رسول الله عليه الصلاة والسلام صدره بيده وقال: «اللهمّ اهد قلبه وسدّد لسانه [1] »
قال علىّ فو الله ما شككت بعدها فى قضاء بين اثنين.
ولما نزل قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
[2]
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليّا وحسنا وحسينا فى بيت أمّ سلمة وقال: اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس [3] وطهّرهم تطهيرا [4]
. قال أبو عمر:
وروت طائفة من الصحابة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق.
وقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «يهلك [5] فيك رجلان: محبّ مطر [6] وكذّاب مفتر [7] »
. وقال له: «تفترق فيك أمّتى كما افترقت بنو إسرائيل فى عيسى.
__________
[1] سدد لسانه: قومه ووفقه السداد، أى للصواب.
[2] الآية 33 من سورة الأحزاب.
[3] الرجس: الإثم، أو كل مستقذر من عمل، كما ذكره النووى.
[4] هذا الحديث ذكره الترمذى فى صحيحه برواية أخرى فانظره بشرج النووى ج 15 ص 194، وهناك ج 15 ص 175 رواية تتعلن بآية أخرى.
[5] كذا جاء فى (ن) و (ص) والاستيعاب ج 3 ص 37، وفى (ك) : «هلك» .
[6] «مطر» من الإطراء، وهو مجاوزة الحد فى المدح والكذب فيه.
[7] «مفتر» من الافتراء، وهو اختلاق الكذب.. وقد روى أحمد عن على رضى الله عنه قوله «يهلك فى رجلان: محب مفرط بما ليسا فى، ومبغض يحمله شنآنى على أن بهتنى» .
وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 372 رواية لقول على «يهلك فى رجلان: محب غال ومبغض قال» . وجاء فى نهج البلاغة ج 3 ص 306 قول على «وسيهلك فى صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق. ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق.(20/5)
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة العلم، وعلىّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه»
. وقال فى أصحابه: «أقضاهم علىّ» .
وقال عمر رضى الله عنه: «علىّ أقضانا» .
وكان عمر يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن [1] ! وقال علىّ فى التى وضعت لستّة أشهر [2] ، فأراد عمر [3] رجمها:
إن الله تبارك وتعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً
[4] [ويقول وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ
[5]] [6] .
وكان- رضى الله عنه- أعلم الناس بالفرائض [7] ، وله فى ذلك أخبار.
منها ما رواه أبو عمر ابن عبد البر [8] بسنده عن زرّ بن حبيش قال: جلس رجلان يتغدّيان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما مرّ بهما رجلّ، فسلّم،
__________
[1] فى النهاية ولسان العرب: (معضلة) أراد المسألة الصعبة أو الخطة الضيقة المخارج من الإعضال أو التعضيل، ويريد بأبى حسن على بن أبى طالب.
[2] ذكر الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما أن امرأة من جهينة تزوجت رجلا من قبيلتها ثم ولدت لستة أشهر بعد دخولها عليه.
[3] تبع المؤلف أبا عمر ابن عبد البر فى كتابه الاستيعاب ج 3 ص 39 ولكن الذى رواه الطبرى وابن كثير فى تفسيريهما عن الجهنى أن الذى أراد الرجم هو عثمان رضى الله عنه.
[4] الآية 15 من سورة الأحقاف.
[5] الآية 14 من سورة لقمان.
[6] زيادة- عن ابن جرير وابن كثير فى تفسيرهما- يتم بها الاستدلال، وجاء فى رواية أخرى قوله تعالى «حولين كاملين» .
[7] الفرائض: علم قسمة المواريث. وهى مأخوذة فى اللغة من الفرض، بمعنى التقدير، لأن المواريث مقدرة.
[8] فى الاستيعاب ج 3 ص 41- 42.(20/6)
فقالا له: [اجلس] [1] للغداء. فجلس وأكل معهما، واستوفوا فى أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال خذا هذه عوضا ممّا أكلت لكما ونلّته من طعامكما. [فتنازعا،] [2] وقال صاحب الخمسة الأرغفة: لى خمسة دراهم ولك ثلاثة. فقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين.
فارتفعا إلى أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، فقصّا عليه قصّتهما، فقال لصاحب الثلاثة [الأرغفة] [3] : قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة. فقال: لا والله لا رضيت منه إلّا بمرّ الحق. فقال علىّ: ليس لك فى مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة. فقال الرجل: «سبحان الله يا أمير المؤمنين! هو يعرض علىّ ثلاثة فلم أرض وأشرت علىّ بأخذها فلم أرض، وتقول لى الآن: إنه لا يجب لك إلّا درهم واحد!» فقال له [علىّ] [4] :
«عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا، فقلت: لا أرضى إلا بمر الحق، ولا يجب لك فى مر الحق إلا واحد.» فقال له الرجل:
فعرّفنى [5] الوجه فى مر الحق حتّى أقبله. فقال: «أليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثا؟ أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا نعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقلّ، فتحملون [فى] [6] أكلكم على السواء.» قال: بلى. قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، [وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث] ، [7] وله خمسة
__________
[1] زيادة من الاستيعاب.
[2] زيادة من الاستيعاب.
[3] زيادة من الاستيعاب.
[4] زيادة من الاستيعاب.
[5] كذا جاء الاستيعاب. وفى النسخة (ك) : «تعرفنى» . وفى النسخة (ن) تعرفنى» غير منقوطة الحرف الأول.
[6] زيادة من الاستيعاب.
[7] زيادة من الاستيعاب.(20/7)
عشر ثلثا، أكل منها ثمانية وتبقى [له] [1] سبعة، وأكل لك واحدا من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة [بسبعته] [2] . فقال له الرجل: رضيت الآن!.
وأتته امرأة وهو على المنبر فقالت: ترك أخى ستّمائة دينار وأعطيت دينارا! (وتظلمت من ذلك) فقال: لعل أخاك ترك زوجة وأمّا وبنتين واثنى عشر أخا وأنت. قالت: نعم. فقال: قد أستوفيت حقّك [3] . وهذه المسألة مشهورة مسطورة فى كتب الفقه، وتسمى «الدّيناريّه» و «المنبرية» [4] وهو- رضى الله عنه- ممّن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، هو وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة [5] .
وعن [5] محمد بن سيرين قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضى
__________
[1] زيادة من الاستيعاب.
[2] زيادة من الاستيعاب.
[3] للزوجة خمسة وسبعون دينارا (الثمن) وللأم مائة دينار (السدس) وللبنتين أربعمائة دينار (الثلثان) .
فلم يبق إلا خمسة وعشرون دينارا، لإخوتها أربعه وعشرون- كل منهم ديناران- ولها دينار واحد.
[4] تطلق «المنبرية» فى كتب الفقه والميراث على مسألة أخرى للإمام على أيضا وقد كان يخطب على منبر الكوفة، قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 1 ص 6: «وهو الذى قال فى المنبرية صار ثمنها تسعا، وهذه المسألة لو أفكر الفرضى فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة واقتضبة ارتجالا؟!» .
[5] كان سالم بن معقل من الفرس، وأعتقته مولاته زوجة أبى حذيفة، فتولى أبا حذيفة، وتبناه أبو حذيفة إلى أن جاء حكم التبنى.» وقد صار سالم من خيار الصحابة وقرائهم المعروفين.
[6] روى صاحب الاستيعاب ج 2 ص 2534 هذا الخبر بسنده. وذكره ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 2 ص 16 والسيوطى فى الإتقان ج 1 ص 59 وصاحب الرياض النضرة ج 1 ص 168.(20/8)
الله عنه أبطأ [علىّ] [1] عن بيعته وجلس فى بيته، فبعث [2] إليه أبو بكر: ما بطّأ بك عنّى؟ أكرهت إمارتى؟ فقال؛: ما كرهت إمارتك، ولكنّى آليت أن لا أرتدى ردائى- إلّا إلى صلاة- حتى أجمع القرآن!: قال ابن سيرين: فبلغنى أنه كتبه على تنزيله، ولو وجد ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير.
وفى علىّ- رضى الله عنه- يقول إسماعيل بن محمد الحميرىّ من أبيات:
سائل قريشا بها إن كنت ذاعمه [3] : ... من كان أثبتها فى الدّين أوتادا؟
من كان أقدمها سلما [4] وأكثرها ... علما وأطهرها أهلا وأولادا؟
من وحّد الله إذ كانت مكذّبة ... تدعو مع الله أوثانا وأندادا؟
من كان يقدم فى الهيجاء إن نكلوا [5] ... عنها وإن بخلوا فى أزمة جادا؟
__________
[1] سقط هذا من (ص) . وثبت فى (ك) و (ن) كما فى الاستيعاب.
[2] جاء قيل هذا عند ابن أبى الحديد قوله: «فقيل لأبى بكر: إنه كره إمارتك»
[3] العمه: التردد والتحير.
[4] كذا جاء فى المخطوطة و «السلم» قد جاء فى الشعر بمعنى الإسلام، كقول امرئ القيس بن عابص:
فلست مبدلا بالله ربا ... ولا مستبدلا بالسلم دينا
وجاء بيت إسماعيل الحميرى فى الاستيعاب ج 3 ص 67 وأسد الغابة ج 4 ص 40 بلفظ «من كان أقدم إسلاما وأكثرها ... » .
[5] الهيجاء: الحرب. ونكلوا: تأخروا وجبنوا.(20/9)
من كان أعدلها حكما وأبسطها ... علما وأصدقها وعدا وإيعادا؟
إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن ... إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا!
إن أنت لم تلق أقواما ذوى صلف [1] ... ذوى [2] عناد لحقّ الله جحّادا!
وفضائله- رضى الله عنه- ومآثره كثيرة، وفيما أوردناه منها وما نورده بعد- إن شاء الله- كفاية عن بسط ... فلنذكر بيعته رضى الله عنه.
ذكر بيعة على رضى الله تعالى عنه
بويع له- رضى الله عنه-[بالخلافة [3]] يوم قتل عثمان [4] وقيل:
بل بويع له يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين وقد اختلف فى كيفية بيعته:
فقيل: إنه لما قتل عثمان- رضى الله عنه- اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، فأتوا عليّا،
__________
[1] الصلف: ادعاء ما لا يوجد إعجابا وتكبرا، والتكلم بالمكروه.
[2] فى (ك) : «وذوى» . وفى (ن) و (ص) : «وذى» ، وفى الاستيعاب وأسد الغابة: «وذا» .
[3] زيادة من الاستيعاب ج 3 ص 55 حيث نقل المؤلف منه هنا.
[4] قتل عثمان رضى الله عنه يوم الجمعة لثمانى عشرة خلت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين.(20/10)
وقالوا [له] [1] : إنه لا بدّ للناس من إمام، فقال: لا حاجة لى فى أمركم، من اخترتم رضيته. قالوا: لا نختار غيرك. فقال:
لا تفعلوا، فإنى أكون وزيرا خيرا من أن أكون أميرا. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففى المسجد، فإنّ بيعتى لا تكون خفيا [2] ، ولا تكون إلّا [عن رضا المسلمين.] [3]
وكان فى بيته، وقيل: فى حائط [4] لبنى عمرو بن مبذول، [5] فخرج إلى المسجد يتوكّأ على قوس، فبايعه الناس.
وكان أوّل من بايعه طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب، فقال: «إنّا لله [6] ! أوّل من بدأ البيعة [7] يد شلّاء! [8] لا يتمّ هذا الأمر» . وبايعه الزّبير، فقال لهما: إن أحببتما أن تبايعانى وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنّما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنّه لا يبايعنا.
__________
[1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 98 حيث نقل المؤلف منه هنا. وفى المخطوطة وأتوه وقالوا:» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «خفيه» .
[3] هكذا جاءت الرواية فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 450 وهى الأصل، ونقلها ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 4. وجاء فى المخطوطة والكامل «فى المسجد» وقد سبق كر «المسجد» فى هذا الكلام.
[4] الحائط- ههنا-: البستان من النخيل ونحوه إذا كان عليه جدار.
[5] فرع من الخزرج، وقد كان أكثر الأنصار- من الأوس والخزرج- يؤيدون عليا.
[6] هكذا جاء فى المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 98 وجاء فى رواية أخرى لابن الأثير- بعد ذلك-- ص 99: إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[7] هكذا جاء المخطوطة تبعا لابن الأثير فى الرواية الأولى. وفى الرواية الأخرى:
«أول يد بايعت» .
[8] كان طلحة قد أبلى فى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى النبى بنفسه، فالتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصابعه. وسيبين المؤلف ذلك فى ذكر مقتل طلحة» .(20/11)
وبايعه الناس، وجاءوا، بسعد بن أبى وقّاص [1] ، فقال له علىّ: بايع. فقال: «لا، حتّى يبايع الناس، والله ما عليك منّى باس» قال: خلوا سبيله.
وجاءوا بابن عمر [2] ، فقال مثل قوله [3] ، فقال: ائتنى بكفيل [4] ، فقال: لا أرى كفيلا. قال الأشتر: دعنى أضرب عنقه! قال [علىّ] [5] : «دعوه، أنا كفيله،- إنّك- ما علمت- سيّىء الخلق صغيرا وكبيرا!» .
وبايعه الأنصار إلا نفرا يسيرا، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلّد، وأبو سعيد الخدرى [6] ومحمد بن مسلمة، والنّعمان بن بشير، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا [7] عثمانيّة.
ولم يبايع أيضا عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة [8]
__________
[1] سعد هو أحد الستة الذين جعل فيهم عمر الشورى، كطلحة والزبير، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة ولزم بيته..
[2] كان عبد الله بن عمر من أهل الورع، ولورعه أشكلت عليه حروب على وقعد عنه، انظر الاستيعاب ج 2 ص 343.
[3] أى قال: «لا حتى يبايع الناس» .
[4] أى: ضامن ألا تبرح، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 451 «ايتنى بحميل» ، و «الحميل» بمعنى الكفيل، وفى شرح أبن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 340 «فأعطنى حميلا ألا تبرح» .
[5] الزيادة عند ابن جرير وابن الأثير.
[6] هو سعد بن مالك، نسب إلى جده «الأبجر» الذى يقال له خدرة» .
[7] هكذا فى النسختين (ن) و (ص) . وفى «ك» : «وكانوا» .
[8] فى المخطوطة «مسلمة» والتصويب من الكامل والقاموس وشرحه، وتجد ترجمته فى الاستيعاب ج 2 ص 86 والإصابة برقم 3381 ج 2 ص 65.(20/12)
ابن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة ابن شعبة.
وأخذ النّعمان بن بشير قميص عثمان الّذى قتل فيه وأصابع امرأته نائلة [1] ، وسار بهم [2] إلى الشام.
وقيل فى بيعته: إنّ عثمان لمّا قتل بقيت المدينة خمسة أيّام وأميرها الغافقى بن حرب، وهم يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، فأتى المصريّون عليّا فباعدهم، وأتى الكوفيّون الزّبير فباعدهم، واتى البصريّون طلحة فباعدهم؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلى الخلافة، فأرسلوا إلى سعد يطلبونه [3] فقال: إنّى وابن عمر لا حاجة لنا فيها، وأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى، وقال بعضهم لبعض: لئن رجع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمّة، فجمعوا أهل المدينة وقالوا لهم: يا أهل المدينة، أنتم أهل الشّورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلا تنصبونه، ونحن لكم تبع، وقد أجلناكم [4] يومكم، فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ [5] عليّا وطلحة والزّبير وأناسا كثيرا. فغشى الناس عليا، فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى! فقال علىّ:
__________
[1] لما جاء المعتدون ليقتلوا عثمان انكبت عليه زوجته نائلة واتقت، السيف بيدها فقطع أصابعها.
[2] كذا وقع فى المخطوطة. وفى الكامل: «به» ؛.
[3] بعثوا إلى سعد بن أبى وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فأقدم نبايعك.
[4] كذا فى النسختين (ن) و (ص) والكامل لابن الأثير. وفى (ك) : «أجلنا لكم» .
[5] فى الكامل: «لنقتلن غدا» .(20/13)
«دعونى والتمسوا غيرى، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان، لا تقوم به القلوب، ولا تثبت عليه العقول» فقالوا: «ننشدك الله!، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام ألا ترى الفتنة؟ الا تخاف الله؟» قال: «قد أجبتكم، واعلموا أنّى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتمونى فإنّما أنا كأحدكم [1] إلّا أنّى من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه» ... ثمّ افترقوا على ذلك، واتعدوا الغد.
وتشاور الناس فيما بينهم، وقالوا إن دخل طلحة والزّبير فقد استقامت، فبعث البصريّون إلى الزّبير حكيم بن جبلة، ومعه نفر فجاءوا به يحدونه [2] بالسّيف، [فبايع] [3] . وبعثوا إلى طلحة الأشتر فى نفر، فأتاه فقال: دعنى أنظر ما يصنع الناس. فلم يدعه، فجاء به يتلّه تلّا [4] عنيفا فبايع.. فكان الزبير يقول: جاءنى لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت والسّيف على عنقى! وأهل مصر فرحون لما [5] اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا تبعا لأهل مصر، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير غيظا.
__________
[1] كذا فى (ك) . وفى (ص) : «أحدكم» كما جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 56 وج 2 ص 170.
[2] بحدونه: يسوقونه.
[3] ثبتت فى النسخة (ك) وسقطت من (ن) .
[4] أى يدفعه دفعا.
[5] فى تاريخ الطبرى: «بما» .(20/14)
قال [1] : ولمّا أصبحو يوم البيعة- وهو يوم الجمعة- حضر الناس المسجد، وجاء علىّ رضى الله عنه، فصعد المنبر وقال: «أيّها الناس عن ملإ وإذن [2] إنّ هذا أمركم، ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارها لأمركم، فأبيتم إلّا أن أكون عليكم، ألا وإنّه ليس لى دونكم إلّا مفاتيح مالكم معى وليس لى أن آخذ درهما دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحدّ [3] على أحد.» فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.
فقال: اللهمّ اشهد.
قال: ولما جاءوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرها. فبايع ...
ثم جىء بالزّبير، فقال مثل ذلك وبايع، وفى الزّبير اختلاف..
ثم جىء بعده بقوم كانوا قد تخلّفوا، فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله فى القريب والبعيد والعزيز والذليل. فبايعهم ... ثمّ قام العامّة فبايعوا ... وتفرّقوا إلى منازلهم.
ورجع علىّ إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزّبير فى عدد من الصحابة، فقالوا: «يا علىّ، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا فى قتل هذا الرجل.» فقال: «يا إخوتاه، إنى لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟
__________
[1] القائل ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 99 وأصل ذلك فى رواية الطبرى ج 3 ص 456.
[2] أى: عن تشاور من مقدميكم وجماعتكم.
[3] كذا فى (ن) و (ص) أى: أغضب. وفى تاريخ الطبرى: «أجد» بمعنى أغضب أيضا. وفى تاريخ ابن الأثير و (ك) : «آخذ» .(20/15)
هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم [1] ، وثابت [2] إليهم أعرابكم [3] وهم خلالكم [4] يسومونكم [5] ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شىء ممّا تريدون؟» قالوا: لا. قال: «فلا والله لا أرى إلّا رأيا ترونه أبدا إلّا أن يشاء الله، إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة [6] . إنّ الناس من هذا الأمر- إن حرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتّى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدءوا عنّى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا» .
واشتدّ علىّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج [وتركها] [7] على حالها، وإنّما هيّجه على ذلك هرب بنى أميّة وتفرّق القوم.
وحكى أبو عمر ابن عبد البر [8] قال: لمّا بايع الناس علىّ بن أبى طالب دخل عليه المغيرة بن شعبة [9] ، فقال له: «يا أمير المؤمنين، إنّ لك عندى نصيحة» . قال: وما هى؟ قال: «إن
__________
[1] «عبدان» بضم العين أو كسرها مع سكون الباء: جمع عبد.
[2] ثابت: رجعت واجتمعت.
[3] كذا فى النسخة (ن) وهو مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن كثير ورقع فى (ص) و (ك) : «أعرانكم» .
[4] هكذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 458، ى: هم بينكم. وفى المخطوطة هنا «خلاصكم» . وفى تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 100: «خلاطكم» .
[5] يسومونكم: يكلفونكم.
[6] أى: ما أعينوا.
[7] زيادة من ابن الأثير.
[8] فى الاستيعاب ج 3 ص 390.
[9] المغيرة بن شعبة أحد دهاة العرب المشهورين فى ذلك العهد، وهم: معاوية ابن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد، والمغيرة.(20/16)
أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة على الكوفة، والزّبير على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرّت لك الخلافة فادرأهم [1] كيف شئت برأيك» . فقال [علىّ] [2] : «أمّا طلحة والزّبير فسأرى رأيى فيهما، وأمّا معاوية فلا يرانى الله مستعملا له ولا مستعينا به مادام على حاله، ولكنّى أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس [3] ، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى» . فانصرف عنه المغيرة مغضبا لمّا لم يقبل منه نصيحته..
فلمّا كان الغد أتاه فقال: «يا أمير المؤمنين، نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتنى به، فرأيت أنّك قد وفّقت للخير وطلبت الحق» . ثم خرج [4] عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال هذا الأعور؟ (يعنى المغيرة، وكان المغيرة قد أصيبت عينه يوم اليرموك) قال: أتانى أمس بكذا وأتانى اليوم بكذا. قال: نصحك والله [أمس] [5] وخدعك اليوم. فقال له علىّ: إن أقررت معاوية على ما فى يده كنت متّخذ المضلّين عضدا [6] .
__________
[1] ادرأهم: ادفعهم.
[2] زيادة من الاستيعاب.
[3] فى الاستيعاب: «المسلمون» .
[4] كذا جاء فى (ك) والاستيعاب. وفى (ص) : «وانصرف» .
[5] سقط «أمس» من النسخة (ك) . وثبت فى (ص) .
[6] فى القرآن الكريم: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ، الْمُضِلِّينَ عَضُداً
فى الآية 51 من سورة الكهف.(20/17)
وقال المغيرة فى ذلك:
نصحت عليا فى ابن هند نصيحة ... فردّ [1] فلا يسمع لها الدهر ثانيه
وقلت له: أرسل إليه بعهده ... على الشام حتّى يستقرّ معاويه
ويعلم أهل الشام أن قد ملكته ... فأمّ ابن هند بعد ذلك هاويه
وتحكم [2] فيه ما تريد فإنّه ... لداهية- فارفق به- وابن داهيه
فلم يقبل النّصح الّذى جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافيه
وروى [3] عن ابن عبّاس- رضى الله عنهما- نحوه، إلّا أنّه قال «أتيت عليّا بعد قتل عثمان، عند [4] عودى من مكّة [5] ، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليا به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لى قبل مرّته هذه «إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقيّة الناس، وإنّ الرأى اليوم يحرز [6] به
__________
[1] فى مروج الذهب ج، ص 16: «فردت» .
[2] سقط هذا البيت من نسخة الاستيعاب التى بأيدينا ومن مروج الذهب.
[3] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 101 وتاريخ الطبرى ج 3 ص 460.
[4] كذا فى تاريخ الطبرى وابن كثير، وجاء فى المخطوطة «بعد» .
[5] كان عثمان- قبل مقلته- قد دعا ابن عباس واستعمله على الحج، فذهب إلى مكة وأقام للناس الحج، ثم رجع إلى المدينة بعد قتل عثمان بخمسة أيام.
[6] كذا جاء فى النسخة (ص) . وفى النسخة (ك) : «تحرز» .(20/18)
ما فى غد، وإن الضّياع اليوم يضيع به ما فى غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمّال عثمان على أعمالهم، حتّى تأتيك بيعتهم [ويسكن الناس] [1] ثمّ اعزل من شئت» فأبيت عليه ذلك، وقلت: لا أداهن فى دينى ولا أعطى الدّنيّة فى أمرى [2] . قال «فإن كنت أبيت علىّ فاعزل من شئت واترك معاوية، فإنّ فى معاوية جرأة، وهو فى أهل الشام يستمع منه، ولك حجة فى إثباته، فإنّ عمر بن الخطّاب [كان] [3] قد ولّاه الشام» فقلت؛ لا والله لا أستعمل معاوية يومين. ثمّ انصرف من عندى وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطىء، ثم عاد إلىّ الآن فقال:
«إنّى أشرت عليك أوّل مرّة بالذّى أشرت، وخالفتنى فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك أن تصنع الّذى رأيت، فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة ممّا كان» .. قال ابن عبّاس: فقلت لعلىّ: أمّا المرّة الأولى فقد نصحك، وأمّا المرّة الثانية فقد غشّك. قال: ولم نصحنى؟ قلت: لأنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا [4] من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا «أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا» ويؤلبوا [5] عليك، فينتقض عليك أهل الشام [وأهل العراق، مع أنّى لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك] [6] وأنا أشير عليك أن تثبت
__________
[1] ثبت هذا فى النسخة (ك) . وسقط من (ن) .
[2] الدنيه: الخصلة المذمومة.
[3] ثبت «كان» فى (ن) و (ص) . وسقط من (ك) .
[4] وقع فى المخطوطة هنا «لا يبالون» مع ظهور الجزم بحذف النون فى «يقولوا» بعد «متى» الثانية.
[5] هذا هو الظاهر المناسب للعطف على «يقولوا» . ووقع فى المخطوطة «ويؤلبون» .
[6] ثبت هذا فى النسخة (ن) كما فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من (ك) .(20/19)
معاوية، فإن بايع لك فعلىّ أن أقلعه من منزله. قال [علىّ] [1] :
والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثّل:
وما ميتة إن متها غيّر عاجز [2] ... بعار إذا ما غالت النفس غولها [3]
فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع، لست صاحب رأى فى الحرب،
أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحرب خدعة» [4] ؟
فقال: بلى. فقلت: أم [5] والله لئن أطعتنى لأصدرنّهم بعد [6] ورود، ولأتركنّهم ينظرون فى دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، فى غير نقصان عليك ولا إثم لك.
فقال: يا ابن عباس، لست من هنيّاتك [7] ولا من هنيّات معاوية فى شىء، فقلت له: أطعنى، والحق بمالك بينبع [8] ، وأغلق بابك
__________
[1] ثبت هذا فى تاريخى الطبرى وابن الأثير. وسقط من المخطوطة.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) وتاريخى ابن جرير وابن الأثير، وجاء فى (ص) : «م» .
وجاء فى ديوان الأعشى ص 175: «فما» .
[3] الغول: ما اغتال النفس وأهلكها، يقال «غالته غول» إذا وقع فى مهلكة.
والبيت للأعشى فى ختام قصيدة.. وقد اقتدى بعلى بن أبى طالب فى تمثله بهذا البيت أبو العباس السفاح، فانه لما خرج يدعو إلى البيعة قال: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل يقول الأعشى: فما ميتة: إن متها ... الخ.
[4] «خدعة» بسكون الدال مع فتح الخاء أو ضمها أو كسرها، أو بفتح الدال مع ضم الخاء، والمراد أن أمر الحرب ينقضى بخدعة.
[5] «أم» كذا جاء فى المخطوطة. وهى بمعنى «أما» الاسنفتاحيه التى تجىء للتنبيه وتكثر قبل القسم، ولكن ألفها الأخيرة حذفت عن قلة، وقد جاءت «أما» فى تاريخى الطبرى وابن الأثير.
[6] كذا فى (ن) كما جاء ابن عند ابن الأثير وغيره، أى: أن ما يكون من حالة معهم حينئذ كحال من يرجع قوما عن الماء بعد وروده. وفى (ك) و (ص) : «بغير» .
[7] «هنيات» تصغير «هنات» أو هنوات» ، وكل من هذه الكلمات تذكر عند إرادة خصال غير حسنة.
[8] ينبع: قرية ذات نخيل وزرع ومياه فى غرب المدينة المنورة، على شاطى البحر.
وفيها مال لعلى.(20/20)
عليك، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنّك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم [1] ليحمّلنّك الناس دم عثمان غدا! .. فأبى علىّ، وقال: تشير علىّ وأرى فإذا عصيتك فأطعنى قال: فقلت «أفعل، إنّ أيسر مالك عندى الطاعة» . فقال له علىّ: تسير إلى الشام فقد ولّيتكها. فقال ابن عباس: «ما هذا برأى، معاوية رجل من بنى أميّة، وهو ابن عم عثمان، وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقى بعثمان، وإنّ أدنى ما هو صانع أن يحبسنى فيتحكّم علىّ لقرابتى منك. وإن كلّ ما حمل علىّ حمل عليك [2] ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده» . فقال: لا والله لا كان هذا أبدا! وخرج المغيرة فلحق بمكة.
ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية رضى الله عنهما
وفى سنة ست وثلاثين فرّق علىّ- رضى الله عنه- عمّاله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عبّاس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل [3] بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج، حتى إذا كان بتبوك [4] لقيته خيل [5] فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أىّ شىء؟ قال: على
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخى الطبرى وابن الأثير. وفى النسخة (ك) : «القوم»
[2] كذا جاء فى المخطوطة. وعند الطبرى وابن الأثير: «وإن كل ما حمل عليك حمل على»
[3] أخو عثمان بن حنيف، وهما صحابيان.
[4] موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق ذكره.
[5] أى: فرسان خيل.(20/21)
الشام. قالوا: إن كان عثمان بعثك فحىّ هلا بك [1] ، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أو ما سمعتم بالّذى كان؟ قالوا: بلى ...
فرجع إلى علىّ.
وأمّا عمارة فلمّا بلغ زبالة [2] لقيه طليحة بن خويلد، وكان قد خرج يطلب بثأر عثمان، فقال له: ارجع فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم بدلا، فإن أبيت ضربت عنقك ... فرجع إلى علىّ.
وأمّا قيس بن سعد فإنّه لما انتهى إلى أيله [3] لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا امض. فمضى حتى دخل [مصر] [4] ، فافترق أهل مصر فرقا: فرقة دخلت فى الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا، [5] وقالوا: «إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلّا فنحن على جديلتنا [6] حتّى نحرك [7]
__________
[1] حى هلا: كلمة تقال عند الدعاء إل الشىء، والإقبال عليه، أى: أنك حينئذ أهل لهذا.
[2] زبالة: قرية بطريق مكة من الكوفة، وكانت بها أسواق.
[3] أيله: مدينة معروفه على خليج العقبة، وكانت مقصودة، لمن كانوا يقدمون من الحجاز إلى الفسطاط بطريق البر.
[4] كذا فى النسخة (ن) وتاريخ ابن الأثير، وسقطت هذه الكلمة من (ك) .
[5] جاء فى هامش النسخة (ص ما نصه: «خرنبا» بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح النون والباء الموحدة، بعدها ألف» ، وهو تابع لابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 105 حيث ذكر هذا الضبط، ولكن المحققين لا يصححون هذا، بل يرون أنها» «خربتا» بفتح الخاء أو كسرها مع كسر الراء وسكون الباء قبل التاء المثناه الفوفية، وكذلك تكررت فى مواضع من الجزء الأول من النجوم الزاهرة، وقال ياقوت فى معجم البلدان: « «خزنبا: قال نصر: موضع من أرض مصر، لأهلها حديث فى قصة على ومحمد بن أبى بكر، وهو خطأ، وقد سألت عنه أهل مصر فلم يعرفوا إلا خربتا» ، وقال فى موضع آخر: «خربتا» : هكذا ضبط فى كتاب ابن عبد الحكم، وقد ضبط الحازمى بالنون ثم الباء، هو خطأ» . والمعروف الآن أن «خربتا» قرية تابعة لمحافظة «البحيرة» وأنها بكسر الخاء والباء مع سكون الراء.
[6] الجديلة: الحال والطريقة.
[7] نحرك: نصاب السيوف، وهذه الكلمة جاءت فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «تخزك(20/22)
أو نصيب حاجتنا» ، وفرقة قالت نحن مع علىّ ما لم يقد من إخواننا [1] وهم فى ذلك مع الجماعة ... فكتب قيس إلى علىّ بذلك.
وأمّا عثمان بن حنيف فسار حتّى دخل البصرة، ولم يردّه أحد ولا وجد لابن عامر [2] فى ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب، وافترق الناس بها: ففرقة دخلت فى الجماعة، وفرقة اتّبعت القوم، وقالت فرقة «ننظر ما يقول أهل المدينة فنصنع ما صنعوا» .
وأمّا عبيد الله بن عبّاس فانطلق إلى اليمن، فخرج يعلى بن منية [3] بعد أن جمع المال- ولحق بمكة، وأنفق المال فى حرب الجمل.
قال [4] : ولمّا رجع سهل بن حنيف دعا علىّ طلحة والزّبير فقال «إنّ الأمر الذى كنت أحذّركم قد وقع، وإنّ الّذى قد وقع لا يدرك إلّا بإماتة [5] ، وإنّها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت اضطراما، واستثارت» . فقالا [6] :- ائذن لنا نخرج من المدينة، فإما أن نكاثر، وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما أستمسك، فإذا لم أجد بدا فآخر الداء الكى!.
__________
[1] أى: ما لم يقتل إخواننا بما فعلوه فى الخليفة عثمان بن عفان.
[2] ابن عامر: عبد الله بن عامر بن كريز، وكان ابن خال عثمان بن عفان، وقد ولاه عثمان البصرة.
[3] هو يعلى بن أمية بن أبى عبيدة بن همام بن الحارث التميمى الخنظلى حليف قريش، ينسب حينا إلى أبيه «أمية» وينسب حينا إلى أمه «منية» وسيأتى النسبان قريبا فى وقعة الجمل، وقد استعمله عمر بن الخطاب على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى، فعزله عمر، ثم استعمله عثمان ابن عفان على صنعاء اليمن، وانظر الاستيعاب ج 3 ص 661 وتهذيب الأسماء ج 2 ص- 165 والإصابة ج 3 ص- 668.
[4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 103.
[5] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «باماتته» .
[6] كذا جاء عند ابن الأثير، وفى المخطوطة: «فقالوا» .(20/23)
وكتب إلى معاوية وإلى أبى موسى، فأجابه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم [للذى كان] [1] والراضى ومن بين ذلك، حتى كان على [كأنّه] [2] يشاهدهم.. وكان رسوله إلى أبى موسى معبد الأسلمى.
وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهنى، فلم يجبه معاوية بشىء وكلّما تنجّز جوابه لم يزده على قوله:
أدم إدامة حصن أو خذا [3] بيدى ... حربا ضروسا تشبّ الجزل والضّرما [4]
فى جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... نعاء [5] شيّبت الأصداغ واللمما
أعيى المسود بها والسّيّدون فلم ... يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما
حتى إذا كان [الشهر الثالث من مقتل عثمان] [6] فى صفر دعا معاوية رجلا من بنى عبس، اسمه قبيصة، فدفع إليه طومارا [7] مختوما، عنوانه «من معاوية إلى علىّ» وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض
__________
[1] الزيادة من الكامل لابن الأثير.
[2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وفى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 3 ص 4643:
«أو جدا» .
[3] تشب: توقد. والجزل: الحطب اليابس الغليظ. والضرم: السعف الذى فى طرفه نار، والجمر.
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) . وفى (ك) : شنعا» .
[6] الزيادة من ابن الأثير:.
[7] الطومار: الصحيفة.(20/24)
على أسفل الطّومار. وأوصاه بما يقول، وأعاد رسول علىّ معه، فقدما المدينة فى شهر ربيع الأوّل، ودخل العبسىّ كما أمره معاوية، والناس تنظر إلى الطّومار، حتّى دفعه إلى علىّ، ففضّه، فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، إن الرّسل لا تقتل: قال تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود [1] . قال: ممّن؟
قال «من خيط رقبتك! وتركت ستّين ألف شيخ يبكى تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق!» قال: «أمنّى يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا بترة [2] عثمان؟ اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان! نجا- والله- قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله فإنه إذا أراد أمرا أصابه! اخرج.» قال وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسىّ، فقالوا [3] : «هذا الكلب رسول الكلب! اقتلوه!» فنادى: يا آل مضر. يا آل قيس، الخيل والنبل، وبالله أقسم ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصىّ! فانظروا كم الفحول والركاب؟» وتعاووا [4] عليه، فمنعته مضر، وجعلوا يقولون له: «اسكت» فيقول: «لا والله، والله لا يفلح هؤلاء أبدا، أتاهم ما يوعدون، لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم [5] .
__________
[1] القود: القصاص.
[2] جاء عند ابن جرير وابن الأثير: كترة» والترة: الثأر والظلم فيه، والموتور:
المصاب بقتل حميمه ولم يدرك ثأره.
[3] القائلون هم السبئية كما جاء عند ابن جرير وابن الأثير.
[4] تعاووا (بالعين أو بالغين) أى: تجمعوا وتعاونوا.
[5] فى القرآن الكريم: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
والمراد بالريح الدولة والقوة.(20/25)
قال: وأظهر علىّ العزم على قتال معاوية، وكتب إلى عمّاله أن ينتدبوا الناس إلى الشام.
ثم استأذنه طلحة والزبير فى العمرة، فأذن لهما.
ودعا علىّ ابنه محمد بن الحنفيّة، فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمرو بن أبى سلمة- أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد- ميسرته، وجعل أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح (ابن أخى أبى عبيدة) على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن العبّاس.
ذكر ابتداء وقعة الجمل
ومسير عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة وما كان من الحرب إلى أن استقروا بها وإخراج عثمان بن حنيف عامل على رضى الله عنه كان ابتداء وقعة الجمل أنّ عائشة رضى الله عنها كانت قد خرجت إلى الحجّ وعثمان محصور- كما ذكرنا- فلمّا قضت الحجّ وعادت أتاها الخبر بقتله وخلافة علىّ، وهى يسرف [1] ، فرجعت إلى مكة وهى تقول: «قتل- والله- عثمان مظلوما! والله لأطلبنّ بدمه!» وطلبت مكة، فقصدت الحجر، فسمرت فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت: «أيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الامصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس، ونقموا [2] عليه استعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أمثالهم
__________
[1] سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
[2] نقموا: أنكروا.(20/26)
من قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم [1] ، [وهى أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها،] [2] فتابعهم، ونزع [لهم] [2] عنها (استصلاحا لهم) [2] ، فلمّا لم يجدوا حجّة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، وأستحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! وو الله لو أنّ الّذى اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذّهب من خبثة أو الثّوب من درنه إذ ما صوه [3] كما يماص الثّوب بالماء!» فقال عبد الله بن [عمرو بن] [4] الحضرمى (وكان عامل عثمان على مكة) : «ها أنا [ذا] [5] أوّل طالب» ، فكان أوّل مجيب، وتبعه [6] بنو أميّة على ذلك، وكانوا قد هربوا من المدينة إلى مكة بعد قتل عثمان، وتبعهم سعيد بن العاص والوليد ابن عقبة.
__________
[1] قال عثمان- رضى الله عنه دفاعا عن نفسه: «وأما الحمى فان عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت فى الحمى لما زاد فى إبل الصدقة» .
انظر تاريخ ابن جرير الطبرى فى ج 3 ص سنة 390.
[2] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 468.
[3] فى النهاية: «فى حديث عائشة قالت عن عثمان: مصتموه كما يماص الثوب ثم عدوتم عليه فقتلتموه، الموص: الغسل بالأصابع يقال: مصته أموصه موصا، أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه فلما أعطاهم ما طلبوا قتلوه» .
[4] هذا هو الصواب، كما ذكراه ابن حجر فى الإصابة ج 2 ص 351 وابن جرير وغيره فى أسماء عمال عثمان، وهو غير عبد الله بن عامر بن كريز القرشى وإلى البصرة الذى يأتى مذكره بعد أسطر. وقد جاء فى المخطوطة «عبد الله بن عامر الحضرمى» وهو خطأ وقع أيضا فى نسخ الطبرى وابن الأثير فى هذا الموضع.
[5] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 648. ووقع فى المخطوطة: «ها أنا أول طالب» .
[6] كان عبد الله بن الحضرمى حليفا لبنى أمية.(20/27)
وقدم عليهم عبد الله بن عامر [1] من البصرة بمال كثير ويعلى ابن أميّة (وهو ابن منية) [2] من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح.
وقدم طلحة والزّبير من المدينة، فلقيا عائشة: فقالت:
ما وراءكما؟ فقالا: «إنّا تحمّلنا هرّابا [3] من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقّا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم» ، فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا:
نأتى الشام. فقال ابن عامر: «قد كفاكم معاوية الشام، فأتوا البصرة، فإنّ لى بها صنائع، ولهم فى طلحة هوى» ، قالوا:
«قبحك الله! فو الله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلّا أقمت كما أقام معاوية فنكتفى بك، ثم نأتى الكوفة فنسدّ على هؤلاء القوم مذاهبهم» . فلم يجدوا [4] عنده جوابا مقبولا.
حتّى إذا استقام لهم الرأى على البصرة قالوا: «يا أمّ المؤمنين، دعى المدينة، فإنّ من معنا لا يطيق من بها من الغوغاء، [واشخصى [5] معنا إلى البصرة، فإنّا] [6] نأتى بلدا مضيعا، وسيحتجّون علينا [فيه] [6] ببيعة علىّ فتنهضينهم [7] كما أنهضت أهل مكة،
__________
[1] سبق أنه ابن خال عثمان بن عفان وواليه على البصرة.
[2] سبق ذكره وأنه عامل عثمان على صنعاء اليمن.
[3] أى: ارتحلنا هاربين.
[4] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير. وفى المخطوطة: «فلم تجد» .
[5] أى: اذهبى.
[6] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[7] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وفى المخطوطة «فتهضهم» .. وقد جاء فى بعض الروايات أن طلحة والزبير قالا لعائشة: «إنا نأتى أرضا قد أضيعت وصارت إلى على، وقد أجبرنا على على بيعته، وهم محتجون علينا بذلك وتاركوا أمرنا، إلا أن تخرجى فتأمرى ما أمرت بمكة» .(20/28)
فإن أصلح الله الأمر كان الذى أردنا، وإلّا دفعنا [عن هذا الأمر] [1] بجهدنا، حتّى يقضى الله ما أراد» . فأجابتهم إلى ذلك.
ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فأبى، وقال: «أنا رجل من أهل المدينة، أفعل ما يفعلون» . فتركوه.
وكان أزواج النّبى صلى الله عليه وسلم مع عائشة على قصد المدينة، فلما تغيّر رأيها إلى البصرة تركن [2] ذلك. وأجابتها حفصة على المسير معها، فمنعها أخوها عبد الله [3] .
وجّهزهم يعلى بن منية بستّمائة ألف وستمائة بعير، وجهّزهم ابن عامر بمال كثير.
ونادى مناديها: «إنّ أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين [4] والطلب بثأر عثمان وليس له مركب ولا جهاز فليأت» . فحملوا ستّمائة على ستمائة بعير، وساروا فى ألف- وقيل فى تسعمائة- من أهل المدينة ومكة، وتلاحقت بهم الناس، فكانوا فى ثلاثة آلاف رجل.
وأعان يعلى بن منية الزّبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[2] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وفى المخطوطة «تركوا» .
[3] عبد الله بن عمر بن الخطاب أخو أم المؤمنين حفصة لأبيها وأمها، كما سبق فى هذا الكتاب ج 18 ص- 176.
[4] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «المحلون» يراد بهم هنا: الذين أحلوا ما حرم الله وانتهكوا حرماته، وهذا يناسب ما سبق قريبا من قول عائشة «سفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام» ، وفى المخطوطة «المخلين» بالخاء المعجمة، والمعنى عليه غير بعيد.(20/29)
من قريش، وأعطى عائشة جملا، اسمه «عسكر» ، واشتراه بمائتى دينار، وقيل: بثمانين دينارا، وقيل: كان لرجل من عرينة، فابتيع منه بمهريّة [1] وأربعمائة درهم أو ستمائة درهم.
وخرجت عائشة من مكة ومعها أمّهات المؤمنين إلى ذات عرق [2] فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم [3] كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم، وكان يسمّى «يوم النّحيب» ..
وكتبت أمّ الفضل [4] بنت الحارث (أمّ عبد الله بن عبّاس) إلى علىّ بالخبر.
ولما خرجت عائشة من مكة أذّن مروان [5] بن الحكم، ثم جاء حتّى وقف على طلحة والزّبير فقال: على أيّكما أسلّم [6] بالإمرة وأؤذّن بالصلاة فقال عبد الله بن الزّبير: على أبى عبد الله (يعنى أباه) . وقال محمد ابن طلحة: على أبى محمد (يعنى أباه) . فأرسلت عائشة إلى مروان فقالت: أتريد أن تفرّق أمرنا، ليصلّ بالناس ابن أختى [7] (تعنى
__________
[1] ناقة مهرية من نوع سريع معروف من الإبل. ينسب إلى «مهرة» .
[2] موضع على مرحلتين من مكة، ينزل فيه مريد لحج من أهل العراق ليحرم بالحج منه.
[3] كذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، ووقع فى المخطوطة «يوما» .
[4] هى لبابة بنت الحارث الهلالية، اشتهرت بكنيتها.
[5] مروان بن الحكم القرشى الأموى أبو عبد الملك، وهو ابن عم عثمان وكاتبه فى خلافته.
[6] كذا جاء عند ابن جرير. وفى المخطوطة: «أسأله» .
[7] ابتعدت بذلك عن ذكر الشيخين اللذين وقع فيهما الاختلاف.(20/30)
عبد الله بن الزّبير) . وقيل بل صلّى بالناس عبد الرحمن [1] بن عتّاب بن أسيد حتّى قتل.
ولما انتهوا إلى ذات عرق لقى سعيد [2] بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه [3] فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ (يعنى عائشة وطلحة والزّبير) اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم! فقالوا: نسير فعلّنا نقتل قتلة عثمان ... فخلا سعيد ابن العاص بطلحة والزّبير، فقال: اصدقانى إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ قالا: نجعله لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: فلا أرانى أسعى إلّا لإخراجها من بنى عبد مناف [4] فرجع، ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد [5] ، فقال المغيرة بن شعبة: «الرأى ما قال سعيد، من كان ها هنا من ثقيف فليرجع» ، ورجع.
ومضى القوم، ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان، وكان دليلهم رجلا من عرينة، وهو الّذى ابتيع منه الجمل (على أحد الأقوال) ، قال العرنىّ: فسرت معهم، فلا أمرّ على واد إلّا
__________
[1] هو من الأمويين، صحابى أو تابعى، انظر الإصابة ج 3 ص 72 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 3 ص 41.
[2] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشى الأموى.
[3] بنى أمية.
[4] قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 42 «طلحة من تيم بن مرة والزبير من أسد بن عبد العزى بن قصى، وليس أحد منها من بنى عبد مناف» .
[5] عبد الله بن خالد أموى، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عتاب الذى سبق ذكره قريبا.(20/31)
سألونى عنه، حتى طرقنا الحوأب- وهو ماء [1]- فنبحتنا كلابه فقالوا: أىّ ماء هذا؟ قلت: هذا ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها، واسترجعت [2] وقالت: إنّى لهيه!
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: «ليت شعرى أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب!»
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت:
«ردّونى! أنا والله صاحبة ماء الحوأب!» فأناخوا حولها يوما وليلة، فقال لها عبد الله بن الزّبير: «إنه كذب، وليس هو ماء الحوأب» ولم يزل بها وهى تمتنع حتّى قال لها: النّجاء النّجاء! قد أدرككم علىّ بن أبى طالب.» فارتحلوا نحو البصرة، فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمى فقال: (يا أمّ المؤمنين، أنشدك الله أن تقدمى اليوم على قوم لم تراسلى منهم أحدا، فعجّلى ابن عامر فإنّ له بها صنائع، فليذهب إليهم [3] » فأرسلته.
وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة، وإلى الأحنف بن قيس وأمثاله، وأقامت بالحفير [4] تنتظر الجواب.
ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدّؤلىّ وقال: انطلقا إلى عائشة واعلما علمها وعلم من معها، فأتياها وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك ليسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: «والله ما مثلى يسير بالأمر المكتوم
__________
[1] من مياه العرب على الطريق بين البصرة ومكة. ويصلح هذا الموضع لنزول المسافرين.
[2] قالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[3] زاد ابن جرير الطبرى: «فليلقوا الناس حتى تقدمى ويسمعوا ما جئتم فيه»
[4] الحفير: ما حفره أبو موسى الأشعرى على طريق البصرة إلى مكة فكان ماؤه عذبا.(20/32)
إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع [1] القبائل غزوا حرم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأحدثوا فيه الأحداث [2] ، وآووا فيه المحدثين [3] ، فاستوجبوا لعنة الله ولعنة الرسول، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلاتره [4] ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا فى دار قوم كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين [5] غير نافعين ولا منتفعين، لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت فى المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء، وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغى لهم أن يأتوا فى إصلاح هذه القصّة» وقرأت: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
[6] [ثم قالت [7] :] «نهض [8] فى
__________
[1] النزاع من القبائل: جمع «النازع» وهو الغريب الذى نزع عن أهله وعشيرته أى: بعد وغاب.
[2] الأحداث: جمع حدث، وهو: الأمر الحادث المنكر الذى ليس بمعتاد ولا معروف فى السنة، كما ذكره صاحب النهاية «فى حديث المدينة: من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا» .
[3] آووا المحدثين: نصروا الجانين أو أجاروهم من خصومهم وحالوا بينهم وبين أن يقتص منهم.
[4] الترة: الثأر.
[5] قد جاء اللفظان بمعنى واحد، وقد يكون المراد ب «مضرين» : الذين يكرهون غيرهم على الأمور التى يريدونها.
[6] من الآية 114 من سورة النساء.
[7] زيادة يقتضيها المقام.
[8] عند الطبرى: «نهض» .(20/33)
الإصلاح فيمن [1] أمر الله وأمر رسوله الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثّكم على تغييره فخرجا من عندها، فأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع عليّا؟ قال: «بلى، والسّيف على عنقى، وما أستقيل عليّا البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان» . ثم أتيا الزّبير فقالا له وقال مثل ذلك. فرجعا إلى عائشة فودّعاها، فودّعت عمران، وقالت يا أبا الأسود، إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ
(الآية) [2] . وسرّحتهما، ونادى مناديها بالرّحيل.
ومضيا حتّى أتيا عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال:
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر [3] . ... وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئما [4] وشمّر
فاسترجع [5] عثمان، وقال: دارت رحى الإسلام [6] وربّ الكعبة! ونادى فى الناس، وأمرهم بلبس السلاح.
__________
[1] عند الطبرى: «ممن» .
[2] الآية 8 من سورة المائدة.
[3] انفر: تقدم للقتال.
[4] مستلئما: لا يسا اللأمة، هى الدرع عدة الحرب.
[5] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[6]
روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين»
.. قال الخطابى فى شرحه ج 4 ص 340: دوران الرحى كناية عن الحرب القتال، شبهها بالرحى الدوارة التى تطحن الحب، لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف حربا
«فدارت رحانا واستدارت وحاهمو....»
قال زهير
«فتعرككم عرك الرحى بثقالها ... » .(20/34)
وأقبلت عائشة فيمن معها حتّى انتهوا إلى المربد [1] ، فدخلوا من أعلاه، ووقفوا حتّى خرج عثمان بن حنيف فيمن معه، وخرج إلى عائشة من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم كلّهم بالمربد: عائشة ومن معها فى ميمنته، وعثمان ومن معه فى ميصرته.
فتكلّم طلحة، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحلّ منه [2] ، ودعا إلى الطلب بدمه، وحثّهم عليه.
وتكلّم الزّبير بمثل ذلك. فقال من فى ميمنة المربد: صدقا وبرّا! وقال من فى ميسرته: «فجرا، وغدرا، وأمرا بالباطل! بايعا عليّا ثم جاءا يقولان ما يقولان!» وتحاثى [3] الناس وتحاصبوا [4] .
فتكلّمت عائشة، فحمدت الله وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنّون على عثمان، ويزرون [5] على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا فى إصلاح بينهم، فننظر فى ذلك فنجده بريّا تقيّا وفيّا،
__________
[1] المربد: كان من أعظم محال البصرة أسواقها سككها.
[2] فى رواية ابن جرير: وذكر عثمان وفضله والبلد وما استحل منه وعظم ما أتى إليه.
[3] تحاثى الناس: تراموا التراب فرماه بعضهم فى وجه بعض ولم يذكر أصحاب الصحاح والنهاية واللسان والقاموس وشرحه هذا اللفظ فى مادته، وذكروا «استحثى» لهذا المعنى الذى هو ظاهر فى التفاعل، مثل «تحاصبوا» الآتى، وسيأتى «تحاثوا» قريبا، كما جاء هذا اللفظ عند ابن جرير وابن الأثير.
[4] تحاصبوا: تراموا بالحصباء، أى الحصى.
[5] يزرون: يعيبون.(20/35)
ونجدهم فجرة غدرة كذبه، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلمّا قدروا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلّوا الدم الحرام والمال الحرام، والبلد الحرام، بلاترة [1] ولا عذر، ألا إنّ فيما ينبغى- لا ينبغى لكم غيره- أخذ قتلة عثمان، وإقامة كتاب الله، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
(الآية [2] ) .
فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين: فقالت فرقة:
صدقت والله وبرّت وجاءت بالمعروف، وقالت فرقة خلاف ذلك.
فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا [3] ، فلمّا رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف، حتّى وقفوا فى المربد فى موضع الدبّاغين، وبقى أصحاب عثمان على حالهم، يتدافعون حتّى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة [4] .
وأقبل حكيم بن جبلة، وهو على خيل ابن حنيف، فأنشب القتال، فأشرع أصحاب عائشة رماحهم، وأمسكوا ليمسك [5] ، فلم ينته ولم ينثن، وأصحاب عائشة كافّون [إلّا ما دافعوا عن أنفسهم [6]] ثمّ اقتتلوا على فم السّكّة، وأشرف أهل الدّور ممن كان له فى أحد
__________
[1] الترة: الثأر.
[2] من الآية 23 من سورة آل عمران.
[3] أرهجوا: أثاروا الغبار.
[4] وبقى بعضهم مع عثمان بن حنيف على فم السكة، كما ذكره ابن جرير ج 3 ص 482.
[5] هذا هو المناسب للفعلين بعده، وعبارة ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 109 «وأمسكوا ليمسك حكيم وأصحابه» . وفى المخطوطة وتاريخ ابن جرير: «ليمسكوا» .
[6] الزيادة من تاريخ ابن جرير.(20/36)
الفريقين هوى، فرموا فى الأخرى بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا، حتّى انتهوا إلى مقبرة بنى مازن، فوقفوا بها مليّا [1] ، وثاب إليهم الناس، فحجز الليل بينهم. ورجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق [وباتوا يتأهبّون، وبات الناس يأتونهم، واجتمعوا بساحة دار الرزق [2]] .
وأصبح عثمان فغاداهم [3] ، وخرج حكيم، فاقتتلوا قتالا شديدا من حين بزغت الشمس إلى أن زالت، وقد كثر القتل فى أصحاب ابن حنيف، وفشت الجراحة فى الفريقين، ومنادى عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكفّ، فيأبون، حتّى إذا مسّهم الشرّ وعضّتهم الحرب نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح، فأجابوهم: وتداعوا [4] وكتبوا بينهم كتابا [5] على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة يسأل أهلها،
__________
[1] مليا: زمنا طويلا.
[2] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) .
[3] غاداهم: أتاهم أفى وقت الغداة.
[4] كذا فى المخطوطة، أى: دعا بعضهم بعضا. وعند الطبرى «تواعدوا» . وعند ابن الأثير «توادعوا» .
[5] الكتاب- كما ذكره ابن جرير وغيره- هو: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين، أن عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما فى يده، وأن طلحة والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما فى أيديهما، حتى يرجع أمين الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة، ولا يضار واحد من الفريقين الآخر فى مسجد ولا سوق ولا طريق ولا قرضة، بينهم عيبة مكفوفة، حتى يرجع كعب الخبر، فان رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير فالأمر أمرهما، وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته وإن شاء دخل معهما، وإن رجع أنهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان، فان شاء طلحة والزبير أقاما على طاعة على وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما، والمؤمنون أعوان الفالج منهما» .(20/37)
فإن كان طلحة والزّبير أكرها على مبايعة علىّ خرج ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهم، وإن كانا لم يكرها على البيعة خرج طلحة والزّبير.
فسار كعب [1] بن سور حتّى أتى المدينة، فقدمها يوم جمعة فسأل أهلها هل أكره طلحة والزّبير على بيعة علىّ أم أتياها طائعين؟
فلم يجبه أحد إلا أسامة ابن زيد فإنه قال: اللهمّ إنّهما لم يبايعا إلّا وهما مكرهان. فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب وأبو أيّوب فى عدّة من الصحابة، منهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقالوا: اللهمّ نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله.
وبلغ عليّا الخبر [2] ، فكتب إلى عثمان بن حنيف أنّهما لم يكرها على البيعة.
فلمّا عاد كعب بن سور أمر عثمان بالخروج عن البصرة، فامتنع، واحتجّ بكتاب علىّ، فجمع طلحة والزّبير الرجال فى ليلة مظلمة ذات رياح ومطر، وقصدوا المسجد واقتتلوا، فقتل من أصحاب ابن حنيف أربعون رجلا، ودخل الرجال على ابن حنيف فأخرجوه [إليهما] [3] ، فما وصل وفى جهه شعرة، فاستعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة فى أمره، فأرسلت أن خلّوا سبيله، وبقى طلحة والزّبير بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس، واستتر من لم يكن معهما.
وبلغ حكيم بن جبلة ما حلّ بعثمان [بن حنيف] [4] فقال: لست
__________
[1] كان قاضى البصرة.
[2] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» .
[3] كذا جاء عند ابن الأثير. وفى المخطوطة «على» .
[4] كذا جاء فى (ك) وتاريخ ابن الأثير. وسقط من (ن) .(20/38)
أخاف الله إن لم أنصره. فجاء فى جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة- وكان بينه وبين عبد الله بن الزّبير محاورات [1]- ثمّ التقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزّبير، وابن المحرّش [2] بحيال عبد الرحمن بن عتّاب، وحرقوص ابن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقتل حكيم وابنه وأخوه، وقتل ذريح، وأفلت حرقوص فى نفر من أصحابه وجىء إلى طلحة والزبير بمن كان فيهم ممن غزا المدينة، فقتلوا.
وكانت هذه الوقعة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر من السنة وبايع أهل البصرة طلحة والزّبير.
ذكر مسير على الى البصرة وما اتّفق له فى مسيره ومن انضمّ إليه ومراسلته أهل الكوفة
قال: وكان علىّ رضى الله عنه قد تجهّز لقصد الشام لقتال معاوية، لما أظهر الخلاف عليه، كما تقدم، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزّبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك وأنهم يريدون البصرة سرّه ذلك، وقال: إن الكوفة فيها رجال [من] [3] العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عبّاس- رضى الله عنهما-:
__________
[1] انظر المحاورات بين حكيم بن جبله وعبد الله بن الزبير عند ابن جرير وابن الأثير.
[2] «ابن محرش» هكذا ضبطه بعض العلماء بالحاء المهملة والراء المشددة، وضبطه بعضهم بقوله «ابن المخترش» بالخاء المعجمة والتاء بعدها، واسمه: خويلد ابن عمرو بن صخر.
[3] جاءت هذه الزيادة فى النسخة (ن) .(20/39)
«إنّ الّذى سرّك من ذلك ليسوءنى، إنّ الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب على الّذى قد نال ما يريد، حتّى يكسر حدّته.» فقال علىّ: إنّ الأمر ليشبه ما تقول.
وتهيّأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معه، فتثاقلوا فبعت إلى عبد الله بن عمر كميلا النّخعى [1] ، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: «إنّما أنا من أهل المدينة، وقد دخلوا فى هذا الأمر، فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم [وإن يقعدوا أقعد.» قال: فأعطنى كفيلا. قال: لا أفعل [2]] . فقال له علىّ: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتنى! دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى أهل المدينة وهم يقولون: «والله ما ندرى كيف نصنع؟ إنّ الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتّى يضىء!» فخرج من تحت ليلته، وأخبر أمّ كلثوم (ابنة علىّ، وهى زوجة عمر) بالّذى سمع وأنّه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علىّ ما خلا النهوض [3] . فأصبح علىّ فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشدّ من أمر طلحة والزّبير وعائشة ومعاوية! قال:
وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام! فأتى السوق، وأعدّ
__________
[1] كميل بن زيادة بن نهيك النخعى، كان شريفا مطاعا من رؤساء الشيعة، عاش حتى قتله الحجاج.
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) كما جاءت عند ابن جرير وابن الأثير. وسقطت.
من النسخة (ك) .
[3] كان على رضى الله عنه قد قال لابن عمر حين دعاه إلى الخروج معه: «انهض معى» .(20/40)
الظّهر [1] [والرّحال، وأعدّ] [2] لكل طريق طلّابا، وماج الناس، فسمعت أمّ كلثوم، فأتت عليّا فأخبرته الخبر [3] ، فطابت نفسه، وقال: «انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، وإنّه عندى ثقة» . فانصرفوا.
ثم أتى عليّا الخبر بمسير طلحة والزّبير وعائشة من مكة نحو البصرة، فدعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم.» فتثاقلوا، فلمّا رأى زياد بن حنظله تثاقل الناس انتدب [4] إلى علىّ رضى الله عنه وقال له:
من تثاقل عنك فإنّا نخفّ معك فنقاتل دونك. وقام أبو الهيثم [5] ابن التّيّهان وخزيمة بن ثابت. قال ابن الأثير [6] : «قال الحكم:
ليس بذى الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيّام عثمان رضى الله عنه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر فى ترجمة [7] خزيمة بن ثابت
__________
[1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب.
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) ، وعبارة ابن جرير: «ودعا بالظهر فحمل الرجال» ، وعبارة ابن الأثير: «وأعد الظهر والرجال» .
[3] كذا جاء فى (ن) ، وفى (ك) : «بالخبر» .
[4] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى:
«ابتدر» .
[5] أبوا الهيثم بن التيهان صحابى أنصارى، اسمه مالك، وله ترجمة فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة 2 ص 539 والاستيعاب ج 3 ص 368 والإصابة ج 3 ص 341 وأسد الغابة 4 ص 274.
[6] فى الكامل ج 3 ص 113، وعبارته مأخوذة من ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 467.
[7] ج 1 ص 417- 418 من الاستيعاب.(20/41)
ذى الشهادتين [1] : (إنه شهد مع علىّ حرب الجمل وصفّين فدلّ على أنه هو، والله أعلم.) فأجابا عليّا إلى نصرته.
وقال أبو قتادة الأنصارى لعلىّ: «يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلّدنى هذا السيف، وقد أغمدته زمانا، وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الّذين لم يألوا الأمة غشا، وقد أحببت أن تقدّمنى، فقدّمنى.
قال [2] : ولما أراد علىّ المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزّبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة، فلمّا سار استخلف على المدينة تمّام بن العبّاس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمّر على المدينة سهل بن حنيف، وسار فى تعبئته الّتى كانت لأهل الشام، وذلك فى آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصرين متخففين فى تسعمائة، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه، وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها، فو الله لئن خرجت منها [3] لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا!» فسبّوه، فقال: «دعوه، نعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» . وسار حتّى انتهى إلى الرّبذة [4] ، فأتاه خبر سبقهم إلى البصرة، فأقام بها يأتمر ما يفعل.
__________
[1] سمى خزيمة: «ذا الشهادتين» لأن النبى صلى الله عليه وسلم جعل شهادته كشهادة رجلين.
[2] القائل ابن الأثير فى الكامل.
[3] فى رواية ابن جرير الطبرى ج 3 ص 474: «لا ترجع إليها ولا يعود..» .
[4] الربذة: قرية بين المدينة وفيد.(20/42)
ذكر ارسال على الى أهل الكوفة
وعود رسله وإرسال غيرهم وما كان من إخراج أبى موسى الأشعرىّ عن الكوفة وانضمام أهل الكوفة إلى علىّ وما كان فى خلال ذلك من الأخبار قال: ولما أقام علىّ- رضى الله عنه- بالرّبذة أرسل منها محمد بن أبى بكر الصديق ومحمد بن جعفر رضى الله عنهم إلى أهل الكوفة، وكتب إليهم: «إنى قد اخترتكم على الأمصار، وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد، لتعود هذه الأمّة إخوانا» . فمضيا.
وأقام بالرّبذة، وأرسل إلى المدينة، فأتاه ما يريد من دابّة وسلاح.
ثم قام فى الناس فخطبهم وقال: إنّ الله تبارك وتعالى أعزّنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا إخوانا بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحقّ فيهم، والكتاب إمامهم، حتّى أصيب هذا الرجل بأيدى هؤلاء القوم الّذين نزغهم [1] الشيطان، لينزغ [2] بين هذه الأمّة، ألا وإنّ هذه لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنّه لا بد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن
__________
[1] نزغهم: نخسهم ووسوس لهم.
[2] ينزغ: يفسد.(20/43)
هذه الأمّة ستفترق [1] على ثلاث وسبعين فرقة، شرّها فرقة تنتحلنى [2] ولا تعمل بعملى، وقد أدركتم ورأيتم [3] ، فالزموا دينكم، واهدوا بهديى، فإنه هدى نبيّكم، واتّبعوا سنّته، وأعرضوا عمّا أشكل عليكم حتّى تعرضوه على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيّا، وبالقرآن حكما وإماما.
قال: ثمّ أتاه جماعة من طيّىء، وهو بالرّبذة، فقيل له: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من يريد التسليم عليك. فقال: جزى الله كلّا خيرا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
[4] . فلمّا دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا قال به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحب. فقال: «جزاكم الله خيرا! قد أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ووافيتم بصدقاتكم المسلمين» . فنهض سعيد بن عبيد الطائى فقال: «يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عن قلبه، وإنّى- والله- ما كلّ [5] ما أجد فى قلبى يعبّر عنه لسانى، وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح
__________
[1] هذا مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم،
فقد روى أحمد بن حنبل وأبو داود عن معاوية بن أبى سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون فى النار، وواحدة فى الجنة، وهى الجماعة»
. انظر معالم السنن ج 4 ص 295.
[2] تنتحلنى: تنتسب إلى.
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الذى رواه ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير:
«وقد أدركتهم ورأيتهم» .
[4] من الآية 95 من سورة النساء.
[5] كذا جاء عند الطبرى. وفى المخطوطة هذه العبارة: «وإنى والله ما أجد لسانى يعبر عما فى قلبى» .(20/44)
لك فى السر والعلانية، وأقاتل عدوّك فى كل موطن، وأرى من الحقّ لك ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك» . فقال:
«يرحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك» . [1]
قال: ثم سار علىّ- رضى الله عنه- من الرّبذة، وعلى مقدّمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح، والراية مع ابنه محمد بن الحنفيّة، وعلىّ على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا، فلمّا نزل بفيد [2] أتته أسد وطيّىء، فعرّضوا عليه أنفسهم فقال: فى المهاجرين كفاية.
وعرضت عليه بكر بن وائل أنفسها، فقال لها كذلك.
قال: وانتهى إلى ذى قار [3] أتاه عثمان بن حنيف وليس فى وجهه شعرة [4]- وقيل: إنّه أتاه بالرّبذة- فقال: يا أمير المؤمنين بعثتنى ذا لحية وقد جئتك أمرد! قال: أصبت أجرا وخيرا!.
وأقام بذى قار ينتظر جواب أهل الكوفة [5] .
وكان من خبر محمد بن أبى بكر ومحمد بن جعفر أنّهما أتيا أبا موسى الأشعرىّ بكتاب علىّ، وقاما فى الناس بأمره، فلم يجابا بشىء، فلما أيسوا دخل ناس من أهل الحجا على أبى موسى فقالوا: ما ترى فى الخروج؟ فقال: «كان الرأى بالأمس ليس اليوم [6] ، إن
__________
[1] زاد الطبرى وابن الأثير: «فقتل معه بصفين، رحمه الله» .
[2] فيد: موضع فى منتصف الطريق بين العراق والحجاز.
[3] ذوقار: موضع قريب من الكوفة، اشتهر عند العرب بوقعة مشهورة كانت بين بكر وكسرى.
[4] كان محاربوه قد نتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه.
[5] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير «أمسوا» .
[6] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وفى تاريخ ابن جرير: «باليوم» .(20/45)
الّذى تهاونتم به فيما مضى هو الذى جرّ عليكم ما ترون، إنّما هما أمران:
القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا» فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد، فأغلظا لأبى موسى، فقال لهما: «والله إنّ بيعة عثمان فى عنقى وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحدا حتّى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا» .
فانطلقا إلى علىّ فأخبراه الخبر وهو بذى قار، فقال للأشتر وكان معه: «أنت صاحبنا فى أبى موسى والمعترض فى كل شىء، اذهب أنت وابن عبّاس فأصلح ما أفسدت» .
فخرجا، فقدما الكوفة، فكلّما أبا موسى، واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فخطبهم أبو موسى فقال «أيّها الناس، إنّ أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الّذين صحبوه [فى المواطن] [1] أعلم بالله ورسوله ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقّا، وأنا مؤدّ إليكم نصيحة، كان الرأى ألّا تستخفّوا بسلطان الله، وألا تجترئوا على الله، وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتّى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة [منكم] [2] ، وهذه فتنة صمّاء [3] ، النائم [4] فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعى،
__________
[1] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى.
[2] الزيادة من رواية ابن جرير.
[3] الفتنة الصماء هى التى لا سبيل إلى تسكينها، لأن الأصم لا يسمع النداء فلا يقلع عما بفعله: وقيل: هى كالحية الصماء التى لا تقبل الرقى.
[4] هذا وما يتصل به بعده مأخوذ من حديث النبى صلى الله عليه وسلم، وسيأتى ذكره قريبا.(20/46)
فكونوا جرثومة [1] من جراثيم العرب، فأغمدوا السّيوف، وأنصلوا [2] الأسنّة، واقصعوا الأوتار، وآووا [3] المظلوم والمضطهد، حتّى يلتئم هذا الأمر، وتنجلى هذه الفتنة» .
فرجع ابن عبّاس والأشتر إلى علىّ، فأخبراه الخبر.
فأرسل ابنه الحسن وعمّار بن ياسر، رضى الله عنهما، وقال لعمّار: انطلق فأصلح ما افسدت. فأقبلا حتّى دخلا مسجد الكوفة، فكان أوّل من رآهما مسروق [4] بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا [5] ! قال: فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولا صبرتم فكان خيرا للصابرين [6] !.
فخرج أبو موسى فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار قال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجّار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤنى! فقطع الحسن عليهما [الكلام [7]] ، وأقبل على أبى موسى فقال له: «لم تثبط
__________
[1] الجرثومة: الأصل.
[2] انصلوا الأسنة: انزعوا أسنة الرماح، أى: أخرجوا الأسنة من أماكنها إبطالا للقتال.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) وتاريخ ابن جرير وابن الأثير، أى: ضموه إليكم.
وحوطوه بينكم. وفى النسخة (ك) : «وانصروا» .
[4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير والقاموس والإصابه ج 3 ص 492 حيث ترجمته. وفى المخطوطة: «المسروق» .
[5] أبشار: جمع بشر، و «بشر» اسم جنس جمعى واحده: بشرة، وهى ظاهر الجلد.
[6] مأخوذ من قول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
الآية 126 من سورة النحل.
[7] الزيادة من الكامل لابن الأثير.(20/47)
الناس عنّا؟ فو الله ما أردنا إلّا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شىء!» قال: صدقت، بأبى أنت وأمّى! ولكن» المستشار مؤتمن [1] ،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشى، والماشى خير من الراكب [2] »
وقد جعلنا الله إخوانا، وحرّم علينا دماءنا وأموالنا.
فغضب عمّار، وسبّه، وقام فقال: يا أيّها الناس إنّما قال له وحده «أنت فيها قاعدا خير منك قائما» !.
فقام رجل من بنى تميم، فسبّ عمّارا وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا!.
وثار زيد بن صوحان وأمثاله، وثار الناس، وقام زيد على باب المسجد، ومعه كتاب من عائشة إليه تأمره بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: «أمرت أن تقرّ فى بيتها [3] ، وأمرنا أن نقاتل حتّى
__________
[1] «المستشار مؤتمن» حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه أمين على ما استشير فيه.
[2] هذا الحديث رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، فقد رواه البخارى عن أبى هريرة فى الحديثين 6654، 6655، ورواه مسلم عن أبى هريرة وأبى بكرة، انظر شرح النووى ج 18 ص 8- 9،
وروى الترمذى أن سعد بن أبى وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنها ستكون فتنة..»
ثم عقبة بقوله «قال أبو عيسى: وفى الباب عن أبى هريرة وخباب بن الأرت وأبى بكرة» وابن مسعود وأبى واقد وأبى موسى وخرشة، وهذا حديث حسن» ج 9 ص 48- 49.
[3] يشير إلى قول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ.(20/48)
لا تكون فتنة [1] ، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به!» .
فقال له شبث بن ربعىّ: يا عمانىّ [2] ، سرقت بجلولاء [3] فقطعت يدك! وعصيت أمّ المؤمنين [فقتلك الله [4]] !.
وتهاوى الناس. قام أبو موسى فقال: أيّها الناس، أطيعونى، وكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوى إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف إنّ الفتنة إذا أقبلت شبّهت، وإذا أدبرت بيّنت [5] وإنّ هذه الفتنة باقرة [6] كداء البطن [7] ، تجرى بها [8] الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور، تذر الحكيم وهو حيران كابن أمس، شيموا [9] سيوفكم، واقصدوا [10] رماحكم، وقطّعو أوتاركم والزموا بيوتكم، خلّوا قريشا إذ أبوا إلّا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم [11] ، استنصحونى ولا تستغشونى، أطيعونى يسلم لكم دينكم،
__________
[1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ*.
[2] قال ابن جرير وابن الأثير: زيد من «عبد القيس» وهم يسكنون عمان.
[3] جلولاء: قرية بالعراق كانت بها وقعة مشهورة على الفرس المسلمين.
[4] الزيادة من أبن جرير.
[5] أى أنها إذا أقبلت شبهت على القوم وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها ويركبوا منها مالا يجوز، فاذا أدبرت وانقضت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ.
[6] كذا رواها
ابن جرير فى تاريخة، وقال صاحب النهاية: فى حديث أبى موسى:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيأتى على الناس فتنة باقرة تدع الحليم حيران»
أى: واسعة عظيمة. وفى المخطوطة: «فاقرة» .
[7] فى النهاية: «إن هذه لفتنة باقرة كداء البطن لا يدرى أنى يؤتى له» أى أنها مفسدة للدين مفرقة للناس وشبهها بداء البطن لأنه لا يدرى ما هاجه وكيف يداوى ويتأتى له.
[8] كذا رواها ابن جرير، وفى المخطوطة: «به» .
[9] شيموا: اغمدوا.
[10] اقصدوا: اكسروا.
[11] فى تاريخ الطبرى: «العلم بالإمرة» .(20/49)
ودنياكم ويشقى بجر هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد، فشال يده المقطوعة، فقال: يا عبد الله بن قيس [1] ردّ الفرات عن أدراجه، اردده من حيث يجىء حتّى يعود كما بدأ فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه، سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ!.
فقام القعقاع بن عمرو [2] فقال: «إنّى لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ لكم أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الحقّ لو أنّ إليه سبيلا، وأمّا ما قال زيد فزيد عدوّ هذا الأمير فلا تسنصحوه، والقول الّذى هو الحق أنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس، وتزع [3] الظالم، وتعزّ المظلوم وهذا أمير المؤمنين ملىء [4] بما ولى، وقد أنصف فى الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع» .
وقال عبد خير الخيوانى: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير عليّا؟ قال: نعم! قال: هل أحدث علىّ ما يحلّ به نقض بيعته؟
قال: لا أدرى. قال: «لا دريت! نحن نتركك حتّى تدرك! هل تعلم أحدا خارجا من هذه الفتنة؟ إنّما الناس أربع فرق: علىّ
__________
[1] عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعرى.
[2] القعقاع بن عمرو التميمى كان من الصحابة والفرسان.
[3] هكذا جاء عند ابن جرير وابن الأثير، و «تزع» بمعنى: تكف وتمنع وتزجر وفى المخطوطة «ترع» .
[4] ملىء: مضطلع ناهض.(20/50)
بظهر الكوفة، وطلحة والزّبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لاغناء بها ولا يقاتل بها عدوّ.» فقال أبو موسى: أولئك خير الناس وهى فتنة! فقال عبد خير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان بن صوحان: إنّه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال، يدفع الظلم، ويعزّ المظلوم، ويجمع الناس، وهذا وليكم [1] وهو يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه فى الدين، فمن نهض إليه فإنّا سائرون معه.
فلما فرغ سيحان قال عمّار: «هذا ابن عمّ رسول الله عليه الصلاة والسلام، يستنفركم [2] إلى زوجة رسول الله وإلى طلحة والزّبير، وإنّى أشهد أنها زوجته فى الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا فى الحقّ، فقاتلوا معه» . فقال له رجل: أنا [3] مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له! فقال له الحسن: اكفف عنّا [يا عمّار] [4] فإنّ للإصلاح أهلا!.
وقام الحسن رضى الله عنه، فقال: أيّها الناس أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، وو الله لأن يليه أولو النّهى أمثل فى العاجل والآجل، وخير فى العاقبة، اجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإنّ أمير المؤمنين يقول: «قد خرجت مخرجى هذا ظالما أو مظلوما، وإنى أذكّر
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى وابن الأثير «واليكم» .
[2] يستنفركم: يستنصركم.
[3] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن الأثير وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى «لهو»
[4] الزيادة من ابن جرير.(20/51)
الله رجلا رعى حقّ الله إلّا نفر، فإن كنت مظلوما أعاننى، وإن كنت ظالما أخذ منى، والله إنّ طلحة والزّبير لأوّل من بايعنى وأوّل من عذر فهل استأثرت بمال أو بدّلت حكما؟» فانفروا، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر.
فسامح الناس وأجابوا ورضوا، وتكلم عدىّ بن حاتم، وهند بن عمرو، وحجر بن عدىّ، وحثّوا الناس على اللحاق بعلىّ وإعانته، فأذعن الناس للمسير.
فقال الحسن رضى الله عنه: «أيّها الناس، إنّى غاد، فمن شاء منكم أن يخرج على الظّهر [1] ، ومن شاء فى الماء» ، فنفر معه تسعة آلاف، أخذ فى البرّ ستّة آلاف ومائتان، وبقيّتهم فى الماء.
وقيل: إنّ عليّا- رضى الله عنه- أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمّار- إلى الكوفة، فدخلها والناس فى المسجد، وأبو موسى يخطبهم ويثبّطهم، والحسن وعمّار معه فى منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمرّ بقبيلة فيها جماعة إلّا دعاهم ويقول: اتّبعونى إلى القصر، فانتهى إلى القصر فى جماعة من الناس، فدخلوا (وأبو موسى فى المسجد يخطبهم ويثبّطهم، والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك وتنحّ عن منبرنا! وعمّار ينازعه) فأخرج الأشتر غلمان أبى موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون:
«يا أبا موسى، الأشتر قد دخل القصر، فضربنا، وأخرجنا» فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: «اخرج
__________
[1] الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب.(20/52)
لا أمّ لك! أخرج الله نفسك!» فقال: أجّلنى هذه العشيّة. فقال هى لك ولا تبيتنّ فى القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبى موسى، فمنعهم الأشتر، قال: أنا له جار. فكفوا عنه.
فنفر الناس فى العدد المذكور. وقيل: إنّ عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، قال أبو الطّفيل: سمعت عليّا رضى الله عنه يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم، فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا!.
وكان على كنانه وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل بن يسار الرّياحى [1] ، وعلى سبع [2] قيس سعد بن مسعود الثّقفى عمّ المختار [3] ، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج [4] الذّهلى [5] ، وعلى مذحج والأشعريين حجر بن عدىّ، [وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم لأزدى، فقدموا على علىّ رضى الله عنه [6]] بذى قار، فلقيهم فى ناس فرحّب بهم، وقال: «يا أهل الكوفة، وليتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم،
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة وغيرها، والمعرف أن «معقل بن يسار» صحابى سكن البصرة» وحفر نهر معقل بها، ويقال له «المزنى» لأنه بن مزينة، وأن «الرياحى» هو «معقل بن قيس الرياحى» من تميم، وهو المذكور فى أمراء على يوم الجمل، وانظر الإصابة ج 3 ص 499.
[2] روى الطبرى فى تاريخة ج 3 ص 513 أنه «خرج إلى على اثنا عشر ألف رجل وهم أسباع ... » ثم ذكر «سبع قيس» و «سبع بكر بن وائل» ، و «سبع مذحج» و «سبع بجيلة» .
[3] المختار بن أبى عبيد بن مسعود الثقفى.
[4] كذا جاء فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وفى المخطوطة «وعلة بن مجدوع»
[5] من ذهل بن ثعلبة، من بكر.
[6] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) .(20/53)
وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الّذى نريد، وإن يلجّوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد، إن شاء الله تعالى» .
قال: وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النّفّار زيد بن صوحان والأشتر وعدىّ بن حاتم والمسّيب بن نجبه ويزيد ابن قيس وأمثال لهم ليسوا دونهم [إلّا أنهم] [1] لم يؤمّروا، منهم حجر بن عدىّ.
ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة فى الصلح وإجابتهم إليه وانتظام الصلح وكيف أفسده قتلة عثمان
قال: وأقام علىّ- رضى الله عنه- بذى قار، فأرسل القعقاع بن عمرو إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين وادعهما إلى الألفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة. (وكان القعقاع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم) .
فخرج حتّى قدم البصرة، فبدأ بعائشة فسلّم عليها وقال:
أى أمّه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلد؟ قالت: أى بنىّ، الإصلاح بين الناس. قال: فابعثى إلى طلحة والزّبير حتّى تسمعى كلامى وكلامهما، فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إنّى سألت أمّ المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت الإصلاح، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان
__________
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .(20/54)
أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبرانى ما وجه هذا الإصلاح فو الله لئن عرفناه ليصلحنّ ولئن أنكرناه لا يصلح [1] . قالا:
قتلة عثمان، فإنّ هذا إن ترك كان تركا للقرآن! قال:
«قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم! قتلتم ستّمائة رجل فغضبت لهم ستة آلاف واعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فارس، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والّذين اعتزلوكم فأديلو عليكم فالّذى حذرتم وقويتم [2] به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكرهون [3] ، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير!» قالت عائشة فما تقول أنت قال «أقول إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلا خير وتباشير رحمة ودرك بثأر، وإن أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ وذهاب هذا الثأر [4] ، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خيركما كنتم، ولا تعرّضونا للبلاء فتتعرّضوا له فيصرعنا وإيّاكم، وايم الله إنّى لأقول هذا القول وأدعوكم إليه وإنى لخائف أن لا يتمّ حتّى يأخذ الله حاجته من هذه الأمّة التى قلّ
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) وجاء فى (ك) : «لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وعند ابن جرير: «قربتم» ، وتأتى بمعنى «طلبتم» .
[3] قال ابن كثير فى البداية والنهاية ج ص 237: يعنى أن الذى تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة ولكنه يترتب عليه مفسدة هى أربى منها.
[4] هكذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 503، وجاء فى المخطوطة: «المال»(20/55)
متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذى حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النّفر الرجل ولا القبيلة [الرجل] [1] قالوا: «قد أصبت وأحسنت، فارجع، فإن قدم علىّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر» .
فرجع إلى علىّ، فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه [2] .
وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علىّ بذى قار، قبل رجوع القعقاع، لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أىّ حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذى عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتالهم على بال.
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علىّ فأخبروه بخبرهم.
ورجعت وفود أهل البصرة برأى أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة.
فقام علىّ رضى الله عنه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمّة والجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الّذى يليه، ثم الّذى يليه، ثم حدث هذا الحدث الّذى جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه) وعلى الفضيلة (التّى منّ الله
__________
[1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير وجاء فى البداية والنهاية: «ولا القبيلة القبيلة» .
[2] جاء فى البداية والنهاية بعد هذا: «وأرسلت عائشة إلى على تعلمه أنها جاءت الصلح، وفرح هؤلاء وهؤلاء» .(20/56)
بها) ، وأرادوا ردّ الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره.
ثم قال: ألا وإنّى راحل غدا، فارتحلوا، ولا يرتحلنّ معنا أحد أعان على عثمان بشىء من أمور الناس، وليغن السفهاء عنّى أنفسهم. والله أعلم بالصواب.
ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم وما اتفقوا عليه من المكيدة التى اقتضت نقض الصلح ووقوع الحرب
قال: ولما قال علىّ رضى الله عنه مقالته بذى قار، وأمر ألّا يرتحل معه أحد ممّن أعان على عثمان بشىء اجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدى بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسى وشريح بن أبى أوفى [1] والأشتر، فى عدّة [2] ممّن سار إلى عثمان أو رضى بسير من سار إليه وجاء معهم المصريون وابن السوداء [3] وخالد بن ملجم، فتشاوروا فقالوا «ما الرأى؟ هذا علىّ وهو والله أبصر بكتاب الله ممّن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم [4] والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه [5] ورأوا قلّتنا فى كثرتهم؟ وأنتم والله ترادون،
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخى الطبرى وابن الأثير «شريح بن أوفى» والخلاف فى هذا الاسم ملحوظ فى كثير من الكتب.
[2] ذكر ابن كثير أنهم اجتمعوا «فى ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابى وسيذكر المؤلف هذا العدد قريبا فى كلام ابن السوداء.
[3] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ.
[4] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 3، ص 507، وفى المخطوطة (سواهم)
[5] يقال «شامت فلانا» إذا قاربته وتعرفت ما عنده.(20/57)
وما أنتم بالحى [1] من شىء!» فقال الأشتر: «قد عرفنا رأى طلحة والزّبير فينا، وأمّا رأى علىّ فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأى الناس فينا واحد، فان يصصلحوا مع علىّ فعلى دمائنا، فهلمّوا بنا نثب على علىّ فنلحقه بعثمان، فتعود فتنه يرضى منّا فيها بالسكون.» فقال عبد الله بن السوداء «بئس الرأى والله [رأيت] [2] ، أنتم يا قتلة عثمان بذى قار ألفان وخمسمائة، أو نحو من ستّمائة، وهذا ابن الحنظليّة- يعنى طلحة- وأصحابه فى نحو خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا!» فقال علباء بن الهيثم «انصرفوا بنا عنهم، ودعوهم، فإن قلّوا كان لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ودعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتّى يأتيكم فيه من تقوون به، وامتنعوا من الناس.»
فقال ابن السوداء «بئس والله ما رأيت، ودّ والله الناس أنّكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطّفكم الناس وكل شىء!» فقال عدىّ بن حاتم: «والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله فى خوض الحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإنّ لنا عتادا من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا، وأن أمسكتم أمسكنا!» فقال ابن السوداء:
أحسنت! وقال سالم بن ثعلبة: «من كان أراد بما أتى الدنيا فإنى لم أرد ذلك، وو الله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شىء [3]
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، 3 ص 120، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «بأنجى» .
[2] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.
[3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ج 3 ص 121، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 3، ص 508 «لئن لقيتم غدا لا أرجع إلى بيتى» .(20/58)
وأحلف بالله إنكم لتفرقون الناس بالسيف [1] فرّق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف!» فقال ابن السوداء: قد قال قولا.
وقال شريح بن أبى أوفى: «أبرموا أمركم قبل أن يخرجوا [2] ، ولا تؤخروا أمرا ينبغى لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغى لكم تأخيره فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، ولا أدرى ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا!» وقال ابن السوداء: «يا قوم، إن عزّكم فى خلط الناس، فإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع، ويشغل الله عليّا وطلحة والزّبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون!» .
فأبصروا الرأى، وتفرّقوا عليه، والناس لا يشعرون.
ذكر مسير على رضى الله عنه ومن معه من ذى قار إلى البصرة ووقعه الجمل
قال: ولما أصبح علىّ رضى الله عنه سار من ذى قار وسار معه الناس حتّى نزل على عبد القيس، فانضمّوا إليه، ثم سار فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزّبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، وذلك فى النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، [حكاه ابن الأثير [3] ،
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «لتفرقون السيف» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير «تخرجوا» ، وعند ابن الأثير «تحرجوا» .
[3] فى الكامل ج 3 ص 121.(20/59)
وقال أبو جعفر [1] : كانت وقعة الجمل فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخر سنة ست وثلاثين] [2] .
وسبق علىّ أصحابه، وهم يتلاحقون به، فلما نزل قال أبو الجرباء للزّبير: الرأى أن تبعث [الآن] [3] ألف فارس إلى علىّ قبل أن يتوافى إليه أصحابه. فقال: «إنّا لنعرف أمور الحرب، ولكنّهم أهل دعوتنا، وهذا أمر حدث لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة! وقد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصلح، فأبشروا، واصبروا.» .
وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزّبير: انتهزا بنا هذا الرجل، فإنّ الرأى فى الحرب خير من الشدّة) ! فقالا: « [إنّا وهم مسلمون] [4] ، إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو تكون فيه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه [اليوم] [5] ، وهم علىّ ومن معه، وقلنا نحن:
لا ينبغى لنا أن نتركه [اليوم] [6] ولا نؤخره، وقد قال علىّ: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كاد يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين [بإيثار] [7] أعمّها منفعة.
__________
[1] ابن جرير الطبرى فى تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 539 قد أتبعه بقوله «فى قول الواقدى» ، وما حكاه ابن الأثير منقول أيضا عن أبى جعفر الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 514 حيث قال: «فالتقوه عند موضع قصر عبيد الله بن زياد فى النصف من جمادى الآخر سنة 36 يوم خميس» .
[2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) .
[3] الزيادة من ابن جرير الطبرى.
[4] الزيادة من ابن جرير.
[5] الزيادة من ابن جرير.
[6] الزيادة من ابن جرير.
[7] الزيادة من ابن جرير.(20/60)
وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق من هؤلاء القوم.
فأجاباه بنحو ما تقدم.
قال: ولما نزل علىّ ونزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدى أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر على، فخرجا فى عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر علىّ، فقال الناس من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، إنما يرسل علىّ إليهم يكلمهم ويدعوهم.
قال: وقام علىّ فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقرى فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علىّ: على الإصلاح وإطفاء النار [1] لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم.
قال: فإن لم يجيبوا. قال: تركناهم ما تركونا. وقال: فإن لم يتركونا. قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم فى هذا مثل الذى عليهم؟ قال: نعم.
وقام إليه أبو سلام [2] الدالانى فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم.
قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال نعم، إنّ الشىء إذا كان لا يدرك فالحكم [2] فيه أحوطه وأعمّه نفعا. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ قال: إنى لأرجو ألا يقتل منا ومنهم أحد نقّى قلبه لله إلّا أدخله الله الجنة.. وقال فى خطبته: «أيّها
__________
[1] جاء فى رواية ابن جرير «النائرة» هى: (الفتنة) ، ونائرة الحرب:
شرها وهيجها.
[2] عند ابن جرير وابن الأثير: «أبو سلامة» .
[3] كذا جاء عند ابن جرير، وجاء عند ابن الأثير: «أن الحكم» ، وجاء فى المخطوطة «أن الحلم» .(20/61)
الناس املكوا [أنفسكم، وكفّوا] [1] عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإيّاكم أن تسبقونا، فإن المخصوم غدا من خصم اليوم» .
وبعث إليهم حكيم بن سلام [2] ومالك بن حبيب، يقول: إن كنتم على ما فارقتم [عليه] [3] القعقاع فكفّوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر.
وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين، قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون. وكان الأحنف قد بايع عليّا بالمدينة بعد قتل عثمان، لأنه كان قد عاد من الحج فبايع [4] ، فلما قدم طلحة والزّبير اعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف (والجلحاء من البصرة على فرسخين) فقال لعلىّ: إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنّك إن ظفرت عليهم غدا قتلت رجالهم وسبيت نساءهم! قال: «ما مثلى يخاف هذا منه! وهل يحلّ هذا إلّا لمن تولّى وكفر [5] ؟ وهم قوم مسلمون.» قال: اختر منّى واحدة من اثنتين: إمّا أن أقاتل معك، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. [قال: اكفف عنّا عشرة آلاف سيف.] [6] فرجع إلى الناس، فدلهم إلى القعود، ونادى: «يا آل خندف» ، فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل [7] تميم» ،
__________
[1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 509.
[2] عند ابن جرير وابن الأثير: «حكيم بن سلامة» .
[3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير، وسوف يأتى فى الرد ما يؤيده.
[4] انظر ما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 122 من قول الأحنف.
[5] زاد ابن جرير فى روايته: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ.
[6] ثبتت هذه الجملة فى النسخة «ن» كما جاء عند ابن الأثير، سقطت من النسخة ك.
[7] جاء فى المخطوطة والكامل «يا آل» بثبوت الهمزة الممددة فى هذا الموضع والموضعين التاليين له، وجاء فى تاريخ ابن جرير (بأل) بلا همزة فى المواضع الثلاثة(20/62)
فأجابه ناس، ثم نادى: «يا آل سعد» ، فلم يبق سعدىّ إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علىّ دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين.
قال: ولما تراءى الجمعان خرج الزّبير على فرس وعليه سلاح، فقيل لعلىّ: هذا الزّبير فقال: أما إنّه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر وخرج طلحة، فخرج إليهما علىّ، [فدنا منهما] [1] حتى، اختلفت أعناق دوابّهم، فقال لعمرى لقد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا، إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتّقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
[2] ، ألم أكن أخاكما فى دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دماءكما؟ فهل من حدث أحلّ دمى؟
فقال طلحة: اللبث [3] على دم عثمان. فقال علىّ رضى الله عنه:
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ
[4] يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أتيت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها وخبأت عرسك فى البيت! أما بايعتنى؟ قال:
بايعتك والسيف على عنقى!. ثم قال للزّبير: ما أخرجك؟ قال أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منّا. فذكّره علىّ رضى الله عنه بأشياء، ثم قال: أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى غنم، فنظر إلىّ، فضحك وضحكت إليه، فقلت:
لا يدع ابن أبى طالب زهوه! فقال لك رسول الله عليه الصلاة
__________
[1] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 415.
[2] من الآية 92 من سورة النحل.
[3] وفى تاريخى ابن جرير وابن الأثير: ألبت» .
[4] من الآية 25 فى سورة النور.(20/63)
والسلام: «إنّك لتقاتله وأنت ظالم له» ؟! فقال: اللهم نعم ولقد كنت أنسيتها ولو ذكرت ما سرت مسيرى هذا، والله لا أقاتلك أبدا!.
وقيل: إنّه قال له: كيف أرجع وقد التقت حلقتا البطان [1] ؟
هذا والله العار الّذى لا يغسله الدهر! قال يا زبير ارجع بالعار خير من أن ترجع بالعار وبالنار.
فرجع الزّبير إلى عائشة فقال لها: يا أمّاه، ما شهدت موطنا إلّا ولى فيه رأى وبصيرة غير موطنى هذا! قالت: وما تريد أن تصنع قال: أدعهم وأذهب، ثم قال لابنه عبد الله: عليك بحربك [2] وأما أنا فأرجع إلى بيتى. فقال له: ما يردّك؟ قال: ما لو علمته لكسرك [3] . فقال له ابنه: بل رأيت عيون بنى هاشم تحت المغافر [4] فراعتك، وعلمت أنّ سيوفهم حداد تحملها فتية أنجاد. فغضب الزّبير ثم قال: أمثلى يفزّع بهذا؟ وأحفظه ذلك، وقال: إنّى حلفت إلّا أقاتله. قال: فكفّر عن يمينك وقاتله، فأعتّق غلامه مكحولا، وقيل:
أعتق سرجس.
ففى ذلك يقول عبد الرحمن بن سليمان التميمى:
لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان
__________
[1] البطان: الحزام الذى يجعل تحت بطن البعير، وفيه حلقتان، فإذا التقتا فقد بلغ الشد غايته، قال صاحب لسان العرب: ومن أمثال العرب التى تضرب للامر إذا اشتد:
«التقت حلقتا البطان» . وفى مجمع الأمثال ج 2 ص 135: «يضرب فى الحادثة إذا بلغت النهاية» .
[2] فى النسخة (ك) : «بحربك» ، وفى النسخة (ن) : (بحزبك) .
[3] صرفك عن مرادك.
[4] المغافر جمع المغفر أو المغفرة، وهو ما يلبسه الدارع على رأسه فى الحرب من الزرد ونحوه.(20/64)
(فى أبيات أخر) .
وقيل: إن الزّبير نزع سنان رمحه، وحمل على جيش علىّ، فقال علىّ لأصحابه: أفرجوا له فإنه قد أغضب، وإنّه منصرف عنكم فقالوا: إذن والله لا نبالى بعد رجوعه بجمعهم وما كنا نتّقى سواه.
وقيل: إنّ الزّبير إنّما عاد عن القتال لمّا سمع أنّ عمّار بن ياسر مع علىّ، فخاف أن يقتل عمار، وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية»
فردّه ابنه عبد الله [1] .
وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزّبير وفرقة مع علىّ، وفرقة لا ترى القتال، منهم الاحنف بن قيس وعمران بن حصين.
وجاءت عائشة فنزلت فى مسجد الحدّان [2] فى الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إنّ الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنّما هى بحور تدفّق، فأطعنى ولا تشهدهم واعتزل بقومك، فإنى أخاف الّا يكون صلح، ودع مضر ورببعة فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصلح أردنا، وإن اقتتلا كنّا حطاما عليهم غدا. (وكان كعب فى الجاهلية نصرانيّا) فقال صبرة: أخشى أن يكون فيك شىء من النصرانيّة! أتأمرنى أن أغيب عن إصلاح بين
__________
[1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 3 ص 3 ص 519 وابن الأثير فى تاريخه ج 3 ص 122 قول على للزبير بن العوام: «قد كنا نعدك من بنى عبد المطلب حتى بلغ ابنك ففرق بيننا وبينك» .. وقال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة ج 3 ص 6:
ولم يزل الزبير مواليا لعلى متمسكا بحبه ومودته، حتى نشأ ابنه عبد الله وشب، فنزع به به عرق من الأم، ومال إلى تلك الجهة، وانحرف عن هذه، ومحبة الوالد لولده معروفة فانحرف الزبير بانحرافه.
[2] الحدان: إحدى محال البصرة القديمة، سميت باسم قبيلة من الأزد.(20/65)
الناس، وأن أخذل أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير إن ردّوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان، والله لا أفعل هذا أبدا!. فأطبق أهل اليمن على الحضور.
وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد فى الرّباب (وهم تيم وعدىّ وثور وعكل، بنو عبد مناة بن أدّ بن طابخة بن إلياس، مضر، وضبّة ابن أدّ بن طابخة) [1] ، وحضر أيضا أبو الجرباء فى بنى عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع فى بنى حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السّلمى على سليم، وزفر بن الحارث فى بنى عامر و [أعصر بن النعمان على] [2] غطفان، ومالك بن مسمع على بكر، والخرّيت بن راشد على بنى ناجية، وعلى اليمن ذو الاجرة الحميرى.
قال: ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعها وهم لا يشكّون فى الصلح، [ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون فى الصلح،] [3] ونزلت اليمن أسفل منهم وهم كذلك، ونزلت عائشة فى الحدّان، والناس بالزّابوقة على رؤسائهم.
هؤلاء- وهم أصحاب عائشة- ثلاثون ألفا، وهؤلاء- وهم أصحاب علىّ- عشرون ألفا.
__________
[1] قد يطلق الفظ «الرباب» على بنى عبد مناة بن أد، وكانوا قد تحالفوا مع بنى عمهم ضبة بن أد على بنى عمهم تميم بن مر بن أد، وقد يطلق لفظ «الرباب» عاما لهؤلاء المتحالفين من بنى عبد مناة وضبة. وهم خمس قبائل صاروا فى تجمعهم كاليد الواحدة. وقد سبق فى نهاية الأرب ج 2 ص 438 أنهم «سموا الرباب لانهم غمسوا أيديهم فى ربّ. إذ تحالفوا على بنى تميم» .. ويرى بعض العلماء أنهم سموا «ربابا» لأنهم كانوا فرقا وجماعات، فيكون «الرباب» جمع «الربة» بمعنى الفرقة.
[2] الزيادة من ابن جرير.
[3] الزيادة من ابن جرير ج 3 ص 516- 517 وابن الأثير 3- 123.(20/66)
وردّوا حكيما ومالكا [1] : «أنّا على ما فارقنا عليه القعقاع» .
ونزل علىّ بحيالهم، ونزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلّا الصلح، فخرج علىّ وطلحة والزّبير فتواقفوا فلم يروا أمرا أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك.
وبعث علىّ رضى الله عنه من العشىّ عبد الله بن عباس إلى طلحة والزّبير، وبعثا إليه محمد بن طلحة، وأرسل علىّ وطلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهم بأمر الصلح، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية الّتى أشرفوا عليها والصلح، وبات الّذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم أحد، فخرجوا متسلّلين، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم فى وجوه أصحابهم الّذين أتوهم، وذلك فى يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة.
قال: وبعث طلحة والزّبير إلى الميمنة وهم ربيعة أميرا عليها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتّاب، وثبتا فى القلب، وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا! قالا وقد علمنا أنّ عليّا غير منته حتّى يسفك الدّماء وأنّه لن يطاوعنا!
__________
[1] سبق أن عليا «بعث إليهم حكيم بن سلام ومالك بن حبيب. يقول: إن كنتم عن ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل فننظر فى هذا الأمر» فالرادون هنا هم قوم عائشة وطلحة والزبير الذين بعث إليهم على، وهم يردون على تلك الرسالة، فخرج الرسولان من عندهم حتى قدما على على بهذا الرد الذى ذكره المؤلف هنا، فارتحل على حتى نزل بحيالهم..(20/67)
فردّ أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم، فسمع علىّ وأهل الكوفة الصّوت- وقد وضع السّبئيّة رجلا قريبا منه- فلما قال علىّ ما هذا قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل، فركبوا، وثار الناس، فأرسل علىّ صاحب الميمنة إلى الميمنة، وصاحب الميسرة إلى الميسرة، وقال: لقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتّى يسفكا الدماء وأنهما لن [1] يطاوعانا.
والسّبئيّة لا تفتر، ونادى علىّ فى الناس: كفّوا فلا شىء!. وكان من رأيهم جميعا فى تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتّى يبدءوا (يطلبون بذلك الحجّة) وألّا يقتلوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا سلبا، ولا يرزءوا بالبصرة سلاحا ولا ثيابا ولا متاعا.
وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: «يا أمّ المؤمنين، أدركى الناس، فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح [2] بك» . فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهى على الجمل وكانت بحيث تسمع الغوغاء وقفت، واقتتل الناس وقاتل الزّبير، فحمل عليه عمّار بن ياسر، فجعل يحوزه [3] بالرّمح والزّبير كافّ عنه، وقال له: أتقتلنى يا أبا اليقظان [4] ؟ قال [5] :
لا يا أبا عبد الله! وإنّما كفّ الزّبير عنه
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «تقتل عمّار بن ياسر الفئة الباغية»
، ولولا ذلك لقتله.
__________
[1] كذا جاء عند ابن جرير 3 ص 518، وابن الأثير ج 3 ص 124، وجاء فى المخطوطة «لم» .
[2] كذا جاء فى رواية ابن جرير. وجاء فى المخطوطة: «أن يصلح» .
[3] يحوزه: يسوقه.
[4] أبو اليقظان: كنية عمار بن ياسر.
[5] كذا جاء فى رواية ابن جرير، وجاء فى المخطوطة: «فيقول» .(20/68)
قال: ثم اعتزل الزّبير الحرب وانصرف، وصليها [1] طلحة، فأصابه سهم غرب [2] شكّ رجله بصفحة الفرس، ثم دخل البصرة ومات بها. وسنذكر إن شاء الله أخباره وأخبار الزبير بعد نهاية وقعة الجمل.
وانهزم القوم يريدون البصرة، فلمّا رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا وعادوا فى أمر جديد.
فقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ بخطام الجمل: خل عن الجمل وتقدّم بالمصحف فادعهم إليه. (وناولته مصحفا من هودجها) فاستقبل القوم [بالمصحف] [3] ، والسّبئيّة أمامهم (يخافون أن يجرى الصلح) [1] ، فرشقوه رشقا واحدا، فقتلوه ورموا أمّ المؤمنين فى هودجها، فجعلت تنادى: «البقيّة البقيّة يا بنىّ!» ويعلو صوتها «الله الله! اذكروا الله والحساب!» فيأبون إلّا إقداما، فكان أوّل شىء أحدثته حين أبوا أن قالت: «أيّها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!» وأقبلت تدعو، فضجّ الناس بالدعاء، فسمع علىّ فقال: ما هذه الضّجّة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان! وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام: أن اثبتا مكانكما. وحرّضت الناس حين رأت القوم
__________
[1] صليها: قاسى شدتها.
[2] سهم غرب- بسكون الراء أو فتحها-: لا يعرف راميه.
[3] الزيادة من ابن جرير.(20/69)
يريدونها ولا يكفّون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت [1] مضر الكوفة، حتى زحم علىّ، فنخس قفا محمد ابنه، وكانت الراية معه، وقال له: احمل. فتقدّم حتّى لم يجد متقدّما إلّا على سنان رمح، فأخذ علىّ الراية من يده، وقال: يا بنىّ بين يدىّ. وحملت مضر الكوفة فاجتلدوا [2] قدّام الجمل حتّى ضرسوا [3] ، والمجنّبات [4] على حالها لا تصنع شيئا، واشتدّت الحرب، فأصيبب زيد بن صوحان، وأخوه سيحان، وارتثّ [5] أخوهما صعصعة، فلما رأى علىّ ذلك بعث إلى ربيعة وإلى اليمن: أن اجمعوا من يليكم.
فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علىّ فقال: ندعوكم إلى كتاب الله: فقالوا: كيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله؟
وقد قتل كعب بن سور داعى الله ورمته ربيعة رشقا واحدا فقتلوه! ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، فذكّرت أصحابها، فاقتتلوا، حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فاقتتلوا، وتزاحف الناس، فظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة: خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلمار رأى ذلك يزيد بن قيس
__________
[1] القصف: الدفع الشديد.
[2] اجتلدوا: تضاربوا بالسيوف.
[3] ضرسوا: عضتهم الحرب.
[4] هكذا جاء عند ابن جرير 3 ص 523 ولكل جيش من الجيشين مجنبتان، وهما:
ميمنتة وميسرته. وجاء فى المخطوطة: «والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئا» والتثنية لا تناسب الفعل «تصنع» .
[5] ارتث الجريح: حمل من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح.(20/70)
أخذها فثبتت فى يده. ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل على رايتهم وهم فى الميسرة زيد [1] وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: «اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا فى شبهة وعلى ريبة» [حتى] [2] قتل.
واشتدّ الأمر حتّى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم، وميسرة أهل البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة.
فلما رأى الشّجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا:
طرّفوا إذا فرغ الصبر. فجعلوا يقصدون الأطراف (الأيدى والأرجل) فما رؤى وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعا مقطوعة ورجلا مقطوعة! وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب قبل قتله.
فنظرت عائشة عن يسارها، فقالت: من القوم عن يسارى؟
فقال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. قالت: يا آل غسّان حافظوا اليوم فجلادكم [3] الّذى كنّا نسمع به! وتمثّلت:
وجالد من غسّان أهل حفاظها ... وهنب [4] وأوس جمالدت وشبيب
__________
[1] هو زيد بن صوحان العبدى، أخو صعصعة وسيحان، انظر ترجمته فى الاستيعاب ج 1 ص 559 والإصابة ج 1 ص 582، 568.
[2] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 525، وجاء فى المخطوطة» : «وقتل» .
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «جلادكم» .
[4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخ ابن جرير، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 126 «وكعب» .(20/71)
فكانت الأزد يأخذون [1] بعر الجمل فيشمّونه ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك!.
وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يمينى؟ قالوا بكر بن وائل.
قالت: لكم يقول القائل:
وجاءوا إلينا فى الحديد كأنّهم ... من العزّة القعساء [2] بكر بن وائل
إنّما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ من قتالهم قبل ذلك.
وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا بنو ناجية. قالت: بخ بخ [3] ! سيوف أبطحيّة [4] قرشية! فجالدوا جلادا يتفادى منه.
ثم أطافت بها بنو ضبة، فقالت: ويها [5] ! جمرة الجمرات [6] فلما رقّوا خالطهم بنو عدىّ بن عبد مناه، وكثروا حولها، فقالت:
من أنتم؟ قالوا: بنو عدىّ خالصنا إخواننا، فأقاموا رأس الجمل، وضربوا ضربا ليس بالتعذير [7] ، ولا يعدلون بالتّطريف، حتّى
__________
[1] فى النسخة (ك) : «يأخذون» ، وفى النسخة» (ن) : «تأخذ» .
[2] القعساء: الثابتة.
[3] بخ: كلمة للمدح والاستحسان وإظهار الرضا، وتكرر للمبالغة فى ذلك.
[4] الأبطح: مكان بمكة بين جبليها: أبى قبيس والأحمر، ويقال لمن ينزلون فى هذا المكان من قريش «قريش البطاح» .
[5] ويها: كلمة إغراء وتحريض.
[6] فى خزانة الأدب ج 1 ص 36: واعلم أن جمرات العرب ثلاث: وهم بنو نمير بن عامر وبنو الحارث بن كعب وبنو ضبة بن أد، والتجمير فى كلام العرب التجميع، وإنما سموا بذلك لأنهم متوافرون فى أنفسهم لم يدخل معهم غيرهم.
[7] إذا قصر قوم فى أمر ولم يبالغوا فيه قيل: «عذروا» بتشديد الذال، والتعذير مصدر، وهو منفى هنا.(20/72)
إذا كثر ذلك وظهر فى العسكرين جميعا راموا الجمل، وقالوا:
لا يزول القوم أو يصرع الجمل. وصارت مجنّبتا علىّ إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضا.
وأخذ عميرة بن يثربىّ رأس الجمل، وكان قاضى البصرة، فقال علىّ من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملى المرادى، فاعترضه ابن يثربىّ، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربىّ، ثم حمل علباء بن الهيثم، فقتله ابن يثربىّ، وقتل سيحان بن صوحان، وارتثّ صعصعه [1] ، فنادى عمار بن ياسر ابن يثربىّ: لقد عذت بحريز [2] وما إليك من سبيل فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إلىّ.
فترك الزّمام فى يد رجل من بنى عدىّ وخرج، حتّى إذا كان بين الصفّين تقدّم عمّار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وعليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف، وهو أضعف من بارزه، فاسترجع [3] الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه! فضربه ابن يثربىّ، فاتّقاه عمّار بدرقته [4] ، فنشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، وأسفّ [5] عمّار لرجليه فضربه فقطعهما، فوقع على استه وأخذ أسيرا، فأتى به إلى علىّ، فقال: استبقنى! فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ وأمر به فقتل، وقيل: إنّ المقتول عمرو بن يثربىّ [6]
__________
[1] انظر ما سبق قريبا.
[2] عذت: التجأت. حريز: حصين.
[3] استرجع الناس: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[4] الدرقة: قطعة من جلد يحملها المحارب للوقاية من السيف، كالترس.
[5] أسف: دنا.
[6] انظر ترجمة عمرو بن يثربى فى الإصابة ج 3 ص 119.(20/73)
وإنّ عميرة [1] بقى حتّى ولى قضاء البصرة من قبل معاوية.
قال: ولما قتل ابن يثربىّ ترك العدوىّ الزّمام بيد رجل من بنى عدىّ، وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلىّ، فاقتتلا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا جميعا.
وقام مقام العدوىّ الحارث الضّبّىّ، فما رؤى أشدّ منه، وجعل يقول [2] :
نحن بنى [3] ضبّة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل
ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل [4]
وارتجز غير ذلك.
فلم يزل الأمر كذلك حتّى قتل على خطام الجمل أربعون رجلا، قالت عائشة: ما زال جملى معتدلا حتّى فقدت أصوات بنى ضبّة.
قال [5] : وأخذ الخطام سبعون رجلا من قريش، كلّهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل.
__________
[1] فى القاموس: «عمرو بن يثربى صحابى، وعميرة بن يثربى تابعى» .
[2] جرى المؤلف هنا على أن القائل هو الحارث الضبى، كابن الأثير فى الكامل، وذكر ابن جرير فى تاريخه هذا القول ج 3 ص 526 وذكر قولا آخر ج 3 ص 536 أن القائل عمرو بن يثربى الضبى وهذا القول الثانى هو الذى اتجه إليه صاحب الإصابة ج 3 ص 119.
[3] كذا جاء فى النهاية ولسان العرب بالنصب على الاختصاص ونص المبرد على نصبه مرتين فى الكامل، انظر رغبة الآمل ج 2 ص 67- 68 ج 4 ص 101 وجاء فى المخطوطة «بنو» .
[4] بجل: حسب.
[5] القائل: الشعبى، انظر تاريخ ابن جرير ج 3 ص 536.(20/74)
وكان محمد بن طلحة ممّن أخذ بخطامه، وقال: يا أمّاه مرينى بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير ابنى [1] آدم إن [2] تركت.
فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل وقال: «حم لا ينصرون» [3] واجتمع علية نفر [4] كلّهم ادّعى قتله، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففى ذلك يقول:
وأشعث قوّام بآيات ربّه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخرّ صريعا لليدين وللفم [5]
يذكّرنى حاميم والرمح شاجر ... فهلّا تلا حاميم قبل التقدّم [6]
على غير شىء غير أن ليس تابعا ... عليّا، ومن لا يتبع الحقّ يندم
__________
[1] كذا جاء فى الإصابة ج 3 ص 377 والبداية والنهاية ج 7 ص 243 وفيه إشارة إلى قصة ابنى آدم بسط أحدها يده لقتل أخيه وامتناع الاخر الآية 27 وما بعدها من سورة المائدة. وجاء فى المخطوطة وغيرها: «بنى» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «وإن» .
[3] لعل هذا مأخوذ من الحديث النبوى الذى رواه أصحاب السنن: «إن بيتم فليكن شعاركم حم لا ينصرون» وانظر شرحه فى النهاية واللسان (ح م م) وقد اقتصر المؤلف فيما يتعلق بشأن محمد بن طلحة و (حاميم) على هذه الرواية التى ذكرها ابن الأثير، وسيأتى فى الشعر قول قاتل محمد «يذكرنى حاميم» وقد اختلف العلماء فى تذكير حاميم، فقال بعضهم «كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم، يريد بما فى (حم عسق) من قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
وقال بعضهم: «كان شعار أصحاب على يوم الجمل (حم) وكان القاتل مع على. فلما طعن محمدا قال محمد (حم) فأنشد القاتل الشعر» وقال بعضهم: «قال محمد بن طلحة لما طعنه القاتل أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله، فهذا معنى قوله: يذكرنى حاميم، أى تلاوة هذه الآية لأنها من (حم) سورة المؤمن» .
[4] جاء فى تسمية العلماء لهؤلاء النفر: كعب بن مدلج الأسدى وابن المكعبر الضبى وشداد بن معاوية العبسى وعصام بن المقشعر وشريح بن أوفى أو ابن أبى أوفى- والأشتر النخعى ... وذكر الزبير أن الأكثر على أن الذى قتله وقال الشعر عصام بن مقشعر، وكذلك رجحه أبو عبيد الله المرزبانى فى موضعين من معجم الشعراء ص 269، 345.
[5] من النحويين من استشهد بهذا البيت على أن اللام بمعنى «على» أى: على اليدين والفم، كقوله تعالى «ويخرون للأذنان» أى: على الأذنان.
[6] استشهد بهذا البيت أبو عبيدة فى (مجاز القرآن) منسوبا إلى شريح، انظر لسان العرب وتاج العروس، وكذلك استشهد به البخارى، فى تفسير سورة (المؤمن) من صحيحه، انظر فتح البارى 8 ص 391- 392 واستشهد به الزمخشرى فى (الكشاف) ج 1 ص 66.. و «شاجر» معناه: مختلف أو ذو طعن.(20/75)
قال: وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف، فجعل لا يدنو منه أحد إلا خبطه بالسّيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير وهو يقول:
يا أمّنا [1] يا خير أمّ نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم [2]
وتختلى هامته [3] والمعصم
فاختلفا ضربتين، فقتل كلّ واحد منهما صاحبه.
وأحدق أهل النّجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلّا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلّا معروف، فينتسب: «أنا» فلان بن فلان» ، فإن كانوا ليقاتلون عليه وإنّه للموت لا يوصل إليه [إلّا بطلبة] [4] ! وما رامه أحد من أصحاب علىّ إلّا قتل أو أفلت ثمّ لم يعد، وحمل عدىّ بن حاتم عليهم ففقئت عينه.
وجاء عبد الله بن الزّبير ولم يتكلم، فقالت عائشة: من أنت؟
__________
[1] فى (ك) : «يا أمنا» . وفى (ن) : «يا أمتا» بالتاء.
[2] يكلم: يجرح.
[3] تختلى هامته: يقطع رأسه.
[4] زيادة يقتضيها المقام ذكرها ابن جرير ج 3 ص 532.(20/76)
قال ابنك وابن أختك. قالت: واثكل أسماء! فانتهى إليه الأشتر فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحا شديدا، وضربه عبد الله ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وسقطا على الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزّبير: «اقتلونى ومالكا» [1] فلو يعلمون من «مالك» لقتلوه، إنّما كان يعرف بالأشتر [2] ، فحمل أصحاب علىّ وعائشة فخلصوهما.
قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبى البخترىّ القرشى فقتل [3] ، وأخذه عمرو بن الأشرف الأزدى فقتل، وقتل معه ثلاثة عشر رجلا من أهل بيته، وجرح عبد الله بن الزّبير سبعا وثلاثين جراحة من طعنة ورمية وضربة، وجرح مروان بن الحكم.
فنادى علىّ: اعقروا الجمل فإنّه إن عقر تفرّقوا. فضربه رجل، فسقط، فما سمع صوت أشدّ من عجيجه.
وقيل فى عقر الجمل: إنّ القعقاع لقى الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل. فقال: هل لك فى العود؟ فلم يجبه، فقال: يا أشتر
__________
[1] فى الكامل ج 3 ص 128 ومرج الذهب ج 2 ص 13:
اقتلونى ومالكا. واقتلوا مالكا معى
[2] الأشتر: اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة النخعى، وكان فارسا شجاعا من كبار الشيعة» ولقب بالأشتر لأن رجلا من إياد ضربه فى يوم البرموك على رأسه فسألت الجراحة قيحا إلى عينه فشترتها، هذا هو المشهور فى تلقيبه، وهناك وجه فى تلقيبه ذكره أسامة بن منقذ فى لباب الآداب ص 187- 188.
[3] تبع المؤلف هنا ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 129 وهذا القول جاء فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخة 3 ص 528 ولكن ابن جرير ذكر قولا آخر ج 3 ص 545 بعد انتهاء وقعة الجمل يفيد أنه لم يقتل فيها. قال: قصدت عائشة مكة فكان وجهها من البصرة، وانصرف مروان والأسود بن أبى البخترى إلى المدينة من الطريق. ويؤيد القول ما ذكره ابن حجر فى ترجمة الأسود من كتاب الأصابة 1 ص 42 فارجع إليه.(20/77)
بعضنا أعلم بقتال بعض منك. وحمل القعقاع، والزّمام مع زفر بن الحارث الكلابىّ، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بنى عامر إلّا أصيب قدّام الجمل، وزحف القعقاع إلى زفر بن الحارث، وقال لبجير بن دلجه- وهو من أصحاب علىّ-: يا بجير صح بقولك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا أو تصاب أمّ المؤمنين. فقال بجير:
«يا آل ضبّة، يا عمرو بن دلجة، ادع بى إليك» فدعاه، فقال:
أنا آمن حتّى أرجع عنكم؟. قالوا: نعم. فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر [1] البعير، قال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على قطع بطان [2] الجمل وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السّهام، ثم أطافا به، وفرّ من وراء ذلك من الناس.
فلمّا انهزموا أمر علىّ مناديا فقال: ألا لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [3] ولا تدخلوا الدّور.
وأمر علىّ نفرا أن يحملون الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبى بكر أن يضرب عليها قبّة، وقال انظر: هل وصل إليها شىء من جراحة؟ فأدخل رأسه هودجها، فقالت: من أنت؟
فقال: أبغض أهلك إليك. قالت ابن الخثعميّة [4] ؟ قال: نعم.
قالت: الحمد لله الذى عافاك.
__________
[1] جرجر البعير: ردد صوته فى حنجرته.
[2] بطان الجمل: الحزام الذى يجعل تحت بطنة.
[3] أى: لا يقتل من صرع وجرح منهم.
[4] الخثعمية: أسماء بنت عميس الخثعمية، وهى أخت ميمونه زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت أسماء من المهاجرات إلى الحبشة، وهى إذ ذاك زوج جعفر بن أبى طالب، فولدت له هناك محمد بن جعفر وعبد الله وعونا. ثم هاجرت معه إلى المدينة، فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمدا هذا، ثم مات عنها أبو بكر فتزوجها على بن أبى طالب فولدت له يحيى بن على، وقد ثبت أنها ولدت محمد بن أبى بكر فى طريق المدينة إلى مكة فى حجة الوداع، كما فى حديث جابر الطويل فى صحيح مسلم، ثم نشأ محمد بن أبى بكر فى حجر على بن أبى طالب، إذ تزوج على أمه، ثم كان موقفه، فى موقعة الجمل مع أخته عائشة ما ذكره للؤلف، وسيذكر- فيما بعد- ولايته لمصر ومقتله وأن «عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا» .(20/78)
وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر إليه، فاحتملا الهودج، فنحّياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت:
من هذا؟ قال: أخوك البرّ [1] قالت: عقق [2] ! قال: يا أخيّة هل أصابك شىء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذا الضّلّال؟ قالت:
بل الهداة! وقال لها عمّار: كيف رأيت بنيك اليوم يا أمّاه؟ قالت:
لست لك بأمّ! قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الّذى نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها، فوضعوها ليس قربها أحد.
وأتاها علىّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير. قال:
يغفر الله لك. قالت: ولك.
وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعىّ حتى اطّلع فى الهودج، فقالت إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء. فقالت هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك! فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمى عريانا فى خربة من خربات الأزد!.
ثم أتى وجوه الناس إلى عائشة، وفيها القعقاع بن عمرو، فسلّم عليها، فقالت: والله لوددت أنى متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة!
__________
[1] البر: المحسن لمعاملة الأقربين من الأهل.
[2] عقق: عاق أهله، من العقوق، ضد البر.(20/79)
وكان علىّ يقول بعد الفراغ من القتال:
إليك أشكو عجرى وبجرى [1] ... ومعشرا أعشوا [2] علىّ بصرى
قتلت منهم مضرى بمضرى ... شفيت نفسى وقتلت معشرى!
قال: ولمّا كان الليل أدخل محمد بن أبى بكر عائشة البصرة، فأنزلها فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى [3]- وهى أعظم دار فى البصرة- على صفيّة بنت الحارث بن [طلحة بن] [4] أبى طلحة بن عبد العزّى، وهى أمّ طلحة الطّلحات بن عبد الله بن خلف.
وتسلّل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة.
وأقام علىّ بظاهر البصرة ثلاثا، وأذن للناس فى دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علىّ فى القتلى، فلما أتى كعب بن سور قال: «أزعمتم [5] أنّما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون!»
__________
[1] فى النهاية ولسان العرب: «حديث على: أشكو إلى الله عجرى وبجرى، أى:
همومى وأحزانى، وأصل العجرة: نفخة فى الظهر فاذا كانت فى البطن فهى بجرة وقيل:
العجر العروق المتعقدة فى الظهر، والبجر: العروق المتعقدة فى البطن، ثم نقلا إلى الهموم والأحزان، أراد أنه يشكو إلى الله أموره كلها ما ظهر منها وما بطن.
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند ابن جرير: «غشوا» ، وفى الكامل لابن الأثير:
«أغشوا» .
[3] عبد الله بن خلف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة رقم 24650 ص 303 وكان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة، وشهد وقعة الجمل مع عائشة فقتل، وكان أخوه عثمان مع على.
[4] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 539 وسيرة ابن هشام ج 3 ص 6 81، 120 والإصابة ج 2 ص 237 ولسان العرب والقاموس مع تاج العروس وخزانة الأدب ج 3 ص 394.
[5] كذا جاء فى المخطوطة موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «زعمتم» وهو أقرب لما يأتى.(20/80)
وجعل كلّما مرّ برجل فيه خير قال: «زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم!» وصلى علىّ على القتلى من بين الفريقين، وأمر فدفنت الأطراف فى قبر عظيم، وجمع ما كان فى العسكر من شىء وبعث به إلى مسجد البصرة، وقال: من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا كان فى الخزائن عليه سمة السلطان.
قال [1] : وكان جميع القتلى عشرة آلاف، نصفهم من أصحاب علىّ، ونصفهم من أصحاب عائشة، حكاه أبو جعفر الطبرى، وقال غيره: ثمانية آلاف. وقيل: سبعة عشر ألفا. قال أبو جعفر:
وقتل من ضبّة ألف رجل، وقتل من عدىّ حول الجمل سبعون كلّهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ.
قال [2] : ولمّا فرغ علىّ من الواقعة أتاه الأحنف بن قيس [فى بنى سعد] [3] ، وكانوا قد اعتزلوا القتال، كما ذكرنا، فقال له علىّ: لقد تربّصت. فقال: ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الّذى سلكت بعيد، وأنت إلىّ غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، واستصف مودّتى لغد، ولا تقل [4] مثل هذا فإنّى لم أزل لك ناصحا.
ثم دخل علىّ البصرة يوم الاثنين، فبايعه أهلها، حتّى الجرحى والمستأمنة، واستعمل علىّ عبد الله بن عبّاس على البصرة، وولّى
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131.
[2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 131.
[3] الزيادة من الكامل، ويقتضيها ضمير الجمع الآتى بعدها.
[4] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 540 «ولا تقولن» .(20/81)
زيادا الخراج وبيت المال، وأمر ابن عبّاس أن يسمع منه ويطيع وكان زياد معتزلا [1] .
ثم راح علىّ رضى الله عنه إلى عائشة فى دار عبد الله بن خلف الخزاعى، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابنى خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع على، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكى، فلما رأته قالت له: يا على، يا قاتل الأحبّة، يا مفرق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه. فلم يردّ عليها شيئا، ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفيّة. أما إنّى لم أرها منذ كانت جارية! فلما خرج أعادت عليه القول، فكفّ بغلته، وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب (وأشار إلى باب فى الدار) وأقتل من فيه (وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر بمكانهم، فتغافل عنه) [2] .
قال: ولمّا خرج من عند عائشة قال له رجل من الأزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: «مه [3] ، لا تهتكنّ سترا، ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّ النساء ضعيفات، ولقد كنّا
__________
[1] كان زياد ممن اغتزل ولم يشهد المعركة، ولما جاء عبد الرحمن بن أبى بكر فى المستأمنين مسلما- بعد ما فرغ على من البيعة- قال له على رضى الله عنه: وعمك المتربص المقاعد بى (يعنى زيادا) . فقال: والله يا أمير المؤمنين إنه لك لواد وإنه على مسرتك لحريص ولكنه بلغنى أنه يشتكى، فلما قابل على زيادا واعتذر إليه زياد قبل عذره، واستشاره وأراده على رضى الله عنه على البصرة، فقال زياد: رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس فإنه أجدر أن يطمئنوا وينقادوا وسأكفيكه وأشير عليه. فكان ابن عباس.
[2] عبارة ابن جرير: «وكان أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة، فأخبر على بمكانهم، فتغافل عنهم» .
[3] مه: اسكت واكفف.(20/82)
نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، فكيف إذا كنّ مسلمات؟» ومضى، فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمضّ شتيمة لك من صفيّة. فقال: ويحك لعلّها عائشة! قال: نعم، قال أحدهما:
«جزيت عنّا أمّنا عقوقا» .
وقال الآخر:
«يا أمّتا [1] توبى فقد خطيت» .
فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل على من كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط، وأخرجهما من ثيابهما.
قال: وسألت عائشة رضى الله عنها عمّن قتل من الناس معها وعليها، فكلّما نعى واحد من الجميع قالت: رحمه الله! فقيل لها كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان فى الجنة وفلان فى الجنة [2] .
ثم جهّز علىّ رضى الله عنه عائشة بكلّ ما ينبغى لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وبعث معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلّا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسيّر معها أخاها محمد بن أبى بكر رضى الله عنهم. فلمّا كان
__________
[1] كذا جاء بالتاء فى النسخة (ك) ، ووقع فى النسخة (ن) : «يا أمى» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير: «يا أمنا» بالنون.
[2] زاد ابن جرير: «وقال على بن أبى طالب يومئذ: إنى لأرجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه إلا أدخله الله الجنة» .(20/83)
اليوم الذى ارتحلت فيه أتاها علىّ فوقف لها، وحضر الناس، فخرجت [وودعوها] [1] وودّعتهم وقالت: يا بنىّ، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بينى وبين علىّ فى القديم إلّا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتى لمن الأخيار. فقال علىّ رضى الله عنه: صدقت والله ما كان بينى وبينها إلا ذاك، وإنّها لزوجة نبيّكم فى الدنيا والآخرة.
وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرّة شهر رجب سنة ستّ وثلاثين، وشيّعها علىّ أميالا، وسرّح بنيه معها يوما. وتوجّهت إلى مكّة، فأقامت إلى الحجّ، فحجّت، ثم رجعت إلى المدينة.
قال: ولمّا فرغ علىّ من بيعة أهل البصرة نظر فى بيت المال، فرأى فيه ستّمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة درهم، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم، فخاض فى ذلك السّبئيّة، وطعنوا على علىّ [من وراء وراء] [2] ، وطعنوا فيه أيضا حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم [3] ! قال: وأراد علىّ رضى الله عنه المقام بالبصرة لإصلاح حالها،
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير البرى ج 3 ص 547.
[2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 132 وسبقه ابن جرير.
[3] فى تاريخ ابن جرير 3 ص 545: كان من سياسة على ألا يقتل مديرا ولا يذفف على جريح ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا. فقال قوم يومئذ: ما يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم! فقال على: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لج حتى يصاب فقتله، منى على الصدر والنحر، وإن لكم فى خمسه لغنى.(20/84)
فأعجلته السّبئيّة عن المقام، فإنّهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل فى آثارهم، ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه.
فلنرجع إلى مقتل طلحة والزبير.
ذكر مقتل طلحة رضى الله عنه وشىء من أخباره
هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشى التّيمى.
وهو أقرب العشرة إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، يجتمع نسبه مع نسب أبى بكر فى عمرو بن كعب بن سعد.
ويجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى مرّة ابن كعب.
وأم طلحة: الحضرميّة، وهى الصّعبة بنت عبد الله بن عباد [1] ابن مالك بن ربيعة بن أكبر بن مالك بن عويف بن مالك بن الخزرج ابن إياد بن الصّدف [2] من حضرموت من كندة، يعرف أبوها عبد الله ب «الحضرمىّ» .
ويعرف طلحة ب «طلحة الخير» و «طلحة الفيّاض» . قيل
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة «عباد» ، وجاء فى الاستيعاب والإصالة:
«عماد» .
[2] فى القاموس: الصدف- ككتف-: بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت.
وفى جمهرة أنساب العرب ص 431: «والصدف هم فى بنى حضرموت، وهو الصدف ابن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر.» .(20/85)
سمّى بالفيّاض لأنّه اشترى مالا بموضع يقال له «بيسان» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت إلا فيّاض» ، فسمّى بذلك من يومئذ.
وهو رضى الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض [1] .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وقسم له سهمه وأجره يوم بدر [2] .
وقد تقدم خبره فى ذلك [3] .
ثم شهد أحدا وما بعدها، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، ووقى رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه، اتّقى عنه النّبل بيده حتى شّلّت إصبعه وضرب فى رأسه، وحمل رسول الله عليه الصلاة والسلام على ظهره حتى صعد الصخرة، فقال عليه السلام لأبى بكر رضى الله عنه: «اليوم أوجب طلحة [4] يا أبا بكر» .
__________
[1]
ذكر صاحب الإصابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ماء يقال له: «بيسان» مالح، فقال هو «نعمان» وهو طيب، فغير اسمه فاشتراه طلحة، ثم تصدق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فبذلك قيل له «طلحة الفياض»
. [2] لم يشهد طلحة وقعة بدر، كما سبق فى هذا الكتاب: أن طلحة وسعيد بن زيد كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سهميهما، قالا: يا رسول الله. وأجرنا. قال: وأجركما.
[3] نهاية الأرب ج 17 ص 36.
[4] شرح صاحبا النهاية ولسان العرب حديث «أوجب طلحة» بقولهما: أى عمل عملا أوجب له الجنة، وذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 251 أن الحديث أخرجه أحمد والترمذى، ثم ذكر ج 2 ص 253 رواية البغوى وغيره «أوجب طلحة الجنة» بذكر المفعول به.(20/86)
ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه فقال: «من أحبّ أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة»
. وحكى أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله فقال: زعم بعض أهل العلم أنّ عليّا رضى الله عنه دعاه يوم الجمل، فذكّره أشياء من سوابقه وفضله، فرجع طلحة عن قتاله، على نحو ما صنع الزّبير واعتزل فى بعض الصفوف، فرمى بسهم، فقطع من رجله عرق النّسا، فلم يزل دمه ينزف حتّى مات [1] . ويقال: إنّ السهم أصاب ثغرة نحره، وإنّ الذى رماه مروان بن الحكم وقال: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. وذلك أنّ طلحة- فيما زعموا- كان ممّن حاصر عثمان واشتد عليه. قال ابن عبد البر: ولا يختلف العلماء [2] فى أن مروان بن الحكم قتل طلحة يومئذ [3] ، واستدلّ على ذلك بأخبار [رواها من قول مروان تدل على أنه قاتله] [4] .
قال: وقد روى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال:
والله إنّى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزّبير ممّن قال الله
__________
[1] ذكر أبو عمر ابن عبد البر قول الأحنف: لما التقوا كان أول قتيل طلحة بن عبد الله
[2] فى الاستيعاب لابن عبد البر: «ولا يختلف العلماء الثقات» .
[3] زاد ابن عبد البر «وكان فى حزبه» ، وقال فى موضع آخر كان مروان مع طلحة يوم الجمل، فلما اشتبكت الحرب قال مروان: لا أطلب بثأرى بعد اليوم. ثم رماه بسهم..... الخ.
[4] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .(20/87)
تبارك وتعالى فيهم: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ
[1] .
وروى أبو عمر بسنده إلى قيس بن أبى حازم قال: رمى مروان طلحة يوم الجمل بسهم فى ركبته، فجعل الدّم يسيل، فإذا أمسكوه استمسك وإذا تركوه سال، فقال: دعوه فإنّما هو سهم أرسله الله. قال فمات، فدفنّاه على شاطئ الكلّاء [2] ، فرأى بعض أهله أنه أتاه فى المنام فقال: «ألا تريحوننى من هذا الماء فإنى قد غرقت!» ثلاث مرار يقولها، قال: فنبشوه فإذا هو أخضر كأنّه السّلق، فنزحوا [3] عنه الماء، فاستخرجوه، فإذا ما يلى الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا له دارا من دور آل أبى بكر بعشرة آلاف، فدفنوه فيها.
وروى أيضا بسنده إلى علىّ بن زيد عن أبيه أن رجلا رأى فيما يرى النائم أنّ طلحة بن عبيد الله قال: «حوّلونى عن قبرى فقد آذانى الماء!» ثم رآه، حتّى رآه ثلاث ليال، فأتى ابن عبّاس فأخبره، فنظروا فإذا شقّة الذى يلى الارض فى الماء، فحوّلوه، قال: فكأنى أنظر إلى الكافور فى [4] عينيه لم يتغيّر إلّا عقيصته فإنها مالت عن موضعها.
وقتل رضى الله عنه وهو ابن ستّين سنة، وقيل: ابن اثنتين وستّين، وذلك يوم الجمل، لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين.
__________
[1] الآية 47 من سورة الحجر.
[2] الكلاء: مرفأ السفن بساحل النهر، وأطلق على موضع بالبصرة.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فنزعوا» .
[4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 2 ص 24: «بين عينيه» .(20/88)
وكان رضى الله عنه رجلا آدم، حسن الوجه، كثير الشّعر، ليس بالجعد القطط [1] [ولا بالسّبط] [2] وكان لا يغيّر شعره [3] .
وسمع علىّ رجلا ينشد:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى، ويبعده الفقر
فقال: ذاك أبو محمد طلحة بن عبيد الله.
وحكى الزّبير [4] أنّه سمع سفيان بن عيينة يقول: كانت غلّة طلحة بن عبيد الله ألفا وافيا كلّ يوم! (قال: والوافى وزنه وزن الدّينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التى تعرف بالبغلية) .
ذكر مقتل الزبير بن العوام رضى الله عنه وشىء من أخباره
هو أبو عبد الله الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، القرشى الأسدى.
وأمّه صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستّة أصحاب الشّورى، وهو قديم الإسلام، واختلف فى سنّه يوم أسلم، فقيل:
__________
[1] القطط: الكثير الجعودة.
[2] كذا ثبت فى النسخة (ن) كالاستيعاب ج 2 ص 225، وسقط من النسخة (ك) ، والسبط من الشعر: المنبسط المسترسل، والمراد أن شعر طلحة: كان وسطا بين الجعد والمسترسل (وهما ضدان) .
[3] كانوا يكرهون تغيير الشيب بنتف شعره، وأما تغيير لونه فغير مكروه، فمن ذوى الشيب من يقبل عليه، ومنهم من لا يقبل ... وقد ذكر الرياض النضرة ج 2 ص 262 أن الزبير بن العوام «كان لا يغير شيبه» كذلك.
[4] هو الزبير بن بكار فى الرياض النضرة ج 2 ص 258.(20/89)
خمس عشرة سنة، وقيل ست عشرة، وقيل: اثنتى عشرة سنة وقيل: ثمانى سنين. والأول أصح.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين أخى بين المهاجرين، ولما أخى بين المهاجرين والأنصار آخى بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش.
وكان له رضى الله عنه من الولد- فيما حكاه بعضهم- عشرة، وهم: عبد الله وعروة ومصعب والمنذر وعمرو وعبيدة وجعفر وعامر وعمير وحمزة.
وكان الزّبير رضى الله عنه أوّل من سلّ سيفا فى سبيل الله، وذلك أنه نفخت فيه نفخة من الشّيطان: «أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام» ، فأقبل يشقّ الناس بسيفه، والنبىّ صلى الله عليه وسلم بأعلى مكّة، فقال له رسول الله: ما لك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت! فصلّى عليه ودعا له.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزّبير ابن عمّتى وحواريّى من أمّتى»
. وقال: «لكلّ نبىّ حوارىّ، وحواريّى الزّبير»
. وسمع ابن عمر رضى الله عنه رجلا يقول: «أنا ابن الحوارىّ» ، فقال إن كنت ابن الزّبير وإلّا فلا.
وذكر [1] فى معنى «الحوارىّ» : الخالص، وقيل الخليل، ولذلك قال جرير [2] :
__________
[1] ابن عبد البر فى الاستيعاب ج ص 581- 582.
[2] فى ديوان جرير ص 454، وقبله:
إنى تذكرنى الزبير حمامة ... تدعو بمجمع نخلتين هديلا
قالت قريش: ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا!
لو كان يعلم غدر آل مجاشع ... نقل الرحال فأسرع التحويلا
بالهف نفسى إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا(20/90)
أفبعد مقتلهم خليل محمد [1] ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا
وقيل: الحوارىّ: الناصر. وقيل: الصاحب المستخلص.
وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه للزّبير مرّتين: يوم أحد ويوم بنى قريظة، فقال: «ارم فداك أبى وأمّى!» [2] .
قال أبو عمر ابن عبد البر: وكان الزبير تاجرا! مجدودا [3] فى التجارة، قيل له يوما: بم أدركت فى التجارة ما أدركت؟ فقال:
لأنى لم أشتر غبنا [4] ولم أردد ربحا والله يبارك لمن يشاء.
وروى عن كعب قال: كان للزّبير ألف مملوك يؤدّون إليه الخراج فما يدخل بيته منه درهما واحدا. يعنى أنه كان يتصدق بذلك.
وكان سبب قتله رضى الله عنه أنّه لما انصرف من وقعة الجمل وفارق الحرب مرّ بالأحنف فقال: هذا الذى جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم بعضا ثم لحق ببيته! ثم قال للناس: من يأتينى بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز: أنا.
وقيل: إنّ الزّبير لمّا انصرف نزل بعمرو بن جرموز، فقال له:
«يا أبا عبد الله، جنيت حربا ظالما أو مظلوما ثمّ تنصرف! أتائب أم عاجز؟» فسكت عنه الزّبير، ثم عاوده، فقال: ظنّ فىّ كلّ شىء
__________
[1] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله:
دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا
[2] الرواية فى الديوان: «أفبعد متركهم خليل محمد» .. وقد عبر جرير عن الزبير ب «الحوارى» فى قوله:
دعاكم حوارى الرسول فكنتمو ... عضاريط يا خشب الخلاف المصرعا
[3] مجدودا: صاحب حظ.
[4] غبنا: خدعا.(20/91)
غير الجبن. فانصرف عنه ابن جرموز وهو يقول: «والهفى على ابن صفيّة! أضرمها نارا ثم أراد أن يلحق بأهله! قتلنى الله إن لم أقتله!» ثم رجع إليه كالمتنصّح، فقال: «يا أبا عبد الله دون أهلك فياف، فخذ نجيبى [1] هذا وخلّ فرسك ودرعك، فإنهما شاهدان عليك بما نكره» . وأراد بذلك أن يلقاه حاسرا [2] ، ولم يزل به حتّى تركهما عنده وأخذ نجيبه، وسار معه ابن جرموز كالمشيّع له، حتّى انتهيا إلى وادى السّباع [3] ، فاستغفله [4] ابن جرموز وطعنه. وقيل: إنّه اتبعه إلى الوادى فقتله وهو فى الصلاة. وقيل: بل قتله وهو نائم.
وفى ذلك تقول عاتكة [5] بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية زوجته ترثيه [6] :
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرّد [7]
يا عمرو لو نبّهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان [8] ولا اليد
__________
[1] النجيب من الإبل: القوى السريع.
[2] حاسر: لا درع عليه ولا وقاية.
[3] وادى السباع: على أربعة فراسخ من البصرة، كما فى خزانة الأدب ج 4 ص 350 وانظر معجم البلدان.
[4] فى خزانة الأدب ج 2 ص 458: «وأراه أنه يريد مسايرته ومؤانسته، فقتله غيلة» .
[5] عاتكة من المهاجرات، حسناء بارعة الجمال، تزوجت مرات وقتل أزواجها ورثتهم بشعرها، وسيذكر المؤلف فى هذا الجزء ترجمة أخيها: سعيد بن زيد.
[6] انظر هذا الرثاء فى الأغانى ج 6، ص 126 وذيل أمالى القالى ص 112 والموشى ص 80 والاستيعاب ج 4 ص 364 وابن عساكر ج 5 ص 366 والرياض النضرة ج 2 ص 304.
[7] يقال للجيش «بهمة» ، ومنه قولهم «فلان فارس بهمة» والمعرد: الهارب
[8] الجنان: القلب.(20/92)
كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع القردد [1]
ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله [2] ... فيما مضى ممّن يروح ويغتدى
والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمّد [3]
قال: فلمّا رجع برأسه وسلبه [4] قال له رجل من قومه: «فضحت والله اليمن أوّلها وآخرها بقتلك الزّبير رأس المهاجرين وفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريّه وابن عمّته! والله لو قتلته فى حرب لعزّ ذلك علينا ولمسّنا عارك! فكيف فى جوارك وحرمك؟!» قال: وأتى ابن جرموز عليّا، فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزّبير.
فقال علىّ رضى الله عنه ائذن له وبشّره بالنار، قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار!
فقال ابن جرموز:
أتيت عليا برأس الزّبي ... ر أرجو لديه به الزّلفه
__________
[1] الغمرة: الشدة، ولفقع: نوع من الكمأة، والقردد: أرض مرتفعة إلى جنب وهده، يشبهون بهذا الفقع الرجل الذليل لأن الدواب تنجله بأرجلها.
[2] ويروى: «فاذهب فما ظفرت يداك بمثله» .
[3] هذا البيت من شواهد النحو. انظر العينى ج 2 ص 278 والسيوطى ص 26 وخزانة الأدب ج 4 ص 350- 351.
[4] السلب: ما يأخذه القاتل مما كان القتيل من سلاح وثياب ودابة.(20/93)
فبشّر بالنار إذ جئته ... فبئس بشارة ذى التّحفه
وسيان عندى قتل الزّبير ... وضرطة عير بذى الجحفه [1]
وحكى أبو عمر ابن عبد البر فى كتابه المترجم ب «الاستيعاب» [2] من رواية عمرو بن جاوان عن الاحنف بن قيس قال: لما بلغ الزبير سفوان (موضعا بالبصرة كمكان القادسيّة من الكوفة) لقيه النعر [3] (رجل من بنى مجاشع) فقال: «أين تذهب يا حوارىّ رسول الله؟
إلىّ، فأنت فى ذمّتى لا يوصل إليك» ، فأقبل معه، وأتى إنسان الأحنف فقال: هذا الزّبير قد لقى بسفوان، فقال الأحنف: «ما شاء الله كان، قد جمع بين المسلمين حتّى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسّيوف، ثم يلحق ببيته وأهله!!» فسمعه عميرة [4] بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع فى غواة من غواة بنى تميم، فركبوا فى طلبه، فلقوه مع النعر، فأتاه عميرة بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزّبير على فرس له يقال له «ذو الخمار» [5] ، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى صاحبيه: «يا نفيع
__________
[1] انظر الأبيات مع شىء من التغيير فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص- 79.
[2] ج 1 ص 585.
[3] جاء فى شرح ديوان جرير ص 455 أنه «النعر بن الزمام من بنى مجاشع» .
[4] المشهور فى اسم القاتل «عمرو» كما سبق فى شعر عاتكة، وقد يقال له.
«عميرة» أو «عمير» كما فى الاستيعاب ج 1 ص ح 584 والرياض النضرة 2 ص 273.
[5] فى القاموس: «ذو الخمار: فرس الزبير بن العوام يوم الجمل» .(20/94)
يا فضالة» فحملوا عليه حتّى قتلوه ... قال: [1] وهذا [2] أصّح مما تقدّم.
وكان مقتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة [3] سنة ست وثلاثين.
وكانت سنّه يوم قتل سبعا وستّين سنة، وقيل ستّا وستين.
وكان الزّبير رضى الله عنه أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية.
وقال حسّان بن ثابت يمدح الزّبير ويفضّله: [4]
أقام على عهد النبىّ وهديه ... حواريّه والقول بالفعل يعدل
أقام على منهاجه وطريقه ... يوالى ولى الحقّ والحقّ أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذى ... يصول إذا ما كان يوم محجّل [5]
__________
[1] أبو عمر ابن عبد البر.
[2] يؤيده ما ورد فى ديوان جرير، وقد ذكر جرير حادثة الزبير فى هجائة للفرزدق المجاشعى قريبا من أربعين مرة، ولم يكن جرير بعيدا عن عصر الزبير.
[3] كذا جاء فى المخطوطة والرياض النضرة ج 2 ص 274، وجاء فى الاستيعاب ج 1 ص 584 والإصابة ج 1 ص 546 «جمادى الأولى» ، ولكن صاحب الاستيعاب أعقب ذلك بقوله «وفى ذلك اليوم كانت وقعة الجمل» وقد قال ابن جرير ج 3 ص 539 «وكانت الواقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 36 فى قول الواقدى» .
[4] ديوان حسان ص 338- 339.
[5] محجل: مشهور.(20/95)
وإن امرأ كانت صفية أمه ... ومن أسد فى بيته لمرفّل [1]
له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل [2]
فكم كرّة ذبّ الزّبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطى ويجزل [3]
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشّها ... بأبيض سبّاق إلى الموت يرقل [4]
فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدّهر ما دام يذبل [5]
وروى [6] عن عبد الله بن الزّبير رضى الله عنهما أنه قال: لمّا وقف الزّبير يوم الجمل دعانى، فقمت إلى جنبه، فقال «يا بنىّ:
إنّه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم، وإنّى لا أرانى [7] إلّا سأقتل اليوم
__________
[1] مرفل: معظم.
[2] مؤثل: مؤصل.
[3] جاءت فى الأصل «كرة» وهى المناسبة لسياق البيت وجاءت فى بعض الكتب «كربة» . ذب: دفع.
[4] كشفت الحرب عن ساقها: اشتدت. حشها: أشعلها. أبيض: سيف. يرقل:
يسرع.
[5] يذبل: جبل بنجد، يريد دائما.
[6] روى البخارى فى صحيحه هذا الحديث (291) بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله بن الزبير، وهذا فى باب (بركة الغازى فى ماله حيا وميتا) .
[7] لا أرانى: لا أظننى.(20/96)
مظلوما، وإنّ من أكبر همّى لدينى، أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئا؟ [1] وقال: يا بنى بع مالنا واقض دينى. وأوصى بالثّلث وثلثه لبنيه (يعنى بنى عبد الله بن الزّبير) يقول: الثلث إليك [2] فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدّين فثلثه لولدك. قال هشام وكان بعض ولد عبد الله قد وازى [3] بعض بنى الزّبير: خبيب وعبّاد [4] ، وله [5] يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله فجعل يوصينى بدينه ويقول: يا بنىّ إن عجزت عن شىء منه فاستعن عليه مولاى. قال [6] : فو الله ما دريت ما أراد، حتّى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله تعالى. فو الله ما وقعت فى كربة من دينه إلّا قلت: «يا مولى الزّبير اقض عنه دينه» فيقضيه.
فقتل الزّبير رضى الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين منها الغابة [7] وإحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر.
قال [8] : وإنّما كان دينه الذى عليه أنّ الرجل كان يأتيه بالمال
__________
[1] قال ذلك استكثارا لما عليه وإشفاقا من دينه.
[2] فى صحيح البخارى «ثلث الثلث» .
[3] وازى: ساوى، وللغويين كلام فى هذا اللفظ.
[4] هما ولدا عبد الله بن الزبير.
[5] أى الزبير.
[6] عبد الله بن الزبير.
[7] الغابة: أرض عظيمة من عوالى المدينة.
[8] عبد الله بن الزبير.(20/97)
فيستودعه إيّاه، فيقول الزّبير رضى الله عنه لا [1] ، ولكنّه سلف، فإنّى أخشى عليه الضّيعة.
وما ولى إمارة قطّ ولا جباية خراج ولا شيئا إلّا أن يكون فى غزوة مع النبى صلى الله عليه وسلم أو مع أبى بكر أو عمر أو عثمان رضى الله عنهم.
قال عبد الله بن الزّبير: فحسبت ما عليه من الدّين فوجدته ألفى ألف ومائتى ألف.
قال: فلقى حكيم بن حزام عبد الله بن الزّبير فقال: يا ابن أخى كم على أخى من الدّين؟ فكتمه وقال: مائة ألف. فقال حكيم:
والله ما أرى أموالكم تسع لهذه. فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفى ألف ومائتى ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا فإن عجزتم عن شىء منه فاستعينوا بى.
قال: وكان الزّبير رضى الله عنه اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال:
من كان له على الزّبير حقّ فليوافنا بالغابة. فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزّبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا. قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخّرون إن أخّرتم. فقال عبد الله: لا. قال: فاقطعوا لى قطعة. فقال عبد الله لك من ههنا إلى ههنا. فباع منها [2] فقضى دينه فأوفاه، وبقى
__________
[1] أى: لا أقبضه وديعة.
[2] أى: من الغابة والدور.(20/98)
منها [1] أربعة أسهم ونصف، فقدم [2] على معاوية وعنده عمرو بن عثمان [3] والمنذر بن الزبير وابن زمعة [4] ، فقال له معاوية: كم قوّمت الغابة؟ قال: كلّ سهم [5] بمائة ألف. قال: كم بقى قال: أربعة أسهم ونصف. فقال المنذر بن الزّبير: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمائة ألف. فقال معاوية: كم بقى فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. (قال وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستّمائة ألف [6] ) قال: فلمّا فرغ ابن الزّبير من قضاء دينه قال بنو الزّبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال: لا والله لا أقسم بينكم حتّى أنادى بالموسم أربع سنين: «ألا من كان له على الزّبير دين فليأتنا فلنقضه» .
قال: فجعل كلّ سنة ينادى بالموسم، فلمّا مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان للزّبير أربع نسوة، ورفع الثّلث، فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجميع ماله [7] خمسون ألف ألف ومائتا ألف. هكذا أورده البخارىّ رحمه الله فى صحيحه، وعقد جملة المال فى آخره على ما ذكرنا.
__________
[1] أى: من الغابة بغير بيع.
[2] عبد الله بن الزبير.
[3] ابن عفان.
[4] عبد الله بن زمعة.
[5] أى: من أصل ستة عشر سهما.
[6] فربح مائتى ألف.
[7] الذى تركه الزبير عند وفاته، ويحتوى على الوصية والميراث والدين.(20/99)
والذى دلّ عليه الحساب أنّ جملة المال تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف، وذلك أنّ نصيب الزوجات الأربع (وهو الثّمن بعد وفاء الدّين ورفع الثلث الذى أوصى به لبنى عبد الله) اشتمل على أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، يضرب فى ثمانية فتكون ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف، ويكون ثلث الوصية (وهو نصف هذه الجملة) تسعة عشر ألف ألف ومائتى ألف، والدّين ألفى ألف ومائتى ألف، فتخرج الجملة على ما ذكرناه [1] .
ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها
كانت وقعة صفّين فى أواخر سنة ست وثلاثين وأوائل سنة سبع وثلاثين.
وذلك أنه لما فرغ علىّ رضى الله عنه من حرب الجمل أقام بالبصرة، ثمّ انتقل إلى الكوفة، وأرسل إلى جرير بن عبد الله البجلى- وكان عثمان قد استعمله على همذان- وإلى الأشعث بن قيس- وكان على أذربيجان- فأمرهما بأخذ البيعة والحضور إليه، ففعلا ذلك.
وأراد علىّ أن يرسل إلى معاوية رسولا، فقال جرير: أرسلنى إليه [2] فقال الأشتر لعلىّ: لا تفعل [فإنّ هواه مع معاوية] [3] فقال علىّ
__________
[1] الجملة التى ذكرها المؤلف هى التى انتهى إليها الحساب فى آخر قسم المال، منها تسعة آلاف ألف وستمائة ألف حصلت من نماء العقار والأرضين فى المدة التى أخر فيها عبد الله بن الزبير قسم التركة استبراءا للدين، والباقى جملته الأصلية التى أوردها البخارى، انظر شرح الكرمانى للبخارى ج 13 ص 103 وإرشاد السارى ج 6 ص 370، وغيرهما.
[2] جاء فى رواية ابن جرير ج 3 ص 560 «ابعثنى إليه، فإنه لى ود، حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول فى طاعتك» .
[3] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (د) ، وسقطت من (أ) .(20/100)
دعه حتّى ننظر ما يرجع به. فبعثه، وكتب معه إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار عليه [1] ، وما كان من نكث طلحة والزّبير وحرب الجمل، ودعاه إلى البيعة والدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار.
فلما قدم جرير على معاوية ما طله بالجواب، واستشار عمرو بن العاص، وكان قد قدم عليه وانضمّ إليه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار معاوية، فأشار عمرو عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم عليّا دم عثمان، ففعل، فأجمع أهل الشام على حرب علىّ.
فعاد جرير إلى علىّ وأعلمه ذلك، وأنّ أهل الشام يبكون على عثمان ويقولون: إنّ عليّا قتله، وآوى قتلته، وإنهم لا ينتهون عنه حتّى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلىّ: كنت نهيتك عن إرسال جرير، وأخبرتك بعداوته وعشه، فأبيت إلّا إرساله. ثم تقاول الأشتر وجرير مقاولة أدّت إلى مفارقة جرير لعلىّ ولحاقه بمعاوية.
قال: وخرج علىّ رضى الله عنه، فعسكر بالنّخيلة، [2] وتخلّف عنه نفر من أهل الكوفة، منهم ميسرة الهمدانى ومسعود [3] أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين. وقدم عليه عبد الله بن العباس فى أهل البصرة.
وبلغ ذلك معاوية، فاستشار عمرو بن العاص، فقال له: «أمّا إذا سار علىّ بنفسه فى الناس فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك
__________
[1] على بيعته.
[2] النخيلة: موضع قرب الكوفة من جهة الشام.
[3] كذا جاء الاسمان فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 142 «منهم مرة الهمدانى ومسروق» .(20/101)
ومكيدتك.» فتجهّز معاوية بأهل الشام، وقد حرّضهم عمرو وضعّف عليّا وأصحابه، وقال: «إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم ووهّنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم، وأهل البصرة مخالفون لعلىّ بمن قتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنّما سار علىّ فى شرذمة قليلة، وقد قتل خليفتكم، فالله الله فى حقّكم أن تضيّعوه، وفى دمكم أن تطلّوه!» وكتب معاوية (فى أجناد) [1] أهل الشام، وعقد لواء لعمرو، ولواء لابنيه:
عبد الله ومحمد، ولواء لغلامه وردان. وسار معاوية وتأنّى فى مسيره.
قال: وبعث [2] علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر الحارثىّ فى ثمانية آلاف، وبعث شريح بن هانئ فى أربعة آلاف، وسار علىّ من النّخيلة، وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد ابن مسعود (عمّ المختار بن أبى عبيد الثّقفى) ، ووجه من المدائن معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتّى يوافيه على الرّقّة.
فلما وصل علىّ [3] الرقة قال لأهلها ليعملوا جسرا يعبر عليه إلى أهل الشام، فأبوا، وكانوا قد ضمّوا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج، وخلف عليهم الأشتر، فناداهم الأشتر: «أقسم بالله لئن لم تعملوا جسرا لأمير المؤمنين يعبر عليه
__________
[1] كذا جاء عند ابن جرير ج 3 ص 562، وجاء فى المخطوطة (إلى) قال ابن الأثير فى النهاية: «الشام خمسة أجناد: فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين، كل واحد منها يسمى جندا، أى المقيمين بها من المسلمين المقاتلين» .
[2] المراد بهذه البعثة تقديم طليعة أمام الجيش.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى (ك) والكامل: «إلى» .(20/102)
لأجرّدنّ فيكم السّيف، ولأقتلنّ الرجال ولآخذنّ الأموال!» فلقى بعضهم بعضا وقالوا: «إنّه الأشتر، وإنّه قمن أن يفى لكم بما حلف عليه أو يأتى بأكثر منه!» فنصبوا جسرا فعبر عليه علىّ وأصحابه.
قال: ولما بلغ [1] علىّ الفرات دعا زياد بن النّضر وشريح بن هانىء فيمن معهما فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الّتى خرجا عليها من الكوفة، وكان سبب عودهما أنّهما أخذا من الكوفة على شاطىء الفرات مما يلى البرّ، فلمّا بلغا» عانات» بلغهما أنّ معاوية قد أقبل فى جنود الشام، فقالا: «والله ما هذا لنا برأى، أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، وما لنا خير أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا» فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهلها، فرجعوا! [حتّى عبروا] [2] من هيت [3] ، فلحقوا عليّا دون قرقيسيا [4] ، فقال علىّ: مقدّمتى تأتينى من ورائى! فأخبره شريح وزياد بما كان، فقال: سدّدتما. فلمّا عبر الفرات سيّرهما أمامه.
فلمّا انتهيا إلى سور الرّوم لقيهما أبو الأعور السّلمىّ فى جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علىّ فأعلماه.
فأرسل علىّ إلى الأشتر، وأمره بالسرعة، وقال: «إذا
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 564 ووقعه صفين ص 170 «قطع» .
[2] زيادة من ابن جرير الطبرى ونصر بن مزاحم.
[3] بلد على الفرات من جهة بغداد.
[4] بلد على نهر الخابور بينه وبين الفرات.(20/103)
قدمت فأنت عليهم، وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك، حتّى تلقاهم فتدعوهم، وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زيادا، وعلى ميسرتك شريحا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد تباعد من يهاب البأس، حتّى أقدم عليك، فإنّى حثيث السّير فى أثرك إن شاء الله تعالى» . وكتب إلى شريح وزياد بذلك، وأمرهما بطاعة الأشتر..
فسار الأشتر حتّى قدم عليهم، وكفّ عن القتال، ولم بزالوا متوقفين حتّى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور، فثبتوا له واضطربوا ساعة، ثمّ انصرف أهل الشام، وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم، وصبر بعضهم لبعض، ثمّ انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، وقال أرونى أبا الأعور! فتراجعوا، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذى كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر فصفّ أصحابه مكان أصحاب أبى الأعور بالأمس، وقال الأشتر لسنان بن مالك النّخعىّ: انطلق إلى أبى الأعور فادعه إلى البراز. فقال: إلى مبارزتى أو مبارزتك؟ فقال:
للأشتر لو أمرتك بمبارزته لفعلت. قال: «نعم والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفى لفعلت. فدعا له، وقال: إنّما تدعو لمبارزتى. فخرج إليهم فقال: أمّنونى فإنّى رسول. فأمّنوه، فانتهى إلى أبى الأعور فقال له: إنّ الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه.
فسكت طويلا، ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمّال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه، وعلى أن سار إليه(20/104)
فى داره حتّى قتله وأصبح متّبعا بدمه، لا حاجة لى فى مبارزته. فقال له سنان: قد قلت فاستمع منّى أجبك. قال: لا حاجة لى فى جوابك، اذهب عنّى. فصاح به أصحابه، فانصرف عنه، ورجع إلى الأشتر فأخبره، فقال: لنفسه نظر. فوقفوا حتّى حجز اللّيل بينهم وعاد، الشاميّون من الليل [1] .
وأصبح علىّ رضى الله عنه غدوة عند الأشتر، وتقدّم الأشتر ومن معه [2] فانتهى إلى معاوية، فواقفه، ولحق بهم علىّ، فتواقفوا طويلا.
ثم إنّ عليّا طلب لعسكره موضعا ينزل فيه، فكان معاوية قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح [3] ، أخذ شريعة [4] الفرات، وليس فى ذلك الموضع شريعة غيرها، وجعل معاوية على الشّريعة أبا الأعور.
فأتى الناس عليّا، فأخبروه بفعلهم، وتعطّش الناس، فدعا صعصعة بن صوحان، فأرسله إلى معاوية يقول: «إنّا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فقدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، [وبدأتنا بالقتال] [5] ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس
__________
[1] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 566: «انصرفوا من تحت ليلتهم» .
[2] فى تلك المقدمة.
[3] كل موضع واسع يقال له «أفيح» .
[4] الشريعة: مورد الناس أو الحيوان على الماء الجارى.
[5] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 3 ص 568.(20/105)
من الماء، والناس غير منتهين [أو يشربوا] [1] ، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا» . فجاء صعصعة إلى معاوية وقصّ عليه الرسالة، فاستشار معاوية أصحابه وقال: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة وعبد الله [2] بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان، اقتلهم عطشا قتلهم الله! فقال عمرو بن العاص: «خلّ بين القوم وبين الماء فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن بغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم» . فأعاد الوليد وابن سعد مقالتهما، قالا: «امنعهم الماء إلى الليل، فإن هم لم يقدروا عليه رجعوا، وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! قال صعصعة: إنّما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق (يعنى الوليد ابن عقبة) . فشتموه وتهدّدوه. (وقد قيل: إنّ الوليد وابن أبى سرح لم يشهدا صفّين.)
ورجع صعصعة فأخبر بما كان ... وسيّر معاوية الخيل إلى أبى الأعور ليمنعهم الماء. فلمّا سمع علىّ ذلك قال لأصحابه:
قاتلوهم على الماء!.
فقال الأشعث بن قيس الكندىّ: أنا أسير إليهم. فسار
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير، و «أو» بمعنى «إلى» أو «إلا» .
[2] هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح بن الحارث بن حبيب القرشى العامرى. وكان أخا عثمان من الرضاعة، وسيذكره المؤلف قريبا بلفظ «ابن أبى سرح» ، وانظر الإصابة ج 2 ص 316- 317.(20/106)
إليهم، فلما دنوا منهم ثاروا إلى وجوههم يرمونهم بالنّبل، فتراموا ساعة، ثم تطاعنوا بالرّماح، ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا [بها] [1] ساعة.
وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلىّ القسرى (جدّ خالد بن عبد الله فى الخيل إلى أبى الاعور، فاقتتلوا ... وأرسل علىّ شبث بن ربعىّ الرياحى، فازداد القتال.
فأرسل معاوية عمرو بن العاص فى جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور [ويزيد بن أسد] [2] .. وأرسل علىّ الأشتر فى جمع عظيم وجعل يمدّ الأشعث وشبثا..
فاشتدّ القتال حتى خلّوا بينهم وبين الماء، وصار فى أيدى أصحاب علىّ، فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام، فأرسل علىّ إلى أصحابه أن خذوا من الماء حاجتكم، وخلّوا عنهم، فإن الله تعالى نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم.
ومكث علىّ رضى الله عنه يومين لا يرسل إليهم أحدا ولا يأتيه منهم أحد.
__________
[1] الزيادة من ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 3 ص 567.
[2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 145.(20/107)
ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه [1]
قال: ثمّ دعا علىّ رضى الله عنه أبا عمرة بشير بن عمرو بن محصن الأنصارى وسعيد بن قيس الهمدانى وشبث بن ربعىّ التميمى، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله تعالى وإلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث يا أمير المؤمنين ألا نطمعه فى سلطان توليه إيّاه ومنزلة يكون له بها عندك أثرة إن هو بايعك؟ قال انطلقوا إليه واحتجّوا عليه وانظروا ما رأيه. وكان ذلك أوّل ذى الحجة من سنة ست وثلاثين.
فأتوه فدخلوا عليه، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصارىّ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإنى أنشدك الله أن لا تفرّق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها» .
فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال «صاحبى ليس مثلك، إنّ صاحبى أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر فى الفضل والدّين والسابقة فى الاسلام والقرابة بالرسول [2] صلّى الله عليه وسلم» قال: فماذا تقول [3] ؟ قال نأمرك [4] بتقوى الله وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعو إليه من الحق فإنّه أسلم لك فى دنياك وخير لك فى عاقبة أمرك. قال معاوية: «ونترك دم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبدا!» قال: فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن
__________
[1] زاد بعده فى المخطوطة: «وأيام صفين الستة» ، وسيأتى ذكر هذه الأيام الستة فى غير هذا الفصل.
[2] فى تاريخ ابن جرير ج 3 ص 571: «من الرسول» .
[3] فى الكامل ج 3 ص 146: «يقول» .
[4] فى الكامل: «يأمرك» .(20/108)
ربعىّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معاوية، قد فهمت ما رددت على ابن محصن، وإنّه والله لا يخفى علينا ما تطلب، إنك لم تجد شيئا تستغوى به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أنك أبطأت عليه بالنصر [1] ، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التى أصبحت تطلب، وربّ متمنّى أمر وطالبه يحول الله دونه، وربما أوتى المتمنى أمنيته وفوق أمنيّته، وو الله مالك فى واحدة منها خير، والله إن أخطاك ما ترجو إنّك لشرّ العرب حالا، وإن أصبت ما تتمنّاه لا تصيبه حتّى تستحقّ من ربّك صلّى النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله» .
قال: محمد الله معاوية، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ أوّل ما عرفت به سفهك وخفّة حلمك أنّك قطعت على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثمّ اعترضت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولؤمت أيّها الأعرابىّ الجلف الجافى فى كلّ ما ذكرت ووصفت!.
انصرفوا من عندى فليس بينى وبينكم إلّا السّيف!» وغضب، وخرج القوم، فقال له شبث [2] «أتهول بالسّيف؟ أقسم بالله لنعجّلنّها إليك!» .
فأتوا عليّا رضى الله عنه فأخبروه بذلك. فكان علىّ يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه، ويخرج إليه آخر
__________
[1] أى: عثمان.
[2] أى: قال له وهو خارج، وعبارة ابن جرير الطبرى: «وخرج القوم وشبث يقول» ، وكذلك قال ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 211.(20/109)
من أصحاب معاوية ومعه جماعة، فيقتتلان فى خيلهما، ثمّ ينصرفان.
وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام خشية الاستئصال والهلاك.
فكان علىّ يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدىّ الكندى، ومرة شبث بن ربعىّ، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النّضر الحارثى، ومرّة زياد بن خصفة التّيمىّ، ومرّة سعيد بن قيس الهمدانى، ومرّة معقل بن قيس الرّياحى، ومرّة قيس بن سعيد الأنصارى. وكان الأشتر أكثر خروجا.
وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبا الأعور السّلمى، وحبيب بن مسلمة الفهرى، وابن ذى الكلاع [1] الحميرى، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السّمط الكندى، وحمزة بن مالك الهمدانى.
فاقتتلوا أيّام ذى الحجّة كلّها، وربّما اقتتلوا فى اليوم الواحد مرّتين.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة هنا مثل ما فى تاريخى ابن جرير وابن الأثير، وكان الأولى أن يقولوا: «وذا الكلاع» لأنه هو نفسه «ذو الكلاع الأصغر» الذى كان فى هذا العهد، فلا موجب لنسبته إلى جده الأكبر، وقد ذكره لفظ «ذى الكلاع» بن عبد البر وابن حجر وكثير من علماء الحديث، وسيذكره المؤلف أيضا بلفظ «ذى الكلاع» لابن جرير وابن كثير هنا لك. واسمه: «أسميفع» وقد يختصر فيقال «سميفع» أو «أيفع» ابن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذى الكلاع الأكبر، وكان ذو الكلاع الأصغر رئيسا فى قومه، وقد أسلم فكتب إليه النبى صلى الله عليه وسلم بالتعاون على مسيلمة الكذاب وغيره، وكان يكنى «أبا شرحبيل» أو «أبا شراحيل» .(20/110)
ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم وما كان بينهما من المراسلة والأجوبة فى الشهر
قال: وفى شهر المحرم سنة سبع وثلاثين جرت موادعة [1] بين علىّ رضى الله عنه ومعاوية بن أبى سفيان، توادعا على ترك الحرب بينهما حتّى ينقضى الشهر، طمعا فى الصلح.. واختلفت فيه بينهما الرسائل.
فبعث على رضى الله عنه عدىّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبى وشبث بن ربعىّ وزياد بن خصفة.
فتكلّم عدىّ بن حاتم، فحمد الله، فقال: «أمّا بعد، فقد جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمّتنا، ويحقن [2] به الدماء، ويصلح [3] به ذات البين، إنّ ابن عمّك سيّد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها فى الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصيبك [4] وأصحابك مثل يوم الجمل» . فقال له معاوية: «كأنك جئت مهدّدا لم تأت مصلحا، هيهات يا عدىّ، كلّا! والله إنّى لابن حرب [5] ،
__________
[1] أى: مسالمة على ترك الحرب فى المدة المذكورة.
[2] فى النسخة (ك) : «ونحقق» .
[3] فى النسخة (ن) : «ونصلح» .
[4] فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «لا يصبك» .
[5] معاوية هو ابن أبى سفيان صخر بن حرب، فاسم جده «حرب» ، ولا تخفى مناسبة ذكره لحال الحرب.(20/111)
ما يقعقع لى بالشّنان [1] ! وإنّك والله لمن المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإنى لأرجو أن تكون ممّن يقتله الله به» .
فقال شبث وزياد بن خصفة جوابا واحدا: أتيناك فيما يصلحنا وإيّاك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال [2] ، دع ما لا ينفع، وأجبنا فيما يعمّ نفعه.
وقال يزيد بن قيس: إنّا لم نأت إلّا لنبلّغك ما أرسلنا به إليك ونؤدّى عنك ما سمعنا منك، ولم نخدع أن ننصح لك، وأن نذكر ما تكون به الحجّة عليك، ويرجع إلى الألفة والجماعة، إنّ صاحبنا من قد عرف المسلمون فضيله، ولا يخفى عليك، فاتّق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنّا والله ما رأينا فى الناس رجلا قطّ أعمل بالتقوى ولا أزهد فى الدّنيا ولا أجمع لخصال الخير كلّها منه» .
فحمد الله معاوية، ثم قال: أمّا بعد، فإنّكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأمّا الجماعة التّى دعوتم إليها فنعمّاهى [3] ، وأمّا الطاعة
__________
[1] (يضرب المثل) «ما يقعقع له بالشنان» لمن لا يتضع لحوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له. والقعقعة: تحريك الشىء يسمع له صوت، والشنان: جمع شن، وهى القربة البالية، وأصل المثل أنهم كانوا إذا أرادوا حث الإبل على السير حركوا قربة بالية يسمع لها صوت فتفزع الإبل وتسرع، قال النابغة:
كأنك من جمال بنى أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
وقد تمثل بهذا المثل- بعد معاوية- الحجاج الثقفى فى خطبة مشهورة، انظر الكامل للمبرد شرحه رغبة الآمل ج 4 ص 76، 87.
[2] سبق ذكر المثل «ما يقعقع لى بالشنان» ، وروى ابن جرير فى آخر كلام معاوية تمثله بمثل ثان هو «قد حلبت بالساعد الأشد» أى أخذت بالقوة إذ لم يتأت الرفق.
[3] كذا جاء فى وقعة صفين ص 223 وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 344. وجاء فى المخطوطة: «فمعنا هى» .(20/112)
لصاحبكم فإنّا لا نراها، لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا، وفرّق جماعتنا، وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنّه لم يقتله، فنحن لا نردّ عليه ذلك، فليدفع إلينا قتلة صاحبنا لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال شبث بن ربعىّ: يا معاوية أيسرّك أن تقتل عمّارا؟ قال «وما يمنعنى من ذلك؟ والله لو تمكّنت من ابن سميّة لقتلته بمولى عثمان [1] !» فقال شبث: «والذى لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتّى تندر الهام [2] عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك!» فقال معاوية: «لو كان كذلك لكانت عليك أضيق!» . وتفرّق القوم.
وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة، فخلا به، وقال له: «يا أخا ربيعة، إنّ عليّا قطع أرحامنا، وقتل إمامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإنّى أسألك النصر عليه بعشيرتك، ثم لك عهد الله وميثاقه أن أولّيك إذا ظهرت [3] أىّ المصرين أحببت» . فقال زياد: «أمّا بعد، فإنى على بيّنة من ربّى، وبما [4] أنعم الله علىّ فلن أكون ظهيرا [5] للمجرمين!» وقام فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلّم رجلا منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلّا كقلب واحد!.
__________
[1] فى رواية ابن أبى الحديد: «كنت أقتله بنائل مولى عثمان» .
[2] تندر الهام: تسقط الرءوس.
[3] ظهرت: غلبت.
[4] كذا جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 3 ووقعة صفين ص 224، وقد جاء فى القرآن الكريم قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ
وجاء فى المخطوطة: «وما» .
[5] ظهيرا: عونا.(20/113)
وبعث معاوية إلى علىّ حبيب بن مسلمة الفهرىّ وشرحبيل بن السّمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد فإنّ عثمان كان خليفة مهديّا، يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّونه من أجمعوا عليه» . فقال له علىّ رضى الله عنه: «ما أنت- لا أمّ لك- والعزل وهذا الأمر [1] ؟ اسكت! لست هنالك ولا بأهل له» . فقال؛: والله لترينّى بحيث تكره! فقال على: «وما أنت؟
لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوّب وصعّد ما بدالك!» وقال شرحبيل؛ «ما كلامى إلّا مثل كلام صاحبى، فهل عندك جواب غير هذا!» فقال علىّ نعم [2] ، عندى جواب غيره:.
ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: (أمّا بعد، فإنّ الله تعالى بعث محمدا بالحق، فأنقذ به من الضلالة والهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه، فاستخلف الناس أبا بكر، [ثم] [3] استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا [فى الأمة] [4] ، وقد وجدنا عليهما أن
__________
[1] أصل العبارة عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 345: «ما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول فى هذا الأمر» .
[2] كذا جاء فى رواية ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 4 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 345، وهذا هو الظاهر المناسب لما بعده، وجاء فى المخطوطة:
«ليس» .
[3] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وفى المخطوطة: «و» .
[4] الزيادة من ابن جرير الطبرى وابن أبى الحديد وابن مزاحم فى وقعة صفين ص 226.(20/114)
تولّيا الأمور [دوننا] [1] ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفرنا لهما ذلك، وولى الناس عثمان، فعمل بأشياء عابها الناس، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتانى الناس [وأنا معتزل أمورهم] [2] ، فقالوا لى: بايع. فأبيت، فقالوا: بايع فإنّ الأمّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إن لم تفعل أن يتفرّق الناس. فبايعتهم، فلم يرعنى إلّا شقاق رجلين قد بايعانى! وخلاف معاوية الذى لم يجعل [الله عزّ وجلّ له] [3] سابقة فى الدّين، ولا سلف صدق فى الإسلام، طليق ابن طليق، وحزب [4] من الأحزاب، لم يزل حربا لله ولرسوله هو وأبوه حتّى دخلا فى الإسلام كارهين، ولا عجب إلّا من خلافكم [5] معه، وانقيادكم له، وتتركون آل بيت [6] نبيّكم الذين لا ينبغى لكم شقاقهم ولا خلافهم، ألا إنّى أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم وللمؤمنين» .
فقالا: تشهد أنّ عثمان قتل مظلوما. قال: لا أقول «إنّه قتل ظالما أو مظلوما» . قالا: من لم يزعم أنه قتل مظلوما فنحن منه براء. وانصرفا فقال علىّ رضى الله عنه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ
__________
[1] الزيادة من ابن أبى الحديد.
[2] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد.
[3] الزيادة من ابن جرير وابن أبى الحديد.
[4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد، وجاء فى المخطوطة: «حزبا» .
[5] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب ل «خلافهم» الآتى بعده، وفى المخطوطة اختلافكم» .
[6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وجاء فى تاريخ ابن جرير «آل نبيكم»(20/115)
عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
[1] .
ثمّ قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء فى الجدّ فى ضلالهم أجدّ منكم فى الجدّ فى حقّكم.
قال: ولما انسلخ شهر الله المحرّم وانقضت مدّة الموادعة أمر علىّ رضى الله عنه مناديا فنادى [2] : «يا أهل الشام، يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن الطّغيان، ولم تجيبوا إلى الحقّ، وإنى قد نبذت إليكم على سواء [3] ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين» .
قال: واجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتّبان الكتائب [4] ويعبئان الناس، وكذلك فعل علىّ رضى الله عنه.
وقال علىّ للناس: لا تقاتلوهم حتّى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجّة، وترككم قتالهم [حتّى يبدءوكم] [5] حجّة أخرى
__________
[1] الآيتان 80، 81 من سورة النمل.
[2] ذكر نصر بن مزاحم وابن أبى الحديد أن المنادى مرثد بن الحارث الجشمى.
[3] أى إنى قد طرحت إليكم عهدكم مستو أنا وأنتم فى العلم بإنهاء الموادعة التى كانت بينى وبينكم، يريد أنه لم يغدر بهم فيقاتلهم بغتة، بل أعلمهم بنبذ الموادعة، ليكون الطرفان على سواء فى العلم بذلك والاستعداد للخطوة التالية، وهذا مأخوذ من الآية 58 فى سورة الأنفال: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ.
[4] الكتائب: جمع كتيبة، وهى القطعة من الجيش، وتكتيب الكتائب إعدادها.
[5] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى، وهى فى نهج البلاغة مع شرحه لابن أبى الحديد ج 3 ص 417، وقد ذكرها ابن مزاحم فى وقعة صفين ص 230.(20/116)
فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح [1] ، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل [2] ، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا [إلّا بإذن] [3] ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم [إلّا ما وجدتم فى عسكرهم] [4] ، ولا تهيجوا امرأة [بأذى] [5] ، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّهنّ ضعاف القوى، والأنفس [6] .
وحرّض أصحابه فقال رضى الله عنه: عباد الله، اتّقوا الله، وغضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة [7] والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
[8] وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [9]
اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.
__________
[1] فى النهاية: «حديث على رضى الله عنه: لا يجهز على جريحهم. أى من صرع منهم وكفى قتاله لا يقتل، لأنهم مسلمون، والقصد من قتالهم دفع شرهم، فإذا لم يمكن ذلك إلا بقتلهم قتلوا» .
[2] «مثل» بفتح الثاء مع تشديدها أو تركه، يقال: مثل بالقتيل، إذا قطع شيئا من أطرافه.
[3] ، (4) ، (5) الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى.
[6] فى الكامل ج 3 ص 149 بعد هذا.
«وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه فى كل موطن» .. وأصل ذلك ما رواه نصر بن مزاحم عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا كان يأمرنا فى كل موطن لقينا معه عدوه ... الخ انظر وقعة صفين ص 229- 230 وابن أبى الحديد ج 1 ص 345.
[7] كذا جاء فى المخطوطة والكامل ج 3 ص 150 وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 7 وشرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «والمبارزة» .
[8] من الآية 45 فى سورة الأنفال.
[9] من الآية 46 فى سورة الأنفال.(20/117)
وأصبح علىّ رضى الله عنه فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى خيل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجّالة الكوفة عمّار بن ياسر، وعلى رجّالة البصرة قيس بن سعد بن عبادة، وهاشم بن عتبة بن أبى وقّاص المعروف بالمرقال [1] وجعل معه الراية، وجعل مسعر بن فدكىّ على قرّاء أهل الكوفة وأهل البصرة [2] .
وبعث معاوية على ميمنته ابن ذى الكلاع الحميرىّ [3] ، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهّرىّ، وعلى مقدّمته أبا الأعور السّلمى و [كان] على خيل دمشق، [و] [4] عمرو بن العاص [على خيول الشام كلها] [4] وعلى رجّالة دمشق [4] مسلم بن عقبة المرى، وعلى [رجّالة] [5] الناس كلهم الضحاك بن قيس.. وبايع [6] رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكانوا خمسة صفوف.
والتقوا أوّل يوم من صفر سنة سبع وثلاثين، وكان الذى خرج فى هذا اليوم الأشتر على أهل الكوفة، وحبيب بن مسلمة على أهل
__________
[1] فى القاموس: والمرقال هاشم بن عتبة، لأن عليا رضى الله عنه أعطاه الراية بصفين فكان يرقل بها (أى: يسرع) ، وقال ابن جرير فى تاريخ ج 4 ص 31 هاشم يدعى المرقال لأنه كان يرقل فى الحرب.
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير: «على قراء الكوفة وأهل البصرة» ، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى: «على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر» .
[3] انظر ما سبق، وفى شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 346 «ذا الكلاع الحميرى»
[4] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى.
[5] فى المخطوطة: «وعلى رجالتها» ، وصرح ابن جرير ب «دمشق» .
[6] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وتبايع» ، والذى هناك «وقعة صفين» ص 239.(20/118)
الشام، فاقتتلوا عامّة النهار، ثمّ تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض.
ثمّ خرج فى اليوم الثانى هاشم بن عتبة فى خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السّلمى، فاقتتلوا يومهم ذلك، ثمّ انصرفوا.
وخرج فى اليوم الثالث عمّار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشدّ قتال، وقال عمّار لزياد بن النّضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النّضر أخاه لأمّه [1] واسمه: عمرو بن [2] معاوية من بنى المنتفق، فلمّا التقيا تعارفا، فانصرف كلّ واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس وخرج من الغد فى اليوم الرابع محمد بن علىّ، هو «ابن الحنفيّة» وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، فى جمعين عظيمين، فاقتتلوا أشدّ القتال، وأرسل عبيد الله إلى محمد يدعوه للمبارزة، فخرج إليه، فحرّك علىّ دابّته، وردّ ابنه، وبرز علىّ إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وتراجع الناس [3] .
وخرج فى اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس، خرج إليه الوليد
__________
[1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 347: «وأمهما هند الزبيدية» .
[2] فى (وقعة صفين) ص 241 «يقال له معاوية بن عمرو العقيلى» .
[3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 480 وغيره: «فقال ابن الحنفية: يا أبت لم منعتنى من مبارزته فو الله لو تركتنى لرجوت أن أقتله. قال على رضى الله عنه: يا بنى لو بارزته أنا لقتلته، ولو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك» .(20/119)
لبن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وطلب ابن عبّاس الوليد ليبارزه فأبى، ثم انصرفا.
[وخرج فى اليوم السادس قيس بن سعد الأنصارى وخرج إليه ابن ذى الكلاع الحميرىّ، فاقتتلوا قتالا شديد، ثم انصرفوا.] [1]
قال [2] : ثم عاد الأشتر يوم الثلاثاء [3] ، وخرج إليه حبيب، فاقتتلا قتالا شديدا، وانصرفا عند الظهر.
ثم إنّ عليّا رضى الله عنه قال: حتّى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام فى الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذى لا يبرم ما نقض، وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه، ولا اختلفت الأمّة فى شىء، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فنحن بمرأى من ربّنا ومسمع، فلو شاء عجّل النّقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الظالم، ويعلم المحقّ [4] أين مصيره، ولكنّه جعل الدّنيا دار الأعمال [5] ، وجعل الآخرة دار القرار، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
[6] ، ألا وإنكم لاقو القوم غدا،
__________
[1] الزيادة من الكامل ج 3 ص 150.
[2] ابن الأثير فى الكامل.
[3] قال ابن جرير «اليوم السابع» ثم قال: «وذلك يوم الثلاثاء» .
[4] كذا جاء عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 481، وجاء فى المخطوطة «الحق» .
[5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «الأغمار» .
[6] من الآية 31 من سورة النجم.(20/120)
فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله النصر والصبر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين.
فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كعب بن جعيل [1] فقال:
أصبحت الأمّة فى أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا صادقا غير كذب: ... إنّ غدا تهلك أعلام العرب!
ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة فى يومى الأربعاء والخميس وليلة الهرير ويوم الجمعة إلى أن رفعت المصاحف وتقرّر أمر الحكمين.
قال [2] : وعبّأ علىّ رضى الله عنه الناس ليلته حتّى الصباح، وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية فى أهل الشام، فسأل علىّ عن القبائل من أهل الشام، فعرف مواقفهم، فقال للأزرد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، إلّا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة، لم يكن بالشام منها أحد إلّا القليل، فصرفهم إلى لخم.
فتناهض الناس يوم الأربعاء [3] ، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب.
__________
[1] قال ابن أبى الحديد: وبات كعب بن جعيل التغلبى شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز وينشد ... الخ، والرجز هناك أكثر مما هنا. انظر وقعة صفين ص 253.
[2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 151.
[3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 483: «يوم الأربعاء سادس صفر» .(20/121)
فلمّا كان يوم الخميس صلّى علىّ بغلس، وخرج بالناس إلى أهل الشام، وجعل علىّ رضى الله عنه على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ (وله صحبة [1] ، وكان ممّن أسلم يوم الفتح، وقيل:
قبله) ، وجعل على ميسرته عبد الله بن عبّاس، والقرّاء مع ثلاثة نفر: عمّار بن ياسر وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلىّ رضى الله عنه فى القلب فى أهل المدينة بين أهل الكوفة والبصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة.
وزحف علىّ رضى الله عنه بهم إلى أهل الشام، ورفع معاوية قبّة عظيمة، وألقى عليها الثياب، وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبّته خيل دمشق، وزحف عبد الله بن بديل فى الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو فى الميسرة، فلم يزل يحوزهم [2] ويكشف خيلهم حتّى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظّهر.
وحرّض عبد الله بن بديل أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبىّ عليه الصلاة والسلام: ألا إنّ معاوية ادّعى ما ليس له، ونازع الحقّ أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، وصال عليكم، بالأعراب والأحزاب الذين زيّن لهم الضّلالة، وزرع فى قلوبهم حبّ الفتنة، ولبّس عليهم الأمر، وزادهم رجسا إلى رجسهم، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين،
__________
[1] انظر الاستيعاب ج 2 ص 268 والإصابة ج 2 ص 280. وجمهرة أنساب العرب ص 227.
[2] يحوزهم: يجمعهم ويسوقهم.(20/122)
فقاتلوا الطّغاة الجفاة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
[1] ، قاتلوا الفئة الباغية الّذين نازعوا الأمر أهله، وقد قاتلتموهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما هم فى هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ، قوموا إلى عدو الله وعدوّكم رحمكم الله [2] .
وقال الشّعبى [3] : كان عبد الله بن بديل رحمه الله فى صفّين عليه درعان وسيفان، وكان يضرب أهل الشام ويقول:
لم يبق إلا الصبر والتوكل ... مع التمشى فى الرعيل الأول
مشى الجمال فى حياض المنهل ... والله يقضى ما يشاء ويفعل [4]
ولم يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية فأزاله عن موقفه وأزال أصحابه الذين كانوا معه. (وسنذكر خبر مقتله فى هذا اليوم فى موضعه إن شاء الله تعالى) .
قال: وحرّض علىّ رضى الله عنه أصحابه، فقال رضى الله عنه فى كلام له: فسوّوا [5] صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدّموا
__________
[1] الآية 14 من سورة التوبة.
[2] اعتمد المؤلف فى نقل هذه الخطبة على كتاب الاستيعاب ج 2 ص 270.
[3] انظر الاستيعاب والإصابة ج 2 ص 281.
[4] روى ابن أبى الحديد ج 1 ص 486 هذا الرجز هكذا:
لم يبق غير الصبر والتوكل ... والترس والرمح وسيف مصقل
ثم التمشى فى الرعيل الأول ... مشى الجمال فى حياض المنهل
فتجىء القافية مكسورة اللام. وما هنا مثل (وقعة صفين) ص 276.
[5] ذكر على قيل ذلك قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
الآية 4 من سورة الصف، انظر ابن أبى الحديد ج 1 ص 3704.(20/123)
الدّارع [1] ، وأخروا الحاسر [2] ، وعضّوا على الأضراس [3] ، فإنّه أنبى [4] للسّيوف عن الهام، والتووا فى أطراف الرّماح، فإنّه أمور [5] للأسنّة [6] ، وغضّوا الأبصار، فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدى شجعانكم واستعينوا بالصدق والصبر، فإن [7] بعد الصبر ينزل النصر.
قال: وقام يزيد بن قيس الأرحبىّ يحرّض الناس، فقال: إنّ المسلم من سلم فى دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله ما يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونو جبّارين فيها ملوكا، فلو ظهروا عليكم- لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا- لرموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السّفيه الضّالّ، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده فى مجلسه، ثم يقول: «هذا لى ولا إثم علىّ» ، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه، وإنما هو مال الله أفاءه [8] الله علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا
__________
[1] الدارع: لابس الدرع.
[2] الحاسر: الذى لا درع عليه ولا مغفر.
[3] قال ابن أبى الحديد: يجوز أن يريد أمرهم بالحنق والجد، ويجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ ورباطاته.
[4] نبا السيف عن الرأس: كل ولم يحك فيه.
[5] كذا ورد منصوصا عليه فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 267 ووقع فى المخطوطة وغيرها (أصون) .
[6] قال ابن أبى الحديد: أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا، لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحرى أن يمور السنان، أى يتحرك عن موضع الطعنة فيخرج زالقا، وإذا لم يلتووا لم يمر السنان ولم يتحرك عن موضعه فيخرق وينفذ فيقتل.
[7] كذا جاء فى المخطوطة، ولعله «فإنه» .
[8] أفاءه الله علينا: رده علينا وجعله لنا من أموال من خالف دينه.(20/124)
عباد الله القوم الظالمين، فإنّهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وخبرتم، والله ما ازدادوا إلى يومهم إلّا شرّا [1] .
قال: ولما انتهى عبد الله بن بديل بمن معه إلى قبّة معاوية؛ أقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل فى الميمنة، وبعث الى حبيب بن مسلمة فحمل بالميسرة على ميمنة علىّ فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتّى لم يبق إلّا ابن بديل فى مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء، قد استند بعضهم إلى بعض، وانجفل [2] الناس.
وأمر علىّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من اهل المدينة، فاستقبلتهم جموع عظيمة لأهل الشام فاحتملتهم حتّى أوقفتهم فى الميمنة، وكان أهل اليمن فيما بين الميمنة إلى موقف علىّ فى القلب، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علىّ رضى الله عنه، فانصرف يمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة، ودنا أهل الشام منه فما زاده قربهم إلا إسراعا وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علىّ رضى الله عنه معه، والنّبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه [3] ، وما من بنيه أحد إلّا يقيه بنفسه، فبصر به أحمر مولى أبى سفيان أو عثمان، فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علىّ فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر، فأخذ علىّ
__________
[1] عند ابن أبى الحديد ج 2 ص 485: «والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا» .
[2] انجفل الناس: انقلعوا وأسرعوا فى الهزيمة.
[3] عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «بين عاتقيه ومنكبيه» .(20/125)
بجنب [1] درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه.
قال: ولما دنا منه أهل الشام قال له الحسن رضى الله عنه: ما ضرّك لو سعيت حتّى تنتهى إلى هؤلاء القوم من أصحابك؟ فقال: يا بنىّ إنّ لأبيك يوما لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السّعى، ولا يعجّل به إليه المشى، إنّ أباك والله لا يبالى أوقع على الموت أم وقع الموت عليه! قال: ولما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها، فصبّرهم وثبّت أقدامهم ... وقال لحضين [2] بن المنذر: يا فتى ألا تدنى رايتك هذه ذراعا؟ قال؛ والله عشرة أذرع. فأدناها حتّى قال علىّ رضى الله عنه: حسبك مكانك.
قال ولمّا انتهى علىّ إلى ربيعة تنادوا بينهم: إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حىّ افتضحتم فى العرب! فقاتلوا قتالا شديدا ما قاتلوا مثله، فلذلك قال على رضى الله عنه [3] :
لمن راية سوداء [4] يخفق ظلّها ... إذا قيل «قدّمها حضين» تقدّما
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 152: «بجيب» ، وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «فى جيب» .
[2] كذا جاء (حضين) بالنون عند الطبرى وابن الأثير وابن أبى الحديد وغيرهم، وجاء فى المخطوطة: «حضير» .
[3] قال ابن أبى الحديد: «أقبل الحضين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف برأيه ربيعة- وكانت حمراء- فأعجب عليا عليه السلام زحفه وثباته فقال: ... »
[4] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير والكامل للمبرد ومروج الذهب وجمهرة أنساب العرب ولسان العرب (ح ض ن) . وجاء فى شرح ابن أبى الحديد: «حمراء» .(20/126)
ويقدمها فى الموت حتّى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما
أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتّى تولّى وأحجما [1]
جز الله قوما صابروا فى لقائهم ... لدى الموت قوما [2] ما أعفّ وأكرما!
وأطيب أخبارا وأكرم شيمة [3] ... إذا كان أصوات الرّجال تغمغما [4]
ربيعة أعنى أهل بأس ونجدة ... إذا ماهمو لاقوا خميسا عرمرما [5]
قال: ومرّ الأشتر بعلىّ وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع [6] قبل الميمنة، فقال له علىّ: إيت هؤلاء القوم فقل لهم «أين فراركم من الموت الذى لن تعجزوه إلى الحياة التى لا تبقى لكم؟» .
فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم ما قال علىّ، ثم قال: «أيّها الناس أنا الأشتر، إلىّ أنا الأشتر» ، فأقبل
__________
[1] قيل: إن هذا البيت من أبيات لحضين بن المنذر نفسه صاحب الراية.
[2] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء فى شرح ابن أبى الحديد وكتب النحو- باب التعجب- وشواهده: «خيرا» ، وهناك تغير آخر فى البيت.
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل تاريخى الطبرى وابن الأثير. وجاء عند ابن أبى الحديد:
«وأحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى» .
[4] الغمغم: ما يحدث من الأصوات عند القتال.
[5] خميسا عرمرما: جيشا كثيرا، وسمى الجيش بالخميس لأنهم كانوا يقسمونه بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.
[6] الفزع يأتى فى العربية بمعنى الخوف والاستناثة والإغاثة.(20/127)
إليه بعضم وذهب البعض، فنادى: «أيّها الناس، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أخلصوا إلىّ مذحجا [1] » فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: «ما أرضيتم ربّكم، ولا نصحتم له فى عدوّكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب [2] ، وأصحاب الغارات، وفتيان الصياح، وفرسان الطّراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطّعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطلّ دماوهم، وما تفعلون [3] هذا اليوم فإنه مأثور عنكم بعده، فانصحوا واصدقوا عدوّكم اللقاء، فإن الله مع الصادقين، والذى نفسى بيده ما من هؤلاء- وأشار إلى أهل الشام- رجلّ على مثل جناح بعوضة من محمد [4] ، اجلوا سواد وجهى يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه!» . قالوا: تجدنا [5] حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم ممّا يلى الميمنة يزحف إليهم ويردّهم.
واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا فى الميمنة حتّى أصبب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسا: كان أوّلهم ذؤيب بن [6] شريح، ثم
__________
[1] كان الأشتر ينتسب إلى مذحج، ويقول فى رجزه فى حرب صفين:
إنى أنا الأشتر معروف الشتر ... إنى أنا الأفعى العرافى الذكر
لست ربيعيا ولست من مضر ... لكننى من مذحج الشم الترر
[2] جاء فى رواية ابن جرير: «الحروب» .
[3] جاء فى رواية ابن جرير «تفعلوا» فتكون (ما) قبلها شرطية جازمة.
[4] هكذا جاء فى المخطوطة كما فى تاريخ ابن جرير. وجاء فى الكامل لابن الأثير «من دين» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 487: «من دين الله» .
[5] عند ابن أبى الحديد: «خذبنا» .
[6] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى وابن أبى الحديد: «كريب» .(20/128)
شرحبيل، ثم مرثد، ثم هبيرة، ثم يريم، ثم سمير، أولاد شريح قتلوا [1] ، ثم أخذ الراية عميرة [2] ثم الحارث ابنا بشير [3] فقتلا، ثم أخذها سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعا [4] ، ثم أخذ الراية وهب بن كريب فانصرف هو وقومه وهم يقولون: «ليت لنا عدّتنا من العرب، يحالفوننا على الموت، ثمّ نرجع، فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر!» ، فسمعهم الأشتر فقال لهم: أنا أحالفكم لى ألّا نرجع أبدا حتّى نظفر أو نهلك جميعا! فوقفوا معه.
قال: وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلّا كشفها، ولا جمعا إلّا حازه وردّه، وقاتل قتالا شديدا، ولزمه الحارث بن جمهان [5] الجعفىّ، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتّى كشف أهل الشام، وألحقهم بمعاوية والصفّ الذى [6] معه، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل بن ورقاء وهو فى عصابة من القرّاء نحو المائتين أو الثلاثمائة قد لصقوا بالأرض كأنّهم
__________
[1] يعنى أن هؤلاء الرؤساء الستة كانوا إخوة أبناء شريح، وقد قتلوا فى هذه المعركة واحدا بعد واحد.
[2] كذا جاء فى المخطوطة كالكامل، وعند الطبرى: «عميم» .
[3] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير، وجاء فى المخطوطة: «بشر» .
[4] ذكر الطبرى قتل هؤلاء الإخوة الثلاثة قبل قتل عميرة والحارث، وما جاء هنا مثل ما ذكره ابن الأثير فى الكامل.
[5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (جهمان) ويأتى الاختلاف أيضا فيما سيجىء.
[6] كذا جاء فى (ك) ، وجاء فى (ن) : «الذين» .(20/129)
جثا [1] ، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم، فقالوا:
ما فعل أمير المؤمنين (قال: حىّ صالح فى الميسرة يقاتل الناس أمامه.
فقالوا: الحمد لله قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم. ثم قال عبد الله بن بديل رحمه الله [لأصحابه] [2] : استقدموا بنا. فقال له الأشتر:
«لا تفعل، واثبت مع الناس، فقاتل، فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك» ، فأبى، ومضى نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال، وخرج عبد الله أمام أصحابه فقتل من دنا منه، حتّى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتّى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين، فبعث الأشتر الحارث بن جمهان الجعفىّ، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله، حتّى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر.
وحكى أبو عمر ابن عبد البر عن الشعبى فى قتل عبد الله: أنّه لما انتهى إلى معاوية أزاله وأزال أصحابه عن مواقفهم، وكان مع معاوية يومئذ عبد الله بن عامر، فأقبل أصحاب معاوية على عبد الله بن بديل يرجمونه بالحجارة حتّى أثخنوه، وقتل، فأقبل معاوية وعبد الله بن عامر معه، فألقى عليه ابن عامر عمامته غطّى بها وجهه، وترحّم عليه [3] ، فقال معاوية: اكشفوا وجهه. فقال ابن عامر: والله لا تمثل [4] به وفىّ روح! فقال معاوية: اكشفوا عن وجهه فقد وهبناه لك. ففعلوا،
__________
[1] الجثا: جمع جثوة، بمعنى أتربة مجموعة.
[2] الزيادة من ابن جرير الطبرى.
[3] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 486: «وكان له من قبل أخا وصديقا» .
[4] فى الاستيعاب ج 2 ص 269: «بمثل» بالياء مبنيا للمجهول.(20/130)
فقال معاوية: هذا كبش [1] القوم ورب الكعبه، اللهم أظفر بالأشتر والأشعث بن قيس، والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر [2] :
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت يوما به [3] الحرب شمّرا
كليث هزبر كان يحمى ذماره ... رمته المنايا قصدها فتقطّرا
ثمّ قال معاوية: إنّ نساء خزاعة لو قدرت أن تقاتلنى فضلا عن رجالها لفعلت. انتهى كلام الشّعبى [4] .
قال: وزحف الأشتر لعكّ والأشعريّين، وقال لمذحج: اكفو ناعكّا.
ووقف فى همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعريّين. فاقتتلوا قتالا شديدا إلى المساء، وقاتلهم الأشتر فى همدان وطوائف من الناس، فما زال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقوهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقّلين بالعمائم.
__________
[1] يطلق العرب لفظ «الكبش» مجازا على قائد القوم ورئيسهم وحاميهم والمنظور إليه فيهم، قال عمرو بن معد يكرب:
نازلت كبشهمو ولم ... أو من نزال الكبش بدا
وقال عمرو بن الإطنابة: والضاربين الكبش يبرق بيضه ... الخ.
[2] هو حاتم طيىء، كما ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 16.
[3] عند ابن أبى الحديد: (وإن شمرت عن ساقها.....) .
[4] انظر روايته فى (وقعة صفين) ص- 276- 278.(20/131)
ودعا معاوية بفرسه فركبه، وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة [1] وكان جاهليا:
أبت لى عفّتى [2] وأبى بلائى ... وإقدامى على البطل المشيح [3]
وإعطائى على المكروه مالى [4] ... وأخذى الحمد بالثّمن الرّبيح
وقولى كلّما جشأت وجاشت [5] : ... مكانك تحمدى أو تستريحى [6]
__________
[1] ابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد مناة بن مالك الخزرجى الشاعر، والإطنابة:
أمه، وهى امرأة من بلقين كما قال ابن جرير الطبرى.
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 17 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 154 والأمالى للقالى ج 1 ص 258 والبداية والنهاية ج 7، ص- 264 والمزهر السيوطى ج 2 ص 197 ومجالس ثعلب ج 1 ص 83 ولباب الآداب ص 223، وجاء فى النسخة (أ) : «همتى» وجاء فى العقد الفريد ج 1 ص 104: «شيمتى» .
[3] قال العينى فى شواهده الكبرى ج 4 ص 415 والسيوطى فى شرح المعنى ص 186:
المشيح: المجد فى لأمر.
[4] كذا جاء فى المخطوطة كتاريخى ابن جرير وابن الأثير والبداية والنهاية ج 7 ص 265، وجاء فى أمالى القالى ومجالس ثعلب والمزهر: «وإعطائى على الإعدام مالى» ، وجاء فى الكامل للمبرد ج 2 ص 23: «وإجشامى على المكروه نفسى» وجاء فى العقد الفريد وشواهد العينى وشواهد السيوطى ولباب الآداب ولسان العرب (ش ى ح) : «وإقدامى على المكروه نفسى» .
[5]- هذه الرواية المشهورة، يريد بقوله (جشأت) نفسه، أى ارتفعت إليه من فزع وحزن، وجاشت أى خافت فهمت بالفرار. وقال البكرى فى شرح أمالى القالى ج 1 ص 574 575 من سمط الآلى: «وروى غير واحد: وقولى كلما جشأت لنفسى وهو أحسن» وهذه الرواية هى التى جاءت فى لسان العرب (ج ش أ) .
[6] «مكانك» اسم فعل بمعنى اثبتى، وقوله «تحمدى» مضارع على صيغة المجهول مجزوم لوقوعه فى جواب الطلب باسم الفعل، أى: اثبتى تحمدى، أو تستريحى. وفى مجالس ثعلب: «مكانك تعذرى، أو تستريحى» .(20/132)
قال [1] : فمنعنى هذا القول [2] من الفرار، ونظر إلى عمرو فقال له: «اليوم صبر، وغدا فخر» . فقال: صدقت.
قال [3] : وتقدم عقبة بن حديد النميرى [4] وهو يقول: «ألا إن مرعى الدّنيا أصبح هشيما [5] ، وشجرها حصيدا [6] ، وجديدها سملا [7] ، وحلوها مرّ المذاق، وإنى قد سئمت الدنيا، وإنّى أتمنى الشهادة وأتعرض لها فى كل جيش وغارة، فأبى الله إلا أن يبلغنى هذا اليوم، وإنّى متعرّض لها من ساعتى هذه، وقد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله! (فى كلام طويل) [8] ، وقال: يا إخوتى، قد بعت هذه الدار بالّتى أمامها، وهذا وجهى إليها! فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا:
لا نطلب رزق الدنيا بعدك! فقاتلوا حتى قتلوا، وهم من أصحاب علىّ.
وكان ممن قتل فى هذا اليوم من أصحاب علىّ أبو شداد قيس ابن المكشوح، واسم المكشوح [9] : هبيرة بن هلال (عند
__________
[1] أى معاوية.
[2] انظر رواية القالى لقول معاوية، وقد ذكر السيوطى فى شواهده ما قيل فى هذه الأبيات «أنها أجود ما قيل فى الصبر فى مواطن الحروب» وقد افتتح البحترى بها حماسته.
[3] ابن الأثير فى الكامل.
[4] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وعند ابن جرير: «النمرى» .
[5] هشيما: يابسا متكسرا.
[6] حصيدا: مقطوعا، وفى الكامل لابن الأثير: «خضيدا» .
[7] سملا: باليا.
[8] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 19.
[9] المكشوح لقب قيل له لأنه ضرب على كشحه، أو كوى عليه.(20/133)
أكثرهم) ، وكان قيس يومئذ صاحب راية بجيلة، وذلك أن بجيلة قالت له: يا أبا شداد خذ رايتنا اليوم. فقال: غيرى خير لكم.
قالوا: ما نريد غيرك. قال فو الله لئن [1] أعطيتمونيها لا أنتهى بكم دون صاحب الترس المذهب (وكان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب يستر به معاوية من الشمس) ، قالوا: اصنع ما شئت.
فأخذ الراية ثم زحف بها، فجعل يطاعنهم حتى انتهى إلى صاحب التّرس، وكان فى خيل عظيمة، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وشد أبو شداد على صاحب التّرس- وقيل: كان صاحب التّرس المذهب عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فاعترضه دونه مولّى رومىّ لمعاوية، فضرب قدم أبى شدّاد فقطعها، وضربه أبو شدّاد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتلوه، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسى، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل فى يده حتى تحاجز الناس.. وقتل غير هؤلاء ممن له صحبة.
قال: وخرجت حمير فى جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، وتقدمهم ذو الكلاع [2] ، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عبّاس، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبى ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله
__________
[1] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 18، وجاء فى الاصابة ج 3 ص 275 «إن» وجاء فى المخطوطة: «لو» .
[2] هو ذو الكلاع الأصغر، ومن أجداده ذو الكلاع الأكبر، والتعبير هنا ب «ذو الكلاع» أولى من التعبير ب «ابن ذى الكلاع» فيما سبق.(20/134)
ابن عمر وقال: يا أهل الشام، إن هذا الحى من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علىّ، فشدوا على الناس شدّة عظيمة، فثبتت ربيعة وصبرت صبرا حسنا إلّا قليلا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالا حسنا، ثم تراجع من انهزم من ربيعة، واشتد القتال حتّى كثرت القتلى، فقتل سمير بن الريان العجلىّ، وكان شديد البأس، وأتى زياد بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير، وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم! فقاتلوا معهم، فقتل ذو الكلاع الحميرى وعبيد الله بن عمر ابن الخطاب، وجرح عمّار بن ياسر فقال: «اللهمّ إنّك تعلم [أنّى] [1] لو أعلم أن رضاك فى أن أضع ظبة [2] سيفى فى بطنى ثم أنحنى عليها حتّى تخرج من ظهرى لفعلته! وإنّى لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته! والله إنّى لأرى قوما ليضربنّكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات [3] هجر لعلمت أننا على الحق وأنّهم على الباطل!» ثم قال: «من يبتغى رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد!» فأتاه عصابة فقال:
«اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب
__________
[1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.
[2] ظبة السيف: طرفه وحده.
[3] هكذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير والاستيعاب وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة والنهاية ولسان العرب، قال صاحب النهاية: «السعفات: جمع سعفة، بالتحريك وهى أغصان النخيل قيل: إذا يبست سميت سعفة وإذا كانت رطبة فهى شطبة وإنما خص هجر للمباعدة فى المسافة ولأنها موصوفة بكثرة النخيل (. وجاء فى النسخة (ن) : «شعاف» وفى النسخة (ك) : «شعاب» .(20/135)
بدمه، ولكنّهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها، وعلموا أنّ الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه منها، ولم تكن لهم سابقة [1] يستحقّون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، فبلغوا ما ترون، ولولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان، اللهمّ إن تنصرنا فطال ما نصرت، وإن جعلت لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا فى عبادك العذاب الأليم!» ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمرّ بواد من أودية صفّين إلّا تبعه من كان هناك من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم.
ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص- وهو المرقال- وكان صاحب راية علىّ رضى الله عنه، فقال: «يا هاشم، أعورا وجبنا؟
لا خير فى أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم» . فركب معه وهو يقول [2] .
أعور يبغى أهله محلّا ... قد عالج الحياة حتّى ملّا
لا بدّ أن يفلّ [3] أو يفلّا ... يتلّهم [4] بذى الكعوب [5] تلّا
وعمّار يقول: «تقدّم يا هاشم، الجنّة تحت ظلال السيوف،
__________
[1] فى تاريخ ابن جرير: «سابقة فى الإسلام» .
[2] انظر ابن أبى الحديد ج 2 ص 269 ففيه زيادة.
[3] يقل: يكسر.
[4] يتلهم: يصرعهم، هكذا جاء (يتلهم) بالباء عند وابن جرير وابن الأثير ولم ينقط الحرف الأول فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «نتلهم» بالنون.
[5] ذو الكعوب: الرمح.(20/136)
والموت [فى] [1] أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزيّنت الحور العين، اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه [2] !» وتقدّم حتّى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: «يا عمرو، بعت دينك بمصر! تبّا لك! تبّا لك!» فقال: لا ولكن أطلب دم عثمان. قال: «أشهد على علمى فيك إنّك لا تطلب بشىء من فعلك وجه الله، وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا، فانظر إذا أعطى الناس على نيّاتهم ما نيّتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرابعة ما هى بأبرّ ولا أتقى!» .
ثم قاتل عمّار فلم يرجع، وقتل، وقال قبل أن يقتل: إيتونى بآخر رزق لى من الدنيا! فأتى بضياح من لبن فى قدح،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية، وإنّ آخر رزقه ضياح من لبن»
(والضياح) ؛ الممزوج بالماء من اللبن [3] .
قال: وقتلة أبو الغاديه [4] ، واحتزّ رأسه ابن حوىّ [5]
__________
[1] الزيادة من ابن جرير، وجاء فى الكامل: «تحت» ، وسقطت الكلمة من المخطوطة.
[2] يكتب هذا فى بعض الكتب على أسلوب كتابة الشعر.
[3] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث عمار: إن آخر شربة تشربها ضياح، الضياح والضيح بالفتح: اللبن الخاثر يصب فيه الماء ثم يخلط، رواه يوم قتل بصفين وقد جئ بلبن يشربه» .
[4] أبو الغادية اسمه يسار بن سبع الجهنى.
[5] قال ابن حزم فى جمهرة أنساب العرب ص 405: «ولد السكسك بن أشرس بن كندة ثمانية عشر ذكرا، ولهم ثروة عظيمة بالشام، منهم حوى بن ماتع بن زرعة بن ينحض بن حبيب بن ثور بن خداش، من بنى عامر بن السكسك وهو قاتل عمار بن ياسر» .(20/137)
السّكسكىّ،
وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمّار «تقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن [1] »
. فكان ذو الكلاع يقول لعمرو:
ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول: إنّه يرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمّار مع معاوية، وأصيب عمّار بعده مع على، فقال عمرو لمعاوية: «والله ما أدرى بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحا: بقتل عمّار أو بقتل ذى الكلاع، والله لو بقى بعد قتل عمّار لمال بعامّة أهل الشّام إلى علىّ!» . فأتى جماعة إلى معاوية، كلّهم يقول: «أنا قتلت عمارا» ، فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوىّ فقال: أنا قتلته فسمعته يقول «اليوم ألقى الأحبّه، محمّدا وحزبه» . فقال له عمرو: أنت صاحبه. ثم قال «رويدا، والله ما ظفرت يداك [2] ، ولقد أسخطت ربّك!» .
وقيل: إنّ أبا الغادية قتل عمّارا وعاش إلى زمن الحجّاج، فدخل عليه، فأكرمه الحجّاج وقال: أنت قتلت ابن سميّة؟ (يعنى عمارا) قال: نعم. قال: من سرّه أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذى قتل ابن سميّة. ثم سأله أبو الغادية حاجة فلم يجبه إليها، فقال: نوطّىء لهم الدنيا ولا يصلونا منها
__________
[1] أما
قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمار «تقتلك الفئة الباغية»
فقد ورد فى الحديث الصحيح بروايات مختلفة عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة وأم سلمة عند مسلم والترمذى وغيرهما.. وأما «آخر شربة» فهو حديث رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 480 عن عبد الله بن سلمة، ونقله ابن أبى الحديد ج 2 ص 538 وانظر البداية والنهاية 7 ص 267.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى (ن) : «بذاك» .(20/138)
ويزعم أنّى عظيم الباع يوم القيامة! [فقال الحجّاج] [1] : أجل والله من كان ضرسه مثل أحد، وفخذه مثل جبل ورقان، ومجلسه مثل المدينة والرّبذة، لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أنّ عمّارا قتله أهل الأرض لدخلوا كلّهم النار!.
وقال أبو عبد الرحمن السلمى: لمّا قتل عمّار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا- وكنّا إذا تركنا القتال تحدّثوا إلينا وتحدثنا إليهم- فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله ابن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسى بينهم لئلّا يفوتنى ما يقولون، فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبت قتلتم هذا الرجل فى يومكم هذا وقد قال رسول الله ما قال! قال وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون فى بناء مسجد النبىّ صلى الله عليه وسلم لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين؟ فغشى عليه، فأتاه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول «ويحك يا ابن سميّة! الناس ينقلون لبنة لبنة، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة فى الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية!» . فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟
فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به! قال فخرج الناس من أخبيتهم وفساطيطهم يقولون [2] . إنّما قتله من جاء به. فلا أدرى من كان أعجب؟: أهو أم هم؟.
قال: ولمّا قتل عمار قال علىّ رضى الله عنه لربيعة: أنتم درعى ورمحى.
__________
[1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 158 حيث نقل المؤلف.
[2] كذا جاء فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «تقول» .(20/139)
فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدمهم علىّ على بغلة، فحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهوا إليه، حتّى بلغوا معاوية، فناداه علىّ: فقال علام يقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال عمرو: أنصفك. فقال معاوية لعمرو:
ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال عمرو ما يحسن بك ترك مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدى!.
قال [1] : وكان أصحاب على قد وكلوا به رجلين يحفظانه، لئلا يقاتل، فكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرّة فلم يرجع حتّى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال لولا أنّه انثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش [2] لأبى عبد الرحمن:
هذا والله ضرب غير مرتاب!.
قال [3] : وأما هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص فإنّه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلىّ. فأقبل إليه الناس، فحمل على أهل الشام مرارا، ويصبرون له، وقاتل قتالا شديدا، وقال لأصحابه: «لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم، فو الله ما هو إلّا حميّة العرب وصبرها تحت راياتها، وإنهم لعلى الضلال وإنّكم لعلى الحق» ثم حرّض أصحابه، وحمل فى عصابة من القرّاء فقاتل قتالا شديدا، فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحارث ابن المنذر التّنوخى، فطعنه فسقط، وأرسل إليه علىّ: أن قدّم
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل.
[2] الأعمش راوى هذا الحديث عن أبى عبد الرحمن السلمى.
[3] كذا جاء عند ابن جرير وأن الأثير؛ وجاء فى المحظوطة (وهم لا يزالون) .(20/140)
لواءك، فقال لرسوله: انظر إلى بطنى! فنظر إليه، فإذا هو قد انشق! قال [1] : ومرّ علىّ بكتيبة من أهل الشّام فرآهم لا يزولون [عن موقفهم] [2]- وهم غسّان- فقال: «إنّ هؤلاء لا يزولون إلّا بطعن [3] وضرب يفلق الهام ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكف، وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر وطلّاب الأجر؟» فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمدا فقال: «تقدّم نحو هذه الراية مشيا رويدا على هينتك [4] ، حتّى إذا أشرعت فى صدورهم الرّماح فأمسك حتّى يأتيك أمرى» .
ففعل، وأعد [لهم] [5] علىّ مثلهم وسيرّهم إلى ابنه محمد، وأمره بقتالهم، فحمل عليهم فأزالهم [6] عن مواقفهم، وأصابوا منهم رجالا.
قال [7] : ومرّ الأسود بن قيس المرادى بعبد الله بن كعب [المرادى] [8] وهو صريع، فقال له عبد الله: يا أسود. قال:
لبّيك. وعرفه [9] ونزل إليه وقال له: «عزّ علىّ مصرعك!
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل.
[2] الزيادة من ابن جرير.
[3] جاء فى نهج البلاغة وشرحه لابن أبى الحديد ج 2 ص 268 «وإنهم لن يزولوا عن مواقفهم دون طعن دراك» .
[4] أى: على عادتك فى السكون والرفق.
[5] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[6] كذا جاء فى (ك) وجاء فى (ن) : فحملوا عليهم فأزالوهم» .
[7] ابن الأثير فى الكامل.
[8] الزيادة من الكامل وتاريخ ابن جرير والاستيعاب والإصابة.
[9] عرفه بآخر رمق، كما روى ابن جرير.(20/141)
إن كان جارك ليأمن بوائقك [1] ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا! أوصنى رحمك الله!» قال: «أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المخلين [2] ، حتّى يظهر أو يلحق بالله، وأبلغه عنّى السلام وقل له: قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره كان العالى» .
ثمّ لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علىّ فأخبره، فقال: «رحمه الله! جاهد عدوّنا فى الحياة، ونصح لنا فى الوفاة!» .. وقيل:
إن الذى أشار على علىّ بهذا عبد الرحمن بن حنبل الجمحى.
قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها إلى الصباح، وهى ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصّفت الرّماح، وتراموا حتى نفد النّبل، وأخذوا السيوف، وعلى يسير بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة أن أن تقدّم على التى تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتّى أصبح، والمعركة كلّها خلف ظهره، والأشتر فى الميمنة، وابن عباس، فى الميسرة وعلىّ فى القلب، والناس يقتتلون من كل جانب (وذلك يوم الجمعة) وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة، وكان قد تولاها عشيّة الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، وهو يقول لأصحابه: ازحفوا قيد [3] هذا الرمح. ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك
__________
[1]
روى مسلم فى صحيحه ج 2 ص 17 عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه»
قال ابن الأثير فى النهاية: أى: غوائله وشروره، واحدها بائقة وهى الداهية.
[2] كذا جاء فى المخطوطة بالخاء المعجمة، وجاء عند ابن جرير وابن الأثير (المحلين) بالحاء المهملة.
[3] قيد: قدر.(20/142)
بهم قال: ازحفوا قيد هذا القوس. فإذا فعلوه سألهم مثل ذلك، حتّى ملّ أكثر الناس الإقدام، فلما رأى الأشتر ذلك دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النّخعى، وخرج يسير فى الكتائب ويقول: من يشرى [1] نفسه ويقاتل مع الأشتر [حتّى] [2] يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه جمع كثير، فيهم حيّان بن هوذة النخعى وغيره، فرجع بهم إلى المكان الذى كان فيه، وقال لهم: «شدّوا شدّة- فدى لكم خالى وعمّى- ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين» ثمّ نزل فضرب وجه دابّته، وقال لصاحب رايته: أقدم بها.
وحمل بالقوم [3] فضرب أهل الشام حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم، فقاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، وقتل صاحب رايته، فلمّا رأى علىّ الظّفر من ناحيته أمدّه بالرجال.
فقال عمرو لوردان [4] : تدرى ما مثلى ومثلك ومثل الأشتر؟
قال: لا. قال «كالأشقر إن تقدّم عقر وإن تأخّر عقر [5] ! لئن تأخّرت لأضربنّ عنقك!» قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنّك حياض الموت ضع يدك على عاتقى. ثم جعل يتقدّم ويتقدم [6] ويقول:
والله لأوردنّك حياض الموت. واشتد القتال.
فلمّا رأى عمرو أنّ أمر أهل العراق قد اشتدّ، وخاف الهلاك،
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «يشترى» .
[2] الزيادة من ابن جرير.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وحمل على القوم» .
[4] وردان: مولى عمرو بن العاص.
[5] عند ابن جرير: «نحر» .
[6] كذا جاء فى المخطوطة. وجاء عند ابن جرير: «ثم جعل يتقدم وينظر إليه أحيانا» .(20/143)
قال لمعاوية: هل لك فى أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلّا اجتماعا ولا يزيدهم إلّا فرقة؟ قال: نعم. قال: «نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها هذا حكم الله بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغى لنا أن نقبل. فتكون فرقة بينهم، فإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنّا إلى أجل» .
ذكر رفع أهل الشام المصاحف وما تقرر من أمر التحكيم وكتاب القضية
قال: ولما أشار عمرو بن العاص على معاوية برفع المصاحف أمر برفعها، فرفعت بالرماح [1] ، وقال [2] : «هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟» .
فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «عباد الله، امضو على حقكم وصدقكم قتال عدوّكم [3] ، فإن معاوية وعمرا وابن أبى معيط وحبيبا [4] وابن أبى سرح والضحاك [5] ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال! ويحكم! والله
__________
[1] قال نصر فى وقعة صفين وبن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ربطت المصاحف فى أطراف الرماح» .
[2] كذا وقع فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير: «وقالوا» .
[3] كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 34، يقال «صدقوا القتال» إذا تصلبوا فيه واشتدوا، ووقع فى المخطوطة: «وقتال» .
[4] عند ابن جرير: «وحبيب بن مسلمة» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 184 «وابن مسلمة» .
[5] عند ابن جرير: «والضحاك بن قيس» .(20/144)
ما رفعوها إلا خديعة ووهنا [1] ومكيدة!» فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه:
«فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله [2] ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونسوا عهده، ونبذوا كتابه!» . فقال مسعر بن فدكىّ التميمى وزيد بن حصين الطائى فى عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: «يا على، أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت [إليه] [3] ، وإلا دفعناك [4] برمّتك [5] إلى القوم أو ونفعل بك كما فعلنا بابن عفان!» : قال: «فاحفظوا عنّى نهيى إياكم، واحفظوا مقالتكم لى، [فإن تطيعونى فقاتلوا، وإن تعصونى فاصنعوا] [6] ما بدالكم!» .
قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علىّ يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه، فقال: «ليست هذه الساعة بالساعة التى ينبغى لك أن تزيلنى [فيها] [7] عن موقفى، إنى رجوت أن يفتح الله لى!» .
__________
[1] عند ابن جرير: «ودهنا» والدهن: إظهار خلاف المضمر.
[2] فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 161 «الكتاب» ، وفى تاريخ ابن جرير «هذا الكتاب» ، وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة: «القرآن» .
[3] ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .
[4] عند ابن جرير: «ندفعك» .
[5] الأصل فى هذا التعبير أن يقال عند تسليم الأسير ونحوه، والرمة: قطعة حبل يشد بها الأسير، أى: يسلمونه إليهم بالحبل الذى شد به تمكينا لهم منه، ثم اتسع فيه حتى قالوا أخذت الشىء برمته، أى: كله.
[6] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير قريب منه، وجاء فى المخطوطة: «افعلوا» دون بقية الجملة الشرطية.
[7] الزيادة من ابن جرير.(20/145)
فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت [1] الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال: «هل رأيتمونى ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟» فقالوا: «ابعث إليه فليأتك، وإلا والله اعتزلناك!» فقال: «ويلك يا يزيد! قل له أقبل إلى، فإن الفتنة قد وقعت!» فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: «والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة ابن العاص، ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟» فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوّه أو يقتل؟ قال: «لا والله! سبحان الله!» فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: «يا أهل العراق، يا أهل الذّلّ والوهن، أحين علوتم القوم وظنّوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه! فأمهلونى فواقا [2] فإنّى قد أحسست بالفتح، قالوا: لا. قال: أمهلونى عدو الفرس فإنى قد طمعت [فى النصر] [3] قالوا: إذن ندخل معك فى خطيئتك! قال: «فخبّرونى عنكم متى
__________
[1] عبارة ابن جرير 4 ص 35: «فارتفع الرهج وعلت الأصوات» ، وكذلك قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 186 وزاد: «وظهرت دلائل الفتح والنصر لاهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام» .
[2] فى النهاية ولسان العرب: «فواق الناقة» ، والفواق- بفتح الفاء وضمها:- ما بين الحلبتين من الراحة، ولكن لسان العرب تصحفت فيه كلمة «الأشتر» ب «الأسير» .
[3] الزيادة من ابن جرير ج 4 ص 35 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 161 وابن أبى الحديد ج 1 ص 186.(20/146)
كنتم محقّين؟: أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم فى النار! فقالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله، وندع قتالهم لله!» فقال: «خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السّود [1] ، كنا نظنّ صلاتكم زهادة فى الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحا يا أشباه النّيب الجلّالة [2] ، ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون!» فسبوه وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب وجوه دوابهم بسوطه، فصاح به وبهم علىّ رضى الله عنه، فكفّوا.
وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى على فقال له: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.
قال: إيته. فأتاه فقال: يا معاوية لأىّ شىء رفعتم هذه المصاحف؟
قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فى كتابه، تبعثون رجلا ترضون، ونبعث رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما فى كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه» . فقال له الأشعث:
«هذا الحق، هذا الحق» . فعاد إلى على فأخبره، فقال الناس:
قد رضينا وقبلنا.
فقال أهل الشام: قد رضينا عمرا. فقال الأشعث وأولئك القوم
__________
[1] ذكر ابن أبى الحديد أنهم «قد اسودت جباههم من السجود» .
[2] النيب: النوق المسنة، والجلالة التى تأكل البعر.(20/147)
الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى. فقال علىّ رضى الله عنه: «قد عصيتمونى فى أول الأمر، فلا تعصونى الآن، لا أرى أن أولّى أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن حصين [1] ومسعر بن فدكىّ: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه! قال على «فإنه ليس [لى] [2] بثقة، قد فارقنى وخذّل الناس عنى، ثم هرب منى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أولّيه ذلك» . قالوا «والله ما نبالى أنت كنت أم ابن عبّاس، لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء [3] » . قال على: فإنى أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعّر [4] الأرض غير الأشتر؟ قال: قد أبيتم إلا أبا موسى.
قالوا: نعم: قال: فاصنعوا ما أردتم! فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض [5] فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال الحمد لله. قال: قد جعلوك حكما. قال: [إنا لله وإنا إليه راجعون [6]] وجاء أبو موسى حتى دخل فى العسكر.
وجاء الأشتر عليا فقال: ألزّنى [7] بعمرو بن العاص، فو الله لئن ملأت عينى منه لأقتلنه!.
__________
[1] «حصن» كذا جاء هنا فى المخطوطة، وهو الموافق لما فى الإصابة ج 1 ص 565، وجاء فيما سبق «حصين» وهو الموافق لما عند الطبرى وابن الأثير.
[2] الزيادة من ابن جرير الطبرى.
[3] زاد ابن جرير: «ليس إلى واحد منكا بأدنى منه إلى الآخر» .
[4] سعر الأرض: أشعل فيها نار الحرب.
[5] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 189 «وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض» .
[6] من الآية 156 فى سورة البقرة.
[7] ألزنى: شدنى وألصقنى بعمرو بن العاص.(20/148)
وجاء الأحنف بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر الأرض [1] ، وإنّى قد عجمت [2] أبا موسى وحلبت أشطره [3] ، فوجدته كليل الشفرة [4] قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير فى أكفّهم ويبعد عنهم حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلنى حكما فاجعلنى ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحلّ عقدة أعقدها إلا عقدت [لك] [5] أخرى أحكم منها!» . فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب، فقال الأحنف بن قيس: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علىّ لتكتب القضيّة بحضوره، فكتبوا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين» فقال عمرو: [7] هو أميركم أمّا أميرنا فلا. فقال له الأحنف:
لا تمح اسم أمير المؤمنين فإنى أتخوّف إن محوتها ألّا ترجع إليك أبدا، لا تمحها وإن قتل [الناس] [8] بعضهم بعضا، فأبى ذلك علىّ
__________
[1] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث الأحنف: قال لعلى حين ندب معاوية عمرا للحكومة: لقد رميت بحجر الأرض، أى: بداهية عظيمة تثبت ثبوت الحجر فى الأرض»
[2] عجمت: عرفت.
[3] أى: اختبر أحواله من خير وشر وحلو ومر تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة ما كان منها حفلا وغير حفل ودارا وغير دار.
[4] الكيل: الذى لا يقطع. الشفرة: المدية، كما جا فى بعض الروايات.
[5] روى ابن جرير هذه الكلمة فى هذا الموضع وجاءت فى المخطوطة بعد «أعقدها» .
[6] فى النسخة (ك) : «ليكتب» .
[7] زاد ابن جرير وابن كثير فى أول كلام عمرو بن العاص: أكتب اسمه واسم أبيه» .
[8] الزيادة من ابن جرير ابن والأثير.(20/149)
مليّا من النهار، ثم قال الأشعث بن قيس: امج هذا الاسم. فمحى، فقال علىّ رضى الله عنه: «الله أكبر! سنّة بسنة، والله إنّى لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: «محمد رسول الله» فقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرنى رسول الله عليه الصلاة والسلام بمحوه، فقلت:
لا أستطيع. فقال أرنيه. فأريته فمحاه بيده وقال: إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب!» . فقال عمرو: «سبحان الله! أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون؟» فقال علىّ رضى الله عنه: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدوا؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بينى وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا! فقال علىّ: إنى لأرجو أن يطهّر الله مجلسى منك ومن أشباهك.
وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان، قاضى علىّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، أنّا ننزل عند حكم الله وكتابة، وألّا يجمع بيننا غيره، وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فى كتاب الله- وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص- عملا به، وما لم يجدا فى كتاب الله تعالى فالسّنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان من علىّ رضى الله عنه ومن معاوية ومن الجند من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمّة لهما أنصار على الذى يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمّة ولا يردّاها فى حرب ولا فرقة حتّى(20/150)
يعصيا، وأجّلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبّا أن يؤخرا ذلك أخّراه، وإن مكان قضيّتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وشهد جماعة من الطائفتين.
وقيل للأشتر: لتكتب [1] فيها. فقال: «لا صحبتنى يمينى ولا نفعتنى بعدها شمالى إن خطّ لى فى هذه الصحيفة خط! أو لست على بيّنة من ربّى من ضلال عدوّى؟ أو لستم قد رأيتم الظّفر؟» .
فقال له الأشعث: ما رأيت ظفرا هلمّ إلينا فإنه لا رغبة بك عنّا.
فقال: «بلى والله الرغبة عنك فى الدنيا للدنيا وفى الآخرة للآخرة! ولقد سفك الله بسيفى دماء رجال ما أنت عندى خير منهم ولا أحرم دما!» .
قال: وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مرّ على طائفة من بنى تميم، فيهم عروة بن أديّه (أخو أبى بلال) فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكّمون فى أمر الله الرجال، لا حكم إلّا لله. ثم شدّ بسيفه فضرب به عجز دابّة الأشعث ضربة خفيفة، واندفعت الدابّة، وصاح به أصحاب الأشعث فرجع.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين.. واتفقوا أن يكون اجتماع الحكمين بدومه الجندل [2] ، أو بأذرح [3] ، فى شهر رمضان.
__________
[1] فى الكامل لابن الأثير.: «ليكتب» .
[2] دومة الجندل: موضع بين الشام والمدينة المنورة.
[3] أذرح: بلد فى أطراف الشام، كما قال ياقوت، وقد كرر ذكر الخلاف فى الموضعين، وستأتى فى «ذكر اجتماع الحكمين» عبارة تفيد اتصال أذرح بدومة الجندل.(20/151)
قال: وقيل لعلىّ: إن الأشتر لا يقرّ بما فى الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم. فقال علىّ رضى الله عنه: «وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلّا أن ترضوا فقد رضيت، وإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى كتابه، فتقاتلوا من ترك أمر الله. وأمّا الذى ذكرتم من تركه أمرى وما أنا عليه فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين، يا ليت فيكم مثله واحدا يرى فى عدوى ما أرى، إذن لخفّت علىّ مؤنتكم، ورجوت أن يستقيم لى بعض أودكم [1] ، وقد نهيتكم فعصيتمونى، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن [2] :
وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحرّ [3] بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم، ويقطعوا الحرب، ويتربّصوا بكم ريب
__________
[1] الأود: العوج.
[2] أخو هوازن: دريد بن الصمة معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، شاعر فارس جاهلى، أدرك الإسلام فلم يسلم، ويخرج مع قومه هوازن فى يوم حنين مظاهرا للمشركين، وكان شيخا كبيرا فانيا ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته للحرب فقتل يومئذ على شركه ...
والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رئى بها أخاه عبد الله، وهى فى الأغانى ج 10 ص 8- 9 من طبع دار الكتب المصرية والحماسة بشرح المرزوقى ج 2 ص 812- 821 والأصمعيات ص 111- 115 وجمهرة أشعار العرب ص 224- 227، وسيأتى تمثل ببيت آخر من هذه القصيدة.
[3] استحر: اشند وكثر.(20/152)
المنون، خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم [ما سألوا] [1] ، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتحيروا [2] ، وايم الله ما أظنّكم بعدها توفّقون لرشد، ولا تصيبون باب حزم» .
قال: ثم تراجع الناس عن صفّين.
هذا ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، وهو الذى اعتمد عليه عز الدين على بن محمد ابن الأثير الموصلى فى تاريخة (الكامل) ، من حرب [3] صفّين، وقد أسقطنا بعض ما أورداه، وأتينا بألفاظ لم يأتيا بها نسبناها إلى من حكاها ...
وأخبار أيام صفّين كثيرة، قد بسط أهل التاريخ فيها القول، وذكروا ما اتفق فى أيامها يوما يوما، رأينا ترك ذلك والإغضاء عنه أولى، وكنا نؤثر ألّا نلمّ بذكر أيام صفّين ولا وقعة الجمل، وإنما ضرورة التاريخ دعت إلى ذلك.
وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة بسر بن أرطاة من كتابه الاستيعاب [4] : أنّ معاوية أمر بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة، وكان معه بصفّين أن يلقى عليّا فى القتال، وقال له: «سمعتك تتمنّى لقاءه، فلو أظفرك الله وصرعته حصلت على دنيا وآخرة» ، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه، حتّى رآه فقصده فى الحرب، قال: وكان
__________
[1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند ابن جرير ج 4 ص 40 «وتجوزوا» وعند ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163 «وتجيروا» .
[3] كذا جاء فى النسخة (ك) . وفى النسخة (ن) : «خبر» .
[4] ج 1 ص 160.(20/153)
بسر بن أرطاة من الأبطال الطّغاة، فالتقيا، فصرعه علىّ، وعرض له معه مثل ما عرض- فيما ذكر- لعلىّ مع عمرو بن العاص. قال وذكر ابن الكلبى فى كتابه فى أخبار صفّين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفّين، فطعنه علىّ فصرعه، فانكشف له، فكفّ عنه، كما عرض له- فيما ذكروا- مع عمرو بن العاص، ولهم فيها أشعار مذكورة فى موضعها من [ذلك] [1] الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبى والمدائنى قول الحارث بن النضر السّهمى [2]- وكان عدوا لعمرو ابن العاص وبسر بن أرطاة-:
أفى كلّ يوم فارس ليس ينتهى ... وعورته بين العجاجة [3] باديه
يكفّ لها [4] عنه علىّ سنانه ... ويضحك منه [5] فى الخلاء معاويه
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه ... وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو ثم بسر [6] : ألا انظرا ... سبيلكما، لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلّا الحيا وخصاكما ... هما كانتا والله للنّفس واقيه
ولولاهما لم تنجوا من سنانه ... وتلك بما فيها عن العود ناهيه
وكونا [7] بعيدا حيث لا تبلغ القنا ... نحوركما إنّ التّجارب كافيه
__________
[1] الزيادة من الاستيعاب، والاشارة إلى كناب ابن الكلبى.
[2] شاعر من الصحابة، انظر الإصابة ج 1 ص 291.
[3] العجاجة: ما أثير من الغبار حتى يكسو كل شىء جاء عليه، ورعاع الناس ...
وفى الاستيعاب: «وسط العجاجة» .
[4] فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 2 ص 301: «بها» .
[5] فى لاستيعاب وشرح ابن أبى الجديد: «منها» .
[6] عند بن أبى الحديد: «فقر لا لعمرو وابن أوطأة: «ابصرا» .
[7] قبل هذا بيت عن ابن عبد البر وابن أبى الحديد، وهو:
متى تلقيا الخيل المغيرة صحيحه ... وفيها على فاقركا الخيل ناحية.(20/154)
قال أبو عمر: إنّما كان انصراف علىّ عنهما وعن أمثالهما من مصروع أو منهزم؛ لأنه كان لا يرى فى قتال الباغين عليه من المسلمين أن يتّبع مدبرا ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسيرا، وتلك عادته فى حروبه فى الإسلام، رضى الله عنه.
وروى أبو عمر ابن عبد البر أيضا بسند يرفعه إلى يزيد ابن حبيب قال: اصطحب قيس بن خرشه، وكعب الأحبار، حتّى إذا بلغا صفّين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال: «لا إله إلا الله، ليهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شىء لم يهرق ببقعة من الأرض» فغضب قيس وقال: «وما يدريك يا أبا إسحاق؟ فإنّ هذا من الغيب الذى استأثر الله به» فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلّا وهو مكتوب فى التّوراة التى أنزل الله على نبيّه موسى بن عمران عليه السلام ما يكون عليه إلى يوم القيامة.
واختلف فى عدّة من شهد صفّين، فقيل: كان جيش علىّ رضى الله عنه تسعين ألفا، وجيش معاوية مائة وعشرين ألفا، وقيل:
أقل من ذلك [1] .
وقتل من العراق خمسة وعشرون ألفا، منهم عمّار بن ياسر وخمسة وعشرون بدريّا، وقتل من عسكر معاوية خمسة وأربعون ألفا.
قال، ولمّا رجع علىّ رضى الله عنه إلى الكوفة خالفه الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال، وكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله فى أخبار
__________
[1] الاستيعاب ج 12 ص 242.(20/155)
الخوارج على علىّ، وكان فيما بين رجوع علىّ واجتماع الحكمين ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين.
ذكر اجتماع الحكمين
قال. ولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علىّ رضى الله عنه أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانىء الحارثى، وأرسل عبد الله بن عباس يصلى بهم ويلى أمورهم، ومعهم أبو موسى الأشعرى. وأرسل معاوية عمرو بن العاص فى أربعمائة من أهل الشام، حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح [1] وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى أحد ما جاء فيه، ولا يسأله أهل الشام عن شىء، وكان أهل العراق يسألون ابن عبّاس عن كلّ كتاب يصل إليه من علىّ، فإن كتمه [2] ظنّوا به الظّنون وقالوا: نراه كتب بكذا وكذا، فقال لهم ابن عبّاس رضى الله عنه:
«أما تعقلون، أما ترون رسول معاوية يجىء فلا يعلم أحد ما جاء به ولا يسمع لهم صياح؟ وأنتم عندى كلّ يوم تظنّون الظّنون» .
قال وحضر معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن ابن أبى بكر الصديق، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرحمن الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهرى، وأبو جهم بن حذيفة العدوى، والمغيرة بن شعبة. وكان سعد بن أبى وقّاص على ماء لبنى سليم بالبادية، فأتاه ابنه عمر فقال له: «إنّ أبا موسى وعمرا
__________
[1] انظر ما سبق فى هذين الاسمين.
[2] كما جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) «كتمهم» .(20/156)
قد شهدهم نفر من قريش فاحضر معهم، فإنّك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشّورى، ولم تدخل فى شىء كرهته هذه الأمّة، وأنت أحقّ الناس بالخلافة» فلم يفعل، وقيل:
بل حضرهم سعد وندم على حضوره، فأحرم بعمرة من بيت المقدس.
قال: ولما اجتمع الحكمان قال عمرو بن العاص؛ يا أبا موسى ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما، قال أشهد. قال: ألست تعلم أنّ معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى.. قال: «فما [1] يمنعك منه وبيته فى قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس ليست له سابقة فقل: وجدته ولىّ عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة والتدبير، وهو أخو أم حبيبة زوج النبىّ عليه الصلاة والسلام، وكاتبه، وقد صحبه» وعرّض له عمرو بسلطان، فقال أبو موسى: «يا عمرو، اتّق الله! أمّا ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف يولّاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة بن الصّبّاح، إنّما هو لأهل الدّين والفضل، مع أنى لو كنت معطيه أفضل قريش شرفا أعطيته على بن أبى طالب، وأمّا قولك إنّ معاوية ولىّ دم عثمان فولّه هذا الأمر، فلم أكن لأولّيه معاوية وأدع المهاجرين الأوّلين، وأمّا تعريضك لى بالسلطان؛ فو الله لو خرج لى معاوية من سلطانه كلّه ما ولّيته، وما كنت لأرتشى فى حكم الله،
__________
[1] ذكر ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 49 أن عمرا استشهد بقول الله تعالى:
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً
ثم قال فما يمنعك من معاوية ... الخ.(20/157)
ولكنك إن شئت أن تحيى اسم عمر بن الخطاب» قال له عمرو: [1] فما يمنعك من ابنى عبد الله وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال له:
إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته فى هذه الفتنة. فقال عمرو:
إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل يأكل ويطعم. وكانت فى ابن عمر غفلة، فقال له: ابن الزبير: افطن وانتبه، فقال: والله لا أرشو عليها شيئا أبدا. وقال: يا ابن العاص إنّ العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردّنّهم فى فتنة.
وكان عمرو قد عوّد أبا موسى أن يقدّمه فى الكلام، يقول له:
أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنّ منّى فتكلم. فتعوّد ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كلّه أن يقدّمه فى خلع على.
فلمّا أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى، وأراد أبو موسى عمرا على ابن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبّرنى ما رأيك؟ قال: «أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبّوا» . فقال عمرو: الرأى ما رأيت.
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبرّ، تقدم يا أبا موسى. فتقدّم أبو موسى، فقال له ابن عباس:
«ويحك! والله إنى لأظنّه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فتقدّمه فليتكلّم به قبلك، فإنه رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك
__________
[1] ذكر ابن جرير فى رواية أن عمرا قال لأبى موسى! إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك ... الخ.(20/158)
الرضى بينكما، فإذا قمت فى الناس خالفك!» وكان أبو موسى مغفّلا، فقال: إنا قد اتفقنا، فتقدّم فقال: «أيّها الناس، إنّا قد نظرنا فى أمر هذه الأمّة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمّ لشعثها من [أمر] [1] قد أجمع رأيى ورأى عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولّى الناس أمرهم من أحبّوا، وإنى خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه أهلا» . ثم تنحّى، وأقبل عمرو فقام وقال:
«إن هذا قد قال ما سمعتموه، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبّت صاحبى معاوية، فإنه ولىّ عثمان بن عفّان، والطالب بدمه، وأحقّ الناس بمقامه» ، فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايدة! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقنى على أمر ثم نزع عنه! فقال ابن عبّاس: لا ذنب لك يا أبا موسى الذنب لمن قدّمك فى هذه المقام! قال: غدر فما أصنع؟ قال ابن عمر [انظروا] [2] إلى ما صار أمر هذه الأمة: إلى رجل لا يبالى ما صنع وآخر ضعيف. وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: لو مات الأشعرىّ قبل هذا اليوم كان خيرا له. وقال أبو موسى لعمرو: «لا وفّقك الله، غدرت وفجرت، [إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» فقال له عمرو:] [3] إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
قال: والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة، ثم انصرف
__________
[1] كذا جاء عند ابن جرير ج 4 ص 51 وابن الأثير ج 3 ص 168 وجاء فى النسخة (ك) (راء) ، وفى النسخة (ن) : «رأى» .
[2] الزيادة من الكامل لابن الأثير.
[3] سقطت هذه العبارة من النسخة (ك) وثبتت فى النسخة (ن) كما جاءت عند الطبرى وابن الأثير.(20/159)
عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح إلى علىّ رضى الله عنه، فكان علىّ إذا صلّى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرا وأبا الأعور وحبيبا وعبد الرحمن ابن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليّا وابن عبّاس والحسن والحسين والأشتر.
وقيل: إن معاوية حضر الحكمين، وأنه قام عشية فى الناس فقال: أما بعد، من كان متكلما فى هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فأطلقت حبوتى وأردت أن أقول: «يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام» فخشيت أن أقول كلمة تفرّق الجماعة ويسفك بها دم، فكان ما وعد الله فى الجنان أحبّ إلى من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءنى حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت. فقال حبيب:
وفّقت وعصمت. وقد ورد ذلك فى الصحيح.
ذكر أخبار الخوارج الذين خرجوا على عهد علىّ وما كان من أمرهم
كان أوّل من خرج على علىّ رضى الله عنه حسكة بن عتّاب الحبطىّ، وعمران بن فضيل البرجمىّ، خرجا فى صعاليك من العرب بعد الفراغ من وقعة الجمل، حتى نزلوا زالق [1] من سجستان، وقد نكبو [2] أهلها فأصابوا منها مالا، ثم أتوا زرنج [3] وقد خافهم
__________
[1] زالق: سواد بسجستان.
[2] جاء فى النسخة (ن) كما عند ابن الأثير: وقد نكث أهلها.
[3] زرنج: قصبة سجستان.(20/160)
مرزبانها فصالحهم ودخلوها، فبعث علىّ عبد الرحمن ابن جرو الطائى فقتله حسكة، فكتب علىّ إلى عبد الله بن عبّاس يأمره أن يولى سجستان رجلا، ويسيّره إليها فى أربعة الآف، فوجّه ربعىّ [1] بن كأس العنبرى، ومعه الحصين بن أبى الحرّ العنبرى، فلمّا ورد سجستان قاتلهم حسكة فقتلوه وضبط ربعى البلاد.
قال ابن الأثير [2] وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين ابن أبى الحر هذا، وهو من سجستان.
ذكر خبرهم [3] بعد صفين
قد ذكرنا فى وقعة صفين أنه لمّا رفعت المصاحف، تكلّم أولئك القوم مع علىّ بما ذكرناه، وأبوا إلّا ترك الحرب والرجوع إلى كتاب الله، وموافقة علىّ رضى الله عنه لهم فيما رأوه، على كره منه.
فلما رجع علىّ من صفّين بعد كتابة الصحيفة، خالفت عليه الحروريّة [4] وأنكروا تحكيم الرجّال، ورجعوا على غير الطريق الذى أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البرّ وعادوا وهم أعداء متباغضون، يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم فى أمر الله! ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرّقتم جماعتنا! فلمّا انتهى علىّ إلى الكوفة فارقته الخوارج وأتت حروراء [5] فنزل بها
__________
[1] ربعى بن كأس: كأس أمه وهى من أشراف العرب، وهو ربعى بن عامر التيمى.
[2] فى الكامل ج 3 ص 135.
[3] كذا جاء فى ك «، وجاء فى (ن) : «سيرهم» .
[4] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163: «وخرجت، وكان ذلك أول ما ظهرت»
[5] نقل ابن أبى الحديد ج 1 ص 215 عن كتاب صفين: «خرجوا إلى صحراء.
بالكوفة تسمى حروراء» .(20/161)
[منهم] [1] اثنا عشر ألفا، ونادى مناديهم: «إن أمير القتال شبث بن ربعىّ التميمى، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكرى، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» . فلما سمع علىّ رضى الله عنه وأصحابه ذلك، قامت إليه الشّيعة فقالوا له: «فى أعناقنا بيعة ثابتة [2] نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت» . فقالت الخوارج: «استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسى رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّ [3] وكرهوا، وبايعتم أنتم عليّا أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى» فقال لهم زياد بن النّضر: «والله ما بسط علىّ يده فبايعناه قطّ إلّا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولكنكم لمّا خالفتموه جاءته شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل» . قال:
وبعث علىّ رضى الله عنه عبد الله بن العبّاس إلى الخوارج، وقال له. لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتّى آتيك. فخرج إليهم، فأقبلوا يكلّمونه، فلم يصبر حتّى راجعهم، فقال: «ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
[4] .
فكيف بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم؟» . فقالت الخوارج: «أمّا ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم فى الزّانى مائة جلدة، وفى
__________
[1] الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] عند ابن جرير وابن الأثير: «ثانية» .
[3] عند ابن جرير وابن الأثير: «أحبوا» .
[4] من الآية 35 فى سورة النساء.(20/162)
السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا فى هذا» . قال ابن عبّاس:
فإن الله تعالى يقول يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ
[1] فقالوا: وتجعل الحكم فى الصيد والحدث بين المرأة وزوجها كالحكم فى دماء المسلمين؟
وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول، وقد حكّمتم فى أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه فى معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابا وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت «برآءة» إلّا من أقرّ بالجزية.
وبعث علىّ رضى الله عنه زياد بن النّضر فقال: انظ بأىّ رءوسهم هم أشد إطافة. فأخبره أنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد ابن قيس، فخرج علىّ رضى الله عنه فى الناس حتّى أتى فسطاط يزيد ابن قيس، فدخله، فصلّى فيه ركعتين، وأمّره على أصبهان والرّىّ، ثم خرج حتّى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال له:
ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج [2] يوم القيامة. [ثم] [3] : قال لهم: من زعيمكم؟
قالوا: ابن الكواء قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفّين. قال: «أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، وقلتم: نجيبهم، قلت لكم: إنى أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسلوا بأصحاب دين!» وذكر ما كان قال لهم، ثم قال «وقد اشترطت
__________
[1] من الآية 95 فى سورة المائدة.
[2] الفلج- بفتح الفاء وضمها-: الفوز، وفى الكامل ج 3 ص 166: «من يفلح فيه كان أولى بالفلاح» .
[3] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.(20/163)
على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء» . قالوا: فخبّرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال فى الدماء؟
فقال: «إنا لسنا حكّمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خطّ مسطور بين دفّتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال» قالوا: فأخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: «ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعلّ الله عز وجل يصلح فى هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله» . فدخلوا من عند آخرهم.
ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين
قال [1] : لما أراد علىّ رضى الله عنه أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج، وهما زرعة بن برج الطائى وحرقوص ابن زهير السعدى، فقالا له: لا حكم إلّا لله تعالى، فقال على رضى الله عنه: لا حكم إلا لله تعالى، قال حرقوص: «تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، وارجع بنا إلى عدونا نقاتلهم حتّى نلقى ربنا» .
فقال على: قد أردتكم على ذلك فعصيتمونى، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ
[2] فقال حرقوص:
ذلك ذنب ينبغى أن تتوب منه. فقال علىّ رضى الله عنه: ما هو ذنب ولكنه عجز من الرأى، وقد نهيتكم، فقال زرعة: يا على لئن لم
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 169 وأصله عند ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 52.
[2] من الآية 91 فى سورة النحل.(20/164)
تدع تحكيم الرجال لأقاتلنّك أطلب وجه الله. فقال على: «بؤسا لك! ما أشقاك! كأنى بك قتيلا تسفى [1] عليك الرياح!» قال: وددت لو كان ذلك، فخرجا من عنده يحكّمان.
وخطب على رضى الله عنه يوما، فحكّمت [2] المحكّمة فى جوانب المسجد، فقال علىّ: «الله أكبر! كلمة حقّ أريد بها باطل [3] ان سكتوا غممناهم [4] ، وإن تكلموا حججناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم» . فوثب يزيد بن عاصم المحاربى فقال: «الحمد لله غير مودّع ربنا ولا مستغنى عنه، اللهم إنّا نعوذ بك من إعطاء الدّنيّة فى ديننا، فإن إعطاء الدنية فى الدين إدهان فى أمر الله وذلّ راجع بأهله إلى سخط الله، يا علىّ أبالقتل تخوّفنا؟ أما إنى لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أيّنا أولى بها صليّا» . ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة، فأصيبوا مع الخوارج بالنّهروان، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنّخيلة.
ثم خطب علىّ رضى الله عنه يوما آخر، فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله، ثم توالى عدّة رجال يحكّمون، فقال علىّ: «الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا:
لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفىء
__________
[1] سفت الريح التراب تسفيه: ذرته أو حملته.
[2] أى قالوا: «لا حكم إلا الله» .
[3] جاء فى نهج البلاغة شرح ابن أبى الحديد ج 1 ص 214: ومن كلام له عليه السلام فى الخوارج لما سمع قولهم «لا حكم إلا الله» قوله عليه السلام: كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد الناس من أمير بر أو فاجر، يعمل فى إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ... وفى رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال: حكم الله أنتظر فيكم!.
[4] غممناهم: غطيناهم وسترناهم، وفى (ك) : «عممناهم» .(20/165)
ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما ننظر فيكم أمر الله» . ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.
ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين
وتوليتهم أمرهم عبد الله بن وهب وخروجهم عن الكوفة وانضمام خوارج البصرة إليهم، وما كاتبهم علىّ به وجوابهم وغير ذلك قال: ولمّا كان من أمر الحكمين ما ذكرناه، لقى بعض الخوارج بعضا واجتمعوا فى منزل عبد الله بن وهب الراسبى، فخطبهم، فزهّدهم فى الدنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم قال اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلّة، فقال حرقوص بن زهير: «إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله [1] مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون» وقال حمزة بن سنان الأسدى: «يا قوم، إن الرأي ما رأيتم فولّوا أمركم [2] رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها» فعرضوها على زيد بن حصين [3] الطائى فأبى، وعرضوها على حرقوص فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : «فالله» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى (ن) : (أموركم) .
[3] كذا جاء فى المخطوطة، وهذا الاسم يقال فيه «حصن» كما ذكره ابن حجر فى الإصابة، ويقال فيه «حصين» كما ذكره الطبرى وابن الأثير، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك(20/166)
ابن أوفى العبسىّ فأبيا، وعرضوها على عبد الله بن وهب فقال:
«هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة فى الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت» فبايعوه لعشر خلون من شوال سنة سبع وثلاثين، وكان يقال: له ذو الثفنات [1] .
ثم اجتمعوا فى منزل شريح بن أبى أوفى [2] العبسى، فقال ابن وهب:
اشخصوا [3] بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنكم أهل الحق. قال شريح: «نخرج إلى المدائن، فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا» . فقال زيد بن حصن: «إنكم إن خرجتم مجتمعين تتبّعتم، ولكن اخرجوا وحدانا مستخفين، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا من جسر [4] النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة» . قالوا: هذا الرأى.
وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللّحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوا.
قال: ولما غزم من بالكوفة من الخوارج على الخروج، تعبّدوا ليلتهم- وكانت ليلة الجمعة- ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسى وهو يتلو قول الله تعالى:
__________
[1] كان عبد الله بن وهب قد أثر طول السجود فى ثفناته، والثفنات: جمع ثفنة.
وهى الركبة.. وهناك من غير الخوارج «ذو الثفنات» زين العابدين على بن الحسين بن على وعلى بن عبد الله بن عباس.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) وجاء فى النسخة (ن) : «شريح بن أوفى» .
[3] اشخصوا: اذهبوا.
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «مر» .(20/167)
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ
[1] قال: وخرج معهم طرفة بن عدى بن حاتم الطائى، فأتبعه أبوه ليرده فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع.
وأرسل عدى إلى سعد بن مسعود عامل علىّ على المدائن يحذّره أمرهم، فحذر، وأخذ أبواب المدائن، وخرج فى الخيل، واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبى عبيد، وسار فى طلبهم فأخبر عبد الله ابن وهب خبره، فترك طريقه وسار على بغداد، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرج فى خمسمائة فارس عند المساء، [فانصرف إليهم عبد الله فى ثلاثين فارسا، فاقتتلوا ساعة] [2] وامتنع القوم منهم، وقال أصحاب سعد لسعد. «ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر، خلّهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن أمرك باتّباعهم فاتّبعهم، وإن كفاكهم غيرك كان فى ذلك عافية لك» فأبى عليهم، فلما جن عليهم الليل عبر عبد الله بن وهب دجلة إلى أرض جوخى [3] ، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه.
وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرها، منهم القعقاع بن قيس الطائى عم الطّرماح ابن حكيم، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائى.
__________
[1] الآيتان 21، 22 من سورة القصص.
[2] سقطت هذه الجملة من النسخة (ك) ، وجاءت فى (ن) والكامل لابن الأثير ج 3 ص 170 وتاريخ ابن جرير ج 4 ص 56.
[3] جوخى مقصور الآخر مع فتح الجيم أوضمها: نهر عليه كورة واسعة فى سواد بغداد.(20/168)
قال: ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليّا أصحابه وشيعته فبايعوه، وقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا فى خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر بن فدكى التميمى، فعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم أبا الأسود الدّؤلى، فلحق بهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج [1] مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بعبد الله ابن وهب.
قال: ولما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى الأشعرى إلى مكة، وردّ علىّ ابن عباس رضى الله عنهما إلى البصرة، قام علىّ بالكوفة خطيبا فقال: «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أمّا بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم فى هذين الرجلين وفى هذه الحكومة أمرى، ونحلتكم [2] رأيى، لو كان لقصير [3] أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازان [4] :
أمرتهمو أمرى بمنعرج اللّوى [5] ... فلم يستبينوا الرّشيد إلا ضحى الغد
__________
[1] أدلج: سار بالليل.
[2] نحلتكم: اعطيتكم.
[3] هو قصير بن سعد صاحب جذيمة الأبرش، وله قصة مع الزباء ذات أمثال، والمثل المراد هنا: «لا يطاع لقصر أمر» .
[4] أخو هوازن هو دريد بن الصمة، والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رثى بها أخاه عبد الله، وقد سبق ذكر دريد وقصيدته.
[5] منعرج اللوى: منعطف الرمل.(20/169)
ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كلّ واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بينة ولا سنّة ماضية، واختلفا فى حكمهما وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح [1] المؤمنين، استعدّوا وتأهبّوا للمسير إلى الشام، وأصبحوا فى معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين» . ثم نزل.
وكتب إلى الخوارج بالنّهروان: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى زيد بن حصن وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أمّا بعد فإن الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خالفا كتاب الله تعالى، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابى هذا فأقبلوا إلينا، فإنا سائرون إلى عدوّنا وعدوّكم، ونحن على الأمر الأول الذى كنّا عليه» .
فكتبوا إليه: «أمّا بعد فإنك لم تغضب لربّك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بينا وبينك، وإلّا فقد نابذناك على سواء إن الله لا يحبّ الخائنين» .
فلما قرأ كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم ويمضى بالناس [حتّى يناجز أهل الشام] [2] فقام فى أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد فإنه من ترك الجهاد فى الله وداهن فى أمره كان
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) . وجاء فى (ن) : «وصالحو» .
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .(20/170)
على شفاهلكة، إلا أن يتداركه الله بنعمته، فاتقوا الله تعالى، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نور الله، وقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين، الذين ليسوا بقرّاء القرآن ولا فقهاء فى الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل فى سابقة الإسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسّروا [1] للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا اجتمعتم شخصنا إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
وكتب إلى ابن عباس رضى الله عنه: «أمّا بعد فإنا خرجنا إلى معسكرنا بالنّخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدوّنا من أهل المغرب، فاشخص إلى الناس حتى يأتيك رسولى، وأقم حتى يأتيك أمرى، والسلام عليك» .
فقرأ ابن عباس الكتاب على الناس، وندبهم مع الأحنف ابن قيس، فشخص ألف وخمسمائة، فخطبهم [2] وقال: «يا أهل البصرة، أتانى كتاب أمير المؤمنين، فأمرتكم بالنفير [3] إليه، فلم يشخص منكم إلا ألف وخمسمائة، وانتم ستون ألف مقاتل سوى أبنائكم وعبيدكم. ألا انفروا مع جارية [4] بن قدامة السعدىّ، ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلا، فإنّى موقع بكلّ من وجدته متخلفا
__________
[1] تيسروا: تهيئوا.
[2] ذكر ابن جرير فى روايته لسبب الخطبة ج 4 ص 58 أن ابن عباس استقلهم، أى رآهم قليلا.
[3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «بالنفر» .
[4] وقع فى المخطوطة «حارثة» بالحاء المهملة، والصواب «جارية» كما نص عليه بالجيم ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 113، 181، 183 وله ترجمة فى حرف الجيم من من الاستيعاب ج 1 ص 245 وأسد الغابة ج 1 ص 263 والإصابة ج 1 ص 218.(20/171)
عن دعوته، عاصيا لإمامه، فلا يلومن رجل إلا نفسه» . فخرج جارية واجتمع إليه ألف وسبعمائة، فوافوا عليّا وهم ثلاثة آلاف ومائتان.
فجمع على رضى الله عنه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع [1] ووجوه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا أهل الكوفة، أنتم إخوانى وأنصارى وأعوانى على الحق، وأصحابى إلى جهاد المخلين [2] ، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد استنفرت أهل البصرة، فأتانى منهم ثلاثة آلاف ومائتان، فليكتب لى رئيس كلّ قبيلة ما فى عشيرته من المقاتلة [وأبناء المقاتلة] [3] الذين أدركو القتال، وعبدان عشيرته ومواليهم، ويرفع ذلك إلينا.
فقام إليه سعيد بن قيس الهمدانى فقال: يا أمير المؤمنين، سمعا وطاعة، أنا أول الناس أجاوب بما طلبت. وقام معقل بن قيس، وعدىّ بن حاتم، وزياد بن خصفة، وحجر بن عدّى، وأشراف الناس والقبائل، فقالوا متل ذلك، وكتبوا له ما طلب، وأمروا أبناءهم وعبيدهم [ومواليهم] [4] أن يخرجوا معهم، فرفعوا له أربعين ألف مقاتل وسبعة عشر ألفا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، فكان جميع أهل الكوفة خمسة وستين ألفا، سوى أهل البصرة وهم ثلاثة آلاف ومائتا رجل.
__________
[1] قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 181: «وكانت الكوفة يومئذ أسباعا» وأسباع جمع سبع بضم السين، وقد مضت الإشارة إلى هذا فيما سبق.
[2] (المخلين) جاء بالخاء المعجمة فى (ك) ، وبالحاء المهملة فى (ن) ، وقد سبقت الإشارة إلى مثل هذا.
[3] ثبتت هذه العبارة فى (ن) . وسقطت من (ك) .
[4] الزيادة من ابن جرير الطبرى، ويأتى ما يناسبها.(20/172)
وكتب إلى سعد بن مسعود بالمدائن يأمره بإرسال من عنده من المقاتلة، وبلغ عليا رضى الله عنه أن الناس يقولون: «لو ساربنا إلى قتال هذه الحرورية فإذا فرغنا منهم توجهنا إلى قتال المخلين» .
فقال لهم: «بلغنى أنكم قلتم كيت وكيت! وإن غير هؤلاء الخارجين أهمّ إلينا، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم، كيما [1] يكونوا جبّارين ملوكا، ويتخذوا عباد الله خولا» ..
فناداه الناس أن سربنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. وقام إليه صيفى بن نشيل [2] الشيبانىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادى من عاداك، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسربنا إلى عدوك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع» . وقام إليه محرز بن شهاب التميمىّ فقال: «يا أمير المؤمنين، إن قلب شيعتك كقلب رجل واحد فى الاجتماع على نصرتك، والجد فى جهاد عدوّك، فأبشر بالنصر، وسربنا إلى أىّ الفريقين أحببت، فإنّا شيعتك الذين نرجو فى طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف فى خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال» ..
وأجمع على المسير [علىّ] [3] إلى الشام، فشغله عن ذلك أمر الخرارج وقتالهم على ما نذكره.
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ووقع فى النسخة فى (ك) : «كما» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وعند الطبرى: «فسيل» .
[3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .(20/173)
ذكر قتال الخوارج
قيل: كان سبب ذلك أن الخوارج من البصرة لما دنوا من من النهروان رأوا رجلا يسوق بامرأة على حمار، فدعوه وانتهروه فأفزعوه، وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: أفزعناك! قال: نعم قالوا لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال:
حدثنى أبى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسى فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسى كافرا
، قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول فى أبى بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. فقالوا: ما تقول فى عثمان فى أوّل خلافته وفى آخرها؟ قال: إنه كان محقّا فى أولها وآخرها، قالوا: فما تقول فى علىّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، وأنفذ بصيرة. قالوا: إنك تتبع الهوى وتوالى الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا بامرأته وهى حبلى متمّ [1] حتى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فتركها فى فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن. فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد فى الأرض. فلقى صاحب الخنزير فأرضاه. فلما رأى عبد الله
__________
[1] حبل متم: قريبة الوضع.(20/174)
ابن خبّاب ذلك منهم قال: «إن كنتم صادقين فيما أرى فما على منكم من بأس، إنّى مسلم ما أحدثت فى الإسلام حدثا، ولقد أمنتمونى، فقلتم: لا روع عليك» فأضجعوه فذبحوه، وأقبلوا إلى المرأة فقالت:
أنا امرأة، ألا تتقون الله. فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيىء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية.
فلما بلغ عليّا رضى الله عنه ذلك بعث إليهم الحارث بن مرّة العبدىّ ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. وأتى الخبر إلى على، فقال له الناس: «يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا فى عيالنا وأموالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام» . فأجمع علىّ رضى الله عنه على ذلك، وخرج وسار إليهم. فأرسل إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل قلوبكم [1] ، ويردّكم إلى خير مما أنتم عليه [من أمركم] [2] فقالوا: كلّنا قتلهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم. فراسلهم مرة بعد أخرى.
وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فكلّمهم ونصحهم، وأشار عليهم بالمراجعة والدخول فيما خرجوا منه، فأبوا. وخطبهم أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه وحذّرهم تعجيل الفتنة. وأتاهم علىّ رضى الله عنه فكلّمهم ووعظهم وذكرهم. فتنادوا: «لا تخاطبوهم
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى ابن جرير الطبرى «يقلب قلوبكم» .
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) . وسقطت من (ك) .(20/175)
ولا تكلمّوهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة» .
فعاد علىّ عنهم.
ثم إن الخوارج قصدوا الجسر، فقال أصحاب علىّ له: إنهم عبروا النهر، فقال: لن يعبروه، فأرسلوا طليعة، فعاد. وأخبر [1] أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد، فقال: قد عبروا النهر. فقال علىّ رضى الله عنه: «والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، وو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة» . وتقدم علىّ إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكّوا فى قوله وارتاب به بعضهم، فلما رأوهم لم يعبروا كبّروا وأخبروا عليّا رضى الله عنه بحالهم، فقال والله ما كذبت ولا كذبت.
ثم عبّأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدىّ، وعلى ميسرته شبث بن ربعىّ أو معقل بن قيس الرّياحى، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصارى رضى الله عنه، وعلى الرّجالة أبا قتادة الأنصارىّ رضى الله عنه، وعلى أهل المدينة- وهم سبعمائة أو ثمانمائة. قيس بن سعد ابن عبادة رضى الله عنه.
وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائى، وعلى الميسرة شريح بن أبى أوفى العبسىّ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدىّ، وعلى رجّالتهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.
وأعطى علىّ رضى الله عنه أبا أيّوب الأنصارىّ راية أمان، فناداهم
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) وهو المناسب لما يأتى بعده، وفى النسخة (ك) : «فعادوا وأخبروا» .(20/176)
أبو أيوب فقال: «من جاء هذه الراية فهو آمن ممّن لم يقتل ولم يتعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم فى سفك دمائكم» . فقال فروة بن نوفل الأشجعىّ: «والله ما أدرى على أى شىء نقاتل عليا؟: أرى أن أنصرف حتى تتضح لى بصيرتى فى قتاله، أو أتابعه» . فانصرف فى خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين [1] والدّسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة.
وخرج إلى علىّ رضى الله عنه نحو مائة، وكان الخوارج فى أربعة آلاف؛ فبقى مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى علىّ رضى الله عنه وكان قد قال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدءوكم.
فتنادوا. الرواح إلى الجنة. فحملوا على الناس فافترقت خيل علىّ فرقتين، فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة،، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسّيوف فما لبثوا أن أناموهم، فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس، وجاءتهم الخيل من نحو علىّ فأهلكوا فى ساعة، فكأنّما قيل لهم موتوا فماتوا.
قال: وأخذ علىّ ما فى عسكرهم من شىء، فأما السّلاح والدّواب
__________
[1] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وياقوت وغيرهم. قال ياقوت: هى بلدة مشهورة فى طرف النهروان من ناحية الجبل. وفى المخطوطة: «البندجين» .(20/177)
وما شهر [1] عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه ردّه على أهله حين قدم.
وطاف عدىّ بن حاتم فى القتلى على ابنه طرفة، فدفنه، ودفن رجال قتلاهم، فقال علىّ حين بلغه ذلك تقتلونهم ثم تدفنونهم! ارتحلوا. فارتحل الناس ولم يقتل من أصحاب علىّ إلا سبعة؛ منهم يزيد بن نوبرة وله صحبة [2] وسابقة.
وهؤلاء الخوارج هم الذين ورد فى أمرهم فى الصحيح [الحديث] [3]
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يخرجون يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة [4] علامتهم رجل مخدج اليد [5] »
فالتمسه علىّ فى القتلى فوجده، فنظر فى عضده فإذا لحم مجتمع كثدى المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدّت امتدت حتى تحاذى يده الطّولى، ثم تترك فتعود إلى منكبه. وكان علىّ رضى الله عنه يحدّث الناس بهذا الحديث قبل وقعة الخوارج [6] .
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى الكامل لابن الأثير، وجاء فى تاريخ الطبرى «وما شهدوا به عليه الحرب» .
[2] انظر الاستيعاب ج 3 ص 655 وأسد الغابة ج 5 ص 122 والإصابة ج 3 ص 664.
[3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .
[4] أى يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشىء المرمى به ويخرج منه.
[5] مخدج اليد: ناقص اليد.
[6] انظر فى صحيح البخارى «كتاب استتابة المرتدين» ومن أبوابه «باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» و «باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن ينفر الناس عنه» وقد روى بسنده عن على رضى الله عنه الحديث «سيخرج قوم.» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما «أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية:
أسمعت النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدرى ما الحرورية؟ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فى هذه الأمة- ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة عن أبى سعيد قال ( ... آيتهم رجل إحدى يديه أو قال ثدييه مثل ثدى المرأة أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: أشهد أنى سمعت من النبى صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جىء بالرجل على النعت الذى نعته النبى صلى الله عليه وسلم» وانظر حديث (ذى الثدية) عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 202- 205 وانظر فى النهاية ولسان العرب شرحه فى المواد: خ د ج، ود ن، ث د ن، ث د ى، م ر ق، ر م ى، د ر د ر.(20/178)
وقيل كانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثلاثين.
قال: ولمّا فرغ علىّ رضى الله عنه من هذه الوقعة حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله قد أحسن بكم، وأعزّ نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم. قالوا: «يا أمير المؤمنين، نفدت سهامنا، وكلّت سيوفنا، ونصلت [1] أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا [2] ، فارجع إلى مصرنا. فلنستعدّ [بأحسن عدّتنا] [3] ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عدّتنا فإنه أقوى لنا على عدوّنا» . وكان الذى تولّى كلامه الأشعث بن قيس، فأقبل حتّى نزل النّخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطّنوا على الجهاد لعدوهم أنفسهم، وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا فيه أياما ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا من وجوه الناس وترك العسكر خاليا.
فلما رأى علىّ ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه فى المسير. وخطبهم مرة بعد أخرى، وحثّهم على الخروج إلى الشام فلم يتهيأ له ذلك. وحيث
__________
[1] فصلت: خرجت.
[2] قصدا: قطعا.
[3] الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى.(20/179)
ذكرنا أخبار الخوارج فلنذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النّهروان.
والله الموفق للصواب.
ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان
قال: ولما قتل أهل النّهروان خرج أشرس بن عوف الشّيبانىّ على علىّ رضى الله عنه بالدّسكرة فى مائتين، ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علىّ رضى الله عنه الأبرش بن حسان فى ثلاثمائة فواقعه، فقتل الأشرس فى شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج هلال بن علقمة [1] من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد، فأتى ماسبذان، فوجه إليه علىّ معقل بن قيس الرّياحىّ فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم فى جمادى الأولى منها.
ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة فى مائة وثمانين رجلا، فأتى المعركة التى أصيب فيها هلال وأصحابه فصلّى عليهم، ودفن من قدر عليه منهم، فوجه علىّ إليه جارية بن قدامة السّعدىّ، وقيل حجر بن عدى؛ فاقتتلوا بجرجرايا [2] من أرض جوخى فقتل الأشهب وأصحابه فى جمادى الآخرة منها.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمىّ من تيم الله بن ثعلبة فى شهر رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل، فأتى درزيجان [3] وهى من المدائن
__________
[1] ابن الأثير: «الكامل ح 3 ص 183.
[2] جرجرايا: بلد من أعمال النيهووان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرق.
[3] هكذا جاءت الكلمة فى معجم البلدان لياقوت، وقد وردت هذه الكلمة فى النسخة (ن) غير منقوطة الرابع والخامس، وفى (ك) جعلا تاء فجيما، وعند ابن الأثير جعلا نونا فجيما.(20/180)
على فرسخين، فخرج إليهم مجيعد بن [1] مسعود فقتلهم فى الشهر المذكور.
ثم خرج أبو مريم السّعدىّ التميمىّ فأتى شهر ذور وأكثر من معه من الموالى.
وقيل: لم يكن معه من العرب غير خمسة نفر، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل: أربعمائة. وجاء حتّى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل علىّ إليه يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل، وقال: ليس بيننا غير الحرب، فبعث إليه شريح بن هانئ فى سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقى شريح فى مائتين، فانحاز إلى قرية فرجع إليه بعض أصحابه، ودخل الباقون الكوفة، فخرج علىّ بنفسه، وقدّم بين يديه جارية بن قدامة السّعدىّ، فدعاهم جارية إلى طاعة علىّ وحذّرهم القتل، فلم يجيبوا، ودعاهم علىّ أيضا فأبوا عليه، فقتلهم أصحاب علىّ ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمّنهم. وكان فى الخوارج أربعون رجلا [جرحى] [2] فأمر علىّ بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برئوا. وكان قتلهم فى شهر رمضان المعظم سنة ثمان وثلاثين.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 188: «سعد بن مسعود» وقد سبق فى هذا الجزء أنه كان «على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفى» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : (فتراجع) .
[3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .(20/181)
ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى وبنى ناجية على علىّ رضى الله عنه وما كان من أمرهم
قال [1] وفى سنة ثمان وثلاثين أظهر الخرّيت بن راشد الناجى الخلاف على علىّ رضى الله عنه، وكان قد شهد مع علىّ الجمل وصفّين فى ثلاثمائة من بنى ناجية خرجوا إليه من البصرة، وأقاموا معه بالكوفة إلى هذه السنة، فجاء إلى علىّ فى ثلاثين راكبا، فقال له: «يا على والله لا أطيع لك أمرا، ولا أصلّى خلفك، وإنى غدا مفارق لك» .
فقال له على: «ثكلتك أمّك! إذا تعصى ربّك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك؛ خبرنى لم تفعل ذلك؟» قال: «إنك حكّمت الرّجال، وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زار وعليهم ناقم، ولكم جميعا مباين» . فقال له علىّ: «هلمّ أدارسك الكتاب، وأناظرك فى السّنن، وأفاتحك أمورا أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر» . قال: فإنى عائد إليك. قال: «لا تستهوينّك الشياطين، ولا يستخفنك الجهّال، والله لئن استرشدتنى وقبلت منى لأهدينك سبيل الرّشاد» . فخرج من عنده منصرفا إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه.
فقال زياد بن خصفة البكرىّ: «يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فنأسى عليهم، إنهم قلما يزيدون فى عددنا لو أقاموا، ولقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183.(20/182)
كثيرة ممن يقدمون عليه [1] من أهل طاعتك، فأذن لى فى اتباعهم حتى أردّهم عليك» . فقال: تدرى أين توجهوا؟ قال: لا، ولكنى أسأل وأتبع الأثر، فقال له: اخرج يرحمك الله، وأنزل دير أبى موسى، وأقم حتى يأتيك أمرى.
فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر وائل، وأعلمهم الخبر فسار [معه] [2] منهم مائة وثلاثون رجلا. فقال: حسبى.
ثم سار فأتى دير أبى موسى فنزله ينتظر أمر على.
وأتى عليا كتاب من قرظة بن كعب الأنصارىّ يخبره أنهم توجهوا نحو، نفّر [3] ، وأنهم قتلوا رجلا من الدّهاقين، كان قد أسلم، فأرسل علىّ رضى الله عنه إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم، وأنهم قتلوا رجلا مسلما، ويأمره بردّهم إليه، فإن أبوا يناجزهم.
وسيّر الكتاب مع عبد الله بن وأل، فاستأذنه فى المسير مع زياد، فأذن له، وسار بالكتاب إلى زياد.
وساروا حتى أتوا نفّر، فقيل: إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذاد [4] وهم نزول، قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخرّيت: أخبرونى ما تريدون؟ فقال له زياد- وكان مجربا رفيقا-: «قد ترى ما بنا من التعب، والذى جئناك
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 88، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 183: «عليك» .
[2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك)
[3] نفر: قرية بالعراق.
[4] المذار: بلد بالعراق.(20/183)
له لا يصلحه الكلام علانية، ولكن ننزل ثم نخلو جميعا، فنتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظا لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمرا نرجو فيه العافية لم نرده عليك» . قال: فانزل. فنزل زياد ومن معه على ماء هناك، فأكلوا شيئا وعلفوا دوابهم، ووقف زياد فى خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم وقال: إنّ عدّتنا كعدّتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال فلا تكونوا أعجز الفريقين. وخرج زياد إلى الخرّيت، فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالّون تعبون فتركناهم حتّى استراحوا، هذا والله سوء الرأى. فدعاه زياد وقال:
ما الذى نقمته [1] على أمير المؤمنين وعلينا حتّى فارقتنا؟» فقال:
«لم أرض صاحبكم إماما، ولا سيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشّورى» . فقال له زياد: «وهل يجتمع الناس على رجل يدانى صاحبك الذى فارقته علما بالله وسنّته وكتابه.
مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسابقته فى الإسلام» ؟
فقال [له] [2] : «ذلك ما قال لك» . فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ قال: ما أنا قتلته إنما قتله (طائفة من) [3] أصحابى. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما إلى ذلك سبيل. فدعا زياد أصحابه، ودعا الخرّيت أصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فتطاعنوا بالرماح حتّى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف، حتى انحنت، وعقرت عامّة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «نقمت» .
[2] ثبتت الكلمة فى (ن) وسقطت من (ك) .
[3] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .(20/184)
زياد رجلان، ومن أولئك خمسة، وجاء الليل فحجز بينهم، وقد كره بعضهم بعضا، وجرح زياد. فسار الخرّيت من الليل، وسار زياد إلى البصرة.
وأتاهم خبر الخرّيت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها، وتلاحق به ناس من أصحابه فصاروا نحو مائتين، وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بخبرهم، وأنه مقيم يداوى الجرحى وينتظر أمره.
فلما قرأ على كتابه قام معقل بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، كان ينبغى أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمرى ليصبرنّ لهم، فإن العدّة تصبر للعدة» . فقال على تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن معقل [1] الأزدى وكتب على إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلا شجاعا معروفا بالصلاح فى ألفى رجل إلى معقل، وهو أمير أصحابه حتّى يأتى معقلا، فإذا لقيه كان معقل الأمير، وكتب إلى زياد بن خصفة يشكره ويأمره بالعود.
قال: واجتمع على الخرّيت علوج كثير من أهل الأهواز أرادوا كسر الخراج، ولصوص وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج [فى كسره] [2] ، فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 93:
«المغفل» بالغين المعجمة والفاء، وانظر ما يأتى.
[2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 185.(20/185)
(وكان عاملا لعلىّ فى قول من يزعم أنه لم يمت فى سنة سبع وثلاثين) .
فقال ابن عبّاس لعلىّ: أنا أكفيك فارس بزياد؛ يعنى ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها، فأرسله فى جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدّوا الخراج واستقاموا.
قال: وسار معقل بن قيس، وقدم الأهواز، وأقام ينتظر مدد البصرة، فأبطئوا عليه، فسار يطلب الخرّيت، فلم يسر يوما حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائى، فساروا جميعا فلحقوهم بقرب جبل من جبال رامهرمز، فصفّ معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل [1] ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضّبىّ من أهل البصرة. وصفّ الخرّيت أصحابه، فجعل من معه من العرب ميمنة، ومن معه من أهل البلد والعلوج [2] ميسرة ومعهم الأكراد، فحرّك معقل دابّته [3] مرتين، ثم حمل فى الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين من بنى ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحوا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد.
وانهزم الخرّيت فلحق بأسياف البحر وبها جماعة كبيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علىّ، ويخبرهم أن الهدى فى حربه، حتى ابتعه منهم ناس كثير.
وأقام معقل بأرض الأهواز، وكتب إلى علىّ رضى الله عنه بالفتح فقرأ علىّ الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى النسخة (ن) : «معقل» ، وانظر ما سبق.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «العلوج» دون واو قبلها.
[3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل: «رأسه» ، وفى تاريخ الطبرى «رايته» .(20/186)
أن تأمر معقلا يتبع آثار الفاسق حتّى يقتله أو ينفيه، فإنّا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثنى عليه وعلى من معه، ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه.
فسأل معقل عنه فأخبر بمكانه بالأسياف، وأنه قد ردّ قومه عن طاعة علىّ وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب. وكان قومه قد منعوا الصّدقة عام صفّين وذلك العام، فسار إليهم معقل وأخذ على فارس فانتهى إلى أسياف البحر، فلما سمع الخرّيت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن عليّا لم ينبغ له أن يحكّم. وقال للآخرين من أصحابه: إنّ عليّا حكّم ورضى فخلعه حكمه الذى ارتضاه. وقال سرّا للعثمانية. أنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوما. فأرضى كلّ صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدّوا أيديكم على صدقاتكم، وصلوا بها أرحامكم، وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا؛ فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذى خرجنا منه خير من دين هؤلاء الذى لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، فقال لهم الخرّيت، ويلكم [1] ، لا ينجيكم من القتل إلا قتال هؤلاء القوم والصبر، فإنّ حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبة ولا عذرا. فخدعهم وجمعهم وأتاهم من كان من بنى ناجية وغيرهم خلق كثير.
فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان؛ وقال: «من أتاها من الناس فهو آمن إلّا الخرّيت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة» .
فتفرق عن الخرّيت جل من كان معه من غير قومه. وعبّأ معقل
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «ويحكم» .(20/187)
أصحابه، وزحف بهم نحو الخرّيت ومعه أصحابه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم، وحرّض كلّ واحد منهما أصحابه، ثم حمل معقل ومن معه فقاتلوا قتالا شديدا وصبروا، ثم إن النّعمان بن صهبان [الراسبى] [1] بصر بالخرّيت، فحمل عليه فطعنه، فصرع عن دابّته، ثم اختلفا ضربتين، فقتله النعمان؛ وقتل معه فى المعركة سبعون ومائة رجل، وذهب الباقون يمينا وشمالا، وسبى معقل من أدركه من حريمهم وذراريهم، وأخذ رجالا كثيرا، فأما من كان مسلما فخلّاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأمّا من كان ارتّد فعرض عليهم الإسلام، فرجعوا، فخلّى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلّا شيخا نصرانيا منهم يقال له الرّماحس لم يسلم فقتله.
وجمع من منع الصدقة، وأخذ منهم صدقة عامين.
واحتمل الأسارى وعيالهم وأقبل بهم، وشيعهم المسلمون، فلما ودّعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتّى رحمهم الناس.
ثم مرّ بهم حتى أقبل على مصقلة بن هبيرة الشّيبانى، وهو عامل علىّ على أردشير [2] خرّه، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: «يا أبا الفضل، يا حامى الرجال، ومأوى العضب [3] وفكّاك العناة [4] ، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا» . فقال مصقلة:
أقسم بالله لأتصدّقنّ عليكم إنّ الله يجزى المتصدقين [5] . فاشتراهم
__________
[1] الزيادة جاءت فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) .
[2] أردشير خره: اسم كورة من أعظم كور فارس، وهو اسم مركب معناه: بهاء أردشير، وأردشير ملك من ملوك الفرس.
[3] العضب: جمع الأعضب، وهو من لا ناصر له.
[4] العناة: جمع العانى، وهو الأسير.
[5] مأخوذ من الآية 88 فى سورة يوسف.(20/188)
من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجّل المال إلى أمير المؤمنين.
فقال أنا باعث الآن بعضه ثم [أبعث كذلك] [1] حتى لا يبقى منه شىء؛ وأقبلى معقل إلى علىّ فأخبره بما كان منه فاستحسنه.
وبلّغ عليا أنّ مصقلة أعتق الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه بشىء، فقال: ما أظنّ مصقلة إلّا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدا، وكتب إليه بحمل المال أو يحضر عنده، فحضر عنده، وحمل من المال مائتى ألف.
قال ذهل بن الحارث: فاستدعانى مصقلة ليلة فطعمنا، ثم قال:
إن أمير المؤمنين يسألنى هذا المال [2] ولا أقدر عليه. فقلت:
والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: «والله ما كنت لأحمّلها قومى؛ أما والله لو كان ابن هند [3] ما طالبنى بها، ولو كان ابن عفّان لو هبها لى» . قال فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأى، لا يترك منها شيئا. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية.
وبلغ عليا ذلك فقال: ما له أقرحه الله! فعل فعل السيّد وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر، أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على دينه [4] ، فإن وجدنا [5] له شيئا أخذناه وإلّا تركناه» . ثم سار علىّ إلى داره فهدمها، وأجاز عتق السّبى، وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينا على معتقهم.
__________
[1] زيادة تؤخذ من ابن جرير، وفى المخطوطة: «لذلك» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى النسخة (ك) : «فلا» .
[3] ابن هند: معاوية بن أبى سفيان.
[4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «حبسه» .
[5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «تهيأ» .(20/189)
وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعة لعلىّ، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب، اسمه حلوان يقول له: «إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة، فأقبل ساعة يلقاك رسولى والسلام [عليك] [1] فأخذه مالك بن كعب الأرحبىّ فسرحه إلى علىّ رضى الله عنه، فقطع علىّ يده، فمات. وكتب [2] نعيم إلى أخيه يلومه على لحاقه بالشام، وما فعله من هربه.. وأتاه [3] التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم فوداه لهم. وقال مصقلة:
لعمرى لئن عاب أهل العراق ... علىّ انتعاش بنى ناجيه
لأعظم من عتقهم رقهم ... وكفّى بعتقهمو حاليه [4]
وزايدت فيهم لإطلاقهم ... وغاليت إن العلا غاليه [5]
وحيث ذكرنا من أخبار علىّ ما قدمناه، فلنذكر ما وقع فى مدة خلافته خلاف ذلك على حكم السنين.
__________
[1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .
[2] انظر الشعر الذى كتبه نعيم إلى أخيه فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 104 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 187.
[3] أى أتى التغلبيون مصقلة، لأنه الذى بعث التغلبى فكان سببا فى هلاكه.
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «عاليه» .
[5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) «وعاليت إن العلا عاليه» .(20/190)
ذكر ما اتفق فى مدة خلافته رضى الله عنه
خلاف ما قدمنا ذكره على حكم السنين مما هو متعلق به خاصة، خلاف ما هو مختص بمعاوية فإنا نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى
سنة ست وثلاثين ذكر ولاية قيس بن سعد مصر
وما كان بينه وبين معاوية من المكاتبة وما أشاعه معاوية عنه حتّى عزله علىّ رضى الله عنه عن مصر واستعمل محمد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما.
قال: وفى سنة ست وثلاثين فى ثالث صفر بعث علىّ رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر، وقال له: «سر إلى مصر قد ولّيتكها واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها ومعك جند؛ فإن ذلك أرعب لعدوك وأعزّ لوليك، وأحسن [1] إلى المحسن، واشدد على المريب، وارفق بالعامّة والخاصّة، فإن الرّفق يمن» . فقال له قيس: «أمّا قولك أخرج إليها بجند فو الله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة» .
وخرج قيس حتى دخل مصر [2] فى سبعة من أصحابه كما ذكرنا ذلك. ولما قدم صعد المنبر وجلس عليه، وأمر بكتاب علىّ رضى الله عنه فقرىء على أهل مصر بإمارته عليهم، ويأمرهم بمتابعته ومساعدته
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «فأحسن» .
[2] فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 96 أنه وصل إليها فى مستهل شهر ربيع الأول(20/191)
وإعانته على الحقّ. ثم قام قيس فقال: «الحمد لله الذى جاء بالحق، وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيّها الناس: إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم [نعمل] [1] لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم» . فقام الناس فبايعوه.
واستقامت مصر، وبعث قيس عليها عمّاله إلّا قرية يقال لها خربتا [2] فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بنى كنانة ثم من بنى مدلج اسمه يزيد بن الحارث. وكان مسلمة بن مخلّد أيضا قد أظهر الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قيس» : ويحك!.
أعلىّ تثب؟! فو الله ما أحبّ أن لى ملك الشام إلى مصر وأنى قتلتك» .
نبعث إليه مسلمة: إنى كاف عنك ما دمت أنت والى مصر. وبعث قيس إلى أهل خربتا إنى لا أكرهكم على البيعة، وإنى أكفّ عنكم. فهادنهم وجبى الخراج، ليس أحد ينازعه.
فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية، لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علىّ فى أهل العراق، وقيس فى أهل مصر، فيقع بينهما، فكتب معاوية إلى قيس: «سلام [3] عليكم؛ أمّا بعد، فإنكم نقمتم [4] على عثمان ضربة بسوط، أو شتمة لرجل، أو تسيير آخر، أو استعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحلّ لكم؛ فقد ركبتم عظيما
__________
[1] كذا جاء عند الطبرى ج 3 ص 551 وابن الأثير ج 3 ص 173، وجاء فى المخطوطة: «تعلم» .
[2] انظر فى أوائل هذا الجزء فى (ذكر تفريق على عماله) الكلام فى هذا اللفظ وهل هو «خرنبا» أو «خربتا» ؟.
[3] كذا جاء فى المخطوطة، وعند بن الأثير: «عليك» .
[4] كذا جاء فى المخطوطة، وفى النجوم الزاهرة ج 1 ص 99 «فإنكم إن كنتم نقمتم» .(20/192)
وجئتم أمرا إدّا، فتب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأمّا صاحبك، فإذا استيقنّا أنه أغرى به الناس، وحملهم حتّى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان، وسلنى ما شئت فإنى أعطيكه، واكتب إلىّ برأيك» .
فلما أتاه الكتاب أحبّ أن يدافعه ولا يبدى له أمره، ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: «أمّا بعد، فقد [بلغنى كتابك و] [1] فهمت ما ذكرته [فيه، فأمّا ما ذكرت] [1] من قتل عثمان، فذلك شىء لم أفارقه، وذكرت أن صاحبى هو الذى أغرى به حتّى قتلوه فهذا ما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتى لم تسلم [من دم عثمان] [1] فأوّل الناس كان فيها قياما عشيرتى، وأمّا ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لى فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، وليس يأتيك من قبلى ما تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى» .
فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا [2] ، فكتب إليه:
«أمّا بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلى يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل، والسلام.
__________
[1] الزيادة من النجوم الزاهرة.
[2] «فلم يأمن مكره ومكينته» كما فى النجوم الزاهرة.(20/193)
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا تفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما فى نفسه، فكتب إليه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بى وطمعك فىّ، واستسقاطك رأيى، أتسومنى الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرنى بالدخول فى طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزّور، وأضلّهم سبيلا، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس. وأمّا قولك: إنّى مالئ عليك مصر خيلا ورجلا [1] ، فو الله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهمّ إليك إنك لذو وجد [2] ، والسلام.
فلما رأى معاوية كتابه أيس منه، وثقل عليه مكانه، ولم تنجع حيله فيه فكاده، من قبل علىّ، فقال لأهل الشام: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى غزوه، فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ورسله ونصيحته لنا سرا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويحسن إليهم. وافتعل كتابا [3] عن قيس بالطّلب بدم عثمان، والدخول معه فى ذلك، وقرأه على أهل الشام.
فبلغ ذلك عليا فأعظمه وأكبره، ودعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يربيك إلى
__________
[1] فى النجوم الزاهرة: «وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل وغيره. «إنك للوجد» والجد: الحظ.
[3] انظر تاريخ الطبرى ج 3 ص 554 والنجوم الزاهرة ج 3 ص 101.(20/194)
إلى ما لا يريبك [1] اعزل قيسا عن مصر. فقال: والله إنى لا أصدّق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله، فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك.
فبينما هم كذلك إذ جاء كتاب قيس يخبر بحال المعتزلين وكفّه عن قتالهم، فقال ابن جعفر: ما أخوفنى أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم، فكتب إليه يأمره بقتالهم، فأجابه: «أما بعد، فقد عجبت لأمرك! تأمرنى بقتال قوم كافّين عنك، مفرغيك لعدوّك ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوّك؛ فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإن الرأى تركهم، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ ابعث محمد ابن أبى بكر [2] على مصر واعزل قيسا. فبعث محمدا إلى مصر- وقيل:
بعث الأشقر النّخعىّ فمات بالطريق فبعث محمدا- فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس: «ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيّره؟ أدخل أحد بينى وبينه؟» قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال، لا:
والله لا أقيم.
وخرج إلى المدينة وهو غضبان، فأخافه مروان بن الحكم فخرج من المدينة هو وسهيل بن حنيف إلى علىّ رضى الله عنه فشهدا معه صفّين، فبعث معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عندى من قيس بن سعد فى رأيه ومكانه.
__________
[1]
حديث رواه الترمذى والنسائى وأحمد بن حنبل عن الحسن بن على وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
. [2] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 139: «وكان ابن جعفر أخا محمد أبى بكر لأمه» .(20/195)
ولما قدم قيس على علىّ وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسى أمورا عظاما من المكايد وعظم محلّ قيس عنده وأطاعه فى الأمر كله.
قال. وأما محمد بن أبى بكر فإنه لما قدم مصر قرأ كتاب علىّ رضى الله عنه إلى أهل مصر عليهم، ثم قام فقال: «الحمد لله الذى هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمى عنه الجاهلون، ألا إنّ أمير المؤمنين ولّانى أمركم، وعهد إلىّ ما سمعتم، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتى وأعمالى طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادى له، وإن رأيتم عاملا لى بغير الحقّ فارفعوه إلى وعاتبونى فيه، فإنى بذلك أسعد وأنتم جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته» . ثم نزل.
فلم يلبث إلا شهرا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس بن سعد، فقال لهم: إما أن تدخلوا فى طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنّا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرنا إليه، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا وأخذوا حذرهم، وكانت وقعة صفّين وهم هائبون لمحمد، فلما رجع علىّ ومعاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا فيه، وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحارث بن جهمان [1] الجعفىّ إلى أهل خربتا فقاتلهم فقتلوه، فبعث إليهم رجلا من كلب يدعى ابن مضاهم فقتلوه. ثم كان من خبر محمد بن أبى بكر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وفى (ن) : «جمهان» مثل ابن جرير وابن الأثير.(20/196)
وفى هذه السنة قدم أبراز مرزبان مرو إلى علىّ رضى الله عنه بعد الجمل مقرا بالصلح، فكتب له كتابا إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور، فبعث علىّ خليد بن قرّة- وقيل:
ابن طريف- اليربوعىّ إلى خراسان.
وفيها مات حذيفة بن اليمان قبل وقعة الجمل.
وفيها مات سلمان الفارسىّ فى قول بعضهم، وكان عمره مائتين وخمسين سنة هذا أقلّ ما قيل فيه، وقيل: ثلاثمائة وخمسين سنة، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه الصلاة والسلام.
وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه على الرّىّ يزيد بن حجيّة التّيمىّ (تيم الّلات) فكسر من خراجها ثلاثين ألفا، فكتب إليه علىّ يستدعيه، فحضر فسأله عن المال، وقال: أين ما غللته من المال؟ فقال: ما أخذت شيئا؛ فخفقه بالدّرة خفقات وحبسه، فوكل به سعدا مولاه فهرب منه يريد الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من على، وبقى بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق فولّاه الرىّ. وقيل: إنه شهد مع علىّ الجمل وصفّين والنّهروان، ثم ولّاه بعد ذلك الرىّ وهو الصحيح.
سنة سبع وثلاثين
فيها بعث علىّ رضى الله عنه جعدة بن هبيرة المخزومى إلى خراسان بعد عودته من صفّين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا(20/197)
فرجع إلى علىّ، فبعث خليد بن قرّة اليربوعى، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو.
وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس [1] رضى الله عنهما.
سنة ثمان وثلاثين
فى هذه السّنة ملك عمرو بن العاص مصر، وقتل محمد بن أبى بكر على ما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية.
ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى حين بعثه معاوية إلى البصرة وما كان من أمره إلى أن قتل
وفى هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبى بكر بعث معاوية عبد الله ابن عمرو الحضرمىّ إلى البصرة، وقال له: إنّ جلّ أهلها يرون رأينا فى عثمان، وقد قتلوا فى الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودّون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم فى الطلب بثأرهم ودم إمامهم، فانزل فى مضرو تودّد للأزد فإنهم كلّهم معك، وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم ترابيّة [2] كلّهم وأحذرهم.
فسار ابن الحضرمىّ حتّى قدم البصرة، وكان ابن عباس قد خرج إلى على بالكوفة، واستخلف زياد ابن أبيه على البصرة، فنزل ابن الحضرمىّ فى بنى تميم، فأتاه العثمانية وحضره غيرهم، فخطبهم وقال: «إن إمامكم إمام الهدى قتل مظلوما، قتله علىّ فطلبتم بدمه، فجزاكم الله خيرا» .
__________
[1] قال ابن الأثير فى الكامل؛ «وكان عامل على على اليمن» .
[2] أى من شيعة «أبى تراب» وتلك كنية على رضى الله عنه.(20/198)
فقام الضحاك بن قيس [1] الهلالىّ وكان على شرطة ابن عباس فقال: قبّح الله ما جئتنا به، وما تدعونا إليه، وسبّه، وذكر فضل علىّ رضى الله عنه،.
فقال عبد الله بن خازم [2] السّلمىّ للضحاك: اسكت، فلست بأهل أن تتكلم، ثم أقبل على ابن الحضرمىّ فقال: نحن أنصارك ويدك، والقول قولك، اقرأ كتابك. فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكّرهم فيه آثار عثمان، ويدعوهم إلى الطلب بدمه، ويضمن أنه يعمل فيهم بالسّنّة، ويعطيهم عطاءين فى كلّ سنة.
فلما فرغ من قراءته قام الأحنف، فقال: لا ناقتى فى هذا ولا جملى.
واعتزل القوم.
وقام عمرو بن مرجوم [3] العبدىّ [4] فقال: أيها الناس، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم الواقعة.
وكان العباس بن صحار العيدىّ مخالفا لقومه فى حبّ علىّ، فقام وقال: لننصرّنك بأيدينا وألسنتنا. فقال له المثنى بن مخرّبة [5] العبدىّ: والله لئن لم ترجع إلى المكان الذى جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا، ولا يغرنك هذا الذى تكلم. (يعنى ابن صحار) .
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى (ك) : «زيد» .
[2] بالخاء المعجمة والزاى، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 183.
[3] بالجيم كما نص عليه صاحب الإصابة، وجاء فى النسخة (ن) «مرحوم» وفى النسخة (ك) محروم» .
[4] من عبد القيس، قال ابن سعد: قدم فى وفد عبد القيس،.
[5] بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة، كما نص عليه ابن الأثير فى الكامل.(20/199)
فقال ابن الحضرمىّ لصبرة بن شيمان: أنت ناب من أنياب العرب فانصرنى. فقال: لو نزلت فى دارى لنصرتك.
فلما رأى زياد ذلك خاف، فاستدعى حضين بن المنذر ومالك ابن مسمع، وقال: أنتم يا معشر بكر بن وائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته، وقد كان من ابن الحضرمىّ ما ترون، وأتاه من أتاه، فامنعونى حتى يأتى [أمر] [1] أمير المؤمنين» . فقال حضين بن المنذر:
نعم. وقال مالك- وكان يميل إلى بنى أمية-. هذا أمر لى فيه شركاء أستشير فيه وأنظر [2] .
فلما رأى زياد تثاقل مالك أرسل إلى صبرة بن شيمان الحدّانىّ الأزدىّ يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين، فقال: إن حملته إلى دارى أجرتكما، فنقله إلى داره بالحدّان ونقل المنبر، فكان يصلّى الجمعة بمسجد الحدّان.
وكتب زياد إلى علىّ رضى الله عنه بالخبر، فأرسل إليه أعين ابن ضبييعة المجاشعىّ ثم التميمى، ليفرق قومه عن ابن الحضرمى، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك.
فقدم أعين فأتى زيادا فنزل عنده، وجمع رجالا وأتى قومه، ونهض إلى ابن الحضرمىّ ومن معه فدعاهم فشتموه، وواقفهم نهاره، ثم انصرف عنهم، فدخل عليه قوم، قيل: إنهم من الخوارج، وقيل: وضعهم ابن الحضرمى على قتله، فقتلوه غيلة، فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم، فأرسلت تميم إلى الأزد: إنا لم نتعرض لجاركم
__________
[1] الزيادة من ابن الأثير.
[2] الزيادة من ابن الأثير.(20/200)
فما تريدون إلى جارنا؟ فكرهت الأزد قتالهم، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه.
وكتب زياد إلى على بخبر أعين وقتله، فأرسل علىّ جارية بن قدامة السّعدىّ وهو من بنى سعد من تميم، وبعث معه خمسين رجلا من تميم، وقيل: خمسمائة رجل، وكتب إلى زياد يأمره بمعونته والإشارة عليه.
فقدم جارية البصرة، فحذّره زياد ما أصاب أعين، فقام جارية فى الأزد وجزاهم خيرا، وقال: عرفتم الحقّ إذ جهله غيركم. وقرأ كتاب علىّ إلى أهل البصرة يوبّخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء. فقال صبرة ابن شيمان: سمعا لأمير المؤمنين وطاعة: نحن حرب لمن حاربه، وسلم لمن سالمه. وصار جارية إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علىّ رضى الله عنه ووعدهم، فأجابه أكثرهم.
فسار إلى ابن الحضرمىّ ومعه الأزد ومن تبعه من قومه، وعلى خيل ابن الحضرمىّ عبد الله بن حازم السّلمىّ، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك ابن الأعور فصار مع جارية، فانهزم ابن الحضرمىّ فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن حازم، [فأتته] [1] أمه عجلى وكانت حبشية، فأمرته بالنزول فأبى، فقالت: والله لتنزلنّ أو لأنزعنّ ثيابى. فنزل ونجا، وأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمىّ وسبعون رجلا منهم معه، وعاد زياد إلى القصر.
__________
[1] فى الأصل «فأمر أمه عجلى ... » الخ.
وما أثبتناه عن ابن الأثير.(20/201)
قال وكان قصر سنبيل لفارس وصار لسنبيل السعدىّ، وحوله خندق.
وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر، فقال عمرو بن العرندس:
رددنا زيادا إلى داره ... وجار تميم دخانا ذهب
لحا الله قوما شووا جارهم ... ولم يدفعوا عنه حرّ اللهب
وقال جرير [1] :
غدرتم بالزّبير فما وفيتم ... وفاء الأزد إذ منعوا زيادا
فأصبح جارهم بنجاة عزّ ... وجار مجاشع أمسى رمادا
فلو عاقدت حبل أبى سعيد ... لذاد القوم ما حمل النّجادا
وأدنى الخيل من رهج المنايا ... وأغشاها إلا سنّة والصّعادا [2]
قال [3] : وحجّ بالناس فى هذه السّنة قثم بن العبّاس من قبل علىّ [4] رضى الله عنهم.
سنة تسع وثلاثين
فى هذه السّنة بثّ معاوية سراياه فى بلاد على رضى الله عنه، فكان من خبرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار معاوية.
وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه زياد بن أبيه على كرمان وفارس فضبطها بعد أن اضطربت أمورها [5] .
__________
[1] انظر ديوان جرير ص 142- 143.
[2] الصعا: الرماح، والصعدة- فى الأصل-: القناة المستوية.
[3] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 188.
[4] وكان قثم عاملا لعلى على مكة، كما قال ابن الأثير.
[5] قال ابن الأثير: سبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمى واختلف الناس على على، طمع أهل فارس وكرمان فى كسر الخراج فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم. الخ.(20/202)
وحجّ بالناس فى هذه السّنة عبيد الله بن عباس من قبل علىّ، وقيل:
قثم بن العباس، وقيل: إن معاوية بعث يزيد بن شجرة الرّهاوىّ ليحجّ [بالناس فاختلف هو وعبيد الله بن عباس، ثم اتفقا على أن يحج] [1] بالناس شيبة بن عثمان فحّج. والله أعلم.
وفيها توجّه الحارث بن مرّة العبدى إلى بلاد السّند غازيا متطوعا بأمر علىّ رضى الله عنه فغنم وأصاب سبيا كثيرا، وقسم فى يوم واحد ألف رأس وبقى غازيا إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه [إلا قليلا] [2] فى سنة اثنتين وأربعين.
سنة اربعين
فى هذه السّنة بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ففعل من الأفعال القبيحة وسفك من الدماء المحرمة ما نذكره فى أخبار معاوية.
وفيها جرت مهادنة بين علىّ ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب، ويكون لعلى العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة، واتفقا على ذلك.
وفيها فارق عبد الله بن عباس البصرة ولحق بمكة فى قول أكثر أهل التاريخ، وسبب ذلك أنه مر بأبى الأسود فقال له: «لو كنت من البهائم لكنت جملا، ولو كنت راعيا لما بلغت المرعى» .
فكتب أبو الأسود إلى علىّ رضى الله عنه: « ... إن ابن عمك قد أكل
__________
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) وبها يظهر وجه الكلام، وسقط من النسخة (ك) .
[2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 191.(20/203)
ما تحت يده بغير علمك، ولم يسعنى كتمانك رحمك الله، فانظر فيما هناك وكتب إلىّ برأيك فيما أحببت والسلام» .
فكتب إليه علىّ: «أما بعد فمثلك من نصح الإمام والأمة، ووالى على الحقّ، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلىّ، ولم أعلمه بكتابك فلا تدع إعلامى بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح، فإنك بذلك جدير، وهو حق واجب عليك والسلام.
وكتب إلى ابن عباس فى ذلك، فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد فإن الذى بلغك باطل، وإنى لما تحت يدى ضابط، وله حافظ، فلا تصدّق الظّنين [1] والسلام. فكتب إليه علىّ: أمّا بعد، فأعلمنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت، وفيما وضعت» .
فكتب إليه ابن عباس: «أمّا بعد، فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك أنى [2] رزأته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإنّى ظاعن عنه والسلام» .
واستدعى أخواله بنى هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالا وقال: هذه أرزاقنا اجتمعت، فتبعه أهل البصرة، فلحقوه بالطّفّ يريدون أخذ المال فقال قيس: والله لا يوصل إليه وفينا عين تطرف. فقال صبرة بن شيمان الحدّانىّ: «يا معشر الأزد إن قيسا إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدوّ، وإن الذى يصيبكم من هذا المال القليل، وهم لكم خير من المال» . فأطاعوه، فانصرفوا وانصرف معهم بكر وعبد القيس.. وقاتلهم بنو تميم فنهاهم الأحنف، فلم يسمعوا
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل، وجاء فى (ك) : «الضغين» .
[2] رزأه ماله: أصاب منه شيئا.(20/204)
منه، فاعتزلهم، وقاتلهم بنو تميم فحجز الناس بينهم.. ومضى ابن عباس إلى مكة المشرفة.
وقيل بل أقام بالبصرة إلى أيام الحسن- رضى الله عنه وأرضاه، وشهد صلح الحسن ومعاوية.
والأول أصح، والذى شهد الصلح عبيد الله بن عباس.
ذكر مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وشىء من سيرته
كان مقتله فى شهر رمضان سنة أربعين ليلة الجمعة. قيل: لسبع عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة ليلة. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. والأول أصح.
وقاتله عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ ثم التّجوبىّ [1] ، وأصله من حمير، ولم يختلفوا [2] فى أنه حليف لمراد، وعداده فيهم.
وكان سبب قتله أن عبد الرحمن هذا، والبرك بن عبد الله التّميمى الصريمى واسمه الحجاج، وعمرو بن بكر التّميمىّ السّعدىّ وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس، وعابوا ولاتهم، ثم ذكروا أهل النّهروان، وقالوا: «ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا نفوسنا، وقتلنا أئمة الضّلالة، وأرحنا منهم البلاد!» . فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليا. وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية
__________
[1] فى القاموس «تجوب: قبيلة من حمير» وانظر فى الاستيعاب ج 3 ص 56 سبب التسمية.
[2] هذا من كلام ابن عبد البر فى الاستيعاب.(20/205)
وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا على ذلك، وسمّوا سيوفهم واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل منهم الجهة التى يريدها.
فأما البرك بن عبد الله فإنه توجه إلى معاوية، فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف فوقع فى أليته، وأخذ فقتل. وقيل: لم يقتله وإنما قطع يده ورجله. وبعث معاوية إلى الساعدىّ، وكان طبيبا، فقال له: «اختر إمّا أن أحمى حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد» . فقال: «أمّا النار فلا صبر لى عليها، وأما الولد ففى يزيد وعبد الله ما تقرّ به عينى. فسقاه شربة فبرئ ولم يولد له بعدها.
وأما عمرو بن بكر- فإنه جلس لعمرو بن العاص فى تلك الليلة، فما خرج لشكاية نالته فى بطنه، فأمر خارجة ابن حبيبة- وكان صاحب شرطته- أن يصلى بالناس، فخرج ليصلّى، فشدّ عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص فقتله. فأتى به إلى عمرو فقال: من هذا؟.
قالوا: عمرو. قال ومن قتلت؟ قالوا: خارجة. قال:
أما والله ما ظننته غيرك. فقال: أردتنى وأراد الله خارجة؛ وقتله عمرو.
هكذا نقل ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] فى هذه الواقعة فى القاتل والمقتول.
__________
[1] ج 3 ص 198.(20/206)
وقال أبو عمر بن عبد البر [1] : إن القاتل اسمه زادويه رجل من بنى العنبر بن عمرو بن تميم، قال وقيل: مولى لبنى العنبر. وفى المقتول إنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد ابن عويج بن عدّى بن كعب القرشىّ العدوىّ، وأمه فاطمة بنت عمرو بن بجرة العدويّة. وقال فى ترجمته: كان أحد فرسان قريش، يقال: إنه كان يعدل بألف فارس، قال: وذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر ليمدّه بثلاثة آلاف فارس، فأمدّه بالزّبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وخارجة بن حذافة هذا، وقال: إنه لما قتل وأدخل القاتل على عمرو فقال: من هذا الذى تدخلونى عليه؟ فقالوا: عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلته؟
قيل: خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وقيل: إن ذلك من كلام عمرو كما تقدم. وفى ذلك يقول عبد الجيد بن عبدون:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بمن شاءت من البشر
وأمّا عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله تعالى آمين- فإنه أتى الكوفة واشترى سيفا بألف، وسقاه السم حتى لقطه، وكان فى خلال ذلك يأتى عليا رضى الله عنه فيسأله فيعطيه، ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينه على قطام بنت علقمة، وهى تيم الرّباب، وقيل هى منى بنى عجل بن لجيم، وكانت ترى رأى الخوارج، وكان علىّ قد قتل أباها وإخوتها بالنّهروان، وكانت امرأة رائعة جميلة، فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه، فخطبها، فقالت: لقد آليت أن لا أتزوج إلّا على مهر لا أريد سواه. فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثة آلاف
__________
[1] فى الاستيعاب ج 1 ص 420- 421.(20/207)
درهم وعبد وقينة وقتل على بن أبى طالب. فقال: «والله لقد قصدت لقتل على بن أبى طالب والفتك به، وما أقدمنى إلى هذا المصر غير ذلك، ولكنى لما رأيتك آثرت تزويجك» . فقالت: ليس إلّا الذى قلت لك. فقال لها: «وما يعنيك أو يعنينى [1] منك قتل علىّ؟ وأنا أعلم أنى إن قتلته لم أفت» . فقالت: «إن قتلته ونجوت فهو الذى أردت، تبلغ شفاء نفسى ويهنيك العيش معى، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها» . فقال لها: لك ما اشترطت ففى ذلك يقول ابن ملجم:
ثلاثة آلاف وعبد وقيّنة ... وضرب علىّ بالحسام المصمّم
فلا مهر أغلى من علىّ وإن غلا ... ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم
[وقد رويت هذه لغيره، وأولها:] [2]
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم
وقالت قطام له: إنى سألتمس لك من يشدّ ظهرك. فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد، فأجابها.
ولقى ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعى فقال له: يا شبيب هل لك فى شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدنى على قتل علىّ بن أبى طالب، فقال: «ثكلتك أمّك! لقد جئت شيئا إدّا، كيف تقدر على ذلك؟» قال: «إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردا دون من يحرسه، فنكمن له فى المسجد،
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 3 ص 58 والرياض النضر ج 2 ص 246 «وما يغنينى وماذا يغنينى منك» بالغين المعجمة فى الكلمتين.
[2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . وقد روى ابن جرير الأبيات الثلاثة لابن مياس المرادى.(20/208)
فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر فى الدنيا وبالجنة فى الآخرة» . فقال: «ويلك! إن عليا ذو سابقة فى الإسلام وفضل، والله ما تنشرح نفسى لقتله» .
قال: «ويلك! إنه حكّم الرجال فى دين الله، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل، فلا تشكّن فى دينك» . فأجابه، وأقبلا حتى دخلا على قطام، وهى معتكفة فى المسجد الأعظم فى قبّة ضربتها لنفسها، فدعت لهم.
وأخذوا أسيافهم وجلسوا قبالة السّدّة التى يخرج منها علىّ رضى الله عنه، فخرج إلى صلاة الصبح يوم الجمعة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، ووقع سيفه بعضادة الباب، وضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علىّ لا لك ولا لأصحابك. فقال علىّ رضى الله عنه: فزت ورب الكعبة! لا يفوتنكم الكلب!.
وهرب شبيب خارجا من باب كندة، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عويمر، فصرعه، وأخذ سيفه، وجلس على صدره فصاح الناس: عليكم بصاحب السيف، فخاف عويمر على نفسه فتركه ونجا، فهرب شبيب فى غمار الناس.
وهرب وردان إلى منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف وجاء بسيفه وقتل وردان.
وأما ابن ملجم فإنه لما ضرب عليّا حمل على الناس، فأفرجوا له، فتلقّاه المغيرة بن الحكم بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، فرمى عليه قطيفة واحتمله وصرعه وقعد على صدره.(20/209)
واختلفوا: هل ضربه فى الصلاة؟ أو قبل الدخول فيها؟ وهل استخلف من أتمّ بهم الصلاة أو هو أتمها؟ قال أبو عمر بن عبد [1] البر: والأكثر أنه استخلف جعدة [2] بن هبيرة، فصلّى بهم تلك الصلاة.
قال: [3] ثم قال على رضى الله عنه لأصحابه حين أخذوا ابن ملجم:
احبسوه فإن متّ فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى فى العفو أو القصاص.
وقيل [4] : إنه قال لهم: «النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه وإن بقيت رأيت فيه رأيى، يا بنى عبد المطلب لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ إلّا قاتلى» .
وأتت [5] أم كلثوم ابنة على رضى الله عنهما إلى ابن ملجم وهو مكتوف فقالت: «أى عدو الله، إنه لا بأس على أبى، والله مخزيك» .
قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد شريته بألف وسممّته بألف، ولو كانت الضربة بأهل مصر ما بقى منهم أحد.
قال: ثم أوصى علىّ رضى الله عنه أولاده بتقوى الله، ولم ينطق إلا بقول «لا إله إلا الله» حتى مات رضى الله عنه وأرضاه.
روى [6]
عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ
__________
[1] فى الاستيعاب ج 3 ص 59.
[2] أم جعدة هى أم هانىء أخت على بن أبى طالب.
[3] أبو عمر أبن عبد البر.
[4] انظر الكامل لابن الأثير ج 3 ص 196.
[5] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 112 والكامل.
[6] انظر لهذه الرواية وما بعدها الاستيعاب ج 3 ص 60- 61.(20/210)
رضى الله عنه: من أشقى الأولين؟: قال: الذى عقر الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال؟ لا أدرى. قال: «الذى يضربك على هذا»
يعنى يافوخه، «فيخضب هذه» يعنى لحيته.
وعن ثعلبة الجمانى قال: سمعت على بن أبى طالب رضى الله عنه يقول: والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لتخضبن هذه (يعنى لحيته) من دم هذا (يعنى رأسه)
وروى النسائى من حديث عمار بن ياسر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشقى الناس الذى عقر الناقة والذى يضربك على هذا
- ووضع يده على رأسه- حتى تخضب هذه، (يعنى لحيته) وعن ابن سيرين عن عبيدة قال: كان على بن أبى طالب رضى الله عنه إذا رأى ابن ملجم قال [1] :
أريد حياته [2] ويريد قتلى ... عذيرك [3] من خليلك من مراد
__________
[1] قال على رضى الله عنه هذا البيت متملا به، وهو من قصيدة لعمرو بن، معديكرب الزبيدى قالها لابن أخته قيس بن مكشوح المرادى، وكان بينهما تباعد وتنافس فكان مما قاله قيس:
فلولا قيتنى لا قيت قرنا ... وودعت الأحبة بالسلام
ومما قاله عمرو بن معد يكرب:
نمنانى ليلقانى قييس ... وددت وأينما منى ودادى
«قييس» تصغير «قيس» . ويروى «أبى» .
أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد
ولو لاقيتنى ومعى سلاحى ... تكشف شحم قلبك عن سواد
وقوله (أريد حياته ويريد قتلى) مما كثر التمثل به وإدخاله فى الشعر، فقد تمثل به عبيد الله بن زياد كما سيأتى وتمثل به غيرهما.
[2] هكذا جاء فى بعض الروايات، وجاء فى بعض الروايات «حباءه» والحباء: العطية، قال البغدادى فى خزانة الأدب ج 4 ص 281: «يقول: أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلى وتمنيه موتى فمن يعذرنى منه؟
ويروى: أريد حياته» .
[3] فى خزانة الأدب: البيت من شواهد سيبويه: قال الأعلم: الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل بدلا منه، والمعنى هات عذرك، والتقدير: اعذرنى منه عذرا، واختلف فى العذير، فمنهم من جعله مصدرا بمعنى العذر، وهو مذهب سيبويه، ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم» . وانظر سيبوية ومعه الأعلم فى الكتاب ج 1 ص 139.(20/211)
وكان علىّ رضى الله عنه كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها- أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا- ويشير إلى لحيته ورأسه- خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير؟.
وروى عمر بن شبّة عن أبى عاصم النّبيل [1] وموسى بن إسماعيل عن سكين بن عبد العزيز العبدى، أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن [بن ملجم] [2] يستحمل عليا فحمله، ثم قال:
أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد
أما إن هذا قاتلى. قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلنى بعد.
وأتى علىّ رضى الله عنه فقيل له: ابن ملجم يسمّ سيفه، ويقول:
إنه سيفتك به فتكة يتحدّث بها العرب. فبعث إليه فقال له: لم تسم سيفك؟ قال لعدوّى وعدوّك. فخلّى عنه.
وفى كلام على رضى الله عنه يقول بكر بن حماد [3] :
وهزّ علىّ بالعراقين لحية ... مصيبتها حلت على كلّ مسلم
فقال: سيأتيها من الله حادث ... ويخضبها أشقى البريّة بالدّم
فباكره بالسيف شلّت يمينه ... لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه ... تبوّأ منها مقعدا فى جهنّم
__________
[1] أبو عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيبانى.
[2] الزيادة من الاستيعاب ج 3 ص 60 حيث نقل المؤلف.
[3] فى الاستيعاب ج 3 ص 66 «فيها» .(20/212)
ففاز أمير المؤمنين بحظّه ... وإن طرقت فيه الخطوب بمعظم
ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة ... حلاوتها شيبت [1] بصاب وعلقم
وحكى عن عثمان بن المغيرة قال: لما دخل رمضان، كان على رضى الله عنه يتعشى ليلة عند الحسن رضى الله عنه، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن جعفر رضى الله عنهم، لا يزيد على ثلاث لقم، ثم يقول رضى الله عنه: يأتينى أمر الله وأنا خميص [2] ، وإنما هى ليلة أو ليلتان، فلم يمض قليل حتى قتل.
وقال الحسن [3] ابن كثير عن أبيه قال: خرج علىّ رضى الله عنه [4] من الفجر، فأقبل الإوزّ يصحن فى وجهه، فطردوهن عنه، فقال: ذروهنّ فإنّهن نوائح، فضربه ابن ملجم فى ليلته.
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما يوم قتل على: خرجت البارحة وأبى يصلّى فى مسجد داره، فقال لى: «يا بنى إنى بتّ أوقظ أهلى لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر [5] فملكتنى عيناى فنمت، فسنح [6] لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللّدد [7] ، فقال لى: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلنى بهم من هو خير منهم وأبدلهم بى من هو
__________
[1] شيبت: مزجت.
[2] خميص: جائع.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وفى الرياض النضرة: «الحسين بن كثير» ، وفى النسخة (ك) : «الحسن بن كرب» .
[4] فى الرياض النضرة ج 2 ص 245 حيث ذكر هذا الحديث: «إلى الفجر» .
[5] ذكر ابن عبد البر فى آخر روايته لهذا الحديث فى الاستيعاب ج 3 ص 62 «وذلك فى صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان: صبيحة بدر» .
[6] سنح: عرض.
[7] جاء فى هامش النسخة (ك) : «الأود: العوج، واللدد: الخصومة» .(20/213)
شر منى» فجاء ابن النّبّاح [1] فآذنه بالصلاة فخرج، وخرجت خلفه، فضربه ابن ملجم فقتله.
وروى أبو عمر ابن عبد البر بسنده إلى عبد الله بن مالك قال:
جمع الأطبّاء لعلىّ رضى الله عنه يوم جرح، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السّكّونى، وكان يقال له: أثير بن عمريا، وكان صاحب كسرى يتطبّب له، وهو الذى ينسب إليه صحراء أثير [2] ، فأخذ أثير رئة [شاة] [3] حارّة [4] ، فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله فى فى جراحة على، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض دماغ.
وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنك ميّت.
وفى ضربة ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجى يمدح ابن ملجم:
لله درّ المرادى الذى سفكت ... كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا
أمسى عشيّة غشّاه بضربته ... ممّا جناه من الآثام عريانا
يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
__________
[1] فى الاستيعاب والرياض النضرة: «ثم انتبه، وجاءه مؤذنه بالصلاة» ، واسم مؤذنه: عامر بن النباح.
[2] بالكوفة.
[3] الزيادة من الاستيعاب حيث نقل المؤلف، ومن معجم البلدان لياقوت.
[4] أى: حديثة الذبح.(20/214)
فقال بكر بن حماد التّاهرتى [1] معارضا له:
قل لابن ملجم والأقدار غالبة ... هدمت ويحك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشى على قدم ... وأول الناس إسلاما وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ... سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبىّ ومولاه وناصره ... أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له ... مكان هارون من موسى بن عمرانا
وكان فى الحرب سيفا صار ما ذكرا ... ليثا إذا لقى الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر ... فقلت: سبحان ربّ الناس سبحانا
إنى لأحسبه ما كان من بشر ... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدّت قبائلها ... وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التى جلبت ... على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ... قبل المنيّة أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمّله ... ولا سقى قبر عمران بن حطّانا
لقوله فى شقى ظل مجترما ... ونال ما ناله ظلما وعدوانا:
«يا ضربة من تقىّ ما أراد بها ... إلّا ليبلغ من ذى العرش رضوانا»
بل ضربة من غوى أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته ... إلّا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
__________
[1] التاهرتى: منسوب إلى «تاهرت» بفتح الهاء وسكون الراء، مدينة ببلاد المغرب، وكان أبو عبد الرحمن بكر بن حماد من حفاظ الحديث بهذه المدينة، وهو القائل:
ما أخشن البرد وريعانه ... وأطرف الشمس بتاهرت!
تبدو من الغيم إذا ما بدت ... كأنما تنشر من تخت
فنحن فى بحر بلا لجة ... تجرى بنا الريح على سمت
وأبياته النونية التى ذكرها المؤلف تجدها فى الاستيعاب ج 3 ص 62- 63 ومروج الذهب ج 2 ص 43 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 199.(20/215)
وقالت أم الهيثم بنت العريان النخعية، ومنهم من يرويها لأبى الأسود الدؤلى [1] :
ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكى أمير المؤمنينا
تبكّى أم كلثوم عليه ... بعبرتها فقد رأت اليقينا
ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرّت عيون الشامتينا
أفى شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس ضرّا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وذلّلها ومن ركب السّفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثانى والمبينا [2]
وكلّ مناقب الخيرات فيه ... وحبّ رسول ربّ العالمينا
لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسبا ودينا
إذا استقبلت وجه أبى تراب [3] ... رأيت البدر فوق الناظرينا
وكنّا قبل مقتله [4] بخير ... ترى مولى رسول الله فينا
يقيم الحقّ لا يرتاب فيه ... ويعدل فى العدا والأقربينا
__________
[1] عبارة الاستيعاب ج 3 ص 66 حيث نقل المؤلف: «وقال أبو الأسود الدؤلى، وأكثرهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية» ، والشعر منسوب إلى أبى الأسود فى ديوانه ص 174- 175 وفى إنباه الرواة ج 1 ص 19 والأغانى ج 12 ص 329 بعد أن ذكر خطبة أبى الأسود إثر مقتل على وأن معاوية كتب إليه ودس إليه رسولا يعده ويمنيه فقال هذه الأبيات، ونسبها أبو الفرج الأصبهانى نفسه فى كتابه (مقاتل الطالبيين) ص 43 إلى أم الهيثم بنت الأسود النخعية. ومما ينظر إليه ذكر الهيثم بن الأسود بن العريان فى البيان والتبيين، وهو نخعى، قال صاحب الإصابة ج 3 ص 621 يكنى «أبا العريان» .
[2] المبين: القرآن، وفيه إشارة إلى الآية 10 من سورة الحجر.
[3] فى الاستيعاب «أبى حسين» .
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) والاستيعاب، وفى النسخة (ك) : «موتته» .(20/216)
وليس بكاتم علما لديه ... ولم يخلق من المتجبّرينا
كأنّ الناس إذ فقدوا عليا ... نعام حار فى بلد سنينا
فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإنّ بقية الخلفاء فينا
قال: ولما مات علىّ رضى الله عنه غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفّن فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلّى عليه ابنه الحسن، وكبّر سبع [1] تكبيرات.
قال: ولمّا قبض رضى الله عنه بعث الحسن رضى الله عنه إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن: «هل لك فى خصلة؟ إنى والله أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلّا وفيت به، وإنى عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بينى وبينه، ولك عهد الله على أنى إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتّى أضع يدى فى يدك» . فقال له الحسن:
لا والله. ثم قدّمه فقتله، فأخذه الناس فأدرجوه فى بوارى [2] وحرّقوه بالنار.
واختلف فى موضع قبر علىّ رضى الله عنه، فقيل: دفن فى قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: فى رحبة الكوفة، وقيل: دفن بنجف
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ح 3 ص 97، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 114: «تسع تكبيرات» ، وجاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 247 «أربع تكبيرات» .
[2] البوارى: جمع البورى وهو الحصير المنسوج من القصب.(20/217)
الحيرة فى موضع بطريق الحيرة، وقيل: عند مسجد الجماعة [1] ، وقال الواقدى: دفن ليلا وأخفى قبره.
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلّا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، وقيل: وثلاثة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما.
وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل:
تسعا وخمسين، والأول أصح.
وأما سيرته رضى الله عنه فى خلافته فقد تقدّم من فضائله ما قدّمناه فى صدر هذا الفصل.
وكان من سيرته رضى الله عنه أنه يسير [2] فى الفىء بسيرة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه فى القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك فى بيت المال إلا ما يعجز عن قسمته فى يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّى غيرى، ولم يكن يستأثر من الفىء بشىء، ولا يخصّ به حميما ولا قريبا.
وروى أبو عمر [3] بسنده إلى مجمّع التميمى [4] أن عليا رضى الله عنه قسم ما فى بيت المال بين المسلمين، ثم أمر به فكنس، ثم صلّى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة [5] .
__________
[1] جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 117: «ودفن عند مسجد الجماعة فى قصر الإمارة» .
[2] انظر الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 47.
[3] فى الاستيعاب ح 3 ص 49 وكذلك ما بعده.
[4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب: «التيمى» .
[5] وانظر الرياض النضرة ج 2 ص 229.(20/218)
وبسنده إلى سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علىّ المال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع، ووجد فيه رغيفا فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم:
أيّهم يعطى أولا.
وعن معاذ [1] بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت على بن أبى طالب يقول: ما أصبت فيكم [2] إلا هذه القارورة أهداها إلىّ الدهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرّق كلّ ما فيه، ثم جعل يقول:
أفلح من كانت له قوصرّه [3] ... يأكل منها كل يوم تمره [4]
وعن عنترة الشيبانى قال: كان على رضى الله عنه يأخذ الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسمه بين الناس، ولا يدع فى بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه، إلا أن يغلبه شغل، فيصبح إليه وهو يقول. يا دنيا لا تغرّينى وغرّى غيرى.
وكان [5] رضى الله عنه لا يخصص بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
[6] وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
[7]
__________
[1] رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 49.
[2] فى الاستيعاب: «من فيئكم» .
[3] قوصرة بشد الراء وتخفف: وعاء للتمر، وانظر اللسان.
[4] ويروى: مره.
[5] انظر الاستيعاب ج 3 ص 47.
[6] من الآية فى 57 سورة يونس.
[7] من الآية 152 فى سورة الأنعام.(20/219)
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
[1] إذا أتاك كتابى هذا فاحتفظ بما فى يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك.
ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أنى لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك.
ومواعظه رضى الله عنه ووصاياه لعماله إذ كان يخرجهم إلى أعماله [2] كثيرة مشهورة، وقد قدّمنا منها فى الباب الرابع، من القسم الخامس، من الفن الثانى، من كتابنا هذا، ما تقف عليه هناك، وهو فى السفر السادس من هذه النسخة [3] .
قال أبو عمر بن عبد البر [4] : قد ثبت عن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما من وجوه أنه قال: لم يترك أبى إلا ثمانمائة درهم أو سبعمائة درهم فضلت من عطائه، كان يعدّها لخادم يشتريها لأهله وأمّا تقشفه فى لباسه ومطعمه، فكان من ذلك على الغاية القصوى.
روى [5] عن عبد الله بن أبى الهذيل قال: رأيت عليا رضى الله عنه خرج وعليه قميص غليظ دارس، إذا مدّ كمّه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وعن الحسن بن جرموز عن أبيه قال:
رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريّتان، مؤتزرا بالواحدة مرتديا بالأخرى، وإزاره إلى نصف الساق، وهو يطوف فى الأسواق، ومعه درّة يأمرهم بتقوى الله وصدق
__________
[1] من الآيتين 85، 86 فى سورة هود.
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) وسقط من النسخة (ك) .
[3] انظر ج 6 ص 19- 32 من «نهاية الأرب» المطبوع.
[4] فى الاستيعاب ج 3 ص 48.
[5] هذا وما بعده من الاستيعاب.(20/220)
الحديث، وحسن البيع، والوفاء بالكيل والميزان. وعن [إسحاق بن] [1]
كعب بن عجرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علىّ مخشوشن [2] فى ذات الله تعالى
. ذكر أزواج على رضى الله عنه وأولاده وكاتبه وقاضيه وحاجبه
أول زوجة تزوجها فاطمة [3] بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورضى عنها، ولدت له الحسن والحسين رضى الله عنهما، وقد قيل: إنها ولدت ابنا اسمه محسن توفى صغيرا، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى.
وتزوج بعدها أم البنين ابنة حرام [4] الكلابية، فولدت له العباس وجعفرا وعبد الله وعثمان، قتلوا مع الحسين بالطّفّ.
وتزوج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية، فولدت عبيد الله وأبا بكر قتلا مع الحسين، وقيل: إن عبيد الله قتله المختار بن أبى عبيد.
__________
[1] الزيادة من الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 51 حيث نقل المؤلف، لأن الصحابى الراوى للحديث هو كعب بن عجرة.
[2] ذكر صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 225 رواية أبى عمر عن كعب بن عجرة، وذكر قبلها رواية
احمد بن حنبل عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: اشتكى الناس عليا يوما، فقام رسول الله فينا فخطبنا فسمعته يقول: «أيها الناس، لا تشكوا عليا، فو الله إنه لأخشن فى ذات الله عز وجل» أو قال: «فى سبيل الله»
، ثم قال صاحب الرياض فى شرحه: الأخشن مثل الخشن، واخشوشن للمبالغة، أى: اشتدت خشونته.
[3] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 118 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 199 «لم يتزوج عليها حتى توفيت عنده» .
[4] حرام: ذكره ابن حجر فى باب الحاء والراء من القسم الثالث فى الإصابة ج 1 ص 375 فقال: حرام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كلاب ... الخ ووقع فى المخطوطة: «حزام» .(20/221)
وتزوج أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له محمدا الأصغر ويحيى، وقيل: إن محمدا لأمّ ولد، وقيل: إنها ولدت عونا.
وله من الصّهباء بنت ربيعة التغلبية- وهى من السّبى الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التّمر فى خلافة أبى بكر- عمر ورقيّة، فعمّر عمر هذا حتّى بلغ خمسا وثمانين سنة، وحاز نصف ميراث علىّ رضى الله عنه، ثم مات بينبع.
وتزوج علىّ رضى الله عنه أمامة بنت أبى العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم، فولدت له محمدا الأوسط.
وله محمد الأكبر، وهو ابن الحنفية، أمّه خولة بنت جعفر، من بنى حنيفة.
وتزوج أم سعيد ابنة عروة بن مسعود فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى.
وكان له بنات من أمهات شتى، وهنّ: أمّ هانىء وميمونة وزينب الصّغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة، وكلهن لأمهات أولاد.
وتزوج محياة [1] ابنة امرئ القيس [2] بن عدىّ الكلبية، فولدت له جارية هلكت صغيرة.
__________
[1] «محياة» كذا جاء عند الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 119 وعند ابن حجر فى الإصابة ج 1 ص 113، ولم تنقط هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ووضعت نقطة خاء فى النسخة (ك) .
[2] هو امرؤ القيس بن عدى بن أوس بن جابر الكلبى. كان أميرا على من أسلم بالشام من قضاعة فى عهد عمر بن الخطاب، وقد خطب إليه حينئذ على وابناه الحسن والحسين، فزوجهم بناته، فكانت سلمى زوجة للحسن. والرباب زوجة للحسين.(20/222)
فجميع أولاد علىّ رضى الله عنه خمسة عشر ذكرا، وهم: الحسن والحسين ومحسن- على خلاف فيه- والعبّاس وجعفر وعبد الله وعثمان وعبيد الله وأبو بكر ومحمد بن الحنفية ومحمد الأوسط ومحمد الأصغر ويحيىّ وعون وعمر، النسل منهم للحسين والحسن [ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية] [1] ومن البنات تسع عشرة، وهن: زينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ورقية وأم الحسن ورملة الكبرى وأم هانىّ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة وجارية ابنة الكلبية، وكان كاتبه عبد الله [2] بن أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب له سعد بن نمران الهمدانى.
قاضيه شريح بن الحارث.
صاحب شرطته معقل بن قيس الرياحى، وقيل: سليمان بن صرد الخزاعى.
حاجبه قنبر مولاه، وكان قبله بشر مولاه.
نقش خاتمه: الملك لله الواحد القهار.
وتقدم ذكر عمّاله..
__________
[1] كذا ثبت هؤلاء فى النسخة (ن) ، كما ثبتوا فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200، وسقطوا من النسخة (ك) .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الإصابة ج 4 ص 67 فى أولاد أبى رافع القبطى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عبيد الله» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 200 «كان أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خازنا لعلى على المال» .(20/223)
ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما
هو أبو محمد الحسن بن على بن أبى طالب بن عبد المطلب، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسنذكر إن شاء الله نبذة من فضائله وأخباره عند ذكرنا لوفاته، ونذكر فى هذا الموضع ما يختص بالخلافة دون غيره.
بويع له يوم وفاة أبيه فى شهر رمضان سنة أربعين، وأول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة، وقال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال المحلّين. فقال له الحسن: على كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما يأتيان على كل شرط. فبايعه الناس، وكان الحسن يشرط عليهم: «إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت» . فارتابوا بذلك وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد هذا إلّا القتال..
وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه، لمّا ضربه ابن ملجم دخل عليه جندب بن عبد الله فقال: «إن فقدناك- ولا نفقدك- أفنبايع الحسن؟» فقال على رضى الله عنه: «ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر» . فلما مات بايعه الناس، ولم تطل مدّته حتّى سلّم الأمر لمعاوية ابن أبى سفيان رضى الله عنه؛ لأسباب نذكرها إن شاء الله تعالى(20/224)
ذكر تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية بن أبى سفيان
قال [1] : كان على بن أبى طالب رضى الله عنه قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، وتجهز لقصد الشام لقتال معاوية فقتل قبل ذلك.
فلما بايع الناس الحسن تجهز بهذا الجيش، وسار من الكوفة فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند ما بلغه مسير معاوية إليه فى أهل الشام.
ووصل الحسن إلى المدائن، وجعل قيس بن سعد بن عيادة على مقدمته فى اثنى عشر ألفا، وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبيد الله [2] بن عباس، فجعل عبيد الله [2] على مقدمته فى الطلائع قيس بن سعد.
ووصل معاوية مسكن [3] .
فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد فى العسكر: ألا إنّ قيس ابن سعد قتل فانفروا. فنفروا. وأتوا سرادق الحسن، وانتهبوا [4]
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 203.
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 203 «عبد الله» ، وانظر ما سبق فى فراق عبد الله بن عباس للبصرة.
[3] فى الاستيعاب ج 1 ص 370: «وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض للسواد بناحية الأنبار» وسيأتى نقل المؤلف لذلك.
[4] تبع المؤلف ابن جرير وابن الأثير فى قصة الانتهاب، وروى أبو الفرج الأصفهانى فى مقاتل الطالبين ص 63 أن الحسن لما نزل ساباط خطب خطبة قال فيها:
«إن ما تكرهونه فى الجماعة خير لكم مما تحبون فى الفرقة» فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا:
ما ترونه يريد بما قال؟ وركبتهم الظنون، وثاروا، فشدوا على فسطاطه فانتهبوه ... الخ، وكذلك ذكر بن أبى الحديد فى شرحه لنهج البلاغة ج 4 ص 10.(20/225)
ما فيه، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وأخذوا رداءه من ظهره، ووثب عليه رجل من الخوارج من بنى أسد يقال له ابن أقيصر [1] بخنجر مسموم فطعنه به فى أليته، ووثب الناس على الأسدى فقتلوه.
فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن [2] ، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفى، عم المختار بن أبى عبيد، فقال له المختار وهو شاب: هل لك فى الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: تستوثق [3] من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: «عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله وأوثقه؟ بئس الرجل أنت!» فلما رأى الحسن رضى الله عنه [تفرق الناس عنه] [4] كتب إلى معاوية وشرط شروطا، وقال: إن أعطيتنى هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفى لى به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله ابن جعفر: إننى قد أرسلت إلى معاوية فى الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن:
اسكت أنا أعلم بالأمر منك.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى مقاتل الطالبين ص 64: فقام إليه رجل من بنى أسد من بنى نصر بن قعين يقال له «الجراح بن سنان» فلما مر فى مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، ثم طعنه، فوقعت الطعنة فى فخذه ... الخ، ويشبهه ما جاء فى جمهرة أنساب العرب ص 184 حيث ذكر ابن حزم بنى نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ومنهم «جراح بن سنان الذى وجأ الحسن بن على رضى الله عنه بالحنجر فى مظلم ساباط» .
[2] وأقام عند أميرها يعالج نفسه.
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير:
«توثق الحسن» .
[4] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .(20/226)
فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن جندب إلى الحسن قبل وصول الكتاب إليه، ومعهما صحيفة، بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط فى هذه الصحيفة التى ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده.
فلما سلم الحسن رضى الله عنه الأمر لمعاوية، طلب الحسن أن يعطيه الشروط التى اشترطها فى الصحيفة [التى ختم عليها معاوية] [1] فأبى ذلك، وقال: قد أعطيتك ما كتبت تطلب.
قال: ولما اصطلحا قام الحسن رضى الله عنه فى أهل العراق فقال: «يا أهل العراق إنه سخّى بنفسى عنكم ثلاث: قتلكم أبى وطعنكم إياى وانتها بكم متاعى» ..
قال: وكان الذى طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما فى بيت مال الكوفة (ومبلغه خمسة آلاف ألف. وقيل: سبعة آلاف ألف) وخراج دار بجرد (من فارس) وأن لا يشتم علىّ. فلم يجبه إلى الكفّ عن شتم علىّ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به أيضا. فأما خراج دار بجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا، لا نعطيه أحدا. وقيل: كان منعهم بأمر معاوية أيضا وقيل: إن معاوية أجرى على الحسن رضى الله عنه بعد ذلك فى كل سنة ألف ألف درهم.
__________
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) .(20/227)
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. وقيل: فى جمادى الأولى فى النصف منه.
وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية؛ لأنه لما راسله معاوية فى تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامه بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم فى مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقى فخاذل، وأما الباكى فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفه، فإذا أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، فإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا» . فناداه الناس من كل جانب:
البقية البقية، فأمضى [1] الصلح.
فلما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: «أيها الناس، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم عليه الصلاة والسلام الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهير» وكرر ذلك حتى ما بقى فى المجلس إلّا من بكى حتى سمع نشيجه، وأرسل إلى معاوية وسلّم إليه الأمر.
فكانت خلافة الحسن على قول من يقول [ «سلّم الأمر فى ربيع
__________
[1] فى الكامل ج 3 ص 204 «وأمض الصلح» .(20/228)
الأول» خمسة أشهر ونصف شهر، وعلى قول من يقول «فى ربيع الآخر» ستة أشهر وأياما، وعلى قول من يقول [1]] «فى جمادى الأولى» سبعة أشهر وأياما.
وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] رحمه الله أن الحسن رضى الله عنه لما [قتل أبوه بايعه أكثر من أربعين ألفا، كلهم قد كانوا بايعوا أباه عليّا قبل موته على الموت، ثم [3]] خرج لقتال معاوية وخرج معاوية لقتاله، فلما تراءى الجمعان- وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض السواد بناحية الأنبار- علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية أنه يصير الأمر إليه، على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشىء مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلّا أنه قال: أمّا عشرة أنفس فلا أؤمّنهم، فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه يقول: إنى آليت أنى متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده. فراجعه الحسن: أنى لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه. فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن رضى الله عنه: أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كلّه معاوية، فقال له عمرو بن العاص: إنه قد انفلّ [4] حدّهم وانكسرت
__________
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] فى الاستيعاب ج 3 ص 370.
[3] الزيادة من الاستيعاب.
[4] انفل: انثلم وانكسر، والحد: اليأس والقوة.(20/229)
شوكتهم. فقال له معاوية: «أما علمت أنه قد بايع عليا أربعون ألفا على الموت؟ فو الله لا يقتلون حتّى يقتل أعدادهم من أهل الشام، وو الله ما فى العيش خير بعد ذلك» . فاصطلحا على ما ذكرناه.
وكان الحسن رضى الله عنه كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابنى هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [1] »
قال: ولما بايع الحسن معاوية كان أصحاب الحسن يقولون له:
يا عار المؤمنين. فيقول: العار خير من النار.
وروى أبو عمر بسنده [2] إلى أبى الغريف [3] قال: كنا فى مقدمة الحسن بن علىّ رضى الله عنهما على اثنى عشر ألفا بمسكن مستميتين، تقطر أسيافنا من الجدّ [4] والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمر طه [5] ، فلما جاءنا صلح الحسن كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن رضى الله عنه الكوفة أتاه شيخ منّا يكنى أبا عامر سيفان بن ليلى، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين. فقال: «لا تقل هذا يا أبا عامر، فإنى لم أذل المؤمنين، ولكنّى كرهت أن أقتلهم فى طلب الملك» .
__________
[1] الحديث رواه البخارى فى صحيحه- رقم 3500-
عن أبى بكرة سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح ... الخ
، انظر شرح الكرمانى ج 15 ص 21 ورواه أيضا الترمذى وغيره.
[2] فى الاستيعاب ج 1 ص 372.
[3] أبو الغريف: هو عبيد الله بن خليفة الهمدانى.
[4] كذا جاء «الجد» فى النسخة (ك) بالجيم، وجاء فى (ن) «الحد» بالحاء.
[5] فى جمهرة أنساب العرب ص 401: «أبو العمر طه عمير بن يزيد بن عمرو ابن شراحيل بن النعمان بن المنذر بن مالك بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، شيعى، قاتل مع حجر بن عدى، وولى ابنه الحسين بن أبى العمر طه شرطة الحجاج» .(20/230)
قال أبو عمر: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياتة، لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد فى ذلك الوقت، ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء فى طلبها، وإن كان عند نفسه أحقّ بها.
قال [1] : ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يأمر الحسن بن على فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية وقال: لا حاجة لنا بذلك: فقال عمرو: «ولكنى أريد ذلك ليبدو للناس عيّه، فإنه لا يدرى هذه الأمور ما هى» ولم يزل بمعاوية حتى أمر [2] الحسن رضى الله عنه أن يخطب، وقال له: يا حسن قم فكلّم الناس فيما جرى بيننا. فقام الحسن رضى الله عنه فتشهد وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فى بديهته: أمّا بعد أيّها الناس فإن الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإنّ لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عز وجل يقول: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
[3] . فلما قالها، قال له معاوية: اجلس. ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذه من رأيك.
ومن رواية [4] عن الشعبى أن الحسن خطب فقال: «الحمد لله
__________
[1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب بسنده عن ابن شهاب ج 1 ص 373.
[2] انظر مروج الذهب ج 2 ص 52 ومقاتل الطالبين ص 72 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 204.
[3] من الآيات 109، 110، 111 فى سورة الأنبياء.
[4] فى الاستيعاب ج 1 ص 374.(20/231)
الذى هدا بنا أوّلكم وحقن بنا دماء آخركم، ألا إن أكيس الكيس التّقى، وأعجز العجز الفجور، وإنّ هذا الأمر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا أن يكون أحقّ به منّى، وإما أن يكون حقى فتركته لله تعالى وإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم» .
ثم التفت إلى معاوية فقال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
. ثم نزل، فقال معاوية لعمرو: ما أردت إلّا هذا. وحقدها معاوية على عمرو.
ولحق الحسن رضى الله عنه بالمدينة، بأهل بيته وحشمه، والناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة.
والحسن رضى الله عنه آخر الخلفاء حقيقة،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة ثلاثون ثم تكون ملكا وملوكا» [1]
. فكانت هذه المدة من خلافة أبى بكر رضى الله عنه وإلى آخر أيام الحسن.
ولم يزل الحسن رضى الله عنه مقيما بالمدينة إلى أن مات على ما نذكره إن شاء الله فى حوادث سنة تسع وأربعين.
وحيث ذكرنا الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، وذكرنا أخبار من مات أو استشهد من العشرة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أثناء أخبار الخلفاء، فلنصل هذا الباب بذكر من بقى من العشرة، وهما: سعد بن أبى وقّاص وسعيد بن زيد، ليكمل عدّة العشرة فى هذا الباب، وإن كانت وفاتهما فى غير أيام الخلفاء.
__________
[1] الحديث الذى رواه أحمد وغيره: «الخلافة بعدى فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» وفى رواية: «ثم يكون ملكا بعد ذلك» ، وجاء فى النهاية ثم «يكون ملك عضوض» بفتح العين، أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، ثم جاءت فيها رواية أخرى: «ثم يكون ملوك عضوض» بضم العين جمع عض وهو الخبيث الشرس.(20/232)
ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته رضى الله عنه
هو أبو إسحاق سعد بن أبى وقاص، واسم أبى وقاص مالك ابن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشى الزّهرى.
كان رضى الله عنه سابع سبعة فى الإسلام، أسلم بعد ستة، وهو ابن تسع عشرة سنة.
وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد السّتّة الذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض.
وكان رضى الله عنه مجاب الدعوة مشهورا بذلك، تخاف دعوته وترجى لاشتهار إجابتها، وذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «اللهم سدّد سهمه وأجب دعوته [1] »
. وهو أول من رمى بسهم فى سبيل الله، وذلك فى سريّة عبيدة ابن الحارث، وقد تقدم ذكره فى السيرة النبوية فى الغزوات والسرايا. [2]
وجمع رسول الله عليه الصلاة والسلام له بين أبويه فى
قوله صلى الله عليه وسلم «ارم فداك أبى وأمّى»
ولم يقل ذلك إلّا له وللزبير بن العوام.
وكان أحد الفرسان الشجعان من قريش [3] ، وهو الذى كوّف
__________
[1]
وروى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: اللهم استجب لسعد إذا دعاك
. [2] جاء فى نهاية الأرب المطبوع ج 17 ص 2: «ذكر سرية عبيدة بن الحارث ابن المطلب إلى بطن رابغ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره فى ستين رجلا من المهاجرين ... » ثم جاء فى الصفحة التالية: «فكان بينهم الرمى ولم يسلوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وكان سعد بن أبى وقاص أول من رمى بسهم فى سبيل الله» .
[3] زاد أبو عمر فى الاستيعاب ج 2 ص 21: «الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مغازيه» .(20/233)
الكوفة ونفى الأعاجم وتولّى قتال الفرس [1] كما تقدم ذكر ذلك فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وكان أميرا على الكوفة، قشكاه أهلها ورموه بالباطل، فدعا على الذى واجهه بالكذب دعوة ظهرت إجابته فيها.
ولمّا جعله عمر بن الخطاب فى أصحاب الشّورى قال: إن وليها سعد فذاك وإلّا فليستعن به الوالى فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
وكلّمه ابنه عمر بن سعد أن يدعو لنفسه بعد مقتل عثمان فأبى.
وكان رضى الله عنه ممّن لزم بيته وقعد فى الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشىء حتّى تجتمع الأمة على إمام، فطمع معاوية فيه وفى عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، فكتب إليهم [2] يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان، ويقول لهم إنهم لا يكفّرون ما أتوه من قتله وخذلانه إلّا بذلك، وقال: إن قاتله وخاذله سواء، فى نثر ونظم كتب به إليهم، فأجابه كلّ واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك، وينكر عليه مقالته، ويعرّفه أنه ليس بأهل لما يطلبه، وكان فى جواب سعد:
معاوى داؤك الداء العياء ... وليس بما تجىء به دواء
أيدعونى أبو حسن علىّ ... فلم أردد عليه ما يشاء
وقلت له اعطنى سيفا قصيرا ... تماز به العداوة والولاء
__________
[1] عبارة أبى عمر: «وتولى قتال فارس، أمره عمر بن الخطاب على ذلك، ففتح الله على يديه أكثر فارس، وله كان فتح القادسية وغيرها» .
[2] انظر شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 260.(20/234)
فإنّ الشّرّ أصغره كبير ... وإنّ الظّهر مثقله [1] الدّماء
أتطمع فى الذى أعيا عليا ... على ما قد طمعت به العفاء!
ليوم منه خير منك حيّا ... وميتا أنت للمرء الفداء
وأما أمر عثمان فدعه ... فإنّ الرّأى أذهبه البلاء
وكانت وفاة سعد رضى الله عنه فى قصره بالعقيق، على عشرة أميال من المدينة، وحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع وصلّى عليه مروان بن الحكم، واختلف فى وقت وفاته، فقال الواقدى:
توفى فى سنة خمس وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقال أبو نعيم مات سنة ثمان وخمسين، وقال الزبير والحسن بن عثمان وعمرو بن على الغلّاس: توفى فى سنة أربع وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين، وذكر أبو زرعة عن أحمد بن حنبل رضى الله عنه قال: توفى وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وروى عن ابن شهاب أن سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه: لما حضرته الوفاة دعا بخلق جبّة له من صوف، فقال: كفّنونى فيها فإنى كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر [وهى علىّ] [2] وإنما كنت أخبؤها لهذا اليوم، رضى الله تعالى عنه وأرضاه.
ذكر أخبار سعيد بن زيد رضى الله عنه ووفاته
هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشى العدوى. وأمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وفى الاستيعاب ج 2 ص 25 «تثقله» .
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الاستيعاب، وسقطت من (ك) .(20/235)
وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضى الله عنه وصهره، كانت تحته فاطمة ابنة الخطاب أخت عمر، وكانت أخته عاتكة بنت زيد تحت عمر.
وكان سعيد رضى الله عنه من المهاجرين الأولين، قديم الإسلام [1] لم يشهد بدرا، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وقد قدمنا ذكر ذلك فى غروة بدر [2] ، وشهد ما بعد بدر من المشاهد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
وكان أبوه زيد بن عمرو يطلب دين الحنيفية- دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام- قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل مما ذبح لها، ولا يأكل الميتة ولا الدم، وخرج فى الجاهلية يطلب الدّين هو وورقة بن نوفل، فعرضت عليهما اليهود دينهم فتهوّد ورقة، ثم لقيا النصارى فترك ورقة اليهودية وتنصر، وأبى زيد أن يأتى شيئا من ذلك، وقال:
ما هذا إلا كدين قومنا تشركون ويشركون، ولكنّكم عندكم من الله ذكر ولا ذكر عندهم. فقال له راهب: إنك تطلب دينا ما هو على الأرض اليوم. قال وما هو؟ قال: دين إبراهيم عليه السلام.
__________
[1] فى الاستيعاب ج 2 ص 2 والإصابة ج 2 ص 46 والرياض النضرة ج 2 ص 303 أن إسلامه كان قديما قبل عمر بن الخطاب وكان إسلام عمر عنده فى بيته.
[2] تقدم فى نهاية الأرب ج 17 ص 36 أن طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل كانا قد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام يتحسان له خبر العير، فقدما بعد غزوة بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما، قالا: يا رسول الله، وأجرنا. قال: وأجركما.. وكذلك جاء فى «ذكر مقتل طلحة» من هذا الجزء.(20/236)
قال: وما كان عليه إبراهيم؟ قال: كان بعبد الله لا يشرك به شيئا، ويصلّى إلى الكعبة. فكان زيد على ذلك حتى مات..
ومن رواية أخرى قال: خرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو يطلبان الدين حتّى مرّا بالشام، فأما ورقة فتنصّر، وأمّا زيد فقيل له: إن الذى تطلب أمامك، فانطلق حتّى أتى الموصل فإذا هو براهب فقال:
من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال من بيت إبراهيم. قال: ما تطلب؟
قال: الدّين. قال: فعرض عليه النصرانية، فقال: لا حاجة لى فيها، وأبى أن يقبل، فقال: إن الذى تطلب سيظهر بأرضك. فأقبل وهو يقول:
لبّيك حقّا حقّا. تعبّدا ورقّا.
[وقال] : [1] .
مهما تجثّمنى فإنى جاشم. عذت بما عاذ به إبراهيم.
قال: وأتى سعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إنّ زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له. قال عليه الصلاة والسلام: «نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» فاستغفر له.
قال أبو عمر: وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه قد أقطع سعيد بن زيد أرضا بالكوفة فنزلها وسكنها إلى أن مات، وسكنها من بعده من بنيه الأسود بن سعيد.
وكانت وفاة [2] سعيد فى سنة خمسين أو سنة إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة رضى الله عنه وأرضاه.
__________
[1] الزيادة من الاستيعاب ج 2 ص 4 حيث نقل المؤلف هذه الرواية كما نقل ما سبقها.
[2] توفى بأرضه بالعقيق، وحمل إلى المدينة ودفن بها.(20/237)
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس فى أخبار الدولة الأموية
أول من ملك من ملوك هذه الدولة معاوية بن أبى سفيان، هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عبد مناف بن قصى.
وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
ولى معاوية دمشق عاملا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فى سنة ثمانى عشرة [1] كما ذكرنا ذلك فى خلافة عمر، [وأقام بقية أيّام عمر] [2] وأيام عثمان بن عفّان رضى الله عنهما بكمالها إلى أن قتل.
فلما بويع علىّ رضى الله عنه امتنع من مبايعته، وكان بينهما من الحروب ما ذكرناه فى خلافة على.
وسلّم عليه بالإمارة [3] بعد اجتماع الحكمين فى سنة سبع
__________
[1] قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 3 ص 395: «ولاه عمر على الشام بعد موت أخيه يزيد» ثم ذكر أن ذلك كان فى ستة تسع عشرة.
[2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) وسقطت من النسخة (ك) .
[3] المعروف أنه صار أميرا على الشام يجعله عاملا للخليفة هناك، قال أبو عمر فى الاستيعاب ج 3 ص 398: «كان أميرا بالشام نحو عشرين سنة وخليفة مثل ذلك» وأما بعد اجتماع الحكمين فقد سلم عليه أصحابه وأهل الشام خاصة بالخلافة، قال ابن جرير الطبرى فى تاريخ سنة 37 بعد اجتماع الحكمين ج 4 ص 53: «ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية وسلموا عليه بالخلافة» . وسيصرح المؤلف بهذا فى (ذكر ملك عمرو ابن العاص مصر) .(20/238)
وثلاثين، وبويع له بعد وفاة علىّ رضى الله عنه فى ذى الحجة سنة أربعين ببيت المقدس، قاله أبو بشر الدّولابى [1] رحمة الله عليه، ثم بويع له البيعة العامّة بالكوفة بعد أن خلص له الأمر وتسلّمه من الحسن بن علىّ رضى الله عنهما، على ما تقدم، فى سنة إحدى وأربعين، فى شهر ربيع الأول لخمس بقين منه [وقيل: فى ربيع الآخر] [2] .
وقيل: جمادى الأولى..
ولنبدأ من أخباره بما كان منها فى خلافة علىّ رضى الله عنه، ممّا لم نذكره هناك، ثم نذكر من أخباره بعد أن خلص له الأمر، فنبدأ هناك بما وقع فى أيّامه من الغزوات والفتوحات، ثم نذكر أخبار الخوارج عليه، ثم حوادث السنين خلاف ذلك على نحو ما قدمناه فى أخبار غيره، إن شاء الله تعالى.
ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه
كان عمرو بن العاص قد فارق المدينة وقدم إلى فلسطين فى آخر أيام عثمان، فأقام هناك حتى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد ذكرنا فى خلافة عثمان سبب خروج عمرو، فلما أتاه الخير بقتل عثمان قال: «أنا أبو عبد الله، أنا قتلته وأنا بوادى السبع [3]
__________
[1] هو محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد الرازى الدولابى، ولعل بعض أجداده نسب إلى عمل الدولاب الذى يستقى به الماء، وهناك بعض المواضع يسمى «الدولاب» فهل نسب أبو نشر إليه مع كونه من الرى؟
[2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[3] السبع بسكون الباء وفتحها، قال ياقوت: السبع: ناحية فى فلسطين بين بيت المقدس والكرك، فيه سبع آبار، سمى الموضع بذلك، وكان ملكا لعمرو بن العاص، أقام به لما اعتزل الناس، وأكثر الناس يروى هذا الموضع بفتح الباء.(20/239)
إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيبا، وإن يله ابن أبى طالب فهو أكره من يليه إلى!» .
فأتاه الخبر ببيعة على، فاشتد عليه، فأقام ينتظر ما يصنع الناس، فأتاه خبر مسير عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون، فأتاه خبر وقعة الجمل، فأرتج عليه.
فسمع أن معاوية امتنع من بيعة على رضى الله عنه وأنه يعظم شأن عثمان، فدعا ابنيه [1] ، فاستشارهما، وقال: «ما تريان؟
أما على فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركى فى أمره» .
فقال له ابنه عبد الله: «يا أبت، توفى النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس فى بيتك حتى يجتمع الناس» . وقال له محمد: «يا أبت، أنت ناب [2] من أنياب العرب، ولا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت» [3] . فقال عمرو: «أما أنت يا عبد الله فأمرتنى بما هو خير لى فى دينى، وأما أنت يا محمد فأمرتنى بما هو خير لى فى دنياى وشرّ لى فى آخرتى» .
ثم خرج ومعه ابناه حتّى قدم على معاوية (وقيل: إنه ارتحل من فلسطين وهو يبكى كما تبكى المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعى الحياء والدّين، حتى قدم دمشق) فوجد أهل الشام يحضّون معاوية على الطلب بدم
__________
[1] فى الكامل لابن الأثير- حيث نقل المؤلف- ج 3 ص 141: «فدعا ابنيه عبد الله، ومحمدا» وقد ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 346 قول الواقدى:
محمد بن عمرو بن العاص شهد صفين وقاتل فيها ولم يقاتل أخوه عبد الله، وقال الزبير مثل ذلك.
[2] الناب: سيد القوم. وفى الإصابة ج 3 ص 381 «أنت فارس أبيات العرب» .
[3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير، وجاء فى الإصابة: «ذكر» .(20/240)
عثمان. فقال لهم: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. ومعاوية لا يلتفت إليه، فقال له ابناه: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إليك، انصرف إلى غيره، فدخل عليه فقال: «والله لعجب لك أنى أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عنى، إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن فى النفس ما فيها، حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا» . فصالحه معاوية وعطف عليه واقتدى بآرائه، وشهد عمرو معه صفين، وحكّمه، وكان من أمره معه ما تقدم، والله أعلم.
ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة وشىء من أخباره
كان أبوه حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتل يوم اليمامة وترك ابنه محمدا هذا، فكفله عثمان وأحسن تربيته.
وكان فيما قيل قد أصاب شرابا فحده عثمان، ثم تنسّك بعد ذلك وأقبل على العبادة.
وطلب من عثمان أن يولّيه عملا فقال له: لو كنت أهلا لذلك لولّيتك، فقال له: إنى قد رغبت [1] فى غزو البحر فأذن لى فى إتيان مصر. فأذن له وجهّزه، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظّموه.
وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصوارى [2] ، وكان محمد
__________
[1] كذا جاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135، ولم تتبين الكلمة فى (ن) ، وجاء فى (ك) : «ركبت» .
[2] غزوة الصوارى أو «ذات الصوارى» كان سببها أن المسلمين لما انتصروا فى أفريقيه خرج الروم فى جمع كبير، وخرج المسلمون للدفاع والجهاد، وكان عليهم فى هذه الحرب البحرية عبد الله بن سعد بن أبى سرح، جاء فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 80، 91 «ثم غزا فى البحر من ناحية الإسكندرية، فلقيه قسطنطين بن هرقل فى ألف مركب، وقيل: فى سبعمائة، والمسلمون فى مائتى مركب، وتقاتلا، فانتصر أمير مصر عبد الله وهزم الروم، وانما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة صوارى المركب واجتماعها» . ويقال: إنها سميت بذات الصوارى لأن هذا الاسم كان لإقليم يجلب منه قدماء المصريين الخشب لبناء سفنهم.. وقد أحسنت الجمهورية العربية المتحدة فى اختيارها ذكرى هذه المعركة البحرية فى احتفالها بيوم البحرية.(20/241)
يعيب ابن سعد، ويعيب عثمان بتوليته [1] ، ويقول: استعمل رجلا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.
وكتب عبد الله إلى عثمان: إن محمدا قد أفسد على البلاد هو ومحمد بن أبى بكر.
فكتب عثمان رضى الله عنه إليه: أمّا ابن أبى بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة، وأما ابن أبى حذيفة فإنه ابنى وابن أخى وتربيتى وهو فرخ قريش.
فكتب إليه: إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير.
فبعث عثمان إلى ابن أبى حذيفة ثلاثين ألف درهم ومحملا عليه كسوة. فوضعهما محمد فى المسجد وقال: يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعنى عن دينى ويرشونى، عليه. فازداد أهل مصر تعظيما له وطعنا على عثمان، وبايعوه على رئاستهم.
فكتب إليه عثمان يذكّره برّه به وتربيته إيّاه وقيامه بشأنه، ويقول له: كفرت إحسانى أحوج ما كنت إلى شكرك. فلم يردّه ذلك عن ذمّه وتأليب الناس عليه، وحثهم إلى المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.
__________
[1] كان أول ما تكلم به محمد بن أبى حذيفة ومحمد بن أبى بكر فى حق عثمان فى غزوة الصوارى.(20/242)
فلما سار المصريون إلى عثمان أقام هو بمصر، وخرج عنها عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فاستولى عليها وضبطها ولم يزل مقيما بها حتى قتل عثمان وبويع علىّ رضى الله عنه، واتفق معاوية وعمرو بن العاص [على خلاف علىّ] [1] فسار عمرو بن العاص إليه وقتله.
وقد اختلف فى قتله، فمن المؤرخين من قال: إن عمرو بن العاص سار إلى مصر هو ومعاوية قبل مقدم قيس بن سعد إليها، وأرادا دخول مصر فلم يقدرا على ذلك، فخدعا محمدا حتى خرج إلى العريش فى ألف رجل فتحصن بها، فنصبا عليه المنجنيق حتّى نزل فى ثلاثين من أصحابه فقتل. وهذا القول ليس بشىء يعتمد عليه، وهو بعيد جدا، لأن على بن أبى طالب استعمل قيس بن سعد على مصر أول ما بويع، ولو كان قتل محمد بن أبى حذيفة [قبل وصول قيس بن سعد إلى مصر] [2] لاستولى معاوية على مصر، ولا خلاف أن استيلاء معاوية على مصر كان بعد صفّين، وإنّما ذكرنا هذا القول لنبين بطلانه، وقد علّله بعض المؤرخين بنحو هذا التعليل، واستدل على بطلانه [3] .
وقد قيل غير ذلك: وهو أن محمد بن أبى حذيفة سيّر المصريين إلى عثمان، فلما حضروه [4] أخرج محمد عبد الله بن سعيد بن أبى سرح عن مصر وهو عامل عثمان [واستولى] [5] عليها، فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان، فطلع عليه راكب، فسأله،
__________
[1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 135 حيث نقل المؤلف.
[2] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[3] انظر ابن الأثير فى تاريخه الكامل ج 3 ص 135.
[4] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 136: «حصروه» .
[5] الزيادة من الكامل.(20/243)
فأخبره بقتل عثمان وببيعة علىّ رضى الله عنه، فاسترجع، وأخبره بولاية قيس بن سعد على مصر، وأنه قادم بعده فقال عبد الله: «أبعد الله محمد بن أبى حذيفة! فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كفله وربّاه وأحسن إليه، فأساء جواره، وجهّز إليه الرجال، حتّى قتل، ثم ولى على [1] من هو أبعد منه ومن عثمان، ولم يمتعه بسلطان بلاده شهرا ولم يره لذلك أهلا» . وخرج عبد الله هاربا حتّى قدم على معاوية [2] .
وقيل: إن عمرو بن بن العاص سار إلى مصر بعد صفين، فلقيه محمد بن أبى حذيفة فى جيش كثير، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه فاجتمعا، فقال له عمرو: «إنه قد كان ما ترى، وقد بايعت هذا الرجل- يعنى معاوية- وما أنا راض بكثير من أمره، وإنى لأعلم أنّ صاحبك عليّا أفضل من معاوية نفسا وقدما، وأولى بهذا الأمر، فواعدنى موعدا ألتقى معك فيه فى غير جيش، تأتى فى مائة وآتى فى مثلها، وليس معنا إلّا السيوف فى القرب» . فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتّعدا العريش، ورجع عمرو إلى معاوية فأخبره الخبر، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما فى مائة، وجعل عمرو جيشا خلّفه، فلما التقيا بالعريش، قدم جيش عمرو [على أثره] [3] فعلم محمد أنه قد غدر به، فدخل قصرا بالعريش فتحصّن به، وحصره عمرو، ورماه بالمنجنيق حتّى أخذ أسيرا، فبعث به إلى معاوية فسجنه، وكانت
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عليه» .
[2] عقب ابن الأثير فى الكامل هذا بقوله: «وهذا القول يدل على أن قيسا ولى مصر ومحمد بن أبى حذيفه حى، وهو الصحيح» ..
[3] الزيادة من الكامل لابن الأثير.(20/244)
ابنة [1] قرظة امرأة معاوية ابنة بن محمد عمة أبى حذيفة، أمّها فاطمة بنت عتبة، فكانت تصنع له طعاما ترسله إليه، فأرسلت إليه يوما فى الطعام مبارد، فبرد بها قيوده، وهرب، فاختفى فى غار، فأخذ وقتل.
وقيل: إنه بقى محبوسا إلى أن قتل حجر بن عدىّ، ثم هرب فطلبه مالك بن هبيرة السّكونى، فظفر به فقتله غضبا لحجر، وكان مالك قد شفع إلى معاوية فى حجر فلم يشفعه.
وقيل: إن محمد بن أبى حذيفة- لما قتل محمد بن أبى بكر- خرج فى جمع كثير على عمرو، فأمّنه عمرو، ثم غدر به، وحمله إلى معاوية، فحبسه، ثم إنه هرب، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه، وأمر بطلبه فسار فى طلبه عبيد الله بن عمر [2] بن ظلام الخثعمى فأدركه بحوارن فى غار، وجاءت حمر تدخل الغار، فلما رأت محمدا نفرت منه، وكان هناك ناس يحصدون، فقالوا: والله إن لنفرة هذه الحمر لشأنا، فذهبوا إلى الغار فرأوه، وخرجوا من عنده، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا: هو فى الغار، فأخرجه، وكره أن يأتى به معاوية فيخلى سبيله، فضرب عنقه.
والله أعلم.
__________
[1] هى فاختة ابنة قرظة.
[2] عند ابن جرير وابن الأثير: «عمرو» .(20/245)
ذكر ملك عمرو بن العاص مصر ومقتل محمد بن أبى بكر ووفاة الأشتر وما يتصل بذلك
قد ذكرنا فى أخبار على رضى الله عنه استعماله محمد بن أبى بكر على مصر، وما كان بينه وبين أهل خربتا [1] وقتلهم ابن مضاهم، ثم خرج معاوية بن حديج السّكونى، ودعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليا، فاستدعى الأشتر، وكان قد توجّه إلى نصيبين بعد صفّين، فحضر إليه فأخبره خبر أهل مصر، وقال له: «ليس لها غيرك، فاخرج إليها، فإنى لو لم أوصك اكتفيت برأيك، فاستعن بالله، واخلط الشّدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، وتشدّد حين لا يغنى إلا الشّدة» فخرج الأشتر إلى مصر، فبلغ معاوية ذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع فى مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان عليه أشد من محمد بن أبى بكر رضى الله عنه، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقلزم وهو الجابستار [2] وقال له: إن الأشتر وقد ولى مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت. فخرج الجابستار حتى أتى القلزم وأقام به.
وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام فأكل وأتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه، فلما شربها مات.
__________
[1] انظر ما سبق فى «خربتا» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 71 «الجايستار» .(20/246)
وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إنّ عليّا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون عليه [1] .
وأقبل الذى سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبا، ثم قال: أمّا بعد، فإنه كانت لعلىّ يمينان، قطعت إحداهما يوم صفّين- يعنى عمّار بن ياسر-، وقطعت الأخرى اليوم- يعنى الأشتر-.
فلما بلغ ذلك عليا قال: لليدين وللفم [2] ! [وكان ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله] [3] استرجع [4] وقال:
«مالك! وما مالك؟ وهو موجود مثل ذلك؟ لو كان من حديد لكان قيدا، أو من حجر لكان صلدا، على مثله فلتبك البواكى!» [5] .
ثم كتب إلى محمد بن أبى بكر باستقراره على عمله، وأوصاه.
وقيل: إنه إنما ولى الأشتر بعد قتل محمد بن أبى بكر.
قال: ولما كان من الحكمين ما كان، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، لم يكن له همّ إلّا مصر، وكان يهاب أهلها [لقربهم منه و] [6] لشدّتهم وما كان من رأيهم فى عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر [7] عليها ظهر على حرب على رضى الله عنه لعظم خراجها، فدعا
__________
[1] ذكر ابن جرير وابن الأثير أنهم كانوا يدعون الله عليه كل يوم.
[2]- هذه كلمة تقال للرجل إذا دعى عليه بالسوء، معناه: كبه الله لوجهه، أى خر إلى الأرض على يديه وفيه.
[3] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 178.
[4] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[5] قال ابن الأثير فى الكامل عقب هذا: «وهذا أصح، لأنه لو كان كارها له لم يوله مصر» .
[6] الزيادة من الكامل.
[7] ظهر: غلب.(20/247)
معاوية عمرو بن العاص، وحبيب بن أبى مسلمة، وبسر بن أرطاه، والضحّاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد، وأبا الأعور والسّلمى، وشرحبيل بن السّمط الكندى، فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟
فإنى جمعتكم لأمر لى مهمّ. فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحدا، ولم نعلم ما تريد.
فقال عمرو بن العاص: لتسألنا عن رأينا فى مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك، فاعزم واصبر، فنعم الرأى رأيت فى افتتاحها، فإن فيه عزّك وعزّ أصحابك، وكبت عدوك، وذلّ أهل الشقاق عليك.
فقال معاوية: أهّمك يا بن العاص ما أهمكّ. وذلك أن عمرا صالح معاوية على قتال على رضى الله عنه على أن له مصر طعمة ما بقى.
وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟
قالوا: ما نرى إلّا ما رأى عمرو.
ثم كتب معاوية إلى مسلمة ابن مخلّد ومعاوية بن حديج السّكونى- وكانا قد خالفا عليّا- يشكرهما على ذلك، ويحثهما على الطلب بدم عثمان، ويعدهما المواساة فى سلطانه. وبعثه مع مولاه سبيع.
فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلّد الأنصارى عن نفسه وعن ابن حديج: «أمّا بعد، فإن الأمر الذى بذلنا له أنفسنا، واتبعنا أمر الله نرجو به ثواب ربنا، والنّصر على من خالفنا، وتعجيل النّقمة على من سعى على إمامنا؛ وأما ما ذكرت من المواساة فى سلطانك، فبالله إن ذلك أمر ما له نهضنا، ولا إيّاه أردنا، فعجّل علينا [1] بخيلك
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن جرير الطبرى، وجاء فى الكامل: «إلينا» .(20/248)
ورجالك، فإنّ عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك، والسلام.
فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم:
ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جندا. فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل، وأوصاه بالتؤدة وترك العجلة.
وسار عمرو حتى نزل أدانى أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبى بكر: «أما بعد، فتنحّ عنّى بدمك يا بن أبى بكر، فإنّى لا أحب أن يصيبك منى ظفر؛ إنّ الناس بهذه البلاد قد أجمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها، إنى لك من الناصحين» وبعث إليه [بكتاب معاوية] فى المعنى، ويتهدده بقصده حصار عثمان.
فأرسل محمد الكتابين إلى على رضى الله عنه، ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وأنه رأى التثاقل ممن عنده، ويستمده.
فكتب إليه يأمره أن يضم شيعته إليه، ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوّه وقتاله.
وقام محمد فى الناس فندمهم إلى الخروج إلى عدوّهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان، وخرج محمد بن أبى بكر بعده فى ألفين، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرّح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها، فألحقها بعمرو، فلمّا رأى ذلك بعث إلى معاوية بن خديج، فأتاه فى مثل الدّهم [1] ،
__________
[1] الدهم: العدد الكثير.(20/249)
فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فنزل كنانة عن فرسه ونزل معه أصحابه، فقاتل بسيفه حتّى قتل، وبلغ قتله محمد بن أبى بكر، فتفرّق عنه أصحابه، وأقبل عمرو بجمع، ولم يبق مع محمد أحد.
فخرج محمد يمشى فى الطريق، فانتهى إلى خربة فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتّى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبى بكر، فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلا جالسا، فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا فاستخرجوه وكاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط.
ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهم إلى عمرو وكان فى جنده، وقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال:
قتلتم كنانة بن بشر وأخلّى أنا محمدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ
[1] هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبى بكر رضى الله عنه: اسقونى ماء. فقال ابن حديج: «لا سقانى الله إن سقيتك قطرة أبدا؛ إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنّك حتى يسقيك الله من الحميم والغسّاق» . فقال له محمد: «يا ابن اليهودية النّسّاجة، ليس ذلك إليك، إنّما ذلك إلى الله، يسقى أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وأمثالك، أما والله لو كان
__________
[1] الآية 43 من سورة القمر.(20/250)
سيفى بيدى ما بلغتم منّى هذا» . قال له: أتدرى ما أصنع بك؟
أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: «إن فعلت بى ذلك فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنى لأرجو أن يجعلها الله عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظّى، كلّما خبت زادها الله سعيرا» . فغضب منه وقتله، ثم ألقاه فى جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت فى وتر [1] الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها، وامتنعت عائشة بعد ذلك أن تأكل شواء حتّى ماتت.
وقد قيل: إن محمد بن أبى بكر قاتل عمرا ومن معه قتالا شديدا، فقتل كنانة وانهزم محمد، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدلّ عليه معاوية ابن حديج، فأحاط به، فخرج إليه محمد فقاتل حتى قتل. وكان ذلك فى سنة ثمان وثلاثين.
قال: وأما علىّ رضى الله عنه، فإنه لما أتاه كتاب محمد ندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا فخطبهم وحثهم على الخروج ووبخهم على الثتاقل، فقام إليه كعب بن مالك الأرحبيىّ [2] فقال: يا أمير المؤمنين: اندب الناس؛ لهذا اليوم كنت أدخر نفسى، ثم قال:
أيها الناس، اتقوا الله وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته، وقاتلوا
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 79 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 180 «فى دبر الصلاة» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 81- 82 «مالك بن كعب الهمدانى ثم الأرحبى» وسيأتى قريبا أن عين التمر فيها «مالك بن كعب» .(20/251)
عدوّه وأنا أسير إليه، فخرج معه ألفان. فقال له على رضى الله عنه:
سر فو الله ما أظنّك تدركهم حتى ينقضى أمرهم، فسار بهم خمسا.
ثم قدم الحجّاج بن غزيّة من مصر فأخبره بالخبر، وأتاه عبد الرحمن بن شبيب الفزارى من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله، فقال على؛ أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافا:
وأرسل إلى الجيش فأعادهم.
وقام فى الناس خطيبا فقال: «ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبى بكر استشهد، فعند الله نحتسبه، أما والله إنه كان- ما علمت- لممّن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدّى المؤمن، والله لا ألوم نفسى على تقصير، وإنى بمقاساة الحرب لجد خبير، وإنى لأقدم على الأمر، وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم يا لرأى المصيب، وأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث، فلا تسمعون لى قولا، ولا تطيعون لى أمرا، حتّى تصير الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض بكم الأوتار، ودعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة [1] الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة فى جهاد العدوّ، ولا اكتساب
__________
[1] الجرجرة: صوت يردده البعير فى حنجرته، والمراد الضجة والصياح.(20/252)
الأجر، ثم خرج إلىّ منكم جنيد متذائب [1] ، كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فأفّ لكم!» . ثم نزل رضى الله عنه.
ذكر سرايا معاوية الى بلاد على بن أبى طالب رضى الله عنه
لمّا كان من أسر الحكمين ما ذكرنا، وملك معاوية مصر، استشرفت نفسه إلى غير ذلك، فلما كان فى سنة تسع وثلاثين بثّ سراياه فى أطراف بلاد علىّ رضى الله عنه.
فبعث النعمان بن بشير فى ألف رجل إلى عين التمر [2] وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلىّ فى ألف رجل، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة، ولم يبق معه إلّا مائة رجل، فلما سمع خبر النعمان كتب إلى علىّ رضى الله عنه يستمده، فندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، وجعل وراء القرية فى ظهر أصحابه، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستغيثه وهو قريب منه، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن فى خمسين رجلا، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، وذلك بعد أن قاتلوا قتالا شديدا، فلما رآهم أهل الشام انهزموا بعد العشاء، وظنوا أنّ لهم مددا، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر.
وبعث سفيان بن عوف فى ستة آلاف، وأمره أن يأتى هيت [3]
__________
[1] جاء فى النهاية: «وفى حديث على رضى الله عنه: خرج منكم إلى جنيد متذائب ضعيف، المتذائب: المضطرب من قولهم: تذاءبت الريح، أى اضطرب هبوبها
[2] عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربى الكوفة.
[3] هيت: بلدة على الفرات من نواحى بغداد فوق الأنبار.(20/253)
فيقطعها، ثم يأتى الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فأتى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلى تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلّا مائتا رجل، وكان سبب تفرقهم أن أميرهم كميل [1] بن زياد بلغه أن قوما بقرقيسيا [2] يريدون الغارة على هيت، فسار إليهم، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائب، فقاتل سفيان من وجد هناك فصبروا له، ثم قتل صاحبهم وهو أشرس ابن حسّان البكرىّ وثلاثون رجلا، واحتمل أصحاب سفيان ما فى الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية، وبلغ الخبر عليا فأرسل فى طلبهم فلم يدركوا.
وبعث عبد الله ابن مسعدة بن حكيم بن مالك بن بدر الفزارىّ فى ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء [3] وأمره أن يأخذ صدقة من مرّ به من أهل البوادى ويقتل من امتنع، ففعل ذلك، وبلغ مكة والمدينة، واجتمع إليه بشر كثير من قومه. وبلغ ذلك عليا فأرسل المسيّب بن نجبة الفزارى فى ألفى رجل، فلحق عبد الله بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا حتّى زالت الشمس، وحمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله، ويقول له: النّجاء النّجاء. فدخل ابن مسعدة وجماعة من أصحابه الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصّدقة التى كانت مع ابن مسعدة وحصره ثلاثة
__________
[1] هو كميل بن زياد بن نهيك النخعى.
[2] قرقيسيا: بلد على نهر الخابور، وعندها مصب الخابور فى الفرات، فهى فى مثلث بين الخابور والفرات، كما ذكره ياقوت
[3] تيماء: موضع فى أطراف الشام، بين الشام ووادى القرى.(20/254)
أيام، ثم ألقى الحطب فى الباب وحرقه، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا: قومك يا مسيّب!: فرقّ لهم وأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءنى عيون فأخبرونى أن جندا قد أتوكم من الشام.
وبعث معاوية أيضا الضحّاك بن قيس فى ثلاثة آلاف رجل، أمره أن يمر بأسفل واقصة [1] ، ويغير على كل من مر به ممن هو فى طاعة علىّ من الأعراب، فسار وقتل الناس وأخذ الأموال، ومضى إلى الثعلبية [2] فأغار على مسلحة علىّ وانتهى إلى القطقطانة [3] ، فلما بلغ ذلك عليا أرسل حجر بن عدى إليّه فى أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهما، فلحق الضحاك بتدمر فقتل من أصحابه [4] تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه.
وسار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم رجع.
وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرّهاوىّ [5] إلى مكة لأخذ البيعة له، وإقامة الحج بالناس، ومعه ثلاثة آلاف، فسار إلى مكة وبها قثم بن العباس من قبل علىّ، فأراد مفارقتها [6] ، واللحاق ببعض شعابها، فنهاه
__________
[1] واقصة: موضع بطريق مكة من الكوفة.
[2] الثعلبية: من منازل طريق مكة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية وسميت بثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء كما ذكره ياقوت.
[3] القطقطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرية.
[4] فى الكامل ج 3 ص 189 «فقتل منهم» .
[5] قال ابن الأثير: الرهاوى: منسوب إلى الرهاء، قبيلة من العرب، وقد ضبطه عبد الغنى بن سعيد بفتح الراء، قبيلة مشهورة، وأما المدينة فبضم الراء. انظر القاموس.
[6] لما سمع قثم بن العباس بمسمير يزيد بن شجرة خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشىء فعزم على مفارقة مكة.(20/255)
أبو سعيد الخدرىّ، وكتب قثم إلى على يستمده، ووصل يزيد إلى مكة قبل التّروية بيومين، فما تعرض للقتال، ونادى فى الناس:
أنتم آمنون إلّا من قاتلنا ونازعنا. واتفق قثم ويزيد أن يعتزلا الصلاة بالناس، واختارا شيبه بن عثمان، فصلّى بالناس وحج بهم، ولما انقضى الحج رجع يزيد إلى الشام، وأقبلت خيل علىّ مددا لقثم، وفيهم الرّيّان ابن ضمرة الحنفى، وأبو الطّفيل، وعليهم معقل بن قيس، فتبعوه فأدركوه وقد دخل وادى القرى، وظفروا بنفر من أصحابه فأخذوهم أسارى ورجعوا بهم إلى على، ففادى بهم أسارى كانت لهم عند معاوية.
وبعث معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وبها شبيب بن عامر بنصيبين [1] ، فكتب إلى كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم، فسار كميل إليهم نجدة له فى ستمائة فارس، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السّلمىّ فقاتلهما كميل فهزمهما، وغلب على عسكرهما، وأكثر القتل فى أهل الشام، وقتل من أصحاب كميل رجلان، وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلا قد أوقع بالقوم فهنأه بالظّفر، واتّبع الشاميين فلم يدركهم، فعبر الفرات وبثّ خيله فأغارت على أهل الشام حتّى بلغ بعلبك [2] ، فوجه إليه معاوية حبيب بن مسلمة فلم يدركه، ورجع شبيب فأغار على نواحى الرقّة [3] ، فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها، ولا خيلا
__________
[1] نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على طريق القوافل من الموصل إلى الشام. كما ذكره ياقوت.
[2] بعلبك: مدينة قديمة بالشام مشهورة بآثارها.
[3] الرقة: مدينة مشهورة على الفرات.(20/256)
ولا سلاحا إلّا أخذه، وعاد إلى نصيبين. وكتب إلى علىّ رضى الله عنه فكتب إليه ينهاه عن أخذ أموال الناس إلّا الخيل والسلاح الذى يقاتلونه به، وقال: رحم الله شبيبا، لقد أبعد الغارة، وعجّل الانتصار.
ولما فعل شبيب ذلك وقدم يزيد بن شجرة على معاوية بعث معاوية الحارث بن نمر التّنوخىّ إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان فى طاعة علىّ، فأخذ من أهل دارا [1] سبعة نفر من بنى تغلب، وكان جماعة من بنى تغلب قد فارقوا عليّا إلى معاوية فسألوه فى إطلاق أصحابهم فلم يفعل فاعتزلوه أيضا، وفادى معاوية بهم من كان أسرهم معقل بن قيس من أصحاب ابن شجرة.
وبعث معاوية زهير بن مكحول العامرىّ إلى السّماوة [2] ليأخذ صدقات الناس، فبلغ ذلك عليا فبعث ثلاثة نفر، وهم: جعفر بن عبد الله الأشجعىّ، وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين [3] ؛ ليأخذوا صدقه من فى طاعته من كلب وبكر بن وائل، فوافوا زهيرا فاقتتلوا، فانهزم أصحاب علىّ رضى الله عنه، وقتل جعفر، ولحق ابن العشبة بعلىّ فعنفه وعلاه بالدّرّة، فغضب ولحق بمعاوية. وأما ابن الجلاس فإنه مرّ براع فأخذ جبتّه وأعطاه جبة خزّ فأدركته الخيل،
__________
[1] دارا: مدينة بين نصيبين وماردين.
[2] بادية السماوة: بين الكوفة والشام.
[3] كذا جاء فى المخطوطة، والظاهر هنا «الكلبيان؛» بالرفع، وجاء بالنصب فى الكامل لأنه لم يجىء فيه «وهم» فكانت الأسماء منصوبة.(20/257)
فقالوا: أين أخذ هؤلاء التّرابيون [1] ؟ فأشار إليهم: أخذوا ها هنا.
ثم أقبل إلى الكوفة.
وبعث أيضا مسلم بن عقبة المرىّ إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علىّ ومعاوية جميعا، فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك عليّا، فبعث مالك بن كعب الهمذانى فى جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلّا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما، وقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى بيعة علىّ، فأبوا وقالوا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام، فانصرف عنهم وتركهم.
ذكر مسير بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن وما فعله
وفى سنة أربعين بعث [2] معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة- واسم أبى أرطاة عمير، وقيل [3] عويمر الشّامىّ [4] من بنى عامر بن لؤى- إلى الحجاز واليمن فى ثلاثة آلاف فارس، فسار من الشام حتّى قدم المدينة، وعامل المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصارى من قبل علىّ رضى الله عنهما، ففرّ أبو أيّوب ولحق بعلى، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى: يا دينار، يا نجار، يا زريق
__________
[1] أى أتباع أبى تراب على بن أبى طالب.
[2] وذلك بعد تحكيم الحكمين، كما فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 106 والاستيعاب ج 1 ص 158.
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الاستيعاب ج 1 ص 154، وجاء فى جمهرة أنساب العرب ص 161 والإصابة ج 1 ص 147 «واسم أبى (أرطاة) عمير بن عويمر» .
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وقد قال أبو عمر فى الاستيعاب «يعد بسر بن أرطاة فى الشاميين» . وجاء فى النسخة (ك) : «الشيبانى» ، ومن المعروف أنه عامرى قرشى.(20/258)
(وهذه بطون من الأنصار) شيخى شيخى، عهدته ههنا بالأمس، فأين هو؟! (يعنى عثمان) . ثم قال: والله لولا ما عهد إلى معاوية ما تركت بها محتلما إلّا قتلته. ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بنى سلمة [1] فقال: ما لكم عندى أمان ولا مبايعة حتّى تأتونى بجابر بن عبد الله. فأخبر، فانطلق إلى أمّ سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ماذا ترين؟ فإنى خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلاله!» فقالت: «أرى أن تبايع، وقد أمرت ابنى عمر بن أبى سلمة وختنى بن زمعة أن يبايعا» ، وكانت [2] ابنتها زينب تحت ابن زمعه [3] ، فأتى جابر إلى بسر فبايعه لمعاوية، وهدم بسر دورا بالمدينة.
ثم انطلق حتّى أتى مكة، وفيها أبو موسى الأشعرى، فخافه أبو موسى على نفسه أن يقتله، فهرب، فقيل ذلك لبسر، فقال:
ما كنت لأطلبه وقد خلع عليا. ولم يطلبه.
وكتب أبو موسى إلى اليمن: أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل الناس ممّن أبى أن يقرّ بالحكومة.
ثم مضى بسر إلى اليمن، وعامل اليمن من قبل علىّ رضى الله عنه عبيد الله بن عبّاس، فلما بلغه أمر بسر فرّ إلى الكوفة حتّى أتى
__________
[1] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193 «بكسر اللام، بطن من الأنصار» وهم بنو سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، ومن بنى أسد جابر بن عبد الله، هو وأبوه صحابيان.
[2] جاء بهذه الجملة ليشرح معنى «الختن» .
[3] ابن زمعة: عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصى القرشى الأسدى، أمه: قريبة بنت أبى أمية، أخت أم سلمة، وزوجته: ابنة خالته زينب بنت أبى سلمة.(20/259)
عليّا، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثى [1] ، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه [2] ، ولقى ثقل [3] عبيد الله بن العباس رضى الله عنه وفيه ابنان صغيران لعبيد الله بن العبّاس فقتلهما، وهما عبد الرحمن وقثم.
وقيل: إنهما كانا عند رجل من بنى كنانة بالبادية، فلما أراد قتلهما قال له الكنانى: «لم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلنى معهما!» ، فقتله، وقتلهما بعده.
وقيل: إنّ الكنانىّ أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول!
الليث من يمنع حافات الدار. ... ولا يزال مصلتا دون الجار.
وقاتل حتّى قتل وأخذ بسر الغلاميين فذبحهما، فخرج نسوة من بنى كنانة، فقالت امرأة منهن: «ما هذا؟ قتلت الرجال فعلام تقتل الولدان؟ والله ما كانوا يقتلون فى جاهلية ولا إسلام! والله إنّ سلطانا لا يقوم إلّا بقتل الضّرع [4] الصغير والشيخ الكبير وبرفع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء!» فقال لها بسر: والله لقد
__________
[1] عبد الله بن عبد المدان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى الحارث بن كعب، فقال له: من أنت قال: أنا عبد الحجر. قال: أنت عبد الله. فأسلم وبايع. وأبوه عبد المدان اسمه عمرو. وجده الديان اسمه يزيد.
وكان عبيد الله بن عباس قد تزوج عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان واستعان أباها عبد الله على اليمن.
[2] مالك بن عبد الله بن عبد المدان.
[3] الثقل: متاع المسافر وحشمه وكل شىء نفيس مصون.
[4] الضرع: الضعيف.(20/260)
هممت أن أضع فيكن السيف. فقالت له: تالله إنها لأخت التى صنعت وما أنا لها منك بآمنة! ثم قالت للنساء [التى [1] حولها] :
ويحكنّ! تفرّقن!.
وقتل بسر فى مسيره ذلك جماعة من شيعة علىّ باليمن.
وبلغ عليا الخبر، فأرسل جارية بن قدامة فى ألفين، ووهب ابن مسعود فى ألفين، فسار جارية حتّى أتى نجران، فقتل بها ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، واتبعه جارية إلى مكة، فقال: بايعوا أمير المؤمنين. فقالوا: قد هلك فلمن نبايع؟ قال:
لمن بايع له أصحاب على فبايعوا خوفا منه.
ثم سار حتّى أتى المدينة، وأبو هريرة يصلّى بالناس، فهرب منه، فقال جارية: لو وجدت أبا سنّور لقتلته. ثم قال لأهل المدينة:
بايعوا الحسن بن على، فبايعوا، وأقام يومه، ثم عاد إلى الكوفة، ورجع أبو هريرة يصلّى بهم.
وكانت أم ابنى عبيد الله أمّ الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ، وقيل: عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان، فلما قتل ولداها ولهت [2] عليها، فكانت لا تعقل ولا تصغى، ولا تزال تنشدهما فى المواسم وتقول:
__________
[1] يبدأ من هنا مقدار كبير سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) .
[2] ولهت: اشتد حزنها وذهب عقلها.(20/261)
ها [1] من أحس بنيّىّ اللذين هما ... كالدّرتين تشظّى [2] عنهما الصدف
هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... سمعى وعقلى فقلبى اليوم مختطف
هامن أحسّ بنيّىّ اللذين هما ... مخّ العظام فمخّى اليوم مزدهف [3]
من ذلّ والهة حيرى مدلّهة [4] ... على صبيّين ذلّا إذ غدا السّلف
نبّئت بسرا وما صدّقت ما زعموا ... من قتلهم ومن الإثم الّذى اقترفوا
أحنى على ودجى [5] إبنىّ [6] مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
قال [7] : فلمّا سمع علىّ بقتلهما جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر فقال: اللهم اسلبه دينه وعقله. فأصابه ذلك، وفقد عقله، فكان يهذى بالسّيف ويطلبه، فيؤتى بسيف من خشب، ويجعل
__________
[1] «ها» كذا جاء فى المخطوطة موافقا للاستيعاب ج 1 ص 156، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 193: «يا» ، وكذلك أولا البيتين التاليين.
[2] تشظى: انشق.
[3] مزدهف: مذهوب به.
[4] المدلهة: الساهية القلب الذاهية العقل.
[5] الودج: عرق فى العنق يقطعه الذابح فلا يبق معه حياة.
[6] همزة «ابن» همزة وصل، ولكنها صارت إلى القطع هنا لضرورة شعر.
[7] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193.(20/262)
بين يديه زقّ منفوخ، فلا يزال يضربه، فلم يزل كذلك إلى أن مات.
قال [1] : ولما استقرّ الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عبّاس وعنده بسر، فقال لبسر: وددت أن الأرض أنبتنى عندك حين قتلت ولدىّ. فقال بسر: هاك سيفى. فأهوى عبيد الله ليتناوله، فأخذه معاوية وقال لبسر: «أخزاك الله شيخا قد خرفت! والله لو تمكّن منه لبدأ بى!» قال عبيد الله: أجل ثم ثنيت به.
وقيل: إن مسير بسر إلى الحجاز كان فى سنة اثنتين وأربعين، وإنه أقام بالمدينة شهرا يستعرض الناس، لا يقال له عن أحد «إنه شرك فى دم عثمان» إلّا قتله.
وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] عن أبى عمرو الشيبانى قوله:
لما وجّه معاوية بن أبى سفيان بسر بن أرطاة الفهرى لقتل شيعة علىّ، قام إليه معن أو [3] عمرو بن يزيد بن الأخنس السّلمى وزياد [4] بن الأشهب الجعدى فقالا: «يا أمير المؤمنين نسألك بالله والرّحم ألّا تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل قيسا بما قتلت بنو سليم من بنى فهر وكنانة يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة» .
فقال له معاوية: يا بسر، لا أمر لك على قيس. فسار حتّى أتى المدينة فقتل ابنى عبيد الله بن عبّاس، وفرّ أهل المدينة ودخلوا الحرّة: حرّة بنى سليم.
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 193.
[2] الاستيعاب ج 1 ص 156.
[3] المشهور فى هذه النسبة «معن بن يزيد بن الأخنس السلمى» ، وقد بايع النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم ثلاثتهم شهدوا بدرا مسلمين.
[4] كان زياد بن الأشهب بن أدر بن عمرو بن ربيعة بن جعدة العامرى الجعدى من أشراف أهل الشام عظيم المنزلة عند معاوية.(20/263)
هكذا قال الشيبانى: إنه قتل ابنى عبيد الله بالمدينة. والأكثر أنه قتلهما باليمن على ما ذكرنا.
قال [1] : وفى هذه الخرجة أغار بسر على همدان وقتل وسبى نساءهم، فكنّ أوّل مسلمات سبين فى الإسلام. وقتل أحياء من بنى سعد.
وروى أبو عمر [2] بسنده عن أبى الرّباب وصاحب له أنهما سمعا أبا ذر يدعو ويتعوذ فى صلاة صلّاها طال قيامها وركوعها وسجودها، قال: فسألناه: ممّ تعوّذت؟ وفيم دعوت؟ فقال:
تعوذت بالله من يوم البلاء أن يدركنى ويوم العورة أن أدركه. فقلنا:
وما ذاك؟ فقال: أما يوم البلاء فتلتقى فئتان من المسلمين فيقتل بعضهم بعضا، وأما يوم العورة فإن نساء من المسلمات يسبين فيكشف عن سوقهنّ فأيّتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله ألّا يدركنى هذا الزمان ولعلكما تدركانه. قال:
فقتل عثمان ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فسبى نساء مسلمات فأقمن فى السّوق.
هذا ما كان من أخياره فى خلافة علىّ رضى الله عنه ممّا يدخل فيما نحن بصدده، فلنذكر الآن ما اتفق له فى مدة ولايته بعد أن خاص له الأمر، ونبدأ بالغزوات والفتوحات.
__________
[1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب.
[2] فى الاستيعاب.(20/264)
ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام معاوية بعد أن استقل بالأمر
فى سنة اثنتين وأربعين كان غزو الروم، فهزموا، وقتل جماعة كبيرة من بطارقتهم.
وفيها كان غزو اللان [1] .
وفى سنة ثلاث وأربعين غزا بسر بن أرطاة الرّوم حتّى بلغ القسطنطينية، وشتّى بأرضهم، حكاه الواقدى، وأنكره غيره وقال:
لم يشتّ بسر بأرض الروم قطّ، وكان بسر إذ ذاك يلى البصرة من قبل معاوية على ما نذكره فى حوادث السنين.
وفيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فأتاها، فكان يغزو البلد وقد كفر أهله فيفتحه، حتى بلغ كابل، فحصرها أشهرا، ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمة عظيمة، فبات عليها عبّاد بن الحصين الحبطى ليلة- وكان على الشرطة- فما زال يطاعن المشركين حتّى أصبح، فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون، ودخلوا البلد عنوة [2] .
وساروا إلى زراون، فهرب أهلها، فغلب عليها، ثم سار إلى خشّك، فصالحه أهلها. ثم أتى الرّخّج، فقاتلوه، فظفر بهم وفتحها، ثم صار إلى زابلستان- وهى غزنة وأعمالها- وكانوا قد نكثوا ففتحها. وعاد إلى كابل، وقد نكث أهلها ففتحها.
__________
[1] اللان: بلاد واسعة فى طرف أرميلية.
[2] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 217- حيث نقل المؤلف- قوله:
«ثم صاروا إلى بست ففتحها عنوة» .(20/265)
ذكر غزو السند
قال: وفى سنة ثلاث وأربعين استعمل عبد الله بن عامر- وكان على البصرة وخراسان وسجستان- عبد الله بن سوّار العبدى على ثغر السند [1]- ويقال: بل كان ابن سوار من قبل معاوية- فغزا القيقان، فأصاب مغنما، ووفد على معاوية وأهدى له خيلا [2] ، ثم غزا القيقان مرة ثانية، فاستنجدوا بالترك، فقتلوه وكان كريما، لم يوقد أحد فى عسكره نارا [3] ، فرأى ذات ليلة فى عسكره نارا، فقال: ما هذه؟ قالوا: امرأة نفساء يعمل لها الخنبيص، فأمر أن يطعم الناس الخنبيص ثلاثة أيّام.
وفى سنة أربع وأربعين دخل المسلمون بلاد الروم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وشتوا بها ... وغزا بسر بن أرطاة فى البحر.
وفيها غزا المهلب بن أبى صفرة ثغر السند، وقاتلهم، ولقى المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارسا من الترك، فقاتلوه قتالا شديدا، فقتلوا جميعا.
وفى سنة ست وأربعين كان مشتى مالك بن عبد الله [4] بأرض
__________
[1] كان قد توجه إلى ثغر السند فى سنة 38 وأول سنة 39 الحارث بن مرة العبدى متطوعا بإذن على بن أبى طالب، فظفر وأصاب مغنما، ثم قتل فى سنة 42 بأرض القيقان.
[2] خيلا قيقانية، كما قال ياقوت فى معجم البلدان.
[3] نارا غير ناره، كما قال ياقوت.
[4] مالك بن عبد الله بن سنان بن سرح بن وهب بن الأقيصر الخثعى، وكان يعرف بمالك السرايا.(20/266)
الروم، وقيل: بل كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: بل كان مالك بن هبيرة السّكونى [1] .
وفى سنة سبع وأربعين كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم ومشتى أبى عبد الرحمن القينىّ [2] بأنطاكية.
وفيها غزا الحكم بن عمرو بعض جبال الترك، ومعه المهلّب بن أبى صفرة فغنموا، وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق، فعيى الحكم بالأمر فولّى المهّلب الحرب، فلم يزل المهلّب يحتال حتّى أخذ عظيما من عظماء الترك، فقال له: إمّا أن تخرجنا من هذا المضيق أو أقتلك، فقال له التركى: «أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسيّر الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق آخر، فما يدركونكم حتّى تخرجوا منه» . ففعل ذلك، فسلم الناس بما معهم من الغنائم [3] .
وفيها أيضا سار الحكم أيضا إلى بلاد الغور فغزا من بها وكانوا قد ارتدّوا، فأخذهم عنوة بالسيف، وفتحها، وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا، ولما رجع الحكم من هذه الغزاة مات [4] بمرو،
__________
[1] مالك بن هبيرة بن خالد بن مسلم بن الحارث بن المخصف بن مالك بن الحارث ابن بكر بن ثعلبة بن عطية بن السكون كان شريفا بالشام.
[2] أبو عبد الرحمن بن كعب بن ثعلبة بن القمينى، كان معروفا بكنيتة، ويقال له «ذو الشكوة» لأنه كانت له شكوة إذا قاتل، والشكوة: وعاء من جلد الماء واللبن. وهو من بنى القمين وهو النعمان بن جسر من تضاعة.
[3] ذكر الطبرى هذه القصة فى سنة إحدى وخمسين.
[4] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 186 حيث قال: وفى هذه السنة كانت وفاة الحكم بن عمرو الغفارى بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل.. الخ: وانظر ترجمة الحكم فى الاستيعاب ج 1 ص 314 والإصابة ج 1: ص 346.(20/267)
فى قول بعضهم، وكان الحكم قد قطع النهر فى ولايته ولم يفتح، وكان أول المسلمين شرب من النهر مولّى للحكم، اغترف بترسه فشرب، وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلّى ركعتين، وكان أول المسلمين فعل ذلك.
وفى سنة ثمان وأربعين كان مشتى عبد الرحمن القينى بأنطاكية وصائفة عبد الله بن قيس الفزارى، وغزوة مالك بن هبيرة السّكونى البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهنى بأهل مصر فى البحر وبأهل المدينة.
ذكر غزوة القسطنطينية
وفى سنة تسع وأربعين- وقيل: فى سنة خمسين- بعث معاوية جيشا كثيفا إلى بلاد الروم عليهم سفيان بن عوف وكان فى هذا الجيش عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وأبو أيّوب الأنصارى، وعبد العزيز بن زرارة الكلابى [1] وغيرهم.
وأمر معاوية ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتلّ، فأمسك عنه أبوه، فأصاب الناس فى غزاتهم جوع ومرض شديد، فقال يزيد:
ما إن أبالى بما لاقت جموعهمو ... بالغذقذونة [2] من حمّى ومن موم [3]
__________
[1] كان عبد العزيز بن زرارة رجلا شريفا ذا مال كثير، فأشرف عنبسة فواجه المال فأعجبه، فقال زرارة: اللهم انى أشهدك أنى حبست نفسى وأهلى ومالى فى سبيلك ثم أتى أباه فأخبره بذلك، فقال: ارتحل على بركة الله. فتوجه نحو الشام. وشهد غزاة القسطنطينية.
[2] كذا جاء هذا الاسم- وهو اسم بلد- فى موضعين من معجم البلدان لياقوت محرفا كما حرف فى نسخ الكامل لابن الأثير.
[3] الموم: نوع من الحمى ومن الجدرى.(20/268)
إذا اتّكأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مرّان عندى أمّ كلثوم
(وأم كلثوم: امرأته، وهى ابنة عبد الله بن عامر) فبلغ معاوية شعره، فأقسم عليه: ليلحقن بسفيان فى أرض الرّوم ليصيبه ما أصاب الناس [3] . فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه، فلحق بهم.
وأوغل المسلمون فى بلاد الروم، حتّى بلغوا القسطنطينيّة، والتقوا بالروم، واقتتلوا فاشتدّت الحرب بينهم فى بعض الأيام فلم يزل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، فلم يقتل، فأنشأ يقول:
قد عشت فى الدهر أطوارا على طرق ... شتّى، فصادفت منها اللين والبشعا
كلّا بلوت، فلا النّعماء تبطرنى ... ولا تخشّعت من لأوائها جزعا [2]
لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
ثمّ حمل على من يليه، فقتل فيهم، وانغمس بينهم، فشجره [3] الروم برماحهم، حتى قتلوه، رحمه الله، فبلغ قتله معاوية، فقال
__________
[1] جاء فى معجم البلدان أن معاوية قال: «لا جرم ليلحقن بهم ويصيبه ما أصاب وإلا خلعته» .
[2] تبطرنى: تجعلنى أطغى وأتكبر. واللأواء: الشدة والمحنة.
[3] شجره: طعنه.(20/269)
لأبيه: هلك والله فتى العرب! فقال: ابنى أو ابنك! قال ابنك فآجرك الله! فقال [1] :
فإن يكن الموت أودى به ... وأصبح مخّ الكلابىّ ريرا [2]
فكلّ فتى شارب كأسه ... فإمّا صغيرا وإمّا كبيرا
قال: ثم رجعوا إلى الشام، وتوفّى أبو أيّوب الأنصارى عند القسطنطينيّة، فدفن بالقرب من سورها، فأهلها يستسقون به.
وفى سنة خمسين غزا بسر بن أرطاة وسفيان بن عوف الأزدى أرض الروم، وغزا فضالة بن عبيد الأنصارى فى البحر.
وفى سنة إحدى وخمسين كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أرطاة الصائفة.
وفى سنة اثنتين وخمسين غزا سفيان بن عوف الأزدى الروم، وشتى بأرضهم، وتوفّى بها فى قول، فاستخلف عبد الله بن مسعدة الفزارى، وقيل: إن الذى شتى فى هذه السنة بأرض الروم بسر بن أرطاة ومعه سفيان بن عوف. وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفى.
__________
[1] فى الإصابة ج 1 ص 547 أنه استرجع، أى قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[2] مخ رير: ذائب فاسد من الهزال.(20/270)
ذكر فتح جزيرة أرواد
وفى سنة أربع وخمسين فتح المسلمون يقدمهم جنادة بن أبى أميّة جزيرة أرواد بالقرب من القسطنطينية، وأقاموا بها سبع سنين، فلما مات معاوية وولى ابنه يزيد أمرهم بالعودة فعادوا.
وفيها كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم، وصائفة معن ابن يزيد السّلمى.
وفيها استعمل معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه على خراسان، فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أول من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى، ونسف، وبيكند. وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة أربع وخمسين.
وفى سنة خمس وخمسين كان مشتى سفيان بن عوف الأزدى بأرض الروم، فى قول، وقيل: بل شتّى فى هذه السنة عمرو بن محرز، وقيل: عبد الله بن قيس الفزارى، وقيل: بل مالك بن عبد الله وفى سنة ست وخمسين كان مشتى جنادة بن أبى أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود، وقيل: غزا فيها فى البحر يزيد بن شجرة وفى البرّ عياض بن الحارث.
وفيها قطع سعيد بن عثمان بن عفّان النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فقاتلهم، وسنذكر ذلك إن شاء الله فى حوادث سنة ستّ وخمسين.
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى كما يأتى، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى.(20/271)
وفى سنة سبع وخمسين كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
وفى سنة ثمان وخمسين غزا مالك بن عبد الله الخثعمى أرض الروم، وعمرو بن زيد الجهنى فى البحر، وقيل: جنادة بن أبى أميّة وفى سنة تسع وخمسين كان مشتى عمرو بن مرة الجهنى بأرض الروم فى البر، وغزا فى البحر جنادة بن أبى أميّة، وقيل لم يكن فى البحر غزاة فى هذه السنة.
وفيها غزا المسلمون حصهن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السّلمى فصعد عمير السّور، ولم يزل يقاتل عليه وحده حتّى كشف الروم وصعد المسلمون، ففتحه بعمير.
وفى سنة ستين كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية، ودخول جنادة رودس، وهدمه مدينتها فى قول بعضهم.
فهذه الغزوات والفتوحات التى كانت فى أيام معاوية.
فلنذكر أخبار الخوارج عليه وما كان من أمرهم.
ذكر أخبار الخوارج فى أيام معاوية وما كان من أمرهم
كان أول من خرج بعد أن استقل معاوية بالأمر فروة بن نوفل الأشجعى، وكان قد اعتزل فى خمسمائة من الخوارج، وسار إلى شهرزور، وترك قتال علىّ والحسن.
فلما ولى معاوية قال: «جاء الآن ما لا شكّ فيه، سيروا إلى معاوية فجاهدوه» . فسار بهم حتى نزل النّخيلة (عند الكوفة) .(20/272)
وكان الحسن بن علىّ قد سار يريد المدينة، فكتب إليه معاوية بدعوه إلى قتال فروة بن نوفل، فلحقه رسوله بالقادسيّة، أو قريبا منها، فلم يرجع، وكتب إلى معاوية يقول: «لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنى تركته [1] لصلاح الأمة وحقن دمائها» فأرسل إليهم معاوية جمعا من أهل الشام، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام.
فقال معاوية لأهل الكوفة: والله لا أمان لكم عندى حتّى تكفونيهم! فخرج أهل الكوفة إليهم، فقاتلوهم، فقالت الخوارج لهم: «أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم؟ دعونا حتّى نقاتله، فإن أصبناه كنّا قد كفيناكم عدوّكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا» . فقالوا: لا بدّ لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة [2] ، فوعظوه، فلم يرجع، فأدخلوه الكوفة قهرا.
فاستعمل الخوارج عليهم عبد الله بن أبى الحوساء (رجل من طيّئ) فقاتلهم أهل الكوفة، فقتلوهم فى شهر ربيع الأول، أو ربيع الآخر، سنة إحدى وأربعين. وقتل ابن أبى الحوساء [3] ، وكان حين ولى أمر الخوارج قد خوّف من السلطان أن يصلبه إذا ظفر بهم، فقال:
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، أى: تركت القتال، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 205: «تركتك» .
[2] لأن فروة أشجعى.
[3] الذى قتل ابن أبى الحوساء هو خالد بن عرفطة، كما جاء فى الاستيعاب ج 1 ص 414 والإصابة ج 1 ص 410، وسيأتى له ذكر.(20/273)
ما إن أبالى إذا أرواحنا قبضت ... ماذا فعلتم بأوصال وأبشار
تجرى المجرّة والنّسران عن قدر ... والشمس والقمر السارى بمقدار
وقد علمت وخير القول أنفعه ... أنّ السعيد الّذى ينجو من النار
ثم خرج حوثرة بن وداع، وذلك أنه لمّا قتل ابن أبى الحوساء اجتمع الخوارج فولّوا أمرهم حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدى، فقام فيهم، فعاب فروة بن نوفل فى شكّه فى قتال علىّ رضى الله عنه، ودعا الخوارج وساربهم من براز الرّوز- وكان بها- حتّى قدم النّخيلة فى مائة وخمسين، وانضمّ إليهم فلّ ابن أبى الحوساء، وهم قليل.
فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك لعله يرقّ إذا رآك. فخرج إليه وكلّمه وناشده وقال له: ألا آتيك بابنك لعلك إذا رأيته كرهت فراقه! فقال: أنا إلى طعنة برمح من يد كافر أتقلب فيه ساعة أشوق منّى إلى ابنى! فرجع أبوه فأخبر معاوية بمقالتة.
فسيّر إليه عبد الله بن عوف بن أحمر [1] فى ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج، فدعا ابنه إلى البراز، فقال له: يا أبت لك فى غيرى سعة.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 206: «عبد الله ابن عوف الأحمر» .(20/274)
فقاتله ابن عوف وقتله مبارزة، وقتل أصحابه إلّا خمسين رجلا دخلوا الكوفة، وذلك فى جمادى الآخرة من السنة [1] .
ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة فندم على قتله، وقال:
قتلت أخا بنى أسد سفاها ... لعمر أبى فما لقّيت رشدى
قتلت مصلّيا محياه ليل ... طويل الحزن ذا برّ وقصد
قتلت أخا تقى لأنال دنيا ... وذاك لشقوتى وعثار جدّى
فهب لى توبة يا ربّ واغفر ... لما قارفت من خطأ وعمد
ثم خرج فروة بن نوفل الأشجعى على المغيرة بن شعبة، وذلك بعد مسير معاوية، فوجّه إليه المغيرة خيلا عليها شبث بن ربعىّ، وقيل: معقل بن قيس، فلقيه بشهرزور، وقيل بالسواد.
وخرج شبيب بن بحرة، وكان شبيب مع ابن ملجم حين قتل عليّا، كما ذكرنا، فلما دخل معاوية الكوفة أتاه شبيب كالمتقرب إليه، فقال: أنا وابن ملجم قتلنا عليا. فوثب معاوية مذعورا من مجلسه
__________
[1] أى: سنة إحدى وأربعين.(20/275)
حتّى دخل منزله، وبعث إلى أشجع [1] وقال: «لئن رأيت شبيبا أو بلغنى أنه ببابى لأهلكنّكم!] [2] أخرجوه عن بلدكم!» .
فكان شبيب إذا جنّ عليه الليل خرج فلم يلق [3] أحدا إلا قتله. فلما ولى المغيرة خرج عليه بالطّفّ (بقرب الكوفة) ، فبعث المغيرة خيلا. عليها خالد بن عرفطة [4] ، وقيل: معقل بن قيس، فاقتتلوا، فقتل شبيب وأصحابه.
وبلغ المغيرة أنّ معين [5] بن عبد الله- وهو رجل من محارب- يريد الخروج، فأخذه وحبسه وبعث إلى معاوية يخبره، فكتب إليه: إن شهد أنى خليفة فخلّ سبيله. فأحضره المغيرة، فأبى أن يشهد بخلافة معاوية [6] ، فقتله.
ثمّ خرج أبو مريم مولى بنى الحارث بن كعب، ومعه امرأتان:
قطام وكحيلة، وكان أوّل من أخرج معه النساء، فعاب عليه ذلك أبو بلال بن أديّة، فقال: قد قاتل النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بالشام، وسأردّهما فردّهما. فوجّه إليه
__________
[1] كان شبيب بن بحرة منسوبا إلى قبيلة أشجع، كما كان فروة الخارجى أشجعيا، انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 111.
[2] إلى هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) مع مراجعته على ما أثبته ابن الأثير فى الكامل.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : (يأت) .
[4] خالد بن عرفطة بن أبرهة بن سنان هو الذى قتل عبد الله بن أبى الحوساء الخارجى فيما سبق.
[5] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 206: كان اسمه «معنا» فصغر.
[6] وقال معين: أشهد أن الله عز وجل حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور.(20/276)
المغيرة جابرا البجلى، فقاتله، فقتل أبو مريم وأصحابه ببادوريا.
وخرج أبو ليلى- وكان أسود طويلا- ومعه ثلاثون من الموالى فبعث إليه المغيرة معقل بن قيس الرّياحى، فقتله بسواد الكوفة فى سنة اثنتين وأربعين.
وخرج سهم بن غالب الهجيمى فى سنة إحدى وأربعين بالبصرة على عبد الله بن عامر، فى سبعين رجلا، منهم الخطيم الباهلى واسمه زياد [1] بن مالك، وإنما قيل له «الخطيم» لضربة ضربها على وجهه. فنزلوا بين الجسرين والبصرة [2] ، فمرّ بهم عبادة بن قرص [3] الليثى، وقد انصرف من الغزو ومعه ابنه وابن أخيه، فقال لهم الخوارج: من أنتم؟ قالوا: قوم مسلمون. قالوا: كذبتم.
قال عبادة: «سبحان الله! اقبلوا منّا ما قبل النبى صلى الله عليه وسلم منى، فإنى كذّبته وقاتلته، ثم أتيته فأسلمت، فقبل ذلك منّى» .
قالوا: أنت كافر، وقتلوه وقتلوا ابنه وابن أخيه، فخرج إليهم ابن عامر فقاتلهم، فقتل منهم عدّة، وانحاز بقيّتهم إلى أجمة، وفيهم سهم والخطيم، فأمّنهم ابن عامر ورجعوا، وكتب إلى معاوية، فأمره بقتلهم، فلم يقتلهم، وكتب إلى معاوية: إنّى جعلت لهم ذمّتك.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الاستيعاب ج 2 ص 452، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 209: «يزيد» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة كما فى الكامل، وجاء فى الاستيعاب أنهم خرجوا «بناحية جسر البصرة» .
[3] فى الإصابة ج 3 ص 269: «عبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير بن مالك ... والصحيح أنه ابن قرص بالصاد» وفى الاستيعاب ج 2 ص 451: «عبادة ابن قرص الليثى، ويقال: ابن قرط، والصواب عند أكثرهم: «قرص» .(20/277)
فلمّا أتى زياد بن أبيه البصرة فى سنة خمس وأربعين هرب الخطيم إلى الأهواز، واجتمع إلى سهم جماعة، فأقبل بهم إلى البصرة، فتفرق عنه أصحابه، فاختفى [1] وطلب الأمان [2] ، فلم يؤمّنه زياد، وبحث عنه وأخذه فقتله وصلبه فى داره.. وقيل: إنه لم يزل مستخفيا حتّى مات زياد، فأخذه عبيد الله بن زياد وصلبه فى سنة أربع وخمسين، فقال رجل من الخوارج:
فإن تكن الأحزاب باءوا بصلبه ... فلا يبعدنّ الله سهم بن غالب
وأما الخطيم فإن زيادا سأله عن قتل عبادة، فأنكره، فسيره إلى البحرين، ثم أعاده [3] بعد ذلك، وقيل: إنه قتله [4] .
ذكر خبر المستورد الخارجى
وفى سنة اثنتين وأربعين تحرك الخوارج الذين كانوا انحازوا عمن قتل يوم النهروان، واجتمعوا فى أربعمائة وأمّروا عليهم المستورد بن علّفة التّيمى، من تيم الرّباب، وبايعوه فى جمادى الآخرة، واتّعدوا للخروج فخرجوا فى غرّة شعبان سنة ثلاث وأربعين.
فبلغ المغيرة أنهم اجتمعوا فى منزل حيّان بن ظبيان السّلمىّ وتواعدوا للخروج، فأرسل صاحب شرطته، وهو قبيصه بن الدمّون،
__________
[1] قيل: إنهم تفرقوا عند استخفائه.
[2] ظن أنه يسوغ له عند زياد ما ساغ له عند ابن عامر.
[3] كذا ذكره ابن الأثير فى الكامل.
[4] كذا ذكره أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 452.(20/278)
فأحاط بدار حيّان، وإذا عنده معاد بن جوين وهو من رءوس الخوارج ونحو عشرين رجلا، وثارت امرأته وهى أمّ ولد كانت له [كارهة] [1] فأخذت سيوفهم وألقتها تحت الفراش، [وقاموا ليأخذوا سيوفهم] [2] فلم يجدوها فاستسلموا، فجىء بهم إلى المغيرة، فحبسهم بعد أن قرّرهم فلم يعترفوا بشىء قالوا: وإنما اجتمعنا لقراءة القرآن، ولم يزالوا فى السجن نحو سنة، وسمع إخوانهم فحذروا.
وخرج صاحبهم المستورد فنزل الحيرة، واختلف الخوارج إليه، ثم تحول إلى دار سليم بن مجدوع العبدى، وهو مهره.
وبلغ المغيرة الخبر وأنهم عزموا على الخروج فى تلك الأيام، فجمع الرؤساء فخطبهم وقال لهم: «ليكفنى كلّ رجل منكم قومه، وإلّا والله تحولت عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون» . فرجعوا إلى قومهم فناشدوهم الله والإسلام إلّا دلوهم على من يريد تهييج الفتنة.
فبلغ المستورد ذلك فخرج من دار سليم بن محدوج، وأرسل إلى أصحابه فأمرهم بالخروج فخرجوا متفرقين، واجتمعوا فى نحو ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصرّاة [3] .
وبلغ المغيرة بن شعبة خبرهم، فندب معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف فارس اختارهم من الشيعة.
__________
[1] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 212.
[2] الزيادة من الكامل.
[3] الصراة: نهر بالعراق.(20/279)
وأما الخوارج فإنهم ساروا إلى أن بلغوا المذار [1] فأقاموا بها.
وبلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم، فندب شريك بن الأعور الحرثى، وانتخب معه ثلاثة آلاف فارس أكثرهم من ربيعة، فسار بهم إلى المذار.
وسار معقل وقدّم أمامه أبا الرّواغ فى ثلاثمائة، فأتى بهم إلى المذار وقاتل الخوارج عامة نهاره وهم يهزمونه ويعود إلى القتال، ثم أدركه معقل فى سبعمائة من أهل القوة، فجاء وقد غربت الشمس فصلوا المغرب، وحملت الخوارج عليهم فانهزم أصحاب معقل، وثبت هو فى نحو مائتين ونزل إلى الأرض فتراجع إليه أصحابه وأتاه بقية الجيش.
فبينما هم على ذلك بلغ الخوارج أن شريك بن الأعور قد أقبل من البصرة فى ثلاثة آلاف، فأشار المستورد على أصحابه بالرجوع من حيث جاءوا، وقال: «إنا إذا رجعنا نحو الكوفة لم يتبعنا أهل البصرة، ويرجعوا عنا فنقاتل طائفة أسهل من قتال طائفتين» .
فانحاز بأصحابه إلى البيوت، وخرج من الجانب الآخر وسار ليلته، ولم يعلم الجيش بمسيرهم، وبات معقل وأصحابه يتحارسون [2] إلى الصباح، فأتاهم خبر مسيرهم.
وجاء شريك، فدعاه معقل أن يسير معه، فأبى أصحاب شريك اتّباعهم [3] ، فاعتذر إليه لمخالفة أصحابه ورجع.
__________
[1] المذار: بلد بين واسط والبصرة.
[2] كان معقل قد بعث من يأتيه بخبر الخوارج حين لم ير سوادهم، فعاد إليه يخبره بسيرهم، فخاف معقل أن تكون مكيدة منهم ليأتوا جيشه ليلا، فاحتاط هو وأصحابه وتحارسوا.
[3] قالوا لشريك: لا والله لا نفعل، إنما أقبلنا نحو هؤلاء لننفيهم عن أرضنا ونمنعهم من دخولها، فإذا كفانا الله مؤنتهم فإنا منصرفون إلى مصرنا، وفى أهل الكوفة ما يمنعون به بلادهم من هؤلاء الأكلب.(20/280)
ودعا معقل أبا الرواغ، وأمره باتباعهم، فى ستمائة فارس، فاتبعهم، فأدركهم نحو جرجرايا مع طلوع الشمس، فحمل المستورد على أبى الروّاغ، فانهزم أصحابه وثبت فى مائة فارس وقاتلهم طويلا، ثم عطف أصحابه من كل جانب، وصدقوهم القتال، فلما رأى المستورد ذلك علم أن معقلا إن أتاهم بمن معه هلكوا، فمضى بأصحابه وعبر دجلة إلى بهرسير، وتبعهم أبو الروّاغ حتى نزل بهم إلى ساباط، فقال المستورد: هؤلاء حماة معقل وفرسانه ولو علمت أنى أسبقهم إليه بساعة لسرت إليهم فواقعته، ثم ركب بأصحابه حتّى انتهى إلى جسر ساباط، فقطعه، ووقف أبو الرواغ ينتظرهم للقتال وقد عبّأ أصحابه.
وسار المستورد حتى أتى ديلمان، وبها معقل، فلما رآهم نصب رايته [ونزل] [1] وقال: يا عباد الله الأرض الأرض! فنزل معه نحو مائتى رجل، فحملت الخوارج عليهم، فاستقبلوهم بالرماح جثاة على الرّكب، فلم يقدروا عليهم، فتركوهم، وعدلوا إلى خيولهم [فحالوا بينهم وبينها] [2] وقطعوا أعنّتها فذهبت، ثم رجعوا إلى معقل وأصحابه فحملوا عليهم، واشتدّ الأمر على معقل ومن معه.
فبينما هم كذلك أقبل أبو الروّاغ بمن معه، وكان سبب عوده أنه أقام ينتظر عودة الخوارج إليه، فلما أبطأوا عليه أرسل من يأتيه بخبرهم فرأوا الجسر مقطوعا ففرحوا بذلك ظنا منهم أن الخوارج فعلوا ذلك هيبة، فرجعوا إلى أبى الرواغ فأخبروه أنهم لم يروهم، وأن الجسر قد قطعوه هيبة لهم، فقال أبو الرواغ: «لعمرى ما فعلوا هذا
__________
[1] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 156.
[2] الزيادة من ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 216.(20/281)
إلّا مكيدة، وما أراهم إلا قد سبقوكم إلى معقل حيث علموا أن فرسان أصحابه معى، وقد قطعوا الجسر ليشغلوكم به عن لحاقهم، فالنجاء النجاء فى الطلب» ثم أمر أهل القرية فعقدوا الجسر، فعبر عليه، واتّبع الخوارج، فلقيه أوائل الناس منهزمين، فصاح بهم: إلىّ إلىّ: فرجعوا.
إليه، وأخبروه الخبر وأنهم تركوا معقلا يقاتلهم، وما يظنونه إلا قتيلا، فجدّ فى السير، وردّ معه من لقيه من المنهزمين، وانتهى إلى العسكر، فرأى رأية معقل منصوبة والناس يقتتلون، فحمل أبو الرواغ وأصحابه على الخوارج فأزالهم غير بعيد.
ووصل أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو متقدّم يحرّض أصحابه، فشدوا على الخوارج شدّة منكرة، ونزل المستورد ومن معه إلى الأرض ونزل أصحاب معقل أيضا، ثم اقتتلوا طويلا من النهار بالسيوف أشدّ قتال، ثم إن المستورد نادى معقلا ليبرز إليه، فبرز إليه، فمنعه أصحابه، فلم يقبل [منهم] [1] وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه، فقال أصحاب معقل له: خذ رمحك. فأبى، وأقدم على المستورد، فطعنه المستورد برمحه، فخرج السّنان من ظهره، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد، فضربه بسيفه فخالط دماغه فماتا جميعا.
وكان معقل قال لأصحابه: إن قتلت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب التميمى، فلما قتل معقل أخذ عمرو الراية، وحمل هو وأصحابه
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد قال معقل لأصحابه: لا والله لا يدعونى رجل إلى مبارزة أبدا فأكون أنا الناكل.(20/282)
على الخوارج فقتلوهم، فلم ينج منهم غير خمسة أو ستة، وانكفت [1] الخوارج بعد ذلك مدّة ولاية زياد بن أبيه إلى سنة خمسين.
فخرج قريب الأزدى وزحّاف الطائى بالبصرة وهما ابنا خالة، وكان زياد يومئذ بالكوفة، وسمرة بالبصرة [2] فأتى الخوارج بنى ضبيعة [3] وهم سبعون رجلا فقتلوا منهم شيخا، فاشتد زياد فى أمر الخوارج فقتلهم وأمر سمرة بذلك، فقتل منهم بشرا كثيرا، وخطب زياد على المنبر فقال: «يا أهل البصرة والله لتكفنّنى هؤلاء. أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت رجل منهم لا تأخذون العام من عطاياكم درهما» فسار الناس إليهم فقتلوهم.
ثم خرج زياد بن خراش العجلى فى سنة اثنتين وخمسين فى ثلاثمائة فأتى أرض مسكن من السّواد، فسرّح إليد زياد بن أبيه خيلا عليها سعد بن حذيفة، أو غيره، فقتلوهم وقد صاروا إلى ماه [4] وخرج رجل من طىء اسمه معاذ فى ثلاثين رجلا [5] فبعث إليه زياد من قتله وقتل أصحابه، ويقال بل حلّ لواءه واستأمن.
وخرج طوّاف بن غلّاق فى سنة ثمان وخمسين بالبصرة، وكان سبب خروجه أن قوما من الخوارج بالبصرة كانوا يجتمعون إلى رجل اسمه
__________
[1] انكفتوا: انصرفوا عن الخروج القتال.
[2] كان معاوية قد كتب بعهد زياد على الكوفة والبصرة، فاستخلف زياد على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة.
[3] كان بنو ضبيعة بالبصرة لهم محلة هناك سميت «ضبيعة» باسمهم.
[4] ماه: قصية الكوفة، لأن «مسكن» موضع بالكوفة، وماه قصبة البلد، فارسية.،
كما فى القاموس.
[5] أتوا نهر عبد الرحمن بن أم الحكم، ولذلك قيل لهم «أصحاب نهر عبد الرحمن» .(20/283)
حرار [1] فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم عبيد الله بن زياد فحبسهم، ثم أحضرهم، وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضا ويخلّى سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقوا، وكان طواف ممن قتل، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم، قالوا أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئنّ بالإيمان، وندم طوّاف وأصحابه، وقال أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدّية، فأبوا قبولها، وعرضوا عليهم القود، فأبوا.
ولقى طوّاف الهثهاث بن ثور السدوسى، فقال له: ما ترى لنا من توبة! فقال: ما أجد لك إلا آية فى كتاب الله عزّ وجل: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
. [2] فدعا طوّاف أصحابه إلى الخروج على أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه فى هذه السنة، وهم سبعون رجلا من عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجل من أصحابهم إلى ابن زياد، وبلغ ذلك طوّافا فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم، فقتلوا رجلا، ومضوا إلى الجلحاء [3] ، فندب ابن زياد الشرط والبخارية [4] فقاتلوهم، فانهزم الشّرط حتى دخلوا البصرة، واتبعوهم، وذلك يوم الفطر فكاثرهم الناس، فقاتلوا فقتلوا، وبقى طوّاف فى ستة نفر
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «جرار» ، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 287 «جدار» .
[2] الآية 110 من سورة النحل.
[3] الجلحاء: موضع على فرسخين من البصرة.
[4] البخارية: طائفة من بخارى، سباهم عبيد الله بن زياد ونقلهم إلى البصرة، وبنى لهم فيها سكة خاصة نسبت إليهم، وهم يبلغون الألفين ويجيدون الرمى بالنشاب، ففرض لهم عبيد الله عطاء وأسكنهم تلك السكة.(20/284)
وعطش فرسه، فاقتحم به الماء، فرماه البخاريّة بالنّشّاب حتّى قتلوه وأخذ فصلب، ثم دفنه أهله.
ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية وغيرهما من الخوارج
قال: وفى سنة ثمان وخمسين اشتدّ عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم جماعة كثيرة، منهم عروة بن أديّة وكان سبب قتله أن عبيد الله بن زياد خرج فى رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس إليه، وفيهم عروة بن أديّة وهو أخو مرداس بن أديّة، وأديّة أمهما وأبوهما، جدير [1] وهو نميمى، فأقبل عروة على زياد يعظه، فكان ممّا قال له: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ
[2] قال: فلما قال له ذلك ظنّ ابن زياد أنه لم يقله إلّا ومعه جماعة [3] فركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ليقتلنّك. فاختفى، فطلبه ابن زياد فأتى الكوفة، فأخذ وأتى به إلى ابن زياد فقطع يديه ورجليه وقتله [4] وقتل ابنته.
وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابدا مجتهدا عظيم القدر فى الخوارج
__________
[1] هكذا بالجيم يكتبه بعضهم. ويراه بعضهم بالحاء (حدير) ، وفى جمهرة أنساب العرب ص 212: «وأبوهما جرير بن عامر بن عبيد بن كعب بن ربيعة» وذكر أنهما من بنى ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
[2] الآيات 128، 126، 130 من سورة الشعراء.
[3] لما رأى فيه من الجرأة.
[4] لما قطعت يداه ورجلاه دعا به ابن زياد وقال له: كيف ترى قال: أرى أنك أفسدت دنياى وأفسدت آخرتك، فقتله.(20/285)
وشهد صفّين مع علىّ فأنكر التحكيم [1] ، وشهد النّهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه.
وكانت البثجاء امرأة من بنى يربوع- تحرّض على ابن زياد وتذكر تجبّره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التّقيّة [2] لا بأس بها فتغيبى فإن هذا الجبار قد ذكرك. فقالت: أخشى أن يلقى أحد بسببى مكروها، فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها ورماها فى السوق، فمرّ بها أبو بلال فعض على لحيته وقال: «لهذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس! ما ميتة أموتها أحبّ إلىّ من ميتة البثجاء!» .
ومرّ أبو بلال ببعير قد طلى بقطران فغشى عليه، ثم أفاق فتلا:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ
[3] .
ثم إن ابن زياد ألح فى طلب الخوارج حتى ملأ منهم السجون.
وحبس أبا بلال مرداس بن أديّة [4] ، فرأى السجان عبادته، فأذن له كل ليلة فى إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلا ويعود إلى السجن مع الصبح، وكان لمرداس صديق يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة فعزم على قتلهم [إذا أصبح] [5] ، فانطلق صديق مرداس إليه وأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفا أنه لا يرجع،
__________
[1] قيل: إن أبا بلال أول من قال «لا حكم إلا لله» على مذهب الخوارج يوم صفين.
[2] التقية: الحذر.
[3] الآية 50 فى سورة إبراهيم.
[4] حبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة بن أدية.
[5] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 232.(20/286)
فعاد على عادته، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليه الأمير؟
قال: بلى، قال: وكيف أتيت؟ قال: لم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب [بسببى] [1] وأصبح ابن زياد فقتلهم، فلما أحضر مرداس قام السجان- وكان ظئرا [2] لعبيد الله- فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلّى سبيله.
ثم خاف من ابن زياد، فخرج فى أربعين رجلا إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مال لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ثم يردّ الباقى، فلما سمع ابن زياد خبرهم بعث إليهم أسلم [3] بن زرعة الكلابى، وقيل: أبو الحصين التيمى، وكان الجيش ألفى رجل، وذلك فى سنة ستين، فلما أتوه ناشدهم أبو بلال الله أن ينصرفوا عنه، فأبو ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا أتردّنا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلا من الخوارج فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدءوكم بالقتال. فشدّ الخوارج على أسلم وأصحابه شدّة رجل واحد، فهزموهم، فقدموا البصرة، فلامه ابن زياد على ذلك، وقال: «هزمك أربعون وأنت فى ألفين؟ لا خير فيك!» فقال: لأن تلومنى وأنا حىّ خير من أن تثنى علىّ وأنا ميت وكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: «أبو بلال وراءك» . فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم، فانتهوا.
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى.
[2] ظئره: زوج مرضعته، والأصل فى لفظ «الظئر» أن يطلق على المرضعة لغير أولادها، ثم أطلق على زوج المرضعة.
[3] ذكر ياقوت فى معجم البلدان أنه «معبد بن أسلم الكلابى» .(20/287)
وقال رجل [1] من الخوارج:
أألفا مؤمن منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسك [2] أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكنّ الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
هذا ما كان من أخبار الخوارج، فلنذكر حوادث السنين.
ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان غير ما تقدم، على حكم السنين منذ خلص له الأمر إلى أن توفى إلى رحمة الله
سنة احدى وأربعين
فى هذه السنة خلص الأمر لمعاوية بن أبى سفيان؛ بمبايعة الحسن ابن على رضى الله عنهما له كما تقدم، فسمى هذا العام «عام الجماعة» وذلك لاجتماع الناس على إمام واحد، وهو معاوية.
وروى أنه لما سار الحسن رضى الله عنه عن الكوفة عرض له رجل فقال: يا مسوّد وجوه المؤمنين. فقال: لا تعذلنى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى [3] بنى أميّة ينزون على منبره رجلا رجلا، فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [4]
وهو نهر فى الجنة، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ
__________
[1] هو عيسى بن فاتك الخطى، أحد بنى تميم الله بن ثعلبة كما ذكره ياقوت فى معجم البلدان، وذكر سبعة أبيات.
[2] آسك: بلد من نواحى الأهواز قرب أرجان.
[3] فى المنام.
[4] الآية الأولى من سورة الكوثر.(20/288)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
[1] يملكها بعدك بنو أميّة، وقد خرّج هذا الحديث [2] أهل الصحة. وكانت دولة بنى أمية ألف شهر.
ذكر صلح معاوية وقيس بن سعد بن عبادة
فى هذه السنة تم الصلح بين معاوية وقيس بن سعد، وكان قيس قد خرج على مقدمة الحسن فى اثنى عشر ألفا كما ذكرنا.
وقيل: إن عبيد الله بن عباس كان على مقدمته، وكان قيس بن سعد على مقدمة عبيد الله، فلمّا علم عبيد الله ما عزم عليه الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية كتب إليه يسأل الأمان لنفسه وعلى ما أصاب من مال وغيره، فأجابه إلى ذلك، وفارق عبيد الله جنده وتركهم بغير أمير، فأمّروا عليهم قيس بن سعد، وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشرط له ولهم على ما أصابوا من الدماء والأموال، فراسله معاوية فى الدخول فى طاعته، وأرسل إليه بسجلّ وختم أسفله، وقال: اكتب فيه ما شئت فهو لك، فاشترط لنفسه ولشيعة علىّ الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يشترط مالا، فأعطاه ذلك، ودخل قيس فى طاعة معاوية.
__________
[1] الآيات 1، 2، 3 من سورة القدر.
[2] هذا الحديث رواه الترمذى فى تعليقات ج 12 ص 252- 253 عن محمود ابن غيلان عن أبى داود الطيالسى عن القاسم بن الفضل الحدانى عن يوسف بن سعد، ثم قال:
«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن، والقاسم بن الفضل الحدانى هو ثقة، وثقة يحيى ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهد، ويوسف بن سعد رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه» .، ورواه ابن جرير الطبرى فى تفسيره ج 30 ص 143 وإن كان لم يرجحه. ورواه الحاكم والطبرانى والبيهقى فى الدلائل، وذكر الآلوسى فى تفسيره ج 30 ص 188 قول المزنى فيه: «حديث منكر» ثم تردد فى هذا القول.(20/289)
ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة
وفى هذه السنة استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة.
وكان قد استعمل عليها عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة وقال: «استعملت عبد الله على الكوفة، وأباه بمصر، فتكون أميرا بين نابى أسد» . فعزله، واستعمل المغيرة.
وبلغ عمرو بن العاص ما قاله المغيرة، فدخل على معاوية وقال:
«استعملت المغيرة على الخراج، فيغتال المال، ولا تستطيع أن تأخذه منه، استعمل على الخراج رجلا يخافك ويتقيك» فعزله عن الخراج وأقره على الصلاة [1] .
ولما ولى المغيرة استعمل كثير بن شهاب على الرّىّ، وكان يكثر سب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه على المنبر.
ذكر استعمال بسر بن أرطاة
على البصرة وعزله، واستعمال عبد الله ابن عامر عليها وفى هذه السنة استعمل معاوية بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة على البصرة، وكان سبب ذلك أن الحسن لما صالح معاوية وثب حمران ابن أبان على البصرة، فأخذها وغلب عليها، فبعث إليه معاوية بسر بن أرطاة؛ وأمره بقتل بنى زياد بن أبيه، وكان زياد على
__________
[1] وبعد ذلك لقى المغيرة عمرو بن العاص فقال له: أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت به فى عبد الله قال: نعم، قال: هذه بتلك.(20/290)
فارس، قد أرسله عليها على بن أبى طالب رضى الله عنه كما تقدم.
فلما قدم بسر البصرة خطب على منبرها فشتم عليا، ثم قال:
نشدت الله رجلا يعلم أنى صادق إلّا صدّقنى أو كاذب إلّا كذبنى، فقال أبو بكرة [1] ؛ اللهم إنّا لا نعلمك إلا كاذبا! فأمر به فخنق، فقام أبو لؤلؤة الضّبىّ فرمى نفسه عليه فمنعه، فأقطعه أبو بكرة مائة جريب [2] ، وقيل لأبى بكرة: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يناشدنا الله ثم لا نصدقه.
وكان معاوية قد كتب إلى زياد: أن فى يديك مالا من مال الله فأدّ ما عندك منه. فكتب إليه زياد: «أنه لم يبق عندى شىء، وقد صرفت ما كان عندى فى وجهه، واستودعت بعضه لنازلة إن نزلت، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله تعالى» . فكتب إليه معاوية أن أقبل ننظر فيما وليت، فإن استقام بيننا أمر وإلا رجعت إلى مأمنك. فامتنع زياد.
فأخذ بسر أولاده الأكابر، منهم عبد الرحمن وعبيد الله وعبّاد وكتب إليه: لتقدمنّ على أمير المؤمنين أو لأقتلنّ بنيك، فكتب إليه زياد: لست بارحا مكانى حتى يحكم الله بينى وبين صاحبك، وإن قتلت ولدى فالمصير إلى الله تعالى، ومن ورائنا الحساب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
__________
[1] أبو بكرة: نفيع بن الحارث أو مسروح، وكان قد تدلى إلى النبى صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، فكناه صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، واشتهر بهذه الكنية.
[2] الجريب فى المساحة: قيل: عشرة آلاف ذراع، وقيل: ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقالوا: يختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم، والجريب فى الطعام أربعة أقفزة. انظر المصباح.(20/291)
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
[1] فأراد بسر قتلهم وأتاه أبو بكرة [2] فقال له: قد أخذت ولد أخى بلا ذنب، وقد صالح الحسن معاوية على ما أصاب أصحاب علىّ رضى الله عنه حيث كانوا، فليس عليهم ولا على أبيهم سبيل، وأجّله أياما حتّى يأتى بكتاب معاوية، فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة، فلما أتاه قال له: يا معاوية إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال! قال: وما ذاك يا أبا بكرة؟ قال: بسر يريد قتل بنى أخى زياد، فكتب إليه بتخليتهم، فأخذ كتابه وعاد، فوصل البصرة يوم الميعاد، وقد أخرج بسر أولاد زياد مع طلوع الشمس، ينتظر بهم الغروب ليقتلهم، واجتمع الناس لذلك وهم ينتظرون أبا بكرة؛ إذ رفع على نجيب أو برذون يكدّه [3] ، فوقف فنزل عنه وألاح بثوبه، وكبّر وكبّر الناس معه، وأقبل يسعى على رجليه، فأدرك بسرا قبل أن يقتلهم، فدفع إليه الكتاب، فأطلقهم.
وكان زياد قد تحصّن بالقلعة التى تسمّى «قلعة زياد» .
وأمّا بسر فلم يطل مقامه بالبصرة، بل عزله معاوية فى بقية سنة إحدى وأربعين، وأراد أن يستعمل عتبة بن أبى سفيان [4] ، فكلمه ابن عامر وقال له: إن لى بالبصرة ودائع وأموالا، فإن لم تولّنى عليها ذهبت. فولّاه البصرة، فقدمها فى آخر سنة إحدى وأربعين، وجعل إليه خراسان وسجستان، فجعل على شرطته حبيب بن شهاب
__________
[1] آية 227 من سورة الشعراء.
[2] سيأتى فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سمية» أن سمية أم زياد ولدت أبا بكرة- واسمه نفيع- عند الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى.
[3] يكده: يستعجله.
[4] أى: أراد معاوية بن أبى سفيان أن يستعمل أخاه عتبة بن أبى سفيان على البصرة.(20/292)
وعلى القضاء عميرة بن يثربىّ أخا عمرو، وقد تقدم فى وقعة الجمل أن عميرة قتل فيها، وقيل: المقتول عمرو [1] .
واستعمل ابن عامر قيس بن الهيثم على خراسان، وكان أهل باذغيس وهراة وبوشنج [2] قد نكثوا، فسار إلى بلخ، فأخرب نوبهارها [3] ، وكان الذى تولى ذلك عطاء [4] بن السائب مولى بنى ليث، واتخذ قناطر على ثلاثة أنهار من بلخ على فرسح، فقيل: قناطر عطاء، فسأل أهلها الصلح ومراجعة الطاعة، فصالحهم قيس، وقيل: إنما صالحهم الربيع ابن زياد سنة إحدى وخمسين، ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه وحبسه، واستعمل عبد الله بن خازم، فأرسل إليه أهل هراة وباذغيس وبوشنج يطلبون الأمان والصلح، فصالحهم وحمل إلى ابن عامر مالا.
وفيها ولد على بن عبد الله بن العباس، وقيل: ولد سنة أربعين قبل قتل على رضى الله عنه، والأول أصح.
وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة بن أبى سفيان.
__________
[1] الراجح أن المقتول فى وقعة الجمل هو عمرو بن يثربى أخو عميرة بن يثربى، انظر الإصابة ج 3 ص 119 وجمهرة أنساب العرب ص 195 والقاموس.
[2] بوشنج: بلدة خصيبة من نواحى هراة، وكذلك «باذغيس» من نواحى هراة.
[3] نوبهار ببلخ بناء: كان أهلها يعظمونه تعظيما، وتفسير النوبهار: البهار الجديد، وكان من عاداتهم أنهم إذا بنوا بناء يهتمون به كللوه بالريحان وتوخوا لذلك أول ريحان يطلع فى ذلك الوقت، فلما بنوا ذلك البيت جعلوا عليه أول ما يظهر من الريحان، فكان البهار، فسمى «النوبهار» لذلك.
[4] وكان يقال له «عطاء الخشك» لأنه أول من دخل من المسلمين باب هراة الذى يقال له «خشك» .(20/293)
سنة اثنتين وأربعين
فى هذه السنة ولّى معاوية مروان بن الحكم المدينة، وخالد بن العاص بن هشام مكة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث ابن نوفل [1] .
ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان
فى هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية، وكان معاوية قد كتب إليه يتهدّده، حين قتل على رضى الله عنه، فقام زياد خطيبا فقال:
العجب من ابن آكلة الكبود [2] ، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب يتهدّدننى وبينى وبينه ابنا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى ابن عباس والحسن بن على رضى الله عنهم- فى سبعين ألفا، واضعى سيوفهم على عواتقهم، أما والله لئن خلص إلى ليجدنىّ أحمر ضرّابا بالسيف [3] » فلما صالح الحسن معاوية اعتصم زياد بقلعته كما تقدم ثم، كان من خبر بنيه مع بسر بن أرطاة ما ذكرناه، فأهمّ معاوية أمره، وكان زياد قد استودع عبد الرحمن بن أبى بكرة ماله، فبلغ معاوية ذلك،
__________
[1] عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشى الهاشمى، وأمه هى هند بنت أبى سفيان، فكان معاوية خاله، وكان مرضيا ظاهر الصلاح.
[2] كانت هند بنت عتبة- وهى أم معاوية- فى جيش المشركين يوم أحد وقد شقت عن بطن حمزة بن عبد المطلب وأخرجت كبده، وجعلت تلوكها، فلم تستطيع أن تسيغها، فلفظتها.
انظر نهاية الأرب ج 17 ص 101.
[3] أحمر: شديدا. ثم انظر ما يأتى قريبا فى «ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه» .(20/294)
فبعث إلى المغيرة بن شعبة لينظر فى أموال زياد، فأخذ عبد الرحمن فقال له لئن كان أبوك أساء إلىّ لقد أحسن عمك [1]- يعنى زيادا- فكتب إلى معاوية: إنى لم أجد فى يد عبد الرحمن مالا يحلّ لى أخذه. فكتب إليه معاوية: أن عذّب عبد الرحمن. فقال لعبد الرحمن: احتفظ بما فى يدك، وألقى على وجهه حريرة [2] ونضحها بالماء فغشى عليه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم خلّاه، وكتب إلى معاوية: إنى عذّبته فلم أجد عنده شيئا.
ثم دخل المغيرة على معاوية فقال له [3] : ذكرت زيادا واعتصامه بفارس فلم أنم ليلتى. فقال المغيرة: ما زياد هناك؟ فقال معاوية: «داهية العرب! معه أموال فارس، يدبّر الحيل، ما يؤمننى أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هم قد أعادوا الحرب جذعة!» واستكتمه معاوية ذلك، فقال المغيرة: أتأذن لى يا أمير المؤمنين فى إتيانه؟
قال: نعم وتلطّف له، فأتاه المغيرة وقال له: إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثنى إليك، ولم يكن أحد يمدّ يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع فخذ لنفسك قبل التّوطين فيستغنى معاوية عنك.
__________
[1] كان الشهود على المغيرة عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع وشل ابن معبد وزياد، وكلهم أولاد سمية، إلا أن زيادا لم يقطع الشهادة، فسلم المغيرة من الجلد بسبب زياد.
[2] تطلق «الحريرة» على ما طبخ من الدقيق والدسم، وعلى قطعة الحرير.
[3] قال معاوية للمغيرة حين نظر إليه:
إنما موضع سر المرء إن ... باح بالسر أخوه المنتصح
فإذا بحت بسر فإلى ... ناصح يستره أولا تبح
فقال: يا أمير المؤمنين إن تستودعنى تستودع ناصحا شفيقا ورعا وثيقا فما ذاك يا أمير المؤمنين قال: ذكرت زيادا.... الخ.(20/295)
قال: أشر علىّ وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن. فقال المغيرة: أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه. [قال: أرى] [1] ويقضى الله. وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه.
فخرج زياد من فارس نحو معاوية، ومعه المنجاب بن راشد الضبّى، وحارثة بن بدر، وقدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما حمل منها إلى علىّ رضى الله عنه، وما انفق منها فى الوجوه التى تحتاج إلى النفقة، وما بقى عنده وأنه مودع للمسلمين، فصدّقه معاوية فيما أنفق وفيما بقى عنده وقبضه منه، وقيل: إن زيادا لما قال لمعاوية: قد بقيت بقية من المال، وقد أودعتها [قوما] [2] فمكث معاوية يروده، فكتب زياد كتبا إلى قوم يقول: قد علمتم ما لى عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب الله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ.
الآية [3] فاحتفظوا بما عندكم.
وسمى فى الكتب المال الذى أقرّ به لمعاوية، وأمر رسوله أن يتعرّض لبعض من يبلغ ذلك معاوية، ففعل رسوله، وانتشر ذلك، فقال معاوية لزياد حين وقف على الكتب: أخاف أن تكون مكرت بى فصالحنى على ما شئت، فصالحه على ألفى ألف درهم، وحملها زياد إليه، واستأذنه زياد فى نزول الكوفة فأذن له، فكان المغيرة يكرّمه ويعظّمه، وكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادا وحجر ابن عدى وسليمان بن
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 135.
[2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 136.
[3] الآية 72 من سورة الأحزاب.(20/296)
صرد وشبيب بن ربعى وابن الكوّاء [1] وابن الحمق [2] بالصلاة فى الجماعة، فكانوا يحضرون معه الصلاة [3] .
وحج بالناس فى هذه السنة عنبسة بن أبى سفيان.
سنة ثلاث وأربعين
فيها استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان واستعمل عبد الله بن خازم على خراسان وعزل قيس بن الهيثم عنها [4] وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة.
وفيها توفى محمد بن مسلمة الأنصارى، وعبد الله بن سلام، وعمرو بن العاص.
ذكر وفاة عمرو بن العاص وشىء من أخباره واستعمال عبد الله ابن عمرو على مصر
كانت وفاته بمصر يوم عيد الفطر من هذه السنة على الأصح وكان له يوم مات تسعون سنة، ودفن بالمقطّم من ناحية السّفح، وصلى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع فصلّى بالناس صلاة العيد.
وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش وأبطالهم فى الجاهلية مذكورا بذلك فيهم.
__________
[1] ابن الكواء: عبد الله بن أبى أوفى، ذكره الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 162 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219.
[2] عمرو بن الحمق، كذا ذكره ابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 147.
[3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 311: «وإنما ألزمهم ذلك لأنهم كانوا من شيعة على» .
[4] انظر ما قيل فى سبب ذلك فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 160 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 218.(20/297)
وكان حسن الشّعر، فمن شعره يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النّجاشىّ:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما
قضى وطرا منه وغادر سبّة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وكان أحد الدّهاة فى أمور الدنيا المقدّمين فى الرأى، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه إذا استضعف رجلا فى رأيه قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد. يريد خالق الأضداد.
حكى أنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص وهو على المنبر عن أمّه، فسأله، فقال: أمّى سلمى بنت حرملة تلقّب النابغة من بنى عنزة، ثم أحد بنى جلّان، أصابتها رماح العرب [1] فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن واثل فولدت له، فأنجبت، فإن كان جعل لك شىء فخذه.
قالوا: ولما حضرته الوفاة قال: «اللهم أمرتنى فلم آتمر، وزجرتنى فلم أنزجر» ووضع يده فى موضع الغلّ ثم قال: «اللهمّ لا قوىّ فأنتصر، ولا برىء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت» . فلم يزل يردّدها حتّى مات.
وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى الشافعى رضى الله عنه أنه قال. دخل ابن عباس رضى الله عنهما على عمرو بن العاص فى مرضه فسلّم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: «أصبحت وقد أصلحت من دنياى قليلا، وأفسدت من دينى كثيرا، فلو كان
__________
[1] سبيت وهى من بنى جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار.
[2] فى الاستيعاب ج 2 ص 513.(20/298)
الذى أصلحت هو الذى أفسدت، والذى أفسدت هو الذى أصلحت لفزت، ولو كان ينفعنى أن أطلب طلبت، ولو كان ينجينى أن أهرب هربت، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين، فعظنى بعظة أنتفع بها يابن أخى» . فقال ابن عباس: «هيهات يا أبا عبد الله، صار ابن أخيك أخاك، ولا نشاء أن تبكى إلا بكيت، كيف يؤمر برحيل من هو مقيم؟» . فقال عمرو على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة تقنطنى من رحمة ربى، اللهم إن ابن عباس يقنّطنى من رحمتك فخذ منى حتى ترضى. فقال ابن عباس: هيهات يا أبا عبد الله أخذت جديدا وتعطى خلقا، قال:
ما لى ولك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها.
وروى [1] بسنده إلى يزيد بن أبى حبيب: أن عبد الرحمن بن شماسة حدّثه قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى، فقال له ابنه عبد الله: «لم تبكى؟ أجزعا من الموت؟» قال: لا والله ولكن لما بعده، فقال له: لقد كنت على خير، وجعل يذكّره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام. فقال له عمرو: «تركت أفضل من ذلك كله، شهادة أن لا إله إلا الله، إنى كنت على ثلاثة أطباق [2] ، ليس منها طبق إلّا عرفت نفسى فيه، كنت أوّل شىء كافرا، فكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو متّ حينئذ وجبت لى النار، فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشدّ الناس حياء منه، فما ملأت عينى من رسول الله صلى الله
__________
[1] فى الاستيعاب ج 2 ص 514.
[2] الأطباق: المراد بها الأحوال.(20/299)
عليه وسلم حياء منه، فلو متّ يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو أسلم وكان على خير ومات على خير أحواله فترجى له الجنة، ثم تلبّست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى أعلىّ أم لى؟ فإذا متّ فلا تبكينّ علىّ باكية، ولا يتبعنى مادح ولا زار، وشدّوا علىّ إزارى فإنى مخاصم، وشنّوا علىّ التراب فإن جنبى الأيمن ليس بأحقّ من جنبى الأيسر، ولا تجعلنّ فى قبرى خشبة ولا حجرا، وإذا واريتمونى فاقعدوا عندى قدر نحر جزور وتقطيعها [[1] بينكم] أستأنس بكم!» . ولما مات استعمل معاوية بعده على مصر ابنه عبد الله بن عمرو.
سنة أربع وأربعين
فى هذه السنة حج معاوية بالناس.
وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة، وهو أول من عملها بالمدينة، وكان معاوية قد عملها بالشام لمّا ضربه الخارجى.
ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة واستعمال الحارث بن عبد الله
فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وسبب ذلك أنه كان كريما حليما لينّا لا يأخذ على أيدى السفهاء، ففسدت البصرة فى أيامه، فشكا ذلك إلى زياد، فقال له: جرّد [فيهم] [2] السيف، قال: إنى أكره أن أصلحهم بفساد نفسى!.
فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر، فأرسل إليه
__________
[1] الزيادة من الاستيعاب.
[2] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 162.(20/300)
يستزيره، فجاء إليه، فرده إلى [1] عمله، فلما ودعه قال له معاوية:
«إنى سائلك ثلاثا [فقل: هنّ لك» .] [2] قال: هنّ لك وأنا ابن أم حكيم [3] فقال: ترد علىّ عملى ولا تغضب. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى مالك بعرفة. قال: قد فعلت. قال: وتهب لى دورك بمكّة. قال قد فعلت. قال: وصلتك رحم! قال ابن عامر: «يا أمير المؤمنين إنى سائلك ثلاثا، فقل هنّ لك» . قال هنّ لك وأنا ابن هند، قال: ترد علىّ مالى بعرفة. قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لى عاملا ولا تتبع لى أثرا. قال: قد فعلت. قال: وتنكحنى ابنتك هند. قال: قد فعلت.
ويقال: إن معاوية قال له: «اختر إمّا أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك وأردك إلى العمل، أو أعز لك وأسوّغك ما أصبت» .
فاختار العزل وأن يسوّغه ما أصاب، فعزله، واستعمل الحارث ابن عبد الله الأزدى، وكان ابن عامر قد استعمل على خراسان، قبل مقدمه عبد الله بن أبى شيخ اليشكرى، وقيل: بل استعمل عليها طفيل بن عوف اليشكرى.
__________
[1] عند الطبرى وابن الأثير «على» .
[2] الزيادة من ابن جرير فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 219.
[3] كانت أم عامر والد عبد الله هى أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم.(20/301)
ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سميّة
وفى هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، وقد ذكر عز الدين أبو الحسن على بن الأثير فى تاريخه الكامل [1] سبب ذلك وكيفيته، وابتدأ حال سميّة فقال: كانت سميّة أم زياد لدهقان زندورد [2] ، بكسكر فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى، فعالجه، فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقرّبه، ثم ولدت نافعا فلم يقرّبه أيضا، فلما نزل أبو بكرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم حين حضر [3] الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدى، وكان قد زوج سميّة من غلام له اسمه عبيد [4] ، وهو رومى، فولدت له زيادا.
قال: وكان أبو سفيان بن حرب سار [5] فى الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السّلولى- وأسلم أبو مريم [6] بعد ذلك، وصحب النبى صلى الله عليه وسلم- فقال أبو سفيان لأبى مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لى بغيّا، فقال هل لك فى سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع
__________
[1] ج 3 ص 219- 221.
[2] زندورد: بلد قرب واسط، وكسكر: كورة صارت قصبتها واسط.
[3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «حصر» ... هذا وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلا بالطائف، فنادى مناديه:
«من خرج إلينا من عبيدهم فهو حر» فخرج إليه نافع ونفيع- يعنى أبا بكرة وأخاه- فأعتقهما، وانظر نهاية الأرب ج 17- 337، وانظر تسمية «أبى بكرة» فيما سبق من هذا الجزء.
[4] انظر خزانة الأدب ج 2 ص 517.
[5] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «صار» .
[6] أبو مريم السلولى: مالك بن ربيعة، وهو مشهور بكنيته.(20/302)
عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته سنة إحدى [1] من الهجرة.
فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعرى حين ولى البصرة.
ثم إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استكفى زيادا أمرا، فقام فيه مقاما مرضيا، فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمتلها، فقال عمرو بن العاص:
«لله در هذا الغلام. لو كان أبوه من قريش لساق العرب الناس بعصاه» .
فقال أبو سفيان وهو حاضر: والله إنى لأعرف أباه ومن وضعه فى رحم أمه. فقال له على بن أبى طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال:
أنا. قال: «مهلا يا أبا سفيان، اسكت، فإنك تعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا» .
وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى ابن عبّاس: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث زيادا فى إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها (وذكر كلام عمرو بن العاص ومقالة أبى سفيان وكلام علىّ رضى الله عنه بنحو ما تقدم) قال: فقال أبو سفيان:
أما والله لولا خوف شخص ... يرانى يا علىّ من الأعنادى
لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم يكن المقالة عن زياد
وقد طالت مجاملتى ثقيفا ... وتركى فيهمو ثمر الفؤاد
__________
[1] كذا جاء فى الأصل، يريد السنة الأولى من الهجرة، وهذه إحدى الروايات فى ميلاد زياد. وفى الاستيعاب وأسد الغابة: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة.
وقيل: يوم بدر، وفى الطبقات: ولد عام الفتح، وهو سنة ثمان من الهجرة.
[2] فى الاستيعاب ج 1 ص 569.(20/303)
نعود إلى ما حكاه ابن الأثير قال: فلما ولى علىّ رضى الله عنه الخلافة استعمل زيادا على فارس فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، فكتب إلى زياد يتهدّده، ويعرض له بولادة أبى سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام فى الناس فقال: «العجب [1] كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد [2] ، ورأس النفاق، يخوّفنى بقصده إيّاى وبينى وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار.
أما والله لو أذن لى فى لقائه لوجدنى أحمر مخشيا [3] ضرّابا بالسيف» .
وبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فكتب إليه: «إنى قد ولّيتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كان من أبى سفيان فلتة من أمانى الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثا ولا تحل لك نسبا، وإن معاوية يأتى الإنسان من بين يديه ومن خلف، وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر، والسلام» ..
فلما قتل علىّ رضى الله عنه وكان من أمر زياد ومصالحة معاوية ما ذكرناه، وضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وضمن له عشرين ألف درهم؛ ليقول لمعاوية: «إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا، وصالحك على ألفى ألف درهم، والله ما أرى الذى يقال إلّا حقّا» فإذا قال لك يقال: وما يقال؟ فقل: إنه ابن أبى سفيان. ففعل مصقل ذلك.
__________
[1] انظر ما سبق فى «ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان» .
[2] آكلة الأكباد: أمه، أكلت كبد حمزة رضى الله عنه حين قتل يوم أحد، والمراد بأكلها أنها لاكنها، انظر نهاية الأرب ج 17 ص 100- 101.
[3] يخشاه الناس.(20/304)
ورأى معاوية أن يستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من شهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السّلولى، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندى وطلب منى بغيّا، فقلت ليس عندى إلّا سميّة فقال: ايتنى بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما. فاستلحقه معاوية.
وكان استلحاقه أول ما ردّت فيه أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
قال [1] : وقد اعتذر الناس عن معاوية فى استلحاقه إياه، فقالوا:
إن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا، منها أن الجماعة يجامعون البغىّ فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقرّ نسب كلّ ولد إلى من كان ينسب إليه من أى نكاح كان، فتوهّم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين ما استلحق فى الجاهلية والإسلام.
قال أبو عمر ابن عبد البر [2] : ولما ادّعى معاوية زيادا دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم، فقال: يا معاوية لو لم تجد إلا الزّنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة، فأقبل معاوية على مروان، وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: «والله لولا حلمى وتجاوزى لعلمت أنه لا يطاق،
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221.
[2] فى الاستيعاب ج 1 ص 570- 571.(20/305)
ألم يبلغنى شعره فىّ وفى زياد؟» . ثم قال لمروان أسمعنيه، فقال:
ألا بلّغ [1] معاوية بن صخر ... لقد ضاقت بما تأتى اليدان
أتغضب أن يقال: أبوك عفّ ... وترضى أن يقال: أبوك زانى؟
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زيادا ... وصخر من سميّة غير دان
قال [2] : وهذه الأبيات تروى ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ [3] الحميرى الشاعر، ومن رواها له جعل أوّلها:
ألا بلّغ [4] معاوية بن صخر ... مغلغلة من الرجل اليمانى
قال أبو عمر: وروى عمر بن شبّة وغيره أن ابن مفرّغ لما شفعت فيه اليمانية إلى معاوية أو ابنه يزيد، وكان قد لقى من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقى من النّكال مما يطول شرحه، فلما وصل إلى معاوية بكى وقال: «يا أمير المؤمنين ركب منّى ما لم يركب من مسلم قطّ، على غير حدث فى الإسلام ولا خلع يد من طاعة» . وكان عبيد الله ابن زياد قد أمر به فسقى دواء، ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح فى ثيابه، فقال معاوية: ألست القائل؟:
ألا بلّغ معاوية بن صخر ...
وذكر الأبيات.
فقال ابن مفرّغ: «لا والذى عظّم حقّك ورفع قدرك يا أمير المؤمنين
__________
[1] فى الاستيعاب: «أبلغ» .
[2] أبو عمر ابن عبد البر.
[3] سمى جده «مفرغا» لأنه راهن على أن يشرب عسا من لبن ففرغه.
[4] فى الاستيعاب: «أبلغ» .(20/306)
ما قلتها قط ولقد بلغنى أن عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها إلىّ» قال ألست القائل؟:
شهدتّ بأنّ أمّك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع
أو لست القائل أيضا!:
إنّ زيّادا ونافعا وأبا ... بكرة عندى من أعجب العجب
همو رجال ثلاثة خلقوا ... فى رحم أنثى ما كلّهم لأب [1]
ذا قرشىّ كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمه عربى
فى أشعار قلتها لزياد وبنيه تهجوهم! اغرب لا عفا الله عنك! فقد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زيادا لم يكن شىء مما كان، اذهب فاسكن أى أرض أحببت» . فاختار الموصل.
قال أبو عمر: وليزيد بن مفرّغ فى هجو زياد وبنيه- من أجل ما لقى من عبّاد بن زياد بخراسان- أشعار كثيرة منها:
أعبّاد ما للّؤم عنك محوّل ... وما لك أمّ فى قريش ولا أب
وقل لعبيد الله مالك والد ... بحقّ ولا يدرى امرء كيف تنسب
__________
[1] جاء فى مروج الذهب ج 2 ص 57: «فى رحم أثنى مخالفى النسب» .(20/307)
وقوله [1] فى زياد:
فكّر ففى ذاك إن فكّرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلّا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أن ابنها من قريش فى الجماهير
قال [2] : وكان أبو بكرة أخا زياد لأمّه، فلما بلغه أن معاوية استحلقه وأنه رضى بذلك آلى يمينا ألّا يكلّمه أبدا، وقال: «هذا زنّى أمّه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله! ما يصنع بأم حبيبة زوج النبى صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة عظيمة!» .
فلما حجّ زياد ودخل المدينة أرادوا الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبى بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له فى الدخول عليها، [قيل] [3] وإنه حج ولم يزرها من أجل قول أبى بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرا لم يدع النصيحة على كل حال.
قالوا [4] : وكتب زياد «إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها:
__________
[1] روى أن عبيد الله بن زياد قال: ما هجيت بشىء أشد على من قول ابن مفرغ، فكر ففى ذاك.... الخ البيتين.
[2] أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب.
[3] الزيادة من الاستيعاب.
[4] ذكر هذا القول ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221.(20/308)
من زياد بن أبى سفيان» وهو يريد أن تكتب إليه «إلى زياد بن أبى سفيان» فكتبت إليه «من عائشة أم المؤمنين إلى ولدها زياد» .
وكان يقال لزياد قبل الاستلحاق «زياد بن أبيه» و «زياد بن أمّه» و «زياد بن سميّة» و «زياد بن عبيد الثّقفىّ» .
وروى أبو عمر [1] بسنده إلى أبى عثمان النهدى قال: اشترى زياد أباه عبيدا بألف درهم فأعتقه.. فكنّا نغيظه بذلك.
سنة خمس وأربعين
ذكر ولاية زياد البصرة وخراسان وسجستان وما تكلم به زياد عند مقدمه ومن استعمله زياد من العمال وفى هذه السنة عزل معاوية الحارث بن عبد الله الأزدى عن البصرة وكان قد استعمله عليها فى [أوّل] [2] هذه السنة، ثم عزله، فكانت ولايته أربعة أشهر، واستعمل زيادا على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.
فقدم زياد البصرة فى آخر شهر ربيع الآخر من السنة، فدخلها والفسق فيها ظاهر فاش.
فخطب خطبة بتراء [3] لم يحمد الله فيها (وقيل: بل حمد الله
__________
[1] فى الاستيعاب ج 1 ص 568.
[2] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[3] ذكر الجاحظ فى البيان والتبيين ج 2 ص 6 «أن خطباء السلف الطيب وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التى لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد البتراء» .(20/309)
فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا على نعمك فينا.) أمّا بعد فإنّ الجهالة الجهلاء والضّلالة العمياء والفجر [1] الموقد لأهله النار [2] الباقى عليهم سعيرها، ما يأتيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، فيثب [3] فيها الصغير، ولا ينحاش عنها الكبير كأن لم يسمعوا نبىّ الله، ولم يقرءوا كتاب الله، ولم يعلموا [4] ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته فى الزمن السّرمدى الذى لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا [5] وسدّت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية؟ ولا تذكرون أنكم أحدثتم فى الإسلام الحدث الذى لم تسبقوا إليه (وفى نسخة [6] بعد قوله «لم تسبقوا إليه» قال: من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله والضعيفة المسكينة فى النهار المبصر) هذه المواخير [7] المنصوبة، والضعيفة المسلوبة فى النهار المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن
__________
[1] فى البيان والتبيين ج 2 ص 12 «والغى» :
[2] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ الطبرى ج 4 ص 165 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 222، وجاء فى البيان والتبيين ج 2 ص 62 والعقد الفريد ج 4 ص 110 «الموفى بأهله على النار» .
[3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى والبيان والتبيين والعقد الفريد: «ينبت» .
[4] جاءت الأفعال «يسمعوا» و «يقرءوا» و «يعلموا» بالياء فى النسخة (ك) ولم تنقط أوائلها فى النسخة (ن) ، وجاءت بالتاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى والكامل والبيان والعقد.
[5] أى: طمحت ببصره إليها، من قولهم «امرأة مطروفة بالرجال» إذا كانت طماحة إليهم، وقيل: طرقت عينه أى صرفتها إليها، كما فى النهاية.
[6] كذا جاء فى النسخة (ن) ، ولم يثبت فى النسخة (ك) .
[7] قال صاحب النهاية: المواخير جمع ماخور، وهو مجلس الريبة ومجمع أهل الفسق والفساد وبيوت الخمارين.(20/310)
منكم نهاة [1] تمنع الغواة عن دلج [2] الليل وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم الدّين! تعتذرون بغير العذر وتغطّون [3] على المختلس! كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه صنع من لا يخاف عاقبة ولا يخشى [4] معادا! ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السّفهاء، فلم يزل بهم ما ترون [5] من قيامكم دونهم حتّى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا فى مكانس [6] الريب!. حرام علىّ الطعام والشراب حتّى أسوّيها بالأرض هدما وإحراقا! إنى رأيت هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح به أوّله:
لين فى غير ضعف، وشدة فى غير جبريّة وعنف. وإنّى أقسم بالله لآخذنّ الولىّ بالولىّ والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم فى نفسه بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد [7] ، أو تستقيم لى قناتكم! إن كذبة المنبر
__________
[1] النهاة: جمع الناهى، كما تكون الغواة جمع الغاوى.
[2] دلج الليل: يراد به السير فى الليل، وأكثره يكون للسرقة أو الفجور.
[3] فى الكامل: «تعطفون» ، وفى البيان: «تغضون» .
[4] فى تاريخ الطبرى والبيان والعقد: «ولا يرجو» .
[5] فى العقد «بكم ما ترون» ، وكذلك بعض نسخ البيان، وفى بعضها: «بهم ما يرون» .
[6] يقال: كنس الظبى فى كناسه أو مكنسه، إذا تغيب واستنر فى بيته، قال صاحب النهاية فى شرح هذه الجملة من خطبة زياد: المكانس: جمع مكنس، مفعل من الكناس، والمعنى استتروا فى مواضع الريبة.
[7] «انج سعد فقد هلك سعيد» مثل من أمثال العرب، انظر مجمع الأمثال فى حرف النون ج 2 ص 301، و «سعد» و «سعيد» ابنا ضبة بن طابخة بن الياس بن مضر، وكانا قد زوجها فى طلب إبل لأبيهما نفرت فى الليل، فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد فى طلبها حتى لقيه الحارث بن كعب فقتله وأخذ يرديه، انظر مجمع الأمثال ج 1 ص 301 والفاخر ص 59.(20/311)
مشهودة [1] ، فإذا تعّلقتم علىّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتى! من بيّت [2] منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إيّاى ودلج الليل، فإنى لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم فى ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإيّاى ودعوى الجاهليّة [3] ، فإنى لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكلّ ذنب عقوبة، فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق قوما حرّقناه، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيّا! فكفّوا عنّى أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدى ولسانى، ولا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه! وقد كانت بينى وبين أقوام إحن [4] فجعلت ذلك دبر أذنى وتحت قدمى [5] ، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته، إنّى لو علمت أن أحدكم قد قتله [6] السلّ من بغضى لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدى لى صفحته، فإذا فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على
__________
[1] روى أبو على القالى فى النوادر ص 185 قول زياد فى خطبته: «ألا وإنها ليست كذبة أكثر عليها شاهدا من الله ومن المسلمين من كذبة إمام على منبر» .
[2] بيت: أصيب من شخص أوقع به ليلا.
[3] ما كان عليه أهل الجاهلية من التعصب القبلى الأعمى يدعو بعضهم بعضا عند الحادث فيقول: «يا لفلان» ،
وفى الصحيحين وغيرهما حديث النبى صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
. [4] إحن: جمع إحنة، بمعنى حقد.
[5] روى المبرد فى الكامل قول زياد: «الإمرة تذهب الحفيظة، وكانت من قوم إلى هنات جعلتها تحت قدمى ودبر أذنى» ، وقال المرصفى فى شرحه ج 4 ص 116:
«دبر: معناه خلف، يريد تصاممت فلم أصغ إليه» .
[6] رواية المبرد فى الكامل: «أخذه» .(20/312)
أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ ومسرور بقدومنا سيبتئس [1] أيّها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة [2] ، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطاناه، ونذود عنكم بفىء الله الذى خوّلناه، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولّينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أنى مهما قصّرت عنكم [3] فإنى لا أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتانى طارقا بليل، ولا حابسا رزقا ولا عطاء عن إبّانه، ولا مجمّرا [4] لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذى إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا [5] ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّا لكم، أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، فإذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله [6] . وايم الله إن لى فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى!.
__________
[1] ذكر المسعودى فى مروج الذهب ج 2 ص 67 أن زيادا قال:
ألا رب مسرور بما لا يسره ... وآخر مجزون بما لا يضره
[2] ذادة: جمع ذائد، وسيأتى الفعل، «نذود» أى: ندافع.
[3] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل والبيان: «عنه» .
[4] تجمير الجنود: حبسهم فى أرض العدو عن العودة إلى أهلهم، وقد جاء فى وصية عمر بن الخطاب قوله: «ولا تجمرهم فى البعوث فتقطع نسلهم» .
[5] كذا جاء فى البيان والتبيين، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل لابن الأثير:
«ومتى تصلحوا يصلحوا» .
[6] أذلاله: طرقه ومذاهبه، فالأذلال: جمع ذل- بكسر الذال- وهو ما مهد من الطريق، قال صاحب النهاية: «ومنه خطبة زياد؛: إذا رأيتمونى أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله» .(20/313)
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: «كذبت، ذاك نبىّ الله داود عليه الصلاة والسلام [1] » .
فقال الأحنف: «قد قلت فأحسنت، أيّها الأمير [2] والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لا نثنى حتّى نبتلى، ولا نحمد حتّى نعطى» . فقال زياد: صدقت.
فقام أبو بلال مرداس بن أديّة وهو يقول: [3] أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
[4] فأوعدنا الله خيرا ممّا أوعدتنا يا زياد [5] فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما نريد منك ومن أصحابك سبيلا حتّى نخوض إليكم الباطل خوضا!. (وقيل: إنه قال: حتى نخوض إليها [6] الدماء) .
__________
[1] يشير إلى قول الله تعالى فى قصة داود: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ
الآية 20 من سورة ص.
[2] زاد الحصرى فى زهر الآداب ج 2 ص 1025 والقالى فى النوادر ص 186 وابن قتيبة فى عيون الأخبار ج 2 ص 242: «الفرس بشده، والسيف مجده، والمرء مجده، وقد بلغ بك جدك ما ترى» .
[3] عند ابن جرير والجاحظ وابن عبد ربه: يهمس وهو يقول:
[4] الآيات 37، 38، 39، 40، 41 من سورة النجم.
[5] ذكر القالى فى نوادره أن أبا بلال بعد أن تلا القرآن قال: «وأنت تزعم أنك تأخذ بعضنا ببعض وتقتل بعضنا ببعض» وذكر الجاحظ فى البيان والتبيين أنه قال:
«وأنت تزعم أنك تأخذ البرى بالسقيم والمطيع بالعاصى والمقبل بالمدبر» فسمعه زياد.
[6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «إليه» .(20/314)
وقيل: إنّه لمّا قدم العراق خطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية غير مخوف على قومه، ولم يكن ليلحق بنسبه من ليس منه، وقد شهدت الشهود بما قد بلغكم، والحقّ أحقّ أن يتّبع، والله حيث وضع البينات كان أعلم، وقد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقى من عدوّى، وقد قدمت عليكم، وصار العدوّ صديقا مناصحا، والصديق عدوا مكاشحا، فاشتمل كلّ امرئ على ما فى صدره، فلا يكوننّ لسانه شفرة تجرى على ودجه، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفى بيده، فإن شهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره» . ثم نزل.
واستعمل على شرطته عبد الله بن حصن.. وأجّل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر، وكان يؤخر العشاء الآخرة، ثم يصلّى ويأمر رجلا فيقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتّل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أنّ إنسانا يبلغ أقصى البصرة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج فلا يرى إنسانا إلا قتله.
فخرج ذات ليلة، فأخذ أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: «لا والله قدمت بحلوبة لى، وغشينى الليل، فاضطررتها إلى موضغ، وأقمت لأصبح، ولا علم لى بما كان من الأمير» . قال:
أظنك والله صادقا ولكن فى قتلك صلاح الأمة. ثم أمر به فضربت عنقه.
وكان زياد أول من شدّد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وجرّد السيف، وأخذ على الظّنة، وعاقب بالشّبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتّى أمن بعضهم بعضا، وحتى كان الشىء يسقط من الرجل(20/315)
أو المرأة فلا يعرض له أحد حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه، ولا يغلق أحد بابه، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق، وجعل الشّرط أربعة الآف.
وقيل له، إن السبيل مخوفة فقال: «لا أعانى شيئا وراء المصر حتّى أصلح المصر، فإن غلبنى فغيره أشدّ غلبة منه» . فلما ضبط المصر وأصلحه تكلّف ما وراء ذلك وأحكمه، وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد، واتخذ الحرس خمسمائة لا يفارقون المسجد. والله أعلم.
ذكر عمال زياد بن أبيه
قال: ولمّا ولى زياد استعان بعدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم، منهم عمران بن حصين الخزاعى ولّاه قضاء البصرة، وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب.
فأمّا عمران فاستعفاه من القضاء فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثى، ثم أخاه عاصم، ثم زرارة بن أوفى.
وجعل خراسان أرباعا، فاستعمل على مرو أمير بن أحمر اليشكرى وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفى، وعلى مرو الرّود والفارياب والطّالقان قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطائى، ثم عزله واستعمل الحكم بن عمرو الغفارى، وكانت له صحبته، وكان زياد قد قال لحاجبه: ادع لى الحكم (يريد الحكم بن أبى العاص الثقفى) ليوليه خراسان، فجاء بالحكم الغفارى، فقال له زياد: ما أردتك ولكن الله أرادك، فولّاه خراسان وجعل معه رجالا على جباية الخراج، منهم أسلم بن زرعة الكلابى وغيره، وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم مات، واستخلف أنس بن(20/316)
أبى أناس بن زنيم فعزله زياد، وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفى بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثى رضى الله تعالى عنه [إلى خراسان] [1] فى خمسين ألفا من البصرة والكوفة.
[وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم، وكان على المدينة] [2]
سنة ست وأربعين ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
وفى هذه السنة مات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان قد عظم أمره عند أهل الشام ومالوا إليه لغنائه بالروم ولآثار أبيه، فخافه معاوية، فأمر ابن أثال النصرانى أن يحتال فى قتله، [ضمن له أن] [3] ويضع عنه خراجه ما عاش، ويولّيه خراج حمص فلمّا قدم عبد الرحمن من الروم دسّ إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها، فمات بحمص، فوفّى له معاوية.
ثمّ قدم خالد بن عبد الرحمن المدينة، فجلس يوما إلى عروة بن الزّبير فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؛ فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال، فحمل إلى معاوية فحبسه أياما وغرمه ديته، ورجع إلى المدينة فأتى عروة فقال له ما فعل ابن أثال؟ فقال: قد كفيتكه ولكن ما فعل ابن جرموز؟ (يعنى قاتل الزبير) فسكت عروة.
وقد روى [4] فى خبر عبد الرحمن بن خالد أن معاوية لمّا أراد البيعة
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 170.
[2] ثبتت هذه الجملة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[3] الزيادة من الكامل ج 3 ص 225.
[4] انظر الاستيعاب ج 2 ص 408- 409.(20/317)
ليزيد خطب أهل الشام وقال: «يا أهل الشام، إنى قد كبر سنّى وقرب أجلى، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم، وإنما أنا رجل منكم، فارتؤا رأيكم» . فأصفقوا [1] واجتمعوا. وقالوا: رضينا عبد الرحمن ابن خالد. فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها فى نفسه، ثم مرض عبد الرحمن فأمر معاوية طبيبا عنده مكينا أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات. ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا، هو وغلام له، فرصدا ذلك اليهودى، فخرج ليلا من عند معاوية، ومعه قوم، فهجم عليه المهاجر فهربوا عنه فقتله المهاجر.
وقد قيل [1] إن الذى قتل ابن أثال أو اليهودىّ خالد بن المهاجر بن خالد، وأن عروة بن الزبير، كان يعيّره بترك الطلب بثأر عمه، فخرج خالد ونافع مولاه من المدينة حتّى أتيا دمشق، فرصد الطبيب ليلا عند مسجد دمشق، وكان يسمر عند معاوية، فلما انتهى إليهما ومعه قوم من حشم معاوية، حملا عليهم، فانفرجوا، وضرب خالد بن المهاجر اليهودىّ فقتله، ثم انصرف إلى المدينة، وقال لعروة بن الزبير:
قضى لابن سيف الله بالحقّ سيفه ... وعرّى من حمل الذّحول [2] رواحله
سل ابن أثال هل ثأرت ابن خالد؟ ... فهذا ابن جرموز فهل أنت قاتله؟
__________
[1] انظر الاستيعاب ج 3 ص 436- 437.
[2] الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر، يقول تعرت رواحله من الثأر إذا أخذت به.... هذا وفى الاستيعاب بيت بين البيتين وهو:
فإن كان حقا فهو حق أصابه ... وإن كان ظنا فهو بالظن فاعله.(20/318)
وحج بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان.
سنة سبع وأربعين
فى هذه السنة عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر، واستعمل عليها معاوية ابن حديج وكان عثمانيا، فمرّ به عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما فقال: «يا معاوية، قد أخذت جزاءك من معاوية، قد قتلت أخى محمدا لتلى مصر، فقد وليتها» . فقال:
ما قتلت محمدا إلا بما صنع بعثمان، فقال عبد الرحمن: فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان ما شاركت معاوية فيما صنع، حيث عمل عمرو بالأشعرى ما عمل، فوثبت أول الناس فبايعته.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عتبة بن أبى سفيان، وقيل: عنبسة ابن أبى سفيان.
سنة ثمان وأربعين
فى هذه السنة استعمل زياد غالب بن فضالة الليثى على خراسان وكانت له صحبة.
وحجّ بالناس مروان بن الحكم وهو يتوقّع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له.(20/319)
سنة تسع وأربعين
فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، فى شهر ربيع الأول، وأمّر سعيد بن العاص [1] ، فكانت ولاية مروان المدينة ثمانى سنين وشهرين، وكان على قضاء المدينة عبد الله [2] بن الحارث بن نوفل، فعزله سعيد حين ولّى، واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن.
ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه
قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه، فقيل: [فى سنة تسع وأربعين، وقيل: بل مات] [3] فى شهر ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: مات فى سنة إحدى وخمسين، ودفن فى بقيع الغرقد [4] ، وصلى عليه سعيد بن العاص أمير المدينة، قدّمه الحسين للصلاة عليه، وقال له لولا أنها سنّة ما قدمتك.
قال أبو عمر بن عبد البر [5] : وقد كانت عائشة رضى الله عنها أباحت له أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتها،
__________
[1] هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، الأموى القرشى، أبو عثمان، لزم بيته بعد مقتل عثمان بن عفان، واعتزل أيام الجمل وصفين، فلم يشهد شيئا من تلك الحروب، إلى أن انتهى الأمر إلى معاوية فعاتبه على اعتزاله، ثم ولاه المدينة، فكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولايتها.
[2] سبق ذكره.
[3] الزيادة من النسخة (ن) والاستيعاب ج 1 ص 374، وسقطت من النسخة (ك) .
[4] بقيع الغرقد،: مقبرة المدينة المنورة، وكان هذا الموضع قديما منبت الشجر المسمى بالغرقد.
[5] فى الاستيعاب ج 1 ص 374.(20/320)
وكان قد سألها ذلك فى مرضه، فلمّا مات منع من ذلك مروان بن الحكم وبنو أميّة.
وروى [1] أبو عمر: أن الحسن لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: «يا أخى إن أباك رحمه الله لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استشرف لهذا الأمر رجاء أن يكون صاحبه، فصرفه الله عنه، وولّاها أبا بكر، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوّف لها أيضا، فصرفت عنه إلى عمر، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشكّ أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما هلك عثمان بويع له، ثم نوزع حتّى جرّد السيف، وطلبها، النبوّة والخلافة [2] ، فلا أعرفنّ ما استخفّك سفهاء أهل الكوفة:
فأخرجوك، وإنى قد كنت طلبت إلى عائشة إذا متّ أن تأذن لى فأدفن فى بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم، وإنى لا أدرى لعلها كان ذلك منها حياء [3] ، فإن طابت نفسها فادفنّى فى بيتها، وما أظن إلّا أن القوم سيمنعونك إذا أردت ذلك، فإن فعلوا فلا تراجعهم فى ذلك، وادفنّى فى بقيع الغرقد، فإن لى بمن فيه أسوة فلمّا مات الحسن رضى الله عنه أتى الحسين عائشة فطلب ذلك إليها
__________
[1] فى الاستيعاب ج 1 ص 376.
[2]
روى الشيرازى فى الألقاب عن أم سلمة رضى الله عنها، قالت: إن عليا وفاطمة والحسن والحسين دخلوا على النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه الخلافة. فقال: «ما كان الله ليجمع فيكم أمرين: النبوة والخلافة»
. ذكره فى البيان والتعريف.
[3] زاد صاحب الاستيعاب: «فإذا أنامت فاطلب ذلك إليها» .(20/321)
فقالت: نعم وكرامة. فبلغ ذلك مروان بن الحكم [1] فقال: «كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه فى المقبرة ويريدون دفن الحسن فى بيت عائشة.» . فبلغ ذلك الحسين فدخل هو ومن معه فى السلاح، واستلأم مروان فى الحديد أيضا، فبلغ ذلك أبا هريرة رضى الله عنه فقال: «والله ما هو إلّا ظلم، يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه! والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
ثم انطلق إلى الحسين فكلّمه وناشده الله وقال له: «أليس قد قال أخوك: إن خفت أن يكون قتال فردّنى إلى مقبرة المسلمين؟» . فلم يزل به حتى فعل، وحمله إلى البقيع، فلم يشهده يومئذ من بنى أمية إلّا سعيد بن العاص، فقدّمه الحسين للصلاة، وقال: هى للسنة [2] .
وشهدها خالد بن الوليد بن عقبة بعد أن ناشد بنى أمية أن يخلوه يشهد الجنازة فتركوه فشهد دفنه فى المقبرة، ودفن إلى جنب أمّه فاطمة رضى الله عنهما.
قال [3] : وقال أبو قتادة وأبو بكر بن حفص: سمّ الحسن ابن علىّ رضى الله عنهما، سمّته أمرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندى. قال: وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها [فى ذلك، وكان لها ضرائر] [4] وأنه وعدها بخمسين ألف
__________
[1] ذكر ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228 وغيره أنهم لما أرادوا دفنه فى بيت عائشة عند النبى صلى الله عليه وسلم لم يعرض لهم سعيد بن العاص، وهو الأمير على المدينة، فقام مروان بن الحكم وجمع بنى أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «السنة» .
[3] أبو عمر فى الاستيعاب ج 1 ص 325.
[4] الزيادة من الاستيعاب.(20/322)
درهم، وأن يزوّجها من يزيد، فلما فعلت وفّى لها بالمال، وقال:
حبّنا ليزيد يمنعنا من الوفاء لك بالشرط الثانى.
وروى قتادة قال: دخل الحسين على أخيه الحسن رضى الله عنهما فقال: «يا أخى إنى سقيت السمّ ثلاث مرات، ولم أسق مثل هذه المرة، إنى لأضع كبدى!» . فقال الحسين: من سقاك يا أخى؟ قال:
«ما سؤالك عن هذا؟ أتريد أن تقاتلهم؟ أكلهم إلى الله.» . [1]
فلمّا مات ورد البريد بموته على معاوية فقال: «يا عجبا من الحسن! شرب شربة من عسل بماء رومة [2] فقضى نحبه!» .
وأتى ابن عبّاس معاوية فقال له: يابن عباس احتسب الحسر لا يحزنك الله ولا يسوءك. قال: أما ما أبقاك الله يا أمير المؤمنين فلا يحزننى الله ولا يسوؤنى، فأعطاه على كلمته ألف ألف درهم وعروضا وأشياء. وقال: خذها فاقسمها على أهلك.
ومات الحسن رضى الله عنه وله من السن يومئذ سبع وأربعون سنة.
وقيل: ستّ وأربعون سنة.
وكان رضى الله عنه وأرضاه ورعا فاضلا، دعاه ورعه وفضله إلى ترك الخلافة رغبة فيما عند الله، وقال: والله ما أحببت منذ علمت ما ينفعنى ويضّرنى أن ألى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، على أن يراق فى ذلك محجمة دم.
وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.
__________
[1] وجاء فى رواية أخرى قول الحسن لأخيه الحسين: «فإن كان الذى أظن فالله أشد نقمة وإن كان غيره فما أحب أن يقتل بى برىء» .
[2] روقه: بئر بالمدينة.(20/323)
سنة خمسين
ذكر وفاة المغيرة بن شعبة
فى هذه السنة توفّى المغيرة بن شعبة بن أبى عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس وهو ثقيف.
وكان الطاعون قد وقع بالكوفة فهرب المغيرة منه، فلما ارتفع عاد إلى الكوفة، وطعن فمات [1] فى شعبان من السنة، وكان طوالا أعور، ذهبت عينه يوم اليرموك، وتوفّى وهو ابن سبعين سنة.
وكان المغيرة من الدّهاة، روى عن الشعبى قال: كان دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة [2] ، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة، وحكى الرياشى عن الأصمعى قال: كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم.
ولما دفن وقف على قبره مصقلة بن هبيرة الشيبانى وقال:
إنّ تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا معلاق [3]
حيّة فى الوجار [4] أربد [5] لا ين ... فع منه السّليم نفث الرّاقى
__________
[1] مات فى داره بالكوفة حيث كان أميرا عليها لمعاوية، وسيأتى ذكر ذلك.
[2] المبادهة: المفاجأة.
[3] الألد: الشديد الخصومة، والمعلاق الشديد التعلق بالخصم.
[4] الوجار بالفتح والكسر، الجحر.
[5] الأربد: الحية الخبيثة.(20/324)
ثم قال، أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوّة لمن آخيت.
وكان المغيرة كثير الزواج، قال أبو عمر [1] : قال نافع أحصن المغيرة ثلاثمائة امرأة فى الإسلام. قال [2] : وغيره [3] يقول: ألف امرأة ولمّا حضرته الوفاة استخلف على الكوفة ابنه عروة، وقيل: استخلف جريرا، فولّى معاوية زيادا.
ذكر ولاية زياد الكوفة
قال [4] : ولما مات المغيرة استعمل معاوية زيادا على الكوفة، وهو أوّل من جمع له بين الكوفة والبصرة، فسار إلى الكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، فكان زياد يقيم بالكوفة ستة أشهر، وبالبصرة ستة أشهر.
ولمّا وصل الكوفة خطبهم، فحصب وهو على المنبر، فجلس حتّى أمسكوا، ثم دعا قوما من خاصّته فأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثم قال:
ليأخذنّ كلّ رجل منكم جليسه، ولا يقولنّ لا أدرى من جليسى.
ثم أمر بكرسى فوضع [5] على باب المسجد، ثم دعاهم أربعة أربعة يحلفون: ما منّا من حصبك، فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف حبسه، حتى صاروا ثلاثين، وقيل: ثمانين، فقطع أيديهم، واتخذ زياد المقصورة حين حصب.
__________
[1] فى الاستيعاب ج 3 ص 389.
[2] أبو عمر يرويه فى الاستيعاب عن ابن وضاح.
[3] غير نافع.
[4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 228.
[5] عند ابن جرير ج 4 ص 175 «فوضع له» .(20/325)
قال: وأما سمرة فإنه أكثر القتل بالبصرة لمّا استخلفه زياد عليها، قال ابن سيرين: قتل سمرة فى غيبة زياد هذه ثمانية آلاف. فقال زياد:
أتخاف أن تكون قتلت بريئا؟ قال: لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت.
وقال أبو السّوار العدوى: قتل سمرة من قومى فى غداة واحدة سبعة وأربعين، كلهّم قد جمع القرآن.
وركب سمرة يوما، فلقيت أوائل خيله رجلا فقتلوه، فمرّ به سمرة وهو يتشحّط فى دمه، فقال: ما هذا؟ قيل: أصابه أوائل خيلك، فقال إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنّتنا.
ذكر ما قصده معاوية من نقل المنبر من المدينة إلى الشام ومن قصد ذلك بعده من الأمراء
فى هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهم قتلة عثمان. فطلب العصا، وهى عند سعد القرظ [1] وحرّك المنبر، فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فتركه.
وقيل: أتاه جابر وأبو هريرة فقالا: يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتنقل
__________
[1] سعد القرظ: صحابى كان يؤذن فى حياة الرسول وللخلفاء من بعده، وقد اشتكى إلى النبى صلى الله عليه وسلم قلة المال فى يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق، فاشترى شيئا من قرظ، فباعه، فربح فيه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فأمره بلزوم ذلك، فقيل له «سعد القرظ» ، والقرظ- بفتح القاف والراء- يطلق على ورق السلم وتمر السنط.(20/326)
عصاه إلى الشام فانقل المسجد، فتركه وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع.
فلما ولى عبد الملك بن مروان همّ بالمنبر، فقال قبيصة بن ذؤيب أذكرك الله أن [1] لا تفعل، إن معاوية حركه فكسفت الشمس،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على منبرى آثما فليتبوأ مقعده من النار»
وهو مقطع الحقوق بينهم [2] بالمدينة. فتركه عبد الملك.
فلما ولى الوليد ابنه وحج همّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيّب إلى عمر بن عبد العزيز فقال: كلّم صاحبك لا يتعرّض للمسجد ولا لله والسخط له، فكلّمه عمر فتركه.
فلما حجّ سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد، فقال سليمان: «ما كنت أحبّ أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟ أخذنا الدنيا فهى فى أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الاسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح!» .
وفيها عزل معاوية معاوية بن حديج عن مصر، واستعمل عليها مسلمة بن مخلّد مع إفريقية [3] وكان على إفريقية عقبة بن نافع، وكان قد اختطّ قيروانها، وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيّات فدعا الله عليها، فلم يبق منها شىء إلا خرج هاربا، حتّى إن كانت السباع لتحمل أولادها، وبنى الجامع، فلما عزله معاوية عن إفريقية
__________
[1] فى الكامل ج 3 ص 230 «أن تفعل» .
[2] فى الكامل «وعندهم» ، وقد تبع المؤلف الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 178.
[3] قال الطبرى: «فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس» .(20/327)
وأضافها إلى مسلمة بن مخلّد استعمل [1] على إفريقية مولى له يقال له: «أبو المهاجر» ، فلم يزل عليها حتّى هلك معاوية.
وقيل: إن عقبة بن نافع ولى إفريقية فى هذه السنة وعمّر مدينة القيروان، وكانت غيضة على ما تقدم، فدعا الله تعالى، وكان مستجاب الدعوة، ثم نادى: «أيّتها الحيّات والسّباع، إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنّا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه» .
فنظر الناس إلى الدوابّ تحمل أولادها وتنتقل، فأسلم كثير من البربر، وقطع الأشجار [وأمر ببناء المدينة، فبنيت] [2] وبنى المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم، وكان دور القيروان ثلاثة آلاف باع وستمائة باع. وسنذكر إن شاء الله تعالى ذلك بما هو أبسط من هذا فى أخبار إفريقة وبلاد الغرب.
ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى
وفى هذه السنة توفى الحكم بن عمرو الغفارى بمرو، على أحد الأقوال، وله صحبة، وكان زياد قد كتب [3] إليه: «إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أصطفى له الصّفراء والبيضاء، فلا تقسم بين الناس ذهبا ولا فضة» . فكتب إليه الحكم: «بلغنى ما أمر به أمير المؤمنين، وإنى وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل له
__________
[1] عبارة الطبرى وابن الأثير: «ولى مسلمة بن مخلد مولى له يقال له أبو المهاجر افريقيه» .
[2] الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 230 حيث نقل المؤلف.
[3] كتب إليه بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل.(20/328)
فرجا ومخرجا، والسلام عليك» . ثم قال للناس: اغدوا على أعطياتكم وما لكم، فقسمه بينهم [1] ، ثم قال: اللهم إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك. فمات، واستخلف لمّا حضرته الوفاة أنس بن أبى أناس.
وحج بالناس فى هذه السنة معاوية، وقيل: بل حج ابنه يزيد.
وفيها توفى عثمان بن أبى العاص الثقفى، وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، وأبو موسى الأشعرى، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وتوفى غيرهم من الصحابة [2] رضى الله عنهم.
سنة احدى وخمسين
فى هذه السنة استعمل زياد بن أبيه الربيع بن زياد الحارثى على خراسان بعد وفاة الحكم، وكان الحكم قد استخلف أنس بن أبى أناس كما ذكرنا فعزله زياد، وولى خليد بن عبد الله الحنفى، ثم عزله، وولى الربيع فى أول سنة إحدى وخمسين، وسير معه خمسين ألفا بعيالهم من أهل الكوفة والبصرة، منهم بريدة بن الحصيب وأبو برزة، ولهما صحبة، فسكنوا خراسان، فلمّا قدمها غزا بلخ ففتحها صلحا، وكانت قد أغلقت بعد ما صالحهم الأحنف، وفتح قهستان عنوة وقتل من بناحيتها من الأتراك، وبقى منهم نيزك طرخان فقتله قتيبة بن مسلم فى لايته.
والله ولى التوفيق.
__________
[1] أى: قسم بينهم ما غنموه من الغنائم مع عزله مقدار الخمس.
[2] ممن توفى فى هذه السنة سعد بن أبى وقاص- على أحد الأقوال- وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعقيل بن أبى طالب ودحية بن خليفة الكلبى وزيد بن خالد الجهنى ومدلاج ابن عمرو السلمى.(20/329)
ذكر مقتل حجر بن عدى وعمرو بن الحمق وأصحابهما
وفى هذه السنة كان مقتل حجر بن عدى وأصحابه، وسبب ذلك أن معاوية لما استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة، أمر بشتم علىّ رضى الله عنه وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له وعيب أصحاب على، فأقام المغيرة على الكوفة وهو أحسن الناس سيرة، غير أنه لا يدع شتم علىّ والوقوع فيه، والدعاء لعثمان والاستغفار له، فلما سمع ذلك حجر بن عدىّ قال: بل إياكم قد ذمّ الله ولعن! ثم قام فقال: أنا أشهد أن من تذمّون أحقّ بالفضل، ومن تزكّون أولى بالذم! فيقول له المغيرة يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكفّ عنه.
فلما كان فى آخر إمارته قال فى علىّ وعثمان ما كان يقول، فقام حجر فصاح بالمغيرة صيحة سمعها كلّ من فى المسجد، وقال له:
«مر لنا أيّها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا، وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين» . فقام أكثر من ثلثى الناس يقولون: صدق حجر وبرّ، مر لنا بأرزاقنا! فنزل المغيرة ودخل القصر، فجاءه أصحابه وقالوا: علام تترك هذا الرجل يجترئ عليك فى سلطانك؟ فقال لهم: «قد قتلته، سيأتى بعدى أمير يحسبه مثلى، فيصنع به ما ترونه، فيقتله، إنى قد قرب أجلى، ولا أحبّ أن أقتل خيار أهل هذه المصر فيسعد وأشقى، ويعز فى الدنيا معاوية ويشقى فى الآخرة المغيرة! [1] » ثمّ توفّى المغيرة [2] .
__________
[1] جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 189 زيادة قول المغيرة: «ولكنى قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم: وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم حتى يفرق بينى وبينهم الموت.
[2] ذكر ابن جرير أن المغيرة ولى الكوفة سنة 41 وتوفى سنة 51.(20/330)
وولّى زياد، فقام فى الناس فخطبهم عند قدومه فترحّم على عثمان وأثنى على أصحابه، ولعن قاتليه، فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة.
ورجع زياد إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث فبلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علىّ رضى الله عنه، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن حريث. فشخص إلى الكوفة، وصعد [1] المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وحجر جالس، ثم قال: «أمّا بعد، فإنّ غبّ البغى والغىّ وخيم، إن هؤلاء جمّوا فأشروا [2] ، وأمنونى فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشىء إن لم أمنع الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل امّك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان [3] !» وأرسل إلى حجر يدعوه وهو فى ناحية المسجد، فأتاه الرسول يدعوه إليه، فقال أصحابه، لا يأتيه ولا كرامة! فرجع الرسول فأخبر زيادا، فأمر صاحب شرطته- وهو شدّاد بن الهيثم الهلالىّ- أن يبعث إليه جماعة، ففعل، فسبّهم أصحاب حجر فرجعوا فأخبروا زيادا.
__________
[1] وقد لبس قباء سندس ومطرف خز أخضر، وفرق شعره.
[2] جموا: استراحوا. وأشروا: بطروا وطغوا.
[3] «سقط العشاء بك على سرحان» مثل عربى يضرب فى طلب الحاجة الذى يؤدى صاحبها إلى التلف، قيل: إن أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء فوقع على ذئب فأكله، و «السرحان» يأتى بمعنى الذئب، وقيل: «سرحان» اسم رجل فاتك يتقيه الناس فقال رجل: والله لأرعين إبلى هذا الوادى ولا أخاف سرحان، فهجم عليه سرحان وقتله وأخذ إبله.(20/331)
فجمع أهل الكوفة وقال: «تشجّون بيد وتأسون بأخرى [1] ، أبدانكم معى وقلوبكم مع حجر الأحمق، هذا والله من دحسكم [2] ، والله لتظهرنّ لى براءتكم، أو لآتينكّم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم [3] » .
فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا رأى إلّا طاعتك وما فيه رضاك. قال:
فليقم كلّ رجل منكم فليدع من عند حجر من عشيرته وأهله.
ففعلوا ذلك، وأقاموا أكثر أصحابه عنه.
وقال [4] زياد لصاحب شرطته: انطلق إلى حجر فإن تبعك فأتنى به، وإلّا فشدّوا عليهم بالسيوف [5] حتى تأتونى به. فأتاه صاحب الشرطة يدعوه، فمنعه أصحابه من إجابتهم، فحمل عليهم، فقال أبو العمّرطة الكندى لحجر: «إنه ليس معك من معه سيف غيرى، وما يغنى عنك سيفى؟ قم فالحق بأهلك يمنعك قومك» . وزياد ينظر إليهم وهو على المنبر، فغشيهم أصحاب زياد، وضرب رجل رأس عمرو ابن الحمق بعمود فوقع، وحمله أصحابه إلى الأزد فاختفى عندهم حتى خرج، وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة، وضرب بعض الشّرط يد عائد [6] بن حملة التميمى وكسر نابه، فأخذ عمودا
__________
[1] مثل عربى، قال الزمخشرى فى أساس البلاغة: «فلان يشج مرة ويأسو أخرى، إذا أخطأ وأصاب» ، وقال الميدانى فى مجمع الأمثال: «يشج ويأسو: يضرب لمن يصيب فى التدبير مرة ويخطىء مرة، قال الشاعر:
إنى لأكثر مما سمتنى عجبا ... يد تشج وأخرى منك تأسونى
[2] الدحس: الإفساد والدس.
[3] الأود: الاعوجاج، والصعر: الميل بالخد تهاونا واستكبارا.
[4] فى تاريخ ابن جرير: «لما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه قال ... » .
[5] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ج 3 ص 334، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 191 «وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق ثم يشدوا بها عليهم» ، وهذا هو المناسب لما يأتى.
[6] فى الأصل «عامر» ، والتصويب من الكامل وغيره.(20/332)
من بعض الشّرط فقاتل به، وحمى حجرا وأصحابه حتى خرجوا من أبواب كندة، وأتى حجر ببغلته فقال له أبو العمرّطة: اركب فقد قتلتنا ونفسك. وحمله حتى أركبه، وركب أبو العمرطة فرسه، ولحقه يزيد بن ظريف المسلىّ فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه، وأخذ أبو العمرطة سيفه فضرب به رأسه فسقط. فكان ذلك السيف أول سيف ضرب به فى الكوفة فى اختلاف بين الناس.
ومضى حجر وأبو العمرّطة إلى دار حجر، واجتمع إليهما ناس كثير، ولم يأته من كندة كثير أحد، ثم اختفى حجر، وتنقّل من مكان إلى آخر، والطلب خلفه، حتى أتى الأزد، واختفى عند ربيعة بن ناجد.
فلما أعياهم طلبه دعا زياد محمد بن الأشعث، وقال له: والله لتأتينّى به أو لأقطعنّ كل نخلة لك، وأهدم دورك، ثم أقطعك إربا إربا، فاستمهله، فأمهله ثلاثا، وأقام حجر ببيت ربيعة يوما وليلة، فأرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له: ليأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية، فجمع محمد جماعة، منهم جرير ابن عبد الله، وحجر بن زيد، وعبد الله بن الحارث أخو الأشتر، فدخلوا على زياد فاستأمنوا له أن يرسله إلى معاوية فأجابهم، فأرسلوا إلى حجر فحضر عند زياد، فلما رآه قال: «مرحبا أبا عبد الرحمن، حرب أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس! على أهلها تجنى براقش [1] » . فقال حجر: «ما خلعت طاعة، ولا فارقت جماعة،
__________
[1] براقش: كلبة سمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت، فدلت العدو على أصحابها بنباحها، فاستباحهم العدو وأوقع بهم، فضرب مثلا لكل من يعمل عملا يرجع ضرره إليه.(20/333)
وإنى على بيعتى» . فأمر به إلى السجن، فلما ولى قال زياد: والله لأحرّضنّ على قطع خيط رقبته.. وطلب أصحابه.
فخرج عمرو بن الحمق حتّى أتى الموصل ومعه رفاعة بن شدّاد، فاختيفا بجبل هناك، فرفع خبرهما إلى عامل الموصل، وهو عبد الرحمن ابن [عبد الله] [1] عثمان الثقفى، ويعرف بابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية [2] ؛ فسار إليهما فخرجا إليه، وكان عمرو قد استسقى بطنه، فأمسك، وركب رفاعة فرسه وحمل على القوم، فأفرجوا له، فنجا، وكتب عامل الموصل إلى معاوية بخبر عمرو بن الحمق، فكتب إليه معاوية: «إنه يزعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص [3] معه، فاطعنه كما طعن عثمان» . فطعنه فمات فى الأولى منها أو الثانية.
وجدّ زيّاد فى طلب أصحاب حجر، فهربوا منه، وأخذ من قدر عليه منهم، فاجتمع له اثنا عشر رجلا فى السجن.
ثم دعا رؤساء الأرباع يومئذ، وهم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبى موسى على ربع مذحج وأسد، فشهد هؤلاء أن حجر بن عدى جمع الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حربه، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا فى آل أبى طالب،
__________
[1] الزيادة من تاريخ ابن جرير ج 4 ص 197 وانظر ترجمة عبد الرحمن فى الإصابة ج 3 ص 70 وترجمة أبيه عبد الله فى الإصابة ج 2 ص 344، والذى ذكره ابن جرير أن الذى سار إلى ابن الحمق ورفاعة هو عبد الله بن أبى بلتعة وبعد أن قبض على عمرو بن الحمق بعث به إلى عبد الرحمن الثقفى عامل البصرة.
[2] لأن «أم الحكم» بنت أبى سفيان.
[3] المشاقص: جمع مشقص، بكسر الميم: السهم العريض، أو النصل العريض أو الطويل من كل منهما.(20/334)
وأنه وثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبى تراب [1] والترحّم عليه والبراءة من عدوه وأهل حزبه، وشهدوا أن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه على مثل رأيه وأمره.
ونظر زياد فى شهادة الشهود فقال: إنى أحب أن يكونوا أكثر من أربعة، فدعا الناس ليشهدوا فشهد إسحاق وموسى ابنا طلحة ابن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبى معيط، وعمر بن سعد بن أبى وقّاص وغيرهم [2] .
وكتب فى الشهود شريح بن الحارث القاضى وشريح بن هانىء، فكان شريح بن هانىء يقول: ما شهدت [3] .
ثم دفع زياد حجر بن عدى الكندى وأصحابه (وهم الأرقم بن عبد الله الكندى، وشريك بن شدّاد الحضرمى، وصيفى بن فسيل الشيبانى، وقبيصة بن ضبيعة العبسى، وكريم بن عفيف الخثعمى وعاصم بن عوف البجلى، وورقاء بن سمى البجلى، وكدام بن حيّان، وعبد الرحمن بن حسان؛ العنزيان التميميان، ومحرز بن شهاب التميمى، وعبد الله بن حويّة السعدى التميمى) إلى وائل ابن حجر الحضرمى وكثير بن شهاب، وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام، فلحقهم شريح بن هانئ بعد مسيرهم، وأعطى وائلا كتابا وقال: أبلغه أمير المؤمنين.
__________
[1] أبو تراب: كنية على بن أبى طالب كرم الله وجهه.
[2] انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 200.
[3] وكان شريح القاضى يقول: سألنى عنه فأخبرت أنه كان صواما قواما!(20/335)
فساروا حتّى انتهوا إلى مرج عذراء [1] بالقرب من دمشق، وأتبعهم زياد برجلين وهما عتبة بن الأخنس من سعد بن بكر، وسعد بن نمران الهمدانى، فكملوا أربعة عشر رجلا، فلما انتهوا إلى مرج عذراء بعث معاوية إلى وائل بن حجر، وكثير بن شهاب فأدخلهما، وأخذ كتابهما فقرأه، ثم قرأ كتاب شريح فإذا فيه: «بلغنى أن زيادا كتب شهادتى، وإن شهادتى على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه» .
فقال معاوية: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم.
فقام يزيد بن أسد البجلى فاستوهبه ابنى عمه وهما عاصم وورقاء، وكان جرير بن عبد الله البجلى قد كتب بتزكيتهما وبراءتهما [2] فأطلقهما معاوية، وشفع وائل بن حجر فى الأرقم فتركه له، وشفع ابن الأعور السّلمى فى عتبة فتركه له، وشفع حمرة [3] بن مالك الهمدانى فى سعد بن تمران فوهبه له، وشفع حبيب بن مسلمة فى عبد الله بن حوية فتركه له، وقام مالك بن هبيرة السّكونى، فقال:
دع لى ابن عمى حجرا، فقال: «هو رأس القوم، وأخاف إن خلّيت
__________
[1] قال ابن جرير فى تاريخه ج 4 ص 402: «انتهوا بهم إلى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا» .
[2] كتب جرير بن عبد الله البجلى الصحابى: «إن امرأين من قومى من أهل الجماعة والرأى الحسن سعى بهما ساع ظنين إلى زياد، فبعث بهما فى النفر الكوفيين الذين وجه بهم زياد إلى أمير المؤمنين، وهما ممن لا يحدث حديثا فى الإسلام ولا بنيا على الخليفة، فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين» .
[3] «حمرة» بضم الحاء وبراء مهملة، ابن مالك بن ذى المشعار بن مالك بن منبه الهمدانى، ووقع فى المخطوطة «حمزة» .(20/336)
سبيله أن يفسد علىّ مصره، فأحتاج أن أشخصك إليه بالعراق!» فقال: «والله ما أنصفتنى يا معاوية! قاتلت معك ابن عمك يوم صفّين حتّى ظفرت وعلا كعبك، ولم تخف الدوائر، ثم سألتك ابن عمى فمنعتنى إياه» . ثم انصرف فجلس فى بيته.
فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعى، والحصين بن عبد الله الكلابى وأبا شريف البدّى إلى حجر وأصحابه؛ ليقتلوا من أمروا بقتله، فأتوهم عند المساء، فلما رأى الخثعمى [1] أحدهم أعور [2] قال: يقتل نصفنا ويترك نصفنا! فكان كذلك [3] ، وعرضوا عليهم قبل القتل البراءة من علىّ ولعنه ويتركوهم، فامتنعوا من ذلك، فحفرت القبور وأحضرت الأكفان.
فقام حجر بن عدىّ وأصحابه يصلّون عامّة الليل، فلما كان من الغد قدّموا للقتل، فقال لهم حجر: اتركونى حتى أتوضأ وأصلى فإنى ما توضأت إلّا صلّيت. فتركوه، فصلّى ثم انصرف، وقال:
والله ما صلّيت صلاة قطّ أخفّ منها، ولولا أن تظنوا بى جزعا من الموت لاستكثرت منها. ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتمونى بها إنّى لأول فارس من المسلمين هلك فى واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها» . ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف، فارتعد، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت فابرأ
__________
[1] الخشعمى: كريم بن عفيف.
[2] الأعور: هدبة بن فياض القضاعى من بنى سلامان بن سعد.
[3] جاء رسول معاوية بتخلية ستة وبقتل ثمانية.(20/337)
من صاحبك وندعك. فقال: «ومالى لا أجزع وأرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا. وإنى والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب» . فقتلوه وقتلوا خمسة [1] .
فقال عبد الرحمن بن حسان- وكريم الخثعمى: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول فى هذا الرجل مثل مقالته. فاستأذنوا معاوية فيهما، فأذن بإحضارهما، فلما دخلوا عليه قال كريم: «الله الله يا معاوية! فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسئول عما أردت بسفك دمائنا. فقال: ما تقول فى علىّ؟ قال: أقول فيه قولك. قال: أتبرأ من دينه الذى يدين الله به؟ فسكت، وقام شمر ابن عبد الله من بنى قحافه بن خثعم، فاستوهبه إيّاه، فوهبه له على ألّا يدخل الكوفة.
ثم قال لعبد الرحمن: ما تقول فى علىّ يا أخا ربيعة؟ قال: دعنى لا تسألنى فهو خير لك. قال: والله لا أدعك. قال: «أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا، من الآمرين بالحق والقائمين بالقسط والعافين عن الناس رضى الله عنه» . قال: فما تقول فى عثمان؟
قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وغلّق أبواب الحق. قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادى. (يعنى ليشفعوا فيه) فردّه إلى زياد وأمره أن يقتله شرّ قتلة، فدفنه حيا.
وكان عدة من قتل سبعة وهم: حجر بن عدى، وشريك بن
__________
[1] الخمسة الذين قتلوا مع حجر بن عدى هم: شريك وصيق وقبيصة وكدام ومحرز، فإذا عد حجر بن عدى منهم كأنه عدهم ستة كما عدهم ابن جرير الطبرى، وسيأتى قريبا ذكر السابع.(20/338)
شدّاد، وصيفى بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسّان الذى دفن حيا.
قال: وأما مالك بن هبيرة السّكونى حين لم يشفّعه معاوية فى حجر، فإنه جمع قومه وسار بهم إلى عذراء ليخلّص حجرا وأصحابه، فلقيه قتلتهم، فلما رأوه علموا أنه جاء ليخلّص حجرا، فقال لهم: ما وراءكم؟
قالوا: قد تاب القوم وجئنا لنخبر أمير المؤمنين. فسكت وسار إلى عذراء فلقيه بعض من جاء منها فأخبره بقتل القوم، فأرسل الخيل فى قتلتهم فلم يدركوهم. ودخلوا على معاوية فأخبروه، فقال لهم: إنما هى حرارة يجدها فى نفسه، فكأنها قد طفئت. وعاد مالك.
إلى بيته ولم يأت معاوية، فلما كان الليل أرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم، وقال: «ما منعنى أن أشفّعك إلّا خوف أن تعيدوا لنا حربا، فيكون فى ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر» .
فأخذها وطابت نفسه.
قال [1] : ولما بلغ الحسن البصرىّ قتل حجر وأصحابه قال: أصلوا عليهم وكفنوهم ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال:
حجوهم [2] وربّ الكعبة!» .
قال: ولمّا بلغ خبر حجر عائشة رضى الله عنها، أرسلت عبد الرحمن ابن الحارث إلى معاوية فيه وفى أصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبى سفيان؟ قال: «حين غاب عنّى مثلك من حلماء قومى، وحمّلنى ابن سميّة فاحتملت!» .
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 242.
[2] حجوهم: غلبوهم بالحجة.(20/339)
وقالت عائشة: «لولا أنّا لم نغيّر شيئا إلا صارت بنا الأمور إلى ما هو أشدّ منه لغيّرنا قتل حجر! أما والله إن كان ما علمت لمسلما حجّاجا معتمرا!» .
وقال الحسن البصرى رحمه الله: «أربع خصال كنّ فى معاوية، لو لم تكن فيه إلّا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه [1] على هذه الأمّة بالسيف، حتى أخذ الأمر عن غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيرا خمّيرا يلبس الحرير ويضرب بالطّنابير، وادّعاؤه زيادا،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر
. وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر!» .
قيل: وكان الناس يقولون: أول ذلّ دخل الكوفة موت الحسن ابن على، وقتل حجر بن عدىّ، ودعوة زياد.
وقالت هند [2] بنت زيد الأنصارية ترثى حجرا وكانت تتشيع.
ترفّع أيّها القمر المنير ... تبصّر هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجبّرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق [3] والسّدير
وأصبحت البلاد له محولا [4] ... كأن لم يحيها مزن مطير
__________
[1] انتزاء: افتعال من النزو، وهو تسرع الإنسان إلى الشر ووثبه.
[2] فى الأصل «زينبة» والتصويب من الكامل وغيره.
[3] الخورنق: نهر بالكوفة، والسدير: نهر بناحية الحيرة، والمشهور أنها قصران عظيمان بالحيرة.
[4] المحول جمع محل بمعنى القحط.(20/340)
ألا يا حجر حجر بنى عدىّ ... تلقّتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى [1] عديّا ... وشيخا فى دمشق له زئير
فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
وقد قيل فى قتل حجر غير ما تقدم، وهو أن زيادا خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة، فقال له حجر بن عدى: الصلاة.
فمضى فى خطبته فقال له: الصلاة. فمضى فى خطبته، فلما خشى حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كفّ من حصى، وقال إلى الصلاة وقام الناس معه، فلما رأى زياد ذلك نزل فصلّى بالناس، وكتب إلى معاوية وكبر [2] عليه، فكتب إليه معاوية ليشدّه فى الحديد ويرسله إليه، فلمّا أراد أخذه قام قومه ليمنعوه، فقال حجر: لا ولكن سمعا وطاعة. فشدّ فى الحديد، وحمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: «أأمير المؤمنين أنا؟ والله لأقتلنّك [3] ولا أستقيلك! أخرجوه فاضربوا عنقه!» .
فقال حجر للذين يلون أمره: دعونى حتى أصلى ركعتين. فقالوا:
فصلّى ركعتين خفّف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بى غير الذى أردت لأطلتهما، وقال لمن حضره من قومه: لا تطلقوا عنى حديدا ولا تغسلوا عنى دما، فإنى ملاق معاوية غدا على الجادّة [4] !» . وضربت عنقه..
__________
[1] أردى: أهلك.
[2] «كبر» كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند الطبرى وابن الأثير «كثر» .
[3] فى الكامل وتاريخ الطبرى: لا أقيلك.
[4] الجادة: معظم الطريق ووسطه، والمراد طريق الحساب بين يدى الله تعالى.(20/341)
قال [1] فلقيت عائشة معاوية فقالت: أين كان حلمك عن حجر؟
فقال: لم يحضرنى رشد! وقال ابن سيرين: بلغنا أنّ معاوية لما حضرته الوفاة جعل يقول: يومى منك يا حجر طويل!.
وحج بالناس فى هذه السنه يزيد بن معاوية
سنة اثنتين وخمسين
كان فيها من الغزاة وأمر الخوارج ما قدمنا ذكره.
وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.
سنة ثلاث وخمسين
فى هذه السنة توفى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما، على أحد الأقوال، وقيل بعد ذلك [2] .
ذكر وفاة زياد بن أبيه
كانت وفاته بالكوفة يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين، واختلف فى مولده، فقيل: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة وقيل ولد يوم بدر. وقال المدائنى: ولد عام التاريخ.
وكان يكنى «أبا المغيرة» حكاه أبو عمر [3] قال: وليست له صحبة ولا رواية، قال: وكان رجلا عاقلا فى دنياه، داهية، خطيبا، له قدر وجلالة عند أهل الدنيا.
__________
[1] محمد بن سيرين.
[2] انظر ما يأتى فى أواخر «ذكر مسير معاوية إلى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز» .
[3] فى الاستيعاب ج 1 ص 567.(20/342)
قال أبو جعفر الطبرى [1] رحمه الله: وكان زياد كتب إلى معاوية: «إنى قد ضبطت لك العراق بشمالى، ويمينى فارغة، فاشغلها بالحجاز» . ففعل. فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله ابن عمر بن الخطاب! فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه.
فاستقبل القبلة واستقبلوها، فدعوا ودعا، وكان من دعائه أن قال:
اللهم اكفنا يمين زياد! فخرجت طاعونة على إصبع يمينه، فمات منها فلما حضرته الوفاة دعا شريحا القاضى فقال: قد حدث بى ما ترى، وقد أمرت بقطعها فأشر على. فقال شريح: إنى أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم، وقد قطعت يدك كراهية لقائه، أو أن يكون فى الأجل تأخير، فتعيش أجذم ويعيّر ولدك» فقال: لا أبيت والطاعون فى سجاف [2] واحد [3] ، وخرج شريح من عنده فسأله الناس، فأخبرهم فلاموه، وقالوا: هلا أشرت بقطها؟ فقال: «المستشار مؤتمن [4] » . وقيل أراد زياد قطعها، فلمّا رأى النار والمكاوى جزع وتركها وقيل: تركها لما أشار عليه شريح.
ولمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: هلّا هيأت لك ستين ثوبا أكفنك بها، فقال: يا بنّى قد دنا من أبيك لباس خير من لباسه أو سلب سريع!
__________
[1] فى تاريخه ج 4 ص 214.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، والسجاف: السر، وجاء فى النسخة (ن) «فى لحاف» كما عند الطبرى ج 4 ص 215. وابن الأثير ج 3 ص 245.
[3] جاء فى رواية ابن جرير الطبرى: «فعزم أن يفعل، فلما نظر إلى النار والمكاوى جزع وترك ذلك» . وانظر ما سيأتى قريبا.
[4] «المستشار مؤتمن»
حديث رواه الترمذى وابن ماجه وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعبارة ابن جرير هنا: «فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن»
.(20/343)
فمات ودفن بالثّويّة إلى جانب الكوفة، وهو موضع فيه مقبرة الكوفة.
فلما بلغ موته ابن عمر قال: «اذهب ابن سميّة! لا الآخرة أدركت، ولا الدنيا أبقيت عليك!» .
قال: وكان زياد فيه حمرة، وفى عينه اليمنى انكسار، أبيض اللحية مخروطها، عليه قميص ربما رقّعه.
وفيها مات الربيع بن زياد الحارثى عامل خراسان قبل وفاة زياد، وكان سبب موته أنه سخط قتل حجر بن عدى، حتى إنه قال: «لا تزال العرب تقتل بعده صبرا [1] ! ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبرا، ولكنها أقرّت فذلّت!» ثم مكث بعد هذا الكلام جمعة، ثم خرج يوم الجمعة فقال: «أيها الناس، إنى قد مللت الحياة، وإنّى داع بدعوة فأمّنوا» . ثم رفع يديه بعد الصلاة فقال: اللهمّ إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك عاجلا! وأمّن الناس، ثم خرج، فما توارت ثيابه حتى سقط، وحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله، ومات من يومه، ثم مات ابنه بعده بشهرين، واستخلف خليد بن پربوع [2] الحنفى، فأقرّه زياد، ولما مات زياد كان على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، فأقرّ معاوية سمرة على البصرة ثمانية عشر شهرا، وقيل ستة أشهر ثم عزله، فقال سمرة: «لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعته ما عذبنى أبدا!» .
وحج بالناس فى هذه السنة سعيد بن العاص.
__________
[1] جاء فى المصباح المنير: «كل ذى روح يوثق حتى يقتل فقد قتل صبرا» .
[2] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 245، 246، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 217 «عبد الله» .(20/344)
سنة اربع وخمسين ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان
فى هذه السنة عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان بن الحكم.
وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلّها فيجعلها صافية [1] ويقبض منه [2] فدك، وكان وهبها له، فراجعه سعيد فى ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولّى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد وهدم داره فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم دارى؟ قال: نعم كتب إلىّ أمير المؤمنين ولو كتب إليك فى هدم دارى لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل: قال: بلى والله [3] قال: كلّا. وقال سعيد لغلامه: ائتنى بكتابى معاوية، فجاء بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل، ولم تعلمنى! فقال سعيد: ما كنت لأمنّ عليك وإنما أراد معاوية ليحرّض بيننا! فقال مروان: والله أنت خير منى! وعاد ولم يهدم داره.
وكتب سعيد إلى معاوية: «العجب لما صنع أمير المؤمنين بنا فى قرابتنا، إنه يضغن بعضنا على بعض، فأمير المؤمنين فى حلمه وصبره
__________
[1] الصافية: ما يعود لبيت المال من الأملاك والأراضى.
[2] فدك: بلدة قريبة من خيبر، مما أفاء الله على رسوله من اليهود بعد جلائهم.
[3] زاد ابن جرير فى قول مروان: «لو كتب إليك لهدمتها» .(20/345)
على ما يكره من الأخبثين وعفوه، وإدخاله القطيعة بيننا والشّحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فو الله لو لم نكن بنى أب واحد إلّا لما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم، وباجتماع كلمتنا لكان حقّا عليك أن ترعى ذلك!» فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصّل، وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده.
وقدم سعيد على معاوية فسأله عن مروان فأثنى عليه خيرا.
وفى هذه السنة عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان ستة أشهر.
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان ومسيره إلى جبال بخارى
وفى هذه السنة استعمل معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان وسبب ذلك أنه قدم عليه بعد وفاة أبيه، فسأله معاوية عن عمال أبيه، فأخبره بهم، فقال: لو استعملك أبوك لاستعملتك. فقال عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها لى أحد بعدك «لو استعملك أبوك وعمّك استعملتك» . فولاه خراسان وكان عمره خمسا وعشرين سنة.
فسار إليها، وقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان أوّل من قطع جبال بخارى فى جيش، ففتح رامنى ونسف وبيكند، وهى من بخارى، ومن ثمّ أصاب البخارية وغنم منهم غنائم كثيرة، ولما لقى الترك وهزمهم، كان مع ملكهم زوجته، فأعجلوها عن لبس(20/346)
خفيها، فلبست أحدهما وبقى الآخر، فأخذه المسلمون [فقوّم] [1] بمائتى ألف درهم. وظهر منه بأس شديد وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم [وكان على المدينة] [2] وكان على الكوفة عبد الله بن خالد، وقيل: الضحاك بن قيس وعلى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، والله أعلم.
سنة خمس وخمسين ذكر ولاية عبيد الله بن زياد على البصرة
فى هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة، وولّاها عبيد الله بن زياد.
وسبب ذلك أن عبد الله خطب على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّه، فقطع يده، فأتاه بنو ضبّة وقالوا: «إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعمّ، فاكتب لنا كتابا إلى أمير المؤمنين، يخرج به أحدنا إليه، تخبره أنك قطعته على شبهة وأمر لم يصح» فكتب لهم، فلما كان رأس السنة توجّه عبد الله إلى معاوية، ووافاه الصنبّيون بالكتاب، وادّعوا أنه قطع صاحبهم ظلما، فلما رأى معاوية الكتاب قال:
«أمّا القود من عمّالى فلا سبيل إليه، ولكنّى أدى صاحبكم من بيت المال» . وعزل عبد الله عن البصرة، واستعمل ابن زياد عليها، فولى ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة الكلابى.
__________
[1] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[2] الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .(20/347)
وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة، وولّاها الضحاك ابن قيس، وقيل: كان قبل ذلك كما تقدم.
وحج بالناس فى هذه السنة مروان بن الحكم وهو أمير المدينة.
سنة ست وخمسين ذكر البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد
فى هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية العهد، قال [1] :
وكان ابتداء ذلك وأوّله أن معاوية لمّا أراد أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، ويستعمل سعيد بن العاص عليها، فبلغه ذلك، فشخص إلى معاوية ليستعفيه حتّى تظهر للناس كراهيته للولاية، فجاء إلى يزيد وقال له: «إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش، وإنّما بقى أبناؤهم، وأنت من أفضلهم، وأحسنهم رأيا، وأعلمهم بالسياسة، وإنى لا أدرى ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة» . قال: أو ترى ذلك يتم؟ قال: نعم فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فلما حضر المغيرة عند معاوية قال له معاوية: ما يقول يزيد؟ فقال: «يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء، والاختلاف بعد عثمان، وفى يزيد منك خلف، فاعقد البيعة له، فإن حدث بك حدث كان كهفا للناس، ولا تسفك الدماء ولا تكون فتنة، قال: ومن لى بهذا؟ قال: «أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين من يخالفك» . قال:
«فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه فى ذلك وترى ونرى» .
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 249.(20/348)
فودّعه ورجع إلى أصحابه فقال: لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد [1] الغاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ورجع المغيرة، فلمّا قدم الكوفة ذاكر من يثق إليه من شيعة معاوية فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة، ويقال أكثر، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى، فقدموا على معاوية وزينوا له بيعة يزيد، ودعوه إلى عقدها، فقال: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثم قال لموسى، بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفا. فقال: لقد هان عليهم دينهم.
وقيل: أرسل أربعين رجلا، وجعل عليهم ابنه عروة بن المغيرة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصنا إليك النظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: «يا أمير المؤمنين، كبرت سنّك، وخفنا انتشار الحبل، فانصب لنا علما وحدّ لنا حدّا ننتهى إليه» . فقال أشيروا على. فقالوا: نشير بيزيد بن أمير المؤمنين، فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذاك رأيكم؟
قالوا: نعم ورأى من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّا عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال. بأربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصا، وقال لهم: «ننظر ما قدمتم له، ويقضى الله تعالى ما أراد، والأناة خير من العجلة» . فرجعوا وقد قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.
__________
[1] الغرز: ركاب كور الجمل، وهو مثل ركاب السرج للفرس.(20/349)
ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة
وما دار بين زياد وبين عبيد بن كعب النميرى من الرأى وما اتفقا عليه قال: ولمّا قوى عزم معاوية على البيعة ليزيد، كتب إلى زياد ابن أبيه يستشيره، وزياد إذ ذاك يلى البصرة، فلما ورد عليه كتاب معاوية أحضر عبيد بن كعب النميرى وقال له: «إن لكلّ مستشير ثقة، ولكل سرّ مستودع، وإن الناس قد أبدع [1] بهم خصلتان:
إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلّا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف فى نفسه وعقل يصون حسبه، وقد خبرتهما منك، وقد دعوتك إلى أمر أبهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب إلى يستشيرنى فى كذا وكذا، وإنه يتخوّف نفرة الناس ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من حبّ الصيد فالق أمير المؤمنين وأدّ إليه عنّى فعلات يزيد، وقل له رويدك [بالأمر] [2] وأحرى أن يتمّ لك، ولا تعجل فإن دركا فى تأخير خير من فوت فى عجلة» . فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال:
«لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغّض إليه ابنه، وألقى أنا يزيد [3] وأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك فى البيعة له، وأنك تتخوّف خلاف الناس، لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه؛ لتستحكم له الحجّة على الناس ويتمّ ما يريد، فتكون
__________
[1] أبدع بهم: قطع بهم وخذلهم.
[2] الزيادة من الطبرى فى ج 4 ص 225 وابن الأثير ج 3 ص 250.
[3] فى تاريخ الطبرى: «وألقى أنا يزيد سرا من معاوية» .(20/350)
قد نصحت أمير المؤمنين، وسلمت مما يخاف من أمر الناس» . فقال زياد: «لقد رميت الأمر بحجره! اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ، ونقول ما ترى ويقضى الله بغيب ما يعلم» .
فقدم عبيد على يزيد، فذكر ذلك له، فكفّ عن كثير مما كان يصنع.
وكتب زياد إلى معاوية يشير عليه بالتّؤدة وألّا يعجل. فتأخر الأمر حتّى مات زياد ثم عزم معاوية على البيعة.
ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم
وأمر البيعة وإنكار أهل المدينة ذلك وما وقع بسببه قال: ولما عزم معاوية على البيعة ليزيد أرسل إلى عبد الله بن عمر بمائة ألف درهم، فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر رضى الله عنه: «هذا أراد؟ إن دينى إذا عندى لرخيص!» وامتنع.
ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم، وهو على المدينة يومئذ، يقول: «إنى قد كبرت سنّى، ورقّ عظمى، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدى، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدى، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم، وأعلمنى بالذى يردّون عليك» .
فقام مروان فى الناس وأخبرهم، فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أحببنا أن يتخيّر لنا فلا يألو [1] . فكتب مروان إلى معاوية
__________
[1] يألو: يقصر.(20/351)
بذلك، فأعاد عليه الجواب بذكر يزيد، فقام مروان فى الناس فقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده.
فقام عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهما فقال:
«كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية، ما الخيّار أردتما لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم أردتم أن تجعلوها هرقليّة، كلما مات هرقل قام هرقل!» . فقال مروان: هذا الذى أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما
الآية [1] . فسمعت عائشة رضى الله عنها مقالته، فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان يوجهه، فقالت: «إن القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذب، والله ما هو فيه، ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضض من لعنة نبى الله عليه الصلاة والسلام» .
وقام الحسين بن على رضى الله عنهما فأنكر ذلك، وفعل مثله عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فأوجب ذلك مسيره إلى الحجاز بعد أن أخذ بيعة أهل العراق والشام!.
__________
[1] الآية 17 من سورة الأحقاف.
[2] فى النهاية: «ومنه حديث عائشة قالت لمروان: إن النبى لعن أباك، وأنت فضض من لعنة الله، أى: قطعة أو طائفة منها» . وروى ابن أبى خيثمة من حديث عائشة فى هذه القصة أنها قالت: «أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت فى صلبه» . وأبوه هو الحكم بن أبى العاص ابن أمية، وقد روى الرواة فى أسباب لعنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رآه يعمل من الأعمال ما لا يجوز، وقد نفاه إلى الطائف، وانظر ما يأتى قريبا.(20/352)
ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار فى شأن البيعة. وما تكلم به بعضهم وبيعة أهل العراق والشام ليزيد
قال: وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو [1] بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس فى وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راع مسئول عن رعيته فانظر من تولّى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذ معاوية يهتز [2] حتى جعل يتنفّس فى يوم شات [3] ، ثم وصله وصرفه.
وأمر معاوية الأحنف بن قيس أن يدخل على يزيد فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا.
ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهرى لما اجتمع الوفود عنده: إنى متكلم فإذا سكتّ فكن أنت الذى تدعو إلى بيعة يزيد وتحثنى عليها، فلما جلس معاوية للناس تكلمّ فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها، وما أمر الله تعالى به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة، وعرض ببيعته.
فعارضه الضحاك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير
__________
[1] كذا جاء فى الكامل وكتب الصحابة، وجاء فى المخطوطة «عمر» .
[2] كذا جاء فى الأصل، والذى فى الكامل «بهر» وهو بضم الباء ما يعترى الإنسان عند السعى الشديد والعدو من التهييج وتتابع النفس.
[3] فى العقد الفريد ج 4 ص 369: «فأخذ معاوية بهر حتى تنفس الصعداء وذلك فى يوم شات» .(20/353)
المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبيل، وخيرا فى العافية، والأيام عوج [1] رواجع، والله كل يوم فى شأن، ويزيد بن أمير المؤمنين فى حسن هديه وقصد سيرته [2] على ما علمت، وهو من أفضلنا علما وحلما، وأبعدنا رأيا، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، ومفزعا نلجأ إليه ونسكن إلى ظله» .. وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من [3] ذلك.
ثم قام يزيد بن المقنّع العذرىّ فقال: هذا أمير المؤمنين (وأشار إلى معاوية) فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) ومن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه) فقال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء.
وتكلم من حضر من الوفود، فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: «نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذّبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد فى ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى ولهذه الأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا، وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا» .. وقام رجل
__________
[1] كذا جاء فى الكامل ج 3 ص 251 ولم تنقط الكلمة فى المخطوطة. وجاء فى العقد الفريد «والأنفس يغدى عليها ويراح» .
[2] قصد سيرته: استقامة سيرته.
[3] قال: أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إذا صرتم إلى عدله وسعكم، أمير المؤمنين ولا خلف منه» . فقال معاوية: اجلس أبا أمية فقد أوسعت وأحسنت.(20/354)
من أهل الشام فقال: «ما ندرى ما تقول هذه المعدّيّة [1] العراقية، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف [2] .
فافترق الناس يحكون قول الأحنف [3] .
قال: وكان معاوية يعطى المقارب، ويدارى المباعد ويلطف به، حتى استوثق له أكثر الناس، وبايعوه، فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز.
ذكر مسير معاوية الى الحجاز وكيف أخذ البيعة ليزيد على أهل الحجاز
قال: وفى هذه السّنة اعتمر معاوية فى شهر رجب، وسار إلى الحجاز فى ألف فارس، فلما دنا من المدينة لقيه الحسن بن على رضى الله عنهما أول الناس، فلما نظر إليه معاوية قال: «لا مرحبا ولا أهلا! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه!» قال: مهلا فإنى لست بأهل لهذه المقالة. قال:
بلى ولشرّ منها.
ثم لقيه عبد الله بن الزّبير فقال له: «لا مرحبا ولا أهلا! خبّ ضبّ، تلعة يدخل رأسه فيضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدقّ ظهره، نحّياه عنى» فضرب وجه راحلته.
ثم لقيه عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق فقال له معاوية:
«لا مرحبا ولا أهلا! شيخ قد خرف وذهب عقله» ثم أمر بضرب وجه راحلته: ثم فعل بابن عمر نحو ذلك.
__________
[1] المعدية: الجماعة المنسوبة إلى معد بن عدنان.
[2] الازدلاف: الاقتراب إلى الأقران فى الحرب.
[3] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 251.(20/355)
فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم، ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة، فأقاموا بها.
وخطب معاوية بالمدينة، فذكر يزيد فمدحه، وقال: «من أحق منه بالخلافة فى فضله وعقله؟ وموضعه؟ وما أظن قوما بمنتهين حتى يصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم، ولقد أنذرت إن أغنت النّذر، ثم أنشأ متمثلا:
قد كنت حذّرتك آل المصطلق ... وقلت يا عمرو أطعنى وانطلق
إنّك إن كلّفتنى ما لم أطق ... ساءك ما سرّك منّى من خلق
دونك ما استسقيته فاحس وذق ثم دخل على عائشة رضى الله عنها وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، فقال: «لأقتلنهم إن لم يبايعوا» فشكاهم إليها، فوعظته عائشة وقالت: بلغنى أنك تتهدّدهم بالقتل، فقال: «يا أم المؤمنين، هم أعزّ من ذلك، ولكنى بايعت ليزيد، وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟» . قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان فى قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخى ما فعلت؟ تعنى محمدا فقال لها: كلّا يا أم المؤمنين إنى فى بيت أمن. قالت: أجل.
ومكث معاوية بالمدينة ما شاء الله، ثم خرج إلى مكة، فلقيه(20/356)
الناس، فقال أولئك النفر: نتلقّاه لعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه فى بطن [1] مرّ، فكان أول من لقيه الحسين رضى الله عنه، فقال له معاوية: مرحبا وأهلا بابن رسول الله وسيّد شباب المسلمين.
وأمر له بدابّة وركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك [2] ، وأقبل يسايرهم ولا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل عليه وآخر خارج، ولا يمضى يوم إلا ولهم منه صلة، ولا يذكر لهم شيئا، حتّى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعضهم لبعض: «لا تخدعوا فما صنع هذا لحبّكم، وما صنعه إلا لما يريد أن يفعل، فأعدوا له جوابا» فاتفقوا على أن يكون المخاطب له عبد الله ابن الزبير.
فأحضرهم معاوية وقال: «قد علمتم سيرتى فيكم، وصلتى لأرحامكم وحملى ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تولّون وتعزلون وتؤمّرون، وتجبون المال وتقسمونه، ولا يعارضكم فى شىء من ذلك» . فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرّتين.
ثم أقبل على عبد الله بن الزبير ثم قال: هات فلعمرى إنك خطيبهم. قال: نعم، نخيّرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهنّ. قال:
تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر رضى الله عنهما، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض
__________
[1] مر الظهران على مرحلة من مكة.
[2] فى العقد الفريد ج 4 ص 371: «وقال لعبد الرحمن بن أبى بكر: مرحبا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق. وقال لابن عمر: مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق، وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته. ودعا لهم بدواب فحملهم عليها» .(20/357)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا، فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبى بكر وأخاف الاختلاف. قالوا:
«صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر، فإنه عمد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بنى تيم [1] فاستخلفه، أو كما صنع عمر، جعل الأمر شورى فى ستة نفر، ليس فيهم أحد من ولده ولا من بنى أبيه» .
قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا، قال: فأنتم؟ قالوا:
قولنا قوله: قال «فإنى أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إنى كنت أخطب، فيقوم إلى القائم منكم فيكذّبنى على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح، وإنّى قائم لمقالة فأقسم بالله لئن ردّ علىّ أحد منكم كلمة فى مقامى هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!» .
ثم دعا صاحب حرسه حضرتهم فقال له: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علىّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.
ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
«إن هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يبرم [2] أمر دونهم ولا يقضى إلّا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على
__________
[1] يعنى أن أبا بكر لم يستخلف أحدا من أولاده ولا أقاربه بنى تيم، فقد كان أبو بكر بن أبى قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ولكنه استخلف عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدى، فعمر عدوى، وأبو بكر تيمى.
[2] انظر العقد الفريد ج 4 ص 372، وفى المخطوطة «لا يبتز» .(20/358)
اسم الله» . فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب معاوية رواحله وانصرف إلى المدينة.
فلقى الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلمّا أرضيتم وأعطيتم بايعتم! قالوا: والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا: كادنا [1] وخفنا القتل.
وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام، وجفا بنى هاشم، فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: «يا معاوية، إنى لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل، فأقيم به، ثم أنطلق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك» . قال يا أبا العباس تعطون وترضون وترادّون [2] !.
وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: «أبايعك على أنى داخل فيما تجتمع عليه الأمة، فو الله لو اجتمعت على حبشى لدخلت معها» . ثم عاد إلى منزله، فأغلق بابه، فلم يأذن لأحد.
وقد ذكرنا وفاة عبد الرحمن بن أبى بكر فى سنة ثلاث وخمسين، والمشهور أنه كان فى هذه الحادثة باق [3] ، وقد ورد خبره مع مروان ابن الحكم وما قالته عائشة رضى الله عنها فى الصحيح [4] .
__________
[1] فى العقد الفريد: «كادكم بنا وكادنا بكم» .
[2] راده فى الكلام: راجعه إياه.
[3] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 252: «قلت: ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت» . وقد ذكر ابن حبان أنه مات سنة ثمان وخمسين.
[4] روى البخارى فى كتاب التفسير من صحيحه الحديث 4509: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن أبن أبى بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان إن هذا الذى أنزل الله فيه: والذى قال لوالديه أف لكما أتعداننى فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذرى. أه وانظر ما سبق قريبا.(20/359)
ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وغزوه
فى هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد عنها، وكان سبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: «والله لقد اصطنعك أبى حتّى بلغت باصطناعه المدى الذى لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته [بآلائه] [1] ، وقدّمت [علىّ] هذا- يعنى يزيد- وبايعت له، والله لأنا خير أبا وأمّا ونفسا!» فقال معاوية:
أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ علىّ الجزاء به، وقد كان من شكرى لذلك أنّى طلبت بدمه، وأمّا فضل أبيك على أبيه فهو والله خير منّى، وأمّا فضل أمّك على أمّه فلعمرى امرأة من قريش خير من امرأة من كلب [2] ، وأمّا فضلك عليه فو الله ما أحبّ أن الغوطة [3] ملئت به رجالا مثلك!» فقال له يزيد: «يا أمير المؤمنين، ابن عمّك، وأنت أحقّ من نظر فى أمره، قد عتب عليك فأعتبه [4] » . فولّاه حرب خراسان، وولّى إسحاق ابن طلحة [5] خراجها، فمات إسحاق بالرّىّ فولّى سعيد حربها وخراجها.
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 226.
[2] أم سعيد بن عثمان هى فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية القرشية، وأم يزيد ابن معاوية هى ميسون بنت مجدل بن أنيف الكلبية.
[3] الغوطة: الكورة التى منها دمشق، وهى معروفة ببساتينها.
[4] الإعتاب: الإرضاء.
[5] كان إسحاق ابن خالة معاوية.(20/360)
فلمّا قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه [أهل] [1] الصّغد، فتواقفوا يوما إلى الليل ولم يقتتلوا، ثمّ اقتتلوا من الغد، فهزمهم سعيد، وحصرهم فى مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما من أبناء عظمائهم، فسار إلى التّرمذ ففتحها صلحا، ولم يف لأهل سمرقند، وجاء بالغلمان معه إلى المدينة.
وفى هذه الغزوة قتل قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب.
وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان
سنة سبع وأربعين
فى هذه السنة عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل الوليد بن عتبة بن أبى سفيان. وقيل: لم يعزل مروان فى هذه السنة [2] .
وحج بالناس الوليد بن عتبة.
سنة ثمان وأربعين
فى هذه السنة توفّيت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وتوفى عميرة بن يثربىّ قاضى البصرة، فاستقضى مكانه هشام بن هبيرة.
وحج بالناس الوليد بن عتبة.
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 227، والصغد: قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى.
[2] وقيل: فى سنة ثمان وخمسين.(20/361)
ذكر عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وطرده عنها واستعماله على مصر وطرده عنها أيضا
فى هذه السنة عزل معاوية الضحّاك بن قيس عن الكوفة، واستعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفى، وهو ابن أم الحكم، وأم الحكم أخت معاوية، فخرج الخوارج بالكوفة فى ولايته على ما قدمناه من خبرهم.
ثم طرد أهل الكوفة عبد الرحمن لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية، فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك فلعمرى لا تسير فينا سيرتك فى إخواننا من أهل الكوفة، فرجع.
ثم وفد معاوية بن حديج إلى معاوية، وكان إذا قدم زيّنت له الطرق [بقباب الرّيحان] [1] تعظيما لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أمّ الحكم فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال:
«بخ بخ [2] ! هذا معاوية بن حديج!» فقالت: «لا مرحبا! تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه [3] . فسمعها ابن حديج، فقال: «على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلى ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار فى إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل لضربناه ضربا يطأطئ
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] «بخ» اسم فعل، يقال عند إظهار الرضا والإعجاب، ويكرر للمبالغة.
[3] مثل عربى يضرب لمن خبره خير من رؤيته.(20/362)
منه ولو كره هذا القاعد!» يعنى معاوية، فالتفت إليها معاوية فقال:
كفى. فكفّت.
سنة تسع وخمسين
فى هذه السنة استعمل معاوية النّعمان بن بشير الأنصارى على الكوفة، بعد ابن أم الحكم.
واستعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان فبقى عليها إلى أن قتل الحسين، ثم قدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال له يزيد: «إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك، وتعطى عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم» قال: بل تعطينى ما معى وتعزلنى. ففعل، وأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف، وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف منى.
ذكر عزل عبيد الله بن زياد عن البصرة وعوده إليها
وفى هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها ولم يولّ غيره.
وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية فى وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف بن قيس، وكان ابن زياد لا يكرمه، فلما دخلوا على معاوية رحبّ بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحسن الوفد الثناء على عبيد الله بن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما بالك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية:(20/363)
انهضوا، عزلته عنكم واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق من القوم رجل إلا أتى رجلا من بنى أميّة أو من أهل الشام، والأحنف لم يبرح من منزله ولم يأت أحدا، فلبثوا أيّاما، ثم جمعهم معاوية، وقال لهم: من اخترتم فاختلفت كلمتهم [1] ، والأحنف ساكت، فقال [2] : مالك لا تتكلم؟
فقال: «إن ولّيت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت غيرهم فانظر فى ذلك» . فردّه معاوية عليهم، وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه فى مباعدته.
وحج بالناس فى هذه السنة عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وفيها توفى سعيد بن العاص.
سنة ستين ذكر وفاة معاوية بن أبى سفيان وما أوصى به عند وفاته
كانت وفاته بدمشق فى شهر رجب من هذه السّنة، قيل: فى مستهلّه، وقيل: فى النصف منه، وقيل: لأربع بقين منه، وقيل:
فى يوم الخميس لثمان بقين من شهر رجب سنة تسع وخمسين [3] قال [4] : وكان معاوية قد خطب الناس قبل موته فقال: «إنى
__________
[1] سمى كل فريق منهم رجلا.
[2] معاوية.
[3] تبع فى ذلك ما جاء فى الاستيعاب ج 3 ص 398، وعبارة الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 239: «وقال على بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة 60 يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حدثنى بذلك الحارث عنه» وقال الطبرى قبيل هذا: «اختلف فى وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان فى سنة 60 وفى رجب منها» .
[4] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 259.(20/364)
لزرع [1] مستحصد [2] وقد طالت إمرتى عليكم حتى مللتكم ومللتمونى، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقى، لن يأتيكم بعدى إلا من أنا خير منه، كما أن من كان قبلى كان خيرا منى، وقد قيل:
من أحب لقاء الله أحب لله لقاءه، اللهم إنى أحببت لقاءك فأحبب لقائى وبارك لى فيه» . فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه الذى مات فيه.
قال [3] ولمّا مرض [4] دعا ابنه يزيد وقال: «يا بنى إنى قد كفيتك الشّدّ والتّرحال، ووطّأت لك الأمور، وذللت الأعداء، وأخضعت؛ لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك [5] ، فإن رابك [6] من عدوّك شىء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغيرها تغيرت أخلاقهم، وإنى لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وعبد الرحمن بن أبى بكر، فأمّا ابن عمر فرجل قد
__________
[1] فى الكامل: «كزرع» .
[2] استحصد الزرع: حان أن يحصد.
[3] ابن الأثير فى الكامل، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 238.
[4] قال الطبرى: «مرض مرضته التى هلك فيها» .
[5] عيبتك: موضع سرك.
[6] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى «نابك» .(20/365)
وقذته [1] العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأمّا الحسين فإنه رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا ابن أبى بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله [2] ليست له همّة إلّا فى النساء واللهو، وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد، ويرواغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إربا إربا، واحقن دماء قومك ما استطعت» .. هكذا فى هذه الرواية [3] ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر، والصحيح أنه مات [4] قبل معاوية.
وقيل إن يزيد كان غائبا فى مرض أبيه وموته، وأن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المرّىّ وأمرهما أن يؤديّا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه. وصححه ابن الأثير.
قيل: ولما اشتدّت علّته وأرحف به قال لأهله؛: احشوا عينى إثمدا وادهنوا رأسى، ففعلوا وبرّقوا وجهه [5] ، ثم مهّد له مجلس
__________
[1] وقذته: غلبته.
[2] فى تاريخ الطبرى: «مثلهم» ، والذى جاء هنا مثل الكامل.
[3] وذكر ابن جرير رواية ثانية فيها قول معاوية: «وإنى لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير» .
[4] وذكر ابن حبان أن عبد الرحمن بن أبى بكر مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك كما سبق.
[5] عند ابن جرير وابن الأثير: «برقوا وجهه بالدهن» .(20/366)
وأذن للناس، فدخلوا وسلموا قياما ولم يجلس أحد، فلما خرجوا تمثل بقول الأول وهو الهذلى [1] :
وتجلّدى للشّامتين أريهمو ... أنّى لريب الدهو لا أتضعضع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة [2] لا تنفع
ومات فى يومه.
وكان يتمثّل- وقد احتضر [3]-:
فهل من خالد إمّا هلكنا؟ ... وهل بالموت يا للنّاس عار؟
وروى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: سمعت الشافعىّ رضى الله عنه يقول: لمّا ثقل معاوية كان يزيد غائبا، فكتب إليه بحاله فلمّا أتاه الرسول أنشأ يقول:
جاء البريد بقرطاس يخبّ به [4] ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل! ماذا فى صحيفتكم ... قال: الخليفة أمسى مثبتا [5] وجعا
__________
[1] هو أبو ذؤيب الهذلى يرثى بنين له ماتوا فى عام واحد بقصيدة مشهورة تجدها فى أول ديوان الهذليين، وانظر المفضلية 125 فى المفضليات وجمهرة أشعار العرب ص 264- 273 والاستيعاب ج 4 ص 67 والإصابة ج 4 ص 65 وشواهد العينى ج 3 ص 393- 394 وخزانة الأدب ج 1 ص 202 وحماسة البحترى ص 99، 128 وأمالى القالى مع شرح البكرى فى سمط اللآلى ج 2 ص 288- 289.
[2] التميمة: ما يعلقه بعض الناس على أولادهم لاتقاء العين والحسد بزعمهم.
[3] وبلغه أن قوما يفرحون بموته.
[4] القرطاس: الصحيفة. والخبب: السير السريع.
[5] المثبت: الذى لا يفارق الفراش لثقل مرضه.(20/367)
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنّ ثهلان [1] من أركانه انقلعا
أودى ابن هند [2] وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعا وظلّا يسريان معا
لا يرفع الناس ما أوهى [3] وإن جهدوا ... أن يرفعوه، ولا يوهون ما رفعا
أغرّ أبلج [4] يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
والبيتان [5] الأخيران للأعشى.
قال: فلمّا وصل إليه وجده مغمورا فأنشأ يقول:
لو عاش حىّ إذا لعاش إما ... م الناس لا عاجز ولا وكل [6]
الحوّل القلّب الأريب [7] ولن ... يدفع ريب المنيّة الحيل
__________
[1] ثهلان: جبل.
[2] أودى: هلك. وهند: أم معاوية.
[3] أوهاه: أضعفه وأسقطه.
[4] الأغر: السيد الشريف فى قومه. والأبلج: الذى يكون طلق الوجه مضيئه.
[5] هذا من قول الإمام الشافعى كما فى الاستيعاب ج 3 ص 399 وهما البيتان 72، 51 من عينيه الأعشى فى ديوانه ص 111، 107 وجاء أولهما بلفظ:
لا يرفع الناس ما أوهى وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما وقعا
وجاء ثانيهما بلفظ:
أغر أبلج يستسقى الغمام به ... لو صارع الناس عن أحلامهم صرعا
[6] الوكل: البليد الذى يكل أمره إلى غيره.
[7] الحول: البصير بالحيل وتحويل الأمور. والقلب: البصير بتقلب الأمور. والأريب: العاقل.(20/368)
قال فأفاق معاوية وقال: يا بنى إنّى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج لحاجته، فاتبعته بإداوة [1] ، فكسانى أحد ثوبيه الذى يلى جلده، فخبّأته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من أظافره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبّأته لهذا اليوم، فإذا أنا متّ فاجعل ذلك القميص دون كفنى ممّا يلى جلدى، وخذ ذلك الشعر والأظافر فاجعله فى فمى وعلى عينى ومواضع السجود منى، فإن نفع شى فذاك، وإلّا فإن الله غفور رحيم.
وهذه الرواية تدل على أن يزيد أدركه قبل وفاته، وقد قيل: إنه أوصى بها غير يزيد [2] والله أعلم.
قال ابن الأثير: وتمثل معاوية عند موته بشعر الأشهب بن زميلة [3] النّهشلى [4] :
__________
[1] الإداوة: إناء صغير من جلد.
[2] ذكر الطبرى فى إحدى روايات تاريخه ج 4 ص 242 أن معاوية مات ويزيد بحوارين.
وكانوا اكتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله، وانظر ما يأتى.
[3] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير «زميله» بالزاى، كما نص عليه العينى فى شواهده الكبرى ج 1 ص 482 تابعا للمرزبانى فى معجم الشعراء، وفى أكثر الكتب «رميلة» بالراء، كما نص عليه صاحب خزانة الأدب ج 2 ص 509 وتراه فى تاريخ الطبرى وأمالى القالى وسمط اللالى والبيان والتبيين والحيوان، وانظر ترجمة الأشهب بن رميلة فى الأغانى ج 9 ص 269 (طبع دار الكتب المصرية) والإصابة ج 1 ص 107.
[4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 241: شعر الأشهب بن رميلة النهشلى يمدح به القباع.(20/369)
إذا متّ مات الجود وانقطع النّدى ... من الناس إلّا من قليل مصرّد [1]
وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا ... من الدّين والدنيا بخلف مجدّد [2]
فقالت إحدى بناته: كلّا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك.
فقال متمثّلا:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها......
(البيت) وقال لأهله:
اتّقوا الله فإنه لا واقى لمن لا يتّقى الله! ثمّ قضى [3] وأوصى أن يردّ نصف ماله إلى بيت المال [4] .
وأنشد لما حضرته الوفاة:.
إن تناقش يكن نقاشك يا ربّ ... ب عذابا، ولا طوق لى بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوح ... عن مسيىء ذنوبه كالتراب
قال: ولمّا مات خرج الضحّاك بن قيس حتّى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية كان
__________
[1] مصرد: مقلل، ففيه مبالغة فى القلة.
[2] الخلف: ضرع والفرس والناقة ونحوهما، والمجدد: الذاهب اللبن، والمعروف بهذا المعنى فى هذه المادة «الأجد» و «المتجدد» .
[3] قضى: مات.
[4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 242 وابن لأثير فى الكامل ج 3 ص 260 «كأنه أراد أن يطيب له الباقى، لأن عمر قاسم عماله» .(20/370)
عود [1] العرب، وحدّ [2] العرب، وجدّ [3] العرب، قطع الله به الفتنة، وملّكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلّون بينه وبين عمله، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة! فمن كان يريد أن يشهده فعند الأولى» .. قال: وصلى عليه الضحاك لغيبة يزيد، وكان بحوّارين [4] فقدم بعد دفنه فصلّى على قبره.
وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيّاما تقريبا منذ خلص له الأمر.
وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وقيل: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل توفى وهو ابن خمس وثمانين سنة.
وكان أوّل من اتخذ الخدام الملازمة [5] فى الإسلام. وأوّل من علّق الستور واتخذ الحرس وأرباب الشّرط. واستخدم الحجاب وركب الهماليج [6] ، وقيدت بين يديه الجنائب [7] ولبس الخزّ والوشى الخفيف، وعمل الطّراز بمصر واليمن والرّها والإسكندرية.
__________
[1] العود: الجمل الكبير المدرب، ويشبه به الرجل كذلك.
[2] الحد: البأس والفاصل بين شيئين.
[3] الجد: الحظ والسعادة والغنى.
[4] حوارين، بتشديد الواو: من قرى الشام، وهى غير «حوارين» بتخفيف الواو التى فى الجزيرة.
[5] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «الأزمة» وجاء فى الاستيعاب «أول من اتخذ الخصيان فى الإسلام.
[6] الهماليج: جمع هملاج، وهو البرذون الحسن السير، ويسمى «الرهوان» .
[7] الجنائب: جمع جنيبة وهى الدابة تقاد إلى جنب، والناقة يعطيها الرجل القوم ليمتارو عليها له.(20/371)
وأوّل من قتل مسلما صبرا، قتل حجر بن عدىّ وأصحابه كما تقدم.
وهو أول من اقتنى الضّياع، وأحدث فى أيامه ديوان الخاتم، وكان سبب ذلك أنه أمر لعمرو [1] بن الزّبير بمائة ألف درهم، وكتب له بها على زياد، فصيرّ [2] عمرو المائة مائتين، فلما [رفع] [3] حساب زياد أنكرها معاوية، وأخذ عمرا بردّها [4] ، فوفّاها عنه أخوه عبد الله. ثم أمر معاوية بختم الكتب وحزمها.
وزاد فى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله ثمانى درجات، وأول من جعل درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، واتخذ المقصورة [5] فى المسجد.
وأول خليفة بايع لابنه، وأول من وضع البريد، وأول من سمى الغالية التى يطيّب بها «غالية» .
وكان يقول: أنا أول الملوك.
ذكر شىء من سيرته وأخباره
كان يضرب بحلم معاوية المثل، ولم يعرف له زلّة تنافى الحلم إلّا قتل حجر بن عدىّ وأصحابه.
وقد نقل من كلامه ألفاظ، منها أنه قال: إننى لأرفع نفسى أن يكون ذنب أعظم من عفوى، وجهل أكثر من حلمى، وعورة لا أواريها بسترى، أو إساءة أكثر من إحسانى..
__________
[1] أمر معاوية لعمرو بهذا فى معونته وقضاء دينه.
[2] فض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين.
[3] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) .
[4] وحبسه.
[5] عمل معاوية المقصورة فى الشام لما ضربه الخارجى، ثم عمل مروان المقصورة فى المدينة(20/372)
وقال: العقل والحلم أفضل ما أعطى العبد، فإذا ذكّر ذكر، وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز..
قال عبد الله [1] بن عمير: أغلظ رجل لمعاوية، فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إنى لا أحول بين الناس وألسنتهم.
ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
وروى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال: أخبرنا المسور ابن مخرمة أنه وفد على معاوية، قال: فلمّا دخلت عليه سلّمت، فقال: ما فعل طعنك على الأمة يا مسور؟ قلت: دعنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له، قال: والله لتكلمنى يذات نفسك. قال فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلّا أخبرته به. فقال: «لا أبرأ من الذنوب! أفمالك يا مسور ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟» قلت: بلى.
قال: «فما جعلك أحقّ بأن ترجو المغفرة منّى؟ فو الله لما أنا [2] ألى من الإصلاح بين الناس وإقامة الحدود والجهاد فى سبيل الله والأمور العظام التى ليست [3] أحصيها ولا تحصيها أكثر ممّا تلى. وإنى لعلى دين يتقبّل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيّئات، وو الله لعلى [4] ذلك ما كنت لأخيرّ بين الله وبين ما سواه إلا اخترت الله على ما سواه.
قال المسور: ففكرّت حين قال ما قال فعرفت أنه خصمنى! قال: فكان
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى رواية الطبرى «عبد الملك بن عمير» .
[2] فى الاستيعاب ج 3 ص 402: «فو لله لما ألى من الإصلاح» .
[3] فى الاستيعاب: «لست» .
[4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ك) كما فى الاستيعاب، وسقطت من النسخة (ن) .(20/373)
إذا ذكر بعد ذلك دعا له بخير. قال أبو عمر [1] : هذا الخبر من أصحّ ما يروى عن ابن شهاب.
وقد نسب معاوية إلى بخل مع كثرة عطاياه، فمن ذلك ما حكى أن عبيد الله بن أبى بكرة دخل على معاوية، ومعه ولد له، فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله، فأراد أن يغمز ابنه [فلم يمكنه] [2] فلم يرفع رأسه حتى فرغ من أكله، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال معاوية ما فعل ابنك التّلقامة [3] ؟ [قال:
اشتكى] [4] .
ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه وكتّابه وقضاته وحجّابه وشرطه وعمّاله
كان معاوية طويلا أبيض اللون إذا ضحك تقلّصت شفته العليا، وكان يخضب بالحنّاء والكتم.
وأما نساؤه وولده: فمن نسائه ميسون ابنة بحدل بن أنيف الكلبية، وهى أم يزيد، وقيل، ولدت له بنتا اسمها «أمة ربّ المشارق» فماتت صغيرة.
ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، ولدت له عبد الرحمن وعبد الله، وكان عبد الله أحمق، وعبد الرحمن مات صغيرا.
__________
[1] أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب.
[2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 245.
[3] التلقامة: الكبير اللقم.
[4] الزيادة من الكامل، ساقطة من الأصل.(20/374)
ومنهن نائلة ابنة عمارة الكلبية، تزوجها وقال لميسون: انظرى إليها، فنظرت إليها وقالت: «رأيتها جميلة، ولكنى رأيت تحت سرّتها خالا، ليوضعن رأس زوجها فى حجرها» فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهرى، ثم خلف عليها بعده النّعمان ابن بشير، فقتل ووضع رأسه فى حجرها [1] .
ومنهن كتوة [2] ابنة قرظة، أخت فاختة، غزا قبرس [3] وهى معه فماتت هناك.
وأما كتابه فكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومى، وكتب له عبيد الله بن أويس الغسّانى.
وقضاته. كان على القضاء فضالة بن عبيد الأنصارى، فمات فاستقضى أبا إدريس الخولانى.
وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميرىّ، ونقش خاتمه «لكل عمل ثواب» ، وقيل: كان نقشه «لا حول ولا قوة إلا بالله» .
وحاجبه سعد مولاه، ثم صفوان مولاه.
وكان على شرطته قيس بن حمزه الهمدانى ثم عزله، واستعمل زمل [4] ابن عمرو العذرىّ، وقيل: السكسكىّ.
__________
[1] كان النعمان بن بشير أميرا على حمص ليزيد، فلما مات يزيد صار النعمان زبير يا كالضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك فى وقعة «مرج راهط» وانتصر المروانيون طلب أهل حمص النعمان وقتلوه واحتزوا رأسه، فقالت امرأته نائلة ابنة: عمارة ألقوا رأسه فى حجرى فأنا أحق به
[2] فى لأصل: لبوة، والتصحيح من الكامل وتاريخ الطبرى.
[3] قبرس: جزيرة معروفة.
[4] فى لإصابة ج 1 ص 551 والقاموس: زمل بن عمرو بن أبى العنز بن خشاف العذرى، صحابى، ويقال له «زميل» مصفرا.(20/375)
وكان على حرسه رجل من الموالى يقال له الختار، وقيل: أبو المخارق مالك مولى حمير.
وأما عمّاله فقد تقدم ذكرهم، وكان العمّال عند وفاته: على المدينة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، على مكة عمرو بن سعيد الأشدق، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النّعمان بن بشير، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عبّاد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور، وعلى مصر مسلمة ابن مخلّد الأنصارى، وكان القاضى بمصر سليمان بن عمير عشرين سنة.
ذكر بيعة يزيد بن معاوية
هو أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية.
وهو الثانى من ملوك بنى أميّة، بويع له بعد وفاة أبيه فى شهر رجب سنة ستين.
فكان أول ما بدأ به يزيد أن كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، وهو عامل المدينة، يخبره بموت معاوية [1] ، وكتابا آخر
__________
[1] نص كتاب يزيد بن معاوية إلى ابن عمه الوليد بن عتبة- كما ذكره الطبرى-:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محمودا، ومات برأ تقيا، والسلام» .(20/376)
صغيرا فيه: «أمّا بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمرو ابن الزبير بالبيعة أخذا ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا والسلام» .
فلما أتاه نعىّ معاوية استدعى [1] مروان بن الحكم، وكان قبل ذلك قد صارمه وانقطع عنه [2] ، فلما جاءه وقرأ عليه الكتاب بموت معاوية استرجع [3] وترحّم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع، قال: «أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كلّ رجل بناحية، وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أمّا ابن عمر فلا يرى القتال، ولا يحبّ أن يلى على الناس إلّا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا» .
__________
[1] ذكر الطبرى وابن الأثير أن الوليد لما أتاه نعى معاوية فظع به وكبر عليه، ثم ما أمره به يزيد من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، ففزع عند ذلك إلى مروان بن الحكم.
[2] لما عزل مروان عن المدينة واستعمل عليها بعده الوليد بن عتبة صار مروان يجىء متكارها فلما رأى الوليد ذلك شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه.
[3] قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .(20/377)
ذكر ارسال الوليد بن عتبة إلى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير، وما كان بينهم فى أمر البيعة وخروجهما إلى مكة رضى الله عنهما
قال [1] وأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلام حدث، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما فى المسجد، فأتاهما فى ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، فقال: أجيبا الأمير فقالا: انصرف الآن نأتيه.
فقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا فى هذه الساعة التى لم يكن يجلس فيها؟ فقال الحسين رضى الله عنه: أظن طاغيتهم هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فى الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن نصنع؟ قال الحسين:
أجمع فتيانى الساعة ثم أمشى إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال:
فإنى أخاف عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.
فقام الحسين رضى الله عنه فجمع إليه أصحابه وأهل بيته، ثم أقبل إلى باب الوليد، وقال لأصحابه: «إنى داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتى قد علا فادخلوا علىّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم» .
ثم دخل فسلّم ومروان عنده، فقال الحسين: «الصّلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما» وجلس، فأقرأه الوليد الكتاب،
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 264، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 251.(20/378)
ونعى إليه معاوية، ودعاه إلى البيعة، فاسترجع الحسين وترحّم على معاوية، وقال: «أما البيعة فإن مثلى لا يبايع سرا، ولا تجتزى بها منى سرا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحد» فقال له الوليد- وكان يحب العافية- انصرف.
فقال له مروان: «لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينه، احبسه، فإن بايع وإلّا ضربت عتقه» . فوثب الحسين عند ذلك وقال: «يا ابن الزرقاء أنت، تقتلنى [1] أو هو؟ كذبت والله ولؤمت [2] ! ثم خرج حتّى أتى منزله.
فقال مروان للوليد: عصيتنى! لا والله لا يملك من نفسه يمثلها أبدا، فقال الوليد: «ويح [3] غيرك يا مروان!، والله ما أحب أن لى ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنى قتلت حسينا إن قال لا أبايع! والله إنى لأظن أمرأ يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة!» قال مروان: قد أصبت بقولك هذا [يقول] [4] وهو غير حامد له على رأيه.
وأمّا ابن الزّبير فإنه أتى داره وجمع أصحابه واحترز، فألّح الوليد فى طلبه وهو يقول «أمهلونى» . فبعث الوليد إليه مواليه فشتموه، وقالوا له: يا ابن الكاهلية لتأتينّ الأمير أو ليقتلنّك
__________
[1] فى تاريخ الطبرى: «أم» .
[2] كذا جاء هنا مثل الكامل، والطبرى «وأثمت» .
[3] كذا فى الأصل، وفى تاريخ الطبرى «وبخ غيرك» .
[4] الزيادة من الكامل وتاريخ الطبرى.(20/379)
فقال لهم: والله لقد استربت لكثرة الإرسال، فلا تعجلونى حتّى أبعث إلى الأمير من يأتينى برأيه. فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال له: «رحمك الله، كفّ عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته [1] ، وهو يأتيك غدا إن شاء الله تعالى، فمر رسلك فلينصرفوا عنا» فبعث إليهم، فانصرفوا وخرج ابن الزبير من ليلته هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث فسارا نحو مكة [2] فسرح الوليد الرجال فى طلبه فلم يدركوه، فرجعوا، وتشاغلوا به عن الحسين يومهم.
ثم أرسل الوليد الرجال إلى الحسين [3] فقال لهم: أصبحوا ثم ترون ونرى. فكفّوا عنه، فسار من ليلته [4] نحو مكة، وأخذ معه بنيه وإخوته وبنى أخيه وجلّ أهل بيته إلّا محمد بن الحنفية فإنه قال للحسين رضى الله عنهما: «يا أخى أنت أحب الناس إلىّ وأعزّهم علىّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحقّ بها منك، تنح ببيعتك [5] عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إنى أخاف أن تأتى مصر وجماعة من الناس فيختلفون عليك، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأول الأسنّة، فإذا
__________
[1] زاد الطبرى فى روايته: «بكثرة رسلك» .
[2] وتجنيا الطريق الأعظم مخافة الطلب.
[3] عند المساء.
[4] قال الطبرى: «وهى ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة 60، وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، خرج ليلة السبت» .
[5] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «بتبعتك» .(20/380)
خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما، أضيعها دما وأذلّها أهلا!» قال الحسين: فأين أذهب يا أخى؟ قال: «انزل مكة، فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال [1] وخرجت من بلد إلى أخرى، حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، ويفرق لك الرأى، فإنك أصوب ما تكون رأيا وأخرمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور أبدا أشكل منها حين تستدبرها!» قال: قد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا إن شاء الله.
ثم دخل المسجد وهو يتمثل بقول يزيد بن مفرّغ:
لا ذعرت السّوام فى شفق [2] الصّبح ... مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المهابة [3] ضيما ... والمنايا يرصدننى أن أحيدا
ثم خرج نحو مكة وهو يتلو فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[4] ، ولما دخل مكة قرأ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ
[5]
__________
[1] شعف الجبال: رءوسها.
[2] كذا جاء «شفق» فى الأصل مثل الكامل لابن الأثير ج 3 ص 265 والمعروف فيه «فلق» كما جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 253 ومروج الذهب المسعودى ج 2 ص 86 والخصائص لابن جنى ج 3 ص 273 وشرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 1 ص 302 وجاء فى ترجمة يزيد بن مفرغ من وفيات الأعيان ج 3 ص 315 «غلس» .
[3] كذا جاء فى الأصل وتاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «من المهانة» وفى شرح ابن أبى الحديد «من المخافة» ، وفى وفيات الأعيان «على المخافة» ، وفى مروج الذهب (مخافة الموت» .
[4] الآية 21 من سورة القصص.
[5] الآية 22 من سورة القصص.(20/381)
قال: وأمّا ابن عمر فإنّ الوليد أرسل إليه ليبايع، فقال: إذا بايع الناس بايعت. فتركوه، وكانوا لا يخافونه.
وقيل: إن ابن عمر كان بمكة هو وابن عبّاس، فعادا إلى المدينة، فلقيا الحسين وابن الزّبير، فقالا لهما: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية وبيعة يزيد، قال ابن عمر: لا تفرّقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عبّاس المدينة، فلما بايع الناس بايعا.
قال: ودخل ابن الزّبير مكة وعليها عمرو بن سعيد فقال: أنا عائذ بالبيت. ولم يكن يصلى بصلاتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، وكان يقف هو وأصحابه ناحية.
ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة
وإرسال عمرو بن الزّبير بالجيش إلى مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزّبير وهزيمة جيشه، ووفاة عمرو بن الزّبير تحت السّياط وفى هذه السنة عزل يزيد بن معاوية الوليد ابن عتبة عن المدينة، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق، فقدمها فى رمضان، واستعمل على شرطته عمرو بن [1] الزّبير، لما كان بينه وبين أخيه من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا: لهواهم فى أخيه عبد الله، منهم أخوه المنذر بن الزّبير وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ومحمد بن عمار بن ياسر، وغيرهم [2] ، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين.
__________
[1] سبق أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم ... الخ.
[2] وهناك من فر منه إلى مكة، كعبد الرحمن بن عثمان وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل.(20/382)
فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزّبير فيمن يرسله إلى أخيه فقال: لا توجّه إليه رجلا أنكأ له منى، فجهز معه سبعمائة فيهم أنيس بن عمرو الأسلمى.
فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال له: «لا تغز مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزّبير فقد كبر، له ستون سنة» فقال عمرو بن الزبير: والله لنغزونّه فى جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.
وأتى أبو شريح [1] الخزاعى إلى عمرو فقال له: لا تغز مكة فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنّما أذن لى فى القتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس»
فقال له عمرو:
نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ [2] .
فسار عمرو بن الزبير وسار أنيس فى مقدمته.
وقيل إن يزيد كتب إلى عمرو بن سعيد أن يرسل عمرو بن
__________
[1] اختلف فى اسم أبى شريح، والراجح خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزى العدوى الكعبى الخزاعى، وقد أسلم قبل فتح مكة، وكان معه لواء خزاعة يوم الفتح.
[2] هذا الحديث رواه الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 257 وذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 266 وهو
حديث صحيح رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما بسنديهما عن أبى شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لى أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى، حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لا مرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب»
فقيل لأبى شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: «أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» . انظر شرح الكرمانى لصحيح البخارى ج 2 ص 102 وج 9 ص 41 وشرح النووى لصحيح مسلم ج 9 ص 127.(20/383)
الزبير إلى أخيه عبد الله، فأرسله ومعه جيش نحو ألفى رجل، فنزل أنيس بذى طوى [1] ، ونزل عمرو بالأبطح [2] ، فأرسل عمرو إلى أخيه: برّ يمين يزيد- وكان قد حلف أنه لا يقبل بيعته إلّا أن يؤتى به فى جامعة [3]- تعالى حتّى أجعل فى عنقك جامعة من فضة لا ترى، ولا يضرب الناس بعضهم ببعض، فإنك فى بلد حرام.
فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان نحو أنيس فيمن معه من أهل مكة ممن اجتمع إليه، فهزمه بذى طوى، وقتل أنيس.
وسار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمرو بن الزّبير، فتفرق عن عمرو أصحابه، فدخل دار ابن علقمة، فأتاه أخوه عبيدة فأجاره، ثم أتى عبد الله فقال: قد أجرت عمرا. فقال: «أتجير من حقوق الناس هذا ما لا يصلح، وما أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحلّ لحرمات الله!» . ثم أقاد عمرا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات عمرو بن الزبير تحت السياط.
ولنرجع إلى أخبار الحسين رضى الله عنه.
ذكر مقدم الحسين إلى مكة
وما ورد عليه من كتب أهل الكوفة، وإرساله مسلم بن عقيل إليهم وما كان فى خلال ذلك قال: لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع، فقال له: جعلت فداك أين تريد؟ قال: أمّا الآن فمكة وأمّا بعد
__________
[1] ذو طوى: موضع قرب مكة يعرف الآن بالزاهر. كما فى تاج العروس.
[2] الأبطح: مسيل وادى مكة، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 256 «فسار عمرو ابن الزبير حتى نزل فى داره عند الصفا» .
[3] جامعة: غل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق.(20/384)
فإنى أستخير الله. فقال: خار الله لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة فإيّاك أن تقرب الكوفة فإنها بلد مشئومة، بها قتل أبوك وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه، الزم فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب، ولا تفارق الحرم فداك عمى وخالى، فو الله لئن هلكت لنسترقّنّ بعدك!» .
فأقبل حتّى نزل مكة، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزّبير يأتى إليه ويشير عليه بالرأى، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين بمكة.
قال: ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمرو ابن الزّبير رضى الله عنهم من البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشّيعة فى منزل سليمان بن صرد، فذكروا مسير الحسين رضى الله عنه إلى مكة، وكتبوا إليه عن نفر منهم: سليمان بن صرد [1] والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظهر [2] : «بسم الله الرحمن الرحيم، وسلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو،
__________
[1] سليمان بن صرد أبو مطرف الخزاعى له ترجمة فى الإصابة ج 2 ص 75 وله ذكر فى جمهرة أنساب العرب ص 226.
[2] كذا جاء فى ترجمته فى الإصابة ج 1 ص 373، ومن رجزه فى معركة الحسين:
أنا حبيب وأبى مظهر ... فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتم أعد عدة وأكبر ... ونحن أوفى منكمو وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر ... حقا وأتقى منكمو وأعذر
وقد اختلفت كتابة اسم أبيه فى مواضع وروده فى المخطوطتين والكتب بين «مظهر ومظاهر» ب «مطهر» .(20/385)
أمّا بعد فالحمد لله الذى قصم عدوّك الجبار العنيد الذى انتزى على هذه الأمة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل، لعل الله يجعلنا بك على الحق، والنّعمان بن بشير فى قصر الإمارة لسنا نجتمع معه فى جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» . وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانى وعبد الله بن وائل [1] .
ثم كتبوا إليه كتابا آخر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناس معه نحوا من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولا ثالثا يحثّونه على المسير إليهم، ثم كتب إليه شبث بن ربعىّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعزرة بن قيس [2] وعمرو بن الحجاج الزّبيدى ومحمد بن عمير التميمى بذلك.
فلما اجتمعت كتبهم عنده كتب إليهم: «أمّا بعد فقد فهمت كلّ الذى اقتصصتم، وقد بعثت إليكم أخى وابن عمّى وثقتى من أهل بيتى مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إلىّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلىّ أنه قد اجتمع رأى ملئكم وذوى الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله تعالى،
__________
[1] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم.
[2] كذا جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 262 وهو عزرة بن قيس بن غزية الأحمس البجلى، وفى المخطوطة والكامل «عروة بن قيس» .(20/386)
فلعمرى ما الإمام إلا العالم [1] بالكتاب، والقائم بالقسط والدائن بدين الحق والسلام» .
وقدم على الحسين رضى الله عنه من البصرة يزيد بن أبى نبيط [2] وابناه عبد الله وعبيد الله إلى مكة، فكانوا معه حتى قتل وقتلوا معه.
ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيّره إلى الكوفة، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف فإن رأى الناس مجتمعين له عجّل إليه بذلك.
فسار مسلم إلى المدينة، فصلى فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم وسلم، وودع أهله، وسار حتى بلغ الكوفة، فنزل فى دار المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين، فيبكون ويعدونه النصرة والقتال، فبلغ النّعمان بن بشير أمير الكوفة ذلك، فصعد المنبر فقال: «أمّا بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال» ثم قال: «إنى لا أقاتل من لم يقاتلنى، ولا أثب على من لا يثب علىّ ولا أنبّه نائمكم [3] ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظّنّة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذى لا إله إلا هو لأضربنّكم بسيفى ما دام [4] قائمه فى يدى، ولو لم يكن لى منكم ناصر ولا معين.
أما إنى لأرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرد به الباطل»
__________
[1] فى تاريخ الطبرى والكامل: «العامل» .
[2] عند الطبرى وابن الأثير: «ابن نبيط» .
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى: «ولا أشاتمكم» .
[4] عند الطبرى وابن الأثير: «ما ثبت» .(20/387)
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمى حليف بنى أمية فقال: «إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذى أنت عليه رأى المستضعفين» . فقال: لأن أكون من المستضعفين فى طاعة الله أحبّ إلىّ من أن أكون من الأعزّين فى معصية الله» . ثم نزل.
وكان حليما ناسكا يحب العافية. وقيل: إنه لم يقل ذلك، وإنما قال:
يا أهل الكوفة إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى من ابن بنت بحدل.
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانى بن عروة
قال: ولما تكلم النعمان بن بشير بما تكلم به، كتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل إلى الكوفة، ومبايعة الناس له، ويقول: «إن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويّا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فى عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف» ثم كتب إليه بعده عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد بن أبى وقّاص بنحو ذلك.
فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية، فأقرأه الكتب، واستشاره فيمن يولّيه أمر الكوفة، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيت لو نشر لك معاوية أكنت تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فأخرج له عهد عبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأى معاوية ومات وقد أمر بهذا الكتاب، فأخذ يزيد برأيه، وجمع له بين الكوفة والبصرة، وكتب له بعهده(20/388)
وسيّره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلىّ والد قتيبة، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه.
فلمّا وصل كتابه إلى عبيد الله تجهز ليسير من الغد.
وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عبيد الله بن معمر. يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن السنة قد ماتت، والبدعة قد أحييت، فكلهم كتم كتابه إلا المنذر بن الجارود، فإنه خشى أن يكون دسيسا من بن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول، وخطب الناس ثم قال فى آخر كلامه: «يا أهل البصرة، إن أمير المؤمنين ولّانى الكوفة، وأنا غاد إليها بالغد، وقد استخلفت عليكم أخى عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والإرجاف، فو الله لئن بلغنى عن رجل منكم خلاف لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستقيموا ولا يكون فيكم خلاف ولا شقاق [1] إنى أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطىء الحصى، فلم ينتزعنى شبه خال ولا ابن عمّ!» .
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلىّ وشريك ابن الأعور الحارثى وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعيا. وقيل:
كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه، وكان أول من سقط شريك، ورجوا أن يقف عليهم فيسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحد منهم حتّى دخل الكوفه وحده، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكّون أنه
__________
[1] عند الطبرى وابن الأثير: «مخالف ولا مشاق» .(20/389)
الحسين بن علىّ فيقولون: مرحبا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم، فساءه ما رأى منهم.
وسمع به النعمان، فأغلق عليه الباب، وهو لا يشكّ أنه الحسين، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون، فقال له النعمان: «أنشدك الله إلا تنحيت عنى، فو الله ما أنا مسلم إليك أمانتى، ومالى فى قتالك من حاجة!» فدنا منه عبيد الله وقال: «افتح لا فتحت!» فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس فقال: إنه ابن مرجانة [1] !» ففتح له النعمان فدخل، وأغلقوا الباب وتفرق الناس.
وأصبح فجلس على المنبر، وقيل بل خطبهم من يومه، فقال:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين ولّانى مصركم وثغركم وفيئكم وأمرنى بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشّدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد البر، ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفى وسوطى على من ترك أمرى وخالف عهدى فليبق امرؤ على نفسه» .
ثم نزل.
وأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، وقال: «اكتبوا إلى الناس الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشّقاق، فمن كتبهم لى فقد برئ، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما فى عرافته لا يخالفنا فيهم مخالف، ولا يبغى علينا منهم باغ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمّة، وحلال
__________
[1] مرجانة: أم عبيد الله بن زياد، وسيأتى بعض ما يتعلق بها.(20/390)
لنا ماله ودمه، وأيّما عريف وجد فى عرافته أحد من بغية أمير المؤمنين لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، وألغيت تلك العرافيه من العطاء وسيّر إلى موضع بعمان» . ثم نزل.
قال: وسمع مسلم ابن عقيل بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانئ بن عروة المرادى فدخل بابه واستدعاه، فخرج إليه، فلما رآه كره مكانه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرنى وتضيفنى.
فقال هانئ. «- لقد كّلفتنى شططا، ولولا دخولك دارى لأحببت أن تنصرف عنى، غير أنه يأخذنى من ذلك ذمام [1] ، ادخل!» فآواه، واختلفت الشيعة إليه فى دار هانىء.
قال ومرض هانئ، فأتاه عبيد الله يعوده، فقال له عمارة بن عمير [2] السلولىّ: دعنا نقتل هذا الطاغية، فقد أمكن الله منه، فقال هانئ ما أحب أن يقتل فى دارى، وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هانىء، وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع، فأرسل إليه ابن زياد: إنى رائح إليك العشية.
فقال لمسلم ابن عقيل: «إن هذا الفاجر عائدى العشية فإذا جلس فاقتله ثم اقصد القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن بريت من وجعى سرت إلى من بالبصرة فكفيتك أمرهم» . فلمّا كان من العشىّ أتاه عبيد الله فقام مسلم بن عقيل ليدخل، فقال له شريك لا يفوتنّك إذا جلس.
فقال هانىء بن عروة: إنى لا أحبّ أن يقتل فى دارى. وجاء عبيد
__________
[1] الذمام: العهد.
[2] فى تاريخ بن جرير: «عبيد» .(20/391)
الله فجلس عند شريك وأطال، فلما رأى شريك أن مسلما لا يخرج خشى أن يفوته، فأخذ يقول: «ما تنظرون بسلمى أن تحيّوها! اسقونيها [1] وإن كانت فيها نفسى!» يقول ذلك مرّتين أو ثلاثا، فقال عبيد الله: «ما شأنه؟ ترونه يخلط!» فقال هانئ: «نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتّى ساعته هذه» . فانصرف.
وخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: «أمران:
أحدهما كراهية هانئ أن يقتل فى منزله، والثانى حديث
حدّثه علىّ [2] رضى الله عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمان قيد [3] الفتك فلا يفتك مؤمن»
. فقال هانئ: لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا!.
ومات شريك بعد ذلك بثلاث، فصلّى عليه عبيد الله، فلمّا علم أنه كان يحرّض مسلما على قتله قال: والله لا أصلّى على جنازة عراقى أبدا!.
قال: وكان عبيد الله بن زياد قد أعطى مولى [4] له ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتلطّف فى الدخول على مسلم بن عقيل وأصحابه،
__________
[1] كذا جاء فى لأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 271 «اسقنيها» .
[2] ورواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبى هريرة والزبير ومعاوية.
[3] كذا جاء ضبطه فى بعض كتب الحديث، وضبط فى مدة (ف ت ك) من نسخ النهاية لابن الأثير «قيد» بتشديد الياء مفتوحة، وجاء فى مادة (ق ى د) من النهاية: «قيد الإيمان الفتك، أى أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدا ومنه قولهم فى صفة الفرس: هو قيد الأوابد» ، وكذلك جاء فى لسان العرب. ويرى بعض العلماء أن الحديث «الإيمان قيد الفتك» أحسن من قول امرىء القيس «قيد الأوابد» انظر فيض القدير ج 3 ص 186، والفتك: أن يقتل الرجل جهارا آمنا غافلا.
[4] اسمه «عقيل» .(20/392)
[وقال] [1] : أعطهم هذا المال وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم.
ففعل، وأتى مسلم بن عوسجة الأسدىّ [2] فقال له: «يا عبد الله، إنى امرؤ من أهل الشام، أنعم الله علىّ بحبّ أهل البيت، وهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغنى أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت نفرا يقولون:
إنك تعرف أمر هذا البيت، وإنى أتيتك ليقبض المال وتدخلنى على صاحبك أبايعه، وإن شئت أخذت بيعتى له قبل لقائه» .
فقال: «لقد سرّنى لقاؤك إيّاى لتنال الذى تحبّ، وينصر الله بك أهل [بيت نبيه] [3] وقد ساءنى معرفة الناس هذا الأمر من قبل أن يتم، مخافة هذا الطاغية وسطوته» فأخذ بيعته ولمواثيق المعظمة ليناصحنّ وليكتمنّ.
واختلف إليه أيّاما، حتى أدخله على مسلم بن عقيل، فأخذ بيعته وقبض ماله، وذلك بعد موت شريك، وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم وينقلها إلى ابن زياد.
وكان هانئ قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض، فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث وابن أسماء [4] بن خارجة، وعمر بن الحجاج الزّبيدىّ، فسألهم عن هانئ وانقطاعه، فقالوا إنه مريض. قال:
__________
[1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] زاد الطبرى وابن الأثير «بالمسجد» .
[3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .
[4] ابن أسماء هو حسان بن أسماء بن خارجة، كما يأتى قريبا، وفى تاريخ الطبرى والكامل:
«وأسماء» .(20/393)
بلغنى أنه يجلس على باب داره وقد برئ، فأتوه فمروه لا يدع ما عليه فى ذلك [من الحق] [1] .
فأتوه فقالوا له: «الأمير قد سأل عنك، وقال: لو أعلم أنه شاك لعدته، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك، وقد استبطأك، والجفا لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبت معنا» . ففعل فلما دنا من القصر أحسّت نفسه بالشر، فقال لحسّان بن أسماء ابن خارجة: يابن أخى إنى لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ فقال ما أتخوف عليك شيئا، فلا تجعل على نفسك سبيلا، ولا يعلم أسماء [2] مما كان شيئا.
قال: فدخل القوم على ابن زياد، فلما رأى هانىء بن عروة قال لشريح القاضى: أتتك بحائن رجلاه [3] . فلما دنا منه قال عبيد الله [4] :
اريد حياته [5] ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 272.
[2] كذا جاء هنا مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وانظر ما سبق قريبا.
[3] «أتتك بحائن رجلاه» مثل عربى قديم، قيل: قائله عبيد بن الأبرص الأسدى إذ مر بالنعمان بن المنذر فى يوم بؤسه فقال له النعمان: ما جاء بك يا عبيد؟ قال: أتتك بحائن رجلاه.
وقيل: قائله الحارث ابن جبلة، إذ هجاه الحارث بن عيف العبدى ثم وقع فى أسره. انظر الفاخر ص 250- 251 ومجمع الأمثال ج 1 ص 23 وقال صاحب لسان العرب: حان الرحل:
هلك، وفى المثل «أتتك بحائن رجلاه» والأولى أن يفسر «الحائن بالذى قدر حينه، أى هلاكه، كما ذكر الميدانى فى شرح المثل «لا يملك الحائن حينه» ج 2 ص 177.
[4] قال عبيد الله بن زياد هذا البيت متمثلا به، وقد تمثل به على بن أبى طالب من قبل، والبيت من قصيدة لعمرو بن معد يكرب وقد سبق بيان ذلك.
[5] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 272 «حباءه» ، وفى الكامل ج 3 ص 270 «حياته» وانظر ما سبق.(20/394)
فقال له هانئ وما ذاك؟ فذكر له خبر مسلم بن عقيل، وأنه فى داره، فأنكر ذلك، وطال بينهما النزاع، فاستدعى عبيد الله مولاه الذى كان يأتيهم، فجاء فوقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا فقال نعم. وعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط فى يده ساعة، ثم راجعته نفسه فقال: «اسمع منى وصدقنى، فو الله لا أكذبك، والله ما دعوته ولا علمت بشىء من أمره حتى رأيته [جالسا] [1] على بابى يسألنى النزول علىّ، فاستحييت من ردّه ودخلنى من ذلك ذمام، فأدخلته دارى وضفته، وقد كان من أمره الذى بلغك، فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن إليه، ورهينة تكون فى يدك حتّى أنطلق وأخرجه من دارى وأعود إليك» فقال: لا والله لا تفارقنى أبدا حتّى تأتينى به. قال: لا آتيك بضيفى لتقتله أبدا، فقال ابن زياد: والله لتأتينّى به أو لأضربنّ عنقك. قال إذا والله تكثر البارقة [2] حول دارك. فقال: أبالبارقة تخوفنى؟!.
وقيل إن هانئا لما رأى ذلك اللعين قال: أيها الأمير إنه قد كان الذى بلغك، ولم أضيع يدك عندى، فأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت، فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران [3] قائم على رأسه، فقال وا ذلاه! هذا الحائك يؤمنك فى سلطانك! فقال: خذه، فأخذ مهران ضفيرتى هانئ، وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخديه حتى كسر أنفه، وسيّل الدّماء على ثيابه، ونثر لحم
__________
[1] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[2] البارقة: السيوف.
[3] مهران الترجمان كان له تأثير فى عبيد الله بن زياد.(20/395)
خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطى وجبذه فمنع منه، فقال عبيد الله: أحرورى [1] ! أحللت بنفسك وحل لنا قتلك، ثم أمر به فألقى فى بيت وأغلق، فقام إليه أسماء بن خارجة وقال: «يا غادر أرسله؛ أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه، وسيّلت دمه، وزعمت أنك تقتله» . فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع [2] ثم ترك فجلس [3] .
وأما ابن الأشعث فقال: رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أو علينا.
وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل، فأقبل [فى [4]] مذحج حتّى أحاطوا بالقصر، ونادى: «أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة، ولم نفارق جماعة. فقال ابن زياد لشريح القاضى: «ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حى [لم يقتل وأنك قد رأيته [5]] فدخل عليه، وخرج إليهم فقال. قد نظرت إلى صاحبكم وأنه حىّ لم يقتله، فقالوا: إذ لم يقتله فالحمد لله، ثم انصرفوا.
__________
[1] نص لفظ عبيد الله «أهرورى» بالهاء بدلا من الحاء، كما ذكره الجاحظ فى البيان والتبين ج 1 ص 72 وذكر فى مواضع من هذا الكتاب وابن قتيبة فى المعارف أن عبيد الله كان خطيبا على لكنة كانت فيه، لأنه نشأ فى الأساورة- وهم قوم من العجم نزلوا البصرة قديما- مع أمه مرجانة، وكان زياد قد زوجها من شيرويه الأسوارى ودفع إليها عبيد الله.
[2] اللهز: الدفع والضرب. والتعتعة: التحريك بعنف.
[3] كذا جاء فى لأصل موافقا لما فى الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «فحبس» .
ومما يذكر أن عبد الله بن زياد تزوج هند بنت أسماء بن خارجة كما فى الأغانى ج 18 ص 128.
[4] ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 274.(20/396)
ذكر ظهور مسلم بن عقيل
واجتماع الناس عليه، ومحاصرته عبيد الله بن زياد بالقصر وكيف خذله من اجتمع إليه وتفرقوا عنه وخبر مقتله ومقتل هانئ بن عروة قال [1] : ولما أتى الخبر مسلم بن عقيل خرج من دار هانئ، ونادى فى أصحابه: «يا منصور أمت» [2] وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا، وحوله فى الدور أربعة آلاف، فاجتمع إليه ناس كثير، فعقد لعبد الله بن عزير الكندىّ على ربع كندة، وقال: سر أمامى. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد، وعقد لأبى ثمامة الصائدىّ على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلىّ على ربع المدينة، وأقبل نحو القصر.
فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز بالقصر وأغلق الباب، وأحاط مسلم بالقصر، وامتلأ المسجد والسوق بالناس، وما زالوا يجتمعون حتّى المساء، وضاق بعبد الله أمره، وليس معه فى القصر الإثلاثون رجلا من الشّرط، وعشرون من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون [ابن زياد] [3] من قبل الباب الذى يلى دار الروميين، والناس يسبون ابن زياد وأباه.
فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثى، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع راية
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 271.
[2] كان هذا شعارهم.
[3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 276.(20/397)
الأمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذّهلى، وشبث بن ربعى التميمى، وحجّار بن أبحر العجلى، وشمر بن ذى جوشن الضبابىّ [1] وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم، لقلة من معه.
وخرج أولئك النفر على الناس من القصر، فمنوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم تفرقوا، حتّى إن المرأة لتأتى ابنها وأخاها، فتقول: «انصرف، الناس يكفونك» ، ويفعل الرجل مثل ذلك.
فما زالوا يتفرقون حتى بقى مسلم بن عقيل فى المسجد فى ثلاثين رحلا [2] ، فلما رأى ذلك خرج نحو أبواب كندة، فلما وصل إلى الباب لم يبق معه أحد، فمضى فى أزقّة الكوفة لا بدرى أين يذهب.
فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة (أم ولد كانت للأشعث، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمىّ، فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس، وهى تنتظره) فسلّم عليها، وطلب منها ماء فسقته، فجلس، فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟! قال: بلى؛ فقالت، فاذهب إلى أهلك؛ فسكت، فكررت ذلك عليه ثلاثا فلم يبرح؛ فقالت: سبحان الله! إنى لا أحلّ لك الجلوس على بابى. فقال: ليس لى فى هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك فى أجر معروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. قالت وما ذاك؟ قال:
__________
[1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «العامرى» .
[2] هم الذين صلوا معه لمغرب.(20/398)
أنا مسلم بن عقيل، كذبنى هؤلاء القوم وغرّونى. قالت: ادخل؛ فأدخلته بيتا فى دارها [غير البيت الذى تكون فيه] [1] وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول فى ذلك البيت، فسألها، فلم تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته، واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك.
قال [2] : وأمّا ابن زياد، فلما سكنت [3] الأصوات قال لأصحابه:
انظروا هل ترون منهم أحدا؟ فنظروا فلم يروا أحدا، فنزل إلى المسجد قبل العتمة [4] ، وأجلس أصحابه حول المنبر، وأمر فنودى:
«برئت الذمة من رجل من الشّرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلّى العتمة [5] إلا فى المسجد، فامتلأ المسجد، فصلّى بالناس، ثم قام فحمد ثم قال: «أمّا بعد، فإن ابن عقيل السّفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشّقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن أتانا به فله ديته» وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين ابن تميم أن يمسك أبواب السكك، ثم يفتش الدّور.
وأصبح ابن زياد فجلس، فأتى بلال إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث وأخبره بمكان ابن عقيل، فأتى عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد فسارّه بذلك، فأخبر محمد ابن الأشعث ابن زياد، فقال له: قم فأتنى به الساعة؛ وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 278.
[2] ابن الأثير فى الكامل ج 4 ص 272.
[3] كذا جاء بالنون فى النسخة (ك) ، وجاء «سكتت» بالتاءين فى النسخة (ن) .
[4] عتمة الليل: ظمته.
[5] كانت الأعراب يسمون صلاة العشاء «صلاة العتمة» تسمية بالوقت.(20/399)
السّلمى فى سبعين من قيس، فأتوا الدار، فخرج ابن عقيل إليهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا، وضربه بكر بن حمران الأحمرىّ فقطع شفته العليا وسقط سنّتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنّى بأخرى على حبل العاتق فكادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت، وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى القصب ويلقونها عليه، فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم فى السكة، فقال له محمد بن الأشعث.
لك الأمان فلا تقتل نفسك؛ فأقبل يقاتلهم ويقول:
أقسمت لا أقتل إلّا حرّا ... وإن رأيت الموت شيئا نكرا
ويخلط البارد سخنا مرا ... رد شعاع النفس مستقرّا [1]
كلّ امرىء يوما ملاق شرّا ... أخاف أن أكذب أو أغرّا
فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وكان قد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال، وأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فأمّنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السّلمى فإنه قال: لا ناقتى فيها ولا جملى [2] .
وأتى ببغلة فحمل عليها، وانتزعوا سيفه، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عيناه وقال: هذا أول الغدر. قال محمد: أرجو ألا يكون عليك بأس.
قال: وما هو إلا الرجاء! أين أمانكم! ثم بكى، فقال له عمرو بن عبيد الله:
__________
[1] كذا جاء فى الأصل، وجاء عند الطبرى وابن الأثير: «رد شعاع الشمس فاستقرا» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «لا ناقة له فى هذا ولا جمل» .(20/400)
من يطلب الذى تطلب إذا نزل به مثل الذى نزل بك لم يبك، فقال:
ما أبكى لنفسى، ولكن أبكى لأهلى المنقلبين إليكم: أبكى للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث: «إنى أراك تعجز [1] عن أمانى، فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالى، ويقول له عنى: ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذى كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟» فقال ابن الأشعث: والله لأفعلنّ. وفعل [2] وأبى الحسين الرجوع.
قال: وجاء محمد بمسلم إلى القصر فأجلسه على بابه [3] ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه، فقال له: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به.
قال: ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرّة فيها ماء بارد فقال اسقونى من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو الباهلى:
أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم فى نار جهنّم! فقال له ابن عقيل: من أنت؟ قال: «أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح الأمة وإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأمك الثّكل،
__________
[1] عند الطبرى وابن الأثير: «ستعجز» .
[2] دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائى، من بنى مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرا، وكان لمحمد زوارا، فقال له محمد: الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فى الكتاب ما أمره به مسلم بن عقيل، وأعطى لرسوله إياس زاده وجهازه وراحلته ومتعة لعياله، فخرج الرسول ومضى أربع ليال حتى استقبل الحسين بموضع يسمى «زبالة» ، فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له الحسين: كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.. وانظر ما سيأتى
[3] وكان على باب القصر أناس ينتظرون الإذن، منهم مسلم بن عمرو وعمارة بن عقبة ابن أبى معيط وعمرو بن حريث وكثير بن شهاب.(20/401)
ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود فى نار جهنم منى!» قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصبّ له فى قدح، فأخذ يشرب فامتلأ القدح دما: فعل ذلك ثلاثا، ثم قال: لو كان من الرّزق المقسوم لشربته.
وأدخل على ابن زياد، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسى:
ألا تسلّم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلى فما سلامى عليه! وإن كان لا يريده فليكثرنّ تسليمى عليه. فقال ابن زياد: لعمرى لتقتلنّ. قال: فدعنى أوصى إلى بعض قومى. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبى وقّاص: «إن بينى وبينك قرابة، ولى إليك حاجة وهى سر» . فلم يمكنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك. فقام معه، فقال: «إن علىّ بالكوفة دينا استدنته [1] أنفقته: سبعمائة درهم، فاقضها عنّى، وانظر جثّتى فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين فاردده» . فقال عمر لابن زياد: أتدرى ما سارّنى؟ فقال: أكثرتم على ابن عمك؛ فقال: الأمر أكبر من هذا.
قال: اكتم على ابن عمك: قال الأمر أكبر من هذا، وأخبره بما قال.
فقال ابن زياد لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن. أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده:
وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأمّا جشّته فإنا لا نشفّعك فيها» وقيل:
إنه قال: وأمّا جثته فإذا قتلناه لا نبالى ما صنع بها.
ثم قال: يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة
__________
[1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 282: «استدنته منذ قدمت الكوفة» .(20/402)
لتشتيت بينهم، وتفريق كلمتهم. قال: «كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال وما أنت وذاك؟ ثم كانت بينهما مقاولة قال له ابن زياد فى آخرتها:
قتلنى الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام، فقال: «أما إنك أحقّ من أحدث فى الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السّيرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحقّ بها منك!» فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليّا وعقيلا ولم يكلّمه مسلم.
ثم أمر به، فأصعد فوق القصر وهو يستغفر الله تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين [1] فضربت عنقه، وكان الذى قتله بكير بن حمران، ثم أتبع رأسه جسده.
قال وقام محمد بن الأشعث فكلّم ابن زياد فى هانئ بن عروة، وقال قد عرفت منزلته من المصر وبيته، وقد علم قومه أنى أنا وصاحبى.
سقناه إليك، فأنشدك الله لمّا وهبته، فإنى أكره عداوة قومه!» فوعد أن يفعل، ثم بدا له فأمر به حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه.
وبعث عبيد الله بن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره، ويقول له: «قد بلغنى أن الحسين بن علىّ توجه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التّهمة، وخذ بالظّنّة، غير ألّا تقتل إلا من قاتلك» .
__________
[1] جاء فى تاريخ الطبرى: «أشرف به على موضع الجزارين اليوم» .(20/403)
قال: وكان مخرج [مسلم بن [1]] عقيل بالكوفة [2] لثمان ليال مضين من ذى الحجّة سنة ستين. وقيل: لتسع [3] مضين منه.
وكان فيمن خرج معه المختار [4] بن أبى عبيد، وعبد الله [5] بن الحارث بن نوفل، وطلبهما ابن زياد وحبسهما.
وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث، وشبث بن ربعىّ- وهو أحد من كتب إلى الحسين- والقعقاع بن شور، وجعل شبث يقول: انتظروا بهم إلى [6] الليل يتفرقوا. فقال له القعقاع: إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم، فافرج لهم يتفرقوا.
وحج بالناس فى هذه السنة عمرو بن سعيد الأشدق، وهو عامل مكة والمدينة. وفيها مات أبو أسيد الساعدى [7] ، واسمه مالك ابن ربيعة، وهو آخر من مات من البدريّين [8] ، وقيل: مات سنة خمس وستين. ومات حكيم بن حزام [9] وله مائة وعشرون سنة، ستون
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[2] يوم الثلاثاء.
[3] يوم الأربعاء.
[4] خرج المختار براية خضراء.
[5] خرج عبد الله براية حمراء وعليه ثياب حمر.
[6] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «انتظروا بهم الليل» .
[7] ينتهى نسبه إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكان مشهورا بكنيته.
[8] شهد بدرا وأحدا وما بعدهما، وكانت معه راية بنى ساعدة يوم الفتح.
[9] حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى هو بن أخى خديجة بنت خويلد زوجة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حكيم من سادات قريش، وكان صديق النبى قبل المبعث، وكان يوده بعد المبعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وقد جاء الإسلام وفى يد حكيم الرفادة.(20/404)
فى الجاهلية وستون فى الإسلام. ومات جماعة ممن لهم صحبة فى هذه السنة.
سنة أحدى وستين ذكر مسير [1] الحسين بن على رضى الله عنهما وخبر من نهاه عن المسير
كان مقتله بالطّف على شاطئ الفرات من أرض كربلاء، وذلك فى يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم من هذه السنة.
ولنبدأ بخبر مسيره من مكة شرّفها الله تعالى، وسبب مسيره ومن أشار عليه بالمقام بمكة وترك المسير إلى الكوفة، ثم نذكر ما كان من خبره فى مسيره إلى أن قتل رضى الله عنه، فنقول:
كان مسيره من مكّة لقصد الكوفة يوم التّروية، وكان سبب مسيره إلى الكوفة ما ورد عليه من كتب أهلها كما تقدم، ثم أكّد ذلك عنده وحمله عليه وقوّى عزمه ورود كتاب مسلم بن عقيل بن أبى طالب عليه يخبره أنه بايعه بالكوفة ثمانية عشر ألفا، ويستحثّه على المسير إليها، وكان هذا من مسلم فى ابتداء أمره [3] .
__________
[1] ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 146 ممن توفى فى هذه السنة صفوان بن المعطل الصحابى، وأبو مسلم الخولانى عبد بن ثوب ببلاد اليمن وهو الذى دعاه الأسود العنسى إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال: لا أسمع أشهد أن محمدا رسول الله، ويقال: إنه توفى فيها النعمان ابن بشير والأظهر أنه مات بعد ذلك ... وذكر بن العماد فى شذرات الذهب ج 1 ص 65 ممن توفى فى هذه السنة عمرة بن جندب الفزارى وعبد الله بن مغفل المزنى وبلال بن الحارث المزنى.
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «مقدم» .
[3] كان مسلم بن عقيل حيث ذهب فى أول أمره بالكوفة إلى دار هانىء بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا أرسل إلى الحسين مع عابس بن أبى شهيب الشاكرى كتابا كتب فيه: «أما بعد إن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعنى من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابى، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم فى آل معاوية رأى ولا هوى، والسلام» ، وانظر ما سيأتى.(20/405)
قال [1] : ولما عزم الحسين رضى الله عنه على المسير إلى الكوفة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: «إنى أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنك تستنصحنى قلتها وأدّيت ما على من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى كففت عمّا أريد!» فقال له: قل فو الله ما أستغشك ولا أظنك بشىء من [2] الهوى. قال: «قد بلغنى أنك تريد العراق، وإنى مشفق عليك أنك تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممّن يقاتلك معه!» فقال له الحسين رضى الله عنه:
جزاك الله خيرا يا ابن عمّ، فقد علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندى أحمد مشير، وأنصح ناصح.
وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع فقال له: قد أجمعت السير فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: «فإنى أعيذك بالله من ذلك؛ خبّرنى رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله تجبى بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 275.
[2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 287: «ما أظنك بسيىء الرأى ولا هوى القبيح من الفعل» .(20/406)
أشدّ الناس عليك!» فقال الحسين: فإنى أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس.
وأتاه عبد الله بن الزّبير فحدّثه ساعة، ثم قال: «ما أدرى ما تركنا هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم؛ خبّرنى ما تريد أن تصنع؟!» فقال الحسين: «لقد حدّثت نفسى بإتيانى الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتى بها، وأشراف الناس وأستخير الله» . فقال ابن الزبير: أما إنه لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت عنها. ثم خشى أن يتهمه، فقال أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحناك. فقال له الحسين رضى الله عنه: «إن ابى حدثنى أن لها كبشا به تستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون [1] ذلك الكبش!» قال: فأقم إن شئت وتولينى أنا الأمر فتطاع ولا تعصى، قال:
ولا أريد هذا الأمر أيضا. ثم إنهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال: فإنه يقول قم فى هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين: «والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر، ويم الله، لو كنت فى جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجونى حتى يقضوا فىّ حاجتهم، والله ليعتدنّ [على [2]] كما اعتدت اليهود فى السّبت!» فقام ابن الزّبير وخرج من عنده.
__________
[1] جاء عند الطبرى وابن الأثير: «أكون أنا» .
[2] الزيادة من الطبرى وابن الأثير.(20/407)
فلما كان من العشىّ أو من الغد أتاه ابن عبّاس فقال: «يا ابن عم، إنى أتصبر ولا أصبر، إنى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر [1] فلا تنفر إليهم [2] ، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم لينفوا عاملهم وعدوّهم، ثم قدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهى أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت على الناس فى [3] عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنى أرجو أن يأتيك عند ذلك الذى تحبّ فى عافية!» فقال له الحسين: «يا ابن عم، إنى والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!» فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك، فإنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!» ثم قال له ابن عباس: «لقد أقررت عين ابن الزّبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتنى فأقمت لفعلت ذلك!» . ثم خرج من عنده.
فمرّ بابن الزّبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثم قال [4] :
__________
[1] كذا يجىء على الوصف، ويجوز أن يكون «غدر» بفتح الغين وسكون الدال مصدرا مضافا إليه.
[2] أى: فلا تسرع إليهم، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل: «فلا تقربنهم»
[3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى البداية والنهاية ج 8 ص 160 «وكن عن الناس فى معزل» وجاء فى مروج الذهب ج 2 ص 86 «فإنها فى عزلة» .
[4] أى: قال هذا الرجز القديم متمثلا به، كما تمثل به قيس بن سعد فى قوله لمعاوية أبن أبى سفيان: «فدونك أمرك يا معاوية، فإن مثلك كما قال الشاعر: يا لك من قبرة بمصر ... »
أنظر العقد الفريد ج 4 ص 340.(20/408)
يا لك من قبّرة بمعمر [1] ... خلا لك الجوّ فبيضى واصفرى [2]
ونقّرى ما شئت أن تنقرى [3]
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز.
قال وخرج حسين من مكة يوم التّروية [4] ، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وسار فمر بالتنعيم [5] فرأى عيرا قد أقبلت من اليمن، بعث بها بحير
__________
[1] القبرة: طائر صغير. والمعمر: المكان الواسع من جهة الماء والكلأ ينزل فيه النازلون فيعمرونه.
[2] «خلالك الجو فبيضى واصفرى» مثل يضرب فى الحاجة يتمكن منها صاحبها، كما ذكره الميدانى فى مجمع الأمثال ج 1 ص 249، وذكر بن عبد ربه فى العقد الفريد ج 3 ص 126- 127 أن هذا المثل يقال فى «الرجل يخلو بحاجته» .
[3] نقر الطائر فى الموضع: سهله ليبيض فيه، وقيل: التنقير مثل الصفير.. وقد زاد ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 160، ص 165 فى التمثل بهذا الرجز مشطور رابعا:
«صيادك اليوم قتيل فابشرى» والمعروف فى رواية الرجز القديم: «قد رحل الصياد عنك فابشرى» .. والمشهور أن قائل هذا الرجز هو طرفة بن العبد الشاعر، كما فى الحيوان ج 3 ص 66، ج 5 ص 227 والفاخر ص 189- 190 والصحاح (ع م ر، ق ب ر) ومجمع الأمثال وحياة الحيوان، وذلك أن طرفة كان وهو صبى صغير مسافرا مع عمه فنزلا على ماء عليه قبرات، فنصب طرفة فخالها، فنفرت، وقعد عامة يومه فلم يصد شيئا، فانتزع فخه من التراب وحمله وارتحل مع عمه والتفت وراءه فرأى القبرات يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال هذا الرجز ... وذكر ابن برى فى حواشيه على الصحاح أن هذا الرجز لكليب بن ربيعة التغلبى، وليس لطرفه كما ذكر الجوهرى، وذلك أن كليبا خرج يوما فى حماه، فإذا هو بقبرة على بيضها، فلما نظرت إليه صرصرت وخفقت بجناحيها، فقال لها: أمن روعك أنت وبيضك فى ذمتى، ثم دخلت ناقة البسوس إلى الحمى فكسرت البيض، فرماها كليب فى ضرعها، فهاجت حرب بكر وتغلب ابنى وائل بسببها أربعين سنة، انظر لسان العرب فى (ب ر) وفى (ع م ر، ن ق ر)
[4] يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذى الحجة، سمى به لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء وينهضون إلى منى.
[5] التنعيم: موضع قريب من مكة فى الحل، على فرسخين منها.(20/409)
ابن ريسان الحميرى عامل اليمن إلى يزيد، وعليها الورس [1] والحلل، فأخذها الحسين ثم سار، فلما انتهى إلى الصّفاح [2] لقيه الفرزدق الشاعر [3] فقال له الحسين: بين لى خبر الناس خلفك فقال: «الخبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء!» فقال الحسين صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء، وربّنا كل يوم فى شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، هو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد [4] من كان الحق نيته، والتقوى سريرته.
قال وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يقول: «أمّا بعد، فإنى أسألك بالله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابى هذا فإنى مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الآن طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنى فى إثر كتابى، والسلام!» .
وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد وقال: «اكتب للحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البرّ والصّلة، وترفق
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وجاء فى النسخة (ك) : «الوشى» .
والورس: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- والوشى: نوع من الثياب المنقوشة.
[2] الصفاح: موضع بين حنين ومكة.
[3] كان الفرزدق يحج بأمه ويسوق بعيرها، فلقى الحسين خارجا من مكة، فسأله الحسين:
ممن أنت؟ قال: الفرزدق: امرؤ من العراق، فقال له الحسين: بين لى ... الخ.
[4] عند الطبرى وابن الأثير: «فلم يعتد» .(20/410)
فى كتابك، وتسأله [1] الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال له عمرو اكتب ما شئت، وأتنى به حتى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمر بن سعيد: فقال: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى فإنه أحرى أن تطمئن به نفسه، ويعلم أنه الجدّ منك ففعل.
وكان مضمون الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن على، أما بعد، فإنى أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك. بلغنى أنك قد توجهت إلى العراق، وإنى أعيذك بالله من الشّقاق، فإنى أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله ابن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلىّ معهما، فإن لك عندى الأمان والصلة والبر وحسن الجوار، لك الله علىّ بذلك شهيد وكفيل، وراع ووكيل، والسلام عليك» .
فأخذا الكتاب ولحقا حسينا، فأقرأه يحيى الكتاب. وكان ممّا اعتذر به أن قال: إنى رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت بأمر أنا ماض له، فقالا له: ما تلك الرؤيا؟
قال: ما حدّثت أحدا بها ولا أنا محدّث أحدا بها حتّى ألقى ربّى.
وكتب الحسين إلى عمرو بن سعيد: «أمّا بعد، فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن بالله يوم القيامة من لم يخفه فى الدنيا، فنسأل الله مخافة فى
__________
[1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 291، وجاء فى الكامل ج 3 ص 277:
«وأسأله» .(20/411)
الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتى وبرى فجزيت خيرا فى الدنيا والآخرة، والسلام» .
قال [1] : ولمّا بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين ابن نمير [2] التّميمى صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفّان [3] ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع.
وأقبل الحسين حتى إذا بلغ الحاجز من بطن الرّمة بعث قيس بن مسهر الأسدىّ ثم الصّيداوى إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو.
أمّا بعد؛ فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءنى يخبرنى فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يشيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذى الحجّة يوم التّروية، فإذا قدم عليكم رسولى فانكمشوا [4] فى أمركم وجدوا، فإنى قادم عليكم فى أيامى هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله» .
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «تميم» ، والذى فى جمهرة أنساب العرب ص 403 أنه الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن الحارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، وسيأتى وصفه بالسكونى.
[3] خفان: موضع فوق القادسية، وهو وما بعده مواضع بين الكوفة ومكة.
[4] انكمشوا: تشمروا.(20/412)
وكان مسلم بن عقيل قد كتب إلى الحسين قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، أمّا بعد؛ فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع [1] أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابى والسلام.
قال: وأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين إلى أهل الكوفة، فلما بلغ القادسية أخذه الحصين بن نمير [2] فبعث به إلى ابن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد [القصر] [3] فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن على. فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن هذا الحسين بن علىّ رضى الله عنهما خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه» ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلىّ، فأمر به عبيد الله فرمى من فوق القصر فتقطع فمات.
قال [4] : ثم أقبل الحسين رضى الله عنه يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوىّ فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبى أنت وأمى يا ابن رسول الله، ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله فقال له الحسين: إنه كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلىّ أهل العراق يدعوننى إلى أنفسهم. فقال: «أذكرك بالله [5] يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله
__________
[1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 297 «جمع» ، وانظر ما سبق.
[2] انظر ما سبق قريبا، وفى المخطوطة «تميم» .
[3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى.
[4] ابن الأثير فى الكامل، وأصله عند الطبرى.
[5] عند الطبرى وابن الأثير: «أذكرك الله» .(20/413)
فى حرمة قريش [1] ، أنشدك الله فى حرمة العرب، فو الله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعد أحدا أبدا، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبنى أمية!» فأبى إلّا أن يمضى.
فلما نزل بزرود [2] أتاه الخبر بقتل مسلم ابن عقيل وهانئ ابن عروة، فاسترجع [3] مرارا، فقال له عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعلّ الأسديان، وكانا قد لحقاه حين قضيا حجهما: «ننشدك الله فى نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!» فوثب بنو عقيل فقالوا لا: والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. فقال الحسين رضى الله عنه: لا خير فى العيش بعد هؤلاء، فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فانتظر الحسين حتى إذا كان السّحر قال لفتيانة وغلمانه: أكثروا من الماء. فاستقوا فأكثروا، ثم ارتحلوا حتّى انتهوا إلى زبالة [4] .
وقيل: كان الحسين لا يمرّ بماء إلا اتبعه أهل ذلك الماء، حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرّضاعة عبد الله بن بقطر،
__________
[1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
[2] قال ياقوت: «لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التى تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفه» .
[3] استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[4] زبالة: موضع معروف بطريق مكة من الكوفة.(20/414)
وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه أصيب فأخذه الحصين بالقادسية، فبعث به إلى زياد فقال له: اصعد فوق القصر فالعن الكذابّ ابن الكذّاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيى، فصعد فلما أشرف على الناس قال: «أيها الناس، إنى رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدّعى!» فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه وبقى به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمى [1] فذبحه، فلمّا عيب عليه ذلك قال: إنما أردت أن أريحه.
فلمّا بلغ الحسين الخبر قال لأصحابه: من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه منا ذمام؛ فتفرق الناس عنه حتى بقى فى أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة.
قال: وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنت أنه يأتى بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فأراد أن يعلموا علام يقدمون.
قال ثم ارتحل الحسين وسار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها، فأتاه بعض الأعراب فسأله عن مقصده فأخبره، قال: «إنّى أنشدك الله لمّا انصرفت، فو الله ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّئوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التى تذكر فإنى
__________
[1] قال بعض العلماء: لم يكن الذى ذبحه عبد الملك بن عمير، ولكنه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك.(20/415)
لا أرى لك أن تفعل!» فقال الحسين: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علىّ ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره!.
ثم ارتحل منها وقد استهلّت إحدى وستين، وسار حتّى نزل شراف [1] فلما كان فى السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا، ثم ساروا منها صدر يومهم حتّى انتصف النهار، فكبّر رجل من أصحابه فكبر الحسين، وقال: ممّ كبّرت؟ قال: رأيت النخل، فقال عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعل الأسديان: والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط، قال: فما تريان. قالا: نراه والله [رأى] [2] هوادى [3] الخيل. فقال الحسين: وأنا والله أرى ذلك، ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقيل له:
«بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت هوداى الخيل، فلما رأوهم قد عدلوا عن الطريق عدلوا عنها إلى قصدهم، فسبق الحسين إلى ذى حسم، فنزل وأمر بأبنية [4] فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس عليهم الحرّ بن يزيد التميمى، فجاءوا حتى وقفوا مقابل الحسين رضى الله عنه: وكان مسير الحر ومن معه من القادسية من قبل الحصين بن نمير [5] التميمى.
__________
[1] شراف: موضع بعد العقبة وواقصة وقبل القرعاء فى الطريق من مكة إلى الكوفة.
[2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 302.
[3] هوادى الخيل: أوائلها، والهادى والهداية: العنق، لأنها تتقدم على البدن ولأنها تهدى البدن.
[4] أبنية: جمع بناء، وهو ما يسكنه الناس، فيطلق على ما يضربه العرب فى الصحراء من خيمة وغيرها.
[5] كذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 279: «نمير» وجاء فى المخطوطة:
«تميم» وانظر ما سبق.(20/416)
فلم يزل الحرّ مواقفا حسينا حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفى أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامه خرج الحسين رضى الله عنه، فى إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيّها الناس، معذرة إلى الله وإليكم، إنى لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت على رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، إن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطونى ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمى كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى أقبلت منه إليكم» فسكتوا عنه، وقال للمؤذن: أقم.
فأقام الصلاة، فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلى بأصحابك؟ فقال:
لا، بل صلّ أنت ونصلى بصلاتك، فصلّى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه.
وانصرف الحر فدخل خيمة قد ضربت له، واجتمع عليه جماعة من أصحابه، وعاد بعض أصحابه إلى صفّهم الذى كانوا فيه، ثم أخذ كل رجل بعنان دابته وجلس فى طلبها.
فلما كان وقت العصر أمر الحسين أصحابه أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا، ثم خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، وصلى الحسين بالقوم جميعا، ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتنى به(20/417)
كتبكم، وقدمت علىّ به رسلكم، انصرفت عنكم» ، فقال له الحر:
إنّا والله ما ندرى ما هذه الكتب والرسل التى تذكر. فأمر الحسين رضى الله عنه بإخراج كتبهم، فأخرجت فى خرجين مملوءين، فنثرهما بين أيديهم، فقال الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لقومه: قوموا فاركبوا، وركب نساؤهم.
فلما أرادوا الانصراف حال القوم بينهم وبين المسير، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال له: «أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التى عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه» ، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: إذا والله لا أتبعك فقال الحر:
إذا والله لا أدعك. فترادّا القول ثلاث مرات، فلما كثر الكلام بينهما قال الحر: «إنى لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة يكون بينى وبينك نصفا، حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله إن شئت، فلعل الله أن يرزقنى العافية من أن أبتلى بشىء من أمرك!» قال:
فتياسرعن [1] طريق العذيب والقادسية، وبينه حينئذ وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا. ثم سار والحرّ يسايره.
__________
[1] عبارة الطبرى: «قال: فخذ من ههنا فتياسر ... » .(20/418)
قال [1] :
ثم إن الحسين خطبهم [2] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى سلطانا جائرا، مستحلّا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمل فى عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقّا على الله أن يدخله مدخله»
. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفىء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيرى [3] ، وقد أتتنى كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونى ولا تخذلونى، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسى مع أنفسكم، وأهلى مع أهلكم، فلكم بى أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدى وخلعتم بيعتى فلعمرى ما هى لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبى وأخى وابن عمى مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغنى الله عنكم، والسلام.
فقال له الحر: إنى أذكّرك الله فى نفسك، فإنى أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين رضى الله عنه: أبالموت تخوّفنى؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلونى! وما أدرى ما أقول لك؟! ولكنى أقول
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 280.
[2] أى: خطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد التميمى بالبيضة.
[3] الزيادة من تاريخ الطبرى.(20/419)
كما قال أخو الأوس لابن عمه، [لقيه] [1] وهو يريد نصرة النبى صلى الله عليه وسلم، [له] [2] فقال أين تذهب فإنك مقتول؟! فقال:
سأمضى وما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم ... كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما
قال: فلما سمع الحرّ ذلك تنحى عنه، فكان يسير ناحية عنه، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات [3] ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطّرمّاح وهو يقول:
يا ناقتا لا تذعرى من زجرى ... وشمّرى قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر ... حتّى تجلّى بكريم النحر
الماجد الحر رحيب الصّدر ... أتى به الله لخير الأمر
ثمّت أبقاه بقاء للدهر فلما انتهوا إلى الحسين رضى الله عنه والتحقوا به، فقال الحر: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبلوا معك، وأنا حابسهم أو رادّهم؛ فقال الحسين رضى الله عنه: «لأمنعنهم
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[2] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[3] عذيب الهجاناث: موضع بطريق الكوفة.(20/420)
مما أمنع منه نفسى، إنما هؤلاء أعوانى وأنصارى، وقد كنت أعطيتنى ألا تعرض لى حتى يأتيك كتاب من ابن زياد» ؛ قال: أجل ولكن هؤلاء لم يأتوا معك [1] .
فقال: «هم أصحابى، وهم بمنزلة من جاء معى، فإن تممت على ما كان بينى وبينك وإلا ناجزتك» . فكفّ عنهم الحر.
وسألهم الحسين عن خبر أهل الكوفة، فقال له مجمّع بن عبد الله العائذى- وهو أحد الأربعة-: «أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، فهب إلب [2] واحد عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك!» .
فقال: هل لكم برسولى إليكم علم؟ فقالوا: من هو؟ قال: قيس ابن مسهر الصيداوى. قالوا: نعم؛ وأخبروه بمقتله، فترقرقت عينا حسين ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [3]
اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم فى مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
قال: ودنا الطّرماح من الحسين، فقال له: «والله إنى لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفوا لهم [4] ، وقد رأيت قبل خروجى من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناى فى صعيد واحد جمعا أكثر
__________
[1] من هنا يبدأ ما صار بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) انظر ص 455.
[2] الإلب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان، وقد تألبوا أى تجمعوا.
[3] من الآية 23 من سورة الأحزاب.
[4] كذا جاء فى المخطوطة وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 306 والكاملى ج 3 ص 281:
«لكان كفى بهم» .(20/421)
منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسيّروا إلى الحسين، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم إليهم شبرا إلا فعلت، وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذى [1] امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثم لتبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى [2] من طيّىء، فو الله لا يأتى عليك عشرة أيام حتّى يأتيك طيىء رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدالك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بأسيافهم، وو الله لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف!» .
فقال له: جزاك الله وقومك خيرا، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندرى علام تتصرف بنا وبهم الأمور!.
قال الطّرمّاح: فودّعته وقلت: «إنى قد امترت لأهلى ميرة، ومعى نفقة لهم فآتيهم فأصنع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك» . فقال لى: فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله.
قال الطّرمّاح: فلما بلغت إلى أهلى وضعت عندهم ما يصلحهم،
__________
[1] فى تاريخ الطبرى: «الذى يدعى أجأ» .
[2] أجأ وسلمى: جبلان لقبيلة طيىء، وقد ذكر ياقوت «سبب نزول طيىء الجبلين واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب» .(20/422)
وأوصيت، وأخبرتهم بما أريد، وأقبلت حتى دنوت من عذيب الهجانات [1] ، فأتانى نعى الحسين هناك [2] !.
قال المؤرّخ [3] : ثم مضى الحسين إلى قصر بنى مقاتل [4] ، فنزل به. قال عقبة بن سمعان: فلمّا كان آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، فلمّا سرنا ساعة خفق [5] الحسين برأسه خفقة فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
الحمد لله رب العالمين» يعيدها مرّتين أو ثلاثا، فأقبل عليه ابنه علىّ بن الحسين، فاسترجع وحمد الله وقال: «يا أبت، جعلت فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟» . قال: «يا بنىّ، إنى خفقت برأسى خفقة، فعنّ لى فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا!» قال: يا أبت ألسنا على الحق؟ قال: بلى والّذى إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذن لا نبالى أن نموت محقّين. فقال له: جزاك الله خير ما يجزى ولدا عن والده.
فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجّل الركوب، وسار حتّى انتهى إلى نينوى، والحرّ ومن معه يسايرونه فإذا راكب على نجيب عليه السلاح يمسك قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه،
__________
[1] عذيب الهجانات: موضع بطريق الكوفة.
[2] زاد ابن الأثير: «فرجع إلى أهله» .
[3] ابن جرير الطبرى فى تاريخة ج 4 ص 307- 308، وتبعه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 282.
[4] فى معجم البلدان لياقوت: «قصر مقاتل: منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة التميمى» .
[5] خفق برأسه: حرك رأسه حتى يثبت ذقنة على صدره وهو نائم قاعدا.(20/423)
فلما انتهى إليهم سلم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد: «أمّا بعد، فجعجع [1] بالحسين حين يبلغك كتابى ويقدم عليك رسولى، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولى أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتينى بإنفاذك أمرى، والسلام» .
فقال الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرنى فيه أن أجعجع بكم فى المكان الذى يأتينى فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقنى حتى أنفذ رأيه وأمره.
قال: فأخذهم الحرّ بالنزول فى ذلك المكان على غير ماء ولا قرية، فقالوا: دعنا ننزل فى هذه القرية (يعنون نينوى) أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة) أو هذه الأخرى (يعنون شفيّة) . فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل بعث عينا علىّ.
فقال زهير بن القين للحسين: «يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينّا من بعد ما نرى ما لا قبل لنا به!» فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: «سرّ بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنها حصينة وعلى شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجىء بعدهم» . فقال له الحسين: أيّة قرية هى؟ قال: العقر. فقال الحسين: اللهم إنى
__________
[1] جعجع بالحسين: ضيق عليه المكان، وقد ذكر صاحب النهاية هذه العبارة من كتاب زياد.(20/424)
أعوذ بك من العقر! [1] ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثانى من المحرّم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبى وقّاص من الكوفة. وكان سبب مسيره لقتال الحسين أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة، يسير بهم إلى دستبى، وكانت الدّيلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب ابن زياد له عهده على الرّىّ، وأمره بالخروج، فخرج وعسكر بالناس، فلما كان من أمر الحسين ما كان، دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه، فقال: نعم، على أن تردّ علينا عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلنى اليوم حتّى انظر. فاستشار عمر نصحاءه، فكلّهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة- وهو ابن أخته- فقال له: «أنشدك الله يا خالى ألّا تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك! فو الله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها- لو كان لك- خير من أن تلقى الله بدم الحسين!» فقال: أفعل إن شاء الله. وبات ليلته مفكرا فى أمره فسمع وهو يقول:
أأترك ملك الرّىّ والرّىّ رغبتى ... أم أرجع مذموما بقتل حسين
وفى قتله النار التى ليس دونها ... حجاب، وملك الرى قرّة عين
__________
[1] أنظر معجم البلدان وتاج العروس فى «العقر» و «كربلاء» .(20/425)
ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد ولّيتنى هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لى ذلك وتبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى ولا أجزأ عنك فى الحرب منه- وسمّى له أناسا-؛ فقال له ابن زياد: لا تعلمنى بأشراف الكوفة، فلست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا؛ قال: فإنى سائر. فأقبل فى ذلك الجيش حتى نزل بالحسين فلما نزل به بعث إليه عزرة [1] بن قيس الأحمسى، فقال له:
ائته فاسأله: ما الذى جاء بك؟ وماذا تريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيى منه أن يأتيه، فعرض عمر ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أباه وكرهه.
فقام إليه كثير بن عبد الله، وكان فارسا شجاعا، فقال: أنا أذهب إليه وو الله إن شئت لأفتكنّ به. فقال عمر: ما أريد أن يفتك به ولكن أن تسأله: ما الذى جاء به؟ فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدى قال للحسين: أصلحك الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه. فقام إليه، فقال له: ضع سيفك. قال لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول فإن سمعتم أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له رجل: فإنى آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبرنى ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر. فاستبّا، ثم انصرف إلى عمر فأخبره الخبر.
__________
[1] قال صاحب الإصابة ج 3 ص 105 فى ترجمته: «عزرة بن قيس بن غزية الأحمصى البجيلى....» .(20/426)
فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلى، فقال له: ويحك يا قرة، الق حسينا فاسأله: ما جاء به؟ وماذا يريد؟ فأتاه فأخبره رسالة ابن سعد، فقال له الحسين: كتب إلىّ أهل مصركم أن أقدم عليهم، فأمّا إذ كرهتمونى فإنى أنصرف عنهم. فانصرف قرّة إلى عمر فأخبره الخبر، فقال عمر: إنى لأرجو أن يعافينى الله من حربه وقتاله.
ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد: « [1] أما بعد، فإنى حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولى، فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب وماذا يسأل، فقال: كتب إلىّ أهل هذه البلاد وأتتنى رسلهم فسألونى القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهونى وبدا لهم غير ما أتتنى به رسلهم فأنا منصرف عنهم» .
فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص
وكتب إلى عمر بن سعد: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت» فاعرض على الحسين أن يبايع يزيد بن معاوية أمير المؤمنين هو وجميع أصحابه، فإذا هو فعل رأينا والسلام» فلما قرأ عمر الكتاب قال: قد أحسست ألّا يقبل ابن زياد العافية.
قال: وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فحل
__________
[1] أثبت الطبرى البسملة فى أول هذا الكتاب.(20/427)
بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقىّ الزكىّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان» .
فبعث عمر عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشّريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث.
وناداه عبد الله بن أبى حصين الأزدى: «يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا!» . فقال الحسين: «اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا!» . قال أبو جعفر الطبرى فى تاريخه [1] : قال حميد بن مسلم «والله لقد عدته بعد ذلك فى مرضه، فو الله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتّى يبغر [2] ، ثم يقىء، ثم يعود فيشرب حتّى يبغر، فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غصّته» (يعنى نفسه) .
قال: فلمّا اشتدّ على الحسين ومن معه العطش دعا أخاه العبّاس ابن علىّ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فدنوا من الماء، وقاتلوا عليه، حتّى ملئوا القرب وعادوا بها إلى الحسين.
قال: ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد أن القنى الليلة بين عسكرى وعسكرك. وكان رسوله إليه عمرو بن قرظة بن كعب
__________
[1] ج 4 ص 312.
[2] يكثر الشرب فلا يروى بسبب داء أصابه.(20/428)
الأنصارى [1] ، فخرج عمر فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بمثل ذلك، فتكلما، فأطالا حتّى ذهب من الليل جانب، ثم انصرف كل منهما إلى عسكره.
قال: وتحدّث الناس فيما بينهم ظنا يظنّونه أن الحسين قال لعمر ابن سعد: اخرج معى إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال له عمر: إذن تهدم دارى. قال: إذن أبنيها لك. قال: إذن تؤخذ ضياعى. قال: إذن أعطيك خيرا منها بالحجاز. فكره ذلك عمر بن سعد.. فتحدث الناس بذلك من غير أن يكونوا سمعوه.
قال: وذكر جماعة من المحدّثين أن الحسين قال: اختاروا منى خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، وإما أن أضع يدى فى يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بينى وبينه رأيه، وإما أن أن أسير إلى أىّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لى ما لهم وعلى ما عليهم.
وأنكر عقبة بن سمعان هذه المقالة وقال: «صحبت الحسين، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا فى الطريق ولا بالعراق ولا فى عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ويزعمون من أن يضع يده فى يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعونى
__________
[1] الخزرجى، كان أبوه صحابيا من ساكنى الكوفة.(20/429)
أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، أو دعونى أذهب فى هذه الأرض العريضة حتى ننظر: إلى م يصير أمر الناس؟.
وقيل: التقى الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا، فكتب عمر إلى عبيد الله بن زياد: «أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة [1] وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا الحسين قد أعطانى أن يرجع إلى المكان الذى منه أتى، أو أن نسيره إلى ثغر من الثغور شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتى يزيد أمير المؤمنين فيضع يده فى يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفى هذا لكم رضى وللأمة صلاح» .
فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه، نعم، قد قبلت.
فقام إليه شمر بن ذى الجوشن [2] فقال: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولىّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، والله لقد بلغنى أن الحسين وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل» .
__________
[1] النائرة: نار الحرب وشرها.
[2] الجوشن: الدرع أو الصدر، وذو الجوشن: اسمه شرحبيل بن قرط الأعور، وقيل: أوس، ولقب بذلك لانه دخل على كسرى فأعطاه جوشنا. فلبسه، فكان أول عربى لبسه، أو لأنه كان ناتئ الصدر.(20/430)
فقال له ابن زياد: «نعم ما رأيت، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على حسين وأصحابه النزول على حكمى، فإن فعلوا فليبعث بهم إلى سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس وثب عليه فاضرب عنقه وابعث إلى برأسه» .
وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فإنى لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندى شافعا، انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلىّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم، فإنهم لذلك مستحقّون، فإن قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاقّ مشاق قاطع ظلوم، فإن أنت، مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر وبين العسكر، فانّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام» .
فأقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد، فقرأه، فقال له عمر: «ما لك؟ ويلك! لا قرّب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علىّ! والله إنى لأظنّك أنت الذى ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرا كنا نرجو أن يصلح، لا يستسلم والله حسين أبدا، والله إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!» .
فقال له شمر: أخبرنى ما أنت صانع: أتمضى لأمر أميرك وتقاتل عدوّه وإلّا فخلّ بينى وبين الجند والعسكر؟ فقال: لا، ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك.(20/431)
فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم.
وكان شمر لمّا قبض كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد قام هو وعبد الله بن أبى المحلّ، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند علىّ بن أبى طالب فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفرا وعثمان. قال عبد الله: «أصلح الله الأمير، إنّ بنى أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت» . فقال: نعم ونعمة عين [1] فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا.
فلمّا نهض عمر إلى الحسين جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا: ما لك؟ وما تريد؟ قال: أنتم يا بنى أختى آمنون، فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثمّ إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبى وابشرى.
فركب الناس، ثم زحف بهم نحوهم بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته الصيحة، فدنت منه فأيقظته وقالت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت! فرفع الحسين رأسه فقال: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا.
فلطمت وجهها وقالت: واويلتاه! فقال: ليس لك الويل يا أخيّة، اسكتى رحمك الله [2] !.
__________
[1] أى: أفعل ذلك إنعاما لعينك وإكراما.
[2] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 315: «اسكنى رحمك الرحمن» .(20/432)
وقال له العبّاس: يا أخى أتاك القوم. فنهض ثم قال: يا عبّاس أركب بنفسى. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت يا أخى حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم. فأتاهم العباس فاستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وانصرف راجعا يركض إلى الحسين فأخبره الخبر، فقال له الحسين:
ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلنا نصلى لربنا الليلة وندعوه ونستغفره. فرجع العبّاس إليهم فقال: «يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه الليلة، حتّى ينظر فى هذا الأمر، فإن هذا الأمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا الأمر الّذى تسألوننا وتسومونناه، أو كرهناه فرددناه» .
قال: وإنّما أراد الحسين أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصى أهله.
فاستشار عمر بن سعد شمر بن ذى الجوشن فى ذلك، فقال شمر أنت الأمير والرأى رأيك: فأقبل عمر على الناس فقال: ماذا ترون؟
فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدى: سبحان الله! والله لو كان من الدّيلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغى لك أن تجيبهم إليها.
وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك فلعمرى ليصبحنّك(20/433)
بالقتال غدوة. فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا. أخّرتهم العشيّة..
ثم رجع عنهم.
قال: وجمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد عنهم فقال:
«أثنى على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السّرّاء والضراء، اللهم إنى أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فى الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا لك من الشاكرين [1] ، أما بعد، فإنى لا أعلم أصحابا أوفى لا خيرا من أصحابى، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتى، فجزاكم الله جميعا عنى خيرا، ألا وإنى لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإنى قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منى ذمام [2] ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى، ثم تفرقوا فى البلاد، فى سوادكم ومدائنكم، حتى يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبوننى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى!» .
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر:
«لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا!» . بدأهم بهذا لقول العباس بن على، ثم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين:
يا بنى عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم!.
قالوا: «فماذا يقول الناس؟ يقولون: أنا تركنا شيخنا وسيدنا
__________
[1] جاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 317 بدلا من هذه الجملة قوله: «ولم تجعلنا من المشركين» .
[2] ذمام: حق.(20/434)
وبنى عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندرى، ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك!» .
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدى، فقال: «أنحن نتخلّى عنك ولم نعذر إلى الله فى أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر فى صدورهم رمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى! والله لو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت!» .
وقال له سعد بن عبد الله الحنفى: «والله لا نخلّيك، حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أنى أحيا ثم أحرق حيّا ثم أذرى- يفعل بى ذلك سبعين مرّة- ما فارقتك حتى ألقى حمامى دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هى قتلة واحدة، ثم هى الكرامة التى لا انقضاء لها أبدا!» .
وقال زهير بن القين: «والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتّى أقتل هكذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!» .
وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد، فقالوا «والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء! ونقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا وأبداننا! فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا!» ..
وهذا القول من كلام الحسين وكلامهم مروىّ عن زين العابدين علىّ ابن الحسين رضى الله عنهما.(20/435)
قال [1] : وسمعته زينب أخته فى تلك الليلة وهو فى خباء له يقول- وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى وهو يعالج سيفه ويصلحه-:
يا دهر أفّ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل ... وكلّ حىّ سالك السبيل
فأعاد ذلك مرّتين أو ثلاثا، فلمّا سمعته لم تملك لنفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت: «واثكلاه! ليت الموت أعدمنى الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّى وعلىّ أبى وحسن أخى! يا خليفة الماضى وثمال الباقى!» . فنظر إليها وقال: يا أخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان. قالت: بأبى وأمّى أنت استقتلت نفسى فداؤك! فردّد غصّته، وترقرقت عيناه، ثم قال: «لو ترك القطا ليلا لنام [2] !» . فقالت: «يا ويلتا! أفتغضب نفسك اغتصابا؟
__________
[1] القائل: زين العابدين: قال: إنى جالس فى تلك العشية التى قتل أبى صبيحتها، وعمتى زينب عندى تمرضنى إذ اعتزل أبى بأصحابه فى خباء له، وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى: وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبى يقول: يا دهر أف لك..... الخ.
[2] تمثل بعجز بيت لحذام ابنة الديان، وله قصة ذكرها الميدانى فى مجمع الأمثال والمفضل بن سلمة فى الفاخر والجاحظ فى الحيوان والعينى فى شواهده الكبرى وذلك أن الديان وقومه جاءهم أعداؤهم ليلا، فلما كانوا قريبا منهم أثاروا القطا- من الطير- فمرت بأصحاب الديان، فخرجت حذام الى قومها فقالت:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لناما
أى: أن القطا لو ترك ما طار فى هذه الساعة، فقد أتاكم القوم، فقال ديسم بن طارق بصوت عال:-
اذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
وهناك بعض الراويات الأخرى.(20/436)
فذلك أقرح لقلبى وأشدّ على نفسى!» . ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرّت مغشيا عليها، فقام إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء وقال لها: «يا أخيّه، اتقى الله، وتعزّى بعزاء الله، واعلمى أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلّ شىء هالك إلّا وجهه، الذى خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، وأبى خير منّى، وأمّى خير منى، وأخى خير منى، ولى ولهم ولكل مسلم أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم!» . فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: «يا أخيّة، إنى أقسم عليك فأبرّى قسمى، ألّا تشقّى علىّ جيبا [1] ، ولا تخمشى علىّ وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثّبور إذا أنا هلكت» .
ثم خرج إلى أصحابه، فأمرهم أن يقرّبوا بيوتهم بعضها إلى بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت، فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
قال: وقاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون.
فلما صلى عمر بن سعد الغداة، وذلك يوم السبت، وهو يوم عاشوراء، وقيل: يوم الجمعة، خرج فيمن معه من الناس.
__________
[1] أخذ ذلك من حديث النبى صلى الله عليه وسلم.(20/437)
وعبّأ الحسين أصحابه بالغداة [1] ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فى ميمنته، وحبيب بن مظهّر [2] فى ميسرته، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وأمر بحطب وقصب فألقى فى مكان مخفض من ورائهم كأنه ساقيه [3] كانوا عملوه [4] فى ساعة من الليل، وأضرم فيه نارا، لئلّا يؤتوا من ورائهم، فنفعهم ذلك.
وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزّبيدى، وعلى ميسرته شمر بن ذى الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسى، وعلى الرجال شبث بن ربعىّ، وأعطى الراية ذويدا [5] مولاه، وجعل على ربع المدينة عبد الله بن زهير الأزدى، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبى سبرة الحنفى، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرّياحى..
فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلا الحرّ بن يزيد. فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه على ما نذكره.
قال: ولما أقبلوا إلى الحسين أمر بفسطاط فضرب، ثم أمر
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 320 «وصلى بهم صلاة الغداة» .
[2] اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم انظر ما سبق، وتاريخ الطبرى والإصابة ج 1 ص 373، 527.
[3] لم ينقط فى المخطوطة الحرفان الأخيران من هذه الكلمة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 286: «ساقية» وقد تكون: «ساقته» والساقة: مؤخر الجيش.
[4] حفروه فى ساعة من الليل فجعلوه كالخندق.
[5] كذا جاء الاسم فى المخطوطة وتاريخ الطبرى: «ذريدا» وجاء فى الكامل:
«دريدا» .(20/438)
بمسك، فميث [1] فى جفنة عظيمة، ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط واستعمل النّورة، ثمّ خرج فركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، ورفع يديه فقال: «اللهمّ أنت ثقفى فى كلّ كرب، ورجائى فى كلّ شدّة، وأنت لى فى كل أمر نزل بى ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّى إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولىّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة!» .
وأقبلوا نحو الحسين، فنظروا إلى النار تضطرم فى الحطب والقصب، فقال شمر بن ذى الجوشن: يا حسين استعجلت النار فى الدنيا قبل يوم القيامة. فقال له الحسين: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا!.
ثم ركب الحسين راحلته، وحمل ابنه عليّا على فرسه «لاحق» .
ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه قبل إنشاب الحرب وما وعظ به الناس وما أجابوه وما تكلم به أصحابه وما أجيبوا به وخبر مقتله
قال: ولما ركب الحسين راحلته نادى بأعلى صوته نداء يسمع جل الناس: أيها الناس، اسمعوا قولى، ولا تعجلونى حتّى أعظكم بما يحقّ لكم، وحتّى أعتذر لكم من مقدمى عليكم، فإن قبلتم عذرى وصدقتم قولى وأعطيتمونى النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن
__________
[1] مائه: أذابه.(20/439)
لكم علىّ سبيل، وإن لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النّصف من أنفسكم فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [1] ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ
[2] ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [3] .
ثم [4] حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه [5] ، ثم قال: أما بعد، فانسبونى وانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلى وانتهاك حرمتى؟؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبى؟ أو ليس جعفر الطيّار فى الجنة بجناحين بعمّى؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى ولأخى: «هذان سيّدا شباب أهل الجنة» ؟
فإن صدقتمونى بما أقول، وهو الحق، وما تعمّدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذبتمونى فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصارى
__________
[1] مستورا، بل أظهروه وجاهرونى.
[2] من الآية 71 من سورة يونس.
[3] الآية 196 من سورة الأعراف.
[4] قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص- 322 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص- 287:
إن أخوات الحسين لما سمعن كلامه السابق بكين وصحن: فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه عليا ليسكتاهن، وقال: لعمرى ليكثرن بكاؤهن: ثم حمد الله.... الخ.
[5] روى الطبرى عن الضحاك أنه ذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره، وأقسم إنه ما سمع متكلما أبلغ فى منطق منه.(20/440)
أو أبا سعيد الخدرىّ أو سهل بن سعد الساعدى أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لى ولأخى، أما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى؟!.
فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما يقول.
فقال له حبيب بن مظهّر: «والله إنى لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وإنى أشهد أنك صادق وأنك لا تدرى ما تقول،، قد طبع الله على قلبك!» .
ثم قال الحسين: فإن كنتم فى شك من هذا القول أفتشكّون أنى ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم! أخبرونى أتطلبونى بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟!.
فلم يكلّموه، فنادى: «يا شبث بن ربعىّ، ويا حجار بن أبحر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلّى أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام [1] ، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل.؟»
قالوا: لم نفعل قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!»
__________
[1] طمت: بتخفيف الميم وتشديدها، يقال «طما الماء» إذا ارتفع، «وطما البحر» إذا امتلأ، ويقال: «طم الماء» إذا غمر: و «طم الشىء» إذا كثر، ومنه «طم الأمر» إذا عظم وتفاقم.. والجمام: ما علا رأس المكيال فوق طفافة، ويأتى «الجمام» جمعا ل «الجم» وهو معظم الماء والكثير من الشىء، ول «الجمة» وهى مجتمع ماء البئر ومعظم الشىء.(20/441)
ثم قال: أيّها الناس إذ كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم إلى مأمنى من الأرض.
فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بنى [1] عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين «أنت أخو أخيك [2] ، أتريد أن يطلبك بنوها هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد!! عباد الله، إنّى عذت بربّى وربّكم أن ترجمون [3] إنى عذت بربّى وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب [4] ! ثم أناخ راحلته، ونزل عنها، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها.
وأقبلوا يزحفون نحوه.
فخرج زهير بن القين على فرس له شاكى السلاح، وقال:
«يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فأنتم للنصيحة أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمّة وأنتم أمّة، إن الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرية محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون،
__________
[1] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب لما بعده، وجاء فى الكامل: «ابن عمك، يعنى ابن زياد» .
[2] يشير الى ما صنعه أخوه محمد بن الأشعث إذا قال لمسلم بن عقيل. «لك الأمان، إن القوم بنو عمك: وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك» ثم أقبل بمسلم إلى قصر عبيد الله بن زياد ولم يهتم عبيد الله بهذا الأمان، وقتل مسلما، كما مر.
[3] من الآية 20 من سورة الدخان.
[4] من الآية 27 من سورة غافر.(20/442)
إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا نذكرون منهما إلّا سوءا، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدىّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه!» قال: فسبّوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا:
والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما.
فقال لهم: «عباد الله، إن ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإن كنتم لم تنصروه فأعيذكم بالله أن تقتلوه، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمّه يزيد بن معاوية، فلعمرى إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!» .
فرماه شمر بسهم وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك [1] ، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: «يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزى يوم القيامة والعذاب الأليم!» فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: «أفبالموت تخوّفنى؟ فو الله للموت أحبّ إلىّ من الخلد معكم!» ثم رفع صوته وقال: «عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافى وأشباهه،
__________
[1] النأمة: النغمة والصوت، يقال «أسكت الله نأمته» اى: أماته.(20/443)
فو الله لا تنال شفاعة محمد قوما هراقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!» فأتاه رجل من قبل الحسين فقال له: «إن أبا عبد الله يقول لك:
أقبل، فلعمرى لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ فى الدعاء [1] لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع الصلح والإبلاغ!» .
قال: ولمّا زحف عمر بن سعد إلى الحسين أتاه الحرّ بن يزيد فقال له: «أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟!» قال: «إى والله، قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدى!» قال:
أفما لكم فى واحدة من الخصال التى عرض عليكم رضى؟ قال عمر: «أما والله لو كان الأمر لى لفعلت! ولكنّ أميرك قد أبى ذلك» .
فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلا قليلا، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له «المهاجر بن أوس» . [ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء [2] ، فقال له:] [3] «يا ابن يزيد، إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك فى موقف قطّ مثل شىء أراه الآن! ولو قيل لى: من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتك! فما هذا الذى أرى منك؟» فقال له: «إنى- والله- أخيّر نفسى بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطّعت وحرّقت!» .
__________
[1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ:
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا ...
انظر الآية 28 وما بعدها فى سورة غافر.
[2] العرواء: مس الحمى.
[3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 325.(20/444)
ثمّ ضرب فرسه، فلحق بالحسين، فقال له: «جعلنى الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذى حبستك عن الرجوع، وسايرتك فى الطريق، وجعجعت بك فى هذا المكان، وو الله الذى لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة! فقلت فى نفسى: لا أبالى أن أطيع القوم فى بعض أمرهم ولا يرون أنى خرجت من طاعتهم، وأمّاهم فسيقبلون من الحسين بعض هذه الخصال التى يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك! وإنّى قد جئتك تائبا ممّا كان منى إلى ربّى مواسيا لك بنفسى حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك لى توبة؟» قال: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك.
قال: فتقدم الحرّ، ثم قال: «أيّها الأمير [1] ، ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التى عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟» فقال له عمر: «قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت!» فقال: «يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل [2] ! دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه [3] وأحطتم به من كل ناحية، فمنعتموه التوجّه فى بلاد الله العريضة، حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح فى أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 325 والكامل ج 3 ص 288 «أيها القوم» وهو أولى لمناسبة ما بعده.
[2] الهبل: الثكل.
[3] الكظم: مخرج النفس، ويقال «أخذ بكظمه» إذا أصابه بالكرب والغم.(20/445)
نفعا ولا يدفع عنها ضرا! ومنعتموه ومن معه من ماء الفرات الجارى الذى يشربه اليهودىّ والنصرانىّ والمجوسىّ، وتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمدا فى ذرّيّته! لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه!» فرموه بالنّبل، فرجع حتّى وقف أمام الحسين.
وزحف عمر بن سعد، ثم نادى: «يا ذويد [1] ، أدن رايتك» ثم رمى بسهم وقال: اشهدوا أنى أوّل من رمى بسهم ... ثم ارتمى الناس.
وخرج يسار مولى زياد بن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبى، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا له: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظهّر أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبى: «يا ابن الزانية، أو بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ وهل يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟!» ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتّى برد [2] ، فإنه لمشتغل به يضربه إذ شدّ عليه سالم فلم يأبه له، حتّى غشيه فبدره الضربة، فاتّقاه الكلبى بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثم مال عليه الكلبىّ فضربه حتّى قتله.
وكان الكلبىّ هذا قد رأى الناس من أهل الكوفة بالنّخيلة وهم
__________
[1] أنظر ما سبق فى هذا الاسم.
[2] برد، مات.(20/446)
يعرضون ليسرّحوا إلى الحسين، فقال: «والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا، وإنى لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إيّاى فى جهاد المشركين!» فدخل على امرأته أمّ وهب بنت عبد [1] ، فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فصوّبت رأيه وقالت: أخرجنى معك! فخرج بها ليلا حتّى أتى الحسين فأقام معه، فلمّا قتل العبدين أقبل يرتجز ويقول:
إن تنكرونى فأنا ابن كلب ... حسبى ببيتى فى عليم حسبى
إنّى امرؤ ذو مرّة وعصب ... ولست بالخّوّار عند النّكب
إنّى زعيم لك أمّ وهب ... بالطعن فيهم مقدما والضّرب
ضرب غلام مؤمن بالرّبّ
فأخذت امرأته أمّ وهب عمودا ثمّ أقبلت نحوه تقول له: «فداك أبى وأمّى! قاتل دون الطيّبين ذرّيّة محمد صلى الله عليه وسلم!» فأقبل إليها يردّها نحو النساء، وأخذت تجاذب ثوبه وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الحسين فقال: «جزيتم من أهل بيت خيرا! ارجعى رحمك الله إلى النساء فاجلسى معهنّ، فإنه ليس على النساء قتال.» فانصرفت إليهن.
وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو فى الميمنة، فلمّا دنا من الحسين
__________
[1] من قبيلة النمر بن قاسط.(20/447)
جثوا له على الرّكب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنّبل، فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين.
وجاء عبد الله بن حوزة التّميمى حتّى وقف أمام الحسين، فقال له: يا حسين [1] فقال: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار.
قال: «كلّا، إنى أقدم على ربّ رحيم شفيع مطاع! من أنت؟» .
قال أصحابه: هذا ابن حوزة. قال: ربّ حزه إلى النار! فاضطرب به فرسه فى جدول، فوقع فيه، وتعلّقت رجله بالرّكاب، ونفر الفرس، فمرّ به يضرب برأسه كلّ شجرة وحجر حتّى مات، وانقطعت فخذه وساقه وقدمه.
ثم برز الناس بعضهم إلى بعض، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس:
«يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرز [2] لهم منكم أحد، فإنهم قليل، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم!» فقال عمر: «صدقت، الرأى ما رأيت» [3] .
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدىّ من أصحاب الحسين، ثم [4] مات، فترحّم الحسين عليه ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
[5]
__________
[1] فى تاريخ الطبرى ج ص 327: «يا حسين، يا حسين» .
[2] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 331: «لا يبرزن» .
[3] ومنع الناس من المبارزة، كما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 290.
[4] مشى الحسين إليه وبه رمق.
[5] من الآية 23 من سورة الأحزاب.(20/448)
وحمل شمر بن ذى الجوشن بالميسرة على من يليه من أصحاب الحسين، فثبتوا له وطاعنوه، فقتل الكلبى [1] ، بعد أن قتل رجلين آخرين وقاتل قتالا شديدا، فكان هو القتيل الثانى من أصحاب الحسين.
وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا، فكانوا لا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلّا كشفوه، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس- وهو على خيل الكوفة- بعث إلى عمر بن سعد فقال: «ألا ترى ما نلقى خيلى منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرّماة!» . فقال عمر لشبث بن ربعىّ: تقّدم إليهم. فقال:
سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامّه تبعثه فى الرّماة؟
لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيرى!» وكان لا يزالون يرون من شبث الكراهة لقتال الحسين.
قال [2] : فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير [3] وبعث معه المجفّفة [4] وخمسمائة من المرامية، فلمّا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجّالة كلهم.
وقاتل الناس أشدّ قتال حتّى انتصف النهار، وهم لا يقدرون
__________
[1] هو عبد الله بن عمير، من بنى عليم، وقد سبق قريبا ذكره ورجزه، وقتله مولى زياد ومولى عبيد الله.
[2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 291.
[3] انظر ما سبق فى هذا الاسم.
[4] المجففة: الطائفة التى تلبس: «التجفاف» من الآلات الواقية فى الحرب.(20/449)
على أن يأتوا الحسين وأصحابه إلّا من وجه واحد، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض.
فأرسل عمر بن سعد رجالا يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخلّلون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوّض وينهب. فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال الحسين: «دعوهم يحرقوها، فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها!» . فكان ذلك كذلك، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد.
وخرجت أم وهب امرأة الكلبىّ تمشى إلى زوجها، حتّى جلست عند رأسه، فجعلت تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئا لك الجنة! فقال شمر لغلام اسمه رستم: اضرب رأسها بالعمود.
فضرب رأسها، فشدّخه [1] ، فماتت مكانها.
وحمل شمر حتّى بلغ فسطاط الحسين ونادى: «علىّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله» . فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين ودعا عليه [2] ، فردّه شبث بن ربعىّ عن ذلك، وحمل زهير بن القين فى عشرة من أصحابه على شمر ومن معه فكشفهم [عن البيوت حتى ارتفعوا عنها] [3] وقتلوا أبا عزّة الضّبابىّ من أصحاب شمر، وعطف الناس عليهم فكثروهم [4] ،
__________
[1] شدخه (بتشديد الدال أو تخفيفها) : كسره.
[2] قال: «يا ابن ذى الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتى على أهل حرقك أنت بالنار» .
[3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 334.
[4] فاقوهم بكثرتهم.(20/450)
فقال أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدى للحسين: «يا أبا عبد الله، نفسى لك الفداء، إنى أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله! وأحبّ أن ألقى ربّى وقد صلّيت هذه الصلاة التى قد دنا وقتها!» فدعا [1] له الحسين وقال: نعم هذا أوّل وقتها. ثم قال سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّى. ففعلوا، فقال لهم الحصين بن نمير:
إنها لا تقبل. فسبّه حبيب بن مظهّر، فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب بن مظهّر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشبّ، فسقط عنه الحصين، فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالا شديدا، فقتل بديل به صريم التميم، وحمل عليه آخر من تميم، فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين على رأسه بالسيف، فوقع، فنزل إليه التميمى فاحتزّ رأسه.
فقال حسين عند ذلك [2] : أحتسب نفسى وحماة أصحابى!! وحمل الحرّ بن يزيد وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا، فقتل الحرّ، وقتل أبو ثمامه الصائدى ابن عمّ له كان عدوّه.
ثم صلّى الحسين صلاة الظهر بأصحابه صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتدّ قتالهم، ووصل إلى الحسين فاستقدم سعد بن عبد الله الحنفىّ أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل حتّى سقط، وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وجعل يقول:
__________
[1] قال الحسين: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين» .
[2] عبابرة الطبرى وابن الأثير: «لما قتل حبيب بن مظهر هد ذلك حسينا، وقال عند ذلك ... » .(20/451)
أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودهم بالسيف عن حسين
وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول!
أقدم هديت هاديا مهديّا ... فاليوم تلقى جدّك النبيّا
وحسنا والمرتضى عليّا ... وذا الجناحين [1] الفتى الكميّا
وأسد الله [2] الشهيد الحيّا
قال: فحمل على زهير كثير بن عبد الله الشعبى ومهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان نافع بن هلال البجلى [3] قد كتب اسمه على أفواق [4] نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثنى عشر رجلا سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه، وأخذ أسيرا، فأتى به شمر عمر ابن سعد والدم يسيل على لحيته، فقال له عمر: «ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟» قال: «إنّ ربى يعلم ما أردت! والله لقد قتلت منكم اثنى عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسى،
__________
[1] ذو الجناحين جعفر ابن أبى طالب، عم الحسين، استشهد بمؤته من أرض الشام مجاهدا للروم مقبلا غير مدبر، فى جسده بضع وتسعون بين طعنة ورمية، وقد رآه النبى صلى الله عليه وسلم ذا جناحين مضرجين بالدم يطير مع الملائكة فى الجنة، وفيه رمز لطيف، لأنه قاتل حتى قطعت يداه.
[2] أسد الله: حمزه بن عبد المطلب، عم النبى وأبى الحسين: استشهد بأحد، ولقبه النبى صلى الله عليه وسلم «أسد الله» .
[3] فى تاريخ الطبرى: «الجملى» .
[4] أفواق: جمع فوق (بضم الفاء) وهو عشق رأس السهم حيث يقع الوتر.(20/452)
ولو بقيت لى عضد وساعد ما أسرتمونى!» فقال له شمر: اقتله أصلحك الله. قال: أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى [1] شمر سيفه، فقال له نافع: «أما والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا! فالحمد لله الذى جعل منايانا على يد شرار خلقه!» فقتله.
ثم حمل شمر على أصحاب الحسين، فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريّان فقالا: قد جازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك! فرحّب بهما، وقال: ادنوا منى فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبا منه.
وجاءه الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ، وهما يبكيان، فقال:
«ما يبكيكما؟ والله إنى لأرجو أن تكونا عن ساعة قريرى عين!» قالا: «والله ما على أنفسنا نبكى، ولكنّا نبكى عليك! نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك!» . فقال: جزاكما الله خيرا! [2] .
وجاء حنظلة بن أسعد الشّبامىّ فوقف بين يدى الحسين، وجعل ينادى: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ،
__________
[1] انتضى سيفه: استل سيفه من غمده.
[2] روى الطبرى قول الحسين لهما: «جزاكما الله يا ابنى أخى بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياى بأنفسكما أحسن جزاء المتقين» .(20/453)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ
[1] يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم [2] الله بعذاب «وقد خاب من افترى!» . فقال له الحسين: «رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟!» قال: «صدقت أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟!» . قال:
رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى. فسلّم على الحسين واستقدم فقاتل حتّى قتل.
ثم استقدم الفتيان الجابريان، فودعا حسينا، وقاتلا حتّى قتلا.
وجاء عابس بن أبى شبيب الشاكرى وشوذب مولى شاكر إلى الحسين، فسلّما عليه، وتقدما فقاتلا، فقتل شوذب، وتقدم عابس نحوهم بالسيف، وبه ضربة على جبينه، وكان أشجع الناس، فجعل ينادى: «ألا رجل لرجل؟» . فعرفه ربيع بن تميم الهمدانى، فقال: «أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبى شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم!» . فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شدّ على الناس، فهزمهم بين يديه، ثم عطفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه، فادّعى قتله جماعة وأتوا ابن سعد، فقال: «لا تختصموا
__________
[1] من الآيات 30، 31، 32، 33 من سورة غافر.
[2] جاء فى الآية 60 من سورة طه: ... فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى(20/454)
هذا لم يقتله إنسان واحد!» . ففرق بينهم [بهذا القول] [1] .
وجاء أبو الشعثاء يزيد بن أبى زياد الكندى، وكان راميا، فجثا على ركبتيه بين يدى الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان يزيد هذا ممّن خرج مع عمر بن سعد، فلمّا ردّوا ما عرض عليهم الحسين عدل إليه، فقاتل حتّى قتل.
وكان آخر من تبقّى مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو ابن أبى المطاع الخثعمىّ.
وكان أوّل قتيل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى ابنة أبى مرّة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل على الناس وهو يقول:
أنا علىّ بن الحسين بن على ... نحن وربّ البيت أولى بالنّبى
تالله لا يحكم فينا ابن الدّعى
فعل ذلك مرارا وهو يشدّ على الناس بسيفه، فاعترضه مرّة بن منقذ بن النعمان العبدى، وطعنه، فصرع، وقطعه الناس بأسيافهم، فقال الحسين: «قتل الله قوما قتلوك يا بنىّ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدّنيا بعدك العفاء!» وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم. فحملوه حتّى وضعوه بين] [2] يدى الفسطاط الذى كانوا يقاتلون أمامه.
__________
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 339.
[2] هنا ينتهى ما كان بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) ، مع مراجعته على ما أثبته ابن جرير الطبرى فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل. انظر ما سبق ص 421.(20/455)
وشدّ عثمان بن خالد الجهنى وبشر بن سوط الهمدانى على عبد الرحمن بن عقيل بن أبى طالب [فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل بن أبى طالب] [1] فقتله، ورمى عمرو بن صبيح الصدائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفّه على جبهته فلم يستطيع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائى على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل القاسم بن الحسن ابن علىّ فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى، فضرب رأسه بالسيف فوقع القاسم إلى الأرض لوجهه، وقال: يا عمّاه! فانقضّ الحسين إليه كالصقر، ثم شدّ شدة ليث أغضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فقطع يده من المرفق، فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا، فاستقبلته بصدورها، وجالت عليه بفرسانها، فوطئته حتّى مات، وانجلت الغبرة والحسين قائم على رأس القاسم وهو يفحص برجليه. والحسين يقول: «بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة [فيك] [2] جدّك!» ثم قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، وأن يجيبك فلا ينفعك صوت والله كثر واتره وقلّ ناصره!» ثم احتمله على صدره حتّى ألقاه مع ابنه علىّ ومن قتل من أهل بيته.
قال: ومكث الحسين طويلا من النهار، كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله وعظيم إثمه، فأتاه رجل من
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 341 والكامل ج 3 ص 293.(20/456)
كندة يقال له «مالك بن النسير» فضربه على رأسه بالسيف، فقطع البرنس، وأدمى رأسه، وامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين:
«لا أكلت بها ولا شربت! وحشرك الله مع [القوم] [1] الظالمين!» وألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسيها واعتم. وجاء الكندىّ فأخذ البرنس وكان من خزّ، فقدم به على امرأته، وأقبل يغسله من الدم، فقالت له: «أسلب [2] ابن بنت رسول الله يدخل بيتى؟ أخرجه عنى!» فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشرّ حتّى مات.
قال: ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير، فأجلسه فى حجره فرماه رجل من بنى أسد بسهم فذبحه، فأخذ الحسين دمه بيده فصبّه فى الأرض، ثم قال: «اللهمّ ربّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم من هؤلاء الظالمين!» ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله، وقتل إخوة الحسين وهم العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان.
قال: واشتدّ عطش الحسين، فدنا من الفرات ليشرب فقال رجل من بنى أبان بن دارم: «ويلكم! حولوا بينه وبين الماء» ، وضرب فرسه، واتبعه الناس حتّى حال بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمئه! وانتزع الأبانىّ سهما فأثبته فى حنك الحسين، فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفّيه فامتلأ دما؛ فقال اللهم إنى أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، اللهم أحصبهم عددا واقتلهم بددا [3] ، ولا تبق منهم أحدا. وقيل أن الذى رماه حصين
__________
[1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ولم تثبت فى النسخة (ن) .
[2] السلب: ما يؤخذ سلبا.
[3] أى متفرقين فى القتل واحدا بعد واحد.(20/457)
ابن نمير. قال: فما مكث الذى رماه إلّا يسيرا، ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى، والماء يبرّد له فيه السّكر، وعساس [1] فيها لبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم؛ اسقونى، قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة أو العسّ فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهة، ثم قال:
ويلكم، اسقونى قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة والعس فيشربه، فما لبث إلا يسيرا حتّى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير.
قال: ثم إن شمر بن ذى الجوشن أقبل فى نحو عشرة من رجاله أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذى فيه أهله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال: ويلكم؛ إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا فى دنياكم أحرارا ذوى أحساب، امنعوا رحلى وأهلى من طغامكم وجهّالكم. قال شمر: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم شمر عليه بالرّجالة منهم أبو الجنوب عبد الرحمن الجعفىّ، وصالح بن وهب اليزنىّ، وسنان بن أنس النّخعىّ، وخولىّ بن يزيد الأصبحى، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين، وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم أحاطوا به، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته زينب بنت علىّ لتحبسه، فأبى الغلام، وجاء يشتد حتّى قام إلى جنب الحسين، وقد أهوى بن كعب بن عبيد الله- من بنى تميم الله بن ثعلبة- إلى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمّى؟! فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده، فأطنّها [2] إلى الجلدة [3] ، فنادى الغلام:
__________
[1] عساس: جمع عس، وهو القدح الضخم.
[2] أطنها: قطعها.
[3] فإذا يده معلقة.(20/458)
يا أمّتاه، فضمه الحسين إليه وقال: «يا ابن أخى اصبر على ما نزل بك، واحتسب فى ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين:
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ وحمزة وجعفر والحسن» ثم قال الحسين: «اللهمّ أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متّعتهم إلى حين ففّرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضى عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا!» ثم ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنهم.
قال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فخرجت زينب بنت علىّ أخت الحسين فقالت. يا عمر، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟
فجعلت دموع عمر تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها.
ومكث الحسين طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتّقى بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفهم هؤلاء، فنادى شمر ابن ذى الجوشن فى الناس، ويحكم؛ ما تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب؛ فضرب زرعة بن شريك كفّه اليسرى، وضرب على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه فى تلك الحال سنان بن أنس النّخعى فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولىّ بن يزيد الأصبحى احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فتّ الله عضدك، وأبان يدك، ونزل إليه فذبحه وأخذ رأسه فدفعه إلى خولى.
وسلب الحسين ما كان عليه؛ فأخذ سراويله بحر بن كعب، فكانت(20/459)
يداه فى الشتاء تضخان الماء، وفى الصيف تيبسان كأنهما عود. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وهى من خزّ، فكان يسمّى بعد «قيس قطيفة» . وأخذ نعليه الأسود الأودى، وأخذ سيفه رجل من بنى نهشل. ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها، وانتهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنازع ثوبها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وكان سويد بن عمرو بن أبى المطاع قد صرع، فوقع بين القتلى مثخنا بالجراح، فسمعهم يقولون: قتل الحسين فوجد خفّة فوثب ومعه سكين فقاتلهم بها ساعة، ثم قتله عروة بن بطان الثعلبى، فكان آخر قتيل من أصحاب الحسين قال. وانتهوا إلى على بن الحسين وهو زين العابدين، فأراد شمر قتله وكان مريضا فمنع حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد فقال:
لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليردده عليهم، فما ردّ أحد شيئا، فقال الناس لسنان بن أنس: «قتلت حسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله، قتلت أعظم العرب خطرا، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم فى قتله كان قليلا» فأقبل على فرسه حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته:(20/460)
أوقر ركابى فضّة وذهبا ... أنا قتلت السيّد المحجّبا [1]
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أشهد أنك مجنون، أدخلوه؛ فلمّا دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتنظم بهذا الكلام؟ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك. وقيل: إنه قال ذلك لعبيد الله ابن زياد، فقال:
فإن كان خير الناس أما وأبا فلم قتلته؟ وأمر به فضربت عنقه، خسر الدنيا والآخرة.
ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على رضى الله عنهما ومن سلم ممن شهد القتال
قال: ولمّا قتل الحسين جاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا، وصاحبهم شمر بن ذى الجوشن، وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة، وجاءت مذحج بسبعة، وجاء سائر الجيش بسبعة، فذلك سبعون رأسا.
منهم إخوة الحسين ستة، وهم: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد- وليس هو ابن الحنفية- وأبو بكر، أولاد علىّ بن أبى طالب ومن أولاد الحسين: علىّ، أمه ليلى بنت أبى مرّة بن عروة الثقفى، وعبد الله، وأمّه الرّباب بنت امرئ القيس الكلبى.
__________
[1] فى النسخة (ن) وتاريخ الطبرى والكامل: «المحجبا» وهو المشهور، وفى النسخة (ك) : «المحتجبا» .(20/461)
ومن أولاد الحسن بن علىّ ثلاثة: وهم أبو بكر، وعبد الله، والقاسم.
ومن أولاد عبد الله بن جعفر بن أبى طالب: عون، ومحمد.
ومن أولاد عقيل بن أبى طالب: جعفر، وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم بالكوفة.
ومن موالى الحسين: سليمان، ومنجح.
وتكملة من قتل ممن اتبعه، وقد ذكرنا بعضهم بأسمائهم فى أثناء هذه القصة.
وأما من سلم منهم: فالحسن بن الحسن، وعمرو بن الحسن لصغرهما، وعلىّ بن الحسين لمرضه، والضحاك بن عبد الله المشرقى، وذلك أنه جاء إلى الحسين فقال: «يا ابن رسول الله، قد علمت أنى قلت لك: إنى أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فى حلّ من الانصراف» فقال له الحسين: «صدقت، وكيف لك بالنجاة؟ إن قدرت عليه فأنت فى حلّ» وذلك بعد أن فنى أصحاب الحسين، قال الضحاك: فأقبلت إلى فرسى وكنت قد تركته فى خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلا، فقتلت رجلين، وقطعت يد آخر، ودعا لى الحسين مرارا قال: فاستخرجت فرسى واستويت عليه، وحملت على عرض القوم فأفرجوا لى، وتبعنى منهم خمسة عشر رجلا، ففتّهم، فسلمت.
ومنهم عقبة بن سمعان مولى الرّباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، أخذه عمر بن سعد فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد(20/462)
مملوك فخلّى سبيله، فنجا. ومنهم الرقع [1] بن تمامة الأسدى، وكان قد نثر نبله فقاتل فجاءه نفر من قومه فأمنوه، فخرج إليهم فلما أخبر ابن زياد به نفاه إلى الزارة [2] .
ذكر ما كان بعد مقتل الحسين مما هو متعلق بهذه الحادثة
قال: ولما قتل الحسين نادى عمر بن سعد فى أصحابه: من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه، فانتدب له عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمى، وهو الذى سلب قميص الحسين فبرص بعد ذلك، فداسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا ظهره وصدره.
قال: ودفن جثّة الحسين وجثث أصحابه أهل الغاضرية من بنى أسد بعد ما قتلوا بيوم.
وقتل من أصحاب ابن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلّى عليهم عمر ودفنهم.
قال: وسرح عمر برأس الحسين من يومه ذلك مع خولىّ بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدى إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولى فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجّانة [3] فى الدار، ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقالت له امرأته وهى النّوار بنت مالك الحضرميّة: ما الخبر؟ قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك فى الدار، قالت. فقلت: ويلك! جاء الناس
__________
[1] كذا فى النسخة «ك» ، وفى النسخة «ن» : «المرفع» ، وفى شرح القاموس:
رقيع، كزبير، الأسدى.
[2] الزارة: قرية بالبحرين.
[3] إجانة: إناء تغسل فيه الثياب.(20/463)
بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسى ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشى فخرجت وجلست أنظر، فو الله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجّانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف عليها [1] ، فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد.
وقيل: بل الذى حمل الرأس شمر بن ذى الجوشن، وقيس ابن الأشعث، وعمرو بن الحجاج، وعزرة بن قيس، فجلس ابن زياد، وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه، فجعل ينكت بقضيب بين ثنيّتى الحسين، فلما رآه زيد بن أرقم لا يرفع قضيبه، قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الله الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانه، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل [[2] فبعدا لمن رضى بالذل] قال: وأقام عمر بن سعد يومه هذا والغد، ثم أذن فى الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من الصبيان، وعلىّ بن الحسين مريض، فاجتازوا به على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن الخدود، وصاحت زينب أخته: «يا محمداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «حولها» .
[2] ثبتت هذا العبارة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .(20/464)
بالعراء مرمل [1] بالدماء مقطّع الأعضاء! يا محمداه! وبناتك سبايا! وذريتك مقتّلة تسفى عليها الصّبا!» فأبكت كل عدوّ وصديق.
قال: ولما أدخلوا على عبيد الله لبست زينب أرذل ثيابها وتنكّرت، وحفّ بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه حتّى قال ذلك ثلاثا وهى لا تكلّمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذى فضحكم وقتّلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهّرنا تطهيرا لا كما تقول، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون عنده، فغضب ابن زياد واستشاط، ثم قال لها: قد شفى الله نفسى من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت ثم قالت: لعمرى لقد قتلت كهلى وأبرزت أهلى وقطعت فرعى واجتثثت أصلى، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال لها عبيد الله. هذه شجاعة فلعمرى لقد كان أبوك شجاعا، قالت: ما للمرأة والشجاعة؟ إن لى عن الشجاعة لشغلا. ونظر عبيد الله إلى على بن الحسين فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا على بن الحسين، قال: أو لم يقتل الله على بن الحسين، فسكت. فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟
قال: قد كان لى أخ يقال له علىّ فقتله الناس، قال: إن الله قتله، فسكت علىّ، فقال: ما لك لا تتكلم؟ قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
__________
[1] مرمل: متلطخ.(20/465)
حِينَ مَوْتِها
[1] . وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
[2] قال: أنت والله منهم، ثم قال لرجل: ويحك انظر هذا هل أدرك؟
والله إنى لأحسبه رجلا، فكشف عنه مرىّ بن معاذ الأحمرى فقال:
نعم قد أدرك، قال: اقتله، فقال على: من توكّل بهؤلاء النسوة؟
وتعلقت به زينب عمته، فقالت: يا ابن زياد حسبك منّا أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحدا؟ واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتنى معه، وقال علىّ: يا ابن زياد إن كان بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحة الإسلام. فنظر إليهن ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: يا عجبا للرّحم والله إنى أظنها ودّت لو أنى قتلته أنى قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
ثم نودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس فى المسجد الأعظم فصعد ابن زياد المنبر، فقال: الحمد لله الذى أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن على وشيعته، فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدى، وكان من شيعة على، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع على، والأخرى بصفّين معه، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّى فيه إلى الليل ثم ينصرف، فقال: يا ابن مرجانة إنّ الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذى ولاك وأبوه، يا ابن مرجانة تقتلون أبناء النبيين، وتكلّمون بكلام الصدّيقين. فقال ابن زياد: علىّ
__________
[1] من الآية 42 من سورة الزمر.
[2] من الآية 145 من سورة آل عمران.(20/466)
به، فوثبت عليه الجلاوزة [1] فأخذوه، فنادى بشعار الأزد «يا مبرور» فوثبت إليه فئة من الأزد، فانتزعوه، وأتوابه أهله، فأرسل إليه من أتاه به فقتله، ثم أمر بصلبه فى السّبخة [2] فصلب.
قال: وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به فى الكوفة.
قال: ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى يزيد بن معاوية ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة، وأرسل معهم النساء والصبيان، وفيهم على بن الحسين، وقد جعل ابن زياد الغلّ فى يديه وعنقه، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علىّ فى الطريق، فدخل زحر بن قيس على يزيد فقال له:
ما وراءك ويلك وما عندك؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علىّ فى ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسملوا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتّى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير وزر [3] ، ويلوذون منا بالآكام والحفر لو اذا [4] كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور [5] ، أو نومة قائل [6] حتى أتينا
__________
[1] الجلاوزة: الشرطة.
[2] السبخة: موضع بالبصرة.
[3] الوزر: الملجأ.
[4] لوادا: التجاء.
[5] الجزر: النحر، والجزور: الفتى من الإبل.
[6] القائل: النائم وقت الظهيرة.(20/467)
على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرمّلة [1] ، وخدودهم معفرة [2] ، تصهرهم الشمس وتسفى عليهم الريح، زوّارهم العقبان والرخم بقىّ [3] سبسب. قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أما والله لو أنى صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين. قال: ولما وصل علىّ بن الحسين ومن معه والرأس إلى دمشق، وقف محفّر بن ثعلبة العائذى، وكان عبيد الله قد تركهم معه ومع شمر على باب يزيد بن معاوية، ثم رفع صوته وقال: هذا محفّر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، فأجابه يزيد ما ولدت أمّ محفّر شرّ وألأم، ولكنه قاطع ظلوم. ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحت يزيد، فتقنّعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين رأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟ قال: نعم فأعولى عليه وحدّى على ابن بنت رسول الله وصريحة قريش، عجّل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، والرأس بين يديه، ومعه قضيب وهو ينكت فى ثغره، ثم قال: إن هذا وأنا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب [4] فى أيماننا تقطر الدّما
__________
[1] مرملة: ملطخة بالدماء.
[2] معفرة: من العفر، وهو التراب.
[3] بقى بالكسر والتشديد من القوا: الأرض القفر الخالية، والسبسب (نعت) : المفازة المستوية.
[4] قواضب: سيوف.(20/468)
نفلّق هاما [1] من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما [2]
فقال أبو برزة الأسلمى: «أتنكت بقضيبك فى ثغر الحسين؟
أما لقد أخذ قضيبك فى ثغره مأخذا لربّما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجئ هذا ومحمد شفيعه!» ثم قام فولّى. فقال يزيد: يا حسين والله لو أنى صاحبك ما قتلتك، ثم قال: «أتدرون من أين أتى هذا؟
قال: أبى خير من أبيه، وأمى فاطمة خير من أمه، وجدّى رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، وأنا أحق بهذا الأمر منه. فأما قوله:
أبوه خير من أبى فقد حاجّ أبى أباه إلى الله وعلم الناس أيّهما حكم له، وأما قوله: أمى خير من أمه فلعمرى فاطمة بنت رسول الله خير من أمى، وأما قوله جدّى رسول الله خير من جده، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندّا، ولكنه إنما أتى من قبل فقهه، ولم يقرأ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ
[3] .
قال: ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس، فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولولن وبنات معاوية، فقالت فاطمة بنت الحسين،
__________
[1] الهام: مفرده هامة، وهى الرأس.
[2] أنظر المفضلية 12 من المفضليات والحماسة بشرح المرزوقى ج 1 ص 199، 391 والأغانى ج 14 ص 7 والشعر والشعراء ج 2 ص 630 والمؤتلف والمختلف ص 91 وخزانة الأدب ج 2 ص 7.
[3] من الآية 26 فى سورة آل عمران.(20/469)
وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال:
يا ابنة أخى أنا لهذا كنت أكره، فقام رجل من أهل الشام فقال:
هب لى هذه، يعنى فاطمة بنت على، فأخذت بثياب أختها زينب وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولو متّ، ما ذلك لك ولا له، فغضب يزيد وقال: كذبت والله إن ذلك لى، ولو شئت أن أفعله لفعلته، قالت: كلّا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا! فغضب يزيد واستطار، ثم قال. إياى تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، قالت زينب:
بدين الله ودين أبى وأخى اهتديت أنت وأبوك وجدّك، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك. فاستحيى وسكت؛ ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد فلم تبقى امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم، وسألهن عمّا أخذ منهن فأضعفه لهن، وكانت سكينة تقول: ما رأيت كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية.
قال: ثم أمر بعلىّ بن الحسين فأدخل مغلولا، فقال: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلولين لفك عنا؛ قال: صدقت؛ وأمر بفك غلّه عنه، فقال على: لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعد لأحبّ أن يقرّبنا؛ فأمر به فقرّب منه، وقال له يزيد: يا علىّ أبوك الذى قطع رحمى وجهل حقّى ونازعنى سلطانى فصنع الله به ما رأيت. فقال علىّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [1]
فقال
__________
[1] الآيتان 22، 23 من سورة الحديد.(20/470)
يزيد: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [1]
ثم سكت عنه، وأمر بإنزاله وإنزال نسائه فى دار على حدة، وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّا دعا عليّا إليه، فدعاه يوما فجاء ومعه عمرو بن الحسن وهو غلام صغير، فقال يزيد لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعنى خالدا ابنه، فقال: أعطنى سكّينا وأعطه سكينا حتّى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال شنشنة [2] أعرفها من أخزم، وهل تلد الحيّة [3] إلا حييّة؟
وقيل: لمّا وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده، ووصله، وسرّه ما فعل، ثم لم يلبث إلّا يسيرا حتّى بلغه بغض الناس له، ولعنهم إياه، وسبّهم، فندم على قتل الحسين، وكان يقول: «وما علىّ لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معى فى دارى وحكّمته فيما يريد، وإن كان علىّ من ذلك وهن فى سلطانى، حفظا لرسول الله ورعاية لحقّه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة، فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده فى يدى، أو يلحق بثغر حتّى يتوفّاه الله، فلم يجبه إلى ذلك، وقتله، فبغضنى بقتله إلى المسلمين،
__________
[1] من الآية 30 فى سورة الشورى.
[2] هذا مثل يضرب فى قرب الشبه، تمثل به يزيد، وأصله أن رجلا من طىء يسمى «أخزم» كان عاقا لوالده، فلما مات ترك بنين يشبهو له فى العقوق، فوثبوا يوما على جدهم أبى أخزم وضربوه وأدموه، فقال:
إن بنى ضرجونى بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
والشنشنة: الطبيعة والعادة.
[3] هذا مثل تمثل به يزيد كسابقه، جاء فى تاج العروس (ح ى ى) «ومن أمثالهم:
لا تلد الحية إلا حيية» وحيية: تصغير حية وكنى الحريرى فى مقاماته عن أبى زيد وابنه ب «الحية والحيية» .(20/471)
وزرع فى قلوبهم العداوة، فأبغضنى البرّ والفاجر بما استعظموه من قتلى حسينا، مالى ولابن مرجانة [1] لعنه الله وغضب عليه!» .
قال: ثم ندم ابن زياد أيضا على قتله الحسين، وقال لعمر بن سعد: يا عمر ائتنى بالكتاب الذى كتبته إليك فى قتل الحسين؟
قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قال: لتجئ به؛ قال: ضاع قال: لتجئ به؛ قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش بالمدينة اعتذارا إليهن، أما والله لقد نصحتك فى حسين نصيحة لو نصحتها أبى سعد ابن أبى وقّاص لكنت قد أدّيت حقه!» فقال عثمان بن زياد: «صدق، والله لوددت أنه ليس من بنى زياد رجل إلا وفى أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأنّ حسينا لم يقتل!» فما أنكر ذلك عبيد الله بن زياد على أخيه.
ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين رضى الله عنه إلى المدينة وعود أهله إليها
قال: لما قتل الحسين أمر عبيد الله بن زياد عبد الملك بن الحارث [2] السّلمى بالمسير إلى المدينة؛ ليبشّر عمرو بن سعيد أمير المدينة بقتل الحسين، فاعتذر عبد الملك، فزجره ابن زياد، فخرج حتّى قدم المدينة، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فاسترجع [3] القرشى، وقال: قتل والله الحسين!
__________
[1] سبق ذكر مرجانة أم عبيد الله بن زياد، وقد جاء حديثها في مقتل الحسين فى رواية لابن جرير الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 371: «كانت مرجانة امرأة صدق فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين عليه السلام: ويلك ماذا صنعت وماذا ركبت» .
[2] فى تاريخ ج 4 ص 356: «أبى الحارث» .
[3] قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.(20/472)
ودخل عبد الملك على عمرو بن سعيد فأخبره بقتل الحسين، فقال: ناد بقتله، ففعل، قال عبد الملك: فلم أسمع واعية [1] قطّ مثل واعية نساء بنى هاشم فى دورهن على الحسين! فلما سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ ضحك وقال: واعية بواعية عثمان [2] وأنشد بيت عمرو بن معدى كرب:
عجّت نساء بنى زياد عجّة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب [3]
(والأرنب: يوم كان لبنى زبيد على بنى زياد من بنى الحارث بن كعب) ثم صعد عمرو المنبر فأعلم الناس بقتل الحسين.
__________
[1] الواعية: الصراخ على الميت ونعيه.
[2] ذكر الميدانى فى مجمع الأمثال ج 2 ص 379 أن عمرو بن سعيد تمثل بالمثل «يوم بيوم الحفض المجور» أى يوم بيوم عثمان، كما تمثل بالبيت «عجت نساء ... » ثم ذكر أصل هذا المثل، وكذلك ذكر الأصل القالى فى أماليه ج 2 ص 192.
[3] كان من خبر هذا الشعر أن تبيلتى «جرم» و «نهد» كانتا مجاورتين ل- بنى «الحارث» ، فقتلت جرم رجلا من أشراف بنى الحارث يقال له «معاذ بن زيد» ، فارتحن الجرميون إلى «بنى زبيد» رهط عمرو بن معد يكرب، فخرجت بنو الحارث يطلبون بثأرهم ومعهم بنو نهد، فجعل عمرو وما أمام بنى نهد: وجعل نفسه وقومه أمام بنى الحارث، ولكن جرما انهزمت سريعا: فكان ذلك سببا فى كسر بنى زبيد فى ذلك اليوم، ثم إن عمرا غزا بنى الحارث فأصاب فيهم واثتصف منهم، فقال:
لما رأونى فى الكتيفة مقبلا ... وسط الكتيبة مثل ضؤ الكوكب
واستيقنوا منا بوقع صادق ... هربوا وليس أوان ساعة مهرب
عجت نساء بنى زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
ويذكر بعض الرواة رواية أخرى: أن البيت لرجل من بنى أسد؛ ولفظه:
عجت نساء بنى زبيد عجة ... الخ، ومن المؤلفين من خلط بين الروايتين. وقد ذكر القالى فى اماليه ج 1 ص 126 أن مثل هذا البيت قول الشاعر:
رفعنا الخموش عن وجوه نسائنا ... إلى نسوة منهم فأبدين مجلدا
وذكر القالى أن «الأرنب» موضع، وكذلك تبع صاحب اللسان والتاج من نقل عن القالى ولم يسلم ذلك له، ولم تذكره كتب البلدان والمعروف أن أرنب انتفجت فى ذلك اليوم فتفاءلوا بالظفر: فظفروا: فسمى «يوم الأرنب» والعرب تتيمن بالأرنب إذا انتفجت.(20/473)
قال: ولمّا نودى بقتله خرجت زينب بنت عقيل ابن أبى طالب ومعها نساؤها حاسرة ناشرة شعرها، تلوى ثيابها، وهى تقول:
ماذا تقولون إن قال النبىّ لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟
بعترتى وبأهلى بعد مفتقدى ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائى إذ نصحت لكم ... أن تخلفونى بسوء فى ذوى رحمى
وقيل: سمع بعض أهل المدينة يوم قتل الحسين مناديا ينادى:
أيّها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتّنكيل
كلّ أهل السماء يدعو عليكم ... من نبى وملأك وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داو ... د وموسى وحامل [1] الإنجيل
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى الليلة التى قتل فيها الحسين وبيده قارورة، وهو يجمع فيها دما، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال هذه دماء الحسين وأصحابه أرفعها إلى الله تعالى!»
فأصبح ابن عباس فأعلم الناس بقتل الحسين، وقصّ رؤياه.
وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى أمّ سلمة ترابا من تربة الحسين، حمله إليه جبريل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «إذا صار التراب هذا دما فقد قتل الحسين»
فحفظت أمّ سلمة ذلك التراب فى قارورة، فلمّا قتل الحسين صار ذلك التراب دما
__________
[1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى، وجاء فى الكامل «وصاحب» .(20/474)
فأعلمت الناس بقتله. وهذا القول يستقيم على قول من يقول إن أمّ سلمة توفّيت بعد الحسين [1] .
قال [2] : ولما أراد يزيد أن يسيرّ آل الحسين إلى المدينة، أمر النعمان بن بشير أن يجهّزهم بما يصلحهم، ويسيّر معهم رجلا أمينا من أهل الشام، ومعه [3] خيل تسير بهم إلى المدينة، ودعا عليا ليودعه وقال: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّى صاحبه ما سألنى خصلة أبدا إلّا أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدى، ولكن قضى الله بذلك! كاتبنى بأيّة حاجة تكون لك» وأوصى بهم ذلك الرسول.
فخرج بهم، فكان يسايرهم ليلا فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، وإذا نزل تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسائلهم عن حوائجهم ويلطف بهم حتّى دخلوا المدينة.
فقالت فاطمة بنت على لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشىء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلّا حلينّا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا به إليه، واعتذرتا، فردّ الجميع، وقال: لو كان الذى صنعته للدنيا لكان فى هذا ما يرضينى، ولكن والله ما فعلته إلّا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
[1] أنظر الكامل ج 3 ص 303.
[2] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 300.
[3] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «ومعهم» .(20/475)
ذكر ما ورد من الاختلاف فى مقر رأس الحسين وأين دفن
قد اختلف المؤرخون فى مقر رأسه، فمنهم من قال: إنه دفن بدمشق، ومنهم من زعم أنه نقل إلى مرو؛ ومنهم من يقول: إنه أعيد إلى الجسد ودفن بالطّف؛ ومنهم من قال: دفن بعسقلان، ثم نقل إلى مصر؛ ومنهم من قال: دفن بالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضى الله الله عنهما. وقد رأينا أن نذكر أقوالهم فى ذلك ومستحجهم [1] .
قال: فأما من قال إنه دفن بدمشق فإنه يقول: إنه لمّا قتل الحسين رضى الله عنه، وحمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد بالكوفة كما تقدم وقصد حمله إلى دمشق، طلب من يقوره فلم يجبه إلّا طارق بن المبارك مولى بنى أمية وكان حجّاما، ففعل، وقد هجى أبو يعلى الكاتب، وهو أحد أسباط طارق هذا، فقيل فيه:
شقّ رأس الحسين جدّ أبى يع ... لى وساط [2] الدّماغ بالإبهام
ثم أرسل ابن زياد به إلى دمشق، فنصبه يزيد بن معاوية بها ثلاثة أيام، ووضع فى مسجد عند باب المسجد الجامع، يعرف بمسجد الرأس، (وهو تجاه باب الساعات، كان بابه هناك، ثم سدّ وفتح من مشهد زين العابدين فى سنة ثلاثين وستمائة ونحوها) ، ثم كان الرأس فى خزانة يزيد بن معاوية.
واختلف أيضا القائلون إنه دفن بدمشق فى المكان الذى دفن فيه بها.
فحكى ابن أبى الدنيا فى المقتل عن منصور بن جمهور أنه قال: دخلت
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «وحججهم» .
[2] ساطه: خلطه وقلبه.(20/476)
خزانة يزيد بن معاوية، فلما فتحت أصبت [1] جونة حمراء فقلت لغلام لى يقال له سليم: احتفظ بهذه الجونة فإنها كنز من كنوز بنى أمية، فلما فتحتها وجدت بها رأسا وورقة مكتوب فيها: «رأس الحسين بن على بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وإذا هو مخضوب بالسواد، فلفه فى ثوب ثم دفنه عند باب الفراديس، عند البرج الثالث مما يلى المشرق. وحكى الاسترباذى فى كتابه «الداعى إلى وداع الدنيا» عن أبى سعيد الزاهد أنه قال: قبر الحسين بكربلاء ورأسه بالشام فى مسجد دمشق على رأس أسطوانة، وقال غيره: على عمودين يمين القبلة، وقيل إن يزيد دفنه فى قبر أبيه معاوية، ومنهم من قال: فى مقابر المسلمين.
وأما من قال: إنه بمرو فانه يقول: إن أبا مسلم الخراسانى لما استولى على دمشق، أخذ الرأس ونقله إلى مرو، ودفن بها فى دار الإمارة: وأن الرأس حشى بالمسك وكفّن وصلّى عليه مرة بعد أخرى.
وأما من قال: إنه أعيد إلى الجسد ودفن معه، فمنهم من يقول: إن يزيد أعاده بعد أربعين يوما؛ ومنهم من يقول: بل استقر فى خزانة السلاح إلى أن ولى سليمان بن عبد الملك فأحضره وقد قحل [2] ؛ وبقى عظم أبيض فجعل عليه ثوبا وجعله فى سفط [3] وصلّى عليه ودفن فى مقابر المسلمين، فلما ولى عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن السلاح يطلب منه الرأس، فطالعه بما كان من أمره فأمره بنبشه وأخذه، فالله أعلم بما
__________
[1] الجونة: السلة.
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) : «قحل» ومعناه: يبس، وجاء فى النسخة (ك) :
«نحل» .
[3] السفط: وعاء كالقفة، وحرفه بعض العامة إلى «سبت» .(20/477)
صنع به، لكنهم أستدلّوا من ديانة عمر بن عبد العزيز وصلاحه وخيره أنه نقله إلى الجسد ودفن معه.
وأما من قال: إنه كان بعسقلان ثم نقل إلى مصر فاستنادهم فى ذلك إلى رؤيا منام، وذلك أن رجلا رأى فى منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين فى مكان بها، عيّن له فى منامه فنبش ذلك [1] الموضع، وذلك فى أيام المستنصر بالله العبيدى صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالى، فابتنى بدر الجمالى له مشهدا بعسقلان، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن تغلب الفرنج على عسقلان، فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فحمل إلى القاهرة فى البحر.
وحكى محمد بن القاضى المكين عبد العزيز بن حسين [2] فى سيرة الصالح بن رزّيك، قال: لما ولى عباس بن أبى الفتوح الوزارة بمصر فى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فى مستهلّ جمادى الآخرة وصل الخبر بتملّك الفرنج عسقلان، فنقل رأس الحسين فيها- من المشهد الذى أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالى، وكمله الأفضل [3]- إلى القاهرة، فكان وصوله إليها فى يوم الأحد، ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان قد سيّر أحد الأستاذين الخواص لتلقّيه إلى مدينة تنّيس [4] ، فوصل فى عشارى [5]
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «فنبش فى ذلك» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «عبد العزيز الحسين» .
[3] الأفضل: هو ابن أمير الجيوش بدر الجمالى، وقد قتل الأفضل فى شهر رمضان من سنة خمس عشرة وخمسمائة، انظر النجوم الزاهرة ج 5.
[4] جاءت هذه الكلمة فى الأصل غير منقوطة وغير واضحة، والأقرب أنها «تئيس» وهى مدينة قديمة فى جزيرة صغيرة فى الجهة الشمالية الشرقية من يحيرة المنزلة.
[5] عشارى: نوع من السفن المصرية الخاصة بعظماء الدولة وصفها عبد اللطيف البغدادى فى مختصر أخبار مصر طبع أوربا ص 172.(20/478)
من عشاريات الخدمة، ودخل فيه إلى خليج القاهرة، وأدخل من باب البستان المعروف بالكافورى، فى ليلة الاثنين التاسع من الشهر، وسلك به إلى القصر الغربى إلى أن وصل إلى القصر الشرقى، ولم يزل الحال على ذلك إلى أن حدث من عبّاس وابنه ما حدث، من قبل الظافر وإخوته وابن أخيه، على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبارهم فى كتابنا هذا، فلما نهض الصالح بن رزّيك فى الطلب بثأرهم، وولىّ الوزارة، لم يقدّم شيئا على الشروع فى بناء المشهد بالقصر، فى الموضع المعروف بقبة الخراج من دهاليز باب الديلم وكمّل المشهد، فلما كان فى ليلة يسفر صباحها عن تاسع المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة، خرج ابن رزّيك من داره راجلا إلى الايوان، فأخرج الرأس فحمله خاشعا مستكينا إلى أن أحله بالضريح، ومدحه الشعراء، فمن ذلك قول أحدهم:
أدركت من عبّاس ثأرا دونه ... ما أدرك السّفّاح من مروان
وحقرت ما فخر ابن ذى يزن به ... لمّا أقرّ الملك فى غمدان
وجمعت أشلاء الحسين وقد غدت ... بددا فأضحت فى أعزّ مكان
وعرفت للعضو الشريف محلّه ... وجليل موضعه من الرحمن
أكرمت مثواه لديك وقبل فى ... آل الطّريد غدا بدار هوان
وقضيت حقّ المصطفى فى حمله ... وحظيت من ذى العرش بالرّضوان
ونصبته للمسلمين تزوره ... مهج إليه شديدة الهيمان
أسكنته فى خير مأوى خطّه ... أبناؤه فى سالف الأزمان
ولو استطعت جعلت قلبك لحده ... فى موضع التوحيد والإيمان(20/479)
حرم تلوذ به الجناة فتنثنى ... محبوّة بالعفو والغفران
قد كان مغتربا زمانا قبل ذا ... فالآن عدت به إلى الأوطان
وأما من قال: إنه بالمدينة، فإنه يقول: إنه لما نصب بدمشق وطيف به، أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير الأنصارى أن يحمله إلى المدينة، ليشاهده الناس، وليرهب به عبد الله بن الزبير، فلما وصل إلى المدينة ودخل به على عمرو بن سعيد الأشدق، قال:
وددت أن أمير المؤمنين لم يكن بعث به إلىّ، فقال له مروان بن الحكم:
اسكت لا سكتّ ولكن قل كما قال:
ضربت دوسى فيهم ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر
ثم أمر به عمرو بن سعيد فكفّن ودفن عند قبر أمه فاطمة رضى الله عنهما.
وقيل: بل أرسل إلى من بالمدينة من بنى هاشم، أن [1] دونكم رأس صاحبكم، فأخذوه، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه عند قبر أمه رضى الله عنهما، والله تعالى أعلم، وقد تكلم عمر بن أبى المعالى أسعد بن عمار [2] بن سعد بن عمار [بن على] [3] رحمه الله تعالى فى كتابه الذى ترجمه «الفاصل بين الصدق والمين فى مقر رأس الحسين» على هذه الأقوال المتقدمة ووهنها وضعّفها [واستدل على ضعفها [4]] ، ورجح أنه بالمدينة، حتّى كاد يبلغ به مبلغ القطع،
__________
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «أودونكم» .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «عمران» .
[3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .(20/480)
فقال ما معناه: أمّا قولهم إنه كان فى خزائن بنى أميّة إلى أن ظهرت الخلافة العباسية، وأن أبا مسلم نقله إلى خراسان، فهذا بعيد جدا، وذلك أن أبا مسلم لمّا فتح الشام كان بخراسان، والذى فتح دمشق عبد الله بن على بن [عبد الله بن] [1] عباس، فكيف يتصوّر أن ينقله أو يمكن من نقله إلى مولاه بخراسان؟ ولو ظفر به فى خزائن بنى أميّة لأظهره للناس ليزدادوا لبنى أمية بغضا، وأيضا فقد ولى العبد الصالح عمر بن عبد العزيز الخلافة، وبعيد أن كان يترك رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خزائن السلاح ولم يواره.
وأمّا قولهم إنه كان بعسقلان فلم يوجد ذلك فى تاريخ من التواريخ أنه نقل إلى عسقلان ولا إلى مصر، ويقوّى ذلك أن الشام ومصر لم يكن بهما شيعة علوية فينقل إليهم ليروه وتنقطع آمالهم من الحسين وتضعف نفوسهم عن الوثوب مع غيره والانضمام [2] إليه.
وأما قولهم إنه بالمدينة عند قبر أمه فقد قاله محمد بن سعد فى طبقاته، وابن أبى الدنيا وأبو المؤيد الخوارزمى خطيب خوارزم فى إحدى رواياتهما، وصححه أبو الفرج ابن الجوزى، والله تعالى أعلم.
وقد أخذ هذا الفصل حقه، فلنذكر خلاف ذلك من الأخبار التى اتفقت فى أيام يزيد بن معاوية على حكم اليقين:
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «أو الإنضمام» .(20/481)
ذكر مقتل أبى بلال مرداس بن حدير الحنظلى [1] الخارجى
قد ذكرنا فى أيام معاوية خروجه وأن ابن زياد بعث [2] إليه أسلم بن زرعة الكلابى فى ألفين، فهزمهم بآسك.
فلما كان فى هذه السنة أرسل إليه ابن زياد ثلاثة آلاف، عليهم عباد بن الأخضر التميمى (والأخضر زوج أمه، نسب إليه وإنما هو عباد بن علقمة بن عباد) فسار إليه، واتبعه حتّى لحقه بتوّج [3] ، فاقتتلوا حتّى دخل وقت العصر، فقال أبو بلال: هذا يوم جمعة، وهو يوم عظيم، دعونا حتّى نصلّى، فتوادعوا، فعجّل عباد الصلاة وقيل: بل قطعها، والخوارج يصلّون، فشدّ عليهم هو وأصحابه، فقتلوهم وهم ما بين قائم وراكع وساجد، لم يتغير منهم أحد عن حاله، فقتلوا عن آخرهم.
ورجع عباد إلى البصرة برأس أبى بلال، فرصده عبيدة بن هلال ومعه ثلاثة نفر، فأقبل عباد يريد قصر الإمارة، فقالوا له: قف حتّى نستفتيك. فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة قتل أخونا فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير: قالوا: استعديناه فلم يعدنا.
قال: فاقتلوه قتله الله. فوثبوا عليه وقتلوه، واجتمع الناس على الخوارج فقتلوا [4] .
__________
[1] حدير: أبو مرداس، وأم مرداس: أدّيّة، وقد اشتهر ب «مرداس بن أدية» كما سبق.
[2] سنة ثمان وخمسين.
[3] توج: مدينة بفارس، ويقال فيها: توز.
[4] فى الكامل «فقتلوا غير عبيدة» .(20/482)
وفيها استعمل يزيد بن معاوية سلم بن زياد على خراسان وسجستان، وعزل عنهما أخويه: عبد الرحمن وعبّادا ابنى زياد، فكتب عبيد الله [1] بن زياد إلى أخيه عباد [2] يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما فى بيت المال على عبيدة، وفضل فضل فنادى: من أراد سلفا فلياخذ، فأسلف كلّ من أتاه، وخرج عن سجستان، فلما كان بجيرفت [3] بلغه مكان أخيه سلم، وكان بينهما جبل، فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك، أقلّ ما مع أحدهم عشرة آلاف، وسار عباد حتى قدم على يزيد، فسأله عن المال، فقال: كنت صاحب ثغر فقسمت ما أصبت بين الناس.
قال: ولما سار سلم إلى خراسان كتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد معه [4] بنخبة ستة آلاف فارس، وقيل ألفين، فكان سلم ينتخب الوجوه [والفرسان [5]] ، فخرج معه عمران بن الفضيل البرجمى والمهلّب بن أبى صفرة وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى وغيرهم، وسار حتّى قدم خراسان، وعبر النهر غازيا، وكان عمال خراسان قبله يغزون، فإذا دخل الشتاء رجعوا إلى مرو الشاهجان [6] ، فإذا
__________
[1] كذا جاء «عبيد الله» فى النسخة (ن) مثل الكامل ح 3 ص 303 وتاريخ الطبرى 4 ص 361، وجاء فى النسخة (ك) «عبد الرحمن» .
[2] وكان له صديقا.
[3] جيرفت: مدينة بكرمان.
[4] عبارة ابن الأثير «كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد» ، وعبارة الطبرى «قدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله» .
[5] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 362.
[6] مرو الشاهجان هى مرو العظمى، و «الشاهجان» كلمة فارسية معناها: نفس السلطان، لأن «جان» هى نفس أو روح، والشاه هو السلطان، سميت بذلك لجلالتها عندهم.(20/483)
انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة ممّا يلى خوارزم، فيتعاقدون ألّا يغزو بعضهم بعضا ويتشاورون فى أمورهم، وكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم غزو تلك المدينة، فيأبون عليهم، فلمّا قدم سلم غزا فشتّى فى بعض مغازيه، فسأله المهلب أن يوجهه إلى تلك المدينه، فوجهه فى ستة آلاف، وقيل: فى أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا الصلح على نيّف وعشرين ألف ألف، فصالحهم، وكان فى صلحهم أن يأخذ منهم عروضا، فكان يأخذ العروض من الرقيق والدوابّ والمتاع بنصف قيمتها، فبلغ ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظى بها المهلّب عند سلم، وأخذ سلم من ذلك ما أعجبه وبعث به إلى يزيد.
وغزا سلم سمرقند، وعبر معه النهر امرأته أم محمد بنت عبد الله ابن عثمان بن أبى العاص الثقفى، وهى أول امرأة من العرب قطع بها النهر، فولدت له ابنا سماه «صغدى» واستعارت امرأته من امرأة صاحب الصّغد حليّها فلم تعده إليها وذهبت به [1] .
ووجّه جيشا إلى خجندة [2] فيهم أعشى همدان، فهزموا، فقال الأعشى فى ذلك:
ليت [3] خيلى يوم الخجندة لم ته ... زم وغودرت فى المكرّ سليبا [4]
تحضر الطير مصرعى وتروّح ... ت إلى الله فى الدّماء خضيبا
__________
[1] عبارة الطبرى: «وأرسلت إلى امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليا، فبعثت إليها بتاجها، وقفلو فذهبت بالتاج» .
[2] خجندة: مدينة على شاطىء سيحون.
[3] سقط البيتان من النسخة (ن) .
[4] كذا جاء فى الكامل ومعجم البلدان، وجاء فى المخطوطة «المكان» .(20/484)
وفيها عزل يزيد عمرو بن سعيد، واستعمل الوليد بن عتبة ابن أبى سفيان، وسبب ذلك أن الوليد وناسا من بنى أميّة قالوا ليزيد:
لو شاء عمرو لأخذ بن الزبير وسرّح [1] به إليك. فعزله، ولم يكن كذلك، بل كان ابن الزبير كاده.
وحج الوليد فى هذه السنة بالناس.
سنة اثنين وستين ذكر وفد أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية وخلعهم له عند عودهم
وفى هذه السنة وفد جماعة من أهل المدينة إلى يزيد بن معاوية بالشام، فيهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة [2] وعبد الله بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومى، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة.
وكان ابن الزبير قد كتب [3] إلى يزيد لمّا استعمل الوليد ابن عتبة على الحجاز يقول: «إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا بتّجه لرشد، ولا يرعوى لعظة الحكيم، فلو بعثت رجلا سهل الخلق
__________
[1] فى الكامل ج 3 ص 306 «وسرحه» ، وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 366 «وبعث به» .
[2] لقب حنظلة بن أبى عامر الأنصارى الأوسى ب «غسيل الملائكة» لأنه لما استشهد فى غزوة أحد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أنه «تغسله الملائكة» .... وابنه «عبد الله» مولود على عهد النبى صلى الله عليه وسلم.
[3] فى تاريخ الطبرى والكامل: «أن ابن الزبير عمل بالمكر فى أمر الوليد بن عتبة فكتب....» .(20/485)
رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرّق» [1] فعزل يزيد الوليد، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وهو فتى غرّ حدث لم تحنّكه التجارب، ولا يكاد ينظر فى شىء من سلطانه ولا عمله.
فوفد هذا الوفد إلى يزيد، فقدموا عليه، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم، فأعطى عبد الله بن حنظلة مائة ألف درهم، وكان معه ثمانية بنين فأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف، وأجاز المنذر بن الزبير بمائة ألف كتب له بها على عبيد الله بن زياد فتوجه إلى العراق فقبضها.
ورجع الوفد إلى المدينة إلّا المنذر، فلمّا قدموا المدينة قاموا فى الناس فأظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: «قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطّنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحزّاب (وهم اللصوص) وإنا نشهدكم أنّا قد خلعناه» .
وقام عبد الله بن حنظلة فقال: «جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلّا بنىّ هؤلاء لجاهدته، وقد أعطانى وأكرمنى، وما قبلت منه عطاءه إلّا لأتقوّى به» .
فخلعه الناس، وبايعوا عبد الله بن حنظلة على خلعه، وولّوه عليهم.
ثم قدم المنذر من العراق إلى المدينة، فحرّض الناس على يزيد،
__________
[1] زاد الطبرى «فانظر فى ذلك، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله، والسلام» .(20/486)
وقال: «إنه أجازنى بمائة ألف [1] ، ولا يمنعنى ما صنع بى أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتّى يدع الصلاة!» وعابه بمثل ما عابه به أصحابه وأشدّ.
فبعث يزيد النعمان بن بشير الأنصارى وقال له: «إن عدد الناس بالمدينة قومك، فأتهم فالفتهم عمّا يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فى هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافى» . فأتى النعمان قومه، وأمرهم بلزوم الطاعة، وخوّفهم الفتنة، فعصوه ولم يرجعوا إلى قوله، فرجع. وبسبب هذه الواقعة كانت وقعة الحرّة.
وفى هذه السنة كان من الحوادث فى بلاد المغرب ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار أفريقية.
وحج بالناس فى هذه السنة الوليد بن عتبة.
وفيها ولد محمد بن عبد الله بن عباس والد السفاح والمنصور.
سنة ثلاث وستين ذكر وقعة الحرّة
كان سبب هذه الوقعة ما قدمناه من خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، فلمّا كان فى هذه السنة أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد ابن أبى سفيان عامل يزيد، وحصروا بنى أميّة، فاجتمع بنو أميّة ومواليهم ومن يرى رأيهم فى ألف رجل، ونزلوا دار مروان ابن الحكم، وكتبوا [2] إلى يزيد يستغيثون به، فلمّا قرأ الكتاب
__________
[1] فى تاريخ الطبرى: «أجازنى بمائة ألف درهم» .
[2] كان الذى بعث إليه منهم مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان بن عفان، وكان مروان هو الذى يدبر أمرهم، فأما عثمان بن محمد بن أبى سفيان، فانما كان غلاما غرا ليس له رأى، كما سبق قريبا.(20/487)
بعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق، فأقرأه الكتاب وأمره بالمسير فى الناس، فقال قد كنت ضبطت لك الأمور والبلاد، فأما الآن إذ صارت دماء قريش تهراق بالصعيد فلا أحبّ أن أتولّى ذلك.
فبعث إلى عبيد الله بن زياد، فأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة عبد الله بن الزبير بمكة، فقال: «والله لا أجمعهما [1] للفاسق:
قتل ابن بنت رسول الله وغزو الكعبة!» ثم أرسل إليه يعتذر.
فبعث إلى مسلم بن عقبة المرّى [2] وهو شيخ كبير مريض فأخبره الخبر، فقال: أما يكون بنو أميّة [ومواليهم وأنصارهم بالمدينة] [3] ألف رجل؟ قال: بلى؛ قال: «أما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا فإنهم أذلّاء! دعهم يا أمير المؤمنين حتّى يجهدوا أنفسهم فى جهاد عدوّهم، ويتبيّن لك من يقاتل على طاعتك ومن يستسلم» ؛ قال: «ويحك! إنه لا خير فى العيش بعدهم! فاخرج بالناس» .
وقيل: إن معاوية قال ليزيد: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته، فأمره بالمسير إليهم.
فنادى فى الناس بالتجهيز إلى الحجاز وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار لكل رجل؛ فانتدب لذلك اثنا عشر ألفا، وساروا مع
__________
[1] جاء فى النسخة (ن) : «لاجمعتهما» .
[2] هو مسلم بن عقبة بن رباح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع بن غيظ بن مرة، فهو منسوب إلى «مرة» ، وقد قال عند موته «لبنى مرة زراعتى التى بحوران صدقة على مرة» ووقع فى النسخة (ن) : «المزنى» .
[3] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 371.(20/488)
مسلم، فقال له يزيد: إن حدث بك حدث فاستخلف الحصين ابن نمير السّكونى [1] ؛ وقال له: «ادع القوم ثلاثا فإن أجابوا وإلّا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو رقة [2] أو سلاح أو طعام، فهو للجند، فإن انقضت الثلاث فاكفف عن الناس، واكفف عن علىّ بن حسين، واستوص به خيرا [3] فإنه لم يدخل مع الناس، وقد أتانى كتابه» .
قال: ولمّا بلغ أهل المدينة خبر الجيش اشتدّ حصارهم لبنى أمية بدار مروان، وقالوا: «والله لا نكف عنكم حتّى نضرب أعناقكم [4] أو تعطونا عهد الله وميثاقه أنكم لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوّنا، فنكفّ عنكم ونخرجكم» ، فعاهدوهم على ذلك، وأخرجوهم من المدينة، فساروا بأثقالهم حتّى لقوا مسلم بن عقبة بوادى القرى، فدعا عمرو بن عثمان بن عفّان أوّل الناس، فقال: أخبرنى ما وراءك وأشر علىّ، قال: لا أستطيع، قد أخذ علينا العهود والمواثيق ألا ندلّ على عورة ولا نظاهر عدوّا؛ فانتهره وقال: «والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشيا بعدك!»
__________
[1] هو الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن حارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، كما فى جمهرة أنساب العرب ص 403.
[2] الرقة: الدراهم، وجاء فى الكامل ج 3 ص 311 «دابة» .
[3] يروى أن أهل المدينة لما ثاروا على بنى أمية كلم مروان بن الحكم على بن الحسين فى أن يجعل أهله عنده، فقبل ابن الحسين؛ وخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم فى يتبع.
[4] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «رقابكم) ، وجاء فى الكامل ج 3 ص 312: «حتى تستنزلكم ونضرب أعناقكم» .(20/489)
فخرج إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل عليه قبلى لعله يجتزىء بك عنى، فدخل عبد الملك على مسلم، فقال «نعم: [هات ما عندك؛ فقال [1]] نعم، أرى أن تسير بمن معك، فإذا انتهيت إلى أدنى نخلها نزلت، فاستظلّ الناس فى ظله وأكلوا من صقره [2] ، فإذا أصبحت من الغد مضيت، وتركت المدينة ذات اليسار، ثم درت بها حتّى تأتيهم من قبل الحرّة مشرقا [3] ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم [الشمس] [4] طلعت من أكناف أصحابك فلا تؤذيهم، ويصيبهم أذاها [5] ويرون من ائتلاق بيضكم وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم ما لا ترونه أنتم منهم، ثم قاتلهم، واستعن عليهم بالله تعالى» . فقال له مسلم: «لله أبوك.! أىّ أموىّ!» ثم دخل عليه مروان فقال له [إيه. قال] [6] أليس قد دخل عليك عبد الملك؟
قال: «بلى، وأىّ رجل عبد الملك! قلما كلمت من رجال قريش رجلا به شبيها!» فقال له مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتنى.
ثم ارتحل مسلم من مكانه، وفعل ما أمره به عبد الملك، ثم دعاهم فقال: «إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل، وإنى أكره إراقة
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[2] يقال لعسل الرطب عند أهل المدينة «صقر» بسكون القاف؛ ويقال لهذا الرطب «صقر» بكسر القاف.
[3] الحمرة- بفتح الحاء وتشديد الراء- أرض بظاهر المدينة فيها حجارة سود كبيرة.
[4] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[5] لأن أشعة الشمس تقع فى وجودهم، بخلاف جيش مسلم بن عقبة.
[6] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ ولم تثبت فى النسخة (ك) .(20/490)
دمائكم، وإنى أؤجّلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحقّ قبلنا منه وانصرفت عنكم إلى هذا الملحد الذى بمكة، وإن أبيتم كنّا قد أعذرنا إليكم» .
فلما مضت الثلاث قال مسلم: يا أهل المدينة ما تصنعون؟
أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: «لا تفعلوا، بل ادخلوا فى الطاعة، ونجعل حدّنا وشوكتنا على هذا الملحد الذى قد جمع إليه المرّاق [1] والفسّاق من كل أوب [2] » يعنى عبد الله بن الزبير، فقالوا له: «يا عدوّ الله، لو أردتم أن تجوزوا إليه ما تركناكم: أنحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام فتخيفوا أهل مكة وتلحدوا فيه وتستحلّوا حرمته؟ لا والله لا نفعل!» .
قال: وكان أهل المدينة قد اتّخذوا خندقا، وعليه جمع منهم، عليهم عبد الرحمن بن أزهر بن عوف [وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف] [3] وكان عبد الله بن مطيع مع ربع قريش فى جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعى، أحد الصحابة على ربع المهاجرين، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصارى فى أعظم تلك الأرباع، وهم الأنصار.
وصمد مسلم بن عقبة فيمن معه، فأقبل من ناحية الحرّة، حتّى
__________
[1] المارق الخارج من الدين بضلالة، وجمعه: المراق.
[2] أوب، جهة.
[3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) ، وقد ذكرها كذلك بعض العلماء، منهم ابن جرير الطبرى فى تاريخه ح 4 ص 374 وابن الأثير فى الكامل ح 3 ص 312، والراجع عند الزبير بن بكار وأبى نعيم وابن عبد البر وابن حجر أنه ابن أخى عبد الرحمن بن عوف.(20/491)
ضرب فسطاطه على طريق الكوفة، وكان مريضا، فأمر فوضع له كرسىّ بين الصفّين، فجلس، ثم حرّض أهل الشام على القتال، فجعلوا لا يقصدون ربعا من تلك الأرباع إلّا هزموه، ثم وجّه الخيل نحو ابن الغسيل، فكشفهم [1] ، حتّى انتهوا إلى مسلم، فنهض فى وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فقاتلوا قتالا شديدا.
ثم إن الفضل بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل، فقاتل معه فى نحو عشرين فارسا قتالا حسنا، ثم قال ابن بن الغسيل: «مر من معك فارسا فليأتنى، فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا [2] ، فو الله لا أنتهى حتى أبلغ مسلما فأقتله أو أقتل دونه!» ففعل، وجمع الجند، فحمل بهم الفضل على أهل الشام، فانكشفوا، ثم حمل وحمل أصحابه حملة أخرى، فانفرجت خيل الشام عن مسلم ومعه خمسمائة راجل جثاة على الرّكب مشرعى الأسنّة نحو القوم، ومضى الفضل نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها فقطّ المغفر وفلق هامته، فخرّ ميتا، وقال: خذها وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه قتل مسلما، فقال: قتلت طاغية القوم وربّ لكعبة! فأخذ مسلم رايته، وكان المقتول غلاما روميا [3] شجاعا، وحرّض مسلم أهل الشام، وقال: شدّوا مع هذه الراية، فمشى برايته، وشدّت الرجال أمام الراية، فصرع الفضل وما بينه وبين [أطناب] [4]
__________
[1] فى الكامل وتاريخ الطبرى، «فحمل عليهم ابن الفسيل فى من معه فكشفهم» .
[2] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة: (ن) : «فليحمل معى» .
[3] كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل ح 3 ص 313، وجاء فى تاريخ الطبرى ح 4 ص 375: «يقال له رومى» .
[4] كذا جاء فى النسخة (ن) ، وجاء فى النسخة (ك) : «وبين فسطاط» ، وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى وبين «أطناب» .(20/492)
فسطاط مسلم إلّا نحو عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وأقبلت خيل مسلم ورجالته نحو ابن الغسيل، فحرض ابن الغسيل أصحابه، فنهضوا واقتتلوا أشدّ قتال، وأخذ ابن الغسيل يقدّم بنيه واحدا واحدا، حتّى قتلوا بن يديه، ثم قتل وقتل معه أخوه لأمه محمد ابن ثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصارى. وانهزم الناس.
وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والأموال، فسمّى مسلم بعد وقعة الحرة [1] مسرفا» .
وقيل إن مسلما لمّا نزل بأهل المدينة خرج إليه أهلها بجموع كثيرة وهيئة حسنة، فهابهم أهل الشام، وكرهوا قتالهم، [فلما رآهم مسلم سبّهم وذمهم وحرّضهم، وكان شديد الوجع، فقاتلوا، فبينما أهل المدينة فى قتالهم] [2] إذ سمعوا التكبير من خلفهم من جوف المدينة، وكان سببه أن بنى حارثة أدخلوا أهل الشام المدينة، فانهزم الناس، فكان من أصيب فى الخندق أكثر ممّن قتل.
ودعا مسلم الناس إلى البيعة ليزيد على أنهم خول [3] له يحكم فى دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، فمن امتنع من ذلك قتله.
وأتى يومئذ بعمرو بن عثمان بن عفان، وكان ممّن لم يخرج مع
__________
[1] انظر قول على بن عبد الله بن عباس:
هموا منعوا ذمارى يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنوا للكيعة
[2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) مثل تاريخ الطبرى فى ج 4 ص 381 وسقطت من النسخة (ك) .
[3] الخول: العبيد ونحوهم.(20/493)
بنى أميّة، فقال مسلم: يا أهل الشام تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ قال:
هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان، هى يا عمرو إذا ظهر [1] أهل المدينة قلت أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت أنا ابن أمير المؤمنين عثمان» ، وأمر به فنتفت لحيته، ثم خلّى سبيله.
وكانت وقعة الحرّة لليلتين بقيتا من ذى الحجة سنة ثلاث وستين.
وقتل مسلم جماعة من أهل المدينة صبرا، فكان منهم على ما ذكر ابن إسحاق والواقدى وويثمة وغيرهم: الفضل بن العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وأبو بكر بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ويعقوب ابن طلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن زيد بن عاصم، ومعقل ابن سنان الأشجعى، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، وقتل أيضا صبرا ابنا زينب بنت أم سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما [2] ابنا عبد الله [3] بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزّى بن قصىّ، ولما قتلا حملا إلى أمهما فوضعا بين يديها، فاسترجعت [4] وقالت: والله إنّ المصيبة علىّ فيهما لكبيرة، وهى علىّ فى هذا أكبر منها فى هذا، أما هذا فجلس فى بيته وكفّ
__________
[1] ظهر: غلب.
[2] ولدت زينب بنت أبى سلمة بأرض الحبشة، وتزوج النبى صلى الله عليه وسلم أمها- أم سلمة- وهى ترضعها، فكانت ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى سماها «زينب» ، وكانت من أفقه نساء زمانها.
[3] كان عبد الله ابن أخت «أم سلمة» .
[4] استرجعت: قالت إنا لله وانا إليه راجعون.(20/494)
يده فدخل عليه فقتل مظلوما، فأنا أرجو له الجنة، وأمّا هذا فبسط.
يده فقاتل حتى قتل، فلا أدرى علام هو فى ذلك؟ فالمصيبة به أعظم منها علىّ فى هذا! وقتل أيضا يزيد بن عبد الله بن زمعة.
وانتهى القتل يومئذ فيما ذكروا إلى ثلاثمائة، كلّهم من أبناء المهاجرين والأنصار. ومنهم جماعة ممّن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغت قتلى قريش يومئذ نحو مائة، وقتلى الأنصار والحلفاء والموالى نحو مائتين.
وقيل: إن يزيد بن معاوية لمّا بلغه ما كان من خبر هذه الوقعة قال:
ليت أشياخى ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا واستهلّوا فرحا ... ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من عتبة إن لم أثّئر [1] ... من بنى أحمد ما كان فعل
هكذا حكى [2] عن بعض المؤرخين. والذى أعتقده أن هذه الأبيات مفتعلة عنه ومنسوبة [3] إليه، فإنها لا تصدر إلّا ممن نزع ربقة [4] الإسلام من عنقة. والله أعلم.
__________
[1] أثأر: أدرك الثأر.
[2] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) : «نقل» .
[3] لأنه أوصى بعلى بن الحسين خيرا، ولأنه حارب قريشا فى من حارب بالمدينة، ولأن البيت الأول من هذه الأبيات من قصيدة معروفة لعبد الله بن الزبعرى بن عدى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى قالها فى وقعة أحد قبل أن يسلم، وقد عارضه حصان بن ثابت بقصيدة قال فيها:
ذهبث بابن الزبعرى وقعة ... كان منا الفضل فيها لو عدل
ثم أسلم ابن الزبعرى فى فتح مكة واعتذر فى شعر منه قوله:
يا رسول المليك إن لسانى ... راثق ما فتقت إذ أنا بور
[4] الربقة: العروة فى الحبل.(20/495)
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير، وكان يسمى يومئذ «العائذ بالبيت» .
سنة اربع وستين ذكر مسير مسلم بن عقبة إلى مكة لحصار عبد الله بن الزبير، ووفاة مسلم والحصار الأول وإحراق الكعبة
قال ولما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص نحو مكة بمن معه لقتال ابن الزبير، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامّى. وقيل: عمرو بن محرز الأشجعى. وكان خبر وقعة الحرّة قد أتى عبد الله بن الزّبير مع المسور بن مخرمة هلال المحرم، فاستعد هو وأصحابه للحرب.
وسار مسلم حتى انتهى إلى المشلّل [1] فمات هناك، ولما حضرته الوفاة أحضر الحصين بن نمير السّكونىّ وقال له يا برذعة الحمار، لو كان الأمر لى ما ولّيتك هذا الجند. ولكن أمير المؤمنين ولّاك [2] ؛ ثم مات.
وسار الحصين فقدم مكة لأربع بقين من المحرّم، وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد الله بن الزبير [ولحق به من انهزم من أهل المدينة] [3]
__________
[1] المشلل: جبل.
[2] زاد ابن جرير فى تاريخه ح 4 ص 382 قول مسلم بن عقبة: فاحفظ ما أوصيك به:
هم الأخبار؛ ولا ترع سمعك قريشا أبدا؛ ولا تردن أهل الشام عن عدوهم؛ ولا تقيمن الا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير» .
[3] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ؛ وسقطت من النسخة (ك) .(20/496)
وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفىّ من اليمامة فى أناس من الخوارج يمنعون البيت.
فخرج ابن الزّبير للقاء أهل الشام ومعه أخوه المنذر، فبارز المنذر [1] رجل من أهل الشام، فضرب كلّ واحد منهما صاحبه ضربة فماتا جميعا.
وقاتل المسور بن مخرمة، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف قتالا شديدا حتّى قتلا، وصابرهم ابن الزّبير إلى الليل، ثم انصرفوا عنه [2] ، ثم أقاموا عليه فقاتلوه بقية المحرم وصفر كله، حتّى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وهم يرتجزون:
خطارة [3] مثل الفنيق [4] المزبد ... نرمى بها أعواد هذا المسجد
واستمروا على القتال والحصار إلى آخر هذا الشهر، فأتاهم نعى يزيد بن معاوية لهلال شهر ربيع الآخر.
ذكر وفاة يزيد بن معاوية وشىء من أخباره
كانت وفاته بحوّارين من قرى حمص لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وقيل: فى هذا الشهر من
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة: وجاء فى تاريخ الطبرى: «ثم إن رجلا من الشام دعا المنذر إلى المبارزة. وجاء فى الكامل: «فبارز المنذر رجلا» .
[2] وهذا فى الحصار الأول.
[3] وكذلك جاء فى حديث الحجاح لما حاصر ابن الزبير بمكة ونصب المنجنيق «خطارة كالجمل الفنيق» انظر لسان العرب فى خ ط ر، ف ن ق، شبه رميها بخطران الفحل من الإبل تشبيها مأخوذا من بيئتهم.
[4] الفنيق: القحل المكرم من الإبل.(20/497)
سنة ثلاث وستين، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل: تسع وثلاثين؛ وقيل: أقلّ من ذلك إلى خمس وثلاثين.
وكانت ولايته ثلاث سنين وتسعة [1] أشهر وأيّاما، على القول الأول فى وفاته. وحمل إلى دمشق فدفن بها فى مقبرة الباب الصغير، وصلّى عليه ابنه معاوية.
وكان له من الأودلار معاوية وخالد [2] وأبو سفيان عبد الله الأكبر أمّهم أمّ هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وله أيضا عبد الله الأصغر [3] ، وأمّه أمّ كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الإسوار [4] وله أيضا عبد الله أصغر الأصاغر، وعمير [5] وأبو بكر وعتبة وحرب ومحمد لأمّهات شتى؛ قيل: وله يزيد والربيع.
وكاتبه عتبة [6] بن أوس ثم زمل بن عمرو العذرىّ.
وكان نقش خاتمه: «ربّنا الله» .
حاجبه خالد مولاه، وقيل: صفوان.
قاضيه أبو إدريس الخولانى.
__________
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل ج 3 ص 317 وتاريخ الطبرى ج 4 ص 384: «وستة أشهر وقيل: ثمانية أشهر» والظاهر أنها ثمانية اشهر، لأن مبايعة يزيد كانت فى رجب، وجاء فى التنبيه والإشراف للمسعودى ص 264: «وكانت أيامه ثلاث سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما» .
[2] كان خالد يكنى» أبا هاشم «وقيل إنه أصاب علم الكيمياء» .
[3] كان من أرمى العرب.
[4] الإسوار: الجيد الرمى.
[5] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى الكامل وتاريخ الطبرى: «عمرو» .
[6] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى التنبيه والإشراف ص 265 «وكتب له عبيد بن أوص النسائى وزمل بن عمرو العذرى وسرجون بن منصور» .(20/498)
عمّاله على الأمصار [من] [1] تقدم ذكرهم.. الأمير بمصر مسلمة بن مخلّد [2] ، ثم توفّى [3] ، فولّاها يزيد سعيد [4] بن يزيد الأزدى من أهل فلسطين.. القاضى بها من قبل مسلمة ويزيد عابس [5] بن سعيد، وجمع له بين القضاء والشرطة، وكان أمّيّا لا يكتب ولا يقرأ.
ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية
وكنيته «أبو عبد الرحمن» و «أبو ليلى [6] » ، وأمه أم هاشم بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة، وهو الثالث من ملوك بنى أميّة، بويع له بالشام فى النصف من ربيع الأول سنة أربع وستين.
__________
[1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم نتبت فى النسخة (ك) .
[2] مسلمة بن مخلد الخزرجى الأنصارى، ولاه معاوية مصر بعد عزل عقبة بن عامر الجهنى عنها فى سنة سبع واربعين، وهو أول من أحدث المنار بالمساجد والجوامع.
[3] توفى مسلمة لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنين وستين، وكانت ولايته على مصر خمس عشرة سنة وأربعة أشهر.
[4] سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدى، لما ولاه يزيد إمرة مصر دخلها فى مستهل شهر رمضان؛ فتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو الخولانى، فلما رآه قال، «يغفر الله لأمير المؤمنين! أما كان فينا مائة شاب كلهم مثلك يولى علينا أحدهم؟» ولم يزل أهل مصر على البغض له حتى توفى يزيد، فاستجابوا لدعوة بن الزبير، فاعتزل سعيد بعد ولايته بسنتين.
[5] كان مسلمة بن مخلد قد خرج إلى الإسكندرية فى سنة ستين، واستخلف على مصر عابس بن سعيد، ثم قدم مسلمة من الإسكندرية فجمع لعابس مع الشرطة القضاء فى أول سنة 61 ثم توفى عابس فى سنة ثمان وستين.
[6] قال المسعودى فى التنبيه والإشراف: «معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا عبد الرحمن، وإنما كنى أبا ليلى تقريعا له لعجزه عن القيام بالأمر، وكانت العرب تفعل ذلك بالعاجز من الرجال، وفيه قال الشاعر:
إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا
وقيل: بل هذا الشعر قديم تمثل به الشاعر فى أيامه» .(20/499)
قال [1] : ولمّا كان فى آخر إمارتة أمر فنودى: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد، فإنى ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر رضى الله عنهما فلم أجده، فابتغيت ستة من أهل الشورى فلم أجد، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم» . ثم دخل منزله وتغيّب حتّى مات، فقيل: مات مسموما، وصلّى عليه الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، ثم طعن [2] الوليد فمات من يومه.
وقيل: إنه لمّا كبّر تكبيرتين مات قبل انقضاء الصلاة، فتقدم مروان بن الحكم فصلّى عليه.
وقيل: إنه أوصى أن يصلّى بالناس الضحّاك بن قيس حتى يقوم لهم خليفة.
وقيل له عند الموت:! اعهد إلى خالد بن يزيد، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلّد وزرها من بعدى [3] ! ولم يكن لمعاوية هذا ولد.
وكان نقش خاتمه: «الدنيا غرور» [4] .
وكانت وفاته لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.
__________
[1] ابن الأثير فى الكامل 3 ص 319.
[2] طعن: أصابه الطاعون.
[3] جاء فى الكامل أن معاوية بن يزيد قال: «لا أتزود مرارتها واترك لبنى أمية حلاوتها» .
[4] كذا جاء فى الأصل وجاء فى التنبيه والإشراف: «وكان نقش خاتمه: «بالله ثقة معاوية» .. وكتب له زمل بن عمرو العذرى وسليمان بن سعيد الخشنى وسرجون النصرانى، وقاضيه: أبو إدريس الخولالى، وحاجبه: صفوان مولاه..(20/500)
وكانت مدة ولايته إلى حين وفاته أربعين يوما، وقال المدائنى:
ثلاثة أشهر، وقال ابن إسحاق: عشرين يوما.
ومات وله ثلاث وعشرون سنة، وقال العتبى: سبع عشرة سنة.
والله تعالى أعلم.
فلنذكر أخبار من بويع بالعراق وخراسان فى زمن هذه الفتن، بعد وفاة يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد إلى أن خلص الأمر بالحجاز والعراق وخراسان لعبد الله بن الزّبير.
ذكر أخبار من بويع بالعراق أو لم يتم أمره إلى أن بويع
لعبد الله بن الزبير وما كان بالعراق من الوقائع فى خلال ذلك كان أوّل من بويع بالعراق بعد وفاة يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بن أبيه، وذلك أنه لمّا أتاه الخبر بوفاة يزيد، وبلغه ما الناس فيه بالشام من الاختلاف، أمر فنودى: «الصلاة جامعة» ، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فنعى يزيد وعرّض بثلبه [1] ، لأن يزيد كان قد كرهه قبل موته، وصرّح بلعنه بسبب قتل الحسين بن علىّ، حتى خافه عبيد الله على نفسه، ثم قال عبيد الله: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، [ومولدى فيكم] [2] ، ولقد ولّيتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألف مقاتل، وما أحصى ديوان عمالكم [إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا
__________
[1] الثلب: اللوم والعيب.
[2] الزيادة من الكامل ج 3 ص 320.(20/501)
ظنّة أخافه عليكم [1]] إلّا وهو فى سجنكم، وإنّ يزيد قد توفّى، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أوّل راض بما رضيتموه [لدينكم وجماعتكم] [2] ، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم [3] حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم» .
فقام خطباؤهم، وقالوا: قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحد أقوى عليها منك، فهلمّ [4] نبايعك، فقال: لا حاجة لى فى ذلك.
فكرروا عليه وهو يأبى عليهم ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا: أيظن ابن مرجانة إنّا ننقاد له فى الجماعة والفرقة.
قال: ولمّا بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن قرحا التيمى [5] يدعوهم إلى البيعة له، ويعلمهم ما صنع أهل البصرة، فلمّا وصلا إلى الكوفة وكان خليفة عبيد الله عليها عمرو بن حريث، فجمع الناس، وقام الرسولان فخطبا وذكرا ذلك للناس، فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشّيبانى وهو ابن رويم، فقال
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) وسقطت من النسخة (ن) .
[3] الجديلة: الحالة الأولى.
[4] «هلم» كلمة بمعنى الدعاء إلى الشىء مثل «ثعالى» .
[5] كذا فى الأصل وفى تاريخ الطبرى «التميمى» ..(20/502)
الحمد لله الذى أراحنا من ابن سمّية، أنحن نبايعه؟ لا ولا كرامة.
وحصبهما الناس بعده، فشرّفت هذه المقالة يزيد بن رويم بالكوفة ورفعته، ورجع الرسولان إلى عبيد الله، فقال أهل البصرة: أيخلعه أهل الكوفة ونولّيه نحن؟! فضعف سلطانه عندهم، فكان يأمر بالأمر فلا يقضى ويرى الرأى فيردّ عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
ثم جاء البصرة سلمة بن ذؤيب الحنظلى التميمى، فوقف فى السوق وبيده لواء، وقال: أيها الناس، هلمّوا إلىّ، إنى أدعوكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم، يعنى عبد الله بن الزّبير.
فاجتمع إليه ناس، وجعلوا يبايعونه، فبلغ الخبر ابن زياد، فجمع الناس فخطبهم وذكّرهم بما كان من بيعته وقال: إنى بلغنى أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب المسجد، وقلتم ما قلتم، وإنى آمر بالأمر فلا ينفذ، ويردّ علىّ رأيى، ويحال بين أعوانى وبين طلبتى، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعوكم إلى الخلاف عليكم، ليفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم رقاب بعض [1] !» .
فقال الأحنف والناس: نحن نأتيك بسلمة، فأتوه، فإذا جمعه قد كثف والفتق قد اتسع، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه فلما رأى ذلك أرسل إلى الحارث بن قيس بن صهبان الجهضمى الأزدى، فأحضره وسأله الهرب به، فقال: يا حارث [إن أبى أوصانى إن احتجت إلى الهرب يوما ما أن أختاركم، فقال الحارث] [1]
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) .(20/503)
قد اختبرنا أباك فلم نجد عنده ولا عندك مكافأة، وما أدرى كيف أتأتّى لك إن أخرجتك نهارا أخاف أن تقتل وأقتل، ولكنى أقيم معك إلى الليل، ثم أردفك خلفى لئلّا نعرف، فقال عبيد الله، نعم ما رأيت، فأقام عنده، فلمّا كان الليل حمله خلفه، وكان فى بيت المال تسعة عشر ألف ففرّق ابن زياد بعضها فى مواليه، وادّخر الباقى لآل زياد، قال: وسار الحارث بعبيد الله، فكان يمرّ به على الناس وهم يتحارسون مخافة الحروريّة، حتّى انتهوا إلى بنى ناجية، فقال بنوا ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس. وعرف رجل منهم عبيد الله، فقال: ابن مرجانة! وأرسل سهما فوقع فى عمامته ومضى به الحارث حتّى أنزله فى داره بالجهاضم؛ فقال له ابن زياد: «يا حارث، إنك قد أحسنت، فاصنع ما أشير به عليك.
قد علمت منزلة مسعود بن عمرو، وشرفه وسنّه، وطاعة قومه له.
فهل لك أن تذهب بى إليه فأكون فى داره، فهى وسط الأزد؟ فإنك إن لم تفعل فرّق عليك أمر قومك، فأخذه الحارث فدخلا على مسعود فلم يشعر حتّى رآهما، فقال للحارث: أعوذ بالله من شر ما طرقتنى به، قال: ما طرقتك إلّا بخير، ولم يزل الحارث يلطف بمسعود فى أمره حتّى قال له: أتخرجه من بيتك بعد ما دخله عليك؟! فأمره مسعود فدخل بيت أخيه عبد الغافر بن عمرو، ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه، فطافوا بالأزد فقالوا: إن ابن زياد قد فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا به. فأصبحوا فى السلاح، وفقد الناس بن زياد فقالوا: ما هو إلا فى الأزد. [وقيل: إن الحارث لم يكلم(20/504)
مسعودا، بل أمر عبيد الله [1]] فحمل معه مائة ألف درهم وأتى بها أمّ بسطام امرأة مسعود وهى بنت عمّ الحارث ومعه عبيد الله، فاستأذن عليها، فأذنت له. [فقال: قد أتيتك بأمر تسودين به نساء العرب، وتتعجلين به الغنى، فأخبرها الخبر] [2] وأمرها أن تدخل ابن زياد البيت، وتلبسه ثوبا من ثياب مسعود، ففعلت، فلما جاء مسعود أخذ برأسها يضربها، فخرج عبيد الله والحارث عليه، وقال، لقد أجارتنى وهذا ثوبك على، وطعامك فى بطنى، وشهد الحارث، وتلطفوا به حتى رضى، فلم يزل ابن زياد فى بيته حتّى قتل مسعود، فسار إلى الشام على ما نذكره إن شاء الله.
قال: ولما فقد ابن زياد بقى أهل البصرة بغير أمير. فاختلفوا فيمن يؤمّرونه عليهم، ثم تراضوا بقيس بن الهيثم السّلمى، وبنعمان بن سفيان ليختارا من يرتضيان لهم، وكان رأى قيس فى بنى أمية، ورأى النعمان فى بنى هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحدا [أحق بهذا الأمر] [2] من فلان، (لرجل من بنى أميّة) . وقيل بل ذكر عبد الله بن الأسود الزهرىّ، وكان هوى قيس فيه، وإنما قال النعمان ذلك خديعة ومكرا بقيس، فقال قيس: قد قلّدتك أمرى ورضيت من رضيت، ثم جاء [3] إلى الناس، فقال قيس بن الهيثم: قد رضيت من رضى النعمان.
__________
[1] الزيادة من ابن الأثير ج 3 ص 321.
[2] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ، ولم تثبت فى النسخة (ن) .
[3] كذا جاء فى النسخة (ك) ، وجاء فى النسخة (ن) «خرجا» .(20/505)
ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة
قال: ولما اتفق قيس والنّعمان، ورضى قيس بمن يؤمّره النعمان، أشهد عليه النعمان بذلك، وأخذ على قيس وعلى الناس العهود بالرضا.
ثم أتى عبد الله بن الأسود، وأخذ بيده واشترط عليه، حتّى ظنّ الناس أنه يبايعه، ثم تركه.
وأخذ بيد عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو الملقب، «ببّه» [1] واشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم وحقّ أهل بيته وقرابته، ثم قال:
«أيها الناس، ما تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم وأمّه هند بنت أبى سفيان، فإن كان الأمر فيهم فهو ابن أختهم» ، ثم أخذ بيده وقال، قد رضيت لكم هذا. فنادوا: قد رضينا، وبايعوه، وأقبلوا به إلى دار الإمارة حتّى نزلها. وذلك أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين.
ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام
قال: ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذى كان بينهم، وأنفق ابن زياد ما لا كثيرا فيهم حتّى تمّ الحلف، وكنبوا بينهم بذلك كتابين، فلمّا تحالفوا اتفقوا على أن يردّوا ابن زياد إلى دار الإمارة، فساروا ورئيسهم مسعود بن عمرو، فقال لابن زياد: سر معنا، فلم
__________
[1] انظر تاريخ الطبرى ج 4 ص 398 والكامل لابن الأثير ح 3 ص 322 وشرح ابن يعيش للمفصل ح 1 ص 32 وشواهد العينى ح 1 ص 403 ومادتى (ببب) و (جذب) فى لسان العرب وثاج العروس، و «يبه» فى الأصل: حكاية صوت صبى.(20/506)
يفعل، وأرسل معه مواليه على الخيل، وقال لهم لا يحدثنّ خير ولا شر إلا أنبأتمونى به.
فجعل مسعود لا يأتى سكة ولا يتجاوز قبيلة إلّا أتى بعض أولئك الموالى إلى ابن زياد بالخبر، وسارت ربيعة وعليهم مالك بن مسمع فأخذوا سكة المربد، وجاء مسعود فدخل المسجد وصعد المنبر، وعبد الله ابن الحارث فى دار الإمارة، فقيل له، إن مسعود وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم وركبت فى بنى تميم، فقال: أبعدهم الله، والله لا أفسدت نفسى فى صلاحهم، وسار مالك بن مسمع نحو دور بنى تميم حتى دخل سكة بنى العدويّة، فحرق دورهم لما فى نفسه منهم.
وجاء بنو تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها، فقال، لستم بأحقّ بالمسجد منهم، فقالوا: قد دخلوا الدار، فقال: لستم بأحقّ بالدار منهم؛ فأتته امرأة بمجمر وقالت له: مالك وللرياسة؟! إنما أنت امرأة تتجمر.
ثم أتوه فقالوا: إن امرأة منا قد نزعت خلا خيلها، وقد قتلوا الصباغ الذى على طريقك، وقتلوا المقعد الذى كان على باب المسجد.
وقد دخل مالك بن مسمع سكّة بنى العدويّة فحرق، فقال الأحنف:
أقيموا البينة على هذا، ففى بعض هذا ما يحل به قتالهم! فشهدوا عنده على ذلك؛ فقال الأحنف: أجاء عبّاد بن حصين؟ قالوا لا: ثم قال:
أجاء عبّاد؟ قالوا لا. قال: أهاهنا عبس بن طلق قالوا: نعم؛ [فدعاه] [1]
__________
[1] ثبتت الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .(20/507)
فانتزع معجرا [1] من رأسه فعقده فى رمح ثم دفعه إليه، فقال:
سر، فسار وصاح الناس: «هاجت زبراء» (وزيراء أمة للأحنف كنوا بها عنه) [2] .
فسار عبس إلى المسجد، فقاتل الأزد على أبوابه، ومسعود يخطب على [المنبر] [3] ، ثم أتوه فاستنزلوه وقتلوه، وذلك أول شوال سنة أربع وستين، وانهزم أصحابه.
وكان ابن زياد قد تهيأ لما صعد مسعود المنبر ليجىء دار الإمارة، فقيل له إن مسعود قد قتل، فركب ولحق بالشام.
وأما مالك بن مسمع فأتاه ناس من مصر فحصروه فى داره وحرقوه.
ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم، فنهبوا ما وجدوا له؛ ففى ذلك يقول واقد بن خليفة التميمىّ.
يا رب جبّار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه
منهم عبيد الله حين تسلبه ... جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا [4] ومقنبه ... لو لم ينجّ ابن زياد هربه
وقد قيل فى قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما قدمناه. وهو أنه لمّا استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو وأجاره، ثم سار ابن زياد إلى
__________
[1] المعجر هنا: العمامة.
[2] «زبراء» جارية سليطة كانت للأحنف، وكانت إذا غضبت قال الأحنف «هاجت زبراء» . ثم صارت مثلا لكل من هاج غضبه.
[3] الزيادة من ابن الأثير والطبرى.
[4] المقنب جماعة الخيل والفرسان.(20/508)
الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتّى قدموا به إلى الشام، ولما سار من البصرة استخلف مسعودا عليها، فقال بنو تميم وقيس:
لا نرضى إلّا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفنى ولا أدع ذلك أبدا، وخرج حتّى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت نميم إلى الأحنف، فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد قال: إنّما هو لهم ولكم، قالوا: قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر.
وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم: إن هذا الرجل الذى قد دخل القصر هو لنا ولكم عدوّ، فما يمنعكم منه؟! فجاءت عصابة منهم حتّى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه، فرماه علج يقال له مسلم من أهل فارس، كان قد دخل البصرة وأسلم ثم صار من الخوارج، فأصاب قلبه فقتله؛ فقال الناس: قتله الخوارج. فخرج الأزد إلى تلك الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، ثم قيل للأزد: إن تميما قتلوا مسعودا، فأرسلوا يسألون، فإذا ناس من تميم تقوله، فاجتمعت الأزد عند ذلك، فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود، ومعهم مالك بن مسمع فى ربيعة، وجاءت تميم إلى الأحنف يقولون: قد خرج القوم؛ وهو لا يتحرك، فأتته امرأة بمجمر فقالت: اجلس على هذا، (أى إنما أنت امرأة) ، فخرج الأحنف فى بنى تميم ومعهم من بالبصرة من قيس، فالتقوا، فقتل منهم قتلى كثيرة، فقال لهم بنو تميم:
«يا معشر الأزد، الله الله فى دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بيّنة فاختاروا(20/509)
أفضل رجل فينا فاقتلوه، وإن لم تكن لكم بيّنة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قاتل، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندى صاحبكم بمائة ألف درهم» . وسفر بينهم عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فطلبوا عشر ديات، فأجابهم الأحنف إلى ذلك، واصطلحوا عليه.
قال: وأما عبد الله بن الحارث «ببّه» فإنه أقام يصلى بالناس حتّى قدم عليهم عمر بن عبيد الله أميرا من قبل ابن الزّبير.
وقيل: كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلّى بالناس، فصلى بهم حتّى قدم عمر، فبقى عمر أميرا شهرا، ثم قدم الحارث بن عبيد الله بن أبى ربيعة المخزومى فعزله ووليها الحارث.
وقيل: بل اعتزل عبد الله بن الحارث «ببّه» أهل البصرة بعد قتل مسعود، فكتب أهل البصرة بعد قتل مسعود إلى ابن الزّبير، وكتب ابن الزّبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلى بالناس، فصلى بهم أربعين يوما.
هذا ما كان من أمر البصرة، فلنذكر خبر أهل الكوفة.(20/510)
ذكر خبر أهل الكوفة وما كان من أمرهم [بعد ابن زياد] [1] إلى أن بويع ابن الزبير
كان من خبرهم أنهم لما حصبوا رسل ابن زياد على ما ذكرناه عزلوا خليفته عليهم وهو عمرو بن حريث، واجتمع الناس وقالوا:
نؤمّر علينا رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فاجتمعوا على عمر بن سعد بن أبى وقّاص، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ابن علىّ رضى الله عنهما ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر؛ فقال محمد بن الأشعث: جاء أمر غير ما كنّا فيه. وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد، لأنهم أخواله، فأجمعوا على عامر بن مسعود ابن أمية بن خلف بن وهب الجمحى، فخطب أهل الكوفة فقال:
إن لكل قوم أشربة ولذّات فاطلبوها فى مظانّها، وعليكم بما يحل ويحمد، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عنى بهذه الجدران.
فقال ابن همام [3] :
اشرب شرابك وانعم غير محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود
إن الأمير له فى الخمر مأربة ... فاشرب هنيئا مريئا غير تصريد [3]
__________
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) .
[2] هو عبد الله بن همام السلولى.
[3] التصريد: شرب دون الرى.(20/511)
من ذا يحرّم ماء المزن خالطه ... من قعر خابية ماء العناقيد
إنى لأكره تشديد الرّواة لنا ... فيها ويعجبنى قول ابن مسعود
وكثير من الناس يظن أن ابن مسعود المذكور فى هذا الشعر هو عبد الله بن أم عبد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك.
قال: ولمّا بايعه أهل الكوفة كتبوا بذلك إلى ابن الزّبير فأقرّه عليها، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم استعمل عبد الله بن الزّبير عبد الله بن يزيد الخطمى الأنصارىّ على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج، واستعمل محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل.
ذكر خبر خراسان وما كان من أمر سلم بن زياد وبيعته وخبر عبد الله بن خازم
كان من خبر خراسان أنه لما بلغ سلم بن زياد وهو العامل عليها موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، فقال له ابن عرادة:
يأيها الملك المغلّق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم
قتلى بحرّة والذين بكابل ... وزيد أعلن شأنه المكتوم
أبنى أمية إن آخر ملككم ... جسد بجوّازين ثمّ مقيم(20/512)
طرقت منيّته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم [1]
ومرنّة تبكى على نشواته ... بالصنج تقعد مرة وتقوم
فلما ظهر شعره أظهر سلم موت يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتّى تستقيم أمور الناس على خليفة، فبايعوه، ثم نكثوا به بعد شهرين، فلمّا خلعوه خرج عنهم واستخلف المهلّب بن أبى صفرة، فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بنى قيس بن ثعلبة بن ربيعة، فقال له: أضاقت عليك نزار حتى خلّفت على خراسان رجلا من اليمن، يعنى المهلب. فولاه مرو الرّوز، والفارياب، والطالقان، والجزجان. وولّى أوس بن ثعلبة ابن زفرر (وهو صاحب قصر أوس بالبصرة) هراة، فلما وصل سلم إلى نيسابور لقيه عبد الله بن حازم، فقال له: من وليت خراسان؟
فأخبره فقال: «أما وجدت من مضر من تستعلمه، حتى فرّقت خراسان بين بكر بن وائل واليمن! اكتب لى عهدا على خراسان» ؛ فكتب له وأعطاه مائة ألف درهم.
وسار ابن خازم إلى مرو، وبلغ خبره المهلّب، فأقبل فاستخلف رجلا من بنى جشم بن سعد بن زيد مناه بن تميم، فلمّا وصلها ابن خازم منعه الجشمىّ، وجرت بينهما مناوشة، فأصابت الجثمىّ رمية فى جبهته، وتحاجزا، ودخلهما ابن خازم، ومات الجثمىّ بعد ذلك بيومين.
__________
[1] زق واعف: يسيل من الامتلاء.(20/513)
ثم سار ابن خازم إلى مرو فقاتله سليمان بن مرثد أياما، فقتل سليمان، ثم سار بن خازم إلى عمرو بن مرثد وهو بالطّالقان فاقتتلوا فقتل عمرو بن مرثد، وانهزم أصحابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع ابن خازم إلى مرو.
وهرب من كان بمرو الرّوذ من بكر بن وائل إلى هراة، وانضمّ إليها من كان بكور خراسان من بكر، فكثر جمعهم، وقالوا لأوس ابن ثعلبة: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم وتخرج مضر من خراسان، فأبى عليهم [1] فهمّوا [2] بمبايعة غيره، فأجابهم، فبايعوه، فسار إليهم ابن خازم فنزل على واد بينه [3] وبين هراة، فأشار البكريّون بالخروج من هراة وعمل خندق، فقال أوس:
بل نلزم المدينة فإنها حصينة، وأطاول ابن خازم ليضجر ويعطينا ما نريد، فأبوا عليه، وخرجوا فخندقوا خندقا [4] . وقاتلهم ابن خازم نحو سنة.
فنادى هلال الضّبىّ وهو من أصحابه فقال: «إنما تقاتل إخوتك وبنى أبيك، فإن نلت منهم الذى تريد فما فى العيش خير، فلو أعطيتهم شيئا يرضون به، وأصلحت هذا الأمر!» فقال: والله لو خرجنا إليهم عن خراسان ما رضوا [5] » ! فقال هلال: لا والله
__________
[1] فقال لهم: هذا بغى، وأهل البغى مخذولين، أقيموا مكانكم هذا، فإن ترككم ابن خازم، وما أراه يفعل، فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هو فيه.
[2] قال له بنو صهيب: لا والله لا نرضى أن نكون نحن ومضر فى بلد، وقد قتلوا بنى مرثد، فإذ أجبتنا إلى هذا وإلا أمرنا علينا غيرك.
[3] عبارة الطبرى: «بين عسكره وبين هراة» .
[4] عبارة الطبرى «وخرجوا من المدينة فخندقوا خندقا» .
[5] زاد الطبرى «ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدنيا لأخرجوكم» .(20/514)
لا أقاتل معك أنا ولا رجل يطيعنى حتى تعذر إليهم! قال. فأنت رسولى إليهم فأرضهم.
فأتى هلال إلى أوس بن ثعلبة، فناشده الله والقرابة فى نزار، وأن يحفظ دماءها، فقال: هل لقيت بنى صهيب: قال: لا، قال:
فالقهم. وبنو صهيب هم موالى بنى جحدر، وهم الذين ألزموا أوس ابن ثعلبة بالقتال، فخرج هلال من عند أوس فلقى جماعة من رؤساء أصحابه، فأخبرهم ما أتى له، فقالوا له: هل لقيت بنى صهيب؟ فقال: لقد عظم أمر بنى صهيب عندكم! فأتاهم يكلّمهم، فقالوا: والله لولا أنك رسول لقتلناك. قال: فما يرضيكم شىء؟
قالوا: «واحد من اثنين [1] ؛ إما أن تخرجوا من خراسان [2] ، وإما أن تقيموا وتخرجوا لنا كل سلاح وكراع وذهب وفضة» .
فرجع هلال إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ فأخبره [3] الخبر فقال: إن ربيعة لم تزل غضابا على ربّها منذ بعث نبيه من مضر!.
وأقام ابن خازم يقاتلهم، فلما طال مقامه ناداهم يوما؛ يا معشر ربيعة، أرضيتم بنى من خراسان بخندقكم؟! فأحفظهم ذلك، فتنادوا للقتال، فنهاهم أوس عن الخروج بجماعتهم، فعصوه، وخرجوا، فقاتلوا ساعة، ثم انهزموا، حتّى انتهوا إلى خندقهم، وتفرّقوا يمينا وشمالا، وسقطوا فى الخندق، وقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس بن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير
__________
[1] فى تاريخ الطبرى: «واحدة من اثنين» .
[2] زاد الطبرى قولهم: «ولا يدعو فيها لمضر داع» .
[3] وقال له: «وجدت إخوانا قطعا للرحم» .(20/515)
يومه ذلك إلا قتله وسار أوس بن ثعلبة إلى سجستان فمات بها أو قريبا منها، وقتل من بكر يومئذ ثمانية آلاف، وغلب ابن حازم على هراة واستعمل عليها ابنه محمدا وضم إليه شماس بن دثار العطاردىّ، وجعل بكير بن وشاح الثّقفىّ على شرطته، ورجع ابن خازم إلى مرو.
وفى هذه السنة بعد موت يزيد خالف أهل الرّى، وكان عليهم الفرّخان الرازى، فوجه إليهم عامر بن مسعود وهو أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى الدّارمى فهزمه أهل الرىّ، فبعث إليهم عامر عتّاب بن ورقاء التميمىّ، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الفرّخان وانهزم المشركون.
هذا ما كان من أخبار العراق وخراسان بعد وفاة يزيد، فلنذكر أخبار عبد الله بن الزبير، وما تخلل أيامه من أخبار غيره التى حدثت فى أعماله.
ذكر بيعة عبد الله بن الزبير وما حدثت فى أيامه من الوقائع والحوادث المتعلقة به والكائن [1] فى أعمال ولايته
هو أبو خبيب [2] ، وقيل: أبو بكر [3] عبد الله بن الزبير ابن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصى، وأمه أسماء
__________
[1] كذا جاء فى (ك) وجاء فى النسخة (ن) «والمكاتبة» .
[2] «أبو خبيب» كنية عبد الله بن الزبير بأكبر أولاده «خبيب» ، ومن ذلك قول الشاعر:
أرى الحاجات عند أبى خبيب ... نكدن ولا أمية فى البلاد
[3] كناه النبى صلى الله عليه وسلم بكنية جده أبى أمه.. أبى بكر الصديق.(20/516)
بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه، وهى ذات النّطاقين [1] ، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين [2] بعد الهجرة.
وكان ابتداء أمره فى البيعة له ما قدمناه؛ من خروجه من المدينة لما توفّى معاوية بن أبى سفيان، ووصوله إلى مكة، وأنه أقام بالبيت وقال: أنا العائذ بهذا البيت.
فلما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما فى سنة إحدى وستين كما ذكرنا، قام عبد الله فى الناس فعظّم قتله، وعاب أهل العراق عامّة، وأهل الكوفة خاصّة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولّوه عليهم، فلمّا قدم عليهم ثاروا عليه، فقالوا له: إمّا أن تضع يدك فى أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية فيمضى فيك حكمه، وإما أن تحارب، فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل فى كثير، وإن كان الله لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينا، وأخرى قاتله. لعمرى لقد كان من خلافهم إيّاه، وعصيانهم، ما كان فى مثله واعظ وناه عنهم، ولكنه قدر نازل، وإذا أراد الله أمرا لم يدفع، أفبعد الحسين يطمأنّ إلى هؤلاء القوم، ويصدّق قولهم، ويقبل لهم عهد؟ لا والله لا نراهم لذلك أهلا، أم والله لقد
__________
[1] ذكر المؤلف حديث الهجرة فى الجزء 16 من نهاية الأرب فقال ص 333:
قطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكأت بها الجراب، وقطعة أخرى صيريها عصاما لفم القربة، فلذلك سميت أسماء «ذات النطاقين» .
[2] الذى قال ابن عبد البر فى الاستيعاب ج 2 ص 301: «من المهاجرين» .(20/517)
قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فى النهار صيامه، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به فى الدين والفضل! أم الله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس فى حلق الذكر الركض فى تطلاب الصّيد- يعرض بيزيد فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
[1] .
فثار إليه أصحابه، وقالوا: أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك الحسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان عبد الله قبل ذلك يبايع سرا، فقال لهم: لا تعجلوا. هذا وعمرو بن سعيد عامل مكة، وهو أشدّ شىء على عبد الله بن الزّبير، وهو مع ذلك يدارى ويرفق.
فلما استقرّ عند يزيد ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة أعطى الله عهدا ليوثقنّه فى سلسلة، فبعث إليه سلسلة من فضّة مع ابن عضادة [2] الأشعرى ومسعدة وأصحابهما ليأتوه به فيها، وبعث معهم برنس خزّ ليلبسه عليها لئلا تظهر للناس.
فاجتاز أبو عضادة بالمدينة وبها مروان بن الحكم، فأخبره بما قدم له، فأرسل مروان معه ولدين له، أحدهما عبد العزيز، وقال:
إذا بلّغته رسل يزيد الرسالة فتعرّضا له، وليتمثل أحدكما بهذا الشعر:
فخذها فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لا مرىء متذلّل
أعامر إن القوم ساموك خطة ... وذلك فى الجيران عزلا بمعزل [3]
أراك إذا ما كنت للقوم ناصحا ... يقال له بالدلو أدبر وأقبل
__________
[1] من الآية 59 من سورة مريم.
[2] فى تاريخ الطبرى «عضاه» وفى الكامل «عطاء» .
[3] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 365: «وذلك فى الجيران غزل بمغزل» .(20/518)
فلمّا بلّغه الرسل الرّسالة أنشد عبد العزيز الأبيات، فقال ابن الزبير: يا بنى مروان قد سمعت ما قلتما فأخبرا أباكما:
إنى لمن نبعة صمّ مكاسرها ... إذا تناوحت القصباء والعشر
فلا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
وامتنع من رسل يزيد.
فقال الوليد بن عتبة وناس من بنى أميّة ليزيد: لو شاء عمرو ابن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث إليك به، فعزل يزيد عمرا واستعمل الوليد بن عتبة على الحجاز، فأقام الوليد يريد غرّة عبد الله فلم يجده إلا متحذّرا ممتنعا.
وثار نجدة بن عامر الحنفىّ باليمامة حين قتل الحسين، وكان الوليد يفيض بالناس من المعرّف، ويقف ابن الزبير وأصحابه ونجدة وأصحابه، ثم يفيض ابن الزبير وأصحابه، ونجدة بأصحابه، لا يفيض واحد منهم بإفاضة أحد. وكان نجدة يلقى عبد الله بن الزّبير ويكثر حتى ظنّ الناس أنه سيبايعه.
ثم [كتب] [1] عبد الله بن الزبير إلى يزيد فى شأن الوليد فعزله يزيد كما تقدم، واستعمل عثمان بن محمد بن أبى سفيان.
وكان من خبر أهل المدينة فى خلافهم يزيد، ووقعة الحرّة، والحصار الأول ما قدمناه.
فلما مات يزيد بن معاوية بلغ الخبر عبد الله بن الزبير والحصين ابن نمير ومن معه من عسكر الشام يحاصرونه، وقد اشتد حصارهم،
__________
[1] الزيادة من ابن الأثير والطبرى.(20/519)
فقال لهم عبد الله وأهل مكة: علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم؟
فلم يصدّقوهم، فلما بلغ الحصين خبر موت يزيد بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، فالتقيا وتحادثا فراث فرس الحصين، فجاء حمام الحرم يلتقط روث فرس الحصين، فكفّ الحصين فرسه عن الحمام، وقال: أخاف أن يقتل فرسى حمام الحرم. فقال له ابن الزبير: تتحرجون من هذا وأنتم تقاتلون المسلمين فى الحرم، فكان فيما قال له الحصين: «أنت أحقّ بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، ثم اخرج معى إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معى هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمّن الناس، وتهدر الدماء التى كانت بيننا وبينك، وبين أهل الحرة» ، فقال له أنا لا أهدر الدماء، والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة. وأخذ الحصين يكلّمه سرا وهو يجهر ويقول: والله لا أفعل، فقال له الحصين: قبح الله من يعدّك بعد هذا داهيّا أو أريبا، قد كنت أظنّ لك رأيا، وأنا أكلمك سرّا، وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدنى القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل هو وأصحابه نحو المدينة.
وندم ابن الزّبير على ما صنع، فأرسل إلى الحصين يقول:
أما المسير إلى الشام فلا أفعله، ولكن بايعوا لى هناك، فإنى مؤمّنكم وعادل فيكم، فقال الحصين: إن لم تقدم بنفسك لا يمشى الأمر، فإن هنالك ناسا من بنى أمية يطلبون هذا الأمر. وسار الحصين إلى المدينة فخرج معه بنو أمية إلى الشام.(20/520)
وبويع عبد الله بن الزبير بمكة لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين، واجتمع لعبد الله بن الزّبير الحجاز والكوفة والبصرة والجزيرة وأهل الشام، إلّا أهل أردن ومصر.
ثم بويع مروان بن الحكم بالشام، فكان من أمره فى وقعة مرج راهط ومسيره إلى مصر واستيلائه عليها ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخباره.
ذكر فراق الخوارج عبد الله وما كان من أمرهم
وفى سنة أربع وستين فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزّبير، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام.
وكان سبب قدومهم عليه أنه لما اشتد عليهم عبيد الله بن زياد بعد قتل أبى بلال، اجتمعوا وتذاكروا فأشار عليهم نافع بن الأزرق أن يلحقوا بابن الزبير، وقال: إن كان على رأينا جاهدنا معه، وإن كان على غير رأينا دافعنا عن البيت، فلما قدموا عليه سرّ بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير استفسار، فقاتلوا معه أهل الشام، ثم اجتمعوا بعد وفاة يزيد وقالوا: إن الذى صنعتم بالأمس لغير رأى، تقاتلون مع رجل لا تدرون، لعله ليس على مثل رأيكم، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه، وينادى «يا ثارات عثمان» فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل فقال: إنكم أتيتمونى حين أردت القيام، ولكن ائتونى عشية النهار حتى أعلمكم؛ فانصرفوا.
وبعث ابن الزبير إلى أصحابه، فاجتمعوا عنده بأيديهم العهد.(20/521)
فقال ابن الأزرق: إن الرجل قد أزمع خلافكم، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال، فقال عبيدة: بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عمل بكتاب الله حتّى قبضه الله، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة رسوله، ثم إن الناس استخلفوا عثمان.
ونقصه، وقبح أفعاله، وتبرأ منه، ووالى قتلته، ثم قال: فما تقول أنت يا ابن الزبير:؟! فحمد بن الزبير الله وأثنى عليه، ثم قال:
قد فهمت الذى ذكرت به النبىّ صلى الله عليه وسلم فهو فوق ما ذكرت، وفوق ما وصفت، وفهمت الذى ذكرت به أبا بكر وعمر وقد وفّقت وأصبت، وفهمت الذى ذكرت به عثمان، وإنى لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره منى، كنت معه حيث نقم [القوم] [1] عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم منه، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم:
ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم. فو الله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه، ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضرنى أنى ولىّ لابن عفّان، وعدوّ أعدائه. قالوا: فبرىء الله منك، قال: بل برئ الله منكم.
وتفرّق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلى، وعبد الله بن صفّار السّعدىّ، وعبد الله بن إباض، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز؛ عبد الله وعبيد الله والزّبير من بنى سليط بن يربوع، وكلهم
__________
[1] الزيادة من الطبرى.(20/522)
من تميم، حتّى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور من قيس بن ثعلبة، وعطية ابن الأسود اليشكرى، إلى اليمامة، فوثبوا بها مع أبى طالوت، ثم اجتمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفىّ وتركوا أبا طالوت.
فأما نافع بن الأزرق ومن معه فإنهم قدموا البصرة فتذاكروا الجهاد وفضيلته، وخرج فى ثلاثمائة، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد، وكسر الخوارج باب السجن وخرجوا، واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم، فلما استقر أمر عبد الله بن الحارث بالبصرة تجرد الناس للخوارج وأخافوهم، فلحق نافع بالأهواز فى شوال سنة أربع وستين واشتدت شوكته، وكثرت جموعه، وأقام بالأهواز.
وحيث ذكرنا الخوارج، فلنذكر ما كان من أمرهم فى أيام عبد الله ابن الزبير إلى نهايته، ثم نذكر ما سوى ذلك
ذكر مقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج وغيره منهم
وفى سنة خمس وستين اشتدت شوكة نافع بن الأزرق، وهو الذى تنسب إليه الأزارقة من الخوارج، وكثرت جموعه، وأقبل بهم نحو الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث أمير البصرة مسلم ابن عبيس بن كربز بن ربيعة، فخرج إليه فدفعه عن أرض البصرة حتى بلغ دولاب من أرض الأهواز، فاقتتلوا هناك فقتل مسلم أمير أهل البصرة ونافع بن الأزرق رئيس الخوارج، وكان مقتلهما فى جمادى الآخرة.
فأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميرىّ، وأمرت(20/523)
الخوارج عبد الله بن الماحوز التميمى، فاقتتلوا فقتل الحجاج وعبد الله، فأمّر أهل البصرة ربيعة بن الأجذام التميمى، وأمّرت الخوارج عبيد الله ابن الماحوز، واقتتلوا حتى أمسوا وقد ملّوا القتال، وكره بعضهم بعضا، فبينما هم كذلك إذ جاءت سرية للخوارج لم تشهد القتال فهزمت جيش البصرة، وقتل أميرهم ربيعة، فأخذ الراية حارثة بن بدر فقاتل ساعة بعد أن ذهب الناس عنه، ثم سار ونزل الأهواز، وبعث ابن الزبير الحارث بن أبى ربيعة على البصرة كما ذكرناه، فأقبلت الخوارج نحو البصرة حتى قربوا منها، فأتى أهلها الأحنف بن قيس وسألوه أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلّب بن أبى صفرة.
ذكر محاربة المهلب الخوارج وقتل أميرهم عبيد الله بن الماحوز
كان المهلّب قد قدم من قبل عبد الله بن الزّبير لولاية خراسان فخرج إليه أشراف أهل البصرة وكلّموه فى حرب الخوارج، فأبى عليهم، فكلمه الحارث بن ربيعة، فاعتذر بولاية خراسان، فوضع الحارث وأهل البصرة كتابا عن ابن الزّبير إلى المهلّب يأمره بقتال الخوارج، وأتوه به، فلما قرأه قال: والله ما أسير إليهم إلا أن يجعلوا إلىّ ما غلبت عليه، ويعطونى من بيت المال ما أقوىّ به من معى، فأجابوه إلى ذلك.
واختار المهلب من أهل البصرة اثنى عشر ألفا؛ منهم محمد بن واسع، وعبد الله بن رباح الأنصارى، ومعاوية بن قرّة المزنىّ، وأبو عمران الجونى وغيرهم. وخرج إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر فحاربهم ودفعهم عنه، وتبعهم حتّى بلغوا الأهواز، واقتتلوا هناك.(20/524)
ودامت الحرب، وقتل المعارك بن أبى صفرة أخو المهلب، ثم هزم جيش المهلّب وثبت هو، فاجتمع عليه جماعة ممن انهزم، ثم عادوا للقتال، وأبلى بلاء حسنا فهزموه، فبلغ بعض من معه البصرة وجاءت أهلها وأسرع المهلّب حتّى سبق المنهزمين إلى تلّ عال، ثم نادى: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه فعاد إلى الخوارج وقد أمنوا، وسار بعضهم خلف الجيش الذى انهزم، فأوقع بهم المهلّب وقتل رئيسهم عبيد الله بن الماحوز، فاستخلفوا الزبير بن الماحوز، وعاد الذين تبعوا المنهزمين، فوجدوا المهلّب قد وضع لهم خيلا فرجعوا منهزمين، وأقام المهلّب موضعه حتّى قدم مصعب بن الزّبير أميرا على البصرة من قبل أخيه عبد الله.
وقيل: كانت هذه الواقعة فى سنة ستّ وستّين، وذلك أن المهلّب لمّا دفع الخوارج عن البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبى كور دجلة ورزق أصحابه، وأتاه المدد من البصرة حتّى بلغ ثلاثين ألفا.
قال: ثم استعمل مصعب بن الزّبير لما ولى العراق نائبه عمر ابن عبيد الله بن معمر على فارس، وولّاه حرب الأزارقة بعد أن توجّه المهلّب إلى الموصل والجزيرة وأرمينية على ما نذكره إن شاء الله.
فلما بلغ الخوارج ولايته تقدموا إلى إصطخر، وأميرهم يوم ذاك الزّبير بن الماحوز، فندب إليهم عمر ابنه عبيد الله فى خيل، فاقتتلوا فقتل عبيد الله بن عمر، وقاتل عمر بن عبيد الله الخوارج فقتل من فرسانهم سبعون [1] رجلا، وانهزم الخوارج وقصدوا نحو
__________
[1] ابن الأثير: «تسعون» .(20/525)
أصبهان، فأقاموا حتّى قووا واستعدوا وأقبلوا حتّى مروا بفارس وبها عمر، فقطعوها من غير الموضع الذى هو به حتى أتوا ألأهواز.
فكتب إليه مصعب يلومه فى تمكينهم من قطع جهته، فسار عمر من فارس فى أثرهم، وخرج مصعب فعسكر عند الجسر الأكبر.
وبلغ الخوارج وهم بالأهواز إقبال عمر عليهم، فقطعوا أرض جوخى والنهر وأنات وأتوا المدائن، وبها كردم بن مرثد الفزارى، فشنّوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الرجال والنساء والولدان، ويشقّون أجواف الحوامل، فهرب كردم، وأقبلوا إلى ساباط، ووضعوا السيف، وأفسدوا إفسادا عظيما.
وأتوا أرض الكوفة فخرج إليهم الحارث بن أبى ربيعة أميرها، فتوجهوا حتى أتوا المدائن فأتبعهم الحارث عبد الرحمن بن مخنف فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فتبعهم حتّى وقعوا فى أرض أصبهان، فرجع ولم يقاتلهم.
وقصدوا الرّى وعليها يزيد بن الحارث بن رويم الشّيبانى فقاتلهم، فأعان أهل الرّى الخوارج، فقتل يزيد وهرب ابنه حوشب.
ولمّا فرغ الخوارج من الرى شخصوا إلى أصبهان فحاصروها وبها عتّاب بن ورقاء، فصبر لهم وقاتلهم، فكمن له رجل من الخوارج وضربه بالسيف على حبل عاتقه فصرعه، فاحتمله أصحابه وداووه حتّى برئ، وداوم الخوارج حصارهم حتى نفدت أطعمتهم وأصابهم الجهد، فقام عتّاب فى أصحابه، وحرّضهم على أن يصدقوهم القتال، فأجابوه إلى ذلك، وخرج بهم إلى الخوارج وهم آمنون،(20/526)
فقاتلوهم حتّى أخرجوهم من معسكرهم، وقتلوا أميرهم الزّبير بن الماحوز.
ففرغت الخوارج إلى أبى نعامة قطرىّ بن الفجاءة المازنىّ فبايعوه، وأصاب عتّاب ومن معه من عسكرهم ما شاءوا، وسارت الخوارج عن أصبهان إلى كرمان، فأقاموا بها حتّى اجتمع إلى أميرهم قطرى جموع كثيرة، وجبى الأموال وقوى، ثم أقبل إلى أصبهان، ثم أتى أرض الأهواز فأقام بها، فبعث مصعب إلى المهلّب فأمره بقتال الخوارج، وبعث إلى عامله بالموصل والجزيرة إبراهيم بن الأشتر، فقدم المهلّب البصرة، وانتخب الناس وسار نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا ثمانية أشهر أشدّ قتال رآه الناس، وذلك فى سنة ثمان وستين.
هذا ما أمكن إيراده من أخبار الخوارج فى أيام ابن الزّبير فلنذكر خلاف ذلك.
ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم وأخبارها إلى أن قتلوا
وإنما ذكرنا خبر التوابين فى هذا الموضع فى أخبار عبد الله بن الزبير؛ لأن ظهورهم ومقتلهم كان فى أيامه، ومن بلد داخل تحت حكمه، ونحن نذكر مبدأ أمرهم، وقد ذكرهم ابن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل فى حوادث سنة أربع وستين، وسنة خمس وستين.
قال: ولما قتل الحسين بن على رضى الله عنهما كما ذكرنا تلاقت الشّيعة بالتّلاوم والندم على ما صدر منهم، من استدعائهم الحسين(20/527)
وخذلانه حتى قتل، ورأوا أنهم لا يغسل عنهم العار والإثم الذى ارتكبوه إلّا قتل من قتله أو القتل فيه.
فاجتمعوا بالكوفة إلى خمس نفر من رءوس الشّيعة، وهم:
سليمان بن صرد الخزاعى، وكانت له صحبة، والمسيّب ابن نجبة الفزارى وكان من أصحاب على وخيارهم، وعبد الله ابن مسعود بن نفيل الأزدى، وعبد الله بن وال التيمى، تيم بكر بن وائل، ورفاعة بن شداد البجلى، فاجتمعوا فى منزل سليمان بن صرد فبدأهم المسيب بن نجبة فقال بعد حمد الله:
«أمّا بعد، فإنا ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربّنا أن لا يجعلنا ممن يقول له غدا: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)
[1] وإن أمير المؤمنين قال: العمر الذى أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا [2] ، فوجدنا الله كاذبين فى كل موطن من مواطن ابن ابنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا قبل ذلك كتبه ورسله، وأعذر إلينا فسألنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حتّى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأبدينا ولا جدلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النّصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا عند ربنا وعند لقاء نبينا، وقد قتل فينا ولده وحبيبه، وذرّيته ونسله! لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا فى طلب ذلك، فعسى ربّنا أن يرضى عنا عند ذلك،
__________
[1] من الآية 37 من سورة فاطر.
[2] هنا ينتهى ما سقط من النسخة (ن) مع توالى الترقيم بها، ولعل هناك صفحتين سقطنا فلم يتنبه عليها المرقم، وقد أثبتنا هذا من النسخة (ك) .(20/528)
وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن: أيها القوم، ولّوا عليكم رجلا منكم، فإنه لا بدّ لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفّون بها» .
فقام رفاعة بن شداد فقال: «أمّا بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول، وبدأت بأرشد الأمور بدعائك إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب إلى قولك، وقلت:
ولّوا أمركم رجلا تفزعون إليه وتحفّون برايته، وقد رأينا مثل الذى رأيت، فإن تكن أنت دلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا مستنصحا وفى جماعتنا محبا، وإن رأيت ورأى ذلك أصحابنا ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود فى بأسه ودينه الموثوق بحزمه» ..
وتكلم عبد الله بن وأل وعبد الله بن سعد بنحو ذلك، وأثنيا على سليمان والمسيّب، فقال المسيب: قد أصبتم فولّوا أمركم سليمان بن صرد.
فتكلم سليمان بن صرد بكلام كثير؟؟؟ حضهم فيه على القيام وطلب ثأر الحسين وقتل قتلته أو القتل دون ذلك.
وكتب إلى سعد بن حذيفة بن اليمان يعلمه بما عزموا عليه ويدعوه إلى مساعدتهم هو ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك.
وكتب سليمان أيضا إلى المثنّى فأجابه: إننا معشر الشيعة حمدنا الله على ما عزمتم عليه، ونحن موافوك إن شاء الله للأجل الذى ضربت.(20/529)
قال وكان أول ما ابتدءوا به أمرهم بعد قتل الحسين فى سنة إحدى وستين، فما زالوا فى جمع آلة الحرب ودعاء الناس، فى السر إلى أن هلك يزيد بن معاوية فى سنة أربع وستين، فجاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة- ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبعنا قتلته ثم ندعو الناس إلى أهل هذا البيت [1] . فقال لهم سليمان: «لا تعجلوا، إنى قد نظرت فيما ذكرتم، فرأيت قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب، ومتى علموا ذلك كانوا أشدّ عليكم، ونظرت فيمن تبعنى منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ولم يشفوا نفوسهم وكانوا جزرا لعدوّهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إنى أمركم» ؛ ففعلوا فاستجاب لهم ناس كثير.
ثم إن أهل الكوفة أخرجوا عمرو بن حريث وبايعوا لابن الزبير، فلما مضت ستة أشهر من وفاة يزيد قدم المختار بن أبى عبيد إلى الكوفة فى النصف من شهر رمضان، وقدم عبد الله بن زيد الخطمى الأنصارى أميرا على الكوفة من قبل عبد الله بن الزّبير لثمان خلون [2] من شهر رمضان، وقدم إبراهيم بن محمد بن طلحة معه على الخراج.
فأخذ المختار بن أبى عبيد يدعو الناس إلى قتال قتلة حسين ويقول:
__________
[1] زاد ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 334 قولهم: «المستأثر عليهم المدفوعين عن حقهم» .
[2] فى الكامل «بقين» .(20/530)
جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيرا أمينا، فرجع إليه طائفة من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد سليمان أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه، وليس له خبرة بالحرب.
وبلغ الخبر عبد الله بن يزيد أن سليمان يريد الخروج بالكوفة عليه، وأشير عليه بحبسه، وخوّف عاقبة أمره إن تركه، فقال عبد الله إن هم قاتلونا قاتلناهم، وإن تركونا؟؟؟ لنطلبهم، إنّ هؤلاء القوم يطلبون قتلة الحسين، ولست ممن قتله، لعن الله قاتله، ثم صعد إلى المنبر فقال بلغنى أن طائفة منكم أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عنهم فقيل إنهم يطلبون بدم الحسين، فرحم الله هؤلاء القوم، لقد والله دللت على مكانهم، وأمرت بأخذهم، فأبيت، وقلت إن قاتلونى قاتلتهم، وعلام يقاتلونى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولقد والله أصبت بمقتله رحمة الله عليه، وإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ظاهرين، وليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم- يعنى عبيد الله بن زياد- فأنا لهم ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، فقد توجه إليكم وقد؟؟؟ فارقوه على ليلة من جسر منبج،؟؟؟ فقاتله والاستعداد له أولى من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا،؟؟؟ فليقاكم عدوكم وقد رققتم فنهلك، وتلك أمنيته، وقد قدم عليكم أعدى خلق الله لكم، من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذى قتلكم ومن قبله أتيتم، والذى قتل من تنادون بدمه،(20/531)
قد جاءكم فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم واجعلوها [به ولا تجعلوها] [1] بأنفسكم إنى لكم ناصح.
وكان مروان بن الحكم قد بويع بالشام على ما نذكره، وبعث عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة، وأمره إذا فرغ منها أن يسير إلى العراق.
قال: فلما فرغ عبد الله بن يزيد من كلامه قال إبراهيم بن محمد ابن طلحة: «أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن، والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استيقنّا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده والحميم بالحميم والعريف بما فى عرافته، حتّى يدينوا للحق والطاعة» .
فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه، ثم قال: يا ابن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وحشمك! أنت والله أذلّ من ذلك، إنّا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا. فقال له إبراهيم والله لتقتلن، وقد داهن هذا، يعنى عبد الله بن يزيد، فقال له عبد الله بن وأل: ما اعتراضك فيما بينا وبين أميرنا؟ ما أنت علينا بأمير إنما أنت أمير هذه الجزية، فأقبل على خزاجك، ولئن أفسدت أمر هذه الأمة فقد أفسده والداك، وكانت عليهما دائرة السوء. فشتمهم جماعة ممّن مع إبراهيم، ونزل الأمير عن المنبر، وتهدده إبراهيم بأنه يكتب إلى ابن الزبير يشكوه؛ فجاءه عبد الله فى منزله فاعتذر إليه، فقبل عذره.
__________
[1] الزيادة من الكامل ج 4 ص 335.(20/532)
ثم خرج أصحاب سليمان بن صرد ينشرون السلاح ظاهرين إلى سنة خمس وستين، فعزم سليمان على الشخوص، وبعث إلى رءوس أصحابه وتواعدوا للخروج فى مستهل شهر ربيع الآخر، وخرجوا فى ليلة الوعد إلى النّخيلة، فدار سليمان فى الناس، فلم يعجبه عددهم، فأرسل إلى حكيم بن منقذ الكندى والوليد بن عضين الكنانى فناديا فى الكوفة يا لثارات الحسين! فكانا أول من دعايا لثارات الحسين.
فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما فى عسكره، ثم نظر فى ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفا بايعه، فقال! سبحان الله! ما وافانا من ستة عشر ألفا إلا أربعة آلاف! فقيل له إن المختار يشبط الناس عنك وقد تبعه ألفان. فقال، بقى عشرة آلاف! ما هؤلاء بمؤمنين! فأقام بالنّخيلة ثلاثا، يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل، فقام إليه المسيّب بن نجبة، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكلام، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظرن أحدا، وخذ فى أمرك. قال: نعم ما رأيت.
ثم قام سليمان فى أصحابه فقال: «أيها الناس، من كان إنما خرج إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان يريد الدنيا فو الله ما يأتى فى نأخذه ولا غنيمة نغنمها، ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، ما هو إلّا سيوفنا على عواتقنا، وزاد قدر البلغة، فمن كان ينوى غير هذا فلا يصحبنا» .
فتنادى أصحابه من كل جانب: إنّا لا نطلب الدنيا، وليس لها(20/533)
خرجنا، إنما خرجنا لنطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلمّا عزم على المسير قال له عبد الله بن سعد بن نفيل: إنى قد رأيت رأيا، إن يكن صوابا فالله الموفق، وإن؟؟؟ يكن ليس بصواب فالرأى ما تراه، إنّا خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلته كلّهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد ورءوس الأرباع والقبائل، فأين تذهب من ههنا وتدع الأوتار [1] . فقال أصحابه: هذا هو الرأى.
فقال سليمان: أنا لا أرى ذلك، إن الذى قتله وعبّأ الجنود إليه وقال: «لا أمان له عندى دون أن يستسلم فأمضى فيه حكمى» هذا الفاسق ابن الفاسق، عبيد الله بن زياد، فسيروا على بركة الله إليه، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون منه، ورجونا أن يدين لكم أهل مصركم فى عافيته،؟؟؟ فينظرون إلى كل من شرك فى دم الحسين فيقتلونه ولا يغشون، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلّين، وما عند الله خير للأبرار، فاستخيروا الله وسيروا.
وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد، فأتياه فى أشراف أهل الكوفة، ولم يصحبهم من له شرك فى دم الحسين خوفا منهم، فلمّا أتياه قال له عبد الله بن يزيد:
إن المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يغشّه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا فى أنفسكم،
__________
[1] الأوتار: جمع وتر، بمعنى ثأر.(20/534)
ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتّى نتهيأ فإذا سار عدوّنا إلينا خرجنا إليه بجماعتنا فقاتلناه. وجعل لسليمان وأصحابه خراج جوخى إن أقاموا، وقال إبراهيم مثل ذلك، فقال سليمان قد محضتما النصيحة واجتهدتما فى المشورة فنحن بالله وله، ونسأله العزيمة على الرشد، ولا نرانا إلّا سائرين، فقال عبد الله: فأقيموا حتّى نعبّئ معكم جيشا كثيرا، فتلقوا عدوّكم بجمع كثيف، وكان قد بلغهم إقبال عبيد الله بن زياد من الشام فى الجنود.
فلم يقم سليمان، وسار عشيّة الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، فتخلّف عنه ناس كثير، فقال ما أحبّ من تخلف منكم معكم ولو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا إن الله كره انبعاثهم فثبطهم وخصكم بفضل ذلك.
ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فصاحوا صيحة واحدة، وبكوا بكاء شديدا، وترحموا عليه، وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوما وليلة يبكون ويتضرعون.
ثم ساروا وقد ازدادوا حنقا، وأخذوا صوب الأنبار، وساروا حتّى أتوا قرقسيا على تعبئة، وبها زفر بن الحارث الكلابى قد تحصن بها عند فراره من وقعة مرج راهط، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار مروان بن الحكم.
فبعث إليه سليمان، وعرّفه ما هو وأصحابه عليه من قصد بن زياد، فبعث إليهم بجزور ودقيق وعلف، وخرج إليهم وشيعهم وعرض عليهم أن يقيموا عنده بقرقيسيا، وقال: ابن زياد فى(20/535)
عدد كثير، فأبوا المقام، وساروا مجدّين، وقال لهم زفر إن ابن زياد قد بعث خمسة أمراء من الرقة فيهم الحصين بن نمير وشرحبيل بن ذى الكلاع وأدهم بن محرز وجبلة بن عبيد الله [1] الخثعمى، فأبوا إلّا المسير.
فانتهوا إلى عين الوردة، فنزلوا غربيّها، وأقاموا خمسا، واستراحوا وأراحوا.
وأقبل أهل الشام فى عساكرهم، حتّى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان فى أصحابه فخطبهم وحرّضهم على القتال وذكرهم الآخرة ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب ابن نجبة، فإن قتل فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فالأمير عبد الله بن وأل، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شداد، رحم الله؟؟؟ أمرأ صدق ما عاهد الله عليه.
وبعث المسيّب بن نجبة فى أربعمائة فارس، وقال: سر حتّى تلقى أوّل عساكرهم، فشنّ عليهم الغارة، فإن رأيت ما تحب وإلّا فارجع.
فسار يومه وليلته، ثم نزل، فأتى بأعرابى، فسأله عن أدنى العسكر منه، فقال: أدناها منك عسكر شرحبيل بن ذى الكلاع، وهو على ميل، وقد اختلف هو والحصين، ادّعى كلّ واحد منهما أنه على الجماعة، وهما ينتظران أمر عبيد الله.
فسار المسيّب ومن معه مسرعين، حتّى أشرفوا على القوم، وهم على غير أهبة، فحملوا فى جانب عسكرهم، فانهزم العسكر،
__________
[1] فى الكامل ج 3 ص 342: «عبد الله» .(20/536)
فأصاب المسيّب منهم رجالا وأكثروا فيهم الجراح، وأخذوا دواب، وترك الشاميون معسكرهم وانهزموا، فغنم أصحاب المسيّب ما أرادوا، ثم انصرفوا إلى سليمان.
وبلغ الخبر ابن زياد، فسرّح الحصين فى اثنى عشر ألفا، فخرج أصحاب سليمان إليه، لأربع بقين من جمادى الأولى، وعلى ميمنتهم عبد الله بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيّب، وسليمان فى القلب. وجعل الحصين على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوى.
فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على مروان بن الحكم، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع مروان وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم وأنهم يخرجون من بالعراق من أصحاب عبد الله ابن الزّبير ثم يردّ الأمر إلى أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، وحمل بعضهم على بعض، فانهزم أهل الشام وكان الظفر لأصحاب سليمان إلى الليل.
فلما كان الغد صبّح الحصين ثمانية آلاف أمده بهم عبيد الله، فقاتلهم أصحاب سليمان عامّة النهار قتالا شديدا لم يحجز بينهم إلا الصلاة حتّى حجز بينهم الليل، وقد كثر الجراح فى الفريقين.
فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلى فى نحو من عشرة آلاف من قبل ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ثم كثر أهل الشام عليهم، وعطفوا من كل جانب،(20/537)
فنزل سليمان ونادى: «عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلىّ» ثم كسر جفن سيفه، فنزل معه ناس كثير وفعلوا كفعله، وقاتلوا قتالا شديدا، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة وأكثروا فيهم الجراح، فبعث الحصين الرجّالة ترميهم بالنّبل، واكتنفتهم الخيل، فقتل سليمان ابن صرد، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع، ومات وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وكانوا قد سموه «أمير التوابين» .
فأخذ الراية المسيب بن نجبة، وترحّم على سليمان، فتقدم فقاتل حتّى قتل بعد أن قتل رجالا كثيرا.
فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، وترحم عليهما، وقرأ (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)
[1] وحفّ به من كان منهم معه من الأزد، فبينماهم فى القتال إذ أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة، يخبرون بمسيره فى سبعين ومائة من أهل المدائن، ويخبرون بمسير أهل البصرة مع المثنّى بن مخرمة العبدى فى ثلاثمائة، فقال عبد الله بن سعد: لو جاءونا ونحن أحياء! وقاتل حتّى قتل، قتله ابن أخى ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه يطعنه بالسيف، فخلصه أصحابه، وقتل خالد بن سعد.
فجىء بالراية إلى عبد الله بن وأل، وقد اصطلى الحرب فى عصابة معه، فأخذها، وقاتل مليّا، وذلك وقت العصر، وما زال يقاتل حتّى
__________
[1] من الآية 22؟؟؟ من سورة الأحزاب.(20/538)
قتل هو وأصحابه؟؟؟ رجالا، ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب، فلمّا كان عند المساء تولّى قتالهم أدهم بن محرز الباهلى، فحمل فى خيله ورجله حتّى وصل إلى ابن وأل وهو يتلو (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
الآيات [1] ، فغاظ ذلك أدهم، فحمل عليه وضربه فأبان يده ثم تنحى عنه، وقال: إنى أظنّك وددت أنك عند أهلك، قال ابن وأل بئس ما ظننت، والله ما أحبّ أن يدك مكانها إلّا أن يكون لى من الأجر مثل ما فى يدى، ليعظم وزرك وأجرى، فغاظه ذلك فحمل عليه فطعنه فقتله وهو مقبل ما زال عن مكانه، وكان بن وأل من الفقهاء العباد.
فلما قتل أتوا رفاعة بن شداد البجلى وقالوا خذ الراية، فقال ارجعوا بنا لعلّ الله يجمعنا ليوم شر لهم، فقال عبد الله بن عوف ابن الأحمر: «هلكنا والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منّا ناج أخذته الأعراب فتقربوا به إليهم فيقتل صبرا! هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، وسرنا حتّى نصبح ونسير على مهل، يحمل الرجل صاحبه وحريمه [2] ونعرف الوجه الذى نأخذه» .
فقال رفاعة نعم ما رأيت وأخذ الراية، وقاتله قتالا شديدا وتقدم عبد الله بن عزيز الكنانى [3] فقاتل أهل الشام قتالا
__________
[1] الآيات 169، 170، 171، 172، 173، 174 من سورة آل عمران.
[2] فى الكامل ج 3 ص 344: «وجريحه» .
[3] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى: «للكندى» .(20/539)
شديدا، ومعه ولده محمد وهو صغير، فسلمه لبنى كنانة من أهل الشام ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان، فأبى، ثم قاتلهم حتّى قتل.
وتقدم كريب [1] بن زيد الحمير عند المساء فى مائة من أصحابه فقاتل قتالا شديدا، فعرض ابن ذى الكلاع عليه وعلى أصحابه الأمان، فقال قد كنا آمنين فى الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، وقاتلوهم حتّى قتلوا.
وتقدم صخير بن هلال المزنى فى ثلاثين من مزينة، فقاتلوا حتى قتلوا.
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، وسار رفاعة بالناس ليلته، وأصبح الحصين فلم يرهم، فما بعث فى أثرهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فأقاموا عند زفر بن الحارث ثلاثا، ثم زوّدهم وساروا إلى الكوفة.
وأما سعد بن حذيفة بن اليمان فإنه سار من المدائن بمن معه حتّى بلغ هبت، فأتاه الخبر، فرجع فلقى المثنّى بن مخرمة العبدى فى أهل البصرة، فأخبره، فأقاموا بصندوداء حتى أتاهم رفاعة، فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض، وأقاموا يوما وليلة، ثم تفرقوا، فسارت كل طائفة منهم إلى جهتهم.
قال: ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار بن أبى عبيد محبوسا، فأرسل؟؟؟ إليه المختار: «أما بعد فإنكم خرجتم بالعصبة الذين عظم الله لهم الأجر حين انصرفوا ورضى فعلهم حتى قتلوا [2]
__________
[1] فى الكامل «كرب بن يزيد» .
[2] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وفى تاريخ الطبرى «حين قفلوا» .(20/540)
أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ولا ربا ربوة [1] إلا كان ثواب الله له أعظم من الدنيا، إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله فجعل روحه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن؟؟؟ بصاحبكم الذى به تنصرون إنى أنا الأمير المأمور والأمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلّين، والسلام» ..
وكان من أمر المختار ما نذكره إن شاء الله تعالى.
__________
[1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل؛ وفى تاريخ الطبرى «ولارتارتوه» .(20/541)
تم الجزء العشرون بتقسيم هذه النسخة المطبوعة، وفى التقسيم المخطوطى اختلاف:
جاء فى آخر النسخة (ك) وهى الجزء 18 برقم 549 معارف عامة- فى دار الكتب المصرية المصورة:
آخر الجزء الثامن عشر من نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى.
رحمه الله تعالى.
يتلوه إن شاء الله تعالى فى أول الجزء التاسع عشر ذكر أخبار المختار بن أبى عبيد الثقفى والحمد لله رب العالمين وأما النسخة (ن) وهى الجزء 27، ولعله صحته 17 برقم 553 معارف عامة- المصورة بدار الكتب المصرية فقد جاء فى الجانب الأخير من آخر ورقة ما يأتى:.
«طالعه الفقير إلى الله تعالى ناصر بن سليمان بن غازى الأيوبى غفر الله له ولجميع المسلمين يا رب العالمين» .
المحقق محمد رفعت محمود فتح الله رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية(20/542)
فهرس الجزء العشرين
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويري
.... الصفحة
ذكر خلافة على بن أبى طالب 1
ذكر صفته 1
ذكر نبذة من فضائله 3
ذكر بيعة على 10
ذكر تفريق على عماله وخلاف معاوية 21
ذكر ابتداء وقعة الجمل 26
ذكر مسير على الى البصرة 39
ذكر ارسال على الى أهل الكوفة 43
ذكر مراسلة على طلحة والزبير وأهل البصرة 54
ذكر اجتماع قتلة عثمان بذى قار وتشاورهم 57
ذكر مسير على رضى الله عنه 59
ذكر مقتل طلحة 85
ذكر مقتل الزبير بن العوام 89
ذكر وقعة صفين وابتداء أمرها 100
ذكر ارسال على الى معاوية وجوابه 108
ذكر الموادعة بين على ومعاوية فى شهر المحرم 111
ذكر الحروب التى كانت بصفين بعد الأيام الستة 121
ذكر رفع أهل الشام المطابع 144
ذكر اجتماع الحكمين 156
ذكر أخبار الخوارج 160
ذكر خبرهم بعد صفين 161
ذكر خبرهم عند توجيه الحكمين 164
ذكر اجتماع الخوارج بعد الحكمين 166
ذكر قتال الخوارج 174
ذكر أخبار من خرج بعد أصحاب النهروان 180(20/543)
... الصفحة
ذكر خلاف الخريت بن راشد التميمى 182
ذكر ما اتفق فى مدة خلافته 191
ذكر خبر عبد الله بن الحضرمى 198
ذكر مقتل على بن أبى طالب 205
ذكر أزواج على 221
ذكر خلافة الحسن بن على بن أبى طالب 224
ذكر أخبار سعد بن أبى وقاص ووفاته 233
ذكر أخبار سعيد بن زيد 235
الباب الثالث من القسم الخامس من الفن الخامس
ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية وصلحه معه 239
ذكر مقتل محمد بن أبى حذيفة 241
ذكر ملك عمرو بن العاص مصر 246
ذكر سرايا معاوية إلى بلاد على بن أبى طالب 253
ذكر مسير بسر بن أرطاة 258
ذكر الغزوات والفتوحات 265
ذكر غزو السند 266
ذكر غزو القسطنطينية 268
ذكر غزو جزيرة أروار 271
ذكر أخبار الخوارج 272
ذكر خبر المستورد الخارجى 278
ذكر عروة بن أدية وأخيه مرداس بن أدية 285
ذكر الحوادث فى أيام معاوية بن أبى سفيان 288
ذكر صلح معاوية وقيس بن سعدة بن عبادة 289
ذكر استعمال معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة 290
ذكر استعمال بسر بن أرطاة 290
ذكر قدوم زياد بن أبيه 294
ذكر وفاة عمرو بن العاص 297
ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة 300
ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان 302(20/544)
... الصفحة
ذكر عمال زياد بن أبيه 316
ذكر وفاة الحسن بن على بن أبى طالب 320
ذكر ولاية زياد الكوفة 325
ذكر ما قصده معاوية 326
ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفارى 328
ذكر مقتل حجر بن عدى 330
ذكر وفاة زياد بن أبيه 342
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على خراسان 346
ذكر مراسلة معاوية زيادا فى شأن البيعة 350
ذكر ارسال معاوية الى مروان بن الحكم 351
ذكر من وفد الى معاوية من أهل الأمصار 353
ذكر مسير معاوية الى الحجاز 355
ذكر استعمال سعيد بن عثمان بن عفان 360
ذكر عزل الضحاك عن الكوفة 362
ذكر عزل عبيد الله بن زياد 363
ذكر شىء من سيرته وأخباره 372
ذكر صفة معاوية وأولاده وأزواجه 374
ذكر بيعة يزيد بن معاوية 376
ذكر ارسال الوليد بن عتبة 378
ذكر استعمال عمرو بن سعيد على المدينة 382
ذكر مقدم الحسين الى مكة 384
ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة 388
ذكر ظهور مسلم بن عقيل 397
ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه 439
ذكر تسمية من قتل مع الحسين بن على 461
ذكر ما كان بعد مقتل الحسين 463
ذكر ورود الخبر بمقتل الحسين 472
ذكر ما ورد من الاختلاف 476
ذكر مقتل أبى بلال مرداس 482
ذكر وفاة يزيد بن معاوية 497
ذكر بيعة معاوية بن يزيد بن معاوية 499(20/545)
... الصفحة
ذكر أخبار من بويع بالعراق 501
ذكر ولاية عبد الله بن الحارث البصرة 506
ذكر مقتل مسعود بن عمرو الأزدى 506
ذكر خبر أهل الكوفة 511
ذكر خبر خراسان 512
ذكر بيعة عبد الله بن الزبير 516
ذكر فراق الخوارج عبد الله 521
ذكر مقتل نافع بن الأزرق 523
ذكر محاربة المهلب الخوارج 524
ذكر خبر التوابين وما كان من أمرهم 527(20/546)
الجزء الحادي والعشرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
وكلت إليّ الإدارة العامة للثقافة تحقيق الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الإرب للنويرى (وهو الجزء الحادى والعشرون من تقسيم المؤلف) ، فرجعت إلى نسختيه المصورتين بدار الكتب، وهما برقم 549، ورقم 554 معارف عامة، ورمزت إلى الأولى بالحرف ك وإلى الثانية بالحرف د، وقد اعتمدت على النسخة الثانية لأنها أكثر تحقيقا، وجعلت الثانية مساعدة فى التحقيق.
وكان لا بد فى تحقيق نصوص هذا الكتاب مما يأتى:
1- الإشارة فى الهوامش إلى العبارات التى اختلفت فيها النسختان مما يجعل المتن فى صورة كاملة واضحة للقارئ.
2- الرجوع إلى المصدر الأول للكتاب، وهو الكامل لابن الأثير.
3- الرجوع إلى المصادر الأولى للتاريخ الإسلامى، ومن أهمها تاريخ الطبرى، وفتوح البلدان للبلاذرى.
4- الرجوع إلى المعجمات اللغوية، وكتب البلدان، ومن أهم ما رجعنا إليه فيها: معجم ما استعجم للبكرى، مراصد الاطلاع فى أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق البغدادى، معجم البلدان لياقوت.(21/5)
5- الرجوع- فى تحقيق الأعلام- إلى كتب الأعلام الموثوق بها، وقد رجعت فى ذلك إلى: المشتبه للذهبى. وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وتاج العروس، والإكمال لابن ماكولا، وغيرها.
وأرجو أن يكون الكتاب بذلك قد نال حظه من العناية، فصار أقرب ما يكون إلى أصل المؤلف.
على محمد البجاوى(21/6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم [وبه توفيقى] «1»
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
تتمة الباب الثالث في أخبار الدولة الأموية
[تتمة ذكر بيعة عبد الله بن زبير]
ذكر أخبار المختار ابن أبى عبيد بن مسعود الثقفى
كان المختار بن أبى عبيد ممن بايع مسلم بن عقيل لما بعثه الحسين بن عليّ رضى الله عنهما إلى الكوفة وأنزله فى داره، ودعا إليه. فلما ظهر ابن عقيل كان المختار فى قرية تدعى لقفا «2» ، فأتاه الخبر بظهوره، فأقبل فى مواليه إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أجلس عبيد الله بن زياد عمرو بن حريث بالمسجد ومعه راية، فبعث إلى المختار وأمنه، فجاء إليه.
فلما كان من الغد ذكر عمارة بن عقبة «3» أمره لعبيد الله، فأحضره، وقال له: أنت المقبل فى الجموع لتنصر ابن عقيل! قال: لم أفعل، ولكنى أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو بذلك، فضرب ابن زياد وجه المختار بقضيب فشتر «4» عينه وقال: لولا شهادته «5» قتلتك.
وحبسه إلى أن قتل الحسين.(21/7)
فبعث المختار إلى عبد الله بن عمر بن الخطّاب يسأله أن يشفع [له] «1» فيه، وكان زوج أخته صفية بنت أبى عبيد، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع فيه، فأمر يزيد ابن زياد بإطلاقه، فأطلقه وأمره ألّا يقيم غير ثلاث.
فخرج المختار إلى الحجاز، واجتمع بعبد الله بن الزبير وأخبره خبر العراق، وقال له: ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز، فإنّ أهله معك؛ وكان ابن الزبير يدعو لنفسه سرّا، فكتم أمره عن المختار ففارقه إلى الطائف، وغاب عنه سنة ثم سأل عنه ابن الزبير، فقيل له: إنه بالطائف، وإنه يزعم أنه صاحب الغضب ومبيد «2» الجبّارين، فقال ابن الزبير: قاتله الله، لقد اتبعت «3» كذابا متكهّنا، إن يهلك الله الجبّارين يكن المختار أوّلهم.
فبينا هو فى حديثه إذ دخل المختار، فطاف وصلّى ركعتين، وجلس وأتاه معارفه يحدّثونه، ولم يأت ابن الزبير، فوضع ابن الزبير عليه عباس بن سهل بن «4» سعد، فأتاه، وسأله عن حاله، ثم قال له: مثلك يغيب عن الّذى قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والانصار وثقيف؟ ولم «5» تبق قبيلة إلا وقد أتاه زعيمها، فبايع هذا الرجل.(21/8)
فقال: إنى أتيته فى العام الماضى فكتم عنى خبره، فلما استغنى عنّى أحببت أن أريه أنّى مستغن عنه، فقال له العباس: القه [الليلة] «1» وأنا معك، فأجابه إلى ذلك، وحضر عند ابن الزّبير بعد العتمة، فقال له المختار: أبايعك على ألّا تقضى الأمور دونى، وعلى أن أكون أوّل داخل عليك، وإذا ظهرت استعنت بى على أفضل عملك.
فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله. فقال:
وشرّ «2» غلمانى تبايعه على ذلك، والله لا أبايعك أبدا إلّا على ذلك، فبايعه وأقام عنده، وشهد معه قتال الحصين «3» ، وكان أشدّ الناس على أهل الشام، فلمّا مات يزيد وأطاع «4» أهل العراق عبد الله ابن الزبير، أقام المختار عنده خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل يسأل من يقدم من الكوفة عن حال الناس، فأخبره هانىء بن أبى حّية الوداعى «5» باتفاق «6» أهل الكوفة على طاعة ابن الزبير إلّا طائفة من الناس، لو كان لهم من يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يوم ما.
فقال المختار، أنا أبو إسحاق [أنا والله لهم] «7» ، أنا أجمعهم على(21/9)
الحق، وأتّقى «1» بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كلّ جبار عنيد.
ثم ركب دابته «2» وسار نحو الكوفة فوصل إليها.
واختلفت الشيعة إليه، وبلغه خبر سليمان بن صرد وأنه على عزم المسير، فقام فى الشيعة فحمد الله، ثم قال: إن المهدى وابن الرّضا، يعنى محمد ابن الحنفية، بعثنى إليكم أمينا ووزيرا «3» ومنتخبا وأميرا، وأمرنى بقتال الملحدين، والطلب بدم أهل بيته.
فبايعه إسماعيل بن كثير وأخوه، وعبيدة بن عمرو، وكانوا أوّل من أجابه، وبعث إلى الشّيعة وقد اجتمعوا عند ابن صرد، وقال لهم نحو ذلك، وقال: إن سليمان ليس له تجربة بالحرب ولا بالأمور، إنّما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه، وأنا أعمل على مثال مثّل لى، وأمر بيّن لى، فيه عزّ وليّكم، وقتل عدّوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا قولى، وأطيعوا أمرى، ثم أبشروا.
فما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة، فكانوا يختلفون إليه ويعظّمونه، وأكثر الشيعة مع ابن صرد، وهو أثقل خلق الله على المختار.
فلما خرج سليمان بن صرد على ما قدمناه قال عمر بن «4» سعد، وشبث «5» بن ربعى، ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة: إن المختار أشدّ عليكم من سليمان،(21/10)
إن سليمان إنّما خرج يريد قتال عدوّكم، والمختار يريد أن يثب عليكم فى مصركم، فأتوه، وأخذوه بغتة، وحملوه إلى السجن، فكان يقول فى السجن: أماورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لدن خطّار، ومهنّد بتّار، وجموع «1» الأنصار، وليسوا بميل أغمار، ولا بعزّل «2» أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدّين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيّين، لم يكبر عليّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى.
وقيل فى خروج المختار إلى الكوفة غير ما تقدّم، وهو أنه قال لعبد الله بن الزّبير وهو عنده: إنى لأعلم قوما لو أنّ لهم رجلا له علم بما يأتى ويذر لاستخرج لك منهم جندا يقاتل بهم أهل الشام. قال: من هؤلاء؟ قال: شيعة عليّ [رضى الله عنه] «3» بالكوفة، قال: فكن أنت ذلك الرجل؛ فبعثه إلى الكوفة، فنزل ناحية منها يبكى على الحسين ويذكر مصابه حتى ألفه الناس وأحبّوه، فنقلوه إلى وسط الكوفة، وأتاه منهم بشر كثير. [والله أعلم «4» ] .(21/11)
ذكر وثوب المختار بالكوفة
كان وثوب المختار بالكوفة فى رابع عشر شهر ربيع الأوّل سنة [66 هـ] ست وستين، وكان سبب ذلك أنّه لما قتل سليمان بن صرد قدم من بقى من أصحابه إلى الكوفة، وكان المختار محبوسا كما ذكرنا، فكتب إليهم من السجن يثنى عليهم، ويمنّيهم الظّفر، ويعرّفهم أن محمد بن على بن أبى طالب المعروف بابن الحنفية أمره بطلب الثأر، فقرأ كتابه رفاعة بن شدّاد والمثنّى بن مخرّبة العبدى، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط «1» ، وعبد الله بن شدّاد البجلى، وعبد الله بن كامل.
فلمّا قرءوا كتابه بعثوا إليه ابن كامل يقولون: إنّنا بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك ونخرجك «2» من الحبس فعلنا، فقال:
إنى أخرج فى أيّامى هذه. وكان المختار قد أرسل إلى عبد الله ابن عمر يقول: إنى حبست مظلوما، وطلب [منه] «3» أن يشفع فيه إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة.
فكتب ابن عمر إليهما فى أمره، فشفّعاه فيه، وأخرجاه من السجن، وحلفاه أنّه لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما مادام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها عند الكعبة، ومماليكه أحرار.(21/12)
فلمّا خرج نزل بداره، وقال لمن يثق به: قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنى أفى لهم، أمّا حلفى بالله فإننى إذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها أكفّر عن يمينى، وخروجى عليهم خير من كفّى عنهم، وأمّا هدى البدن، وعتق المماليك، فهو أهون عليّ من بصقة، وددت أنّى تمّ لى أمرى ولا أملك بعده مملوكا أبدا.
ثم اختلفت إليه الشّيعة، واتفقوا على الرّضا به، ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى، حتّى عزل عبد الله بن الزبير عبد الله ابن يزيد وإبراهيم بن محمد، واستعمل عبد الله بن مطيع على عملهما بالكوفة.
وقدم ابن مطيع الكوفة لخمس بقين من شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستّين. ولمّا قدم صعد المنبر، فخطب الناس وقال: أمّا بعد، فإن أمير المؤمنين بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرنى بجباية فيئكم وألّا أحمل فضلة عنكم «1» إلا برضا منكم، وأن أتبع فيكم وصيّة عمر بن الخطّاب التى أوصى بها عند وفاته، وسيرة عثمان بن عفّان رضى الله عنهما، فاتقوا الله واستقيموا، ولا تختلفوا على، وخذوا على أيدى سفهائكم، فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم. فقام إليه السائب بن مالك الأشعرى «2» ، فقال: أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد ألّا «3» نرضى أن تحمل عنّا فضلة وألّا تقسم إلّا فينا، وألّا يسار فينا إلا بسيرة عليّ بن أبى طالب الّتى سار بها فى بلادنا(21/13)
حتى هلك، ولا حاجة لنا فى سيرة عثمان بن عفان فى فيئنا ولا فى أنفسنا، ولا فى سيرة عمر فى فيئنا، وإن كانت أهون السّيرتين علينا، وقد كان يفعل بالناس خيرا.
فقال يزيد بن أنس: صدق السائب وبرّ، فقال ابن مطيع:
نسير فيكم بكلّ سيرة أحببتم، ثمّ نزل.
وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع فقال له: إن السائب ابن مالك من رءوس أصحاب المختار، فابعث إلى المختار، فإذا جاءك فاحبسه حتّى يستقيم أمر الناس، فإنّ أمره قد استجمع له، وكأنّه قد وثب بالمصر.
فبعث ابن مطيع إلى المختار زائدة بن قدامة وحسين بن عليّ البرسميّ «1» ، فقالا له: أجب الأمير، فعزم على الذهاب، فقرأ زائدة «2» : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...
الآية. فألقى المختار ثيابه وقال: ألقوا عليّ قطيفة فإنى «3» وعكت، إنّى لأجد بردا شديدا، ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالى، فعادا إليه فأعلماه فتركه.
ووجّه المختار إلى أصحابه، فجمعهم حوله فى الدّور، وأراد أن يثب فى المحرّم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام «4» ، وشبام: حىّ(21/14)
من همدان، وكان شريفا، واسمه عبد الرحمن بن شريح، فلقى سعيد بن منقذ الثّورى، وسعر «1» بن أبى سعر الحنفى، والأسود ابن جراد الكندى، وقدامة بن مالك الجشمىّ «2» ، فقال لهم:
إنّ المختار يريد أن يخرج بنا، ولا ندرى أرسله «3» ابن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى محمد ابن الحنفيّة نخبره بما قدم به علينا المختار، فإن رخّص لنا فى اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغى أن يكون شىء من الدنيا آثر «4» عندنا من سلامة ديننا، فاستصوبوا رأيه، وخرجوا إلى ابن الحنفيّة، فلمّا قدموا عليه سألهم عن حال الناس، فأخبروه وأعلموه «5» حال المختار، فقال:
والله لوددت أن الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، فعادوا.
وكان مسيرهم قد شقّ على المختار، وخاف أن يعودوا بما يخذل الشّيعة عنه، فلمّا قدموا الكوفة دخلوا عليه، فقال: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم، فقالوا: قد أمرنا بنصرك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اجمعوا الشّيعة، فجمع من كان قريبا منه، فقال لهم:
إنّ نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى «6» ، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله،(21/15)
وأمركم بطاعتى واتّباعى فيما دعوتكم إليه من قتال المحلّين «1» ، والطلب بدماء أهل بيت نبيّكم.
فقام عبد الرحمن بن شريح وأخبرهم بحالهم ومسيرهم، وأنّ ابن الحنفيّة أمرهم بمظاهرته «2» ومؤازرته، وقال لهم: لبيلّغ الشاهد منكم الغائب، واستعدّوا وتأهّبوا، وقام جماعة من أصحابه فقالوا نحوا من كلامه.
فاجتمعت له الشيعة، وكان من جملتهم [الشّعبى] «3» وأبوه شراحيل، فلمّا تهيّأ أبوه «4» للخروج قال له بعض أصحابه:
إن أشراف الكوفة مجمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن أجابنا إبراهيم بن الأشتر رجونا القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى رئيس «5» وابن رجل شريف، وله عشيرة ذات عزّ وعدد. فقال المختار:
فالقوه وادعوه، فخرجوا إليه ومعهم الشّعبى، فأعلموه حالهم، وسألوه مساعدتهم، فقال: على أن توّلونى الأمر، فقالوا: أنت لذلك «6» أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدى، وهو المأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته، فلم يجبهم إبراهيم، فانصرفوا عنه.
وأتوا المختار، فسكت ثلاثا، ثم سار إلى إبراهيم فى بضعة(21/16)
عشر من أصحابه، والشعبىّ وأبوه فيهم، فدخلوا عليه، فألقى إليهم الوسائد، فجلسوا عليها، وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار له: هذا كتاب المهدىّ إليك، يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فقرأه، فإذا هو: «من محمد المهديّ إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك، فإنى أحمد الله إليك الّذى لا إله إلّا هو، أمّا بعد، فإنى [قد] «1» بعثت إليكم وزيرى وأمينى الذى ارتضيته لنفسى، وأمرته بقتال عدوّى، والطلب بدماء أهل بيتى، فانهض بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتنى وأجبت دعوتى كانت لك بذلك عندى فضيلة، ولك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكلّ مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام» .
فلمّا فرغ من قراءته تأخّر عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وبايعه. وصار يختلف إلى المختار كلّ عشيّة يدبّرون أمورهم.
واجتمع رأيهم على الخروج ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة من شهر ربيع الأوّل، فلمّا كان تلك اللّيلة، صلّى إبراهيم بن الأشتر بأصحابه المغرب، ثم خرج يريد المختار، وعليه وعلى أصحابه السلاح، وكان إياس بن مضارب قد جاء إلى عبد الله بن مطيع وهو على شرطته، فقال: إن المختار خارج عليك إحدى هاتين اللّيلتين، وقد بعثت بابنى إلى الكناسة «2» ، فلو بعثت فى كلّ جبّانة «3» عظيمة(21/17)
بالكوفة رجلا من أصحابك فى جماعة من أهل الطاعة لهاب المختار وأصحابه الخروج عليك، فبعث ابن مطيع إلى كلّ جبّانة من يحفظها من أهل الطاعة، وأمّر على كل طائفة أميرا، وأوصى كلا منهم ألّا يؤتى من قبله، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجّه نحوهم، وكان خروجهم إلى الجبابين يوم الاثنين.
وخرج إبراهيم بن الأشتر ليلة الثلاثاء يريد المختار، وقد بلغه أنّ الجبابين قد ملئت رجالا، وأن إياس بن مضارب فى الشّرطة قد أحاط بالسّوق والقصر، فأخذ معه من أصحابه نحو مائة دارع، وقد لبسوا عليهم الأقبية، فقال له [أصحابه] «1» : تجنب الطريق، فقال: والله لأمرّنّ وسط السّوق بجنب القصر، ولأرعبن عدوّنا، ولأرينّهم هوانهم علينا، فسار على باب الفيل، فلقيهم إياس فى الشّرط مظهرين السّلاح، فقال: من أنتم؟ فقال «2» :
أنا إبراهيم بن الأشتر. فقال إياس: ما هذا الجمع الّذى معك؟
وإلى أين تريد؟ ولست بتاركك حتى آتى بك الأمير، فقال إبراهيم:
خلّ سبيلنا؛ قال: لا أفعل؛ وكان مع إياس رجل من همدان يقال له أبو قطن، وكان يكرمه، وكان صديقا لابن الاشتر، فقال له ابن الأشتر: ادن منى يا أبا قطن، فدنا منه وهو يظنّ أن إبراهيم يستشفع به عند إياس، فلمّا دنا منه أخذ رمحا كان معه فطعن به إياسا فى ثغره «3» ، فصرعه، وأمر رجلا من أصحابه فقطع رأسه،(21/18)
وتفرّق أصحاب إياس، ورجعوا إلى ابن مطيع، فبعث مكانه ابنه راشد بن إياس على الشّرط، وأقبل إبراهيم إلى المختار وقال له:
إنّا اتّعدنا للخروج القابلة، وقد وقع أمر، لا بد من الخروج الليلة، وأخبره الخبر، ففرح المختار يقتل إياس وقال: هذا أوّل الفتح إن شاء الله.
ثم قال لسعيد بن منقذ: قم فأشعل النّيران وارفعها، وسر أنت يا عبد الله بن شدّاد فناد: يا منصور، أمت، وأنت يا سفيان بن ليلى، وأنت يا قدامة بن مالك: ناد يا لثارات الحسين، ثم لبس سلاحه.
وكانت الحرب بين أصحابه وبين الّذين ندبهم ابن مطيع لحفظ الجبابين فى تلك الليلة، فكان الظفر لأصحاب المختار، وخرج المختار فى جماعة من أصحابه حتى نزل فى ظهر دير هند فى السبخة «1» ، وانضمّ إليه ممّن تابعه ثلاثة آلاف وثمانمائة من اثنى عشر ألفا، واجتمعوا له قبل الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته، وصلّى بأصحابه بغلس.
وقد جمع ابن مطيع أهل الطاعة إليه، فبعث شبث بن ربعىّ فى ثلاثة آلاف، وراشد بن إياس فى أربعة آلاف من الشّرط، لقتال المختار ومن معه، وأردفهم بالعساكر، واقتتلوا؛ فكان الظفر لأصحاب المختار، وكان الذى صلّى الحرب ودبر الأمر إبراهيم بن الأشتر.
فلمّا رأى ابن مطيع أمر المختار وأصحابه قد قوى خرج بنفسه إليهم، فوقف بالكناسة واستخلف شبث بن ربعى على القصر، فبرز إبراهيم ابن الأشتر إلى ابن مطيع فى أصحابه وحمل عليه، فلم يلبث ابن مطيع(21/19)
أن انهزم أصحابه، يركب بعضهم بعضا على أفواه السّكك، وابن الأشتر فى آثارهم، حتى بلغ المسجد، وحصر ابن مطيع ومن معه من أشراف الكوفة فى القصر ثلاثا، فقال شبث لابن مطيع: انظر لنفسك ولمن معك؛ فقال: أشيروا عليّ؛ فقال شبث: الرأى أن تأخذ لنفسك ولنا أمانا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك؛ فقال ابن مطيع: إنى لأكره أن آخذ منه أمانا، والأمور لأمير المؤمنين مستقيمة بالحجاز والبصرة؛ قال: فتخرج ولا تشعر بك أحدا، فتنزل بالكوفة عند من تثق إليه حتى تلحق بصاحبك. فأقام حتى أمسى، وخرج وأتى دار أبى موسى، وترك «1» القصر، ففتح أصحابه الباب، وقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ فقال: أنتم آمنون؛ فخرجوا، فبايعوا المختار. ودخل [المختار] «2» القصر فبات به، وأصبح أشراف الناس فى المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر وخطب الناس، ثم نزل.
ودخل أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والطلب بدماء «3» أهل البيت وجهاد المحلّين «4» والدّفع عن الضّعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلّم من سالمنا.
وكان ممن بايعه المنذر بن حسان الضّبى وابنه حسان، فلما خرجا من عنده استقبلهما سعيد بن منقذ الثورى فى جماعة(21/20)
من الشّيعة، فقالوا: هذان والله رءوس الجبارين، فقتلوهما، ونهاهم سعيد عن قتلهما إلّا بأمر المختار، فلم ينتهوا.
فلما سمع المختار ذلك كرهه، وأقبل يمنّى الناس ويود «1» الأشراف، ويحسن السّيرة، فبلغه أن ابن مطيع فى دار أبى موسى، فسكت، فلما أمسى بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال: تجهز بهذه، فقد علمت مكانك، وأنّك لم يمنعك من الخروج إلا عدم النّفقة.
*** ووجد المختار فى بيت المال [بالكوفة] «2» تسعة آلاف ألف وخمسمائة ألف، فأعطى لكل رجل خمسمائة درهم، وأعطى لستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر «3» ، لكل منهم مائتى درهم، واستقبل الناس بخير. واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشّاكرى، وعلى حرسه كيسان.
[والله أعلم بالصواب] «4» .(21/21)
ذكر عمال المختار بن أبى عبيد
كانت أوّل راية عقدها المختار لعبد الله بن الحارث أخى الأشتر على إرمينية، وبعث محمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق ابن مسعود على المدائن، وأرض جوخى «1» ، وبعث قدامة بن أبى عيسى ابن ربيعة النّصرى حليف ثقيف على بهقباذ «2» الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث سعد ابن حذيفة بن اليمان على حلوان، وأمره بقتال الأكراد، وإقامة الطّرق.
وكان ابن الزبير قد استعمل على الموصل محمد بن الأشعث بن قيس، فلما بعث المختار عبد الرحمن إليها، سار محمد عنها إلى تكريت «3» ، ينتظر ما يكون من الناس، ثم سار إلى المختار فبايعه، فلما فرغ من ذلك أقبل يجلس للناس ويقضى بينهم، ثم قال: إن لى فيما أحاول شغلا عن القضاء، ثم أقام شريحا يقضى بين الناس، فتمارض، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائى.(21/22)
ذكر قتل المختار قتلة الحسين
وخروج أهل الكوفة على المختار وقتالهم إياه ووقعة السبيع «1» كان سبب ذلك أن مروان بن الحكم لما استتب له الأمر بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وقد ذكرنا ما كان من أمره مع التّوابين «2» . ثم توفى مروان بن الحكم وولّى ابنه عبد الملك، فأقرّ ابن زياد على ولايته، وأمره بالجدّ، فأقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إليه يخبره بدخول ابن زياد أرض الموصل، وأنّه قد تنحّى له عنها إلى تكريت، فندب المختار يزيد بن أنس الأسدى، فانتخب ثلاثة آلاف، وسار بهم نحو الموصل، وكتب المختار إلى عبد الرحمن: أن خلّ بين يزيد وبين البلاد، فسار يزيد حتى بلغ أرض الموصل، فنزل بنات تلّى «3» ، وبلغ خبره ابن زياد، فقال: لأبعثنّ إلى كلّ ألف ألفين، فأرسل ربيعة بن المخارق الغنوىّ فى ثلاثة آلاف، وعبد الله بن جملة «4» الخثعمى فى ثلاثة آلاف، فسار ربيعة قبل عبد الله بيوم، فنزل بيزيد بن أنس بنات تلّى «5» فخرج، وقد اشتدّ به المرض، وعبّأ أصحابه،(21/23)
وقال: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذرى، فإن هلك فأميركم سعر الحنفى.
ثم نزل فوضع على سرير، وقال: قاتلوا عن أميركم إن شئتم أو فرّوا عنه.
واقتتل القوم، فانهزم أصحاب ابن زياد، وقتل ربيعة بن المخارق، قتله عبد الله بن ورقاء، فسار المنهزمون ساعة، ولقيهم عبد الله ابن جملة فردهم معه، فباتوا ليلتهم ببنات تلّى يتحارسون، فلمّا أصبحوا خرجوا إلى القتال فاقتتلوا قتالا شديدا، وذلك فى يوم الأضحى سنة ست وستّين، فانهزم أهل الشام، ونزل ابن جملة فى جماعة، فقاتل حتى قتل، وحوى أهل الكوفة عسكرهم، وقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وأسروا ثلاثمائة، فأمر يزيد بقتلهم، وهو بآخر رمق، فقتلوا، ثم مات آخر النهار، فقال ورقاء بن عازب لأصحابه:
إنه بلغنى أنّ عبيد الله بن زياد قد أقبل إليكم فى ثمانين ألفا، وأشار عليهم بالرجوع إلى المختار، فصوّبوا رأيه، ورجعوا، فبلغ ذلك أهل الكوفة، فأرجفوا بالمختار، وقالوا: إن يزيد قتل ولم يمت، فندب إبراهيم بن الأشتر فى سبعة آلاف، وقال له: سر فإذا لقيت جيش يزيد فأنت الأمير عليهم، فارددهم معك حتى تلقى ابن زياد فناجزه.
فسار إبراهيم لذلك، فاجتمع أشراف الكوفة على شبث بن ربعى وقالوا: والله، إن المختار تأمّر بغير رضا منّا، وقد أدنى موالينا «1» ، فحملهم على الدوابّ، وأعطاهم فيئنا.(21/24)
فقال: دعونى حتّى ألقاه، فذهب إليه فكلمه، فلم يدع شيئا أنكره إلّا ذكره له، والمختار يقول فى كلّ خصلة: أنا أرضيهم فى هذه وآتى كل ما أحبوه، فلما ذكر له «1» الموالى ومشاركتهم فى الفىء قال: إن أنا تركت لكم مواليكم وجعلت فيئكم لكم، أتقاتلون معى بنى أمية وابن الزبير وتعطونى على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الأيمان. فقال شبث: حتى أخرج إلى أصحابى فأذكر ذلك لهم.
فخرج إليهم ولم يعد إلى المختار، واجتمع رأيهم على قتاله، فاجتمع شبث، ومحمد بن الأشعث، وعبد الرحمن بن سعيد «2» بن قيس، وشمر بن ذى الجوشن، ودخلوا على كعب بن أبى «3» كعب الخثعمى، فكلّموه فى ذلك، فأجابهم إليه، فخرجوا من عنده، ودخلوا على على عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، فدعوه إلى ذلك، فقال:
إن أطعتمونى لم تخرجوا، فقالوا: لم؟ قال: إنى أخاف «4» أن تتفرقوا وتختلفوا ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان، ثم معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشدّ حنقا عليكم من عدوكم، فهم يقاتلونكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بغيركم، ولا تجعلوا بأسكم بينكم؛(21/25)
فقالوا: ننشدك الله ألّا تخالفنا وتفسد علينا رأينا، وما أجمعنا عليه. فقال: إنّما أنا رجل منكم، فإذا شئتم فأخرجوا؛ فوثبوا بالمختار بعد مسير ابن الأشتر، وخرج كلّ رئيس بجبّانة، فأرسل المختار إلى ابن الأشتر يأمره بسرعة العود إليه، وبعث إليهم وهو يلاطفهم ويقول: إنى صانع ما أحببتم، وهو يريد بذلك مداهنتهم حتى يقدم إبراهيم ابن الأشتر، فوصل الرسول إليه وهو بساباط»
، فرجع لوقته، وسار حتى أتى الكوفة ومعه أهل القوّة من أصحابه، واجتمع أهل اليمن بجبانة السّبيع، فلما حضرت الصلاة كره كلّ رأس من أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال ابن مخنف: هذا أوّل الاختلاف، قدموا الرضىّ منكم سيّد القرّاء رفاعة بن شداد البجلى، فلم يزل يصلّى بهم حتى كانت الوقعة.
ثم نزل المختار فعبّأ أصحابه وأمر ابن الأشتر فسار إلى مضر وعليهم شبث بن ربعى، ومحمد بن عمير، وهم بالكناسة، وسار المختار نحو أهل اليمن بجبّانة السّبيع، فاقتتلوا أشدّ قتال، ثم كانت الغلبة للمختار وأصحابه، وانهزم أهل اليمن وأخذ من دور الوادعيين «2» خمسمائة أسير، فأتى بهم إلى المختار، فعرضهم، فقتل منهم من شهد مقتل الحسين، فكانوا مائتين وثمانية وأربعين.
ونادى منادى المختار: من أغلق بابه فهو آمن إلّا من شرك فى دماء آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر «3» بن الحجاج الزّبيدى(21/26)
ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته وأخذ طريق الواقصة «1» ، فعدم «2» فقيل: أدركه أصحاب المختار، وقد سقط من شدّة العطش، فذبحوه.
وبعث المختار غلاما له يدعى زربيا «3» فى طلب شمر ابن ذى الجوشن، فأدركه فقتله شمر، وسار حتى نزل قرية يقال لها الكلتانيّة «4» ، فأخذ منها علجا، فضربه، وقال: امض بكتابى هذا إلى مصعب بن الزبير؛ فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة صاحب المختار، فلقى ذلك العلج علجا آخر من تلك القرية، فشكا إليه ما لقى من شمر، فبينما هو يكلّمه إذمر رجل من من أصحاب أبى عمرة اسمه عبد الرحمن بن أبى الكنود «5» ، فرأى الكتاب، وعنوانه لمصعب من شمر، فسألوا العلج عنه، فأخبرهم بمكانه، فإذا هو منهم على مسيرة ثلاثة فراسخ، فساروا إليه وأدركوه، فهرب أصحابه، وأعجله القوم عن لبس سلاحه، فقام وقد اتزر ببرد، وكان أبرص، فظهر بياض برصه، فطاعنهم بالرّمح ثم ألقاه، وأخذ السيف فقاتل به حتى قتل، والّذى قتله عبد الرحمن «6» ابن أبى الكنود، وألقى جيفته للكلاب.(21/27)
قال: وأقبل المختار إلى القصر من جبّانة السّبيع ومعه سراقة ابن مرداس البارقى أسيرا، فناداه سراقة «1» :
امنن على اليوم يا خير معد ... وخير من حلّ «2» بشحر والجند
وخير من لبّى وحيّى وسجد
فأمر به إلى السجن، ثم أحضره من الغد، فأقبل وهو يقول «3» :
ألا أبلغ أبا إسحاق أنّا ... نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا نرى الضّعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا «4»
لقينا منهم ضربا طلحفا «5» ... وطعنا صائبا حتى انثنينا
نصرت على عدوّك كلّ يوم ... بكلّ كتيبة تنعى «6» حسينا
كنصر محمّد فى يوم بدر ... ويوم الشّعب إذ وافى «7» حنينا
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا فى الحكومة واعتدينا
تقبّل «8» توبة منّى فإنى ... سأشكر إذ جعلت النقد دينا
فلمّا انتهى إلى المختار قال: أصلح الله الأمير، أحلف بالله الّذى لا إله إلّا هو لقد رأيت الملائكة تقاتل معك على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: اصعد على المنبر فأعلم الناس، فصعد، فأخبرهم بذلك، ثم نزل فخلا به فقال له: إنى قد علمت(21/28)
أنك لم ترشيئا، وإنما أردت ما قد عرفت «1» ، فاذهب [عنى] «2» حيث شئت، لا تفسد عليّ أصحابى.
فخرج إلى البصرة، فنزل عند مصعب وقال «3» :
ألا أبلغ أبا إسحاق أنى ... رأيت الخيل «4» بلقا مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... عليّ قتالكم حتّى الممات
أرى عينيّ ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالتّرّهات «5»
وقتل يومئذ عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانى، وادعى قتله سعر بن أبى سعر، وأبو الزّبير الشّباميّ، وشبام من همدان، وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه، وكانت الوقعة لست ليال بقين من ذى الحجة سنة ست وستّين.
وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتل قتلة الحسين، وقال: ما من ديننا أن نترك قتلة الحسين أحياء، بئس ناصر آل محمد أنا إذا [فى الدنيا، أنا إذا] «6» الكذّاب كما سمّونى، وإنى أستعين بالله تعالى عليهم، فسمّوهم لى ثم تتبّعوهم حتى تقتلوهم، فإنّى لا يسوغ إلى الطّعام والشراب حتى أطهّر الأرض منهم، فدل على عبد الله بن أسيد الجهنيّ، ومالك بن النّسير «7»(21/29)
البديّ، وحمل بن مالك المحاربى، فبعث المختار إليهم، فأحضرهم من القادسيّة، فلمّا رآهم قال: يا أعداء الله ورسوله، أين الحسين ابن عليّ؟ أدّوا إليّ الحسين. قتلتم ابن من أمرتم بالصّلاة عليهم.
فقالوا: رحمك الله، بعثنا كارهين، فامنن علينا واستبقنا، فقال:
هلّا مننتم على ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه؟ فأمر بمالك ابن النّسير البديّ فقطع يديه ورجليه وتركه يضطرب حتى مات، وقتل الآخرين، وأحضر زياد بن مالك الضّبعيّ، وعمران بن خالد العنزى «1» ، وعبد الرحمن بن أبى خشكارة البجلىّ، وعبد الله بن قيس الخولانى، فلما رآهم قال: يا قتلة الصالحين، وقتلة سيّد شباب أهل الجنّة، قد أقاد الله منكم اليوم، لقد جاءكم الورس، بيوم نحس، وكانوا نهبوا من الورس الّذى كان مع الحسين رضى الله عنه، ثم أمر بهم فقتلوا.
وقتل عبد الله وعبد الرحمن ابنى صلحت «2» ، وعبد الله بن وهيب «3» الهمدانى، وأحضر عثمان بن خالد بن أسيد «4» الدّهمانى الجهنى، وأبا أسماء بشر بن سوط «5» القابضى، وكانا قد اشتركا فى قتل عبد الرحمن بن عقيل وفى سلبه، فضرب أعناقهما وأحرقا بالنار.
وأرسل إلى خولىّ بن يزيد الأصبحيّ وهو صاحب رأس الحسين(21/30)
فاختبأ فى مخرجه، فدخل أصحاب المختار يطلبونه، فخرجت امرأته، وهى العيوف بنت مالك، وكانت تعاديه منذ جاءها «1» برأس الحسين، فقالت: ما تريدون؟ فقالوا لها: أين زوجك؟
قالت: لا أدرى، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا، فوجدوه وعلى رأسه قوصرّة، «2» ، فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله، وحرقوه بالنار.
وقتل عمر «3» بن سعد بن أبى وقّاص، وكان الّذى تولّى قتله أبو عمرة، وأحضر رأسه عند المختار، وعنده ابنه حفص ابن عمر، فقال له المختار: أتعرف هذا؟ قال: نعم، ولا خير فى العيش بعده، فأمر به فقتل، وقال: هذا بحسين، وهذا بعليّ ابن حسين، ولا سواء»
، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله.
وأرسل المختار إلى حكيم بن طفيل الطائى- وكان أصاب سلب العباس بن على؛ ورمى الحسين بسهم، وكان يقول: تعلّق سهمى بسرباله وما ضرّه، فأتاه أصحاب المختار فأخذوه، وذهب أهله فتشفّعوا بعدىّ بن حاتم، فكلمهم عدىّ فيه، فقالوا: ذلك إلى المختار، فمضى عدىّ إلى المختار يشفع فيه، وكان قد شفّعه فى نفر من قومه أصابهم يوم جبّانة السّبيع، فقالت الشّيعة: إنا نخاف أن يشفّعه فيه، فقتلوه رميا بالسّهام كما رمى الحسين حتى صار كالقنفذ،(21/31)
ودخل عدىّ بن حاتم على المختار، فأجلسه معه، فشفع فيه، وقال:
إنه مكذوب عليه، قال: إذا ندعه لك، فدخل ابن كامل فأخبر المختار بقتله.
وبعث المختار إلى مرّة بن منقذ، وهو قاتل على بن الحسين، وكان شجاعا، فأحاطوا بداره، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه، فطاعنهم، فضرب على يده، فهرب فنجا، ولحق بمصعب بن الزبير، وشلّت يده بعد ذلك.
وبعث المختار إلى زيد بن رقاد الجنبى «1» ، وهو قاتل عبد الله ابن مسلم بن عقيل، فخرج إليهم بالسيف، فقال ابن كامل:
لا تطعنوه [برمح] «2» ، ولا تضربوه بسيف، ولكن ارموه بالنّبل والحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فأحرقوه حيا.
وطلب المختار سنان بن أنس الّذى كان يدّعى قتل الحسين، فهرب إلى البصرة، فهدم داره.
وطلب عبد الله بن عقبة الغنوىّ فوجده قد هرب إلى الجزيرة، فهدم داره.
وطلب رجلا من خثعم اسمه عبد الله بن عروة «3» فهرب ولحق بمصعب، فهدم داره.
وطلب عمرو بن صبيح الصّدائى، وكان يقول: لقد طعنت(21/32)
فيهم وجرحت وما قتلت، فأحضر إلى المختار، فأمر به فطعن بالرماح حتى مات.
وأرسل إلى محمد بن الأشعث وهو فى قرية له إلى جنب القادسيّة، فهرب إلى مصعب فهدم المختار داره، وبنى بلبنها وطينها دار حجر ابن عدى الكندى، وكان زياد قد هدمها.
وكان الذى هيّج المختار على قتل قتلة الحسين أنّ يزيد بن شراحيل الأنصارى أتى محمد ابن الحنفية فسلّم عليه، وجرى الحديث إلى أن تذاكروا أمر المختار، فقال ابن الحنفية: إنه يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين عنده على الكراسى يحدثونه «1» ، فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك، فقتل عمر بن سعد، وبعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية، وكتب إليه يعلمه أنه قتل من قدر عليه، وأنه فى طلب الباقين ممّن حضر قتل الحسين، [رضى الله عنه] «2» .(21/33)
ذكر بيعة المثنى العبدى للمختار بالبصرة
وإخراجه منها ولحاقة بالمختار بالكوفة وفى سنة ستّ وستين دعا المثنّى بن مخرّبة «1» العبديّ بالبصرة إلى بيعة المختار، وكان قد بايع المختار بعد مقتل سليمان بن صرد، فسيّره المختار إلى البصرة يدعو بها إليه، ففعل، فأجابه رجال من قومه وغيرهم.
ثم أتى مدينة الرّزق «2» فعسكر عندها، فوجّه إليهم «3» الحارث ابن أبى ربيعة المعروف بالقباع «4» ، وهو أمير البصرة، عبّاد بن حصين، وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم فى الشرط والمقاتلة، فخرجوا إلى السّبخة، ولزم الناس بيوتهم، فلم يخرج أحد، وأقبل عبّاد فيمن معه فتواقف هو والمثنّى وأنشبوا «5» القتال، فانهزم المثنّى، وأتى قومه عبد القيس، وكف عنه عبّاد، فأرسل القباع عسكرا إلى عبد القيس ليأتوه بالمثنى ومن معه، فلما رأى زياد بن عمرو العتكى ذلك أقبل إلى القباع فقال: لتردّنّ خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنّهم، فأرسل القباع الأحنف بن قيس، وعمر بن عبد الرحمن المخزومى ليصلحا بين الناس، فأصلح الأحنف الأمر على أن يخرج المثنى وأصحابه عنهم، فأجابوه إلى ذلك وأخرجوهم عنهم، فسار المثنى إلى الكوفة فى نفر يسير من أصحابه.(21/34)
ذكر مخادعة المختار ومكره بعبد الله بن الزبير
وظهور ذلك له قال: لمّا أخرج المختار ابن مطيع عامل ابن الزبير من الكوفة سار إلى البصرة وكره أن يأتى ابن الزبير مهزوما، فلما استجمع للمختار أمر الكوفة، أخذ يخادع ابن الزبير، فكتب إليه: «قد عرفت مناصحتى إياك، وجهدى على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتنى إن أنا فعلت ذلك، فلما وفيت لك [وقضيت الذى كان لك علىّ خست بى و] «1» لم تف بما عاهدتنى عليه، فإن ترد مراجعتى ومناصحتى، فعلت، والسلام» .
وإنما قصد المختار بذلك أن يكفّ ابن الزبير عنه ليتم أمره، ولم تعلم الشيعة بذلك، فأراد ابن الزبير أن يعلم حقيقة ذلك، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ فولّاه الكوفة، وقال: إنّ المختار سامع مطيع، فتجهّز عمر وسار نحو الكوفة، وأتى الخبر المختار، فدعا زائدة بن قدامة وأعطاه سبعين ألف درهم وقال له: هذه ضعف ما أنفق عمر فى طريقه إلينا، وأمره أن يأخذ معه خمسمائة فارس، ويسير حتّى يلقاه بالطريق فيعطيه النفقة ويأمره بالعود، فإن فعل وإلّا فيريه الخيل، فأخذ زائدة المال والخيل وسار حتى لقى عمر، فأعطاه المال، وأمره بالانصراف، فقال: إن أمير المؤمنين قد ولانى الكوفة، ولا بد من إتيانها، فدعا(21/35)
زائدة الخيل، وكان قد أكمنها «1» ؛ فلما رآها عمر قد أقبلت أخذ المال وسار نحو البصرة.
ثم إن عبد الملك بن مروان بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم ابن أبى العاص إلى وادى القرى، وكان المختار قد وادع ابن الزبير ليكف عنه ويتفرّغ لأهل الشام، فكتب المختار لابن الزبير: بلغنى أن ابن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أمددتك بمدد.
فكتب إليه ابن الزبير: «إن كنت على طاعتى فبايع لى الناس قبلك، وعجّل بإنفاذ الجيش ومرهم فليسيروا إلى من بوادى القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم، والسلام» .
فدعا المختار شرحبيل بن ورس الهمدانى. فسيّره فى ثلاثة آلاف أكثرهم من الموالى، وليس فيهم إلّا سبعمائة من العرب، وقال له:
سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلىّ بذلك حتى يأتيك أمرى، وهو يريد إذا دخل الجيش المدينة أن يبعث عليهم أميرا لمحاصرة ابن الزبير بمكة، وخشى ابن الزبير أنّ المختار إنما يكيده.
فبعث من مكّة [إلى المدينة] «2» عباس بن سهل بن سعد فى ألفين، وأمره أن يستنفر العرب، وقال له: إن رأيت القوم فى طاعتى وإلّا فكايدهم حتى تهلكهم. فأقبل عباس حتى لقى ابن ورس بالرقيم «3» وقد عبّأ أصحابه، وأتى عباس وقد تقطع أصحابه، فرأى ابن ورس على الماء فى تعبئته فدنا وسلّم عليهم، ثم قال لابن ورس سرّا:
ألستم فى طاعة ابن الزبير؟ قال: بلى. قال: فسر بنا إلى عدوه(21/36)
الّذى بوادى «1» القرى، فقال: إنما أمرت أن آتى المدينة وأكتب إلى صاحبى، فيأمرنى بأمره، فقال عباس: رأيك أفضل، وفطن لما يريد، وقال: أما أنا فسائر إلى وادى القرى، ونزل عباس أيضا، وبعث إلى ابن ورس بجزائر «2» وغنم، وكانوا قد ماتوا جوعا، فذبحوا واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وجمع عبّاس من شجعان أصحابه نحو ألف رجل، وأقبل إلى فسطاط ابن ورس، فلما رآهم نادى فى أصحابه، فلم يجتمع إليه مائة رجل، حتى انتهى إليهم عباس، فاقتتلوا يسيرا، فقتل ابن ورس فى سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس راية أمان، فأتوها إلا نحو ثلاثمائة مع سليمان بن حمير الهمدانى، وعبّاس «3» بن جعدة الجدلى، فظفر عباس بن سهل منهم بنحو من مائتين فقتلهم، وأفلت الباقون فرجعوا ومات أكثرهم فى الطريق.
وكتب المختار إلى ابن الحنفية: «إنى أرسلت إليك جيشا ليذلّوا لك الأعداء، ويحرزوا لك البلاد، فلمّا قاربوا طيبة «4» فعل بهم كذا وكذا، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة جيشا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رجلا «5» فافعل» .
فكتب إليه ابن الحنفية: «أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، وعرفت تعظيمك لحقى، وما تؤثره من سرورى؛ وإن أحبّ الأمور كلّها إلىّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت، وإنى لو أردت القتال لوجدت الناس إلىّ سراعا، والأعوان لى كثيرة، ولكنّى أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله [لى] «6» وهو خير الحاكمين» .(21/37)
ذكر امتناع محمد ابن الحنفية من مبايعة عبد الله بن الزبير وما كان من أمره وإرسال المختار الجيش إلى مكة وخبر ابن الحنفية
قال: ثم إن عبد الله بن الزبير دعا محمد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته، وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر «1» بن وائلة له صحبة، ليبايعوه فامتنعوا وقالوا:
لا نبايع حتى تجتمع الأمّة، فأكثر الوقيعة فى ابن الحنفية وذمّه، فأغلظ له عبد الله بن هانىء الكندى، وقال «2» : لئن لم يضرك إلا تركنا بيعتك لا يضرك شىء، فلم يراجعه ابن الزبير، فلما استولى «3» المختار على الكوفة وصارت الشّيعة تدعو لابن الحنفية، ألح ابن الزبير عليه وعلى أصحابه فى البيعة حتّى حبسهم بزمزم، وتوّعدهم، بالقتل والإحراق إن لم يبايعوا، وضرب لهم فى ذلك أجلا.
فكتب ابن الحنفيّة إلى المختار يعرفه الحال، ويطلب منه النجدة.
فقرأ المختار كتابه على أهل الكوفة، وقال: هذا مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم قد تركوا «4» محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق فى اللّيل والنهار، لست أبا إسحاق إن لم(21/38)
أنصرهم نصرا مؤزّرا، وإن لم أسرّب الخيل فى إثر الخيل، كالسّيل يتلوه السّيل، حتى يحلّ بابن الكاهليّة الويل، يريد عبد الله بن الزّبير.
فبكى الناس وقالوا: سرّحنا إليه وعجّل، فوجه أبا عبد الله الجدلىّ فى سبعين من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بنى تميم فى أربعمائة، وبعث معه أربعمائة ألف درهم لابن الحنفيّة، ووجّه أبا المعتمر فى مائة، وهانىء بن قيس فى مائة، وعمير بن طارق فى أربعين، ويونس بن عمران فى أربعين، فوصل أبو عبد الله الجدلى إلى ذات «1» عرق، فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس فى ثمانين، فبلغوا مائة وخمسين راكبا، فساروا حتّى دخلوا المسجد الحرام وهم ينادون: يا لثارات الحسين، حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرّقهم، وكان قد بقى من الأجل يومان، فكسروا الباب ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا: خلّ بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال: إنى لا أستحلّ القتال فى الحرم. فقال ابن الزبير: وا عجبا لهذه الخشبيّة ينعون حسينا كأنّى أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم، وإنما سمّاهم ابن الزبير الخشبيّة لأنّهم دخلوا مكّة وبأيديهم الخشب كراهة إشهار «2» السيوف فى الحرم، وقال: أتحسبون أنّى أخلّى سبيلهم «3» ، دون أن نبايع ويبايعوا «4» .
فقال الجدلى: وربّ الرّكن والمقام لتخلّينّ سبيلنا أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون، فكفّهم ابن الحنفية وحذّرهم الفتنة.(21/39)
ثم قدم باقى الجند ومعهم المال، فدخلوا المسجد الحرام فكبّروا، وقالوا، بالثارات الحسين، فخافهم ابن الزبير، وخرج ابن الحنفيّة ومعه أربعة آلاف رجل إلى شعب على، فعزّوا وامتنعوا، فقسم فيهم المال، فلما قتل المختار ضعفوا واحتاجوا، ثم استوسقت «1» البلاد لابن الزبير بعد قتل المختار، فبعث إلى ابن الحنفيّة أن ادخل فى بيعتى، وإلّا نابذتك.
وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان، فكتب إلى ابن الحنفيّة:
إنه إن قدم عليه أحسن إليه، وإنه ينزل أيّ الشام أحبّ حتّى يستقيم أمر الناس.
فخرج ابن الحنفية ومن معه إلى الشام، فلما وصل إلى مدين بلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، فندم على إتيانه إلى الشام ونزل أيلة «2» ، وتحدث الناس بفضل ابن الحنفيّة، وكثرة عبادته وزهده، فندم عبد الملك على إذنه له فى القدوم إلى بلده، فكتب إليه: «إنه لا يكون فى سلطانى من لا يبايعنى» .
فارتحل إلى مكّة، ونزل شعب أبى طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عنه، فسار إلى الطائف والتحق به عبد الله بن عباس، ومات ابن عباس بالطائف، فصلى عليه ابن الحنفية، وكبّر عليه أربعا، وأقام بالطائف حتى قدم الحجّاج لحصار ابن الزبير، فعاد إلى الشّعب، فطلبه الحجاج ليبايع عبد الملك، فامتنع حتى يجتمع الناس، ثم بايع بعد قتل ابن الزّبير. هذا ما كان من أمره، فلنعد إلى أخبار المختار، [والله أعلم] «3» .(21/40)
ذكر مسير ابراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وقتل ابن زياد
وفى سنة [66 هـ] ست وستّين لثمان بقين من ذى الحجة، سار إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد، وذلك بعد فراغه من وقعة السّبيع بيومين، وأخرج المختار معه فرسان أصحابه ووجوههم وأهل البصائر منهم، وشيّعه ووصاه، وخرج معه لتشييعه أصحاب الكرسى بكرسيهم، وهم يدعون الله له بالنصر، وسنذكر خبر الكرسىّ إن شاء الله تعالى.
قال: ولما انتهى إبراهيم إلى أصحاب الكرسىّ وهم عكوف عليه، [وقد] «1» رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله، فقال إبراهيم:
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، هذه سنّة بنى إسرائيل، وسار إبراهيم مجدّا ليلقى ابن زياد قبل أن يدخل أرض العراق، وكان ابن زياد قد سار فى عسكر عظيم وملك الموصل كما ذكرنا، فلما انتهى إبراهيم إلى نهر الخازر «2» من أرض الموصل نزل بقرية باربيثا «3» ، وأقبل عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر، وأرسل عمير بن الحباب «4» السّلمىّ إلى ابن الأشتر أن القنى؛(21/41)
وكانت قيس كلّها مضطغنة على بنى مروان بسبب وقعة مرج «1» راهط، وجند عبد الملك يومئذ كلب، واجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير أنّه على ميسرة ابن زياد، وواعده أنه ينهزم بالناس، وأشار عليه بمناجزة القوم، وعاد عمير إلى أصحابه، وعبّأ ابن الأشتر أصحابه، وصلّى بهم صلاة الفجر بغلس، ثم صفّهم وسار بهم رويدا حتى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد، فتقدم ابن الأشتر وهو يحرض أصحابه على القتال، ويذكّرهم بمقتل «2» الحسين وسبى أهل بيته، فلما تدانى الصّفّان حمل الحصين بن نمير بميمنة أهل الشام على ميسرة ابن الأشتر، وعليها عليّ بن مالك الجشمى، فقتل ابن مالك، فأخذ الراية ابنه قرة بن عليّ وقاتل بها فقتل فى رجال من أهل البأس، وانهزمت ميسرة إبراهيم، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السّلوليّ، وردّ المنهزمين، وقاتلوا، وحملت ميمنة إبراهيم وعليها سفيان بن يزيد الأزدى على ميسرة ابن زياد، وهم يظنّون أن عمير بن الحباب ينهزم لهم كما زعم، فقاتلهم أشدّ قتال، وأنفت نفسه الهزيمة، فلمّا رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: اقصدوا أهل «3» السواد الأعظم، فو الله لئن هزمناه لنجعلن من ترون يمنة ويسرة، فتقدم أصحابه وقاتلوا أشد قتال، وصدقهم إبراهيم القتال، فانهزم أصحاب ابن زياد، وبعد أن قتل من الفريقين قتلى كثيرة.(21/42)
وقيل: إن عمير بن الحباب أول من انهزم، وإنما كان قتاله أولا تعذيرا.
فلما انهزموا قال إبراهيم بن الأشتر «1» : إنى قتلت رجلا تحت راية منفردة على شط نهر خازر، فالتمسوه فإنى شممت منه رائحة المسك، شرّقت يداه وغرّبت رجلاه، فالتمسوه، فاذا هو عبيد الله بن زياد، فأخذ رأسه وحرّق جثّته.
وأقام إبراهيم بالموصل، وأنفذ رأس عبيد الله إلى المختار، ورءوس القوّاد، وكانت هذه الوقعة فى سنة [67 هـ] سبع وستين.
وروى الترمذى رحمه الله «2» قال: لما جاءت الرءوس إلى المختار ألقيت فى القصر فجاءت حيّة دقيقة فتخللت الرءوس حتى دخلت فم عبيد الله وخرجت من منخره ودخلت فى منخره وخرجت من فمه، فعلت ذلك مرارا «3» .(21/43)
ذكر ولاية مصعب بن الزبير البصرة ومسيره إلى الكوفة وقتاله المختار وقتل المختار بن أبى عبيد
كانت ولايته البصرة وعزل الحارث بن أبى ربيعة الملقّب بالقباع عنها فى أول سنة (67 هـ) سبع وستّين، قال: فقدمها مصعب، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال «1» : بسم الله الرّحمن الرّحيم. طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
، وأشار بيده نحو الشام، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
، وأشار نحو الحجاز، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
، وأشار نحو الشام، وقال:
يأهل البصرة، بلغنى أنّكم تلقّبون أميركم، وقد لقّبت «2» نفسى الجزّار.
قال: ولما هرب أشراف الكوفة من المختار يوم وقعة السّبيع، أتى جماعة منهم إلى مصعب، فكان منهم شبت بن ربعىّ، أتاه على بغلة قد قطع ذنبها وطرف أذنها، وشقّ قباءه وهو ينادى:(21/44)
واغوثاه! وأتاه أشراف الكوفة فدخلوا عليه وسألوه المسير إلى المختار ونصرتهم، وقدم محمد بن الأشعث، واستحثّه على المسير فأدناه وأكرمه، وكتب إلى المهّلب بن أبى صفرة، وهو عامله على فارس يستدعيه ليشهد معهم قتال المختار، فقدم فى جموع كثيرة وأموال عظيمة، فبرز مصعب بالجيوش، وأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة، وأمره أن يخرج إليه من قدر عليه، ويثبط الناس عن المختار، ويدعوهم إلى بيعة ابن الزبير سرّا، فسار ودخل الكوفة مستترا، وفعل ما أمره، وسار مصعب وقدم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ «1» التميمىّ، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، والمهلّب على ميسرته، ومالك بن مسمع على بكر، ومالك بن المنذر على عبد القيس، والأحنف بن قيس على تميم، وزياد بن عمرو العتكىّ على الأزد، وقيس بن الهيثم على أهل العالية، وبلغ الخبر المختار فقام فى أصحابه فندبهم إلى الخروج مع أحمر بن شميط، ودعا رءوس الأرباع الّذين كانوا مع ابن الأشتر فبعثهم مع ابن شميط، فسار وعلى مقدّمته ابن كامل الشاكرىّ، فوصلوا إلى المذار «2» ، وأقبل مصعب فعسكر بالقرب منه، وعبّأ كلّ واحد منهما جنده، فتقدّم عباد بن الحصين إلى أحمر وأصحابه، وقال: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فقال الآخرون: إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة المختار، وأن نجعل هذا الأمر شورى فى آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،(21/45)
فرجع عبّاد وأخبر مصعبا، فقال: ارجع فاحمل عليهم، فرجع وحمل على ابن شميط وأصحابه، وحمل المهلّب على ابن كامل حملة بعد أخرى، فهزمهم، وثبت ابن كامل ساعة فى رجال من همدان، ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وانهزم أصحابه، وبعث مصعب عبّادا على الخيل، وقال له: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه، وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من أهل الكوفة، وقال: دونكم ثأركم فكانوا [حيث انهزموا] «1» .
أشدّ على المنهزمين من أهل البصرة، فلم يدركوا منهزما إلّا قتلوه، فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل.
ثم أقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط، [القصب] «2» ، ولم تكن [واسط] «3» بنيت بعد، فأخذ فى كسكر، ثم حمل الرجال أثقالهم والضعفاء فى السفن، فأخذوا فى نهر خرشاذ «4» ، ثم خرجوا إلى نهر قوسان، ثم خرجوا إلى نهر الفرات، وأتى المختار خبر الهزيمة والقتلى «5» ، فقال: ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من أن أموت مثل موتة ابن شميط.
ولما بلغه أنّ مصعبا قد أقبل إليه فى البرّ والبحر سار حتى نزل السّيلحين «6» ، ونظر إلى مجتمع الأنهار، نهر الخريرة «7» ، ونهر(21/46)
السّيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات «1» ، فذهب ماؤها فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين، فخرجوا من السفن إلى ذلك السّكر «2» فأصلحوه، وقصدوا الكوفة، وسار المختار فنزل حروراء «3» ، وحال بينهم وبين الكوفة بعد أن حصّن القصر والمسجد، وأقبل مصعب وجعل على ميمنته المهلّب، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين، وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندىّ، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمدانى، وعلى الخيل عمر «4» بن عبد الله النّهدىّ، وعلى الرجال مالك بن عبد الله «5» النّهدى، وأقبل محمد بن الأشعث فيمن كان قد هرب من أهل الكوفة، فنزل بين مصعب والمختار، فلمّا رأى المختار ذلك بعث إلى كلّ خمس من أهل البصرة رجلا من أصحابه، وتدانى الناس، فحمل سعيد بن منقذ على بكر وعبد القيس وهم فى ميمنة مصعب، فاقتتلوا قتالا شديدا، وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومى، فحمل على من بإزائه وهم أهل العالية، فكشفهم [فانتهوا إلى مصعب فجثا مصعب على ركبتيه ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة وتحاجزوا ثم حمل المهلب على من بإزائه فكشفهم] «6» واشتدّ القتال، فقتل ابن الأشعث وذلك عند(21/47)
المساء، وقاتل المختار على فم سكّة شبث عامّة ليلته، وقاتل معه رجال من أهل البأس، وقاتلت معه همدان أشدّ قتال، ثم تفرق الناس عن المختار، فقال له من معه: أيّها الأمير، اذهب إلى القصر، فجاء حتّى دخله، فقال له بعض أصحابه: ألم تكن وعدتنا الظفر، وأنّا سنهزمهم؛ فقال: أما قرأت فى كتاب الله «1» : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.
قال: فلما أصبح مصعب أقبل يسير فيمن معه نحو السّبخة، فمرّ بالمهلّب، فقال المهلّب، يا له فتحا ما أهناه لو لم يقتل محمد بن الأشعث، فقال: صدقت؛ ثم قال [مصعب] «2» للمهلب: إن عبيد الله بن عليّ بن أبى طالب قد قتل، فاسترجع المهلّب. فقال مصعب: إنّما قتله من يزعم أنه شيعة لأبيه، ثم نزل مصعب السّبخة فقطع عن المختار ومن معه الماء والميرة، وقاتل المختار ومن معه قتالا ضعيفا، واجترأ الناس عليهم، فكانوا إذا خرجوا رماهم الناس من فوق البيوت، وصبّوا عليهم الماء القذر، وكان أكثر معاشهم من النساء تأتى المرأة متخفّية ومعها القليل من الطعام والشراب، ففطن مصعب لذلك، فمنع النساء، فاشتد على المختار وأصحابه العطش، فكانوا يشربون ماء البئر بالعسل، ثم أمر مصعب أصحابه فاقتربوا من القصر، واشتدّ الحصار، فقال المختار لأصحابه: ويلكم، إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، فانزلوا بنا نقاتل حتّى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا يائس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا ولم يفعلوا، فقال لهم:(21/48)
أما أنا فو الله لا أعطى بيدى ولا أحكّمهم فى نفسى، ثم تطيّب وتحنّط وخرج من القصر فى تسعة عشر رجلا منهم السائب بن مالك الأشعريّ، فتقدّم المختار فقاتل حتى قتل، قتله رجلان أخوان من بنى حنيفة، وهما طرفة وطرّاف ابنا عبد الله بن دجاجة، فلما كان الغد من مقتله، دعا بجير بن عبد الله المسلىّ «1» من معه بالقصر إلى ما دعاهم المختار، فأبوا عليه، وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم، ونزلوا على حكمه، فأخرجوا مكتّفين، فاستعطفوه، فأراد أن يطلقهم، فقام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث فقال: أتخلّى سبيلهم؟ اخترنا أو اخترهم.
وقال محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الهمدانى مثله، وقال أشراف الكوفة مثلهما، فأمر بقتلهم، فقالوا: يا ابن الزّبير، لا تقتلنا واجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فما بكم عنّا غدا غنى «2» ؛ فإن قتلنا لم نقتل حتى نضعفهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لكم، فأبى عليهم وقتلهم برأى أهل الكوفة، وأمر مصعب بكفّ المختار فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد فبقيت حتى قدم الحجاج فأمر بنزعها.
وكتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول:
إن أطعتنى فلك الشام وأعنّة الخيل وما غلبت عليه من أرض المغرب «3» ما دام لآل الزّبير سلطان.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن الأشتر أيضا يدعوه إلى طاعته ويقول: إن أنت أجبتنى فلك العراق.(21/49)
فاستشار إبراهيم أصحابه فى ذلك، فاختلفوا، فقال: لو لم أكن أصبت ابن زياد وغيره من أشراف الشام لأجبت عبد الملك، مع أنى لا أختار على [أهل] «1» مصرى وعشيرتى غيرهم، فدخل فى طاعة مصعب، وبلغ مصعبا إقباله [إليه] «2» ، فبعث المهلّب على عمله بالموصل والجزيرة وإرمينية وأذربيجان.
قال: ثم دعا مصعب بن الزبير أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وعمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارى امرأته الأخرى، وسألهما عنه، فقالت أم ثابت: أقول فيه بقولك أنت فيه، فأطلقها؛ وقالت عمرة: رحمة الله عليه، كان عبدا صالحا.
فكتب إلى أخيه عبد الله: إنها تزعم أنه نبى، فأمره بقتلها، فقتلت ليلا بين الحيرة والكوفة، فقال عمر بن أبى ربيعة المخزومىّ «3» :
إنّ من أعجب العجائب «4» عندى ... قتل بيضاء حرّة عطبول «5»
قتلت هكذا على غير جرم «6» ... إن لله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات «7» جرّ الذّيول
وقيل: إن المختار إنما أظهر الخلاف على ابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وإن مصعبا لمّا سار إليه فبلغه مسيره أرسل إليه(21/50)
أحمر بن شميط، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار «1» ، لأنه بلغه أن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنّما كان الحجّاج «2» فى قتال عبد الرحمن ابن الأشعث، وأمر مصعب عبادا الحبطىّ بالمسير إلى جمع المختار، فتقدّم وتقدّم معه عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب، وبقى مصعب على نهر البصريّين، [على شط الفرات] «3» ، وخرج المختار فى عشرين ألفا، وزحف مصعب ومن معه فوافوه مع اللّيل، فقال المختار لأصحابه: لا يبرحنّ أحد منكم حتّى يسمع مناديا ينادى: يا محمّد، فاذا سمعتموه فاحملوا، فلما طلع القمر أمر مناديا فنادى: يا محمد؛ فحملوا على أصحاب مصعب فهزموهم وأدخلوهم عسكرهم، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا، وأصبح المختار وليس عنده أحد، وقد أوغل أصحابه فى أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، وجاء أصحابه حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، فاختفوا بدور الكوفة، وتوجّه منهم نحو القصر ثمانية آلاف، فوجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه وكانوا قد قتلوا تلك الليلة من أصحاب مصعب خلقا كثيرا، منهم محمد بن الأشعث.
وأقبل مصعب فأحاط بالقصر، وحاصرهم أربعة أشهر يخرج المختار كلّ يوم فيقاتلهم فى سوق الكوفة، فلمّا قتل المختار بعث(21/51)
من فى القصر يطلبون الأمان، فأبى مصعب، فنزلوا على حكمه، فقتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، فكان عدة القتلى ستّة آلاف رجل، وقيل: سبعة آلاف، وذلك فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، وكان عمر المختار يوم قتل سبعا وستّين سنة، وكان تارة يدعو لمحمد ابن الحنفيّة، وتارة لعبد الله بن الزبير.
وحكى عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم (كمامة الزّهر وصدفة الدّرر) ، أن المختار ادّعى النبوّة وقال: إنه يأتيه الوحى من السماء، وأظهر ذلك فى آخر أمره، وكان له كرسى يستنصر به.
ذكر خبر كرسى المختار الذى كان يستنصر به ويزعم أنه فى كتاب بنى إسرائيل
قال الطّفيل بن جعدة بن هبيرة: أضقت «1» إضاقة شديدة، فخرجت يوما فإذا جار لى زيّات وعنده كرسىّ قد ركبه الوسخ، فقلت فى نفسى: لو قلت للمختار فى هذا شيئا، فأخذته من الزيّات وغسلته، فخرج عود نضار قد شرب الدّهن وهو أبيض «2» ، فقلت للمختار:
إنّى كنت أكتمك شيئا، وقد بدا لى أن أذكره لك، إن أبى جعدة «3» كان يجلس عندنا على كرسى، ويرى أن فيه أثرا من «4» علم.
قال: سبحان الله، أخّرّته إلى هذا الوقت! ابعث به إلىّ، فأحضرته وقد غشّيته، فأمر لى باثنى عشر ألفا، ثم أمر فنودى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فقال: إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلّا وهو(21/52)
كائن فى هذه الأمّة مثله، وإنه كان لبنى إسرائيل التابوت، وإن هذا فينا مثله، فكشفوا عنه وقامت السّبائيّة «1» فكبّروا، ثم لم يلبث أن أرسل المختار الجيش لقتال ابن زياد، وخرج بالكرسىّ على بغل وقد غشّى، فكان من هزيمة أهل الشام وقتل أشرافهم ما ذكرناه، فزادهم ذلك فتنة حتى تعاطوا الكفر.
قال الطفيل: فندمت على ما صنعت، فتكلّم الناس فى ذلك، فغيّبه المختار.
وقيل: إن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة- وكانت أمّ جعدة هى أم هانى بنت أبى طالب أخت علىّ رضى الله عنه لأبويه- ائتونى بكرسى علىّ، فقالوا: والله ما هو عندنا، فقال: لا تكونوا حمقى، اذهبوا فائتونى به، فظنّوا أنّهم لا يأتونه بكرسى إلا قال: هذا هو، فأتوه بكرسىّ، فأخذه وخرجت شبام وشاكر وفودا، يعنى أصحاب المختار، وقد جعلوا عليه الحرير «2» ، وكان أوّل من سدنه موسى ابن أبى موسى الأشعرىّ، فعتب الناس عليه، فتركه فسدنه حوشب البرسمىّ حتى هلك المختار.
وقال أعشى همدان فيه «3» :
شهدت عليكم أنكم سبئيّة ... وإنى بكم يا شرطة الشّرك عارف
فأقسم ما كرسيّكم بسكينة ... وإن كان قد لفّت عليه الّلفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف(21/53)
وإنّى امرؤ أحببت آل محمّد ... وتابعت وحيا ضمّنته المصاحف
وبايعت «1» عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش شمطها والغطارف
وقال المتوكل اللّيثى «2» :
أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أنّى بكرسيّكم كافر
تنزو شبام حول أعواده ... ويحمل «3» الوحى له شاكر
محمرّة أعينهم حوله ... كأنّهن الحامض «4» الحازر
انتهت أخبار المختار بن أبى عبيدة، فلنذكر أخبار نجدة الحنفى، [والله ولىّ التوفيق] «5» .
ذكر أخبار نجدة بن عامر الحنفى
حين وثب باليماية وما كان من أمره كان نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرّج الحنفى مع نافع بن الأزرق، ففارقه وسار إلى اليمامة، وكان أبو طالوت «6» وهو من بنى بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس ابن ثعلبة، وعطيّة بن الأسود اليشكرىّ- قد وثبوا بها مع أبى طالوت، فلمّا قدمها نجدة دعا أبا طالوت إلى نفسه، فأجابه بعد امتناع، ومضى أبو طالوت إلى الخضارم «7» ، فنهبها، وكانت لبنى حنيفة،(21/54)
فأخذها منهم معاوية بن أبى سفيان، فجعل فيها من الرّقيق ما عدّتهم وعدّة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسّمه بين أصحابه، وذلك فى سنة (65 هـ) خمس وستّين، ثم إن عيرا خرجت من البحرين- وقيل من البصرة- تحمل مالا وغيره يراد بها عبد الله بن الزّبير، فاعترضها نجدة، فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم، فقسمها بين أصحابه، وقال: اقتسموا هذا المال- وردّوا هذه العبيد، واجعلوهم يعملون بالأرض «1» لكم، فإن ذلك أنفع، فاقتسموا المال، وقالوا: نجدة خير لنا من أبى طالوت، فخلعوا أبا طالوت، وبايعوا نجدة، ثم بايعه أبو طالوت، وذلك فى سنة [66 هـ] ست وستّين.
ولمّا تمت بيعته بينهم سار فى جمع إلى بنى كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة، فلقيهم بذى المجاز «2» فهزمهم وقتل فيهم قتلا ذريعا، ثم كثرت جموعة حتى بلغت ثلاثة آلاف، فسار إلى البحرين فى سنة [67 هـ] سبع وستّين، فقالت الأزد: نجدة أحبّ إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور، وولاتنا تجور؛ فعزموا على مسالمته، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين «3» غير الأزد على محاربته، فالتقوا بالقطيف «4» ، فانهزمت عبد القيس، وقتل منهم جمع كثير، وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف.
وأقام بالبحرين «5» .(21/55)
فلمّا قدم مصعب إلى البصرة فى سنة [69 هـ] تسع وستّين بعث إليه عبد الله بن عمير اللّيثى الأعور فى أربعة عشر ألفا، وقيل:
فى عشرين ألفا، فجعل يقول: اثبت نجدة فإنّا لا نفرّ، فقدم ونجدة بالقطيف، فأتى نجدة إلى ابن عمير وهو غافل فقاتل طويلا، ثم افترقوا، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى فى عسكره من القتلى والجرحى، فحمل عليهم نجدة، فلم يثبتوا، وانهزموا، وغنم نجدة ما فى عسكرهم.
وبعث نجدة بعد هزيمة ابن عمير جيشا إلى عمان، واستعمل عليهم عطيّة بن الأسود الحنفىّ، وقد غلب عليها عبّاد بن عبد الله وابناه سعيد وسليمان، فقاتلوه، فقتل عبّاد واستولى عطيّة عليها، فأقام بها أشهرا، ثم خرج عنها، واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم، فقتله سعيد وسليمان ابنا عبّاد، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها، فركب فى البحر وأتى كرمان «1» ، وضرب بها دراهم سمّاها العطويّة، فأرسل إليه المهلّب جيشا، فهرب إلى سجستان، ثم أتى السّند، فقتلته خيل المهلّب بقندابيل «2» .
وبعث نجدة إلى البوادى من يأخذ صدقة أهلها، ثم سار نجدة إلى صنعاء فى خفّ «3» من الجيش، فبايعه «4» أهلها، وبعث أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها، وحج نجدة سنة (68 هـ)(21/56)
ثمان وستّين، وقيل فى سنة تسع، وهو فى ثمانمائة وستّين رجلا، وقيل فى ألفين وستمائة رجل، فصالح ابن الزبير على أن يصلّى كلّ واحد بأصحابه، ويقف بهم، ويكفّ بعضهم عن بعض، فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلّد عبد الله ابن عمر سيفا، فلما أخبر نجدة أن ابن عمر لبس السلاح رجع إلى الطائف، فلمّا قرب منها أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثّقفى، فبايعه على قومه، فرجع نجدة إلى البحرين، فقطع الميرة عن أهل الحرمين، فكتب إليه ابن عبّاس: إنّ ثمامة بن أثال لمّا أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم كفّار، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أهل مكّة أهل الله، فلا تمنعهم الميرة، فخلاها «1» لهم، وإنّك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون، فخلّاها لهم نجدة، لم تزل عمّال نجدة على النّواحى حتى اختلف عليه أصحابه، على ما نذكره. [والله أعلم] «2» .(21/57)
ذكر الخلاف على نجدة وقتله وتولية أبى فديك
قال: ثم إن أصحاب نجدة اختلفوا عليه لأسباب نقموها منه، فخالف عليه عطيّة بن الأسود، وسبب ذلك أنّ نجدة بعث سرّية برّا وبحرا، فأعطى سرية البر أكثر من سريّة البحر، فنازعه عطيّة حتى أغضبه، فشتمه نجدة، فغضب عطيّة وفارقه، وألّب الناس عليه، فخالفوه وانحازوا عنه، وولّوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور، من بنى قيس بن ثعلبة، فاستخفى نجدة، وقيل لأبى فديك: إن لم تقتله تفرّق الناس عنك، فألحّ فى طلبه حتّى ظفر به أصحابه، فقتلوه، فلمّا قتل نجدة سخط قتله جماعة من أصحاب أبى فديك، ففارقوه وثار به مسلم بن جبير فضربه اثنتى «1» عشرة ضربة بسكين، فقتل مسلم، وحمل أبو فديك إلى منزله.
هذا ما كان من أمر الخوارج الّذين خرجوا على عبد الله بن الزّبير فى أيّام خلافته، فلنذكر خلاف ذلك ممّا وقع فى أيامه بالأعمال الداخلة فى ولايته.(21/58)
ذكر الحوادث التى وقعت فى أيام عبد الله بن الزبير
خلاف ما ذكرناه فى الأعمال المداخلة فى ولايته على حكم السنين
سنة أربع وستين
قد ذكرنا بعض حوادث هذه السنة فى أخبار يزيد، فلنذكر من حوادثها خلاف ذلك:
فيها حج عبد الله بن الزبير بالناس، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمى «1» ، وعلى قضائها سعيد بن نمران، وأبى شريح أن يقضى فى الفتنة وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التّيمى، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
سنة خمس وستين
فى هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه عبيدة عن المدينة، واستعمل أخاه مصعبا؛ وسبب ذلك أن عبيدة خطب الناس فقال:
قد ترون ما صنع الله بقوم فى ناقة قيمتها خمسمائة «2» درهم، فسمى:
مقوّم الناقة، فبلغ ذلك أخاه، فعزله، واستعمل مصعبا،(21/59)
ذكر بناء ابن الزبير الكعبة
كان عبد الله بن الزبير لمّا احترقت الكعبة- حين غزاه أهل الشام فى أيام يزيد بن معاوية، قد تركها ليشنع بذلك على أهل الشام. وقد اختلف فى سبب حرق الكعبة، فقيل: إن ابن الزبير لما حاصره أهل الشام سمع أصواتا فى اللّيل فوق الجبل «1» ، فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه، وكانت الليلة ظلماء ذات ريح صعبة ورعد وبرق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس، فأطارتها الرّيح، فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها، وجهد الناس فى إطفائها فلم يقدروا، فأصبحت الكعبة تتهافت «2» ، وماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلّهم مع جنازتها خوفا من أن ينزل عليهم العذاب؛ وأصبح ابن الزبير ساجدا يدعو ويقول: اللهم إنّى لم أعتمد ما جرى، فلا تهلك عبادك بذنبى، وهذه ناصيتى بين يديك.
فلمّا تعالى النهار أمن وتراجع الناس. حكاه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند «3» رفعه إلى أبى بكر الهذلىّ، وقيل فى حرقها غير ذلك.
فلمّا مات يزيد واستقرّ الأمر لابن الزبير، شرع فى بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت حيطانها قد مالت من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء(21/60)
الأساس، وضرب عليها السّتور «1» ، وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضى الله عنها:
لولا حدثان «2» [عهد] «3» قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم عليه [الصلاة والسلام] «4» ، وأزيد فيها من الحجر، فحفر ابن الزبير [رضى الله عنهما] «5» ، فوجد أساسا أمثال الجمال «6» فحرّكوا منها صخرة فبرقت بارقة، فقال: أقرّوها على أساسها، وبناها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
وقيل: كانت عمارتها فى سنة [64 هـ] أربع وستّين. [والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب] «7» .
ذكر الحرب بين عبد الله بن خازم وبين بنى تميم بخراسان
فى هذه السنة كانت الحرب والفتنة بين عبد الله بن خازم السّلمى وبين بنى تميم بخراسان؛ وسبب ذلك أن من كان من بنى تميم بخراسان أعانوا ابن خازم على من بها من ربيعة كما تقدّم، فلمّا صفت له خراسان جفا بنى تميم، وكان قد جعل ابنه محمدا على هراة، وجعل على شرطته بكير بن وسّاج «8» ، وضم إليه شمّاس بن دثار العطاردى(21/61)
وكانت أمّ محمد تميميّة، فلمّا جفاهم ابن خازم «1» أتوا ابنه محمّدا بهراة، فكتب إلى أبيه وإلى بكير وشمّاس، يأمرهم بمنعهم عن هراة، فأمّا شمّاس فصار مع بنى تميم، وأما بكير فإنه منعهم، فأقاموا ببلاد هراة، فأرسل بكير إلى شمّاس: إنى أعطيك ثلاثين ألفا، وأعطى كلّ رجل من تميم ألفا، على أن ينصرفوا، فأبوا وأقاموا يترصّدون محمد بن عبد الله حتى خرج إلى الصيد، فأخذوه وشدّوه وثاقا، ثم قتلوه، وولّوا عليهم الحريش «2» بن هلال، فكانت الحرب بينه وبين ابن خازم، وطالت بينهما، فخرج الحريش، فنادى ابن خازم، وقال: لقد طالت الحرب بيننا، فعلام يقتل قومى وقومك، ابرز إلى فأيّنا قتل صاحبه صارت الأرض له، فقال ابن خازم:
لقد أنصفت، فبرز إليه، فالتقيا وتصاولا طويلا، فغفل ابن خازم، فضربه الحريش على رأسه فألقى فروة رأسه على وجهه، وانقطع ركابا الحريش، ولزم ابن خازم عنق فرسه، ورجع إلى أصحابه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا أياما بعد الضّربة، ثم ملّ الفريقان، فتفرقوا، فافترقت تميم ثلاث فرق: فرقة إلى نيسابور مع بحير «3» ابن ورقاء، وفرقة إلى ناحية أخرى، وفرقة فيها الحريش «4» إلى مرو الرّوذ، فاتّبعه ابن خازم إلى قرية تسمى الملحمة «5» ، والحريش(21/62)
فى اثنى عشر رجلا، وقد تفرّق عنه أصحابه وهم فى خربة، فلمّا انتهى إليه قال له الحريش: ما تريد منّى وقد خلّيتك والبلاد، قال: إنّك تعود إليها، قال: لا أعود؛ فصالحه على أن يخرج عن خراسان ولا يعود إلى قتاله، فأعطاه ابن خازم أربعين ألفا، وفتح له الحريش باب القصر، فدخله ابن خازم وضمن له وفاء دينه.
وفى هذه السنة [سنة 65] وقع طاعون الجارف «1» بالبصرة، وعليها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، فهلك خلق كثير، وماتت أمّ عبيد الله فلم يجدوا لها من يحملها، حتّى استأجروا من تولّى حملها.
وحج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب ابن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث ابن أبى ربيعة المخزومىّ، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها توفّى عبد الله بن عمرو بن العاص بمصر، وكان قد عمى.
وقيل: كانت وفاته فى سنة [68 هـ] ثمان وستّين، وقيل سنة تسع، [والله أعلم] «2» .(21/63)
سنة ست وستين
ذكر الفتنة بخراسان
فى هذه السنة حاصر عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بنى تميم بسبب قتلهم ابنه محمّدا، وذلك أنّه لما تفرّقت بنو تميم بخراسان على ما تقدّم، أتى قصر قرنبا «1» عدة منهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولّوا أمرهم عثمان بن بشر [بن] «2» المحتفز المازنى «3» ، ومعه شعبة بن ظهير النّهشلى، وورد بن الفلق العنبرى، وزهير بن ذؤيب العدوى، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوىّ، ورقبة ابن الحر فى فرسان بنى تميم وشجعانهم، فحاصرهم ابن خازم، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر، فخرج ابن خازم يوما فى ستّة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم بشر:
ارجعوا فلن تطيقوه، فحلف زهير بن ذؤيب بالطّلاق إنه لا يرجع حتى ينقض «4» صفوفهم، فاستبطن نهرا قد يبس، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم «5» أوّلهم على آخرهم، واستدار وكرّ راجعا، واتبعوه يصيحون به، ولم يجسر أحد ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه، فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع،(21/64)
فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا فى رماحكم كلاليب، ثم علقوها فى سلاحه، فخرج إليهم يوما فطاعنهم، فأعلقوا فيه أربعة رماح بالكلاليب، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، وخلّوا رماحهم، فعاد يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير، فضمن «1» له مائة ألف وميسان «2» طعمة ليناصحه، فلم يجبه، فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم أن يمكّنهم من الخروج ليتفرّقوا، فأبى إلّا على حكمه، فأجابوه إلى ذلك، فقال زهير: ثكلتكم أمهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإما أن تموتوا كراما، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجن لكم، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم، فأبوا عليه، فقال سأريكم؛ ثم خرج هو ورقبة بن الحر وغلام تركىّ وابن ظهير، فحملوا على القوم حملة منكرة فأفرجوا لهم، فمضوا. فأمّا زهير فرجع إلى من بالقصر ونجا أصحابه، فقال زهير لمن بالقصر: قد رأيتم، أطيعونى، فقالوا: إنّا نضعف عن هذا ونطمع فى الحياة، فقال: والله لا أكون أعجزكم عند الموت، فنزلوا على حكم ابن خازم، فأرسل إليهم فقيّدهم، وحملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى عليه ابنه موسى، وقال له:
إن عفوت عنهم قتلت نفسى، فقتلهم إلا ثلاثة، أحدهم الحجاج(21/65)
ابن ناشب، شفع فيه بعض من معه فأطلقه، والآخر جيهان ابن مشجعة الضبّى، وكان قد منع القوم من قتل محمد عبد الله، ورمى نفسه عليه، فأبوا، فتركه لذلك، والآخر رجل من بنى سعد من تميم، وهو الّذى ردّ الناس عن ابن خازم يوم لحقوه، وقال:
انصرفوا عن فارس مضر.
قال: ولمّا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيّد أبى، واعتمد على رمحه، فوثب الخندق، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل فى قيوده؛ فقال له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان؟ قال: لو لم تصنع بى إلّا حقن دمى لشكرتك، فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه، فقال له أبوه: ويحك، تقتل مثل زهير، من لقتال عدو المسلمين، من «1» لنساء العرب؟ فقال: والله لو شركت فى دم أخى لقتلتك، فأمر بقتله، فقال زهير: [إن] «2» لى حاجة، لا تقتلنى وتخلط دمى بدماء هؤلاء اللّئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما ويخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله لو فعلوا لذعروا «3» بنيّك هذا. وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه، فأمر به ابن خازم فقتل ناحية.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير.(21/66)
سنة سبع وستين
فى هذه السنة استعمل عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا على البصرة، فقتل المختار كما تقدّم، ثم عزله عن العراق، واستعمل ابنه حمزة بن عبد الله. وكان حمزة جوادا مخلّطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، وظهر منه بالبصرة خفّة وضعف، فكتب الأحنف إلى أبيه، وسأله أن يعزله عنهم، ويعيد مصعبا، فعزله، فاحتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك ابن مسمع، فقال: لاندعك تخرج بأعطياتنا؛ فضمن له عبيد الله ابن عبد الله العطاء، فكفّ عنه، وشخص حمزة بالمال إلى المدينة، فأودعه رجالا، فجحدوه، إلا رجلا واحدا، فوفى له، فبلغ ذلك أباه، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهى به بنى مروان فنكص.
وقيل: إن مصعبا أقام بالكوفة سنة بعد قتل المختار معزولا عن البصرة، ثم وفد إلى أخيه فردّه إلى البصرة، وقيل: بل انصرف مصعب إلى البصرة بعد قتل المختار، واستعمل على الكوفة الحارث بن أبى ربيعة، وكانتا فى عمله، فعزله أخوه، واستعمل ابنه حمزة، ثم عزل حمزة بكتاب الأحنف وأهل البصرة، وردّ مصعبا، وذلك فى سنة [68 هـ] ثمان وستين.
وحج بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان العمّال من تقدم ذكرهم، وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.(21/67)
سنة (68 هـ) ثمان وستين
ذكر حصار الرى وفتحها
وفى هذه السنة أمر مصعب بن الزبير عتّاب بن ورقاء الرّياحىّ عامله على أصفهان بالمسير إلى الرّى وقتال أهلها، لمساعدتهم الخوارج على يزيد بن الحارث، كما تقدم، وامتناعهم فى مدينتهم، فسار إليهم عتّاب، وقاتلهم، وعليهم الفرّخان ففتحها عنوة، وغنم ما فيها وافتتح سائر قلاعها ونواحيها. [والله أعلم] «1» .
ذكر أخبار عبيد الله بن اخر ومقتله
وفى هذه السنة قتل عبيد الله بن الحرّ الجعفىّ، وكان من خيار قومه صلاحا وفضلا واجتهادا، ولما قتل عثمان حضر إلى معاوية وشهد معه صفّين وأقام عند معاوية، وكانت زوجته بالكوفة، فلمّا طالت غيبته عنها زوجها أخوها رجلا، يقال له عكرمة بن الخنبص «2» ، فبلغ ذلك عبيد الله، فأقبل من الشام فخاصمه عكرمة إلى على رضى الله عنه. فقال له علىّ رضى الله عنه: ظاهرت علينا عدوّنا وفعلت وفعلت.
فقال له: أيمنعنى ذلك من عدلك؟ قال: لا، فقصّ عليه قصته فردّ عليه امرأته وكانت حبلى، فوضعها عند من يثق إليه حتى وضعت فألحق الولد بعكرمة، ودفع المرأة إلى عبيد الله، وعاد إلى الشام فأقام به حتى قتل على رضى الله عنه، فرجع إلى الكوفة، فلما كان(21/68)
فى وقت قتل الحسين تغيب عبيد الله عمدا، فجعل ابن زياد يتفقّد أشراف أهل الكوفة، فلم ير ابن الحرّ ثم جاء بعد «1» ذلك فقال:
أين كنت يا ابن الحر؟ قال: كنت مريضا. قال: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا. قال: لو كنت معه لرئى مكانى. وغفل عنه ابن زياد، فخرج وركب فرسه، ثم طلبه فقيل له: ركب الساعة، فبعث الشرط خلفه فأدركوه فقالوا: أجب الأمير، فقال: بلغوه عنّى أنى لا آتيه طائعا أبدا، وركض فرسه، وأتى منزل أحمد بن زياد الطائى، فاجتمع إليه أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء، فنظر إلى مصارع الحسين رضى الله عنه، ومن قتل معه، فاستغفر لهم ثم مضى إلى المدائن. وقال فى ذلك «2» :
يقول أمير غادر حقّ «3» غادر ... ألا كنت قاتلت الشهيد «4» ابن فاطمة
ونفسى على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد لائمه
فياندمى ألا أكون نصرته ... ألا كلّ نفس لا تسدّد نادمه
وإنّى لأنّى لم أكن من حماته ... لذو حسرة ما إن تفارق «5» لازمه
سقى الله أرواح الّذين تآزروا ... على نصره سقيا «6» من الغيث دائمه
وقفت على أجدائهم ومجالهم ... فكاد الحشى ينقضّ والعين ساجمه(21/69)
لعمرى لقد كانوا مصاليت فى الوغى ... سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه
تأسّوا على نصر ابن بنت نبيّهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
فان يقتلوا فكلّ «1» نفس تقية ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه
وما إن رأى الراءون أفضل منهمو ... لدى الموت سادات وزهرا «2» قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطّة ليست لنا بملائمه
لعمرى لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منّا عليكم وناقمه
أهمّ مرارا أن أسير بجحفل ... إلى فئة زاغت عن الحقّ ظالمه
فكفّوا وإلا زرتكم فى «3» كتائب ... أشدّ عليكم من زحوف الدّيالمه
قال: وأقام ابن الحرّ بمنزله على شاطىء الفرات إلى أن مات يزيد، ووقعت الفتنة، فقال: ما أرى قرشيا ينصف، أين أبناء الحرائر؟ فأتاه كلّ خليع، ثم خرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم به للسلطان «4» إلا أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه، ويكتب لصاحب المال بما أخذ منه، ثم جعل يتقصّى الكور على مثل ذلك، إلا أنه لم يعترض لمال أحد ولا دمه، فلم يزل كذلك حتى ظهر المختار وسمع ما يعمله ابن الحرّ فى السّواد، فأخذ امرأته «5» فحبسها، فأقبل عبيد الله فى أصحابه إلى الكوفة، فكسر باب السّجن، وأخرجها، وأخرج كلّ امرأة كانت فيه، ومضى، وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، فأحرقت داره فى همدان، ونهبت ضيعته، فسار إلى ضياع همذان(21/70)
فنهبها «1» جميعا، وكان يأتى المدائن فيمرّ بعمّال جوخى «2» فيأخذ ما معهم من المال، ثم يميل على الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار.
وقيل: إنه بايع المختار بعد امتناع، وسار مع إبراهيم بن الأشتر إلى الموصل، ولم يشهد معه قتال ابن زياد، وتمارض، ثم فارق ابن الأشتر، وأقبل إلى الأنبار فى ثلاثمائة، فأغار عليها، وأخذ ما فى بيت مالها، فلما فعل ذلك أمر المختار بهدم داره وأخذ امرأته، ففعل ما تقدّم ذكره، وحضر مع مصعب قتال المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب: إنّا لا نأمن أن يثب عبيد الله بن الحرّ بالسّواد كما فعل بابن زياد والمختار، فحبسه، فكلّم قوما من وجوه مذحج ليشفعوا له إلى مصعب، وأرسل إلى فتيان مذحج، فقال:
البسوا السلاح واستروه، فإن شفّعهم مصعب وإلّا فاقصدوا السجن فإننى سأعينكم من داخل.
فلما شفع أولئك النّفر شفّعهم مصعب فيه، وأطلقه، فأتى منزله، وأتاه الناس يهنئونه، فكلّمهم فى الخروج على مصعب، وقال لهم: قاتلوا عن حريمكم؛ فإنى قد قلبت ظهر المجن «3» واظهرت العداوة ولا قوة إلا بالله.
وخرج عن الكوفة، وحارب وأغار، فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ(21/71)
المرادى، فعرض عليه خراج بادرويا «1» وغيرها، ويدخل فى الطاعة، فلم يجب إلى ذلك، فندب لقتاله الأبرد بن قرّة الرّياحى، فقاتله فهزمه عبيد الله وضربه على وجهه، فبعث إليه حريث بن زيد فقتله، فبعث إليه الحجاج ابن حارثة «2» الخثعمى، ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر «3» ، فقاتلهما وهزمهما، فأرسل إليه يدعوه إلى الأمان والصّلة، وأن يولّيه أىّ بلد شاء؛ فلم يقبل ذلك وأتى نرسا «4» ، ففر دهقانها بمال إلى عين التّمر «5» وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانى، فالتجأ الدهقان إليه، فتبعه عبيد الله فقاتله بسطام، ووافاه الحجاج ابن حارثة، فأسرهما عبيد الله، وأسر جماعة كثيرة ممّن معهما، وأخذ المال الذى مع الدهقان، وأطلق الأسارى وأتى تكريت، فأقام بها يجبى الخراج، فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرّة الرياحى، والجون ابن كعب الهمدانى فى ألف، وأمدّهم المهلّب بيزيد بن المغفّل فى خمسمائة، فقاتلهم يومين وهو فى ثلاثمائة. فلما كان عند المساء من اليوم الثانى تحاجزوا، وخرج عبيد الله من تكريت، وسار نحو كسكر، فأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل إلى دير الأعور «6» ، فبعث إليه(21/72)
مصعب حجار بن أبجر فانهزم حجّار، فشتمه مصعب، وضم إليه الجون بن كعب الهمدانى وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات فى أصحاب ابن الحر، وعقرت خيولهم، فانهزم حجّار، ثم رجع فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى أمسوا «1» ، وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد ابن الحارث بن رويم الشيبانى وهو بالمدائن [يأمره] «2» بقتاله، فقدّم ابنه حوشبا، فقاتله فهزمه عبيد الله، وأقبل إلى المدائن فتحصّنوا منه، فندب إليه الجون بن كعب الهمدانى وبشر بن عبد الله الأسدى، فنزل الجون بحولايا «3» ، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله فقتله ابن الحرّ وهزم أصحابه، وخرج إليه بشير بن عبد الرحمن ابن بشير العجلى، فقاتله بسورا «4» قتالا شديدا، فرجع عنه بشير، وأقام ابن الحرّ بالسواد يغير ويجبى الخراج.
ثم لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه أكرمه وأجلسه معه على السرير، وأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى لمن معه مالا، فقال له ابن الحرّ: وجّهنى بجند أقاتل بهم مصعبا، فقال له:
سر بأصحابك، وادع من قدرت عليه، وأنا ممدّك بالرجال، فسار فى أصحابه نحو الكوفة إلى أن انتهى إلى الأنبار، فنزل بقرية بجوارها، واستأذنه أصحابه فى إتيان الكوفة، فأذن لهم، وأمرهم أن يعلموا أصحابه بمقدمه ليخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية(21/73)
فأتوا الحارث بن [عبد الله بن] «1» أبى ربيعة عامل ابن الزّبير بالكوفة، فسألوه أن يرسل معهم جيشا يقاتلون به عبيد الله ويغتنمون الفرصة فيه بتفريق أصحابه، فبعث معهم جيشا كثيفا، فساروا إليه، فقال له من بقى معه من أصحابه: نحن فى نفر يسير، ولا طاقة لنا بهذا الجيش، فقال: ما كنت لأدعهم، وحمل عليهم وهو يقول:
يا لك يوما فات فيه نهبى ... وغاب عنّى ثقتى وصحبى
فعطفوا عليه فكشفوا أصحابه، وحاولوا أن يأسروه، فلم يقدروا على ذلك، وأذن لأصحابه فى الذّهاب، فذهبوا فلم يعرض لهم أحد، وجعل يقاتل وحده وهم يرمونه ولا يدنون منه، وهو يقول: أهذه نبل أم مغازل! فلما أثخنته الجراح خاض «2» إلى معبر فدخله ولم يدخل فرسه، فركب السفينة، ومضى به الملّاح حتى توسط الفرات، فأشرفت الخيل عليهم، وكان فى السفينة نبط، فقالوا لهم: إن فى السفينة طلبة أمير المؤمنين، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابن الحر ليرمى نفسه فى الماء، فوثب إليه رجل عظيم الخلق، فقبض على يديه، وجراحاته تجرى دما، وضربه الباقون بالمجاديف، فقبض على الذى أمسكه، وألقى نفسه فى الماء، فغرقا معا.
وقيل فى قتله: إنه كان يغشى مصعب بن الزبير بالكوفة فرآه يقدّم عليه غيره، فكتب إلى عبد الله بن الزبير قصيدة يعاتب فيها مصعبا ويخوّفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان يقول فيها «3» :(21/74)
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فلست على رأى قبيح أواربه
أفى الحق أن أجفى «1» ويجعل مصعب ... وزيريه «2» من قد كنت فيه أحاربه
فكيف، وقد أبليتكم «3» حقّ بيعتى ... وحقّى يلوّى عندكم وأطالبه
وأبليتكم مالا يضيّع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدا ... وأدرك من مال «4» العراق رغائبه
جفا مصعب عنّى ولو كان غيره ... * لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابنى من مصعب أنّ مصعبا ... * أرى كلّ ذى غشّ «5» لنا هو صاحبه
إذا قمت عند الباب أدخل مسلم «6» ... ويمنعنى أن أدخل الباب حاجبه(21/75)
أشار بقوله: وزيريه؛ إلى مسلم بن عمرو والد قتيبة، والمهلّب ابن أبى صفرة، ويدلّ على ذلك قوله أيضا فى غيرها «1» :
بأىّ بلاء أم بأيّة نعمة تقدّم قبلى مسلم والمهلّب قال: فحبسه مصعب، وله معه معاتبات من الحبس، وقال فى قصيدة يهجو فيها قيس عيلان منها «2» :
ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل
فأرسل زفر بن الحارث الكلابى إلى مصعب يقول: قد كفيتك قتال ابن الزّرقاء- يعنى عبد الملك. وابن الحرّ يهجو قيسا؛ ثم إنّ نفرا من بنى سليم أسروا عبيد الله بن الحرّ، فقال: إنما قلت «3» :
ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت فى القنا «4» والقنابل
فقتله رجل منهم يقال له عيّاش، والله أعلم.
وفى هذه السنة [سنة 68 هـ] وافى عرفات أربعة ألوية:
لواء ابن الزبير وأصحابه، ولواء ابن الحنفية وأصحابه، ولواء لبنى أميّة، ولواء لنجدة الحرورى، ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة.
وكان العامل على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزّهرى،(21/76)
وعلى البصرة والكوفة مصعب بن الزبير، وعلى قضائهما من ذكرنا قبل، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها توفّى عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعدىّ بن حاتم الطائى.
وقيل فى سنة [66 هـ] ست وستين، وله مائة وعشرون سنة.
سنة (69 هـ) تسع وستين
فى هذه السنة شخص مصعب بن الزبير إلى مكّة ومعه أموال عظيمة ودوابّ كثيرة، فقسم فى قومه وغيرهم، ونحر بدنا كثيرة. وقيل:
كان ذلك فى سنة [70 هـ] سبعين.
وحجّ بالناس عبد الله بن الزّبير؛ وفيها حكّم رجل من الخوارج بمنى، وسلّ سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم، فقتل ذلك الرجل عند الجمرة «1» . وكان عمّال الأمصار من ذكرنا.
سنة (70 هـ) سبعين
ذكر يوم الجفرة «2»
فى هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعب بن الزبير، فقال له خالد بن عبد الله بن أسيد: إن وجّهتنى إلى البصرة وأتبعتنى خيلا رجوت أن أغلب لك عليها، فوجّهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا فى خاصّته حتى نزل على عمرو بن أصمع. وقيل: على علىّ بن أصمع الباهلى، فأرسل عمرو «3» إلى عبّاد بن الحصين وهو على شرطة(21/77)
ابن معمر، وابن معمر خليفة مصعب على البصرة، ورجا ابن أصمع أنّ عبّاد بن الحصين يتابعه، وقال له: إنى قد أجرت خالدا وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهيرا لى؛ فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه؛ فقال عبّاد: قل له: والله لا أضع لبد فرسى حتى آتيك فى الخيل، فقال ابن أصمع لخالد: إنّ عبّادا يأتينا الساعة، ولا أقدر أمنعك منه؛ فعليك بمالك بن مسمع، فخرج خالد يركض فرسه حتى أتى مالكا فقال: أجرنى فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فأقبلت إليه، وأقبل عباد فى الخيل، فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال، فلما كان الغد غدوا إلى جفرة «1» نافع بن الحارث، ومع خالد رجال من تميم، منهم صعصعة بن معاوية وعبد الله بن بشر ومرّة بن محكان وغيرهم، وكان من أصحاب خالد، عبيد الله بن أبى بكرة، وحمران بن أبان، والمغيرة بن المهلّب. ومن أصحاب ابن معمر؛ قيس بن الهيثم السلمى، وأمدّه مصعب بزحر بن قيس الجعفى فى ألف، وأمدّه عبد الملك خالدا «2» بعبيد الله بن زياد بن ظبيان، فبلغه تفرّق الناس، فرجع إلى عبد الملك. والتقى القوم، واقتتلوا أربعة وعشرين يوما، ومشت بينهم السّفراء، فاصلطحوا على أن يخرج خالدا من البصرة، فأخرجه مالك، ولحق مالك بثأج «3» ، وجاء مصعب إلى البصرة، وطمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج، فسخط على ابن معمر، وقال لعبيد الله بن أبى بكرة: يا ابن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها(21/78)
الكلاب، فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كلّ كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصن «1» الطائف، ثم ادعيتم أنّ أبا سفيان زنى بأمكم، وو الله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم.
ثم دعا حمران فقال له: إنما أنت ابن يهودية علج نبطى سبيت من عين التّمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود، ولعبد الله ابن فضالة الزهرانى، ولعلى بن أصمع، ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم وهدم دورهم، وصهرهم فى الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجهز «2» أولادهم فى البعوث، وطاف بهم فى فى أقطار البصرة، وأحلفهم ألّا ينكحوا الحرائر، وهدم دار مالك ابن مسمع، وأخذ ما فيها؛ فكان فيما أخذ منها جارية ولدت له عمرو «3» بن مصعب.
وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج لحرب عبد الملك.
وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الله بن الزّبير.(21/79)
سنة (71 هـ) احدى وسبعين
فى هذه السنة كان مقتل مصعب بن الزّبير واستيلاء عبد الملك ابن مروان على العراق على ما نذكر ذلك إن شاء الله مبيّنا فى أخبار عبد الملك.
وفيها عزل عبد الله بن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو آخر وال كان له على المدينة حتى أتاه طارق بن عمرو ولى عثمان فهرب.
سنة (72 هـ) اثنتين وسبعين
فى هذه السنة قتل عبد الله بن خازم أمير خراسان، واستولى عبد الملك على خراسان على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخباره وفيها انتزع عبد الملك المدينة من عبد الله بن الزّبير، واستعمل عليها طارق بن عمرو؛ فلم يبق مع ابن الزّبير إلا مكّة.
سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين
فى هذه السنة كان مقتل عبد الله بن الزبير واستقلال عبد الملك ابن مروان بالأمر، جريا على القاعدة التى قدمناها أن نذكر الواقعة بجملتها ونحيل عليها فى أخبار المغلوب، وعند ذكرنا لمقتل عبد الله ابن الزبير نذكر نبذة من سيرته وأولاده، فلنرجع إلى أخبار الدولة الأموية.(21/80)
ذكر بيعة مروان بن الحكم
هو أبو الحكم، وقيل أبو عبد الملك، مروان بن الحكم بن أبى العاص ابن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، يجتمع نسبه ونسب معاوية فى أميّة، وهو الرابع من ملوك بنى أميّة، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلّم طرد أباه إلى بطن وجّ «1» ، فنزل الطائف، وخرج معه ابنه مروان. وقيل: إن مروان ولد بالطف.
واختلف فى السبب الموجب لنفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم، فقيل: كان يتحيّل ويستخفى ويسمع ما يسرّه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى كبار أصحابه فى مشركى قريش وسائر الكفار والمنافقين، وكان يفشى ذلك عنه، حتى ظهر ذلك عليه؛ وكان يحكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مشيته وبعض حركاته، وكان النبىّ عليه «2» الصلاة والسلام إذا مشى تكفّأ، فكان الحكم يحكيه، فالتفت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يوما فرآه يفعل كذلك، فقال: فكذلك فلتكن. فكان الحكم مخلّجا يرتعش من يومئذ، فعيّره عبد الرحمن بن حسان، فقال فى عبد الرحمن بن الحكم يهجوه:
إنّ اللّعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجا مجنونا
يمشى خميص البطن من عمل التّقى ... ويظلّ من عمل الخبيث بطينا
وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حين قال(21/81)
فى أخيها عبد الرحمن ما قال: أما أنت يا مروان فأشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعن أباك وأنت فى صلبه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدخل عليكم رجل لعين. قال عبد الله: وكنت قد تركت عمرا يلبس ليقبل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم أزل مشفقا أن يكون أوّل من يدخل، فدخل الحكم بن أبى العاص، فلهذا قال عبد الرحمن بن حسان فى شعره: إنّ اللعين أبوك. ولم يزل الحكم طريدا إلى خلافة عثمان بن عفّان فردّه إلى المدينة، وقال: إن النبىّ عليه الصلاة والسلام كان أذن فى ردّه.
وكان إسلام الحكم يوم فتح مكّة، ومات فى خلافة عثمان قبل القيام عليه بأشهر.
وولد مروان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحد، وقيل ولد بمكة، وقيل بالطائف، ولم ير مروان رسول الله عليه «1» الصلاة والسلام، لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل، وقدم المدينة مع أبيه فى خلافة عثمان، ثم توفى أبوه فاستكتبه عثمان ابن عفان، وضمّه إليه، فاستولى مروان عليه، وغلب على رأيه حتى كان سبب قيام الناس على عثمان وقتله.
حكى أبو عمر بن عبد البر فى كتابه المترجم بالاستيعاب «2» أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أتى مروان يوما، فقال: ويلك(21/82)
وويل أمّة محمد منك ومن بنيك إذا شابت ذراعاك «1» . وكان مروان يقال له خيط باطل، وضرب يوم الدّار على قفاه فخرّ لفيه. وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم وكان ماجنا شاعرا، وكان لا يرى رأى مروان:
فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... حليلة مضروب القفا كيف يصنع
لحا الله قوما أمّروا خيط باطل ... على الناس يعطى من يشاء ويمنع
وقيل: إنه قال ذلك حين ولّاه معاوية المدينة، [وكان كثيرا ما يهجوه] «2» .
وأم مروان آمنة بنت علقمة بن صفوان، وكان مروان قصيرا رقيقا أو قص «3» ، بويع له بالجابية «4» يوم الخميس لسبع بقين من شهر رجب سنة [64 هـ] أربع وستين، وقيل فى ذى القعدة منها.
ذكر السبب فى بيعة مروان
كان سبب بيعته أن عبد الله بن الزّبير لما بويع له بالحجاز والعراق استعمل أخاه عبيدة بن الزّبير على المدينة، فأخرج مروان بن الحكم وابنه منها إلى الشام؛ فلما قدم الحصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما كان بينه وبين ابن الزبير، وقال له ولبنى أمية:(21/83)
أقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم «1» ، فتكون فتنة عمياء صماء. وكان من رأى مروان أن يسير إلى عبد الله بن الزّبير فيبايعه، فلما قدم عبيد الله بن زياد من العراق قال لمروان: لقد استحييت لك من ذلك، وأنت كبير قريش وسيّدها؛ وقبّح ذلك عليه، فقال:
ما فات شىء بعد، وقام إليه بنو أميّة ومواليهم فتجمع «2» إليه أهل اليمن، فسار إلى دمشق فقدمها والضحّاك بن قيس الفهرى يصلّى بالناس قد بايعوه على ذلك إلى أن يتّفق رأى الناس على إمام، وهو يدعو إلى ابن الزبير سرّا، والنعمان بن بشير الأنصارى بحمص يبايع له أيضا. وكان حسان بن مالك بن بحدل الكلبى غلاما لمعاوية «3» وابنه يزيد بفلسطين وهو يريد «4» بنى أمية.
فكتب حسان إلى الضحاك كتابا يعظّم فيه حقّ بنى أميّة وحسن بلائهم، ويذمّ ابن الزّبير، وأنه خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس. وكتب كتابا آخر، وسلّمه إلى رسوله واسمه ناغضة، وقال له: إن قرأ [الضحاك] «5» كتابى على الناس وإلّا فاقرأ هذا الكتاب عليهم.
وكتب [حسان] «6» إلى بنى أمية أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة، فدفع كتاب الضحّاك إليه وكتاب بنى أمية إليهم.
فلما كان يوم الجمعة صعد الضحّاك المنبر، فقال له ناغضة:(21/84)
اقرأ كتاب حسّان على الناس. فقال له: اجلس، فجلس، ثم قام الثانية والثالثة وهو يأمره بالجلوس، فأخرج ناغضة الكتاب الذى معه، وقرأه على الناس، فقام يزيد بن أبى النمس «1» الغسّانى، وسفيان ابن الأبرد الكلبى، فصدّقا حسانا، وشتما ابن الزبير، وقام عمرو ابن يزيد الحكمى فشتم حسانا، وأثنى على ابن الزّبير، واضطرب الناس، فامر الضحاك «2» بيزيد وسفيان فحبسا، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد فضربوه وخرقوا ثيابه، وقام خالد بن يزيد «3» ، فسكن الناس، ونزل الضحّاك فصلّى الجمعة بالناس، ودخل القصر فجاءت كلب فأخرجوا سفيان، وجاءت غسّان فأخرجوا يزيد، وكان أهل الشام يسمّون ذلك اليوم يوم جيرون «4» الأول.
ثم خرج الضحاك بن قيس إلى المسجد، وذكر يزيد بن معاوية فسبه، فقام إليه شابّ من كلب فضربه بعصا، فقام الناس بعضهم إلى بعض فاقتتلوا؛ فقيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بنى أمية.
ودخل الضحاك دار الإمارة، ولم يخرج من الغد لصلاة الفجر، وبعث إلى بنى أميّة فاعتذر إليهم، وأنه لا يريد ما يكرهون، وأمرهم أن يكتبوا إلى حسان، ويكتب معهم ليسير من الأردن إلى الجابية، ويسيرون «5» هم من دمشق إليها فيجتمعون بها ويبايعون لرجل من(21/85)
بنى أمية، فرضوا، وكتبوا إلى حسّان، وسار الضحّاك وبنو أمية نحو الجابية، فأتاه ثور بن معن السّلمى، فقال: دعوتنا إلى ابن الزّبير فبايعنا «1» على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابى من كلب يستخلف ابن أخته «2» خالد بن يزيد.
قال الضحاك: فما الرأى؟ قال: الرأى أن نظهر ما كنّا نكتم وندعو إلى ابن الزّبير، فرجع الضحاك بمن معه من الناس، فنزل مرج راهط ودمشق بيده، واجتمع بنو أميّة وحسّان وغيرهم بالجابية، فكان حسّان يصلّى بهم أربعين يوما والناس يتشاورون، وكان مالك بن هبيرة السّكونى يهوى خالد بن يزيد والحصين بن نمير يميل إلى مروان، فقال مالك للحصين: هلمّ نبايع هذا الغلام الذى نحن ولدنا أباه [وهو ابن أختنا] «3» ، وقد عرفت منزلتنا من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب. يعنى خالد بن يزيد. فقال الحصين: لا والله لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيها بصبى. فقال مالك: والله لئن استخلفت مروان ليحسدنّك على سوطك وشراك نعلك وظلّ شجرة تستظلّ بها، إنّ مروان أبو عشرة «4» وأخو عشرة «5» وعمّ عشرة «6» ، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم [خالد] ، فقال الحصين: إنى رأيت فى المنام قنديلا معلّقا من السماء وأن من يلى الخلافة يتناوله، فلم ينله إلّا مروان؛ والله لنستخلفنّه.(21/86)
وقام روح بن زنباع الجذامى فقال: أيّها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر وصحبته وقدمه فى الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمّة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون، إنه ابن حوارىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمّه ذات النّطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين:
يزيد، وابنه معاوية، وسفك الدماء، وشقّ عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمّة بمحمد وأما مروان بن الحكم فو الله ما كان فى الإسلام صدع إلا كان ممن يشعبه، وهو الذى قاتل [عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذى قاتل] «1» علىّ بن أبى طالب يوم الجمل، وإنّا نرى للنّاس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا «2» الصغير- يعنى بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد. فأجمع رأيهم على البيعة لمروان، ثم لخالد ابن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أنّ إمرة دمشق لعمرو، وإمرة حمص لخالد.
فدعا حسّان خالدا، فقال: يابن أختى؛ إنّ الناس قد أبوك لحداثة سنّك، وإنى والله ما أريد الأمر إلّا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلا نظرا لكم. فقال خالد: بل عجّزت عنا. فقال: والله ما أنا عجزت «3» ، ولكن الرأى لك ما رأيت.(21/87)
ثم بايعوا مروان لثلاث خلون من ذى القعدة سنة [64 هـ] أربع وستين، وقال مروان حين بويع له «1» :
لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... يسّرت «2» غسّان لهم وكلبا
والسّكسكيّين رجالا غلبا ... وطيّئا تأباه إلّا ضربا
والقين تمشى فى الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا
لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيس فقل لا قربا
ذكر موقعة مرج «3» راهط
وقتل الضحاك بن قيس بن خالد الفهرى والنعمان ابن بشير بن سعيد بن تغلب الأنصارى الخزرجى قال: ولمّا بويع مروان بن الحكم سار من الجابية إلى مرج راهط، وبه الضحاك بن قيس ومن معه؛ وكان الضحاك قد استمدّ النعمان ابن بشير وهو على حمص؛ فأمدّه بشر حبيل بن ذى الكلاع، واستمدّ أيضا زفر بن الحارث فأمدّه بأهل قنّسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، وكان ناتل بن قيس قد وثب بفلسطين لمّا خرج منها حسّان بن مالك إلى الأردنّ، وأخرج خليفته روح بن زنباع، وبايع ناتل لابن الزبير، فاجتمعت هذه الأمداد مع الضحاك.
واجتمع إلى مروان كلب، وغسّان، والسّكاسك، والسّكون؛(21/88)
وجعل على ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وكان يزيد بن أبى النّمس «1» الغسانى مختفيا بدمشق لم يحضر الجابية، فغلب على دمشق، وأخرج عنها عامل الضّحاك بن قيس، واستولى على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان، وأمدّه بالأموال والرجال والسلاح، فكان ذلك أول فتح- على بنى أمية.
وتحارب مروان والضحاك بمرج راهط عشرين ليلة؛ واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقتل الضحاك، قتله زحنة «2» بن عبد الله الكلبى، وقتل معه ثمانون رجلا من أشراف الشام، وقتلت قيس مقتلة عظيمة لم تقتل مثلها فى موطن قطّ، وكان ممن قتل هانىء بن قبيصة النميرى سيّد قومه، قتله وازع بن ذؤالة الكلبى، فلما سقط جريحا قال «3» :
تعست ابن ذات النوف أجهز على فتى «4» ... يرى الموت خيرا من فرار وأكرما «5»
ولا تتركنّى بالحشاشة إننى ... صبور إذا ما النّكس مثلك أحجما
فعاد إليه وازع فقتله، وكانت هذه الوقعة فى المحرم سنة [65 هـ] خمس وستين.
وقيل: كانت فى آخر سنة أربع وستين.(21/89)
ولما أتى «1» مروان برأس الضحاك ساءه ذلك، وقال: الآن حين كبرت سنّى ودقّ عظمى أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض.
وقيل: إنّ الضحّاك كان فى ستين ألف فارس ومروان فى ثلاثة عشر ألفا.
حكى المدائنى فى كتاب المكايد له، قال: لما التقى مروان والضحاك بمرج راهط قال عبيد الله بن زياد لمروان: إن فرسان قيس مع الضحاك فلا ننال منه ما نريد إلّا بكيد، فأرسل إليه فاسأله الموادعة حتى ننظر فى أمرك، على أنك إن رأيت البيعة لابن الزبير بايعت، ففعل فأجابه الضحاك إلى الموادعة، وأصبح أصحابه قد وضعوا سلاحهم، وكفّوا عن القتال، فقال ابن زياد لمروان: دونك. فشدّ مروان ومن معه على عسكر الضحاك على غفلة منهم وانتشار، فقتلوا من قيس مقتلة عظيمة، وقتل الضحاك يومئذ فلم يضحك رجال من قيس بعد يوم المرج حتى ماتوا.
وقيل المكيدة كانت من عبيد الله بن زياد، كاد بها الضحاك.
وقال له: مالك والدعاء إلى ابن الزبير! وأنت رجل قرشى ومعك الخيل، وأكثر قيس؟ فادع لنفسك، فأنت أسنّ منه وأولى.
ففعل الضحاك ذلك، فاختلف عليه الجند، فقاتله مروان عند ذلك فقتل. والله أعلم.
قال: ولما انهزم الناس من المرج لحقوا بأجنادهم، فانتهى أهل(21/90)
حمص إليها وعليها النعمان بن بشير، فلما بلغه الخبر خرج هاربا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبيّة وثقله وأولاده، فتحيّر ليلته كلها، فأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذى طلبه عمرو بن الخلىّ «1» الكلاعى فقتله.
وقيل: اتبعه خالد بن عدىّ الكلاعى فيمن خفّ معه من أهل حمص فلحقه فقتله وبعث برأسه إلى مروان.
وقال على بن المدينى: قتل النعمان بن بشير بحمص غيلة قتله أهلها.
وقيل: قتل بقرية من قرى حمص يقال لها تيزين «2» . والنعمان من الصحابة، ولد قبل وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثمانى سنين.
قال: ولما بلغت الهزيمة زفر بن الحارث الكلابى بقنسرين «3» هرب منها، فلحق بقرقيسيا «4» وعليها عياض الجرشى «5» ، وكان يزيد [بن معاوية] «6» ولّاه إياها، فطلب منه أن يدخل الحمّام ويحلف له بالطلاق والعتاق أنه إذا خرج من الحمّام لا يقيم بها، فأذن له، فدخلها، فغلب عليها وتحصّن بها، ولم يدخل حمّامها، واجتمعت إليه قيس. وهرب ناتل بن قيس الجذامى من فلسطين، فلحق بابن الزبير بمكّة؛ واستعمل مروان بعده على فلسطين روح بن زنباع، واستوثق الشام لمروان.(21/91)
وقيل: إن عبيد الله بن زياد إنما جاء إلى بنى أمية وهم بتدمر، ومروان يريد أن يسير إلى ابن الزّبير فيبايعه «1» ويأخذ منه الأمان لبنى أمية، فردّه عن ذلك، وأمره أن يسير بأهل تدمر إلى الضحاك فيقاتله، وواقفه «2» عمرو بن سعيد، وأشار على مروان أن يتزوّج أم خالد ابن يزيد ليسقط من أعين الناس، فتزوجها، وهى فاختة ابنة أبى هاشم ابن عتبة، ثم جمع بنى أمية فبايعوه، وبايعه أهل تدمر.
وسار إلى الضحاك فى جمع عظيم، وخرج الضحاك إليه، فاقتتلا، فقتل الضحاك، وسار زفر بن الحارث إلى قرقيسياء، وصحبه فى هزيمته شابان من بنى سليم؛ فجاءت خيل مروان فى طلبه، فقال الشابان له: انج بنفسك، فإنّا نحن نقتل. فمضى زفر وتركهما فقتلا، وقال زفر فى ذلك «3» :
أرينى سلاحى لا أبالك إنّنى ... أرى الحرب لا تزداد إلّا تماديا
أتانى عن مروان بالغيب أنه ... مقيد دمى أو قاطع من لسانيا
ففى العيش «4» منجاة وفى الأرض مهرب ... إذا نحن رفّعنا لهنّ المثانيا
فلا تحسبونى إن تغيّبت غافلا ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزارات النوس كماهيا «5»(21/92)
لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسّان صدعا بيننا متنائيا
فلم ترمنّى نبوة قبل هذه ... فرارى وتركى صاحبىّ ورائيا «1»
عشيّة أدعو «2» بالقران فلا أرى ... من الناس إلّا من علىّ ولاليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامى وحسن بلائيا
فلا صلح حتى تنحط «3» الخيل بالقنا ... ويثأر من نسوان كلب نسائيا
فأجابه جوّاس بن القعطل «4» :
لعمرى لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفرداء «5» من الداء باقيا
مقيما ثوى بين الضّلوع محلّه ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكّى على قتلى سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكى البواكيا
دعا بسلاح «6» ثم أحجم إذرأى ... سيوف جناب والطّوال المذايا
عليها كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا أشرعوا نحو الطّعان العواليا(21/93)
ذكر مسير مروان إلى مصر واستيلائه عليها
قال: ولما قتل الضحاك واستقرّ الشام لمروان سار إلى مصر فقدمها، وعليها عبد الرحمن بن حجدر «1» الفهرى يدعو لابن الزّبير، فخرج إلى مروان فيمن معه، وبعث مروان عمرو بن سعيد من ورائه، حتى دخل مصر، فقيل ذلك لابن حجدر، فرجع فبايع الناس مروان، وجاء مروان إلى مصر، ودخل الدار البيضاء، ثم سار عنها واستعمل عليها ابنه عبد العزيز ابن مروان، واستقرّ مروان بدمشق.
ذكر البيعة لعبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان ابن الحكم بولاية العهد
وفى سنة [65 هـ] خمس وستين أمر مروان بالبيعة لابنيه: عبد الملك، وعبد العزيز، وكان سبب ذلك أن عمرو بن سعيد كان قد توجّه إلى فلسطين، وقاتل مصعب بن الزبير حين وجّهه أخوه عبد الله إليها «2» فهزم مصعبا، ورجع إلى مروان وهو بدمشق، وقد غلب على الشام ومصر، فبلغ مروان أنّ عمرو بن سعيد يقول: إن الأمر لى من بعد مروان، فدعا حسان بن مالك بن بحدل، فأخبره بما بلغه عن عمرو، فقال: أنا أكفيك عمرا. فلما اجتمع الناس عند مروان قام حسان فقال: إنّه بلغنى أنّ رجالا يتمنّون أمانىّ، قوموا فبايعوا لعبد الملك(21/94)
وعبد العزيز من بعده، فبايعوا من عند آخرهم.
وفى هذه السنة بعث مروان بن الحكم بعثين: أحدهما مع عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا، واستعمله على كل ما يفتتحه، فإذا فرغ من الجزيرة توجّه لقصد العراق. فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان، وأتاه عهد عبد الملك بن مروان [يستعمله] «1» على ما استعمله عليه أبوه ويحثّه على المسير إلى العراق.
والبعث الثانى «2» مع حبيش بن دلجة «3» القينى، فسار حتى انتهى إلى المدينة وعليها جابر بن الأسود بن عوف ابن أخى عبد الرحمن بن عوف من قبل ابن الزبير، فهرب منه جابر.
ثم إن الحارث بن أبى ربيعة وجّه جيشا من البصرة وجعل عليهم الحنتف «4» بن السّجف التميمى لحرب حبيش. فلما سمع بهم حبيش سار إليهم من المدينة، وأرسل عبد الله بن الزبير عبّاس «5» ابن سهل الساعدى إلى المدينة أميرا، وأسره أن يسير فى طلب حبيش حتى يوافى جيش البصرة، فأقبل عبّاس «6» فى آثارهم حتى لحقهم بالرّبذة فقاتلهم حبيش، فرماه يزيد بن سياه «7» بسهم فقتله،(21/95)
وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، وابنه الحجّاج بن يوسف، وهما على جمل واحد، وانهزم أصحابه فتحرّز منهم خمسمائة بالمدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمى، فنزلوا فقتلهم، ورجع فلّ حبيش إلى الشام.
ذكر وفاة مروان بن الحكم
كانت وفاته فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين. قيل: مات بالطاعون. وقيل: بل كان سبب موته أنه لما بويع بالخلافة أراد حسّان بن بحدل أن يجعل الأمر من بعده لخالد بن يزيد بن معاوية، فبايعه على ذلك، فقيل لمروان: الرأى أن تتزوّج أمّ خالد تكفل ابنها حتى يصغر شأنه فلا يطلب الخلافة. فتزوّجها.
وقد ذكرنا ذلك، فدخل خالد يوما على مروان، وعنده جماعة ينظر إليه وهو يمشى بين الصفّين فقال: إنّه «1» والله لأحمق.
تعال: يابن الرطبة الاست، يريد بذلك إسقاطه من أعين أهل الشام، فقال له خالد: مؤتمن خائن. فندم مروان، ثم دخل خالد على أمّه، فقال: هكذا أردت، يقول لى مروان على رءوس الناس كذا وكذا. فقالت له: لا يعلمنّ ذلك منك، فأنا أكفيك، فو الله لا ترى بعد منه شيئا تكرهه، وسأقرّب عليك ما بعد.
ثم دخل مروان عليها، فقال لها: قال لك خالد فىّ شيئا؟
قالت: إنه أشدّ تعظيما لك من أن يقول فيك شيئا. فصدّقها،(21/96)
ومكثت أياما بعد ذلك، فنام مروان عندها فى بعض الأيام، فوضعت على وجهه وسادة، وجلست عليها حتى مات. وهو معدود ممّن قتله النساء.
ومولده سنة [2 هـ] اثنتين من الهجرة، وكان عمره ثلاثا وستين سنة. واختلف فيه إلى نيّف «1» وثمانين سنة. وصلّى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته منذ جدّدت له البيعة عشرة أشهر تقريبا، وكان سلطانه بالشام ومصر.
أولاده: عبد الملك، ومعاوية، وعمرو، وعبيد الله، وعبد الله، وأبان، وداود، وعبد العزيز، وعبد الرحمن، وبشر، ومحمد، وأم عمار.
كاتبه: سفيان الأحول. وقيل: عبيد الله بن أوس.
قاضيه: أبو إدريس الخولانى.
حاجبه: أبو سهل مولاه.
نقش خاتمه: الله ثقتى ورجائى.
*** ومروان أوّل من قدّم الخطبة قبل صلاة العيد، وكان يقال له ولولده بنو الزّرقاء، يقول ذلك من يريد ذمّهم وعيبهم، وهى الزرقاء بنت موهب جدّة مروان لأبيه، كانت من ذوات الرايات التى يستدلّ بها على بيوت البغايا؛ فلهذا كانوا يذمّون بها، ولعل هذا منها كان قبل أن يتزوّجها أبو العاص بن أمية «2» والد الحكم، فإنه كان من أشراف قريش، ولا يكون هذا من امرأة وهى عنده. والله أعلم.(21/97)
ذكر بيعة عبد الملك بن مروان
هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم، وهو الخامس من ملوك بنى أمية.
وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبى العاص، وهو أوّل من سمّى عبد الملك فى الإسلام، ولقّب رشح الحجر «1» لبخله، ولقّب أيضا بأبى الذّبّان «2» لبخره. وقيل: إن السبب فى بخره أنه كان يتلو القرآن فى المصحف، فأفضت الخلافة إليه وهو يتلو، فردّ المصحف بعضه على بعض، وقال: هذا فراق بينى وبينك، يشير بهذا الكلام إلى المصحف فبخر لوقته، وعجزت الأطباء عن مداواته، فكان لا يمرّ ذباب على فيه إلا مات لوقته، وكان أفوه مفتوح الفم مشبّك الأسنان بالذّهب.
بويع له فى شهر رمضان سنة [65 هـ] خمس وستين بعد وفاة أبيه، وكان ولىّ عهده كما تقدّم، وأراد عبد الملك أن يقتل أمّ خالد، فقيل له: يظهر عند الناس أنّ امرأة قتلت أباك، فتركها، وكان عبد الملك ولد لسبعة أشهر، فكان الناس يذمّونه بذلك.
قيل: إنه اجتمع عنده قوم من الأشراف، فقال لعبيد الله ابن زياد بن ظبيان البكرى: بلغنى أنك لا تشبه أباك! فقال:
والله إنى لأشبه به من الماء بالماء والغراب بالغراب، ولكن إن شئت؛(21/98)
أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال ولا الأعمام. قال: من ذاك؟ قال: سويد بن منجوف.
فلما خرج عبيد الله وسويد قال له سويد: والله ما يسرّنى بمقالتك له حمر النعم. فقال عبيد الله: وما يسرّنى والله باحتمالك إياى وسكوتك عنى سودها.
قال: وكان أول ما بدأ به عبد الملك أن كتب إلى عبيد الله بن زياد واستعمله على ما كان مروان قد استعمله عليه، فكان من أخبار ابن زياد فى مسيره وحروبه ومقتله ما قدّمناه فى أخبار عبد الله ابن الزبير، فلا حاجة لنا إلى إعادته ههنا، فلنذكر من أخبار عبد الملك غير ما قدمنا ذكره:
فى سنة ست وستين أرسل عبد الله بن عباس ابنه «1» علىّ ابن عبد الله إلى عبد الملك، وقال: لأن يربّنى بنو عمّى أحبّ إلىّ من أن يربّنى «2» رجل من بنى أسد- يعنى ببنى عمّه بنى أمية، لأنهم كلهم أولاد عبد مناف، ويعنى بالرجل من بنى أسد عبد الله بن الزّبير.
فلما وصل إلى عبد الملك سأله عن اسمه وكنيته، فقال: الاسم علىّ، والكنية أبو الحسن. فقال عبد الملك: لا يجتمع هذا الاسم وهذه الكنية فى عسكرى أنت أبو محمد.(21/99)
ذكر مقتل عمرو بن سعيد الأشدق وشىء من أخباره [ونسبه] «1»
هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية «2» بن عبد شمس ابن عبد مناف، ويسمى عمرو اللطيم لميل كان فى فمه «3» ، فمن أجل ذلك قيل له لطيم الشيطان، ويسمّى الأشدق لتشادقه فى الكلام، وكان من فصحاء قريش وأهل الخطابة منهم. وقيل فى تسميته الأشدق: إنه لما مات سعيد والده دخل عمرو على معاوية فاستنطقه، فقال: إن أوّل مركب صعب. فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟
فقال: إن أبى أوصانى ولم يوص بى. قال: فبأى شىء أوصاك؟
قال: ألّا يفقد منه أصحابه غير شخصه. فقال معاوية: إن عمرا هذا لأشدق.
ولنذكر سبب مقتله ثم نذكر نبذة من أخبار آبائه:
كان سبب مقتله أنّ عبد الملك بن مروان سار فى سنة تسع وستين من دمشق يريد قرقيسياء، يريد زفر بن الحارث الكلابى، وصحبه عمرو بن سعيد فى سيره، فلما بلغ بطنان «4» حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث وزهير بن الأبرد الكلبيّان، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفى خليفة عبد الملك بها، فهرب(21/100)
عنها ودخلها عمرو، فغلب عليها وعلى خزائنها، وهدم دار ابن أم الحكم؛ واجتمع الناس إليه، فخطبهم ومنّاهم ووعدهم، وأصبح عبد الملك وقد فقد عمرا، فسأل عنه فأخبر برجوعه، فرجع إلى دمشق، فقاتله أياما، ثم اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وأمّنه عبد الملك، فجاءه عمرو واجتمعا، ودخل عبد الملك دمشق.
فلما كان بعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو يستدعيه، فأتاه الرسول وعنده عبد الله بن يزيد بن معاوية، فنهاه أن يأتيه، فقال عمرو: ولم؟ قال: لأنّ تبيع «1» ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل. فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما أنبهنى ابن الزرقاء ولا اجترأ علىّ، مع أنى رأيت البارحة عثمان فى المنام، فألبسنى قميصه.
ثم قام فلبس درعا وغطّاها بالقباء «2» ، وتقلّد سيفا، وذلك بعد أن صرف رسول عبد الملك، فلما نهض عثر بالبساط، فقال له حميد ابن حريث: والله لو أطعتنى لم تأته، وقالت له امرأته الكلبية كذلك، فلم يلتفت، ومضى فى مائة من مواليه.
فلما بلغ باب عبد الملك أذن له فدخل فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قاعة الدار، وليس معه إلا وصيف واحد، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان، وحسّان بن بحدل الكلبى، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعى، فلما رأى جماعتهم أحسّ(21/101)
بالشر، فالتفت إلى وصيفه، وقال له: انطلق إلى أخى يحيى، وقل له يأتينى، فلم يفهم الوصيف عنه، فقال: لبيك! فقال عمرو:
اغرب فى حرق الله وناره «1» ، وأذن عبد الملك لحسّان وقبيصة فقاما، فلقيا عمرا، فقال عمرو لقبيصة: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتينى، فقال: لبيك! فقال: اغرب [عنى] «2» .
فلما خرج حسّان وقبيصة أغلقت الأبواب، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: ههنا يا أبا أميّة! فأجلسه معه على السرير، وحدّثه طوبلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه. فقال عمرو:
إنّا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معى متقلّدا سيفك؟ فأخذ السيف عنه، ثم تحدّثا، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، إنك حيث خلعتنى آليت بيمين إن أنا ملأت عينى منك وأنا مالك لك أن أجعلك فى جامعة «3» ، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبى أمية! فقال بنو مروان: أبرّ قسم أمير المؤمنين.
فقال [عمرو] «4» : قد أبرّ الله قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج من تحت فراشه جامعة، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها.
فجمعه الغلام فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجنى فيها على رءوس الناس؛ فقال عبد الملك: أمكرا وأنت فى الحديد! لا، والله ما كنّا لنخرجك فى جامعة على رءوس الناس،(21/102)
ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيّتيه، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين؛ كسر عظم سنى «1» ، فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال: والله لو أعلم أنك تبقى [علىّ] «2» ، إن أبقيت عليك لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قطّ فى بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه، وأذن المؤذّن، وأقيمت صلاة العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله، فقام إليه بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرّحم أن تلى قتلى، ليقتلنى من هو أبعد رحما منك؛ فألقى عبد العزيز السّيف، وجلس. وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب، ورأى الناس عبد الملك خرج وتأخّر عمرو، فذكروا ذلك لأخيه يحيى بن سعيد، فأقبل فى الناس ومعه ألف عبد لعمرو، وخلق كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أميّة! وأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد، فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربى صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلّى فرأى عمرا بالحياة «3» ، فسبّ أخاه عبد العزيز، ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرا، فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضده فرأى الدّرع، قال: ودارع أيضا! إن كنت لمعدّا، وأخذ الصمصامة «4»(21/103)
وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه، وهو يقول «1» :
يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتى ... أضربك حيث تقول الهامة اسقونى
وانتفض عبد الملك برعدة «2» ، فحمل عن صدره، ووضع على سريره.
ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان ومواليهم، فقاتلوهم، وجاء عبد الرحمن ابن أمّ الحكم الثقفى، فدفع إليه الرّأس فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان، فأخذ المال فى البدر، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا وتفرّقوا.
ثم أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال.
قال: وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد، وخرج، فجلس عليه، وفقد الوليد ابنه، فقال: والله، لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربى الكنانى، فقال: الوليد عندى وقد جرح، وليس عليه بأس.
وأتى عبد الملك بيحيى بن سعيد فأمر أن يقتل؛ فقام إليه عبد العزيز ابن مروان فقال: يا أمير المؤمنين، أتراك قاتل بنى أمية فى يوم واحد، فأمر بيحيى فحبس، وأراد قتل عنبسه بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضا، وشفع فى عامر بن الأسود الكلبى، وأمر ببنى عمرو بن سعيد فحبسوا؛ ثم خرجوا مع عمّهم يحيى، فألحقهم بمصعب. ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية:(21/104)
ابعثى إلىّ «1» الصّلح الذى كتبت لعمرو. فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أنّ ذلك الصّلح معه فى أكفانه ليخاصمك به عند ربّه.
قال: ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير دخل أولاد عمرو عليه وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد؛ فلما نظر إليهم [عبد الملك] «2» قال: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذى كان بينى وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما فى أنفس أوّليكم «3» على أوّلينا فى الجاهلية.
فلم يقدر أمية أن يتكلّم. وكان الأكبر من أولاد عمرو، فقام سعيد بن عمرو [وكان الأوسط] «4» فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعى «5» علينا أمرا فى الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا، وأما الذى كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم وما «6» صنعت. وقد وصل عمرو إلى الله، وكفى بالله حسيبا؛ ولعمرى لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها، فرقّ لهم عبد الملك وقال: إنّ أباكم خيّرنى بين أن يقتلنى أو أقتله، فاخترت قتله على قتلى، وأمّا أنتم فما أرغبنى فيكم وأوصلنى لقرابتكم، وأحسن جائزتهم ووصلهم وقرّبهم.(21/105)
وقد قيل فى سبب قتله: إنه قال لعبد الملك حين سار إلى العراق لقتال مصعب: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك جعل لى الأمر بعده، وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لى بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من أمره ما تقدّم.
وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلفه على دمشق، فوثب بها.
وقيل: إنّ عبد الملك لم يقتل عمرو بن سعيد بيده، وإنما أمر غلامه ابن الزّعيزعة، فقتله وألقى رأسه إلى الناس ورمى يحيى بصخرة فى رأسه، وكان مقتله فى سنة [69 هـ] تسع وستين. وقيل: فى سنة سبعين. والله أعلم.
ذكر نبذة من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق فى الإسلام والجاهلية
كان مولد سعيد بن العاص والدعمرو عام الهجرة. وقيل: سنة إحدى. وقتل جدّه العاص بن سعيد يوم بدر كافرا، قتله علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه، وكان لجدّ أبيه سعيد بن العاص ابن أميّة ثمانية بنين؛ منهم ثلاثة ماتوا على الكفر، وهم: أحيحة، وبه كان يكنى سعيد بن العاص، وقتل أحيحة يوم الفجار. والعاص، وعبيدة قتلا يوم بدر كافرين، قتل العاص علىّ، وقتل عبيدة الزّبير؛ وخمسة أدركوا الإسلام، وصحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهم: خالد، وعمرو، وسعيد؛ وأبان، والحكم بنو سعيد ابن العاص بن أمية، وغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسم «1» الحكم، فسمّاه عبد الله. وجّد هؤلاء العاص بن أمية ذو العصابة؛ قيل له ذلك،(21/106)
لأنه كان من شرفه إذا اعتمّ بعمامة بمكّة لا يعتمّ «1» أحد بلونها إجلالا له، وكان يكنى بأبى أحيحة، وفى ذلك يقول الشاعر:
أبو أحيحة من يعتمّ عمّته ... يضرب ولو كان ذا مال وذا حسب
وكان سعيد بن العاص والد عمرو من أشراف قريش ممن جمع له السخاء والفصاحة، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان رضى الله عنه، واستعمله عثمان على الكوفة، وغزا بالناس طبرستان «2» فافتتحها. ويقال: إنه افتتح أيضا جرجان فى سنة [29 هـ] تسع وعشرين أو سنة ثلاثين، وغزا أذربيجان «3» لما انتقضت فافتتحها، ثم عزله عثمان، واستعمل الوليد، فمكث مدة، ثم شكاه أهل الكوفة، فعزله، وردّ سعيدا، فردّه أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان: لا حاجة لنا فى سعيدك ولا وليدك، وكان فى سعيد تجبّر وغلظ وشدّة سلطان.
ولما قتل عثمان بن عفّان كان سعيد والد عمرو ممن لزم بيته، واعتزل حرب الجمل وصفّين، فلما اجتمع الناس على معاوية ولّاه المدينة، ثم عزله وولّاها مروان بن الحكم، وكان يعاقب بينه وبين مروان فى ولاية المدينة، وفيه يقول الفرزدق «4» :(21/107)
ترى الغرّ «1» الجحاجح من قريش ... إذا ما المرء فى الحدثان غالا
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهمو يرون به هلالا
وحكى الزبير بن بكّار قال «2» : لما عزل سعيد عن المدينة انصرف عن المسجد وحده، فتبعه رجل، فنظر إليه سعيد رضى الله عنه، وقال: ألك حاجة! قال: لا، ولكنى رأيتك وحدك، فوصلت جناحك. فقال له: وصلك الله يا ابن أخى، اطلب لى دواة وجلدا، وادع لى مولاى فلانا، فأتاه بذلك، فكتب له بعشرين ألف درهم، وقال: إذا جاءت غلّتنا دفعنا ذلك إليك، فمات فى تلك السنة، فأتى بالكتاب إلى ابنه عمرو، فأعطاه المال.
وكان لسعيد بن العاص سبعة بنين، وهم: عمرو هذا:
ومحمد، وعبد الله، ويحيى، وعثمان، وعنبسة، وأبان.
وكانت وفاة سعيد فى سنة [59 هـ] تسع وخمسين. ولنرجع إلى أخبار عبد الملك:
ذكر عصيان الجراجمة بالشام وما كان من أمرهم
هذه الحادثة ذكرها ابن الأثير «3» فى سنة [69 هـ] تسع وستين، فقال: لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج قائد من قوّاد(21/108)
الضواحى فى جبل اللّكام «1» واتّبعه خلق كثير من الجراجمة «2» والأنباط، وأبّاق عبيد المسلمين، وغيرهم، وسار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمرو أرسل إلى هذا الخارج عليه، فبذل له فى جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك، ولم يفسد فى البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطّف حتى وصل إليه متنكّرا، وأظهر الميل إليه، ووعده أن يدلّه على عورات عبد الملك، وما هو خير له من الصلح، فوثق به؛ ثم أتاه سحيم فى جيش من موالى عبد الملك وبنى أمية وجند من ثقات جنده والخارج ومن معه على غير أهبة، فدهمهم «3» ، وأمر فنودى: من أتانا من العبيد [يعنى الذين كانوا معه] «4» فهو حرّ، وثبت فى الديوان؛ فالتحق به خلق كثير منهم، وقاتلوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى بالأمان فيمن بقى منهم فتفرّقوا، وعاد إلى عبد الملك ووفّى للعبيد.
وفى سنة تسع اجتمعت الروم واستجاشوا «5» على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدّى إليه فى كل جمعة ألف دينار.
وفيها كان يوم الجفرة وقد تقدم ذكره «6» فى أخبار ابن الزبير رضى الله عنه.(21/109)
ذكر خبر عمير بن الحباب بن جعدة السلمى
وما كان بين قيس وتغلب من الحروب إلى أن قتل عمير ابن الحباب وما كان بعد ذلك.
كان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين، وكان سبب ذلك أن عمير بن الحباب لما انقضى مرج راهط التحق بزفر بن الحارث الكلابى بقرقيسيا، ثم بايع مروان وفى نفسه ما فيها بسبب قتل قيس بالمرج «1» ، فلما سار عبيد الله بن زياد إلى الموصل كان معه، وقد ذكرنا اتفاقه مع إبراهيم بن الأشتر وانهزامه، حتى قتل عبيد الله [بن زياد] «2» ، وانهزمت جيوش الشّام، فلما كان ذلك أتى عمير ابن الحباب قرقيسيا، وصار مع زفر بن الحارث، فجعلا يطلبان كلبا واليمانيّة بمن قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما، ويدلّونهما، وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلّب عمير على نصيبين «3» ، ثم ملّ المقام بقرقيسيا، فاستأ من إلى عبد الملك، فأمّنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمرا حتى أسكرهم، وتسلّق فى سلّم من الحبال، وخرج من الحبس، وعاد إلى الجزيرة، ونزل على نهر البليخ «4» بين حرّان والرّقة، فاجتمعت إليه قيس، فكان يغير بهم «5» على كلب واليمانية، وكان من معه يسيئون «6» جوار تغلب، ويسخّرون(21/110)
مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شرّا، إلّا أنه لم يبلغ الحرب. ثم إن عميرا أغار على كلب، ورجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة، وكانت بحيث نزل عمير- امرأة من تميم ناكح فى تغلب، يقال لها أم ذويل «1» ، فأخذ غلام من بنى الحريش أصحاب عمير عنزا من غنمها، فشكت ذلك إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقى، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل منهم رجل يقال له مجاشع التّغلبى، وجاء ذويل فشكت أمّه إليه، وكان من فرسان تغلب، فسار فى قومه وجعل يذكّرهم ما يصنع بهم قيس، فاجتمع منهم جماعة وأمّروا عليهم شعيث «2» ابن مليل التغلبى، فأغاروا على بنى الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيّون واستاقوا ذودا لامرأة منهم يقال لها أمّ الهيثم، فمانعهم القيسيّون، فلم يقدروا على منعهم، فكان بينهم أيام «3» مذكورة نحن نذكرها على سبيل الاختصار؛ منها:
يوم ماكسين «4» :
قال: ولما استحكم الشرّ بين قيس وتغلب؛ وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث بن مليل غزا عمير بنى تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالا شديدا، وهى أول وقعة كانت بينهم، فقتل من بنى تغلب خمسمائة وقتل شعيث، وكانت رجله قد قطعت، فجعل يقاتل حتى قتل، وهو يقول:(21/111)
قد علمت قيس ونحن نعلم ... أنّ الفتى يقتل وهو أجذم
ويوم الثّرثار الأول:
والثّرثار «1» نهر أصل منبعه شرقى مدينة سنجار يفرغ فى دجلة.
قال: لما قتل من تغلب بماكسين من قتل استمدّت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النّمر بن قاسط، وأتاها المجشّر «2» ابن الحارث الشيبانى. وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله ابن زياد بن ظبيان منجدا لهم، واستنجد عمير تميما وأسدا فلم ينجده منهم أحد، فالتقوا على الثّرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر «3» ، ويقال يزيد بن هوبر التغلبى، فاقتتلوا، فانهزمت قيس، وقتلت تغلب منها مقتلة عظيمة، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بنى سليم.
ويوم الثّرثار الثانى:
قال: ثم إنّ قيسا تجمّعت واستمدّت، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، فالتقوا بالثّرثار، واقتتلوا قتالا شديدا. فانهزمت تغلب ومن معها.
ويوم الفدين:
قال: وأغار عمير على الفدين «4» ، وهى قرية على الخابور فقتل من بها من بنى تغلب.(21/112)
ويوم السّكير:
وهو على الخابور؛ يسمى سكير «1» العباس؛ قال: ثم اجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت تغلب والنّمر، وهرب عمير ابن جندل، وهو من فرسان تغلب؛ فقال عمير بن الحباب:
وأفلتنا يوم السّكير ابن جندل ... على سابح عوج اللبان مثابر
ونحن كررنا الخيل قبّا «2» شوازبا ... دقاق الهوادى داميات الدّوابر
ويوم المعارك:
والمعارك بين الحضر «3» والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت تغلب بهذا المكان فالتقوا هم وقبس، واقتتلوا به، فاشتدّ قتالهم، فانهزمت تغلب، فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد هزموهم إلى الحضر، وقتلوا منهم بشرا كثيرا. وقيل: هما يومان، كانا لقيس على تغلب. والتقوا أيضا بلبىّ «4» فوق تكريت فتناصفوا، فقيس تقول: كان الفضل إلىّ «5» ، وتغلب تقول: كان لنا.
ويوم الشّرعبيّة:
ثم التقوا بالشرعبيّة فكان بينهم قتال شديد كان لتغلب على قيس، قتل يومئذ عمار بن المهزم «6» السلمى. والشّرعبيّة هذه من بلاد تغلب ليست الشرعبيّة التى ببلاد منبج.(21/113)
ويوم البليخ:
والبليخ: نهر بين حرّان والرّقّة اجتمعت تغلب، وسارت إليه، وهناك عمير فى قيس، فالتقوا واقتتلوا فانهزمت تغلب، وكثر القتل فيها وبقرت بطون النساء كما فعلوا يوم الثّرثار. [والله علم «1» ] .
ذكر يوم الحشاك «2»
ومقتل عمير بن الحباب السلمى وابن هوبر التغلبى قال: ولما رأت تغلب [إلحاح] «3» عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرها وباديها، وساروا إلى الحشّاك- وهو نهر قريب من الشرعبيّة، فأتاهم عمير فى قيس، ومعه زفر بن الحارث الكلابى، وابنه الهذيل بن زفر، وعلى تغلب ابن هوبر «4» ، فاقتتلوا عند تل الحشّاك أشدّ قتال حتى جنّ عليهم الليل، ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل، ثم تحاجزوا وأصبحت تغلب فى اليوم الثالث، فتعاقدوا ألا يفرّوا، فلما رأى عمير جدّهم وأنّ نساءهم معهم قال لقيس: يا قوم؛ أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنّوا وساروا وجّهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم. فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلى: قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس، ثم ملىء سحرك وجبنت. ويقال: إن الذى قال هذه المقالة عيينة بن أسماء بن خارجة الفزارى، وكان أتاه منجدا، فغضب عليه عمير ونزل وجعل يقاتل راجلا وهو يقول:(21/114)
أنا عمير وأبو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك فاحبس
وانهزم زفر بن الحارث فى اليوم الثالث، فلحق بقرقيسا، وذلك أنه بلغه أن عبد الملك عزم على الحركة إليه بقرقيسيا، فبادر إليها، وانهزمت قيس، وشدّ على عمير جميل بن قيس من بنى كعب بن زهير فقتله.
ويقال: بل اجتمع على عمير غلمان من بنى تغلب فرموه «1» بالحجارة وقد أعيا حتى أثخنوه، وكرّ عليه ابن هوبر فقتله، وأصابت ابن هوبر جراحة، فلما انقضت الحرب أوصى بنى تغلب أن يولّوا أمرهم مرار «2» بن علقمة الزهيرى. وقيل: إنّ ابن هوبر جرح فى اليوم الثانى من أيامهم هذه، فأوصى أن يولّوا مرارا أمرهم، ومات من ليلته، وكان مرار رئيسهم فى اليوم الثالث، فعبأهم على راياتهم، وأمر كلّ بنى أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، وكان ما تقدّم.
وكثر القتل يومئذ فى بنى سليم وغنىّ خاصة، وقتل من قيس أيضا بشر كثير، وبعث بنو تغلب رأس عمير إلى عبد الملك بن مروان؛ فأعطى الوفد، وكساهم. فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث اجتمع الناس عليه، فقال الأخطل «3» :
بنى أمية قد ناضلت دونكمو ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا(21/115)
وقيس عيلان حتّى أقبلوا «1» رقصا ... فبايعوا لك قسرا بعد ما قهروا
ضجّوا من الحرب إذ عضّت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضّجر «2»
وكان مقتل عمير بن الحباب فى سنة [70 هـ] سبعين [كما تقدم] «3» .
ذكر الحرب بعد مقتل عمير بن الحباب السلمى
قال: ولما قتل عمير أتى ابنه تميم زفر بن الحارث، فسأله الطلب بثأره، فامتنع فقال له ابنه الهذيل بن زفر: والله لئن ظفرت بهم تغلب إنّ ذلك لعار عليك، ولئن ظفروا بتغلب وقد خذلتهم إنّ ذلك لأشدّ، فاستخلف زفر على قرقيسياء أخاه أوس بن الحارث ووجّه زفر خيلا إلى بنى فدوكس «4» ، وهم بطن من تغلب، فقتل رجالهم، واستبيحت الأموال [والنساء] «5» حتى لم يبق منهم غير امرأة واحدة استجارت، فأجارها يزيد بن حمران، ووجّه ابنه الهذيل فى جيش إلى بنى كعب بن زهير، فقتل فيهم قتلا ذريعا، وبعث أيضا مسلم بن ربيعة العقيلى إلى قوم من تغلب وقد اجتمعوا «6» بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحسّوا به ارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلما صاروا بالكحيل وهو من أرض الموصل فى جانب دجلة(21/116)
الغربى، فلحقهم زفر بن الحارث [به] «1» فى القيسية: فاقتتلوا قتالا شديدا؛ وترجّل أصحاب زفر كلّهم، وبقى زفر على بغلة له فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم، وغرق فى دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأتى «2» ، فلّهم لبّى فوجّه زفر ابنه الهذيل فأوقع بهم إلّا من عبر فنجا، وأسر منهم زفر مائتين فقتلهم صبرا، فقال فى ذلك زفر «3» :
ألا يا عين بكّى بانسكاب ... وبكّى عاصما وابن الحباب
فإن تك تغلب قتلت عميرا ... ورهطا من غنىّ فى الحراب
فقد أفنى بنى جشم بن بكر ... ونمرهم «4» فوارس من كلاب
قتلنا منهمو مائتين صبرا ... وما عدلوا عمير بن الحباب
وأسر القطامىّ التغلبى فى يوم من أيامهم، وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حتى ردّ عليه ماله ووصله، فقال فيه «5» :
إنى وإن كان قومى ليس بينهمو ... وبين قومك إلا ضربة الهادى
مثن عليك بما أوليت من حسن ... وقد تعرّض منى مقتل بادى
ذكر خبر يوم البشر «6»
كان سبب هذا اليوم أن عبد الملك لما استقرّ له الأمر قدم عليه الأخطل الشاعر التغلبى وعنده الجحّاف بن حكيم السلمى، فقال له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قال: نعم، هذا الذى أقول فيه «7» :(21/117)
ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
وأنشد القصيدة حتى فرغ منها، وكان الجحّاف يأكل رطبا فجعل النّوى يتساقط من يده غيظا، ثم أجابه فقال:
بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... وننعى عميرا بالرّماح الشّواجر
ثم قال يا ابن النصرانية؛ ما كنت أظنّ أن تجترىء علىّ بمثل هذا. فأرعد من خوفه، ثم قام إلى عبد الملك فأمسك ذيله، وقال:
هذا مقام العائذ بك. فقال: أنا لك، ثم قام الجحّاف فمشى وهو يجرّ ثوبه، ولا يعقل، فتلطّف لبعض كتّاب الديوان حتى اختلق له عهدا على صدقات تغلب وبكر بالجزيرة، وقال لأصحابه: إنّ أمير المؤمنين ولأّنى هذه الصدقات، فمن أراد اللحاق بى فليفعل.
ثم سار حتى أتى رصافة هشام، فأعلم أصحابه ما كان من الأخطل إليه، وأنه افتعل كتابا وأنه ليس له بوال، فمن كان يحبّ أن يغسل عنى العار وعن نفسه فليصحبنى، فإنى أقسمت ألّا أغسل رأسى حتى أوقع ببنى تغلب. فرجعوا عنه غير ثلاثمائة قالوا: نموت لموتك ونحيا لحياتك، فسار ليلته حتى أصبح بالرّحوب «1» ، وهو ماء لبنى جشم «2» بن بكر بن تغلب، فصادف عليه جماعة عظيمة منهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر الأخطل وعليه عباءة وسخة، وظنّ الذى أسره أنه عبد، فسأله عن نفسه، فقال:
عبد. فأطلقه فرمى بنفسه فى جب، مخافة أن يراه من يعرفه فيقتله،(21/118)
وأسرف الجحاف فى القتل، وبقر البطون عن الأجنّة؛ وفعل أمرا عظيما، فلما عاد عنهم قدم الأخطل على عبد الملك فأنشده «1» :
لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل
فطلب عبد الملك الجحّاف فهرب إلى الرّوم، فكان يتردّد فيها، ثم بعث إلى بطانة عبد الملك من قيس، فطلبوا له الأمان، فأمّنه عبد الملك، فلما جاء ألزمه ديات من قتل، وأخذ منه الكفلاء، فسعى فيها حتى جمعها وأعطاها، ثم تنسّك الجحّاف بعد، وصلح، ومضى حاجّا فتعلّق بأستار الكعبة، وجعل يقول: اللهم اغفرلى، وما أظنّك تفعل! فسمعه محمد ابن الحنفية، فقال: يا شيخ، قنوطك شرّ من ذنبك.
وقيل: كان سبب عود الجحّاف أنّ ملك الروم أكرمه وقرّبه وعرض عليه النصرانية، ويعطيه ما شاء، فامتنع، وقال: ما أتيتك غبة عن الإسلام.
ثم هزم الجحّاف صائفة المسلمين، فأخبروا عبد الملك أن الذى هزمهم الجحّاف، فأرسل إليه عبد الملك، فأمّنه، فسار فى بلاد الروم، وقصد البشر وبه حىّ من تغلب وقد لبس أكفانه، وقال: قد جئت إليكم أعطى القود من نفسى، فأراد شبابهم قتله، فنهاهم شيوخهم، وعفوا عنه، فحج، فسمعه عبد الله بن عمر وهو يطوف ويقول:
اللهم اغفرلى وما أظنك تفعل! فقال ابن عمر رضى الله عنهما:
لو كنت الجحاف مازدت على هذا. قال: فأنا الجحّاف.(21/119)
ذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق
وقتل مصعب بن الزبير واستيلاء عبد الملك على العراق [وفى جمادى الآخرة سنة [71 هـ] إحدى وسبعين كان مقتل مصعب بن الزبير بن العوام واستيلاء عبد الملك على العراق] «1» ؛ وسبب ذلك أنّ عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد كما تقدم وضع السيف على من خالفه، فصفا له الشام، فلما لم يبق له بالشام مخالف أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فاستشار أصحابه فى ذلك، فأشار عليه عمّه يحيى بن الحكم أن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق، فكان عبد الملك يقول: من أراد صواب الرأى فليخالف يحيى. وأشار بعضهم أن يؤخّر السّير هذا العام، وأشار محمد بن مروان أن يقيم ويبعث بعض أهله، ويمدّه بالجنود. فأبى إلّا المسير. فلما عزم على المسير ودّع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية.
فبكت فبكى جواريها لبكائها، فقال: قاتل الله كثيّر عزّة، لكأنّه يشاهدنا حين يقول «2» :
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها
نهته فلمّا لم تر النّهى عاقه ... بكت فبكى مما عناها قطينها «3»
وسار عبد الملك نحو العراق، فلما بلغ مصعب بن الزبير مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلّب بن أبى صفرة وهو يقاتل الخوارج(21/120)
يستشيره. وقيل: بل أحضره إليه، فقال لمصعب: اعلم أنّ أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا تبعدنى [عنك] «1» .
فقال له مصعب: إنّ أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتّى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا أكره إذ سار عبد الملك [إلىّ] «2» ألّا أسير إليه، فاكفنى هذا الثغر «3» .
فعاد إليهم، وسار مصعب إلى الكوفة ومعه الأحنف فتوفّى الأحنف بالكوفة، وأحضر مصعب إبراهيم بن الأشتر، وكان على الموصل والجزيرة، فجعله على مقدّمته، وسار حتى نزل باجميرا «4» قريب أوانا فعسكر هناك، وسار عبد الملك حتى نزل بمسكن «5» على فرسخين أو ثلاثة من عسكر مصعب.
وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه، فجميعهم طلب أصفهان طعمة، وأخفوا جميعهم كتبهم عن مصعب إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوما إلى مصعب، فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال له مصعب: أتدرى ما فيه؟ قال: لا. قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما «6» يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلّد الغدر والخيانة، والله(21/121)
ما [عند] «1» عبد الملك من أحد من الناس بايأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذى كتب إلىّ، فأطعنى واضرب أعناقهم. فقال: إذا لا تناصحنى عشائرهم.
قال: فأوقرهم حديدا، وابعث بهم إلى أبيض كسرى، واحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب رقابهم، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم. فقال: إنى لفى شغل عن ذلك.
ولما قرب العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول: دع الدّعاء لأخيك، وأدع الدعاء إلى نفسى، ونجعل الأمر شورى. فأبى مصعب إلّا السيف.
فقدّم عبد الملك أخاه محمدا. وقدّم المصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا، فتناوش الفريقان، فقتل صاحب لواء محمد، وجعل مصعب يمدّ إبراهيم، فأزال محمد بن مروان عن موقفه، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد، فاشتدّ القتال، فقتل مسلم بن عمرو الباهلى والدقتيبة، وهو فى أصحاب مصعب، وأمدّ مصعب إبراهيم بعتّاب بن ورقاء؛ فساء ذلك إبراهيم، واسترجع، وقال:
قد قلت له: لا يمدّنى بعتّاب وضربائه. وكان عتّاب قد كاتب عبد الملك وبايعه، فانهزم عتّاب بالناس وصبر ابن الأشتر، وقاتل حتى قتل، قتله عبيد بن ميسرة مولى بنى عذرة «2» ، وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وتقدّم أهل الشام فقاتلهم مصعب، وقال لقطن بن عبد الله الحارثى: قدّم خيلك أبا عثمان. فقال: أكره أن تقتل مذحج فى غير(21/122)
شىء. فقال لحجّار «1» بن أبجر: أبا أسيد: قدّم خيلك. فقال:
إلى هؤلاء الأنتان! قال: ما نتأخر إليه أنتن.
وقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد: قدم خيلك. فقال:
ما فعل أحد هذا فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم، ولا إبراهيم لى اليوم! ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة فاستدناه، فقال له: أخبرنى عن الحسين بن على كيف صنع بامتناعه عن النّزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فأخبره، فقال «2» :
إن الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا
ثم دنا محمد بن مروان من مصعب، وناداه: أنا ابن عمك محمد ابن مروان، فاقبل أمان أمير المؤمنين. قال: أمير المؤمنين بمكة، يعنى أخاه عبد الله. قال: فإنّ القوم خاذلوك، فأبى ما عرض عليه.
فنادى محمد عيسى بن مصعب إليه، فقال له مصعب: انظر ما يريد، فدنا منه، فقال له: إنى لك ولأبيك ناصح، ولكما الأمان. فرجع إلى أبيه فأخبره. فقال: إنى أظنّ القوم يفون لك، فإن أحببت أن تأتيهم، فافعل. قال: لا تتحدّث نساء قريش أنّى خذلتك، ورغبت بنفسى عنك. قال: فاذهب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فأخبره بما «3» صنع أهل العراق ودعنى فإنّى مقتول. فقال: لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة،(21/123)
أو الحق بأمير المؤمنين. فقال مصعب: لا تتحدث قريش أنى فررت.
وقال لابنه عيسى: تقدّم إذا أحتسبك. فتقدّم ومعه ناس، فقتل، وقتلوا، وجاء رجل من أهل الشام ليحتزّ رأس عيسى، فحمل عليه مصعب فقتله، وشدّ على الناس فانفرجوا له، وعاد، ثم حمل ثانية فانفرجوا له، وبذل له عبد الملك الأمان، وقال:
إنه يعزّ علىّ أن تقتل، فاقبل أمانى. ولك حكمك فى المال والعمل، فأبى، فقال عبد الملك: هذا والله كما قال القائل «1» :
ومدجّج كره الكماة نزاله ... لاممعن هربا ولا مستسلم «2»
ودخل مصعب سرادقه فتحنّط ورمى السرادق، وخرج فقاتل، فأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال: يا كلب، اغرب، مثلى يبارز مثلك! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فذهب «3» يعصب رأسه، وترك الناس مصعبا وخذلوه حتى بقى فى سبعة أنفس، وأثخن بالرمى، وكثرت فيه الجراحات، فعاد إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فضربه مصعب، فلم يصنع شيئا لضعفه، وضربه ابن ظبيان فقتله. وقيل: بل نظر إليه زائدة بن قدامة الثقفى فحمل عليه، فطعنه فقال: يالثارات المختار! فصرعه وأخذ عبيد الله بن زياد رأسه وحمله إلى عبد الملك، فألقاه بين يديه وأنشد «4» :
نعاطى «5» الملوك الحقّ ما قسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرّم(21/124)
فلما رأى عبد الملك الرأس سجد، فقال ابن ظبيان: لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد فأكون قد قتلت ملكى العرب، وأرحت الناس منهما، وفى ذلك يقول «1» :
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها فى النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه
وقال عبد الملك: لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس.
وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار، فقال: لم أقتله على طاعتك، وإنما قتلته بأخى النابى بن زياد، ولم يأخذ منها شيئا.
وكان النابى قد قطع الطريق فقتله مطرّف الباهلى صاحب شرطة مصعب.
وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل، وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا، وقال: كانت الحرمة بيننا [وبينه] «2» قديمة، ولكن [هذا] «3» الملك عقيم.
قال: ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه، وسار حتى دخل الكوفة، فأقام بالنّخيلة»
أربعين يوما، وخطب الناس بالكوفة، فوعد المحسن وتوعّد المسىء، وقال: إن الجامعة التى وضعت فى عنق عمرو بن سعيد عندى، وو الله لا أضعها فى عنق رجل فأنتزعها إلّا صعدا لا أفكّها عنه فكّا، فلا يبقينّ امرؤ إلّا على نفسه، ولا يوبقنى دمه.
والسلام.(21/125)
قال عبد الملك بن عمير: كنت مع عبد الملك بقصر الكوفة حين جىء برأس مصعب فوضعت بين يديه، فرآنى قد ارتعدت، فقال لى:
مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين! كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين رضى الله عنه بين يديه، ثم كنت فيه مع المختار بن أبى عبيد فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت مع مصعب فيه فرأيت رأس المختار بين يديه، ثم رأيت رأس مصعب فيه بين يديك. فقام عبد الملك من مقامه ذلك، وأمر بهدم ذلك الطاق الذى كنّا فيه، وقال عبد الملك ابن مروان: متى تخلف قريش مثل المصعب! ثم قال: هذا سيّد شباب قريش. فقيل له: أكان يشرب الطّلا «1» ؟ فقال: لو علم المصعب أنّ الماء يفسد مروءته ما شربه حتى يموت عطشا.
قال: وبعث عبد الملك برأس مصعب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال: رحمك الله، أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا، وأشدهم بأسا، وأسخاهم نفسا.
ثم سيّره إلى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا به فى نواحى الشام، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، فغسلته وطيبته ودفنته، وقالت: أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به المدن! هذا بغى.
وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة.
ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال:
أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟(21/126)
قيل: لا، استعمله على فارس. قال: أمعه المهلّب؟ قيل: لا، استعمله على الخوارج. قال: أمعه عباد بن الحصين؟ قيل: لا، استخلفه على البصرة. قال: وأنا بخراسان. وأنشد «1» :
خذينى فجرّينى جعار وأبشرى ... بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره
قال: ولما قتل مصعب كان المهلّب يحارب الأزارقة بسولاف «2» ثمانية أشهر، فبلغ الأزارقة قتله قبل أن يبلغ المهلّب، فصاحوا بأصحاب المهلّب: ما قولكم فى مصعب؟ قالوا: أمير «3» هدى؛ وهو وليّنا فى الدنيا والآخرة، ونحن أولياؤه. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك بن مروان! قالوا: ذلك ابن اللّعين، نحن نبرأ إلى الله منه، وهو [عندنا] «4» أحل دما منكم. قالوا: فإن عبد الملك قتل مصعبا، وسيجعلون غدا عبد الملك إمامكم.
فلما كان الغد سمع المهلّب وأصحابه قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك، فصاح بهم الخوارج: يا أعداء الله، ما تقولون فى مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله لا نخبركم. وكرهوا أن يكذّبوا أنفسهم. قالوا: فما قولكم فى عبد الملك؟ قالوا: خليفتنا. ولم يجدوا بدّا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك. قالوا: يا أعداء الله؛ أنتم بالأمس تتبرّءون منه فى الدنيا والآخرة، وهو اليوم إمامكم، وقد قتل أميركم «5»(21/127)
الذى كنتم تتولّونه «1» ، فأيّهما المهتدى؟ وأيّهما المبطل؟ قالوا:
يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان يتولّى أمرنا ونرضى بهذا. قالوا:
لا، والله، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا.
قال: ولم يف عبد الملك لأحد بأصبهان، واستعمل قطن بن عبد الله الحارثى على الكوفة، ثم عزله، واستعمل أخاه بشر بن مروان.
واستعمل محمد بن عمير «2» على همذان، ويزيد بن ورقاء بن رؤيم على الرىّ، واستعمل خالد بن عبد الله بن [خالد بن] «3» أسيد على البصرة، وعاد إلى الشام.
ذكر خبر عبد الملك بن مروان وزفر بن الحارث وما كان بينهما من القتال وانتظام الصّلح بينهما
قد ذكرنا أن زفر بن الحارث لما فر من مرج راهط إلى قرقيسياء، واستولى عليها، وتحصّن بها، واجتمعت قيس عليه، وكان فى بيعة عبد الله بن الزبير وفى طاعته. فلما مات مروان بن الحكم وولى عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبى معيط، وهو على حمص، يأمره أن يسير إلى زفر، فسار إليه، وعلى مقدّمته عبد الله بن زميت الطائى، فواقع عبد الله زفر قبل وصول أبان فقتل من أصحابه ثلاثمائة، فلامه أبان على عجلته، وأقبل أبان فواقع زفر فقتل ابنه وكيع ابن زفر. فلما سار عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بدأ بقرقيسياء، فحضر زفر فيها، ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادى فى(21/128)
عسكر عبد الملك: لم نصبتم المجانيق علينا؟ فقالوا: لنثلم ثلمة نقاتلكم «1» عليها. فقال زفر: قولوا لهم: فإنا لانقاتلكم من وراء الحيطان، ولكنا نخرج إليكم. وقاتلهم زفر.
وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجدّا فى قتال زفر، فقال رجل من أصحابه من بنى كلاب: لأقولن لخالد كلاما لا يعود إلى ما يصنع.
فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة فقال له الكلابى:
ماذا ابتغاء خالد وهمّه ... إذ سلب الملك و ... أمه
فاستحيا وعاد، ولم يعد لقتالهم.
وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسيّة الذين معك، فلا تخلطهم معنا. ففعل. فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غدا مضرى، ورموا النّبل إلى زفر. فلما أصبح دعا ابنه الهذيل فقال: اخرج إليهم، فشدّ عليهم، ولا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، وأقسم لئن رجع دون أن يفعل ذلك ليقتلنّه.
فجمع الهذيل خيله، وحمل، فصبروا قليلا ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط، وقطعوا بعضها، ثم رجعوا. فقبّل زفر رأس ابنه الهذيل. فقال: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت.
قال: وكان رجل من كلب يقال له الذيّال يخرج فيسبّ زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفينى هذا؟
قال: أنا آتيك به، فدخل عسكر عبد الملك ليلا، فجعل ينادى(21/129)
من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل.
فقال الرجل: ردّ الله عليك ضالّتك. فقال: يا عبد الله، إنى قد أعييت، فلو أذنت لى فاسترحت قليلا. قال: ادخل، فدخل، والرجل وحده فى خبائه، فرمى بنفسه، ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه، وقال: والله، لئن تكلمت لاقتلنّك، قتلت أو سلمت، فماذا ينفعك قتلى إذا قتلت أنت؛ ولئن سكت وجئت معى إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردّك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليك، فخرجا وهو ينادى: من دلّ على بغل من صفته كذا وكذا حتى أتى زفر.
والرجل معه، فأعلمه أنّه قد أمّنه، فوهبه «1» زفر دنانير وحمله على رحال النساء وألبسه ثيابهنّ، وبعث معه رجالا حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك، وانصرفوا! فلما رآه أهل العسكر عرفوه، وأخبروا عبد الملك الخبر فضحك، وقال: لا يبعد الله رجال مضر، والله إنّ قتلهم لذلّ، وإن تركهم لحسرة.
وكفّ الرجل فلم يعد يسبّ زفر.
وقيل: إنه هرب من العسكر، ثم أمر عبد الملك أخاه محمدا أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وأن يعطيا ما أحبّا. ففعل ذلك، فأجابا على أنّ لزفر الخيار فى بيعته سنة، وأن يترك حيث شاء، وألا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير.
فبينما الرسل تختلف بينهم إذ جاء رجل من كلب، فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج، فقال عبد الملك: لا أصالحهم،(21/130)
وزحف إليهم، فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم، فقال:
أعطوهم ما أرادوا. قال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن، واستقرّ الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والأموال، وألّا يبايع عبد الملك حتى يموت ابن الزّبير للبيعة التى له فى عنقه، وأن يعطى مالا يقسّمه فى أصحابه، وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبى صلّى الله عليه وسلّم أمانا له، فنزل إليه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فلما رأى عبد الملك قلّة من مع زفر قال: لو علمت بأنه فى هذه القلّة لحاصرته أبدا حتى نزل على حكمى، فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت.
قال: بل نفى لك يا أبا الهذيل.
وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب، وقال: أنت لا عهد عليك، فسار معه، فلما قارب مصعبا هرب إليه، وقاتل مع ابن الأشتر. فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل فى الكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فأمّنه.
قال: وتزوّج مسلمة بن عبد الملك الرّباب بنت زفر فكان يؤذن لإخوتها: الهذيل والكوثر فى أول الناس.
وفى هذه السنة، أعنى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين، افتتح عبد الملك قيساريّة «1» فى قول الواقدى رحمه الله.(21/131)
ذكر مقتل عبد الله بن خازم واستيلاء عبد الملك على خراسان
ولما قتل مصعب كان عبد الله بن خازم يقاتل بحير «1» بن ورقاء لصّريمى التميمى بنيسابور، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين، وأرسل الكتاب مع سورة «2» ابن أشيم النميرى، فقال له ابن خازم: لولا أن أضرّب بين بنى سليم وبنى عامر لقتلتك، ولكن كل كتابه، فأكله. وقيل: بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميرى. وقيل: مع «3» مكمل الغنوى.
فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذّبّان لأنك من غنىّ، وقد علم أنى لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كل كتابه وكتب عبد الملك إلى بكير «4» بن وسّاج، وكان خليفة ابن خازم على مرو، بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه، فخلع بكير عبد الله ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور، فترك بحيرا وأقبل إلى مرو، فاتبعه بحير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله، فقتل ابن خازم. وكان الذى قتله وكيع بن عمرو «5» القريعى، اعتوره وكيع وبحير بن ورقاء وعمّار بن عبد العزيز،(21/132)
فطعنوه، فصرعوه؛ وقعد وكيع على صدره فقتله، وبعث «1» بشيرا بقتله إلى عبد الملك، ولم يبعث برأسه.
وأقبل بكير فى أهل مرو، فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بحير [فضربه بعمود وحبسه «2» ] ، وسيّر الرأس إلى عبد الملك، وذلك فى سنة اثنتين وسبعين.
وقيل: بل كان مقتله بعد قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزّبير، ودعاه إلى نفسه فغسله وكفّنه، وبعثه إلى أهله بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لقتلتك.
وقيل: بل قطع يديه ورجليه وقتله، وحلف ألا يطيع عبد الملك أبدا. [والله أعلم «3» ] .
ذكر مقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنه وشىء من أخباره
قال: لما قتل مصعب بن الزبير تقدم الحجاج بن يوسف الثقفى إلى عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت فى المنام أنى أخذت ابن الزبير وسلخته، فابعثنى إليه، وولّنى حربه، فبعثه فى ألفين، وقيل فى ثلاثة آلاف، فسار فى جمادى الأولى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، ونزل الطائف، وكان يبعث الخيل إلى عرفة [فى الحل] «4»(21/133)
بعد الطائف، ويبعث ابن الزبير الخيل فيقتلون فتنهزم خيل ابن الزبير، وتعود خيل الحجاج بالظّفر.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه فى دخول الحرم وحصر «1» ابن الزبير، ويخبره بضعفه وتفرّق أصحابه، ويستمدّه، فأمدّه بطارق بن عمرو مولى عثمان، وكان عبد الملك قد بعثه فى جيش إلى وادى القرى ليمنع عمّال ابن الزّبير من الانتشار، فقدم المدينة فى ذى القعدة «2» سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين، وأخرج عامل ابن الزبير منها، وجعل عليها رجلا من أهل الشام اسمه ثعلبة، وقدم طارق «3» مكة فى ذى الحجة منها فى خمسة آلاف، وتقدم الحجّاج إلى مكة، فنزل عند بئر ميمون «4» ، وحجّ بالناس فى تلك السنة.
إلّا أنه لم يطف بالبيت، ولا سعى بين الصّفا والمروة؛ منعه عبد الله ابن الزبير من ذلك؛ ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه فى تلك السنة.
ونصب الحجاج المنجنيق على أبى قبيس «5» ، ورمى به الكعبة، فقال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما للحجاج، اتّق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس، فإنك فى شهر حرام فى بلد حرام؛ وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدّوا فريضة الله، وقد منعهم المنجنيق عن الطّواف. فكفّ حتى انقضى الحج، ثم نادى فى الناس:
انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير الملحد.(21/134)
قال: وأول ما رمى الكعبة بالمنجنيق رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرّعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجاج حجر المنجنيق «1» ووضعه بيده ورمى به، فجاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يأهل الشام، لا تنكروا هذا، فإنى ابن تهامة، وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر، فأبشروا.
فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون كما تصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلافها، وكان الحجر يقع بين يدى عبد الله ابن الزّبير وهو يصلّى، فلا ينصرف عن مكانه.
وغلت الأسعار عند ابن الزبير حتى ذبح فرسه، وقسّم لحمه فى أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمدّ الذرة بعشرين درهما، وكانت بيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، فكان لا ينفق منه إلّا ما يمسك الرّمق ويقول: نفوس أصحابى قويّة ما لم تفن.
فلما كان قبيل مقتله تفرّق الناس عنه، وخرجوا إلى الحجّاج بالأمان، فخرج من عنده نحو عشرة آلاف. وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، أخذا لأنفسهما أمانا، فقال عبد الله لابنه الزّبير: خذ لنفسك أمانا كما فعل أخواك، فو الله إنى لأحبّ بقاءكم. فقال: ما كنت لأرغب بنفسى عنك، فقتل معه.(21/135)
قال: ولما كان فى الليلة التى قتل فيها عبد الله فى صبيحتها جمع قريشا فقام لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بنى مخزوم: والله، إنّا قاتلنا معك حتى ما نجد مقتلا، والله لئن سرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هى إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج.
فقال له رجل: اكتب إلى عبد الملك. فقال: كيف أكتب من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين. من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء على الغبراء أهون علىّ من ذلك. فقال له عروة وهو جالس معه على السرير: قد جعل الله لك أسوة فى الحسن بن على رضى الله عنهما، خلع نفسه وبايع معاوية، فركضه برجله ورماه عن السرير، وقال: قلبى إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلّا قليلا وإن أضرب بسيف فى عزّ خير من أن ألطم فى ذلّ.
فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم «1» فقال:
اصنعى لى طعاما. فلما صنعته وأتت به لاك منه لقمة ثم لفظها، وقال: اسقونى لبنا فسقوه، ثم اغتسل وتطيّب وتحنّط، ودخل على أمه، فقال: يا أماه، قد خذلنى الناس حتى ولدى وأهلى ولم يبق معى إلّا اليسير، والقوم يعطوننى ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟
قالت له: أنت أعلم بنفسك، إن كنت [تعلم أنك] «2» على حق وأنت تدعو إليه فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن «3»(21/136)
من نفسك يتلعّب بك غلمان بنى أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: كنت على حقّ فلما وهن أصحابى ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن! فقال: يا أماه، أخاف إن قتلنى أهل الشام أن يمثّلوا بى ويصلبونى. فقالت: يا بنى، إن الشاة لا تألم السلخ بعد الذّبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله.
فقبّل رأسها وقال: هذا رأيى، والذى خرجت به داعيا «1» إلى يومى هذا. ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعانى إلى الخروج إلّا الغضب لله، وأن تستحلّ حرماته؛ ولكنى أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتنى بصيرة، فانظرى فإنى مقتول فى يومى هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر! ولا عملا بفاحشة، ولم يجر فى حكم الله، ولم يغدر فى أمان، ولم يتعمّد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغنى ظلم عن عمّالى، فرضيت به؛ بل أنكرته، ولم يكن ىء آثر عندى من رضاء ربى. اللهم إنى لا أقول هذا تزكية لنفسى، ولكن أقوله تعزية لأمى حتى تسلو عنى.
فقالت: إنى لأرجو أن يكون عزابى فيك جميلا، إن تقدّمتنى احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. اخرج [عنى. «2» ] حتى أنظر إلى ما يصير أمرك، فقال: جزاك الله خيرا؛ فلا تدعى الدعاء لى.
قالت: لا أدعه لك أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حقّ.(21/137)
ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل، وذلك النّحيب والظمأ فى هواجر مكّة والمدينة، وبرّه بأبيه وبى. اللهم قد سلّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبنى فيه ثواب الصابرين الشاكرين.
فتناول يدها ليقبّلها، فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها:
جئت مودّعا، لأنى أرى هذا آخر أيامى من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك، وادن منى حتى أودّعك، فدنا منها فعانقها، وقبّل بين عينيها، فوقعت يدها على الدّرع، فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! فقال: ما لبسته إلّا لأشدّ متنك. قالت: فإنه لا يشدّ متنى، فنزعها، ثم درج «1» كميه، وشدّ أسفل قميصه وجبّة خزّ تحت السراويل، وأدخل أسفلها تحت المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة.
فخرج من عندها وحمل على أهل الشام حملة منكرة، فقتل منهم، ثم انكشف هو وأصحابه، فقال له بعض أصحابه:
لو لحقت بموضع كذا. فقال: بئس الشيخ أنا إذا فى الإسلام أن أوقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم.
ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون:
يابن ذات النّطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك لومها «2» .(21/138)
وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجالا «1» ، فكان لأهل حمص الباب الذى يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بنى شيبة، ولأهل الأردن باب الصّفا، ولأهل فلسطين باب بنى جمح، ولأهل قنّسرين باب بنى سهم. وكان الحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة، وابن الزبير يحمل على هذه الناحية مرة وفى هذه أخرى، وكأنّه أسد فى أجمة ما تقدم عليه الرجال وهو يعدو فى إثر القوم حتى يحرجهم، ثم يصيح [يا] «2» أبا صفوان، ويل أمّه فتحا، لو كان له رجال. لو «3» كان قرنى واحدا كفيته فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف:
أى والله وألف.
فقال رجل من أهل الشام اسمه جلبوب «4» : إنما يمكنكم أخذه إذا ولّى. قيل: فخذه أنت إذا ولّى. قال: نعم، وتقدّم ليحضنه من خلفه، فعطف عليه فقط ذراعيه فصاح، فقال: اصبر جلبوب.
قال: فلما رأى الحجاج أنّ الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجّل يسوق الناس ويصدم «5» بهم، فصدم صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه، فتقدّم ابن الزّبير على صاحب علمه وقاتلهم حتى انكشفوا، ورجع فصلّى ركعتين عند المقام، فحملوا(21/139)
على صاحب علمه، فقتلوه عند باب بنى شيبة، وأخذوا العلم.
فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم، وقتل رجلا من أهل الشام وآخر، وقاتل معه عبد الله بن مطيع، وهو يقول:
أنا الذى فررت يوم الحرّه ... والحرّ لا يفرّ إلّا مرّه
واليوم أجزى فرّة بكرّه
وقاتل حتى قتل، ويقال: أصابته جراحة فمات منها بعد أيام.
قال: وقال عبد الله بن الزّبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم وعليكم المغافر، ففعلوا، فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا فى الله فلا يرعكم وقع السيوف، فإنّ ألم الدواء للجراح أشدّ من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرىء قرنه، ولا تسألوا عنى، فمن كان سائلا عنى فإنى فى الزّعيل الأوّل، احملوا على بركة الله.
ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون «1» فرمى بآجرة، رماه بها رجل من السّكون، فأصابت وجهه فأرعش لها وسال الدّم على وجهه، فقال رضى الله عنه وأرضاه «2» :
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أعقابنا تقطر الدّما
وقاتلهم قتالا شديدا، فتعاونوا «3» عليه، فقتلوه، قتله رجل(21/140)
من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فسجد ووفد السّكونى والمرادى إلى عبد الملك بالخبر؛ فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.
وقيل فى قتله: إنه جاءه حجر المنجنيق وهو يقاتل فصرعه فاقتحم عليه أهل الشام، وذهبوا به إلى الحجّاج فحزّ رأسه بيده.
وكان مقتله- رضى الله عنه- فى يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين وقيل فى جمادى الآخرة منها، وله ثلاث وسبعون سنة.
ولما قتل رضى الله عنه كبّر أهل الشام فرحا بقتله؛ فقال عبد الله ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء. انظروا إلى هؤلاء. لقد كبّر المسلمون فرحا بولادته، وهؤلاء يكبّرون فرحا بقتله.
وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة ابن عمرو بن حزم إلى المدينة، ثم إلى عبد الملك وصلب جثّته [منكّسة] «1» على الثنيّة اليمنى بالحجون، فأرسلت إليه أسماء تقول: قاتلك الله! على ماذا صلبته؟ قال: استبقت أنا وهو إلى هذه الخشبة، فكانت له.
فاستأذنته فى تكفينه ودفنه. فأبى.
وكتب إلى عبد الملك يخبره بصلبه، فكتب إليه يلومه، ويقول: ألا خلّيت بينه وبين أمّه. فأذن لها الحجاج فدفنته بالجحون.
وكان قبل مقتله بقى أياما يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن(21/141)
إن هو صلب، فلما صلب ظهر منه ريح المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلبا ميتا. وقيل، سنّورا، فغلب على ريح المسك.
ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة بن الزبير ناقة لم ير مثلها وسار إلى عبد الملك فسبق رسل الحجاج، فاستأذن على عبد الملك فأذن له، فلما دخل عليه سلّم عليه بالخلافة، فرحّب به وأجلسه معه على السرير، فقال عروة:
نمتّ «1» بأرحام إليك قريبة ... ولا خير فى الأرحام ما لم تقرب
وتحدّث «2» حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان.
فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل؛ فخرّ ساجدا. فقال عروة:
إن الحجاج صلبه. فهب جثّته لأمه. قال: نعم.
وكتب إلى الحجاج فعظّم «3» صلبه.
وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك: إنّ عروة كان مع أخيه. فلما قتل عبد الله أخذ مالا من مال الله وهرب.
فكتب إليه عبد الملك يقول: إنه لم يهرب، ولكنه أتانى مبايعا، وقد أمّنته وحللته مما كان منه، وهو قادم عليك، فإياك وعروة.
فعاد عروة إلى مكة فكانت غيبته عنها ثلاثين يوما. فأنزل الحجاج جثّة عبد الله عن الخشبة وبعث بها إلى أمّه فغسلته. فلما أصابه الماء تقطّع فغسلته عضوا عضوا. وصلّى عليه عروة وقيل غيره.(21/142)
وقيل: لم يصلّ عليه أحد؛ منع الحجاج من الصلاة عليه.
وكانت أيام ولايته منذ مات معاوية بن يزيد إلى أن قتل سبع سنين وأيّاما.
وكان له من الأولاد: عبد الله، وحمزة، وخبيب، وثابت، وعبّاد، وقيس، وعامر، وموسى.
وكاتبه زيد بن عمرو.
وحاجبه سالم مولاه [والله الموفق بمنه وكرمه] «1» .
ذكر نبذة من سيرته [رضى الله عنه] «2» وأخباره
كان كثير العبادة إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تظنّه حائطا لسكونه وطول سجوده. وقال بعض السلف: قسّم عبد الله الدّهر على ثلاث حالات فليلة قائم حتى الصباح، وليلة راكع حتى الصباح، وليلة ساجد حتى الصباح.
وقيل: أول ما علم من همّته أنه كان يلعب ذات يوم مع الصّبيان وهو صبى، فمرّ رجل فصاح عليهم ففرّوا، ومشى عبد الله القهقرى، وقال للصبيان: اجعلونى أميركم، وشدّوا بنا عليه.
ومرّ به عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو يلعب مع الصبيان ففرّوا ووقف هو، فقال له عمر: ما منعك أن لا تفرّ معهم «3» ؟
فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسّع لك.(21/143)
وقال: هشام بن عروة: كان أول ما أفصح به عمّى عبد الله ابن الزبير وهو صغير السيف «1» ، فكان لا يضعه من فيه «2» .
فكان الزبير رضى الله عنه يقول: والله ليكوننّ لك منه يوم وأيام.
وقال ابن سيرين: قال ابن الزبير: ما كان شىء يحدثنا به كعب إلا وقد جاء على ما قال إلّا قوله: فتى ثقيف يقتلنى وهذا رأسه بين يدى- يعنى المختار.
قال: لم يشعر ابن الزبير أنّ الحجاج قد خبّىء له. ومر [به «3» ] عبد الله بن عمر رضى الله عنهم وهو مصلوب، فقال: يرحمك الله إن كنت لصوّاما قوّاما، ولقد أفلحت قريش إن كنت شرها.
وكان الحجاج قد صلبه ثم ألقاه فى مقابر اليهود، وأرسل إلى أمّه يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها لتأتينى أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فلم تأته فجاء إليها. فقال: كيف رأيتنى صنعت بعدوّ الله «4» ؟ قالت: رأيتك أفسدت على ابنى دنياه، وأفسد عليك آخرتك؛ وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا أنّ فى ثقيف كذّابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه [تعنى المختار «5» ] ، وأما المبير فأنت «6» .(21/144)
وقال قطن بن عبد الله: كان الزّبير يفطر من الشهر ثلاثة أيام، ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره. وقال مجاهد: لم يكن باب من أبواب العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلّفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبّق البيت، فجعل ابن الزبير رضى الله عنه يطوف سباحة. [وماتت أسماء رضى الله عنها بعده بقليل «1» ] .
انتهت أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنه، فلنذكر غير ذلك من أخبار أيام عبد الملك ونبدأ بتتمّة أخبار الحجاج وما فعل بمكة والمدينة [والله أعلم «2» ] .
ذكر مبايعة أهل مكة عبد الملك بن مروان
وما فعله الحجاج من هدم الكعبة وبنائها ومسيره إلى المدينة وما فعله فيها بالصحابة رضى الله عنهم قال: ولما فرغ الحجاج من أمر عبد الله بن الزبير دخل مكّة فبايعه أهلها لعبد الملك بن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وهدم الكعبة فى المحرم سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وأعادها إلى البناء الأول وأخرج الحجر منها، وكان عبد الملك [يقول «3» ] :
كذب ابن الزبير فيما رواه عن عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أمر الحجر، وأنه من البيت. فلما «4» قال له(21/145)
غير ابن الزبير: إنّ عائشة رضى الله عنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: وددت أنى تركته وما تحمّل.
والكعبة فى وقتنا هذا على بنائها الذى أعاده الحجاج بن يوسف.
قال: ثم سار الحجاج إلى المدينة فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين، وكان عبد الملك قد عزل طارقا «1» عنها، واستعمل عليها الحجاج، فصار معه مكة والمدينة واليمن واليمامة، فلما قدم المدينة أقام بها شهرا أو شهرين، فأساء إلى أهلها، واستخف بهم، وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدى جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم، كما يفعل بأهل الذمّة، منهم جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة معتمرا، وقال حين خرج من المدينة: الحمد لله الذى أخرجنى من أمّ نتن، أهلها أخبث أهل بلد، وأغشّه لأمير المؤمنين، وأحسدهم له على نعمة الله، والله لولا ما كانت تأتينى كتب أمير المؤمنين فيها لجعلتها مثل جوف الحمار، أعواد يعوذون بها، ورمّة قد بليت، يقولون: منبر رسول الله، وقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فبلغ جابر بن عبد الله قوله، فقال: إن وراءه ما يسوءه. قد قال فرعون ما قال، فأخذه الله بعد أن أنظره.
وأقام الحجاج بالحجاز إلى أن نقله عبد الملك إلى ولاية العراق.
وذلك فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(21/146)
ذكر أخبار الخوارج فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر
قد ذكرنا أنه لما قتل مصعب بن الزبير كان المهلّب بن أبى صفرة يقاتل الخوارج منذ ثمانية أشهر، وذكرنا مقالتهم لأصحابه حين بلغهم قتل مصعب، وتبعه عبد الملك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين استعمل عبد الملك خالد بن عبد الله بن أسيد «1» على البصرة، فلما قدمها استعمل المهلّب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتال الخوارج، وسيّر معه مقاتل بن مسمع، فخرجا يطلبان الأزارقة، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى درابجرد «2» وأرسل قطرىّ بن الفجاءة المازنى أمير الحج سبعمائة فارس مع صالح ابن مخراق «3» ، فأقبل بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير ليلا على غير تعبئة، فانهزم بالناس، ونزل مقاتل بن مسمع، فقاتل حتى قتل.
ولما انهزم عبد العزيز أخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت قيمتها مائة ألف، فجاء رجل من قومها «4» كان من رءوس الخوارج، فقال: تنحّوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلّا قد فتنتكم، فضرب عنقها، ولحق بالبصرة، فرآه آل المنذر،(21/147)
فقالوا: والله ما ندرى أنحمدك أم نذمّك؟ فكان يقول: ما فعلته إلّا غيرة وحميّة.
وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز، وأتى المهلب خبره، فأرسل «1» إلى أخيه خالد بن عبد الله بخبر هزيمته، فقال للرسول: كذبت.
فقال: إن كنت كاذبا فاضرب عنقى، وإن كنت صادقا فأعطنى جبّتك ومطرفك. قال: ويحك! قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير، ثم حبسه وأحسن إليه لما صحّ عنده خبر الهزيمة. وفى هذه الهزيمة وفرار عبد العزيز يقول ابن قيس الرقيّات «2» :
عبد العزيز فضحت «3» جيشك كلّهم ... وتركتهم صرعى بكلّ سبيل
من بين ذى عطش يجود بنفسه ... وملحّب «4» بين الرجال قتيل
هلّا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل
وتركت جيشك لا أمير عليهمو ... فارجع بعار فى الحياة طويل
ونسيت عرسك إذ تقاد سبيّة ... تبكى العيون برنّة وعويل(21/148)
قال: وكتب خالد إلى عبد الملك بالخبر، فكتب إليه يقول:
قبّح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب يجبى الخراج، وهو الميمون النّقيبة، المقاسى للحرب، ابنها وابن أبنائها. أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة أن يمدّك بجيش، فسر معهم، ولا تعمل فى عدوّك برأى حتى يحضره المهلّب. والسلام.
وكتب عبد الملك إلى أخيه بشر، وهو أمير الكوفة، يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الرّىّ، فقاتلوا عدوّهم، وكانوا مسلحة، فبعث بشر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فى خمسة آلاف، وكتب عهده على الرّىّ، وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز؛ وقدمها عبد الرحمن فى أهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز؛ فعبّأ خالد أصحابه، وجعل المهلب على ميمنته، وداود بن قحذم من بنى قيس بن ثعلبة على ميسرته، ثم زحف خالد إليهم بالناس بعد عشرين ليلة، فرأوا من كثرة الناس ما هالهم، فانصرفوا على حامية «1» ، ولم يقاتلوا؛ فأرسل خالد داود بن قحذم فى آثارهم، وانصرف عبد الرحمن إلى الرّىّ، وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف خالد إلى البصرة، وكتب إلى عبد الملك بذلك، فكتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير(21/149)
بالحرب إلى فارس فى طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود ابن قحذم إن اجتمعا.
فبعث بشر عتّاب بن ورقاء فى أربعة آلاف، فساروا حتى لحقوا داود، فاجتمعوا، ثم اتّبعوا الخوارج حتى هلكت خيول عامتهم، وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيش «1» مشاة إلى الأهواز؛ وذلك فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين.
ذكر مقتل أبى فديك الخارجى
قد ذكرنا فى أخبار عبد الله بن الزبير قتل نجدة بن عامر وطاعة أصحابه أبا فديك، فلما كان فى سنة [72 هـ] اثنتين وسبعين غلب أبو فديك على البحرين؛ فبعث خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله فى جند كثيف، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له، فاتخذها لنفسه، فكتب إلى عبد الملك بذلك، فأمر عبد الملك عمر ابن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من «2» أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فانتدب معه عشرة آلاف، وسار بهم، وجعل أهل الكوفة على الميمنة، وعليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وأهل البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وهو ابن أخى عمر، وجعل خيله فى القلب، وساروا حتى انتهوا إلى البحرين، فالتقوا، واصطفّوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر جتى أبعدوا إلّا المغيرة(21/150)
ابن المهلّب، ومجّاعة بن عبد الرحمن، وفرسان الناس؛ فإنهم مالوا إلى صفّ أهل الكوفة بالميمنة، ثم رجع أهل الميسرة وقاتلوا واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الميمنة حتى استباحوا عسكر الخوارج، وقتلوا أبا فديك، وحصروا أصحابه حتى نزلوا على الحكم، فقتل منهم نحو ستة آلاف، وأسر ثمانمائة؛ ووجدوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبى فديك، وعادوا إلى البصرة، وذلك فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين.
ذكر ولاية المهلب بن أبى صفرة حرب الأزارقة
فى سنة [74 هـ] أربع وسبعين أمر عبد الملك أخاه بشرا، وكان قد أضاف إليه ولاية البصرة مع الكوفة، أن يبعث المهلّب بن أبى صفرة لحرب الأزارقة فى أهل البصرة، وأن ينتخب من أراد منهم، وأن يتركه فى الحرب ورأيه، وأمره أن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس والنّجدة فى جيش كثيف إلى المهلّب، وأن يتتبّعوا الخوارج حيث كانوا حتى يستأصلوهم.
فأرسل المهلّب خديج بن سعيد «1» بن قيبصة، وأمره أن ينتخب الناس من الديوان، وشقّ على بشر أن إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك، وبعث بشر عبد الرحمن بن مخنف على أهل الكوفة، وأغراه بالمهلّب، وأمره أن يستبدّ بالأمر، وسار المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل أهل الكوفة حتى نزلوا على ميل من المهلّب، فلم يلبث العسكر إلّا عشرا «2» حتى(21/151)
أتاهم نعى بشر بن مروان فتفرقوا، وعاد أكثر أهل الكوفة والبصرة إلى أن قدم الحجاج إلى الكوفة فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين، فأخرج الناس إلى المهلّب وابن مخنف على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الحجاج حين قدم الكوفة.
ذكر اجلاء الخوارج عن رامهرمز وقتل عبد الرحمن بن مخنف
قال: ولما أعاد الحجاج البعوث إلى المهلّب كتب إليه وإلى عبد الرحمن بن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج رجعوا «1» إليهم وقاتلوهم شيئا من قتال، فانزاحت الخوارج كأنهم على حامية، وساروا حتى نزلوا بكازرون «2» ، وسار المهلّب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلّب على نفسه، وأشار على ابن مخنف أن يخندق، فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا، فأتى الخوارج المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد خندق، فمالوا نحو ابن مخنف، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل فى ناس من أصحابه، فقتل وقتلوا رجاله، فقال شاعرهم «3» :
لمن العسكر المكلّل بالصّر ... عى فهم بين ميّت وقتيل
فتراهمو تسفى الرياح عليهمو ... حاصب الرّمل بعد جرّ الذّيول
هذا قول أهل البصرة فى قتل ابن مخنف.(21/152)
وأما أهل الكوفة فقالوا: إنه لمّا وصل كتاب الحجاج لمناهضة «1» الخوارج ناهضهم المهلّب وابن مخنف، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فمالت الخوارج إلى المهلّب فاضطرّوه إلى عسكره، فاستنجد عبد الرحمن فأمدّه بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من شهر رمضان سنة [75 هـ] خمس وسبعين.
فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج من يأتى من عسكر عبد الرحمن [من الرجال] «2» علموا أنه قد خفّ أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلّب من يشغله، وانصرفوا بحدّهم «3» إلى ابن مخنف، فنزل ونزل معه القرّاء، منهم أبو الأحوص «4» صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة، ونزل معه من قومه واحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلوا قتالا شديدا، وانكشف الناس عنه، وبقى فى عصابة من أهل الصّبر، فقاتلوا حتى ذهب نحو ثلثى الليل، ثم قتل فى تلك العصابة.
فلما أصبحوا جاء المهلّب فصلّى عليه ودفنه، وكتب بذلك إلى الحجاج، فبعث إلى عسكر عبد الرحمن عتّاب ابن ورقاء، وأمره أن يسمع إلى المهلّب، فساءه ذلك، ولم يجد بدّا من طاعته، فجاء وقاتل الخوارج؛ ثم وقع بينه وبين المهلّب كلام أغلظ كلّ منهما لصاحبه، فرفع المهلّب القضيب على عتّاب،(21/153)
فوثب المغيرة بن المهلب فقبض «1» القضيب من يد أبيه وسكته، وأثنى على عتّاب، وافترقا.
فأرسل عتّاب إلى الحجّاج يشكو المهلّب، ويسأله أن يأمر بالعود، فوافق ذلك حاجة من الحجاج إليه، فاستقدمه، وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلّب، فجعل المهلّب عليهم ابنه حبيبا، وقاتل المهلّب الخوارج على سابور «2» نحو سنة بعد مسير عتّاب عنه، وكانت كرمان فى يد الخوارج، وفارس فى يد المهلب؛ فضاق على الخوارج مكانهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت «3» ، وهى مدينة كرمان، فقاتلهم قتالا شديدا.
ثم أرسل إليه الحجاج البراء بن قبيصة يحثّه على قتال الخوارج، ويأمره بالجدّ، وأنه لا عذر له عنده.
فخرج المهلّب بالعسكر، فقاتل الخوارج من الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على تلّ مشرف «4» يراهم، فأثنى على المهلّب وعلى أصحابه، وانصرف إلى الحجّاج، وعرّفه عذر المهلب، ثم قاتلهم المهلّب ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شىء إلى أن وقع بينهم الاختلاف.(21/154)
ذكر الاختلاف بين الأزارقة ومفارقة قطرىّ بن الفجاءة
إيّاهم ومبايعتهم عبد ربّ الكبير والحرب بينه وبين المهلّب ومقتله وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين وقع الاختلاف بين الخوارج، فخلعوا قطرىّ بن الفجاءة، وبايعوا عبد ربّ الكبير، واختلف فى سبب ذلك، فقيل: إن عائلا «1» لقطرىّ على ناحية كرمان، يدعى المقعطر الضّبى، قتل رجلا منهم، فوثبت الخوارج إلى قطرى، وطلبوا منه أن يقيدهم من عامله، فلم يفعل، وقال: إنه تأوّل فأخطأ التأويل، وهو من ذوى السابقة فيكم، ما أرى أن تقتلوه، فاختلفوا.
وقيل: كان السبب فى اختلافهم أنّ رجلا كان فى عسكرهم يعمل النصول المسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلّب، فشكا أصحابه منها، فقال: أنا أكفيكموه، فوجّه رجلا من أصحابه ومعه كتاب، فأمره أن يلقيه فى عسكر قطرىّ ولا يراه أحد، ففعل، ووقع الكتاب؛ إلى قطرىّ، فإذا فيه: أما بعد فإنّ نصالك وصلت، وقد أنفذت إليك ألف درهم، فأحضر قطرىّ الصانع فسأله. فجحد، فقتله، فأنكر عليه عبد ربّ الكبير قتله، واختلفوا.
ثم وضع المهلّب رجلا نصرانيّا، وأمره أن يسجد لقطرىّ. ففعل.
فقال الخوارج: إن هذا قد اتّخذك إلها. ووثب بعضهم على النّصرانى فقتله، فزاد اختلافهم، ففارق بعضهم قطريّا وخلعوه، وولّوا(21/155)
عبد رب الكبير، وبقى مع قطرىّ منهم نحو ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر «1» .
وكتب المهلّب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يأمره بقتالهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا.
فكتب إليه المهلّب: إنى لست أرى أن أقاتلهم مادام يقتل بعضهم بعضا، فإن تمّوا على ذلك فهو الذى نريد «2» ، وفيه هلاكهم.
وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا فأنا هضهم حينئذ، وهم أهون ما كانوا وأضعفهم شوكة إن شاء الله تعالى. والسلام.
فسكت عنه.
ثم إن قطريّا خرج بمن معه نحو طبرستان، وأقام «3» عند عبد ربّ الكبير بكرمان، فنهض إليهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا وحصرهم بجيرفت، وكرّر قتالهم وهو لا يبلغ منهم ما يريد.
فلما طال عليهم الحصار خرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم، فقاتلهم المهلّب قتالا شديدا حتى عقرت الخيل وتكسّر السلاح، وقتل الفرسان، فتركهم، فساروا؛ ودخل المهلّب جيرفت، ثم سار حتى لحقهم على أربعة فراسخ منها، فقاتلهم من بكرة النهار إلى الظّهر، ثم كفّ عنهم، فجمع عبد رب الكبير أصحابه، وقال:(21/156)
يا معشر المهاجرين؛ إن قطريّا ومن معه هربوا، طلب «1» البقاء، ولا سبيل إليه، فالقوا عدوّكم، وهبوا أنفسكم لله، ثم عاود القتال، فاقتتلوا قتالا شديدا أنساهم ما قبله، فتبايع «2» جماعة من أصحاب المهلّب على الموت، وترجّلت الخوارج، وعقروا دوابّهم، واشتدّ القتال، وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مرّ بى يوم مثل هذا.
ثم هزم الله الخوارج، وكثر القتل فيهم، فكان عدد القتلى أربعة آلاف، منهم ابن عبد ربّ الكبير، ولم ينج منهم إلا القليل، وأخذ عسكرهم وما فيه، وبعث المهلّب إلى الحجاج مبشّرا. فلما دخل البشير إليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم، وأخبره عن بنى المهلب، فقال: المغيرة فارسهم وسيّدهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا، وجوادهم وشجاعهم «3» قبيصة، ولا يستحى الشجاع أن يفرّ من مدركه. وعبد الملك سمّ ناقع، وحبيب موت ذعاف «4» ، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة. قال: فأيهم كان أنجد؟
قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها.
ستحسن قوله: وكتب إلى المهلب يشكره، ويأمره أن يولّى كرمان من يثق إليه، ويجعل فيها من يحميها، ويقدم عليه، فاستعمل عليها ابنه يزيد. وسار إلى الحجاج.
فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يأهل العراق.(21/157)
أنتم عبيد المهلّب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادى فى صفة أمير الجيوش «1» :
فقلّدوا «2» أمركم لله درّكمو ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا «3»
مسهّد النّوم تعنيه ثغوركمو ... يروم منها إلى الأعداء مطّلعا
ما انفكّ يحلب هذا الدّهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتّبعا
وليس يشغله مال يثمّره ... عنكم ولا ولد يبغى له الرّفعا
حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السنّ لا قحما ولا ضرعا «4»
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء من أصحاب المهلّب وزادهم [والله أعلم «5» ] .(21/158)
ذكر مقتل قطرى بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة
كان مقتلهم فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما تشتّت أمرهم بسبب الاختلاف الذى ذكرناه، وسار قطرىّ نحو طبرستان ندب الحجاج سفيان بن الأبرد فى جيش كثيف، فسار، واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث فى جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلا فى طلب قطرى، فأدركوه فى شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، وسقط عن دابته فتدهده «1» إلى أسفل الشّعب، وأتاه علج من أهل البلد وهو لا يعرفه فقال [له] «2» قطرىّ:
اسقنى «3» الماء. فقال العلج: أعطنى شيئا. فقال: ما معى إلا سلاحى، وإن أتيتنى بالماء فهو لك، فانطلق العلج حتى أشرف على قطرى ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، فأصاب وركه «4» فأوهنه، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه.
وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه، منهم سورة بن أبجر «5» التميمى، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وعمر بن أبى الصلت، وكلّ هؤلاء ادّعى قتله، فجاءهم أبو الجهم(21/159)
ابن «1» كنانة، فقال: ادفعوا رأسه إلىّ حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد، وهو على أهل الكوفة، فأرسله معه إلى سفيان بن الأبرد، فبعثه معه إلى الحجاج، فسيّره معه إلى عبد الملك، فجعل عطاءه فى ألفين؛ ثم سار سفيان إليهم، وأحاط بهم وأميرهم عبيدة بن هلال، فأمر مناديا فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن، وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابّهم، ثم خرجوا إليه، وقاتلوه، فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحجاج، وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطرىّ وعبيدة، [فكان أولهم نافع ابن الأزرق، وآخرهم قطرى وعبيدة] «2» ، واتصل أمرهم بضعا وعشرين سنة، ثم دخل سفيان دنباوند «3» وطبرستان، فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
هذا ما كان من أمر الأزارقة، فلنذكر من سواهم من الخوارج أيام عبد الملك.(21/160)
ذكر خروج صالح بن مسرح التميمى وشبيب بن يزيد بن نعيم الشيبانى
قال: كان صالح بن مسرّح «1» التميمى رجلا ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عبادة، وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه، ويقصّ عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار المظالم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه إلى ذلك، فبينما هم فى ذلك إذ ورد عليهم «2» كتاب شبيب يقول [له] «3» : إنك كنت تريد الخروج، فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحدا، وإن أردت تأخير ذلك فأعلمنى؛ فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر منى المنيّة، ولم أجاهد الظّالمين.
فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعنى من الخروج إلا انتظارك، فاخرج إلينا، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور.
فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفرا من أصحابه؛ منهم أخوه مصاد «4» ابن يزيد، والمحلّل «5» بن وائل اليشكرى وغيرهم «6» ، وخرج بهم(21/161)
حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فو الله ما تزداد السّنة إلّا دروسا، ولا يزداد المجرمون إلّا طغيانا.
فبثّ صالح رسله، وواعد أصحابه للخروج هلال صفر سنة [76 هـ] ست وسبعين، فاجتمعوا عنده ليلة الموعد، فسأله بعض أصحابه عن القتال؛ أيكون قبل الدعاء أو بعده؟ فقال: بل ندعوهم، فإنه أقطع لحجّتهم. فقال: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا بهم، ما تقول فى دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قاتلنا فغنمنا فلنا، وإن عفونا فموسّع علينا.
ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره، وقال لهم: إن أكثركم رجّالة، وهذه دوابّ لمحمد بن مروان فابدءوا بها، فاحملوا عليها راجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم.
فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدوابّ، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصّن أهلها منهم وأهل نصيبين وسنجار «1» ، وكان خروجه فى مائة وعشرين، وقيل: وعشرة.
وبلغ ذلك محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة يومئذ، فأرسل إليهم عدىّ بن عدىّ الكندى فى ألف، فسار من حرّان، وكأنّه يساق إلى الموت، وأرسل عدىّ إلى صالح يسأله أن يخرج من هذه البلد، ويعلمه أنه يكره قتاله. وكان عدىّ ناسكا. فأعاد صالح إليه:
إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك. فأرسل إليه: إنى لا أرى رأيك، ولكنى أكره قتالك وقتال غيرك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا،(21/162)
فركبوا، وحبس الرسول «1» عنده ومضى. فأتى عديّا وهو يصلّى الضّحى، فلم يشعروا إلا والخيل فد طلعت عليهم، وهو على غير تعبئة، فحمل عليهم شبيب وهو على ميمنة صالح، وسويد بن سليم وهو على ميسرته؛ فانهزموا، وأتى عدىّ بدابّته فركبها، وانهزم. وجاء صالح فنزل فى معسكره، وأخذ ما فيه، ودخل أصحاب عدىّ على محمد ابن مروان فغضب على عدىّ. ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه فى ألف وخمسمائة، وبعث الحارث بن جعونة «2» فى ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة «3» ، وأغذّا السير، فأيّكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا متساندين يسألان عن صالح؛ فقيل:
إنه نحو آمد «4» ، فقصداه، فوجّه صالح شبيبا فى شطر [من] «5» أصحابه إلى الحارث، وتوجّه هو نحو خلد، فالتقيا، واقتتلوا وقت العصر أشدّ قتال حتى أمسوا، وقد كثر الجراح فى الفريقين، فلما حال بينهما الليل خرج صالح وأصحابه، فساروا حتى قطعوا أرض الجزيرة والموصل، وانتهوا إلى الدّسكرة «6» .
فلما بلغ خبرهم الحجاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة فى ثلاثة آلاف من أهل الكوفة، فلقيهم صالح فى تسعين رجلا، وذلك لثلاث(21/163)
عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، فاقتتلوا. فانهزم سويد بن سليم بميسرة صالح، وثبت صالح، فقاتل حتى قتل، وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلا فانكشفوا عنه، فنادى:
إلىّ يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كلّ واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا. ففعلوا ذلك، ودخلوا الحصن، وهم سبعون رجلا، وأحاط بهم الحارث، وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه. وكانت هذه الوقعة بقرية يقال لها المدبّج «1» .
ذكر بيعة شبيب بن يزيد الشيبانى ومحاربته الحارث بن عميرة وهزيمة الحارث
قال: ولما أحرق الحارث الباب على شبيب انصرف إلى عسكره وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه؛ فنصبّحهم غدا فنقتلهم.
فقال شبيب لأصحابه: ما تنتظرون؟ فو الله لئن صبّحكم هؤلاء إنّه لهلاككم. فقالوا: مرنا بأمرك. فقال: بايعونى أو من شئتم من أصحابكم، واخرجوا بنا إليهم، فإنهم آمنون، فبايعوه، وأتوا باللبود فبلّوها وجعلوها «2» على جمر الباب وخرجوا. فلم يشعر الحارث إلّا وهم بينهم بالسيوف، فصرع الحارث، فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن، وحوى شبيب عسكرهم، فكان ذلك أول جيش هزمه.(21/164)
ذكر الحروب بين أصحاب شبيب وعنزة
قال: ثم لقى شبيب سلامة بن سيّار «1» التّيمى، تيم شيبان، بأرض الموصل، فدعاه إلى الخروج معه فشرط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا ينطلق بهم نحو عنزة «2» ليوقع بهم، فإنهم كانوا قتلوا أخاه فضالة، وكان فضالة قد خرج فى ثمانيه عشر رجلا حتى نزل ماء يقال له الشجرة وبه «3» عنزة نازلون، فنهضت عنزة فقتلوه ومن معه وأتوا برءوسهم إلى عبد الملك فأنزلهم بانقيا «4» ، وفرض لهم، وكان خروج فضالة قبل خروج صالح، فأجابه شبيب فخرج حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيه خالته قد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فأخرجت ثديها [إليه] «5» وقالت: أنشدك ترحم «6» هذا يا سلامة.
فقال: [لا] »
والله ما رأيت فضالة مذ أناخ بأرض الشجرة «8» .
لتقومنّ عنه أو لأجمعنّكما بالرمح، فقامت عنه. فقتله.(21/165)
ذكر مسيرة شبيب إلى بنى شيبان وإيقاعه بهم ودخولهم معه
قال: ثم أقبل شبيب بخيله نحو راذان فهرب منه طائفة من بنى شيبان، ومعهم ناس قليل من غيرهم، فأقبلوا حتى نزلوا ديرا خرابا «1» إلى جنب حولايا «2» ، وهم نحو ثلاثة آلاف، وشبيب فى سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم فتحصّنوا منه فجعل أخاه مصاد بن يزيد يحاصرهم، وتوجّه إلى أمّه ليأخذها وهو فى اثنى عشر رجلا؛ فمرّ فى طريقه بجماعة من بنى [تيم بن] «3» شبيان فى أموالهم مقيمين؛ لا يرون أنّ شبيبا يمرّ بهم. ولا يشعر بمكانهم، فحمل عليهم فقتل ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد، ومضى إلى أمّه؛ وأشرف رجل من الدّير على أصحاب شبيب، فقال: يا قوم؛ بيننا وبينكم القرآن، قال الله تعالى «4» : «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»
. فكفّوا عنّا حتى نخرج إليكم بأمان وتعرضوا علينا أمركم، فإن قبلناه حرمت عليكم دماؤنا وأموالنا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم.
فأجابوهم فخرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، فقبلوه كلّه، فنزلوا إليهم، وجاء شبيب فأخبر بذلك، فقال:
أصبتم ووفّقتم.(21/166)
ذكر الوقعة بين شبيب وسفيان الخثعمى
قال: ثم ارتحل شبيب، وخرج معه طائفة، وأقامت طائفة؛ فسار فى أرض الموصل نحو أذربيجان. وكتب الحجاج إلى سفيان ابن أبى العالية الخثعمى يأمره بالقفول، وكان معه ألف فارس يريد أن يدخل بها طبرستان. فلما أتاه كتاب الحجاج صالح صاحب طبرستان ورجع، فأمره الحجاج أن ينزل الدّسكرة «1» حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمدانى وتأتيه خيل المناظر، ثم يسير إلى شبيب. فأقام بالدّسكرة ونودى فى جيش الحارث: الحرب بالكوفة والمدائن، فخرجوا حتى أتوا سفيان، وأتته خيل المناظر عليهم سورة «2» ابن أبجر التميمى، وكتب إليه سورة بالتوقّف حتى يلحقه، فعجل سفيان فى طلب شبيب، فلحقه بخانقين «3» وارتفع شبيب عنهم، وأكمن له أخاه مصادا فى خمسين رجلا، ومضى فى سفح الجبل، فقالوا:
هرب عدوّ الله، فاتّبعوه، فقال لهم عدىّ بن عميرة الشيبانى:
لا تعجلوا حتى تبصروا الأرض لئلا يكون قد أكمن بها كمينا، فلم يلتفتوا واتّبعوه، فلما جازوا الكمين عطف عليهم شبيب، وخرج أخوه فى الكمين، فانهزم الناس بغير قتال، وثبت سفيان فى نحو(21/167)
مائتين؛ فقاتلهم قتالا شديدا، ثم نجا حتى انتهى إلى بابل مهروذ «1» وكتب إلى الحجاج بالخبر، ويعرفه وصول الجند إلّا سورة بن أبجر فإنه لم يشهد معى القتال.
ذكر الوقعة بين شبيب وسورة
قال: ولما وصل كتاب سفيان إلى الحجّاج كتب إلى سورة ابن أبجر يلومه ويتهدّده، ويأمره أن ينتخب من المدائن خمسمائة فارس ويسير بهم وبمن معه إلى شبيب، فسار سورة بهم نحو شبيب، وشبيب فى جوخى «2» ، وسورة فى طلبه حتى انتهى إلى المدائن، فتحصن «3» منه وأخذ منها [دوابّ] «4» وقتل من ظهر له، وخرج حتى انتهى إلى النّهروان «5» فصلّوا وترحّموا على أصحابهم الذين قتلهم على رضى الله عنه وتبرءوا من علىّ وأصحابه. وبلغ سورة خبره، فجمع أصحابه وقال: إن شبيبا لا يزيد على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير فى ثلاثمائة من شجعانكم وآتيه، فأجابوه إلى ذلك، فسار فى ثلاثمائة نحو النّهروان، وأذكى شبيب الحرس، فلما دنا أصحاب سورة علموا بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبّئوا تعبئتهم للحرب؛ فلما انتهى إليهم سورة رآهم قد حذروا،(21/168)
فحمل عليهم فثبتوا له، وصاح شبيب بأصحابه فحملوا عليهم وشبيب يقول «1» :
من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكّتا اصطكاكا
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمّل بهم، وأقبل نحو المدائن، فتبعه شبيب يرجو أن يدركه، فوصل إليهم، وقد دخل الناس المدائن، فمرّ على كلواذا «2» ، فأصاب بها دوابّ كثيرة للحجاج، فأخذها ومضى إلى تكريت، وأرجف الناس بالمدائن بوصول شبيب إليهم، فهرب من بها من الجند نحو الكوفة، وحبس الحجاج سورة ثم أطلقه.
ذكر الحرب بين شبيب والجزل بن سعيد وقتل سعيد بن مجالد
قال: ولما قدم الفلّ «3» الكوفة سيّر الحجاج الجزل بن سعيد ابن شرحبيل الكندى، واسمه عثمان، نحو شبيب، وأوصاه بالاحتياط وترك العجلة، وأخرج معه أربعة آلاف ليس فيهم أحد ممن هزم، فقدّم الجزل بين يديه عياض بن أبى لينة «4» الكندى، فساروا فى طلب شبيب وهو يخرج من رستاق إلى رستاق، يقصد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه فيلقاه وهو على غير تعبئة، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على نفسه.
فلما طال ذلك على شبيب دعا أصحابه وكانوا مائة وستين رجلا،(21/169)
ففرّقهم أربع فرق كل فرقة أربعين، فجعل أخاه مصادا فى أربعين، وسويد بن سليم فى أربعين، والمحلّل «1» بن وائل فى أربعين، وبقى هو فى أربعين. وأتته عيونه، فأخبروه أن الجزل يريد «2» يزدجرد، فسار شبيب، وأمر كلّ رأس من أصحابه أن يأتى الجزل من جهة ذكرها له، وقال: إنى أريد أن أبيّته «3» ، فسار أخوه فانتهى إلى دير الخرّارة، فرأى للجزل مسلحة مع ابن أبى لينة، فحمل عليهم مصاد فيمن معه، فقاتلوه ساعة، ثم اندفعوا بين يديه، وقد أدركهم شبيب، فقال: اركبوا أكتافهم لتدخلوا عليهم عسكرهم إن استطعتم.
فاتبعوهم فانتهوا إلى عسكرهم، فمنعهم أصحابهم من دخول خندقهم، وكان للجزل مسالح أخرى فرجعت، فمنعهم من دخول الخندق، وجعل شبيب يحمل على المسالح حتى اضطرهم إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنّبل. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم «4» سار عنهم وتركهم، ثم نزل هو وأصحابه فاستراحوا، ثم أقبل بهم راجعا إلى الجزل، فأقبلوا وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم وأمنوا، فما شعروا إلّا بوقع حوافر الخيل، فانتهوا إليهم قبل الصبح، وأحاطوا بعسكرهم من جهاته الأربع، ثم انصرف شبيب وتركهم، ولم يظفر بهم، فنزل على ميل ونصف، ثم صلّى الغداة وسار نحو جرجرايا «5» ، وأقبل الجزل فى طلبهم على تعبئته، وسار شبيب(21/170)
فى أرض الجوخى «1» وغيرها، فطال ذلك على الحجّاج، فكتب إلى الجزل ينكر عليه إبطاءه ويأمره بمناهضتهم، فجدّ فى طلبهم وبعث الحجاج سعيد بن المجالد على جيش الجزل، وأمره بالجدّ فى قتال شبيب وترك المطاولة، فوصل سعيد إلى الجزل وهو بالنّهروان وقد خندق عليه، فقام فى العسكر ووبّخهم وعجزهم.
ثم خرج، وأخرج معه الناس، وضمّ إليه خيول أهل العسكر ليسير بهم جريدة «2» إلى شبيب ويترك الناس «3» مكانهم، فنهاه الجزل عن ذلك، فلم ينته ولم يرجع إليه، وتقدّم ومعه الناس، وأخذ شبيب إلى قطيطيا «4» ، فدخلها وأغلق الباب، وأمر دهقانها «5» أن يصلح لهم غداء، فلم يتهيّأ الغداء حتى أتاه سعيد فى ذلك الجيش، فأعلم الدّهقان شبيبا، فقال: لا بأس، قرّب الغداء، فقرّبه فأكل وتوضّأ وصلّى ركعتين، وركب بغلا، وخرج إلى سعيد وهو على باب المدينة فحمل عليهم، وقال: لا حكم إلا للحكم، فهزمهم وثبت سعيد، ونادى أصحابه، فحمل عليه شبيب، فضربه بالسيف فقتله، فانهزم ذلك الجيش، وقفلوا حتى انتهوا إلى الجزل، وكان قد وقف فى بقيّة العسكر، فناداهم: أيها الناس، إلىّ إلىّ، وقاتل قتالا شديدا حتى حمل جريحا، وقدم المنهزمون الكوفة.(21/171)
وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر، وأقام بالمدائن، فكتب إليه الحجاج يشكره ويثنى عليه، وأرسل إليه نفقة ومن يداوى جراحه.
وسار شبيب نحو المدائن فعلم أنه لا سبيل إلى أهلها؛ فأقبل حتى أتى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وأرسل إلى أهل سوق بغداد فأمّنهم، وكان يوم سوقهم، واشترى أصحابه دوابّ وغيرها.
ذكر مسير شبيب إلى الكوفة
قال: ثم سار شبيب إلى الكوفة فنزل عند حمّام «1» عمر ابن سعد «2» ، فلما بلغ الحجاج مكانه بعث سويد بن عبد الرحمن السّعدى فى ألفى رجل، وقال له: ألق شبيبا فإن استطرد لك فلا تتبعه.
فخرج وعسكر بالسبخة «3» ، فبلغه أنّ شبيبا قد أقبل، فسار نحوه وأمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس فى السّبخة، فبينا سويد يعبىء أصحابه إذ قيل له: أتاك شبيب؛ فنزل ونزل معه جلّ أصحابه، ثم أخبر أنه قد عبر الفرات وهو يريد الكوفة من وجه آخر، فركب هو ومن معه، وساروا فى آثارهم، وبلغ من بالسبخة إقبال شبيب فهمّوا بدخول الكوفة، ثم قيل لهم: إن سويدا فى آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم، فثبتوا، وحمل شبيب على سويد ومن معه حملة منكرة، ثم أخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وذلك عند المساء، وتبعه سويد إلى الحيرة، فرآه قد ترك وذهب، فتركه سويد وأقام حتى أصبح. وأرسل إلى الحجاج يعلمه الخبر.(21/172)
ذكر محاربة شبيب أهل البادية
قال: وكتب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه، فاتّبعه، ومضى شبيب حتى أغار أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع إلى البر فأصاب رجالا من بنى الورثة «1» ، فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم:
حنظلة بن مالك، ومالك بن حنظلة، ومضى حتى أتى بنى أمية على اللّصف «2» ، وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بنى الصلت، وكان ينهى شبيبا عن رأيه، وكان شبيب يقول:
لئن ملكت سبعة أعنّة لأغزونّ الفزر، فلما بلغهم خبر شبيب ركب الفزر فرسا، وخرج من البيوت وانهزم. فرجع شبيب، وقد أخاف أهل البادية، فأخذ على القطقطانة «3» ثم على قصر بنى مقاتل، ثم على الأنبار، ومضى حتى دخل دقوقاء «4» ، ثم ارتفع إلى أدانى أذربيجان، فلما أبعد سار الحجاج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة «5» بن شعبة، فأتاه الخبر بإقبال شبيب نحو الكوفة، فكتب إلى الحجاج بذلك، فأقبل من البصرة مجدّا نحو الكوفة فسابق «6» شبيبا إليها.(21/173)
ذكر دخول شبيب الكوفة
قال: وأقبل شبيب إلى الكوفة فسابق «1» الحجاج إليها، فطوى الحجاج المنازل، فوصل الكوفة صلاة العصر، ونزل شبيب السّبخة صلاة المغرب، فأكلوا شيئا ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة وبلغوا السّوق، وضرب شبيب باب القصر بعموده، فأثّر فيه أثرا عظيما، ووقف عند المصطبة، ثم قال «2» :
عبد دعىّ من ثمود أصله ... لابل يقال أبو أبيهم يقدم
يعنى الحجاج، فإنّ بعض الناس يقول: إن ثقيفا بقايا ثمود، ومنهم من يقول: هم من نسل يقدم الإبادى.
ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتاوا عقيل بن مصعب الوادعىّ، وعدىّ بن عمرو الثقفى، وأبا ليث ابن أبى سليم؛ ومرّوا بدار حوشب وهو على الشّرط- فقالوا: إن الأمير يطلبه، فأراد الركوب، ثم أنكرهم فلم يخرج إليهم، فقتلوا غلامه.
ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فرأوا ذهل بن الحارث فقتلوه، ثم خرجوا من الكوفة، فاستقبلهم النّضر بن القعقاع بن شور «3» الذّهلى، وكان قد أقبل مع الحجاج من البصرة، فتخلّف عنه فقتلوه، ثم خرجوا نحو المردمة «4» ، وأمر الحجاج مناديا فنادى: يا خيل الله(21/174)
اركبى؛ فأتاه الناس من كل جانب، فبعث بشر بن غالب الأسدى فى ألفى رجل، وزائدة بن قدامة الثقفى فى ألفى رجل، وأبا الضّريس مولى بنى تميم فى ألفى رجل، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وزياد ابن عمرو العتكى، وسيّر معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، وكان عبد الملك قد استعمله على سجستان، وكتب إلى الحجاج أن يجهّزه، فقال له الحجاج: تلقى شبيبا فتجاهده، فيكون الظّفر لك، ويظهر «1» اسمك ثم تمضى إلى عملك.
وقال الحجاج لهؤلاء الأمراء: إن كان حرب فأميركم زائدة ابن قدامة. فساروا فنزلوا أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذى هم فيه وأخذ نحو القادسيّة.
ذكر محاربة شبيب زحر بن قيس وهزيمة جيش زحر «2»
قال: ووجّه الحجاج جريدة خيل اختارهم ألف وثمانمائة فارس مع زحر بن قيس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه أين أدركته إلا أن يكون ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك؛ فخرج زحر حتى انتهى إلى السّيلحين «3» ، وأقبل شبيب نحوه فالتقيا، فجمع شبيب خيله، ثم اعترض بهم الصفّ حتى انتهى إلى زحر، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه وظنّوا أنهم قتلوه، فلما كان السّحر قام يمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة، فمكث أياما. ثم أتى الحجاج فأجلسه معه على السرير،(21/175)
وقال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى فى الناس فلينظر إلى هذا.
ذكر محاربته الأمراء الذين ندبهم الحجّاج لقتاله وقتال «1» محمد بن موسى بن طلحة وزائدة بن قدامة
قال: لما هزم شيب أصحاب زحر قال له أصحابه نصرف بنا الآن وافرين، فقد هزمنا لهم جندا. فقال: إن هذه الهزيمة قد أرعبت قلوب الأمراء والجنود الذين فى طلبكم؛ فاقصدوهم، فو الله لئن قاتلناهم مادون الحجاج مانع «2» ، ونأخذ الكوفة إن شاء الله.
فقالوا: نحن لرأيك تبع، وسأل عن الأمراء فقيل: إنهم بروذبار «3» على أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة؛ فقصدهم فانتهى إليهم وقد تعبّئوا للحرب، وأمير الجماعة زائدة بن قدامة، وعلى ميمنته زياد بن عمرو العتكى، وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدى، وكلّ أمير واقف فى أصحابه.
وأقبل شبيب فى ثلاث كتائب: كتيبة فيها سويد بن سليم وقف بإزاء الميمنة، وكتيبة فيها مصاد أخو شبيب وقف بإزاء الميسرة، ووقف شبيب مقابل القلب. فحمل سويد على زياد فانكشف أهل الميمنة، وثبت زياد فى نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم حمل ثانية فتطاعنوا ساعة، واقتتلوا أشدّ قتال،(21/176)
ثم ارتفع سويد عنهم، فتفرّق أصحاب زياد بن عمرو من كل جانب، فحمل عليهم الثالثة فانهزموا وأخذت السيوف زياد بن عمرو من كل جانب [فلم تضره للباسه «1» ] ، فانهزم «2» وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء، ثم حملوا على عبد الأعلى بن عبد الله ابن عامر، فهزموه، ولم يقاتل كثيرا، ولحق بزياد؛ فمضيا منهزمين.
وحملت الخوارج على محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلوه قتالا شديدا، وحمل مصاد على بشر بن غالب، وهو فى ميسرة أهل الكوفة، فصبر بشر، ونزل ونزل معه نحو خمسين رجلا، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وانهزم أصحابه، وحملت الخوارج على أبى الضّريس مولى بنى تميم، وهو يلى بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم حملوا عليه وعلى أعين، فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فنادى زائدة: يأهل الإسلام؛ الأرض، الأرض، لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم عامة الليل حتى كان السّحر، ثم إن شبيبا حمل عليه فى جماعة من أصحابه، فقتله وقتل أصحابه، فلما قتل دخل أبو الضّريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عنهم، وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم «3» إلى البيعة عند الفجر، فبايعوه وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، وكان فيمن بايعه أبو بردة بن أبى موسى(21/177)
الأشعرى، فلما طلع الفجر أمر محمد بن موسى بن طلحة مؤذّنه فأذّن، وكان لم ينهزم. فقال شبيب: ما هذا؟ قالوا: محمد بن موسى لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه يحمله على هذا.
ثم نزل شبيب فأذّن هو وصلّى بأصحابه الصبح، ثم ركبوا فحملوا على محمد وأصحابه، فانهزمت طائفة منهم، وثبتت معه طائفة، فقاتل حتى قتل، وأخذت الخوارج ما فى العسكر، وانهزم الذين كانوا بايعوا شبيبا بجملتهم، ثم أتى شبيب الجوسق الذى فيه أعين وأبو الضّريس فتحصّنوا منه، فأقام عليهم يومه ذلك، وسار عنهم فأتى خانيجار «1» فأقام بها، وبلغ الحجاج مسيره، فظنّ أنه يريد المدائن، فهاله ذلك، فبعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن وعزل عنها عبيد الله بن أبى عصيفير «2» .
وقيل فى مقتل محمد بن موسى: أنه قتله مبارزة، وذلك أنه كان شهد مع عمر بن عبيد الله بن معمر قتال أبى فديك، وكان شجاعا ذا بأس، فزوّجه عمر ابنته، وكانت أخته تحت عبد الملك ابن مروان، فولّاه سجستان، فمرّ بالكوفة وفيها الحجاج، فقيل له:
صار هذا بسجستان مع صهره لعبد الملك، فلو لجأ إليه أحد ممن يطلب «3» منعك منه. قال: فما الحيلة؟ قال: تأتى إليه، وتسلّم(21/178)
عليه، وتذكر نجدته وبأسه، وأنّ شبيبا فى طريقه، وأنه قد أعياك، وترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكره وفخره.
ففعل الحجاج ذلك، فأجابه محمد، وعدل إلى شبيب، فأرسل إليه شبيب إنّك مخدوع، وإن الحجاج قد اتّقى بك، وأنت جار لك حقّ، فانطلق لما أمرت به ولك الله أنى لا أضرك «1» . فأبى إلّا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد عليه الرسول، فأبى وطلب البراز فبرز إليه شبيب، وقال له: أنشدك الله فى دمك؛ فإنّ لك جوارا، فأبى. فحمل عليه شبيب فضربه بعمود حديد زنته اثنا عشر رطلا بالشامى، فهشم البيضة ورأسه، فسقط فكفّنه شبيب ودفنه، وابتاع ما غنمه من عسكره فبعثه إلى أهله واعتذر شبيب إلى أصحابه، وقال: هو جارى، ولى أن أهب ما غنمت.
ذكر محاربته «2» عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعثمان بن قطن وقتل ابن قطن
قال: ثم إن الحجّاج أمر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أن ينتخب ستة آلاف فارس ويسير بهم فى طلب شبيب أين كان، ففعل ذلك، وسار نحوه، فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور «3» ، وعبد الرحمن فى طلبه حتى انتهى إلى التّخوم، فوقف وقال: هذه أرض الموصل، فليقاتلوا عنها.(21/179)
فكتب إليه الحجاج: أما بعد فاطلب شبيبا واسلك فى أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده.
فخرج عبد الرحمن فى طلبه، فكان شبيب يدعه حتى يدنو منه فيبيّته فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيتركه [ويسير] «1» فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغ شبيبا مسيرهم أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبئة فلا يصيب لهم غرّة، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخا، ونحوها، وينزل فى أرض خشنة غليظة، ويتبعه عبد الرحمن، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى أتعب ذلك الجيش، وشقّ عليهم «2» ، وأحفى دوابّهم.
ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين «3» وجلولاء وتامرّا «4» ، ثم أقبل إلى البتّ، وهى من قرى الموصل ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا، وذلك فى عشر ذى الحجة سنة [76 هـ] ست وسبعين، فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن:
إن هذه أيام عيد لنا ولكم [يعنى عيد النّحر] «5» ، فهل لك فى الموادعة حتى تمضى هذه الأيام؟ فأجابه إلى ذلك، وكان يحبّ المطاولة.
وكتب عثمان بن قطن أمير المدائن إلى الحجاج يقول: أما بعد(21/180)
فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وكسر خراجها، وخلّى شبيبا يأكل أهلها. والسلام.
فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش، وأمّره عليهم، وعزل عنهم عبد الرحمن، وبعث إلى المدائن مطرّف بن المغيرة ابن شعبة، فسار عثمان حتى قدم على العسكر عشيّة الثلاثاء يوم التّروية؛ فنادى الناس- وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوّكم، فقالوا: هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطّنوا أنفسهم على الحرب، فبت الليلة ثم اخرج على تعبئة، فأبى ذلك، ثم نزل وبات ليلته يحرّض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلّهم، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فقال له أصحابه: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج يوم الخميس، ثم «1» عبّأهم، فجعل فى الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شدّاد، ونزل هو فى الرجّالة، وعبر شبيب إليهم النهر، وهو يومئذ فى مائة وأحد وثمانين رجلا، فوقف هو فى الميمنة، وجعل أخاه مصادا فى القلب، وجعل سويد بن سليم فى الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض، فحمل شبيب على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل مالك ابن عبد الله الهمدانى، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها، فقاتل خالد بن نهيك قتالا شديدا، وحمل شبيب من ورائه فقتله، وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء(21/181)
وأشراف الناس والفرسان نحو القلب وفيه مصاد أخو شبيب فى نحو من ستّين رجلا، فشدّ عليهم عثمان فيمن معه فثبتوا له.
وحمل شبيب بالخيل من ورائهم فما شعروا إلّا والرّماح فى أكتافهم تكبّهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم فى خيله، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم أحاطوا به، وضربه مصاد بن يزيد ضربة بالسيف استدار لها وقال «1» : «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» *.
ثم قتل، وسقط عبد الرحمن عن فرسه، فأتاه ابن أبى سبرة الجعفى وهو على بغلة فأركبه معه، ونادى فى الناس: الحقوا بدير «2» أبى مريم، ثم انطلقا «3» ذاهبين، ثم أتاه واصل [بن الحارث] «4» السكونى ببرذون فركبه وسار حتى نزل دير البقار «5» ، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه، وقتل يومئذ من كندة مائة وعشرون، وبات عبد الرحمن بدير البقّار «6» ، فأتاه فارسان، فصعدا إليه فخلا به أحدهما طويلا ثم نزلا؛ فقيل: إن ذلك الرجل كان شبيبا، وكان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبى مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة.
فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجّاج حتى أخذ له الأمان منه، وكانت هذه الوقائع التى ذكرناها كلّها من أخبار شبيب فى سنة ست وسبعين.(21/182)
ذكر محاربة «1» عتاب بن ورقاء وزهرة بن حويّة «2» وقتلهما
وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين أتى شبيب ماه بهراذان «3» فصيّف بها ثلاثة أشهر، وكان حين هزم ذلك الجيش حرّ شديد، فلما صيّف هناك أتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممّن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات.
فلما ذهب الحرّ خرج فى نحو ثمانمائة رجل، فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرّف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة ابن اليمان، فكتب مهروذ عظيم بابل إلى الحجّاج بذلك، فقام الحجّاج فى الناس فقال: أيها الناس، لتقاتلن عن بلادكم وعن بنيكم «4» أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأصبر على الّلأواء والقيظ منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم.
فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا: نحن نقاتلهم فليندبنا الأمير إليهم، وقام زهرة بن حويّة- وهو شيخ كبير، فقال: أصلح الله الأمير، إنما تبعث إليهم الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث إليهم رجلا شجاعا مجرّبا ممن يرى الفرار [هضما] و «5» عارا، والصّبر مجدا وكرما.(21/183)
فقال الحجاج: فأنت ذاك الرجل، فاخرج.
فقال: أصلح الله الأمير، إنما يصلح رجل يحمل الدّرع والرمح، ويهزّ السيف، ويثبت على الفرس، وأنا لا أطيق شيئا من هذا، وقد ضعف بصرى، ولكن أخرجنى فى الناس مع الأمير فأشير عليه برأيى.
فقال له الحجاج: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله فى أوّل أمرك وآخره.
ثم قال: أيها الناس، سيروا بأجمعكم كافّة؛ فخرج الناس يتجهّزون ولا يدرون من أميرهم.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أنّ شبيبا قد شارف المدائن؛ وأنه يريد الكوفة، وقد عجز أهلها عن قتاله فى مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جندهم؛ وسأله أن يبعث جندا من الشام يقاتلون الخوارج، ويأكلون البلاد. فبعث عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبى فى أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ألفين، وبعث الحجاج إلى عتّاب بن ورقاء يستدعيه، وكان يقاتل الازارفة مع المهلّب كما تقدم.
واستشار الحجاج أهل الكوفة فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا:
رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة؛ فقال زهرة: رميتهم بحجرهم، والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. وقال له قبيصة بن والق: إنّ الناس قد تحدثوا أنّ جيشا قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم؛ فإن رأيت أن تبعث(21/184)
إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم، فإنك تحارب حوّلا قلّبا ظعّانا «1» رحالا، وقد جهّزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقا بهم كلّ الثقة، فإن شبيبا بينا هو فى أرض إذا هو فى أخرى، ولا آمن أن يأتى أهل الشام وهم آمنون؛ فإن يهلكوا تهلك «2» ويهلك أهل العراق.
فقال: لله أبوك، ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذّرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر «3» ، ففعلوا، وقدم عتّاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمّام أعين «4» ، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا «5» فقطع منها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير «6» الدنيا، وهى المدائن الغربية، فصار بينه وبين مطرّف دجلة، فقطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلىّ رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن وأنظر فيما يدعون «7» إليه، فبعث إليه بمعتّب «8» بن سويد والمحلّل وغيرهما، وأخذ منه رهائن على عود أصحابه، فأقاموا عنده أربعة أيام، ثم أعادهم، ولم يتفقوا، فلما لم يتبعه مطرّف تهيّأ(21/185)
للمسير إلى عتّاب. وأقبل عتّاب حتى نزل بسوق حكمة «1» وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفا. وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: ألا إن للسائر المجدّ الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذى لا إله غيره لئن فعلتم فى هذا الموطن كفعلكم فى غيره من المواطن لأولينّكم كنفا «2» خشنا، ولأعركنّكم بكلكل ثقيل.
وسار شبيب من المدائن وأصحابه ألف رجل، فتخلّف عنه بعضهم، فصلّى الظهر بساباط، وصلّى العصر، وسار حتى أشرف على عتّاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلّى المغرب؛ وكان عتّاب قد عبّأ أصحابه، فجعل فى الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وفى الميسرة نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعى- وهو ابن عمه على الرجّالة، وصفّهم ثلاثة «3» صفوف: صفّ فيهم أصحاب السيوف، وصفّ فيهم أصحاب الرماح، وصفّ فيهم الرّماة، ثم سار فى الناس يحرّضهم على القتال، ورجع فجلس فى القلب، ومعه زهرة بن حويّة جالس، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وأبو بكر ابن محمد بن أبى جهم العدوى.
وأقبل شبيب وهو فى ستمائة، وقد تخلّف عنه من أصحابه أربعمائة؛ فجعل سويد بن سليم فى الميسرة فى مائتين، والمحلّل بن وائل فى القلب فى مائتين، ووقف هو فى الميمنة فى مائتين، وذلك بين المغرب والعشاء(21/186)
الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ قالوا: لربيعة.
قال: طالما نصرت الحقّ، وطالما نصرت الباطل؛ والله لأجاهدنّكم محتسبا، أنا شبيب، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم.
ثم حمل عليهم ففضّهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق، وعبيد بن الحليس، ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها، ثم حمل شبيب على عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتلهم فى رجال من تميم وهمدان؛ فما زالوا كذلك حتى قيل لهم: قتل عتّاب، فانفضّوا «1» .
ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسته «2» فى القلب ومعه زهرة بن حويّة حتى غشيهم شبيب، فقال عتّاب: يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه! ألا مواس بنفسه! فانفضّوا عنه وتركوه، فلما دنا منه شبيب وثب فى عصابة قليلة صبرت معه؛ وقاتل ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمرو التغلبى، فحمل عليه فطعنه، وجاء الفضل بن عامر الشيبانى إلى زهرة فقتله، وتمكّن «3» شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف. ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من ليلتهم، وحوى ما فى العسكر.
وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة(21/187)
فنزل بسورا «1» . وقتل عاملها، وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدّوا ظهر الحجاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة، وقام على المنبر فقال: يأهل الكوفة، لا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد بكم النّصر، اخرجوا عنّا فلا تشاهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا الحيرة مع اليهود والنصارى، ولا يقاتل معنا إلّا من لم يشهد قتال عتّاب.
ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها
قال: ثم سار شبيب من سورا فنزل حمّام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفى، فوجّهه فى ناس من الشّرط وغيرهم لم يشهدوا يوم عتّاب، فخرجوا فى ألف فنزلوا زرارة «2» ، فبلغ ذلك شبيبا، فعجل إلى الحارث، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله، وانهزم أصحابه، فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة فأقام ثلاثا، فنزل السّبخة، وابتنى بها مسجدا، وذلك فى اليوم الثانى من الأيام الثلاثة.
فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف «3» ومعه غلمان «4» له، فقالوا: هذا الحجاج! فحمل عليه شبيب فقتله، فأخرج إليه غلامه طهمان فى مثل تلك العدّة والحالة، فقتله شبيب، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.(21/188)
ثم خرج الحجاج عند ارتفاع النهار من القصر، فركب بغلا ومعه أهل الشام، فلما رأى الحجاج شبيبا وأصحابه نزل وجلس على كرسىّ، وتقدّم إليه شبيب وأصحابه فلقوهم بأطراف الأسنّة؛ فكان بينهم قتال شديد عامّة النهار، حتى انتهى الحجاج إلى مسجد شبيب، فقال: هذا أوّل الفتح.
ثم قال خالد بن عتّاب للحجاج: ائذن لى فى قتالهم، فإنى موتور. فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة، فقصد عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل امرأته [غزالة] «1» ، هذا وشبيب يقاتل الحجاج، وأتى الخبر الحجاج فكبّر فعندها ركب شبيب وكان قد نزل فقاتل على الأرض، وقال الحجاج لأصحابه: احملوا عليهم، فإنه قد أتاهم ما أرعبهم؛ فشدّوا على أصحاب شبيب فهزموهم، وثبت شبيب فى حامية الناس، فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج الكوفة، وبعث حبيب بن عبد الرحمن الحكمى فى ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام، فخرج فى أثره حتى نزل إلى الأنبار.
وكان الحجاج قد نادى عند انهزام شبيب: من جاءنا منكم فهو آمن؛ فتفرّق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلّى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعا، وقال: ليمنع كلّ ربع منكم جانبه فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم «2» الربع الاخر. وأتاهم شبيب وهو على تعبئته فحمل [على] «3» ربع، فقاتلهم طويلا، فما زالت قدم إنسان عن موضعها(21/189)
فتركهم، وأقبل إلى ربع آخر، فكانوا كذلك، وقاتل الربع الثالث والرابع وهم كذلك، فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا، فسقطت بينهم «1» الأيدى وكثرت القتلى، وفقئت الأعين، وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلا، ومن أهل الشام نحو مائة. واستولى التّعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئا، فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم، ثم قطع دجلة وأخذ فى أرض جوخى ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط، وأخذ نحو الأهواز إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح هو ومن معه.
ذكر مهلك شبيب
كان مهلك شبيب فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وسبب ذلك أن الحجاج أنفق فى أصحاب سفيان بن الأبرد مالا عظيما، وأمرهم بقصد شبيب، فساروا نحوه مع سفيان بن الأبرد، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته- وهو عامله على البصرة- أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة، ففعل وسيّرهم مع زياد بن عمرو العتكى، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب. وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى استراح وأراح، ثم أقبل راجعا فالتقى مع سفيان بجسر «2» دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان فوجده قد نزل فى الرجال، وجعل مهاصر بن سيف «3» على الخيل، وأقبل(21/190)
شبيب فى ثلاثة كراديس «1» ، فاقتتلوا أشدّ قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذى كان فيه، ثم حمل عليه هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، وأهل الشام على حالهم فى ثبات القدم، ومازلوا يقاتلون الخوارج حتى اضطرّوهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة رجل؛ فقاتلوا حتى المساء، وأوقعوا بأهل الشام من الضّرب والطعن ما لم يروا مثله، فأمر سفيان الرّماة أن يرموهم فتقدّموا، ورموهم ساعة، فحمل شبيب وأصحابه على الرّماة، فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظّلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم.
فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه، وتخلّف فى آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان وبين يديه حجر «2» ، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت تحته، ونزل حافر رجل حصانه على حرف السفينة، فسقط فى الماء، فلما سقط قال: ليقضى الله أمرا كان مفعولا. وانغمس «3» فى الماء، ثم ارتفع، وقال: ذلك تقدير العزيز العليم. وغرق.
قال: وكان أهل الشام قد عزموا على الانصراف، فأتاهم صاحب(21/191)
الجسر، فقال لسفيان: إنّ رجلا منهم وقع فى الماء، فتنادوا بينهم:
غرق أمير المؤمنين. ثم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبّر سفيان وكبّر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى المعسكر، وإذا «1» ليس فيه أحد، وإذا هو أكثر العساكر خيرا، ثم استخرجوا شبيبا فشقّوا جوفه، وأخرجوا قلبه؛ فكان صلبا كأنه صخرة، فكان يضرب به الصّخرة فينبو «2» عنها قامة إنسان.
قال: وكان شبيب ينعى لأمه فيقال لها: قتل، فلا تقبل ذلك.
فلما قيل لها غرق صدّقت ذلك، وقالت: إنى رأيت حين ولدته أنه خرج منّى شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلّا الماء، وكانت أمّه جارية رومية اشتراها أبوه فأولدها شبيبا سنة [25 هـ] خمس عشرين يوم النّحر، وقالت: إنى رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلى شهاب نار، فذهب ساطعا إلى السماء، وبلغ الآفاق كلّها، فبينا هو كذلك إذ وقع فى ماء كثير فخبا، وقد ولدته فى يومكم الذى تهريقون فيه الدّماء، وقد أوّلت ذلك أنّ ولدى يكون صاحب دماء وأنّ أمره سيعلو ويعظم سريعا.(21/192)
ذكر خروج مطرف بن المغيرة ابن شعبة ومقتله
كان خروجه وقتله فى سنة [77 هـ] سبع وسبعين، وذلك أنه لما قدم الحجّاج العراق استعمل أولاد المغيرة على أعماله لشرفهم ومنزلتهم من قومهم، واستعمل عروة [بن المغيرة] «1» على الكوفة، ومطرّفا على المدائن، وحمزة على همذان، فكانوا على أعمالهم أحسن الناس سيرة، وأشدّهم على المريب، وكان المطرّف على المدائن لما خرج شبيب، وقد ذكرنا أن المطرّف أرسل يستدعى منه أن يسيّر إليه من أصحابه من يدارسه ويسمع منه، وأنه سيّر إليه جماعة، ولم يحصل بينهم اتّفاق، وكان ممّا تكلّموا فيه أنّ المطرّف سألهم عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأنّ الذى نقمنا على «2» قومنا الاستئثار بالفىء وتعطيل الحدود والتسلّط بالجبرية، فقال لهم مطرّف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلّا جورا ظاهرا، أنا لكم متابع «3» ، فبايعونى «4» على ما أدعوكم إليه: أن نقاتل هؤلاء الظّلمة على أحداثهم، وندعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمّرون من يرضون «5» على مثل الحال التى تركهم عليها عمر بن الخطاب،(21/193)
فإنّ العرب إذا علمت أنها إنما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم.
فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وفارقوه، وأحضر مطرّف نصحاءه «1» وثقاته، فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك، وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم، وأنه يرى ذلك دينا لو وجد عليه أعوانا، وذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب، وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل.
فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد ابن أبى زياد مولى أبيه: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت فى السحاب «2» لا لتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنّجاء النّجاء.
فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، ثم دعا أصحابه الذين لم يعلموا بحاله إلى ما عزم عليه، فبايعه بعضهم، ورجع عنه بعضهم، وسار نحو حلوان وبها سويد بن عبد الرحمن السعدى من قبل الحجاج، [فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج] «3» ، فأوقع مطرّف بالأكراد فقتل منهم، وسار.
فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار، وأرسل إلى أخيه حمزة يستمدّه بالمال والسلاح، فأرسل إليه ما طلب(21/194)
سرّا، وسار مطرّف حتى بلغ قمّ «1» وقاشان، وبعث عماله على تلك النواحى، وأتاه الناس.
وكان ممّن أتاه سويد بن سرحان الثقفى، وبكير بن هارون النّخعى «2» ، من الرىّ فى نحو مائة رجل، وكتب البراء بن قبيصة- وهو عامل الحجاج على أصفهان- إليه يعرّفه حال المطرّف ويستمدّه، فأمدّه بالرجال بعد الرجال على دوابّ البريد.
وكتب الحجّاج إلى عدىّ بن زياد «3» عامل الرىّ يأمره بقصد مطرّف، وأن يجتمع هو والبراء على محاربته، فسار عدىّ من الرّىّ واجتمع هو والبراء وعدى الأمير، واجتمعوا فى نحو ستة آلاف مقاتل.
وكان حمزة بن المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره، وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلى، وهو على شرطة حمزة بعهده على همذان، ويأمره أن يقبض على حمزة ابن المغيرة؛ فسار قيس بن سعد إلى حمزة فى جماعة من عشيرته فأقرأه العهد بولايته، وكتاب الحجّاج بالقبض عليه، فقال:
سمعا وطاعة. فقبض قيس عليه وسجنه، وسار عدىّ والبراء نحو مطرّف فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب مطرّف وقتل هو وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمر «4» بن هبيرة الفزارى، وكان الحجاج يقول: إن مطرّفا ليس بولد المغيرة بن شعبة، إنما هو(21/195)
ولد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وكان مصقلة والمغيرة يدّعيانه، فألحق بالمغيرة، وجلد مصقلة الحدّ، فلما أظهر رأى الخوارج قال الحجاج ذلك، لأنّ كثيرا من ربيعة كانوا خوارج «1» ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان.
انتهت أخبار الخوارج فلنذكر الغزوات فى خلافة عبد الملك
ذكر الغزوات والفتوحات فى أيام عبد الملك بن مروان على حكم السنين
فى سنة [71 هـ] إحدى وسبعين افتتح عبد الملك قيساريّة فى قول الواقدى.
وفى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين غزا محمد بن مروان الروم صائفة، فهزمهم، وفيها كانت وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وهو فى أربعة آلاف، والروم فى ستين ألفا، فهزمهم وأكثر فيهم القتل.
وفى سنة [74 هـ] أربع وسبعين غزا عبد الله بن أمية رتبيل «2» من سجستان، وكان رتبيل هائبا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست «3» راسله رتبيل فى طلب الصلح، وبذل ألف ألف، وبعث إليه بهدايا ورقيق، فأبى عبد الله قبول ذلك، وقال: إن ملأ لى هذا الرّواق ذهبا وإلّا فلا صلح، وكان غرّا، فخلّى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، وأخذ عليه الشّعاب والمضايق [وطلب أن يخلّى عنه(21/196)
وعن المسلمين] «1» ، ولا يأخذ منه شيئا، فأبى رتبيل وقال: يأخذ «2» ثلاثمائة ألف درهم صلحا، ويكتب لنا بها كتابا، ولا يغزو بلادنا مادمت أميرا، ولا يحرق ولا يخرّب.
ففعل، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله.
وفيها غزا محمد بن مروان الروم صائفة، وبلغ أندولية، وغزا أيضا فى سنة [75 هـ] خمس وسبعين صائفة حتى خرجت الروم من قبل مرعش، وغزا أيضا فى سنة [76 هـ] ست وسبعين من ناحية ملطية.
وفى سنة [77 هـ] سبع وسبعين غزا أميّة بن عبد الله ماوراء النهر فبلغ بخارى، وخالف عليه بكير بن وسّاج، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع لقتال بكر.
وفيها غزا أميّة أيضا، وعبر نهر بلخ، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، ورجعوا إلى مرو.
وغزا الوليد بن عبد الملك الصائفة.
ذكر غزو عبيد الله بن أبى بكرة رتبيل
وفى سنة [79 هـ] تسع وسبعين غزا عبيد الله بن أبى بكرة بلاد رتبيل، وكان الحجاج قد استعمله على سجستان، وكان رتبيل يؤدّى الخراج، وربما امتنع منه، فبعث الحجاج إلى عبيد الله [ابن أبى بكرة] «3» يأمره بمناجزته، وألّا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقتل «4» رجاله.(21/197)
فسار عبيد الله فى أهل البصرة والكوفة، وعلى أهل الكوفة شريح ابن هانىء؛ فمضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل، فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصونا، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون للمسلمين أرضا بعد أرض، حتى أمعنوا فى بلادهم، ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخا، فأخذ الترك عليهم الشّعاب والعقاب «1» ، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف يوصلها إلى رتبيل ليمكّن المسلمين من الخروج، فلقيه شريح فقال: إنكم لا تصالحون «2» ، على شىء إلّا حسبه السلطان من أعطياتكم، ثم قال: يأهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم، فقال له ابن أبى «3» بكرة: إنك شيخ قد خرفت. فقال شريح:
يأهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلىّ، فاتّبعه ناس من المطّوّعة «4» غير كثير، وفرسان الناس، وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، وجعل شريح يرتجز ويقول «5» :
أصبحت ذابثّ أقاسى الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمّث أدركت النبىّ المنذرا ... وبعده صدّيقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع فى صفّينهم والنّهرا
هيهات ما أطول هذا العمرا «6»(21/198)
وقاتل حتى قتل فى ناس من أصحابه، ونجا من نجا منهم، وخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم [السمن] «1» قليلا قليلا حتى استمرءوا.
وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم، وكان قد أصاب أهل الشام طاعون شديد فلم يغز تلك السنة أحد منهم.
ذكر مسير عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل وما ملكه من بلاده
كان مسيره فى سنة [80 هـ] ثمانين؛ وذلك أنه لما رجع عبيد الله ابن أبى بكرة ومن معه من بلاد رتبيل على الحال التى ذكرنا كتب الحجاج إلى عبد الملك بخبرهم، ويخبره أنه قد جهّز من أهل الكوفة والبصرة جيشا كثيفا ويستأذنه فى إرساله إلى بلاد رتبيل، فأذن له فى ذلك، فجهّز من أهل الكوفة عشرين ألف فارس ومن أهل البصرة مثلها، وأنفق فيهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، وأعطى كلّ رجل يوصف بشجاعة وغناء، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
ولما أراد أن يبعثه على الجيش أتاه «2» إسماعيل بن الأشعث، فقال: لا تبعثه، والله ما جاز جسر الفرات فرأى لوال عليه طاعة، وإنى أخاف خلافه.(21/199)
فقال الحجاج: هو أهيب لى من أن يخالف أمرى. وسيّره على الجيش، فسار حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال:
إن الحجاج ولّانى ثغركم، وأمرنى بجهاد عدوّكم الذى استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلّف منكم أحد فتسمه «1» العقوبة. فعسكروا مع الناس، وساروا بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل، فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه، ودخل بلاده، فترك له رتبيل أرضا أرضا ورستاقا رستاقا وحصنا حصنا، وعبد الرحمن يحوى ذلك؛ وكلما حوى بلدا بعث إليه عاملا «2» ، وجعل معه أعوانا، وجعل الأرصاد على العقاب والشّعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى حاز «3» من أرضه أرضا عظيمة، وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة، ومنع الناس من التوغّل، وقال: نكتفى بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجيئها «4» ونعرفها، ويجترى المسلمون على طرقها، وفى العام المقبل نأخذ ما رواءها إن شاء الله تعالى حتى نقاتلهم فى آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم فى أقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى.
وكتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد. فكتب الحجاج إليه ينكر فعله، ويأمره بالمناجزة، فأدّى ذلك إلى خروج عبد الرحمن على الحجاج على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(21/200)
ذكر غزو المهلب بن أبى صفرة ما وراء النهر
وفى سنة [80 هـ] ثمانين قطع المهلّب نهر بلخ ونزل على كش «1» ، وكان الحجاج قد استعمله على خراسان حين ضمّها عبد الملك إلى عمله، فسار وعلى مقدمته أبو الأدهم «2» الزمانى فى ثلاثة آلاف، وهم فى خمسة آلاف، ولما نزل المهلّب على كشّ أتاه ابن عم ملك للختّل «3» فدعاه إلى غزو الختّل، فوجّه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختّل السّبل «4» ، فسار يزيد وابن عمّ الملك حتى نازلوه، ونزل كلّ واحد منهما ناحية، فبيّت الملك ابن عمّه، وأخذه فقتله، فحصر يزيد القلعة، فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم. ووجّه المهلّب ابنه حبيبا، فوافى صاحب بخارى فى أربعين ألفا، فنزل جماعة من العدوّ قرية، فسار إليهم حبيب فى أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية فسبّت المحترقة. ورجع حبيب إلى أبيه، وأقام المهلّب بكشّ سنتين، فقيل له: لو تقدّمت إلى ما وراء ذلك! فقال:
ليت حظّى من هذه الغزوة سلامة هذا الجند، وعودهم سالمين، ثم صالح أهل كشّ على فدية يأخذها منهم.(21/201)
وفى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين سيّر عبد الملك ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا «1» .
ذكر دخول الديلم قزوين وقتلهم
كانت قزوين ثغرا للمسلمين من ناحية الدّيلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها، يتحارسون ليلا ونهارا، فلما كان فى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين كان فى جملة «2» من رابط بها محمد ابن أبى سبرة الجعفى، وكان فارسا شجاعا، فرأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب، ولا بأس عليكم. ففتحوها، وبلغ ذلك الدّيلم، فساروا إليهم وبيّتوهم، وهجموا إلى البلد؛ فقال ابن أبى سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم، فقد أنصفونا، وقاتلوهم.
فغلّقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبى سبرة بلاء عظيما، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الدّيلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يقدم الدّيلم بعدها على مفارقة أرضهم، فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه. [والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] «3» .(21/202)
ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس «1»
وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، فلما بلغه خروجه عن القلعة سار إليها وحاصرها. فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع وأمنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيما، وفيها يقول كعب بن معدان الأشقرى، «2» :
وباذغيس التى من حلّ ذروتها ... عزّ الملوك فإن شاجار أو ظلما
منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلّا إذا واجهت جيشا له وجما
تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
وهى أبيات عديدة.
وقال أيضا يذكر يزيد [رحمه الله] «3» وفتحها «4» :
نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزلة أعيا الملوك اغتصابها
محلّقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زلّ «5» عنها سحابها
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطّير إلّا نسرها وعقابها
وما خوّفت بالذّئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلّا النجوم كلابها(21/203)
ذكر فتح المصيصة
وفى سنة [84 هـ] أربع وثمانين أيضا غزا عبد الله بن عبد الملك الرّوم، ففتح المصّيصة «1» وبنى حصنها، وجعل فيها ثلاثمائة مقاتل من ذوى البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها.
وغزا محمد بن مروان أرمينية.
وفى سنة [85 هـ] خمس وثمانين غزا المفضل بن المهلب باذغيس ففتحها وأصاب مغنما فقسمه، فأصاب كلّ رجل ثمانمائة «2» ، ثم غزا أخرون «3» وشومان، فغنم وقسّم ما أصاب.
وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية، فصاف فيها وشتا. انتهى ذكر الغزوات والفتوحات.
ذكر الحوادث الكائنة فى أيام عبد الملك بن مروان منذ استقلّ بالأمر خلاف ما ذكرناه، وذلك على حكم السنين
قد ذكرنا حوادث السنين فى أخبار عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما إلى أن قتل فى سنة [73 هـ] ثلاث وسبعين، وذكرنا ما هو متعلّق بهذه الدولة الأموية فى أثناء أخبار عبد الملك، فلنذكر خلاف ذلك.(21/204)
سنة (73 هـ) ثلاث وسبعين:
ذكر ولاية محمد بن مروان الجزيرة وأرمينية
فى هذه السنة استعمل عبد الملك أخاه محمدا على الجزيرة، وكانت بحيرة أرمينية مباحة لم يعرض لها أحد، بل يأخذ منها من شاء، فمنع من صيدها وجعل عليه من يأخذه ويبيعه ويأخذ ثمنه، ثم صارت بعده لابنه مروان، واستمرّ ذلك بعده.
وفيها عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة، واستعمل عليها أخاه بشر بن مروان، فاجتمع له المصران: الكوفة، والبصرة، فسار بشر إلى البصرة، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج وهو على مكّة واليمن واليمامة، وكان على قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام ابن هبيرة، وكان على خراسان بكير بن وسّاج «1» .
وفيها مات عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما بمكة وكان سبب وفاته أن الحجاج أمر بعض أصحابه، فضرب ظهر قدمه بزجّ رمح مسموم، فمات منها، وعاده الحجاج فى مرضه، فقال:
من فعل بك هذا؟ فقال: أنت، لأنك أمرت بحمل السلاح فى بلد لا يحلّ حمله فيه. وكانت وفاته بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وكان عمره سبعا وثمانين سنة، ومات غيره من الصحابة رضى الله عنهم.(21/205)
سنة (74 هـ) أربع وسبعون:
فى هذه السنة عزل عبد الملك طارقا «1» عن المدينة، واستعمل عليها الحجاج، ففعل ما قدّمنا ذكره.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولانى.
وفيها استعمل عبد الملك أميّة بن عبد الله بن خالد بن أسيد «2» ، على خراسان، وعزل عنها بكير بن وسّاج، فسار أميّة إليها، فلقيه بحير «3» بن ورقاء بنيسابور، وأخبره عن خراسان وما يحسن به طاعة أهلها، ورفع على بكير أموالا أخذها وحذره غدره «4» ، وسار معه حتى قدم مرو، وكان أميّة كريما فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه شرطته، فأبى فولّاها بحير بن ورقاء، ثم خيّر بكيرا أن يولّيه ما شاء من خراسان، فاختار طخارستان.
قال: فتجهّز لها، فأنفق مالا كثيرا؛ فقال بحير لأمية: إن أتى طخارستان خلعك، وحذّره فلم يولّه.
وفيها استعمل عبد الملك حسّان بن النعمان الغسّانى على إفريقية، وسيذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار إفريقية.
وحجّ بالناس فى هذه السنة الحجاج بن يوسف.
وفيها توفى بشر بن مروان بالبصرة، واستخلف قبل وفاته خالد ابن عبد الله بن خالد على البصرة، وكان خليفته على الكوفة عمرو(21/206)
ابن حريث؛ فكانوا على ذلك إلى أن قدم الحجاج بن يوسف الثقفى أميرا
سنة [75 هـ] خمس وسبعين.
ذكر ولاية الحجاج بن يوسف العراق وما فعله عند مقدمه
وفى هذه السنة استعمل عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفى على العراق دون خراسان وسجستان، وأرسل «1» إليه بعهده وهو بالمدينة، فسار فى اثنى عشر راكبا على النّجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد، فصعد المنبر وهو متلثّم بعمامة خزّ حمراء، فقال: علىّ بالناس، فحسبوه خارجيّا، فهمّوا به وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم، فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت، فتناول عمير بن ضابىء البرجمى حصى «2» وقال: ألا أحصبه لكم! فقالوا: أمهل حتى ننظر. وقيل: إن الذى همّ بحصبه محمد بن عمير وقال: قاتله الله ما أعياه وأدمّه «3» ، والله إنى لأحسب خبره كرؤياه «4» .
فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده وهو لا يعقل، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن وجهه ونهض فقال:
انا ابن جلا «5» وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونى
أما والله إنى لأحمل الشر محمله، فآخذه «6» بفعله، وأجزيه بمثله،(21/207)
وإنى لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وإنى لأنظر
إلى الدماء بين العمائم واللحى ... قد شمرت عن ساقها تشميراه.
هذا أوان الشدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم «1»
ليس براعى إبل ولا غنم ... ولا بجزّار على ظهر وضم «2»
قد لفّها اللّيل يعصلبى «3» ... أروع خرّاج من الدوى «4»
مهاجر ليس بأعرابى
قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا
والقوس فيها وتر عردّ «5» ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط «6»
يهوى هوى سابق الغطاط «7»
إنى والله يأهل العراق ما يقعقع لى بالشّنان «8» ، ولا يغمز جانبى تغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى. ثم قرأ «9» : «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ(21/208)
فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»
. فأنتم أولئك وأشباه أولئك. إنّ أمير المؤمنين عبد الملك نثر «1» كنانته فعجم «2» عيدانها عودا عودا، فوجدنى أمرّها عودا «3» ، وأصلبها مكسرا، فوجّهنى إليكم، ورمى بى فى نحوركم، فإنكم أهل بغى وخلاف وشقاق ونفاق، طالما أوضعتم فى الشرّ، واضطجعتم فى الضلالة، وسننتم سنن الغىّ، فاستوثقوا «4» واستقيموا، فو الله لأذيقنّكم الهوان ولأمرينّكم «5» حتى تدرّوا، ولألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السّلم «6» ، حتى تذلّوا، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتى تذروا العصيان وتنقادوا، ولأقرعنّكم قرع المروة حتى تلينوا. إنى والله ما أعد إلّا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق «7» إلّا فريت، فإياى وهذه الجماعات، فلا يركبنّ رجل إلّا وحده، أقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف، ولتدعنّ الإرجاف، وقيلا وقالا، وما يقول فلان، وأخبرنى فلان، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده، فيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على الحقّ أو لأضربنّكم بالسيف ضربا يدع النساء أيامى والولدان يتامى، وحتى تذروا السّمّهى «8» وتقلعوا(21/209)
عن هاوها «1» ، ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ماجبى فىء ولا قوتل عدوّ، ولعطّلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، ولقد بلغنى رفضكم المهلّب وإقبالكم على مصركم عاصين مخالفين وإنى أقسم بالله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثالثة «2» إلّا ضربت عنقه، وأنهبت داره.
ثم أمر بكتاب عبد الملك فقرىء، فلما قال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: سلام عليكم، فإنى أحمد الله إليكم- فلم يقل أحد شيئا، فقال: اكفف، ثم قال: يا عبيد العصا، يسلّم عليكم أمير المؤمنين فلا يردّ رادّ منكم السلام. هذا أدب ابن نهيّة «3» ، أدّبكم به، والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمنّ. ثم قال، للقارىء: اقرأ. فلما بلغ سلام عليكم قالوا بأجمعهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. ثم نزل ودخل منزله، ودعا العرفاء وقال: ألحقوا الناس بالمهلّب، وائتونى بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضى هذه المدة.
قال: فلما كان فى اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج وجلس على المنبر، فقال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنّفاق(21/210)
ومساوىء الأخلاق، إنى سمعت تكبيرا ليس بالتّكبير الذى يراد به وجه الله، ولكنه التكبير الذى يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف «1» ، يا بنى اللّكيعة «2» ، وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه «3» ويحسن حقن دمه، ويعرف «4» موضع قدمه، فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها.
فقام إليه عمير بن ضابىء الحنظلى «5» التميمى، فقال: أصلح الله الأمير، أنا فى هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل، وابنى هذا هو أقوى منى على الأسفار أفتقبله منّى بديلا؟ فقال: نفعل. ثم قال:
ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء. قال: أسمعت كلامنا بالأمس! قال: نعم. قال: ألست الذى غزا عثمان بن عفّان؟ قال: بلى.
قال: يا عدوّ الله، أفلا بعثت بديلا إلى أمير المؤمنين، وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبى، وكان شيخا كبيرا. قال: أولست القائل «6» :
هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله
إنى لأحسب أنّ فى قتلك صلاح المصرين، وأمر به فضربت رقبته، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى: ألا إنّ عمير بن ضابىء أتى(21/211)
بعد ثالثة «1» ، وكان قد سمع النداء، فأمرنا بقتله، ألا وإن ذمّة الله بريئة ممّن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلّب وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلّب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم فويل «2» العدو.
وقال: ولما قتل الحجاج عميرا لقى إبراهيم بن عامر الأسدى عبد الله بن الزّبير «3» [رضى الله عنهما] «4» فى السوق، فسأله عن الخبر، فقال «5» :
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أضحى منصبا متشعبا
تجهّز فأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا فى المهالك مذهبا
تخير فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميرا وإما أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف «6» نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج «7» أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هى أقربا(21/212)
قال: وكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلّف عن الوجه الذى يكتب إليه.
قال الشعبى: كان الرجل إذا أخلّ بوجهه الذى يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم نزعت عمامته ويقام للناس، ويشهر أمره، فلما ولى مصعب قال: ما هذا بشىء، وأضاف إليه حلق الرءوس واللّحى، فلما ولى بشر بن مروان زاد فيه، فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمّر فى يديه مسماران فى حائط، فربما مات، وربما خرق المسمار يده، فسلم.
فلما ولى الحجاج قال: كلّ هذا لعب، أضرب عنق من يخلّ «1» بمكانه من الثغر.
قال: وكان قدوم الحجاج فى شهر رمضان، فوجّه الحكم بن أيوب الثقفى على البصرة أميرا، وأمره أن يشتدّ على خالد بن عبد الله، فبلغ الخبر خالدا فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء «2» وشيّعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألف.(21/213)
ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج
قال: ثم خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة. فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة، وتوعّد من رآه منهم بعد ثالثة «1» ، ولم يلحق بالمهلّب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكرى وكان به فتق، فقال: أصلح الله الأمير، إن بى فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرنى، وهذا عطائى مردود فى بيت المال، فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلّا لحق به.
ثم سار الحجاج إلى رستقباذ «2» ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، وقال حين نزل بها: يأهل المصرين، هذا المكان والله مكانكم شهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حتى يهلك الله عدوّكم، هؤلاء الخوارج المطلين عليكم.
ثم خطب يوما فقال: إن الزيادة التى زادكم إياها ابن الزبير إنما هى زيادة ملحد فاسق منافق، ولسنا نجيزها- وكان مصعب قد زاد الناس فى العطاء مائة مائة- فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست زيادة ابن الزبير، إنما هى زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر.(21/214)
فقال له الحجاج: ما أنت والكلام! لتحسننّ حمل رأسك أو لأسلبتّك إيّاه. فقال: ولم؟ إنى لك لناصح، وإن هذا لقول من ورائى.
فنزل الحجاج ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة، ثم أعاد القول فيها، فردّ عليه ابن الجارود مثل رده الأول، فقام مصقلة بن كرب العبدى، فقال: إنه ليس للرعيّة أن تردّ على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعا وطاعة فيما أحبّ «1» وكرهنا. فسبّه ابن الجارود وقام فأتاه وجوه الناس فصوّبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمى وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعى وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافّ حتى ينقصنا هذه الزيادة فهلمّ نبايعك على إخراجه من العراق، ثم نكتب إلى عبد الملك أن يولّى علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج.
فبايعه الناس سرّا، وأعطوه المواثيق على الوفاء، وبلغ الحجاج ما هم فيه، فأحرز بيت المال.
فلما تمّ لهم أمرهم أظهروه، وذلك فى شهر ربيع الآخر سنة [76 هـ] ست وسبعين، واجتمع الناس على ابن الجارود حتى لم يبق مع الحجاج إلّا خاصّته وأهل بيته، وأرسل الحجاج أعين صاحب حمّام أعين «2» إلى ابن الجارود يستدعيه، فقال: لا كرامة لابن أبى رغال «3» ، ولكن ليخرج عنّا مذموما مدحورا، وإلا قاتلناه. قال أعين:(21/215)
فإنه يقول لك: أتطيب نفسا بقتلك وقتل بيتك وعشيرتك! والذى نفسى بيده لئن لم تأت لأدعنّ قومك وأهلك خاصة حديثا للغابرين.
وكان الحجاج قد حمّل أعين هذه الرسالة؛ فقال ابن الجارود:
لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة، وأمر فوجىء فى عنقه، وأخرج.
وأقبل ابن الجارود بالناس زحفا نحو الحجّاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه. فلما صاروا إليه نهبوا ما فى فسطاطه.
وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابّه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخى سهيل بن عمرو.
ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه. فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خوفا من محاربة الخليفة، فجعل الغضبان ابن القبعثرى الشيبانى يقول لابن الجارود: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك. أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره، ولتضعفنّ منّتكم «1» .
فقال: قد قرب المساء. ولكنا نعاجله بالغداة، وكان مع الحجاج عثمان بن قطن، وزياد بن عمرو العتكى، وكان زياد على شرطته بالبصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أرى أن آخذ لك من القوم أمانا وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين، فقد ارفضّ أكثر الناس عنك، ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك.
فقال عثمان بن قطن الحارثى: لكنى لا أرى ذلك، إنّ أمير المؤمنين(21/216)
قد شركك فى أمره، وخلطك بنفسه، واستنصحك وسلّطك، فسرت إلى ابن الزبير وهو أعظم الناس خطرا فقتلته، فولّاك الله شرف ذلك وسناءه، وولّاك أمير المؤمنين العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذى أنت فيه من السلطان أبدا، ولكنى أرى أن نمشى بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفرا أو نموت كراما.
فقال له الحجاج: الرّأى ما رأيت، وحفظ «1» هذه لعثمان، وحقدها على زياد، وجاء عامر بن مسمع إلى الحجاج فقال: إنى قد أخذت لك أمانا من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمّنهم أبدا حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم.
ومرّ عباد بن الحصين الحبطى «2» بابن الجارود وابن الهذيل وابن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا فى نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل فى نجوانا أحد من الحبط، فغضب وسار إلى الحجاج فى مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالى من تخلّف بعدك. وأتاه قتيبة بن مسلم فى قومه من بنى أعصر، وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأنّ، ثم جاءه سبرة بن على الكلابى، وسعيد بن أسلم بن زرعة، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدى، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع يقول: إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبّط الناس عنى.
فلما اجتمع للحجاج عدد «3» يمنع بمثلهم خرج، وعبّأ أصحابه،(21/217)
وتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف، فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأى؟ قال: تركت الرأى أمس حين قال لك الغضبان: تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك.
وقد ذهب الرأى وبقى الصبر.
فحرّض ابن الجارود الناس، وزحف بهم وعلى ميمنته الهذيل ابن عمران، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وتقدم الحجاج وعلى ميمنته قتيبة بن مسلم، ويقال عبّاد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم، فحمل ابن الجارود فى أصحابه حتى جاوز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعة وعاد ابن الجارود بظفر، فأتاه سهم غرب «1» فقتله، ونادى منادى الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر ألّا يتبع المنهزمون. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فأتى سعيد [ابن عباد الجلندى الأزدى بعمان، فقيل لسعيد: إنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه] «2» بنصف بطيخة مسمومة، وقال: هذا أوّل شىء جاءنا منه، وقد أكلت نصف هذه، وبعثت إليك بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسّ بالشر، فقال: أردت أن أقتله فقتلنى.
قال: وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر من وجوه أصحابه إلى المهلب، فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف.
وحبس الحجاج عبيد بن كعب النميرى ومحمد بن [عمير بن] «3»(21/218)
عطارد، فإنه كان قد بعث إلى كلّ منهما يقول: هلمّ إلىّ فامنعنى، فقال: إن أتيتنى منعتك. وحبس الغضبان وقال: أنت القائل:
تعشّ بالجدى قبل أن يتغدّى بك! فقال: ما نفعت من قيلت له ولا ضرّت من قيلت فيه! فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه.
ذكر ما كلم به الحجاج أنس بن مالك
رضى الله عنه وشكواه إياه وما كتب به عبد الملك من الإنكار على الحجاج وسبّه بسببه قال: كان عبد الله بن أنس بن مالك الأنصارى رضى الله عنه ممن قتل مع ابن الجارود، فلما دخل الحجاج البصرة أخذ ماله، فدخل عليه أنس بن مالك رضى الله عنه، فحين رآه الحجاج قال له:
لا مرحبا ولا أهلا، إيه يا خبثة «1» ؛ شيخ ضلالة، جوّال فى الفتن، مرّة مع أبى تراب، ومرّة مع ابن الزّبير، ومرّة مع ابن الجارود؛ أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصّمغة.
فقال أنس: من يعنى الأمير؟ فقال: إياك أعنى، أصمّ الله صداك.
فرجع أنس، فكتب إلى عبد الملك كتابا يشكو فيه الحجاج وما صنع به.
فكتب عبد الملك إلى الحجّاج: أما بعد يابن أمّ الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فغلوت فيها حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، يابن المستفرمة بعجم الزبيب «2» لأغمزنّك غمزة كبعض(21/219)
غمزات الليوث «1» الثعالب، ولأخبطنّك خبطة تودّ لها لو أنك رجعت فى مخرجك من بطن أمك. أما تذكر حال آبائك بالطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحفرون الآبار بأيديهم فى أوديتهم ومياههم؛ أم نسيت حال آبائك فى اللؤم والدناءة فى المروءة والخلق.
وقد بلغ أمير المؤمنين الذى كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظنّك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين فى أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه قدما، فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين «2» ، أصكّ «3» الرجلين، ممسوح الجاعرتين «4» ، ولولا أنّ أمير المؤمنين ظنّ أن الكاتب كثّر [فى الكتابة] «5» عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأتاك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتى بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقّه وخدمته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا تقصّرنّ فى شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدّم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فيبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوّك، والقه فى منزله متنصّلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك، إن شاء الله. والسلام.(21/220)
وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بنى مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب فجعل يقرؤه ووجهه يتغيّر ويتمعّر «1» ، وجبينه يرشح عرقا، ثم قال «2» :
يغفر الله لأمير المؤمنين.
ثم اجتمع بأنس فرحّب به الحجاج، وأدناه، واعتذر إليه، وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أنى إليهم بالعقوبة أسرع.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ منى الجهد، وقد زعمت أنّا الأشرار، وقد سمّانا الله الأنصار، وزعمت أنّا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدّار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتنى ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرّم الله عليك منى، ولم يكن لى عليك قوة، فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقّى ما لم تحفظ، فو الله لو أنّ النصارى على كفرهم رأوا رجلا خدم عيسى ابن مريم يوما واحدا لعرفوا من حقّه ما لم تعرف أنت من حقى، وقد خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عليه، وأثنينا، وإن رأينا غير ذلك صبرنا. والله المستعان.
وردّ عليه الحجاج ما كان أخذ منه.(21/221)
ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله وولاية مجّاعة بن سعر «1» التميمى ووفاته
وفى هذه السنة استعمل الحجاج على السند سعيد بن أسلم ابن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان.
فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجّاعة بن سعر التميمى إلى السند، فغلب على ذلك الثّغر، وغزا وفتح أماكن من قندابيل «2» ، ومات مجّاعة بعد سنة بمكران «3» . [والله أعلم] . «4»
ذكر خبر الزنج بالبصرة
قال: كان الزنج قد اجتمعوا بفرات البصرة فى آخر أيام مصعب، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا. فلما ولى خالد بن عبد الله البصرة كثروا، فشكا الناس إليه ما ينالهم منهم، فجمع لهم جيشا، فلما بلغهم ذلك تفرّقوا، وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم، فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرناه اجتمع من الزنج خلق كثير بالفرات، وجعلوا عليهم رجلا منهم اسمه رباح ويلقّب شيرزنجى «5» يعنى أسد الزنج، [فأفسدوا] «6» ، فأمر الحجاج زياد بن عمرو وهو على شرطة البصرة(21/222)
أن يرسل إليهم جيشا، فندب ابنه حفص بن زياد فقتلوه، وهزموا أصحابه، فسيّر إليهم جيشا آخر فهزم الزنج وقتلهم، واستقامت البصرة.
وفى هذه السنة حجّ عبد الملك بالناس فخطب الناس بالمدينة، فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد فإنى لست بالخليفة المستضعف- يعنى عثمان، ولا بالخليفة المداهن- يعنى معاوية، ولا بالخليفة المأفون «1» - يعنى يزيد، ألا وإنى لا أداوى هذه الأمّة إلّا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، وإنكم تكلّفونا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم.
وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه. ثم نزل.
سنة (76 هـ) ست وسبعين:
ذكر ضرب الدنانير والدراهم الاسلامية
وفى هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم الإسلامية، وهو أوّل من أحدث ضربها فى الإسلام؛ وكان سبب ذلك أنه كتب فى صدور الكتب إلى الروم: قل هو الله أحد. وذكر النبىّ صلى الله عليه وسلّم مع التاريخ. فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم هذا فاتركوه، وإلا أتاكم فى دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون.
فعظم ذلك على عبد الملك، واستشار خالد بن يزيد بن معاوية، فقال: حرّم دنانيرهم، واضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى.(21/223)
فضرب الدنانير والدراهم ونقش عليها: قل هو الله أحد. فكره الناس ذلك لمكان القرآن؛ لأن الجنب والحائض تمسّها «1» ، ثم ضربها الحجاج.
وقد قيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله، ثم كسرت بعد ذلك فى أيام عبد الملك. والصحيح أنّ عبد الملك أول من ضرب الدنانير والدراهم فى الإسلام.
*** وفيها استعمل عبد الملك أبان بن عثمان على المدينة.
وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان.
وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير «2» المدينة، وكان على العرق الحجاج، وعلى خراسان أميّة بن عبد الله، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى.
سنة سبع وسبعين:
ذكر مقتل بكير بن وساج
وفى هذه السنة قتل أميّة بن عبد الله أمير خراسان بكير بن وسّاج «3» ، وسبب ذلك أن أمية أمر بكيرا أن يتجهّز لغزو ما وراء النّهر، فتجهّز وأنفق نفقة كبيرة، فقال بحير بن ورقاء لأمية: إن صار بينك وبينه النّهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أميّة يقول: أقم لعلّى أغزو فتكون معى، فغضب بكير، وكان قبل ذلك قد ولّاه طخارستان، وأنفق(21/224)
نفقة عظيمة، فحذّره بحير منه فمنعه منها، ثم إن أمية تجهّز للغزو إلى بخارى وتجهّز معه الناس، وفيهم بكير بن وسّاج، فلما بلغوا النّهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إنى قد استخلفت ابنى على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها، لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها، فقد ولّيتكها، فقم بأمر ابنى.
فانتخب بكير فرسانا كان قد عرفهم ووثق بهم، ورجع. ومضى أميّة إلى بخارى فقال عقاب «1» الغدانى لبكير: إنّا طلبنا أميرا من قريش، فجاءنا أمير يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن، وإنى أرى أن نحرق هذه السفن، ونمضى إلى مرو، ونخلع أمية ونقيم بمرو، نأكلها إلى يوم ما، ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبرى على هذا، فقال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معى. قال: إن هلك هؤلاء أنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال:
إنما يكفيك أن ينادى مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أميّة ومن معه.
قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدّة ونجدة وسلاح ظاهر، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين.
فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فحبس ابن أميّة وخلع أمية، وبلغ أمية الخبر، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع وأمر «2» باتخاذ السفن، وعبر، وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى، وأنه كافأه بالعصيان.(21/225)
وسار إلى مرو، وأرسل شمّاس بن دثار فى ثمانمائة، فسار بكير إليهم، فانهزم شمّاس، وأمر أصحابه ألّا يقتلوا منهم أحدا، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم. وقدم أميّة فتلقّاه شماس، فقدم ثابت ابن قطبة فلقيه بكير فأسره، وفرّق جمعه، ثم أطلقه ليد كانت لثابت عنده. وأقبل أميّة وقاتله بكير فكان بينهم وقعات فى أيام، فانكشف أصحاب بكير فى بعضها، فاتبعه حريث بن قطبة حتى بلغ القنطرة وناداه إلى أين يا بكير! فرجع فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر، وعضّ السيف برأسه فقطع فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه البلد.
وكان أصحاب بكير يفدون «1» فى الثياب المصبّغة فيجلسون يتحدثون. وينادى مناديهم من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح؛ وأحبّ ذلك أيضا أصحاب أميّة، فاصطلحوا على أن يقضى عنه أمية أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أىّ كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوما.
ودخل أمية مدينة مرو، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان من الكرامة «2» ، وأعطى أمية عقابا «3» عشرين ألفا، وكان أمية سهلا(21/226)
ليّنا سخيّا، وكان مع ذلك ثقيلا على أهل خراسان، وكان فيه زهد «1» .
وعزل أمية بحيرا عن شرطته وولّاها عطاء بن أبى السائب، وطالب أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم، فجلس بكير فى المسجد وعنده الناس، فذكروا شدّة أمية فذمّوه وبحير، وضرار بن حصن «2» ، وعبد «3» العزيز بن جارية بن قدامة فى المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أميّة فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبى المجشّر السلمى أنه كان يمزح، فتركه أميّة، ثم إن بحيرا أتى أميّة وقال:
والله إن بكيرا قد دعانى إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشى، وأكلت خراسان. فلم يصدّقه أمية، فاستشهد جماعة ذكر بكير أنهم أعداؤه. فقبض أمية على بكير وعلى ابنى أخيه:
بدل، وشمردل، ثم أمر بعض الرؤساء بقتل بكير، فامتنعوا فأمر بحيرا بقتله فقتله، وقتل أمية ابنى أخى بكير.
وحجّ بالناس فى هذه السنة أبان بن عثمان.
وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصارى.
سنة (78 هـ) ثمان وسبعين)
فى هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أميّة بن عبد الله عن خراسان وسجستان؛ وضمهما إلى أعمال الحجاج، فاستعمل(21/227)
الحجاج المهلّب بن أبى صفرة على خراسان وعبيد «1» الله بن أبى بكرة على سجستان، فبعث المهلب ابنه حبيبا إلى خراسان، فلما ودّع الحجاج أعطاه بغلة خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فوصل خراسان فى عشرين يوما، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب، فنفرت البغلة فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدّة السير، ولم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلّب فى سنة [79 هـ] تسع وسبعين.
وحجّ بالناس [فى هذه السنة] «2» أبان بن عثمان «3» ، وكان العمال من ذكرنا، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
سنة (79 هـ) تسع وسبعين:
فى هذه السنة استعفى شريح بن الحارث من القضاء فأعفاه الحجّاج، واستعمل على القضا، أبا بردة بن أبى موسى.
وحجّ بالناس أبان بن عثمان وهو أمير المدينة.
سنة (80 هـ) ثمانين:
فى هذه السنة حجّ بالناس أبان بن عثمان، وفيها توفى أبو إدريس الخولانى، وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب. وقيل سنة [84 هـ] أربع وثمانين، وقيل سنة خمس. وقيل سنة ستّ. وقيل سنة تسعين.
والله أعلم.(21/228)
وفيها توفى محمد بن على بن أبى طالب [رضى الله عنهما] «1» ، وهو ابن الحنفيّة، ومات جماعة من الصحابة رضى الله [تعالى] «2» عنهم [أجمعين] «3» .
سنة (81 هـ) احدى وثمانين:
ذكر مقتل بحير بن ورقاء
[بشر القاتل بالقتل لأنه كان سببا وباعثا لقتل بكير بن وساج] «4» فى هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصّريمى. وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وسّاج وكلاهما كان تميميا- قال عثمان بن رجاء ابن جابر أحد بنى «5» عوف بن سعد من الأبناء، والأبناء عدة بطون من تميم، يحرّض «6» بعض آل بكير من الأبناء على الطلب بثأره «7» :
العمرى لقد أغضيت عينا على القذى ... وبتّ بطينا من رحيق مروّق «8»
وخلّيت «9» ثأرا طلّ واخترت نومة ... ومن شرب «10» الصّهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا فى دم مترقرق(21/229)
فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... ببكر «1» فعوف أهل شاء حبلّق «2»
دع «3» الضّأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق
وهبّوا فلو أمسى «4» بكير كعهده ... لغاداهمو زحفا بجأواء فيلق «5»
وقال أيضا «6» :
فلو كان بكر بارزا فى أداته ... وذى العرش لم يقدم عليه بحير
ففى الدهر إن أبقانى الدّهر مطلب ... وفى الله طلّاب بذاك جدير
فبلغ بحيرا أن رهط بكير من الأبناء يتوعّدونه، فقال «7» :
توعّدنى الأبناء جهلا كأنّما ... يرون فنائى مقفرا من بنى كعب(21/230)
رفعت له كفّى بعضب «1» مهنّد ... حسام كلون الملح «2» ذى رونق عضب
فتعاقد سبعة «3» عشر من بنى عوف على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له شمردل «4» من البادية حتى قدم خراسان، فرأى بحيرا واقفا، فحمل عليه فطعنه فصرعه، وظنّ أنه قتله، وركض، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل. وخرج صعصعة بن حرب العوفى من البادية، ومضى إلى سجستان، فجاور قرابة لبحير مدة، وادّعى أنه من بنى حنيفة من اليمامة، وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لى بخراسان ميراثا فاكتبوا لى إلى بحير كتابا ليعيننى على حقّى. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير فأخبره أنّه من من بنى حنيفة وأنّ له مالا بسجستان وميراثا بمرو، وقدم ليبيعه «5» ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير، وأمر له بنفقة، ووعده المساعدة.
وكان بحير قد حذر، فلما قال له: إنه من بنى حنيفة أمنه، وكان إذ ذاك فى الغزو مع المهلب. فقال له: أقيم معك حتى ترجع إلى مرو، فأقام شهرا يحضر معه باب المهلّب، فجاء صعصعة يوما وبحير عند باب المهلب وعليه قميص ورداء، فقعد خلفه، ودنا منه كأنه يكلّمه، فوجأه بخنجر معه فى خاصرته، فغيّبه فى جوفه.
ونادى يالثارات بكير! فأخذ وأتى به المهلب، فقال له: بؤسا لك!(21/231)
ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس! فقال:
لقد طعنته طعنة لو قسّمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه فى يدى.
فحبسه المهلّب، ومات بحير من الغد، فقال صعصعة: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد خلت خدور «1» نساء بنى عوف، وأدركت بثأرى. والله لقد أمكننى منه [ما صنعت] «2» خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرّا.
فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت من هذا، وأمر بقتله، فقتل.
وقيل: إنه بعثه إلى بحير قبل أن يموت فقتله، وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما أخذ بثأره، فنازعتهم مقاعس والبطون، وكلّهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجا: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير [بواء] «3» ببكير، فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة «4» :
لله درّ فتى تجاوز همّه ... دون العراق «5» مفاوزا وبحورا
ما زال يدئب «6» نفسه وركابه ... حتى تناول فى الحزون «7» بحيرا(21/232)
ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
على الحجاج وما كان بينهما من الحروب كان ابتداء خلافه على الحجاج فى هذه السنة، واستمرت الوقائع التى نذكرها بينهما إلى سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، وقد رأينا أن نجمع أخباره بجملتها فى هذا الموضع، ولا نقطعها بغيرها، ونميّز كل وقعة منها بتاريخها.
وكان سبب خلافه أنّ الحجاج لما بعثه فى الجنود إلى بلاد رتبيل فى سنة [80 هـ] ثمانين كما ذكرنا فى الغزوات، وملك ما ملك من من حصون رتبيل، واستولى على ما استولى عليه من بلاده، وأقام، وكتب إلى الحجاج يعرّفه أنه رأى ترك التوغّل فى بلاد رتبيل حتى يعرفوا طرقها ويجبوا خراجها.
فلما ورد كتابه على الحجّاج كتب إليه: إنّ كتابك كتاب امرىء يحبّ الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، فامض إلى «1» ما أمرتك من الوغول فى أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريّهم، ثم أردفه كتابا آخر [بنحو ذلك] «2» ، وفيه:
أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا ويقيموا بها، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم.
ثم كتب إليه كتابا ثالثا كذلك، ويقول: إن مضيت إلى ما أمرتك(21/233)
وإلّا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس. فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس، إنّى لكم ناصح ولصلاحكم محبّ، ولكم فى كل ما يحيط به نفعكم «1» ناظر، وقد كان رأيى فيما بينى وبين عدوى «2» ما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج، فأتانى كتابه يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم فى أرض العدوّ، وهى البلاد التى هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا: بل، نأبى على عدوّ الله، ولا نسمع له ولا نطيع.
فكان أول من تكلم أبو الطّفيل عامر بن واثلة الكنانى، وله صحبة، فقال- بعد حمد الله: أما بعد فإنّ الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول [إذ قال لأخيه] «3» : احمل عبدك على الفرس، إن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجاج لا يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا «4» كثيرة، ويغشى بكم اللهوب واللّصوب «5» ، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة فى سلطانه؛(21/234)
وإن ظفر عدوّكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عنتهم، ولا يبقى عليهم، اخلعوا عدوّ الله الحجاج، وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإنى أشهدكم أنّى أوّل خالع.
فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدوّ الله.
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعى ثانيا فتكلّم، وندب الناس إلى مبايعة عبد الرحمن، فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من العراق، ولم يذكر عبد الملك، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه وعلى النّصرة له، فصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل أبدا، وإن هزم فأراده منعه «1» .
ثم جعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشّيبانى وعلى زرنج «2» عبد الله بن عامر التميمى، وعلى كرمان خرشة بن عمرو التميمى، ورجع إلى العراق، وجعل على مقدّمته عطية بن عمرو العنبرى.
فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا:
إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان «3» ابن أبجر بن تيم الله بن ثعلبة «4» ، قام فقال: أيها الناس، إنى خلعت(21/235)
أبا ذبّان «1» كخلعى خاتمى «2» ، فخلعه الناس إلّا قليلا منهم، وبايعوا عبد الرحمن. وكانت بيعته يبايعون على كتاب الله وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وعلى جهاد أهل الضّلالة، وخلعهم، وجهاد المحلّين.
فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بالخبر، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى بلغ البصرة.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله، ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من سجستان فلا تخفه، وإن كان من خراسان فإنى أتخوّف.
فجهّز عبد الملك الجند على البريد، فكانوا يصلون من مائة ومن خمسين وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج من البصرة إلى تستر «3» ، وقدم مقدمته إلى دجيل، فلقوا خيلا لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال، وذلك يوم الأضحى سنة [81 هـ] إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير.
فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن، فقتلوا من أصحابه وأصابوا بعض أثقالهم. وأقبل الحجاج حتى نزل الزّاوية «4» ، وجمع عنده الطعام، وفرّق فى الناس(21/236)
مائة وخمسين ألف درهم، وأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة فبايعه جميع أهلها.
وكان السبب فى سرعة إجابتهم إلى بيعته أنّ عمّال الحجاج كتبوا إليه إنّ الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمّة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار.
فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل فى قرية فليخرج إليها، فأخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون:
يا محمداه! يا محمداه! وجعل قرّاء البصرة يبكون.
فلما قدم ابن الأشعث إثر ذلك بايعوه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك؛ وخندق الحجاج على نفسه، وخندق عبد الرحمن على البصرة، وكان دخوله البصرة فى آخر ذى الحجة.
ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث وانهزام ابن الأشعث من البصرة إلى الكوفة
وفى المحرم سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين اقتتل عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث قتالا شديدا، وكان بينهم عدّة وقعات، فلما كان آخر يوم من المحرم اشتدّ القتال، فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه، وقاتلوا على خنادقهم، ثم تزاحفوا فتقوّض أصحاب الحجاج، فجثا على ركبتيه، وقال: لله درّ مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل، وعزم على أنه لا يفر.
فحمل سفيان بن الأبرد على ميمنة ابن الأشعث فهزمها، وانهزم(21/237)
أهل العراق، وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن، وقتل منهم خلق كثير، منهم: عقبة بن عبد الغافر الأزدى وجماعة من القرّاء.
ولما بلغ ابن الأشعث الكوفة تبعه أهل القوّة وأصحاب الخيل من البصرة، واجتمع من بقى بالبصرة مع عبد الرحمن بن عباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم الحجّاج خمس ليال أشدّ قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث ومعه «1» طائفة من أهل البصرة، وهذه الوقعة تسمّى وقعة الزّاوية.
وقتل الحجاج فى هذا اليوم بعد الهزيمة أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى: الأمان لفلان وفلان، سمّى رجالا، فقال العامّة: قد أمن الناس، فحضروا عنده، فأمر بهم فقتلوا.
قال: وكان الحجّاج عند مسيره من الكوفة إلى البصرة استعمل عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمى حليف بنى أميّة، فقصده مطر بن ناجية اليربوعى، فتحصّن منه ابن الحضرمىّ فى القصر، فوثب أهل الكوفة مع مطر، فأخرج ابن الحضرمى ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع إليه الناس، ففرّق فيهم لكلّ إنسان مائتى درهم.
فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، فدخل الكوفة، وقد سبق إليه همدان فكانوا حوله، فأتى القصر فمنعه مطر بن ناجية ومن معه من بنى تميم، فأصعد(21/238)
عبد الرحمن الناس فى السلاليم إلى القصر فأخذوه، وأتى عبد الرحمن بمطر فحبسه ثم أطلقه.
ذكر وقعة دير الجماجم
[وانهزام أصحاب ابن الأشعث وعود الحجاج إلى الكوفة] «1» كانت وقعة دير الجماجم «2» فى شعبان سنة [82 هـ] اثنتين وثمانين، وقيل: كانت فى سنة ثلاث وثمانين. والذى يقول: إنها فى سنة ثلاث يقول: كان نزولهم بدير الجماجم لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة [83 هـ] ثلاث وثمانين، والهزيمة لأربع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة منها، فكانت مائة يوم وثلاثة أيام. والله أعلم.
وكان سبب هذه الوقعة أنّ الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن الأشعث، ونزل دير «3» قرّة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم، واجتمع لعبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح والقراء، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم «4» ، وجاءت الحجاج أمداد الشام قبل نزوله بدير قرّة، وخندق كلّ منهما على نفسه، وكان الناس يقتتلون كل يوم، ولا يزال أحدهما يدنى خندقه من الآخر.
فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان- وكان محمد بأرض الموصل- فى جند كثيف إلى الحجاج، وأمرهما أن يعرضا(21/239)
على أهل العراق عزل الحجاج، وأن يجرى عليهم أعطياتهم، كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن الأشعث أى بلد شاء من العراق، فإذا نزل كان واليا عليها مادام حيّا، وعبد الملك خليفة. فإن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنهم «1» ، وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق ذلك فالحجاج أمير الجماعة ووالى «2» القتال، ومحمد وعبد الله فى طاعته، فلم يأت الحجاج أمر قطّ كان أشدّ عليه ولا أوجع لقلبه منه، وخشى أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو «3» أعطيت أهل العراق عزلى «4» لم يلبثوا إلّا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جراءة عليك، ألم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان ابن عفّان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه؛ وإن الحديد بالحديد يفلح.
فأبى عبد الملك إلّا عرض عزله على أهل العراق، وقال: عزله أيسر من حرب أهل العراق، ويحقن الدماء.
فخرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يأهل العراق، أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا.(21/240)
وخرج محمد بن مروان، وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا.
فقالوا: نرجع للعشيّة. ورجعوا، واجتمعوا عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمرا انتهازكم إياه اليوم فرصة، وإنكم اليوم على النّصف؛ فإن كانوا اعتدّوا عليكم بيوم الزّاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرض عليكم، وأنتم أعزّاء أقوياء.
فوثبوا وقالوا: لا والله لا نقبل. وأعادوا خلع عبد الملك ثانيا؛ وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجم عبد الله بن ذؤاب السلمى وعمير بن تيحان، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من الخلع بفارس.
فقال عبد الله ومحمد للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك، واعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، وكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلّم عليهما بالإمرة.
قال: ولما اجتمع أهل العراق على خلع عبد الملك قال ابن الأشعث:
ألا إنّ بنى مروان يعيّرون بالزّرقاء، والله ما لهم نسب أصحّ منه، إلّا أنّ بنى العاص «1» . أعلاج من أهل صفّورية «2» ، فإن يكن هذا الأمر فى قريش فعنّى تقوّبت «3» بيضة قريش، وإن يك فى العرب فأنا ابن الأشعث، ومدّ بها صوته حتى سمعه الناس.(21/241)
وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبى، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبى، وعلى رجاله عبد الله «1» بن حبيب الحكمى.
وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية «2» الخثعمى.
وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمى، وعلى خيله عبد الرحمن ابن العباس «3» بن ربيعة الهاشمى، وعلى رجاله محمد بن سعد ابن أبى وقاص، وعلى مجنّبته «4» عبد الله بن رزام الحارثى، وجعل على القرّاء زحر «5» بن قيس الجعفى، وفيهم سعيد بن جبير بن هشاء الشعبى، واسمه عامر بن شراحيل، وأبو البخترى الطائى، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى.
وأخذوا فى القتال [فى كل يوم] «6» ، وأهل العراق تأتيهم موادّهم من الكوفة وسوادها، وهم فى خصب. وأهل الشام فى ضيق «7» شديد، قد غلت عندهم الأسعار، وفقد اللحم، حتى كأنهم فى حصار.
وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون «8» .
فعبّأ الحجاج فى بعض الأيام لكتيبة القرّاء ثلاث كتائب، وبعث عليها الجرّاح بن عبد الله الحكمى؛ فقام «9» جبلة بن زحر(21/242)
فى القراء، وحرضهم على القتال، وذمّ أهل الشام، وسمّاهم المحلّين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحقّ فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فلا ينكرونه فى كلام كثير قاله. وقال أبو البخترى: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم.
وقال الشعبى: أيّها الناس قاتلوهم قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم: فو الله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور فى حكم منهم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال جبلة: احملوا حملة صادقة ولا تردّوا وجوهكم عنهم.
فحملوا عليهم فأزالوا الكتائب عن مواقفها وفرّقوها وتقدّموا حتى واقعوا صفّهم، فأزالوه عن مكانه؛ ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلا.
وكان سبب قتله أنّ أصحابه لمّا حملوا على أهل الشام وفرّقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه، فافترقت فرقة من أهل الشام، فنظروا إليه، فقال بعضهم لبعض: احملوا عليه مادام أصحابه مشاغيل بالقتال، فحملوا عليه فلم يزل «1» ، وحمل عليهم فقتل؛ قتله الوليد ابن نحيت «2» الكلبى، وجىء برأسه إلى الحجاج، فبشّر أصحابه بقتله، فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلا سقط فى أيديهم، وظهر الفشل فى القراء [وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله، قد هلكتم وقتل طاغيتكم] «3» - وقدم عليهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة(21/243)
الشيبانى، ففرحوا به، وقالوا: تقوم مقام جبلة، وكان قدومه من الرىّ، فجعله عبد الرحمن على ربيعة، فدخل عسكر الحجاج، فأخذ من نساء أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن، فقال الحجاج:
منعوا نساءهم لو لم يردّوهنّ لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
قال: وخرج عبد الله بن رزام الحارثى يطلب «1» المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله عبد الله، فعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان فى اليوم الرابع خرج فقالوا: جاء لا جاء الله به! فقال الحجاج للجرّاح: اخرج إليه. فخرج، فقال له عبد الله:
ما جاء بك؟ ويحك يا جرّاح! وكان له صديقا. فقال: ابتليت بك. قال: فهل لك فى خير؟ قال الجرّاح: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجّاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأحتمل أنا مقالة الناس فى انهزامى حبّا لسلامتك، فإنى لا أحب قتل مثلك من قومى. قال: افعل.
فحمل الجرّاح عليه فاستطرد له، وحمل عليه الجرّاح بجدّ «2» .
يريد قتله، فصاح بعبد الله غلامه وقال: إنّ الرجل يريد قتلك.
فعطف عبد الله على الجرّاح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له:
يا جراح، بئسما جزيتنى! أردت بك العافية، وأردت قتلى. انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة.
قال: ودام القتال بينهم بدير الجماجم إلى آخر المدة التى ذكرناها،(21/244)
فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشدّ قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج، واستعلوا عليهم، وهم آمنون أن ينهزموا، فبينما هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو على ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرّة التميمى، وهو على ميسرة ابن الأشعث، فانهزم الأبرد بالناس من غير قتال، فظنّ الناس أنّ الأبرد قد صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوّضت الصفوف، وركب الناس بعضهم بعضا، وصعد عبد الرحمن [بن محمد] «1» المنبر ينادى الناس: إلىّ عباد الله؛ فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا أهل الشام، فقاتل من معه، ودخل أهل الشام العسكر، فأتاه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدى، فقال له: انزل، فإنى أخاف عليك أن تؤسر، ولعلك إذا انصرفت أن يجتمع «2» لك جمع يهلكهم الله به.
فنزل وانهزم هو ومن معه لا يلوون على شىء. ودخل الحجاج الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له: أتشهد أنك كفرت، فإن قال نعم بايعه، وإلا قتله.
فأتاه رجل من خثعم كان قد اعتزل الناس جميعا، فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربّص، أتشهد أنك كافر! فقال: بئس الرجل أنا إذا؛ أعبد الله «3» ثمانين سنة ثم أشهد على نفسى بالكفر.(21/245)
قال: إذا أقتلك، قال: وإن قتلتنى، فقتله. فما بقى أحد من أهل الشام والعراق إلّا رحمه.
وقتل كميل بن زياد وكان خصيصا بعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما، وأتى بآخر بعده، فقال الحجاج: أرى رجلا ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر، فقال له الرجل: أتخادعنى «1» عن نفسى، أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك الحجاج وخلّى سبيله.
قال: وأقام الحجاج بالكوفة شهرا، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة مع أهلها، وهو أوّل من أنزل الجند فى بيوت غيرهم، واستمرت هذه القاعدة بعده.
قال: وكان الحجاج لما انهزم الناس أمر مناديا فنادى: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو أمانه «2» . وكان قد ولّاه الرّىّ، فلحق به ناس كثير منهم الشعبى، فذكره الحجاج يوما بعد الفراغ من أمر ابن الأشعث، فقيل له: إنه لحق بقتيبة بالرّىّ؛ فكتب إلى قتيبة يأمره بإرساله.
قال الشعبى: فلما قدمت على الحجاج لقيت يزيد بن أبى مسلم وكان صديقا لى، فقال: اعتذر مهما «3» استطعت. وأشار بمثل ذلك إخوانى ونصحائى.
فلما دخلت على الحجّاج رأيت غير ما ذكروا «4» ، فسلمت عليه بالإمرة، وقلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمرونى أن أعتذر(21/246)
بما يعلم الله أنه غير الحق، وايم الله لا أقول فى هذا المقام إلّا الحق:
قد والله تمردنا «1» عليك وحرّضنا عليك، وجهدنا، فما كنّا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك.
وبعد فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحبّ إلىّ قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما قلت ولا شهدت، قد أمنت يا شعبى.
كيف وجدت الناس بعدنا، فقلت: أصلح الله الأمير، اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبىّ. فانصرفت.
نعود إلى بقية أخبار عبد الرحمن بن الأشعث:
ذكر الوقعة بمسكن «2»
قال: ولما انهزم عبد الرحمن من دير الجماجم أتى البصرة، فاجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، فاجتمعوا بمسكن، وبايعوه على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وجعل القتال من وجه واحد، وقدم إليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان، وأتاه الحجاج، فاقتتلوا خمسة عشر يوما من شعبان أشدّ قتال، وبات الحجاج يحرّض أصحابه، فلما أصبحوا باكروا القتال، واشتدّت(21/247)
الحرب، فانهزم ابن الأشعث ومن معه، وقتل عبد الرحمن بن أبى ليلى الفقيه، وأبو البخترى الطائى، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة فى أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة، وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا على أهل الشام، فكشفوهم مرارا، فدعا الحجاج الرّماة فرموهم، وأحاط بهم الناس، فقتلوهم إلا قليلا. ومضى ابن الأشعث إلى سجستان.
وقد قيل فى هزيمة ابن الأشعث بمسكن أنه اجتمع هو والحجاج، وكان العسكران بين دجلة والسّيب «1» والكرخ «2» ، فاقتتلوا شهرا أو دونه، فأتى شيخ فدلّ «3» الحجاج على طريق من وراء الكرخ «4» فى أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معهم أربعة آلاف، فسار بهم، ثم قاتل الحجاج أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السّيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمنا بعد أن نهب عسكر الحجاج، فأمن أصحابه، وألقوا السلاح. فلما كان نصف الليل لم يشعروا إلّا وقد أخذهم السيف من تلك السريّة، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممّن قتل، ورجع الحجاج على الصوت يقتل من وجد، فكان عدّة من قتل أربعة آلاف، منهم عبد الله بن شداد ابن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمر بن ضبيعة الرقاشى، وبشر ابن المنذر بن الجارود، وغيرهم.(21/248)
ذكر مسير عبد الرحمن الى رتبيل
وما كان من أمره وأمر أصحابه قال: ولما انهزم عبد الرحمن من مسكن سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمدا وعمارة بن تميم اللخمى، وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسّوس «1» ، فقاتله ساعة، ثم انهزم عبد الرحمن ومن معه، وساروا حتى بلغوا نيسابور «2» ، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالا شديدا على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، فانهزم عمارة وترك لهم «3» العقبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبعه، فلما وصل عبد الرحمن إليها لقيه عامله وقد هيّأ له منزلا «4» ، فنزل. ثم رحل إلى سجستان فأتى زرنج «5» وفيها عامله فأغلق بابها. ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياما ليفتحها فلم يصل إلى ذلك، فسار إلى بست «6» ، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن «7» هشام السدوسى الشيبانى. فاستقبله فأنزله. فلما غفل عنه أصحابه قبض عليه عياض، وأوثقه، وأراد أن يأمن به «8» عند الحجاج.
وكان رتبيل ملك الترك قد سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه(21/249)
ليستقبله لما كان قد تقرّر بينهما من العهود والمواثيق كما تقدم.
فلما بلغه أنّ عياضا قد قبض عليه نزل على بست، وبعث إلى عياض يتهدّده بالقتل إن هو لم يطلقه، فاستأمنه عياض، وأطلق عبد الرحمن، ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظّمه، وكان ناس كثير من أصحاب عبد الرحمن ممّن انهزم من الرءوس وقادة الجيوش الذين لم يقبلوا أمان الحجاج، ونصبوا له العداوة فى كل موطن قد بعثوا يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم ابن الأشعث. وكان عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يصلّى بهم إلى أن قدم ابن الأشعث. فلما قدم عليهم ساروا كلّهم ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم فى أهل الشام؛ فقال أصحاب عبد الرحمن له: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يزيد بن المهلب، وهو رجل شجاع، ولا يترك لكم سلطانه، ولو دخلناها لقاتلنا وتتبعنا «1» أهل الشام، فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. فقالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتّبعنا أكثر ممّن يقاتلنا. فسار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشى فى ألفين. فقال لهم عبد الرحمن:
إنى كنت فى مأمن وملجأ، فجاءتنى كتبكم أن أقبل، فإنّ أمرنا واحد، فلعلنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم فرأيتم أن أمضى إلى خراسان، و [زعمتم] «2» أنكم مجتمعون لى «3» ولا تتفرّقون، وهذا عبيد الله قد صنع(21/250)
ما رأيتم، فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبى الذى أتيت من عنده.
فتفرّق منهم طائفة وبقى معه طائفة، وبقى عظم العسكر مع عبد الرحمن «1» بن العبّاس [فبايعوه «2» ] ، فأتوا هراة، فلقوا بها الرّقاد «3» الأزدى فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب.
وقيل: لما انهزم ابن الأشعث من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان، فاجتمع معه فل ابن الأشعث. فساروا إلى «4» خراسان فى عشرين ألفا، فنزل هراة، ولقى الرّقاد [بن عبيد العتكى] «5» بها فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب وهو عامل خراسان يقول: قد كان لك فى البلاد متّسع، من «6» هو أهون منى شوكة؛ فارتحل إلى بلد ليس [لى] «7» فيه سلطان، فإنى أكره قتالك، وإن أردت مالا أرسلت إليك.
فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام، ولكن أردنا أن نريح، ثم نرحل عنك، وليست بنا إلى المال حاجة.
ثم أقبل عبد الرحمن بن العباس على الجباية، وبلغ ذلك يزيد ابن المهلب، فقال: من أراد أن يريح ثم يرحل لم يجب الخراج،(21/251)
وسار نحوه، وأعاد مراسلته يقول: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج، فلك ما جبيت وزيادة، فاخرج عنى، فإنى أكره قتالك، فأبى إلّا القتال.
وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد بذلك، فقال: جلّ الأمر عن العتاب، ثم تقدّم إليه فقاتله، فلم يكن بينهما «1» كثير قتال، حتى تفرّق أصحاب عبد الرحمن عنه، وصبر وصبرت معه طائفة، ثم انهزموا.
وأمر يزيد أصحابه بالكفّ عن اتباعهم، وأخذ ما كان فى عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، منهم محمد بن سعد بن أبى وقّاص، وعمر ابن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش «2» بن الأسود بن عوف الزّهرى، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز ابن حصين، وأبو العلج «3» مولى عبيد الله بن معمر، وسوّار ابن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى، وعبد الله بن فضالة الزّهرانى الأزدى، ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسّند، وأتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد بن المهلب إلى مرو.
وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نجدة «4» إلّا عبد الرحمن ابن طلحة فإنه أطلقه.
وكان سبب إطلاقه أن حبيب بن المهلب قال لأخيه يزيد لما أراد(21/252)
أن يسير الأسرى: بأى وجه تنظر إلى اليمانية، وقد بعثت عبد الرحمن ابن طلحة؟ فقال يزيد: إنه الحجاج، فلا تتعرض «1» إليه. قال:
وطّن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإنّ له عندنا يدا. قال:
وما هى؟ قال: ألزم المهلّب فى مسجد الجماعة بمائة ألف، فأدّاها طلحة عنه، فأطلقه يزيد، ولم يرسل أيضا عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين.
فلما قدموا على الحجاج أحضر فيروز، فقال له الحجاج:
أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم. قال: فتنة عمّت الناس. قال: اكتب لى أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفى ألف، فذكر مالا كثيرا. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ فقال: عندى. قال:
فأدّها. قال: وأنا آمن على دمى؟ قال: والله لتؤدّينّها ثم لأقتلنّك.
قال: والله لا يجتمع دمى ومالى. فأمر به فنحى، ثم أحضر محمد ابن سعد بن أبى وقاص، فقال: يا ظلّ الشيطان، أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا «2» . وجعل يضرب رأسه بعمود «3» فى يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل.
ثم دعا بعمر بن موسى، فقال: يا عبد المرأة، تقوم بالعمود على(21/253)
رأس «1» ابن الحائك- يعنى ابن الأشعث وتشرب معه فى الحمام «2» .
فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبفضلك وحلمك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين.
فقال الحجاج: إنها شملت الفجّار، وعوفى منها الأبرار، أمّا اعترافك فعسى أن ينفعك، فرجا «3» الناس السلامة. ثم أمر به فقتل.
ثم دعا بالهلقام بن نعيم، فقال له: احسب «4» أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذى أمّلت أنت معه! قال: أمّلت أن يملك فيولّينى العراق كما ولّاك عبد الملك إياه، فأمر به فقتل. ودعا عبد الله بن عامر.
فلما أتاه قال له: يا حجاج، لا رأت عينك الجنة إن أفلت «5» ابن المهلب بما صنع، قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس «6» فى إطلاق أسرته ... وقاد نحوك فى أغلالها مضر
وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطر
فأطرق الحجاج، ووقرت فى قلبه، وقال: ما أنت وذاك؟
ثم أمر به فقتل.(21/254)
ثم أمر بفيروز فعذّب، فلما أحسّ بالموت قال للموكّل بعذابه:
إنّ الناس لا يشكّون أنى قد قتلت، ولو دائع وأموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا؛ فأظهرنى «1» للناس ليعلموا أنى حى، فيؤدّوا المال.
فأعلم الحجاج بقوله، فقال: أظهروه «2» ، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح فى الناس: من عرفنى فقد عرفنى، ومن أنكرنى فأنا فيروز بن حصين، إن لى عند أقوام مالا، فمن كان لى عنده شىء فهوله، وهو منه فى حلّ، فلا يؤد أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب، فأمر به الحجاج فقتل.
وأمر بقتل عمر بن «3» قرّة الكندى، وكان شريفا، وقتل أعشى همدن، وأتى بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما، إن لى عندك يدا. قال: وما هى؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوما أمك بسوء فنهيته.
قال: من يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر. فسأله الحجاج فصدقه.
فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعنى الصّدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعنى البغض لك ولقومك. قال: خلّوا عن هذا لفعله. وعن هذا لصدقه.(21/255)
وأما ابن الأشعث فإنه سار إلى رتبيل، فأقام عنده، فكتب إليه الحجاج: أن ابعثه إلىّ وإلّا فو الذى لا إله غيره لأوطئنّ أرضك ألف ألف مقاتل، وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم اسمه عبيد ابن سبيع «1» التميمى، وكان رسوله إلى رتبيل. فقال القاسم بن محمد ابن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إنى لا آمن غدر هذا التميمى فاقتله.
فخافه عبيد على نفسه، فوشى به إلى رتبيل، وخوّفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث، وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفّنّ «2» عن أرضك سبع سنين، على أن تدفع إليه عبد الرحمن.
فأجابه إلى ذلك.
فخرج عبيد إلى عمارة سرّا فذكر ذلك له، فكتب عمارة إلى الحجاج بذلك. فأجابه إليه، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن، وذلك فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين.
وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فقطع رتبيل رأسه.
وقيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمى عن «3» ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك، فأطلق له خراج بلاده عشر سنين.(21/256)
فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته، فحضروا عنده، فقيّدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر فمات، فاحتزّ رأسه، وسيّره إلى الحجاج، وسيّره الحجاج إلى عبد الملك مع عرار بن عمرو بن شأس، وكتب معه كتابا، فجعل عبد الملك يقرأ كتاب الحجاج، فإذا شكّ فى شىء سأل عرارا عنه فيخبره به، وكان عرار أسود اللون، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده، وهو لا يعرفه فتمثّل «1» :
وإن «2» عرارا إن يكن غير واضح ... فإنى أحبّ الجون ذا المنطق العمم
فضحك عرار، فقال له عبد الملك: مالك تضحك؟ فقال:
أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فأنا هو. فضحك عبد الملك ثم قال: حظّ وافق حكمة. وأحسن جائزته، وسرّحه.
وروى أبو عمر بن عبد البر بسند رفعه إلى العتبى عن أبيه، قال «3» :
كتب الحجاج إلى عبد الملك كتابا يصف له فيه أهل العراق وما ألفاهم عليه من الاختلاف وما يكرهه «4» منهم، وعرّفه ما يحتاجون إليه من التقويم والتأديب، ويستأذنه أن يودع قلوبهم من الرهبة ما يخفّون به إلى الطاعة، ودعا رجلا من أصحابه كان يأنس به، فقال له: انطلق بهذا الكتاب، ولا يصلنّ من يدك إلّا إلى يد أمير المؤمنين، فإذا قبضه فتكلّم عليه.(21/257)
ففعل الرجل ذلك، فجعل «1» عبد الملك كلّما شكّ فى شىء يستفهمه «2» ، فوجده أبلغ من الكاتب «3» ، فقال [عبد الملك] «4» :
وإن عرارا إن يكن غير واضح ... البيت.
فقال [له] «5» الرجل: يا أمير المؤمنين، أتدرى من يخاطبك؟
قال: لا. قال: أنا عرار، وهذا الشّعر لأبى، وذلك أنّ أمى ماتت وأنا مرضع، فتزوّج أبى امرأة فكانت تسىء «6» ولايتى، فقال أبى:
فإن كنت منى أو «7» تريدين صحبتى ... فكونى له كالشّمس ربّت به الأدم
وإلّا فسيرى سير راكب ناقة ... تيمّم خبتا ليس فى سيره أمم
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمرى بالهوان لقد «8» ظلم
وإنّ عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّى أحبّ الجون ذا المنطق العمم
ولما جىء بالرأس إلى عبد الملك أرسله إلى أخيه عبد العزيز بمصر، فقال بعض الشعراء:(21/258)
هيهات موضع جثّة من رأسها ... رأس بمصر وجثّة بالرّخّج «1»
وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان فى سنة [84 هـ] أربع وثمانين.
ولنرجع إلى تتمة حوادث السنين:
وفى سنة (81 هـ) احدى وثمانين:
حج بالناس سليمان [بن عبد الملك] «2» .
سنة (82 هـ) اثنتين وثمانين:
فى هذه السنة كانت وفاة المغيرة بن المهلّب بخراسان فى شهر رجب منها، وكان أبوه قد استخلفه على عمله.
ذكر وفاة المهلب بن أبى صفرة
ووصيّته لبنيه وولاية ابنه يزيد خراسان وفى هذه السنة توفى المهلّب بن أبى صفرة بمرو الروذ بالشّوصة وقيل بالشّوكة «3» ، وأوصى إلى حبيب ابنه فصلّى عليه، وقال لبنيه:
إنى قد استخلفت عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال ابنه المفضّل:
لو لم تقدمه لقدمناه، وأحضر ولده فأوصاهم، وأحضر سهاما محزومة فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفتكسرونها متفرّقة؟
قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الرحم، فإنها تنسىء فى الأجل وتثرى المال، وتكثر العدد؛(21/259)
وأنهاكم عن القطيعة؛ فإنها تعقب النار والذلّة والقلّة، وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم «1» ، واتّقوا الجواب وزلّة اللسان، فإن الرجل يزلّ قدمه فينتعش «2» ، ويزل لسانه فيهلك، واعرفوا لمن يغشاكم حقّه، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبّوا العرب «3» ، واصنعوا المعروف «4» ؛ فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف بالصنيعة عنده! وعليكم فى الحرب بالتؤدة «5» والمكيدة، فإنهما «6» أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ الرجل «7» بالحزم فظفر قيل: أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، فإن لم يظفر [بعد الأناة] «8» قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وآداب «9» الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام فى مجالسكم.
ومات رحمه الله. فكتب ابنه يزيد إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فأقره على خراسان.
*** وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة فى جمادى الاخرة، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومى.(21/260)
وحجّ بالناس أبان بن عثمان.
سنة (83 هـ) ثلاث وثمانين:
ذكر خبر عمر بن أبى الصلت
وخلعه الحجاج بالرىّ وما كان من أمره قال: لما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبى الصّلت، وكان قد غلب على الرىّ فى تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالرّىّ أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون به عن أنفسهم عثرة «1» الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه؛ أبا الصّلت، وكان به بارّا، فأشار بذلك عليه وألزمه به، وقال. يا بنى، إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبالى أن تقتل غدا. ففعل. فلما قارب قتيبة الرّىّ استعدّ لقتاله، فالتقوا، واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهذ «2» وأكرمه وأحسن نزله، فقال عمر لأبيه: إنك أمرتنى بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك وكان خلاف رأيى، ولم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا الأصبهذ فدعنى حتى أثب إليه «3» فأقتله. وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أنّى أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا برجل «4» أوانا وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم، وسترى.
ودخل قتيبة الرى، وكتب إلى الحجاج بانهزام عمر إلى طبرستان.
فكتب الحجاج إلى الأصبهذ «5» أن ابعث بهم أو برءوسهم «6» ، وإلا فقد(21/261)
برئت منك الذمّة، فصنع لهم الأصبهذ طعاما وأحضرهم، فقتل عمر، وبعث أباه أسيرا. وقيل: قتلهم وبعث برءوسهم. والله أعلم.
ذكر بناء مدينة واسط
وفيها بنى الحجاج مدينة واسط، وسبب ذلك أنّه ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمّام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس [بابنة عمّ له] «1» ، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه، فطرق «2» عليه الباب طرقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت المرأة لبعلها: لقد لقينا من هذا الشامى شرّا يفعل بنا كلّ ليلة ما ترى- يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال: ائذنى له، فأذنت له. فلما دخل قتله زوجها.
فلما أذّن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صلّيت الفجر فابعثى إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك إلى «3» الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه، ففعلت، وأحضرت إلى الحجاج، فأخبرته فصدّقها، وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل، فإنه قبيل «4» الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلنّ أحد على أحد، وبعث روّادا يرتادون له منزلا، وأقبل حتى نزل بموضع «5» واسط، وإذا راهب قد أقبل على حمار، فلما كان بموضع واسط بال الحمار، فنزل الراهب فاحتفر «6» ذلك البول ورماه فى دجلة(21/262)
والحجاج ينظر إليه، فاستحضره وقال له: ما حملك على ما صنعت؟
قال: نجد فى كتبنا أنه يبنى فى هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام فى الأرض أحد يوحّد الله.
فاختطّ الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد فى ذلك الموضع.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل.
سنة (84 هـ) أربع وثمانين:
فى هذه السنة قتل الحجاج أيوب بن القرّيّة «1» ، وكان مع ابن الأشعث، فلما هزم التحق أيّوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج وقتله.
وحجّ بالناس هشام بن إسماعيل.
سنة (85 هـ) خمس وثمانين:
ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وولاية أخيه المفضل
وفى هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلّب عن خراسان، وكان سبب عزله أنّ الحجاج وقد إلى عبد الملك فمرّ فى طريقه براهب، فقيل له: إنّ عنده علما، فأحضره الحجاج، وسأله:
هل تجدون فى كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: فمسمّى أو موصوفا؟ قال: كلّ ذلك نجده موصوفا «2» بغير اسم ومسمّى بغير صفة «3» . قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال:
نجده فى زماننا ملك أفرع من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم(21/263)
من «1» ؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبىّ يفتح به على الناس. قال: [أتعرفنى؟ قال: قد أخبرت بك.
قال: أفتعلم ما ألى؟ قال: نعم] «2» . قال: أفتعلم من يلى بعدى؟
قال: نعم، رجل يقال له يزيد، قال: أفتعرف صفته؟
قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا.
فوقع فى نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب. فلما عاد كتب إلى عبد الملك يذمّ يزيد وآل المهلب، ويخبره أنهم زبيرية.
فكتب إليه عبد الملك: إنى أرى طاعتهم لآل الزبير نقصا لال المهلب، بل وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لى.
فكتب إليه الحجاج يخوّفه غدره.
فكتب إليه: إنك قد أكثرت فى يزيد وآل المهلب فسمّ رجلا يصلح لخراسان. فسمّى له قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن ولّه.
فكره الحجاج أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضّل ويقبل إليه.
فاستشار يزيد حضين «3» بن المنذر الرّقاشى: فقال له: أقم واعتلّ، واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرّك، فإنه حسن الرّأى فيك.
فقال له يزيد: نحن أهل قد بورك لنا فى الطاعة، وأنا أكره الخلاف. وأخذ يتجهز فأبطأ.(21/264)
فكتب الحجاج إلى المفضّل: إنى قد ولّيتك خراسان، فجعل المفضل يستحثّ يزيد، فقال له [يزيد] «1» : إنّ الحجاج لا يقرّك بعدى، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، وستعلم.
وخرج يزيد فى شهر ربيع الآخر سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وأقرّ الحجاج أخاه المفضّل تسعة أشهر، ثم عزله، واستعمل قتيبة على ما نذكره، وسار يزيد بن المهلب فكان «2» لا يمرّ بتبلد إلّا فرش أهلها الرياحين.
ذكر أخبار موسى بن عبد الله بن خازم واستيلائه على ترمذ «3»
وما كان من حروبه مع العرب والترك وخبر مقتله كان موسى بن عبد الله قد استولى على ترمذ، وأخرج ترمذ شاه عنها، وسبب ذلك أن أباه عبد الله لما قتل من قتل من بنى تميم بخراسان «4» كما تقدّم ذكر ذلك فى أثناء أخبار عبد الله ابن الزّبير تفرّق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلى واقطع(21/265)
نهر بلخ حتى تلتجىء «1» إلى بعض الملوك أو إلى حصن تكون «2» فيه.
فرحل موسى عن مرو فى عشرين ومائتى فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضوى «3» إليه قوم من بنى سليم «4» ، فأتى زمّ «5» ، فقاتله أهلها، فظفر بهم، وأصاب مالا، وقطع النهر. فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه.
[وقال: رجل فاتك] «6» فلا آمنه، ووصله، وسار فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلّا كره مقامه عنده.
فأتى سمرقند، فأكرمه ملكها طرخون وأذن له فى المقام بها، فأقام بها ما شاء الله. وكان لأهل الصّغد مائدة توضع فى كل عام مرة، عليها خبز ولحم وخلّ وإبريق شراب، يجعلون ذلك لفارس الصّغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه بارزه الفارس. فأيّهما قتل صاحبه كانت المائدة له، وكان الفارس المشار إليه، فرآها رجل من أصحاب موسى، فقال: ما هذه؟ فأخبر، فأكل ما عليها.
وجاء الفارس مغضبا، فقال: يا أعرابى، بارزنى، فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصّغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم(21/266)
فارسى، فلولا أنى أمنتك وأصحابك لقتلتك «1» ، اخرجوا عن بلدى.
فخرجوا، فأتى موسى كشّ، فضعف صاحبها عنه، فاستنصر طرخون فأتاه، فقاتله موسى وقد اجتمع معه سبعمائة فارس يوما حتى أمسوا وتحاجزوا، ثم اتفقوا أن يرتحل موسى عن كشّ؛ فسار فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه «2» أن يدخله الحصن فأبى، فأهدى له موسى ولاطفه حتى أنس به، وصارت بينهما مودّة، وتصيّد معه، وصنع صاحب ترمذ «3» طعاما، وأحضر موسى ليأكل معه، وشرط ألّا يحضر إلّا فى مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة منهم، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له ترمذشاه: اخرج.
قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتى أو قبرى، وقاتلهم فقتل منهم عدّة وهرب الباقون، واستولى موسى عليها، وأخرج ترمذشاه منها، ولم يعرض له، ولا لأصحابه.
فأتوا التّرك يستنصرونهم على موسى، فلم ينصروهم، وقالوا:
لا نقاتل هؤلاء.
وأقام موسى بترمذ، وأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوى بهم، فكان يغير على ما حوله.(21/267)
وولى بكير بن وسّاج «1» خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أميّة «2» .
فسار يريده؛ فخالفه بكير، فرجع على ما تقدم «3» ، ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة فى جمع كثير لقتال موسى، فجاء إلى ترمذ وحصره، فعاد أهل ترمذ إلى الترك، واستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه، فسارت التّرك فى جمع كثير «4» إلى الخزاعى فأطاف بموسى العرب «5» والترك، فكان يقاتل الخزاعى أول النهار والتّرك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة.
ثم أراد أن يبيّت الخزاعى، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابى: بيّت العجم، فإنّ العرب أشد حذرا وأجرأ «6» على الليل.
فوافقه.
وأقام حتى ذهب ثلث الليل، وخرج فى أربعمائة، وقال لعمرو ابن خالد: اخرج بعدنا أنت ومن معك [منا] «7» قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا.
ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم، وجعل أصحابه أرباعا، وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟
قالوا: عابرو سبيل. فلما جاوزوا الرصد حملوا على التّرك وكبّرو(21/268)
فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف فيهم، فثاروا «1» يقتل بعضهم بعضا وولّوا. فحوى موسى ومن معه عسكرهم، وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا، وأصيب من أصحاب موسى ستة عشر رجلا، وأصبح الخزاعى وأصحابه وقد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إنّا لا «2» نظفر إلّا بمكيدة، ولهؤلاء أمداد تأتيهم، فدعنى آته لعلّى أصيب فرصة فأقتل الخزاعى، فاضربنى. فقال موسى:
تتعجّل الضّرب، وتتعرّض للقتل؟ قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرّض له، وأما الضّرب فما أيسره فى حبّ «3» ما أريد.
فضربه موسى خمسين سوطا، فخرج حتى أتى عسكر الخزاعى مستأمنا، وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمنى وقال: قد تعصّبت لعدوّنا، وأنت عين له، ولم آمن القتل، فهربت منه.
فأمّنه الخزاعىّ، وأقام معه، فدخل يوما فلم ير عنده أحدا ولا معه سلاحا، فقال له كالناصح: أصلح الله الأمير، إنّ مثلك فى مثل هذا الحال لا ينبغى أن يكون بغير سلاح. قال: إن معى سلاحا، ورفع طرف فراشه، فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضرب به الخزاعى حتى قتله، وخرج فركب فرسه وأتى موسى.
وتفرّق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمنا فأمّنه، ولم يوجّه إليه أمية أحدا.(21/269)
وعزل أمية، وقدم المهلّب [أميرا] «1» ، فلم يعرض لموسى، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة خراسان مادام هذا الثّطّ «2» بمكانه، فإن قتل فأول طالع عليكم أمير خراسان من قيس.
فلما مات المهلّب وولى يزيد لم يعرض «3» إليه أيضا، وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعى، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما، وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ، فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به يزيد، وكان ثابت محبوبا إلى الترك بعيد الصوت فيهم «4» ؛ فغضب له طرخون، وجمع له نيزك والسّبل وأهل بخارى والصّغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى، واجتمع لموسى أيضا فلّ عبد الرحمن ابن العباس من هراة وفلّ عبد الرحمن بن الأشعث من العراق، ومن ناحية كابل، [وقوم من بنى تميم ممن كان يقاتل ابن خازم فى الفتنة من أهل خراسان] «5» ، فاجتمع معه «6» ثمانية آلاف.
فقال له ثابت وحريث: سر بنا حتى نقطع النهر ونخرج يزيد عن خراسان ونولّيك.
فهمّ أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد عن(21/270)
خراسان تولّى ثابت وأخوه خراسان وغلبا عليها، فامتنع من المسير، وقال لثابت وحريث: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وتكون [هذه الناحية] «1» لنا؛ فأخرجوا عماله، وجبوا الأموال، وقوى أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبدّ ثابت وحريث بتدبير الأمر، وليس لموسى إلا اسم الإمرة. فقيل لموسى: اقتل ثابتا وحريثا، واستقلّ بالأمر، فإنه ليس لك من الأمر شىء. وألحّ أصحابه عليه فى ذلك حتى همّ بقتلهما.
فبينما هم فى ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبّت والترك فى سبعين ألف مقاتل غير الأتباع ومن ليس هو كامل السلاح.
فخرج موسى وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تلّ فى عشرة آلاف فى أكمل عدّة، وقد اشتدّ القتال، فقال موسى لأصحابه:
إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشىء، فقصدهم «2» حريث بن قطبة وقاتلهم حتى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث بنشّابة فى جبهته، وتحاجزوا وبيّتهم موسى، فحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة «3» ملكهم، فوجأ رجلا منهم بقبيعة «4» سيفه، فطعن فرسه فاحتمله الفرس فألقاه فى نهر بلخ فغرق وقتل من التّرك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشرّ، ومات حريث بيومين «5»(21/271)
ورجع موسى وحمل معه الرءوس، فبنى منها جوسقين، وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر «1» ثابت، فأبى، وبلغ ثابتا بعض ذلك فدسّ «2» محمد بن عبد الله الخزاعى على موسى، وقال:
إياك أن تتكلم بالعربية، فإن «3» سألوك فقل: أنا من سبى «4» الباميان، ففعل ذلك، وتلطّف حتى اتصل بموسى وصار يخدمه «5» وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت. وألحّ القوم على موسى، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم على؛ وفيما تريدون هلاككم، فعلى أىّ وجه تقتلونه ولا أغدر به «6» . فقال له أخوه نوح: إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدّور فضربنا عنقه قبل أن يصل إليك. فقال: والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم.
فخرج الغلام فأخبر ثابتا فخرج من ليلته فى عشرين فارسا ومضى، وأصبحوا فلم يجدوه ولا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له، ونزل ثابت بحشورا «7» ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأتاه موسى وقاتله فتحصن ثابت بالمدينة، وأتى طرخون معينا له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى، ونسف وكشّ «8» ، فاجتمعوا فى ثمانين ألفا، فحصروا(21/272)
موسى حتى جهد هو وأصحابه، فقال يزيد بن «1» هذيل: والله لأقتلنّ ثابتا أو لأموتنّ، فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير:
أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك «2» إلّا بغدرة، فاحذره. فأخذ ابنيه:
قدامة، والضحاك رهنا، فكانا فى يد ظهير، وأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعى، فخرج ثابت إليه ليعزيه [ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هذيل] «3» وهو بغير سلاح، وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه [فعضّ السيف برأسه] «4» ، فوصل إلى الدماغ وهرب، فسلم. فأخذ طرخون قدامة والضحاك ابنى يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام، ومات.
وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت [فقاما قياما ضعيفا] «5» ، فانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك، وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضّأه فكيف يبيّتنا، لا يحرس الليلة أحد.
فخرج موسى فى ثمانمائة، وجعلهم أرباعا، وبيّتهم فكانوا لا يمرّون بشىء إلّا صرعوه «6» من الرجال والدوابّ وغيرها، فأرسل طرخون إلى موسى: أن كفّ أصحابك، فإنا نرحل إذا أصبحنا، فرجع موسى وارتحل «7» طرخون والعجم جميعا.(21/273)
فلما عزل يزيد بن المهلب وولى المفضّل أراد أن يحظى عند الحجّاج بقتال موسى، فسيّر إليه عثمان بن مسعود فى جيش، وكتب إلى أخيه مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النّهر فى خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيّقوا عليه، فمكث شهرين فى ضيق، وقد خندق عثمان عليه، وحذر البيات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى متى نصبر «1» ؟
فاجعلوا يومكم معهم إمّا ظفرتم وإما قتلتم، واقصدوا الترك.
فخرجوا وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم فى المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعنّ المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك ابن المهلب، وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه «2» إلا إن قاتلكم، وقصد طرخون وأصحابه فصدقوهم القتال، فانهزم طرخون، واستولى موسى على عسكره، وزحفت «3» التّرك والصّغد، فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا «4» فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملنى. فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا.
فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وتب قال: وثبة موسى وربّ الكعبة، وقصده وعقرت فرسه، فسقط هو ومولاه فقتلوه، ونادى منادى عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيرا، ولا تقتلوا أحدا، فقتل ذلك(21/274)
اليوم من الأسرى خلقا كثيرا من العرب خاصة، فكان يقتل العربى ويضرب المولى ويطلقه، وكان الذى أجهز على موسى واصل ابن طيسلة «1» العنبرى، وسلّم النضر المدينة إلى مدرك فسلمها مدرك إلى عثمان، وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فلم يسرّه ذلك، لأنه من قيس.
وكان مقتل موسى فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان مقام موسى بالحصن أربع عشرة سنة. وقيل خمس عشرة سنة.
ذكر وفاة عبد العزيز بن مروان
وولاية عبد الله بن عبد الملك مصر والبيعة للوليد وسليمان ابنى عبد الملك بولاية العهد كانت وفاته بمصر فى جمادى الأولى سنة [85 هـ] خمس وثمانين، وكان عبد الملك أراد أن يخلعه من ولاية العهد، ويبايع لابنه الوليد، فنهاه قبيصة بن ذؤيب عن ذلك، وقال: لا تفعل، ولعل الموت يأتيه، فكفّ عنه عبد الملك ونفسه تنازعه إلى خلعه؛ فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجلّ الناس عند عبد الملك، وقال:
يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيها عنزان؛ وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله ونفعل.
ونام روح عنده، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدّم إلى حجّابه ألّا يحجبوا قبيصة عنه، وكان(21/275)
إليه الخاتم والسكّة، والأخبار تأتيه قبل عبد الملك، فلما دخل سلّم عليه، وقال: آجرك الله فى عبد العزيز أخيك! قال: هل توفى؟
قال: نعم. فاسترجع، ثم أقبل على روح، وقال: كفانا الله «1» ما نريد. وكان هذا مخالفا لك يا قبيصة. وضمّ عبد الملك عمل عبد العزيز إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وأمر بالبيعة لابنيه:
الوليد، وسليمان، فبايعهما الناس، وكتب بذلك إلى الأمصار، وكان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومى، فدعا الناس إلى البيعة، فأجابوا إلا سعيد بن المسيّب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حىّ، فضربه هشام ضربا مبرّحا، وطاف به وهو فى تبّان «2» شعر حتى بلغ رأس الثنية [التى يقتلون ويصلبون عندها] «3» ، ثم ردّه وحبسه.
فبلغ ذلك عبد الملك، فقال: قبّح الله هشاما، إنما كان ينبغى له أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع يضرب عنقه أو يكفّ عنه.
وكتب إليه يلومه ويقول: إن سعيدا ليس عنده شقاق ولا خلاف؛ وقد كان سعيد امتنع أيضا من بيعة ابن الزبير، وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس، فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستّين سوطا.
فكتب ابن الزبير إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد! دعه، لا تعرض له.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هشام بن إسماعيل.(21/276)
سنة (86 هـ) ست وثمانين:
ذكر وفاة عبد الملك بن مروان
كانت وفاته بدمشق فى منتصف شوال سنة [86 هـ] ستّ وثمانين، وكان يقول: أخاف الموت فى شهر رمضان، فيه ولدت، وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لى الناس، فمات فى شوّال حين أمن الموت فى نفسه، واختلف فى عمره من ثلاث وستين سنة إلى سبع وخمسين.
وصلّى عليه ابنه ولىّ عهده الوليد.
وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة عشر يوما، خلص له الأمر منها بعد مقتل عبد الله بن الزّبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلّا سبع ليال، ودفن بدمشق خارج باب الجابية.
قيل: ولما اشتدّ مرضه نهاه بعض الأطباء أن يشرب الماء، وقال:
إن شرب الماء مات، فاشتدّ عطشه، فقال: يا وليد، اسقنى ماء.
قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقينى، فمنعها الوليد.
فقال: لتدعنّها أو لأخلعنّك. فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته فمات.
ودخل عليه الوليد وابنته فاطمة عند رأسه تبكى، فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح ممّا كان. فلما خرج قال عبد الملك «1» :
ومستخبر عنا يريد بنا «2» الردّى ... ومستخبرات والدموع سواجم(21/277)
ذكر وصيته بنيه عند موته
قال «1» : وأوصى بنيه عند موته، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنه أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حقّ الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذى تفرّون «2» ، ومجنّكم الذى عنه ترمون، وأكرموا الحجاج فإنّه الذى وطّألكم المنابر «3» ودوّخ لكم البلاد، وأذلّ لكم الأعداء، وكونوا بنى أم بررة. لا تدبّ بينكم العقارب، وكونوا فى الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرّب ميتة، وكونوا للمعروف منارا؛ فإن المعروف يبقى أجره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوى الأحساب، فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتغمّدوا «4» ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا.
ذكر أولاده وأزواجه
كان له: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر- درج، وعائشة؛ أم هؤلاء ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة «5» .
ويزيد ومروان «6» ومعاوية [درج، وأم كلثوم، أمهم عاتكة ابنة(21/278)
يزيد بن معاوية] «1» ، وهشام أمه «2» أم هشام بنت هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد «3» بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة، وأبو بكر، وهو بكار، أمّه عائشة بنت موسى بن طلحة ابن عبيد الله، والحكم- درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفّان، وفاطمة، أمّها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام ابن المغيرة، وعبد الله «4» ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير [وقبيصة «5» ] لأمهات أولاد؛ وكان له من النساء [سوى من ذكرناه] «6» شقراء بنت حلبس الطائى، وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبى طالب.
ذكر شىء من أخباره وعماله
قالوا: كان عبد الملك بن مروان عاقلا حازما أدبيا لبيبا عالما، قال أبو الزّناد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيّب، وعروة ابن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبى رحمه الله: ما ذاكرت أحدا إلّا وجدت لى الفضل عليه، إلّا عبد الملك، فإنى ما ذاكرته حديثا إلّا زادنى فيه، ولا شعرا إلّا زادنى فيه، قالوا:
وكان محبا للفخر والبذخ، وكثرت الشعراء على أيامه، وكان من فحول شعرائه جرير والفرزدق والأخطل وكثيّر.
وكان عبد الملك مقدما على سفك الدماء، وكذلك كانت عمّاله:
فكان الحجاج بالعراق، والمهلب بن أبى صفرة بخراسان، وهشام(21/279)
ابن إسماعيل المخزومى بالمدينة، وعبد الله ولده بمصر، وموسى ابن نصير اللّخمى بالمغرب، ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن، ومحمد بن مروان بالجزيرة؛ وما منهم إلّا من هو ظالم غشوم جائر.
وكان نقش خاتمة: آمنت بالله مخلصا.
وكتّابه: روح بن زنباع، ثم قبيصة بن ذؤيب، وغيرهما.
قاضيه: أبو بشر الخولانى، وعبد الله بن قيس.
حاجبه: يوسف مولاه.
الأمراء بمصر وقضاتها
أقرّ عبد الملك أخاه عبد العزيز على إمارة مصر إلى أن مات، فولّى ابنه عبد الله. وكان القاضى بمصر عابس إلى أن مات، فولى عبد العزيز بشير بن النّضر بن بشير المزنى، ثم مات فولّاها عبد الرحمن بن حجر الخولانى. ثم صرفه وولى يونس الحضرمى، ثم صرفه وولى عبد الرحمن بن معاوية بن خديج القضاء والشرطة، فلما ولى عبد الله بن عبد الملك أقرّ عبد الرحمن على القضاء ثم صرفه وولى عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل ابن حسنة ثم عزله، وولى عبد الواحد بن عبد الرحمن بن خديج.
قال: وعبد الملك أول من غدر فى الإسلام: حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق.
وهو أول من نقل الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية.
وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس من قبله يراجعونهم.
وهو أوّل من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال فى خطبته بعد(21/280)
قتل ابن الزبير: ولا يأمرنى أحد بتقوى الله تعالى بعد مقامى هذا إلّا ضربت عنقه.
ذكر بيعة الوليد بن عبد الملك
هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، وأمه ولادة بنت العباس بن جزء، وقد تقدم ذكر نسبها، وهو السادس من ملوك بنى أمية. بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه، وذلك فى يوم الخميس النصف من شوال سنة ست وثمانين. قال: ولما دفن أبوه عبد الملك انصرف عن قبره فدخل المسجد ورقى المنبر فخطب الناس، وقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة. قوموا فبايعوا، فكان أول من عزّى نفسه وهنّأها، وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولى وهو يقول «1» :
الله أعطاك التى لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك، ويأبى الله إلّا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها
وبايعه، وقام «2» الناس للبيعة «3» .
وقد قيل: إنّ الوليد لمّا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، لا مقدّم لما أخّر الله، ولا مؤخّر لما قدّم، و [قد] «4» كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه(21/281)
الموت، وقد صار إلى منازل الأبرار ولىّ هذه الأمة بالذى يحقّ لله عليه فى الشدة على المذنب «1» واللين لأهل الحقّ والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه «2» ؛ من حجّ البيت، وغزو الثّغور.
وشنّ الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرّطا.
أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد.
أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذى فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه، ثم نزل.
ولنبدأ من أخبار الوليد بالغزوات والفتوحات، ثم نذكر الحوادث على حكم السنين:
ذكر الغزوات والفتوحات التى اتفقت فى خلافة الوليد بن عبد الملك
ولنبدأ من ذلك بأخبار قتيبة بن مسلم وما فتحه من البلاد:
ذكر ولاية قتيبة بن مسلم خراسان وغزواته وفتوحاته
فتح قتيبة بن مسلم فى مدّة ولايته خراسان من بلاد ما وراء النّهر:
الصّغانيان «3» ، وأخرون، وكاسان «4» ، وأورشت، وهى من فرغانة(21/282)
وأخسيكت «1» ، وهى مدينة فرغانة القديمة، وبيكند «2» ، وبخارى، والطالقان «3» والفارياب «4» والجوزجان، وشومان «5» وكش «6» ، ونسف، ورام جرد، وسمرقند، والشاش «7» وفرغانة، ومدينة كاشغر.
وكان أول ما بدأ به قتيبة أنه لما قدم خراسان أميرا للحجاج، وذلك فى سنة [86 هـ] ست وثمانين قدمها والمفضّل بن المهلب يحرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس، وحثّهم على الجهاد، ثم عرضهم، وسار بهم.
فلما كان بالطالقان تلقّاه دهاقين بلخ وساروا معه، وقطع النهر فتلقّاه ملك الصّغانيان بهدايا ومفتاح «8» من ذهب، ودعاه إلى بلاده، فمضى معه فسلّمها إليه، لأن ملك أخرون وشومان كان يسىء جواره، ثم سار قتيبة منها إلى أخرون وشومان وهما من(21/283)
طخارستان، فصالحه ملكها على فدية أدّاها إليه، فقبلها قتيبة. ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهى من فرغانة، وفتح أخسيكت وهى مدينة فرغانة القديمة.
وقيل: إن قتيبة قدم خراسان فى سنة [85 هـ] خمس وثمانين فعرض الجند فغزا أخرون وشومان، ثم رجع إلى مرو.
وقيل: إنه لم يغزا فى هذه السنة، ولم يقطع النهر بسبب بلخ، فإنّ بعضها كان منتقضا عليه، فحاربهم وسبى منهم، ثم صالحوه فأمر بردّ السّبى.
ذكر قتيبة ونيزك
قال: لمّا صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى «1» نيزك طرخان صاحب باذغيس فى إطلاق من عنده من أسرى المسلمين، وكتب إليه يتهدّده، فخافه نيزك، فأطلقهم، وبعث بهم إليه، ثم كتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبى بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، فصالحه «2» نيزك لأهل باذغيس على ألا يدخلها قتيبة.
ذكر غزوة بيكند وفتحها
وغزا قتيبة بيكند فى سنة [87 هـ] سبع وثمانين، وهى أدنى مدائن بخارى إلى النّهر، فلما نزل بهم استنصروا الصّغد واستمدّوا من حولهم.
فأتوهم فى جمع كثير، وأخذوا الطرق على قتيبة فقاتلهم «3»(21/284)
شهرين فى كل يوم، ثم انهزم الكفّار إلى المدينة، فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وتحصّن من دخل المدينة منهم بها، فأمر قتيبة بهدم سورها، فسألوه الصلح، فصالحهم، واستعمل عليهم عاملا «1» وارتحل عنهم. فلما سار خمس فراسخ نقضوا [الصلح «2» ] وقتلوا العامل ومن معه. فرجع قتيبة فنقب السّور فسقط، فسألوه الصلح فأبى، ودخلها عنوة، وقتل من كان بها من المقاتلة، وكان فيمن أخذ من المدينة رجل أعور، وهو الذى استجاش التّرك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدى نفسى بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس، فقالوا: هذا «3» زيادة فى الغنائم؛ وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ قال: والله لا يروّع بك مسلم «4» أبدا، وأمر به فقتل؛ وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضّة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله.
ولما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو.
ذكر غزو نومشكث وراميثنة وصلح أهلها
وقتال التّرك والصّغد وأهل فرغانة وفى سنة [88 هـ] ثمان وثمانين غزا قتيبة نومشكث «5» ، فتلقّاه أهلوها، فصالحهم، ثم سار إلى راميثنة «6» ، فصالحه أهلها، وانصرف(21/285)
عنهم وزحف إليه التّرك ومعهم الصّغد وأهل فرغانة فى مائتى ألف.
وملكهم كوربغانو «1» ابن أخت ملك الصّين، فاعترضوا المسلمين؛ فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فقاتلهم عبد الرحمن ومن معه، وأرسل إلى أخيه، فرجع بالمسلمين، وقد أشرف الترك على الظهور على عبد الرحمن ومن معه، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم، وقويت، وقاتلوا إلى الظّهر، فانهزم الترك ومن معهم وكان نيزك يومئذ مع قتيبة، فأبلى بلاء حسنا، ورجع قتيبة بعد الهزيمة إلى مرو
ذكر غزو بخارى وفتحها
كانت غزوة بخارى فى سنة [89 هـ] تسع وثمانين، والفتح فى سنة [90 هـ] تسعين؛ وذلك أن الحجاج بن يوسف كتب إلى قتيبة يأمره بقصد وردان خذاه «2» ، فعبر النّهر من زمّ «3» ، فلقى الصّغد وأهل كسّ ونسف فى طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم.
ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السّفلى عن يمين وردان، فلقوه فى جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين، فظفر بهم، وغزا وردان «4» خذاه ملك بخارى فلم يظفر منه بشىء، فرجع إلى مرو. وكتب إلى الحجاج يخبره؛ فكتب إليه الحجاج أن صوّرها. فبعث إليه(21/286)
بصورتها، فكتب إليه أن تب إلى الله جلّ ثناؤه مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا.
[قيل «1» ] : وكتب إليه أن كس بكس، وانسف نسفا، ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنى من بنيّات «2» الطريق.
فخرج قتيبة إلى بخارى فى سنة [90 هـ] تسعين، فاستجاش وردان خذاه الصّغد والترك ومن حوله، فأتوه «3» وقد سبق إليها قتيبة وحصرها «4» . فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحية، وخلّوا بيننا وبين قتالهم، فقال قتيبة: تقدّموا، فتقدّموا، وقاتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم الأزد، حتى دخلوا العسكر، وركبهم المشركون حتى حطموهم، وقاتلت مجنبتا المسلمين الترك حتى ردّوهم إلى مواقفهم، فوقفت الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموقف! فلم يقم «5» لهم أحد من العرب، فأتى بنى تميم، فقال لهم: يوم «6» كأيّامكم.
فأخذ وكيع اللواء، وقال: يا بنى تميم، أتسلموننى اليوم؟
قالوا: لا، يا أبا المطرّف «7» ، وكان هزيم «8» بن أبى طحمة «9» على خيل تميم، ووكيع رأسهم. فقال: يا هزيم قدّم خيلك، ورفع إليه(21/287)
الراية، وتقدم هزيم، وتقدّم وكيع فى الرّجّالة «1» ، وكان بينهم وبين الترك نهر، فأمر وكيع هزيما بقطعه إليهم، فعبره فى الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فعمل عليه جسرا من خشب، وقال لأصحابه: من وطّن نفسه على الموت فليعبر وإلّا فليثبت مكانه.
فلم يعبر معه إلا ثمانمائة رجل «2» . فلما عبر بهم قال لهزيم: إنى مطاعنهم فاشغلهم عنّا بالخيل، وحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هزيم فى الخيل فطاعنهم «3» ، وقاتلهم المسلمون حتى حدروهم عن التلّ، ثم عبر الناس إليهم بعد انهزام التّرك، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتى برءوس كثيرة، وجرح خاقان وابنه، وفتح الله على المسلمين.
قال: ولما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصّغد، فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة، فطلب رجلا يكلّمه.
فأرسل إليه قتيبة حيّان «4» النبطى، فطلب الصلح على فدية يؤدّيها إليهم.
فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، ورجع طرخون إلى بلاده.
ورجع قتيبة ومعه نيزك.(21/288)
ذكر غدر نيزك وفتح الطالقان وما كان من خبر نيزك إلى أن قتل
قال: ولما رجع قتيبة عن بخارى ومعه نيزك وقد خاف «1» لما رأى من الفتوح، فقال لأصحابه: أنا مع هذا ولست آمنه، فلو استأذنته ورجعت كان الرأى. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة، فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان، وأسرع السّير حتى أتى النّوبهار «2» ، وقال لأصحابه: لا شكّ أن قتيبة قد ندم على إذنه لى، وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسى، فكان كما قال:
ندم قتيبة، وبعث إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، فتبعه المغيرة، فوجده قد دخل شعب خلم «3» ، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهذ بلخ وإلى باذان «4» ملك مرو الرّوذ وإلى ملك الطالقان وإلى ملك الفارياب «5» وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة.
وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطرّ أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك، وكان خبعويه «6» ملك طخارستان ضعيفا؛ فأخذه نيزك، فقيّده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان خبعويه هو الملك ونيزك عنده، فاستوثق منه،(21/289)
وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبعويه، وبلغ قتيبة خلعه، وقد تفرّق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن فى اثنى عشر ألفا إلى البروقان «1» ، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئا، فإذا انقضى الشتاء [فعسكر، و] «2» سرنحو طخارستان، فسار؛ فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد لتقدم عليه الجنود، فقدموا. فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فأتاه قتيبة، فأوقع بأهل الطالقان، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ فى نظام واحد، واستعمل أخاه عمرو «3» بن مسلم.
وقيل: إن ملك الطالقان لم يحارب قتيبة، فكفّ عنه، وكان بها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين، فخرج إليه ملكها مقرّا مذعنا، فقبل منه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا من باهلة «4» ، وبلغ ملك الجوزجان خبرهم، فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها «5» سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحمّانى، ثم أتى بلخ فلقيه أهلها، فلم يقم إلّا يوما واحدا، وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب(21/290)
خلم، ومضى نيزك إلى بغلان «1» ، وخلّف مقاتلته على فم الشعب ومضايقه يمنعونه، ووضع مقاتلته فى قلعة حصينة من وراء الشّعب، فأقام قتيبة أياما لا يقدر على دخوله، ولا يعرف طريقا يسلكه إلى نيزك إلّا الشّعب أو مفازة لا تقدر العساكر على قطعها، فأتاه إنسان فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التى من وراء الشّعب، فأمّنه قتيبة، وبعث معه رجالا، فانتهى بهم إلى القلعة، فطرقوهم وهم آمنون، فقتلوا منهم، وهرب من بقى ومن كان فى الشّعب، فدخل قتيبة الشّعب، فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان «2» ، فأقام بها أياما ثم سار إلى نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن فارتحل نيزك من منزله فقطع وادى فرغانة، ووجّه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز «3» ، وعبد الرحمن يتبعه، ونزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة على فرسخين من أخيه، وتحصّن نيزك بالكرز، وليس له «4» إلّا مسلك من وجه واحد، وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما فى يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدرى. وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك، واحتل لتأتينى به بغير أمان، فإن أعياك «5» وأبى فأمّنه.(21/291)
فخرج إليه، وأخذ معه أطعمة وأخبصة كثيرة، وأتى نيزك، فقال له: إنك أسأت إلى نفسك «1» وغدرت. قال نيزك: فما الرأى؟
قال: أرى أن تأتيه، فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه، هلك أو سلّم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان. قال:
ما أظنّه يؤمّنك لما فى نفسه عليك، لأنك قد ملأته غيظا، ولكنى أرى ألّا يعلم حتى تضع يدك فى يده، فإنى أرجو أن يستحى ويعفو.
قال: إنّ نفسى تأبى هذا. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم ويعود حالك عنده، فإذا أبيت فإنى منصرف. وقدم الطعام الذى معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك. فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسى، ولا آتيه إلا بأمان، وإنّ ظنّى أنه يقتلنى، وإن أمننى؛ ولكن الأمان أعذر لى. فقال سليم:
قد أمنك؛ أفتتهمنى؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم.
فخرج معه ومعه خبعويه «2» وصول طرخان خليفة جبعويه، وخنس «3» طرخان صاحب شرطته وشقران «4» ابن أخى نيزك، فلما خرجوا من الشّعب حالت خيل قتيبة بين أصحاب نيزك وبين الخروج، فقال نيزك: هذا أوّل الغدر. فقال سليم: تخلّف هؤلاء عنك خير لك.
وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا على قتيبة، فحبسهم.(21/292)
وكتب إلى الحجاج يستأذنه فى قتل نيزك، واستخرج قتيبة ما فى الكرز من متاع، وأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس، واستشارهم، فاختلفوا، فقال ضرار ابن حصين: إنى سمعتك تقول: أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبدا. فدعا نيزك، فضرب رقبته بيده، وأمر بقتل صول وابن أخى نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة. وقيل اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وأخذ الزّبير مولى عبّاس الباهلى خفّا لنيزك فيه جوهر، فكان أكثر من فى بلاده مالا وعقارا من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبعويه «1» ومنّ عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات.
ولما قتل نيزك رجع قتيبة إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فأمنه على أن يأتيه، فطلب رهنا [يكونون فى يده] «2» ويعطى رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلى، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سمّوه فقتلوا حبيبا. وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.(21/293)
ذكر غزوة شومان وكشّ ونسف وفتح ذلك
وفى سنة [91 هـ] إحدى وتسعين سار قتيبة إلى شومان فحصرها، وكان سبب ذلك أنّ ملكها طرد عامل قتيبة من عنده، فأرسل إليه قتيبة رسولين: أحدهما من العرب اسمه عيّاش، والآخر من أهل خراسان يدعوانه «1» إلى أن يؤدّى ما كان صالح عليه، فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما، فرموهما. فانصرف الخراسانىّ وقاتلهم عيّاش فقتلوه، ووجدوا به ستّين جراحة، وبلغ قتيبة قتله، فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقا له، يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: أتخوّفنى من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصنا؟ فأتاه قتيبة وقد تحصّن ببلده فنصب «2» عليه المجانيق، ورمى الحصن فهشمه، فلما خاف الملك أن يظهر قتيبة عليه جمع ما كان بالحصن من مال وجوهر، ورمى به فى بئر فى القلعة لا يدرك قعرها، ثم فتح القلعة، وخرج، فقاتل حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبى الذريّة، ثم سار إلى كشّ ونسف، ثم سار إلى بخارى.
وقيل: إنه سار إلى الصّغد، فلما رجع عنهم قالت الصّغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذّل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك. فحبسوه وولوا غورك «3» فقتل طرخون نفسه.(21/294)
ذكر صلح خوارزم شاه وفتح خام جرد
وفى سنة [93 هـ] ثلاث وتسعين صالح قتيبة خوارزم شاه، وسبب ذلك أن [ملك] «1» خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالا أو دابّة أو بيتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه، وأخذه منه، فلا يمتنع عليه أحد، ولا الملك «2» ، فإذا قيل للملك قال: لا أقوى عليه.
فلما طال عليه ذلك كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلّمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من يضادّه ليحكم فيه «3» بما يرى، ولم يطلع أحدا من مرازبته على ذلك. فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وتجهّز للغزو، وأظهر أنه يريد الصّغد، وسار من مرو وجمع خوارزم شاه أجناده ودهاقنته «4» . فقال: إن قتيبة يريد الصغد، وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم فى ربيعنا هذا، فأقبلوا على الشرب والتنعّم فلم يشعروا حتى نزل قتيبة فى هزارسب «5» ، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكنى لا أرى(21/295)
ذلك، لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشدّ شوكة، ولكن أصرفه بشىء أخرجه «1» إليه.
فأجابوه إلى ذلك، فسار خوارزم شاه إلى مدينة الفيل من وراء النهر، وهى أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارزم شاه، فصالحه على عشرة آلاف رأس، وعين ومتاع و [على] «2» أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك.
وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، وبعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى [ملك] «3» خام جرد، وكان يغازى «4» خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم، وسلّم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفهم، فقتلهم، ودفع أموالهم إلى قتيبة. والله أعلم.
ذكر فتح سمرقند
قال: فلما قبض قتيبة صلح خوارزم قام إليه المجشّر بن مزاحم السلمى فقال له: سر «5» الآن إن أردت الصّغد يوما من الدّهر، فإنهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام.
قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟
قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربنّ عنقك.(21/296)
فلما كان الغد من يوم كلامه له أمر قتيبة أخاه عبد الرحمن فسار فى الفرسان والرّماة، وقدّم الأثقال إلى مرو، فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر فى الفرسان والرّماة نحو الصّغد، واكتم الأخبار، فإنى بالأثر.
ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس، وقال لهم:
إن الصّغد شاغرة «1» برجلها، وقد نقضوا العهد الذى بيننا، وصنعوا ما بلغكم؛ وإنى أرجو أن تكون خوارزم والصّغد كقريظة والنّضير.
ثم سار فأتى الصّغد، فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى، فقاتلوا شهرا من وجه واحد وهم محصورون.
وخاف أهل الصّغد طول الحصار، فكتبوا إلى ملك الشاش وأخشاد «2» وخاقان وفرغانة: إنّ العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا [به] «3» ، فانظروا لأنفسكم، ومهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا:
إنما نؤتى من سفلتنا وإنهم «4» لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أبناء الملوك وأهل النّجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال، وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة؛ فيبيّتوه، وولّوا عليهم ابنا لخاقان، فساروا.(21/297)
وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره مائة، وقيل ستّمائة من أهل النّجدة والشجاعة، وأعلمهم الخبر، وأمرهم بالمسير إليهم، فساروا، وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين «1» . فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوّهم، فلما رأوا صالحا حملوا عليه، واقتتلوا فشدّ الكمينان عن يمين وشمال، فقتلهم المسلمون، وأسروا منهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، واحتووا على سلاحهم وأسلابهم. وسئل بعض الأسرى عن القتلى فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيما أو بطلا، إن كان الرجل ليعدّ «2» بمائة رجل.
ونصب قتيبة المجانيق على سمرقند، ورماهم فثلمه ثلمة «3» .
ثم أمر قتيبة الناس بالجدّ فى القتال، وأن يبلغوا ثلمة المدينة، ففعلوا، وحملوا وقد تترّسوا حتى بلغوا الثّلمة، ووقفوا عليها، فرماهم الصّغد بالنشّاب، فلم يبرحوا، فأرسلوا إلى قتيبة أن انصرف عنّا اليوم حتى نصالحك غدا. فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثّلمة.
وقيل: بل قال: جزع العبيد! انصرفوا على ظفركم. فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفى ألف ومائتى ألف مثقال فى كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس «4» ، وأن يخلوا المدينة(21/298)
لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجدا فيصلّى فيه ويخطب ويتغدّى ويخرج.
فلما تمّ الصّلح بنى المسجد ودخلها قتيبة فى أربعة آلاف انتخبهم.
فدخل المسجد، فصلّى فيه، وخطب وأكل طعاما، ثم أرسل إلى الصّغد يقول: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإنى لست خارجا منها، ولست آخذ منكم إلّا ما صالحتكم عليه، غير أنّ الجند يقيمون فيها.
وقيل: إنه شرط عليهم فى الصّلح مائة ألف رأس «1» وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ذلك، وأتى بالأصنام، فأخذ ما عليها.
وأمر بها فأحرقت، فوجد من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصّغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج.
فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد بن الوليد. ثم رجع قتيبة إلى مرو، واستعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على الحرب.
وجعل على الخراج عبيد الله بن أبى عبيد الله مولى مسلم «2» .
ذكر غزو الشاش وفرغانة
وفى سنة [94 هـ] أربع وتسعين قطع قتيبة النّهر وفرض على أهل بخارى وكشّ ونسف عشرين ألف مقاتل، فساروا معه.(21/299)
فوجّهم إلى الشاش، وتوجّه إلى فرغانة فأتى خجندة «1» فجمع له أهلها، ولقوه، واقتتلوا مرارا، كلّ ذلك يكون الظّفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاسان «2» مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجّههم إلى الشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها، وانصرف إلى مرو.
وقال سحبان «3» يذكر قتالهم بخجندة «4» :
وسل «5» الفوارس فى خجن ... دة تحت مرهفة العوالى
هل كنت أجمعهم إذا ... هزوا وأقدم فى قتالى
أم كنت أضرب هامة ال ... عاتى «6» وأصبر للعوالى
هذا وأنت قريع قي ... س كلّها ضخم النّوال
وفضلت قيسا فى النّدى ... وأبوك فى الحجج الخوالى
ولقد تبيّن عدل حك ... مك فيهمو فى كلّ مال «7»
تمّت مروءتكم ونا ... غى «8» عزّكم غلب الجبال(21/300)
ذكر فتح مدينة كاشغر «1»
وفى سنة [96 هـ] ست وتسعين سار قتيبة من مرو وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، ومضى إلى فرغانة وبعث جيشا مع كثير ابن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبيا، فختم أعناقهم، وأوغل حتى بلغ قرب الصّين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلىّ رجلا شريفا يخبرنى عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة لهم جمال وألسنة وبأس وعقل وصلاح «2» ، فأمر لهم بعدّة حسنة ومتاع حسن من الخزّ والوشى وغير ذلك، وخيول حسنة، وكان عليهم «3» هبيرة بن مشمرج «4» الكلابى، وقال لهم قتيبة:
إذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أنّى لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبى خراجهم.
فساروا [وعليهم هبيرة] «5» ، فلما قدموا دعاهم ملك الصين فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، وتطيّبوا، ولبسوا النّعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه، فجلسوا فلم يكلّمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا.
فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلّا نساء. ما بقى منا أحد إلّا انتشر ما عنده.(21/301)
فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشى وعمائم الخزّ والمطارف، وغدوا عليه. فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا. وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.
فلما كان اليوم الثالث دعاهم فلبسوا «1» سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وأخذوا السيوف والرماح والقسىّ، وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين، فرأى مثل الخيل «2» ؛ فلما دنوا ركزوا رماحهم، وأقبلوا مشمّرين. فقيل لهم: ارجعوا، فركبوا خيولهم [وأخذوا رماحهم] «3» ، ودفعوا خيلهم، كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
فلما أمسى بعث إليهم أن ابعثوا إلىّ زعيمكم، فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظم ملكى، وأنه ليس أحد يمنعكم منّى، وأنتم فى يدى بمنزلة البيضة فى كفّى. وإنى سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقونى قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيّكم الأول والثانى والثالث [ما صنعتم] «4» ؟ قال: أما زيّنا الأول فلباسنا فى أهلنا. وأما الثانى فزيّنا إذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا. قال: ما أحسن ما دبّرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإنى قد عرفت قلّة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال «5» :(21/302)
وكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله فى بلادك وآخرها فى منابت الزيتون. وأما تخويفك إيّانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، ولسنا نكرهه ولا نخافه، وقد حلف صاحبنا ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، وتعطى «1» الجزية. قال:
فإنّا نخرجه من يمينه، ونبعث له بتراب من أرضنا، فيطؤه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهديّة وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، وبتراب من أرضه، وأعادهم «2» وأحسن جوائزهم. فقدموا على قتيبة، فقبل ذلك، ووطىء التراب، وختم الغلمان، وردهم، فقال سوادة بن عبد الملك السّلولى «3» :
لا عيب فى الوفد الذين بعثتهم ... للصّين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الرّدى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
أدّى رسالتك التى استرعيته «4» ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج
هذه غزوات قتيبة وفتوحاته.
وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كلّ سنة اشترى اثنى عشر فرسا [من جياد الخيل] «5» واثنى عشر هجينا، فتخدم إلى وقت الغزو، فإذا تأهّب للغزو ضمّرها، وكان يحمل عليها الطلائع، وكان لا يجعل الطلائع إلا فرسان الناس وأشرافهم، ويجعل معه من(21/303)
العجم من يستنصحه. وإذا بعث طليعة أمر بلوح فنقش ثم شقّه نصفين، وجعل شقّة عنده، وأعطى نصفه للطليعة، ويأمرهم أن يدفنوه فى موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرها، ثم يبعث بعد الطّليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أم لا.
ولنذكر من الغزوات والفتوحات فى أيام الوليد خلاف ما ذكرنا:
ذكر فتح السند وقتل ملكها وما يتّصل بذلك من أخبار العمال عليها
وفى سنة [89 هـ] تسع وثمانين قتل محمد بن القاسم بن محمد ابن الحكم بن أبى عقيل الثقفى داهر «1» بن صصّة ملك السند، وملك بلاده، وكان الحجاج قد استعمله على ذلك الثّغر وسيّر معه ستة آلاف مقاتل، وجهّزه بجميع ما يحتاج إليه حتى المسالّ والإبر والخيوط، فسار [محمد] «2» إلى مكران، وأقام بها أياما. ثم أتى قنّزبور ففتحها ثم سار إلى أرمائيل «3» فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها السلاح والرجال والأداة. فأنزل الناس منازلهم وخندق ونصب عليها منجنيقا يقال له العروس كان يمدّ به خمسمائة رجل، وكان بالدّيبل بدّ «4» عظيم عليه(21/304)