه يستدعيه من مصر. فسار حتى بلغ الأنبار، وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات وهو يتولى حمايتها فلقى ابن المستكفى وترجل له وخدمه وأخذه، وعاد به إلى بغداد وهو لا يشك فى حصول الأمر له. ثم ظهر لسبكتكين أنه عباسى فعاد عن رأيه فيه، فخاف ابن المستكفى وهرب هو وأصحابه وتفرقوا، ثم أخذ ومعه أخ له وأحضرا عند بختيار فأمنهما ثم تسلمه المطيع لله من بختيار فجدع أنفه، ثم خفى خبره «2» .
وفى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة انقطعت الدعوة العباسية من الديار المصرية والشامية، وقامت الدعوة العلوية بها للمعز لدين الله صاحب أفريقية والمغرب، على يد جوهر القائد غلام المنصور ووالد المعز على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الدولة العبيدية.
وفيها مات ناصر الدولة بن حمدان «3» .
ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة
فى هذه السنة دخل ملك الروم الشام فلم يمنعه أحد ولا قاتله، فسار فى البلاد إلى طرابلس وأحرق بلدها، وملك قلعة عرقة. وكان(23/196)
صاحب طرابلس قد أخرجه الروم لشدّة ظلمه، فقصد عرقة فأخذه الرّوم وجميع ماله، وقصد ملك الروم حمص وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها، فأحرقها الروم ورجع إلى بلد الساحل، فأتى عليها نهبا وتخريبا وملك ثمانية عشر شهرا وما لا يحصى من القرى، وأقام بالشام شهرين يقصد أى موضع شاء ويخرب ما شاء فلا يمنعه أحد، وعاد إلى بلاده ومعه من السّبى نحو مائة ألف رأس ولم يأخذ إلا الصّبيان والصبايا والشباب، وأما الكهول والشيوخ والعجائز فمنهم من قتله ومنهم من أطلقه، وسيّر سريّة إلى بلد الجزيرة فبلغوا كفر توثا وتعصبوا وسبوا وأحرقوا وعادوا.
ذكر ملك الروم مدينة أنطاكية
وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ملك الروم مدينة أنطاكية، وسبب ذلك أنهم حصروا حصنا بالقرب منها يقال له حصن لوقا، فوافقوا أهله وهم نصارى على أن يرتحلوا منه إلى أنطاكية، ويظهر أنهم/ انتقلوا منه خوفا من الروم فإذا صاروا بأنطاكية أعانوهم على فتحها. وانصرف الرّوم عنهم بعد هذا التقرير، وانتقل أهل الحصن ونزلوا بأنطاكية بالقرب من الجبل الذى بها. فلما كان بعد انتقالهم بشهرين وافى الروم مع أخى نقفور وكانوا نحو أربعين ألف رجل، فأحاطوا بالسور وصعدوا الجبل إلى الناحية التى بها أهل الحصن فأخلوا لهم السور، فملكه الروم وملكوا البلد ووضعوا السيف فى أهله، ثم أخرجوا العجائز والأطفال والمشايخ من البلد وقالوا لهم: اذهبوا حيث شئتم! وأخذوا الشباب من الرجال والنساء(23/197)
والصبيان والصبايا فحملوهم إلى بلاد الروم سبيا، وكانوا يزيدون على عشرين ألف إنسان.
قال «1» : وأنفذ الرّوم جيشا كثيفا إلى حلب وبها قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان قد تغلب عليها ونزع يده من طاعة أبى المعالى بن سيف الدولة، فملك الرّوم المدينة دون القلعة وحصروا القلعة، وترددت الوسائط والرسائل بينهم وبين قرعوية، فاستقرّ الأمر على هدنة مؤبدة على مال يحمله قرعوية إليهم وأن يكون الرّوم إذا أرادوا الغزو لا يمكن قرعوية أهل القرى عن الجلاء عنها ليبتاع الرّوم ما يحتاجون إليه منهم. وكان مع حلب فى الهدنة حماه وحمص وكفرطاب/ والمعرة وأفامية وشيزر «2» وما بين ذلك من الحصون والقلاع والقرى، وسلّموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب.
ذكر ملك الروم ملازكرد
وفيها أرسل الروم جيشا إلى ملازكرد من أعمال أرمينية، فملكها عنوة وقهرا من المسلمين، وعظمت شوكتهم، وخافهم المسلمون فى أقطار البلاد.
ذكر مقتل ملك الروم نقفور
وفى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة قتل نقفور ولم يكن من أهل بيت المملكة، وإنما كان دمستقا والد مستق عندهم الذى يلى بلاد(23/198)
الروم التى هى شرقى خليج قسطنطينية. وكان نقفور هذا شديدا على المسلمين، وهو الذى فتح طرسوس والمصيصة وأذنه وعين زربة وغيرها، ولم يكن نصرانىّ الأصل وإنما هو من ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاس «1» تنصر، وكان ابنه هذا شهما شجاعا حسن التدبير لما يتولاه. فلما عظم أمره وصار دمستقا قتل الملك الذى كان قبله وملك الروم بعده، وتزوّج امرأة الملك المقتول على كره منها وكان لها ابنان من الملك/، فعزم على أن يخصيهما ليقطع نسلهما ويبقى الملك فيه وفى ذرّيته. فلما علمت أمهما ذلك احتالت فى قتله، فأرسلت إليه ابن الشمشقيق- وهو الدمستق حينئذ- ووافقته على أن يسير إليها فى زىّ النساء ومعه جماعة وقالت لزوجها: إن نسوة من أهلها قد زرنها! فلما سار إليها هو ومن معه جعلتهم فى بيعة تتصل بدار الملك. فلما كان فى ليلة الميلاد نام نقفور واستثقل فى نومه، ففتحت امرأته الباب وأدخلتهم إليه فقتلوه، وثاربهم جماعة من خاصته وأهله فقتل منهم نيّف وسبعون رجلا، وأجلس فى الملك الأكبر من ولدى الملك المقتول، وصار المدبر له ابن الشمشقيق، ويقال: إن نقفور ما بات قطّ بغير سلاح إلا فى تلك الليلة التى قتل فيها «2»(23/199)
ذكر الفتنة ببغداد ومصادرة الخليفة المطيع لله
وفى سنة إحدى وستين وثلاثمائة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وكان سببها أن الرّوم استطالوا على أهل بلاد الجزيرة وامتدوا فى البلاد وعظم أمرهم وقويت شوكتهم، فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا فى المساجد/ والمشاهد واستنفروا المسلمين وذكروا ما فعله الرّوم من النّهب والأسر والسّبى. فاستعظمه النّاس واجتمع أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة، وأرادوا أن يهجموا عليه فمنعوا وأغلقت الأبواب فأسمعوه القبيح، ثم تجمعوا وثاروا فى البلد، ونهبت الأموال وقتلت الرّجال، وأحرقت الدور، وفى جملة ما أحرق محلة الكرخ وكانت معدن التجار والشيعة.
فأنفد عز الدولة بختيار «1» إلى المطيع لله يطلب منه مالا يخرجه على الغزاة فقال المطيع: إنّ النفقة على الغزاة وغيرها من مصالح المسلمين تلزمنى إذا كانت الدّنيا فى يدىّ والأموال تجبى إلىّ، وأما إذا كانت حالى هذه فلا يلزمنى شىء من ذلك، وإنما يلزم من البلاد فى يده وأنا ليس لى إلا الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت! وترددت الرسائل بينهما حتى بلغا إلى التهديد، فبذل المطيع لله أربعمائة ألف درهم فاحتاج إلى بيع ثيابه وإنقاص داره وغير ذلك. وشاع عند النّاس من أهل العراق وحجاج خرسان وغيرهم(23/200)
أن الخليفة قد صودر فلما قبض بختيار المال صرفه فى مصالح نفسه وبطل حديث الغزاة، ولم يسمع بمثل هذا فيما مضى.
وفى سنة ثلاث وستين وثلاثمائة/ وقعت الفتنة بين بختيار وسبكتكين التركى الحاجب «1» ، فانتصر الحاجب عليه واستولى على بغداد، وأخرج من فيها من أهل بختيار وأصحابه، وترك الأتراك فى دور الدّيلم، وأخذوا أموالهم على ما نذكر ذلك مبيّنا فى أخبار الدولة البويهية إن شاء الله تعالى.
ذكر خلع المطيع لله نفسه من الخلافة وخلافة ابنه الطائع لله
وفى منتصف ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقيل فى الثالث عشر منه خلع المطيع لله نفسه من الخلافة. وكان سبب ذلك أنه أصابه مرض الفالج وثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه، وكان يستر ذلك، فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى خلع نفسه وتسليمها لولده ففعل ذلك وأشهد عليه به. فكانت مدّة خلافته تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وعشرين يوما، وكان له من الأولاد أبو بكر وهو الطائع وعبد العزيز وجعفر.
وزراؤه: أبو الحسن محمد بن على بن مقلة، وأبو الفضل أحمد الشيرازى. قضاته: محمد بن الحسين بن أبى الشوارب، ومحمد بن أمّ شيبان الهاشمى «2» /، وأبو السائب «3» ، وأبو بشر(23/201)
عمر بن أكثم. حجابه: بختيار بن معز الدولة ويخلفه عبد الواحد ابن أبى عمر الشرابى «1» . الأمير بمصر: الإخشيد إلى أن مات، ثم ثم ابنه أنوجور، ثم أخوه، ثم كافور الإخشيدى إلى أن مات، ثم عقد الأمر لأحمد بن علىّ بن الإخشيد وهو ابن إحدى عشرة سنة، ثم خرجت مصر عن الدولة العباسية باستيلاء المعاربة عليها. القضاة بمصر: أبو الوليد، ثم عمر بن الحسن بن عبد العزيز العباسى من قبل أخيه محمد، واستخلف ابن الحدّاد، ثم وليها أبو بكر عبد الله بن محمد بن الخصيب، ثم ابنه محمد، ثم أبو طاهر محمد بن نصر.
ذكر خلافة الطائع لله
هو أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر، وأمه أم ولد اسمها عتب. وهو الخليفة الرابع والعشرون من الخلفاء العباسيين، وبويع له فى يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وسنّة يوم ذلك ثمان وأربعون سنة، ولم يل الخلافة أكبر منه سنّا من بنى العباسى، ولم يتقلّد الخلافة من له/ أب حىّ بعد أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه غيره «2» !
ذكر الحوادث فى أيام خلافته
فى هذه السنة خطب للمعزّ صاحب مصر بمكة والمدينة. وفى سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى عضد الدولة على العراق وقبض على(23/202)
بختيار، ثم عاد بختيار إلى ملكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفى سنة خمس وستين وثلاثمائة توفى المعز لدين الله صاحب مصر، وقام بعده ابنه العزيز.
وفى سنة ست وستين وثلاثمائة توفى ركن الدولة بن بويه، وملك ابنه عضد الدولة وفيها كان ابتداء الدولة الغزنوية وأول من ملك منهم بغزنة سبكتكين «1» ، وسنذكر أخباره فى دولتهم إن شاء الله تعالى.
وفيها فى جمادى الأولى نقلت ابنة عزّ الدولة بختيار إلى الطائع لله، وكان قد تزوّجها.
وفى سنة سبع وستين وثلاثمائة استولى عضد الدولة على العراق وأخرج بختيار عنها ثم قتله، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «2» .
وفى سنة تسع وستين وثلاثمائة تزوج الطائع ابنة عضد الدولة، وكان عضد الدولة قد زوجه بها، وقال: لعلها/ تلد منه ولدا ذكرا فنجعله ولى عهده فتكون الخلافة فى ولدهم! وكان الصداق مائة ألف دينار، وزفت إليه فى سنة سبعين وكان معها من الجواهر والجهاز ما لا يحصى.(23/203)
وفى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة توفى عضد الدولة بن بويه «1» ، وولى صمصام الدولة ولده.
وفى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة خرج طائر من البحر بعمان وهو أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح: قد قرب قد قرب قد قرب! ثلاثا، ثم غاص فى البحر، فعل ذلك ثلاثة أيام ثم غاب ولم ير بعد ذلك.
وفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة ملك شرف الدولة العراق، وقبض على أخيه صمصام الدولة وسمله فى سنة تسع وسبعين، ومات شرف الدّولة فى السنة، وملك بعده أخوه بهاء الدولة وله إخوة.
ذكر القبض على الطائع وشىء من أخباره
وفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فى يوم السبت لثمان من شعبان قبض بهاء الدولة بن بويه على الخليفة الطائع لله،/ وكان سبب ذلك أن بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شغب الجند عليه، فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه شيئا. وكان أبو الحسن بن المعلم «2» قد غلب على بهاء الدولة وحكم فى مملكته فحسّن له القبض على الطائع وأطعمه فى ماله، وهوّن ذلك عليه وسهّله. فأقدم عليه بهاء الدولة وأرسل إلى الطائع لله وسأله الإذن فى الحضور إليه ليجدّد العهد(23/204)
بخدمته، فأدن له بذلك. وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كبير فلما دخل قبّل الأرض. فأجلس على كرسى، فدخل بعض الدّيلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة، فجذبه وأنزله عن سريره والخليفة يقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون! ويستغيث ولا يلتفت إليه، وأخذ ما فى دار الخلافة من الذخائر، ونهب الناس بعضهم بعضا. وكان فى جملتهم الشريف الرضى فبادر بالخروج فسلم وقال أبياتا من جملتها:
من بعد ما كان ربّ المال مبتسما ... إلىّ أدنوه فى النجوى ويدنينى «1»
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون «2»
ومنظر كان بالسراء يضحكنى ... يا قرب ما عاد بالضّرّاء يبكينى
هيهات اعتزّ بالسّلطان ثانية ... قد ضلّ ولّاج أبواب السلاطين
قال «3» : ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع، فكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وبقى فى حبس القادر بالله إلى أن توفى فى يوم(23/205)
الثلاثاء سلخ شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وصلّى عليه القادر بالله فى دار الخلافة وكبّر خمسا، وتحدّث الناس فى ذلك فقال: هكذا يصلى على الخلفاء! ودفن بالرصافة، ويقال: إن القادر بالله شيّع جنازته إليها ورثاه الشريف الرّضىّ بقصيدته التى أولها:
ما بعد يومك ما يسلو به السّالى ... ومثل يومك لم يخطر على بالى
وكان مولده فى سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان أبيض مربوعا حسن الجسم، وكان أنفه كبيرا جدا، وكان شديد القوة كثير الإقدام، ولم يكن له من الحكم فى ولايته ما يعرف به حاله ويستدلّ على سيرته.
ذكر خلافة القادر بالله
هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبى أحمد بن الموفق، وأمه أم ولد اسمها دمنة وقيل تمنى «1» ، وهو الخليفة الخامس والعشرون من الخلفاء العباسيين.
وبويع له فى يوم خلع الطائع لثمان/ بقين من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وكان يوم ذاك بالبطيحة «2» عند مهذّب الدولة أميرها.(23/206)
وكان سبب توجهه إليها أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفى جرى بين القادر وبين أخيه منازعة فى ضيعة، وطال الأمر بينهما.
ثم إن الطائع لله مرض مرضا شديدا أشفى «1» منه ثم أبلّ «2» فسعت إليه بأخيها القادر وقالت: إنه شرع فى طلب الخلافة عند مرضك! فتعيّر رأيه فيه، وأنفذ أبا الحسن ابن حاجب النّعمان وغيره للقبّض عليه وكان بالحريم الطاهرى، فأصعدوا فى الماء إليه.
وكان القادر قد رأى فى منامه كأن رجلا يقرأ عليه..
«الّذين قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» «3» فهو يحكى هذا المنام لأهله ويقول: أنا خائف من طلب يطلبنى! ووصل أصحاب الطائع لله وقبضوا عليه، فأراد لبس ثيابه فمنعوه ولم يمكّنوه من مفارقتهم، فأخذه النساء منهم قهرا وخرج من داره واستتر وذلك فى سنة تسع وسبعين. ثم سار إلى البطيحة فسار فنزل على مهذب الدولة، فأكرم نزله ووسّع عليه وبالغ فى خدمته، ولم يزل عنده حتى أفضى إليه الأمر فجعل علامته «حسبنا الله ونعم الوكيل» .
قال «4» : ولما قبض على الطائع ذكر/ بهاء الدولة من يصلح(23/207)
للخلافة فاتفقوا على القادر بالله، فأرسل بهاء الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد.
وشغب الجند والدّيلم ببغداد، ومنعوا من الخطبة له، فقيل على المنبر: اللهمّ أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله! ولم يذكر اسمه، ثم أرضاهم بهاء الدولة «1» .
قال «2» : ولما وصل الرسول إلى القادر بالله كان فى تلك الساعة يحكى مناما رآه فى تلك الليلة هو ما حكاه عبد الله بن عيسى كاتب مهذّب الدولة قال: كنت أحضر عند القادر بالله كلّ أسبوع مرتين، فكان يكرمنى، فدخلت عليه يوما فوجدته قد تأهب لم تجر به عادته، ولم أرمنه ما ألفت من كرامته «3» فاختلفت بى الظنون، فسألته عن سبب ذلك فإن كان لزلّة منى اعتذرت عن نفسى فقال:
«بل رأيت البارحة فى منامى كأن نهركم هذا نهر الصليق قد اتّسع فصار مثل دجلة دفعات، فسرت على جانبه متعجبا منه، ورأيت عليه قنطرة عظيمة فقلت من قد حدّث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم؟ ثم صعدتها- وهى محكمة- فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصا يتأملنى من ذلك الجانب فقال: أتريد أن تعبر؟ قلت: نعم، فمد يده حتّى وصلت إلىّ فأخذنى وعبربى فهالنى، وتعاظمنى فعله، فقلت:/ من أنت؟ قال: علىّ بن(23/208)
أبى طالب وهذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه فأحسن إلى ولدى وشيعتى» ! قال «1» : فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملّاحين وغيرهم فسألنا عن ذلك فإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة، فخطابته «يا أمير المؤمنين» وقام مهذّب الدولة بخدمته أحسن قيام، وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك إلى الخلفاء وشيّعه، فسار القادر إلى بغداد، فلما وصل جبّل «2» انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس إليه واستقبلوه وساروا فى خدمته، فدخل دار الخلافة فى ثانى عشر شهر رمضان وبايعه بهاء الدولة والناس، وخطب له فى ثالث عشر الشهر المذكور.
وجدّد أمر الخلافة وعظم ناموسها»
وحمل إليه ما نهب من دار الخلافة، ولم يخطب له فى جميع خراسان بل كانت الخطبة فيها للطائع لله وحلف له بهاء الدولة على الطاعة والقيام بشروط البيعة، وحلف القادر له بالوفاء والخلوص، وأشهد عليه أنه قلّده ماوراء بابه.
ذكر تسليم الطائع لله الى القادر
وما فعله معه/ وفى شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة سلّم بهاء الدولة الطائع لله إلى الخليفة القادر بالله، فأنزله فى حجرة من خاصّ(23/209)
حجره، ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته وبالغ فى الإحسان إليه، وكان الطائع يطلب الزيادة فى الخدمة كما كان أيام الخلافة فيؤمر له بذلك. حكى عنه أن القادر أرسل إليه طيبا فقال: من هذا يتطيب أبو العباس؟ يعنى القادر فقالوا:
نعم! فقال: قولوا له عنى: فى الموضع الفلانى كندوج «1» فيه طيب مما كنت أستعمله، فليرسل إلىّ بعضه ويأخذ الباقى لنفسه! ففعل ذلك، وأرسل إليه القادر يوما عدسية فقال: ما هذا؟ قالوا:
عدس وسلق! فقال: أوقد أكل أبو العباس من هذا؟ قالوا: نعم! قال: قولوا له عنى: لمّا أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت فما كانت العدسية تعوزك، ولم تقلدت هذا الأمر؟ فأمر حينئذ القادر أن تفرد له جارية من طباخاته تحضر له ما يلتمسه فى كل يوم، فأقام على هذا إلى أن توفى.
وفى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة عقد نكاح القادر بالله على بنت بهاء الدولة «2» على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وماتت قبل النّقلة إليه.
وفيها اشتدّ الغلاء بالعراق وبيعت الكارة الدقيق بمائتين وستين درهما، والكرّ الحنطة بستة آلاف/ وستمائة درهم غياثية «3» .(23/210)
وفى سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة توفى العزيز بالله صاحب مصر، وولى بعده ابنه الحاكم.
وفى سنة تسع وثمانين انقرضت الدّولة السامانية وملك التّرك ماوراء النهر «1» .
وفيها عمل أهل باب البصرة ببغداد يوم السادس والعشرين من ذى الحجة زينة عظيمة وفرحا كثيرا، وعملوا فى ثامن عشر المحرم مثل ما تعمل الشيعة فى يوم عاشوراء. وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب ويعلّقون الثياب للزينة فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، وهو يوم الغدير. وكانوا يعملون- يوم عاشوراء- المآتم والنّوح، ويظهرون الحزن لمقتل الحسين، فعمل أهل باب البصرة مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم وقالوا: يوم دخول النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله تعالى عنه الغار! وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل عمل الشيعة يوم عاشوراء وقالوا: هذا يوم قتل مصعب بن الزبير رضى الله تعالى عنهما.
وفى سنة تسعين وثلاثمائة ظهر فى سجستان معدن الذهب الأحمر «2» .(23/211)
ذكر البيعة لولى العهد
وفى شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة أمر القادر بالله/ بالبيعة لولده أبى الفضل بولاية العهد، ولقّبه الغالب بالله. وكان سبب ذلك أن أبا عبد الله بن عثمان الواثقى من ولد الواثق بالله كان من أهل نصيبين، فقصد بغداد ثم سار إلى خراسان وعبر النّهر إلى هارون بن أيلك بغراخان «1» ، وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمى وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقىّ وأنه ولىّ عهده. فأجاب بغراخان إلى ذلك وبايع له وخطب له ببلاده، فبلغ ذلك القادر فعظم عليه وأرسل إلى بغراخان فى معناه فلم يصغ إلى رسالته. فلما توفى هارون وولى بعده أحمد بغراخان كاتبه الخليفة فى معناه، فأمر بإبعاده فحينئذ بايع القادر لولده، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك.
وأما الواثقىّ فإنه خرج من عند أحمد بغراخان وقصد بغداد فعرف بها، فطلب منها فهرب إلى البصرة ثم إلى فارس وكرمان، ثم إلى بلاد الترك، فلم يتم له ما أراد، وأرسل الخليفة إلى الملوك يطلبه فضاقت عليه الأرض، فسار إلى خوارزم فأقام بها ثم فارقها، فأخذه يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه إلى أن مات.(23/212)
وفى سنة إحدى وأربعمائة خطب قرواش «1» بن المقلد أمير بنى عقيل للحاكم العلوى صاحب مصر بالكوفة/ والموصل والأنبار والمدائن وغيرها من أعماله ثم قطعت فى السنة «2» .
وفى سنة إحدى عشرة وأربعمائة مات الحاكم صاحب مصر وولى بعده ابنه الظاهر لاعزاز دين الله «3» .
وفى سنة اثنتى عشرة وأربعمائة توفى على بن هلال المعروف بابن البواب، وإليه انتهى الخطّ، ونقل عنه إلى وقتنا هذا، ودفن بجوار أحمد بن حنبل، وكان يقص بجامع بغداد، وقيل إنه مات فى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ورثاه المرتضى «4» .
ذكر الفتنة بمكة
وفى سنة أربع عشرة وأربعمائة فى يوم النفر الأول وكان يوم الجمعة، قام رجل من أهل [مصر] «5» بإحدى يديه سيف(23/213)
مسلول والأخرى دبوس، بعد فراغ الإمام من الصلاه فقصد الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بالدبوس وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلىّ؟ فليمنعنى مانع من هذا، فإنى أريد هدم هذا البيت! فخاف أكثر من حضر وتراجعوا عنه وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطّعه النّاس وأحرقوه، وقتل ممّن اتّهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظّاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلا غير ما أخفى منهم.
وألحّ/ النّاس فى ذلك اليوم على المغاربة والمصريين بالنّهب والسّلب، فلما كان الغدماج النّاس واضطربوا وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل فقالوا: نحن مائة رجل! فضربت أعناق الأربعة. وتقشّر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه.
وفى سنة ثمانى عشرة وأربعمائة سقط بالعراق جميعه برد كبار وزن الواحدة رطل ورطلان، وأصغره كالبيضة، فأهلك الغلّات ولم يصح منها إلى القليل، هكذا حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل «1» .
وفيها فى آخر تشرين الثانى هبّت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخلّ، وبطل دوران الدواليب التى على دجلة.
وفى سنة تسع عشرة وأربعمائة انقطع الحجّ من العراق، فمضى(23/214)
بعض حجاج خرامان إلى كرمان وركبوا فى البحر إلى جدة وحجوا!.
ذكر البيعة لولى العهد
كان القادر بالله قد جعل ولاية العهد لولده أبى الفضل كما قدمناه فمات «1» فلما كان فى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة مرض القادر وأرجف بموته، فجلس جلوسا عاما وأذن للخاصة والعامة/ فدخلوا عليه. فلما اجتمعوا قام الصّاحب أبو الغنائم فقال:
خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بالبقاء وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين باختيار الأمير أبى جعفر لولاية العهد! فقال القادر للناس: قد أذنّا لكم فى العهد له! وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك فنهاه عنه الحسن ابن حاجب النعمان، فلما عيّنه القادر الآن جلس على السرير الذى كان قائما عليه. وألقيت الستارة التى على القادر، فتقدم الحاضرون وخدموا ولىّ العهد وهنّئوه، وتقدّم أبو الحسن ابن حاجب النعمان فقبّل يده وهنّأه فقال له أبو جعفر:
«وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال» «2» يعرض له بإفساده رأى القادر فيه فأكب على تقبيل قدميه وتعفير خدّه بين يديه، فقبل عذره. ودعى لأبى جعفر على المنابر يوم الجمعة لستّ بقين من جمادى الأولى، ومات أبو الحسن ابن حاجب النعمان فى نفس السنة.(23/215)
ذكر ملك الروم مدينة الرها
وفى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ملك الرّوم مدينة الرّها وكانت بيد نصير الدولة «1» بن مروان صاحب ديار بكر، ملكها من صاحبها عطير فى سنة ست عشرة وأربعمائة ثم مات عطير فشفع صالح بن مرداس صاحب حلب إلى نصير الدولة فى إعادتها إلى ابن عطير وإلى ابن شبل بينهما، فقبل شفاعته وسلمها إليهما. وكان فى الرّهابرجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر فتسلم ابن عطير الكبير وابن شبل الصغير، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة. فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم وباعه حصّنه من الرّها بعشرين ألف دينار وعدّة قرى من جملتها القرية التى عرفت بسن ابن عطير، وتسلموا البرج الذى له ودخلوا البلد فملكوه وهرب منه أصحاب ابن شبل. وقتل الرّوم المسلمين، وخرّبوا المساجد، فسمع نصير الدولة الخبر فسيّر جيشا كثيفا إلى الرها فحصرها وفتحها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النّصارى بالبيعة التى لهم، فحصرهم المسلمون بها وأخرجوهم وقتلوا أكثرهم ونهبوا البلد، وبقى الروم بالبرجين. فسيّر إليهم ملكهم عسكرا نحو عشرة آلاف مقاتل، فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم، ودخل الروم البلد ونهبوا ما جاورهم من بلاد المسلمين وصالحهم ابن وثّاب [النميرى] «2» على حرّان وسروج وحمل إليهم خراجا.(23/216)
ذكر وفاة القادر بالله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته رحمه الله فى اليوم الحادى والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر. وكانت مدّة خلافته إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر إلا أياما. وكان حليما كريما خيّرا يحبّ الخير وأهله ويأمر به، وينهى عن الشرّ ويبغض أهله. وكان حسن الاعتقاد، وصنّف كتابا على مذهب السنة. وكان يخرج من داره فى زىّ العامّة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف الكرخىّ وغيره.
قال القاضى الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم وكان له قيمة جيّدة، فأرسل إلىّ ابن حاجب النعمان- وهو حاجب القادر بالله- يأمرنى أفكّ الحجر عنه ليشترى بعض أصحابه ذلك الملك فلم أفعل فأرسل إلى يستدعينى فقلت لغلامه: «تقدمنى حتى ألحقك» وخفته وقصدت قبر معروف الكرخى فدعوت الله أن يكفينى شرّه وهناك شيخ فقال: «على من تدعو؟» فذكرت له الخبر ووصلت إلى الحاجب فأغلظ لى فى القول ولم يقبل عذرى، فأتاه خادم برقعة ففتحها فقرأها فتغير لونه واعتذر إلى ثم قال: «كتبت إلى الخليفة رقعة؟» / قلت:
«لا» وعلمت أن ذلك الشّيخ كان الخليفة! وقيل إنه كان يقسم إفطاره كلّ ليلة ثلاثة أقسام؛ فقسم يتركه بين يديه، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة، وقسم يرسله إلى جامع المدينة يفرّقه على المقيمين فيهما. فاتّفق أن الفرّاش حمل(23/217)
الطعام ليلة إلى جامع المدينة ففرّقه على الجماعة، فأخذوا إلا شابّا فإنه رده، فلما صلّوا المغرب خرج الشاب وتبعه الفرّاش فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع فقال له الفراش: ويحك أما تستحى. ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فتردّه وترجع فتأخذه من الأبواب؟ فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علىّ قبل المغرب وكنت غير محتاج إليه فلما احتجت طلبت! فعاد الفراش وأخبر القادر بالله فبكى وقال له: راع مثل هذا واغتنم أجره وأقم إلى وقت الإفطار.
ومناقبه كثيرة مشهورة وكان أبيض نقىّ الجسم كثّ اللحية طويلها يخضب. ودبّر الملك فى أيامه بهاء الدولة إلى أن مات، ثم ابنه سلطان الدولة أبو شجاع إلى أن مات، ثم أخوه أبو على شرف الدولة إلى أن مات، ثم أخوه أبو طاهر جلال الدولة.
وكان للقادر بالله من الأولاد أبو الفضل الغالب بالله مات فى حياته، وأبو جعفر عبد الله القائم، وأبو القاسم ومات فى حياتة أيضا.
وزراؤه: محمد بن أحمد الشيرازى الصاحب، وسعيد بن نصر بن على الفيروزابادى، وسعيد بن الحسن بن برتك «1» البصرى، وعلى بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان، ثم ابنه أبو الفضل محمد بن على.(23/218)
حجابه: أبو الفتح محمد بن الحسين السعيدى، ثم أبو القاسم بكران، ثم ولده أبو منصور وغيرهم، نقش خاتمه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقيل: «حسبى الله ونعم الوكيل» .
ذكر خلافة القائم بأمر الله
هو أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أبى العباس أحمد بن إسحاق ابن المقتدر بالله أبى الفضل جعفر، وقد تقدم ذكر نسبه. وأمه أم ولد اسمها بدر الدجى، وقيل: قطر الندى وقيل: علم، وكانت أرمنية وقيل: رومية. وهو الخليفة السادس والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له البيعة العامّة بعد وفاة أبية فى الحادى والعشرين من ذى الحجة فى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة «1» . وصلّى بالناس عشاء المغرب فى صحن السلام من دار الخلافة، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى وعشرين كما ذكرناه، وأول/ من بايعه الآن الشريف أبو القاسم المرتضى، وأنشد:
فإمّا مضى جبل وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسى
وإما فجعنا يبدر التّمام ... فقد بقيت منه شمس الضّحى
فكم حزن فى محلّ السرور ... وكم ضحك فى خلال البكى «2»
فيا صارما أغمدته يد ... لنا بعدك الصارم المنتضى(23/219)
وأرسل القائم بأمر الله قاضى القضاة أبا الحسن الماوردى إلى الملك أبى كاليجار ليأخذ عليه البيعة، ويخطب له فى بلاده، فأجاب وبايع، وخطب له فى بلاده، وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالا كثيرة.
ذكر الحوادث فى أيام القائم
فى منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة توفى الظّاهر صاحب مصر، وولى بعده ابنه المستنصر «1» .
وفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة كان ابتداء الدولة السّلجقية على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «2» .
وفى سنة خمس وثلاثين وأربعمائة أظهر المعزّ بن باديس الدّعوة للدولة العباسية، وخطب ببلاده للخليفة القائم بأمر الله فسيّرت إليه الخلع والتقليد «3» .
وفى سنة إحدى وأربعين/ وأربعمائة فى ذى القعدة ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلا فزادت ظلمتها على ظلمة الليل، وظهر فى جوانب السماء كالنار المضطرمة، وهبّت ريح قلعت روشن «4» دار الخليفة، ثم انكشف ذلك فى بقية الليل.(23/220)
وفى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فى يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر ظهر ببغداد كوكب غلب نوره على نور الشمس له ذؤابة نحو دراعين، وسار سيرا بطيئا، ثم انقض والناس يشاهدونه.
وفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة زلزلت الأرض نحورستان وأرّجان وغيرها زلازل كثيرة كان معظمها بأرجان فخرّب كثير من بلادها، وانفرج جبل كبير بالقرب من أرجان فانصدع فظهر فى وسطه درجة بالآجرّ والجصّ وقد خفيت فى الجبل، فعجب الناس من ذلك! وفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة وصل طغرلبك السّلجقى إلى بغداد «1» وخطب له بها، وانقرضت الدولة البويهية.
وفى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة تزوّج الخليفة القائم بأمر الله بأرسلان خاتون واسمها خديجة ابنة داود أخى السلطان طغرلبك، وقبل الخليفة النّكاح لنفسه.
وفى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة فى الشعر/ الثانى من جمادى الآخرة ظهر وقت السّحر فى السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذرع فى رأى العين وعرضها ذراع، وبقيت كذلك إلى نصف شهر رجب واضمحلّت.(23/221)
وفيها أمر الخليفة القائم بأمر الله أن يؤذّن بالكرخ والمشهد وغيرهما «الصلاة خير من النوم» وأن يتركوا «حى على خير العمل» ففعلوا ذلك.
وفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة اشتدّ الغلاء ببغداد والعراق حتّى بيعت الكارة الدقيق السميذ بثلاثة عشر دينارا والكارة الشعير والذرة بثمانية دنانير، ومقدار الكارة [] «1» وأكل النّاس الميتة والكلاب وغيرها وكثر الوباء، حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانوا يجعلون الجماعة فى الحفيرة.
وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل: إنه مات فى يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك فى هذه الولاية فى مده الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفا، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميّت وقد دخل عليه تركى يأخذ لحافا عليه فمات التركى وطرف اللّحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة لا تجد من يجمعها «2» !(23/222)
ذكر أخبار أبى الحارث أرسلان البساسيرى
وابتداء حاله وما كان منه إلى أن تغلب على بغداد وقطع خطبة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر العلوى صاحب مصر كان أبو الحارث البساسيرى مملوكا تركيا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهى، وهو منسوب إلى مدينة بساسير من بلاد فارس، كان سيده الأول منها فقيل له: البساسيرى لذلك «1» . وأما ما وليه من المناصب التى ترقّى منها إلى أن صار منه ما صار، فإنه ولى فى سنة خمس وعشرين وأربعمائة حماية الجانب الغربى ببغداد، لأن العيارين كان قد اشتد أمرهم وعظم فسادهم وعجز عنهم نواب السلطان فاستعمل لكفاءته ونهضته وذلك فى سلطنة جلال الدولة أبى طاهر بهاء الدولة بن بويه، فظهرت كفاءته.
وتقلّبت به الحال وصحب جلال الدولة فى حروبه وأبلى بين يديه بلاء حسنا، فعظم شأنه وارتفع محلّه وعلت رتبته وتقدّم على الجيوش، وكان بينه وبين العرب الذين خالفو جلال الدولة وخرجوا عن طاعته وكاشفوه بالعداوة حروب كان [النّصر] فى/ أكثرها له، ثم صار يخلف الملك الرحيم ببغداد. واستولى على الأنبار فى سنة(23/223)
إحدى وأربعين وأربعمائة وملكها من قرواش بن المقلّد، واستولى على الدّردار، وملكها من سعيد بن أبى الشول. ولما استولى الملك الرحيم على البصرة فى سنة أربع وأربعين وأربعمائة وأخذها من أخيه أبى على بن أبى كاليجار سلّمها إلى البساسيرى فنهض فيها وضبطها وأوقع بالأكراد والأعراب فى سنة خمس وأربعين وأربعمائة- وكانوا قد أفسدوا فى البلاد- فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم أموالهم وأجلاهم عن البلاد. ثم أتى بغداد ووقع بينه وبين الخليفة القائم بأمر الله وحشة عظيمة فى سنة ستّ وأربعين وأربعمائة لأسباب يطول شرحها أدّت إلى إسقاطه مشاهرات الخليفة ومشاهرات رئيس الرؤساء «1» الوزير وحواشى الدار، ودام ذلك من شهر رمضان إلى ذى الحجة! ثم سار إلى الأنبار فمنعه أبو الغنائم ابن المحلبان من دخولها فحاصرها ونصب عليها المجانيق، وفتحها عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة رجل ومائة من بنى خفاجة وأسر أبو الغنائم. وعاد إلى بغداد وهو بين يديه على جمل وعليه قميص أحمر وعلى رأسه برنس وهو مقيّد، وأنّى إلى مقابل التّاج وقبّل الأرض وعاد إلى منزله وهو يجعل الذّنب كلّه لرئيس الرؤساء/ وزير الخليفة- ويقول لست أشكو إلا منه فإنه أخرب البلاد.
وكاتب السّلجوقية وأطمعهم فى البلاد، ثم توجه البساسيرى إلى واسط، فلما كان فى سنة سبع وأربعين وضع رئيس الرؤساء(23/224)
الأتراك البغداديين على البساسيرى وثلبه ونسب ما يقع من النقص إليه، ففعلوا ذلك وزادوا عليه حتى حضروا إلى دار الخلافة فى شهر رمضان واستأذنوا فى قصد دور البساسيرى ونهبها فأذن لهم فى ذلك، فنهبوا دوره وأحرقوها، ووكلوا بنسائه وأهله ونوابه، ونهبوا دوابّه وجميع ما بملكه ببغداد. وأطلق رئيس الرؤساء لسانه فى البساسيرى وذمّه ونسبه إلى مكاتبة المستنصر صاحب مصر، وأرسل الخليفة إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيرى فأبعده، وكانت هذه الحالة من أعظم الأسباب فى ملك السلطان طغرلبك العراق.
ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد إثر هذه الحادثة وملكها، وانقرضت الدّولة البويهية، فعند ذلك أظهر البساسيرى الخلاف وجاهر بالعصيان، وانضم إليه نور الدولة دبيس بن مزيد. والتقوا هم وقريش بن بدران «1» صاحب الموصل وكان مع قريش قتلمش «2» السّلجوقى-/ وهو ابن عم طغرلبك- واقتتلوا فكانت الهزيمة على قريش وقتلمش، وكانت هذه الواقعه عند سنجار فى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. ثم صار قريش بن بدران مع البساسيرى ونور الدولة دبيس، فساروا إلى الموصل وخطبوا بها للمستتصر بالله العلوى صاحب مصر- وكانوا قد كاتبوه بطاعتهم فأرسل إليهم الخلع عن مصر- فلما بلغ ذلك السلطان طغرلبك سار إلى الموصل وديار بكر لإخلائها من البساسيرى وغيره من المفسدين، فاستولى(23/225)
على الموصل وأعمالها وسلّمها إلى أخيه إبراهيم ينال «1» وعاد إلى بغداد فى سنة تسع وأربعين وأربعمائة فأقام بها إلى سنة خمسين وأربعمائة. ثم فارقها وتوجه نحو بلاد الجبل فعاد البساسيرى إلى الموصل واستولى عليها وحصر قلعتها أربعة أشهر، وملكها فهدمها وعفى أثرها، وكان السلطان قد فرق عساكره فكتب إلى أخيه إبراهيم واستدعاه، فحضر إليه إلى بلاد الجبل فسار السلطان جريدة «2» فى ألفى فارس إلى الموصل فوجد البساسيرى وقريش بن بدران قد فارقاها.
فسار إلى نصيبين ليتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان فكاتبه البساسيرى وأطمعه فى السلطنة، فأظهر إبراهيم العصيان/ على السلطان طغرلبك فسار طغرلبك إلى همذان فى منتصف شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل بحرب أخيه حتى ظفر به، ثم عرض له ما شغله عن العود إلى بغداد.
ذكر استيلاء أبى الحارث البساسيرى على العراق
وخروج الخليفة القائم بأمر الله من بغداد والخطبة للمستنصر بالله العلوى صاحب مصر وقطع الدعوة العباسية قال «3» : ولما اشتغل السلطان طغرلبك بحرب أخيه(23/226)
قصد البساسيرى بغداد، فلما وصل إلى هيت أمر الخليفة الناس بالعبور إلى الجانب الشرقى، وكان الأتراك كلّهم قد التحقوا بالسلطان إلى همذان. وكان الخليفة قد كتب إلى نور الدولة دبيس يأمره بالوصول إلى بغداد فورد إليها فى مائة فارس، فلما قوى الإرجاف بوصول البساسيرى أرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء (الوزير يقول: الرأى عندى خروجكما من البلد معى، فإننى أجتمع أنا وهزارسب بواسط على دفع عدوّكما. فأتاه الجواب أن يقيم حتى يقع/ الفكر فى ذلك، فقال: العرب لا تطيعنى على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى فإذا انحدرتم سرت فى خدمتكم! وسار وأقام بديالى ينتظرهما فلم ير لذلك أثرا، فسار إلى بلده.
ثم وصل البساسيرى إلى بغداد فى يوم الأحد ثامن ذى القعدة ومعه أربعمائة غلام فى غاية الضر والفقر، فنزل بمشرعة الروايا وكان معه قريش بن بدران وهو فى مائتى فارس فنزل مشرعة باب البصرة. وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام وأقاموا بإزاء عسكر البساسيرى وعادوا، وخطب البساسيرى بجامع المنصور للمستنصر العلوى صاحب مصر فأذّن «حى على خير العمل» وعقد الجسر وعبر عسكره إلى الزاهر واجتمعوا فيه، وخطب فى الجمعة الثانية للمصرى بجامع الرصافة، وجرى بين الطائفتين حروب فى أثناء الأسبوع.
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء وزير الخليفة بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظارا لقدوم(23/227)
طغرلبك، ولما يراه من ميل العوام للبساسيرى. فاتّفق فى بعض الأيام أن القاضى الهمذانى حضر إلى رئيس الرؤساء واستأذنه فى الحرب وضمن له قتل البساسيرى فأذن له من/ غير علم عميد الدولة، فخرج ومعه الخدم والهاشميون والعجم والعوام إلى الخليفة فاستخرجهم البساسيرى حتى أبعدوا، ثم حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل جماعة منهم، ومات فى الزّحمة جماعة، ونهب باب الأزج. وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب فدخل الدار وهرب كل من فى الحريم، ورجع البساسيرى إلى معسكره.
واستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم فلم يرعهم إلا والزعقات قد علت ونهب الحريم، ودخلوا الباب النوبى. فركب الخليفة لابسا السّواد وعلى كتفه البردة وبيده سيف على رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النّهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه ومضى نحو عميد العراق.، فوجده قد استأمن إلى قريش فعاد وصعد إلى المنظرة.
وصاح رئيس الدولة «يا علم الدين» يعنى قريشا «أمير المؤمنين يستدنيك» فدنا منه فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم «1» منك على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسوله صلى الله عليه(23/228)
وسلم وذمام العربية. قال: أذم الله تعالى! قال: ولى ولمن معه؟
/ قال نعم! وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة، وأعطى رئيس الرؤساء ذماما. فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه فأرسل إليه اليساسيرى: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ «1» فقال قريش: لا! وكانا قد تعاهدا على المشاركة فى الذى يحصل لهما وأن لا يستبدّ أحدهما دون الآخر بشىء، فاتفقا على أن يسلّم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيرى لأنه عدوّه ويترك الخليفة عنده!
ذكر مقتل رئيس الرؤساء وعميد العراق
قال «2» ولما أرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيرى قال له: مرحبا بمهلك الدول ومخرّب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة! فقال له المبساسيرى: قدرت فما عفوت وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمى وأطفالى، فكيف أعفو أنا وأنا صاحب السيف؟ وأمر به فحبس إلى آخر ذى الحجة، ثم أخرجه من محبسه مقيدا وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفى رقبته- مخنّقة/ [جلد بعير] «3» وهو يقرأ «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ(23/229)
تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ»
الآية.. «1» وطيف به محالّ بغداد وهو على جمل ووراءه من يصفعه.
فلما اجتاز بالكرخ بصق أهل الكرخ فى وجهه لأنه كان يتعصّب عليهم! وجىء به إلى البساسيرى وقد نصبت له خشبة فأنزل من على الجمل وألبس جلد ثور قد سلخ فى ذلك اليوم، وجعلت قرونه على رأسه وعلّق بكلوبين من حديد، فلم يزل يضطرب إلى آخر النهار ومات، فقال بعض الشعراء فى هذه الواقعة:
أقبلت الرّايات مبيضّة ... يقدمهنّ الأسد الباسل
وولت السوداء منكوسة ... ليس لها من ذلّة سائل
انظر إلى الباغى على جدعه ... والدّم من أوداجه سائل
يعنى رئيس الرؤساء، قال: ودخل البساسيرى داره ونهب ما فيها وشهر حرمه وأمر بنقض داره وقال عند ذلك: فواحدة بواحدة جزاء! قال «2» : وكان رئيس الرؤساء حسن التّلاوة جيّد المعرفة بالنّحو.
وقتل البساسيرىّ عميد العراق وكان فيه شجاعة وله فتوة، وهو الذى بنى رباط شيخ الشيوخ. وأما الخليفة فإن قريشا نقله إلى معسكره/ راكبا وعليه السّواد والبردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وأنزله فى خيمة، وأخذ أرسلان خاتون ابنة أخى السلطان طغرلبك فسلّمها إلى أبى عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.(23/230)
ونهبت دار الخلافة وحريمها أياما، ثم سلّم قريش الخليفة إلى ابن عمّه مهارش بن المجلّى «1» وهو رجل فيه دين وله مروءة فحمله فى هودج وسار به إلى حديثة عانة «2» فنزل بها، ولما وصل إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه شيئا يلبسه فأرسل إليه جبة فيها قطن ولحافا.
قال «3» وركب البساسيرى يوم عيد النّحر وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقى وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس وأجرى الجرايات على المتفقّهة ولم يتعصب لمذهب، وأقام بالعراق إلى ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة.
واشتغل السلطان طغرلبك فى هذا لمدّة بأمر أخيه إبراهيم حتى ظفر به وقتله، ومات أخوه داود بخراسان فاحتاج طغرلبك إلى المقام حتى قرّر القواعد بعده لإلب أرسلان ابن أخيه داود «4» ثم عاد إلى العراق(23/231)
ذكر عود الخليفة القائم بأمر الله الى بغداد وخروج البساسيرى منها وقتله
/ قال: «1» ولما فرغ السلطان طغرلبك من أخيه إبراهيم ينال وقتله، وقتل ابنيه معه- وكان قد خرج عليه مرارا فعفا عنه، وإنما قتله فى هذه الوقعة لأنه علم أن الذى جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه- عاد إلى العراق وليس له هم إلا إعادة الخليفة القائم بأمر الله إلى داره. فأرسل إلى البساسيرىّ وقريش فى إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق ويقنع بالخطبة والسّكة، فلم يجب البساسيرىّ إلى ذلك، فرحل طفرلبك إلى العراق، فلما وصلت مقدّمته إلى قصر شيرين خرج حرم البساسيرى وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم فى دجلة وعلى الظهر.
وكان دخول البساسيرىّ بغداد فى سادس ذى القعدة سنة خمسين وأربعمائة، وخروجه منها فى سادس ذى القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ووصل طغرلبك إلى بغداد وقد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد المعروف بابن فورك «2» إلى قريش ابن بدران يشكره على فعله بالخليفة وحفظه وصيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه أرسل أبا بكر بن فورك لإحضارهما. ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له:/ «إنا أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك لينكشف بلاء الغزّ عنا والآن فقد عادوا وهم عازمون على قصدك،(23/232)
فارحل بأهلك إلى البرية فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا فى البرية لم يقصدوا العراق ونتحكم عليهم بما نريد» فقال مهارش: «إن الخليفة قد استحلفنى بعهود لا أخلص منها» .
وسار مهارش ومعه الخليفة فى حادى عشر ذى القعدة سنة إحدى وخمسين إلى العراق فوافيا ابن فورك فى الطريق، وأرسل إليه طغرلبك الخيام العظيمة والسرادقات والخيل بمراكب الذهب وغير ذلك من التحف فلقوه.
ووصل الخليفة إلى النهروان فى الرابع والعشرين من ذى القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته وقبّل الأرض بين يديه وهنأه بالسلامة واعتذر من تأخره. فشكر له ذلك وقلّده سيفا وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه وقد تبرّك أمير المؤمنين به! قال: «1» ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضى أبى عبد الله بن الدامغانىّ وثلاثة نفر من الشّهود.
وتقدّم السلطان فى المسير ووصل إلى بغداد، وجلس إلى الباب النوبى مكان الحاجب، ووصل القائم بأمر الله فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته/ حتى صار إلى حجرته. وكان وصوله يوم الإثنين لخمس بقين من ذى القعدة، وكانت السنة مجدبة، ولم ير النّاس فيها مطرا فجاء المطر فى تلك الليلة «2» .(23/233)
قال «1» : ولما استقرّ الخليفة القائم بأمر الله أنفذ السلطان جيشا عليهم خمار تكين الطّغرائى فى ألفى فارس نحو الكوفة، وسار فى أثرهم فلم يشعر دبيس والبساسيرى إلا والسّريّة قد وصلت إليهم فى ثامن ذى الحجة من طريق الكوفة، فجعل أصحاب دبيس ابن مزيد يرتحلون بأهليهم فيتبعهم الأتراك فيتقدم دبيس ليردّ العرب إلى القتال فلا يرجعون! فمضى، ووقف البساسيرىّ وقاتل فسقط عن فرسه ووقع فى وجهه ضربة، ودلّ عليه بعض الجرحى فأخذه كمشتكين، وأتى عميد الملك الكندرى «2» وزير السلطان وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان فأمر بحمله إلى دار الخليفة، فطيف به على قناة فى نصف ذى الحجة، ومضى، ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة.
وفى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة رتّب الخليفة أبا تراب الأثيرىّ فى الأنهار وحضور المواكب ولقّبه حاجب الحجّاب، واستوزر أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست، بعد أن شرط على نفسه أن يخدم بغير إقطاع/ ويحمل مالا.
وفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة عقد السلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله وحمل مائة ألف دينار، ولم يقع مثل هذا فيما تقدّم، وامتنع الخليفة من ذلك ثم أجاب إليه.(23/234)
وفى هذه السنة عزل ابن دارست عن الوزارة ووليها أبو نصر ابن جهير.
وفيها عمّ الرخص جميع الأصقاع، فبيع بالبصرة ألف رطل من الثمر بثمانية قراريط «1» .
وفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة وصل السلطان بابنة الخليفة فى شهر المحرم، وسار من بغداد فى شهر ربيع الأول إلى الرّىّ فمرض بها وتوفى لثمان خلون من شهر رمضان.
وفيها ملك ألب أرسلان بعد عمّه طغرلبك «2» .
وفى سنة ستّ وخمسين وأربعمائة عادت ابنة الخليفة زوجة السلطان طغرلبك وسيّر السلطان فى خدمتها الأمير إيتكين السليمانى وجعله شحنة «3» على بغداد وسأل ألب أرسلان أن يخطب له ببغداد واقترح أن يخاطب بالولد المؤيد فأجيب إلى ذلك، ولقّب ضياء الدين عضد الدولة وجلس الخليفة جلوسا عاما وشافه «4» الرسل بتقديم ألب أرسلان فى السلطنة وسيّر إله الخلع.(23/235)
وفيها/ فى شهر ربيع الأول ظهر ببغداد والعراق وخوزستان وكثير من البلاد أن جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون فرأوا فى البرية خيما سودا، وسمعوا فيها لطما شديدا وسمعوا فيها قائلا يقول: قد مات سيدوك ملكّ الجن وأى بلد لم يلطم أهله عليه ويعملون له المأتم قلع أصله وأهلك أهله! فخرج كثير من النساء فى البلاد إلى المقابر يلطمن وينحن وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك.
قال ابن الاثير «1» : وقد جرى فى أيامنا نحن فى الموصل وما والاها إلى العراق وغيره أنّ الناس فى سنة ستمائة أصابهم وجع كثير فى حلوقهم ومات منه كثير من الناس فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود وأنّ كلّ من لا يعمل له مأتما أصابه هذا المرض! فكثر فعل ذلك، وكانوا يقولون:
يا أمّ عنقود اعذرينا ... قد مات عنقود وما درينا
وكان النساء يلطمن وكذلك الأوباش! وفى سنة سبع وخمسين وأربعمائة ابتدئ بعمارة المدرسة النظامية ببغداد، وكملت عمارتها فى ذى القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة.
وفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة فى العشر الأوسط من جمادى ظهر كوكب كبير له ذؤابة/ طويلة ممتدة إلى وسط السماء عرضها نحو ثلاثة أذرع فى رأى العين وهو بناحية المشرق، وبقى إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب.(23/236)
وفيها فى جمادى الآخرة كان بخراسان والجبال زلزلة عظيمة بقيت تتردد أياما تصدّعت منها الجبال وأهلكت خلقا كثيرا، وانخسفت منها عدة قرى، وخرج النّاس إلى الصحراء.
وفيها ولدت صبيّة بباب الأزج لها رأسان ورقبتان ووجهان وأربع أيد على بدن واحد «1» .
وفى سنة تسع وخمسين وأربعمائة فى ذى القعدة قتل الصّليحى صاحب اليمن «2» وخطب بها للدولة العباسية.
وفى سنة ستين وأربعمائة كانت زلزلة عظيمة بمصر وفلسطين خربت الرملة، وطلع الماء من رءوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت صخرة البيت المقدس ثم عادت بإذن الله تعالى، وانحسر البحر عن الساحل مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقا كثيرا.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن الوزارة ثم أعيد فى سنة إحدى وستين بشفاعة نور الدولة دبيس بن مزيد فمدحه أبو الفضل فقال:
قد رجع الحق إلى نصابه ... وأنت من دون الورى أولى به «3»
ما كنت إلّا السيف سلّته يد ... ثم أعادته إلى قرابه(23/237)
وهى قصيدة طويلة.
وفيها فى شعبان احترق جامع دمشق، وكان سبب ذلك أنه وقع بين المغاربة والمشارقة حرب فأحرقوا دارا مجاورة للجامع فاتصل الحريق بالجامع، فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة.
وفى سنة اثنتين وستين ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبى هاشم بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله والسلطان ألب أرسلان بمكة وإسقاط خطبة صاحب مصر وترك الأذان ب «حى على خير العمل» فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا نفيسة وأجرى له فى كلّ سنة عشرة آلاف دينار. وخطب محمود بن صالح بن مرداس صاحب حلب لهما أيضا فى سنة ثلاث وستين على ما نشرحه فى أخبار الدولة السّلجقية فقال أبو عبد الله بن عطية يمدح الخليفة:
كم طائع لك لم تجلب عليه ولم ... تعرف لطاعته غير التّقى سببا
هذا البشير بإذعان الحجاز وذا ... داعى دمشق وذا المبعوث من حلبا
وفيها خرج أرمانوس ملك الروم فى مائتى ألف إلى/ خلاط. «1» وأسر على ما نذكره- إن شاء الله- فى إيام ألب أرسلان.
وفى سنة أربع وستين وأربعمائة عزل إيتكين السليمانى من شحنكية بغداد واستعمل عليها سعد الدولة كوهر آيين «2» ، وكان سبب(23/238)
عزل السليمانى أنه كان قد سار إلى السلطان ألب أرسلان واستخلف ابنه شحنة بغداد فقتل أحد مماليك الدارية فأنفذ قميصة من الديوان إلى السلطان ووقع الخطاب فى عزله، فورد إلى بغداد فى ربيع الأول من هذه السنة وقصد دار الخلافة وسأل العفو عنه وأقام أياما فلم يجب إلى ذلك، وكان نظام الملك يعتنى بالسليمانى فأضأف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها من ديوان الخلافة بالتوقّف عن تسليمها.
فلما رأى السلطان ونظام الملك إصرار الخليفة على الغضب على السليمانى عزلاه، وسيّرا سعد الدولة إليها «1» ، فتلقاه الناس وجلس له الخليفة.
وفى سنة خمس وستين وأربعمائة قتل السلطان ألب أرسلان وملك بعده ابنه السلطان ملكشاه. وفيها أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس قدسه الله ...
ذكر غرق بغداد
وفى سنة ستّ وستين وأربعمائة غرق الجانب الشرقى/ وبعض الغربى من بغداد، وسبب ذلك أن دجلة زادت زيادة عظيمة وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة، وجاء الماء إلى المنازل ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقى، وهلك خلق كثير تحت الهدم «2» ، وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق. وقام(23/239)
الخليفة يتضرّع ويصلّى وعليه البردة وبيده القضيب، وغرق من الجانب الغربى مقبرة أحمد بن حنبل ومشهد باب التنين وتهدّم سوره، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدىّ.
ذكر وفاة القائم بأمر الله وشىء من سيرته
كانت وفاته فى ليلة الخميس ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان سبب وفاته أنه كان قد أصابه مأشر فافتصد «1» ونام، فانتفخ فصاده وخرج منه دم كثير ولم يشعر، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوّته. فأيقن بالموت وأحضر ولىّ عهده ووصّاه وأحضر نقيب العباسيين ونقيب الطالبيين وقاضى القضاة وغيرهم مع الوزير ابن جهير وأشهدهم على نفسه/ أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم ولىّ عهده.
ولما توفى غسله الشريف أبو جعفر بن أبى موسى الهاشمى، وصلّى عليه المقتدى بأمر الله. ومات وله من العمر ست وسبعون سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام، ومدة خلافته أربع وأربعون سنة وثمانية أشهر إلا أياما. وقيل كان مولده فى ثامن عشر ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة فعلى هذا يكون عمره ستا وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام.
وكان جميلا أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه والجسم، ورعا ديّنا زاهدا عالما قوى اليقين بالله تعالى، وله عناية بالأدب ومعرفة(23/240)
حسنة بالكتابة، ولم يكن يرضى [عن] أكثر ما يكتب من الديوان ويصلح أشياء منه. وكان مؤثرا للعدل والاحسان؛ مريدا لقضاء حوائج الناس؛ لا يرى أن يمنع ما يطلب منه، حكى عن محمد بن على ابن عامر الوكيل قال: «دخلت يوما إلى المخرن فلم يبق أحد إلا وأعطانى قصة فامتلأت أكمامى فقلت فى نفسى لو كان الخليفة أخى لأعرض عن هذه كلّها فألقيتها فى البركة والقائم ينظر ولا أشعر، فلما دخلت عليه أمر الخدم بإخراج الرّقاع من البركة فأخرجت ووقف عليها، ووقّع بأغراض أصحابها ثم قال لى: يا عامى «1» ما حملك على هذا؟ فقلت: خوف الضجر منها! فقال: لا تعود إلى مثلها فإنا ما/ أعطيناهم من أموالنا شيئا.
ومما يحكى من جملة كرمه أن أحد السلاطين فى أيامه سأله أن يتقدّم باعتقال وزرائه وذكر أنهم استولوا على أمواله فخرج توقيعه «ليست دارنا دار حبس وسجن بل هى دار طمأنينة وأمن» وكان له شعر رائق فمنه قوله:
قالوا: الرحيل، فأنشبت أظفارها ... فى خدّها وقد اعتلقن خضابا
واخضرّ تحت بنانها فكأنما ... غرست بأرض بنفسج عنّابا
وفى أيامه أسلم من كفار الأتراك ألف خركاه وضحّوا بثلاثين ألف رأس من الغنم وقيل: أكثر من ذلك.(23/241)
ولم يخلف ولدا لأن ابنه ذخيرة الدين توفى فى ذى القعدة سنة سبع وأربعين وعمره خمس عشرة سنة.
وزراؤه وكتابه: كتب له عميد الرؤساء أبو طالب محمد بن أيوب، ثم رئيس الرؤساء أبو القاسم على بن الحسن بن مسلمة- وزر له ولقّبه بهذا اللقب وبجمال الورى- ووزر له بعده أبو الفتح منصور ابن أحمد بن دارست، ثم فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد ابن جهير. قضاته: قاضى القضاة أبو عبد الله الحسن بن على بن ماكولا البصرى إلى أن مات، فولّى أبا عبد الله محمد بن على الدامغانى شيخ أصحاب أبى حنيفة./ حجّابه: أبو منصور بن بكران ثم أبو عبد الله الحسن بن على المردوسى «1» .
ذكر خلافة المقتدى بأمر الله
هو أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العباس أحمد بن القائم بأمر الله، وأمّه أمّ ولد اسمها أرجوان وقيل شراب، وتدعى قرة العين. وهو الخليفة السابع والعشرون من الخلفاء العباسيين، بويع له بعد وفاة جدّه القائم بأمر الله فى يوم وفاته وهو يوم الخمس لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وكان القائم جدّه قد عهد له كما ذكرنا، فلما مات القائم حضر مؤيد(23/242)
الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو اسحاق وأبو نصر الصباغ ونقيب النقباء طرّاد والنقيب المعمر بن محمد وقاضى القضاة أبو عبد الله الدامغانى وغيرهم من الأعيان والأتابكة فبايعوه، وكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر محمد بن أبى موسى الهاشمى بعد فراغه من غسل القائم وأنشد:
إذا سيّد منا مضى قام سيّد وأرتج عليه فقال المقتدى:
/ قؤول بما قال الكرام فعول.
ولما فرغوا من البيعة صلّى المقتدى بأمر الله بهم العصر.
ذكر الحوادث فى أيام المقتدى
فى ذى القعدة ملك الأقسيس دمشق وخطب بها للمقتدى بأمر الله، وكان آخر من خطب بها للمصريين «1» .
وفيها ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج من الروم.
وفيها قدم سعد الدولة بن كوهر آيين شحنة إلى بغداد من قبل السلطان ملكشاه ومعه العميد أبو نصر ناظرا على أعمال بغداد.
وفى سنة تسع وستين وأبعمائة قدم أبو نصر ابن الأستاذ أبى القاسم القشيرىّ حاجّا، وجلس فى المدرسة النظامية يعظ النّاس، وفى رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه كلّم على مذهب(23/243)
الأشعرى ونصره. وكثر أتباعه والمتعصبون له، فثار الحنابلة ومن تبعهم من سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة من المتعصبين للقشيرى كالشيخ أبى إسحاق وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان، فجرى بين الطائفتين أمور عظيمة. فنسب أصحاب/ نظام الملك ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير وكتب أبو الحسين محمد ابن على بن أبى القصر الواسطى الفقيه الشافعى إلى نظام الملك:
يا نظام الملك قد حلّ ببغداد النّظام ... وابنك القاطن فيها مستلان مستضام «1»
وبها أودى له قتلى غلام فغلام ... والذى منهم تبقّى سالما فيه سهام
يا قوام الدّين لم ييق ببغداد قوام ... عظم الخطب فللحرب اتّصال ودوام
فمتى لم يحسم الدّاء بأيديك الحسام «2» ... ويكفّ القوم فى بغداد قتل وانتقام
فعلى مدرسة فيها ومن فيها السلام ... واعتصام بحريم لك من بعد حرام
فلما اتّصل ذلك بنظام الملك عظم عليه فأعاد سعد الدولة كوهر آيين شحنة إلى العراق فى سنة إحدى وسبعين، وحمله رسالة إلى الخليفة(23/244)
تتضمّن الشكوى من بنى جهير ويسأل عزل فخر الدولة عن الوزارة، فلما وصل إلى بغداد وأبلغ الخليفة الرسالة أمر فخر الدولة بلزوم داره واستوزر بعده أبا شجاع محمد بن الحسين! / قال: «1» ولما بلغ ابن جهير تغيّر نظام الملك عليه أرسل ابنه عميد الدولة إليه يستعطفه، فسار إليه قبل وصول كوهر آيين إلى بغداد، ولم يزل يستعطفه حتى عاد إلى ما ألفه منه وزوّجه بابنته. فعاد إلى بغداد فلم يردّ الخليفة أباه إلى الوزارة وأمرهما بملازمة منازلهما فأرسل نظام الملك إلى الخليفة فى إعادة بنى جهير إلى الوزارة فأعيد عميد الدولة إليها وأذن لأبيه فخر الدولة بفتح بابه، وذلك فى صفر سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
وفى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان دمشق على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار الدولة السّلجقية.
وفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة فى شوال توفى نور الدولة أبو الأغرّ دبيس بن على بن مزيد الأسدى، وولى بعده أبو كامل منصور ولقّب بهاء الدولة.
وفيها أرسل الخليفة الوزير فخر الدولة إلى السلطان ملكشاه بأصبهان يخطب ابنته للخليفة فسار إليه وخطبها، فتقررت القاعدة على أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار وأن لا يبقى الخليفة سرو لا زوجة غيرها فأجيب إلى ذلك.(23/245)
ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة
وفى سنة خمس وسبعين كانت الفتنة بين الطائفيين، وسببها أنه ورد إلى بغداد الشريف أبو القاسم البكرى المقرىء الواعظ وكان أشعرىّ المذهب، وكان قد قصد نظام الملك فأحبّه ومال إليه وسيّره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة. وكان يعظ بالمدرسة النظامية، ويذكر الحنابلة ويعيبهم ويقول «وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا» «1» وما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا ثم قصد يوما دار قاضى القضاة أبى عبد الله الدامغانى فجرى بينه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدّت إلى الفتنة. وكثر جمعه فكبس دور بنى الفرّاء وأخذ كتبهم ومنها كتاب الصفات لأبى يعلى فكان يقرأه بين يديه وهو جالس على الكرسى للوعظ، وشنّع عليهم وجرى له معهم خصومات وفتن. ولقّب البكرىّ من الديوان بعلم السّنّة، ومات ببغداد ودفن عند قبر أبى الحسن الأشعرى رحمهما الله تعالى.
ذكر مسير الشيخ أبى اسحاق برسالة الخليفة
إلى السلطان ملكشاه وفى ذى الحجة سنة خمس وسبعين وأربعمائة أرسل الخليفة المقتدى الشيخ أبا إسحاق الشيرازى برسالة إلى السلطان تتضمن الشكوى من العميد أبى الفتح بن أبى الليث عميد العراق، وأمره أن ينهى إليه وإلى نظام الملك ما يجرى على أهل البلاد من النّظّار.
فسار الشّيخ، فكان الشّيخ كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها إليه بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه ويأخذون(23/246)
من تراب بغلته للتبرّك. وكان فى صحبته جماعة من أعيان أصحابه فلما وصل إلى ساوة خرج إليه جميع أهلها وسأله كلّ من فقهائها أن يدخل بيته فلم يفعل. ولقيه أرباب الصناعات ومعهم ما ينثرونه على محفته، فخرج الخبازون ينثرون الخبز وهو ينهاهم فلم ينتهوا، وكذلك أصحاب الفاكهة والحلوى وغيرهم، وخرج إليه الأساكفة وقد عملوا مداسات لطافا تصلح لأرجل الأطفال ونثروها فكانت تسقط على رؤوس النّاس فكان الشيخ يتعجب ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه ويقول: ما كان حظكم من ذلك النثار؟ فقال بعضهم: ما كان حظ سيدنا منه! فقال الشيخ. أما أنا فتغطيت بالمحفة! يقول ذلك وهو يضحك.
قال «1» : ولما وصل الشّيخ إلى السلطان وإلى نظام الملك أكرماه، وأجيب إلى جميع ما التمسه من الخليفة. ولما عاد أهين عميد العراق، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشى الخليفة.
وفيها قدم مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من أصفهان ونزل بالمدرسة النظامية، وضرب على بابه الطبول فى أوقات الصلوات الخمس، فأعطى ما لا جزيلا حتى قطع ذلك، فأرسل الطبول إلى تكريت والله تعالى أعلم.
ذكر عزل عميد الدولة عن الوزارة وميسر والده إلى ديار بكر
وفى سنة ستّ وسبعين وأربعمائة فى صفر عزل عميد الدولة فخر الدولة بن جهير عن الوزارة، ووصل فى يوم عزله له رسول(23/247)
من السلطان ومن نظام الملك إلى الخليفة يطلبان [معه] أن يرسل إليهما بنى جهير فأذن لهم. فساروا بجميع أهلهم ونسائهم، فصادفوا من السلطان ومن نظام الملك الإكرام والاحترام، وعقد السلطان لفخر الدولة بن جهير على ديار بكر وخلع عليه وأعطاه الكوسات «1» وسيّر معه العساكر وأمره أن يأخذها من بنى مروان، وأن يخطب لنفسه ويذكر اسمه على السّكّة، فسار إليها.
قال «2» : ولما فارق بنو جهير بغداد رتّب الديوان أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، ثم عزله فى السنة وولى أبا شجاع محمد ابن الحسين وخلع عليه خلع الوزراء «3» .
وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة استولى عميد الدولة على الموصل.
وفيها فتح سليمان بن قتلمش السّلجقى صاحب الروم أنطاكية وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
وفى شهر صفر انقضّ كوكب من الشرق إلى الغرب كان حجمه وضوؤه كالقمر، وسار مدى بعيدا على مهل فى نحو ساعة.
وفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة استولى الفرنج على مدينة طليطلة وأخذوها من المسلمين على ما نذكره- إن شاء الله تعالى- فى أخبار الأندلس «4» .(23/248)
وفيها فى شهر ربيع الأول هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء، وكثر الرّعد والبرق وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير، وكانت النيران تضطرم فى أطراف السماء، وكان أكثر ذلك بالعراق والموصل، فألقت النخل، وسقط معها صواعق فى كثير من البلاد ثم انجلى ذلك نصف الليل.
وفيها فى شهر ربيع الأول توفى أبو المعالى عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجوينى إمام الحرمين، ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة «1» .
وفى سنة تسع وسبعين وأربعمائة ملك السلطان ملكشاه مدينة حلب واللاذقية وكفر طاب وأفامية «2» .
وفيها فى شهر/ ربيع الأول توفى بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن على بن مزيد الأسدى صاحب الحلة والنيل «3» وولى ابنه سيف الدولة صدقة.
وفيها أسقط اسم العلوىّ صاحب مصر من الحرمين الشريفين وذكر اسم الخليفة المقتدى بأمر الله.
وفيها أسقطت المكوس من العراق.
وفى سنة ثمانين وأربعمائة فى المحرم زفّت ابنة السلطة ن ملكشاه إلى الخليفة، ونقل جهازها على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج(23/249)
الرومى، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة، وثلاث عماريات، وعلى أربعة وسبعين بغلا مجللّة بأنواع الديباج الملكى وأجراسها وقلائدها من الذهب، وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة فيها من الجواهر والحلى ما لا تقدّر قيمته، وأمام البغال ثلاث وثلاثون فرسا من الخيول السّوابق عليها مراكب الذهب. وسار أمام الجهاز سعد الدولة والأمير برسق وغيرهما، وكانت ليلة مشهورة، فلما كان من العد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكى أنه عمل فيه أربعون ألف منّ من السكر. وخلع الخليفة على جميع أمراء السلطان ومن له ذكر فى العسكر، وأرسل الخلع إلى جميع الخواتين. وولدت فى هذه السنة من الخليفة ولدا وهو أبو الفضل جعفر.
/ وفى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة فى شهر ربيع الآخر أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته من حريم دار الخلافة، وكان سبب ذلك أن تركيّا منهم اشترى فاكهة من طواف فتكالما فشتمه الطواف فضربه التركى فشجّه، فاجتمعت العامّة وشنّعوا واستغاثوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك فأجرخوا على أقبح صورة.
وفى سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أرسل السلطان ملكشاه إلى الخليفة يطلب ابنته طلبا لا بدّ منه، وسبب ذلك أنها كانت قد أرسلت إليه تشكو من اطراح الخليفة لها وإعراضه عنها فأذن لها فى المسير، فسارت فى شهر ربيع الأول ومعها ابنها من الخليفة فوصلت إلى أصفهان فأقامت إلى ذى القعدة وتوفيت.(23/250)
وفى سنة أربع وثمانين وأربعمائة فى شهر ربيع الأول عزل الوزير أبو شجاع، وكان عزله فى يوم الخميس فقال:
تولاها وليس له عدوّ ... وفارقها وليس له صديق
فلما كان من الغد يوم الجمعة خرج من داره إلى الجامع ماشيا فاجتمع عليه خلق كثير، فأمر أن لا يخرج من بيته، واستنيب فى الوزارة أبو سعد بن موصلايا كاتب الإنشاء وأرسل الخليفة إلى السلطان يستدعى منه عميد الدولة بن جهير يستوزره، فسيّر إليه فاستوزره/ فى ذى الحجة من السنة.
وفيها ملك الفرنج جزيرة صقلية.
وفيها فى تاسع شعبان كان بالشام وكثير من البلاد زلازل، ففارق النّاس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن والدور، وهلك تحتها خلق كثير، وخرّب من بروجها تسعون برجا.
وفى سنة خمس وثمانين وأربعمائة قتل نظام الملك فى عاشر شهر رمضان.
وفيها توفى السلطان ملكشاه وملك بعده ابنه محمود.
وفى سنة سبع وثمانين وأربعمائة خطب للسلطان بركيارق بن ملكشاه ببغداد فى يوم الجمعة رابع المحرم «1» .(23/251)
ذكر وفاة المقتدى بأمر الله وشىء من أخباره
كانت وفاته فى يوم السبت خامس عشر المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة فجأة، وكان قد أحضر إليه تقليد السلطان بركيارق ليعلّم عليه فقرأه ثم قدّم إليه الطعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته شمس النهار فقال لها: ما هذه الأشخاص التى قد دخلت على بغير إذن- قالت- فالتفتّ فلم أر شيئا فرأيته قد تغيّرت حالته واسترخت يداه ورجلاه/ وانحلّت قوّته فسقط إلى الأرض، فظننتها غشية لحقته، فحللت أزرار ثوبه فوجدته قد ظهرت عليه أمارات الموت، فتماسكت وقلت لجارية عندى: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء! وأحضرت الوزير وأعلمته الحال فشرعوا فى البيعة لولى العهد، وجهّزوا المقتدى وصلّى عليه ابنه المستظهر بالله ودفن.
وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وخلافته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر ويومين، وكان عظيم الهمة شديد العزمة، ولم يكن له أعوان على ذلك تذبّ عنه بل كانت له دعوة مجابة، وكانت أيامه كثيرة الخير واسعة الرزق. وعظمت الخلافة فيها أكثر ممن كان قبله، وعمّر ببغداد عدة محال فى خلافته منها البصلية والقطيعية والحلبية والمعيدية والأجمة ودرب القبار وخرانة الهراس والخاتونتين.
قال «1» : وأمر بنفى المغنيّات والمفسدات من بغداد، وأمر(23/252)
ببيع دورهن ومنع دخول الحمّام إلا بمئزر، وقلع الهرادى والأبراج التى للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، ومنع الملاحين/ من حمل النساء والرجال مجتمعين.
ووزر له: من ذكرناهم. قضاته: أبو عبد الله الدامغانى إلى أن مات، ثم أبو بكر محمد بن المظفر الشامى الشافعى. حجابه: أبو عبد الله ابن دوشتى «1» ثم أبو منصور بن محمد محمد.
ذكر خلافة المستظهر بالله
هو أبو العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبى القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العبّاس أحمد بن القائم بأمر الله، وهو الخليفة الثامن والعشرون من الخلفاء العباسيين قال «2» : ولما مات المقتدى بأمر الله أحضر ولده المستظهر بالله وأعلم بموته فبايعه الوزير، وركب إلى السلطان بركيارق فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله.
فلما كان فى اليوم الثالث من وفاة المقتدى أظهر موته، وحضر عزّ الملك بن نظام الملك وزير بركيارق، وأمر السلطان جميع أرباب المناصب بالجلوس للعزاء والبيعة للمستظهر بالله. فبويع له البيعة العامة فى السادس عشر من المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وله من العمر ستة عشر سنة وشهران.(23/253)
ذكر الحوادث فى أيام المستظهر بالله
/ فى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة كان بين الملوك السلاجقة وبين بعضهم حروب كثيرة نذكرها إن شاء الله تعالى فى أخبارهم «1» .
وفيها شرع الخليفة فى عمل سور على الحريم، وأمر الوزير عميد الملك بالجدّ فى عمارته.
وفيها فى شهر ربيع الأول خطب لولى العهد أبى الفضل منصور بن المستظهر بالله.
وفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة اجتمع ستّة كواكب فى برج الحوت، وهى الشمس والقمر والمشترى والزهرة والمريخ وعطارد فحكم المنجمون بطوفان يكون فى الناس، وأحضر الخليفة ابن عسون المنجم فسأله فقال: إن فى طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة فى برج الحوت والآن فقد اجتمع منها فيه ستة وليس فيها زحل، فلو كان فيها لكان مثل طوفان نوح، ولكن أقول إنّ مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون، فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها! فأحكمت المواضع التى يخشى منها الانفجار والغرق. واتّفق أنّ الحجاج نزلوا فى المناقب «2» فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم، ونجا من تعلّق بالجبال،(23/254)
وذهب المال والدواب والأزواد وغير ذلك، فخلع الخليفة على المنجم! وفى سنة تسعين وأربعمائة كان ابتداء الدولة الخوازرمية/ وفيها خطب الملك رضوان بولايته بالشام للمستعلى صاحب مصر «1» ، ثم رجع عن ذلك وأعاد الخطبة للدولة العباسية «2» .
وفى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة كان ابتداء استيلاء الفرنج على بلاد السواحل الشامية، وملكوا مدينة أنطاكية ومعرة النعمان وبيت المقدس، وغير ذلك على ما نذكره فى أخبار العلويين ملوك مصر، فإن أكثر ذلك كان فى ولايتهم.
وفى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبى المعالى الجوينى بنيسابور- وكان خطيبها- فاتهم العامة أبا البركات الثعلبى أنه هو الذى سمعى فى قتله، فوثبوا به فقتلوه وأكلوا لحمه.
وفى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فى شهر رمضان عزل عميد الدولة من وزارة الخلافة وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وتوفى فى سادس عشر شوال.
وفى سنة أربع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج مدينة سروج من ديار الجزيرة، وقتلوا كثيرا من أهلها، ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم، ولم يسلم إلا من انهزم، وملكوا مدينة حيفا وهى بقرب(23/255)
عكا، وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا منها أهلها/، وملكوا قيسارية بالسّيف وقتلوا أهلها «1» .
وفيها تقدّم أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن يصلّى فيه التراويح ولم تجر بذلك عادة، وأمر الخليفة بالجهر بالبسملة وبالقنوات على مذهب الإمام الشافعى.
وفى سنة خمس وتسعين وأربعمائة فى شهر رمضان استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالى بن عبد الرزاق ولقبه عضد الدوله.
وفيها بنى سيف الدّولة صدقة بن مزيد الحلّة بالجامعين وسكنها [وإنما كان يسكن هو وآباؤه فى البيوت العربية] «2» وفى سنة ستّ وتسعين وأربعمائة فى منتصف شهر رجب قبض على الوزير سديد الملك وحبس بدار الخليفة، وأعيد أمين الدولة أبو سعيد ابن موصلايا إلى الوزارة، ثم استوزر فى شعبان زعيم الرؤساء أبا القاسم ابن جهير واستقدمه من الحلة، وكان عند سيف الدولة صدقة، ولما حضر خلع عليه وجلس فى الديوان ولقّب قوام الدين.
وفى سنة سبع وتسعين وأربعمائة ملك الفرنج جبيل «3» وعكا.
وفى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة توفى السلطان بركيارق بأصفهان(23/256)
وخطب لابنه ملكشاه «1» بالجوامع ببغداد.
وفى سنة خمسمائة فى صفر عزل الوزير أبو القاسم ابن جهير فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئا إليها فأرسل من أخذه وحمله إليه، فأمر الخليفة بنقض داره، وكان فى ذلك عبرة لمن يعتبر، فإن أباه أبا نصر كان قد بناها بأنقاض دور الناس فخربت عن قريب، ولما عزل استنيب فى الوزارة قاضى القضاة أبو الحسن الدامغانى، ثم تقررت الوزارة فى المحرم سنة إحدى وخمسمائة لأبى المعالى هبة الله بن محمد عبد المطلب وخلع عليه.
وفى سنة إحدى وخمسمائة فى شهر رجب قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسدى أمير العرب، وهو الذى بنى الحلة السيفية بالعراق وكان قد عظم شأنه واتّسع جاهه واستجار به كبار الناس وصغارهم.
وفيها فى شهر رمضان ورد القاضى فخر الملك أبو على بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد مستنفرا على الفرنج، فأنزله الخليفة وأكرمه وأجرى عليه الجرايات العظيمة، وأحضر معه من التقدمة والهدية من الأعلاق النفسية والخيل العربية، وغير ذلك ما لم يوجد مثله عند ملك، وأقام ببغداد إلى أن رحل السلطان محمد عن بغداد فى شوال. فتقدم/ إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغتكين أن يسيّر معه العساكر التى سيّرها إلى الموصل مع أولاد مودود، وخلع عليه السلطان خلعا سنية وأعطاه شيئا كثيرا وودعه: وسار مع الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعا.(23/257)
وفيها عزل الخليفة وزيره مجد الدين هبة الله بن المطلب برسالة من السلطان، ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان محمد، وشرط عليه شروطا منها العدل وحسن السّيرة وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة.
وفى سنة اثنتين وخمسمائة فى نيسان زادت دجلة زيادة عظيمة انقطعت منها الطرق، وغرقت الغلال الشّتوية والصيفية، وحدث غلاء عظيم بالعراق، وعدم الخير، وأكل الناس التّمر والباقلاء الأخضر، وأما أهل السّواد فإنهم لم يأكلوا فى شهر رمضان ونصف شوال إلا الحشيش والتّوت.
وفيها فى شهر رجب عزل وزير الخليفة أبو المعالى هبة الله ابن المطلب، ووزر أبو القاسم على بن نصر بن جهير.
وفيها فى شعبان تزوّج الخليفة المستظهر بالله ابنة السلطان ملكشاه وهى أخت السلطان محمد، وتولّى قبول العقد بوكالة الخليفة نظام الملك وزير السلطان، والصداق/ مائة ألف دينار، ونثرت الجواهر والدنانير، وكان العقد بأصفهان، وخطب خطبه النّكاح القاضى أبو العلاء صاعد بن محمد النيسابورى الحنفى.
وفيها تولى مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد.
وفى سنة ثلاث وخمسمائة فى حادى عشر ذى الحجة ملك الفرنج طرابلس وجبيل وبيروت وبانياس «1» .
وفى سنة أربع وخمسمائة ملكوا صيدا فى شهر ربيع الأول، وفيها(23/258)