ذكر وفد ثقيف وإسلامها وهدم اللّات
كان قدوم وفد ثقيف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإسلامها فى شهر رمضان سنة سبع من مهاجره «2» .
قال أبو عبد الله محمد بن إسحق، وأبو محمد عبد الملك بن هشام، وأبو عبد الله محمد بن سعد رحمهم الله، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض: لمّا حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطائف لم يحضر عروة بن مسعود، ولا غيلان بن سلمة الحصار، بل كانا بجرش «3» يتعلّمان صنعة العرّادات «4» والمنجنيق والدّبابات، فقدما وقد انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الطّائف، فنصبا المنجنيق والعرّادات والدبّابات واعتدّا للقتال، ثم ألقى الله فى قلب عروة الإسلام، فخرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبع أثره، حتى أدركه قبل أن يصل المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنّهم قاتلوك» فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبكارهم.
قال: فكرر علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ثلاثا، فقال: «إن شئت فاخرج» فخرج، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا، فسار إلى الطائف، فسار خمسا(18/59)
فقدم عشاء، فدخل منزله، فجاء قومه يحيّونه بتحيّة الشّرك، فقال: عليكم بتحية أهل الجنة «السّلام» . ودعاهم إلى الإسلام فخرجوا من عنده يأتمرون به، فلمّا طلع الفجر أوفى على غرفة له فأذّن بالصلاة، فخرجت ثقيف من كل ناحية، فرماه رجل يقال له أوس بن عوف أخو بنى سالم بن مالك- وقيل: بل هو وهب بن جابر رجل من الأحلاف- بسهم فأصاب أكحله «1» فلم يرقأ دمه، فقام أشراف قومه؛ وهم: غيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل، والحكم بن عمرو ابن وهب، ووجوه الأحلاف، فلبسوا السّلاح وحشدوا، فلما رأى عروة ذلك قال: قد تصدّقت بدمى على صاحبه؛ لأصلح بذلك بينكم، وهى كرامة أكرمنى الله بها، وشهادة ساقها الله إلىّ. وقال: ادفنونى مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات فدفنوه معهم، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره فقال فيه: «إنّ مثله فى قومه لكمثل صاحب «يس» دعا قومه إلى الله فقتلوه» .
قالوا: ولحق أبو المليح بن عروة، وقارب بن الأسود بن مسعود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تولّيا من شئتما» فقالا: نتولّى الله ورسوله؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«وخالكما أبا سفيان بن حرب» فقالا: وخالنا أبا سفيان.
قال ابن إسحق: ثم أقامت ثقيف بعد ما قتل عروة أشهرا، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا. وكان(18/60)
مالك بن عوف قد أسلم كما قدّمنا فى غزوة حنين، وجعل يغير على سرحهم «1» .
قال: وكان عمرو بن أمية أخا بنى علاج مهاجرا «2» لعبد يا ليل «3» بن عمرو، وكان من أدهى العرب، فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره، ثم أرسل إليه أن اخرج إلىّ، فاستعظم عبد ياليل مشيه إليه، وقال للرسول الذى جاءه: ويلك! أعمرو أرسلك إلىّ؟ قال: نعم، وها هو ذا واقفا فى دارك، فقال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك، وخرج إليه، فلمّا رآه رحّب به، فقال عمرو له: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة «4» ، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا فى أمركم. فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب «5» ، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع. فأجمعوا رأيهم أن يرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم، كما أرسلوا عروة بن مسعود، فعرضوا ذلك على عبد ياليل بن عمرو بن عمير، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة، فقال: لست فاعلا حتى يرسلوا معى رجالا، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بنى مالك، فبعثوا معه الحكم بن عمرو بن وهب بن معتّب، وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتّب، ومن بنى مالك عثمان بن أبى العاص بن بشر أخا بنى يسار، وأوس بن عوف أخا بنى سالم،(18/61)
ونمير بن خرشة بن ربيعة أخا بنى الحارث، فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب «1» القوم وصاحب أمرهم.
وقال ابن سعد: كانوا بضعة عشر رجلا، وهو أثبت.
قال ابن إسحق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة «2» ، ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت رعيتها نوبا «3» على أصحابه، فلما رآهم ترك الرّكاب عند الثّقفيين، وخرج يشتدّ «4» ليبشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره عن ركب ثقيف أن قد قدموا يريدون البيعة والإسلام، فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى أكون أنا أحدّثه؛ ففعل المغيرة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إليهم فعلّمهم كيف يحيّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.
قال: ولما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ضرب عليهم قبّة فى ناحية مسجده- كما يزعمون «5» -، وكان خالد بن سعيد بن العاص يمشى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كتبوا كتابهم، وكتبه خالد بيده، وهو:(18/62)
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبىّ رسول الله، إلى المؤمنين: إنّ عضاه «1» وجّ «2» وصيده [حرام «3» ] لا يعضد «4» ، من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبىّ- محمدا صلّى الله عليه وسلّم- وأن هذا أمر النبىّ محمد رسول الله. وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله فلا يتعدّه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
قال ابن إسحق: وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يأكل منه خالد، حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم.
قال: وقد كان فيما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدع لهم الطّاغية وهى اللّات؛ لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمّى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا «5» بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وألّا يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصّلاة فإنه لا خير فى دين لا صلاة فيه» . فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها وإن كانت دناءة. فلما أسلموا(18/63)
وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابهم، أمر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سنّا، وكان أحرصهم على التّفقّه فى الإسلام وتعلّم القرآن، فقال أبو بكر الصدّيق ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
روى عن عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان؛ تجاوز «1» في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصّغير والضّعيف وذا الحاجة» .
قال ابن إسحق: ولما توجهوا إلى بلادهم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان فأبى ذلك عليه، وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم «2» ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بنو معتّب دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين ويقلن:
لتبكينّ دفّاع «4» ... أسلمها الرّضّاع «5»
لم يحسنوا المصاع «6»(18/64)
قال: ويقول أبو سفيان بن حرب، والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك! أهلا لك «1» ! فلما هدمها المغيرة بن شعبة وأخذ ما لها وحليّها، أرسل إلى أبى سفيان، وحلّيها مجموع، ومالها من الذّهب والجزع «2» .
وقد كان أبو مليح بن عروة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقضى عن أبيه عروة بن مسعود دينا كان عليه من مال الطاغية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه،- وعروة والأسود أخوان لأب وأمّ- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الأسود مات مشركا» ، فقال قارب: يا رسول الله، لكن يصل مسلما ذا قرابة- يعنى نفسه- إنّما الدّين علىّ وأنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطّاغية؛ فلمّا جمع المغيرة مالها قال لأبى سفيان: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمرك أن تقضى عن عروة والأسود دينهما. فقضى عنهما.
قال المغيرة: فدخلت ثقيف فى الإسلام، فلا أعلم قوما من العرب بنى أب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلاما، ولا أبعد أن يوجد فيهم غشّ لله ولكتابه منهم.
ذكر وفد عبد القيس «3»
قال محمد بن سعد: كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل البحرين أن يقدم عليه منهم عشرون رجلا، فقدموا؛ رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ،(18/65)
وفيهم الجارود بن عمرو بن حنش، ومنقذ بن حبّان وهو ابن أخت الأشجّ، وكان قدومهم عام الفتح، فقيل: يا رسول الله، هؤلاء وفد عبد القيس، فقال: «مرحبا بهم نعم القوم عبد القيس» . قال: ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا، فقال: «ليأتينّ ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الرّكاب، وأفنوا الزاد، بصاحبهم علامة، اللهمّ اغفر لعبد القيس، أتونى لا يسألون مالا، هم خير أهل المشرق» .
قال: فجاءوا فى ثيابهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه، فقال: «أيكم عبد الله الأشجّ» ؟ فقال: أنا يا رسول الله. وكان رجلا دميما، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إنه لا يستقى «1» في مسوك «2» الرجال، إنما يحتاج من الرّجل إلى أصغريه لسانه وقلبه «3» » . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيك خصلتان يحبّهما الله تعالى» فقال عبد الله: وما هما؟
قال: «الحلم والأناة» «4» . قال: أشىء حدث أم جبلت عليه؟. قال: «بل جبلت عليه» . قال: وكان الجارود نصرانيا، فعرض عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام ورغّبه فيه.
قال ابن إسحق: فقال يا محمد، إنّى قد كنت على دين، وإنى تارك دينى لدينك: أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وأسلم أصحابه.(18/66)
قال ابن سعد: وأنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عبد القيس فى دار رملة بنت الحارث، وأجرى عليهم ضيافة، وأقاموا عشرة أيام، وكان عبد الله الأشجّ يسائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الفقه والقرآن، وأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز، وفضّل عليهم عبد الله الأشجّ؛ فأعطاه اثنتى عشرة أوقية ونشّا، ومسح صلّى الله عليه وسلّم وجه منقذ بن حبّان.
ذكر وفد بكر بن وائل
قال ابن سعد: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى الوفد بشير بن الحصاصيّة «1» ، وعبد الله بن مرثد، وحسّان بن خوط؛ ولذلك يقول رجل من ولد حسّان «2» :
أنا ابن حسّان بن خوط وأبى ... رسول بكر كلّها إلى النّبى
قالوا: وقدم معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجراب من تمر، فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبركة. وحيث ذكرنا وفد بكر بن وائل فلنذكر خبر الأعشى.(18/67)
ذكر خبر أعشى بنى قيس وامتداحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجوعه قبل لقائه
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى خلّاد بن قرّة بن خالد السّدوسىّ، وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم، أنّ أعشى «1» بنى قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن علىّ بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الإسلام، فقال يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السّليم مسهّدا «2»
وما ذاك من عشق النّساء وإنّما ... تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا «3»
ولكن أرى الدّهر الّذى هو خائن ... إذا أصلحت كفّاى عاد فأفسدا «4»
كهولا وشبّانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدّهر كيف تردّدا «5»(18/68)
وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا «1»
وأبتذل العيس المراقيل تغتلى ... مسافة ما بين النّجير فصرخدا «2»
ألا أيّهذا السّائلى أين يمّمت ... فإنّ لها فى أهل يثرب موعدا «3»
فإن تسألى عنّى فياربّ سائل ... حفىّ عن الأعشى به حيث أصعدا «4»
أجدّت برجليها النّجاء وراجعت ... يداها خنافا ليّنا غير أحردا «5»
وفيها إذا ما هجّرت عجرفيّة ... إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا «6»(18/69)
وأمّا إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا ما يغيب وفرقدا «1»
فآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتّى تلاقى محمّدا «2»
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندا «3»
نبىّ يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا «4»
له صدقات ما تغبّ ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا «5»
أجدّك لم تسمع وصاة محمد ... نبىّ الإله حيث أوصى وأشهدا «6»(18/70)
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا «1»
ندمت على ألّا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذى كان أرصدا «2»
فإيّاك والميتات لا تقربنّها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتفصدا «3»
ولا النّصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «4»
ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا «5»
وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّه ... لعاقبة ولا الأسير المقيّدا «6»
وسبّح على حين العشيّات والضّحى ... ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا «7»
ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبنّ المال للمرء مخلدا «8»(18/71)
فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسلم، فقال له:
يا أبا بصير إنه يحرّم الزّنى. فقال الأعشى له: والله إن ذلك لأمر مالى فيه من أرب. فقال: يا أبا بصير فإنه يحرّم الخمر. فقال: أمّا هذه فو الله إنّ فى النفس منها لعلالات «1» ، ولكنّى منصرف فأتروّى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات من عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر وفد تغلب
قال: وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد بنى تغلب «2» ، وهم ستة عشر رجلا مسلمين، ونصارى عليهم صلب الذّهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح صلّى الله عليه وسلّم النّصارى على أن يقرّهم على ذمّتهم «3» ، على ألّا يصبغوا أولادهم فى النّصرانية، وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم.
ذكر وفد حنيفة
قالوا: قدم وفد بنى حنيفة «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بضعة عشر رجلا، فيهم رجّال «5» بن عنقوة، وسلمى بن حنظلة، وطلق بن علىّ بن قيس،(18/72)
وحمران بن جابر، وعلىّ بن سنان، والأقعس بن مسلمة «1» ، وزيد بن عمرو «2» ، ومسيلمة ابن حبيب، وهو الكذّاب. وعلى الوفد سلمى بن حنظلة، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث «3» ، وأجريت عليهم ضيافة. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فسلّموا عليه وشهدوا شهادة الحقّ، وخلّفوا مسيلمة فى رحالهم. وأقاموا أياما يختلفون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان رجّال بن عنفوة يتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم، أمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائزهم: خمس أواق لكل رجل، فقالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه. وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» . فقيل ذلك لمسيلمة فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده.
وأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إداوة من ماء فيها فضل طهوره، فقال: «إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم «4» ، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوا مكانها مسجدا» ففعلوا، وصارت الإداوة عند الأقعس بن مسلمة، وصار المؤذّن طلق بن علىّ، فأذّن فسمعه راهب البيعة، فقال: كلمة حقّ. وهرب فكان آخر العهد به.
ثم ادّعى مسيلمة الكذّاب بعد ذلك النبوّة، وشهد له الرّجّال «5» أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشركه فى الأمر، فافتتن الناس به، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى فى خلافة أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه.(18/73)
ذكر وفد شيبان
قال: وقدم من بنى شيبان حريث «1» بن حسّان الشّيبانىّ، فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام وعلى قومه، وصحبه فى مسيره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيلة بنت مخرمة التّميميّة «2» ، وهى التى أرعدت من الفرق «3» لمّا أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لها: «يا مسكينة عليك السّكينة» [فهدأت «4» ] .
روى عن قيلة بنت مخرمة أنها قالت: إنّ حريث بن حسّان قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدّهناء «5» لا يجاوزها إلينا منهم إلّا مسافر أو مجاور.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا غلام اكتب له بالدّهناء» ، قالت قيلة:
فلما رأيته أمر له بأن يكتب له بها، قلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدّهناء «6» عندك؛ مقيّد «7» الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال [رسول الله «8» ] : «أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتّان «9» » . فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه، ضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: كنت أنا وأنت(18/74)
[كما قيل «1» ] : «حتفها تحمل ضأن بأظلافها»
» فقلت: أما والله أن كنت لدليلا فى الظّلماء، جوادا بذى الرّحل، عفيفا عن الرّفيقة، حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لا تلمنى على حظّى إذ سألت حظّك. فقال:
وما حظّك فى الدّهناء لا أبا لك؟! قلت: مقيّد جملى تسأله لجمل امرأتك! قال: لا جرم، إنّى أشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّى لك أخ ما حييت إذ أثبت «3» هذا علىّ عنده. فقلت: [أما «4» ] إذ بدأتها فلن أضيعها. وحديث قيلة فيه طول ليس هذا موضعه.(18/75)
ذكر وفادات أهل اليمن
ذكر وفد طيّئ وخبر زيد الخيل وعدىّ بن حاتم
قالوا: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد طيّئ خمسة عشر رجلا، رأسهم، وسيّدهم زيد الخيل بن مهلهل، من بنى نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس «1» النّبهانىّ، وهو قاتل عنترة، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيّئ، ومالك بن عبد الله بن خيبرى «2» من بنى معن، وقعين «3» بن خلف من جديلة «4» ، ورجل من بنى بولان «5» ، فدخلوا المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المسجد، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وأجازهم بخمس أواق فضة لكل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتى عشرة أوقية ونشّا. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما ذكر لى رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لى إلّا ما كان من زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كلّ ما كان فيه» .
وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «زيد الخير» وقطع له فيد «6» وأرضين معه، وكتب له بذلك كتابا، فخرج مع قومه راجعا، فقال رسول الله صلّى الله(18/76)
عليه وسلّم: «إن ينج زيد من حمّى المدينة فإنّه «1» » ، فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له قردة «2» أصابته الحمّى فمات، فعمدت امرأته إلى ما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كتب له فحرقته بالنار.
هذا ما كان من خبر زيد الخيل.
وأمّا عدىّ بن حاتم فكان من خبره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى الفلس «3» - صنم طيّئ- ليهدمه ويشنّ الغارات، فخرج فأغار على حاضر آل حاتم، وأصابوا ابنة «4» حاتم، كما قدّمنا ذكر ذلك فى الغزوات والسّرايا، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ. وقيل: إنما سباها من خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيل كان عليها خالد بن الوليد، وهرب عدىّ بن حاتم حتى لحق بالشام.
حكى محمد بن إسحق رحمه الله قال: كان عدىّ بن حاتم يقول- فيما بلغنى-:
ما من رجل من العرب كان أشدّ كراهية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمع به منّى، أمّا أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير(18/77)
فى قومى بالمرباع، أى آخذ منهم ربع مغانمهم التى يغنمونها، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكا فى قومى لما كان يصنع بى، فلما سمعت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربىّ، وكان راعيا لإبلى: لا أبا لك! أعدد لى من إبلى جمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منّى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنىّ. ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة فقال: يا عدىّ، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإنى رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت: فقرّب إلىّ أجمالى. فقرّبها فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النّصارى بالشام، فسلكت الجوشيّة- ويقال الحوشيّة «1» - وخلّفت بنتا لحاتم فى الحاضر، فلمّا قدمت الشام أقمت بها، وتخالفنى خيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سبايا طيّئ، وقد بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هربى إلى الشام، قال: فجعلت ابنة حاتم فى حظيرة «2» بباب المسجد كانت السّبايا تحبس فيها، فمرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة «3» ، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. قال: «ومن وافدك» ؟ قالت: عدىّ بن حاتم.
قال: «الفارّ من الله ورسوله» ؟!. قالت: ثم مضى وتركنى، حتى إذا كان من الغد مرّ بى فقلت له مثل ذلك، فقال مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرّ بى وقد يئست، فأشار إلىّ رجل من خلفه أن قومى فكلّميه،(18/78)
قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ، منّ الله عليك. فقال: «قد فعلت فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنينى» فسألت عن الرجل الذى أشار إلىّ أن كلّميه، فقيل علىّ بن أبى طالب، قالت: فأقمت حتى قدم ركب من بلىّ أو قضاعة «1» ، قالت: وإنما أريد أن آتى أخى بالشام، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومى، لى فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكسانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحملنى وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدىّ: فو الله إنّى لقاعد فى أهلى إذ نظرت إلى ظعينة تصوب «2» إلىّ تؤمّنا، قال: قلت ابنة حاتم، فإذا هى هى، فلما وقفت علىّ انسلخت «3» تقول: القاطع الظّالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقيّة والديك عورتك! قال: قلت: أى أخيّة! لا تقولى إلّا خيرا، فو الله ما لى من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قالت: ثم نزلت فأقامت عندى، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن نلحق به سريعا، فإن يكن الرّجل نبيا فللسّابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل فى عز اليمن، وأنت أنت. قال: قلت والله إن هذا الرّأى. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فدخلت عليه وهو فى مسجده، فسلمت عليه فقال: «من الرّجل» ؟ فقلت: عدى بن حاتم. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق بى إلى بيته، فو الله إنه لعامد بى إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كسيرة(18/79)
فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى حتى إذا دخل بى بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إلىّ فقال: «اجلس على هذه» قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأرض، فقلت فى نفسى: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: «إيه يا عدىّ بن حاتم ألم تك ركوسيا «1» ؟» قلت: بلى، قال: «أولم تك تسير فى قومك بالمرباع «2» » ؟ قلت: بلى؛ قال: «فإنّ ذلك لم يك يحلّ لك فى دينك» . قال: قلت أجل والله، وعرفت أنه نبىّ مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: «لعلّك يا عدىّ إنما يمنعك من دخول فى هذا الدّين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم، وقلّة عددهم، فو الله ليوشكن أن يسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان فى غيرهم، وايم الله ليوشكنّ أن يسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» .
قال عدىّ: فأسلمت. فكان عدىّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكوننّ؛ قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكوننّ الثالثة؛ ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه.(18/80)
ذكر وفد تجيب
قال ابن سعد: قدم وفد تجيب «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من مهاجره، وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم، وقال: «مرحبا بكم» وأكرم منزلهم وحيّاهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما كان يجيز به الوفد، وقال: «هل بقى منكم أحد» قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا. قال: «أرسلوه إلينا» ، فأقبل الغلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنى امرؤ من بنى أبناء الرّهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم فاقض حاجتى، قال: «وما حاجتك» ؟ قال: تسأل الله أن يغفر لى ويرحمنى ويجعل غناى فى قلبى. فقال: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الموسم بمنى «2» في سنة عشر، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغلام، فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله.(18/81)
ذكر وفد خولان
قال: قدم وفد خولان «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى شعبان سنة عشر، وهم عشرة نفر، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدّقون برسوله، ونحن على من وراءنا من قومنا، وقد ضربنا إليك آباط الإبل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل عمّ أنس» «2» صنم لهم؛ فقالوا: بشرّ وعرّ «3» ، أبدلنا الله به ما جئت به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه. وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم، فجعل يخبرهم بها، وأمر من يعلّمهم القرآن والسّنن، وأنزلوا فى دار رملة بنت الحارث، وأجريت عليهم الضيافة، ثم جاءوا بعد أيام يودّعونه، فأمر لهم بجوائز ثنتى عشرة أوقية ونشّ، ورجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عمّ أنس. وممن أسلم من خولان أبو مسلم الخولانىّ العابد «4» ، واسمه عبد الله بن ثوب، ولم ير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما قدم المدينة بعد وفاته، وله خبر عجيب مع الأسود العنسىّ، نذكره فى أخباره فى خلافة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه.(18/82)
ذكر وفد جعفى
قال ابن سعد: وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جعفىّ «1» ، وهما قيس بن سلمة بن شراحيل، وسلمة بن يزيد، وهما أخوان لأم، وأمهما مليكة بنت الحلو بن مالك، فأسلما فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بلغنى أنكم لا تأكلون القلب» وكانوا يحرّمون أكله، فقالا: نعم، قال: «فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله» ودعا بقلب فشوى، ثم ناوله سلمة فلما أخذه أرعدت يده فقال له: «كله» فأكله، وقال:
على أنّى أكلت القلب كرها ... وترعد حين مسّته بنانى
ثم قالا: يا رسول الله، إنّ أمّنا مليكة بنت الحلو كانت تفكّ العانى، وتطعم البائس، وترحم المسكين، وأنها ماتت وقد وأدت «2» بنية لها صغيرة، فما حالها،؟
قال: «الوائدة والموءودة فى النار «3» » فقاما مغضبين، فقال: «إلىّ فارجعا» فقال: «وأمّى مع أمّكما «4» » فأبيا ومضيا، وهما يقولان: والله إنّ رجلا أطعمنا(18/83)
القلب، وزعم أنّ أمّنا فى النار لأهل ألّا يتّبع، فلما كان ببعض الطريق، لقيا رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معه إبل من إبل الصّدقة، فأوثقاه وطردا الإبل، فبلغ ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم فلعنهما فيمن كان يلعن فى قوله: «لعن الله رعلا وذكوان وعصيّة ولحيان «1» وابنا مليكة» .
قال محمد بن سعد: وقدم أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفىّ على النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه ابناه سبرة وعزيز «2» فأسلموا. وسمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزيزا عبد الرحمن. وقال له أبو سبرة: يا رسول الله: إن بظهر كفّى سلعة «3» قد منعتنى من خطام راحلتى، فدعا بقدح، وجعل يضرب به على السّلعة.
ويمسحها فذهبت، ودعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولابنيه، فقال:
يا رسول الله، أقطعنى وادى قومى باليمن، وكان يقال له جردان «4» ففعل، قال:
وعبد الرحمن هذا هو أبو خيثمة عبد الرحمن.
ذكر وفد مراد
قالوا: قدم فروة بن مسيك «5» المرادىّ «6» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، وقال فى ذلك:(18/84)
لمّا رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرّجل خان الرّجل عرق نسائها «1»
قرّبت راحلتى أؤمّ محمدا ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها «2»
وبايع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزل على سعد بن عبادة، وكان يتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه، فأجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باثنتى عشرة أوقية، وحمله على بعير وأعطاه حلّة من نسج عمان، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصّدقات، وكتب له كتابا فيه فرائض الصّدقة، فلم يزل على الصّدقة حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر وفد زبيد
قال ابن سعد: قدم وفد عمرو بن معدى كرب «3» الزّبيدىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فى عشرة نفر من زبيد، فنزل على سعد بن عبادة فأكرمه سعد وراح به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم هو ومن معه، وأقام أياما، ثم أجازه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانصرف إلى بلاده، فأقام مع قومه على الإسلام، وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدّ، ثم رجع إلى الإسلام، وأبلى يوم القادسية وغيرها.
قال محمد بن إسحق: كان عمرو بن معدى كرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادىّ حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا قيس، إنك سيد(18/85)
قومك، وقد ذكر لنا أنّ رجلا من قريش يقال له محمد خرج بالحجاز، يقال إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس «1» ، فركب عمرو ابن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وتحطّم «2» عليه، وقال: خالفنى وترك رأيى، فقال عمرو فى ذلك:
أمرتك يوم ذى صنعا ... ء أمرا بيّنا رشده «3»
أمرتك باتّقاء الل ... هـ تأتيه وتتّعده «4»
فكنت كذى الحميّر غر ... ره ممّا به وتده «5»
تمنّانى على فرس ... عليه جالسا أسده «6»
علىّ مفاضة كالنّه ... ى أخلص ماءه حدده «7»(18/86)
تردّ الرّمح مثنىّ السّ ... نان عوائرا قصده «1»
فلو لاقيتنى للقي ... ت ليثا فوقه لبده «2»
تلاقى ضيغما شئن ال ... برائن ناشزا كتده «3»
يسامى القرن إن قرن ... تيمّمه فيعتضده «4»
فيأخذه فيرفعه ... فيخفضه فيقتصده «5»
فيدمغه فيخطمه ... فيخضمه فيزدرده «6»
ظلوم الشّرك فيما أح ... رزت أنيابه ويده «7»
ذكر وفد كندة
قالوا: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بضعة عشر راكبا من كندة «8» . قاله ابن سعد- وقال ابن إسحق: فى ثمانين راكبا- فدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وقد رجّلوا «9» جممهم وتكحّلوا، عليهم جبب(18/87)
الحبرة «1» قد كففوها بالحرير، وعليهم الدّيباج ظاهر مخوّص «2» بالذّهب، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تسلموا» ؟ قالوا: بلى، قال: «فما بال هذا عليكم «3» » قال: فشقّوه وألقوه، ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار «4» . فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال:
«ناسبوا بهذا النّسب العبّاس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث» . قال: وكانا تاجرين، و [كانا «5» ] إذا شاعا فى بعض العرب، فسئلا ممن هما، قالا: نحن بنو آكل المرار: يتعزّزان «6» بذلك. وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية، وقد تقدم خبره فى وقائع العرب. قال: ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، نحن بنو النّضر بن كنانة، لا نقفو «7» أمّنا ولا ننتفى من أبينا» فقال الأشعث بن قيس: يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين.
قال محمد بن سعد: فلما أرادوا الرجوع إلى بلادهم أجازهم بعشرة أواق، وأعطى الأشعث ثنتى عشرة أوقية.(18/88)
ذكر وفد الصّدف
قال ابن سعد: وفد وفد الصّدف «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بضعة عشر رجلا، على قلائص «2» لهم، فى أزر وأردية، فصادفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بين بيته وبين المنبر، فجلسوا ولم يسلّموا فقال: «أمسلمون أنتم» ؟
قالوا: نعم. قال: «فهلّا سلّمتم» ، فقاموا فقالوا: السلام عليك أيّها النبىّ ورحمة الله، فقال: «وعليكم السلام، اجلسوا» فجلسوا، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أوقات الصلوات فأخبرهم بها.
ذكر وفد سعد هذيم
قال ابن سعد يرفعه إلى أبى النعمان عن أبيه قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدا فى نفر من قومى، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤمّ المسجد، فنجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّى على جنازة فى المسجد، فانصرف فقال: «من أنتم» ؟ قلنا: من بنى سعد هذيم «3» ، فأسلمنا وبايعنا، ثم انصرفنا إلى رحالنا، فأمر بنا فأنزلنا وضيّفنا فأقمنا ثلاثا، ثم جئناه نودّعه، فقال: «أمّروا عليكم أحدكم» وأمر بلالا، فأجازنا بأواق من فضّة، ورجعنا إلى قومنا فرزقهم الله الإسلام.(18/89)
ذكر وفد بلىّ
روى عن رويفع بن ثابت البلوىّ «1» قال: قدم وفد قومى فى شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم علىّ فى منزلى ببنى جديلة، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس مع أصحابه فى بقية من الغداة «2» ، فتقدم شيخ الوفد أبو الضّبيب «3» ، فجلس بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتكلم وأسلم، وأسلم القوم، وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضّيافة، وعن أشياء من أمر دينهم فأجابهم، ثم رجعت بهم إلى منزلى، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتى [منزلى «4» ] يحمل تمرا يقول: «استعن بهذا التّمر» فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثا، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يودّعونه، فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، ثم رجعوا إلى بلادهم.
ذكر وفد بهراء
قال ابن سعد: قدم وفد بهراء «5» من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلا، فأقبلوا يقودون رواحلهم، حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببنى جديلة فخرج إليهم، فرحّب بهم وأنزلهم، وأتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا وتعلّموا الفرائض وأقاموا أياما، ثم جاءوا يودّعونه فأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهلهم.(18/90)
ذكر وفد عذرة
قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد عذرة، فى صفر سنة تسع من مهاجره، وهم اثنا عشر رجلا، فيهم حمزة بن النعمان العذرىّ، وسليم وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبى رياح، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فسلّموا بسلام الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصىّ لأمه، ونحن الذين أخرجوا خزاعة وبنى بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفنى بكم، ما منعكم من تحية الإسلام» ؟
قالوا: قدمنا مرتادين لقومنا «1» . وسألوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم فيها، فأسلموا وأقاموا أياما، ثم انصرفوا إلى أهليهم، وأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، وكسا أحدهم بردا.
قال: ووفد زمل «2» بن عمرو العذرىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنشأ يقول حين وفد:
إليك رسول الله أعلمت نصّها ... أكلّفها حزنا وقوزا من الرّمل «3»
لأنصر خير النّاس نصرا مؤزّرا ... وأعقد حبلا من حبالك فى حبلى «4»
وأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمى نعلى «5»(18/91)
قال: وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما سمع من صنمه، فقال: «ذلك مؤمن الجن «1» » وعقد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء على قومه، فشهد به بعد ذلك صفّين «2» مع معاوية، ثم شهد به المرج «3» فقتل.
ذكر وفد سلامان
قال ابن سعد: وفد سبعة من سلامان «4» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال سنة عشر، فصادفوه وهو خارج من المسجد إلى جنازة؛ فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليكم [السلام «5» ] من أنتم» ؟ قالوا: نحن من سلامان، قدمنا لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فأمر ثوبان «6» فأنزلهم حيث ينزل الوفد «7» ، فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظّهر جلس بين بيته وبين المنبر، فقدموا إليه فسألوه عن أشياء من أمر الصّلاة وشرائع الإسلام، وعن الرّقى «8» فأجابهم وأسلموا، وأجاز كلّ رجل منهم خمس أواق، ورجعوا إلى بلادهم.(18/92)
ذكر وفد كلب
قال محمد بن سعد بسنده إلى عبد بن «1» عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبىّ، «2» قال: شخصت أنا وعصام «3» - رجل من بنى رقاش من بنى عامر- حتى أتينا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا.
وقال بسند آخر إلى ربيعة بن إبراهيم الدمشقى قال: وفد حارثة بن قطن بن زابر بن «4» حصن بن كعب بن عليم الكلبىّ، وحمل «5» بن سعدانة بن حارثة بن مغفّل ابن كعب بن عليم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما، فعقد لحمل بن سعدانة لواء، فشهد به صفّين مع معاوية، وكتب لحارثة بن قطن كتابا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأهل دومة الجندل «6» وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن، لنا الضّاحية «7»(18/93)
من البعل، ولكم الضّامنة من النّخل؛ على الجارية العشر، وعلى الغائرة «1» نصف العشر، لا يجمع سارحكم «2» ، ولا تعدّ فاردتكم»
، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقّها، [ولا يحظر «4» عليكم] النّبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات «5» ، لكم بذلك العهد والميثاق، ولنا عليكم النّصح والوفاء، وذمّة الله ورسوله، شهد الله ومن حضر من المسلمين» .
ذكر وفد جرم
قال ابن سعد: وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلان من جرم «6» ، يقال لأحدهما: الأسقع «7» بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح «8» بن عوف بن عميرة بن الهون ابن أعجب بن قدامة بن جرم [بن ربّان «9» ] بن حلوان بن عمران بن الحاف «10» بن قضاعة.(18/94)
والآخر: هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح، فأسلما وكتب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا.
وروى عن أبى يزيد- وقد قيل فيه بالباء الموحّدة أبو بريد- عمرو بن سلمة الجرمىّ أن أباه ونفرا من قومه، وفدوا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم حين أسلم الناس، وتعلّموا القرآن وقضوا حوائجهم، فقالوا: يا رسول الله من يصلّى بنا؛ أو لنا؟ فقال: «ليصلّ «1» بكم أكثركم جمعا- أو أخذا- للقرآن» . قال: فجاءوا إلى قومهم فلم يجدوا فيهم أحدا أكثر أخذا، أو جمع من القرآن ما جمعت، أو أخذت، قال: وأنا يومئذ غلام علىّ شملة «2» ، فقدّمونى فصلّيت بهم، فما شهدت مجمعا من جرم إلا وأنا إمامهم إلى يومى هذا.
وعن عمرو بن سلمة أيضا قال: كنا بحضرة ماء ممرّ الناس عليه، وكنا نسألهم، ما هذا الأمر؟ فيقولون: رجل يزعم أنه نبىّ، وأنّ الله أرسله، وأنّ الله أوحى إليه كذا وكذا، فجعلت يومئذ لا أسمع شيئا من ذلك إلّا حفظته، كأنما يغرى «3» في صدرى بغراء، حتى جمعت فيه قرآنا كثيرا، وكانت العرب تلوّم «4» بإسلامها الفتح، يقولون:
انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق، وهو نبىّ. فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، فانطلق أبى بإسلام حوائنا ذلك، وأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقيم، ثم أقبل فلمّا دنا منّا تلقّيناه، فقال: جئتكم والله من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّا، ثم قال: إنه يأمركم بكذا وكذا،(18/95)
وينهاكم عن كذا وكذا، وأن تصلوا صلاة كذا فى حين كذا، وصلاة كذا فى حين كذا، إذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم، وليؤمّكم أكثركم قرآنا. فنظر أهل حوائنا «1» فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا منّى للّذى كنت أحفظه من الرّكبان، فقدّمونى بين أيديهم، فكنت أصلّى بهم وأنا ابن ستّ سنين «2» ، وكان علىّ بردة كنت إذا سجدت تقلّصت «3» عنّى، فقالت امرأة من الحىّ: ألا تغطون عنّا است قارئكم؟ فكسونى قميصا من معقّد «4» البحرين، فما فرحت بشىء أشدّ من فرحى بذلك القميص.
ومن رواية أخرى عنه: فعلّمونى الركوع والسجود، فكنت أصلّى بهم.
ذكر وفد الأزد وأهل جرش
قالوا: قدم صرد بن عبد الله الأزدىّ «5» في بضعة عشر رجلا من قومه، وفدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلوا على فروة بن عمرو، وأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، وأقاموا عشرة أيام، وكان صرد أفضلهم، فأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه، من أهل الشّرك من قبائل اليمن؛ فخرج حتى نزل جرش «6» وهى مدينة حصينة مغلقة، وبها(18/96)
قبائل من قبائل اليمن. وقد ضوت «1» إليهم خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرهم صرد ومن معه فيها شهرا، ثم رجع قافلا، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر، ظنّ أهل جرش أنه إنما ولّى عنهم منهزما، فخرجوا فى طلبه حتى إذا أدركوه صفّ صفوفه، وحمل عليهم هو والمسلمون، ووضعوا سيوفهم فيهم حيث شاءوا، وأخذوا من خيلهم عشرين فرسا، فقاتلوهم عليها نهارا طويلا.
وكان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة يرتادان وينظران، فبينما هما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشية بعد العصر؛ إذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بأىّ بلاد الله شكر» ؟ فقام الجرشيّان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له كشر، وكذلك نسميّه أهل جرش، فقال: «إنه ليس بكشر ولكنه شكر» ، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال:
«إنّ بدن الله لتنحر عنده الآن» قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر، أو إلى عثمان. «2»
فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآن لينعى لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله فسلاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما. فقاما إليه فسألاه ذلك.
فقال: «اللهم ارفع عنهم» فخرجا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا من صرد فى اليوم الذى قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال فى تلك الساعة، فقصّا على قومهما القصّة، فخرج وفدهم حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، فقال: «مرحبا بكم،(18/97)
أحسن الناس «1» وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم منى وأنا منكم» وجعل شعارهم مبرورا، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام «2» معلومة للفرس والراحلة وللمثيرة- بقرة الحرث- فمن رعاه من الناس فماله سحت «3» .
ذكر وفد غسّان
قال محمد بن سعد بسنده إلى محمد بن بكير الغسّانىّ، عن قومه من «4» غسّان، قالوا: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان سنة عشر، المدينة ونحن ثلاثة نفر، فنزلنا دار رملة بنت الحارث، ثم أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلمنا وصدّقنا، فأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان مسلمين «5» ، وأدرك الثالث عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة فخبّره بإسلامه فأكرمه «6» .
ذكر وفد الحارث بن كعب وما كتب به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم
قال ابن سعد: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فى أربعمائة من المسلمين، فى شهر ربيع الأوّل سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران «7» ،(18/98)
وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم ففعل، فاستجاب له من هناك من بلحارث «1» بن كعب، ودخلوا فى الإسلام، ونزل خالد بن الوليد بين أظهرهم، فعلمهم الإسلام وشرائعه، وكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خالد: «أن بشّرهم وأنذرهم واقدم ومعك وفدهم» ، فقدم خالد ومعه وفدهم؛ فيهم قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المدان، وعبد الله بن عبد المدان، ويزيد بن المحجّل، وعبد الله بن قراد «2» ، وشدّاد بن عبد الله القنانىّ، وعمرو بن عبد الله، وأنزلهم خالد عليه، ثم جاء بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من هؤلاء الذين كأنهم رجال الهند» ؟ فقيل: بنو الحارث بن كعب، فسلّموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأجازهم بعشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، وأمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال. هذا ما حكاه ابن سعد فى طبقاته.
وقال ابن إسحق: لما وقفوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّموا عليه، وقالوا:
نشهد أنك لرسول الله، وأنه لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا «3» » ؟ فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، فأعادها عليهم الثانية والثالثة، فلما أعادها الرابعة قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(18/99)
«لو أنّ خالدا لم يكتب إلىّ أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم» فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: «فمن حمدتم» ؟
قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله. قال: «صدقتم» ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدا. قال: «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم» قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم» .
وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنى الحارث قيس بن الحصين، وأجازهم بعشر أواق عشر أواق، وأجاز قيس بن الحصين باثنتى عشرة أوقية ونشّ، ثم انصرفوا إلى قومهم فى بقية شوّال، أو فى صدر ذى القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال: وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقّههم فى الدّين ويعلّمهم السّنة، ويعلّمهم «1» الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتابا وهو:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2»
عهد من محمد النبى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لعمرو بن حزم حين(18/100)
بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله فى أمره كله ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلّم الناس القرآن ويفقّههم فيه، وينهى الناس، ولا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذى لهم والذى عليهم، ويلين للناس فى الحق، ويشتدّ عليهم فى الظّلم، فإنّ الله كره الظّلم، ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
، ويبشّر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف «1» الناس حتى يفقّهوا فى الدّين، ويعلّم الناس معالم الحج وسنّته وفريضته، وما أمر الله به، والحج الأكبر: الحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة، وينهى الناس أن يصلّى أحد فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يحتبى «2» أحد فى ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن يعقص «3» أحد شعر رأسه فى قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج «4» عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا «5» بالسّيف، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده(18/101)
لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، يغلّس بالصّبح، «1» ويهجّر بالهاجرة «2» حين تميل الشّمس، وصلاة العصر والشمس فى الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخّر حتى تبدو النجوم فى السماء، والعشاء أوّل الليل، وأمر بالسّعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرّواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين فى الصّدقة من العقار «3» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «4» نصف العشر، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل عشرين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع «5» : جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة «6» وحدها شاة، فإنها فريضة الله التى افترض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل(18/102)
ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يردّ عنها، وعلى كل حالم «1» ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف، أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» .
ذكر وفد عنس
قال محمد بن السّائب الكلبىّ: حدّثنا أبو زفر الكلبىّ عن رجل من عنس «2» ، قال: كان منّا رجل وفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه وهو يتعشّى، فدعا به إلى العشاء فجلس «3» ، فلما تعشّى أقبل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«اشهد «4» أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» فقال العنسىّ: اشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فقال: «أراغبا جئت أم راهبا» فقال:
أمّا الرّغبة فو الله ما فى يديك مال، وأمّا الرّهبة فو الله إنى لببلد ما تبلغه جيوشك، ولكنّى خوّفت فخفت، وقيل لى: آمن بالله فآمنت. فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على القوم فقال: «ربّ خطيب من عنس» فمكث يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يودّعه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اخرج» وبتّته «5» ، أى أعطاه شيئا، وقال: «إن أحسست شيئا فوائل «6» إلى أدنى «7»(18/103)
قرية» . فخرج فوعك «1» في بعض الطريق، فوأل إلى أدنى قرية فمات رحمه الله، واسمه ربيعة «2» .
ذكر وفد الداريّين وما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما اختصّ به تميم الدارىّ وإخوته
قال محمد بن سعد بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله، وروح بن زنباع الجذامىّ عن أبيه قالا: قدم وفد الدّاريّين «3» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من تبوك وهم عشرة نفر؛ فيهم تميم ونعيم ابنا أوس بن خارجة بن سود «4» بن جذيمة «5» ابن ذراع بن عدىّ بن الدّار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ويزيد بن قيس ابن خارجة، والفاكه بن النّعمان بن جبلة بن صفّارة بن ربيعة بن ذراع بن عدىّ ابن الدّار، وجبلة بن مالك بن صفّارة، وأبو هند والطّيّب ابناذرّ- قال ابن [إسحق «6» ] : برّ- وهو عبد الله بن ذرّ بن عمّيت بن ربيعة بن ذراع، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومرّة ابنا مالك بن سواد. «7» قال ابن إسحق: عرفة. وقال ابن هشام: عزّة. وقال ابن إسحق فى مرّة: مروان «8» .
قال ابن سعد: فأسلموا وسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطيب عبد الله، وسمّى عزيزا عبد الرحمن.(18/104)
قال: وأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم راوية خمر وأفراسا وقباء «1» مخوّصا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء وأعطاه العباس بن عبد المطلب، فقال: ما أصنع به؟ قال: «تنزع الذهب فتحليه نساءك، أو تستنفقه، ثم تبيع الدّيباج فتأخذ ثمنه» ، فباعه العباس من رجل من يهود بثمانية آلاف درهم.
قال وقال تميم: لناجيرة من الرّوم، لهم قريتان يقال لأحداهما حبرى «2» والأخرى بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لى، قال: «فهما لك» فلما قام أبو بكر رضى الله عنه أعطاه ذلك، وكتب له به كتابا، وأقام وفد الدّاريّين حتى توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأوصى لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجادّ «3» مائة وسق من خيبر، هكذا حكى ابن سعد فى طبقاته.
وشاهدت أنا عند ورثة الصاحب الوزير فخر الدين أبى حفص عمر، ابن القاضى المرحوم الرئيس مجد الدين عبد العزيز المعروف بابن الخليلى التميمىّ رحمه الله، كتابا يتوارثونه كابرا عن كابر، يقولون: هو كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كتبه لتميم الدارىّ وإخوته، وهو فى قطعة من أدم مربّعة دون الشّبر قد غلّفت بالأطلس «4» الأبيض، يزعمون أن ذلك من خفّ كان لأمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وقد بقى بهذه القطعة الأدم آثار أحرف خافية، لا تكاد تبين إلا بعد إمعان التأمّل، وتحقيق النظر، وعلى هذه القطعة(18/105)
الأدم من الجلالة ولها من الموقع فى النفوس والمهابة ما يقوّى أنها صادرة عن المحل المنيف «1» ، وقرين هذه القطعة الأدم قرطاس أبيض قديم، يزعمون أن أسلافهم نقلوا ما فيه من الكتابة من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل أن تزول حروفه. وفيه تسعة أسطر بما فى ذلك من البسملة، وقد رأينا أن نضع ذلك فى هذا الكتاب على هيئته فى العدد، وإن لم يوافق الخط، وهو:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
هذا ما انطا «2» محمد رسول الله لتميم الدارىّ واخوته حبرون والمرطوم «3» وبيت عينون وبيت ابراهيم وما فيهن نطيه بتّ بذمتهم ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم فمن اذاهم اذاه الله فمن اذاهم لعنه الله شهد عتيق ابن ابو قحافة «4» وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وكتب على بن ابو طالب وشهد.(18/106)
هكذا شاهدت تلك الورقة التى هى قرين الكتاب، والكتاب بأيديهم إلى وقتنا هذا؛ وهو العشر الآخر من ذى القعدة سنة ستّ عشرة وسبعمائة. وهذه الضّياع الأربعة المذكورة بأيديهم إلى وقتنا هذا، لا ينازعون فيها. وكان الصاحب الوزير فخر الدين عمر بن الخليلى رحمه الله، إذا نابته نائبة، أو صودر أو أوذى بوجه من وجوه الأذى، توسّل إلى الله تعالى بكتاب نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وأظهره للملوك، فكفوا عن طلبه، وأفرجوا عنه. ولنرجع إلى أخبار الوفود.
ذكر وفد الرّهاويّين
والرّهاويّون حىّ من مذحج «1» ، قال ابن سعد: وفد خمسة عشر رجلا من مذحج على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتحدّث عندهم طويلا. وأهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم هدايا؛ منها فرس يقال له المرواح، فأمر به فشوّر «2» بين يديه فأعجبه.
فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض. وأجازهم كما يجيز الوفد؛ أرفعهم ثنتى عشرة أوقية ونسّا، وأخفضهم خمس أواق. ثم رجعوا إلى بلادهم.
ثم قدم منهم نفر فحجّوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوصى لهم بجادّ مائة وسق من خيبر فى الكتيبة جارية عليهم، وكتب لهم بها كتابا، فباعوا ذلك فى زمن معاوية.(18/107)
ذكر وفد غامد
قال: قدم وفد غامد «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغرقد «2» ، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلّموا عليه وأقرّوا بالإسلام. وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا فيه شرائع الإسلام، وأتوا أبىّ بن كعب فعلّمهم قرآنا. وأجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما كان يجيز الوفد وانصرفوا.
ذكر وفد النّخع
قالوا: بعث النّخع «3» رجلين منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافدين بإسلامهم، وهما أرطاة بن شراحيل بن كعب، من بنى حارثة بن سعد بن مالك بن النّخع، والجهيش واسمه الأرقم، من بنى بكر بن عوف من النّخع، فخرجا حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه وبايعا عن قومهما، فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شأنهما، وحسن هيئتهما؛ فقال: «هل خلّفتما وراء كما من قومكما مثلكما» ؟ قالا: يا رسول الله، قد خلّفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفّذ الأشياء، ما يشار كوننا فى الأمر إذا كان، فدعا لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقومهما بخير، وقال: «اللهمّ بارك فى النّخع» . وعقد لأرطاة لواء على قومه، وكان فى يده يوم الفتح، فشهد(18/108)
به القادسيّة فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد فقتل- رحمهما الله- فأخذه سيف ابن الحارث من بنى جذيمة، فدخل به الكوفة.
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمىّ، قال: كان آخر من قدم من الوفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع، وقدموا من اليمن للنّصف من المحرم، سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقرّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن، وكان فيهم زرارة بن عمرو.
وحكى أبو عمر بن عبد البرفى ترجمة زرارة بن عمرو، والد عمرو بن زرارة، قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وفد النّخع، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فى طريقى رؤيا هالتنى. قال: «وما هى» ؟ قال: رأيت أتانا «1» خلّفتها فى أهلى ولدت جديا أسفع أحوى «2» ، ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى- يقال له عمرو- وهى تقول: لظى لظى، بصير وأعمى «3» . فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أخلّفت فى أهلك أمة مسرّة «4» ولدا» . قال: نعم. قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك «5» » قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منّى، أبك(18/109)
برص تكتمه» ؟ قال: والذى بعثك بالحق، ما علمه أحد قبلك. قال: «فهو ذاك، وأما النار فإنها فتنة تكون بعدى» . قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال:
يقتل الناس إمامهم، يشتجرون اشتجار أطباق الرأس «1» - وخالف بين أصابعه- دم المؤمن عند المؤمن أحلى من الماء، يحسب المسىء أنه محسن، إن متّ أدركت ابنك، وإن مات ابنك أدركتك» . قال: فادع الله لى ألّا تدركنى. فدعا له.
قال: وكان قدوم زرارة بن عمرو هذا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى النّصف من شهر رجب سنة تسع.
وقال الطبرى: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد النّخع وهم مائتا رجل، وفيهم زرارة بن قيس بن الحارث بن عدىّ بن الحارث بن عوف بن جشم ابن كعب بن قيس بن منقذ بن مالك بن النّخع فأسلموا.
ذكر وفد بجيلة
قال ابن سعد: قدم جرير بن عبد الله البجلىّ «2» سنة عشر المدينة، ومعه من قومه مائة وخمسون رجلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يطلع عليكم من هذا الفجّ من خير ذى يمن على وجهه مسحة «3» ملك» فطلع جرير على راحلته ومعه قومه فأسلموا وبايعوا. قال جرير: فبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فبايعنى، وقال: «على أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، ثم [تقيم «4» ] الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح للمسلم، وتطيع الوالى وإن كان عبدا حبشيا» فقال: نعم، فبايعه.(18/110)
وقدم قيس بن [أبى «1» ] غرزة الأحمسىّ- وقيل غرزة بن قيس البجلىّ- فى مائتين وخمسين رجلا من أحمس، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من أنتم» ؟ فقالوا: نحن أحمس «2» الله. وكان يقال لهم ذاك فى الجاهلية. فقال لهم: «وأنتم اليوم لله» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال: «أعط ركب بجيلة وابدأ بالأحمسيّين» ففعل. وسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جرير ابن عبد الله «ما فعل ذو الخلصة «3» » ؟ قال: هو على حاله، قد بقى والله، نريح منه إن شاء الله، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هدمه، وعقد له لواء فقال:
إنى لا أثبت على الخيل فمسح صدره، وقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا» فخرج فى قومه وهم زهاء مائتين، فما أطال الغيبة حتى رجع؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هدمته» ؟ قال: نعم، والذى بعثك بالحقّ، وأخذت ما عليه وأحرقته بالنار، فتركته كما يسوء من يهوى هواه، وما صدّنا عنه أحد. قال فبرّك «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ على خيل أحمس ورجالها.
ذكر وفد خثعم
قالوا: وفد عثعث بن زحر، وأنس بن مدرك، فى رجال من خثعم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما هدم جرير بن عبد الله ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنا بالله ورسوله، وما جاء من عند الله، فاكتب لنا كتابا نتبع ما فيه؛ فكتب لهم كتابا شهد فيه جرير بن عبد الله ومن حضر.(18/111)
ذكر وفد حضرموت
قالوا: قدم وفد حضر موت مع وفد كندة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم بنو وليعة ملوك حضر موت؛ جمد «1» ، ومخوس، ومشرح «2» ، وأبضعة، فأسلموا، وقال مخوس: يا رسول الله، ادع الله أن يذهب عنى هذه الرّتّة «3» من لسانى. فدعا له، وأطعمه طعمة من صدقة حضر موت.
وقدم وائل بن حجر الحضرمىّ وافدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال:
جئت راغبا فى الإسلام والهجرة، فدعا له ومسح رأسه ونودى: «الصلاة جامعة» سرورا بقدوم وائل بن حجر. وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاوية بن أبى سفيان أن ينزله بالحرّة، فمشى معه، ووائل راكب، فقال له معاوية: ألق إلىّ نعليك أتوقّى بهما الرّمضاء «4» . قال: لا، إنى لم أكن لألبسهما وقد لبستهما. ومن رواية: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة «5» لبس نعل ملك. قال: فأردفنى، قال: لست من أرداف الملوك، قال: إنّ الرمضاء قد أحرقت قدمى، قال: امش فى ظلّ ناقتى، كفاك به شرفا.
ويقال: إن وائل بن حجر هذا وفد بعد ذلك إلى معاوية فى خلافته فأكرمه معاوية.(18/112)
قال: ولما أراد وائل بن حجر الشّخوص إلى بلاده، كتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا وهو:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى لوائل بن حجر قيل حضر موت، إنك أسلمت وجعلت لك ما فى يدك من الأرضين والحصون، وأن يؤخذ منك من كل عشرة واحد. ينظر فى ذلك ذوو «1» عدل وجعلت لك ألا تظلم فيها ما قام الذين. والنبى- صلى الله عليه وسلّم- والمؤمنون عليه أنصار» .
قال القاضى عياض بن موسى بن عياض- رحمه الله- وفيه:
«إلى الأقيال «2» العباهلة «3» ، والأرواع «4» المشابيب «5» » . وفيه:
«فى التّيعة «6» شاة لا مقوّرة الألياط «7» ولا ضناك «8» ، وأنطوا الثّبجة «9» ، وفى السّيوب «10» الخمس ومن زنى من امبكر «11» فاصقعوه مائة واستوفضوه «12» عاما، ومن زنى من امثيّب(18/113)
فضرّجوه بالأضاميم «1» ، ولا توصيم فى الدّين «2» ، ولا غمّة «3» فى فرائض الله؛ وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفّل «4» على الأقيال» .
قال محمد بن سعد بسنده إلى أبى عبيدة من ولد عمّار بن ياسر قال: وفد مخوس ابن معدى كرب بن وليعة فيمن معه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرجوا من عنده فأصاب مخوس اللّقوة «5» فرجع منهم نفر، فقالوا: يا رسول الله، سيّد العرب ضربته اللّقوة، فادللنا على دوائه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا مخيطا «6» فأحموه فى النار، ثم اقلبوا شفر عينيه، ففيها شفاؤه، وإليها مصيره، فالله أعلم ما قلتم حين خرجتم من عندى» . فصنعوه به فبرئ.
ذكر وفد أزد عمان
قالوا: أسلم أهل عمان «7» ، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمىّ ليعلّمهم شرائع الإسلام، ويصدّق أموالهم «8» ، فخرج وفدهم إلى رسول الله(18/114)
صلى الله عليه وسلّم، فيهم أسد بن بيرح «1» الطاحىّ، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم، فقال مخرمة «2» العبدىّ واسمه مدرك بن خوط: ابعثنى إليهم فإن لهم علىّ منّة؛ أسرونى فى يوم جنوب «3» فمنّوا علىّ. فوجّهه معهم إلى عمان، وقدم بعدهم سلمة بن عبّاد «4» الأزدىّ فى ناس من قومه، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يعبد وما يدعو إليه، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ادع الله أن يجمع كلمتنا وألفتنا. فدعا لهم، وأسلم سلمة ومن معه.
ذكر وفد غافق «5»
قالوا: وقدم جليحة بن شجّار بن صحار الغافقىّ، على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رجال من قومه، فقالوا: يا رسول الله، نحن الكواهل «6» من قومنا، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا. فقال: «لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فقال عوذ بن سرير الغافقىّ: آمنا بالله واتبعنا رسول الله.
ذكر وفد بارق
قالوا: قدم وفد بارق «7» ، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(18/115)
«هذا كتاب من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لبارق ألا تجذّ ثمارهم، ولا ترعى بلادهم فى مربع «1» ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. ومن مرّبهم من المسلمين فى عرك «2» أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام. وإذا أينعت «3» ثمارهم فلابن السّبيل اللّقاط «4» بوسع بطنه من غير أن يقيه «5» » . ثم شهد أبو عبيدة بن الجرّاح، وحذيفة بن اليمان، وكتب أبىّ بن كعب.
ذكر وفد ثمالة «6» والحدّان
قالوا: قدم عبد الله بن غلس «7» الثّمالىّ ومسلمة بن هاران «8» الحدّانى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قومهم، وكتب لهم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة فى أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شمّاس، وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد ابن مسلمة.(18/116)
ذكر وفد مهرة
قالوا: قدم وفد مهرة «1» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عليهم مهرىّ «2» بن الأبيض، فعرض عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام فأسلموا، وكتب لهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من محمد رسول الله لمهرىّ بن الأبيض على من آمن به من مهرة ألّا يؤكلوا»
ولا يعركوا «4» . وعليهم إقامة شعائر الإسلام، فمن بدّل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمّة الله وذمّة رسوله. اللّقطة «5» مؤدّاة، والسّارحة «6» مندّاة، والتّفث «7» السّيّئة، والرّفث «8» الفسوق» .
وكتب محمد بن مسلمة الأنصارى.(18/117)
قالوا: ووفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من مهرة، يقال له زهير «1» ابن قرضم بن الجعيل من الشّحر «2» ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدنيه لبعد مسافته، فلما أراد الانصراف بتّته «3» ، وحمله، وكتب له كتابا.
ذكر وفد حمير
قالوا: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن مرارة «4» الرّهاوى، رسول ملوك حمير بكتابهم وإسلامهم، وذلك فى شهر رمضان سنة تسع عند مقدمه من تبوك، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنّعمان قيل ذى رعين، ومعافر، وهمدان.
قال ابن إسحق: وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرّة الرّهاوىّ فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان- أما بعد ذلكم- فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلا هو- أما بعد- فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأنّ الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم(18/118)
النبىّ وصفيّه «1» ، وما كتب على المؤمنين من الصّدقة، من العقار «2» عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «3» نصف العشر، وإن فى الإبل الأربعين ابنة لبون، وفى ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفى كل خمس من الإبل شاة، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وأنّها فريضة الله التى فرض على المؤمنين فى الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدّى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر «4» المؤمنين على المشركين، فهو من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم وله ذمّة الله وذمّة رسوله، وإنّه من أسلم من يهودىّ أو نصرانىّ فإنّه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يردّ عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد دينار واف، من قيمة المعافر «5» أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما بعد- فإن رسول الله محمدا النبىّ أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة ابن نمر، ومالك بن مرّة، وأصحابهم، وأن اجمعوا له ما عندكم من الصّدقة، والجزية من مخالفيكم، وأبلغوها رسلى، وأنّ أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضيا.
أما بعد- فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنّه عبده ورسوله، ثم إن مالك ابن مرّة الرّهاوىّ قد حدّثنى أنك أسلمت من أوّل حمير وقتلت المشركين، فأبشر(18/119)
بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هو مولى غنيّكم وفقيركم، وأنّ الصّدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته، إنما هى زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وأن مالكا قد بلّغ الخبر، وحفظ الغيب وآمركم به خيرا، وأنّى أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم، وآمركم بهم خيرا، فإنهم «1» منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .
ذكر وفد جيشان
قال محمد بن سعد: قدم أبو وهب الجيشانىّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفر من قومه، فسألوه عن أشربة تكون باليمن، فسمّوا له البتع «2» من العسل، والمزر «3» من الشّعير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تسكرون منهما» قالوا: إن أكثرنا سكرنا، قال: «فحرام قليل ما أسكر كثيره» ، وسألوه عن الرجل يتخذ الشراب فيسقيه عمّا له، فقال: «كلّ مسكر حرام» .
ذكر وفد سلول
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النّمرىّ رحمه الله: قدم قردة بن نفاثة السّلولىّ، من بنى عمرو بن مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى جماعة من بنى سلول، فأمّره عليهم بعد ما أسلم(18/120)
وأسلموا؛ فأنشأ يقول:
بان الشّباب فلم أحفل به بالا ... وأقبل الشّيب والإسلام إقبالا
وقد أروّى نديمى من مشعشعة «1» ... وقد أقلّب أوراكا وأكفالا
الحمد لله إذ لم يأتنى أجلى ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قال وقد قيل: إن البيت الثالث للبيد، قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد فى الإسلام غيره، وكان قد عمّر مائة وخمسين سنة.
قال أبو عمر: وقردة هذا هو الذى يقول:
أصبحت شيخا أرى الشّخصين أربعة ... والشّخص شخصين لمّا مسّنى الكبر
لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له ... وحال بالسّمع دونى المنظر القصر «2»
وكنت أمشى على السّاقين معتدلا ... فصرت أمشى على ما تنبت الشّجر
إذا أقوم عجنت الأرض متّكئا ... على البراجم حتّى يذهب النّفر «3»
ذكر وفد نجران وسؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من القرآن
قال محمد بن إسحق: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفد نصارى نجران ستّون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وهم: العاقب عبد المسيح، والسّيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس،(18/121)
ويزيد، ونبيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنّس. ومن هؤلاء الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، وهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح.
قال محمد بن سعد: هو رجل من كندة والسّيد ثمالهم «1» ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم «2» وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم «3» .
قال ابن سعد: وكان من الأربعة عشر كوز وهو أخو الحارث بن علقمة، وأوس أخو السّيد.
قال: فتقدمهم كوز وهو يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها «4»
مخالفا دين النّصارى دينها
وقدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا [عليه «5» ] المسجد، عليهم ثياب الحبرة «6» وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلّون فى المسجد نحو الشّرق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوهم» ، ثم أتوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعرض عنهم ولم يكلّمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيّكم هذا، فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه، بزىّ الرّهبان فسلّموا عليه فردّ عليهم.(18/122)
قال محمد بن إسحق: وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن علمه فى دينهم، فكانت ملوك الرّوم من أهل النّصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات؛ لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم، فلما وجّهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له، وإلى جنبه أخوه كوز،- ويقال فيه كرز «1» - فعثرت بغلة أبى حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنّه للنبىّ الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرّفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلّا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فكان يحدّث عنه هذا الحديث.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغنى أنّ رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد- يريد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم- فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبىّ واسمه فى الوضائع- يعنى الكتب- فلما مات لم يكن لابنه همّة إلا أن كسر الخواتم، فوجد فى الكتب ذكر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه فحجّ، وهو الذى يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها(18/123)
قال ابن إسحق: ولما قدموا صلّوا فى المسجد نحو الشّرق، وكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم الثلاثة نفر: العاقب، والسيّد، وأبو حارثة، وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف من أمرهم، يقولون فى المسيح: هو الله، ويقولون:
هو ابن الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، فهم يحتجّون فى قولهم: هو الله بأنه كان يحيى الموتى، ويبرئ من الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، ويحتجون فى قولهم إنه ابن الله بأنهم يقولون:
لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم فى المهد، [وهذا «1» ] شىء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله.
ويحتجون فى قولهم إنه ثالث ثلاثة، بقول الله فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم.
قال: فلما كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبران قال لهما: «أسلما» ، قالا:
قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعا كما لله ولدا، وعبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير» قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجبهما، فأنزل الله تعالى عليه فى اختلاف أمرهم كلّه صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها.
فقال تعالى: (الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
قال «2» : افتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا وتوحيده، ليس معه شريك فى أمره: «الحىّ» أى الذى لا يموت، وقد مات عيسى وصلب فى قولكم. «القيّوم» القائم على مكانه من سلطانه(18/124)
فى خلقه لا يزول، وقد زال عيسى. ثم قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ
أى بالصدق فيما اختلفوا فيه وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ
أى الفصل بين الحقّ والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره، ثم قال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ
أى إنّ الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ
أى قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فى عيسى؛ إذ جعلوه إلها وعندهم من علمه غير ذلك. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ
أى قد كان عيسى ممن صوّر فى الأرحام لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من ولد آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل.
ثم قال تعالى تنزيها لنفسه وتوحيدا لها: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أى «العزيز» فى انتصاره ممّن كفر به إذا شاء «الحكيم» فى حجته وعذره إلى عباده.
ثم قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
أى فيهنّ حجة الربّ وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
أى لهنّ تصريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم فى الحلال والحرام، ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق.
قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
أى ميل عن الهدى. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ
أى ما تصرّف منه؛ ليصدّقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا لتكون لهم حجّة وشبهة على ما قالوا «1» . ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ
أى اللّبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
أى تأويل ذلك على(18/125)
ماركبوا من الضلالة فى قولهم: خلقنا وقضينا. يقول تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا
فكيف يختلف وهو قول واحد، من ربّ واحد. يقول: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
أى فى مثل هذا.
ثم قال تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
«1» . ثم قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
يشهدون بذلك. قائِماً بِالْقِسْطِ
أى بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
أى ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل. قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ
أى العلم الذى جاءك أنّ الله الواحد الذى ليس له شريك. ثم قال:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ
يقول تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ
أى فيما يأتون به من الباطل من قولهم: خلقنا وفعلنا وأمرنا، فإنما هى شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحقّ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أى الذين لا كتاب لهم أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
ثم جمع تعالى أهل الكتابين من اليهود والنصارى فيما أحدثوا وابتدعوا، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
إلى قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
أى ربّ العباد والملك الذى لا يقضى فيهم غيره. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أى(18/126)
لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ
أى بتلك القدرة. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ
أى لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلّا أنت، أى إن كنت سلّطت عيسى على الأشياء التى بها يزعمون أنه إله، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق من الطّين، والإخبار عن الغيوب؛ لأجعله به آية للناس، وتصديقا له فى نبوّته التى بعثته بها إلى قومه، فإن من سلطانى وقدرتى ما لم أعطه؛ «1» من إيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل، وإخراج الحىّ من الميّت، وإخراج الميت من الحىّ؛ ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكلّ ذلك لم أسلّط عيسى عليه، ولم أملّكه إياه، أفلم يكن لهم فى ذلك عبرة وبينة! أن لو كان إلها كان ذلك كلّه إليه، وهو فى قولهم يهرب من الملوك ويتنقل منهم فى البلاد، من بلد إلى بلد.
ثم وعظ المؤمنين وحذّرهم فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
أى ما مضى من كفركم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ
يقول: أطيعوا الله والرسول فأنتم تعرفونه وتجدونه فى كتابكم، فَإِنْ تَوَلَّوْا
أى على كفرهم.
ثم استقبل أمر عيسى عليه السلام، وكيف كان بدء ما أراد الله تعالى به فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
. ثم ذكر أمر امرأة عمران فقال: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
أى جعلته عتيقا يعبد الله عزّ وجل، لا ينتفع به لشىء من الدنيا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِ(18/127)
إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى
[أى ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محرّرا لك نذيرة «1» ] وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
. يقول الله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
أى كفلها بعد أبيها وأمها؛ يذكرها باليتم، ثم قصّ خبرها وخبر زكريا، وما دعا به وما أعطاه؛ إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم، وقول الملائكة لها، فقال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ
قال الثعلبىّ: القائل من الملائكة جبريل وحده، «اصطفاك» بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، «وطهّرك» من مسيس الرجال. وقيل:
كانت مريم عليها السلام لا تحيض و «اصطفاك» بالتحرير فى المسجد «على نساء العالمين» قال: على عالمى زمانها، ولم تحرّر أنثى غيرها. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
قال الثعلبى: قوله «اقنتى» أطيعى وأطيلى الصلاة لربك، قال: كلّمتها الملائكة شفاها. قال الأوزاعىّ: لما قالت لها الملائكة ذلك، قامت فى الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا.
ثم قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
قال ابن إسحق: كفلها ها هنا جريج الراهب رجل من بنى إسرائيل نجّار، خرج السّهم عليه فحملها، وكان زكريّا قد كفلها قبل ذلك، فأصابت بنى إسرائيل أزمة شديدة، فعجز زكريا عن حملها، فاستهموا عليها، فخرج السّهم على جريح الراهب فكفلها. يقول تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
أى ما كنت معهم إذ يختصمون فى كفالتها، فخبّره تعالى(18/128)
بخفىّ ما كتموا منه من العلم عندهم؛ لتحقيق نبوّته، والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه.
ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
أى هكذا كان أمره، لا كما يقولون فيه. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
«وجيها» أى شريفا ذا جاه وقدر «ومن المقرّبين» عند الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
يخبرهم بحالاته التى يتقلب فيها فى عمره؛ كنقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلّا أنّ الله تعالى خصّه بالكلام فى مهده آية لنبوّته وتنزيها لأمّه. وقوله: «وكهلا» قال مقاتل: إذا اجتمع «1» قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسين بن الفضل: «كهلا» بعد نزوله من السماء. وقال ابن كيسان:
أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل. وقيل: يكلّم الناس فى المهد صبيّا وكهلا؛ بشّرها بنبوته، فلأمه فى المهد معجزة وفى الكهولة دعوة. وقال مجاهد: «وكهلا» أى حليما «2» .
قال تعالى إخبارا عن مريم: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
ثم أخبرها بما يريد به فقال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ
قوله «الكتاب» أى الكتابة والخطّ. «والحكمة والتّوراة» التى كانت فيهم من عهد موسى قبله «والإنجيل» كتابا آخر أنزله الله إليه، لم يكن عندهم إلّا ذكره أنه كائن. يقول تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أى يحقّق بها نبوّتى أنّى رسول منه إليكم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ(18/129)
قال الثعلبىّ: قراءة العامة بالجمع؛ لأنه خلق طيرا كثيرة، وقرّاء أهل المدينة «طائرا» ذهبوا إلى أنه نوع واحد من الطّير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاش، قال: وإنما خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا؛ ليكون أبلغ فى القدرة؛ لأن لها ثديا وأسنانا وهى تحيض وتطير، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا؛ ليتميز فعل الخلق من فعل الله عزّ وجل؛ وليعلم أن الكمال لله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ
«الأكمه» الذى يولد أعمى وجمعه كمه. وقيل:
هو الأعمى وهو المعروف من كلام العرب؛ قال سويد بن أبى كاهل:
كمهت عيناه حتّى ابيضّتا ... فهو يلحى نفسه حتى نزع «1»
والأبرص الذى فيه وضح، قال: وإنما خصّ هذين؛ لأنهما عياءان وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطّب؛ فأراهم الله تعالى المعجزة من جنس ذلك.
قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى فى اليوم الواحد خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام، وإنما كان يداويهم بالدعاء، على شرط الإيمان. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ
قال الثعلبىّ: أحيا أربعة أنفس العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى:
إنّ أخاك العازر يموت فأته، وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقى بنا إلى قبره.
فانطلقت معهم إلى قبره وهو فى صخرة مطبقة، فقال عيسى عليه السلام: «اللهمّ ربّ السموات السّبع، إنك أرسلتنى إلى بنى إسرائيل أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم أنى أحيى الموتى بإذنك، فأحى العازر» ، قال: فقام عازر وودكه يقطر، فخرج من قبره وبقى وولد له. وأحيا ابن العجوز، مرّ به ميتا على عيسى عليه السلام،(18/130)
وهو يحمل على سرير، فدعا الله تعالى عيسى، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السّرير على عنقه، ورجع إلى أهله، فبقى وولد له، وابنة العاشر «1» قيل له: أتحييها وقد ماتت بالأمس؟ فدعا الله عزّ وجلّ فعاشت وبقيت وولدت، وسام بن نوح عليهما السلام، ودعا عيسى باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكنّى دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذنى الله من سكرات الموت، فدعا الله سبحانه ففعل.
قال الكلبىّ: كان يحيى الأموات ب «يا حىّ يا قيّوم» .
قال [تعالى «2» ] : وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أى آية لكم أنى رسول من الله إليكم.
يقول [تعالى] : وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
أى لما سبقنى منها.
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أى أخبركم أنه كان عليكم حراما فتركتموه، ثم أحلّه لكم تخفيفا عنكم، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعته «3» .
يقول [تعالى] : وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ
أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. يقول تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ(18/131)
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ
أى هكذا كان قولهم وإيمانهم، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجّونك، ثم ذكر تعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
قال أهل المعانى: المكر السّعى بالفساد فى ستر ومداجاة. وقال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبّ والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. ثم أخبرهم تعالى، وردّ عليهم فيما أقرّوا به لليهود من صلبه، وأنّ الله عصمه منهم، ورفعه إليه، فقال تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
قال الثعلبىّ: اختلفوا فى معنى التوفى ها هنا؛ فقال كعب والحسن والكلبىّ ومطر الورّاق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريح وابن زيد: معناه إنى قابضك ورافعك من الدنيا إلىّ من غير موت. قال: وعلى هذا القول تأويلان: أحدهما- إنى رافعك إلىّ وافيا لم ينالوا منك شيئا؛ من قولهم توفّيت هذا، واستوفيته أى أخذته تامّا.
والآخر- إنى مسلّمك؛ من قولهم توفّيت منه كذا أى تسلّمته. وقال الربيع ابن أنس: معناه إنى منيمك ورافعك إلىّ فى نومك؛ ويدل عليه قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ
أى ينيمكم؛ لأنّ النوم أخو الموت. وقوله تعالى:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إنى مميتك.
ويدل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
وقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ*
قال: وله على هذا القول تأويلان: أحدهما- ما قال وهب: توفّى الله تعالى(18/132)
عيسى عليه السلام ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه. وقال ابن إسحق:
النصارى يزعمون أنّ الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه.
والآخر- ما قال الضحاك وجماعة من أهل المعانى: إنّ فى الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّى رافعك إلىّ ومطهّرك من الذين كفروا، ومتوفّيك بعد أن أنزلك من السماء. وقال أبو بكر بن محمد بن موسى الواسطىّ: معناه «إنّى متوفّيك» عن شهواتك وحظوظ نفسك. قال: وذلك أنه لمّا رفع إلى السماء صار حاله حال الملائكة. وقوله: «ورافعك إلىّ» قال البنانىّ والشّيبانىّ: كان عيسى عليه السلام على طور زيتا فهبّت ريح، فهرول عيسى، فرفعه الله عزّ وجلّ فى هرولته، وعليه مدرعة من شعر. وقيل: معناه ورافعك بالدرجة فى الجنة، ومقرّبك إلىّ بالإكرام.
وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أى مخرجك من بينهم ومنجيك منهم.
وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
قال قتادة والربيع والشّعبىّ ومقاتل والكلبىّ: هم أهل الإسلام الذين اتبعوا دينه وسنّته من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما اتبعه من دعاه ربّا. «فوق الّذين كفروا» ظاهرين قاهرين بالعزّ والمنعة والدليل والحجّة. وقال الضحاك وعلىّ ومحمد بن أبان:
يعنى الحواريين فوق الذين كفروا. وقيل: هم الرّوم. وقال ابن زيد: وجاعل النصارى فوق اليهود، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستدلّون مقهورون. قال: وعلى هذين القولين يكون معنى الاتباع: الادّعاء والمحبة لا اتباع الدّين والملّة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
أى فى الآخرة. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
أى من الدّين وأمر عيسى.(18/133)
قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا
بالقتل والسّبى والجزية والذّلّة. وَالْآخِرَةِ
بالنار. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ
. قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
الآية ظاهرة المعنى. قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
أى هذا الذى ذكرته لك، قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «هو القرآن» . وقيل:
هو اللّوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش، من درّة بيضاء، و «الحكيم» هو المحكم من الباطل؛ قاله مقاتل. وقال ابن إسحق: أى القاطع الفاصل، الحقّ الذى لا يخالطه الباطل، من الخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرا غيره. فقال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
أى قد جاءك الحقّ فلا تمترينّ فيه، وإن قالوا خلق عيسى من غير [ذكر «1» ] ، فقد خلقت آدم [من تراب «2» ] بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر؛ فكان لحما ودما وعظما وشعرا وبشرا، كما كان عيسى، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.
ثم قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
أى من بعد ما قصصت عليك من خبره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ
قوله: «نبتهل» أى نتضرع فى الدعاء. وقيل: نخلص فى الدعاء. وقيل: نجتهد ونبالغ فنقول لعن الله الكاذب منّا ومنكم. قال ابن إسحق: إِنَّ هذا
الذى جئت به من الخبر عن عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ
من أمره. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا
أى إن أعرضوا عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
أى الذين يعبدون غير الله تعالى، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.(18/134)
ثم قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
فدعاهم إلى النّصف، وقطع عنهم الحجّة، قال:
فلما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر من الله عزّ وجلّ عن عيسى، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمره به من ملاعتهم إن ردّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا لنبىّ مرسل، لقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قطّ فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألّا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك، ترضاه لنا، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فخرجت إلى الظّهر مهجّرا «1» ، فلمّا صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر، سلّم ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح فدعاه له، وذلك قبل الهجرة.(18/135)
فقال: «اخرج فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه» قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. هذا ما رواه ابن هشام عن ابن إسحق.
وقال محمد بن سعد فى طبقاته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عرض عليهم المباهلة انصرفوا عنه، ثم أتاه عبد المسيح ورجلان من ذوى رأيهم، فقال:
قد بدا لنا ألا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفى حلّة: ألف فى شهر رجب، وألف فى صفر، أو قيمة كل حلّة من الأواقى، وعلى عارية ثلاثين درعا، وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا: إن كان باليمن كيد «1» .
ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبىّ رسول الله، على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم، لا يغيّر أسقف من سقّيفاه «2» ، ولا راهب من رهبانيّة، ولا واقف من وقفانيّته «3» ، وفى بعض الروايات لا يغيّر «4» وافه من وفهيّته، ولا قسيس من قسّيسيّته. والوافه: قيّم الكنيسة.
قال: وأشهد على ذلك شهودا. منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة، ورجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأسلما وأنزلهما فى دار أبى أيوب الأنصارىّ،(18/136)
وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قبضه الله تعالى. ثم ولّى أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم:
«هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران. من سار منهم إنه آمن بأمان الله، لا يضرّهم أحد من المسلمين؛ وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر- أما بعد- فمن وقعوا «1» به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب «2» الأرض، ما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم بمكان أرضهم، لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم- أمّا بعد- فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذّمّة. وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلّفوا إلّا من ضيعتهم «3» ، غير مظلومين ولا معنوف «4» عليهم.
شهد عثمان بن عفان ومعيقيب بن أبى فاطمة.
قال: فوقع ناس منهم بالعراق، فنزلوا النّجرانيّة التى هى ناحية الكوفة.
وحيث ذكرنا وفادات العرب، فلا بأس أن نصل هذا الفصل بما يناسبه من خبر الجنّ فى إسلامها، ونلحق ذلك بما يتعلق به من إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن أسلم بسبب ذلك، فإنا عند ذكرنا للمبشّرات برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ذكرنا من ذلك طرفا، وأخّرنا بقيته لنذكره فى هذا الفصل، ونبهنا عليه هناك.(18/137)
ذكر خبر إسلام الجنّ ودعائهم قومهم إلى الإيمان عند سماعهم القرآن
قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
«1» .
وكان من خبر الجنّ ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، قال:
انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشّياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشّهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشّهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا ما قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذى قد حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذى حال بينهم وبين خبر السماء، وانطلق الذين توجّهوا إلى نحو تمامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنخلة «2» وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلّى بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن تسمّعوا «3» له فقالوا: هذا(18/138)
الذى حال بينكم وبين خبر السماء. فهنالك رجعوا إلى قومهم فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
«1» . وأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ
وإنما أوحى إليه قول الجنّ، رواه البخارىّ فى صحيحه عن موسى بن إسمعيل، عن أبى عوانة، عن أبى بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وذهب محمد بن سعد إلى أن استماع الجنّ كان بنخلة، عند عود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الطّائف، لما توجّه يدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له، وذلك قبل الهجرة.
وقال الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ فى كتابه المترجم «بدلائل النبوّة، ومعرفة أحوال صاحب الشريعة» بعد أن ساق حديث البخارىّ قال: وهذا الذى حكاه عبد الله بن عباس إنما هو فى أول ما سمعت الجنّ قراءة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعلمت بحاله، وفى ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعى الجنّ مرّة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد الله ابن مسعود.
وقد روى البيهقىّ بسنده إلى عبد الله بن مسعود خبر الجنّ فى القصّتين: أمّا الأولى فإنه قال: هبطوا على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا- قالوا صه- وكانوا سبعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا
إلى قوله: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
. وعن ابن مسعود أن النبى صلّى الله عليه وسلّم آذنته بالجنّ شجرة؛ رواه البخارىّ ومسلم فى الصحيحين.(18/139)
وأما القصة الثانية، فرواها عن الشّعبىّ عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ منكم أحد؟ فقال:
ما صحبه منّا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا: اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟
قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان فى وجه الصّبح أو قال فى السّحر، إذا نحن به يجىء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذى كانوا فيه، فقال: «إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، قال: وقال الشّعبىّ فسألوه الزّاد، وقال ابن أبى زائدة: قال عامر سألوه ليلتئذ الزّاد، وكانوا من جنّ الجزيرة، فقال: «كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى أيديكم أوفر ما كان لحما، وكلّ بعرة أوروثة علف لدوابّكم- قال- فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجنّ» رواه مسلم فى صحيحه. وكان فيما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم: «الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ»
السورة؛ ويدل على ذلك ما رواه محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الرّحمن» على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للجنّ كانوا أحسن جوابا منكم لمّا قرأت عليهم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» *
قالوا لا «1» ولا بشىء من آلاء ربّنا نكذّب» . ومن رواية أخرى عنه: «قالوا ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذّب فلك الحمد» .
وعن أبى المليح الهذلىّ أنه كتب إلى عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أين قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ؟ فكتب إليه: إنه قرأ عليهم بشعب يقال له المحجون. وروى عن عبد الله بن مسعود عن النبى صلّى الله عليه وسلّم «أنّ نفرا(18/140)
من الجنّ خمسة عشر بنى إخوة وبنى عمّ يأتوننى الليلة فأقرأ عليهم القرآن» . وقيل:
كانوا أكثر من هذا. وقد جاء عنه: أنه ذهب إلى موضعهم، قال: فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. ولما رأى عبد الله بن مسعود رجال الزّطّ «1» قال: ما رأيت شبههم إلا الجنّ ليلة الجنّ، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا.
ذكر إخبار الجنّ أصحابهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإسلامهم بسبب ذلك
روى أبو عبد الله محمد بن إسمعيل البخارى رحمه الله فى صحيحه، بسنده عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضى الله عنه لشىء قطّ يقول، إنى لأظنّه كذا إلا كان كما يظنّ «2» ؛ بينا عمر جالس إذ مرّ رجل جميل «3» ، فقال: لقد أخطأ ظنى أو إنّ هذا على دينه فى الجاهلية «4» ، ولقد كان كاهنهم؛ علىّ الرجل، فدعى له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظنّى أو إنّك على دينك فى الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال:
فإنى أعزم عليك «5» إلا ما أخبرتنى. قال: كنت كاهنهم فى الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنّيتك؟ قال: بينا أنا يوما فى سوق جاءتنى أعرف فيها الفزع، قالت:(18/141)
ألم تر الجنّ وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها «1»
ولخوقها بالقلاص وأحلاسها ... ويأسها بعد من أنساكها «2»
قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قطّ أشدّ صوتا منه يقول: يا جليح «3» ، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله، فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله. فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبىّ.
قال البيهقىّ: ظاهر هذه الرواية يوهم أنّ عمر رضى الله عنه بنفسه سمع الصّارخ يصرخ من العجل الذى ذبح، وكذلك هو صريح فى رواية ضعيفة عن عمر فى إسلامه، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه، والله تعالى أعلم.
ذكر خبر سواد بن قارب
روى البيهقىّ رحمه الله تعالى بسنده عن البراء، قال: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخطب الناس على منبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السّنة، فلما كانت السّنة المقبلة،(18/142)
قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال فقلت: يا أمير المؤمنين، وما سواد ابن قارب؟ فقال: إنّ سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال:
فبينا نحن كذلك؛ إذ طلع سواد بن قارب، فقال له عمر: يا سواد، أخبرنى ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: فإنّى كنت نازلا بالهند وكان لى رئىّ من الجنّ، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم؛ إذ جاءنى فى منامى ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤىّ بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجنّ وأنجاسها ... وشدّها العيس بأحلاسها «1»
تهوى إلى مكّة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى راسها
ثم أنبهنى وأفزعنى، وقال: يا سواد بن قارب، إنّ الله عز وجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان فى الليلة الثانية أتانى فأنبهنى، ثم أنشا يقول كذلك:
عجبت للجنّ وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس قداماها كأذنابها «2»
فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها «3»(18/143)
فلما كان فى الليلة الثالثة أتانى فأنبهنى، ثم قال كذلك:
عجبت للجنّ وتخبارها ... وشدّها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس ذوو الشّرّ كأخيارها «1»
فانهض إلى الصّفود من هاشم ... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها
قال: فلما سمعته يكرر ليلة بعد ليلة وقع فى قلبى حبّ الإسلام من أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله، فانطلقت إلى رحلى فشددته على راحلتى، فما حللت نسعة «2» ولا عقدت أخرى حتى أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو بالمدينة والناس عليه كعرف الفرس «3» ، فلما رآنى قال: «مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك» قال قلت: يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه منى، قال سواد فقلت:
أتانى رئيىّ بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب «4»
ثلاث ليال قوله كلّ ليلة ... أتاك نبىّ من لؤىّ بن غالب
فشمّرت عن ساقى الإزار ووسّطت ... بى الذّعلب الوجناء عند السّباسب «5»(18/144)
فأشهد أنّ الله لا شىء غيره ... وأنّك مأمون على كلّ غائب
وأنّك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذّوائب «1»
فكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب «2»
قال: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه «3» ، وقال لى:
«أفلحت يا سواد» فقال عمر: هل يأتيك رئيّك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتنى، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجلّ من الجنّ.
قال البيهقىّ: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن، الذى لم يذكر اسمه فى الحديث الصحيح، وهو الحديث الذى ذكرناه آنفا قبل خبر سواد.
وقد روى أيضا عن سواد بن قارب، من رواية سعيد بن جبير بنحو هذا، إلا أنه قال: كان سواد فى جبل من جبال الشّراة «4» ، وقال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة، وقد ظهر، فأخبرته الخبر، وبايعته.
قال البيهقىّ رحمه الله: وقوله أتيت مكة أقرب إلى الصّحة [مما رويناه فى الروايتين الأوليين «5» ] . والله تعالى أعلم.(18/145)
ذكر خبر خفاف بن نضلة الثّقفىّ
روى أبو بكر البيهقىّ رحمه الله بسنده إلى ذابل بن طفيل بن عمرو الدّوسىّ، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قعد فى مسجده ذات يوم، فقدم عليه خفاف بن نضلة ابن عمرو بن بهدلة الثّقفىّ، فأنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
كم قد تحطّمت القلوص بى الدّجى ... فى مهمة قفر من الفلوات «1»
فلّ من التّوريس ليس بقاعه ... نبت من الإسنات والأزمات «2»
إنّى أتانى فى المنام مساعد ... من جنّ وجرة كان لى وموات «3»
يدعو إليك لياليا ولياليا ... ثمّ احزألّ وقال لست بآت «4»
فركبت ناجية أضرّ بنيّها ... جمر تخبّ به على الأكمات «5»
حتّى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات
قال: فاستحسنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ من البيان كالسّحر، وإنّ من الشّعر كالحكم» .(18/146)
ومن ذلك ما روى عن علىّ بن حسين، قال: أول خبر قدم المدينة، أن امرأة من أهل يثرب تدعى فاطمة «1» ، كان لها تابع من الجنّ فجاءها يوما فوقع على جدارها، فقالت: مالك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبىّ يحرّم الزّنى، فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجنّ، وكان أول خبر يحدّث به بالمدينة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن جابر قال: أول خبر قدم المدينة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء فى صورة طائر حتى وقع على حائط دارهم، فقالت له المرأة: انزل نخبرك وتخبرنا، قال: لا، إنه بعث بمكة نبىّ منع منا القرار، وحرّم علينا الزّنى.
ومنه ما روى عن محمد بن عمر بن واقد، عن تميم الدّارىّ أنه قال: سرت إلى الشّام فأدركنى الليل، فأتيت واديا فقلت: أنا فى جوار عظيم هذا الوادى اللّيلة، فلما أخذت مضجعى إذا قائل لا أراه يقول: عذ بالله الأحد، فإنّ الجنّ لا تجير على الله أحدا، وأنه قد بعث رسول الأمّيّين، وصلّينا خلفه بالحجون، وأسلمنا واتبعناه، وآمنا به وصدّقناه، فأسلم تسلم. قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب «2» ، فسألت راهبه عما سمعت من الهاتف، فقال: صدق. وكان ذلك سبب إسلام تميم.
ومنه ما روى عن أبى خريم «3» فاتك أنه قال: خرجت فى الجاهلية أطلب إبلا(18/147)
أضللتها، فلما كنت بأبرق «1» العزّاف، عقلت ناقتى وتوسّدت ذراعها، وقلت:
أعوذ بعظيم هذا المكان، فسمعت هاتفا يقول:
تعوّذن بالله ذى الجلال ... ووحّد الله ولا تبالى
ما هوّل الجنّ «2» من الأهوال
قال فقلت: بيّن لى يرحمك الله، فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات ... يدعو إلى الجنّة والنّجاة
يأمر بالصّوم وبالصّلاة
قال: فوقع فى قلبى الإسلام، فقلت: من أنت أيها الهاتف؟ فقال: أنا مالك بن مالك، إن أردت الإسلام فأنا أكفيك طلب ضالّتك حتى أردّها إلى أهلك، قال: فركبت راحلتى وقصدت المدينة، فقدمتها فى يوم جمعة، فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فأنخت بباب المسجد قلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، وإذا أبو ذرّ قد خرج فقال لى: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلنى إليك وهو يقول لك: «مرحبا قد بلغنى إسلامك فادخل فصلّ مع الناس» قال: فتطهرت ودخلت فصلّيت، ثم دعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبايعنى وأخبرنى بالخبر قبل أن أذكره له، وقال لى: «أمّا إبلك فقد بلغت أهلك، وقد وفى لك صاحبك» فقلت: جزاه الله خيرا ورحمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آمين» .(18/148)
ومنه ما روى عن مالك بن نفيع أنه قال: ندّ بعير لى، فركبت نجيبة وطلبته، حتى ظفرت به، فأخذته وانكفأت راجعا إلى أهلى، فأسريت ليلة حتى كدت أصبح، فأنخت النّجيبة والجمل وعقلتهما، واضطجعت فى ذرى كثيب رمل، فلما كحلنى الوسن سمعت هاتفا يقول: يا مالك، يا مالك، لو فحصت عن مبرك العود «1» البارك، لسرّك ما هنالك، قال: فثرت وأثرت البعير عن مبركه، واحتفرت «2» ، وإذا صنم بصورة امرأة، من صفاة صفراء كالورس، مجلوة كالمرآة، فآستخرجتها ومسحتها بثوبى ونصبتها، فاستوت قائمة، فما تمالكت أن خررت ساجدا لها، ثم قمت فنحرت البعير لها ورششتها بدمه، وسميتها غلاب، ثم حملتها على النّجيبة وأتيت بها أهلى، فحسدنى كثير من قومى عليها، وسألونى نصبها لهم ليعبدوها معى، فأبيت عليهم، فانفردت بعبادتها، وجعلت لها على نفسى كل يوم عتيرة «3» ، وكانت لى ثلّة من الضأن فأتيت على آخرها، وأصبحت يوما وليس لى ما أعتره، وكرهت الإخلاف بنذرى، فأتيتها فشكوت إليها ذلك، فإذا هاتف من جوفها يقول: يا مال يا مال «4» ، لا تأس على المال، سر إلى طوىّ «5» الأرقم، فخذ الكلب الأسحم، الوالغ فى الدّم، ثم صد به نعم «6» . قال مالك: فخرجت من فورى إلى طوىّ الأرقم، فإذا كلب أسحم هائل المنظر، قد وثب على قرهب- يعنى ثورا وحشيا- فصرعه وأنا أنظر إليه، ثم بقر بطنه، وجعل يلغ فى دمه، قال: فتهيبته، ثم أقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته لم يلتفت إلىّ، فشددت فى عنقه حبلا، ثم جذبته فتبعنى، فأتيت راحلتى فأثرتها، وقدتها إلى(18/149)
القرهب، فأنختها وجررته وحملته عليها، ثم قدتها قاصدا إلى الحىّ، والكلب يلوذ بى فعنّت لى ظبية، فجعل الكلب يثب ويجاذبنى المرس»
، فتردّدت فى إرساله ثم أرسلته، فمرّ كالسهم حتى اختطفها، فأتيته فجاذبته إياها فأرسلها فى يدى، فاستفزنى السّرور، وأتيت أهلى فعترت الظبية لغلاب، ووزعت لحم القرهب، وبتّ بخير ليلة، ثم باكرت به الصّيد، فلم يفته حمار، ولا ما طله ثور، ولا اعتصم منه وعل، ولا أعجزه ظبى، فتضاعف سرورى به، وبالغت فى إكرامه، وسميته سحاما، فلبث بذلك ما شاء الله، فإنى لذات يوم أصيد به، فبصرت بنعامة على أدحيّها «2» ، وهى قريبة منى، فأرسلته عليها، فأجفلت أمامه، واتّبعتها على فرس جواد، فلما كاد الكلب يثب عليها، انقضّت عليه عقاب من الجوّ فكر راجعا نحوى فصحت به فما كذّب «3» ، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها، ونزلت العقاب أمامى على صخرة، وقالت: سحام، قال الكلب: لبّيك، قالت: هلكت الأصنام، وظهر الإسلام، فأسلم تنج بسلام، وإلا فليست بدار مقام. ثم طارت العقاب، وتبصّرت سحاما فلم أره، وكان آخر عهدى به.
ومنه مما يشبه هذه القصة ما روى عن قتادة عن عبد الله بن أبى ذباب «4» عن أبيه، أنه قال: كنت مولعا بالصيد، وكان لنا صنم اسمه فرّاض، كنت كثيرا(18/150)
ما أذبح له، ولم أكن أتخذ جارحا للصيد إلّا رمى بآفة، قلّما أدخل الحىّ صيدا حيّا؛ لأنى كنت لا أدركه إلا وقد أشفى على الهلاك، فلمّا طال بى ذلك أتيت فرّاضا، فعترت له عتيرة، ولطّخته من دمها، وقلت:
فرّاض أشكو نكد «1» الجوارح ... من طائر ذى مخلب ونابح
وأنت للأمر الشّديد الفادح «2» ... فافتح فقد أسهلت المفاتح
فأجابنى مجيب من الصّنم؛ فقال:
دونك كلبا جارحا مباركا ... أعدّ للوحش سلاحا شابكا «3»
يفر حزون الأرض والدّ كادكا «4»
قال: فانقلبت إلى خبائى، فوجدت به كلبا خلاسيّا «5» بهيما «6» عظيما؛ أهرت «7» الشّدقين، شابك الأنياب، شئن «8» البراثن، أشعر مهول المنظر، فصفرت به فأتانى، فلاذ بى وبصبص «9» ، فسميته حياضا «10» ، فاتخذت له مربطا بإزاء فراشى وأكرمته، ثم خرجت به إلى الصيد، فإذا هو أبصر بالصّيد منّى، وكان لا يثبت له شىء من الوحش، فقلت فيه:
حياض إنك مأمول منافعه ... وقد جعلتك موقوفا لفرّاض(18/151)
وكنت أعتر لفرّاض من صيده، وأقرى الضّيف، فلم أزل به من أوسع العرب رحلا «1» ، وأكثرها ضيفا، إلى أن ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل بى ضيف كان زار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه القرآن، فحدّثنى عنه، ورأيت حياضا كأنه ينصت لحديثه، ثم إنّى غدوت أقتنص بحياض، فجعل يجاذبنى ويأبى أن يتبعنى فأجذبه وأمسحه، إلى أن عنّ لى تولب- يعنى جحشا من حمير الوحش- قال: فأرسلته عليه فقصده، حتى إذا قلت قد أخذه حاد عنه، فساءنى ذلك، ثم أرسلته على رأل- يعنى فرخ نعامة- فصنع مثل ذلك، ثم أرسلته على بقرة، ثم على خشف «2» ، كل ذلك لا يأتى بخير، فقلت:
ألا ما لحياض يحيد كأنما ... رأى الصّيد ممنوعا بزرق اللهاذم «3»
قال: فأجابنى هاتف لا أراه:
يحيد لأمر لو بدا لك عينه ... لكنت صفوحا عاذلا غير لائم
قال: فأخذت الكلب وانكفأت راجعا، فإذا شخص إنسان عظيم الخلق، قد ركب حمارا وحشيا، فتربع على ظهره، وهو يساير شخصا مثله راكبا على قرهب، وخلفهما عبد أسود يقود كلبا عظيما بساجور «4» ، فأشار أحد الراكبين إلى حياض وأنشد:
ويلك يا حياض لم تصيد ... اخنس وحد عمّا حوته البيد «5»
الله أعلى وله التوحيد ... وعبده محمد السّديد
سحقا لفرّاض وما يكيد ... قد ظلّ لا يبدى ولا يعيد(18/152)
قال: فملئت رعبا، وذلّ «1» الكلب فما يرفع رأسا، وأتيت أهلى مغموما كاسف البال، فبتّ أتململ على فراشى، ثم خفتّ من آخر الليل فإذا نغمة «2» ، ففتحت عينى فرأيت الكلب الذى كان الأسود يقوده، وإذا حياض يقول له: أحسب صاحبى يقظان، قال: فتناومت، ثم قصدنى فتأمّلنى ورجع إليه، فقال: قد نام، فلا عين ولا سمع، قال: أرأيت العفريتين؟ وسمعت ما قالا، قال حياض: نعم، قال:
إنهما قد أسلما واتبعا محمدا، وقد سلّطا على شياطين الأوثان، فما يتركان لوثن شيطانا، وقد عذّبانى عذابا شديدا، وأخذا علىّ موثقا ألّا أقرب وثنى، وأنا خارج إلى جزائر الهند، فما رأيك لنفسك؟ قال حياض: ما أمرنا إلا واحد، وذهبا، فقمت أنظر فلا عين ولا أثر، فلما أصبحت أخبرت قومى بما رأيت وسمعت، وقلت لهم:
تخيروا من ينطلق معى إلى هذا النبى من حلمائكم وخطبائكم؛ فقالوا لى: أترغب عن دين آبائك؟ فقلت لهم: إذا كرهتم شيئا كرهته، فما أنا إلا واحد منكم، ثم انسللت منهم فكسرت الصنم، ثم قصدت المدينة فأتيتها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فجلست بإزاء منبره فعقّب خطبته بأن قال: «بإزاء منبرى رجل من سعد العشيرة، قدم علينا راغبا فى الإسلام، ولم يرنى ولم أره إلا ساعتى هذه، ولم أكلّمه ولم يكلّمنى قطّ، وسيخبركم خبرا عجيبا» ونزل فصلّى، ثم قال: «ادن يا أخا سعد العشيرة» فدنوت فقال: «أخبرنا عن حياض وفرّاض وما رأيت وسمعت» قال:
فقمت على قدمىّ وقصصت القصّة، والمسلمون يسمعون، فسرّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ودعانى إلى الإسلام، وتلا علىّ القرآن فأسلمت، وقلت فى ذلك:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاضا بدار هوان
شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان(18/153)
رأيت له كلبا يقوم بأمره ... فهدّد بالتّنكيل والرّجفان
ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعانى
وأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألقيت فيه كلكلى وجرانى
فمن مبلغ سعد العشيرة أننى ... شريت الذى يبقى بما هو فانى
وقد تقدم فى خبر وفد سعد العشيرة ذكر هذه الأبيات، وأنها لذباب، وأنه الذى كسر الصّنم، إلا أنه لم يذكر البيت الذى فيه ذكر الكلب «1» ، والله تعالى أعلم.
ومنه: ما روى أن ربيعة بن أبى براء، قال أخبرنى خالى فقال: لما أظهر الله علينا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بحنين انشعبنا فى كل مشعب، لا يلوى حميم على حميم، فبينا أنا فى بعض الشّعاب، رأيت ثعلبا قد تحوّى «2» عليه أرقم، والثعلب يعدو عدوا شديدا، فانتحيت «3» له بحجر فما أخطأه، وانتهيت إليه، فإذا الثعلب قد سبقنى بنفسه- أى هلك قبل أن أصل إليه- وإذا الأرقم قد تقطّع وهو يضطرب، فقمت لأنظر إليه، فهتف هاتف ما سمعت أفظع «4» من صوته يقول: تعسا لك وبؤسا، فقد قتلت رئيسا، وورثت بئيسا «5» ، ثم قال: يا داثر يا داثر، فأجابه مجيب من العدوة «6» الأخرى بلبّيك لبّيك، فقال: بادر بادر، إلى بنى العذافر، وأخبرهم بما صنع الكافر، فناديت: إنى لم أشعر، وأنا عائذ بك فأجرنى. قال:
كلّا، والحرم الأمين، لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد غير ربّ العالمين. قال:
فناديت؛ إنّى أسلم، فقال: إن أسلمت سقط عنك القصاص، وألبثك «7» الخلاص،(18/154)
وإلّا فلا مناص. قال فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، فقال: نجوت وهديت، لولا ذاك لرديت «1» ، فارجع من حيث جيت. قال:
فرجعت أقفو أدراجى «2» ، فإذا هو يقول: امتط السّمع «3» الأزلّ، يعل بك التّلّ، فهناك أبو عامر «4» يتبع الفلّ «5» . قال: فالتفت فإذا سمع كالأسد النّهد «6» ، فركبته ومرّ ينسل «7» ، حتى انتهى إلى تلّ عظيم، فتوقّل «8» فيه إلى أن تسنّمه، فأشرفت منه على خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوّبت الحدور «9» نحوهم، فلما دنوت منهم خرج إلىّ فارس، كالفالج «10» الهاتج، فقال: ألق سلاحك لا أمّ لك، فألقيت سلاحى. فقال:
ما أنت؟ قلت: مسلم، قال: فسلام عليك ورحمة الله، قلت: وعليك السلام والرحمة والبركة، من أبو عامر؟ قال: أنا هو، قلت: الحمد لله، قال: لا بأس عليك؛ هؤلاء إخوانك المسلمون، أما رأيتك بأعلى التّل فارسا فأين فرسك؟ قال:
فقصصت عليه القصّه، فأعجبه ما سمع منى: وسرت مع القوم أقفو بهم آثار هوازن حتى بلغوا من ذلك ما أرادوه.
والأخبار فى مثل ذلك كثيرة، وقد أتينا منها بما نكتفى به، فنلذكر خلاف ذلك من سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(18/155)
ذكر رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين بعثهم إلى الملوك وغيرهم، وما كتب به إليهم، وما أجابوا به
كانت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على ما أورده الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله، أحد عشر رجلا؛ وهم: عمرو بن أمية الضّمرىّ، ودحية بن خليفة الكلبىّ، وعبد الله بن حذافة السّهمىّ، وحاطب بن أبى بلتعة اللحمىّ، وعمرو بن العاص، وسليط بن عمرو العامرىّ، وشجاع بن وهب الأسدىّ، والمهاجرين أبى أمية المخزومىّ، والعلاء بن الحضرمىّ، وأبو موسى الأشعرىّ، ومعاذ بن جبل. هؤلاء الذين أثبتهم.
وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث الحارث بن عمير الأزدى إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة «1» قتله شرحبيل بن عمرو الغسّانىّ، وبسبب قتله بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة مؤتة على ما قدمنا ذكره.
ولعل الشيخ رحمه الله، إنما أثبت من الرسل من بلّغ الرسالة. وهذا لم يمهل حتى يبلّغها، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره. وقد ورد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث غير هؤلاء، ممن نذكرهم إن شاء الله تعالى.
فكان أوّل ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرسل فى المحرم، سنة سبع من مهاجره؛ أرسل ستّة من هؤلاء الرسل إلى ستّة ملوك، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية فى ذى الحجة سنة خمس جهّز الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبا، فقيل له: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ خاتما من(18/156)
فضّة فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: «محمد» سطر «رسول» سطر «الله» سطر.
وختم به الكتب، فخرج ستة نفر منهم فى يوم واحد وذلك فى المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم؛ حكاه محمد بن سعد فى طبقاته بسنده.
وقال أبو عبد الله محمد بن إسحق بن يسار: حدّثنى يزيد بن أبى حبيب المصرىّ أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البلدان، وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال: فبعثت به إلى محمد بن شهاب الزّهرىّ، فعرفه، وفيه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه فقال لهم: «إن الله بعثنى رحمة وكافة، فأدّوا عنّى يرحمكم الله، ولا تختلفوا علىّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم» قالوا: يا رسول الله، وكيف كان اختلافهم؟
قال: «دعاهم لمثل ما دعوتكم له، فأمّا من قرّب «1» به فأحبّ وسلّم، وأمّا من بعّد «2» به فكره وأبى، فشكا ذلك عيسى منهم إلى الله، فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجّه إليهم» .
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدّثنى من أثق به عن أبى بكر الهذلىّ، قال: بلغنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه. وساق نحو الحديث
ذكر إرسال عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النّجاشى ملك الحبشة وإسلامه
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشىّ، وكتب معه كتابين، يدعوه فى أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ النجاشىّ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم(18/157)
وشهد شهادة الحقّ، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجابته، وتصديقه وإسلامه على يدى جعفر بن أبى طالب لله رب العالمين. وكان جعفر ممن هاجر إلى الحبشة كما قدّمنا ذكر ذلك. وفى الكتاب الثانى، يأمره أن يزوّجه أمّ حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت قد هاجرت إلى أرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الأسدىّ، فتنصر هناك ومات، وأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه من قبله من أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة وأن يحملهم، ففعل، وزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة، وأصدقها أربعمائة دينار، وأمر بجهاز المسلمين وما يصلحهم، وحملهم فى سفينتين مع عمرو بن أمية، وجعل كتابى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقّ من عاج، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها.
ذكر إرسال دحية بن خليفة الكلبىّ إلى قيصر ملك الروم
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى- أما بعد- فإنّى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسين «1» ، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.(18/158)
وبإسنادنا المتقدّم، إلى أبى عبد الله محمد بن إسمعيل بن إبراهيم البخارىّ، قال: حدّثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، قال حدّثنا شعيب، عن الزهرىّ، قال أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أنّ هرقل أرسل إليه فى ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، فى المدّة التى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مادّ فيها أبا سفيان وكفّار قريش «1» ، فأتوه وهم بإيليا، فدعاهم فى مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبىّ؟
قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه منى، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذّبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علىّ كذبا لكذبت عنه «2» . ثم كان أوّل ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك «3» ؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت:
بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال:
فهل يرتدّ أحد منهم سخطة «4» لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر «5» ؟
قلت: لا، ونحن منه فى مدّة «6» لا ندرى ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكنّى كلمة(18/159)
أدخل فيها شيئا «1» غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال «2» ، ينال منا وننال منه «3» ، قال:
ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة، والصّدق، والعفاف، والصّلة، فقال لترجمانه: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت «4» : لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسى «5» بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يريدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ، وسألتك أيرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف، فإن كان ما يقول حقّا، فسيملك موضع قدمىّ هاتين، وقد(18/160)
كنت أعلم أنه خارج «1» ، لم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنى أعلم أنّى أخلص إليه لتجشّمت «2» لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه «3» . ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذى بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» وذكره كما تقدّم.
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصّخب، وارتفعت الأصوات «4» ، وأخرجنا، فقلت لأصحابى حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة «5» ، إنه ليخافه ملك بنى الأصفر «6» ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علىّ الإسلام.
قال: وكان ابن النّاطور صاحب «7» إيلياء وهرقل أسقفا «8» على نصارى الشام يحدّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس «9» ، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، فقال ابن الناطور، وكان هرقل حزّاء «10» : ينظر فى النّجوم، فقال لهم حين سألوه: إنى رأيت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنّك شأنهم،(18/161)
واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم، إذ أتى هرقل برجل، أرسل به ملك غسّان، يخبر عن خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه، فحدّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية «1» ، وكان نظيره فى العلم، وسار هرقل إلى حمص «2» ، فلم يرم «3» حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأى هرقل على خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه نبىّ، فأذن هرقل لعظماء الروم فى دسكرة «4» له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلّقت، ثم اطّلع فقال: يا معشر الروم هل لكم فى الفلاح والرّشد؟ وأن يثبت ملككم فتبايعوا لهذا النبىّ، فحاصوا حيصة «5» حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردّوهم علىّ، وقال: إنى قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم فقد رأيت «6» . فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزّهرى.
وقد قدّمنا من خبر هرقل فى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتحقيق نبوءته عنده، فى فصل من بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما تقف عليه هناك.(18/162)
ذكر إرسال عبد الله بن حذافة السّهمىّ إلى كسرى ملك الفرس
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا؛ قال عبد الله: فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرئ عليه ثم أخذه فمزّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم مزّق ملكه» . وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذى بالحجاز، فليأتيا بخبره. فبعث باذان قهرمانه «1» ، ورجلا آخر، وكتب معهما كتابا، فقدما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، وقال: «ارجعا عنى يومكما هذا حتى تأتيانى الغد فأخبركما بما أريد» فجاءاه الغد، فقال لهما: «أبلغا صاحبكما أن ربّى قد قتل ربّه كسرى فى هذه الليلة لسبع «2» ساعات مضت منها- وهى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة- وأن الله تعالى سلّط عليه ابنه شيرويه فقتله» فرجعا إلى باذان بذلك، فأسلم هو والأبناء «3» الذين باليمن.(18/163)
ذكر إرسال حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندريّة عظيم القبط، واسمه جريج بن مينا
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا فأتاه، وأوصل إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأه، وقال خيرا، وجعل الكتاب فى حقّ من عاج، وختم عليه ودفعه إلى جاريته، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعث إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وقد أهديت لك كسوة وبغلة تركبها.
ولم يزد على هذا، ولم يسلم المقوقس، فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هديّته، وأخذ الجاريتين، وهما مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأختها شيرين، وبغلة بيضاء، لم يكن فى العرب يومئذ غيرها، وهى دلدل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المقوقس: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه «1» » . قال حاطب: كان المقوقس مكرما لى فى الضّيافة، وقلّة اللّبث ببابه، وما أقمت عنده إلا خمسة أيام.
وقال أبو عمر بن عبد البر: إن المقوقس أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصيّا اسمه مأبور، وذكر ذلك فى ترجمة مارية، ويقال: هو ابن عمّ مارية، والله أعلم.
وقد ذكرنا فى (الحجّة البالغة، والأجوبة الدّامغة) ما كان بينهما من المحاورات، وذلك فى الباب الرابع عشر، من القسم الخامس، من الفنّ الثانى، فى السّفر الثّامن من هذه النسخة.(18/164)
ذكر إرسال شجاع بن وهب «1» الأسدى إلى الحارث بن أبى شمر
قالوا: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شجاع بن وهب الأسدى، إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى، ملك البلقاء من أرض الشام، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، قال شجاع: فأتيته وهو بغوطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال «2» والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال:
لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه- وكان روميّا اسمه مرى «3» - يسألنى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكنت أحدّثه عن صفته، وما يدعو إليه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبىّ بعينه، فأنا أو من به وأصدّقه، وأخاف من الحارث أن يقتلنى، وكان يكرمنى ويحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوما فجلس، ووضع التّاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع منّى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، علىّ بالناس! فلم يزل يفرض «4» حتى قام، وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى.
وكتب إلى قيصر يخبره خبرى وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: ألا تسير إليه، واله عنه، ووافنى بإيلياء. فلما جاءه جواب كتابه دعانى فقال لى: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدا، فأمر لى بمائة مثقال ذهب، ووصلنى مرى،(18/165)
وأمر لى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- منّى السلام. فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«صدق» ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح.
ذكر إرسال سليط بن عمرو العامرىّ إلى هوذة «1» بن علىّ الحنفى باليمامة
بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابا، فقدم عليه فأنزله وحباه، وقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم والعرب تهاب مكانى، فآجعل لى بعض الأمر أتّبعك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره عنه بما قال، فقرأ كتابه وقال: «لو سألنى سيابة «2» من الأرض ما فعلت، باد «3» وباد ما فى يديه» فمات عام الفتح. فهؤلاء السّتّة الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المحرم سنة سبع «4» .
وبعث صلّى الله عليه وسلّم العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدىّ ملك البحرين.(18/166)
قال محمد بن سعد: بعثه عند منصرفه من الجعرانة «1» إليه، يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه كتابا. فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه وتصديقه، و «أنى قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحبّ الإسلام، وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فأحدث إلىّ فى ذلك أمرك» فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية، وبألا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم «2» » .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمى، وأوصاه به خيرا، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العلاء فرائض الإبل، والبقر والغنم، والثمار والأموال، فقرأ العلاء كتابه على الناس وأخذ صدقاتهم.
وبعث صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ملكى عمان.
قال محمد بن سعد: بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من مهاجره، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى «3» ، وهما من الأزد، والملك منهما جيفر، يدعوهما إلى الإسلام، وكتب معه إليهما كتابا، قال عمرو: لما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليك وإلى أخيك، فقال: أخى المقدّم علىّ بالسّنّ والملك وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك، فمكشت أياما ببابه، ثم دعانى فدخلت عليه(18/167)
فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففضّ خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنّى رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: دعنى يومى هذا وأرجع إلىّ غدا، فلما كان من الغد رجعت إليه، فقال: إنى فكّرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلا ما فى يدى، قلت: فإنى خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى أصبح فأرسل إلىّ، فدخلت عليه فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدّقا بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وخليا بينى وبين الصّدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى، فأخذت الصدقة من أغنيائهم، فرددتها فى فقرائهم، ولم أزل مقيما بينهم حتى بلغنا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وبعث صلّى الله عليه وسلّم المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث الحميرى، وهو الحارث بن عبد كلال ملك اليمن.
وبعث صلّى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعرى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن.
وكانا جميعا داعين إلى الإسلام، فأسلم عامّة أهل اليمن، ملوكهم وعامّتهم طوعا.
هؤلاء الرسل الذين ذكرهم الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى فى مختصر السيرة.
وقد ذكر محمد بن سعد بن منيع فى طبقاته الكبرى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث جرير بن عبد الله البجلى إلى ذى الكلاع بن ناكور بن حبيب ابن مالك بن حسّان بن تبّع، وإلى ذى عمرو يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصّبّاح «1» . وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجرير عندهم، فأخبره ذو عمرو بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع جرير إلى المدينة.(18/168)
ولم يذكر محمد بن سعد المهاجر، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى اليمن مع معاذ بن جبل مالك بن مرارة.
وذكر أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرىّ، فى كتابه المترجم بالاستيعاب، فى ترجمة بن أبى أمية، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى الجارث كما قدّمنا.
قال ابن سعد: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسّان يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأهدى له هدية، ولم يذكر اسم المرسل إليه، ثم كان من أمر جبلة بن الأيهم، وخبر ارتداده ما نذكره إن شاء الله تعالى، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وقال محمد بن إسحق رحمه الله: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث أمراءه وعمّاله على الصّدقات، إلى كل ما أوطأ «1» الإسلام من البلدان.
فبعث المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسىّ وهو بها.
وبعث زياد بن لبيد، أخا بنى بياضة الأنصارى، إلى حضر موت وعلى صدقاتها.
وبعث عدىّ بن حاتم على طيّىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد. وبعث مالك بن نويرة اليربوعى على صدقات بنى حنظلة، وفرّق صدقات بنى سعد على رجلين منهم؛ فبعث الزّبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية.
قال: وكان قد بعث العلاء بن الحضرمىّ على البحرين، وبعث علىّ بن أبى طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم، ويقدم عليه بجزيتهم.
هذا ما وقفنا عليه من أخبار رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر من أخباره صلّى الله عليه وسلّم خلاف ذلك.(18/169)
ذكر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وهنّ: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة بن الحارث، وأمّ سلمة هند بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، وريحانة بنت زيد، وأم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب، وصفيّة بنت حيىّ ابن أخطب، وميمونة بنت الحارث؛ هؤلاء المدخول بهنّ، وهنّ ثنتا عشرة امرأة رضوان الله عليهنّ. وسنذكر إن شاء الله تعالى، بعد أن نذكر أخبار هؤلاء، من تزوّجهنّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يدخل بهنّ، ومن وهبت نفسها له، ومن خيرها فاختارت الدّنيا، ومن فارقها صلّى الله عليه وسلّم، ولنذكر أخبارهنّ على حسب اتصالهنّ به صلّى الله عليه وسلّم.
فأوّل امرأة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
خديجة بنت خويلد
ابن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ بن كلاب القرشية، رضى الله عنها، وكانت تدعى فى الجاهلية الطّاهرة «1» ، وأمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، واسم الأصمّ جندب ابن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤىّ. وكانت خديجة عند أبى هالة بن زرارة بن نبّاش بن عدىّ بن حبيب بن صرد بن سلامة بن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم التّميمى. قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر ابن عاصم النّمرى: هكذا نسبه الزّبير، وأمّا الجرجانىّ النّسّابة فقال: كانت خديجة قبل عند أبى هالة هند بن النّبّاش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدى(18/170)
ابن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم، فولدت له هندا، قال: ثم اتفقا فقالا:
ثم خلف عليها بعد أبى هالة عتيق بن عابد «1» بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم خلف عي؟؟ ها بعد عتيق المخزومى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال قتادة: كانت خديجة تحت عتيق بن عابد المخزومى، ثم خلف عليها بعده أبو هالة هند بن زرارة، قال أبو عمر: والأوّل أصح.
وقال أبو محمد عبد المؤمن بن خلف: إنها ولدت لعتيق جارية تدعى هند، ثم هلك عنها فخلف عليها أبو هالة فولدت له ابنا وبنتا. وقال ابن إسحق: ولدت هند بن أبى هالة، وزينب بنت أبى هالة، وولدت لعتيق عبد الله وجارية، قال:
ثم هلك فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدّمنا ذكر زواجه صلّى الله عليه وسلّم بها، فلا حاجة إلى إعادته. وولدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع أولاده، إلا إبراهيم. وقال أبو عمر: لا يختلفون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يتزوج فى الجاهلية «2» غير خديجة، ولا تزوّج عليها أحدا من نسائه حتى ماتت، وهى أوّل من آمن بالله عزّ وجلّ، وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم على الإطلاق.
قال ابن إسحق رحمه الله: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يسمع من المشركين شيئا يكرهه، من ردّ عليه وتكذيب له إلا فرّج الله عنه بخديجة، تثبّته وتصدّقه وتخفّف عنه وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، وقد تقدّم من أخبارها فى ابتداء الوحى وامتحانها الأمر «3» ، وقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الذى يأتيه ملك،(18/171)
وغير ذلك ما تقف عليه هناك، مما يستدل به على أنها رضى الله عنها أوّل من آمن بالله تعالى وبرسوله، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة المنتشرة، بفضل خديجة رضى الله عنها؛ فمن ذلك ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سيّدة نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون» . وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، وما بى أن أكون أدركتها، ولكن ذلك لكثرة ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها، وأن كان ليذبح الشاة فيتتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهنّ. وعنها رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء، فذكرها يوما من الأيام فأدركتنى الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟
فغضب حتى اهتز مقدّم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أبدلنى الله خيرا منها، آمنت بى إد كفر الناس، وصدّقتنى إذ كذّبنى الناس، وواستنى فى مالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها أولادا إذ حرمنى أولاد النساء» قالت عائشة:
فقلت فى نفسى لا أذكرها بسيّئة أبدا.
وقد قدّمنا من فضلها وما بشّرها به جبريل عليه السلام، وذكر وفاتها عند ذكرنا لزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها ما يستغنى عن إيراده فى هذا الموضع، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا من هذه النسخة.
ولما ماتت خديجة تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاتها بأيام:(18/172)
سودة بنت زمعة بن قيس
ابن عبد شمس بن عبدودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال فى حسل: حسيل. وأمها الشّموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد ابن خداش بن عامر بن غنم بن عدىّ بن النّجّار، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، بعد موت خديجة، وقبل العقد على عائشة على المشهور، وكانت قبل عند ابن عمّ لها يقال له السّكران بن عمرو، وهو أخو سهيل بن عمرو، من بنى عامر ابن لؤىّ. وأسنّت سودة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمّ بطلاقها، فقالت له: لا تطلقنى وأنت فى حلّ من شأنى، فإنما أريد أن أحشر فى أزواجك، وإنّى قد وهبت يومى لعائشة، وإنى ما أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار يقسم لبقية أزواجه دونها، ونوبتها لعائشة، فكانت كذلك حتى توفّى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع من توفّى عنهن من أزواجه.
قال أبو عمر: وفى سودة نزل قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»
«1» . وقيل:
نزلت فى عمرة «2» ، ويقال: خولة بنت محمد بن مسلمة، وفى زوجها سعد بن «3» الرّبيع.
ويقال فى غيرها. والله أعلم. وكانت وفاة سودة فى آخر زمان عمر بن الخطاب، ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد سودة:(18/173)
عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما
وأمها أمّ رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، فى شوّال سنة عشر من النبوّة، قبل الهجرة بثلاث سنين، وهى بنت ستّ أو سبع، وبنى بها بالمدينة على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وهى ابنة تسع سنين، وتوفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى بنت ثمانى عشرة سنة، ولم يتزوّج صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها، وكانت عائشة رضى الله عنها تذكر لجبير ابن مطعم بن عدىّ وتسمّى «1» له، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أرى عائشة فى المنام فى سرقة «2» من حرير متوفّى خديجة، فقال: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شوّال وابتنى بها فى شوّال، فكانت تحبّ أن تدخل النساء من أهلها وأحبّتها فى شوّال على أزواجهنّ، وتقول: هل كان فى نسائه عنده أحظى منّى، وقد نكحنى وابتنى بى فى شوّال.
قال أبو عمر: فكان مكثها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع سنين، روى عنها أنها قالت: تزوّجنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا بنت سبع سنين، وبنى بى وأنا بنت تسع، وقبض عنّى وأنا بنت ثمانى عشرة.
قال أبو عمر: واستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الكنية فقال لها:
«اكتنى بابنك عبد الله بن الزبير» يعنى ابن أختها، وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدّثنى الصّادقة ابنة الصّدّيق، البريئة المبرّأة بكذا وكذا. ذكره الشّعبى عن مسروق. وقال أبو الضّحا عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد(18/174)
صلى الله عليه وسلّم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبى رباح:
كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا فى العامّة. وقال هشام ابن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطبّ ولا بشعر من عائشة» .
وعن عبد الرحمن بن أبى الزّناد عن أبيه، قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتى فى رواية عائشة، ما كان ينزل بها شىء إلا أنشدت فيه شعرا. قال الزهرىّ: لو جمع علم عائشة إلى جميع علم أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وروى عن عمرو بن العاص قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أىّ الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قلت: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» .
ومن حديث أبى موسى الأشعرى، وأنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثّريد على سائر الطعام «2» » .
ومن فضل عائشة أن الله عز وجل أنزل فى براءتها ما أنزل، وقد ذكرنا ذلك فى حديث الإفك، فى حوادث سنة خمس من الهجرة، وهو فى الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا، من هذه النسخة. وروى عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال:
من سبّ أبا بكر جلد، ومن سبّ عائشة قتل، فقيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»
«3» فمن عاد لمثله فقد كفر. وعن القاضى أبى بكر بن الطيّب قال:
إن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن ما نسبه إليه المشركون سبّح نفسه لنفسه؛ كقوله:(18/175)
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ»
«1» فى آى كثير. وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ»
«2» سبح نفسه فى تنزيهها من السّوء، كما سبّح نفسه فى تنزيهه من السّوء. وفضائلها رضى الله عنها كثيرة مشهورة.
وسنذكر إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا لوفاة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما خصّها به صلّى الله عليه وسلّم، فى مرضه الذى مات فيه، من تمريضه فى بيتها، وأنه مات صلّى الله عليه وسلّم فى بيتها وفى نوبتها، وبين سحرها ونحرها «3» ، وآخر ما دخل فمه ريقها، وناهيك بها فضيلة وخصوصية. وكانت وفاة عائشة رضى الله عنها بالمدينة، فى سنة سبع وخمسين، وقيل: فى سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا، فدفنت بعد الوتر بالبقيع، وصلّى عليها أبو هريرة، ونزل فى قبرها خمسة: عبد الله، وعروة ابنا الزّبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر، وعبد الله بن محمد بن أبى بكر، والله أعلم.
وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج عائشة:
حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنها
وهى أخت عبد الله بن عمر لأبيه وأمه، وأمّها زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، وكانت حفصة من المهاجرات، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدىّ السّهمىّ، وكان(18/176)
بدريا، فلما مات عنها وتأيّمت، ذكرها عمر لأبى بكر وعرضها عليه، فلم يرجع إليه أبو بكر كلمة، فغضب من ذلك عمر، ثم عرضها على عثمان حين مائت رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عثمان: ما أريد أن أتزوّج اليوم، فانطلق عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكا إليه عثمان، وأخبره بعرضه حفصة عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يتزوّج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوّج عثمان من هى خير من حفصة» ثم خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمر فتزوّجها، فلقى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب فقال: لا تجد علىّ فى نفسك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو تركها لتزوّجتها. وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأس ثلاثين شهرا من مهاجره. قال أبو عمر: وطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تطليقة ثم ارتجعها؛ وذلك أن جبريل عليه السلام قال له: «راجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، وأنها زوجتك فى الجنة» . وروى عن عقبة بن عامر قال: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر فحثى على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إنّ الله يأمرك أن تراجع حفصة بنت عمر رحمة لعمر» .
قال أبو عمر: وأوصى عمر بعد موته إلى حفصة، وأوصت حفصة إلى عبد الله ابن عمر بما أوصى به إليها عمر، وبصدقة تصدّقت بها [بمال «1» ] وقفته بالغابة.
واختلف فى وفاتها، فقال الدّولابىّ: عن أحمد بن محمد بن أيوب، توفيت(18/177)
فى سنة سبع وعشرين، وقال أبو معشر: توفيت فى جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وقال غيره: توفيت فى شعبان سنة خمس وأربعين بالمدينة، وصلّى عليها مروان بن الحكم، وحمل سريرها، وهو إذ ذاك أمير المدينة لمعاوية بن أبى سفيان، وهذا الذى أشار إليه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى مختصر السيرة. قال: ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زواج حفصة بنت عمر:
زينب بنت خزيمة بن الحارث
ابن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن القيسيّة الهوازنيّة العامرية الهلالية، وكانت تدعى فى الجاهلية «1» أمّ المساكين، وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الطفيل بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف فطلقها، فخلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث فقتل عنها يوم بدر شهيدا، فخلف عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من مهاجره. وقيل: كانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد، فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى الأول اعتمد الشيخ أبو محمد، قال: ومكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت فى آخر شهر ربيع الآخر، وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودفنها بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها، ولم يمت من أزواجه فى حياته غيرها، وغير خديجة، قال: وفى ريحانة «2» خلاف. وقال أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجانى النّسّابة: كانت زينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمها، قال أبو عمر: ولم أر ذلك لغيره، والله أعلم.
ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة:(18/178)
أمّ سلمة هند بنت أبى أمية
حذيفة المعروف بزاد الرّاكب بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ القرشية المخزومية. وكان أبوها أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن خزيمة بن علقمة ابن فرّاس. وكانت قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن برّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وولدت له عمر وزينب، فكانا ربيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر: ولدت له عمر وسلمة ودرّة «1» وزينب.
قال، وكانت هى وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، ويقال أيضا: أمّ سلمة أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى بنت أبى حثمة زوج عامر بن ربيعة.
تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة فى ليال بقين من شوّال سنة أربع من مهاجره، وقال أبو عمر: تزوجها فى سنة اثنتين «2» من الهجرة بعد وقعة بدر، عقد عليها فى شوّال، وابتنى بها فى شوّال، وقال لها: «إن شئت سبّعت عندك، وسبعت لنسائى، وإن شئت ثلّثت ودرت» فقالت: ثلّث. قال ابن هشام:
زوجه إياها ابنها سلمة بن أبى سلمة، وأصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراشا حشوه ليف وقدحا وصحفة ومجشّة «3» . وقد اختلف فى وفاتها؛ فقيل: توفيت فى سنة ستين من الهجرة، وقيل: فى شهر رمضان أو شوال سنة تسع وخمسين،(18/179)
وقال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: توفيت فى سنة اثنتين وستين. قال أبو عمر:
وصلّى عليها أبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد «1» بوصية منها، ودخل قبرها عمر وسلمة ابنا أبى سلمة، وعبيد الله بن عبد الله بن أبى أمية، وعبد الله بن وهب بن ربيعة، ودفنت بالبقيع رحمها الله، وهى آخر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موتا، وقيل: بل ميمونة آخرهن. والله أعلم.
ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم بعدها:
زينب بنت جحش بن رئاب
ابن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير- بالباء الموحّدة- ابن غنم بن دودان ابن أسد بن خزيمة.
وكان اسم زينب برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب، وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهلال ذى القعدة سنة أربع على الصّحيح «2» ، وهى يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة، وكانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم فارقها، فلما حلّت «3» زوّجه الله إياها، وهى التى قال الله تعالى فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها
«4» ولما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكلم فى ذلك المنافقون، وقالوا حرّم(18/180)
محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ
«1» . وقال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «2»
، فدعى زيد يومئذ زيد بن حارثة، وكان قبل ذلك يدعى زيد بن محمد. قالت عائشة رضى الله عنها: لم يكن أحد من نساء النبى صلّى الله عليه وسلّم يسامينى «3» في حسن المنزلة عنده غير زينب بنت جحش، وكانت تفخر على نساء النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ تقول: إن آباء كنّ أنكحوكنّ وأن الله أنكحنى إياه من فوق سبع سموات. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لزيد بن حارثة:
«اذكرها علىّ» قال زيد: فانطلقت فقلت لها: يا زينب، أبشرى، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر «4» ربى؛ فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: «إن زينب بنت جحش أوّاهة» فقال رجل: يا رسول الله، ما الأوّاه؟ قال: «الخاشع المتضرع، وإِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ
«5» . وعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها؛ قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما لنسائه: «أسرعكنّ لحاقا بى أطو لكنّ «6» يدا» ، قالت: فكنّ يتطاولن أيهنّ أطول يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيديها وتتصدق. وعن عائشة رضى الله عنها أيضا، قالت كانت زينب بنت جحش(18/181)
تسامينى فى المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما رأيت امرأة قطّ خيرا فى الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثا؛ وأوصل للرحم، وأعظم صدقة. ومن رواية أخرى عنها أنها ذكرت زينب فقالت: ولم تكن امرأة خيرا منها فى الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد تبذلا «1» في نفسها فى العمل الذى تتصدق به وتتقرب إلى الله عز وجل. وكانت وفاة زينب بالمدينة فى سنة عشرين من الهجرة، فى خلافة عمر، وقيل: فى سنة إحدى وعشرين، ودفنت بالبقيع رضى الله عنها.
ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب:
جويرية بنت الحارث
ابن أبى ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، وهو المصطلق بن سعد ابن كعب بن عمرو بن ربيعة، وهو لحىّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء «2» بن عامر ماء السّماء؛ الأزدية الخزاعية المصطلقية. سباها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم المريسيع «3» فوقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس بن شمّاس، وكاتبها على تسع أواق، فأدّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها كتابتها وتزوّجها. وقيل: جاء أبوها فافتداها، ثم أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ست من الهجرة. وروى عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أو لابن عم له-(18/182)
فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة «1» ، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستعينه فى كتابتها، قالت عائشة: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيّد قومه وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت فى السّهم لثابت بن قيس بن شمّاس- أولا بن عمّ له- فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعينك على كتابتى، قال: «فهل لك فى خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابتك وأتزوجك» ، قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» ؛ قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج بجويرية بنت الحارث فقال الناس: أصهار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا ما بأيديهم، فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
قال أبو عمر: وكانت جويرية قبل تحت مسافع بن صفوان المصطلقى، قال:
وكان اسمها برّة، فغيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمها وسماها جويرية، وحفظت جويرية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروت عنه، وتوفيت بالمدينة فى شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين، وصلّى عليها مروان بن الحكم وهو والى المدينة وقد بلغت سبعين سنة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهى بنت عشرين سنة. وقيل: توفيت فى سنة خمسين. والله أعلم.
ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد جويرية:(18/183)
ريحانة بنت زيد بن عمر بن خنافة بن شمعون
قال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النّمرى رحمه الله: هى ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة «1» من بنى قريظة، وقيل من بنى النّضير. قال: والأكثر من بنى قريظة. قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: وكانت متزوجة رجلا من بنى قريظة، يقال له الحكم، وكانت قد وقعت فى السبى يوم بنى قريظة، وذلك فى ليال من ذى القعدة سنة خمس من الهجرة، فكانت صفىّ «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخيرها بين الإسلام ودينها فاختارت الإسلام فأعتقها وتزوجها، وأمهرها اثنتى عشرة أوقية ونشّا، وأعرس بها فى المحرّم سنة ستّ، فى بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس من بنى النجار، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت بعد رجعته من حجّة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقيل: إنه لم يتزوّجها وكان يطؤها بملك اليمين، وأنه خيّرها بين العتق والتزويج، أو تكون فى ملكه، فقالت: أكون فى ملكك أخف علىّ وعليك، فكانت فى ملكه حتى توفّى عنها. قال: والأوّل أثبت.
ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم:
أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان
صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشية الأموية، وأمها صفيّة بنت أبى العاص بن أمية عمة عثمان بن عفان، هاجرت أمّ حبيبة مع زوجها عبيد الله «3» بن جحش إلى أرض الحبشة فى الهجرة الثانية، فولدت له هناك(18/184)
حبيبة فكنيت بها، وتنصّر عبيد الله زوجها، وارتدّ عن الإسلام، ومات على ذلك، وثبتت أمّ حبيبة على دين الإسلام، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضّمرىّ إلى النجاشىّ، كما قدّمنا ذكر ذلك فزوّجه إياها، وكان الذى عقد عليها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على الأصح، وأصدقها النجاشىّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة «1» وجهّزها إلى المدينة، وذلك فى سنة سبع من الهجرة، وهذا هو المعروف المشهور.
وقيل: إن الذى زوّجها عثمان بن عفان، وأن العقد كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة. والأوّل أثبت.
وروى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى محمد بن حسن عن عبد الله بن عمرو بن زهير، عن إسمعيل بن عمرو أن أمّ حبيبة قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشى جارية يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فاستأذنت علىّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كتب إلىّ أن أزوّجكه «2» فقلت: بشّرك الله بخير، وقالت: يقول لك الملك وكلّى من يزوّجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكّلته، وأعطيت أبرهة سوارى فضّة كانتا علىّ، وخواتم فضة كانت فى أصابعى سرورا بما بشّرتنى، فلما كان العشىّ أمر النجاشىّ جعفر بن أبى طالب ومن هناك من المسلمين يحضرون، وخطب النجاشى فقال: الحمد لله الملك القدّوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبّار، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنه الذى بشر به عيسى بن مريم- أمّا بعد- فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلىّ أن أزوجه أمّ حبيبة بنت(18/185)
أبى سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أصدقتها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدى القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال:
الحمد لله أحمده وأستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون- أما بعد- فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجته أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، فبارك الله لرسوله. ودفع النجاشى الدّنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها؛ ثم أرادوا أن يقوموا، فقال النجاشى: اجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم السلام إذا تزوّجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرّقوا. وماتت أمّ حبيبة سنة أربع وأربعين «1» . وروى عن علىّ بن حسين قال: قدمت منزلى فى دار علىّ بن أبى طالب، فحفرنا فى ناحية منه فأخرجنا منه حجرا فإذا فيه مكتوب، هذا قبر رملة بنت صخر، فأعدناه مكانه، حكاه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة أم حبيبة «2» .
ثم تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أم حبيبة:
صفيّة بنت حيىّ بن أخطب
ابن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الحارث بن أبى حبيب بن النّضير بن النّحّام بن نحوم «3» ، من بنى إسرائيل من سبط هرون بن عمران عليه السلام.
كان أبوها سيّد بنى النّضير، وأمّها برّة «4» بنت سموءل، أخت رفاعة «5» ، وكانت صفيّة عند سلام بن مشكم القرظىّ الشاعر، ففارقها فخلف عليها كنانة بن الربيع(18/186)
ابن أبى الحقيق النّضرىّ «1» الشاعر، فقتل يوم خيبر، ولم تلد لأحد منهما شيئا، فاصطفاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه فأعتقها وتزوّجها وجعل عتقها صداقها، ولم تبلغ يومئذ سبع عشرة سنة.
وحكى محمد بن إسحق فى مغازيه، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى فى دلائل النبوة، فى غزاة خيبر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما افتتح القموص:
- حصن ابن أبى الحقيق- أتى بصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وبأخرى معها، فمر بهما بلال على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصّكّت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«أغربوا «2» عنى هذه الشيطانة» وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اصطفاها لنفسه، وكانت صفية قد رأت فى المنام، وهى عروس بكنانة بن الربيع، أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها «3» ، فقال: ما هذا إلا أنك تمنّين ملك الحجاز محمدا: فلطم وجهها لطمة خضّر «4» عينها منها، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منه، فسألها ما هو فأخبرته هذا الخبر.
وروى عن أنس بن مالك من رواية صهيب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما جمع سبى خيبر جاءه دحية فقال: أعطنى جارية من السّبى، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفيّة بنت حيىّ، فقيل: يا رسول الله، إنها سيّدة قريظة والنّضير،(18/187)
ما تصلح إلا لك، فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذ جارية من السّبى غيرها» .
وقال ابن شهاب: كانت مما أفاء الله عليه، حجبها وأولم عليها بتمر وسويق، وقسم لها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين، قال أبو عمر: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على صفية وهى تبكى، فقال لها: «ما يبكيك» ؟ قالت:
بلغنى أن عائشة وحفصة تنالان منى، وتقولان نحن خير من صفية، نحن بنات عمّ رسول الله وأزواجه، قال: «ألا قلت لهنّ كيف تكنّ خيرا منّى وأبى هرون، وعمّى موسى، وزوجى محمد صلّى الله عليه وسلّم» . وكانت صفية حليمة عاقلة فاضلة؛ روى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقالت: إن صفية تحب السّبت وتصل اليهود، فبعث إليها عمر يسألها، فقالت: أما السّبت فإنى لم أحبّه منذ أبدلنى الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لى فيهم رحما فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: فاذهبى فأنت حرة. وتوفّيت صفية فى شهر رمضان سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين. ودفنت بالبقيع، وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أختها بثلثها، وكان يهوديا.
ثم تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها:
ميمونة بنت الحارث
ابن حزن بن بجير بن هزم «1» بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.
وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير، وقيل: من كنانة، وأن زهير بن الحارث بن كنانة.(18/188)
وأخوات ميمونة لأبيها وأمها: أمّ الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث، زوج العباس بن عبد المطلب. ولبابة الصّغرى زوج الوليد بن المغيرة، أمّ خالد بن الوليد. وعصماء بنت الحارث، كانت تحت أبىّ بن خلف الجمحىّ. وعزّة بنت الحارث، كانت عند زياد بن عبد الله بن مالك الهلالى.
وأخواتها لأمها: أسماء بنت عميس؛ كانت تحت جعفر بن أبى طالب، فولدت له عبد الله، وعونا ومحمدا، ثم خلف عليها أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، فولدت له محمدا، ثم خلف عليها على بن أبى طالب، فولدت له يحيى، وقيل:
إن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله بنت حمزة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن أسامة بن الهاد اللّيثىّ، فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن.
وسلامة بنت عميس أخت أسماء. وسلمى بنت عميس كانت تحت عبد الله بن كعب بن منبّه الخثعمى. وزينب بنت خزيمة أخت ميمونة لأمّها.
قال أبو عمر بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما: كان اسم ميمونة برّة، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة، وقال: لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة معتمرا فى سنة سبع؛ وهى عمرة القضاء، خطب جعفر بن أبى طالب عليه ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس عند جعفر، وسلمى بنت عميس عند حمزة، وأم الفضل عند العباس، فأجابت جعفر ابن أبى طالب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فأنكحها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف «1» حلالا، وكانت قبله عند أبى رهم بن عبد العزّى بن أبى قيس بن عبدودّ بن(18/189)
نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، ويقال: بل كانت عند سبرة بن أبى رهم.
حكاه أبو عبيدة، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: كانت ميمونة قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم عند حويطب بن عبد العزّى، وقيل: كانت فى الجاهلية عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفى ففارقها، وخلف عليها أبو رهم أخو حويطب فتوفّى عنها، فتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن شهاب: وهى التى وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك قال قتادة، قال: وفيها نزلت وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها
«1» للنّبىّ الآية، وقد قيل: إن الواهبة خولة وقيل: أمّ شريك.
قال قتادة: وكانت ميمونة قبله عند فروة بن عبد العزّى بن أسد بن غنم بن دودان، قال أبو عمر: هكذا قال قتادة وهو خطأ، والصواب ما تقدم. والله أعلم. قال الشيخ أبو محمد الدمياطى: وماتت ميمونة بسرف فى سنة إحدى وخمسين على الأصح؛ وقد بلغت ثمانين سنة.
فهؤلاء نساؤه المدخول بهنّ، ومات صلّى الله عليه وسلّم عن تسع منهنّ؛ وهنّ:
عائشة بنت أبى بكر الصّدّيق، وحفصة بنت عمر، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبى أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث وأمّ حبيبة بنت أبى سفيان؛ وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب، وميمونة بنت الحارث رضوان الله عليهم أجمعين.
ذكر من تزوجهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يدخل بهنّ، ومن دخل بهنّ وطلّقهنّ، ومن وهبت نفسها له صلّى الله عليه وسلّم:
فاطمة بنت الضّحّاك
ابن سفيان بن عوف بن كعب بن أبى بكر، وهو عبيد بن كلاب بن ربيعة ابن عامر الكلابية.(18/190)
تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذى القعدة، سنة ثمان من الهجرة منصرفه من الجعرانة، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بعظيم الحقى بأهلك «1» » فكانت إذا استأذنت على أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم تقول:
أنا الشّقيّة إنما خدعت. ودلهت «2» وذهب عقلها، وماتت سنة ستين. وروى عن ابن إسحق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوجها بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين أنزلت آية التخيير «3» فاختارت الدنيا ففارقها، فكانت بعد تلقط البعر «4» ، وتقول:
أنا الشّقية اخترت الدنيا. قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا عندى غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروى عن أبى سلمة وعروة عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين خيّر أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله قالت وتتابع أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، قال قتادة وعكرمة: كان عنده حين خيّرهن تسع نسوة وهنّ اللواتى توفّى عنهن، قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن: وقيل إنما طلقها لبياض «5» كان بها. وقيل: إنما فارقها لأنه كان إذا خرج طلعت إلى المسجد. وقيل: إن الضحّاك عرض ابنته فاطمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنها لم تصدّع «6» قطّ، فقال: «لا حاجة لى بها» . وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال:
كان فى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سناء «7» بنت سفيان بن عوف بن كعب ابن أبى بكر بن كلاب. ومنهن:(18/191)
عمرة بنت يزيد بن الجون الكلابية
وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رواس بن كلاب الكلابية، وهو أصحّ.
وفى رواية قال أبو عمر: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغه أن بها برصّا فطلّقها، ولم يدخل بها. وقيل: إنها التى تعوذت منه حين أدخلت عليه.
وقيل غيرها. ومنهن:
العالية بنت ظبيان بن الجون
ابن عوف بن كعب بن أبى بكر بن عبيد بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر:
تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت عنده ما شاء الله ثم طلّقها، قال: وقلّ من ذكرها. هؤلاء اللاتى ذكرن من بنى كلاب بن ربيعة بن عامر. قال أبو محمد:
ومن الناس من جعل التى تزوجها من بنى عامر واحدة، اختلف فى اسمها، وأنه لم يتزوج من بنى عامر غيرها، قال: ومنهم من جعلهن جمعا، وذكر لكل واحدة منهن قصّة، وهؤلاء اللاتى ذكرناهن، هن المشهورات من بنى عامر.
وممن ذكرن فى أزواجه صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت شريح. ذكرها أبو عبيدة فى أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومنهن:
أسماء بنت النّعمان بن أبى الجون
ابن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن الجون بن آكل المرار الكندى، تزوج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة تسع من الهجرة، زوجه إياها أبوها حين قدم «1» ، على اثنتى عشرة أوقية ونشّ، وبعث معه أبا أسيد؛ فحملها من(18/192)
نجد حتى نزل بها فى أطم «1» بنى ساعدة، فقالت عائشة: قد وضع يده فى الغرائب «2» يوشك أن يصرفن وجهه عنا، وكانت من أجمل النساء، فقالت حفصة لعائشة، أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلتا، ثم قالت لها إحداهما:
إنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك؛ فلما دخلت عليه وأغلق الباب، وأرخى الستر، مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال:
«لقد عذت بمعاذ الحقى بأهلك» وأمر أبا أسيد أن يردّها إلى أهلها؛ وقال:
«متّعها برازقيتين «3» » يعنى كرباسين، فكانت تقول: ادعونى الشّقية، وإنما خدعت؛ لما رؤى من جمالها وهيئتها، وذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حملها على ما قالت، فقال: «إنهنّ صواحب يوسف وكيدهنّ عظيم» قال: فلما طلع بها أبو أسيد على أهلها تصايحوا؛ وقالوا: إنك لغير مباركة، ما دهاك؟ فقالت:
خدعت، وقيل لى كيت وكيت، فقالوا: لقد جعلتنا فى العرب شهرة، فقالت:
يا أبا أسيد قد كان ما كان فما الذى أصنع؟ قال: أقيمى فى بيتك واحتجى إلا من ذى رحم، ولا يطمع فيك طامع بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنك من أمهات المؤمنين؛ فأقامت لا يطمع فيها طامع، ولا ترى إلا لذى محرم، حتى توفّيت فى خلافة عثمان بن عفّان عند أهلها بنجد.
وقال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوّجها، واختلفوا فى قصّة فراقه لها، فقال بعضهم: لما دخلت عليه دعاها فقالت: تعال أنت، وأبت أن تجىء، هذا قول قتادة وأبى عبيدة. وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله(18/193)
منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله منّى» فطلقها، قال قتادة:
وهذا باطل إنما قال هذا لامرأة جميلة تزوّجها من بنى سليم. وقال أبو عبيدة:
كلتاهما عاذتا بالله عز وجل منه صلّى الله عليه وسلّم. والله تعالى أعلم. وروى البخارىّ فى صحيحه حديث أبى أسيد السّاعدىّ قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أميمة بنت شراحيل
فلما دخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين، وفى لفظ آخر، قال أبو أسيد: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجونية، فلما دخل عليها قال: «هبى لى نفسك» فقالت: وكيف تهب الملكة نفسها للسّوقة؟ فأهوى بيده إليها ليسكتها فقالت: أعوذ بالله منك، قال:
«قد عذت بمعاذ» ثم خرج عليه السلام فقال: «يا أبا أسيد اكسها رازقيتين وألحقها بأهلها» . وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: خلف عليها المهاجر بن أبى أميّة بن المغيرة؛ فأراد عمر أن يعاقبهما، فقالت: والله ما ضرب علىّ الحجاب ولا سميت بأمّ المؤمنين، فكف عنهما، وقيل: تزوّجها عكرمة ابن أبى جهل فى الرّدة، وقيل: خلف عليها بعد المهاجر قيس بن مكشوح المرادى، وقال ابن أبزى: الجونيّة التى استعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم تستعذ منه امرأة غيرها.
قال أبو عمر رحمه الله: الاختلاف فى الكندية كبير جدا، منهم من يقول: هى أسماء بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أميمة بنت النّعمان، ومنهم من يقول: أمامة بنت النّعمان، قال: واختلافهم فى سبب فراقها على ما رأيت، والاضطراب فيها وفى صواحباتها اللواتى لم يجتمع عليهنّ من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم عظيم. ومنهنّ:(18/194)
قتيلة بنت قيس
أخت الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية الكندية. روى عن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبى صلّى الله عليه وسلم خرج والغضب يعرف فى وجهه، فقال له الأشعث بن قيس: لا يسؤك الله يا رسول الله، ألا أزوّجك من ليس دونها فى الجمال والحسب؟ قال: «من» ؟ قال:
أختى قتيلة، قال: «قد تزوجتها» قال: فانصرف الأشعث إلى حضر موت، ثم حملها حتى إذا فصل من اليمن، بلغه وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّها إلى بلاده وارتدّ وارتدّت معه فيمن ارتد؛ فلذلك تزوجت؛ لفساد النكاح بالارتداد. قال الشيخ أبو محمد: وكان تزوجها قيس بن مكشوح المرادىّ، وقيل: تزوجها عكرمة ابن أبى جهل، فوجد أبو بكر من ذلك وجدا شديدا، وقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، إنها والله ما هى من أزواجه، ما خيّرها ولا حجبها، ولقد برّأها الله منه بالارتداد الذى ارتدت مع قومها. وكان تزوّجه إياها سنة عشر، وقيل: قبل موته بشهرين، وقيل: تزوّجها فى مرضه.
وقال قائلون: إنه صلّى الله عليه وسلم أوصى أن تخيّر، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت طلقها فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل. وكان عروة بن الزّبير ينكر ذلك، ويقول:
لم يتزوج النبى صلّى الله عليه وسلم قتيلة بنت قيس، ولا تزوج كندية إلا أخت بنى الجون؛ ملكها، وأتى بها فلما نظر إليها طلّقها، ولم يبن بها صلّى الله عليه وسلّم.
ومنهنّ:(18/195)
عمرة بنت معاوية الكندية
تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الشعبىّ: تزوّج امرأة من كندة، فجىء بها بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم. ذكر ذلك أبو الفرج بن الجوزىّ فى التلقيح. ومنهن:
أسماء بنت الصّلت
وقيل: سناء بنت الصّلت، قال أبو عمر: وهو الصواب؛ قال: وقال علىّ ابن عبد العزيز بن على بن الحسن الجرجانى النّسابة: هى وسناء بنت الصّلت ابن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف بن امرىء القيس ابن بهثة بن سليم السّلمية؛ تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فماتت قبل أن تصل إليه. وقال غيره: فلما بشّرت بذلك ضحكت، وماتت من الفرح. وقال ابن إسحق: سناء بنت أسماء بن الصّلت السّلمىّ، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم طلقها. وقال أبو نصر ابن ماكولا: سناء بنت أسماء ماتت قبل أن يدخل بها. وقيل: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت أسماء:
لو كان نبيا ما مات حبيبه، فخلّى سبيلها. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير الليثى:
جاء رجل من بنى سليم إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن لى ابنة من جمالها وعقلها ما إنى لأحسد الناس عليها غيرك، فهمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوّجها، ثم قال: وأخرى يا رسول الله، لا والله ما أصابها عندى مرض قطّ، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا حاجة لنا فى ابنتك، تجيئنا نحمل خطاياها! لا خير فى مال لا يرزأ «1» منه، ولا جسم لا ينال منه» . وقال أبو عمر ابن عبد البر: وفى سبب فراقها اختلاف، ولا يثبت فيها شىء من جهة الإسناد. ومنهنّ:(18/196)
مليكة بنت كعب الليثىّ
روى محمد بن عمر الواقدى، عن أبى معشر، قال: تزوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت:
أما تستحيين أن تنكحى قاتل أبيك؟ فاستعاذت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلقها، فجاء قومها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة ولا ولىّ «1» لها، وأنها خدعت فارتجعها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنوه أن يزوّجوها قريبا لها من بنى عذرة، فأذن لهم فتزوّجها العذرىّ، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة «2» . قال محمد بن عمر: مما يضعف هذا الحديث، ذكر عائشة أنها قالت: ألا تستحيين، وعائشة لم تكن مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح، وعن عطاء بن يزيد الجندعى قال: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم مليكة بنت كعب الليثى فى شهر رمضان، سنة ثمان، ودخل بها فماتت عنده، قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك، ويقولون لم يتزوّج كنانية قطّ، وعن الزّهرى مثل ذلك. ومنهنّ:
ابنة جندب بن ضمرة الجندعى
قال أبو محمد الدمياطى رحمه الله: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج ابنة جندب بن ضمرة الجندعىّ، وأنكر ذلك الواقدى، وقال: لم يتزوّج كنانية قط. ومنهنّ:(18/197)
الغفارية
قال أبو محمد الدمياطى: قال بعضهم تزوّج النبى صلّى الله عليه وسلّم امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها، فرأى بها بياضا، فقال: «الحقى بأهلك» ويقال:
إنما رأى البياض بالكلابية. ومنهن:
خولة بنت الهذيل بن هبيرة
ابن قبيصة بن الحارث بن حبيب بن حرقة بن ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن ثعلبة.
وأمها [خرنق «1» ] بنت خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس الكلبىّ، أخت دحية بن خليفة. تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهلكت فى الطريق قبل وصولها إليه. حكاه أبو عمر بن عبد البرعن الجرجانىّ النسّابة.
ومنهنّ:
شراف «2» بنت خليفة بن فروة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبىّ
قال أبو محمد الدمياطى: قال ابن الكلبى حدّثنا الشّرقىّ بن القطامى «3» قال:
لما هلكت خولة بنت الهذيل، تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شراف بنت خليفة أخت دحية، ثم لم يدخل بها. وقال أبو عمر بن عبد البر: فهلكت قبل دخوله بها. وروى عن عبد الرحمن بن سابط، قال: خطب رسول الله صلّى(18/198)
الله عليه وسلّم امرأة من كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت ثم رجعت، فقال لها: «ما رأيت» ؟ فقالت ما رأيت طائلا. فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«لقد رأيت خالا بخدّها اقشعرت كل شعرة منك» فقالت: يا رسول الله، ما دونك سرّ. ومنهنّ:
خولة بنت حكيم
ابن أميّة بن حارثة بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالح بن ثعلبة بن ذكوان ابن امرئ القيس «1» بن سليم. ويقال فيها: خويلة بنت حكيم، وأمها صفيّة «2» بنت العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ. قال ابن الكلبىّ:
كانت خولة بنت حكيم من اللائى وهبن أنفسهنّ للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأرجأها وكانت تخدم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت عند عثمان بن مظعون فمات عنها.
وعن عروة قال: خولة بنت حكيم ممن وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو عمر بن عبد البر: خولة تكنى أمّ شريك، وهى التى وهبت نفسها للنبىّ، فى قول بعضهم، وكانت امرأة فاضلة صالحة، روى عنها سعد بن أبى وقّاص، وسعيد بن المسيّب، وهى التى قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فتح الله عليك الطائف فأعطنى حلىّ بادية بنت غيلان، أو حلىّ الفارعة بنت عقيل كما تقدّم. ومنهنّ:
ليلى بنت الخطيم بن عدىّ
ابن عمرو بن سواد بن ظفر بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النّبيت بن مالك بن الأوس، وهى أخت قيس بن الخطيم، واسم الخطيم ثابت، واسم ظفر كعب.(18/199)
قال محمد بن سعد: عن عاصم بن عمر بن قتادة «1» قال: كانت ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقبلها، وكانت تركب بعولتها «2» ركوبا شديدا، وكانت سيئة الخلق، فقالت: لا والله، لأجعلنّ محمدا لا يتزوّج فى هذا الحىّ من الأنصار، والله لآتيّنه، ولأهبنّ نفسى له، فأتت النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم مع رجل من أصحابه، فما راعه إلا بها واضعة يديها عليه، فقال: «من هذا؟
أكله الأسد» فقالت: أنا ليلى بنت سيّد قومها، قد وهبت نفسى لك، قال:
«قد قبلتك؛ ارجعى حتى يأتيك أمرى» فأتت قومها فقالوا: أنت امرأة ليس لك صبر على الضّرائر، وقد أحل الله لرسوله أن ينكح ما شاء، فرجعت فقالت: إنّ الله أحل لك النّساء، وأنا امرأة طويلة اللسان لا صبر لى على الضّرائر، واستقالته فقال:
«قد أقلتك» .
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو مولّ ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبيه، فقال: «من هذا؟ أكله الأسد» وكان كثيرا ما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطّير ومبارى الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسى، تزوّجنى، قال: «قد فعلت» فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوّجنى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيرى، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب نساء، تغارين عليه فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله، أقلنى، قال: «قد أقلتك» قال: فتزوّجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له، فبينا هى فى حائط من حيطان المدينة تغتسل، إذ وثب عليها ذئب فأكل بعضها، وأدركت فماتت. ومنهنّ:(18/200)
ليلى بنت حكيم الأنصارية
الأوسية، التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عمر بن عبد البر:
ذكرها أحمد بن صالح المصرى فى أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم؛ ولم يذكرها «1» غيره فيما علمت. والله تعالى أعلم. ومنهنّ:
أمّ شريك واسمها غزيّة
بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن منقذ بن عمير بن معيص ابن عامر بن لؤىّ. وقال أبو عمر: غزيلة «2» الأنصارية من بنى النجّار.
قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: اختلف فيها، فكان محمد بن عمر يقول: هى من بنى معيص بن عامر بن لؤىّ، وكان غيره يقول: هى دوسيّة من الأزد، وقيل: هى أنصارية. وروى ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن موسى بن محمد ابن إبراهيم التيمى، عن أبيه قال: كانت أمّ شريك امرأة من بنى عامر بن لؤىّ، معيصية وهبت نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يقبلها، فلم تتزوّج حتى ماتت. وروى عن وكيع عن زكريّا عن عامر فى قوله عز وجل: «ترجى من تشاء منهنّ «3» » ؛ قال: كل نساء وهبن أنفسهن للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فدخل ببعضهنّ وأرجأ بعضا فلم ينكحن بعده، منهنّ: أمّ شريك. وعن الشّعبى قال: المرأة التى عزل «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ شريك الأنصارية. وعن على بن الحسين:(18/201)
أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تزوّج أمّ شريك الدّوسية، ومثله عن عكرمة. وروى محمد بن سعد عن محمد بن عمر قال: حدّثنى الوليد بن مسلم، عن منير بن عبد الله الدّوسىّ قال: أسلم زوج «1» أمّ شريك- وهى غزيّة بنت جابر بن حكيم الدّوسية من الأزد- وهو أبو بكر، فهاجر إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مع أبى هربرة، ومع دوس حين هاجروا، قالت أمّ شريك: فجاءنى أهل أبى العكر فقالوا: لعلك على دينه، قلت: إى والله، إنى لعلى دينه، قالوا: لا جرم، والله لنعذبك عذابا شديدا، فارتحلوا بنا من دارنا، ونحن كنا بذى الخلصة، فساروا يريدون منزلا، وحملونى على جمل ثفال «2» ، شرّ ركابهم وأغلظه، يطعمونى «3» الخبر بالعسل، ولا يسقونى قطرة من ماء، حتى إذا انتصف النهار وسخنت الشمس، ونحن قائظون «4» ، فنزلوا فضربوا أخيبتهم وتركونى فى الشمس حتى ذهب عقلى وسمعى وبصرى، ففعلوا بى ذلك ثلاثة أيام، فقالوا لى فى اليوم الثالث: اتركى ما أنت عليه، قالت: فما دريت ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، فأشير بإصبعى إلى السماء بالتوحيد، قالت: فو الله إنى لعلى ذلك، وقد بلغنى الجهد، إذ وجدت برد دلو على صدرى، فأخذته فشربت منه نفسا «5» واحدا، ثم انتزع منّى، فذهبت أنظر فإذا هو معلّق بين السماء والأرض، فلم(18/202)
أقدر عليه، ثم دلّى الثانية فشربت منه نفسا، ثم رفع، فذهبت أنظر، فإذا هو بين السماء والأرض، ثم دلّى الثالثة فشربت منه حتى رويت، فأهرقت على رأسى ووجهى وثيابى، قالت: فخرجوا فنظروا، فقالوا: من أين لك هذا يا عدوّة الله؟
قالت فقلت لهم: إنّ عدوّ الله غيرى؛ من خالف دينه، فأما قولكم من أين هذا فمن عند الله رزقا رزقنيه الله، قالت: فانطلقوا سراعا إلى قربهم فوجدوها موكأة لم تحلّ، فقالوا: نشهد أن ربك هو ربنا، فإن الذى رزقك ما رزقك فى هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلنا، هو الذى شرع الإسلام، فأسلموا وهاجروا جميعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يعرفون فضلى عليهم، وما صنع الله إلىّ، قال:
وهى التى وهبت نفسها للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت جميلة وقد أسنّت، فقالت:
إنى وهبت نفسى لك، وأتصدّق بها عليك، فقبلها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت عائشة: ما فى امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أمّ شريك: فأنا تلك؛ فسماها الله مؤمنة، فقال تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «1» » .
فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة: إنّ الله ليسرع لك فى هواك «2» يا رسول الله.
ومنهنّ:
الشّنباء
ذكرها الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدّمياطى رحمه الله، فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يذكر لها ترجمة. فلنذكر من خطبهنّ صلّى الله عليه وسلّم.(18/203)
ذكر من خطبهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء ولم يتّفق تزويجهنّ.
منهنّ:
أمّ هانىء بنت أبى طالب
ابن عبد المطلب بن هاشم، واسمها فاختة، وقال ابن الكلبى: اسمها هند، وهى أخت على بن أبى طالب، وعقيل وجعفر وطالب، شقيقتهم، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه، قال: خطب النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى طالب ابنته أمّ هانئ فى الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبى وهب «1» بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فزوجها هبيرة، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمّ، زوّجت هبيرة وتركتنى» ! فقال: يابن أخى إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم أسلمت ففرّق الإسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نفسها فقالت: والله إن كنت لأحبك فى الجاهلية، فكيف فى الإسلام، ولكنى امرأة مصبية وأكره أن يؤذوك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نساء ركبن المطايا نساء قريش، أحناه «2» على ولد فى صغره، وأرعاه على زوج فى ذات يده» . ومنهنّ:
ضباعة بنت عامر بن قرا
ابن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
روى هشام بن محمد الكلبى، عن أبيه عن أبى صالح عن ابن عباس قال:
كانت ضباعة بنت عامر عند هوذة بن على الحنفى، فهلك عنها فورّثها مالا كثيرا،(18/204)
فتزوجها عبد الله بن جدعان التّيمىّ، وكان لا يولد له فسألته الطلاق فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكان من خيار المسلمين، فتوفى عنها هشام، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وكانت تغطى جسدها بشعرها، فذكر جمالها عند النبى صلّى الله عليه وسلّم، فخطبها إلى ابنها سلمة بن هشام ابن المغيرة، فقال: حتى أستأمرها، وقيل للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إنها قد كبرت فأتاها ابنها فقالت: ما قلت له؟ قال: قلت حتى أستأمرها، فقالت:
وفى النبى صلّى الله عليه وسلّم يستأمر! ارجع فزوّجه، فرجع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فسكت عنه. ومنهنّ:
صفيّة بنت بشامة «1» بن نضلة العنبرىّ
قال أبو محمد: كان أصابها سباء، فخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
«إن شئت أنا، وإن شئت زوجك» فقالت: بل زوجى، فأرسلها فلعنتها بنو تميم. ومنهنّ:
جمرة بنت الحارث بن عوف المزنىّ
خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهى أمّ شبيب بن البرصاء الشاعر. ومنهنّ:
سودة القرشيّة
خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت مصبية فقالت: أكره أن تصغو «2» صبيتى عند رأسك، فحمدها ودعا لها، ذكرها والتى قبلها ابن الجوزىّ(18/205)
فى التّلقيح. وروى عن مجاهد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب فردّ لم يعد، فخطب امرأة، فقالت: حتى أستأمر أبى، فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت له، فقال: «قد التحفنا لحافا غيرك» ولم يسم مجاهد اسم هذه المرأة.
وعرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أمامة بنت عمّة حمزة
ابن عبد المطلب، وقيل: اسمها عمارة، فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «تلك ابنة أخى من الرضاعة» . وعرضت عليه أمّ حبيبة أختها.
فجميع من ذكر من أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم المدخول بهنّ، وغير المدخول بهنّ، ومن وهبت نفسها له، أو خطبها ولم يتفق تزويجها، أو عرضت عليه فأباها، نحو أربعين امرأة على ما ذكرناه من الاختلاف، ومن أهل العلم من ينكر بعضهنّ، ويقول: إنما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة امرأة، ست منهنّ قرشيات لا شك فيهنّ، وهنّ: خديجة، وعائشة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وحفصة.
ومن العرب: زينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وأسماء بنت النّعمان، وفاطمة بنت الضّحّاك، وزينب بنت خزيمة.
ومن غيرهم: ريحانة بنت زيد من بنى النّضير، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب.
وعن محمد بن يحيى بن حبّان قال: تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة امرأة، فسمى هؤلاء، وزاد مليكة بنت كعب اللّيثية. وقال أبو عبيدة:
تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانى عشرة امرأة.(18/206)
وقال محمد بن عمر الواقدىّ: المجمع عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج أربع عشرة امرأة، وهنّ اللائى سمّين، وفارق منهن الجونيّة والكلابية، ومات عنده خديجة، وزينب بنت خزيمة، وريحانة بنت زيد، وقبض عن تسع، وهنّ المذكورات اللاتى قدمنا ذكرهنّ.
وقال أبو سعيد فى شرف النبوّة: إن جملة أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين امرأة، طلّق منهنّ ستّا، ومات عنده خمس، وتوفّى عن عشر؛ واحدة لم يدخل بها، وكان صداقه لنسائه لكل واحدة خمسمائة درهم، إلا صفيّة فإنه جعل عتقها صداقها، وأمّ حبيبة أصدقها عنه النجاشىّ.
ذكر سرارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وهنّ:
مارية بنت شمعون القبطية وهى أم ولده إبراهيم، وكانت من جفن «1» من كورة أنصنا من صعيد مصر، أهداها له المقوقس جريح بن مينا، ولما ولدت مارية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه إبراهيم قال: «أعتقها ولدها» . وتوفيت مارية فى المحرم سنة ست عشرة، فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلّى عليها عمر، ودفنت بالبقيع.
وريحانة بنت زيد النّضرية، وقد تقدّم خبرها فى الزوجات. وقال أبو عبيدة:
كان له أربع؛ وهنّ مارية وريحانة، وأخرى جميلة أصابها فى السّبى، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. وقال قتادة: كان للنبى صلّى الله عليه وسلّم وليدتان مارية وريحانة، وبعضهم يقول: ربيحة «2» القرظية.(18/207)
ذكر أولاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: كان أول من ولد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة قبل النبوّة القاسم وبه كان يكنى، ثم ولدت له زينب، ثم رقيّة، ثم فاطمة، ثم أمّ كلثوم، ثم ولد له فى الإسلام «1» عبد الله فسمى الطّيّب والطّاهر، وأمهم كلهم خديجة رضى الله عنها. وكان أول من مات من ولده القاسم، ثم عبد الله ماتا بمكة، فقال العاصى بن وائل السّهمىّ: قد انقطع ولده فهو أبتر؛ فأنزل الله تعالى: «إنّ شانئك «2» هو الأبتر» وقيل: الطّيّب والطّاهر اثنان سوى عبد الله. وقيل: كان له الطّاهر والمطهّر ولدا فى بطن. وقيل: كان له الطّيّب والمطيّب ولدا أيضا فى بطن. وقيل: إنهم كلهم ماتوا قبل النبوّة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم. وأمّا البنات فكلهن أدركن الإسلام، وأسلمن وهاجرن، وسنذكر إن شاء الله تعالى أخبارهنّ ومن تزوجهنّ، وما ولدن على ما تقف عليه، وهؤلاء كلهم أولاد خديجة ولدوا بمكة، ثم ولدت له مارية القبطية:
إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ولد فى ذى الحجة، سنة ثمان من الهجرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر الزّبير عن أشياخه، أن أمّ إبراهيم مارية ولدته بالعالية، فى المال «3» الذى يقال له اليوم (مشربة «4» إبراهيم) بالقفّ «5» ، وكانت قابلتها «6» سلمى مولاة النبى صلّى الله عليه وسلّم،(18/208)
امرأة أبى رافع، فبشّر به أبو رافع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فوهب له عبدا، فلما كان يوم سابعه عقّ «1» عنه بكبش وحلق رأسه؛ حلقه أبو هند، وسماه يومئذ، وتصدق بوزن شعره ورقا على المساكين، وأخذوا شعره فدفنوه فى الأرض.
وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ولد لى الليلة غلام فسميته باسم أبى إبراهيم» هذا يدل على أنه سمّاه فى وقت ولادته، قال الزبير: ثم دفعه إلى أمّ سيف امرأة قين «2» بالمدينة، يقال له: أبو سيف، قال الزبير: وتنافست الأنصار فيمن يرضعه، فجاءت أمّ بردة بنت المنذر بن زيد الأنصارىّ، زوجة البراء بن أوس، فكلمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أن ترضعه، فكانت ترضعه بلبن ابنها فى بنى مازن بن النجار، وترجع به إلى أمّه، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ بردة قطعة من نخل، فناقلت «3» بها إلى مال عبد الله بن زمعة.
وتوفى إبراهيم فى شهر ربيع الأول سنة عشر، وقد بلغ ستة عشر شهرا؛ مات فى بنى مازن عند ظئره «4» أمّ بردة، وهى خولة بنت المنذر بن لبيد، وغسّلته ودفن بالبقيع. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو عاش لوضعت «5» الجزية عن كل قبطىّ» . وقال أيضا: «لو عاش إبراهيم ما رقّ «6» له خال» .
وفى حديث أنس بن مالك تصريح أن إبراهيم إنما مات عند ظئره أمّ سيف؛ فإنه يقول: فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانطلقت معه، فصادفنا أبا سيف ينفخ فى كيره، وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت فى المشى بين يدى رسول الله(18/209)
صلى الله عليه وسلّم، حتى أنتهيت إلى أبى سيف فقلت: يا أبا سيف، أمسك، جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمسك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصّبى فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول، قال: فلقد رأيته يكيد «1» بنفسه، فدمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا تقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» وقال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى على ابنه إبراهيم من غير رفع صوت، وقال: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الربّ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . وعن عطاء، عن جابر قال: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل «2» ، فإذا ابنه إبراهيم فى حجر أمّه وهو يجود بنفسه، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه فى حجره، ثم قال: «يا إبراهيم إنا لا نغنى عنك من الله شيئا» ؛ ثم ذرفت «3» عيناه، ثم قال:
«يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ» . قالوا: ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة» . وقال صلّى الله عليه وسلّم حين توفّى إبراهيم: «إن له مرضعا فى الجنة تتم رضاعه» . وصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، قال ابن عبد البر: هذا قول جمهور العلماء،(18/210)
وهو الصحيح، قال: وقد قيل إن الفضل بن عباس غسّل إبراهيم، ونزل فى قبره مع أسامة بن زيد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس على شفير القبر، قال الزبير: ورشّ قبره، وأعلم فيه بعلامة، وهو أول قبر رشّ عليه «1» .
فلنذكر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تزوجهنّ، وما ولدن ووفاتهنّ، وهنّ أربع:
زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
هى أسنّ بناته رضى الله عنهنّ. قال أبو عمر بن عبد البر: ولدت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سنة ثلاثين من مولد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، حكاه عن محمد بن إسحق السّرّاج عن عبيد الله بن محمد بن سليمان الهاشمى، وتزوج زينب أبو العاص بن ربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها- أمه هالة بنت خويلد- قبل أن ينزّل «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرّق بينهما الإسلام.
وقد ذكرنا من خبر ابن العاص وأسره فى غزوة بدر وإطلاقه، وسقنا ذلك كله هناك، وخبر إسلامه، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ زينب عليه بغير مهر جديد، ولا نكاح جديد. وقيل: بل بمهر جديد ونكاح جديد- والله تعالى أعلم- وولدت له عليّا مات صغيرا، وأمامة وهى التى حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الصلاة، وعاشت أمامة حتى تزوجها على بن أبى طالب بعد موت فاطمة، فكانت عنده حتى أصيب، فخلف عليها المغيرة بن يزيد بن الحارث بن عبد المطلب، فتوفيت عنده، وماتت زينب فى سنة ثمان من الهجرة.(18/211)
قال أبو عمر: وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد لها هبّار بن الأسود ورجل آخر فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت رضى الله عنها.
ورقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبو العباس محمد بن إسحق السّراج، قال سمعت عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمى يقول: ولدت رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رقية عند عتبة بن أبى لهب، وأختها أمّ كلثوم عند عتيبة بن أبى لهب، فلما أنزل الله تعالى: «تبّت يدا أبى لهب» - السورة- قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما أمّ جميل بنت حرب بن أمية، حمّالة الحب: فارقا ابنتى محمد، وقال أبو لهب:
رأسى من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتى محمد، ففارقاهما، فتزوّج عثمان بن عفّان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنا فسماه عبد الله وبه كان يكنى، فبلغ الغلام ستّ سنين، فنقر عينه ديك وتورّم وجهه فمرض ومات. وماتت رقية رضى الله عنها فى شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر، ودفنت عند وصول زيد بن حارثة بالبشارة بوقعة بدر، وكانت قد أصابتها الحصبة، وتخلّف عثمان بن عفّان رضى الله عنه عن غزوة بدر بسبب مرضها، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(18/212)
وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال أبو عمر بن عبد البر: كانت فاطمة هى وأختها أمّ كلثوم أصغر بنات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى الصّغرى منهما. وقال ابن السّراج:
سمعت عبيد الله الهاشمى يقول: ولدت فاطمة رضى الله عنها فى سنة إحدى وأربعين من مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد وقعة أحد. وقيل: إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة رضى الله عنها، بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجه إباها بتسعة أشهر ونصف، وكانت سنّها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف. قال أبو عمر: واختلف فى مهره إياها، فروى أنه مهرها درعه، وأنه لم يكن له ذلك الوقت صفراء ولا بيضاء، وقيل: تزوجها على أربعمائة وثمانين درهما فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ثلثها فى الطّيب، قال: وزعم أصحابنا أن الدّرع قدّمها علىّ من أجل الدخول، بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه بذلك، فولدت رضى الله عنها له حسنا وحسينا ومحسنا فذهب محسن صغيرا. وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى علىّ رضى الله عنه قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت: سميته حربا، قال:
«بل هو حسن» فلما ولد الحسين قال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت:
سميته حربا، قال: «بل هو حسين» فلما ولد الثالث جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرونى ابنى ما سميتموه» ؟ قلت سميته حربا، قال: «بل محسن» ، ثم قال: «إنى سميتهم بأسماء ولد هارون شبّر وشبير ومشبّر «1» » . وولدت له رقيّة وزينب(18/213)
وأمّ كلثوم، فهلكت رقيّة، ولم تبلغ، وتزوج زينب عبد الله بن جعفر فماتت عنده، وولدت له على بن عبد الله بن جعفر، وتزوج أمّ كلثوم عمر بن الخطاب فولدت له زيد بن عمر، ثم خلف عليها بعده عون بن جعفر فلم تلد له حتى مات، وخلف عليها بعده محمد بن جعفر فولدت له حارثة ومات عنها. فخلف عليها عبد الله ابن جعفر فلم تلد له شيئا وماتت عنده، وقيل: بل توفّى عنها، وماتت فاطمة رضى الله عنها بعد وفاة أبيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر، وقيل:
بستة أشهر، وقيل: بثمانية.
وأمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قد ذكرنا الاختلاف فى أيهما أصغر سنّا هى أو فاطمة، وكانت عند عتيبة بن أبى لهب، فلما قال له أبواه ولأخيه ما قالا طلقّا بنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبنيا بهما، وجاء عتيبة حين فارق أمّ كلثوم إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك وسطا عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنى أسأل الله أن يسلط عليك كلبا من كلابه» وكان خارجا إلى الشام تاجرا مع نفر من قريش، حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزّرقاء ليلا، فأطاف «1» بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمّه «2» ، هو والله آكله بدعوة محمد، قاتلى «3» ابن أبى كبشة وهو بمكة وأنا بالشام. وقال أبو لهب: يا معشر قريش، أعينونا هذه الليلة، فإنى أخاف دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتيبة فى أعلاها وناموا حوله، فقيل: إن الأسد انصرف عنهم حتى ناموا وعتيبة(18/214)
فى وسطهم، ثم أقبل يتخطّاهم ويتشمّمهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه «1» . قال أبو عمر: ولما ماتت رقية تزوج عثمان بن عفّان بأمّ كلثوم فى شهر ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة، وبنى عليها فى جمادى الآخرة من السنة، وتوفيت أمّ كلثوم رضى الله عنها فى السنة التاسعة من الهجرة، ولم تلد لعثمان شيئا، وكانت وفاتها فى شعبان، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان: «لو كانت عندنا ثالثة زوّجنا كها يا عثمان» وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل فى حفرتها على بن أبى طالب، والفضل بن العباس وأسامة بن زيد. وقد روى أن أبا طلحة الأنصارى استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل معهم فى قبرها فأذن له. وغسّلتها أسماء بنت عميس وصفيّة بنت عبد المطلب، وهى التى شهدت أمّ عطيّة غسلها، وحكت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك» الحديث «2» . قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قبر أم كلثوم.
ذكر أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العمومة أحد عشر، أولاد عبد المطلب ابن هاشم، وهم:
الحارث
- وبه كان يكنى؛ لأنه أكبر ولده، ومن ولد الحارث وولد ولده جماعة لهم صحبة من النبى صلّى الله عليه وسلّم، منهم أبو سفيان بن الحارث،(18/215)
أسلم عام الفتح كما ذكرنا فى غزوة الفتح وشهد حنينا، ونوفل بن الحارث هاجر وأسلم أيام الخندق، وعبد شمس وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله.
وقثم بن عبد المطلب
- وهو أخو الحارث لأبويه؛ مات صغيرا.
الثالث- الزبير بن عبد المطلب
، وكان من أشراف قريش. وابنه عبد الله ابن الزبير شهد حنينا وثبت يومئذ واستشهد بأجنادين «1» ، وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأمّ الحكم بنت الزبير، روت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم.
الرابع حمزة بن عبد المطلب
كان يقال له: أسد الله وأسد رسوله، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى «2» . وهو أخو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرّضاع «3» . وقد قدّمنا فى أنباء هذه السيرة خبر إسلامه ومقتله فى غزوة أحد. ولم يكن له إلا ابنة واحدة. وقيل: ابنتان. وقد ذكرنا هما فيمن عرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النساء فأباهنّ.
والخامس العبّاس بن عبد المطّلب
كان يكنى أبا الفضل بابنه الفضل بن العبّاس، وكان العباس أسنّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وأمّه نتلة، ويقال:
نتيلة بنة جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر وهو(18/216)
الضّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النّمر بن قاسط. وهى أوّل عربية «1» كست البيت الحرام الحرير والدّيباج وأصناف الكسوة. وذلك أن العباس ضلّ وهو صبىّ، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرام، فوجدته ففعلت.
وقد تقدّم من خبر العباس فى غزوة بدر عند أسره، وقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّى كنت مسلما، وإن القوم استكرهونى على الخروج.
وقال أبو عمر بن عبد البر: أسلم العباس قبل خيبر وكان يكتم إسلامه.
قال: ويقال إنه أسلم قبل بدر، وكان يكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأخبار المشركين، وكان يحبّ أن يقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن مقامك بمكة خير» فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «من لقى منكم العباس فلا يقتله فإنه أخرج كرها» .
وكان العباس أنصر الناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أبى طالب، وولى السّقاية بعد أبى طالب وقام بها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم العباس بعد إسلامه ويعظّمه ويجلّه، ويقول: «هذا عمى وصنو أبى» . وكان العباس جواد مطعما، وصولا للرّحم، ذا رأى حسن، ودعوة مرجوّة.
وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استسقى بالعباس فى سنة سبع عشرة وذلك عام الرّمادة «2» ، وكانت الأرض أجدبت إجدابا شديدا. فقال كعب لعمر:
يا أمير المؤمنين، إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة(18/217)
الأنبياء. فقال عمر رضى الله عنه: هذا عمّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وصنو أبيه، وسيّد بنى هاشم. فمشى إليه عمر فشكا إليه ما فيه الناس. ثم قال: اللهم إنا قد توجّهنا إليك بعمّ نبينا وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. ثم قال:
يا أبا الفضل قم فادع. فقام العباس فقال بعد حمد الله والثناء عليه: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب، ثم أنزل الماء منه علينا، فاشدد [به «1» ] الأصل، وأطل به الفرع، اللهم إنك لم تنزل بلاء إلا بذنب، ولم تكشفه إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بى إليك فاسقنا الغيث، اللهم شفّعنا فى أنفسنا وأهلينا، اللهم إنا شفعاء عمن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيا وادعا، نافعا طبقا سحّا «2» عامّا.
اللهم لا نرجو إلا إيّاك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك. اللهم إليك نشكو جوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف، وضعف كل ضعيف.
فى دعاء كثير.
قال ابن عبد البر: وهذه الألفاظ كلها لم تجىء فى حديث واحد، ولكن جاءت فى أحاديث جمعتها واختصرتها ولم أخالف شيئا منها، وفى بعضها: فسقوا والحمد لله. وفى بعضها قال: فأرخت السماء عزاليها «3» فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوت الجفر «4» بالآكام، وأخصبت الأرض، وعاش الناس. فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسّان بن ثابت فى ذلك:(18/218)
سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرّة العبّاس
عمّ النبى وصنو والده الذى ... ورث النّبىّ بذاك دون النّاس
أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرّة الأجناب بعد الياس
وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبى لهب:
بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر
توجّه بالعباس فى الجدب راغبا ... فما كرّ حتّى جاء بالدّيمة المطر
وتوفى العباس- رضى الله عنه- بالمدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رجب. وقيل: من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين فى خلافة عثمان بن عفّان وصلّى عليه عثمان، ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وقيل: تسع وثمانين سنة. وقال خليفة بن خيّاط: كانت وفاة العباس سنة ثلاث وثلاثين، ودخل قبره ابنه عبد الله. وكان للعباس من الولد: الفضل وهو أكبر أولاده وبه كنّى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم. ولهم صحبة. وعبد الرحمن ومعبد ولدا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشهدا بإفريقيّة فى خلافة عثمان بن عفّان، وأمّ حبيب، كلهم من أمّ الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهى أخت ميمونة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وفيها يقول عبد الله بن يزيد الهلالى:
ما ولدت نجيبة من فحل ... بجبل نعلمه وسهل
كستّة من بطن أمّ الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل
عمّ النبى المصطفى ذى الفضل ... وخاتم الرّسل وخير الرّسل(18/219)
وكان له من غير أمّ الفضل أربعة ذكور، وهم: عون «1» ، والحارث أمّه من هذيل.
وكثير وتمّام أمهما أمّ ولد «2» ، وكان أصغر أولاد العباس فكان العباس يحمله ويقول:
تمّوا بتمّام فصاروا عشرة ... يا ربّ فاجعلهم كراما برره
واجعل لهم ذكرا وأنم الثّمرة
ويقال: ما رؤيت قبور أشد تباعدا بعضها من بعض من قبور بنى العباس، ولدتهم أمهم أمّ الفضل فى دار واحدة، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفّى عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند وكثير بينبع.
وتوفّى العباس بعد أن كفّ بصره. ولم يسلم من أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا حمزة والعباس رضى الله عنهما.
والسادس من عمومته صلّى الله عليه وسلّم- أبو طالب
واسمه عبد مناف وهو أخو عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلّم لأبويه. وعاتكة صاحبة الرّؤيا فى شأن بدر، أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وقد تقدّم من أخباره ونصرته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. وكان له من الولد طالب مات كافرا، وعقيل وجعفر وعلىّ وأمّ هانىء لهم صحبة، وجمانة. وحكى أبو عمر بن عبد البر: كان علىّ بن أبى طالب أصغر من أخيه جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين.
والسابع من عمومة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أبو لهب.(18/220)
واسمه عبد العزى كنّاه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن أولاده عتبة، ومعتّب ثبتا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، وعتيبة قتله الأسد بالزّرقاء كما تقدّم «1» .
الثامن- عبد الكعبة
، وقيل: هو المقوّم «2» ، ومنهم من جعل المقوّم غير عبد الكعبة فجعل عمومته اثنى عشر.
والتاسع- حجل
«3» واسمه المغيرة.
والعاشر- ضرار
وهو أخو العباس لأبويه.
والحادى عشر- الغيداق
«4» سمى بذلك لأنه كان أكرم قريش، وأكثرهم إطعاما.
ومنهم من جعل الغيداق حجلا وعدّهم عشرة. حكاه ابن عبد البر. وقد عدّ الزبير ابن بكّار أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر، وعدّ المقوّم غير عبد الكعبة، وجعله شقيق حمزة وحجل وصفيّة. والله أعلم بالصواب.
ذكر عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كان له من العمات صلّى الله عليه وسلّم ستّ:
الأولى- صفيّة بنت عبد المطلب
، وأمّها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهى شقيقة حمزة والمقوّم وحجل، كانت صفية فى الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك عنها وتزوّجها العوّام بن خويلد بن أسد فولدت له الزّبير والسّائب وعبد الكعبة.
وتوفيت فى خلافة عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة ولها ثلاث وسبعون سنة. ودفنت بالبقيع بفناء دار المغيرة بن شعبة، ولها هجرة.(18/221)
وعاتكة بنت عبد المطّلب
اختلف فى إسلامها، وهى صاحبة الرؤيا «1» ، وكانت عند أبى أمية بن المغيرة ابن عبد الله المخزومى، فولدت له عبد الله أسلم وله صحبة «2» ، وزهيرا، وقريبة الكبرى.
وأروى بنت عبد المطلب
وقد اختلف أيضا فى إسلامها، وكانت عند عمير بن وهب بن عبد الدّار ابن قصىّ، فولدت له طليب بن عمير، وكان من المهاجرين الأوّلين، شهد بدرا وقتل بأجنادين شهيدا.
وأميمة بنت عبد المطلب
كانت عند جحش بن رياب، ولدت له عبد الله بن جحش قتل بأحد شهيدا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد «3» ، وزينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمّ حبيبة «4» وحمنة، كلهم له صحبة، وعبيد الله بن جحش، أسلم ثمّ تنصّر ومات بالحبشة كافرا.(18/222)
وبرّة بنت عبد المطلب
وكانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة واسمه عبد الله، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وأمّ حكيم البيضاء بنت عبد المطلب
وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كريز، وهى أمّ عثمان بن عفان.
هؤلاء أعمامه صلّى الله عليه وسلّم وعمّاته؛ أسلم منهم حمزة والعباس وصفية بلا اختلاف، واختلف فى عاتكة وأروى، وبقيتهم ماتوا على شركهم. قال أبو عمر ابن عبد البر: كان عبد الله أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طالب والزّبير وعبد الكعبة وأمّ حكيم وأميمة وأروى وعاتكة، أمهم كلهم فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عمران بن مخزوم، وكان حمزة والمقوّم وجحل وصفية أمهم هالة بنت وهيب، وكان العباس وضرار وقثم أمّهم نتيلة، وأمّ الحارث سمراء بنت جنيدب ابن جندب بن حرثان بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وقيل: صفية بنت جندب ابن حجير بن رياب بن حبيب بن سواءة، وأمّ أبى لهب لبنى بنت هاجر بن خزاعة.
والله تعالى أعلم.
فلنذكر خدمه صلّى الله عليه وسلّم:
ذكر خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأحرار
وهم أحد عشر رجلا
أنس بن مالك بن النّضر
ابن ضمضم بن زيد الأنصارى النجّارى، كان يكنى أبا حمزة، وأمّه أمّ سليم بنت ملحان الأنصارية. خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، عند مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة للهجرة، واختلف فى وقت(18/223)
وفاته فقيل: مات فى سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل:
سنة ثلاث وتسعين. قال خليفة ابن خياط: مات أنس وله مائة وثلاث سنين، وقيل: كانت سنة إذ مات مائة وعشر سنين، وقيل: غير ذلك. وأقل ما قيل فيه مائة سنة إلا سنة، حكى هذه الأقوال أبو عمر بن عبد البر؛ قال: ويقال إنه آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقال:
إنه قدّم من صلبه وولد ولده نحوا من مائة قبل موته، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له فقال: «اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له» قال أنس: فإنى لمن أكثر الأنصار مالا. ويقال: إنه ولد لأنس ثمانون ولدا منهم ثمانية وسبعون ذكرا وأنثيان.
وهند وأسماء ابنا حارثة
ابن هند الأسليمان؛ شهدا بيعة الرضوان فى إخوة لهما ستة، وهم: هند وأسماء وخراش وذؤيب وفضالة وسلمة ومالك وحمران، ولم يشهدها أخوة فى عددهم غيرهم، ولزم منهم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم هند وأسماء، وكانا من أهل الصّفّة، ومات هند بالمدينة فى خلافة معاوية، وتوفى أسماء فى سنة ست وستين. بالبصرة وهو ابن ثمانين سنة.
وربيعة بن كعب الأسلمى
وهو ربيعة بن كعب بن مالك بن يعمر الأسلمىّ ابو فراس، وكان من أهل الصّفّة، وكان يلزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى السفر والحضر، وصحبه قديما، ومات فى سنة ثلاث وستين بعد الحرّة.(18/224)
وعبد الله بن مسعود
ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار «1» بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم الهذلىّ، وكنيته أبو عبد الرحمن، وهو حليف بنى زهرة، وأمه: أمّ عبد بنت عبدودّ بن سواء «2» بن قويم «3» بن صاهلة بن كاهل بن هذيل. أسلم عبد الله فى أوّل الإسلام، وكان سبب إسلامه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به وهو يرعى غنما لعقبة بن أبى معيط، فأخذ شاة حائلا من تلك الغنم فدّرت عليه لبنا غزيرا فأسلم، ثم ضمّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، وكان يلبسه نعليه إذا قام، وإذا جلس جعلهما فى درّاعته «4» حتى يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يمشى أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذنك علىّ أن يرفع الحجاب وأن تسمع»
سوادى «6» حتى أنهاك» . وكان يعرف فى الصحابة بصاحب السّواد والسّواك، وهو أحد من شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، ومات ابن مسعود بالمدينة فى سنة اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه عثمان بن عفان، وقيل: عمّار، وقيل: الزبير بن العوّام ودفنه بالبقيع ليلا بإيصائه إليه بذلك، ولم يعلم عثمان فعاتب الزبير، وكان يوم توفّى ابن بضع وستين سنة.(18/225)
وعقبة بن عامر بن عبس
الجهنى من جهينة بن زيد «1» بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وكان يكنى أبا حمّاد، وقيل: أبا أسد «2» ، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا سعاد، وقيل: أبا الأسود، وقيل: أبا عمّار، وأبا عامر. وكان عقبة بن عامر صاحب بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقودها به فى الأسفار. قال أبو عمر: سكن عقبة بن عامر مصر، وكان واليا عليها، وابتنى بها دارا، وتوفّى فى آخر خلافة معاوية.
وبلال بن رباح المؤذّن
مولى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، وكان يكنى أبا عبد الله، ويقال:
أبا عبد الكريم، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبا عمرو، وقد تقدّم خبره فى أوّل السيرة. وأمه حمامة، وكان خازنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآخى بينه وبين عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان بلال رضى الله عنه صادق الإسلام طاهر القلب، وكان من مولّدى السّراة «3» . مات بدمشق سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن بمقبرتها عند الباب الصغير، وقيل: مات سنة إحدى وعشرين [وهو ابن سبعين سنة «4» ] .
وسعد مولى أبى بكر الصدّيق
رضى الله عنهما، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وروى عنه الحسن البصرىّ، ويعدّ فى أهل البصرة.(18/226)
وذو مخمر بن أخى النّجاشى
ويقال: ابن أخته، ويقال فيه: ذو مخبر، خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبد البر: وقد عدّه بعضهم فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، له أحاديث خرّجها أهل الشام وهو معدود فيهم.
وبكير بن شدّاخ اللّيثى
وقيل فيه: بكر، عدّه الشيخ أبو محمد الدمياطى فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» .
وأبو ذرّ الغفارىّ
ويقال: أبو الذرّ، والأوّل أشهر. واختلف فى اسمه اختلافا كثيرا، فقيل:
جندب بن جنادة، وهو أصحّ ما قيل فيه إن شاء الله. وذكر أبو عمر بن عبد البر الاختلاف فى اسمه، وترجم عليه بعد ذلك: جندب «2» بن جنادة بن سفيان بن عبيد ابن الواقفة بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار الغفارىّ، وأمّه رملة بنت الوقيعة، من بنى غفار، تقدّم خبر إسلامه فى وفد غفار فى أوّل هذا «3» السّفر، وأقام أبو ذرّ عند قومه بعد إسلامه حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(18/227)
فصحبه إلى أن مات. وقد ذكرنا قصة أبى ذرّ فى غزوة تبوك، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده» وكان من خبره أنه خرج بعد وفاة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه إلى الشام، فلم يزل به حتى كانت خلافة عثمان بن عفان، فاستقدمه عثمان لشكوى معاوية، وأسكنه الرّبذة «1» ، فمات بها وصلّى عليه عبد الله بن مسعود، وكان قد أقبل من الكوفة فدعى إلى الصلاة عليه، فقال: من هذا؟ فقيل: أبو ذرّ، فبكى طويلا وقال: أخى وخليلى عاش وحده، ومات وحده، ويبعث وحده، طوبى له.
وذلك فى سنة ست وثلاثين من الهجرة. روى عن أبى ذرّ جماعة من الصحابة، وكان من أوعية العلم المبرّزين فى الزهد والورع والقول بالحق؛ سئل علىّ رضى الله عنه عن أبى ذرّ فقال: ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس، ثم أوكأ «2» عليه ولم يخرج شيئا منه. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ما أظلّت الخضراء «3» ولا أقلّت الغبراء من ذى لهجة «4» أصدق من أبى ذرّ» و «من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر «5» إلى تواضع أبى ذرّ» .
وفضائله كثيرة رضى الله عنه.
وذكر أبو عمر بن عبد البر فى خدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أسلع ابن شريك» الأعوجى التميمى خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصاحب راحلته، وأبو سلام الهاشمى، خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومولاه.(18/228)
ذكر موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال الشيخ «1» أبو محمد الدمياطى رحمه الله تعالى: ومواليه من الرجال أحد وثلاثون، وهم:
زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى
- وكان لخديجة فاستوهبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأعتقه، وقد تقدّمت أخباره ومقتله فى مؤتة «2» .
وأسامة بن زيد بن حارثة
- وأمه أمّ أيمن، بركة مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات أسامة فى خلافة معاوية، فى سنة ثمان وخمسين، وقيل:
سنة تسع، وقيل: سنة أربع وخمسين، وصححه أبو عمر. وكان عمره يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل:
ثمانى عشرة، وسكن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادى القرى، ثم رجع إلى المدينة فمات بالجرف.
وثوبان بن بجدد
- وكنيته أبو عبد الله على الأصح، وهو من أهل السّراة «3» ، والسراة موضع بين مكة واليمن، وقيل: من حمير، وقيل: إنه من حكم بن سعد العشيرة، أصابه سباء فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، ولم يزل معه فى السفر والحضر إلى أن توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إلى الشام فنزل الرّملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا: وتوفى بها سنة أربع وخمسين،(18/229)
وكان ممن حفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأدّى ما وعى. روى عنه جماعة من التابعين.
وأبو كبشة سليم
- شهد بدرا والمشاهد كلها، قيل: هو من فارس، وقيل: من مولّدى أرض دوس، وقيل: من مولّدى مكة، ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، وتوفى فى سنة ثلاث عشرة، فى اليوم الذى استخلف فيه عمر بن الخطاب، وقيل: توفى فى سنة ثلاث وعشرين، فى اليوم الذى ولد فيه عروة بن الزبير. والله تعالى أعلم.
وأنسة
- ويكنى أبا مسرح، ويقال أبو مسروح- وكان من مولّدى السّراة- اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. ذكره موسى بن عقبة فيمن شهد بدرا، وقال ابن إسحق: كان يأذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فيما حكاه مصعب الزبيرى، ومات فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.
وشقران
- واسمه صالح، وكان حبشيا، قيل: ورثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبيه وأعتقه بعد بدر، قيل: اشتراه من عبد الرحمن بن عوف وأعتقه، وقيل وهبه له فأعتقه وأوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته «1» .
ورباح
- وكان أسود نوبيّا اشتراه من وفد عبد القيس وأعتقه، قال أبو عمر:
وربما أذن على النبى صلّى الله عليه وسلّم أحيانا؛ إذا انفرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ عليه الإذن.
ويسار
- وكان نوبيّا أصابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته، وهو الذى قتله العرنيّون كما تقدّم.(18/230)
وأبو رافع
- واسمه أسلم، وقيل؛ إبراهيم، وكان عبدا للعباس، فوهبه للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فلما أسلم العباس بشّر أبو رافع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه، فأعتقه وزوّجه سلمى مولاته، فولدت له عبيد الله، وكان عبيد الله كاتبا لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه فى خلافته كلها، قيل: وخازنا أيضا.
ومات أبو رافع فى آخر خلافة عثمان بالمدينة، وقيل: فى خلافة علىّ، قيل:
وكان أبو رافع قبطيّا.
وأبو موبهبة
- وكان من مولّدى مزينة، اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه.
ورافع «1»
- قال الشيخ أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه ولده، فأعتقه بعضهم وتمسّك بعضهم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعينه فوهب له، فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد حكى أبو عمر ذلك فى أحد القولين عن أبى رافع المقدّم ذكره. والله أعلم.
وفضالة
- وهو مذكور فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال ابن عبد البر: لا أعرفه بغير ذلك، قيل: إنه مات بالشام.
ومدعم
- أسود، وهبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفاعة بن زيد الجذامى، وهو الذى قتل بوادى القرى، وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشّملة التى غلّها تشعل عليه نارا» «2» » .
وكركرة «3»
- وكان على بغلة النبى صلّى الله عليه وسلّم وكان نوبيّا أهداه له هوذة ابن على فأعتقه.(18/231)
وزيد
- وهو جد «1» بلال بن يسار بن زيد.
وعبيد، وطهمان
- موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف فى طهمان، فقيل: طهمان، وقيل: طهوان، وقيل: ذكوان، وأما عبيد فروى عنه سليمان التّيمى.
ومابور
- أهداه إليه المقوقس، وقيل: كان خصيّا.
وواقد، وأبو واقد «2» ، وهشام
، وهو الذى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يا رسول الله إن امرأتى لا تمنع يد «3» لامس، قال: «طلقها» قال: إنها تعجبنى.
قال: «فاستمع بها» .
وأبو ضميرة
- قيل: اسمه سعد الحميرىّ، قال البخارى: وقيل فى اسمه غير ذلك. وكان مما أفاء الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جد حسين ابن عبد الله بن ضميرة، وقيل: وكان من العرب فأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب له كتابا يوصى به فهو بيد ولده، قال أبو عمر: وقدم حسين ابن عبد الله بن ضميرة على المهدى بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيصاء بأبى ضميرة وولده، فوضعه المهدى على عينيه، ووصله بثلاثمائة دينار.
وحنين
- قال أبو عمر بن عبد البر: كان عبدا وخادما للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فوهبه لعمه العباس فأعتقه العباس قال: وقد قيل إنه مولى على بن أبى طالب، وعدّه الشيخ أبو محمد فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(18/232)
وأبو عسيب
- واسمه أحمر.
وأبو عبيدة «1» سفينة
- فكان عبد الأمّ سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدّة حياته، فقال: لو لم تشترطى علىّ ذلك ما فارقته، وكان اسمه رباح، وقيل: عمير، وقيل: رومان.
وقيل: مهران. قال الوافدى: وقال أبو عمر: مهران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير سفينة.
سمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سفينة بهذا الاسم؛ لأنه كان معه فى سفر؛ فكان كل من أعيا ألقى عليه متاعه سيفا أو ترسا، فمرّ النبى صلّى الله عليه وسلّم به فقال: «أنت سفينة» وكان أسود من مولّدى الأعراب.
وأبو هند
- وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حقه زوجوا أبا هند وتزوجوا إليه، قال أبو محمد: ابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من الحديبية وأعتقه.
وأنجشة
- وكان حاديا للجمال، وهو الذى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له «يا أنجشة رفقا بالقوارير «2» » .(18/233)
وأنيسة
- وكان حبشيا فصيحا شهد بدرا، وأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة.
وأبو لبابة
- كان لبعض عمّات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه، وهو معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ورويفع
- سباه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هوازن فأعتقه.
وسعد
- وهو الذى روى عنه أبو عثمان النهدى. ذكره أبو عمر بن عبد البر.
هؤلاء المشهورون من موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو محمد عبد المؤمن رحمه الله: وقد قيل إنهم أربعون، وزاد يوسف بن الجوزى:
أبا كندير، وسلمان الفارسى، وسالما، وسابقا- ذكره أبو عمر- خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وزيد بن رصولا «1» ، وعبيد الله بن أسلم، ونبيه:
وقيل فيه: النّبيه، وقيل النّبيه، بضم النون وفتحها، ووردان.
وذكر أبو عمر بن عبد البر فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة أخر، منهم أبو الحمراء واسمه هلال بن الحارث، ويقال: هلال بن ظفر، وأفلح، وذكوان، وفى اسمه خلاف، وأبو عبيد، له رواية، وأبو لقيط، وأبو السّمح أياد «2» ، وقيل: خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضميرة بن أبى ضميرة، قال أبو عمر:
مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمّ ضميرة وهى تبكى فقال: «ما يبكيك أجائعة أنت أم عارية» ؟ فقالت: يا رسول الله، فرق بينى وبين ابنى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرق بين والدة وولدها» ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فابتاعه منه.(18/234)
وكيسان، أو مهران
- واسمه هرمز يكنى أبا كيسان، اختلف فيه على عطاء ابن السائب، فقيل: كيسان، وقيل: طهمان، وقيل: ذكوان، وأبو بكرة نفيع ابن مسروح، وهو ابن سميّة جارية الحارث بن كلدة الثّقفى، معدود فى موالى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعتقه لما نزل إليه من حصن الطّائف، وأسلم فكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبى الناس إلا أن ينسبونى فأنا نفيع بن مسروح، وكنّاه رسول الله أبا بكرة؛ لأنه تدلّى إليه من بكرة من الحصن.
وأبو سلمى
- راعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل: اسمه حارث، فهؤلاء عشرة أخر لتكملة خمسين. والله أعلم.
ومن النساء ...
«1» : أمّ عياش «2» ، وأميمة «3» ؛ وأمّ رافع سلمى «4» ، وبركة أمّ أيمن «5» ، ومارية «6» ، وريحانة «7» ، وربيحة، وميمونة بنت [أبى «8» ] عسيب، وخضرة «9» ، ورضوى، وأمّ ضميرة «10» .
وذكر أبو عمر بن عبد البر أميمة لها رواية، وميمونة بنت أبى عنبسة غير ميمونة المذكورة آنفا، والله أعلم.(18/235)
ذكر حرّاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فى غزواته، وهم ثمانية: سعد بن معاذ حرسه يوم بدر حين نام بالعريش، وذكوان بن عبد الله بن قيس، ومحمد بن مسلمة الأنصارى حرسه بأحد، والزّبير ابن العوّام حرسه يوم الخندق، وعبّاد بن بشر، وسعد بن أبى وقّاص، وأبو أيّوب الأنصارىّ حرسه بخيبر ليلة بنى بصفيّة، وبلال حرسه بوادى القرى. ولما أنزل الله تعالى: «يأيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس «1» » ترك عند ذلك الحرس.
ذكر كتّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وهم: أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبىّ بن كعب، وثابت بن قيس بن شمّاس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدى، وزيد بن ثابت، ومعاوية ابن أبى سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية وزيد يكتبان الوحى.
قال الشيخ الإمام الفاضل محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى الخزرجى الأندلسى ثم القرطبى رحمه الله تعالى فى كتاب الأعلام له: والعلاء بن الحضرمى، قال: وكان المداويم على الكتابة زيد ومعاوية، قال: ويقال إن معاوية لم يكتب له من الوحى شيئا، وإنما كان يكتب إلى الأطراف، وكتب له عبد الله بن سرح ثم ارتدّ، فلما كان يوم الفتح أسلم وحسن إسلامه، وذكر القضاعى: وكان الزبير ابن العوّام وجهم بن سعد يكتبان أموال الصدقة، وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص النخل، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات.(18/236)
وذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أن كتابه عليه السلام ينتهون إلى ستة وعشرين، والله أعلم.
قال: وقد قدّمنا ذكر رسله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر رفقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
النّجباء وهم اثنا عشر: أبو بكر، وعمر، وحمزة، وعلىّ، وجعفر، وأبو ذرّ، والمقداد، وسلمان، وحذيفة، وابن مسعود، وعمّار بن ياسر، وبلال بن رباح.
وكان على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وعاصم بن «1» أبى الأقلح والمقداد، رضوان الله عليهم أجمعين يضربون الأعناق بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، وحيث ذكرنا من سيرته صلّى الله عليه وسلّم ما ذكرنا، فلنأخذ الآن فى ذكر صفاته الذاتية والمعنوية وأحواله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية
قد وردت الأخبار الصحيحة والمشهورة من حديث علىّ بن أبى طالب وأنس ابن مالك وأبى هريرة والبراء بن عازب وعائشة أمّ المؤمنين وابن أبى هالة وأبى جحيفة وجابر بن سمرة وأمّ معبد «2» وابن عباس، ومعرّض بن معيقيب وأبى الطّفيل، والعدّاء بن خالد وخريم بن فاتك وحكيم بن حزام، وغيرهم رضوان الله عليهم: أنه كان صلّى الله عليه وسلّم ربعة «3» من القوم: لا بائن «4» من طول، ولا تقتحمه «5» عين من قصر،(18/237)
غصن بين غصنين، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مشرب حمرة، وفى رواية أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق «1» ، ولا بالآدم، له شعر رجل «2» ، يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، وإذا قصر إلى أنصافهما، لم يبلغ شيبه فى رأسه ولحيته عشرين شعره، كأن عنقه جيد «3» دمية، فى صفاء الفضّة، وظاهر الوضاءة «4» مبلج «5» الوجه، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله، لم تعبه ثجلة «6» ولم تزر به صعلة «7» ، وسيما قسيما «8» ، فى عينيه دعج «9» ، وفى بياضهما عروق رقاق حمر، وفى أشفاره غطف «10» ، وفى صوته صهل «11» ، وروى صحل، وفى عنقه سطع «12» ، وفى لحيته كثاثة «13» ، إذا صمت فعليه الوقار «14» ، وإن تكلم سما «15» وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد،(18/238)
وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق «1» فصل: لا نزر ولا هذر «2» كأنّ منطقه خرزات «3» نظم ينحدرن، واسع الجبين «4» ، أزجّ»
الحواجب فى غير قرن، بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى «6» العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ «7» ، سهل «8» الخدّين، ضليع «9» الفم، أشنب «10» ، مفلّج «11» الأسنان، دقيق المسربة «12» ، من لبّته «13» إلى سرّته شعر يجرى كالقضيب، ليس فى بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، بادن «14» متماسك، سواء «15» سواء الصدر والبطن، سبيح «16» الصدر، ضخم الكراديس «17» ، أنور المتجرّد «18»(18/239)
عريض الصدر، طويل الزّندين، رحب الراحة، شثن «1» الكفّين والقدمين، سائل الأطراف، سبط «2» القصب، خمصان «3» الأخمصين؛ مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا «4» ، وفى رواية: إذا مشى يقلع- كناية عن قوّة الخطو كالذى يمشى فى طين- ويخطو تكفّيا «5» ويمشى هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، بين كتفيه خاتم النبوّة كأنه زرّ «8» حجلة أو بيضة حمامة، لونه كلون جسده عليه خيلان «9» ، كأن عرقه الّلؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر «10» ، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلّى الله عليه وسلّم، قال البراء: ما رأيت من ذى لمّة «11» في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنّ الشمس تجرى فى وجهه، وإذا ضحك يتلألأ فى الجذر «12» ،(18/240)
وقال جابر بن سمرة، وقد قال له رجل كأنّ وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل السيف، فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر. وكان مستديرا، وكان عمر بن الخطاب ينشد قول زهير بن أبى سلمى فى هرم بن سنان:
لو كنت من شىء سوى بشر ... كنت المضىء لليلة «1» البدر
ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن كذلك غيره. وفيه عليه السلام يقول عمه العباس «2» رضى الله عنه وأرضاه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل «3»
تطيف به الهلّاك من آل هاشم ... فهم عنده فى نعمة وفضائل «4»
وميزان حقّ لا يخيس شعيرة ... ووزّان عدل وزنه غير عائل «5»(18/241)
ذكر صفة خاتم النبوّة الذى كان بين كتفى النبى صلّى الله عليه وسلّم
روى عن جابر بن سمرة. وقد وصف النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ورأيت خاتمه عند كتيفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسمه، وعن أبى رمثة قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا رمثة ادن منّى امسح ظهرى» فدنوت منه «1» فمسحت ظهره، ثم وضعت أصابعى على الخاتم فغمزتها «2» ، فقيل له: وما الخاتم؟
فقال: شعر مجتمع عند كتفيه. وعنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالتفت فإذا خلف كتفيه مثل النّفّاخة «3» ، قلت: يا رسول الله، إنى أداوى فدعنى حتى أبطّها «4» وأداويها، قال: «طبّبها الذى خلقها» . وعنه من طريق آخر قلت: يا رسول الله إنى طبيب من أهل بيت أطبّاء، وكان أبى طبيبا فى الجاهلية، معروفا ذلك لنا فأذن لى فى التى بين كتفيك، فإن كانت سلعة «5» بططتها فشفا الله نبيه؛ فقال: «لا طبيب لها إلا الله» وهى مثل بيضة الحمامة.
ذكر صفة شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطوله
روى عن أبى إسحق قال: سمعت البراء يصف شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان شعره إلى شحمة أذنيه. وعنه قال: سمعت البراء يقول:
ما رأيت أحدا من خلق الله أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،(18/242)
إن جمّته لتضرب قريبا من منكبيه، وفى لفظ، من عاتقيه. وعن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك كيف كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان شعرا رجلا ليس بالسّبط ولا بالجعد بين أذنيه وعاتقه. وعن أنس: كان لا يجاوز شعره أذنيه، وعنه: كان إلى أنصاف أذنيه. وعن على رضى الله عنه قال:
كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق الوفرة «1» ودون الجمّة. وعن أمّ هانئ قالت: رأيت فى رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضفائر أربعا. وعنها قالت:
رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة وله أربع غدائر. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير شعر اللحية «2» . وعن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد على قصاص «3» شعره.
ذكر عدد شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن قال إنه خضب
روى عن حميد الطويل قال: سئل أنس بن مالك هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما شانه الله بالشّيب، وما كان فيه من الشّيب ما يخضب، إنما كانت شعرات فى مقدّم لحيته، ولم يبلغ الشّيب الذى كان به عشرين شعرة.
وفى رواية عن أنس أيضا: ما كان فى رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة.
وعن جابر بن سمرة، وقد سئل عن شيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
كان إذا دهن رأسه لم يتبيّن، وإذا لم يدهنه تبيّن. وعن محمد بن واسع؛ قيل:(18/243)
يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشّيب، فقال: «شيبتنى الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
«1» وأخواتها» . وعن أبى سلمة؛ قيل: يا رسول الله، نرى فى رأسك شيبا، قال: «مالى لا أشيب وأنا أقرأ هودا وإذا الشّمس كوّرت «2» » وفى رواية «وما فعل بالأمم قبلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال أبو بكر: أراك قد شبت يا رسول الله، قال: «شيبتنى هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوّرت» ومن رواية «وأخواتها اقتربت السّاعة، والمرسلات وإذا الشّمس كوّرت» وفى رواية أخرى عن أنس قال قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه:
بأبى وأمى يا رسول الله، وما أخواتها «3» ؟ قال: «الواقعة والقارعة وسأل سائل وإذا الشّمس كوّرت» هذا ما رأيناه مما ورد فى شيبه وسببه.
وأما من قال إنه خضب صلّى الله عليه وسلّم
فقد روى عن عبد الله بن موهبة «4» قال: دخلنا على أمّ سلمة رضى الله عنها، فأخرجت إلينا صرّة فيها شعر من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مخضوبا بالحنّاء والكتم «5» . وعن ربيعة بن أبى عبد الرحمن قال: رأيت شعرا من شعره- يعنى النبى صلّى الله عليه وسلّم- فإذا هو أحمر، فسألت عنه فقيل لى: أحمر من الطّيب.
وعن أبى جعفر قال: شمط «6» عارضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخضبه بحنّاء وكتم،(18/244)
وعن أبى رمثة أنه وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ذو وفرة وبها ردع «1» من حنّاء، وكان عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يصفّر لحيته بالخلوق «2» ، ويحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر، وعن عبد الرحمن الثّمالى قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغيّر لحيته بماء السّدر، ويأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم.
هذا ما أمكن إيراده من صفاته الذاتية، وسنذكر إن شاء الله بعد ذكر صفاته المعنوية، حديث هند بن أبى هالة؛ لجمعه بين صفاته الذاتية والمعنوية.
ذكر صفات رسول الله المعنوية صلّى الله عليه وسلّم
وما ورد فى أكله وشربه، ونومه وضحكه وعبادته ونكاحه، وخلقه وحلمه واحتماله، وعفوه وصبره على ما يكره، وجوده وكرمه. وسخائه وسماحته، وشجاعته ومجدته، وحيائه وإغضائه، وحسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه، وشفقته ورأفته ورحمته، ووفائه وحسن عهده، وصلته للرحم، وتواضعه وعدله وأمانته وعفّته، وصدق لهجته، ووقاره وصمته وتؤدته «3» ، ومروءته، وحسن هديه وزهده وخوفه ربه تعالى، وطاعته له وشدة عبادته صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.(18/245)
فأما ما ورد فى أكله وشربه ونومه وضحكه وعبادته
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ من الأكل والشرب بالأقل، واعتمد من ذلك على ما يمسك الرّمق ويسدّ الخلّة، وقد جاءت الأخبار الصحيحة بذلك، ولم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلتهما وتذم بكثرتهما؛ لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم والحرص والشّره، وقلة ذلك دليل على القناعة وملك النفس وقمع الشهوة. وقد روينا بإسناد متصل عن المقدام بن معدى كرب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» . ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقد روى عنه عليه السلام أنه كان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف؛ أى كثرة الأيدى «1» . وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لم يمتلئ جوف النبى صلّى الله عليه وسلّم شبعا قط، وإنه كان فى أهله ولا يسألهم طعاما ولا يتشهاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب.
قال أهل العلم: ولا يعترض على هذا بحديث بريرة، وقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«ألم أر البرمة فيها لحم» ؟ إذ لعل سبب سؤاله ظنّه اعتقادهم أنه لا يحل له، فأراد بيان سنته، إذ رآهم لم يقدّموا إليه مع علمه أنهم لا يستأثرون به عليه، فصدق عليهم ظنه، وبين لهم ما جهلوه من أمره، بقوله: «هو لها صدقة ولنا هدية» . وكان جلوسه صلّى الله عليه وسلّم للأكل جلوس المستوفز «2» ، مقعيا، ويقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» . وفى حديث صحيح قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنا فلا آكل متكئا» وليس معنى الاتّكاء(18/246)
عند المحققين الميل على شقّ، وإنما الاتكاء هو التمكن للأكل، والتقعدد فى الجلوس له، كالمترّبع وشبهه من تمكن الجلسات التى يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعى الأكل ويستكثر منه، وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع الطّعام من بين يديه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين» . وفى رواية يقول: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مودّع «1» ولا مستغنى عنه ربّنا» . وكان لا يأكل على خوان «2» ، ولا يمتنع من مباح، ولا يتأنّق فى مأكل، يأكل ما وجد، إن وجد تمرا أكله، أو خبزا أكله أو شواء أكله، وإن وجد لبنا اكتفى به، ولم يأكل خبزا مرقفا «3» ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخبز بالخل وقال: «نعم الإدام الخل» وأكل لحم الدجاج ولحم الحبارى «4» .
وكان يحب الدّبّاء «5» ويأكله، ويعجبه الذّراع من الشاة، وقال: «إن أطيب اللحم لحم الظّهر» وقال: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة» وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهنّ، وأكل صلّى الله عليه وسلّم خبز الشعير بالتمر، وقال:
«هذا أدم هذا» وأكل البطيخ بالرّطب والقثّاء بالرّطب والتّمر بالزّبد، وكان يحب الحلواء والعسل، وكان يشرب قاعدا، وربما شرب قائما، ويتنفس ثلاثا وإذا فضلت منه فضلة وأراد أن يسقيها بدأ بمن عن يمينه، وشرب صلّى الله عليه وسلّم لبنا، وقال: «من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» وقال: «ليس شىء يجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن» .(18/247)
وأما نومه صلّى الله عليه وسلّم
فكان قليلا، جاءت بذلك الآثار الصحيحة، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عينىّ تنامان ولا ينام قلبى» وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا على قلة النوم لأن النوم على الجانب الأيسر أهنأ؛ لهدوّ القلب وما يتعلق به من الأعضاء الباطنة؛ لميلها إلى الجانب الأيسر، فيستدعى ذلك الاستثقال فيه والطول، وإذا نام النائم على الجانب الأيمن تعلق القلب وقلق، فأسرع الإفاقة ولم يغمره الاستغراق. وكان صلّى الله عليه وسلّم ينام أول الليل ثم يقوم من السّحر، ثم يوتر ثم يأتى فراشه، فإذا سمع الأذان وثب، وكان إذا نام نفخ، ولا يغطّ غطيطا، وإذا رأى فى منامه ما يروعه قال: «هو الله لا شريك له» وإذا أخذ مضجعه وضع كفّه اليمنى تحت خدّه، وقال: «ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك» وكان يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا» وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» .
وأما ضحكه صلّى الله عليه وسلّم
فكان جلّه التّبسم، وربما ضحك من شىء معجب حتى تبدو نواجذه من غير قهقهة صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبارته صلّى الله عليه وسلّم فكان أفصح الناس، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، يباريها فى منزع بلاغتها، وقد تقدم من كلامه فى كتبه إلى ملوك اليمن وغيرها ما يدل على ذلك، وإن كان ذلك لا يحتاج فيه إلى إقامة دليل بعد أن أنزل القرآن بلغته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلم بيّن كلامه حتى يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه،(18/248)
ويخزن لسانه لا يتكلم فى غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان يتمثّل بشىء من الشّعر ويتمثل بقوله «1» :
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وبغير ذلك، صلّى الله عليه وسلّم.
وأما النكاح وما يتعلق به
فهو مما يكثر التّمدح بكثرته وذلك؛ لأنه دليل الكمال وصحة الذكورية، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية وسنة مأثورة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أفضل هذه الأمة أكثرها نساء. مشيرا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «تناكحوا «2» فإنى مباه بكم الأمم» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن أقدره الله تعالى على ذلك وحببه له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه فى الساعة من الليل «3» والنهار، وهنّ إحدى «4» عشرة، رواه أنس، قال: وكنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين، خرّجه النّسائى. وعن طاوس: أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوة أربعين رجلا فى الجماع، ومثله عن صفوان بن سليم. وقالت سلمى مولاته: طاف النبى صلّى الله عليه وسلّم ليلة على نسائه التسع، ويطهر من كل واحدة قبل أن يأتى الأخرى. وقال:
«هذا أطهر وأطيب» .(18/249)
وأما خلقه صلّى الله عليه وسلّم
فقد قال الله عز وجل فيه مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»
«1» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن يرضى برضاه ويسخط بسخطه، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» قال علىّ وأنس رضى الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم- فيما ذكره المحققون- مجبولا على ذلك فى أصل خلقته وأوّل فطرته، لم يحصل ذلك له باكتساب ولا رياضة، إلا بجود إلهى وخصوصيّة ربانيّة، ومن طالع سيرته منذ صباه وإلى آخر عمره، حقّق ذلك وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
وأما حلمه واحتماله وعفوه
مع القدرة، والصبر على ما يكره، فقد جعلوا بين هذه الألقاب فرقا، فقالوا:
الحلم حالة توقير وثبات عند الأسباب المحرّكات، والاحتمال حبس النفس عند الآلام والمؤذيات، ومثله الصبر، ومعانيها متقاربة، وأما العفو فهو ترك المؤاخذة، وهذا كله مما أدّب الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» »
روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالم، ثم ذهب فأتاه فقال: «يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك» . وقال تعالى مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ(18/250)
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1» »
وقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» »
. وقد روى فى حلمه واحتماله وعفوه وصبره أحاديث كثيرة وقصص مشهورة، قد تقدم منها فى أخباره، فى أثناء هذه السيرة جملة كافية، ونحن نشير الآن فى هذا الموضع إليها، وننبّه فى هذه الترجمة عليها، منها قصة أحد حين ناله من أذى كفار قريش ما ناله مما قدمنا ذكره، فشق ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله، لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعّانا ولكنّى بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه قال فى بعض كلامه:
بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: «ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين»
ديّارا» ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . ومنها قصتا غورث «4» بن الحارث، ودعثور بن الحارث حين أرادا أن يفتكا به، وأظفره الله بهما، وأمكنه منهما فعفا عنهما، كما تقدم ذكر ذلك فى غزوتى غطفان وذات الرّقاع، ومنها عفوه عن الذين هبطوا عليه فى عمرة الحديبية، وأرادوا قتله فأخذوا فأعتقهم صلّى الله عليه وسلم، ومنها صفحه عن قريش حين أمكنه الله منهم يوم الفتح، وهم لا يشكون فى استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم؛ لما تقدم من أذاهم له، فمازاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون إنى فاعل بكم» قالوا: خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «أقول كما قال أخى(18/251)
يوسف «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»
«1» . ومما لم نذكره فيما أتينا عليه من سيرته صلّى الله عليه وسلّم، ما ورد فى الحديث الصحيح من قول الرجل له: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فلم يزده صلّى الله عليه وسلم فى جوابه إلا أن بين له ما جهله، ووعظ نفسه وذكّرها بما قال له، فقال: «ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» ونهى من أراد قتله من أصحابه. ومنه ما روى عن أنس رضى الله عنه قال: كنت مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابىّ بردائه جبذة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد فى صفحة عاتقه. ثم قال: يا محمد، احمل لى على بعيرىّ هذين من مال الله الذى عندك، فإنك لا تحمل لى من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده» ثم قال: «ويقاد «2» منك يا أعرابى ما فعلت بى» ؟ قال: لا، قال «لم» ؟ قال:
لأنك لا تكافئ بالسّيئة السّيئة، فضحك النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.
ومنه خبر زيد بن سعنة «3» حين أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل إسلامه، وكان من أحبار يهود، فجاءه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له، ثم قال: إنكم يا بنى عبد المطلب مطل «4» فانتهره عمر بن الخطاب رضى الله عنه وشدّد له فى القول، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم، فقال رسول الله(18/252)
صلى الله عليه وسلّم: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر، تأمرنى بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضى» ثم قال: «لقد بقى من أجله ثلاث» وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روّعه، فكان سبب إسلامه؛ وذلك أنه كان يقول: ما بقى من علامات النبوّة شىء إلا وقد عرفتها فى محمد إلا اثنتين؟ لم أخبرهما؛ يسبق حلمه جهله «1» ، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما؛ فاختبرته بهذا فوجدته كما وصف. والحديث عن حلمه وصبره وعفوه كثير؛ روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ ما لم تكن حرمة من محارم الله، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن مجاهد فى سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة. وجىء إليه برجل فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تراع «2» لن تراع ولو أردت ذلك لم تسلّط علىّ» صلّى الله عليه وسلّم.
وأما جوده وكرمه وسخاؤه وسماحته صلّى الله عليه وسلّم
ومعانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب النفس فيما يعظم خطره ونفعه- وسموه أيضا حرّية «3» - وهو ضدّ النّذالة. والسّماحة: التّجافى عما يستحقه المرء عند غيره بطيب نفس، وهو ضد الشّكاسة. والسّخاء: سهولة الإنفاق وتجنّب اكتساب ما لا يحمد، وهو الجود، وهو ضد التّقتير؛ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأرفع، بهذا جاءت الأحاديث الصحيحة، منها ما رويناه فى صحيح البخارىّ عن ابن المنكدر(18/253)
قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ما سئل النبى صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقال لا.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وأجود ما كان فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل عليهما السلام أجود بالخير من الرّيح المرسلة. وعن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى بلده وقال: أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة. وقد ذكرنا ما أعطاه صلّى الله عليه وسلّم من غنائم هوازن.
وأخباره صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك كثيرة، وعطاياه فاشية، لو استقصيناها لطال بها التأليف، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم. فإن فضل ولم يجد من يعطيه وفجئه «1» الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عاما فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك فى سبيل الله، ثم يؤثر «2» من قوت أهله حتى يحتاج قبل انقضاء العام؛ صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
وأما شجاعته ونجدته صلّى الله عليه وسلّم
فقد قالوا: الشّجاعة فضيلة قوة الغضب، وانقيادها للعقل، والنّجدة:
ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يحمد فعلها دون خوف؛ فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم منهما بالمكان الذى لا يجهل، قد شهد المواقف الصّعبة، وفرّ الكماة والأبطال عنه، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، وقد قدّمنا من أخباره وثباته وحملاته فى يومى أحد وحنين ما تقف عليه هناك. وقد روينا بإسناد متّصل عن البراء، وقد سأله رجل: أفررتم يوم حنين عن رسول الله(18/254)
صلى الله عليه وسلّم؟ قال: لكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، ثم قال:
لقد رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا النبىّ لا كذب» وزاد غيره «أنا ابن عبد المطلب» قيل: فمارىء يومئذ أحد كان أشد منه. وقال غيره: نزل النبى صلّى الله عليه وسلّم عن بغلته.
وذكر مسلم عن العباس قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفّها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه، ثم نادى يا للمسلمين «1» .
الحديث. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: إنا كنا إذا حمى البأس- ويروى اشتدّ البأس- واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا.
وقيل: كان الشجاع الذى يقرب منه صلّى الله عليه وسلّم إذا دنا العدوّ لقربه منه.
وعن أنس قال: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس؛ لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصّوت، فتلقاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبراء «2» الخبر، على فرس لأبى طلحة عرى «3» ، والسّيف فى عنقه، وهو يقول: «لن تراعوا» «4» . وقال عمران ابن حصين: ما لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أول من يضرب.(18/255)
وأما حياؤه وإغضاؤه صلّى الله عليه وسلّم
والحياء: رقّة تعترى وجه الإنسان عند فعل ما يتوقّع كراهته أو ما يكون تركه خيرا من فعله. والإغضاء: التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء، وقد أخبر الله تعالى بحيائه فقال: «إنّ ذلكم كان يؤذى النّبىّ فيستحيى منكم» «1» وعن أبى سعيد الخدرىّ:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء فى خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه فى وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يشافه أحدا بما يكره حياء وكرم نفس. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا، ولكن يقول: «ما بال أقوام يصنعون- أو يقولون- كذا» ينهى عنه ولا يسمّى فاعله. وروى أنس رضى الله عنه أنه دخل عليه رجل به أثر صفرة، فلم يقل له شيئا- وكان لا يواجه أحدا بما يكره- فلما خرج قال: «لو قلتم له يغسل هذا» ويروى «ينزعها» .
وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد، وأنه كان يكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره، صلّى الله عليه وسلّم.
وأما حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلّى الله عليه وسلّم
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس عشرة، وأكثرهم أدبا، وأبسطهم خلقا مع أصناف الخلق، انتشرت بذلك الأخبار الصحيحة، منها ما رويناه بسند متصل عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر قصة فى آخرها، فلما أراد الانصراف قرب له سعد حمارا(18/256)
ووطّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سعد: يا قيس، أصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال قيس: فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اركب» فأبيت، فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» فانصرفت، وفى رواية أخرى: «اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدّمها» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدع أحدا يمشى معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال:
«تقدّمنى إلى المكان الذى تريد» وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا عريا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: «يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» وكان فى أبى هريرة ثقل، فوثب ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم ركب صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» فلم يقدر على ذلك، فتعلق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا، ثم قال:
«يا أبا هريرة أحملك» ؟ فقال: لا، والذى بعثك بالحق لا صرعتك ثالثا. وكان لا يدع أحدا يمشى خلفه ويقول: «خلوا ظهرى للملائكة» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه، يتفقّد أصحابه، ويعطى كلّ جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده فى الحق سواء، هكذا وصفه ابن أبى هالة، قال: وكان دائم البشر سهل الخلق ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «1» ولا فحّاش،(18/257)
ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعا «1» ، ويكافئ عليها، قال أنس:
خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين فما قال لى أفّ قطّ، وما قال لشىء صنعته لم صنعته، ولا لشىء تركته لم تركته، ومن رواية أخرى عنه قال: خدمته نحوا من عشر سنين فو الله ما صحبته فى سفر ولا حضر لأخدمه إلا وكانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أفّ قطّ، ولا قال لشىء فعلته لم فعلت كذا، ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلت كذا؟. وكان صلّى الله عليه وسلّم فى بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله، علىّ ذبحها، وقال آخر: علىّ سلخها، وقال آخر: علىّ طبخها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعلىّ جمع الحطب» قالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال: «علمت أنكم تكفونى ولكنى أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه مميزا بين أصحابه» وقام فجمع الحطب.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: «لبيك» وكان يمازج أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى فى أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، قال أنس: ما التقم «2» أحد أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينحّى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحّى رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدى جليس له، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يرقط مادا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على(18/258)
أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التى تحته، ويعزم عليه فى الجلوس عليها إن أبى، ويكنّى أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوّز فيقطعه بنهى أو قيام، ويروى:
بانتهاء أو قيام، ويروى: أنه كان لا يجلس إليه أحد وهو يصلى إلا خفّف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد، إلى صلاته، وكان أكثر الناس تبسّما، وأطيبهم نفسا، ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب.
وأما شفقته ورأفته ورحمته صلّى الله عليه وسلّم لجميع الخلق
فقد أخبر الله تعالى بذلك ووصفه بهذه الأوصاف؛ فقال تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ «1» بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ»
وقال تعالى: «2» وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين» فكان من شفقته على أمته صلّى الله عليه وسلّم تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهته أشياء مخافة أن تفرض عليهم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمتى لأمرتهم بالسّواك مع كل وضوء» وخبر صلاة «3» الليل، ونهيهم عن الوصال، وكراهيته دخول الكعبة لئلا يعنت «4» أمّته، ورغبته لربه أن يجعل سبّه ولعنه لهم رحمة، وأنه كان يسمع بكاء الصّبى فيتجوّز «5» فى صلاته. ومن شفقته صلّى الله عليه وسلّم أن دعا ربه وعاهده فقال: «أيّما رجل سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة وصلاة «6» وطهورا وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» . ومن ذلك أنه لما كذّبه قومه أتاه جبريل عليه السلام فقال له:(18/259)
إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلّم عليه، فقال: مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق «1» عليهم الأخشبين، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» . وروى ابن المنكدر: أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: إن الله أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، فقال: «أؤخّر عن أمتى لعل الله أن يتوب عليهم» . ومن ذلك ما روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبلغنى أحد منكم عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» . وقال ابن مسعود: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخوّلنا «2» بالموعظة مخافة السّآمة علينا، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.
وأما وفاؤه وحسن عهده وصلته للرحم صلّى الله عليه وسلّم
فكان صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من ذلك الغاية التى لا يدرك شأوها، ولا يبلغ مداها، ولا يطمع طامع سواه بالاتّصاف بها، جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، من ذلك ما رويناه بإسناد متّصل عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبى صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها فى مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو فى مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت علىّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» . وعن أنس رضى الله عنه قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى بهدية قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة» . وعن عائشة(18/260)
أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة؛ لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها «1» ، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: «إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد «2» من الإيمان» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن آل أبى فلان ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلّها ببلالها «3» » . وعن أبى قتادة قال: وفد وفد للنجاشى، فقام النبى صلّى الله عليه وسلّم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: «إنهم لأصحابنا مكرمين وإنى أحبّ أن أكافئهم» . ولما جىء بالشّيماء أخته من الرضاعة فى سبايا هوزان وتعرفت له، بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت أقمت عندى مكرّمة محبّة أو متّعتك ورجعت إلى قومك» فاختارت قومها فمتعها. وقال أبو الطّفيل: رأيت النبى صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت من هذه؟ قالوا: أمه التى أرضعته. وعن عمرو «4» بن السائب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرّضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجلسه بين يديه. وكان يبعث إلى ثوبية مولاة أبى لهب مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل من بقى من قرابتها فقيل: لا أحد. وفى حديث خديجة رضى الله عنها(18/261)
أنها قالت له صلّى الله عليه وسلّم فى ابتداء النبوّة: أبشر فو الله لا يخزيك «1» الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ «2» ، وتكسب «3» المعدوم، وتقرى الضّيف، وتعين على نوائب «4» الحقّ.
وأما تواضعه صلّى الله عليه وسلّم مع علوّ منصبه ورفعة مرتبته
فكان صلّى الله عليه وسلّم أشدّ الناس تواضعا، وأقلهم كبرا، وقد جاء أنه خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا، أو نبيّا عبدا، فاختار أن يكون نبيّا عبدا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشقّ الأرض عنه، وأول شافع. ومما رويناه بسند متّصل عن أبى أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوكّئا على عصا، فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» . وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد» وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيث ما انتهى به المجلس جلس، وعن أنس: أن امرأة كان فى عقلها شىء جاءته فقالت: إن لى إليك حاجة، قال: «اجلسى يا أمّ فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك» قال: فجلست فجلس النبى صلّى الله عليه وسلّم إليها حتى فرغت من حاجتها. قال أنس: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رحل رثّ وعليه قطيفة ما تساوى أربعة دراهم، فقال:(18/262)
«اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» . هذا وقد أهدى فى حجه ذلك مائة بدنة، ولما فتحت عليه مكة دخلها وقد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد يمسّ قادمته تواضعا لله تعالى.
ومن تواضعه صلّى الله عليه وسلّم أنه لما دخل مكة جاءه أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه بأبيه ليسلم فقال: «لم عنّيت «1» الشيخ يا أبا بكر ألا تركته حتى أكون أنا آتيه فى منزله» وقد تقدّم ذكر ذلك فى الفتح. وعن عائشة والحسن وأبى سعيد وغيرهم رضى الله عنهم، فى صفته صلى الله عليه وسلّم، وبعضهم يزيد على بعض، أنه كان صلّى الله عليه وسلّم فى بيته فى مهنة «2» أهله، يفلى «3» ثوبه، ويحلب شاته، ويرقّع ثوبه، ويخصف «4» نعله، ويخدم نفسه، ويقمّ «5» البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه «6» ، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها ويحمل بضاعته من السّوق. وعن أنس:
أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضى حاجتها. ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له: «هوّن عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «7» .
وعن أبى هريرة قال: دخلت السّوق مع النبى صلّى الله عليه وسلّم فاشترى سراويل، وقال للوزّان «زن وأرجح» وذكر القصّة، قال: فوثب إلى يد النبى صلّى الله عليه وسلّم يقبّلها فجذب يده، وقال: «هذا يفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما(18/263)
أنا رجل منكم» ثم أخذ السّراويل فذهبت لأحمله فقال: «صاحب الشىء أحق بشيئه أن يحمله» . وقد ذكر الأمين العاصمىّ بعض ذلك فى قصيدة له فقال:
يا جاعلا سنن النبى ... شعاره ودثاره «1»
متمسّكا بحديثه ... متتبّعا أخباره
سنن الشّريعة خذ بها ... متوسّما «2» آثاره
وكذا الطريقة فاقتبس ... فى سبلها أنواره
قد كان يقرى «3» ضيفه ... كرما ويحفظ جاره
ويجالس المسكين يؤ ... ثر قربه وجواره
الفقر كان رداءه ... والجوع كان شعاره
يلقى بغرّة «4» ضاحك ... مستبشرا زوّاره
بسط الرّداء كرامة ... لكريم قوم زاره
ما كان مختالا ولا ... مرحا «5» يجرّ إزاره
قد كان يركب بالرّدد ... فمن الخضوع حماره
فى مهنة «6» هو أو صلا ... ة ليله ونهاره
فتراه يحلب شاة من ... زله ويوقد ناره
ما زال كهف مهاجري ... هـ ومكرما أنصاره
برّا بمحسنهم مقي ... لا للمسىء عثاره
يهب الذى تحوى يداه ... لطالب إيثاره(18/264)
زكّى عن الدنيا الدّن ... يّة ربّه مقداره
جعل الإله صلاته ... أبدا عليه نثاره «1»
فاختر من الأخلاق ما ... كان الرسول اختاره
لتعدّ سنّيّا وتو ... شك أن تبوّأ «2» داره
وأما عدله وأمانته وعفّته وصدق لهجته صلّى الله عليه وسلّم
فكان صلّى الله عليه وسلّم أعدل الناس، وآمن الناس، وأعفّ الناس، وأصدق الناس لهجة منذ كان، وكان يسمى قبل نبوّته الأمين، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم:
«والله إنى لأمين فى السماء أمين فى الأرض» وقد صدّقه عداه فى مواطن كثيرة تقدّم ذكرها، وقد قدّمنا قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل: «ويحك إن لم أعدل فمن يعدل خبت وخسرت إن لم أعدل» . وقال ابن خالويه: جزّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهاره ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامّة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغى فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع أمّنه الله يوم الفزع الأكبر» . وعن الحسن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يأخذ أحدا بقرف «3» أحد ولا يصدّق أحدا على أحد» صلّى الله عليه وسلّم، ولم تمس يده امرأة قطّ لا يملك رقّها أو نكاحها أو تكون ذات محرم» .(18/265)
وأما وقاره وصمته وتؤدته ومروءته وحسن هديه صلّى الله عليه وسلّم
فقد روينا بإسناد متّصل عن خارجة بن زيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوقر الناس فى مجلسه لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. وروى أبو سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس فى المجلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا «1» . وعن جابر بن سمرة: أنه تربّع، وربما جلس القرفصاء «2» ، وكان كثير السّكوت، لا يتكلم فى غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسّما وكلامه فصلا «3» لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم توقيرا له واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «4» فيه الحرم، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطّير. وفى صفته: يخطو تكفّؤا «5» ويمشى هونا «6» كأنما ينحطّ من صبب. «7»
وفى الحديث الآخر: «إذا مشى مشى مجتمعا، يعرف فى مشيته أنه غير غرض ولا وكل؛ أى غير ضجر ولا كسلان. وقال عبد الله بن مسعود: إنّ أحسن الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن عبد الله: كان فى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترتيل «8» أو ترسيل، قال ابن أبى هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم،(18/266)
والحذر، والتقدير، والتفكر. وقالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحب الطّيب والرائحة الحسنة ويحض عليها ويقول: «حبّب إلى من دنياكم النّساء، والطّيب وجعلت قرّة عينى فى الصلاة» . ومن مروءته صلّى الله عليه وسلّم نهيه عن النفخ فى الطعام والشراب، والأمر بالأكل مما يلى، والأمر بالسّواك، وإنقاء البراجم «1» والرّواجب، واستعمال خصال الفطرة «2» . صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين.
وأما زهده فى الدنيا صلّى الله عليه وسلّم
فحسبك من ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم توفّى ودرعه مرهونة عند يهودىّ فى نفقة عياله، بعد أن فتح الله عليه من الفتوحات ما ذكرناه، وآتاه من الأخماس والصفايا «3» ما قدمناه، فآثر «4» بذلك كله، وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا «5» » وسنذكر إن شاء الله تعالى فى أحواله ما ناله من شدّة العيش والجوع ما تقف عليه هناك.
قالت عائشة رضى الله عنها: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما فى بيتى شىء يأكله ذو كبد إلا شطر «6» شعير فى رفّ لى، وقال لى: «إنّى عرض علىّ أن تجعل لى(18/267)
بطحاء مكة ذهبا، فقلت لا يا ربّ أجوع يوما وأشبع يوما، فأمّا اليوم الذى أجوع فيه فأتضرّع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذى أشبع فأحمدك وأثنى عليك» .
وفى حديث آخر: «إن جبريل عليه السلام نزل عليه فقال له: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا، وتكون معك حيثما كنت؟» فأطرق ساعة ثم قال: «يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له قد يجمعها من لا عقل له» فقال له جبريل: ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت.
صلّى الله عليه وسلّم.
وأما خوفه ربّه، وطاعته له، وشدّة عبادته صلّى الله عليه وسلّم
فكان ذلك على قدر علمه بربه تبارك وتعالى؛ ولذلك قال فيما رويناه بسند متصل عن سعيد بن المسيّب: إن أبا هريرة كان يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . ومن رواية عن أبى عيسى الترمذىّ عن أبى ذرّ: «إنى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء «1» وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله واضع جبهته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات «2» تجأرون إلى الله، لوددت أنى شجرة تعضد «3» » . روى هذا الكلام: «وددت أنى شجرة تعضد» من قول أبى ذر(18/268)
نفسه وهو أصح. وفى حديث آخر: صلّى رسول الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه. وفى رواية: كان يصلى حتى ترم قدماه، فقيل له أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟، قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» .
وقالت عائشة رضى الله عنها: كان عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديمة «1» ، وأيّكم يطيق ما كان يطيق. وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه فى شعبان. وقال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فاستاك ثم توضأ ثم قام فصلى فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمرّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه يقول: «سبحان ذى الجبروت والملكوت والعظمة» ثم سجد، وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك. وعن حذيفة مثله، وقال: سجد نحوا من قيامه، وجلس بين السجدتين نحوا منه، وقال: حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة. وعن عبد الله بن الشّخّير قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولجوفه أزيز كأزيز «2» المرجل. وقال ابن أبى هالة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة، وروى سبعين مرة. وعن علىّ(18/269)
ابن أبى طالب رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالى، والعقل أصل دينى، والحبّ أساسى، والشوق مركبى، وذكر الله أنيسى، والثقة كنزى، والحزن رفيقى، والعلم سلاحى، والصّبر زادى، والرّضا غنيمتى، والعجز فحرى، والزهد حرفتى، واليقين قوتى، والصدق شفيعى، والطاعة حسبى «1» ، والجهاد خلقى، وقرّة عينى فى الصلاة» . وفى حديث آخر: «وثمرة فؤادى فى ذكره، وغمّى لأجل أمتى، وشوقى إلى ربى» . ولنصل هذه الفصول التى شرحناها فى صفاته المعنوية صلّى الله عليه وسلّم بما ورد من طيب ريحه، وعرقه، وما يجرى هذا المجرى.
ذكر نبذة مما ورد فى نظافة جسمه، وطيب ريحه، وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد صلّى الله عليه وسلّم
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خصّه الله عز وجل من ذلك بخصائص لم توجد فى غيره، ومنحه منحا لم تكن فى سواه؛ من ذلك ما رويناه عن مسلم ابن الحجاج بإسناده، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما شممت عنبرا قطّ ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر ابن سمرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، قال: فوجدت ليده بردا وريحا كأنّما أخرجها من جونة «2» عطّار. قال غيره: مسّها بطيب أو لم يمسّها، يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبىّ فيعرف من بين الصبيان بريحها. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نام فى دار أنس فعرق، فجاءت أمّ أنس بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك(18/270)
فقالت: نجعله فى طيبنا وهو من أطيب الطّيب. وذكر البخارى فى تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يمرّ فى طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه. وذكر إسحق بن راهويه: أن تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم. وروى المزنىّ «1» عن جابر قال: أردفنى النبى صلّى الله عليه وسلّم فالتقمت خاتم النبوّة بفمى وكان ينمّ علىّ مسكا. ونقل القاضى عياض بن موسى قال: حكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا أراد أن يتغوّط انشقت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيبة.
وأسند محمد بن سعد فى هذا خبرا عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: إنك تأتى الخلاء ولا يرى منك شىء من الأذى. فقال: «يا عائشة أو ما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شىء» قال القاضى عياض: وهذا الخبر وإن لم يكن مشهورا فقد قال قوم من أهل العلم بطهارة الحدثين منه صلّى الله عليه وسلّم. ومن ذلك حديث علىّ بن أبى طالب فى الوفاة وسنذكره إن شاء الله تعالى. وقد جاء عن أمه آمنة أنها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر. صلّى الله عليه وسلّم. ولنختم هذه الفصول بحديث هند بن أبى هالة لجمعه بين صفاته صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية. والله أعلم.
ذكر حديث هند بن أبى هالة وما تضمن من أوصاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذاتية والمعنوية
حدّثنا الشيخان المحدّثان شرف الدّين أبو يوسف يعقوب بن أحمد بن يعقوب الحلبىّ، وزين الدين أبو محمد عبد الحقّ بن قينان بن عبد المجيد القرشىّ- رحمهما الله- قراءة عليهما وأنا أسمع فى شهر رجب عام ثمانية وسبعمائة، قالا: حدّثنا الشيخ(18/271)
أبو الحسن محمد بن أبى علىّ الحسين بن عتيق بن رشيق الرّبعى المالكى سماعا فى شوّال سنة ثمان وستين وستمائة بمصر، وبقراءة الشيخ زين الدين الثانى على الشيخ نظام الدين الحسين بن محمد بن الحسن بن الخليلى، وبإجازتهما من الحافظ أبى الحسين يحيى ابن على بن عبد الله القرشىّ، وتاج الدين على بن أحمد بن القسطلانىّ، قالوا أخبرنا أبو الحسين محمد بن أبى جعفر أحمد بن جبير الكنانى، قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن عيسى التميمىّ إجازة، قال أخبرنا القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبىّ رحمه الله تعالى، قال ابن القسطلانىّ:
وأخبرنا أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء إجازة، قال أخبرنا أبو الفضل عياض إجازة، قال القاضى أبو الفضل حدّثنا القاضى أبو على الحسين بن محمد الحافظ رحمه الله بقراءتى عليه سنة ثمان وخمسمائة، قال حدّثنا الإمام أبو القاسم عبد الله ابن طاهر التميمىّ، قال قرأت عليه: أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن الحسن النيسابورىّ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدىّ، والقاضى أبو علىّ الحسن بن على بن جعفر الوخشىّ «1» ، قالوا: حدّثنا أبو القاسم على بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعىّ، قال أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشى، قال أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الحافظ؛ قال حدّثنا سفيان بن وكيع، قال حدّثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلىّ إملاء من كتابه، قال حدّثنى رجل من بنى تميم من ولد أبى هالة زوج خديجة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبى هالة عن الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال سألت خالى هند بن أبى هالة. قال القاضى أبو علىّ رحمه الله: وقرأت على الشيخ أبى طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد بن خذاداذ الكرخى الباقلّانى، قال(18/272)
وأجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون، قالا أخبرنا أبو على الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسىّ، قراءة عليه، فأقرّ به، قال أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى ابن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب المعروف بابن أخى طاهر العلوى، قال حدّثنا إسمعيل بن محمد ابن إسحق بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، قال:
حدّثنى على بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين، عن أخيه موسى بن جعفر ابن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن على، عن على بن الحسين قال قال الحسن بن على- واللفظ لهذا السند-: سألت خالى هند بن أبى هالة عن حلية «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان وصّافا، وأنا أرجو أن يصف لى منها شيئا أتعلق به، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخما «2» مفخّما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب «3» ، عظيم الهامة «4» ، رجل «5» الشعر، إن انفرقت عقيقته «6» فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفّر، أزهر «7» اللون، واسع الجبين «8» ، أزجّ «9» الحواجب، سوابغ «10» من غير قرن، بينهما عرق(18/273)
يدرّه «1» الغضب، أقنى «2» العرنين، له نور يعلوه، ويحسبه من لم يتأمله أشمّ «3» ، كثّ «4» اللحية، أدعج «5» ، سهل الخدّين، ضليع «6» الفم، أشنب «7» مفلّج «8» الأسنان، دقيق المسربة «9» ، كأنّ عنقه جيد دمية «10» في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، «11» سواء البطن والصّدر، مشيح «12» الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس «13» ، أنور المتجرد «14» ، موصول ما بين اللّبّة والسّرة بشعر يجرى كالخطّ، عارى الثديين «15» ، ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن «16» الكفّين والقدمين، سائل «17» الأطراف، أو قال سائن الأطراف، سبط القصب «18» ،(18/274)
خمصان «1» الأخمصين، مسيح «2» القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال «3» زال تقلّعا، ويخطو تكفّؤا «4» ، ويمشى «5» هونا، ذريع «6» المشية، إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «7» ، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة «8» ، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. قلت:
صف لى منطقه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، وليست له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «9» ، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا «10» لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا «11» ليس بالجافى «12» ولا المهين، يعظّم النّعمة وإن دقّت، لا يذمّ شيئا لم يكن يذمّ ذواقا ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ بشىء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفّه كلها، وإذا تعجب(18/275)
قلبها، وإذا تحدّث اتصل «1» بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح «2» ، وإذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، ويفترّ «3» عن مثل حبّ الغمام. قال الحسن: فكتمتها الحسين بن على زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقنى إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومخرجه ومجلسه وشكله، فلم يدع منه شيئا، قال الحسين: سألت أبى- عليه السلام- عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له فى ذلك، فكان إذا آوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى، وجزء لأهله، وجزء لنفسه.
ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدّخر عنهم شيئا، فكان من سيرته فى جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، قسمته على قدر فضلهم فى الدّين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذى ينبغى لهم، ويقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغونى حاجة من لا يستطيع إبلاغى حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره.
قال فى حديث سفيان بن وكيع: «يدخلون روّادا «4» ، ولا يتفرّقون إلا عن ذواق «5» ، ويخرجون أدلة «6» » ، يعنى فقهاء، قلت: فأخبرنى عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، قال:(18/276)
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم، ويؤلّفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم وبولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد بشره وخلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، ويحسّن الحسن ويصوّبه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا؛ لكل حال عنده عتاد «1» ، لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
فسألته عن مجلسه عما كان يصنع فيه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطّن «2» الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهى به المجلس ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحقّ متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى. وفى الرواية الأخرى: صاروا عنده فى الحقّ سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى «3» فلتاته- وهذه الكلمة من غير الروايتين- يتعاطفون،(18/277)
بالتقوى متواضعين، يوقّرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، ويرفدون «1» ذا الحاجة ويرحمون الغريب.
فسألته عن سيرته صلّى الله عليه وسلم فى جلسائه، فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب «2» ولا فحاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيس منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث:
كان لا يذمّ أحدا ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أوّلهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى المنطق، ويقول: «إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه» ولا يطلب الثناء «3» إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام.
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع.
وزاد الآخر؛ قلت: كيف كان سكوته صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكّر، فأما تقديره ففى تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم صلّى الله عليه وسلّم فى الصبر، فكان لا يغضبه شىء يستفزّه. وجمع له فى الحذر أربع: أخذه بالحسن، ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأى بما أصلح أمّته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة. صلّى الله عليه وسلّم. فهذه جملة كافية من أوصافه صلّى الله عليه وسلّم، فلنذكر أحواله.(18/278)
ذكر أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فى دنياه، وما ناله من شدّة العيش فيها، وما روى من أحواله فى تطيّبه ولباسه وفراشه، ووسادته، وتختّمه وتنعّله، وخفّيه. وسواكه، ومشطه، ومكحلته ومرآته وقدحه، وما ورد فى حجامته، وما ملكه من السّلاح والدّواب وغير ذلك.
صلّى الله عليه وسلّم
أما ما ناله صلّى الله عليه وسلّم من شدة العيش فى دنياه
فقد تقدّم من صفاته المعنوية زهده فى الدنيا وتقلّله منها، وأحلنا هناك على ما نورده فى هذا الموضع. وسنورد منه ما تقف عليه إن شاء الله.
فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبيت الليالى المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم الشعير. وعن أنس بن مالك أن فاطمة رضى الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذه الكسرة» ؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسى حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» . وعن أبى هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يشدّ صلبه بالحجر من الغرث» «1» . وعن مسروق قال: بينهما عائشة تحدّثنى ذات يوم إذ بكت؛ فقلت: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ قالت: ما ملأت بطنى من طعام فشئت أن أبكى إلا بكيت؛ أذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان فيه من الجهد. وعنه قال: دخلت على عائشة أمّ المؤمنين وهى تبكى، فقلت: يا أمّ المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكى إلا بكيت؛(18/279)
وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأتى عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برّ. وعنها رضى الله عنها قالت: ما شبع آل محمد غداء وعشاء من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات حتى لحق بالله. ومن رواية عنها: ما رفع عن مائدته كسرة فضلا حتى قبض. وعن أبى هريرة قال: كان يمرّ بآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هلال، ثم هلال، ثم هلال، لا يوقد فى شىء من بيوته نار، لا لخبز ولا لطبيخ، قالوا: بأى شىء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: بالأسودين التمر والماء. قال: وكان له جيران من الأنصار- جزاهم الله خيرا- لهم منائح»
يرسلون إليه بشىء من لبن. وعن الحسن قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
«والله ما أمسى فى آل محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات» والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد أن تأسّى به أمته. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم مرتين حتى لحق بالله، ولا رفعنا له فضل طعام عن شبع حتى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب. فقيل لها:
ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان الماء والتمر. قالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب «2» يسقونا من لبنها؛ جزاهم الله خيرا. وعن ابن شهاب:
أن أبا هريرة كان يمرّ بالمغيرة بن الأخنس وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النّقىّ «3» واللحم السّمين، قال: وما النّقىّ؟ قال: الدقيق.
فتعجب أبو هريرة ثم قال: عجبا لك يا مغيرة! رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبضه(18/280)
الله عز وجل، وما شبع من الخبز والزيت فى يوم مرتين، وأنت وأصحابك تهذرون «1» ها هنا الدنيا بينكم. وعن قتادة قال: كنا نأتى أنس بن مالك وخبّازه قائم، فقال يوما: كلوا فما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّفا «2» حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا «3» قطّ. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما اجتمع فى بطن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم طعامان فى يوم قطّ، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه. وعن عائشة رضى الله عنها قالت:
أرسل أبو بكر رضى الله عنه قائمة شاة ليلا فقطعت، وأمسك علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو قطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمسكت عليه، فقيل لها:
على غير مصباح؟ قالت عائشة: لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به، كان يأتى على آل محمد شهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا. وعن عمران بن زيد المدينى قال:
حدّثنى والدى، قال: دخلنا على عائشة، فقلنا: سلام عليك يا أمّاه، قالت:
وعليك، ثم بكت، فقلنا: ما بكاؤك يا أمّاه؟ قالت: بلغنى أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتى يلتمس لذلك دواء، فذكرت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، فذلك الذى أبكانى، خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه فى يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وإن شبع من الخبز لم يشبع من التمر، فذلك الذى أبكانى. وعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّى يوم توفّى، ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود يوسق من شعير. وسئل سهل بن سعد:(18/281)
أكانت المناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما رأيت منخلا فى ذاك الزمان، وما أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا. فقيل له: كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نطحنها ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار ويستمسك ما استمسك. وعن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يجوع، قال قلت لأبى هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قال:
لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاما أبدا إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة يتتبعون من المسجد، فلما فتح الله تعالى خيبر اتّسع الناس بعض الاتساع، وفى الأمر بعد «1» ضيق، والمعاش شديد فى بلاد ظف «2» ، لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر وعلى ذلك أقاموا. قال مخرمة بن سليمان: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ يوم نزل المدينة فى الهجرة إلى يوم توفّى، وغير سعد بن عبادة من الأنصار يفعلون ذلك. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا يواسون، ولكن الحقوق تكثر والعدّام «3» يكثرون، والبلاد ضيقة ليس فيها معاش، إنما تخرج ثمرتهم من ماء ثمد «4» يحمله الرجال على أكتافهم، أو على الإبل، والإبل أقل ذلك، وربما أصاب نخلهم القشام «5» فتذهب ثمرتهم تلك السنة، والقشام: شىء يصيب البلح مثل الجدرى فينتثر؛ فهذه كانت حاله صلّى الله عليه وسلّم فى عيشه فى غالب أوقاته، وهى سنّة الأنبياء صلوات الله عليهم.(18/282)
وأما تطيبه صلّى الله عليه وسلّم
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب، وكان يتطيب بالغالية «1» وبالمسك، حتى يرى وبيصه «2» في مفارقه، ويتبخّر بالعود ويطرح معه الكافور، وكان يعرف فى الليلة المظلمة بطيب ريحه صلّى الله عليه وسلّم.
وأما لباسه صلّى الله عليه وسلّم وما روى من ألوانه وأصنافه وطوله وعرضه
فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يتجمّل لأصحابه، فضلا عن تجمّله لأهله، ويقول: «إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّا لهم ويتجمّل» ولبس صلّى الله عليه وسلّم من الثياب البياض والحمرة والصّفرة والخضرة والسّواد.
أما البياض وما جاء فيه- فقد روى عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بالبياض من الثياب فليلبسها أحياؤكم وكفّنوا فيها موتاكم فإنها من خير ثيابكم» وفى رواية عنه «البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب وكفّنوا فيها موتاكم» . وعن أبى قلابة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أحبّ ثيابكم إلى الله البياض، فصلّوا فيها وكفّنوا فيها موتاكم» .
وأما الثياب الحمر- فروى عن البراء قال: ما رأيت أحدا كان أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعنه: ما رأيت من ذى لمّة «3» أحسن فى حلّة حمراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عون بن أبى جحيفة عن أبيه(18/283)
قال: أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالأبطح، وهو فى قبّة حمراء، فخرج وعليه جبّة له حمراء وحلّة عليه حمراء. وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس يرده الاحمر «1» في العيدين والجمعة. وعن أبى جعفر محمد بن علىّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر؛ ويعتمّ «2» يوم العيدين، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا.
وأما الثياب الصّفر- فقد روى عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسيّة «3» فاشتمل بها، فكأنى أنظر إلى أثر الورس على عكنه «4» . وعن بكر بن عبد الله المزنى قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مورّسة، فإذا دار على نسائه رشّها بالماء.
وعن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: ربما صبغ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قميصه ورداؤه وإزاره بزعفران وورس، ثم يخرج فيها. وعن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه بالزعفران: قميصه ورداءه وعمامته. وعن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه رداء وعمامة مصبوغين بالعبير «5» ، والعبير عندهم الزّعفران. وعن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.(18/284)
وأما الثياب الخضر- فقد روى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الثياب الخضر. وعن أبى رمثة قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه بردان أخضران. والله المنعم.
وأما السّواد وما ورد فيه- فقد روى عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وعن حريث عن أبيه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، وعليه عمامة سوداء، هذا ما وقفنا عليه من ألوان لباسه صلّى الله عليه وسلّم.
فأما أصناف لباسه صلّى الله عليه وسلّم وطولها وعرضها، فإنه عليه الصلاة والسلام لبس الصوف والحبرة والقطن، ولبس السّندس «1» والحرير، ثم تركه، وورد فى ذلك أخبار نذكر منها ما أمكن.
أما الصوف وما ورد فيه- فقد روى عن أبى بردة قال: دخلت على عائشة رضى الله عنها فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه الملبّدة، فأقسمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض فيهما. وعنها رضى الله عنها قالت: جعل للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم بردة سوداء من صوف فلبسها. وعن سهل بن سعد: قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببردة منسوجة، فيها حاشيتاها. قال سهل: وتدرون ما البردة؟ قالوا: الشّملة، قال:
نعم، هى الشّملة، فقالت: يا رسول الله، نسجت هذه البردة بيدى فجئت بها أكسوكها، قال: فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها، فخرج علينا وإنها لإزاره، فحسّنها فلان- لرجل من القوم سماه- فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه البردة!(18/285)
أكسنيها، فقال: «نعم» فجلس ما شاء الله فى المجلس ثم رجع، فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، كسيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها ثم سألته إياها، وقد علمت أنه لا يرد سائلا! فقال الرجل: والله ما سألته إياها لألبسها، ولكن لتكون كفنى يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه.
وأما الحبرة وهى من برود اليمن فيها حمرة وبياض فكانت من أحبّ اللباس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى عن قتادة قال قلت لأنس بن مالك:
أىّ اللباس كان أحبّ وأعجب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال:
الحبرة. وعن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبى صلّى الله عليه وسلّم من حبرة له حاشيتان.
وأما السّندس والحرير- فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبس ذلك ثم تركه.
روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقة «1» من سندس فلبسها، فكأنّى أنظر إلى يديها تذبذبان «2» من طولها. فجعل القوم يقولون: يا رسول الله، أنزلت عليك من السماء؟ فقال:
«وما تعجبون منها، فو الذى نفسى بيده إن منديلا من مناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها» ثم بعث بها إلى جعفر بن أبى طالب فلبسها، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لم أعطكها لتلبسها» قال: فما أصنع بها؟ قال: «ابعث بها(18/286)
إلى أخيك النجاشى» . وعن عقبة بن عامر قال: أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّوج- يعنى قباء حرير- فلبسه، ثم صلّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له، ثم قال: «لا ينبغى هذا للمتقين» .
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما سلّم قال: «اذهبوا بخميصتى هذه إلى أبى جهم فإنها ألهتنى آنفا عن صلاتى وأتونى بأنجبانىّ «1» أبى جهم» .
وأما القطن وما ورد فى أطوال ثياب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرضها فروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كنت يوما أمشى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد بحرانىّ «2» غليظ الحاشية. وعنه: كان قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطنيا قصير الطول قصير الكمّين. وعن بديل «3» قال: كان كمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ. وعن عروة بن الزبير رضى الله عنهما:
أن طول رداء النبى صلّى الله عليه وسلّم أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر.(18/287)
وعنه: أن ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يخرج فيه إلى الوفد- ورداؤه حضرمىّ- طوله أربع أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق، فطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قميصا قصير اليدين والطول.
وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: كنت مع عمر، فى حديث رواه عنه قال فقال:
رأيت أبا القاسم وعليه جبّة شاميّة ضيقة الكمّين.
ذكر صفة إزرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان يقوله إذا لبس ثوبا جديدا
روى عن يزيد بن أبى حبيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرخى الإزار من بين يديه، ويرفعه من ورائه. وعن عكرمة مولى ابن عباس، قال:
رأيت ابن عباس إذا ائتزر أرخى مقدّم إزاره، حتى تقع حاشيتاه على ظهر قدميه؛ ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت له: لم تأتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتزر هذه الإزرة. وعن أبى سعيد الخدرىّ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا سمّاه باسمه؛ قميصا أو إزارا أو عمامة، ويقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» . وعن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا لبس ثوبا- أو قال- إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذى كسانى ما أوارى به عورتى، وأتجمّل به فى حياتى» .
وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس الكساء الصوف وحده فيصلى فيه، وربما ليس الإزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفيه بين كتفيه يصلى فيه. وكان يلبس القلانس(18/288)
تحت العمائم، ويلبسها دونها [ويلبس العمائم «1» دونها] ويلبس القلانس ذات الآذان فى الحرب، وربما نزع قلنسوته، وجعلها سترة بين يديه وصلّىّ إليها، وربما مشى بلا قلنسوة ولا عمامة ولا رداء، راجلا يعود المرضى كذلك فى أقصى المدينة.
وكان يعتمّ ويسدل طرف عمامته بين كتفيه. وعن علىّ أنه قال: عمّمنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة، وسدل طرفها على منكبى، وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» .
ذكر فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووسادته
روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: دخلت امرأة من الأنصار علىّ فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة مثنيّة، فانطلقت فبعثت إلىّ «2» بفراش حشوه صوف، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ فقال:
«ما هذا» ؟ قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصارية، دخلت علىّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا. فقال: «ردّيه» فلم أردّه، وأعجبنى أن يكون فى بيتى، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: «والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة» . وعنها: أنها كانت تفرش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباءة باثنتين «3» فجاء ليلة وقد ربّعتها فنام عليها، فقال: «يا عائشة ما لفراشى الليلة ليس كما كان يكون» ؟ قالت قلت: يا رسول الله، ربّعتها، قال: «فأعيديه كما كان» .
وعنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة من أدم محشوّة ليفا، ودخل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على سرير(18/289)
مرمول «1» بشريط، وتحت رأسه مرفقة «2» من أدم محشوّة بليف، وقد أثّر الشّريط بجنبه، فبكى عمر، فقال: «ما يبكيك» ؟ قال: يا رسول الله، ذكرت كسرى وقيصر يجلسون على سرر الذّهب ويلبسون السّندس والإستبرق، فقال:
«أما ترضون أن تكون لكم الآخرة ولهم الدنيا» . وعن عبد الله بن مسعود قال:
اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير فأثر الحصير بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتنا نبسط لك على هذا الحصير شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مالى وللدنيا، وما أنا والدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ، وعن المغيرة ابن شعبة قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروة، وكان يستحب أن تكون له فروة مدبوغة يصلى عليها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى على الحصير والخمرة «3» ، كما روى فى الصحيحين.
ذكر ما لبسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخواتم، ومن قال لم يتختّم
قد قدّمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخذ الخاتم فى سنة سبع من الهجرة عند ما بعث رسله إلى الملوك، وختم به الكتب التى سيّرها إليهم؛ فلنذكر هنا ما لبسه من الخوانم. وقد روى أنه تختم بالذهب والفضة والحديد الملوىّ عليه الفضة، على ما نذكر ذلك من أقوالهم.(18/290)
روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يجعل فصّه فى بطن كفه إذا لبسه فى يده اليمنى؛ فصنع الناس خواتيم من ذهب، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فنزعه، وقال: «إنى كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصّه من باطن كفى» فرمى به، وقال: «والله لا ألبسه أبدا» ونبذ النبى صلّى الله عليه وسلّم الخاتم، فنبذ الناس خواتيمهم.
ثم اتخذ خاتما من فضّة فصّه منه، ونقش عليه «محمد رسول الله» ثلاثة أسطر، كان يختم به الكتب إلى الملوك. وقد روى أن خاتمه كان من حديد، ملوىّ عليه فضّة، وقيل: إنه رآه فى يد عمرو بن سعيد بن العاص حين قدم من الحبشة فقال: «ما هذا الخاتم فى يدك يا عمرو» ؟ قال: هذه حلقة يا رسول الله، قال:
«فما نقشها» ؟ قال: محمد رسول الله، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه فتختمه، فكان فى يده حتى قبض، ثم فى يد أبى بكر حتى قبض، ثم فى يد عمر حتى قبض، ثم فى يد عثمان ستّ سنين، وفى السابعة وقع فى بئر أريس «1» . قال أنس ابن مالك: فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه. وروى عن ابن سيرين: أن نقشه كان «بسم الله، محمد رسول الله» . وقد روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقىّ، قال حدّثنا عطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبى فروة، عن سعيد بن المسيّب، قال: ما تختم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى الله، ولا أبو بكر حتى لقى الله، ولا عمر حتى لقى الله، ولا عثمان حتى لقى الله، هكذا روى. والصحيح أنه تختّم صلّى الله عليه وسلّم، وتختموا رضوان الله عليهم أجمعين كما ذكرنا.(18/291)
ذكر نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخفّيه
روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان لنعله قبالان «1» . وعن عبد الله بن الحارث قال: كان نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها رمالان «2» شراكهما مثنىّ فى العقدة. وعن سلمة عن هشام بن عروة قال: رأيت نعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة «3» معقّبة ملسّنة لها قبالان. وعن عبيد ابن جريح قال قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أراك تستحب هذه النّعال السّبتيّة «4» ، قال: إنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسهما ويتوضأ فيهما. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن صاحب الحبشة أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفّين ساذجين «5» فمسح عليهما، وفى رواية: أن النجاشى أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفين أسودين ساذجين فلبسهما ومسح عليهما.
ذكر سواك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشطه، ومكحلته، ومرآته، وقدحه، وغير ذلك من أثاثه
روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرقد ليلا ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوّك قبل أن يتوضأ. وعن قتادة عن(18/292)
عكرمة قال: استاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم، فقيل لقتادة: إن أناسا يكرهونه، فقال: استاك والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجريد رطب وهو صائم. وعن ابن جريج قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشط عاج «1» يمتشط به. وعن ثور عن خالد «2» بن معدان قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسافر بالمشط والمرآة والدّهن والمكحل «3» والسّواك.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه، ويسّرح لحيته بالماء. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكحلة «4» يكتحل بها عند النوم ثلاثا فى كل عين. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل فى عينه اليمنى ثلاث مرات، واليسرى مرتين.
وعن أبى رافع قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكتحل بالإثمد وهو صائم.
وعن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، كان يشرب فيه. وعن عطاء قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح زجاج، فكان يشرب فيه. وعن حميد قال: رأيت قدح(18/293)
النبى صلّى الله عليه وسلّم عند أنس فيه فضّة، أو شدّ بفضّة. وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له ربعة «1» فيها مرآة ومشط عاج ومكحلة ومقراض «2» وسواك.
وكان له قدح مضبّب «3» بثلاث ضبّات من فضّة- وقيل من حديد- وفيه حلقة يعلّق بها، وهو أكبر من نصف المدّ وأصغر من المدّ، وكان له قدح آخر يدعى الرّيّان، وتور «4» من حجارة يدعى المخضب. ومخضب «5» من شبه «6» يكون فيه الحنّاء والكتم «7» توضع عند رأسه إذا وجد فيه حرا، ومغسل من صفر «8» ، وقصعة، وصاع يخرج به فطرته، ومدّ، وكان له سرير، وقطيفة، وكان له كساء أسود كساه فى حياته، وكان له ثوبان للجمعة، غير سائر ثيابه التى يلبسها فى سائر الأيام، وكان له منديل يمسح به وجهه من الوضوء، وربما مسح بطرف ردائه صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر ما ورد فى حجامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحجّامه
روى عن أنس بن مالك قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحجمه أبو طيبة، وأمر له بصاعين؛ وأمرهم أن يخفّفوا عنه من ضريبته. واختلف فى اسم أبى طيبة، فقيل: دينار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة، وهو مولى(18/294)
بنى حارثة. وعن جابر بن عبد الله قال: أخرج «1» إلينا أبو طيبة المحاجم لثمان عشرة من شهر رمضان نهارا، فقلت: أين كنت؟ قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحجمه. وعن أنس قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حجمه أبو طيبة مولى كان لبعض الأنصار، فأعطاه صاعين من طعام، وكلّم أهله أن يخفّفوا عنه من ضريبته، وقال: «الحجامة من أفضل دوائكم» .
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صائم، فغشى عليه يومئذ، فلذلك: كرهت الحجامة للصائم. وعن سمرة بن جندب قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا حجّامه فحجمه بمحاجم من قرون، وجعل يشرطه بطرف شفرة، فدخل أعرابىّ فرآه ولم يكن يدرى الحجامة، ففزع وقال: يا رسول الله، علام تعطى هذا يقطع جلدك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا الحجم» قال: يا رسول الله، وما الحجم؟ قال: «هو خير ما تداوى به الناس» . وعن عطاء وابن عباس- رضى الله عنهم- قالا: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم من وجع. وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم ثلاثا، على الأخدعين «2» ثنتين، وعلى الكاهل واحدة. وعن سعد ابن أبى وقاص: أنه وضع يده على المكان الناتئ من الرأس فوق اليافوخ، فقال:
هذا موضع محجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يحتجم، وجاء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسميها المغيثة. وكان خالد بن الوليد يحتجم(18/295)
على هامته وبين كتفيه، فقيل له: ما هذه الحجامة؟ فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحتجمها، وقال: «من أهراق منه هذه الدماء فلا يضره ألّا يتداوى بشىء لشىء» . وروى: أن الأقرع بن حابس دخل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم فى القمحدوة: وهى آخر الرأس، فقال: لم احتجمت وسط رأسك؟ قال: «يابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والمرض» وشك الراوى فى الجنون. وعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة فى الرأس هى المغيثة أمرنى بها جبريل حين أكلت طعام اليهودية» . وعنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلة أسرى بى ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة» . وعن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة فى الشهر دواء لداء السّنة» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وعن الأوزاعى، عن هرون بن رئاب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجم، ثم قال لرجل: «ادفنه لا يبحث عنه كلب» .
ذكر ما ملكه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السلاح
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسعة أسياف: ذو الفقار تنفّله «1» يوم بدر، وهو الذى رأى فيه الرؤيا فى غزوة أحد، وكان قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمنبّه بن الحجاج السّهمى، وثلاثة أسياف، أصابها من سلاح بنى قينقاع، سيف(18/296)
قلعىّ «1» ، وسيف يدعى البتّار «2» ، وسيف يدعى الحتف «3» ، وسيفان أصابهما من الفلس «4» ، سيف يدعى المخذم «5» ، وآخر يدعى الرّسوب «6» ، وسيف ورثه من أبيه «7» ، وسيف يقال له العضب «8» ، أعطاه إياه سعد بن عبادة، وآخر يدعى القضيب «9» ، وهو أوّل سيف تقلّد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أنس: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضّة، وقبيعته فضّة «10» ، وما بين ذلك حلق الفضّة.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم أربعة أرماح، ثلاثة أصابها من سلاح بنى قينقاع، وواحد يقال له المثنىّ. وكان له عنزة: وهى حربة دون الرّمح يمشى بها فى يده، وتحمل بين يديه فى العيدين، حتى تركز أمامه فيتخذها سترة يصلى إليها. وكان له أربعة «11» قسى:
قوس من شوحط «12» تدعى الرّوحاء، وأخرى من شوحط تدعى البيضاء، وأخرى(18/297)
من نبع «1» تدعى الصّفراء، وقوس تدعى الكتوم «2» كسرت يوم بدر. وكان له جعبة «3» تدعى الكافور، وكان له مخصرة «4» تسمى العرجون، وكان له محجن «5» قدر الذراع أو نحوه يتناول به الشىء، وهو الذى استلم به الرّكن «6» في حجة الوداع، وكان له درعان أصابهما من سلاح بنى قينقاع: درع يقال لها السّعدية «7» ، وأخرى يقال لها فضة.
وعن محمد بن مسلمة قال: رأيت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعين، درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، ورأيت عليه يوم حنين درعين، ذات الفضول والسّعدية، ويقال: كانت عنده درع داود عليه السلام التى لبسها لما قتل جالوت، وكان له مغفر يقال له السّبوغ «8» ، وكان له صلّى الله عليه وسلّم ترس؛ روى محمد بن سعد فى طبقاته قال: أخبرنا عتّاب بن زياد، قال حدّثنا عبد الله بن المبارك، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال سمعت مكحولا يقول: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى.
وفى رواية أخرى: كان له صلّى الله عليه وسلّم ترس عليه تمثال عقاب، أهدى له فوضع يده عليه فأذهبه الله، وكان له منطقة من أديم مبشور «9» فيها ثلاث حلق من(18/298)
فضّة، والإبزيم «1» من فضّة، والطّرف من فضّة، وكان له راية سوداء مخملة، يقال لها العقاب، ولواء أبيض وربما جعل الألوية من خمر نسائه صلّى الله عليه وسلّم، ورضى عنهنّ.
ذكر دوابّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخيل والبغال والحمير
أما خيله صلّى الله عليه وسلّم، فقد ذكرنا فى الباب الأول من القسم الثالث من الفنّ الثالث من كتابنا هذا، وهو فى السّفر التاسع من هذه النّسخة، أن خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التى ملكها، على ما ظهر من مجموع الروايات التى أوردناها هناك تسعة عشر فرسا: وهى السّكب «2» ، والمرتجز «3» ، والبحر «4» ، وسبحة «5» ، وذو اللّمّة «6» ، وذو العقال «7» ، والّلحيف «8» ، ويقال فيه: الّلخيف بالخاء المعجمة، وقيل:
النّحيف بالنون، واللّزاز «9» ، والظّرب «10» ، والورد «11» ، والسّجل «12» ، والشّحّا «13» ، والسّرحان «14» ،(18/299)
والمرتجل «1» ، والأدهم «2» ، وملاوح «3» ، والعيسوب «4» ، واليعبوب «5» ، والمرواح «6» ، وقد يكون الأدهم هو السّكب أو البحر، فتكون ثمانية عشر فرسا.
وذكرنا هناك أخبار هذه الخيل ومن ذكرها. وذهب بعضهم إلى أن خيله صلّى الله عليه وسلّم كانت عشرة أفراس: السّكب، والمرتجز، ولزاز، واللّخيف، والظّرب، والورد، والضّرس «7» ، وملاوح، وسبحة، والبحر، ولم يذكر ما عداها، والله عز وجل أعلم.
وأما بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمره فقد ذكرنا أيضا فى الباب الثانى من القسم الثالث من الفن الثالث فى السفر التاسع من كتابنا هذا، أن بغلات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللاتى ملكهنّ كنّ سبعا، على ما ظهر من مجموع الروايات التى ذكرناها هناك، وهنّ دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضّة التى أهداها له فروة بن عمرو، وبغلة أهداها له كسرى، وبغلته الأيليّة التى أهداها له ابن العلماء «8» صاحب أيلة، وبغلة بعثها له صاحب دومة الجندل،(18/300)
وبغلة أهداها له يوحنّا بن روزيه «1» ، وبغلة أهداها له النجاشى صاحب الحبشة، وفى البغلة التى ذكر أن كسرى أهداها له صلّى الله عليه وسلّم نظر، لما قدمناه من أنه مزّق كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يجبه. ومن أهل العلم من ذهب إلا أنهنّ كنّ ثلاثة: دلدل التى أهداها له المقوقس، وفضة وهبها لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وبغلة أهداها له صاحب أيلة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم من الحمر: يعفور، وعفير، وقد ذكرناهما فى الباب المقدّم ذكره فى السّفر التاسع.
ذكر نعم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرون لقحة «2» بالغابة، يراح له منها كل ليلة بقربتين عظيمتين من اللّبن، وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له الضحّاك ابن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، وكانت له مهريّة «3» أرسلها إليه سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، وكانت له القصواء «4» ، وهى التى هاجر عليها، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحى غيرها، وهى العضباء «5» ، والجدعاء «6» ، وقيل: العضباء غير القصواء، وقد ذكرنا فى الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثالث نعمه بأبسط من هذا.(18/301)
وكان له صلّى الله عليه وسلّم مائة من الغنم. وكانت له سبع منائح «1» : عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورشة «2» ، وأطلال. وأطراف، وكانت أمّ أيمن ترعاهنّ، وكانت له شاة يختصّ بشرب لبنها، تدعى غيثة، وكان له ديك أبيض، هذا ما أمكن إيراده فى هذه الفصول، وهو بحسب الاختصار.
وقد آن أن نأخذ فى ذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أخّرنا ذكر المعجزات إلى هذه الغاية لأمور: منها أنّ معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كانت فى مدة حياته، تقع خلال غزواته، وغالب أوقاته، فلو ذكرناها قبل نهاية ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلّم، لكنّا قد قدّمنا منها شيئا قبل وقته الذى وقع فيه. ومنها أنّا لمّا ذكرنا صفاته صلّى الله عليه وسلّم فيما تقدّم، استلزم إيراد أحواله تلو صفاته، وصار الكلام يتلو بعضه بعضا، ولو ذكرنا المعجزات فى خلال ذلك لانقطع الكلام وانفرط النظام، وأهمّ الأسباب فى تأخير ذكر المعجزات إلى هذه الغاية، أنا أردنا أن تكون معجزاته صلّى الله عليه وسلّم خاتمة لهذه السّيرة الشريفة، وتالية لهذه المناقب المنيفة «3» لا يجعل بعدها من أخباره صلّى الله عليه وسلّم إلا أخبار وفاته عليه السلام.
ذكر معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ومعنى المعجزة أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها، ولا تكون معجزة إلا مع وجود التّحدى بالنبوّة، وأما مع عدم التحدى فهى كرامة، كأحوال الأولياء.
والمعجزة على ضربين: ضرب هو من نوع قدرة البشر فعجزوا عن الإتيان بمثله؛ كالقرآن على رأى من رأى أن من قدرة البشر أن يأتوا بمثله، ولكن الله تعالى(18/302)
صرفهم عن ذلك، فعجزوا عنه، وكصرف يهود عن تمنّى الموت، ونحو ذلك.
وضرب هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام، وحبس الشمس، وردّها بعد غروبها.
وها نحن نورد فى هذا الفصل من مشاهير معجزاته، وباهر آياته، ما تقف إن شاء الله تعالى عليه، وقد تقدم من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فى اثناء هذه السيرة ما تقدم، مما ننبّه عليه فى هذا الفصل، ونحيل عليه فى مواضعه، ونشرح ونبين ما أدمجناه قبل إن شاء الله تعالى.
ومعجزاته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة: منها القرآن العظيم، وهو أكبرها آية، وأعظمها دلالة على صدق نبوته صلّى الله عليه وسلّم، ومنها انشقاق القمر، وحبس الشمس، وردّها، وتفجير الماء وانبعاثه ونبعه من بين أصابعه وتكثير الطعام، وكلام الشّجر، وسعيها إليه، وحنين الجذع، وتسبيح الطعام والحصى، وكلام الجمادات، وشهادة الحيوانات له صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة، وكلام الموتى، وإبراء المرضى، وإجابة الدعاء، وانقلاب الأعيان، وما أطلعه الله تعالى عليه من علم الغيوب، والإخبار بما كان ويكون، وما جمع له من المعارف والعلوم ومصالح الدنيا والدين، وسياسة العالم، والعصمة من الناس، وغير ذلك مما نشرحه ونبيّنه إن شاء الله تعالى.
فأما القرآن العظيم وما انطوى عليه من المعجزات،
فمعجزاته كثيرة نحصرها فى عشرة أوجه:(18/303)
الوجه الأوّل- حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته،
ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة «1» العرب، وذلك أنهم خصّوا من البلاغة والحكم ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وحسبك أن القرآن أنزل بلغتهم، ومع ذلك فقد قرعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به، ووبّخهم وسفّه أحلامهم، وسبّ آلهتهم، وذمّ آباءهم، وشتت نظامهم، وفرّق جماعتهم، وأنزل الله تعالى فيهم ما أنزل من قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2»
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «3»
وقوله تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً
«4» وغير ذلك، فنكصوا عن معارضته، وأحجموا عن مماثلته، ورضوا بقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ*
وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ
«5» . ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
«6» .
واعترف فصحاؤهم عند سماعه أنه ليس من كلام البشر؛ كالوليد بن المغيرة وعتبة ابن ربيعة، على ما قدّمنا ذكر ذلك.
الوجه الثانى من إعجازه- صورة نظمه العجيب،
المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، وسجعها ورجزها «7» وهزجها «8» وقريضها «9» ، ومبسوطها «10»(18/304)
ومقبوضها «1» ، كما قال الوليد بن المغيرة لقريش عند اجتماعهم كما قدمناه، ومن ذلك جمعه بين الدليل والمدلول، وذلك أنه احتجّ بنظم القرآن، وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته، وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالتّالى له يفهم موضع الحجّة والتّكليف معا من كلام واحد.
الوجه الثالث من إعجازه- ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع فوجد،
كما جاء فى قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
«2» .
وقوله فى الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
«3» . وقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ*
«4» .
وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
«5» الآية. وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
«6» السورة، فكان جميع ذلك: فتح الله مكة، وغلبت الروم فارس، وأظهر الله رسوله، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، واستخلف الله المؤمنين فى الأرض، ومكّن دينهم وملّكهم أقصى المشارق والمغارب، وما فيه من الإخبار بحال المنافقين واليهود، وكشف أسرارهم، وغير ذلك.
الوجه الرابع- ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة والشرائع الداثرة «7» ،
مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا من مارس العلوم من أهل الكتاب، واطلع على الكتب المنزلة القديمة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر وذى القرنين ولقمان وابنه وبدء الخلق، وغير ذلك مما فى كتبهم القديمة مما اعترف بصحته العلماء من أحبار يهود، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدّ عنه مع عدم إنكارهم لصحته، قال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
«8» .(18/305)
الوجه الخامس- الرّوعة التى تلحق قلوب سامعيه، وأسماعهم عند سماعه،
والهيبة التى تعتريهم عند تلاوته؛ قال الله عز وجل: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
«1» ، وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
«2» هذا فى حق المؤمنين به، وأما من كذّب به فكانوا يستثقلون سماعه، ويودّون انقطاعه؛ ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن صعب مستصعب على من كرهه، وهو الحكم» وقد تقدّم أن عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلغ قوله:
صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
«3» أمسك على فى «4» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرّحم أن يكفّ.
الوجه السادس- كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا،
وقد تكفل الله تعالى بحفظه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
«5» . وقال تعالى:
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
«6» وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، فلم يبق إلا خبرها، والقرآن العزيز باق منذ أنزله الله تعالى وإلى وقتنا هذا، وما بعده إن شاء الله إلى آخر الدهر، حجته قاهرة، ومعارضته ممتنعة.
الوجه السابع- أن قارئه لا يملّ قراءته، وسامعه لا تمجّه مسامعه،
بل الإكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبة، لا يزال غضّا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه أن يبلغ من البلاغة والفصاحة يملّ مع الترديد، ويسأم إذا(18/306)
أعيد، وكذلك غيره من الكتب «1» لا يوجد فيها ما فيه من ذلك، وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن «أنه لا يخلق «2» على كثرة الردّ ولا تنقضى عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفضل ليس بالهزل» .
الوجه الثامن- أن الله تعالى يسر حفظه لمتعلّميه، وقرّبه على متحفّظيه،
قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ*
«3» فلذلك إن سائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منها، وإن لازم قراءتها، ودوام مدارستها، لم يسمع بذلك عن أحد منهم، والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان فى المدّة القريبة والنّسوان، وقد رأينا من حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته.
الوجه التاسع- مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها،
والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة على أمر ونهى، وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وإثبات نبوّة وتوحيد، وتقرير وترغيب وترهيب، إلى غير ذلك، دون خلل يتخلل فصوله، والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوّته، ولانت جزالته، وقلّ رونقه، وتقلقلت ألفاظه، وهذا من الأمور الظاهرة التى لا يحتاج عليها إقامة دليل، ولا تقرير حجة، ولا بسط مقال.
الوجه العاشر- جمعه لعلوم ومعارف لم تعهدها العرب، ولا علماء أهل الكتاب،
ولا اشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والردّ على فرق الأمم بالبراهين الواضحة، والأدلة البينة السهلة الألفاظ، الموجزة المقاصد؛ لقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ(18/307)
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ
«1» وقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ
«2» وقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
«3» إلى غير ذلك مما اشتمل عليه من المواعظ والحكم وأخبار الدار الآخرة، ومحاسن الآداب، وغير ذلك مما لا يحصيه وآصف، ولا يعده عاد، قال الله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
«4» ، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ*
«5» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله أنزل علىّ القرآن آمرا وزاجرا، وسنّة خالية، ومثلا مضروبا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرّدّ، ولا تنقضى عجائبه، هو الحقّ ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج «6» ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنّور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشّفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوج فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرّدّ» .
وفى الحديث: «قال الله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلّم- إنى منزّل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، وفيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة، وربيع القلوب» . وقد عدّوا فى إعجازه وجوها كثيرة غير ما ذكرناه فلا نطوّل بسردها.
وأما انشقاق القمر، وحبس الشمس ورجوعها
- فكان ذلك من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.(18/308)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ
«1» . وقد رويت قصة انشقاق القمر عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله ابن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم رضى الله عنهم، قال ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشهدوا» قال ابن مسعود: حتى رأيت الجبل بين فرجتى القمر، وفى بعض طرقه: ومن رواية مسروق عنه أنه كان بمكة، وزاد: فقال كفّار قريش سحركم ابن أبى كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان قد سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فآسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا؟ فأتوا فسألوا فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك.
وحكى السّمرقندى عن الضحاك نحوه. وقال: فقال أبو جهل هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ينظروا أرأوا ذلك أم لا؟ فأخبر أهل الآفاق أنهم رأوه منشقا، فقالوا- يعنى الكفار-: هذا سحر مستمر. وقال على رضى الله عنه، من رواية أبى حذيفة الأرحبى: انشق القمر، ونحن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم.
وعن أنس: سأل أهل مكة النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين، حتى رأوا حراء بينهما، وفى رواية معمر، وغيره عن قتادة عنه:
أراهم القمر مرتين انشقاقه «2» ، فنزلت الآية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
. وحكى الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الحليمىّ «3» الجرجانىّ(18/309)
فى منهاجه قال: رأيت ببخارى الهلال وهو ابن ليلتين منشقّا بنضفين، عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، وما زلت أنظر إليهما حتى اتصلا، ثم لم يعودا كما كانا، ولكنهما صارا فى شكل أترجّة، ولم أمل طرفى عنهما إلى أن غاب، قال: وكان معى ليلتئذ جماعة كثيفة، من بين شريف وفقيه وكاتب وغيرهم من طبقات الناس، وكلّ رأى ما رأيت. قال: وأخبرنى من وثقت به، وكان خبره عندى كعيانى أنه رأى الهلال وهو ابن ثلاث منشقا بنصفين، قال:
وإذا كان هكذا، ظهر أن قول الله عز وجل: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
إنما هو على الانشقاق الذى هو من أشراط الساعة، دون الانشقاق الذى جعله الله تعالى آية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحجة على أهل مكة. وبالله التوفيق.
وأما رجوع الشّمس
- فقد روى عن أسماء بنت عميس أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان يوحى إليه ورأسه فى حجر علىّ، فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت يا على» ؟ قال:
لا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فآردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، ووقفت على الجبال والأرض، وذلك بالصّهباء فى خيبر. خرّجه الطحاوى فى مشكل الحديث عن أسماء من طريقين، قال وكان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغى لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوّة.
وأما حبسها
- فقد روى يونس بن بكير فى زيادة المغازى عن ابن إسحق:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسرى به، وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التى فى العير، قالوا: متى تجىء؟ قال: «يوم الأربعاء» فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون، وقد ولّى النهار ولم يجئ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزيد له فى النهار ساعة، وحبست عليه الشمس صلّى الله عليه وسلّم.(18/310)
وأما نبع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم
فقد روى عن أنس بن مالك، وجابر، وعبد الله بن مسعود؛ قال أنس من رواية إسحق بن عبد الله بن أبى طلحة: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء «1» فلم يجدوه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوضوء «2» ، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم. ورواه أيضا عن أنس قتادة، وقال: بإناء فيه ماء ما يغمر أصابعه، ولا يكاد يغمر «3» ، قال: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وفى رواية عنه:
وهم بالزّوراء عند السوق. وأما ابن مسعود، ففى الصحيح عنه من رواية علقمة: بينهما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتى بإناء فصبه فى إناء، ثم وضع كفّه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفى الصحيح عن سالم بن أبى الجعد عن جابر قال: «عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه ركوة «4» فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا: ليس عندنا ماء، إلا ما فى ركوتك، فوضع النبى صلّى الله عليه وسلّم يده فى الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، وفيه: فقلت كم كنتم؟ قالوا: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. وفى صحيح مسلم(18/311)
فى ذكر غزوة بواط «1» ، قال جابر قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جابر ناد الوضوء» وذكر الحديث بطوله: وأنه لم يحد إلا قطرة فى عزلاء «2» شجب، فأتى به النبى صلّى الله عليه وسلّم فغمزه «3» ، وتكلم بشىء لا أدرى ما هو، وقال:
«ناد بجفنة «4» الرّكب» فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط يده فى الجفنة، وفرق أصابعه، وصبّ جابر عليه، وقال: «بسم الله» قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت «5» : هل بقى أحد له حاجة؛ فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده من الجفنة وهى ملأى. هذا مختصر ما روى من تفجير الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم.
وأما تفجيره وانبعاثه وتكثيره ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم
فمن ذلك ما رواه مالك بن أنس رحمه الله فى الموطأ، عن معاذ بن جبل فى قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين، وهى تبضّ «6» بشىء من ماء مثل الشّراك «7» ، فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فى شىء، ثم غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(18/312)
فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس. وفى حديث ابن إسحق: فانحرق «1» من الماء ما له حسّ كحسّ الصواعق، ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا» . ومنه قصة «2» الحديبية، وقد تقدّم ذكرها فى الغزوات. ومن ذلك خبر صاحبة المزادتين، وهو مما روى عن عمران بن حصين، قال: أصاب النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عطش فى بعض أسفارهم، فوجّه رجلين من أصحابه، وأعلمهما أنهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان، الحديث «3» . فوجداها وأتيا بها النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجعل فى إناء من مزادتها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ثم أعاد الماء فى المزادتين، ثم فتحت عزاليهما، وأمر الناس فملأوا أ؟؟؟ قيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملأوه، قال عمران: ويخيل لى أنهما لم تزدادا إلا امتلاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها، وقال: «اذهبى فإنا لم نأخذ من مائك شيئا ولكن الله سقانا» . وعن عمرو بن شعيب أن أبا طالب قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم وهو رديفه بذى المجاز: عطشت وليس عندى ماء، فنزل النبى صلّى الله عليه وسلّم وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: «اشرب» . وعن سلمة بن الأكوع؛ قال نبىّ الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل من وضوء؟» فجاء رجل بإداوة «4» فيها نطفة «5»(18/313)
فأفرغها فى قدح فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة أربع عشرة «1» مائة. وفى حديث غزوة تبوك، وما أصاب الناس من العطش، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن الله تعالى أرسل سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء، وقد تقدّم ذكره. ومن طريق آخر فى هذه القصة عن عمر: وذكر ما أصابهم من العطش فى جيش العسرة، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، فرغب أبو بكر رضى الله عنه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى الدّعاء، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت «2» السماء، فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية، ولم يجاوز العسكر.
والحديث فى هذا الباب كثير.
وأما تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى الله عليه وسلّم
فقد روينا من ذلك أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة متّصلة، رأينا حذفها هاهنا اختصارا لاشتهارها وانتشارها، منها ما رويناه عن جابر رضى الله عنه: أن رجلا أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فقال: «لو لم تكله لأكلتم منه وقام بكم» . ومن ذلك حديث أبى طلحة المشهور، وإطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانين أو سبعين رجلا من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت يده- أى إبطه- فأمر بها ففتّت، وقال فيها ما شاء الله أن يقول. وحديث جابر- رضى الله عنه- فى إطعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير، وعناق «3» ، قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا»
، وإن(18/314)
برمتنا لتغطّ «1» كما هى، وإن عجيننا ليخبز، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصق فى العجين والبرمة وبارك. ومن ذلك حديث أبى أيوب الأنصارى: أنه صنع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبى بكر رضى الله عنه من الطعام زهاء «2» ما يكفيهما، فقال له النبى الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار» فدعاهم فأكلوا حتى تركوه، ثم قال: «ادع ستين» فكان مثل ذلك، ثم قال: «ادع سبعين» فأكلوا حتى تركوا، وما خرج منهم أحد حتى أسلم وبايع، قال أبو أيوب: فأكل من طعامى مائة وثمانون رجلا. وعن سمرة بن جندب قال: أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون.
ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما قال: كنا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين ومائة، وذكر فى الحديث: عجن صاع من طعام، وصنعت شاة فشوى سواد «3» بطنها، قال: وأيم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد حزّله حزّة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتان فأكلنا أجمعون، وفضل فى القصعتين فحملته على البعير. ومن ذلك حديث عمر بن الخطاب، وأبى هريرة وسلمة بن الأكوع رضى الله عنهم، فذكروا مخمصة أصابت الناس مع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه، فدعا ببقية الأزواد، فجاء الرجل بالحثية من الطعام وفوق ذلك، وأعلاهم الذى أتى بالصّاع من التمر، فجمعه على نطع، قال سلمة: فحزرته كربضة «4» البعير، ثم دعا الناس بأوعيتهم، فما بقى فى الجيش وعاء إلا ملأوه وبقى منه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أدعو له أهل الصّفّة فتتّبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهى مثلها(18/315)
حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع. وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق «1» فصنع لهم مدّا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقى كما هو، ثم دعا بعسّ «2» فشربوا حتى رووا وبقى كأنه لم يشرب. وقال أنس ابن مالك: إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما ابتنى بزينب أمره أن يدعو له قوما سمّاهم، وكل من لقيت حتى امتلأ البيت والحجرة، وقدّم إليهم تورا «3» فيه قدر مدّ من تمر جعل حيسا «4» ، فوضعه قدّامه وغمس ثلاث أصابعه، وجعل القوم يتغدّون ويخرجون، وبقى التور نحوا مما كان، وكان القوم أحدا أو اثنين وسبعين.
وفى رواية أخرى فى هذه القصة أو مثلها: أن القوم كانوا زهاء ثلاثمائة، وأنهم أكلوا حتى شبعوا، وقال لى: «ارفع» فلا أدرى حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. وفى حديث جعفر بن محمد عن آله، عن على رضى الله عنهم أن فاطمة رضى الله عنها طبخت قدرا لغدائها، ووجهت عليّا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليتغدّى معها، فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة، ثم له عليه السلام ولعلىّ، ثم لها، ثم رفعت القدر، وإنها لتفيض، قالت: فأكلنا منها ما شاء الله.
ومن ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يزوّد أربعمائة راكب من أحمس، فقال: يا رسول الله، ما هى إلا أصوع، قال:
«اذهب» فذهب فزوّدهم منه، وكان قدر الفصيل الرّابض من التمر وبقى بحاله.(18/316)
ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى دين أبيه، وقد كان بذل لغرماء أبيه أصل ما له فلم يقبلوه، ولم يكن فى ثمرها سنين كفاف دينهم، فأمره النبى صلّى الله عليه وسلّم بجذّها وجعلها بيادر «1» في أصولها، ثم جاءه فمشى فيها ودعا، فأوفى جابر غرماء أبيه من ذلك، وفضل مثل ما كانوا يجذّون كل سنة. وفى رواية: مثل ما أعطاهم. قال: وكان الغرماء يهودا فعجبوا من ذلك. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أصاب الناس مخمصة فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هل من شىء» ؟
قلت: نعم، شىء من التمر فى المزود، قال: «فأتنى به» فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ودعا بالبركة، ثم قال: «ادع لى عشرة» فأكلوا حتى شبعوا، ثم عشرة كذلك، حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا، قال: «خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكبّه» فقبضت على أكثر مما جئت به فأكلت منه وأطعمت منه «2» حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وعمر، إلى أن قتل عثمان فانتهب منى فذهب. وفى رواية: فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق فى سبيل الله. وذكر مثل هذه الحكاية فى غزوة تبوك، وأن التمر كان بضع عشرة تمرة. ومنه أيضا حديث أبى هريرة رضى الله عنه حين أصابه الجوع، فاستتبعه النبى صلّى الله عليه وسلّم فوجد لبنا فى قدح قد أهدى إليه، وأمره أن يدعو أهل الصّفّة، قال فقلت: ما هذا اللبن «3» فيهم! كنت أحقّ أن أصيب منه شربة أتقوّى بها، فدعوتهم، وذكر أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم له أن يسقيهم، قال: فجعلت أعطى الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يأخذ الآخر حتى روى جميعهم، فأخذ النبى(18/317)
صلى الله عليه وسلّم القدح وقال: «بقيت أنا وأنت اقعد فاشرب» فشربت ثم قال: «اشرب» وما زال يقولها وأشرب حتى قلت: لا والذى بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا، فأخذ القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة، صلّى الله عليه وسلّم.
وأما كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وانقيادها إليه وإجابتها دعوته صلّى الله عليه وسلّم
فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال:
كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى سفر فدنا منه أعرابىّ، فقال: «يا أعرابى أين تريد» ؟ قال: إلى أهلى، قال: «هل لك إلى خير» ؟ قال: وما هو؟ قال:
«تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله» قال: من يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه الشجرة السّمرة» «1» وهى بشاطئ الوادى، فأقبلت تخدّ «2» الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها. وعن بريدة قال: سأل أعرابى النبى صلّى الله عليه وسلّم آية فقال له: «قل لتلك الشجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يدعوك» قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها، ثم جاءت تخد الأرض، تجرّ عروقها مغيرة «3» حتى وقفت بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابى: مرها فلترجع إلى منبتها فاستوت، فقال الأعرابى: إيذن لى أسجد لك، قال: «لو أمرت أحدا(18/318)
أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» قال: فأذن لى أقبّل يديك ورجليك، فأذن له.
ومن ذلك ما روى فى الصحيح من حديث جابر بن عبد الله قال: ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضى حاجته فلم ير شيئا يستتر به، فإذا بشجرتين بشاطئ الوادى، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إحداهما فأخذ بغصن من غصانها فقال: «انقادى علىّ بإذن الله» فانقادت معه كالبعير المخشوش «1» الذى يصانع قائده.
وذكر أنه فعل بالأخرى مثل ذلك، حتى إذا كان بالمنصف «2» بينهما قال: «التئما علىّ بإذن الله» فالتأمتا. وفى رواية أخرى؛ فقال: «يا جابر قل لهذه الشجرة يقول لك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الحقى بصاحبتك حتى أجلس خلفكما» ففعلت فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما، فخرجت أحضر «3» ، وجلست أحدّث نفسى، فالتفت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبل «4» والشجرتان قد افترقثا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقفة فقال «5» برأسه- هكذا- يمينا وشمالا.
وروى أسامة بن زيد نحوه، قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بعض مغازيه: «هل» «6» ؟ يعنى مكانا لحاجة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقلت:(18/319)
إن الوادى ما فيه موضع بالناس «1» ، فقال: «هل ترى من نخل أو حجارة» ؟
قلت: أرى نخلات متقاربات، فقال: «انطلق وقل لهن إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركنّ أن تأتين لمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقل للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهنّ، فو الذى بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاما خلفهنّ، فلما قضى حاجته قال لى:
«قل لهنّ يفترقن» فو الذى نفسى بيده لرأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهنّ. وعن ابن مسعود مثله فى غزاة حنين. وعن يعلى بن مرة- وهو ابن سيّابة «2» - وذكر أشياء رآها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر أن طلحة- أو سمرة- جاءت فأطافت به، ثم رجعت إلى منبتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها استأذنت أن تسلم علىّ» . وفى حديث ابن مسعود: آذنت «3» النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالجنّ ليلة استمعوا له شجرة. وذكر أبو بكر بن فورك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سار فى غزوة الطّائف ليلا وهو وسن، «4» فآعترضته سدرة فانفرجت له نصفين، حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا، وهى هناك معروفة. وقد روى فى مثل ذلك أحاديث كثيرة.
ومن ذلك قصّة حنين الجذع، والخبر بذلك مشهور منتشر خرّجه أهل الصحيح، ورواه جماعة من الصحابة رضى الله عنهم، قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم على جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار «5» ، وفى رواية أنس:(18/320)
حتى ارتجّ المسجد بخواره «1» . وفى رواية سهل بن سعد: وكثر بكاء الناس لما رأوا به. وفى رواية المطلب بن أبى وداعة: حتى تصدّع وانشقّ، حتى جاء النبى صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليه فسكت. وزاد غيره: فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم «إن هذا بكى لما فقد من الذّكر» . وزاد غيره «2» : «والذى نفسى بيده لو لم ألتزمه «3» لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزّنا على رسول الله» صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدفن تحت المنبر. وفى حديث أبىّ بن كعب: فكان إذا صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلّى إليه، فلما هدم المسجد أخذه أبىّ فكان عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا. وذكر الإسفراينىّ: أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض فالتزمه، ثم أمره فعاد إلى مكانه. وفى حديث بريدة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن شئت أردك إلى الحالط الذى كنت فيه، تنبت لك عروقك، ويكتمل خلقك ويجدّد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك فى الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك» ، ثم أصغى له النبى صلّى الله عليه وسلّم يستمع ما يقول فقال: بل تغرسنى فى الجنة فيأكل منى أولياء الله وأكون فى مكان لا أبلى فيه. فسمعه من يليه «4» ، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قد فعلت- ثم قال- اختار دار البقاء على دار الفناء» .
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم نطق الجمادات
كتسبيح الطعام فى جوفه، وتسبيح الحصى فى كفّه وكفّ من صبّه فى كفّه من أصحابه، وسلام الجبال والأحجار والأشجار عليه، وسجودها له، وغير ذلك مما يلتحق به على ما نشرحه إن شاء الله تعالى.(18/321)
فمن ذلك ما رويناه بإسناد متصل عن البخارىّ بسنده، عن علقمة [عن «1» ] عبد الله قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، وفى غير هذه الرواية عن عبد الله ابن مسعود قال: كنا نأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطعام، ونحن نسمع تسبيحه. وقال أنس بن مالك: أخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم كفّا من حصى فسبّحن فى يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعنا التسبيح، ثم صبهنّ فى يد أبى بكر فسبحن، ثم فى أيدينا فما سبحن. وروى أبو ذرّ مثله، وذكر أنهنّ سبحن فى كفّ عمر وعثمان. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: كنا بمكة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال:
السلام عليك يا رسول الله. وعن جابر بن سمرة عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ» قيل: إنه الحجر الأسود. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» .
وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. وفى حديث العباس بن عبد المطلب إذ اشتمل «2» عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وعلى بنيه بملاءته فأمّنت أسكفّة «3» الباب وحوائط البيت آمين آمين. وعن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: مرض النبى صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبريل بطبق فيه رمّان وعنب، فأكل منه صلّى الله عليه وسلّم فسبّح. وعن أنس رضى الله عنه قال: صعد(18/322)
النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر وعثمان أحدا فرجف بهم فقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبىّ وصديق وشهيدان» ، ومثله عن أبى هربرة فى حراء «1» ، وزاد فيه: ومعه علىّ وطلحة والزّبير، وقال: «إنما عليك نبىّ أو صدّيق أو شهيد «2» » ، والخبر فى حراء أيضا عن عثمان قال: ومعه عشرة من أصحابه أنا فيهم، وزاد عبد الرحمن وسعدا، قال: ونسيت الاثنين. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حين طلبته قريش قال له ثبير «3» : اهبط يا رسول الله، فإنى أخاف أن يقتلوك على ظهرى فيعذبنى الله، فقال حراء: إلىّ يا رسول الله. وقد تقدّم ذكر خبر الأصنام، وسقوطها عند ما أشار إليها بالقضيب، حين فتح الله تعالى مكة عليه، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا أبدا دائما.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم كلام الحيوانات وسكونها وثباتها إذا رأته؛
كقصة الدّاجن «4» ، وكلام الضّبّ والذّئب، والطائر والظّبية، وسجود الغنم والبعير، وخبر سفينة مولاه مع الأسد، وخبر العنز، وغير ذلك مما نورده إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك ما رويناه بسند متصل عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان عندنا داجن، فإذا كان عندنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرّ وثبت مكانه، فلم يجىء ولم يذهب، فإذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء وذهب.
ومنه ما روى عن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى محفل من أصحابه إذ جاء أعرابى قد صاد ضبّا فقال: من هذا؟ قالوا: نبىّ(18/323)
الله، فقال: واللّات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن «1» هذا الضّبّ. وطرحه بين يدى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا ضبّ» فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال:
«من تعبد» ؟ قال: الذى فى السماء عرشه، وفى الأرض سلطانه، وفى البحر سبيله، وفى الجنة رحمته، وفى النار عقابه، قال: «فمن أنا» ؟ قال: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين؛ وقد أفلح من صدّقك، وخاب من كذّبك. فأسلم الأعرابىّ.
ومن ذلك قصة كلام الذئب المشهورة عن أبى سعيد الخدرىّ قال: بينا راع يرعى غنما له، عرض الذئب لشاة منها فأخذها الراعى منه، فأقعى الذئب وقال للراعى: ألا تتّقى الله، حلت بينى وبين رزقى! قال الراعى: العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؛ رسول الله بين الحرّتين يحدّث الناس بأنباء «2» ما قد سبق، فأتى الراعى النبى صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قم فحدّثهم» ؛ ثم قال: «صدق» .
وروى حديث الذئب عن أبى هريرة. وفى بعض الطرق عنه قال الذئب: أنت أعجب! واقفا على غنمك، وتركت نبيا لم يبعث الله نبيّا قطّ أعظم منه عنده قدرا، قد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشّعب فتصير فى جنود الله، قال الراعى: من لى بغنمى؟ قال الذئب:
أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبى صلّى الله عليه وسلّم يقاتل، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها «3» » فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.(18/324)
وروى أن أهبان بن أوس هو صاحب القصة ومكلّم الذئب. وروى أيضا أن صاحب القصة سلمة بن عمرو بن الأكوع، وأنها سبب إسلامه. وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة رافع بن عميرة الطائى أنه كلمه الذئب، وهو فى ضأن له يرعاها، فدعاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واللحاق به. قال: وزعموا أن رافع بن عميرة قال فى كلام الذئب إياه.
رعيت الضّأن أحميها بكلبى ... من الضّبع الحفىّ وكل ذيب «1»
فلمّا أن سمعت الذئب نادى ... يبشّرنى بأحمد من قريب
سعيت إليه قد شمّرت ثوبى ... على السّاقين قاصدة الرّكيب
فألفيت النّبىّ يقول قولا ... صدوقا ليس بالقول الكذوب
يبشّرنى بدين الحقّ حتى ... تبيّنت الشّريعة للمنيب «2»
وأبصرت الضّياء يضىء حولى ... أمامى إن سعيت ومن جنوبى
فى أبيات أخر.
وروى ابن وهب: أن مثل هذه القصة وقع لأبى سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية مع ذئب وجداه قد أخذ ظبيا، فدخل الظّبى الحرم فانصرف الذئب فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: واللّات والعزّى لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنا خلوفا «3» . وقد روى أيضا مثل هذا الخبر، وأنه جرى لأبى جهل وأصحابه.(18/325)
وعن عباس بن مرداس السّلمىّ أنه لمّا تعجّب من كلام صنمه ضمار، وإنشاده الشعر الذى ذكرناه، فإذا طائر سقط، فقال: يا عباس، أتعجب من كلام ضمار، ولا تعجب من نفسك؟ إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الإسلام، وأنت جالس! وعن أنس رضى الله عنه قال: دخل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار حائط «1» أنصارىّ، وفى الحائط غنم، فسجدت له فقال أبو بكر:
نحن أحقّ بالسجود لك منها ... الحديث. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال:
دخل النبى صلّى الله عليه وسلّم حائطا فجاء بعير فسجد له، وذكر مثله. ومثله فى الجمل عن ثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرّة، وعبد الله بن جعفر قال: «2» وكان لا يدخل أحد الحائط إلا شدّ عليه الجمل، فلما دخل عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم دعاه، فوضع مشفره فى الأرض وبرك بين يديه فحطمه؛ وقال: «ما بين السماء والأرض شىء إلا يعلم أنى رسول الله إلا عاصى الجنّ والإنس» . وفى حديث آخر: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم سألهم عن شأنه فأخبروه أنهم أرادوا ذبحه.
وفى رواية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «إنه اشتكى كثرة العمل وقلة العلف» . وفى رواية: «إنه شكا إلىّ أنكم أردتم ذبحه بعد أن استعملتموه فى شاقّ العمل من صغره» فقالوا: نعم. وقد روى فى قصة العضباء وكلامها النبى صلّى الله عليه وسلّم، وتعريفها له بنفسها، ومبادرة العشب إليها فى الرّعى، وتجنّب الوحوش عنها، وندائهم لها أنّك لمحمد، وأنها لم تأكل ولم تشرب بعد موته حتى ماتت. ذكره الإسفرائنى. وروى ابن وهب: أن حمام مكة أظلت(18/326)
النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتحها، فدعا لها بالبركة. وقد ذكرنا قصة الغار وخبر الحمامتين والعنكبوت.
وعن عبد الله بن قرط قال: قرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدنات خمس أو ستّ أو سبع لينحرها يوم عيد، فازدلفن «1» إليه بأيّتهنّ يبدأ. وعن أمّ سلمة قالت: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى صحراء فنادته ظبية: يا رسول الله، قال:
«ما حاجتك» ؟ قالت: صادنى هذا الأعرابىّ ولى خشفان فى ذلك الجبل، فأطلقنى حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: «وتفعلين» ؟ قالت: نعم، فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها، فانتبه الأعرابى. فقال: يا رسول الله، ألك حاجة؟ قال: «تطلق هذه الظّبية» فأطلقها، فخرجت تعدو فى الصحراء وتقول:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
ومنه ما روى من تسخير الأسد لسفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
إذ وجّهه إلى معاذ باليمن، فلقى الأسد فعرّفه أنه مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه كتابه، فهمهم وتنحّى عن الطريق، وذكر فى منصرفه مثل ذلك.
وفى رواية أخرى عنه: أن سفينة تكسرت به، فخرج إلى جزيرة فإذا الأسد؛ قال فقلت: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يغمزنى بمنكبه حتى أقامنى على الطريق. وروى أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ بأذن شاة لقوم من عبد القيس بين إصبعيه ثم خلّاها، فصار لها ميسما، وبقى ذلك الأثر فيها وفى نسلها. وقد روى عن إبراهيم بن حمّاد بسنده كلام الحمار الذى أصابه بخيبر، وقال له:(18/327)
[ما اسمك «1» قال] : اسمى يزيد بن شهاب، فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم يعفورا وأنه كان يوجهه إلى دور أصحابه فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما مات، تردّى فى بئر جزعا وحزنا فمات. وخبر الناقة التى شهدت عند النبى صلّى الله عليه وسلّم لصاحبها أنه ما سرقها وأنها ملكه. وخبر العنز التى أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عسكره، وقد أصابهم عطش ونزلوا على غير ماء وهم زهاء ثلاثمائة، فحلبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأروى الجند، ثم قال لرافع: «املكها وما أراك «2» » فربطها فوجدها قد انطلقت. رواه ابن قانع وغيره، وفيه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذى جاء بها هو الذى ذهب بها» . وقال عليه السلام لفرسه، وقد قام إلى الصلاة فى بعض أسفاره:
«لا تبرح بارك الله فيك حتى نفرغ من صلاتنا» وجعله قبلته «3» فما حرّك عضوا حتى فرغ من صلاته صلّى الله عليه وسلّم.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما روى من كلام الأموات والأطفال وشهادتهم له بالنبوّة.
فمن ذلك ما روى عن فهد «4» بن عطية: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أتى بصبىّ قد شبّ لم يتكلم قطّ، فقال له: «من أنا» ؟ فقال: رسول الله.
وعن معرّض بن معيقيب قال: رأيت من النبى صلّى الله عليه وسلّم عجبا، جىء(18/328)
بصبىّ يوم ولد، فذكر مثله، وهو حديث مبارك اليمامة، ويعرف بحديث شاصونه «1» اسم راويه، وفيه؛ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت بارك الله فيك» ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شبّ، فكان يسمى مبارك اليمامة، وكانت هذه القصة بمكة فى حجة الوداع.
وعن الحسن رضى الله عنه: أتى رجل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر له أنه طرح بنيّة له فى وادى كذا، فانطلق معه إلى الوادى وناداها باسمها «يا فلانة احيى بإذن الله» فخرجت وهى تقول: لبّيك وسعديك، فقال لها: «إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردّك عليهما» قالت: لا حاجة لى فيهما، وجدت الله خيرا لى منهما.
وعن أنس رضى الله عنه أن شابا من الأنصار توفّى وله أمّ عجوز عمياء قال:
فسجّيناه وعزّيناها فقالت: مات ابنى؟ قلنا: نعم، قالت: اللهم إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعيننى على كل شدّة، فلا تحمّلنّ علىّ هذه المصيبة «2»
، قال: فما برحنا أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا.
وروى عن عبد الله بن عبيد الله الأنصارى قال: كنت فيمن دفن ثابت بن قيس ابن شمّاس- وكان قتل باليمامة- فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول:
محمد رسول الله، أبو بكر الصدّيق، عمر الشهيد، وعثمان البرّ الرحيم «3» ، فنظرنا فإذا هو ميّت. وذكر عن النعمان بن بشير: أن زيد بن خارجة خرّ «4» ميتا فى بعض أزقة(18/329)
المدينة، فرفغ وسجّى إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن حوله يقول: أنصتوا أنصتوا، فحسر عن وجهه، فقال: محمد رسول الله، النبىّ الأمىّ، وخاتم النبيين، كان ذلك فى الكتاب الأوّل، ثم قال: صدق صدق، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم عاد ميتا. ومن ذلك قصة الذّراع وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة. وقد تقدّم خبر الذراع. والله منجى المتقين ووليهم.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إبراء المرضى وذوى العاهات، كردّ عين قتّادة، وكشف بصر الضرير، وتفله صلّى الله عليه وسلّم على جراحات فبرأت، وغير ذلك مما نشرحه إن شاء الله تعالى.
أما عين قتادة بن النعمان فقد روينا بإسناد متّصل عن سعد بن أبى وقّاص:
أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانت أحسن عينيه. وذكر الأصمعى عن أبى معشر المدنى قال: أوفد أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، بديوان المدينة إلى عمر بن عبد العزيز رجلا من ولد قتادة بن النعمان، فلما قدم عليه قال له: ممن الرجل؟ قال:
أنا ابن الذى سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكفّ المصطفى أحسن الرد «1»
فعادت كما كانت لأوّل أمرها ... فياحسن ما عين ويا حسن ما ردّ «2»
فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «3»(18/330)
حكاه ابن عبد البر. وروى النّسائىّ عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لى عن بصرى. قال «1» : «فانطلق فتوضأ ثم صلّ ركعتين، ثم قل اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيّى «2» محمد نبى الرحمة يا محمد إنى أتوجّه بك إلى ربك أن يكشف عن بصرى اللهم شفعه فىّ» قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وروى أن ابن ملاعب «3» الأسنّة أصابه استسقاء فبعث إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ بيده حثوة من الأرض فنقل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا- يرى أنه قد هزئ به- فأتاه بها وهو على شفا فشربها «4» فشفاه الله. وذكر العقيلىّ عن حبيب بن فديك- ويقال فويك «5» - أن أباه ابيضّت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط فى الإبرة وهو ابن ثمانين.
وأتنه امرأة من خثعمّ معها صبىّ به بلاء «6» لا يتكلم، فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه ثم أعطاها إباه وأمرها بسقيه ومسّه به، فبرأ الغلام، وعقل عقلا، يفضل عقول الناس. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاءت امرأة بابن لها به جنون، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره فثع»
ثعّة فخرج(18/331)
من جوفه مثل الجرو الأسود فشفى. وكانت فى كفّ شرحبيل الجعفى سلعة، تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فما زال يطحنها بكفّه حتى رفعها ولم يبق لها أثر. وسألته جارية طعاما وهو يأكل، فناولها من بين يديه، وكانت قليلة الحياء، فقالت: إنما أريد من الذى فى فيك، فناولها ما فى فيه، ولم يكن يسأل شيئا فيمنعه، فلما استقر فى جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم تكن امرأة بالمدينة أشدّ حياء منها.
وأما الجراحات التى تفل عليها فبرأت فكثير
منها أنه صلّى الله عليه وسلّم بصق على أثر سهم فى وجه أبى قتادة، فى يوم ذى قرد «1» ، قال: فما ضرب علىّ، ولا قاح «2» . ومنها أن كلثوم بن الحصين رمى يوم أحد فى نحره، فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه فبرأ، وتفل على شجّة عبد الله ابن أنيس فلم تمدّ «3» . وتفل فى رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب حين قتل ابن الأشرف فبرئت، وعلى ساق على بن الحكم يوم الخندق، إذ انكسرت فبرئ مكانه وما نزل عن فرسه. وقطع أبو جهل يد معوّذ بن عفراء «4» في يوم بدر، فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب، ومن روايته: أن خبيب «5» بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربة على عاتقه حتى مال شقّه، فردّه رسول الله صلّى الله عليه(18/332)
وسلّم، ونفث عليه حتى صح. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وتفل فى عينى علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارثا. واشتكى علىّ مرة فجعل يدعو، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم:
«اللهم اشفه أو عافه «1» » ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد ذلك.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم إجابة دعائه
وهذا فصل متسع جدّا، نذكر منه ما اشتهر وانتشر، وتواترت به الأخبار وتداولته الرّواة، ونقله أصحاب السّير، ولا شك ولا خلاف بين أحد من الأمة فى إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم؛ وقد روى عن حذيفة أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده. روى عن أنس بن مالك قال: قالت أمى يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له؛ قال:
«اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما آتيته» قال أنس: فو الله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليعادّون اليوم على نحو المائة، وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدى هاتين مائة من ولدى، لا أقول سقطا ولا ولد ولد. ودعا صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن عوف بالبركة، قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجر لرجوت أن أصيب تحته ذهبا، ولما مات حفر الذهب من تركته بالفؤس حتى مجلت «2» فيه الأيدى، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفا، وكنّ أربعا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إجداهن- لأنه طلقها فى مرضه- على نيف وثمانين ألفا، وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية فى حياته. ودعا لمعاوية بالتمكين فى البلاد فنال الخلافة. ولسعد بن أبى وقّاص أن(18/333)
يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له. ودعا أن يعزّ الله الإسلام بعمر أو بأبى جهل فاستجيب له فى عمر رضى الله عنه؛ قال ابن مسعود: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. وقال لأبى قتادة: «أفلح وجهك، اللهم بارك له فى شعره وبشره «1» » فمات وهو ابن سبعين سنة وكأنّه ابن خمس عشرة. وقال للنابغة:
«لا يفضض «2» الله فاك» قال: فما سقطت له سنّ، وكان، أحسن الناس ثغرا «3» ، إذا سقطت له سنّ نبتت له أخرى، وعاش عشرين ومائة سنة، وقيل: أكثر.
ودعا لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما: «اللهم فقّهه فى الدين وعلمه التأويل» فسمى بعد الحبر وترجمان «4» القرآن. ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة فى صفقة «5» يمينه؛ فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا للمقداد بالبركة؛ فكان عنده غرائر من المال.
ودعا كذلك لعروة بن أبى الجعد، قال: فلقد كنت أقوم بالكناسة «6» فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا. ودعا لعلىّ أن يكفى الحرّ والقرّ، فكان يلبس فى الشتاء ثياب الصيف، وفى الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حرّ ولا برد. ودعا على مضر فأقحطوا حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا. وتقدم خبره فى دعائه فى الاستسقاء والاستضحاء «7» . ودعا على كسرى أن يمزّق ملكه فلم يبق له باقية، ولم تعد لفارس مملكة. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع، فقال:
«لا استطعت» «8» فلم يرفعها إلى فيه بعد. وقال فى عتبة بن أبى لهب: «اللهم سلّط(18/334)
عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد كما تقدم. ودعا على مجلّم بن جثّامة، فمات لسبع فلفظته الأرض ثم ووروى فلفظته، فألقوه فى صدّين ورضموا «1» عليه بالحجارة، والصّدّ جانب الوادى. ودعواته صلّى الله عليه وسلّم كثيرة عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم انقلاب الأعيان
فيما لمسه أو باشره؛ كسيف عكاشة بن محصن، وعبد الله بن جحش، وغير ذلك، وكان من خبر عكاشة أن سيفه انكسر يوم بدر فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذل «2» حطب، وقال: «اضرب به» فعاد فى يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد فى قتال أهل الردّة، وكان هذا السيف يسمى العون. ودفع لعبد الله بن جحش- وقد ذهب سيفه يوم أحد- عسيب «3» نخل فرجع فى يده سيفا. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على ماء «4» فسأل عنه، فقيل له اسمه بيسان وماؤه ملح، فقال: «بل هو نعمان وماؤه طيّب» فكان كذلك. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطى قتادة بن النعمان- وكان قد صلّى معه العشاء فى ليلة مظلمة مطيرة- عرجونا، وقال: «انطلق به فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا، ومن خلفك عشرا «5» ، فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه به حتى يخرج فإنه الشيطان»(18/335)
فانطلق فأضاء له العرجون، ووجد السواد فضربه حتى خرج. ومن ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم زوّد أصحابه سقاء من ماء بعد أن أوكأه ودعا فيه، فلما حضرتهم الصلاة نزلوا فحلوه فإذا به لبن طيب وفى فمه زبدة. رواه حمّاد بن سلمة.
ومما يلتحق بهذا الفصل
أنه صلّى الله عليه وسلّم ركب فرسا لأبى طلحة، كان يقطف «1» - أو- به قطاف، فلما رجع قال: وجدنا فرسك بحرا، فكان بعد لا يجارى. ونخس «2» جمل جابر بن عبد الله، وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه، وقد تقدم خبره. وخفق فرس جعيل الأشجعى بمخفقه «3» معه وبرّك عليها فلم يملك رأسها نشاطا، وباع من بطنها باثنى عشر ألفا. وركب صلّى الله عليه وسلّم حمارا قطوفا لسعد بن عبادة فرده هملاجا «4» لا يساير.
ومن ذلك بركة يده صلّى الله عليه وسلّم فيما لمسه كقصة سلمان فى كتابته، وما غرس له صلّى الله عليه وسلّم من الودىّ «5» فأطعمت كلها من عامها، والذّهب الذى أعطاه، وقد تقدم ذكر ذلك فى إسلام سلمان. ومنه أنه صلّى الله عليه وسلّم مسح على رأس عمير بن سعد وبرّك فمات وهو ابن ثمانين سنة وما شاب. وكذلك السّائب ابن يزيد، ومدلوك «6» ، وكان يوجد لعتبة بن فرقد طيب يغلب طيب نسائه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح بيده على بطنه وظهره. ومسح على(18/336)
رأس قيس بن زيد الجذامىّ، ودعا له فهلك وهو ابن مائة سنة، ورأسه أبيض، وموضع كفّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وما مرّت يده عليه من شعره أسود، فكان يدعى الأغرّ. وروى مثل ذلك لعمرو بن ثعلبة الجهنىّ. ومسح وجه آخر فما زال على وجهه نور. ومسح وجه قتادة بن ملحان، فكان لوجهه بريق، حتى كان ينظر فيه كما ينظر فى المرآة. ونضح فى وجه زينب بنت أمّ سلمة نضحة من ماء، فما نعرف كان فى وجه امرأة من الجمال ما بها. ومسح على رأس صبى به عاهة فبرأ واستوى شعره، وعلى غير واحد من الصبيان المرضى والمجانين فبرءوا. وأتاه رجل به أدرة «1» فأمره أن ينضحها بماء من عين مجّ «2» فيها ففعل فبرأ. وعن طاوس:
لم يؤت النبى صلّى الله عليه وسلّم بأحد به مسّ فصكّ فى صدره إلا ذهب. والمس:
الجنون. ومجّ فى دلو من بئر ثم صبّ فيها ففاح منها ريح المسك. وشكا إليه أبو هريرة النسيان فأمره أن يبسط ثوبه، وغرف بيده فيه ثم أمره بضمه ففعل فما نسى شيئا بعد. ومن ذلك درور الشياه الحوائل «3» باللبن الكثير؛ كقصة شاة أمّ معبد، وأعنز معاوية بن ثور، وشاة أنس، وغنم حليمة، وشارفها «4» ، وشاة عبد الله بن مسعود، وشاة المقداد، والله أعلم.
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما أخبر به من الغيوب، وما يكون قبل وقوعه، فكان كما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم؛ روى عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما، فما ترك شيئا يكون فى مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه «5» ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابى هؤلاء،(18/337)
وإنه ليكون منه الشىء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال حذيفة: ما أدرى أنسى أصحابى أم تناسوه، والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فتنة إلى أن تنقضى الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. وقال أبو ذرّ: لقد تركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يحرك طائر جناحيه فى السماء إلا ذكرنا منه علما «1» .
ومما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم مما يكون فكان، ما أخرجه أهل الصحيح والأئمة، مما وعد به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه من الظّهور على أعدائه، وفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق، وظهور الأمن حتى تظعن «2» المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله، وأن المدينة ستغزى «3» ، وتفتح خيبر على يدى علىّ فى غد يومه، وما يفتح الله على أمته من الدنيا، وما يؤتون من زهرتها «4» ، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وما يحدث بينهم من الفتون «5» والاختلاف والأهواء، وسلوك سبيل من قبلهم وافتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، وأنه ستكون لهم أنماط «6» ، ويغدو أحدهم فى حلّة ويروح فى أخرى، وتوضع بين يديه صحفة «7» وترفع أخرى، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة، ثم قال آخر الحديث:
«وأنتم اليوم خير منكم يومئذ» وأنهم إذا مشوا المطيطاء «8» ، وخدمتهم بنات(18/338)
فارس والروم، ردّ الله بأسهم بينهم، وسلّط شرارهم على خيارهم، وما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من قتالهم التّرك والخزر والرّوم، وذهاب كسرى وفارس، حتى لا كسرى ولا فارس بعده، وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده، وأن الروم ذات قرون إلى آخر الدهر، وأخبر بذهاب الأمثل فالأمثل من الناس، وتقارب الزمان، وقبض العلم، وظهور الفتن والهرج، وقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«زويت «1» لى الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» فكان كذلك؛ امتدت فى المشارق والمغارب، ما بين أرض الهند أقصى المشرق إلى بحر طنجة «2» حيث لا عمارة وراءه، ولم تمتدّ فى الجنوب والشمال مثل ذلك. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعرب من شرّ قد اقترب» .
وقوله: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة» ذهب ابن المدينى إلى أنهم العرب؛ لأنهم المختصّون بالسّقى بالغرب وهو الدّلو، وقيل:
بل هم أهل المغرب، ومن رواية أبى أمامة: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق قاهرين لعدوهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك» قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بملك بنى أمية، وولاية معاوية، ووصاه، واتخاذ بنى أمية مال الله دولا «3» .
وأخبر بخروج ولد العباس بالرايات السود، وملكهم أضعاف ما ملكوا، وأخبر بقتل علىّ رضى الله عنه، وأن أشقاها الذى يخضب هذه من هذه؛ أى لحيته من رأسه. وقال: يقتل عثمان وهو يقرأ المصحف، وأن الله عسى أن(18/339)
يلبسه قميصا، وأنهم يريدون خلعه، وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
«1» . وأن الفتن لا تظهر مادام عمر حيّا، وأخبر بمحاربة الزبير لعلىّ، ونباح كلاب الحوأب «2» على بعض أزواجه، وأنه يقتل حولها قتلى كثيرة، وتنجو بعد ما كادت، وأن عمّارا تقتله الفئة الباغية، وقال لعبد الله بن الزبير: «ويل للناس منك، وويل لك من الناس» وقال فى قزمان «3» وقد أبلى بلاء حسنا مع المسلمين: «إنه من أهل النار» فقتل نفسه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يكون فى ثقيف كذّاب ومبير «4» » فكان الكذاب المختار بن أبى عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف. وأخبر بالردّة، وأن الخلافة بعده ثلاثون، ثم ملكا، وقال: «إن هذا الأمر بدأ نبوّة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكا عضوضا «5» ، ثم يكون عتوّا وجبروّة وفسادا فى الأئمة» فكان كل ذلك كما أخبر. وأخبر أن سيكون فى أمته ثلاثون كذّابا فيهم أربع نسوة، وفى حديث آخر: «ثلاثون دجالا كذّابا آخرهم الدّجّال الكذّاب كلهم يكذب على الله ورسوله» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يوشك أن يكثر فيكم العجم يأكلون فيئكم «6» ، ويضربون رقابكم» فكان كذلك. وقال: «لا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه رجل من قحطان» «7» . وقال: «هلاك أمتى على يدى أغيلمة من قريش» قال أبو هريرة راوى الحديث: لو شئت سميتهم لكم،(18/340)
بنو فلان وبنو فلان. وأخبر بظهور القدريّة والرافضة، وسبّ آخر هذه الأمة أوّلها. وأخبر بشأن الخوارج وصفتهم، والمخدج «1» الذى فيهم، وأن سيماهم التّحليق «2» .
وقال: «خيركم قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتى بعد ذلك قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون» . وقال: «لا يأتى زمان إلا والذى بعده شر منه» . وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بالموتان «3» الذى يكون بعد فتح المقدس. وما وعد من سكنى البصرة، وأن أمته يغزون فى البحر كالملوك على الأسرّة؛ فكان فى زمن يزيد بن معاوية. وقال: «إن الدّين لو كان منوطا «4» بالثريا لناله رجال من ابناء فارس» . وقال صلّى الله عليه وسلّم فى الحسن بن على رضى الله عنهما: «إن ابنى هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين» . وأخبر بقتل الحسين بالطّف «5» ، وأخرج بيده تربة، وقال: فيها مضجعه. وقال فى زيد بن صوحان: يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده فى الجهاد. وقال لسراقة:
«كيف بك إذا لبست سوارى كسرى» فلما أتى بهما لعمر ألبسهما إياه، وقال:
الحمد لله الذى سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. وقال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربّل والصّراة «6» تجبى إليها خزائن الأرض يخسف بها» . فبنيت بغداد.
وقال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل طائفتان دعواهما واحدة» . وقال لعمر فى سهيل بن عمرو: «عسى أن يقوم مقاما يسرك يا عمر» فقام بمكة مقام أبى بكر يوم بلغهم موت النبى صلّى الله عليه وسلّم، وخطب بنحو خطبته، وثبّت الناس(18/341)
وقوّى بصائرهم، وقال لخالد حين وجهه إلى أكيدر: «إنك بحده يصيد البقر» فكان كذلك. وقد تقدّم خبره. وأخبر صلّى الله عليه وسلّم بوقائع نحن نترقب وقوعها؛ كقوله: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة» . وأخبر بغير ذلك من الأمور التى وقعت فى حياته فى أماكن بعيدة، وأخبر بها حال وقوعها كموت النجاشى، وقتل أمراء مؤته، وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم.
ومن معجزاته عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته إياه مع كثرة أعدائه وتحزبهم واجتماعهم على أذاه
قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
«1» . وقال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا
«2» . وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ
«3» . وقال:
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
«4» . وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
«5» . روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من القبّة، فقال لهم:
«يأيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله ربى عزّ وجل» . وقيل: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية استلقى، ثم قال: «من شاء فليخذلنى» . وقد تقدم من عصمة الله له وكفايته قصتا دعثور وغورث، وخبر(18/342)
حمّالة الحطب، وأخذ الله تعالى على بصرها حين أرادته بالفهر «1» ، وخبر أبى جهل حين أراده بالحجر، وغير ذلك.
وها نحن نورد فى هذا الموضع من ذلك خلاف ما قدّمناه؛ فمن ذلك ما روى عن الحكم بن العاص أنه قال: تواعدنا على النبى صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقى بتهامة أحد، فوقعنا مغشيا علينا، فما أفقنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فخرجنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: تواعدنا أنا وأبو جهم بن حذيفة ليلة قتل «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجئنا منزله فسمعنا له، فافتتح وقال: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ
إلى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ
«3» فضرب أبو جهم على عضد عمر وقال: انج، وفرّا هاربين، فكانت من مقدّمات إسلام عمر. ومن ذلك خروجه صلّى الله عليه وسلّم على قريش حين اجتمعوا لقتله، فأخذ الله على أبصارهم حتى ذرا «4» التراب على رءوسهم وخلص منهم.
وقصة الغار، وأخذ الله على أبصارهم، وخبر سراقة بن مالك بن جعشم، وقد تقدّم ذكر ذلك. وفى خبر آخر أنّ راعيا عرف خبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر حين هاجرا، فخرج يشتدّ «5» ليعلم قريشا بشأنهما، فلما دخل مكة ضرب على قلبه فما يدرى ما يصنع، وأنسى ما خرج له حتى رجع إلى موضعه. وذكر السّمرقندىّ:
أن رجلا من بنى المغيرة أتى النبى صلّى الله عليه وسلّم ليقتله، فطمس الله بصره فلم(18/343)
ير النبى صلّى الله عليه وسلّم وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه ولم يرهم حتى نادوه، وذكر أنّ فيه وفى أبى جهل نزلت: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ
«1» .
وقد روى عن أبى هريرة أن أبا جهل وعد قريشا: لئن رأى محمدا- صلى الله عليه وسلّم- يصلّى ليطأنّ رقبته، فلما صلّى النبى صلى الله عليه وسلّم أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولّى هاربا ناكصا على عقبيه متّقيا بيديه، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوى فيه، وأبصرت هولا عظيما، وخفق أجنحة قد ملأت الأرض. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تلك الملائكة لودنا لا ختطفته عضوا عضوا» ثم أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى
«2» إلى آخر السورة. وقد ذكرنا أيضا قصة شيبة بن عثمان بن أبى طلحة فى غزوة حنين. وعن فضّالة بن عمرو قال: أردت قتل النبى صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: «أفضالة» ؟ قلت: نعم، قال: «ما كنت تحدّث به نفسك» ؟ قلت: لا شىء، فضحك واستغفر لى ووضع يده على صدرى فسكن قلبى، فو الله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إلىّ منه.
ومنه خبر عامر بن الطّفيل، وأربد بن قيس، وقد تقدم ذكر قصتهما «3» .
ومن معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور الشرائع وغير ذلك، كاطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على أخبار من سلف من الأمم، وقصص الأنبياء والرسل، وأخبار الجبابرة والقرون(18/344)
الماضية، وحفظ شرائعهم، وسرد أنبائهم، وأيّام الله فيهم، ومعارضة كل فرقة من أهل الكتاب بما فى كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيّروه، واحتوائه صلّى الله عليه وسلّم على لغات العرب وغريب ألفاظها، والحفظ لأيامها وأمثالها وحكمها، ومعانى أشعارها، وما خصه الله تعالى به من جوامع الكلم، وما علمه من ضروب العلوم وفنون المعارف؛ كالطبّ والعبارة «1» والفرائض والحساب والأنساب وغير ذلك، مما جعل أهل هذه العلوم كلامه صلّى الله عليه وسلّم فيها قدوة وحجة وأصولا يرجعون إليها فى علومهم؛ كقوله عليه السلام: «الرؤيا لأوّل عابر وهى على رجل طائر» وقوله: «الرؤيا ثلاث؛ رؤيا حق، ورؤيا يحدّث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان» . وقوله: «إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب» .
وقوله: «أصل كل داء البردة «2» » وقوله: «المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة» وقوله: «خير ما تداويتم به السّعوط «3» ، واللّدود «4» ، والحجامة، والمشىّ «5» ، وخير الحجامة يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين، وفى العود «6» الهندى سبعة أشفية» وقوله: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه» . وقوله لكاتبه:
«ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملى» . وقد وردت آثار بمعرفته حروف(18/345)
الخطّ، وحسن تصويرها؛ كقوله: «لا تمدّوا بسم الله الرحمن الرحيم» رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس، وقوله فى الحديث الآخر الذى يروى عن معاوية أنه كان يكتب بين يديه- صلى الله عليه وسلّم- فقال له: «ألق «1» الدّواة، وحرّف القلم، وأقم الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر «2» الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم» وإن لم تصح الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب، فلا يبعد أن يكون قد رزق علم الخطّ، ومنع الكتابة والقراءة. وكذلك حفظه صلّى الله عليه وسلّم لكثير من لغات الأمم؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنه سنه «3» » وهى حسنة بالحبشية، وقوله: و «يكثر الهرج» وهو القتل بها، وقوله فى حديث أبى هريرة: «اشكنب «4» دردم» أى وجع البطن بالفارسية، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا من دارس العلوم، ومارس الكتب، وداوم المطالعة، وعكف على الاشتغال. وكان صلّى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله عز وجل:
«وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» «5» وفى هذا أكبر آية، وأعظم دلالة، وأبين حجة، وأبهر معجزة له صلّى الله عليه وسلّم.
وقد رأينا أن نختم هذه الفصول بذكر القصيدة التى ابتسمت ثغورها بوصف معجزاته،
وتحلّت نحورها بجواهر صفاته، ورفلت فى حلل الفخار من باهر آياته، وسحبت ذيول الافتخار بإشارات إلى غزواته، وفاح أرجها فأخجل المسك الدّارىّ «6» ، وأشرقت أنوارها على النيرين(18/346)
فما ظنك بالدرارىّ، وهى قصيدة الشيخ الإمام العلامة أبى محمد عبد الله بن زكريا الشّقراطيسىّ «1» رحمه الله تعالى، وإنما اقتصرنا عليها وصرفنا الرغبة دون غيرها إليها لاشتمالها على جمل من أخباره السنية، ونكت من آثاره التى هى بكل خير ملية، وهى:
الحمد لله منّا باعث الرسل ... هدى بأحمد منّا أحمد السّبل «2»
خير البرية من بدو ومن حضر ... وأكرم الخلق من حاف ومنتعل «3»
توراة موسى أتت عنه فصدّقها ... إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل «4»
أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا فى الأعصر الأول
ضاءت لمولده الآفاق وانصلت ... بشرى الهواتف فى الإشراق والطّفل «5»
وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقاض منكسر الأرجاء ذا ميل «6»
ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرّت لمبعثه الأوثان وانبعثت ... ثواقب الشهب ترمى الجنّ بالشّعل
ومنطق الذئب بالتصديق معجزة ... مع الذراع ونطق العير والجمل «7»
وفى دعائك بالأشجار حين أتت ... تسعى بأمرك فى أغصانها الذّلل
وقلت عودى فعادت فى منابتها ... تلك العروق بإذن الله لم تمل(18/347)
والسّرح بالشام لما جئتها سجدت ... شمّ الذوائب فى أغصانها الخضل «1»
والجذع حنّ لأن فارقته أسفا ... حنين ثكلى شجتها لوعة الثّكل «2»
ما صبر من صار من عين على أثر ... وحال من حال من حال إلى عطل «3»
حيى فمات سكونا ثم مات لدن ... حيى حنينا فأضحى غاية المثل
والشاة لمّا مسحت الكفّ منك على ... جهد الهزال بأوصال لها قحل «4»
سحّت ودرّت بشكر الضرع حافلة ... فروّت الركب بعد النّهل بالعلل «5»
وآية الغار إذ وقّيت فى حجب ... عن كل رجس لرجس الكفر منتحل «6»
وقال صاحبك الصّدّيق كيف بنا ... ونحن منهم بمرأى الناظر العجل
فقلت لا تحزن ان الله ثالثنا ... وكنت فى حجب ستر منه منسدل
حمّت لديك حمام الوحش جاثمة ... كيدا لكل غوىّ القلب مختبل «7»
والعنكبوت أجادت حوك حلّتها ... فما يخال خلال النّسج من خلل
قالوا: وجاءت إليه سرحة سترت ... وجه النبىّ بأغصان لها هدل»(18/348)
وفى سراقة آيات مبنيّة ... إذ ساخت الحجر فى وحل بلا وحل «1»
عرجت تخترق السبع الطّباق إلى ... مقام زلفى كريم قمت فيه عل «2»
عن قاب قوسين أو أدنى هبطت ولم ... تستكمل الليل بين المرّ والقفل «3»
دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل «4»
صعّدت كفّيك إذ كفّ الغمام فما ... صوّبت إلّا بصوب الواكف الهطل «5»
أراق بالأرض ثجّا صوب ريّقه ... فحلّ بالأرض نسجا رائق الحلل «6»
زهر من النّور حلّت روض أرضهم ... زهرا من النّور ضافى النبت مكتهل «7»
من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل «8»
تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد المضرة تروى السّبل بالسّبل «9»
دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل(18/349)
ويوم زورك بالزّوراء إذ صدروا ... من يمن كفّك عن أعجوبة مثل «1»
والماء ينبع جودا من أناملها ... وسط الإناء بلا نهر ولا وشل «2»
حتى توضأ منه القوم واغترفوا ... وهم ثلاث مئين جمع محتفل
أشبعت بالصاع ألفا مرملين كما ... رؤيت ألفا ونصف الألف من سمل «3»
وعاد ما شبع الألف الجياع به ... كما بدوا فيه لم ينقص ولم يحل
أعجزت بالوحى أصحاب البلاغة فى ... عصر البيان فضلّت أوجه الحيل
سألتهم سورة فى مثل حكمته ... فتلّهم عنه حين العجز حين تلى «4»
ورام رجس كذوب أن يعارضه ... بعىّ غىّ فلم يحسن ولم يطل «5»
مثبّج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزرىّ الزّور والخطل «6»
يمجّ أول حرف منه سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل «7»
كأنّه منطق الورهاء شذّبه ... لبس من الخبل أو مسّ من الخبل «8»
أمرّت البئر واغورّت لمجّته ... فيها وأعمى بصير العين بالتّفل «9»(18/350)
وأيبس الضّرع منه شؤم راحته ... من بعد إرساله بالرّسل منهمل «1»
برئت من دين قوم لا قوام لهم ... عقولهم من وثاق الغىّ فى غلل «2»
يستخبرون خفىّ الغيب من حجر ... صلد ويرجون غوث النصر من هبل «3»
نالوا أذّى منك- لولا حلم خالقهم ... وحجّة الله بالإنذار لم تنل «4»
واستضعفوا أهل دين الله فاصطبروا ... لكل معضل خطب فادح جلل «5»
لاقى بلال بلاء من أميّة قد ... أحلّه الصبر فيه أكرم النّزل
إذ أجهدوه بضنك الضّنك وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل «6»
ألقوه بطحا برمضاء البطاح وقد ... عالوا عليه صخورا جمّة الثّقل «7»
فوحّد الله إخلاصا وقد ظهرت ... بظهره كنده ب الطّلّ فى الطّلل «8»
إن قدّ ظهر ولىّ الله من دبر ... قد قدّ قلب عدوّ الله من قبل «9»
نفرت فى نفر لم ترض أنفسهم ... إذ نافروا الرّجس إلّا القدس من نفل «10»(18/351)
بأنفس بدّلت فى الخلد إذ بذلت ... عن صدق بذل ببدر أكرم البدل
قالوا: محمد قد حلّت كتائبه ... كالأسد تزأر فى أنيابها العصل «1»
فويل مكّة من آثار وطأته ... وويل أمّ قريش من جوى الهبل «2»
فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللّوم والعذل
أضربت بالصّفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل القوم فى المقل»
رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الرّوع والوجل «4»
عاذوا بظل كريم العفو ذى لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل «5»
أحبب بخيل من التّكوين قد جنبت ... لجانب عن جناب الحقّ معتزل «6»
أعميت جيشا بكفّ من حصى فجثوا ... وعطّلوا عن حراك النّفل بالنّقل «7»
ودعوة بفناء البيت صادقة ... غدا أميّة منها شرّ منخزل «8»(18/352)
غادرت جهل أبى جهل بمجهلة ... وشاب شيبة قبل الموت من وجل «1»
وعتبة الشّرّ لم يعتب فتعطفه ... منك العواطف قبل الفوت فى مهل «2»
وعقبة الغمر عقباه لشقوته ... قد ظلّ من غمرات الغىّ فى ظلل «3»
وكلّ أشوس عاتى القلب منقلب ... جعلته بقليب البئر كالجعل «4»
وجاثم بمثار النّقع مشتغل ... بجاحم من أوار النار مشتعل «5»
عقدت بالحزى فى عطفى مقلّدهم ... طوق الحمامة باق غير منتقل «6»
أمسى خليل صغار بعد نخوته ... بالأمس فى خيلاء الخيل والخول «7»
دام يديم زفيرا فى جوانحه ... جنح من الشّكّ لم يجنح ولم يمل «8»
يقاد فى القدّ خنقا مشربا حنقا ... يمشى به الذّعر مشى الشارب الثّمل «9»(18/353)
أوصاله من صليل الغلّ فى علل ... وقلبه من غليل الغلّ فى غلل «1»
يظلّ يحجل ساجى الطرف خافضه ... بمسكة الحجل لا من مسكة الحجل «2»
أرحت بالسيف ظهر الأرض من نفر ... أزحت بالصدق منهم كاذب العلل «3»
تركت بالكفر صدعا غير ملتئم ... وآب منك بقرح غير مندمل «4»
وأفلت السيف منهم كلّ ذى أسف ... على الحمام حماه آجل الأجل «5»
قد أعتقته عتاق الخيل وهو يرى ... به إلى رقّ موت رقّة الغزل «6»
فكم بمكة من باك وباكية ... بفيض سجل من الآماق منسجل «7»
وكاسف البال بالى الصبر جدت له ... بوابل من وبال الخزى متّصل «8»
فؤاده من سعير الغيظ فى غلل ... وعينه من غزير الدمع فى غلل «9»(18/354)
قد أسعرت منه صدرا غير مصطبر ... وحمّلت منه قلبا غير محتمل «1»
ويوم مكة إذ أشرفت فى أمم ... يضيق عنها فجاج الوعر والسّهل «2»
خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... فى قاتم من عجاج الخيل والإبل «3»
وجحفل قذف الأرجاء ذى لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسدل «4»
وأنت- صلى عليك الله- تقدمهم ... فى بهو إشراق نور منك مكتمل «5»
ينير فوق أغرّ الوجه منتجب ... متوّج بعزيز النصر مقتبل «6»
تسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت لواء العزّحين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل «7»
وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملّكت إذ نلب منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجوّ يزهر إشراقا من الجذل «8»
والخيل تختال ميلا فى أعنّتها ... والعيس تنثال رهوا من ثنى الجدل «9»(18/355)
لولا الذى خطّت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذى حول
أهلّ ثهلان بالتهليل من طرب ... وذاب يذبل تكبيرا من الذّبل «1»
الملك لله هذا عزّ من عقدت ... له النبوّة فوق العرش فى الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السّهل والقلل «2»
من كل مهتصر لله منتصر ... بالسيف مختصر بالرّمح معتقل «3»
يمشى إلى الموت عالى الكعب معتقلا ... أظمى الكعوب كمشى الكاعب الفضل «4»
قد قاتلوا دونك الأقيال عن جلد ... وجالدوا بجلاء البيض والجدل «5»
وصلتهم وقطعت الأقربين معا ... فى الله لولاه لم تقطع ولم تصل
وجاء جبريل فى جند لهم عدد ... لم يبتذلها أكفّ الخلق بالعمل
بيض من العون لم تستلّ من عمد ... خيل من الكون لم تستنّ فى طيل «6»(18/356)
أزكى البرية أخلاقا وأطهرها ... وأكثر الناس صفحا عن ذوى الزّلل
زان الخشوع وقار منه فى خفر ... أرقّ من خفر العذراء فى الكلل «1»
وطفت فى البيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح فى شغل
والكفر فى ظلمات الرّجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل «2»
حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل «3»
وحلّ أمن ويمن منك فى يمن ... لما أجابت إلى الإيمان فى عجل
وأصبح الدين قد حفّت جوانبه ... بعزة النصر واستعلى على الملل «4»
قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل
أحبب بخلّة أهل الحقّ فى الخلل ... وعزّ دولته الغرّاء فى الدول
أمّ اليمامة يوم منه مصطلم ... وحلّ بالشام شؤم غير مرتحل «5»
تعرّقت منه أعراق العراق ولم ... يترك من التّرك عظما غير منتثل «6»(18/357)
لم يبق للفرس ليث غير مفترس ... ولا من الحبش جيش غير منجفل «1»
ولا من الصّين صون غير مبتذل ... ولا من الروم مرمى غير منتضل «2»
ولا من النّوب جذم غير منجذم ... ولا من الزّنج جذل غير منجذل «3»
ونيل بالسّيف سيف النّيل واتصلت ... دعوى الجنود فكلّ بالجلاد صلّى «4»
وسلّ بالغرب غرب السيف إذ شرقت ... بالشرق قبل صدور البيض والأسل «5»
وعاد كل عدوّ عزّ جانبه ... قد عاذ منك ببذل منه مبتذل «6»
بذمّة الله والإيمان متّصل ... أو من شبا النّصل بالأموال منتصل «7»
يا صفوة الله قد صافيت فيك صفا ... صفو الوداد بلا شوب ولا دخل «8»
ألست أكرم من يمشى على قدم ... من البرية فوق السهل والجبل
وأزلف الحلق عند الله منزلة ... إذ قيل فى مشهد الأشهاد والرسل
قم يا محمد فاشفع فى العباد وقل ... تسمع وسل تعط واشفع عائدا وسل
والكوثر الحوض يروى الناس من ظمأ ... برح وينقع منه لاعج الغلل «9»(18/358)
أصفى من الثلج إشراقا مذاقته ... أحلى من اللبن المضروب بالعسل
نحلتك الودّ علىّ إذ نحلتكه ... أحبى بفضلك منه أفضل النّحل «1»
فما لجلدى بنضج النار من جلد ... ولا لقلبى بهول الحشر من قبل
يا خالق الخلق لا تخلق بما اجترمت ... يداى وجهى من حوب ومن زلل «2»
واصحب وصلّ وواصل كلّ صالحة ... على صفيّك فى الإصباح والأصل
صلّى الله عليه وسلّم وقد آن أن نأخذ فى ذكر أخبار وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونبدأ من ذلك بما أنزل عليه عند اقتراب أجله، ثم نذكر ابتداء وجعه والحوادث التى انفقت فى أثناء مرضه إلى حين وفاته صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر ما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند اقتراب أجله، وما كان يقوله مما استدل به على اقترابه
كان مما استدل به على اقتراب أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نزول سورة الفتح، وتتابع الوحى، وتكرار عرض القرآن على جبريل، واستغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل البقيع والشهداء. روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سأل عن قول الله عز وجل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً
«3» فقال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا الله وفتح علينا. وقال بعضهم: فتح المدائن والقصور. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، قال عمر: كذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو(18/359)
أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه له؛ قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
وذاك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً
«1» فقال عمر رضى الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: ما صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
إلا يقول فيها: «سبحانك ربّنا وبحمدك اللهم اغفرلى» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
داع من الله ووداع من الدنيا.
وعنه رضى الله عنه قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة فقال: «إنه نعيت إلىّ نفسى» قالت: فبكيت، فقال: «لا تبكى فإنك أوّل أهلى بى لحوقا» فضحكت. وروى محمد بن سعد بسنده إلى أنس بن مالك: أن الله تبارك وتعالى تابع الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفّى، وأكثر ما كان الوحى فى يوم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى ابن سعد أيضا بسنده إلى عكرمة قال قال العباس:
لأعلمنّ بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا، فقال له: يا رسول الله، لو اتخذت عرشا فإن الناس قد آذوك، قال: «والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعونى رداتى ويصيبنى غبارهم حتى يكون الله يريحنى منهم» قال العباس: فعرفنا أن بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فينا قليل. وعن واثلة بن الأسقع قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أتزعمون أنى من آخركم وفاة، ألا وإنى من أوّلكم وفاة، وتتبعونى أفنادا «2» يهلك بعضكم بعضا» . وعن أبى صالح قال: كان جبريل يعرض القرآن كل سنة مرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام الذى(18/360)
قبض فيه عرضه عليه مرتين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعتكف فى شهر رمضان العشر الأواخر، فلما كانت السنة التى قبض فيها اعتكف عشرين يوما.
وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم نحوه.
ذكر استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأهل بقيع الغرقد «1» والشّهداء، وما روى من تخييره بين البقاء ولقاء الله تعالى، واختياره لقاء ربه عز وجل
روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج، فأمرت جاريتى بريرة فتبعته، حتى إذا جاء البقيع وقف فى أدناه ما شاء الله أن يقف، ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتنى فلم أذكر له شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت ذلك له فقال: «إنى بعثت لأهل البقيع لأصلى عليهم» . وعنها رضى الله عنها قالت: افتقدت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من الليل فتبعته فإذا هو البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط،»
وإنابكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم» قالت: ثم التفت إلىّ فقال:
«ويحها لو تستطيع ما فعلت» . وعنها رضى الله عنها قالت: وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مضجعه من جوف الليل، فقلت: إلى أين بأبى أنت وأمى يا رسول الله؟ قال: «أمرت أن أستغفر لأهل البقيع» قالت: فخرج وخرج معه مولاه أبو رافع، وكان أبو رافع يحدّث قال: استغفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم طويلا ثم انصرف، وجعل يقول: «يا أبا رافع إنى خيّرت بين خزائن(18/361)
الدنيا والخلد ثم الجنة وبين لقاء ربى والجنة فاخترت لقاء ربى» . وعن أبى مويهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جوف الليل: «يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معى» فخرج وخرجت معه حتى جاء البقيع فاستغفر لأهله طويلا، ثم قال: «ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شر من الأولى» ثم أقبل علىّ فقال: «يا أبا مويهبة إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» فقلت: بأبى أنت وأمى، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربى والجنة» ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف. والجمع بين هذه الأحاديث كلها غير مناف؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربما استغفر لأهل البقيع ليالى، ويؤيد هذا ويعضده ما رواه عطاء بن يسار عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كانت ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أتانا وإياكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى فقيل له:
اذهب فصلّ على أهل البقيع، ففعل ذلك ثم رجع فرقد، فقيل له اذهب فصلّ على الشهداء، فذهب إلى أحد فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدوّ الوجع الذى مات فيه صلّى الله عليه وسلّم.
وعن عقبة بن عامر الجهنىّ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنانسوها» .(18/362)
ذكر ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستئذانه نساء أن يمرض فى بيت عائشة رضى الله عنها
كان ابتداء وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى يوم الأربعاء، قيل: لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: لليلة بقيت من صفر.
روى عن ابن شهاب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود- دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر- عن عائشة رضى الله عنها قالت: بدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوة الذى توفّى فيه وهو فى بيت ميمونة، فخرج فى يومه ذلك حتى دخل علىّ، قال ابن مسعود عنها: رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البقيع فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال: «بل أنا يا عائشة وارأساه» قالت ثم قال، «وما ضرّك لو متّ قبلى فقمت عليك وكفّنتك وصليت عليك ودفنتك» قالت قلت: والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتتامّ «1» به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعزّ «2» به وهو فى بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرّض فى بيتى فأذنّ له، قالت: فخرج يمشى بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر، عاصب رأسه تخطّ قدماه حتى دخل بيتى، قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عباس فقال: هل تدرى من الرجل الآخر؟ قال قلت: لا، قال: على بن أبى طالب قالت عائشة: ثم غمر «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واشتدّ به وجعه، فقال:(18/363)
«هريقوا علىّ من سبع قرب من آبار شتّى» وفى رواية: «لم تحلل أو كيتهنّ «1» لعلى أعهد إلى الناس» قالت: فأجلسناه فى مخضب «2» لحفصة بنت عمر، ثم طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ، ثم خرج إلى الناس وصلّى بهم وخطبهم صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أمر به من سدّ الأبواب التى تشرع إلى مسجده إلا باب أبى بكر الصديق ووصيته بالأنصار
روى عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله» فبكى أبو بكر فقلت فى نفسى: ما يبكى هذا الشيخ أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبرنا عن عبد خيّر فاختار؟ قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس، إنّ أمنّ الناس علىّ فى صحبته وما له أبو بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا كان أبو بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين فى المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبى بكر» . وعن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد؛ أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أعظم الناس علىّ منّا فى صحبته وذات يده أبو بكر، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها فى المسجد إلا باب أبى بكر» قال قتيبة: قال الليث بن سعد، قال معاوية ابن صالح، فقال ناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال رسول الله صلّى الله(18/364)
عليه وسلّم: «قد بلغنى الذى قلتم فى باب أبى بكر، وإنى أرى على باب أبى بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة» رواه محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى. وروى بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه عاصبا رأسه فى خرقة، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال:
«إنه ليس أحد أمنّ علىّ فى نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متّخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل، سدّوا عنى كلّ خوخة فى هذا المسجد غير خوخة أبى بكر» وعن أبى الحويرث قال:
لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواب تسدّ إلا باب أبى بكر، قال عمر:
يا رسول الله، دعنى أفتح كوّة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» . وعن أبى البدّاح بن عاصم بن عدىّ، قال قال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، ما بالك فتحت أبواب رجال إلى المسجد، ومالك سددت أبواب رجال؟ فقال: «يا عباس، ما فتحت عن أمرى ولا سددت عن أمرى» قالت عائشة رضى الله عنها فى حديثها: وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار، فقال: «يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار لا تزيد على هيئنها [التى هى عليها «1» ] اليوم، هم عيبتى «2» التى أويت إليها، أكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» . ومن رواية: «احفظونى فيهم؛ اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» .(18/365)
ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وفيه
روى عن أبى أمامة، عن كعب بن مالك قال: إنّ أحدث عهدى بنبيّكم صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بخمس، فسمعته [يقول «1» ] ويحرّك كفّه «إنه لم يكن نبىّ قبلى إلا وقد كان له من أمته خليل، ألا وإنّ خليلى أبو بكر، إنّ الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» . وعن أبى مليكة قال قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل يغلبه البكاء، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر» قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب. فقال: «إنكنّ صواحب يوسف، ادعوا إلىّ أبا بكر وابنه «2» ، فليكتب «3» أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع أو يتمنّى متمنّ «4» » ثم قال:
«يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون» قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون، فأبى الله ذلك والمؤمنون. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد، كلهم يحدّث عن عائشة رضى الله عنها- دخل حديث بعضهم فى حديث بعض- قالت: بدئ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «5» في بيت ميمونة فدخل علىّ وأنا أقول: وارأساه، فقال: «لو كان ذلك وأنا حىّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفّنك وأدفنك» فقلت:
واثكلاه، فو الله إنك لتحبّ موتى، ولو كان ذلك لظلمت يومك معرّسا ببعض(18/366)
أزواجك. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل أنا وارأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك وإلى أخيك فأفضى أمرى، وأعهد عهدى، فلا يطمع فى الأمر، طامع ولا يقول القائلون: أو يتمنى المتمنون» . وقال بعضهم فى حديثه:
«وبأبى الله إلا أبا بكر» . وعن محمد بن جبير قال: جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يذاكره فى الشىء، فقال: إن جئت فلم أجدك؟ قال: «فأت أبا بكر» .
وعن عاصم بن عمرو بن قتادة، قال: ابتاع النبى صلّى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل فقال: يا رسول الله، إن جئت فلم أجدك؟ يعنى بعد الموت، قال: «فأت أبا بكر» ، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر، بعد الموت؟ قال: «فأت عمر» ، قال: فإن جئت فلم أجد عمر؟ قال: «إن استطعت أن تموت إذا مات عمر فمت» .
ذكر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يصلّى
بالناس فى مرضه، وخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كلّم به الناس، وكم صلّى أبو بكر بالناس صلاة، وما روى من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ائتم بأبى بكر رضى الله عنه عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى ما يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فقلت لحفصة: قولى له إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال:
«إنكنّ لأتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلى بالناس» فلما دخل أبو بكر(18/367)
فى الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه خفة فقام يهادى «1» بين رجلين، ورجلاه تخطّان فى الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسّه ذهب أبو بكر يتأخّر، فأوما إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى قاعدا؛ يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يقتدون بصلاة أبى بكر. رواه البخارى فى صحيحه. وروى محمد ابن سعد بسنده عن عبيد بن عمير الليثى نحوه. وقال: فلما فرغا من الصلاة قال أبو بكر: أى رسول الله، أراك أصبحت بحمد الله صالحا، وهذا يوم ابنة خارجة- امرأة لأبى بكر من الأنصار- فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مصلّاة أو إلى جنب المنبر، فحذّر الناس الفتن، ثم نادى بأعلى صوته، حتى إن صوته ليخرج من باب المسجد، فقال: «إنى والله لا يمسك الناس علىّ بشىء؛ لا أحلّ إلا ما أحلّ الله فى كتابه، ولا أحرّم إلا ما حرّم الله فى كتابه» ثم قال: «يا فاطمة بنت محمد ويا صفية عمة رسول الله اعملا لما عند الله فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا» ثم قام من مجلسه ذلك، فما انتصف النهار حتى قبضه الله تعالى. وعن سعيد بن المسيّب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا، سلونى ما شئتم» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال:
دخلت على عائشة فقلت لها حدّثينى عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت:(18/368)
لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت:
ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء «1» فأغمى عليه ثم أفاق، فقال: «أصلّى الناس» ؟ فقلت:
لا، هم ينتظرونك، فقال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» قالت: ففعلنا فذهب فاغتسل فقال: «أصلّى الناس» ؟ قلت: لا، هم ينتظرونك، والناس عكوف فى المسجد ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة، قالت:
فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلّى بالناس، فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا-: يا عمر، صلّ بالناس، فقال له عمر: أنت أحقّ بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام. ثم إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وجد فى نفسه خفّة فخرج بين رجلين أحدهما العباس، فصلى الظهر وأبو بكر يصلّى بالناس، قالت: فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ألّا يتأخر، وقال لهما:
«أجلسانى إلى جنبه» فأجلساه إلى جنب أبى بكر فجعل أبو بكر يصلى، وهو قائم بصلاة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، والناس يصلون بصلاة أبى بكر، والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم قاعد، قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له:
ألا أعرض عليك ما حدّثتنى به عائشة عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
قال: هات، فعرضت [حديثها «2» ] عليه فما أنكر منه شيئا غير أنه قال: سمّت لك الرجل الذى كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو علىّ بن أبى طالب.
وروى محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن محمد عن عمارة بن غزيّة عن محمد بن إبراهيم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مريض لأبى بكر: «صلّ بالناس» فوجد رسول الله صلّى الله(18/369)
عليه وسلّم خفّة فخرج وأبو بكر يصلّى بالناس، فلم يشعر حتى وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده بين كتفيه، فنكص أبو بكر، وجلس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه، فصلّى أبو بكر وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصلاته، فلما انصرف قال:
«لم يقبض نبىّ قطّ حتى يؤمّه رجل من أمته» . وروى نحوه عن أبى معشر، عن محمد ابن قيس. وعن أمّ سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فى وجعه إذا خف عنه ما يجد خرج فصلّى بالناس، وإذا وجد ثقله قال: «مروا الناس فليصلّوا» فصلّى بهم ابن أبى قحافة يوما الصبح فصلّى ركعة، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس إلى جنبه فأتمّ بأبى بكر، فلما قضى أبو بكر الصلاة أتمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فاته. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى فى مرضه بصلاة أبى بكر ركعة من الصبح ثم قضى الركعة الباقية. قال الواقدى: ورأيت هذا الثّبت عند أصحابنا؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلف أبى بكر. وروى محمد بن سعد بسنده إلى عبد الله بن زمعة بن الأسود قال:
عدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى توفّى فيه، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مر الناس فليصلوا» قال عبد الله:
فخرجت فلقيت ناسالا أكلمهم، فلما لقيت عمر بن الخطاب لم أبغ من وراءه، وكان أبو بكر غائبا فقلت له: صلّ بالناس يا عمر، فقام عمر فى المقام وكان عمر رجلا مجهرا، فلما كبّر سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته، فأخرج رأسه حتى أطلعه للناس من حجرته، فقال: «لا، لا، لا، ليصل بهم ابن أبى قحافة» قال: يقول ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضبا، قال: فانصرف عمر فقال لعبد الله بن زمعة:
يابن أخى أمرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تأمرنى؟ قال فقلت: لا، ولكنى لما رأيتك لم أبغ من وراءك، فقال عمر: ما كنت أظنّ حين أمرتنى(18/370)
إلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس، فقال عبد الله: لمّا لم أر أبا بكر رأيتك أحقّ من حضر بالصلاة. وعن عبد الله ابن عباس قال: حضرت الصلاة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» فلما قام أبو بكر مقام النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اشتدّ بكاؤه وافتتن، واشتدّ بكاء من خلفه، لفقد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، فلما حضرت الصلاة جاء المؤذّن إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: قولوا للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر رجلا يصلّى بالناس، فإن أبا بكر قد افتتن من البكاء والناس خلفه، فقالت حفصة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: مروا عمر يصلى بالناس حتى يرفع الله رسوله، قال: فذهب إلى عمر فصلّى بالناس، فلما سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم تكبيره قال: «من هذا الذى أسمع تكبيره» ؟ فقال له أزواجه: عمر بن الخطاب، وذكروا له ما قاله المؤذّن، وما قالت حفصة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إنكنّ لصواحب يوسف، قولوا لأبى بكر فليصلّ بالناس» قال: فلو لم يستخلفه ما أطاع له الناس. وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى وجعه إذا وجد خفّة خرج، وإذا ثقل وجاءه المؤذّن قال:
«مروا أبا بكر يصلى بالناس» فخرج من عنده يوما الآمر يأمر الناس يصلون وابن أبى قحافة غائب، فصلى عمر بن الخطاب بالناس فلما كبّر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، لا، أين ابن أبى قحافة» ؟ قال: فانتقضت الصفوف وانصرف عمر، قال: فما برحنا حتى طلع ابن أبى قحافة وكان بالسّنح «1» فتقدّم فصلّى بالناس. وعن أنس بن مالك: أن أبا بكر- رضى الله عنهما- كان يصلى بهم فى وجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين(18/371)
وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثم تبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا ونحن فى الصلاة من الفرح. قال: ونكص أبو بكر على عقبيه، فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أن أتموا صلاتكم» قال: ثم دخل وأرخى الستر، فتوفّى من يومه صلّى الله عليه وسلّم. وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال سألت أبا بكر بن عبد الله بن أبى سبرة: كم صلّى أبو بكر بالناس؟ قال: صلّى بهم سبع عشرة صلاة، قلت: من حدّثك ذلك؟ قال قال: حدّثنى أيوب بن عبد الرحمن ابن صعصعة، عن عبّاد بن تميم، عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: صلّى بهم أبو بكر ذلك.
ذكر ما اتفق فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
خلاف ما ذكرناه، من الّلدود الذى لدّ به، والكتاب الذى أراد أن يكتبه، والوصية التى أمر بها، والدنا نير التى قسمها، والسواك الذى استنّ به صلّى الله عليه وسلّم.
فأمّا الّلدود «1» الذى لدّ به صلّى الله عليه وسلّم وما قال فيه- روى عن أمّ سلمة رضى الله عنها قالت: تخوّفنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات «2» الجنب وثقل فلددناه، فوجد خشونة اللّدّ فأفاق، فقال: «ما صنعتم بى» ؟ قالوا: لددناك، قال: «بماذا» ؟ قلنا: بالعود الهندى، وشىء من ورس وقطرات زيت، فقال:
«من أمركم بهذا» ؟ قالوا: أسماء بنت عميس، قال: «هذا طبّ أصابته بأرض الحبشة، لا يبقى أحد فى البيت إلا التدّ إلا ما كان من عمّ رسول الله(18/372)
صلى الله عليه وسلّم» يعنى العباس، ثم قال: «ما الذى كنتم تخافون علىّ» ؟ قالوا:
ذات الجنب، قال: «ما كان الله ليسلطها علىّ» . وفى رواية عن أمّ بشر بن البراء؛ قال: «ما كان الله ليسلطها على رسوله، إنها همزة من الشيطان، ولكنها من الأكلة التى أكلتها أنا وابنك، هذا أوان قطعت أبهرى» «1» . ومن حديث عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: فجعل بعضهم يلدّ بعضا. وعن هشام «2» قال:
كانت أمّ سلمة وأسماء بنت عميس هما لدّتاه، قال: فالتدّت يومئذ ميمونة وهى صائمة؛ لقسم النبى صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكان منه عقوبة لهم.
وأما الكتاب الذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه ثم تركه لما وقع عنده من التازع
فقد اختلفت الروايات فى هذا الحديث عن عبد الله بن عباس وغيره، فمن رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال: اشتكى النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم الخميس فجعل- يعنى ابن عباس- يبكى ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد بالنبى صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا «3» بعده أبدا» قال فقال بعض من كان عنده:
إنّ نبىّ الله هجر «4» ، قال فقيل له: ألا نأتيك بما طلبت؟ قال: «أو بعد ماذا» ؟
فلم يدع به. ومن طريق آخر عن سليمان «5» بن أبى مسلم عن سعيد بن جبير قال:
فتنازعوا ولا ينبغى عند نبىّ تنازع. فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا(18/373)
يعيدون عليه. فقال: «دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه» . قال:
وأوصى بثلاث، قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» وسكت عن الثلاثة، فلا أدرى قالها «1» فنسيتها، أو سكت عنها عمدا؟. ومن رواية طلحة بن مصرّف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ايتونى بالكتف والدّواة أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» . قال فقالوا: إنما يهجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. هذه الروايات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما. وروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوفاة، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلّم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» فقال عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول ما قال عمر؛ فلما كثر اللّغط والاختلاف وغمر «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قوموا عنى» . قال عبيد الله:
فكان ابن عباس يقول: إن الرّزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى مرضه: «ايتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» . فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من لفلانة وفلانة- من مدائن الروم- إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لن يموت حتى يفتتحها، ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى؛(18/374)
فقالت زينب زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تسمعون للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعهد إليكم؟ فلغطوا فقال: «قوموا» فلما قاموا قبض النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مكانه. وعن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما كان فى مرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى فيه، دعا بصحيفة ليكتب فيها لأمته كتابا لا يضلون ولا يضلّون، فكان فى البيت لغط وكلام، وتكلم عمر بن الخطاب، قال: فرفضه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعن محمد بن عمر الواقدىّ عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبيننا وبين النساء حجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«اغسلونى بسبع قرب وأتونى بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا» فقال النسوة: ايتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحاجته. قال عمر فقلت:
اسكتن فإنكن صواحبه إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ، وإذا صح أخذتن بعنقه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هنّ خير منكم» .
هذا ما وقفنا عليه من الروايات المسندة فى هذا الحديث، وقد تذرّعت به طائفة من الروافض، وتكلموا فيه وطعنوا على من لغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى امتنع من الكتابة.
وقد تكلم القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله على هذا الحديث، وذكر أقوال العلماء وما أبدوه من الاعتذار عن عمر رضى الله عنه فيما قال، فقال رحمه الله تعالى، قال أتمنا فى هذا الحديث: النبىّ صلّى الله عليه وسلّم غير معصوم من الأمراض، وما يكون من عوارضها من شدّة وجع وغشى ونحوه، مما يطرأ على جسمه، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك(18/375)
ما يطعن فى معجزته، ويؤدّى إلى فساد فى شريعته، من هذيان أو اختلال فى كلام، وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى فى الحديث «هجر» إذ معناه هذى يقال:
هجر هجر إذا أفحش، وأهجر تعدية هجر، وإنما الأصح والأولى «أهجر» ؟ على طريق الإنكار على من قال لا نكتب، قال: وهكذا روايتنا فيه فى صحيح البخارى من رواية جميع الرواة فى حديث الزهرى ومحمد بن سلّام عن ابن عيينة، قال: وكذا ضبطه الأصيلى بخطه فى كتابه وغيره من هذه الطرق، وكذا رويناه عن مسلم فى حديث سفيان وعن غيره، قال: وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام، والتقدير: أهجر؟ أو أن يحمل قول القائل: «هجر» أو أهجر دهشة من قائل ذلك وحيرة؛ لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وشدّة وجعه، وهول المقام الذى اختلفت فيه عليه، والأمر الذى همّ بالكتاب فيه، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهجر مجرى شدّة الوجع؛ لأنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر، كما حملهم الإشفاق على حراسته، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
ونحو هذا. وأما على رواية: «أهجرا» ، وهى رواية أبى إسحاق المستملى فى الصحيح، فى حديث ابن جبير، عن ابن عباس من رواية قتيبة، فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلّى الله عليه وسلّم، ومخاطبة لهم من بعضهم، أى جئتم باختلافكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين يديه هجرا ومنكرا من القول! والهجر بضم الهاء الفحش فى المنطق.
وقد اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، وكيف اختلفوا بعد أمره لهم عليه السلام أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم: أوامر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلّى الله عليه وسلّم لبعضهم ما فهموا أنه لم يكن منه عزمة، بل أمر ردّه إلى اختيارهم، وبعضهم(18/376)
لم يفهم ذلك، فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كفّ عنه إذ لم تكن عزمة، ولما رأوه من صواب رأى عمر رضى الله عنه. ثم هؤلاء قالوا: ويكون امتناع عمر إمّا إشفاقا على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من تكليفه فى تلك الحال، وإما إملاء الكتاب، وأن يدخل عليه مشقة من ذلك كما قال: إنّ النبىّ اشتدّ به الوجع.
وقيل: خشى عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون «1» في الحرج بالمخالفة، ورأى أن الأرفق بالأمة فى تلك الأمور سعة الاجتهاد، وحكم النّظر، وطلب الصواب، فيكون المصيب والمخطئ مأجورا، وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملّة، وأن الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
«2» وقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«أوصيكم بكتاب الله وعترتى» . وقول عمر: حسبنا كتاب الله، ردّ على من نازعه، لا على أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم. وقد قيل: إن عمر خشى تطرّق المنافقين، ومن فى قلبه مرض لما كتب فى ذلك الكتاب فى الخلوة، وأن يتقوّلوا فى ذلك الأقاويل كادّعاء الرافضة الوصية وغير ذلك. وقيل: إنه كان من النبى صلّى الله عليه وسلّم على طريق المشورة والاختبار، هل يتفقون على ذلك أم يختلفون، فلما اختلفوا تركه. وقالت طائفة أخرى: إن معنى الحديث أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان مجيبا فى هذا الكتاب لما طلب منه لا أنه ابتداء بالأمر به، بل اقتضاه منه بعض أصحابه، فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التى ذكرناها، واستدل فى مثل هذه القضية بقول العباس لعلىّ: انطلق بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا كان الأمر فينا علمناه، وكراهة علىّ هذا وقوله: «والله لا أفعل» الحديث.
واستدل بقوله: «دعونى فإن الذى أنا فيه «3» خير» أى الذى أنا فيه خير من إرسال(18/377)
الأمر وترككم، وكتاب الله «1» . وأن تدعونى مما طلبتم. وذكر أن الذى طلب كتابه «2» فى أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك. هذا ما أورده فى معنى هذا الحديث.
والله تعالى أعلم.
وأمّا ما وصّى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه
فقد روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» ، حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغر غربها فى صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه.
وعن أمّ سلمة نحوه. وعن كعب بن مالك قال: أغمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساعة ثم أفاق، فقال: «الله الله فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم، وأشبعوا بطونهم، وألينوا لهم القول» . وعن الزهرىّ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر عهده أوصى ألا يترك بأرض العرب دينان. وعن مالك بن أنس عن إسمعيل بن أبى حكيم، عن عمر بن عبد العزيز قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه كان آخر ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى بالرّهاويين الذين هم من أهل الرّهاء، قال: وأعطاهم من خيبر وجعل يقول:
«لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين» . وعن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أنه قال: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالداريّين وبالرّهاويّين(18/378)
وبالدّوسيين خيرا. وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بثلاث وهو يقول: «ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظنّ» . وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبى هو وأمّى ونفسى له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمّنا عائشة وتشدد لنا فقال: «مرحبا بكم، حيّاكم «1» الله بالسلام، رحمكم الله، حفظكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، آداكم الله»
وقاكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصى الله بكم؛ وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله إنى لكم منه نذير مبين ألّا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
«3» . وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ
«4» قلنا: يا رسول الله متى أجلك؟ قال: «دنا الفراق، والمنقلب إلى الله، وإلى جنة المأوى، وإلى سدرة المنتهى، وإلى الرفيق الأعلى والكأس الأوفى والحظ والعيش المهنّى» قلنا: يا رسول الله من يغسلك؟ قال: «رجال من أهلى الأدنى «5» فالأدنى» قلنا: يا رسول الله ففيم نكفّنك؟ قال: «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى ثياب مصر أو فى حلّة يمانية» قال قلنا: يا رسول الله، من يصلّى عليك؟
وبكينا وبكى، فقال: «مهلا رحمكم الله وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفة قبرى فى بيتى هذا، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى علىّ حبيبى وخليلى جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت معه جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علىّ فوجا فوجا، فصلوا(18/379)
علىّ وسلموا تسليما، ولا تؤذونى بتزكية ولا برنّة، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال «1» من أهلى ثم نساؤهم ثم أنتم بعد، وأقرئوا السلام على من غاب من أصحابى، وأقرئوا السلام على من يتبعنى على دينى من قومى إلى يوم القيامة» . قلنا: يا رسول الله، فمن يدخلك قبرك؟ قال: «أهلى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم» .
وأما الدّنانير التى قسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه
فقد روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها قالت: أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دنانير فقسمها إلا ستة، فدفع الستة إلى بعض نسائه، فلم يأخذه النوم حتى قال: «ما فعلت الستة» ؟ قالوا: دفعتها إلى فلانة، قال: «ايتونى بها» فقسم منها خمسة فى خمسة أبيات من الأنصار، ثم قال: «استنفقوا هذا الباقى» وقال: «الآن استرحت» فرقد. وعن المطلب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، وهى مسندته إلى صدرها: «يا عائشة ما فعلت تلك «2» الذهب» ؟ قالت: هى عندى، قال: «فأنفقيها» ثم غشى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على صدرها، فلما أفاق قال: «هل أنفقت تلك الذهب يا عائشة» ؟ قالت: لا والله يا رسول الله، قالت: فدعا بها فوضعها فى كفّه، فعدّها فإذا هى ستة دنانير، فقال: «ما ظنّ محمد بربه أن لو لقى الله وهذه عنده» ! فأنفقها كلها، ومات من ذلك اليوم.(18/380)
وأما السّواك الذى استنّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته
فقد روى عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى صلّى الله عليه وسلّم فى شكواه، وأنا مسندته إلى صدرى، وفى يد عبد الرحمن سواك فأمرها أن تقضمه، فقضمته ثم أعطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن حديث آخر عنها قالت: فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه وهو فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، تريد أن أعطيك هذا السّواك؟ فقال: «نعم» فأخذته فمضغته حتى ليّنته ثم أعطيته إياه، فاستنّ به كأشدّ ما رأيته استنّ بسواك قبله ثم وضعه، فكانت عائشة تقول: كان من نعمة الله علىّ وحسن بلائه عندى، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات فى بيتى، وفى يومى وبين سحرى «1» ونحرى، وجمع بين ريقى وريقه عند الموت. فقال لها القاسم بن محمد: قد عرفنا كل الذى تقولين، فكيف جمع بين ريقك وريقه؟
قالت: دخل عبد الرحمن بن أمّ رومان أخى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعوده، وفى يده سواك رطب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مولعا بالسّواك، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشخص بصره إليه، فقلت: يا عبد الرحمن، اقضم السواك فناولنيه، فمضغته ثم أدخلته فى فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتسوّك به، فجمع بين ريقى وريقه.(18/381)
ذكر تخيير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة عند الموت
روى عن عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت سمعت أنه لا يموت نبىّ حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فأصابت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحّة شديدة فى مرضه، فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
«1» فظننت أنه خيّر. وعن المطلب بن عبد الله، قال قالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «ما من نبىّ إلا تقبض نفسه ثم تردّ إليه فيخيّر بين أن تردّ إليه إلى أن يلحق» قالت: فكنت قد حفظت ذلك منه، فإنى لمسندته إلى صدرى فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت قد قضى وعرفت الذى قال، فنظرت إليه حتى ارتفع ونظر، قالت: قلت إذا والله لا تختارنا، فقال: «مع الرفيق الأعلى فى الجنة» مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
. وعن سعيد بن المسيّب وغيره أن عائشة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنه لم يقبض نبىّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر» قالت عائشة: فلما نزل برسول «2» الله صلّى الله عليه وسلّم ورأسه على فخذى غشى عليه ساعة، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السّقف سقف البيت، ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى» قالت: فقلت الآن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذى كان يحدّثنا وهو صحيح، فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن أبى بردة بن أبى موسى قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أسندته عائشة إلى صدرها فأفاق، وهى تدعو له بالشفاء فقال: «لا، بل أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» .(18/382)
ذكر ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الموت به
روى عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم الموت دعا بقدح من ماء فجعل يمسح به وجهه، ويقول: «اللهم أعنّى على سكرات الموت» وجعل يقول: «ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل، ادن منّى يا جبريل» . وعن عبد الله بن عباس وعائشة رضى الله عنهم قالا: لما نزل بالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم طفق يلقى خميصته «1» على وجهه، فإذا اغتمّ بها ألقاها عن وجهه ويقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
ذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
روى عن محمد بن جعفر عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث نزل عليه جبريل فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟
قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» فلما كان فى اليوم الثانى هبط إليه جبريل فقال له مثل ذلك، وأجابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أجابه به بالأمس، فلما كان اليوم الثالث نزل إليه جبريل، وهبط معه ملك الموت، ونزل معه ملك يقال له إسمعيل، يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قطّ ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض على سبعين ألف ملك، ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل، فقال: يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصّة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف(18/383)
تجدك؟ قال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم استأذن ملك الموت فقال جبريل: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمىّ كان قبلك، ولا يستأذن على آدمىّ بعدك، قال: «ائذن له» فدخل ملك الموت فوقف بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله، يا أحمد، إن الله أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمرنى به، إن أمرتنى أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، قال: «وتفعل يا ملك الموت» ؟ قال: بذلك أمرت أن أطيعك فى كل ما أمرتنى، فقال جبريل:
يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك، قال: «فامض يا ملك الموت لما أمرت به» قال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئى الأرض إنما كنت حاجتى من الدنيا، فتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت التعزية يسمعون الصوت والحسّ، ولا يرون الشخص: السلام عليكم يأهل البيت ورحمة الله وبركاته «كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة» إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما جاء فى الأحاديث الصحيحة فى حجر عائشة وبين سحرها ونحرها. وقد قيل: إنه توفّى فى حجر علىّ، والصحيح الأوّل.
وذلك فى يوم الاثنين حين اشتدّ «1» الضّحى، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، وقيل: لليلتين خلتا منه. ولما مات صلّى الله عليه وسلّم سجّى بثوب حبرة، كما روى عن عائشة وأبى هريرة رضى الله عنهما، ودخل أبو بكر رضى الله عنه على(18/384)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: بأبى وأمى ما أطيب محياك ومماتك. وفى لفظ:
طبت حيا وميتا. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء أبو بكر فدخل عليه فرفعت الحجاب، فكشف الثوب عن وجهه، فاسترجع فقال: مات والله رسول الله، ثم تحوّل من قبل رأسه فقال: وانبياه، ثم حدر فمه فقبّل وجهه ثم رفع رأسه، فقال: واخليلاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته ثم رفع رأسه، فقال: واصفيّاه، ثم حدر فمه فقبّل جبهته، ثم سجّاه بالثوب ثم خرج.
وعن عبد الرحمن بن عوف: أن عائشة أخبرته أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسّنح «1» حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمّم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مسجّى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكبّ عليه يقبّله وبكى، ثم قال: بأبى أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متّها.
ذكر ما تكلم به الناس حين شكّوا فى وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبى بكر رضى الله عنه
روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكى الناس فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى المسجد خطيبا فقال:
لا أسمعنّ أحدا يقول إن محمدا قد مات، ولكنه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى ابن عمران، فلبث عن قومه أربعين ليلة، وإنى والله لأرجو أن تقطع أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، قال: وقام عمر خطيبا فوعد(18/385)
المنافقين، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى، لا يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يقطع أيدى أقوام وألسنتهم، قال: فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه، فقال العباس:
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأسن «1» كما يأسن البشر، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات فادفنوا صاحبكم، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين؟ هو أكرم على الله من ذلك، فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله، ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا، أحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالم، وما كان راعى غنم يتبع بها صاحبها رءوس الجبال، يخبط عليها العضاة «2» بمخبطه ويمدر حوضها بيده، بأنصب ولا أرأب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فيكم. وعن عائشة رضى الله عنها قالت:
لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذن عمر والمغيرة بن شعبة فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه فقال عمر: أغشيا؟ ما أشدّ غشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم قاما فلما انتهيا إلى الباب، قال المغيرة: يا عمر، مات والله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنك رجل تحوسك «3» فتنة، ولن يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يفنى المنافقين، ثم جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس فقال له أبو بكر: اسكت؛ فسكت، فصعد أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
«4» ثم قرأ:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى(18/386)
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
«1» ثم قال:
من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت.
فقال عمر: هذا فى كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أيها الناس، هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايعوه فبايه الناس. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل أبو بكر المسجد وعمر بن الخطاب يكلّم الناس، فمضى حتى دخل بيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم الذى توفّى فيه، وهو بيت عائشة، وكشف عن وجه النبى صلى الله عليه وسلّم برد حبرة، كان مسجّى به فنظر إلى وجهه ثم أكبّ عليه فقبّله، فقال: بأبى أنت؛ والله لا يجمع الله عليك موتتين، لقد متّ الموتة التى لا تموت بعدها، ثم خرج أبو بكر إلى الناس، وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فكله أبو بكر مرتين أو ثلاثا، فلما أبى عمر أن يجلس قام أبو بكر فتشهد، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فلما قضى أبو بكر تشهده قال: أما بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت، قال الله تبارك وتعالى: «ومامحمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزى الله الشّاكرين» .
قال: فلما تلاها أبو بكر أيقن الناس بموت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وتلقاها الناس من أبى بكر حين تلاها أو كثير منهم، حتى قال قائل من الناس:
والله لكأنّ الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت حتى تلاها أبو بكر. فزعم سعيد ابن المسيّب أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت «2» وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قد(18/387)
مات. وعن الحسن قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتمر أصحابه فقالوا: تربصوا بنبيكم صلّى الله عليه وسلّم لعله عرج به، قال: فتربصوا به حتى ربا بطنه، فقال أبو بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. وعن القاسم بن محمد بن أبى بكر رضى الله عنه أنه لما شك فى موت النبى صلّى الله عليه وسلّم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم:
لم يمت، وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، وقالت: قد توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخرس عن الكلام لما راعه من موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما تكلم إلا بعد الغد، وأقعد آخرون، منهم على بن أبى طالب، ولم يكن فيهم أثبت من أبى بكر والعباس رضى الله عنهما، قالوا: وعزّى الناس بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكر ذلك للناس قبل موته، كما روى عن سهل بن سعد؛ قال قال رسول الله صلّى الله وسلّم: «سيعزّى الناس بعضهم بعضا من بعدى التّعزية بى» فكان الناس يقولون ما هذا؟ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقى الناس بعضهم بعضا يعزّى بعضهم بعضا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن غسّله، وتكفينه وحنوطه
روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ذكروا غسله سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه فإنه طاهر مطهّر، ثم سمعوا صوتا بعده: اغسلوه فإن ذلك إبليس وأنا الخضر، وعزّاهم فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فآرجوا، فإن المصاب من(18/388)
حرم الثواب. وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلف الذين يغسلونه، فسمعوا قائلا لا يدرون من هو، يقول:
اغسلوا نبيكم وعليه قميصه، فغسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قميصه. وعن عبّاد بن عبد الله عن عائشة قالت: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نساؤه، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قبض اختلف أصحابه فى غسله، فقال بعضهم: اغسلوه وعليه ثيابه، فبينما هم كذلك إذ أخذتهم نعسة، فوقع لحى كل إنسان منهم على صدره، فقال قائل منهم لا يدرى من هو: اغسلوه وعليه ثيابه، قالوا: وكان الذى تولى غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان علىّ يغسله ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت ميتا وحيا. وقيل: كان علىّ يغسل النبى صلّى الله عليه وسلّم والفضل وأسامة يحجبانه، وقيل: غسل والعباس قاعد والفضل محتضنه، وعلىّ يغسله، وأسامة يختلف، وقيل: ولى غسله العباس بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، والفضل بن العباس وصالح مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا يغسله أحد غيرى، فإنه «1» «لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» . قال علىّ: فكان الفضل وأسامة يناولانى الماء من وراء الستر، وهما معصوبا العين. قال علىّ: فما تناولت عضوا إلا كأنما يقلبه معى ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله. وقيل: كان معهم شقران مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن المسيّب قال: غسل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكفّنه أربعة علىّ والعباس والفضل وشقران، وقيل: لم يحضره العباس، بل كان بالباب،(18/389)
وقال: لم يمنعنى أن أحضر غسله إلا أنى كنت أراه يستحى أن أراه حاسرا. وقيل:
حضره عقيل بن أبى طالب، وأوس بن خولىّ، وذلك أن أوس بن خولىّ قال:
يا علىّ، أنشدك الله فى حظّنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له علىّ: ادخل، فدخل فجلس، وقيل: إنما دخل لأن الأنصار قالت: نناشدكم الله فى نصيبنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأدخلوا رجلا منهم يقال له أوس بن خولىّ يحمل جرّة بإحدى يديه. والذى أثبته الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطى رحمه الله فى مختصر السيرة قال: تولى غسله علىّ والعبّاس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران موليا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وحضره أوس ابن خولىّ الأنصارىّ. وعن علىّ رضى الله عنه قال: لما أخذنا فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغلقنا الباب دون الناس جميعا، فنادت الأنصار نحن أخواله، ومكاننا من الإسلام مكاننا، ونادت قريش نحن عصبته، فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين، كل قوم أحقّ بجنازتهم من غيرهم، فنشدتكم الله فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه، والله لا يدخل عليه أحد إلا من دعى. وعن أبى جعفر محمد بن على قال: غسل النبى صلّى الله عليه وسلّم ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل فى قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء، وكان يشرب منها وولى [غسل «1» ] سفلته علىّ، والعباس يصبّ الماء، والفضل محتضنه يقول: أرحنى أرحنى، قطعت وتينى! إنى أجد شيئا ينزل علىّ مرتين. وعن عبد الله ابن الحارث: أن عليا غسله، يدخل يده تحت القميص، والفضل يمسك الثوب عليه، والأنصارىّ ينقل الماء وعلى يد علىّ خرقة تدخل يده وعليه القميص. وعن عبد الله بن جعفر الزهرى عن عبد الواحد بن أبى عون، قال قال رسول الله صلّى(18/390)
الله عليه وسلّم لعلّى فى مرضه الذى توفى فيه: «اغسلنى يا علىّ إذا متّ» فقال:
يا رسول الله، ما غسلت ميتا قط، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك ستهيّأ، أو تيسّر» قال على: فغسلته فما آخذ عضوا إلا تبعنى، والفضل أخذ بحضنه يقول:
أعجل يا علىّ انقطع ظهرى. وعن سعيد بن المسيّب قال: التمس علىّ من النبى صلّى الله عليه وسلم عند غسله ما يلتمس من الميت فلم يجد شيئا، فقال: بأبى أنت وأمى؛ طبت حيا وميتا. هذا ما لخصناه فى غسله صلّى الله عليه وسلّم مما أورده محمد بن سعد فى طبقاته على سبيل الاختصار وحذف الأسانيد. والله أعلم.
وأما تكفينه صلّى الله عليه وسلّم
فقد اختلف فيه؛ فقيل: كفّن فى ثلاثة أثواب بيض كرسف «1» ، وقيل:
فى ثلاثة أثواب أحدها حبرة، وقيل: فى ريطتين «2» وبرد نجرانىّ «3» . وقيل: فى ثلاثة أثواب برود يمانية غلاظ إزار ورداء ولفافة. وقيل: فى حلّة حمراء وقبطية «4» .
وقيل: فى حلّة يمانية وقميص. وقيل: فى حلّة حبرة وقميص. وقيل: فى سبعة أثواب. والذى ورد فى الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كفّن فى ثلاثة أثواب بيض سحوليّة من ثياب سحول- بلدة باليمن- ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة. وحنّط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فى حنوطه المسك، وأبقى منه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه شيئا ادّخره لحنوطه إذا مات.(18/391)
ذكر الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
روى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: أول من صلّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العباس بن عبد المطلب، وبنو هاشم، ثم خرجوا، ثم دخل المهاجرون والأنصار، ثم الناس رفقا رفقا «1» ، فلما انقضى الناس دخل عليه الصبيان صفوفا، ثم النساء، وقيل: النساء والصبيان. وذكر البيهقى عن الواقدىّ عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى قال: وجدت هذا فى صحيفة بخط أبى، فيها: لما كفّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلّموا كما سلم أبو بكر [وعمر «2» ] وصفّوا صفوفا لا يؤمّهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما فى الصفّ الأول حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنا نشهد أن قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعزّ الله به دينه، وتمّت كلماته، فأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتّبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرّفه «3» بنا فإنه كان بالمؤمنين رءوفا رحيما، لا نبتغى بالإيمان بدلا، ولا نشترى به ثمنا أبدا. فيقول الناس آمين آمين، ثم يخرجون ويدخل آخرون حتى صلّوا عليه: الرجال والنساء ثم الصبيان. وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب عن أبيه عن جده عن علىّ رضى الله عنهم قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السرير قال علىّ: لا يؤمّ أحد؛ هو إمامكم حيّا وميتا، فكان يدخل الناس رسلا(18/392)
رسلا «1» ، فيصلّون عليه صفّا صفّا، ليس لهم إمام ويكبّرون، وعلىّ قائم بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، اللهم إنا نشهد أنه قد بلّغ ما أنزل إليه ونصح لأمته، وجاهد فى سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمّت كلمته، اللهم فاجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه. فيقول الناس: آمين، آمين. وقد قيل فى سبب صلاة الناس عليه أفذاذا:
إنما فعلوا ذلك ليكون كل منهم فى الصلاة أصلا لا تابعا لأحد. وقيل: ليطول وقت الصلاة فيلحق من يأتى من حول المدينة.
ذكر قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولحده وما فرش تحته ومن فرشه، ومن دخل قبره، ووقت دفنه، ومدّة حياته صلّى الله عليه وسلّم
روى أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته اختلفوا فى مكان دفنه؛ فقال بعضهم: ندفنه فى مصلّاه. وقال بعضهم: عند المنبر. وقال بعضهم:
ادفنوه مع أصحابه بالبقيع. فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما دفن نبىّ قط إلّا فى المكان الذى توفّى فيه» . وقيل: قال «ما مات نبىّ إلا دفن حيث يقبض» فرفع فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الذى توفّى عليه وحفر له تحته، وذلك فى بيت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها. ثم اختلفوا أيلحد له أم لا؟ وكان فى المدينة حفّاران أحدهما يلحد وهو أبو طلحة، والآخر لا يلحد وهو أبو عبيدة. فاتفقوا على أن من جاء منهما أوّلا عمل عمله «2» ، فجاء الذى يلحد فلحد لرسول الله صلّى الله(18/393)
عليه وسلّم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان بالمدينة رجلان: أبو عبيدة ابن الجرّاح يضرح حفر أهل مكة، وأبو طلحة الأنصارىّ هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد. فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة، وقال للآخر: اذهب إلى أبى طلحة، وقال: اللهم خر لرسولك، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد له. وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الّلحد لنا والشّقّ لغيرنا» . وقيل قال: «والشّقّ لأهل الكتاب» .
قيل: وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى اللحد فيعجبه فألحد له، وأطبق له تسع لبنات وفرش تحته فى قبره قطيفة حمراء كان يغطّى بها صلّى الله عليه وسلّم نزل بها شقران.
وأما من نزل قبره صلّى الله عليه وسلّم فالعباس بن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران مولاه، وقيل: أدخلوا معهم عبد الرحمن ابن عوف، قيل: وعقيل وأسامة بن زيد، وصالح «1» ، وأوس بن خولىّ. والذى صححه الشيخ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف رحمه الله: العباس وعلىّ والفضل وقثم وشقران. وزعم المغيرة بن شعبة أنه نزل قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأنه آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قبره. روى عن الشعبى قال: كان المغيرة يحدّثنا ها هنا، يعنى [بالكوفة] قال: [أنا «2» ] آخر الناس عهدا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لما دفن وخرج علىّ من القبر ألقيت خاتمى فقلت: يا أبا الحسن خاتمى، قال:
انزل فخذ خاتمك، فنزلت فأخذت خاتمى، ووضعت يدى على اللّبن ثم خرجت.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: لما وضع رسول الله صلّى الله عليه(18/394)
وسلّم فى لحده، ألقى المغيرة بن شعبة خاتمة فى القبر، ثم قال: خاتمى، خاتمى! فقالوا:
ادخل فخذه، فدخل ثم قال: أهيلوا علىّ التراب، فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه فخرج، فلما سوّى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اخرجوا عنى «1» حتى أغلق الباب، فإنّى أحدثكم عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
لعمرى لئن كنت أردتها لقد أصبتها. وأنكر على بن عبد الله بن عباس هذا، وقال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قثم بن العباس، كان أصغر من كان فى القبر، وكان آخر من صعد. والله أعلم.
وأما وقت دفنه صلّى الله عليه وسلّم ومدة مرضه
فقيل: دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الأربعة، وقيل: ليلة الثلاثاء، وقيل: يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس. والله أعلم. وسنّم «2» قبره ورشّ عليه الماء.
وكانت مدّة مرضه اثنى عشر يوما. وقيل: أربعة عشر يوما. وكان مرضه بالصّداع صلّى الله عليه وسلّم.
وأما سنّه صلّى الله عليه وسلّم
ومدّة مقامه بالمدينة من حين هجرته إلى يوم وفاته صلّى الله عليه وسلّم فقد روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى، وقد بلغ من السّن ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل: ستين. وروى محمد بن سعد قال:
أخبرنا هشام بن القاسم، قال حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة فى السنة التى قبض فيها: «إن جبريل كان يعرض علىّ(18/395)
القرآن فى كل سنة مرة، فقد عرض علىّ العام مرتين، وأنه لم يكن نبىّ إلا عاش نصف عمر أخيه الذى كان قبله، عاش عيسى بن مريم مائة وخمسا وعشرين سنة، وهذه اثنتان وستون سنة» ومات فى نصف السنة. والذى نقلناه أوّلا هو الذى صححه العلماء. والله أعلم.
وكان مقامه بالمدينة من لدن الهجرة إلى أن توفّى صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين.
ذكر ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما روى فيه
روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنا لا نورث، ما تركناه صدقة» . وروى محمد بن سعد قال:
أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، قال حدّثنا معمر ومالك وأسامة بن زيد عن الزهرىّ عن عروة عن عائشة؛ قال محمد بن عمر: وحدّثنى معمر وأسامة بن زيد وعبد الرحمن ابن عبد العزيز عن الزهرى عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقّاص وعباس بن عبد المطلب قالوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة» يريد بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتسم «1» ورثنى دينارا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملى فإنه صدقة» . وعن عائشة: إن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها أرسلت إلى أبى بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبى صلّى الله عليه وسلّم التى بالمدينة وفدك، وما بقى من خمس خيبر، فقال أبو بكر(18/396)
رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» إنما يأكل آل محمد فى هذا المال، وإنى والله لا أغيّر شيئا من صدقات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حالها التى كانت عليها فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأعملنّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبى بكر، فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر. وعن أبى جعفر «1» قال: جاءت فاطمة إلى أبى بكر تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علىّ بن أبى طالب، فقال أبو بكر: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا صدقة» وما كان النبى يعول فعلىّ، فقال علىّ: «وورث سليمن داود «2» » وقال زكريا: «يرثنى ويرث من آل يعقوب «3» » قال أبو بكر: هو هذا، والله تعلم مثل ما أعلم. فقال علىّ: هذا كتاب الله ينطق، فسكتوا وانصرفوا. وعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما كان اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بويع لأبى بكر فى ذلك اليوم، فلما كان من الغد جاءت فاطمة إلى أبى بكر- رضى الله عنهما- معها علىّ رضى الله عنه فقالت: ميراثى من رسول الله أبى، صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمن الرّثّة «4» أو من العقد «5» ؟ قالت: فدك وخيبر وصدقاته بالمدينة أرثها كما ترثك بناتك إذا متّ، فقال أبو بكر: أبوك والله خير منى، وأنت والله خير من بناتى، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا(18/397)
صدقة» يعنى هذه الأموال القائمة، فتعلمين أن أباك أعطاكها؟ فو الله لئن قلت نعم لأقبلنّ قولك وء لأصدقنك. قالت: جاءتنى أمّ أيمن فأخبرتنى أنه أعطانى فدك.
قال: فسمعته يقول هى لك؟ فإذا قلت قد سمعته فهى لك، فأنا أصدّقك وأقبل قولك. قال: قد أخبرتك ما عندى. وعن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخى ميمونة قال: والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا تركها صدقة. وعن زرّبن حبيش: أن إنسانا سأل عائشة رضى الله عنها عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: عن ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسألنى؟ لا أبا لك! توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يدع دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا. وعن ابن عباس نحوهن، قال:
وترك درعه رهنا عند يهودىّ بثلاثين صاعا من شعير. وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم ترك يوم مات ثوبى حبرة وإزارا عمانيا «1» ، وثوبين صحاريين، وقميصا صحاريا، وجبّة يمنية، وخميصة وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطئة «2» ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة مورّسة. صلّى الله عليه وسلّم. هذا الذى أورده الشيخ محب الدين الطبرىّ فى مختصر السيرة.
ذكر ما نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله من الحزن على فقده، ونبذة مما رثوه به صلّى الله عليه وسلّم
روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما ثقل النبى صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال لها صلّى الله عليه وسلّم:(18/398)
«ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلّى الله عليه وسلّم قالت فاطمة:
يا أبتاه أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ينعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه! قال: فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب؟. وعن عكرمة قال: لما توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكت أمّ أيمن، فقيل لها أتبكين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما والله ما أبكى عليه ألّا أكون أعلم أنه ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكن أبكى على خبر السماء انقطع. وعن عبد الرحمن ابن سعد بن يربوع قال: جاء علىّ بن أبى طالب يوما متقنعا متحازنا، فقال أبو بكر:
أراك متحازنا، فقال علىّ: إنه عنانى ما لم يعنك، قال يقول أبو بكر: اسمعوا ما يقول! أنشدكم الله أترون أحدا كان أحزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّى؟. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت عثمان بن عفان يقول:
توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس. وعن القاسم بن محمد: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب بصره فدخل عليه أصحابه يعودونه، فقال: إنما كنت أريدهما لأنظر بهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمّا إذ قبض الله نبيّه فما يسرّنى «1» أن ما بهما بظبى من ظباء تبالة «2» . وأمّا عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها فإنها لازمت قبره صلّى الله عليه وسلّم.
ورثى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من أصحابه وعمّاته رضى الله عنهم فقال أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه:(18/399)
يا عين فابكى ولا تسأمى ... وحقّ البكاء على السّيّد
على خير خندف «1» عند البلا ... ء أمسى يغيّب فى الملحد
فصلّى المليك ولىّ العباد ... وربّ البلاد على أحمد
فكيف الحياة لفقد الحبيب ... وزين المعاشر فى المشهد
فليت الممات لنا كلّنا ... وكنّا جميعا مع المهتدى
وقال أيضا رضوان الله عليه:
لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت علىّ بعرضهنّ الدّور
وارتعت روعة مستهام واله ... والعظم منّى واهن مكسور «2»
أعتيق ويحك إنّ حبّك قد ثوى ... وبقيت منفردا وأنت حسير «3»
يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى ... غيّبت فى جدث علىّ صخور «4»
فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
ارقت فبات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول «5»
وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... عشيّة قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل(18/400)
وذاك أحقّ ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل
نبىّ كان يجلو الشكّ عنها «1» ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السّبيل
فقبر أبيك سيّد كلّ قبر ... وفيه سيّد النّاس الرسول
وقال عبد الله بن أنيس:
تطاول ليلى واعترتنى القوارع ... وخطب جليل للبليّة جامع
غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستكّ منها المسامع
فلو ردّ ميتا قتل نفسى قتلها ... ولكنّه لا يدفع الموت دافع
فآليت لا آسى على هلك هالك ... من الناس ما اوفى ثبير وفارع
ولكنّنى باك عليه ومتبع ... مصيبته إنّى إلى الله راجع
وقد قبض الله النبيّين قبله ... وعاد أصيبت بالرّزى والتّبايع «2»
فياليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل فى قريش من إمام ينازع
ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمّة هذا الأمر والله صانع «3»
علىّ أو الصّدّيق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع
فإن قال منّا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع
فيالقريش قلّدوا الأمر بعضهم ... فإنّ صحيح القول للناس نافع
ولا تبطئوا عنها فواقا فإنّها ... إذا قطعت لم تمن فيها المطامع «4»(18/401)
وقال حسان بن ثابت الأنصارىّ:
آليت حلفة برّ غير ذى دخل ... منّى أليّة حقّ غير إفناد «1»
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل النّبى نبىّ الرّحمة الهادى
ولا مشى فوق ظهر الأرض من أحد ... أوفى بذمّة جار أو بميعاد
من الذى كان نورا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد
مصدّقا للنّبيين الألى سلفوا ... وأبذل الناس للمعروف للجادى «2»
خير البريّة إنّى كنت فى نهر ... جار فأصبحت مثل المفرد الصّادى «3»
أمسى نساؤك عطّلن البيوت فما ... يضربن خلف قفا ستر بأوتاد
مثل الرّواهب يلبسن المسوح وقد ... أيقنّ بالبؤس بعد النّعمة البادى «4»
وقال أيضا:
ما بال عينك لا تنام كأنّما ... كحلت مآفيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدىّ أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
يا ويح أنصار النبىّ ورهطه ... بعد المغيّب فى سواء الملحد
جنبى يقيك التّرب لهفى ليتنى ... غيّبت قبلك فى بقيع الغرقد «5»
يا بكر آمنة المبارك ذكره ... ولدته محصنة بسعد الأسعد «6»
نورا أضاء على البريّة كلّها ... من يهد للنّور المبارك يهتدى(18/402)
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا لهف نفسى ليتنى لم أولد
بأبى وأمىّ من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النّبىّ المهتدى
وظللت بعد وفاته متبلّدا «1» ... يا ليتنى صبّحت سمّ الأسود «2»
أو حلّ أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو فى غد
فتقوم ساعتنا فنلقى سيّدا ... محضا مضاربه كريم المحتد «3»
يا ربّ فاجمعنا معا ونبيّنا ... فى جنة تفقى «4» عيون الحسّد
فى جنّة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسّؤدد
والله أسمع «5» ما حيبت بها لك ... إلّا بكيت على النبىّ محمّد
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الإثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم يجحد «6»
والله أهداه لنا وهدى به ... أنصاره فى كلّ ساعة مشهد
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطّيبون على المبارك أحمد
ووقفت فاطمة الزّهراء رضى الله عنها على قبره صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
ما ضرّ من قد شمّ تربة أحمد ... ألا يشمّ مدى الزّمان غواليا «7»
صبّت علىّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيّام صرن لياليا
وقالت رضى الله عنها:
أغبرّ آفاق السّماء وكوّرت ... شمس النّهار وأظلم العصران(18/403)
والأرض من بعد النبىّ كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرّجفان
فلتبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكلّ يمانى
وليبكه الطّود المعظّم جوّه ... والبيت ذو الأستار والأركان «1»
يا خاتم الرّسل المبارك صنوه «2» ... صلّى عليك منزّل الفرقان
نفسى فداؤك ما لرأسك مائلا ... ما وسّدوك وسادة الوسنان
وقالت صفية بنت عبد المطلب:
أفاطم بكّى ولا تسأمى ... بصبحك «3» ما طلع الكوكب
هو المرء يبكى وحقّ البكا ... على الماجد السّيد الطيّب «4»
فأوحشت الأرض من فقده ... وأىّ البريّة لا ينكب
فمالى بعدك حتى المما ... ت إلّا الجوى الدّاخل المنصب «5»
فبكّى الرسول وحقّت له ... شهود المدينة والغيّب
لتبكيك شمطاء مضرورة ... إذا حجت الناس لا تحجب «6»
ليبكيك شيخ أبو ولدة ... يطوف بعقوته أشهب «7»
ويبكيك ركب إذا أرملوا ... فلم يلف ما طلب الطّلّب «8»
وتبكى الأباطح من فقده ... وتبكيه مكّة والأخشب «9»
فعينى مالك لا تدمعين ... وحقّ لدمعك يستسكب(18/404)
وقالت صفية أيضا:
عين جودى بدمعة تسكاب ... للنّبىّ المطّهر الأوّاب
عين من تندبين بعد نبىّ ... خصّه الله ربّنا بالكتاب
فاتح خاتم رءوف رحيم ... صادق القيل طيّب الأثواب
مشفق ناصح شفيق علينا ... رحمة من إلهنا الوهّاب
رحمة الله والسّلام عليه ... وجزاه المليك حسن الثّواب
وقالت أروى بنت عبد المطلب:
ألا يا عين ويحك أسعدينى ... بدمعك ما بقيت وطاوعينى
ألا يا عين ويحك واستهلىّ ... على نور البلاد وأسعدينى
فإن عذلتك عاذلة فقولى ... علام وفيم ويحك تعذلينى «1»
على نور البلاد معا جميعا ... رسول الله أحمد فاتركينى
فإلّا تقصرى بالعذل عنّى ... فلومى ما بدا لك أو دعينى
لأمر هدّنى وأذلّ ركنى ... وشيّب بعد جدّتها قرونى
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب:
يا عين جودى ما بقيت بعبرة ... سحّا على خير البريّة أحمد
يا عين فاحتفلى وسحىّ واسمحى ... فابكى على نور البلاد محمّد «2»
أنّى لك الويلات مثل محمّد ... فى كلّ نائبة تنوب ومشهد
فابكى المبارك والموفّق ذا التّقى ... حامى الحقيقة ذا الرّشاد المرشد
من ذا يفكّ عن المغلّل غلّه ... بعد المغيّب فى الضّريح الملحد(18/405)
أم من لكلّ مدفّع ذى حاجة ... ومسلسل يشكو الحديد مقيّد «1»
أم من لوحى الله ينزل بيننا ... فى كلّ ممسى ليلة أو فى غد
فعليك رحمة ربّنا وسلامه ... يا ذا الفواضل والنّدى والسّؤد
وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطّلب بن عبد مناف أخت مسطح:
أشاب ذوائبى وأذاب ركنى ... بكاؤك فاطم الميت الفقيدا «2»
فأعطيت العطاء فلم تكدّر ... وأخدمت الولائد والعبيدا «3»
وكنت ملاذنا فى كلّ لزب ... إذا هبّت شآمية برودا «4»
وإنّك خير من ركب المطايا ... وأكرمهم إذا نسبوا جدودا
رسول الله فارقنا وكنّا ... نرجّى أن يكون لنا خلودا
أفاطم فاصبرى فلقد أصابت ... رزيّتك التّهائم «5» والنّجودا
وأهل البرّ والأبحار طرّا ... فلم تخطئ مصيبته وحيدا
وكان الخير يصبح فى ذراه «6» ... سعيد الجدّ قد ولد السّعودا
ورثاه صلّى الله عليه وسلّم غير هؤلاء مما لو استقصينا ذلك لطال، واتّسع فيه المجال، ومراثيه صلّى الله عليه وسلّم ومدائحه كثيرة تزداد فى كل عصر، وتتضاعف فى كلّ دهر، صلّى الله عليه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا.(18/406)
[صورة ما هو مكتوب بآخر هذا الجزء بنسخة]
كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب، للنويرى رحمه الله تعالى.
وكان الفراغ منه فى يوم الاثنين المبارك تاسع جمادى الأولى سنة سبع وستين وتسعمائة، على يد كاتبه أفقر الخلق إلى رحمة ربه نور الدين بن شرف الدين العاملىّ، غفر الله له ولوالديه، ولمن يقرأ له ولهم الفاتحة آمين.
[صورة ما هو مكتوب فى آخر هذا الجزء أيضا بنسخة ج] كمل الجزء السادس عشر من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب على يد مؤلفه فقير رحمة ربه: أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم البكرىّ التيمىّ القرشىّ المعروف بالنويرىّ عفا الله عنهم.
ووافق الفراغ من كتابته فى يوم السبت المبارك لأربع بقين من شهر رمضان المعظم عام اثنين وعشرين وسبعمائة؛ أحسن الله تقضيها، بالقاهرة المعزية عمرها الله تعالى.
يتلوه إن شاء الله تعالى فى أوّل الجزء السابع عشر الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الخامس فى أيام الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين.
والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثير.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.(18/407)
أتممنا بعون الله تعالى تحقيق الجزء الثامن عشر من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» من تجزئة طبعة الدار، فى يوم السبت 14 من ربيع الثانى سنة 1374 هـ (11 من ديسمبر سنة 1954 م) .
يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوّله: «الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين» .
محمد محمد حسنين إبراهيم إطفيش المصحح بالقسم الأدبى المصحح بالقسم الأدبى(18/408)
فهرس المراجع
1 أسباب النزول للواحدى، هندية 1315 الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر، حيدرآباد 1318 أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الأثير؛ الوهبية سنة 1280 الاشتقاق لابن دريد، جوتنجن 1854 م.
الإصابة فى تمييز الصحابة لابن حجر، السعادة والشرفية سنة 1323 الأصنام لابن الكلبى دار الكتب 1343 البداية والنهاية لابن كثير، السعادة 1348 تاريخ الطبرى، ليدن 1889 م.
تفسير الثعلبى مخطوط، رقم 1246 تفسير.
تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى، حيدرآباد 1327 الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبى، دار الكتب المصرية.
الجامع الصغير للسيوطى، بولاق سنة 1286 دلائل النبوة للبيهقى مخطوط، رقم 212 حديث.
دلائل النبوّة لأبى نعيم الأصفهانى، حيدرآباد 1320 ديوان الأعشين، بيانة 1927 م.
ديوان حسان بن ثابت الأنصارى، الرحمانية 1347 ديوان لبيد بن ربيعة، ليدن 1891 م. ومخطوط دار الكتب 547 أدب.
الروض الأنف لأبى القاسم السهيلى، الجمالية 1332 سنن النسائى، الميمنة 1312 السيرة الحليية، بولاق 1292 2 شرح أبى شامة على القصيدة الشقراطيسية مخطوط رقم 247 أدب بدار الكتب. ورقم 16116 ز.
سيرة ابن هشام، جوتنجن 1858 م. والحلبى بمصر 1355 شرح بانت سعاد لابن هشام، بولاق سنة 1290 شرح البخارى للقسطلانى، بولاق 1293 شرح ديوان زهير بن أبى سلمى، دار الكتب 1363 شرح ديوان كعب، دار الكتب 1369 شرح ديوان ليبد برواية الطوسى، فينّا 1880 م.
شرح السيرة النبوية لأبى ذر، الخشنى، مطبعة هندية 1329 شرح الشفا للشهاب الخفاجى، الآستانة 1267 شرح قصيدة الأعشى الدالية مخطوط رقم 1736 أدب بدار الكتب.
شرح المواهب للزرقانى، المطبعة الأميرية بولاق 1278 الشفا للقاضى عياض، الآستانة 1290 صحيح البخارى، المطبعة الأميرية 1296 صحيح الترمذى، بولاق 1292 صحيح ابن ماجه، مصر 1313 صحيح مسلم: بولاق 1290 والآستانة 1331 الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، ليدن 1322 عقد الجمان، فى تاريخ أهل الزمان نسخة مصورة بدار الكتب رقم 71 م.(18/409)
1 الكتاب لسيبويه، بولاق 1316 لباب النقول، فى أسباب النزول للسيوطى، الحلبى 1302 مجمع الأمثال للميدانى، بولاق 1284 المعارف لابن قتيبة، جوتنجن 1850 م.
معجم البلدان لياقوت الحموى، ليبزج 1868 م.
مغنى اللبيب لابن هشام، الحلبى سنة 1302 2 المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى، الحلبى مصر 1324 المقتضب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموى- مخطوط بدار الكتب رقم 2785 تاريخ.
الموطأ فى الحديث للإمام مالك بن أنس، السعادة 1331 النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير، مصر 1311(18/410)
الجزء التاسع عشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تصدير
هذا هو الجزء التاسع عشر من كتاب «نهاية الأرب» لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى، تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أن أصدرت دار الكتب منه ثمانية عشر جزءا.
ويشتمل هذا الجزء على تاريخ الثلاثة الأوائل من الخلفاء الراشدين:
أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم، وذكر صفاتهم ومناقبهم والأحداث التى عاصرت حياتهم، والفتوح التى كانت فى أثناء خلافتهم.
وقد سرت فى تحقيقه على المنهج الذى سار عليه القسم الأدبى بدار الكتب فيما أخرج من أجزاء؛ من الاعتماد على ما يقابل كل جزء من النسخ المخطوطة والمصورة بها.
وقد وافق هذا الجزء من هذه النسخ نسختان:
الأولى: النسخة المصورة عن مكتبة كبريلى بالأستانة، وهى نسخة كاملة تقع فى واحد وثلاثين جزءا؛ محفوظة بالدار برقم (549- معارف عامة) .
والثانية: نسخة مصورة عن نسخة محفوظة بمكتبة أيا صوفيا بالأستانة، وهذه النسخة كسابقتها تقع فى واحد وثلاثين جزءا أيضا. ويظن أنها بخط المؤلف؛ إلا أنها نسخة ناقصة، والأجزاء الموجودة منها بدار الكتب ثمانية عشر جزءا غير متصلة، محفوظة بدار الكتب برقم (551- معارف عامة)(19/5)
وقد سبق أن وصفت هاتان النسختان فى مقدمة الجزء السادس عشر.
وقد رمزت إلى النسخة الأولى بالحرف (ك) وإلى الثانية بالحرف (ص) .
وقد رجعت فى التحقيق أيضا إلى تاريخ اليعقوبى، وتاريخ الطبرى، والمسعودى، وابن الأثير، وابن كثير، وكتاب الرياض النضرة للمحبّ الطبرى؛ إذ كانت هذه الكتب هى المادة نقل عنها المؤلف فى هذا الفن؛ فن التاريخ.
ووشيت حواشيه بالقدر من التعليقات الذى يعين على تحرير النص وفهمه.
وأسأل الله أن يوفق لإتمام نشر بقية أجزائه وطبعها، كما أسأله جلّ شأنه أن يجعل هذا العمل نافعا مقبولا.
محمد أبو الفضل إبراهيم(19/6)
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
اللهمّ يسّر ولا تعسّر، واختم بخيراتك إنّك على كل شىء قدير، وصلّى الله على سيّدنا محمد.
الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين
أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلىّ ابن أبى طالب، وأيّام الحسن بن علىّ رضوان الله عليهم أجمعين(19/7)
ذكر خلافة أبى بكر الصديق وشىء من أخباره وفضائله
هو أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم [1] بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، ومجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند مرّة بن كعب.
وأمه سلمى- وكنيتها أمّ الخير- بنت صخر بن كعب بن سعد ابن تيم [1] بن مرّة، وهى بنت عمّ أبيه.
وكان رضى الله عنه ينعت بعتيق، وقد اختلف فى سبب نعته بذلك؛ فقال اللّيث بن سعد، وجماعة معه: إنّما قيل له عتيق لجماله وعتاقة وجهه.
وقال مصعب الزّبيرىّ وطائفة من أهل النّسب: إنّما سمّى عتيقا لأنّه لم يكن فى نسبه شىء يعاب.
وقال آخرون: كان له أخوان: أحدهما يسمّى عتيقا، والآخر عتيقا؛ مات عتيق قبله، فسمّى باسمه.
وروى عن موسى بن طلحة، قال: سألت أبى طلحة بن عبيد الله، قلت له: يا أبت، بأىّ شىء سمّى أبو بكر عتيقا؟ قال: كانت أمّه لا يعيش لها ولد، فلمّا ولدته استقبلت به البيت، وقالت:
اللهمّ إنّ هذا عتيقك من الموت فهبه لى.
__________
[1] ك: «تميم» وصوابه ما أثبته من ص.(19/8)
وقال آخرون: إنّما سمّى عتيقا لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النّار فلينظر إلى هذا» ، فسمّى عتيقا بذلك.
وروى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، قالت: إنّى لفى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه بالفناء:؛ وبينهم الستر، إذ أقبل أبو بكر رضى الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا»
. قالت: وإنّ اسمه الذى سمّاه أهله لعبد الله بن عثمان، وسمّى رضى الله عنه بالصّدّيق؛ لمبادرته إلى تصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كلّ ما جاء به.
وقيل: بل قيل له الصديق؛ لتصديقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى خبر الإسراء.
وقال أبو محجن الثقفىّ فى أبى بكر رضى الله عنه:
وسمّيت صدّيقا، وكلّ مهاجر ... سواك تسمّى باسمه غير منكر [1]
سبقت إلى الإسلام، والله شاهد، ... وكنت جليسا بالعريش المشهّر
وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا ... وكنت رفيقا للنّبىّ المطهّر
يعنى بقوله: «بالعريش» فى يوم بدر؛ لأنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العريش؛ لم يكن معه فيه غيره.
وبقوله:
وبالغار إذ سمّيت بالغار صاحبا
__________
[1] الاستيعاب 965.(19/9)
قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
. [1]
ولنبدأ من أخباره رضى الله عنه بذكر شىء من فضائله، والله المستعان، وعليه التّكلان.
ذكر نبذة من فضائل أبى بكر الصديق ومآثره فى الجاهلية والإسلام
كان رضى الله عنه فى الجاهلية وجيها، رئيسا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناق فى الجاهلية- والأشناق الدّيات- فكان إذ حمل شيئا قالت فيه قريش: صدّقوه، وامضوا حمالته [2] وحمالة من قام معه أبو بكر، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدّقوه.
وكان رضى الله عنه ممّن حرّم الخمر على نفسه، وتنزّه عنها فى الجاهليّة، وكانت أشراف قريش تختلف إليه وتزوره، وتستشيره وتقتدى برأيه، وتتربص فى الأمور المعضلة إذا غاب إلى أن يقدم، ويدلّ على ذلك ما قدّمناه فى أوائل السّيرة النبويّة من خبره مع الشيخ الكبير الأزدىّ فى سفره إلى اليمن، وما بشّره الأزدىّ به من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنّه يعاونه على أمره، وأنّ أبا بكر رضى الله عنه لمّا رجع إلى مكّة، جاءه شيبة بن ربيعة وأبو جهل ابن هشام وأبو البخترىّ، وعقبة بن أبى معيط، ورجالات قريش
__________
[1] سورة التوبة 40.
[2] الحمالة بالفتح: الدية يحملها قوم عن غيرهم.(19/10)
مسلمين عليه. وقولهم له: حدث أمر عظيم؛ هذا محمد بن عبد الله يزعم أنه نبىّ أرسله الله إلى الناس، ولولا أنت ما انتظرنا به؛ فإذ جئت فأنت النّهية [1] ، وقد تقدم ذكر هذه القصة فى المبشرات برسول الله صلى الله عليه وسلم [2] .
ومثل ذلك لا ينتظر به إلا من لا يمكن أن يقطع الأمر دونه.
وفى هذا أقوى دلالة على فضله وشرفه، ومكانته لديهم. وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما فيها من خير وشر.
وأما فضائله رضى الله عنه ومناقبه فى الإسلام فكثيرة جدا، قد أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضائل ومناقب، وخصّه بمزايا لم يخصّ بها غيره، وذكره فى مواطن لم يذكر فيها سواه.
وقد تقدم من ذلك جملة فى أثناء السيرة النبوية فنشير الآن إليها، ونذكر ما سواها ممّا تقف عليه إن شاء الله تعالى.
فمن فضائله التى تقدم ذكرها سابقته فى الإسلام، وأنّه رضوان الله عليه أول من أسلم من الذكور، وأول من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده إلى الشعبىّ، قال: سألت ابن عباس- أو سئل ابن عباس رضى الله عنهما: أىّ الناس كان أوّل إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
__________
[1] فى السيرة الحلبية 1: 275: «فأنت الغاية والكفاية» .
[2] نهاية الأرب 16: 148.(19/11)
إذا تذكّرت شجوا من أخى ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا [1]
خير البرية، أتقاها وأعدلها [2] ... بعد النبىّ، وأوفاها بما حملا
الثانى التالى المحمود مشهده [3] ... وأوّل الناس حقّا صدّق الرّسلا [4]
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان بن ثابت:
هل قلت فى أبى بكر شيئا؟ قال: نعم؛ وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع، وهو:
وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صعّدوا الجبلا
فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أحسنت يا حسان» .
وروى أنّ فيها بيتا خامسا، وهو:
وكان حبّ رسول الله إذ علموا [5] ... خير البرية لم يعدل به رجلا [6]
ومما يؤيد أنه رضوان الله عليه أول من أسلم ما رواه الجريرىّ، عن أبى نضرة، قال: قال أبو بكر لعلىّ رضى الله عنهما:
أنا أسلمت قبلك ... ، فى حديث ذكره، فلم ينكر عليه.
ومن ذلك أنه رضى الله عنه فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
روى عن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: أنها قالت، وقد قيل لها: ما أشدّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودا فى المسجد الحرام، فتذكّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما يقول فى آلهتهم، فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
__________
[1] ديوانه 299.
[2] الديوان: «أتقاها وأرأفها» .
[3] الديوان: «المحمود شيمته» .
[4] الديوان: «وأول الناس طرا» .
[5] الديوان: «قد علموا» .
[6] الاستيعاب 3: 963- 965.(19/12)
فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شىء صدقهم، فقالوا: ألست تقول فى آلهتنا كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فتشبّثوا به بأجمعهم، فأتى الصّريخ إلى أبى بكر، فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم! أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ
[1] ! فلهوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبلوا يضربونه. قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمسّ شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
ومنها، أنه رضى الله عنه أنفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يملكه، طيّبة بذلك نفسه.
روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفا، أنفقها كلّها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفى سبيل الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نفعنى مال مثل ما نفعنى مال أبى بكر»
. ومن رواية أخرى عنه قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف دينار، وأعتق سبعة كلّهم يعذّب فى الله، أعتق بلالا، وعامر ابن فهيرة، وزنّيرة، والنّهدية [2] وابنتها، وجارية بنى نوفل، وأم عبيس. وقد تقدّم خبرهم فى السيرة النبوية.
ومنها، أنه رضى الله عنه أسلم على يديه بدعائه نصف العشرة
__________
[1] سورة غافر 28.
[2] ص: «والهدية» .(19/13)
المشهود لهم بالجنة، وهم: الزّبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، رضوان الله عليهم أجمعين.
وأسلم أبواه، وصحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسلم بنوه كلّهم، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبوه أبو قحافة، وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، وابن ابنه محمد ابن عبد الرحمن، وليست هذه المنقبة لأحد من الصحابة غيره.
ومن ذلك أنه رضى الله عنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الغار، ورفيقه فى هجرته، وناهيك بهما! وسمّاه عز وجل فى كتابه: «صاحبه» . فقال تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
[1] .
روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه؛ لم يأمن على نفسه غيره حتى دخلا الغار.
وعن حبيب بن أبى ثابت فى قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
[2] . قال: على أبى بكر؛ فأمّا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت عليه السّكينة.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «أنت صاحبى على الحوض، وصاحبى فى الغار»
. وعن سفيان بن عيينة، قال: عاتب الله عز وجلّ المسلمين
__________
[1] سورة التوبة 40.(19/14)
كلّهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أبا بكر، فإنه خرج من المعاتبة، قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ.
ومن فضائله ومزاياه رضى الله عنه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدمه للصّلاة [1] بالمسلمين فى حياته، وأمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد، إلّا باب أبى بكر، وقد تقدّم ذلك [2] .
ومنها ما
روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «رأيت فى المنام أنّى وزنت بأمّتى فرجحت، ثم وزن أبو بكر فرجح، ثمّ وزن عمر فرجح»
. وهذا دليل على أنه رضوان الله عليه أرجح من الأمة أكثر من مرتين، فإنه رجح الأمة، وعمر رضى الله عنه فيهم، ورجح عمر الأمة. ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ لا محالة.
وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ما سابقت أبا بكر إلى خير قطّ. إلّا سبقنى إليه؛ ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر.
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بالصدقة، قال عمر بن الخطاب وكان عندى مال كثير.
فقلت: والله لأفضلنّ أبا بكر هذه المرّة، فأخذت نصف مالى وتركت نصفه، فأتيت به النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «هذا مال كثير، فما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم نصفه؛ وجاء أبو بكر بمال كثير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
__________
[1] ص: «فى الصلاة» .
[2] ص: «ذكر ذلك» .(19/15)
وفى رواية: قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى
[1] ؛ نزلت فى أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: كنت عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خلّها [2] فى صدره بخلال، فنزل عليه جبريل، فقال: يا محمد، مالى أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها فى صدره بخلال! فقال: «يا جبريل، أنفق ماله علىّ قبل الفتح» ، قال: فإنّ الله عزّ وجل يقرأ عليك السّلام، ويقول: قل له: أراض أنت علىّ فى فقرك هذا، أم ساخط؟
فقال أبو بكر: أسخط على ربّى! أنا عن ربّى راض، أنا عن ربى راض، أنا عن ربى راض.
وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما، عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: هبط علىّ جبريل وعليه طنفسة، وهو متخلّل بها، فقلت:
يا جبريل، لم نزلت إلىّ فى مثل هذا الزّىّ [3] ؟ قال إنّ الله أمر الملائكة أن تتخلّل فى السماء كتخلل أبى بكر فى الأرض.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم صائما اليوم؟» قال أبو بكر رضى الله عنه: أنا، قال: «من أطعم اليوم مسكينا؟» قال أبو بكر: أنا،
__________
[1] سورة الليل 5، 6.
[2] خلها فى صدره، يريد ربطها فى صدره.
[3] ك: «الرى» تحريف.(19/16)
قال: «من عاد اليوم مريضا؟» قال أبو بكر: أنا، فقال: «من شهد اليوم منكم جنازة؟» [فقال أبو بكر: أنا] [1] ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما اجتمعت هذه الخصال فى رجل قطّ إلّا دخل الجنة»
. وعن ابن أبى أوفى، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل على أبى بكر وقال: «إنى لأعرف اسم رجل واسم أبيه، واسم أمّه؛ إذا دخل الجنّة لم تبق غرفة من غرفها، ولا شرفة من شرفها إلا قال: مرحبا مرحبا!» ، فقال سلمان: إن هذا لغير خائب» : فقال: «ذاك أبو بكر بن أبى قحافة»
. وعن سلمان بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر وعمر خير الأرض إلّا أن يكون نبيا»
. قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه واحدة منهنّ يدخل بها الجنة» ، قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، هل فىّ شىء منهنّ؟ قال: «نعم، جميعا من كلّ»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتانى جبريل فأخذ بيدى، فأرانى باب الجنّة الذى تدخل منه [2] أمّتى، فقال أبو بكر: وددت أنى كنت معك حتى أنظر إليه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنّة من أمّتى»
. وعن أبى أمامة قال: استطال أبو بكر ذات يوم على عمر، فقام
__________
[1] تكملة من ص
[2] ص: عنه.(19/17)
عمر مغضبا، فقام أبو بكر فأخذ بطرف ثوبه، فجعل يقول: ارض عنى، اعف عنّى، عفا الله عنك! حتى دخل عمر الدّار وأغلق الباب دون أبى بكر ولم يكلّمه؛ فبلغ ذلك النبىّ صلّى الله عليه وسلم فغضب لأبى بكر، فلمّا صلّى الظهر جاء عمر، فجلس بين يديه، فصرف النبىّ صلّى الله عليه وسلم وجهه عنه، فتحوّل يمينا فصرف وجهه عنه، فلمّا رأى ذلك ارتعد وبكى، ثم قال: يا رسول الله، قد أرى إعراضك عنى، وقد علمت أنك لم تفعل هذا إلّا لأمر قد بلغك عنى، موجدة علىّ فى نفسك [1] ، وما خير حياتى وأنت علىّ ساخط، وفى نفسك علىّ شىء! فقال: «أنت القائل لأبى بكر كذا وكذا، ثم يعتذر إليك فلا تقبل منه!» ثم قام النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنّ الله عز وجل بعثنى إليكم جميعا، فقلتم:
كذبت، وقال صاحبى: صدقت؛ فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى! فهل أنتم تاركون لى صاحبى!» ثلاثا.
فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، رضيت بالله ربّا.
وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيا. فقام أبو بكر فقال: والله لأنا بدأته، ولأنا كنت أظلم، فأقبل عمر على أبى بكر فقال: ارض عنى رضى الله عنك، فقال أبو بكر: يغفر الله لك! فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت أن أبعث رجالا من أصحابى إلى ملوك الأرض يدعونهم إلى الإسلام كما بعث عيسى بن مريم الحواريّين» .
__________
[1] كذا فى ص وفى ك: «نفسى» .(19/18)
قالوا: يا رسول الله، أفلا تبعث أبا بكر وعمر فهما أبلغ! فقال: «لا غنى لى عنهما؛ إنما منزلتهما من الدّين منزلة السمع والبصر من الجسد»
. وعن أبى أروى الدّوسىّ، قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا، فطلع أبو بكر وعمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى أيّدنى بكما»
. وعن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبى بكر: «يا أبا بكر، إنّ الله أعطانى ثواب من آمن بى منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وإن الله أعطاك يأبا بكر ثواب من آمن بى منذ بعثنى إلى يوم تقوم الساعة»
وعن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لى وزيران من أهل السماء: جبريل وميكائيل، ووزيران من أهل الأرض: أبو بكر وعمر»
. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما: أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر [وعمر] [1] : «ألا أخبر كما بمثلكما من الملائكة، ومثلكما فى الأنبياء؟ أمّا مثلك أنت يا أبا بكر فى الملائكة فمثل ميكائيل، ينزل بالرحمة، ومثلك أيضا فى الأنبياء كمثل إبراهيم إذ كذّبه قومه، وصنعوا به ما صنعوا، فقال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[2] . ومثلك يا عمر فى الملائكة كمثل جبريل، ينزل بالبأس والشدّة والنّقمة على أعداء الله؛ ومثلك فى الأنبياء كمثل نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً
[3]
__________
[2] تكملة من ص.
[1] سورة إبراهيم 36.
[3] سورة نوح 26.(19/19)
وعن عمّار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتانى جبريل آنفا، فقلت له: يا جبريل، حدّثنى بفضائل عمر ابن الخطاب فى السماء. فقال: يا محمد، لو حدّثتك بفضائل عمر بن الخطاب فى السّماء مثل ما لبث نوح فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ما نفدت فضائل عمر، وإنّ عمر حسنة من حسنات أبى بكر»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: هبط جبريل على النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فوقف ثلاثا يناجيه؛ فمرّ أبو بكر الصديق فقال جبريل: يا محمّد، هذا ابن أبى قحافة؛ قال: يا جبريل، وتعرفونه فى السماء؟ قال: إى والذى بعثك بالحقّ؛ لهو أشهر فى السماء منه فى الأرض، وإن اسمه فى السماء للحليم» .
وعن ابن عمر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه سلم: «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجح»
. وعن عبد الرحمن بن أبى بكر؛ أنّه كان يوم بدر مع المشركين، فلمّا أسلم قال لأبيه: لقد اهتدفت [1] لى يوم بدر، فصرفت، عنك ولم أقتلك؛ فقال أبو بكر: لكنّك لو اهتدفت لى لم أنصرف [2] عنك.
وعن ابن غنم، أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر، وعمر: «لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما»
. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتانى جبريل فقال: يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تستشير أبا بكر» .
__________
[1] ك: «اهتديت» .
[2] ص: «أصرف» .(19/20)
وعن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد ومعه المهاجرون والأنصار، ما أحد منهم يرفع رأسه من حبوته إلا أبو بكر وعمر، فإنّه كان يبتسم إليهما ويبتسمان إليه.
وعن الزّبير بن العوّام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك: «اللهمّ بارك لأمّتى فى أصحابى، فلا تسلبهم البركة، وبارك لأصحابى فى أبى بكر، فلا تسلبه البركة، واجمعهم عليه، ولا تشتّت أمره؛ فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره. اللهم أعن عمر ابن الخطاب، وصبّر عثمان بن عفّان، ووفّق علىّ بن أبى طالب، وثبّت الزبير، واغفر لطلحة، وسلّم سعدا، ووقّر عبد الرحمن، وألحق بى [1] السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان.
وقيل: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجّة الوداع صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يأيّها الناس، إنّ أبا بكر لم يسؤنى قطّ، فاعرفوا ذلك له. يأيّها الناس، إنّى راض عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلىّ بن أبى طالب، وطلحة ابن عبيد الله والزّبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن ابن عوف والمهاجرين الأولين، فاعرفوا ذلك لهم. يأيّها الناس، إنّ الله قد غفر لأهل بدر والحديبية. يأيّها الناس، احفظونى فى أحبابى وأصهارى وفى أصحابى، لا يطلبنّكم الله بمظلمة أحد منهم، فإنها ليست فيما يوهب. يأيّها النّاس، ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، إذا مات الرجل، فلا تقولوا فيه إلا خيرا»
، ثم نزل صلّى الله عليه وسلّم.
__________
[1] ك: «فى» تحريف.(19/21)
وعن عمرو بن العاص، أنّه أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أىّ الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: من الرجال، قال: أبوها. قال: ثم من؟ قال: عمر
. وعن عبد الله بن أبى أوفى، قال: كنّا مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إنّى مشتاق إلى إخوانى» ، فقلنا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله! قال: «كلّا، أنتم أصحابى وإخوانى» ، فجاء أبو بكر الصديق، فقال عمر: إنه قال: «إنى لمشتاق إلى إخوانى، فقلنا:
ألسنا إخوانك؟ فقال: لا، إخوانى قوم يؤمنون بى ولم يرونى.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «ألا تحبّ قوما بلغهم أنّك تحبنى فأحبوك لحبّك إياى، فأحبهم الله» !
وعنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على علىّ، وإذا أبو بكر وعمر قد أقبلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أحبّهما فحبّهما يدخل الجنّة»
. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وشكره واجب على أمتى»
. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حبّ أبى بكر وعمر إيمان، وبغضهما كفر»
. وعن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لمّا ولد أبو بكر الصّديق أقبل الله تعالى على جنّة عدن، فقال: وعزّتى وجلالى لا أدخلك إلّا من يحبّ هذا المولود»
- يعنى أبا بكر.(19/22)
وعن أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ فى السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون الله تعالى لمن أحبّ أبا بكر وعمر؛ وفى السماء الثانية ثمانين ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر»
وعن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد بين أبى بكر وعمر، وهو معتمد عليهما، فقال:
«هكذا ندخل الجنة جميعا»
. وعن عائشة رضى الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة أبو بكر؛ الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر»
. وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تأتى الملائكة بأبى بكر الصديق مع النبيّين والصّدّيقين تزفّه إلى الجنة زفّا»
. وعن ثابت، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كتابه من هذه الأمّة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات! زفّته الملائكة إلى الجنة»
. وعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كأنّى بك يا أبا بكر على باب الجنّة تشفع لأمّتى»
. وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش:(19/23)
ألا هاتوا أصحاب محمد» ، قال: فيؤتى بأبى بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان، فيقال لأبى بكر: قف على باب الجنّة، فأدخل الجنة من شئت برحمة الله، ودع من شئت بعلم الله، ويقال لعمر بن الخطاب: قف على الميزان فثقّل من شئت برحمة الله، وخفّف من شئت بعلم الله، ويعطى عثمان بن عفّان عصا آس، التى غرسها الله عزّ وجل فى الجنة، ويقال له: ذد النّاس عن الحوض»
. وقد ورد فى الصحيحين من فضائل أبى بكر رضى الله عنه ما فيه مقنع، وفضائله رضوان الله عليه كثيرة، وقد ذكرنا جملة كافية، فلنذكر صفته.
ذكر صفة أبى بكر الصديق
كان رجلا نحيفا [1] طويلا أبيض، خفيف العارضين أجنأ [2] ، لا يستمسك إزاره، يسترخى عن حقويه [3] ، معروق الوجه [4] ، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عارى الأشاجع [5] .
هكذا وصفته عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها. وكان يخضب بالحنّاء والكتم [6] .
__________
[1] ك: «منحفا» تحريف.
[2] أجنأ: أشرف كاهله على صدره.
[3] الحقو، بالفتح ويكسر: الكشح والإزار أو معقد.
[4] معروق الوجه: قليل اللحم فيه.
[5] الأشاجع: أصول الأصابع التى تتصل بعصب ظاهر الكف.
[6] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر فيبقى لونه.(19/24)
ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على أمته من بعده وحجة من قال ذلك
قال الفقيه الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البرّ النمرىّ رحمه الله: استخلف [1] رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضى الله عنه على أمته من بعده؛ بما أظهر من الدلائل البينّة على محبّته فى ذلك، وبالتعريض الذى يقوم مقام التّصريح، ولم يصرّح بذلك لأنه لم يؤمر فيه بشىء.
وكان صلى الله عليه وسلّم لا يصنع شيئا فى دين الله إلا بوحى، والخلافة ركن من أركان الدين.
قال: ومن الدليل الواضح [2] على ما قلنا، ما حدّثنا سعيد ابن نصر وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا منصور بن سلمة.
وأخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا الميمون بن حمزة الحسينىّ بمصر، قال: حدثنا الطّحاوىّ؛ قال: حدثنا المزنىّ، قال: حدّثنا الشافعىّ؛ قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد بن أبى وقّاص عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسألها عن شىء، فأمرها أن ترجع إليه.
فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ - تعنى الموت- فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدينى فأت أبا بكر» .
__________
[1] الاستيعاب 969 وما بعدها.
[2] الاستيعاب: «الدلائل الواضحة» .(19/25)
قال الشافعىّ رحمه الله: فى هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر.
وقد تقدم فى السيرة النبويّة
عن عاصم، عن قتادة، قال: ابتاع النبى صلى الله عليه وسلّم بعيرا من رجل إلى أجل، فقال: يا رسول، إن جئت فلم أجدك؟ - يعنى الموت-، قال: فائت أبا بكر، قال: فإن جئت فلم أجد أبا بكر؟ [يعنى] [1]- بعد الموت، قال: فائت عمر، قال: إن جئت فلم أجد عمر؟ قال: إن استطعت أن تموت إذا مات عمر، فمت.
وساق أبو عمر [2] بن عبد البرّ فى أدلّته على استخلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أحاديث الصلاة، وكونه استخلفه أن يصلّى بالناس فى مرضه.
وقد قدمنا ذكر ذلك كلّه فى خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وممّا يؤيد ذلك ويعضّده ما قدّمناه من
حديث عائشة رضى الله عنها، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها: «لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبيك، أو أخيك فأقضى أمرى، وأعهد عهدى؛ فلا يطمع فى الأمر طامع، ولا يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون» ثم قال: «كلا يأبى الله ويدفع المؤمنون» ، أو «يدفع الله ويأبى المؤمنون» .
وقال بعضهم فى حديثه: «ويأبى الله إلا أبا بكر»
. وفى الحديث الآخر
عن أبى مليكة، قال: قال النبىّ صلّى الله
__________
[1] تكملة يقتضيها السياق.
[2] ك: «أبو بكر» وهو خطأ.(19/26)
عليه وسلّم فى مرضه الذى مات فيه: «ادعوا إلىّ أبا بكر» ، فقالت عائشة: إنّ أبا بكر رجل يغلبه البكاء؛ ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب؛ قال: «ادعوا إلىّ أبا بكر، قالت: إن أبا بكر يرقّ، ولكن إن شئت دعونا لك ابن الخطاب، فقال: «إنكن صواحب يوسف، ادعوا أبا بكر وابنه؛ فليكتب؛ أن يطمع فى أمر أبى بكر طامع، أو يتمنى متمنّ» . ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون، يأبى الله ذلك والمؤمنون!»
. قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون.
وفى هذا الحديث والذى قبله تصريح [1] على أنه الخليفة بعده، ودليل على أن الكتاب الّذى أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبه، وتركه لما كثر عنده التنازع؛ إنما كان المراد به أن ينصّ على أبى بكر فى الخلافة. والله تعالى أعلم.
وروى أبو عمر بسنده إلى عبد الله بن مسعود، أنه قال: اجعلوا إمامكم خيركم؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل إمامنا خيرنا بعده.
وروى الحسن البصرىّ، عن قيس بن عباد، قال: قال لى علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرض ليالى وأياما، ينادى بالصلاة فيقول: «مروا أبا بكر يصلّى بالناس» ؛ فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نظرت، فإذا الصّلاة علم الإسلام، وقوام الدّين، فرضينا لدنيانا ما رضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا، فبايعنا أبا بكر [2] .
__________
[1] ص: «التصريح» .
[2] الاستيعاب 971.(19/27)
وكان أبو بكر رضى الله عنه يقول: أنا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولذلك كان يدعى: يا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى عن ابن أبى مليكة، قال: قال رجل لأبى بكر يا خليفة الله، قال: لست خليفة الله؛ ولكن أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا راض بذلك.
وروى أبو عمر بسنده، عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر رضى الله عنهما.
وكان علىّ رضى الله عنه يقول: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا [1] فتنة يغفر الله فيها عمّن يشاء. وقال: رحم الله أبا بكر! كان أول من جمع بين اللّوحين [2] .
وقال أبو عمر بن عبد البر: وروينا من وجوه، عن عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، أنه قال: ولينا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا؛ وأحناه علينا [3] .
وقال مسروق: حبّ أبى بكر وعمرو معرفة فضلهما من السنّة.
وروى عن علىّ رضى الله أنه قال: لا يفضّلنى أحد على أبى بكر وعمر إلّا جلدته جلد المفترى.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
[1] كذا فى ك، وفى ص «خبطنا» وفى الاستيعاب: «حفتنا» .
[2] الاستيعاب 972.
[3] الاستيعاب 972.(19/28)
ذكر بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وخبر السقفية، وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الإمارة
بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالخلافة فى يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة من الهجرة؛ وهو اليوم الّذى مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى سقيفة [1] بنى ساعدة، وذلك قبل أن يشرع فى جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكان من خبر سقيفة بنى ساعدة، أنّه لمّا توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اجتمعت الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة، وقالوا: نولّى هذا الأمر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد ابن عبادة، وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فلمّا اجتمعوا قال سعد لأبيه- أو لبعض بنى عمّه: إنى لا أقدر أشكو، أى أن أسمع القوم كلهم كلامى؛ ولكن تلقّ منى قولى فأسمعهموه [2] ، فكان سعد يتكلّم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع به صوته، فيسمع أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، إنّ لكم سابقة فى الدين، وفضيلة فى الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لبث بضع عشرة سنة فى قومه يدعوهم إلى عبادة
__________
[1] ك: «فى السقيفة» .
[2] ص: «فاستمعوه» ، وخبر يوم السقيفة فى تاريخ الطبرى 3: 203- 223(19/29)
الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلّا رجال قليل؛ والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزّوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم فيما عمّوا به؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة؛ ساق إليكم الكرامة، وخصّكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه. فكنتم أشدّ الناس على عدوّه من غيركم؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا [1] ؛ وحتى أثخن [2] الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب.
وتوفّاه الله إليه وهو عنكم راض، وبكم قرير العين. استبدّوا بهذا الأمر دون النّاس؛ فإنه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم، أن قد وفّقت فى الرأى، وأصبت فى القول، ولن نعدو ما رأيت؛ نولّيك هذا الأمر؛ فإنك فينا رفيع، ولصالح المؤمنين رضا.
ثم إنهم ترادّاوا الكلام، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش؟ فقالوا:
نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأولون.
ونحن عشيرته وأولياؤه؛ فعلام تنازعوننا الأمر من بعده؟ فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا فمنّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر رضى الله عنه الخبر، فأقبل إلى منزل النبىّ صلّى الله
__________
[1] داخرا، أى ذليلا.
[2] أثخن: أو غل.(19/30)
عليه وسلّم، فأرسل إلى أبى بكر، وأبو بكر فى الدار، وعلىّ بن أبى طالب دائب فى جهاز النبىّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فأرسل إلى أبى بكر، أن اخرج إلىّ؛ فأرسل إليه: إنّى مشتغل، فأرسل إليه: إنه قد حدث [1] أمر لا بدّ لك من حضوره، فخرج إليه، فقال: أما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت فى سقيفة بنى ساعدة، يريدون أن يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة؛ وأحسنهم مقالة من يقول: منّا أمير ومن قريش أمير! فخرجا [2] مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدىّ وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار.
قالا: فارجعوا. فاقضوا أمركم بينكم؛ فإنّه لم يكن إلا ما تحبون، فقالوا: لا نفعل.
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى حديثه: فقلت: والله لنأتينّهم! قال: فأتيناهم [3] وهم مجتمعون فى سقيفة بنى ساعدة وإذا بين أظهرهم رجل مزمّل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة. قلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم، فحمد الله وقال: أمّا بعد، فنحن الأنصار، وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهطنا، وقد دفّت إلينا من قومكم دافّة.
قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا
__________
[1] ك: «قد حدث لك أمر» .
[2] ص: «فخرجنا» .
[3] ص: «خلفناهم» .(19/31)
الأمر. وقد كنت زوّرت فى نفسى مقالة أقدّمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحدّ، وهو كان أوقر منى وأحلم، فلمّا أردت أن أتكلّم قال لى: على رسلك! وكرهت أن أغضبه، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، فما ترك شيئا زوّرت فى نفسى أن أتكلم به لو تكلمت، إلا قد جاء به، أو بأحسن منه.
وقال: أمّا بعد، يا معشر الأنصار، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلا إلّا أنتم له أهل، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحىّ من قريش؛ هم أوسط العرب دارا ونسبا، وإنّى قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيّهما شئتم. وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح.
يقول عمر وهو على المنبر: وإنّى والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة، أن كنت أقدّم فتضرب عنقى أحبّ إلىّ من أن أؤمّر على قوم فيهم أبو بكر.
قال: فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكّك، وعذيقها المرجّب؛ منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
قال عمر: وارتفعت الأصوات، وكثر اللغظ، فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبى بكر: ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار، ثمّ نزوا على سعد؛ حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعدا! وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبى بكر، إنّا خشينا إن(19/32)
فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما نرضى، أو نخالفهم فيكون فشل.
ومن رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمر الأنصارىّ، وذكر ما تكلّم به أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وما قاله الأنصار، فقال بعد أن ساق ما تقدم أو نحوه، ثم قال: فبدأ أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلّم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمّته؛ ليعبدوا الله ويوحّدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، يزعمون أنّها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنّما هى حجر منحوت، وخشب منجور.
ثم قرأ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ
[1] ، وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى
[2] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخصّ الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة [له] [3] والصبر معه، على شدّة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إيّاهم، وكلّ الناس لهم مخالف، وعليهم زار [4] ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف النّاس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل من عبد الله فى الأرض، وآمن بالله والرّسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم
__________
[1] سورة يونس 18.
[2] سورة الزمر 3.
[3] تكملة من ص.
[4] زار: محتقر.(19/33)
ذلك إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار، أنتم من لا ينكر فضلهم فى الدّين، ولا سابقتهم العظيمة فى الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفاتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور.
قال: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم. فإنّ الناس فى فيئكم وفى ظلّكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم؛ وأنتم أهل العزّ والثّروة، وأولو العدد والتجربة، وذوو البأس والنّجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وتنتقض [عليكم] [1] أموركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان فى قرن! إنه والله لا يرضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها صلى الله عليه وسلّم من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولّى أمورها من كانت النبوّة فيهم، وولىّ أمورهم منهم؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته؛ ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم أو متوّرط. فى هلكة!.
فقام الحباب بن المنذر، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من
__________
[1] زيادة من تاريخ الطبرى.(19/34)
هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولّوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم؛ فإنه بأسيافكم دان [1] لهذا الدّين من لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرّجّب؛ أما والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعة [2] ! فقال له عمر: إذن يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل.
فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر.
فقال بشير بن سعد، أبو النعمان بن بشير:
يا معشر الأنصار، إنّا والله لئن كنّا أولى فضيلة فى جهاد المشركين، وسابقة فى هذا الدّين، ما أردنا به إلا رضا ربّنا، وطاعة نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، والكدح لأنفسنا؛ ما ينبغى لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغى به من الدنيا عرضا، فإن الله ولىّ المنة علينا بذلك؛ ألا إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وقومه أحقّ به وأولى. وايم الله لا يرانى الله أنازعهم هذا الأمر أبدا! فاتقوا الله ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: هذا عمر وأبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا؛ فقالا: والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وثانى اثنين إذ هما فى الغار، وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصلاة، والصّلاة أفضل دين المسلمين،
__________
[1] دان: خضع.
[2] جذعة: فتية.(19/35)
فمن ذا ينبغى له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك! ابسط نيايعك [1] فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه المنذر بن الحباب: يا بشير بن سعد، عققت عقاق [2] ! ما أحوجك [3] إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمّك الإمارة! قال: لا والله، ولكن كرهت أن أنازع قوما [حقا] [4] جعله الله لهم.
قال: ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض- وفيهم أسيد بن حضير: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة، لازالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا [فقوموا] [4] فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، وانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا اجتمعوا له من أمرهم.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه: فروى عن أبى بكر بن محمد الخزاعىّ: إنّ أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بها السكك ليبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلّا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنّصر.
قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل النّاس من كلّ جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد:
اتقوا سعدا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه، اقتلوه، قتله الله! ثم قام
__________
[1] ص: «ابسط يدك نبايعك» .
[2] ك: «عقتك عقاق» .
[3] ص: «ما أخرجك إلى ما صنعت» .
[4] تكملة من تاريخ الطبرى.(19/36)
على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك [1] ؛ فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، ثم قال: والله لو حصصت منها شعرة ما رجعت وفى فيك واضحة [2] .
فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق هاهنا أبلغ! فأعرض عنه عمر؛ وقال سعد: أما والله لو أنّ بى من قوتى ما أقوى على النهوض لسمعتم منى فى أقطارها وسككها زئيرا يجحرك [3] وأصحابك.
أما والله إذا لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع. احملونى عن هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره، وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع؛ فقد بايع الناس وبايع قومك؛ فقال: أما والله حتّى أرميكم بما فى كنانتى من نبل، وأخضب منكم سنان رمحى، وأضربكم بسيفى ما ملكته يدى، وأقاتلكم بأهل بيتى ومن أطاعنى من قومى، فلا أفعل وايم الله: لو أن الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربى وأعلم ما حسابى.
فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع؛ فقال له بشير بن سعد: إنه قد لجّ [وأبى] [4] وإنه ليس يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته. فاتركوه، فليس تركه يضارّكم، إنما هو رجل واحد. فتركوه، وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه
__________
[1] أى تزال عن موضعها، وفى الطبرى: «عضدك» .
[2] الواضحة من الأسنان: التى تبدو عند الضحك.
[3] يجحرك وأصحابك، أى يدخلكم المضايق.
[4] زيادة من تاريخ الطبرى.(19/37)
لما بدا لهم منه؛ فكان سعد بن عبادة لا يصلّى بصلاتهم، ولا يجمع معهم، ويحجّ ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر الصديق رضى الله عنه.
وعن الضّحاك بن خليفة، أنّ سعد بن عبادة بايع.
وعن جابر، قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبى بكر: إنّكم يا معشر المهاجرين حسدتمونى على الإمارة، وإنّك وقومى أجبرتمونى على البيعة؛ فقال أبو بكر: إنّا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت فى سعة، ولكنّا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة فيها؛ لئن نزعت يدا من طاعة، أو فرّقت جماعة لأضربنّ الذى فيه عيناك.
وحكى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله؛ أنّ عمر رضى الله عنه قال: نشدتكم الله! هل تعلمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس! فقالوا: اللهمّ نعم، قال:
فأيّكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم! فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه، ونستغفر الله. وبايعوه [1] .
قال: ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلّف عن بيعته سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفرقة من قريش، ثم بايعوه بعد غير سعد.
__________
[1] الاستيعاب 970.(19/38)
وقيل: إنه لم يتخلّف عن بيعته يومئذ أحد من قريش.
وقيل: تخلّف عنه من قريش: علىّ، والزّبير، وطلحة، وخالد ابن سعد بن العاص. ثم بايعوه بعد.
وقد قيل: إن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لم يبايعه إلا بعد موت فاطمة رضى الله عنها، ثم لم يزل سامعا مطيعا له؛ يثنى عليه ويفضّله.
وقيل: إنه تخلّف علىّ وبنو هاشم والزّبير وطلحة عن البيعة، وقال الزّبير: لا أغمد سيفى حتى يبايع علىّ، فقال عمر:
خذوا سيفه، فاضربوا به الحجر؛ ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.
وقيل: إنّ عليّا لما سمع ببيعة أبى بكر خرج فى قميص، ما عليه إزار ولا رداء، عجلا حتى بايعه، ثم استدعى إزاره ورداءه.
وحكى محمد بن إسحاق رحمه الله؛ عن عبد الله بن أبى بكر، أنّ خالد بن سعيد بن العاص قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتربّص ببيعته لأبى بكر شهرين، وكان يقول:
قد أمّرنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يعزلنى، ثم بايع أبا بكر.
فلمّا بعث أبو بكر الجنود إلى الشام، كان أول من بعث على ربع منها خالد بن سعيد، فلم يزل به عمر حتى عزله، وأمّر يزيد ابن أبى سفيان، وكان عمر رضى الله عنه قد اضطغن عليه تأخره عن بيعة أبى بكر.
وعن عكرمة، قال: لمّا بويع لأبى بكر تخلّف عن بيعته علىّ، وجلس فى بيته، فلقيه عمر، فقال: تخلّفت عن بيعة أبى بكر،(19/39)
فقال: إنّى أكتب بيمين حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألّا أرتدى برداء إلّا إلى الصلاة المكتوبة؛ حتى أجمع القرآن؛ فإنى خشيت أن ينفلت، ثم خرج فبايع.
وعن مالك بن مغول [1] ، عن ابن أبجر، قال: لما بويع لأبى بكر الصديق جاء أبو سفيان بن حرب إلى علىّ، فقال: غلبكم على هذا الأمر أرذل بيت فى قريش! أما والله لأملأنّها خيلا ورجلا! فقال له علىّ: ما زلت عدوّ الإسلام وأهله، فما ضرّ ذلك الإسلام وأهله شيئا.
إنّا رأينا أبا بكر لها أهلا. ورواه عبد الرزاق، عن ابن المبارك.
وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه:
أن عليّا والزبير كانا حين بويع [2] لأبى بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها فى أمرهم، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها فقال: يا بنت رسول الله، ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك، وقد بلغنى أن هؤلاء النّفر يدخلون عليك، ولئن بلغنى لأفعلنّ ولأفعلنّ! ثم خرج وجاءوها فقالت لهم: إن عمر قد جاءنى وحلف إن عدتم ليفعلنّ، وايم الله ليفينّ بها، فانظروا فى أمركم، ولا تنظروا إلىّ؛ فانصرفوا ولم يرجعوا حتى بايعوا لأبى بكر. رضى الله عنهم أجمعين [3] .
وهذا الحديث يردّ قول من زعم أن علىّ بن أبى طالب لم يبايع إلا بعد وفاة فاطمة رضى الله عنها.
__________
[1] ص: «معول» .
[2] ص: «بايع» .
[3] الاستيعاب 975.(19/40)
ولما بويع لأبى بكر رضى الله عنه، قال ابن [أبى] [1] عزّة القرشى الجمحىّ:
شكرا لمن هو بالثّناء خليق ... ذهب الّلجاج وبويع الصّدّيق
من بعد ما ذهبت بسعد بغله ... ورجا رجاء دونه العيّوق
جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتى به الصديق والفاروق [2]
وأبو عبيدة والّذين إليهم ... نفس المؤمّل للبقاء تتوق
كنّا نقول لها علىّ والرضا ... عمر وأولاهم بتلك عتيق
فدعت قريش باسمه فأجابها ... إنّ المنوّة باسمه الموثوق
وروى عن سعيد بن المسيّب، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ارتجّت مكة، فسمع أبو قحافة، فقالوا:
ما هذا؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قالوا:
أمر جلل، فمن ولى بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطى لما منع الله. والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] من الاستيعاب 976.
[2] ص: «فأتاهم الصديق» .(19/41)
ذكر ما تكلم به أبو بكر الصديق بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية العامة
روى [1] أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر رضى الله عنه فى السّقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبى بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وقال:
أيها الناس، إنّى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلّا عن رأيى، وما وجدتها فى كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن قد كنت أرى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيدبّر أمرنا حتى يكون آخرنا، وإنّ الله قد أبقى فيكم كتابه الّذى هدى به رسوله، فإن اعتصتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإنّ الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثانى اثنين إذ هما فى الغار؛ فقوموا فبايعوا. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامّة بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلّم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالّذى هو أهله، ثم قال: أمّا بعد؛ أيها النّاس، فإنّى قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقوّمونى، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضّعيف فيكم قوىّ عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوىّ منكم الضعيف عندى، حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله، فإنّه لا يدعه قوم إلّا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلّا عمّهم الله بالبلاء.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 210.(19/42)
أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم؛ قوموا إلى صلاتكم، يرحمكم الله.
- يعنى بالصّلاة هنا، الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فإن خطبته هذه كانت قبل دفنه صلّى الله عليه وسلّم.
وقول عمر بن الخطاب فى كلامه: «إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة» ، إشارة إلى ما كان قد تكلّم به عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إنكاره أنّه مات، على ما قدّمنا ذكره فى خبر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإنّما أوضحنا هذا الكلام فى هذا الموضع لئلا يتبادر إلى ذهن من يسمعه ممنّ لم يطالع ما قبله، ولا علم الواقعة فيتوهّم أن كلامه بذلك رجوع عمّا تكلّم به بالأمس فى شأن بيعه أبى بكر رضى الله تعالى عنه.
وعن عاصم بن عدىّ، أنه قال [1] : وقام أبو بكر رضى الله عنه من بعد الغد- يعنى من يوم بيعته- فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: يأيّها الناس؛ إنما أنا مثلكم، وإنّى لا أدرى لعلكم ستكلّفوننى ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق، إنّ الله اصطفى محمّدا على العالمين، وعصمه من الآفات، فإنّما أنا متّبع ولست بمبتدع فإن استقمت فاتّبعونى، وإن زغت فقوّمونى، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة؛ ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإنما لى شيطان يعترينى، فإذا أتانى فاجتنبونى، لا أؤثّر فى أشعاركم وأبشاركم، وإنكم تغدون وتروحون
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 223، 224.(19/43)
فى أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم ألّا يمضى هذا الأجل إلّا وأنتم فى عمل صالح فافعلوا، ولن تستيطعوا ذلك إلّا بالله. فسابقوا فى مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإنّ قوما نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم. الجدّ الجدّ، والوحى الوحى [1] ، والنّجاة النّجاة، وإنّ وراءكم طالبا حثيثا، أجلا مرّه سريع. واحذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبط به الأموات.
وقام أيضا رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إنّ الله لا يقبل من الأعمال إلّا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أنّ ما أخلصتم لله من أعمالكم، فطاعة أتيتموها، وحظّ ظفرتم به، وضرائب أدّيتموها، وسلف قدّمتموه من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، واعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وفكّروا فيمن كان قبلكم.
أين كانوا أمس وأين هم اليوم! أين الجبّارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة ومواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدّهر وصاروا رميما، قد تركت عليهم القالات [2] ؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات.
__________
[1] الوحى: الإسراع.
[2] ص: «المقالات» .(19/44)
وأين الملوك الّذين أثاروا الأرض وعمروها، قد بعدوا، ونسى ذكرهم، وصاروا كلا شىء. ألا إنّ الله قد أبقى عليهم التّبعات، وقطع عنهم الشّهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدّنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا.
أين الوضّاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم! صاروا ترابا، وصار ما فرّطوا فيه حسرة عليهم.
أين الذين بنوا المدائن؛ وحصّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب! قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم فى ظلمات القبور، هل تحسّ منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا [1] ! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم؛ فوردوا على ما قدّموا، فحلّوا عليه، وأقاموا للشّقوة أو السّعادة فيما بعد الموت؛ ألا إنّ الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، ولا يصرف به عنه شرّا إلا بطاعته واتّباع أمره.
واعلموا أنكم عبيد مذنبون، وأنّ ما عنده لا يدرك إلّا بطاعته.
ألا وإنّه لا خير بخير بعده النّار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] الركز: الصوت الخفى.(19/45)
ذكر انفاذ جيش أسامة
قد ذكرنا فى السّيرة النبويّة فى الغزوات والسّرايا؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قد جهّز أسامة بن زيد قبل وفاته، وندب معه جماعة من أعيان المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر.
وذكرنا أيضا ما تكلّم به من تكلّم من الصحابة فى شأنه، وما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما بلغه ذلك، من الثناء على أسامة ابن زيد وعلى أبيه زيد بن حارثة، واستخلافه للإمارة، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض وجيش أسامة بالجرف.
فلمّا [1] بويع أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كان أوّل ما بدأ به أن أمر مناديه فنادى فى الناس من بعد الغد من متوفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّم بعث أسامة: ألا لا يبقينّ فى المدينة أحد من جند أسامة إلّا خرج إلى عسكره بالجرف.
روى ذلك عن عاصم بن عدىّ. وعن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: لما بويع أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، وجمع الأنصار على الأمر الذى افترقوا عنه، قال: ليتمّ بعث أسامة، وقد ارتدّت العرب، إمّا عامّة، وإمّا خاصّة فى كلّ قبيلة، ونجم النّفاق، واشرأبّت اليهوديّة والنّصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة، فى اللّيلة الشاتية؛ لفقد نبيّهم وقلّتهم، وكثرة عدوّهم.
فقال له النّاس: إن هؤلاء جلّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغى لك أن تفرّق عنك جماعة المسلمين.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 225 وما بعدها.(19/46)
فقال أبو بكر: والذى نفس أبى بكر بيده، لو ظننت أنّ السّباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يبق فى القرى غيرى لأنفذته.
وعن الحسن بن أبى الحسن، قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته بعثا على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقف أسامة بالناس، ثم قال [1] لعمر بن الخطاب: ارجع إلى خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستأذنه، يأذن لى [أن] [2] أرجع بالناس، فإنّ معى وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطّفهم المشركون.
وقالت الأنصار: فإن أبى إلّا أن نمضى؛ فأبلغه عنّا، واطلب إليه أن يولّى أمرنا رجلا أقدم سنّا من أسامة.
فخرج عمر بأمر أسامة، فأتى أبا بكر، فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو خطفتنى الكلاب أو الذّئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإنّ الأنصار أمرونى أن أبلغك أنّهم يطلبون إليك أن تولّى أمرهم رجلا أقدم سنّا من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالسا. فأخذ بلحية عمر، وقال: ثكلتك أمّك وعدمتك يابن الخطاب! استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأمرنى أن أنزعه!
__________
[1] ص: «ثم قام» .
[2] تكملة من ص.(19/47)
فخرج عمر إلى النّاس، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمّهاتكم! ما لقيت فى سببكم اليوم من خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! ثم خرج أبو بكر رضى الله عنه حتى أتاهم، فأشخصهم وشيّعهم وهو ماش؛ وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبى بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنزل وو الله لا أركب، وما علىّ أن أغبّر قدمىّ فى سبيل الله ساعة؛ فإنّ للغازى بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وتمحى عنه سبعمائة خطيئة؛ حتى إذا انتهى أبو بكر، قال لأسامة: إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل، فأذن له. ثم قال:
يأيّها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّى: لا تخونوا ولا تغلّوا [1] ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا [2] نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلّا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شىء فاذكروا اسم الله عليها. وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم [3] ،
__________
[1] الغلول: أخذ شىء من الغنيمة خفية قبل القسمة.
[2] عقر النخلة: قطعها من أصلها فسقطت.
[3] فحصوا رءوسهم. أى أن الشيطان جعلها مفاحص كما تستوطن القطا مفاحصها.(19/48)
وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله.
ثم أوصى أسامة أن يفعل ما أمره به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسار وأوقع بقبائل قضاعة الّتى ارتدّت، وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوما، وقيل: سبعين يوما، وقيل: أربعين؛ سوى مقامه ومقفله راجعا.
وكان إنفاذ جيش أسامة من أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فإنّ العرب قالوا: لو لم تكن لهم قوّة ما أرسلوا هذا الجيش؛ فكفّوا عن كثير مما كانوا عزموا على فعله. وذلك ببركة اتّباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين
وما كان من أمرهم، وتجهيز أبى بكر الصديق الجيوش إليهم، وإلى من ارتدّ من قبائل العرب قال المؤرّخون: كان ادّعى النبوّة فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة، وهم: الأسود العنسى، وطليحة الأسدىّ، ومسيلمة الكذّاب، وادّعت النبوّة سجاح بنت الحارث التميميّة.
فأما [1] الأسود العنسى، واسمه عبهلة بن كعب بن عوف العنسىّ- بالنّون الساكنة. وعنس بطن من مذحج- فكان يلقّب ذا الخمار لأنه كان متخمّرا أبدا.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 227 وما بعدها.(19/49)
وقال أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرىّ: إنه كان له حمار [1] معلم يقول له: اسجد لربك، فيسجد. ويقول له: ابرك فيبرك.
فقيل له: ذا الحمار. والله تعالى أعلم.
وكانت ردّته أوّل ردّة كانت فى الإسلام، وغلب على صنعاء إلى عمان إلى الطائف وكان من خبره ما روى عن الضحّاك بن فيروز الدّيلى عن أبيه؛ قال: أوّل ردّة كانت فى الإسلام باليمن، ردّة كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على يد ذى الخمار عبهلة بن كعب- وهو الأسود- فى عامّة مذحج، خرج بعد الوداع. وكان الأسود كاهنا مشعبذا [2] ، وكان يريهم الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبّان- وهى كانت موطنه وداره، وبها ولد ونشأ- فكاتبته مذحج وواعدوه نجران، فوثبوا عليها، وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد بن العاص، ثم أنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك فأجلاه، ونزل منزله، فلم يلبث عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع لباذام، حين أسلم، وأسلمت اليمن كلّها على جميع مخالفيها، فلم يزل عامل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أيام حياته لم يعزله عنها ولا عن شىء منها،
__________
[1] ك: «جمار» تحريف.
[2] الشعوذة والشعبذة: أخذ كالسحر، يرى شىء بغير ما عليه.(19/50)
ولا أشرك معه فيها شريكا حتى مات باذام، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمل اليمن على جماعة من أصحابه، وهم: شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمدانىّ، وعبد الله بن قيس أبو موسى، وخالد ابن سعيد بن العاص، والطّاهر بن أبى هالة، ويعلى بن أميّة، وعمرو ابن حزم. وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضىّ، وعكّاشة ابن ثور بن أصغر الغوثىّ؛ على السّكاسك والسّكون، ومعاوية بن كندة.
وبعث معاذ بن جبل معلّما لأهل البلدين: اليمن وحضرموت.
وروى عن عبيد بن صخر، قال: بينما نحن بالجند؛ قد أقمناهم على ما ينبغى، وكتبنا بيننا وبينهم الكتب؛ إذ جاءنا كتاب من الأسود: أيها المتورّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفّروا ما جمعتم، فنحن أولى به. وأنتم على ما أنتم عليه، فقلنا للرسول: من أين جئت؟ قال: من كهف خبّان؛ ثم كان وجهه إلى نجران حتى أخذها فى عشر لمخرجه، وطابقه عوامّ مذحج؛ فبينا نحن ننظر فى أمرنا، ونحن نجمع جمعنا إذ أتينا. فقيل: هذا الأسود بشعوب [1] ، وقد خرج إليه شهر بن باذام، وذلك لعشرين ليلة من منجمه؛ فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدّبرة [2] ؛ إذ أتانا أنه قتل شهرا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء، لخمس وعشرين ليلة من منجمه.
وخرج معاذ هاربا حتى مرّ بأبى موسى وهو بمأرب، فاقتحما حضرموت، فأمّا معاذ فإنه نزل فى السّكون، وأما أبو موسى فإنّه
__________
[1] شعوب: قصر باليمن معروف بالارتفاع، أو بساتين بظاهر صنعاء- ياقوت.
[2] الدبرة: الهزيمة فى القتال، وفى ص: «الدائرة» .(19/51)
نزل فى السّكاسك، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطّاهر [1] إلّا عمرا وخالدا، فإنّهما رجعا إلى المدينة، والطّاهر يومئذ فى وسط بلادعك بحيال صنعاء؛ وغلب الأسود على ما بين صهيد- مفازة حضرموت- إلى عمل الطائف، إلى البحرين قبل عدن، وطابقت عليه اليمن، وعكّ بتهامة معترضون عليه، وجعل يستطير استطارة الحريق، وكان معه يوم لقى شهر بن باذام سبعمائة فارس سوى الرّكبان، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل من السواحل وعدن والجند؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف إلى الأحسية وغيرها.
وعامله المسلمون بالبقيّة، وعامله أهل الرّدة بالكفر، والرجوع عن الإسلام.
وكان خليفته فى مذحج عمرو بن معدى كرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه.
فلمّا أثخن فى الأرض استخفّ بقيس وبفيروز وبداذويه وتزوّج امرأة شهر، وهى ابنة عم فيروز.
قال أبو عبيد بن صخر: فبينا نحن كذلك بحضرموت، ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، أو أن يبعث إلينا جيشا، أو يخرج بحضرموت خارج يدّعى بمثل ما ادّعى به الأسود، فنحن على ظهر، تزوّج معاذ إلى بنى بكرة- حىّ من السّكون- امرأة يقال لها: رملة، فحدبوا لصهره علينا- وكان معاذ بها معجبا- فإن كان يقول فيما يدعو الله به: اللهم ابعثنى يوم القيامة مع السّكون، ويقول أحيانا:
__________
[1] هو الطاهر بن أبى هالة وانظر الصفحة السابقة.(19/52)
اللهم اغفر للسّكون؛ إذ جاءتنا كتب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يأمرنا [فيها] [1] أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته، وأن نبلغ كلّ من رجا عنده شيئا من ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم.
فقام معاذ فى ذلك بالّذى أمره به، فعرفنا القوّة، ووثقنا بالنّصر.
وعن جشيش بن الدّيلمىّ، قال: لمّا قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب النبىّ صلى الله عليه وسلّم يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنّهوض فى الحرب، والعمل فى الأسود، إمّا غيلة، وإمّا مصادمة، وأن نبلغ عنه من رأينا أنّ عنده نجدة [ودينا] [2] ، فعملنا فى ذلك، فرأينا أمرا كثيفا، ورأيناه قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث- وكان على جنده- فقلنا: يخاف على دمه [فهو لأول دعوة] [2] ، فدعوناه وأنبأناه الشأن، وأبلغناه عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فكأنّما وقعنا عليه من السّماء، وكان فى غمّ وضيق بأمره، فأجابنا إلى ما أحببنا من ذلك، وكاتبنا النّاس، ودعوناهم. فأخبره الشيطان بشىء، فأرسل إلى قيس وقال: يا قيس، ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال:
يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار فى العزّ مثلك؛ مال ميل عدوّك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول: يا أسود يا أسود! يا سوءة، يا سوءة! اقطف قنّته، وخذ من قيس أعلاه؛ وإلّا سلبك، أو قطف قنّتك.
__________
[1] تكملة من ص.
[2] تكملة من تاريخ الطبرى.(19/53)
فقال قيس وحلف به؛ كذب وذى الخمار؛ لأنت أعظم فى نفسى، وأرجى عندى من أن أحدّث بك نفسى! فقال: ما أجفاك! أتكذّب الملك! صدق الملك، وعرفت الآن أنّك تائب مما اطّلع عليه منك، ثم خرج فأتانا فقال: يا جشيش، يا فيروز، يا داذويه! إنه قد قال وقلت: فما الرأى؟ فقلنا: نحن على حذر؛ فإنا فى ذلك، إذ أرسل إلينا؛ فقال: ألم أشرّفكم على قومكم! ألم يبلّغنى عنكم! فقلنا: أقلنا مرّتنا هذه؛ فنجونا، ولم نكد، وهو فى ارتياب من أمرنا وأمر قيس، ونحن فى ارتياب وعلى خطر عظيم؛ إذ جاءنا اعتراض عامر بن شهر وذى زود وذى مرّان وذى الكلاع وذى ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النّصر، وكاتبناهم؛ وأمرناهم ألا يحرّكوا شيئا حتى نبرم الأمر، وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم. وكتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، إلى عربهم وساكنى الأرض من غير عربهم، فتنحّوا، وانضمّوا إلى مكان [واحد] [1] . وبلغه [2] ذلك، وأحسّ بالهلاك، وفرق لنا الرأى، فدخلت على آزاد- وهى امرأته- فقلت: يا بنت عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك؛ قتل زوجك، وطأطأ فى قومك القتل، وسفل بمن بقى منهم، وفضح النساء، فهل عندك من ممالأة عليه؟ فقالت: على أىّ أمره؟ قلت:
إخراجه، فقالت: أو قتله! قلت: أو قتله، قالت: نعم والله ما خلق الله شخصا أبغض إلىّ منه؛ ما يقوم لله على حقّ، ولا ينتهى له
__________
[1] من ص والطبرى.
[2] ص: «وبلغهم» .(19/54)
عن حرمة، فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر. فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراننى، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا: الملك يدعوك، فدخل فى عشرة من مذحج وهمدان فلم يقدر على قتله معهم.
فقال: يا عبهلة بن كعب بن غوث، أمنّى تحصّن بالرجال! ألم أخبرك الحقّ وتخبرنى الكذابة [1] ! إنه يقول: يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا، حتى ظنّ أنه قاتله.
فقال: إنه ليس من الحقّ أن أقتلك وأنت رسول الله؛ فمرنى بما أحببت، فأمّا الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلنى، وإمّا قتلتنى فموتة أهون علىّ من موتات أموتها كلّ يوم. فرقّ له وأخرجه؛ فخرج إلينا، فأخبرنا. وقال: اعملوا عملكم، وخرج إلينا فى جمع، فقمنا مثولا له، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخطّ خطّا، وأقيمت من ورائه، وقام من دونها فنحرها غير محبّسة ولا معقّلة، ثم خلّاها ما يقتحم الخطّ منها شىء، ثمّ خلاها فجالت إلى أن زهقت.
فما رأيت أمرا كان أفظع منه، ولا يوما أو حش منه، ثم قال:
أحقّ ما بلغنى عنك يا فيروز؟ - وبوّأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة؛ فقال: اخترتنا لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيّا ما بعنا نصيبنا منك بشىء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودينا! لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك؛ فإنّا بحيث تحبّ؛ فقال: اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هنا.
__________
[1] ك: «وتخبرنى الكذبة» .(19/55)
فاجتمع إلىّ أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور، ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل الحلّة بعدّة، حتى أخذ أهل كلّ ناحية بقسطهم.
فلحق به قبل أن يصل إلى داره- وهو واقف علىّ- رجل يسعى إليه بفيروز، فاستمع له، واستمع له فيروز، وهو يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علىّ، ثم التفت فإذا به؛ فقال: مه! فأخبره بالّذى صنع؛ فقال: أحسنت، وضرب دابّته داخلا، فرجع إلينا فأخبرنا بالخبر، فأرسلنا إلى قيس، فجاءنا، فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأه؛ فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر، فأتيت المرأة، وقلت: ما عندك؟ قالت: هو متحرز متحرّس، وليس من القصر شىء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطّريق، فإذا أمسيتم فانقلبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس؛ وليس دون قتله شىء. وقالت: إنكم سترون فيه سراجا وسلاحا، فخرجت فتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله؛ فقال: ما أدخلك علىّ؟ ووجأ [1] رأسى حتى سقطت؛ وكان شديدا، وصاحت المرأة فأدهشته عنّى؛ ولولا ذلك لقتلنى؛ وقالت: ابن عمى جاءنى زائرا؛ فقال: اسكتى لا أبا لك! فقد وهبته لك [فتزيّلت عنى] [2] ، فأتيت أصحابى، فقلت: النّجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر، فإنّا على ذلك حيارى إذ جاءنى رسولها: لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإنى لم أزل به حتى اطمأنّ.
فلمّا أمسينا عملنا فى أمرنا، وقد واطأنا أشياعنا، وعجلنا
__________
[1] وجأر رأسه: ضربه.
[2] من ص، وفى الطبرى: «فتزايلت» .(19/56)
عن مراسلة الهمدانيّين والحميريّين، فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة، والتقينا [1] بفيروز- وكان أنجدنا وأشدّنا- فقلنا: انظر ماذا ترى؟ فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه فى مقصورته، فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة، فلمّا قام على الباب أجلسه الشيطان، فكلّمه على لسانه وإنه ليغطّ جالسا. وقال أيضا: مالى ولك يا فيروز! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ برأسه فقتله، فدقّ عنقه، ووضع ركبتيه فى ظهره فدقّه، ثمّ قام ليخرج، فأخذت المرأة بثوبه، وهى ترى أنّه لم يقتله، فقالت: أين تدعنى؟ قال: أخبر أصحابى بمقتله؛ فأنانا، فقمنا معه، فأردنا حزّ رأسه، فحرّكه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه.
فقلت: اجلسوا على صدره، فجلس اثنان على صدره، وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة [2] ، فأمرّ الشّفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قطّ.
فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة، فقالوا: ما هذا، ما هذا؟ فقالت المرأة: النبىّ يوحى إليه؛ فخمد، ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا؛ ليس غيرنا ثلاثتنا [فيروز وداذويه وقيس] [3] ، فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذى بيننا
__________
[1] ص: «واتقينا» .
[2] البربرة: الصوت المختلط.
[3] من ص والطبرى.(19/57)
أو بين أشياعنا، ثم ينادي بالأذان فلمّا سمع بذلك، وطلع [1] الفجر، نادى داذويه بالشّعار، ففزع المسلمون والكافرون، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا.
ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فناديتهم، أشهد أنّ محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذّاب، وألقينا إليهم رأسه؛ فأقام وبر الصلاة، وشنّها القوم غارة، ونادينا: يا أهل صنعاء؛ من دخل عليه داخل فتعلّقوا به، ومن كان عنده منهم أحد لم يخرج، فتعلّقوا به، ونادينا بمن فى الطريق: تعلّقوا بمن استطعتم، فاختطفوا صبيانا كثيرا، وانتهبوا ما انتهبوا، ثم مضوا خارجين.
فلمّا برزوا فقدوا منهم سبعين فارسا ركبانا، وإذا أهل الطريق والدّور قد وافونا بهم، وفقدنا سبعمائة عيّل، ثم راسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما فى أيديهم، ونترك لهم ما فى أيدينا، ففعلوا؛ فخرجوا لم يظفروا بشىء.
وتردّدوا فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجند، وأعزّ الله الإسلام وأهله، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إلى أعمالهم، فاصطلحنا على معاذ بن جبل فكان يصلّى بنا، وكتبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، وذلك فى حياة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم صبيحة تلك الليلة، فأجابنا أبو بكر رضى الله عنه [2] .
__________
[1] ص: «فأطلع» .
[2] تاريخ الطبرى 3: 231- 236.(19/58)
وروى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: أتى الخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من السماء الليلة التى قتل فيها العنسىّ ليبشّرنا فقال: قتل الأسود البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين قيل: ومن هو؟: قال: فيروز.
وعن فيروز؛ قال: قتلنا الأسود، وعاد أمرنا كما كان، إلّا أنّا أرسلنا إلى معاذ؛ فتراضينا عليه، فكان يصلّى بنا فى صنعاء، فو الله ما صلّى بنا إلا ثلاثا ونحن راجعون مؤمّلون، حتى أتى الخبر بوفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيرا ممّا كنا نعرف، واضطربت [1] الأرض.
وكانت مدّة العنسىّ من حين ظهور أمره إلى أن قتل ثلاثة أشهر.
وعن الضحاك بن فيروز، قال: كان ما بين خروجه بكهف خبّان إلى مقتله نحوا من أربعة أشهر، وقد كان قبل مستسرّا بأمره حتى نادى بعد.
وقال أبو بشر الدّولابىّ: إنّه قتل فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.
والله أعلم.
وقيل: أتى الخير بمقتله إلى المدينة فى آخر ربيع الأوّل، سنة إحدى عشرة، بعد إنفاذ جيش أسامة بن زيد، فكان ذلك أول فتح لأبى بكر الصديق رضى الله عنه.
روى أبو عمر بن عبد البر بسند يرفعه إلى شرحبيل بن مسلم
__________
[1] ص: «واضطرمت» .(19/59)
الخولانىّ أنّ الأسود بعث إلى أبى مسلم عبد الله الخولانىّ، فلما جاءه قال: أتشهد أنّى رسول الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فردّد ذلك عليه؛ كلّ ذلك يقول مثل ذلك.
قال: فأمر بنار عظيمة فأجّجت، ثم ألقى فيها أبا مسلم، فلم تضرّه شيئا. فقيل له: انفه عنك والّا أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرّحيل، فأتى أبو مسلم المدينة وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، وقام فصلّى إلى سارية، وبصربه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: ممّن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن، قال: ما فعل الذى أحرقه الكذّاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: أنشدك الله أنت هو! قال: اللهمّ نعم، قال: فاعتنقه عمر، وبكى. ثم ذهب [به] [1] حتى أجلسه فيما بينه وبين أبى بكر، ثم قال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أرى فى أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله صلّى الله عليه وسلّم [2] .
هذا ما كان من أمر العنسىّ، وأمّا بقية الكذّابين؛ فسنذكر أخبارهم عند ذكرنا تجهيز أبى بكر الجيوش إن شاء الله تعالى.
__________
[1] تكملة من ص.
[2] الاستيعاب 1758.(19/60)
ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان
قالوا: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ارتدّت العرب كلّها إلا قريشا وثقيفا، وأتت وفود العرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه مرتدّين يقرّون بالصّلاة، ويمنعون الزكاة، فلم يقبل ذلك منهم وردّهم، وقال: والله لو منعونى عقالا [1] كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليها. وخرج فى جمادى الآخرة منها، واستخلف على المدينة أسامة بن زيد، وقيل: سنانا الضّمرىّ، وسار فنزل بذى القصّة [2] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث نوفل بن معاوية الدّيلمىّ [3] على الصّدقة، فلقيه خارجة بن حصين بالشّربّة [4] ، فأخذ ما فى يديه وردّه على بنى فزارة، ورجع نوفل إلى أبى بكر بالمدينة.
فأوّل حرب كانت فى الرّدة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرب العنسىّ باليمن، ثم حرب خارجة بن حصين ومنظور بن زبان بن سيار فى غطفان، والمسلمون غارّون [5] ، فانحاز أبو بكر إلى أكمة فاستتر بها، ثم هزم الله المشركين.
__________
[1] العقال: الحبل الذى يعقل به البعير الذى كان يؤخذ فى الصدقة.
[2] ذو القصة: موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا.
[3] ص: «الديلى» .
[4] الشربة: موضع فى بلاد نجد.
[5] غارون: غافلون، وفى ك: «غازون» .(19/61)
وروى أن أوّل غزاة غزاها أبو بكر، كانت إلى بنى عبس وذبيان، وأنه قاتلهم وهزمهم، وأتبعهم حتى نزل بذى القصّة، وكان ذلك أول الفتح، ووضع أبو بكر رضى الله عنه بها النعمان بن مقرّن فى عدد ورجع إلى المدينة، فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم. فحلف أبو بكر رضى الله عنه: ليقتلنّ فى المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.
وقدمت رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليمن واليمامة وبلاد بنى أسد، ووفود من كان كاتبه النبى صلى الله عليه وسلّم.
وأمر أمره فى الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب، فدفعوا كتبهم إلى أبى بكر، وأخبروه الخبر؛ فقال لهم: لا تبرحوا حتى تجىء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم، وأمرّ بانتقاض الأمور؛ فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبى صلّى الله عليه وسلّم الله عليه وسلّم من كلّ مكان بانتقاض، عامة أو خاصّة، وتبسّط [1] من ارتدّ على المسلمين بأنواع الميل.
فحاربهم أبو بكر رضى الله عنه بما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم [يحاربهم] [2] ، حاربهم بالرسل، فردّ رسلهم، وأتبع الرسل رسلا، وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة بن زيد، وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على الصّدقة؛ وهم صفوان بن صفوان، والزّبرقان بن
__________
[1] ك: «وبسط» .
[2] تكملة من ص.(19/62)
بدر، وعدىّ بن حاتم؛ فازداد المسلمون قوّة، ثم قدم أسامة بن زيد، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ومعه جنده ليستريحوا.
ثم خرج بمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبى وقال:
لأواسينّكم بنفسى، فسار إلى حسى وذى القصّة حتى نزل بالأبرق، فقاتل من به من المشركين فهزمهم، وأخذ الحطيئة أسيرا، وأقام بالأبرق أياما ثم رجع إلى المدينة، ولحق من انهزم من عبس وذبيان وطليحة.
وروى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ أوّل من صادم أبو بكر رضى الله عنه بنى عبس وذبيان، عاجلوه، فقاتلهم قبل رجوع أسامة.
ولما قدم أسامة استخلف على المدينة، ومضى حتى انتهى إلى الرّبذة، فتلقّى بنى عبس وذبيان وجماعة من بنى عبد مناة بن كنانة، فلقيهم بالأبرق، فقاتلهم فهزمهم الله عزّ وجلّ وفلّهم، ثم رجع إلى المدينة فعقد الألوية [1] .
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 241- 249.(19/63)
ذكر عقد أبى بكر رضى الله عنه الألوية
وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد وما عهد.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرىّ رحمه الله فى تاريخه [1] ما مختصره ومعناه: لما رجع أبو بكر رضى الله عنه إلى المدينة، وأراح أسامة وجنده ظهرهم [وجمّوا] [2] ، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء:
عقد لخالد بن الوليد، وأمره بطليحة؛ فإذا فرغ سار إلى مالك ابن نويرة بالبطاح إن أقام له.
وعقد لعكرمة وأمره بمسيلمة الكذّاب باليمامة.
وعقد للمهاجر بن أبى أميّة، وأمره بجنود العنسى ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوخ، ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت.
وعقد لخالد بن سعيد بن العاص، وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام.
وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث.
وعقد لحذيفة بن محصن الغلفانىّ، وأمره بأهل دبا.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 249 وما بعدها.
[2] زيادة من تاريخ الطبرى.(19/64)
ابن هرثمة، وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمع كل واحد منها فى عمله.
وبعث شرحبيل بن حسنة فى أثر عكرمة بن أبى جهل وقال:
إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة؛ وأنت على خيلك تقاتل أهل الرّدّة.
وعقد لمعن بن حاجز- ويقال: لطريفة بن حاجز- وأمره ببنى سليم ومن معهم من هوازن.
وعقد لسويد بن مقرّن؛ وأمره بتهامة اليمن.
وعقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمره بالبحرين.
ففصلت الأمراء من ذى القصّة، ولحق بكلّ أمير جنده، وعهد إلى كلّ أمير منهم، وكتب رضى الله عنه إلى سائر من ارتد نسخة واحدة، وهى:
بسم الله الرّحمن الرّحيم من أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من بلغه كتابى هذا من عامّة أو خاصة. أقام على إسلامه أو رجع عنه.
سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضّلالة والعمى، فإنى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلّا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأقرّ بما جاء به.
أما بعد؛ فإنّ الله أرسل محمدا بالحقّ من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ لينذر من كان حيّا.(19/65)
ويحقّ القول على الكافرين، فهدى الله للحقّ من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإذنه من أدبر عنه؛ حتّى صار إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمّته، وقضى الذى عليه.
وكان الله قد بيّن له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزله؛ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
[1] ، وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ
[2] ، وقال للمؤمنين:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
. [3]
فمن كان إنما يعبد محمدا، صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّ محمدا قد مات، ومن كان إنّما يعبد الله وحده لا شريك له، فإنّ الله له بالمرصاد، حىّ قيّوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوّه، يجزيه.
وإنى أوصيكم بتقوى الله، وحظّكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيكم، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإنّ كل من لم يهده الله ضالّ، وكل من لم يعافه الله مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول.
فمن هداه الله كان مهتديا، ومن أضلّه الله كان ضالّا، فإنّه قال
__________
[1] سورة الزمر 30.
[2] سورة الأنبياء 34.
[3] سورة آل عمران 144.(19/66)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
[1] .
ولم يقبل منه فى الدّنيا عمل حتى يقرّبه، ولم يقبل له فى الآخرة صرف ولا عدل.
وقد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أنّ أقرّ بالإسلام، وعمل به اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان.
وقال الله جلّ ثناؤه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
. [2]
وقال: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ
[3] .
وإنّى بعثت إليكم فلانا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتّابعين لهم بإحسان، وأمرته ألّا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرّ وكفّ، وعمل صالحا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبى النساء والذرارىّ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام.
فمن اتّبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كلّ مجمع لكم.
والدّاعية الأذان؛ فإذا أذّن المسلمون فأذّنوا كفّوا عنهم، وإن لم
__________
[1] سورة الكهف 17.
[2] سورة الكهف 50.
[3] سورة فاطر 6.(19/67)
يؤذّنوا عاجدوهم؛ وإن أذّنوا اسألوهم ما علّتهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقرّوا قبل منهم وحملهم على ما ينبغى لهم.
قال: فنفذت الرّسل بالكتب أمام الجنود، وخرجت الأمراء ومعهم العهود.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى فلان؛ حين بعثه فيمن بعث لقتال من رجع عن الإسلام؛ عهد [1] إليه أن يتّقى الله ما استطاع فى أمره كلّه؛ سرّه وعلانيته، وأمره بالجدّ فى الله ومجاهدة من تولّى عنه، ورجع عن الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنّ غارته عليهم حتى يقرّوا له، ثم ينبّئهم بالّذى عليهم والذى لهم، ويأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذى لهم؛ لا ينظرهم، ولا يردّ المسلمين عن قتال عدوّهم، فمن أجاب إلى أمر الله وأقرّ له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف [وإنّما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله] [2] ، وإذا أجاب الدّعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان، وحيث بلغ مراغمه [3] ؛ لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلّا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلّمه، ومن أبى قاتله؛ فإن أظهره الله [عليه] [2] قتل منهم كلّ
__________
[1] الطبرى: «وعهد إليه» .
[2] زيادة من تاريخ الطبرى.
[3] المراغم: المهرب والمذهب ولحصن.(19/68)
قتلة، بالسلاح والنّيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلّا الخمس.
فإنه يبلّغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألّا يدخل [فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونا، ولئلّا يؤتى المسلمون من قبلهم وأن يقتصد] [1] بالمسلمين، ويرفق بهم فى السير والمنزل، ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصى بالمسلمين فى حسن الصحبة ولين القول.
والله تعالى أعلم بالصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد.
ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قيائل العرب وما آل إليه أمره بعد ذلك
كان [2] خبر طليحة بن خويلد الأسدىّ؛ أسد خزيمة، أنّه ارتدّ فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وادّعى النّبوّة، فلمّا ظهر أمره وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بنى أسد، وأمرهم بالقيام فى أمر طليحة ومن ارتدّ معه، ونزل المسلمون بواردات، ونزل المشركون بسميراء.
فضعف أمر طليحة، وما زال المسلمون فى نماء، والمشركون فى نقصان حتى همّ ضرار بن الأزور أن يسير إلى طليحة، ولم يبق أحد
__________
[1] زيادة من تاريخ الطبرى.
[2] انظر تاريخ الطبرى 3: 259 وما بعدها.(19/69)
إلّا أخذه سلما [1] ، فاتّفق أنّه ضرب ضربة بسيف فنباعنه، وشاعت تلك الضربة فى النّاس، وقالوا: إنّ السلاح لا يعمل فى طليحة، فبينما الناس على ذلك إذ ورد الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان، وكثر جمع طليحة واستطار أمره، وادّعى أنّ جبريل يأتيه، وسجع للناس الأكاذيب فكان مما أتى به قوله: «والحمام واليمام، والصّرد الصّوّام، قد ضمن قبلكم بأعوام، ليبلغنّ ملكنا العراق والشام» . وأمر طليحة الناس بترك السجود فى الصّلاة، وتبعه كثير من العرب، وكان أكثر أتباعه أسد وغطفان وطيّىء، ولما انهزمت عبس وذبيان التحقوا به ببزاخة، وأرسل طليحة إلى جديلة والغوث- وهما حيّان من طيّىء- أن ينضموا إليه، فتعجّل إليه أناس من الحيّين، وأمروا قومهم باللّحاق بهم، فقدموا على طليحة وكانوا معه. وبعث أبو بكر رضى الله عنه عدىّ بن حاتم الطّائىّ قبل توجيهه [2] خالد بن الوليد إلى قومه، وقال: أدركهم لا يؤكلوا؛ فخرج عدىّ إليهم؛ [ففتلهم فى الذّروة والغارب] [3] ، وخرج خالد بن الوليد فى أثره، وأمره أبو بكر رضى الله عنه أن يبدأ بطيّىء على الأكناف؛ ثم يكون وجهه إلى البزاخة، ثم يثلّث بالبطاح، ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن [4] له، وأظهر أبو بكر أنّه خارج إلى خيبر ومنصبّ عليهم منها، حتى يلاقيه بالأكناف، أكناف سلمى.
__________
[1] السلم: الاستسلام.
[2] الطبرى: «قبل توجيه خالد» .
[3] زيادة من تاريخ الطبرى.
[4] الطبرى: «يتحدّث إليه» .(19/70)
قال ابن الكلبىّ: وإنّما قال ذلك أبو بكر مكيدة حتى يبلغ ذلك عدوّه فيرعبهم، وكان قد أوعب [1] مع خالد الناس، فخرج خالد، فازوار عن البزاخة وجنح إلى أجأ، وقدم عدىّ بن حاتم عليهم؛ ودعاهم إلى الإسلام؛ فأجابوه بعد امتناع، وقالوا له:
أخّر عنّا الجيش حتى نستخرج من ألحق بالبزاخة منّا، فإنّا إن خالفنا طليحة وهم فى يديه قتلهم أو ارتهنهم، فاستقبل عدىّ خالدا وهو بالسّنح، فقال: يا خالد، أمسك عنى ثلاثا؛ تجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوّك؛ خير من أن تعجلهم إلى النّار.
وتشاغل بهم، ففعل وعاد إليهم وقد أرسلوا إلى إخوانهم؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد، ولولا ذلك لم يتركوا، فعاد عدىّ بإسلامهم إلى خالد، وارتحل خالد يريد جديلة، فقال له عدىّ: إنّ طيّئا كالطائر، وإنّ جديلة أحد جناحى طيّىء، فأجّلنى لعلّ الله أن ينقذ جديلة لك كما أنقذ الغوث؛ ففعل، وأتاهم عدىّ؛ فلم يزل بهم حتى بايعوه؛ فجاء بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان خير مولود ولد فى أرض طيّىء وأعظمه عليهم بركة.
قال هشام الكلبى: وسار خالد بن الوليد إلى طليحة، وكان أبو بكر رضى الله عنه قد جعل ثابت بن قيس على الأنصار وأمره إلى خالد، فلمّا دنا خالد من القوم، بعث عكّاشة بن محصن، وثابت ابن أقرم بن ثعلبة العجلانىّ البلوىّ حليف الأنصار [2] طليعة؛ حتى إذا
__________
[1] أوعب الناس: جمعهم.
[2] الطبرى: «أحد بنى العجلان» .(19/71)
دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة ينظران ويسألان، فلقياهما فبرز سلمة لثابت، وبرز عكّاشة لطليحة، فأما سلمة، فلم يمهل ثابتا أن قتله، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعنّى على الرّجل [فإنّه آكل] [1] ، فاعتونا على عكّاشه [2] ، فقتلاه ثم رجعا، وأقبل خالد بالناس، فمروا بثابت بن أقرم قتيلا، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطىّ بأخفافها، فكبر ذلك على المسلمين، ثم نظروا فإذا هم بعكّاشة صريعا، فجزع لذلك المسلمون وقالوا:
قتل سيّدان من سادات المسلمين، وفارسان من فرسانهم.
قال: ثمّ التقى المسلمون بطليحة ومن معه على بزاخة، واقتتلوا أشدّ قتال، وطليحة متلفّف فى كسائه بفناء بيته يتنبّأ لهم بزعمه، وكان عيينية ابن حصن بن حذيفة الفزارىّ مع طليحة فى سبعمائة من بنى فزارة يقاتل قتالا شديدا، فلما اشتدّ القتال كرّ عيينة على طليحة، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا؛ فرجع فقاتل حتى إذا ضرس [3] القتال، وهزّته الحرب كرّ عليه، فقال له: لا أبا لك! هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: لا، فقال عيينة: حتى متى؛ قد والله بلغ منّا! ثم رجع فقاتل؛ حتى إذا بلغ كرّ عليه فقال: هل جاءك جبريل بعد؟
قال: نعم؛ قال: فما قال لك؟ قال: قال لى: «إنّ لك رحا كرحاه.
وحديثا لا تنساه» . قال عيينة: قد علم الله أن سيكون لك حديث لا تنساه، ونادى عيينة: يا بنى فزارة؛ هكذا فانصرفوا، فهذا
__________
[1] زيادة من الطبرى.
[2] اعتونا: تعاونا.
[3] ضرس القتال: اشتد، وفى ك: «ضرس من القتال» .(19/72)
والله كذّاب، فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة، يقولون: ماذا تأمرنا؟ وكان طليحة قد أعدّ فرسه وراحلته عنده، فلمّا غشيه النّاس قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته النّوار على الراحلة فنجا بها، وقال للناس: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم سلك الجوشيّة ولحق بالشام فارفضّ جمعه، وقتل الله من قتل منهم، وأتت قبائل سليم وهوازن وفزارة وأسد وغطفان، وتلك القبائل يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله وبرسوله ونسلّم لحكمه فى أموالنا وأنفسنا.
فبايعهم خالد بن الوليد على الإسلام، ثمّ أقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة، يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيّىء قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام.
قال أبو الحسن علىّ المعروف بابن الأثير: وكانت [1] بيعته:
عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمننّ بالله ورسوله، ولتقيمنّ الصلاة، ولتؤتنّ الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم! فيقولون:
نعم، ولم يقبل من أحد [2] منهم إلا أن يأتوه بالذين حرّقوا ومثّلوا، وعدوا على المسلمين [3] فى حال ردّتهم، فأتوه بهم، فقبل منهم إلّا قرّة بن هبيرة سيّد بنى عامر ونفر معه أوثقهم، ومثّل بالذين عدوا على المسلمين فأحرقهم بالنيران بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم فى
__________
[1] الكامل لابن الأثير 2: 236 وما بعدها.
[2] ابن الأثير: من أسد وغطفان وطيىء وسليم» .
[3] ابن الأثير: على الإسلام» .(19/73)
الآبار [وأرسل إلى أبى بكر يعلمه ما فعل] [1] ، ورضخهم، وبعث بقرّة وبالأسارى إلى أبى بكر رضى الله عنه وكتب إليه: إنّ بنى عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت فى الإسلام بعد تربّص، وإنّى لم أقبل من أحد سألنى شيئا حتى يجيئونى بمن عدا على المسلمين، فقتلتهم كلّ قتلة، وبعثت إليك [2] بقرّة وأصحابه.
فكتب أبو بكر إليه: ليزدك ما أنعم لله به عليك خيرا، فاتّق الله فى أمرك، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون، جدّ فى أمر الله ولا تنينّ ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلا قتلته، ونكّلت به غيره.
وكان عيينة بن حصن ممن أسر، روى عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود. قال: أخبرنى من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقة فى حبل، ينخسه غلمان المدينة بالجريد يقولون: أى عدوّ الله، أكفرت بالله بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قطّ؛ حكاه أبو جعفر الطبرىّ [3] .
قال: فتجاوز أبو بكر رضى الله عنه، وحقن له دمه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا طليحة وما آل إليه أمره؛ فإنّه لحق بالشام، ثم نزل على كلب، فأسلم حين بلغه إسلام أسد وغطفان، ولم يزل فى بنى كلب حتى مات أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وخرج فى خلافة أبى بكر
__________
[1] زيادة من ان الأثير.
[2] ص: «وبعث إليه» .
[3] تاريخ الطبرى 3: 260.(19/74)
إلى مكة معتمرا، ومرّ بجنبات المدينة. فقيل لأبى بكر هذا:
طليحة، فقال: ما أصنع به؟ خلّوا عنه، فقد هداه الله للإسلام.
فمضى نحو مكة، فقضى عمرته، ثم أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه للبيعة حين استخلف: فقال له عمر: أنت قاتل عكّاشة وثابت! والله لا أحبّك أبدا؛ فقال: يا أمير المؤمنين ما تنقم من رجلين أكرمهما الله بيدىّ، ولم يهنّى بأيديهما! فبايعه عمر ورجع إلى دار قومه فأقام حتى خرج إلى العراق.
ذكر خبر تميمم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد
كان [1] من خبر بنى تميم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فرّق عمّاله فيهم، فكان الزّبرقان بن بدر على الرّباب وعوف والأبناء؛ وكان سهم بن منجاب وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان بن صفوان وسبرة بن عمرو على بنى عمرو، هذا على بهدى، وهذا على خضّم (قبيلتين من بنى تميم) ، ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بنى حنظلة، هذا على بنى مالك، وهذا على بنى يربوع.
فأمّا صفوان فإنّه لما أتاه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه بصدقات بنى عمرو وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة فى قومه لحدث إن ناب.
وأمّا قيس بن عاصم فإنه قسّم ما وليه من الصّدقات فى مقاعس والبطون؛ وإنّما فعل ذلك مخالفة للزّبرقان.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 267 وما بعدها.(19/75)
وأمّا الزبرقان فإنّه أتبع صفوان بالصّدقات التى أخذها ممّن كانت تليه، وقدم بها إلى المدينة على أبى بكر وهو يقول ويعرّض بقيس بن عاصم:
وفيت بأذواد الرّسول وقد أبت ... سعاة فلم يردد بعيرا مجيرها
ثم ندم قيس بن عاصم على ما كان منه، فلما أظلّه العلاء بن الحضرمىّ تلقّاه بالصّدقة، وخرج معه؛ وقال فى ذلك:
أبلغا عنّى قريشا رسالة ... إذا ما أتتها بيّنات الودائع
قال: وتشاغل الناس فى تلك الحال بعضهم ببعض، ونشب الشّرّ، فتشاغلت عوف والأبناء بالبطون والرّباب بمقاعس، وتشاغلت عمرو وخضّم بمالك وبهدى بيربوع؛ فبينا الناس فى بلاد تميم على ذلك قد شغل بعضهم بعضا، فمسلمهم بإزاء من قدّم رجلا وأخّر أخرى، وتربّص وارتاب؛ إذ فجئتهم سجاح ابنة الحارث، قد أقبلت من الجزيرة؛ وكانت ورهطها فى بنى تغلب، فأتت تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بن عمران فى بنى تغلب، وعقّة بن هلان فى النّمر، وزياد بن فلان فى إياد، والسّليل بن قيس فى بنى شيبان، فأتاهم أمر دهىّ؛ هو أعظم مما فيه الناس؛ لهجومها عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة والتشاغل بما بينهم. وكانت سجاح ابنة الحارث ابن سويد بن عقفان هى وبنو أبيها بنو عقفان فى بنى تغلب، فاستجاب لها الهذيل، وترك النّصرانية، فراسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها وحملها على أحياء بنى تميم، فقالت: نعم(19/76)
فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بنى يربوع، فإن كان ملك فالملك ملككم. وأرسلت إلى بنى مالك وحنظلة تدعوهم إلى الموادعة.
فخرج عطارد بن حاجب، وسروات بنى مالك، حتى نزلوا فى بنى العنبر على سبرة بن عمرو هرّابا، وخرج أشباههم من بنى يربوع حتى نزلوا على الحصين بن نيار فى بنى مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك، فلما جاءت رسلها إلى بنى مالك تطلب الموادعة أجابها إلى ذلك وكيع بن مالك، فاجتمع وكيع ومالك بن نويرة وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضا، واجتمعوا على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضّم أم ببهدى، أم بعوف والأبناء، أم بالرّباب؟ وكفّوا عن قيس بن عاصم لما رأوا من تردّده وطمعوا فيه. فقالت سجاح:
«أعدّوا الركاب، واستعدّوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرّباب، فليس دونهم حجابّ» ، وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها، وقالت لهم: «إنّ الدّهناء حجاز بنى تميم، ولن تعدو الرّباب، إذا شدّها المصاب، أن تكون بالدّجانى والدّهانى، فلينزلها بعضكم» .
فتوجّه مالك بن نويرة إلى الدّجانى فنزلها، وسمعت بهذا الرّباب، فاجتمعوا لها: ضبّتها وعبد مناتها، فولى وكيع وبشر بنى بكر بن ضبّة، وولى ثعلبة بن سعد عقّة، وولى عبد مناة الهذيل، فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بنى ضبّة فهزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة، فاجتمع بعد ذلك رؤساء أهل الجزيرة، وقالوا لسجاح: ماذا تأمريننا؛ فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا؟ فقالت: اليمامة؛ فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة، وقد غلظ أمر مسيلمة فقالت: «عليكم باليمامة، ودفّوا(19/77)
دفيف الحمامة [1] ، فإنها غزوة صرّامة، ولا يلحقكم بعدها ملامة» ، فنهدت [2] لبنى حنيفة، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها، وخاف إن هو شغل بها أن يدهمه شرحبيل بن حسنة والقبائل، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها.
فأنزلت الجنود على الأمواه له وأمّنته، فجاءها فى أربعين من بنى حنيفة. وكانت سجاح راسخة فى النّصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب، فقال لها مسيلمة: لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد ردّ الله عليك النصف الذى ردّت قريش، فحباك [3] به، وكان لها لو قبلت؛ فقالت: «لا يردّ النّصف إلّا من حنف، فاحمل النّصف إلى خيل تراها كالسّهف» .
فقال مسيلمة: «سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره فى كلّ ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربّكم فحيّاكم، ومن وحشة خلّاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار؛ لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربّكم الكبار، ربّ الغيوم والأمطار» .
وقيل: إنّ مسيلمة لما نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها.
فقالت له: انزل. قال: فنحّى عنك أصحابك، ففعلت. فقال مسيلمة: اضربوا لها قبّة وجمّروها لعلها تذكر الباه، ففعلوا، فلمّا دخلت القّبّة نزل مسيلمة. فقال لأصحابه: ليقف ها هنا عشرة،
__________
[1] الدقيف: تحريك الجناحين والرجلين.
[2] نهدت: نهضت.
[3] ك: «فحياك» .(19/78)
ثمّ دارسها. فقالت: ما أوحى إليك؟ فقال: «ألم تر إلى ربّك كيف فعلى بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق [1] وحشى» قالت: وماذا أيضا؟ قال: أوحى إلىّ «إنّ الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهنّ قعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجا» . قالت: أشهد أنّك نبىّ. قال: هل لك أن أتزوّجك، وأذلّ [2] بقومى وقومك العرب؟ قالت: نعم، فقال:
الا قومى إلى النّيك ... فقد هيّى لك المضجع
فإن شئت ففى البيت ... وإن شئت ففى المخدع
وإن شئت سلقناك [3] ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع. قال: بذلك أوحى إلىّ، فأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم انصرفت إلى قومها. فقالوا لها: ما عندك؟ قالت:
كان على حقّ، فاتّبعته فتزوّجته، قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت:
لا. قالوا: فارجعى إليه، فقبيح على مثلك أن ترجع بغير صداق، فرجعت. فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن وقال: مالك؟ قالت:
أصدقنى صداقا. قال: من مؤذّنك؟ قالت: شبث بن ربعىّ.
قال: علىّ به، فأتاه. فقال: ناد فى أصحابك: إنّ مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمّد: صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة.
__________
[1] الصفاق: الجلد الأسفل الذى تحت الجلد الذى عليه الشعر.
[2] الطبرى: «فآكل» .
[3] سلق الجارية: بسطها وجامعها، وفى ص: «صلقناك، وهما بمعنى.(19/79)
قال: وكان من أصحابها الزّبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم. فقال: إنّ عامّة بنى تميم بالرّمل لا يصلّونها، فانصرفت سجاح ومعها أصحابها، فقال عطارد بن حاجب:
أمست نبيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقيل: إنّها صالحت مسيلمة على أن يحمل لها النّصف من غلّات اليمامة: وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فأعطى لها النصف وقال: خلّفى على السّلف من يجمعه لك، وانصرفى أنت بنصف العام، فانصرفت بالنّصف إلى الجزيرة، وخلّفت الهذيل وعقّة وزيادا؛ لينجزوا النّصف الثانى، فلم يفجأهم إلا دنوّ خالد بن الوليد، فارفضّوا.
وكان من أمر مسيلمة وقتله ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
قال: ولم تزل سجاح بالجزيرة فى أخوالها من بنى تغلب حتى نقلهم معاوية بن أبى سفيان عام الجماعة، وجاءت معهم وحسن إسلامها وإسلامهم، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها.
وقيل: بل لمّا قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها بالجزيرة، فماتت عندهم، ولم يسمع لها بذكر، والله تعالى أعلم.
قال أبو جعفر الطبرىّ رحمه الله: وخرج [1] الزّبرقان والأقرع إلى أبى بكر؛ وقالا: اجعل لنا خراج البحرين؛ ونضمن لك ألّا يرجع من قومنا أحد، ففعل. وكتب الكتاب، وكان الذى يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله، وأشهد شهودا، منهم عمر بن الخطاب،
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 275.(19/80)
فلما أتى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثم قال: لا والله ولا كرامة! ومزّقه ومحاه، فغضب طلحة، وأتى أبا بكر، فقال:
أنت الأمير أم عمر؟ فقال: عمر؛ غير أن الطاعة لى، فسكت.
وشهد الزّبرقان والأقرع مع خالد المشاهد كلّها حتى اليمامة، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة الجندل.(19/81)
ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة
قال أبو جعفر رحمه الله: لمّا [1] انصرفت سجاح إلى الجزيرة ارعوى مالك بن نويرة، وندم وتحيّر فى أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعا حسنا؛ [ولم يتجبّرا] [2] ، وأخرجا الصّدقات واستقبلا بها خالد بن الوليد، فقال خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأركنّا نطلبه فى بنى ضبّة، فسار خالد يريد البطاح دون الحزن، وعليها مالك بن نويرة، وقد تردّدت الأنصار على خالد، وتخلّفت عنه. وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنّ الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا؛ فقال خالد:
إن يك عهد اليكم هذا، فقد عهد إلىّ أن أمضى، وأنا الأمير، وإلىّ تنتهى الأخبار، ولو أنّه لم يأتنى له كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة فكنت إن أعلمته فاتتنى لم أعلمه حتى أنتهزها، وكذا لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له ومن معى من المهاجرين والتابعين بإحسان، ولست أكرهكم.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 276 وما بعدها.
[2] زيادة من الطبرى.(19/82)
ومضى خالد، وندمت الأنصار وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيرا، إنّه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنّكم الناس، فأجمعوا اللّحاق بخالد، وجرّدوا إليه رسولا، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى لحق البطاح، فلم يجدوا به أحدا. ووجد مالك بن نويرة قذ فرّقهم فى أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع حين تردّد عليه أمره، وقال: يا بنى يربوع، إنّا قد كنّا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدّين، وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح، وإنّى قد نظرت فى هذا الأمر فوجدت الأمر لا يتأتّى لهم بغير سياسة، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم، فتفرّقوا إلى دياركم، [وادخلوا فى هذا الأمر] . [1] فتفرّقوا على ذلك إلى أموالهم.
وخرج مالك بن نويرة حتى رجع إلى منزله. فلمّا قدم خالد البطاح بثّ السّرايا وأمرهم بداعية الإسلام، أن يأتوه بكلّ من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة فى نفر معه من بنى ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد، وعرين وجعفر، فاختلفت السّرية فيهم، وفيهم أبو قتادة- وكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا- فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا فى ليلة باردة لا يقوم لها شىء، وجعلت تزداد بردا. فأمر خالد مناديا فنادى: أدفئو أسراكم. وكانت فى لغة كنانة إذا قالوا: دثّروا الرجل فأدفئوه، كان دفؤه قتله، فظنّ القوم- وهى فى لغتهم القتل- أنّه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكا. وسمع خالد الواعية [2] .
فخرج وقد فرغ منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه.
__________
[1] تكملة من تاريخ الطبرى.
[2] الواعية: الصراخ والصوت على الميت.(19/83)
وقد اختلف القوم فيهم؛ فقال أبو قتاده: هذا عملك! فزبره [1] خالد فغضب، ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر فيه، فلم يرض إلّا أن يرجع إلى خالد، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة.
وتزوّج خالد أمّ تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضى طهرها، وكانت العرب تكره النّساء فى الحرب، فقال عمر لأبى بكر: إنّ فى سيف خالد رهقا [2] ، فإن لم يكن هذا حقّا حقّ عليه أن تقيده، وأكثر عليه فى ذلك، وكان أبو بكر لا يقيد من عمّاله- فقال: هبه يا عمر تأوّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم ففعل. فأخبره خبره فعذره وقبل منه، وعنّفه فى التّزويج الذى كانت [تعيب] [3] عليه العرب.
وقيل: إنّ عمر بن الخطاب ألحّ على أبى بكر فى عزل خالد. وقال:
إنّ فى سيفة رهقا. فقال: يا عمر، لم أكن أشيم [4] سيفا سلّه الله على الكافرين.
وقيل: ولما أقبل خالد قافلا دخل المسجد وعليه قبالا، عليه صدأ الحديد، معتجرا [5] بعمامة له. قد غرز فيها أسهما، فقام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثم قال: أقتلت أمرأ مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك. وخالد لا يكلّمه
__________
[1] زبره: نهره.
[2] الرهق: السفه والخفة وركوب الظلم.
[3] تكملة من تاريخ الطبرى.
[4] شام السيف: أغمده.
[5] الاعتجار: لف العمامة.(19/84)
ولا يظنّ إلّا أنّ رأى بكر على مثل رأى عمر فيه، حتى دخل على أبى بكر فأخبره الخبر، فاعتذر إليه، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان فى حربه تلك.
وخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر وعمر جالس فى المسجد، فقال: هلمّ إلىّ يابن أمّ شملة؛ فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلّمه، ودخل بيته.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى، ونعم الوكيل.
ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة
كان [1] من خبر مسيلمة أنّه لما قدم وفد بنى حنيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كما قدّمناه فى السيرة النبوية فى أخبار الوفود، وكان مسيلمه فى رحالهم، فلمّا أجازهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قالوا: يا رسول الله، خلّفنا صاحبا لنا فى رحالنا يبصرها لنا، وفى ركابنا يحفظها علينا؛ فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر لأصحابه، وقال: «ليس بشرّكم مكانا لحفظه ركابكم ورحالكم» ، فقيل ذلك لمسيلمة. فقال: عرف أنّ الأمر إلىّ من بعده.
ثم ادّعى النبوّة بعد ذلك، وكان الرّجّال [2] بن عنفوة قد هاجر إلى
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 281 وما بعدها.
[2] ك «الرحال» ، بالحاء، صوابه من ص وتاريخ الطبرى.(19/85)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتعلّم القرآن من أبىّ بن كعب، وفقه فى الدّين، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معلّما لأهل اليمامة، وليشغب على مسيلمة؛ ويشدّد من أمر المسلمين، وكان أعظم فتنة على بنى حنيفة من مسيلمة، شهد له أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنه قد أشرك معه؛ فصدّقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه.
وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ والأمر على ذلك، فقويت شوكة مسيلمة، واشتدّ أمره، وكثرت جموعه، وتمكّن الرّجّال بن عنفوة من مسيلمة، وعظم شانه عنده، فكان لا يخالفه فى أمر ولا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان مسيلمة يصانع كلّ أحد ممّن اتّبعه، ويتابعه على رأيه، ولا يبالى أن يطّلع الناس منه على قبيح، وضرب حرما باليمامة؛ فكان محرّما، فوقع ذلك الحرم فى الأحاليف، (أفخاذ من بنى أسيّد كانت دارهم اليمامة) ، فصار مكان دارهم الحرم، والأحاليف: سبحان ونمارة، وبنو جروة، فكانوا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، فإن نذروا [1] بهم فدخلوا الحرم أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذاك ما يريدون؛ فكثر ذلك منهم، حتى استعدوا عليهم مسييلمة، فقال: انظروا الذى يأتى من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم: «والليل الأطحم [2] ، والذئب الأدلم [3] ، ما انتهكت
__________
[1] نذروا: علموا.
[2] الطحمة: سواد الليل.
[3] الأدلم: الأسود الطويل.(19/86)
أسيّد من محرم» ، ثم عادوا للغارة والعدوى [1] ، فقال: انتظروا الّذى يأتينى. ثم قال: «والليل الدّامس، والذئب الهامس [2] ، ما قطعت أسيّد من رطب ولا يابس» ؛ فقالوا: أمّا النخيل فمرطبة [3] وقد جدّوها [4] ، وأمّا الجدران فيابسة وقد هدموها، فقال:
اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم.
وكان فيما يقرؤه لهم فيهم: إنّ بنى تميم قوم طهر لقاح [5] ، لا مكروه عليهم ولا إتارة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كلّ إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن» .
وكان يقول: والشّاء وألوانها، وأعجبها السّود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض؛ إنّه لعجب [محض] [6] ، وقد حرّم المذق، فما لكم تمجّعون [7] !.
وكان يقول: «يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّى ما تنقّين، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين» .
وقال أيضا: «والمبذّرات زرعا، والحاصدات حصدا، والزّارعات قمحا، والطّاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثّاردات ثردا [8] ، واللّاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضّلّتم على الوبر،
__________
[1] العدوى: العدوان والظلم.
[2] الذئب الهامس: الشديد.
[3] الطبرى: مرطبة.
[4] جدوها: قطعوها.
[5] قوم لقاح: لم يدينوا الملوك.
[6] زيادة من الطبرى.
[7] الطبرى: «لا تمجعون» .
[8] ثرد الخبز: فتنة ثم بله بمرق.(19/87)
وما سبقكم أهل المدر؛ ريفكم فامنعوه، والمعترّ فآووه [1] ، والباغى فناوئوه» .
قالوا: وأتته امرأة فقالت: إنّ نخلنا لسحق [2] ، وإن آبارنا لجرز [3] فادعى الله لمائنا ونخلنا، كما دعا محمّد لأهل هزمان، ففعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعا للنخل، وتمضمض من الماء، ومجّه فى الآبار، فيبست النخل، وغارت الآبار.
وقيل: إنّه نزل على أولاد بنى حنيفة كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ بيده على رءوسهم، وحنّكهم، فقرع ولثغ من فعل به ذلك، وظهر ذلك كلّه بعد مهلكه.
قالوا: وجاء طلحة النّمرىّ، فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا:
مه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفى نور أو فى ظلمة؟ فقال: فى ظلمة، فقال: أشهد أنّك كذّاب، وأنّ محمدا صادق، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلىّ من صادق مضر.
والله سبحانه أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
__________
[1] المعتر: الفقير.
[2] سحق: جمع سحوق؛ وهى الطويلة من النخل.
[3] لجرز: الأرض جدية.(19/88)
ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة
قد ذكرنا أنّ أبا بكر الصدّيق لمّا عقد الألوية، عقد لعكرمة ابن أبى جهل، وأمره بمسيلمة، ثم أردفه شرحبيل بن حسنة، فعجّل عكرمة، وبادر الحرب ليذهب بصوتها، فواقعهم، فنكبوه، وأقام شرحبيل فى الطريق حتى أدركه الخبر.
وكتب [1] أبو بكر رضى الله عنه إلى عكرمة: يابن أمّ عكرمة؛ لا أرينّك ولا ترانى على حالها، ولا ترجع فتوهن الناس، امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة، فقاتل معهما أهل عمان ومهرة، وإن شغلا فامض أنت، ثم تسير ويسير جندك؛ تستبرئون من مررتم به حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبى أميّة باليمن وحضرموت.
وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتّى يأتيه أمره، ثم كتب إليه قبل أن يوجّه خالد بن الوليد بأيّام إلى اليمامة: إذا قدم عليك خالد ثم فرغتم- إن شاء الله- فالحق بقضاعة حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف.
فلمّا قدم خالد على أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من البطاح رضى عنه، وقبل عذره كما ذكرنا، ووجّهه إلى مسيلمة، وأوعب معه الناس، وجعل على كلّ قبيلة رجلا، وجعل على المهاجرين أبا حذيفة بن عتبة، وجعل على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس،
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 314- 316، وابن الأثير 2: 246.(19/89)
وتعجّل خالد حتّى قدم على أهل العسكر بالبطاح، وانتظر البعث الذى ضرب بالمدينة، فلمّا قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة، وبنو حنيفة يومئذ تزيد عدّتهم على أربعين ألف مقاتل. وعجّل شرحبيل بن حسنة، وبادر بالقتال قبل وصول خالد كما فعل عكرمة، فنكب كما نكب، فلما قدم خالد لامه، وسار خالد حتى إذا أطلّ على بنى حنيفة أسند خيولا لعقّة والهذيل وزياد، وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح، وإنّما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه، وأمدّ أبو بكر رضى الله عنه خالدا بسليط بن عمرو بن عبد شمس العامرىّ القرشىّ ليكون ردءا له من أن يأتيه أحد من خلفه؛ فخرج.
فلمّا دنا من خالد وجد تلك الخيول التى انتابت تلك البلاد قد فرّقوا فهربوا، فكان منهم قريبا لهم، وأمّا مسيلمة فإنّه لما بلغه دنوّ خالد بن الوليد منه عسكر بعقرباء، واستنفر النّاس، فجعل النّاس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفىّ اليمامىّ- وكان رئيسا من رؤساء بنى حنيفة- فى سريّة يطلب بثأر له فى بنى عامر وبنى تميم، فلمّا كان خالد من عسكر مسيلمة على ليلة، إذا مجّاعة وأصحابه وقد غلبهم الكرى- وكانوا راجعين من بلاد بنى غامر- فعرّسوا دون ثنيّة اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم، ولا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: مجّاعة، وهذه حنيفة، فأوثقوهم، وأقاموا إلى أن جاءهم خالد فأتوه بهم، فظنّ أنّهم جاءوه(19/90)
ليستقبلوه، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك، إنّما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بنى عامر وتميم، فأمر بهم أن يقتلوا، فقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرّا فاستبق هذا، ولا تقتله- يريدون مجّاعة- فقتلهم كلّهم دونه، وكانوا ثلاثة وعشرين راكبا- وقيل: أربعين. وقيل: ستّين- وصبر مجّاعة، وسار إلى اليمامة، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة، فنزلوا بعقرباء، وهى طرف اليمامة؛ دون الأموال، وريف اليمامة وراء ظهورهم.
وقال شرحبيل بن مسيلمة [1] : يا بنى حنيفة، اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيّات، وينكحن غير حظيّات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.
فالتقوا بعقرباء واقتتلوا، وكانت راية المهاجرين يومئذ مع سالم مولى أبى حذيفة. وقيل: بل كانت مع زيد بن الخطاب، فلما قتل أخذها سالم، فقالوا له: تخشى علينا من نفسك شيئا؟
فقال: بئس حامل القرآن إنا إذا! وكانت راية الأنصار مع ثابت ابن قيس بن شمّاس، وكانت العرب على راياتها، وسجّاعة فى الأسر مع أمّ تميم زوجة خالد فى فسطاطها، واقتتل النّاس أشدّ قتال، ولم يلق المسلمون حربا مثلها، فانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى خالد، فزال عن الفسطاط، ووصلوا إليه وقطعوه، ودخل أناس من بنى حنيفة على أمّ تميم، فأرادوا قتلها، فمنعها مجّاعة. وقال: أنا لها جار، فنعمت الحرّة! فدفعهم عنها.
__________
[1] ص: «مسلمة» .(19/91)
ثم إنّ المسلمين تداعوا؛ فقال ثابت بن قيس: بئسما دعوتم أنفسكم إليه يا معشر المسلمين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك ممّا يعبد هؤلاء- يعنى أهل اليمامة- وأعتذر إليك ممّا يصنع هؤلاء- يعنى المسلمين- ثم قاتل حتى قتل، قطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله.
- وله رضى الله عنه خبر عجيب نذكره إن شاء الله تعالى فى آخر هذه الوقعة- قالوا: وحمل خالد فى الناس حتى ردّهم أبعد ما كانوا، واشتدّ القتال، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة عليهم، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم.
فلما رأى خالد ما النّاس فيه، قال: امتازوا اليوم أيّها الناس، لنعلم بلاء كلّ حىّ، ولنعلم من أين نؤتى! فلمّا امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم نستحيى من الفرار. وقاتل الناس قتالا عظيما، وثبت مسيلمة، فعرف خالد أنّ الفتنة لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، فبرز ودعا إلى البراز، فما يبرز له أحد إلا قتله، ودعا مسيلمة فأجابه؛ وعرض عليه أشياء، فكان إذا همّ بجوابه أعرض بوجهه يستشير شيطانه، فينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة، فركبه خالد وأرهقه فأدبر، وزال أصحابه، فكانت هزيمتهم، وقالوا لمسيلمة: أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكّم بن الطّفيل: يا بنى حنيفة، الحديقة الحديقة! فدخلوها، وأغلقوا بابها عليهم.
قال: وكان البراء بن مالك أخو أنس؛ إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد الرجال عليه، ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور(19/92)
الأسد، فأصابه ذلك، فقال: إلىّ أيها الناس؛ أنا البراء بن مالك؛ وقاتل قتالا شديدا، فلمّا دخل بنو حنيفة الحديقة، قال البراء:
يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم فيها. فقالوا: لا نفعل، فاحتمل حتى أشرف على الجدار واقتحمها عليهم، وقاتل على الباب، وفتحه المسلمون، ودخلوا عليهم، فاقتتلوا أشدّ قتال، وكثر القتل فى الفريقين، فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة، واشترك فى قتله وحشىّ، مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة بن عبد المطّلب، ورجل من الأنصار، فولّت حنيفة عند قتله منهزمة، وأخذهم السّيف من كلّ جانب. وقتل محكّم اليمامة، قتله عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق، رضى الله عنه؛ رماه بسهم فى نحره وهو يخطب ويحرّض الناس فقتله، وقتل من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة ثلاثمائة وستّون، ومن المهاجرين من غير المدينة ثلاثمائة، وقتل من بنى حنيفة بعقرباء سبعة آلاف، وفى حديقة الموت مثلها، وفى الطّلب نحو منها؛ وخرج خالد بمجّاعة يرسف فى الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف القتلى حتى مرّ بمحكّم بن الطّفيل، وكان رجلا جسيما وسيما، فلمّا رآه خالد قال: هذا صاحبكم؟ قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكّم اليمامة. ثم مضى حتّى دخل الحديقة، فقلّب له القتلى، فإذا رويجل أصيفر أخينس [1] . فقال مجّاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه؛ فقال خالد لمجّاعة: هذا فعل بكم ما فعل! قال؛ قد كان ذلك يا خالد. وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان [2] الناس،
__________
[1] أخينس، تصغير أخنس، والخنس محركة: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل فى الأرنبة.
[2] سرعان الناس: أوائلهم.(19/93)
وإنّ جماهير النّاس لفى الحصون، فقال: ويلك، ما تقول! قال:
هو والله الحقّ، فهلمّ لأصالحكم على قومى.
وجاء عبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عمر إلى خالد، فقالا له: ارتحل بالنّاس، فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبثّ الخيول فألتقط من ليس فى الحصون ثم أرى؛ فبثّ الخيول فحووا ما وجدوا من مال وصبيان، فضمّوهم إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجّاعة: إنّه والله ما جاءك إلّا سرعان النّاس، فإنّ الحصون لمملوءة رجالا، فهلمّ إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كلّ شىء دون النّفوس؛ ثمّ قال مجّاعة:
أنطلق إليهم فأشاورهم، وننظر فى هذا الأمر، ثم أرجع إليك، فدخل مجّاعة الحصون وليس فيها إلا النّساء والصّبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى [1] ، فظاهر الحديد على النّساء، وأمرهنّ بنشر شعورهنّ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهم، ثم رجع إلى خالد، فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما ضيّعت، وقد أشرف لك بعضهم نقضا علىّ، وهم منّى براء، فنظر خالد إلى رءوس الحصون:
وقد اسودّت وقد نهكت المسلمين الحرب، وأحبوا أن يرجعوا على الظّفر. فقال مجّاعة لخالد: إن شئت صنعت شيئا، فعزمت على القوم؛ تأخذ منى ربع السّبى وتدع ما بقى؛ فقال خالد: قد فعلت.
قال: قد صالحتك، فلما فرغا فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصّبيان. فقال خالد لمجّاعة: ويحك! خدعتنى. فقال:
قومى، ولم أستطع إلا ما صنعت.
__________
[1] الطبرى: «ضعفاء» .(19/94)
وقيل: إنّ خالدا صالح مجّاعة على نصف السّبى، والصّفراء، والبيضاء، والحلقة، والكراع، وحائط [1] من كل قرية يختار [2] خالد، ومزرعة يختارها، فتقاضوا على ذلك. ثم سرّحه وقال:
أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا وتقبلوا لأنهدنّ إليكم ثم قال: لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل، فأتاهم مجّاعة، فقال:
أمّا الآن فاقبلوا. فقال سلمة بن عمير الحنفى: لا والله لا نقبل؛ تبعث إلى أهل القرى والعبيد. فنقاتل ولا نقاضى خالدا؛ فإنّ الحصون حصينة، والطعام كثير، والشتاء قد حضر.
فقال له مجّاعة: إنّك امرؤ مشئوم، وغرّك أنى خدعت القوم حتى أجابونى إلى الصّلح، وهل بقى منكم أحد فيه خير وبه دفع! وإنّما أنا بادرتكم.
فخرج مجّاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا. فقال: بعد شرّ ما رضوا اكتب كتابك. فكتب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة بن مرارة وسلمة ابن عمير، وفلانا وفلانا. قاضاهم على الصّفراء والبيضاء ونصف السّبى. والحلقة والكراع. وحائط من كلّ قرية ومزرعة، على أن يسّلموا. ثم أنتم آمنون بأمان الله، لكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمة أبى بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذمم المسلمين على الوفاء.
__________
[1] الحائط هنا: البستان.
[2] ص «يختاره خالد.(19/95)
ووصل كتاب أبى بكر إلى خالد بقتل كلّ محتلم، وكان قد صالحهم فوفى لهم. ثمّ إنّ خالد بن الوليد قال لمجّاعة: زوّجنى ابنتك، فقال مجّاعة: مهلا، إنّك قاطع ظهرك وظهرى معك عند صاحبك.
قال: أيّها الرجل، زوّجنى، فزوّجه، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب، إليه كتابا يقطر الدّم؛ يقول:
يابن أمّ خالد؛ إنك لفارغ، تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد! فلما نظر خالد فى الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر- يعنى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وبعث خالد وفدا من بنى حنيفة إلى أبى بكر، فقدموا عليه.
فقال لهم: ويحكم! ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل؟ قالوا:
يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا، كان أمرا لم يبارك الله له، ولا لعشيرته فيه. قال: على ذلك، ما الذى دعاكم به؟ قالوا: كان يقول: «يا ضفدع نقّى نقّى، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
فقال أبو بكر رضى الله عنه: سبحان الله، ويلكم! إن هذا الكلام ما خرج من إلّ ولا برّ [1] . فأين يذهب بكم! قال أبو جعفر: لما فرغ خالد من اليمامة. وكان منزله الذى
__________
[1] الإل: العهد والقرابة.(19/96)
به التقى الناس أباض (واد من أودية اليمامة) ؛ ثم تحوّل إلى واد من أوديتها يقال له: الوبر، فكان منزله بها [1] .
ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله
وتنفيذ وصيته للرؤيا التى رئيت بعد مقتله قد أشرنا عند ذكر مقتله أن له خبرا عجيبا نذكره، ورأينا إيراده هاهنا توفية للشرط.
حكى الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، قال: لما [2] انكشف المسلمون يوم اليمامة. قال ثابت بن قيس وسالم مولى أبى حذيفة:
ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم حفر كلّ واحد منهما له حفرة، وثبتا وقاتلا حتى قتلا. وكان على ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمرّ به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت فى منامه، فقال له: إنّى أوصيك بوصية، فإيّاك أن تقول هذا حلم فتضيّعه؛ إنى لمّا قتلت أمس مرّ بى رجل من المسلمين، فأخذ درعى، ومنزله فى أقصى النّاس، وعند خبائه فرس يستنّ فى طوله [3] ، وقد كفأ على الدّرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعى فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى أبا بكر- فقل له: إنّ علىّ من الدّين كذا وكذا، وفلان من رقيقى عتيق.
فأتى الرجل خالدا فأخبره. فبعث إلى الدرع فأتى بها.
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 300. 301.
[2] الاستيعاب لابن عبد البر 200 وما بعدها.
[3] يستن: يقمص. والطول: الحبل.(19/97)
وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيّته [من بعد موته] [1] .
قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيّته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله تعالى.
ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم إلى الحطم وما كان من أمرهم
والحطم اسمة شريح بن ضبيعة. قال أبو عبيدة فى سبب تسميته بالحطم: إنّه [2] كان غزا اليمن فى جموع جمعها من ربيعة، فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة، أسر فيها فرعان ابن مهدىّ بن معدى كرب عمّ الأشعث بن قيس، وأخذ على طريق مفازة؛ فضلّ بهم دليلهم، ثم هرب منهم، ومات فرعان عطشا، وهلك منهم ناس كثيرون بالعطش، وجعل شريح يسوق بأصحابه سوقا حثيثا حتى نجوا، ووردوا الماء؛ فقال فيه رشيد بن رميض هذه الأبيات:
بات يقاسيها غلام كالزّلم ... نام الحداة وابن هند لم ينم
هذا أوان الشّدّ فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم
خدلّج الساقين خفّاق القدم ... ليس براعى إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر وضم
فلقّب يومئذ الحطم لذلك.
__________
[1] زيادة من الاستيعاب:
[2] ك: «أنه كان عن اليمن فى جموع جمعها» ، والمثبت من ص.(19/98)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى رحمه الله: كان [1] من حديث أهل البحرين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشتكى هو والمنذر ابن ساوى فى شهر واحد، ثم مات المنذر بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقليل، وارتدّ [2] بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأمّا بكر فتمّت على الردّة، وكان الذى ثنى عبد القيس الجارود بن المعلّى. وقيل فيه: الجارود بن عمرو بن حبيش بن يعلى [3] ، واسمه- فيما يقال- بشر بن عمرو، وإنّما قيل له الجارود؛ لأنّه أغار فى الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم فجرّدهم.
- وهذه الزيادة فى اسم الجارود عن غير الطبرى- قال أبو جعفر: وكان الجارود قد قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان نصرانيّا فأسلم، ومكث بالمدينة حتى فقه، ثم رجع إلى قومه فكان فيهم؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت عبد القيس: لو كان محمد نبيّا لما مات؛ وارتدّوا؛ فبعث إليهم فجمعهم، وقال: يا معشر عبد القيس؛ إنّى سائلكم عن أمر فأخبرونى به إن علمتموه، ولا تجيبونى إن لم تعلموا؛ قالوا: سل عمّا بدا لك. قال: تعلمون أنّه كان لله تعالى أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: ترونه أو تعلمونه؟ قالوا:
لا، بل نعلمه. قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا؛ قال: فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وأنا أشهد أنّ لا إله إلّا الله،
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 301 وما بعدها، الأغانى 15: 255.
[2] ص: «وارتدت» .
[3] ص: «حنش بن يعلى» .(19/99)
وأن محمدا عبده ورسوله؛ قالوا: ونحن نشهد أنّ لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وأنّك ضف؟؟؟ سيدنا وألنا؟؟؟.
وثبتوا على إسلامهم وخلّوا بين سائر ربيعة وبين المنذر بن ساوى، فكان المنذر مشتغلا بهم حياته، فلمّا مات حصر أصحابه فى مكانين، فكانوا كذلك حتى أنقذهم [1] العلاء بن الحضرمىّ.
قال: ولما ارتدّت ربيعة ومن تابعها. قالوا: نردّ الملك فى آل المنذر، فملّكوا المنذر بن النّعمان بن المنذر، وكان يسمّى الغرور، فكان يقول بعد ذلك حين أسلم الناس وغلبهم السيف: لست بالغرور، ولكنى المغرور [2] .
قال: ولمّا مات النبىّ صلّى الله عليه وسلّم خرج الحطم بن ضبيعة أخو قيس بن ثعلبة فيمن اتّبعه من بكر بن وائل على الرّدة، ومن تأشّب [3] إليه من غير المرتدّين؛ ممّن لم يزل كافرا حتى نزل القطيف [4] وهجر، وبعث بعثا إلى دارين، فأقاموا به ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدّون المنذر والمسلمين، وأرسل إلى الغرور ابن أخى [5] النعمان بن المنذر، فبعثه إلى جؤاثى، وقال له:
اثبت، فإنّى إن ظفرت ملّكتك بالبحرين حتى تكون كالنّعمان بالحيرة، وبعث إلى جواثى فحصرهم، وألحّوا عليهم، وفى المسلمين المحصورين رجل من صالحى المسلمين. يقال له: عبد الله بن حذف،
__________
[1] ص: «أنقدهم» تحريف.
[2] ك: «الفرور» .
[3] تأشب: تجمع إليه من هنا وهنا.
[4] القطيف: مدينة بالبحرين.
[5] فى الطبرى أخ: ى» «.(19/100)
أحد بنى بكر بن كلاب، فاشتدّ عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكوا؛ فقال عبد الله بن حذف فى ذلك:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وفتيان المدينة أجمعينا [1]
فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود فى جؤاثى محصرينا
كأنّ دماءهم فى كلّ فجّ ... شعاع الشمس يغشى النّاظرينا
توكّلنا على الرّحمن إنّا ... وجدنا الصّبر للمتوكّلينا
وكان أبو بكر الصّديق رضى الله عنه قد عقد للعلاء بن الحضرمىّ، وأمّره بالبحرين كما قدّمنا ذكر ذلك، فسار العلاء فيمن معه، فلمّا كان بحيال اليمامة لحق به ثمامة بن أثال فى مسلمة بنى حنيفة، وخرج مع العلاء من بنى عمرو وسعد والرّباب مثل عسكره، وسلك الدّهناء فنزل، وأمر النّاس بالنزول، فنزلوا، فنفرت الإبل فى جوف الليل، فما بقى بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلّا ذهب عليها فى عرض الرّمل، وذلك حين نزل الناس، وقبل أن يحطّوا، فما هجم على جمع من الغمّ ما هجم عليهم، وأوصى بعضهم إلى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعوا إليه؛ فقال: ما هذا الذى قد ظهر فيكم، وغلب عليكم؟ فقال النّاس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه [2] حتى نصير حديثا، فقال:
أيّها النّاس، لا تراعوا، ألستم مسلمين! ألستم فى سبيل الله.!
ألستم أنصار الله! قالوا: بلى. قال: فابشروا فو الله لا يخذل الله من كان فى مثل حالكم.
__________
[1] الأبيات فى الأغانى 15: 256.
[2] ص: «شمسها» .(19/101)
ونادى المنادى بصلاة الصّبح حين طلع الفجر، فصلّى بهم، منهم المتيمّم، ومنهم من لم يزل على طهره، فلمّا قضى صلاته جثا لركبتيه، وجثا النّاس، فنصب فى الدّعاء، ونصبوا معه، فلمع لهم سراب [1] الشّمس، فالتفت إلى الصفّ. فقال: رائد ينظر ما هذا، ففعل، ثم رجع فقال: سراب. فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر، فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس معه، فمشوا حتى نزلوا عليه، فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد [2] من كلّ وجه، فأناخت عليهم، فأقام كلّ رجل إلى ظهره، فأخذه.
قال منجاب بن راشد: فما فقدمنا سلكا [3] ؛ فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النّهل [4] ، وتروّينا، ثم تروّحنا. وكان أبو هريرة رفيقى فلمّا غبنا عن ذلك المكان. قال لى: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد. قال: فكن معى حتى تقيمنى عليه، فكررت به، فأتيت به على ذلك المكان، فقلت:
لولا أنّى [لا أرى] [5] الغدير لأخبرتك أنّ هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعا [6] قبل اليوم، وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم، هذا والله المكان، ولهذا رجعت بك، وملأت إدواتى ثم وضعتها على شفيره. فقلت: إن كان منّا من المنّ وكانت
__________
[1] ك: «شراب» تصحيف.
[2] الكرد: الطرد، وفى الأصول: «يرتكد» تصحيف، صوابه من تاريخ الطبرى.
[3] السلك: جمع سلكة، وهو الخيط الذى يخاط به الثوب.
[4] العلل: الشراب الثانى، والنهل: الشراب الأول.
[5] من الطبرى.
[6] كذا فى الطبرى، وفى الأصول: «نافعا» .(19/102)
آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته، فإذا منّ من المنّ؛ فحمد الله.
ثم سرنا حتى ننزل هجر.
قال: فأرسل العلاء بن الحضرمىّ إلى الجارود ورجل آخر:
أن انضما فى عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما، وخرج هو فيمن جاء معه، وفيمن قدم عليه حتّى ينزل عليه ما يلى هجر، وتجمّع المشركون كلّهم إلى الحطم إلّا أهل دارين، وتجمّع المسلمون كلّهم إلى العلاء، وخندق المسلمون والمشركون، فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا.
فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون فى عسكر المشركين ضوضاء شديدة، كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟
فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم؛ فخرج حتّى إذا دنا من خندقهم أخذوه؛ فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم، وجعل ينادى: يا أبجراه! فجاء أبجر فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال:
لا أصغّر بين اللهازم [1] ، فقال: والله إنى لأظنّك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة. فقال: دعنى من هذا، وأطعمنى؛ فإنّى قد متّ جوعا؛ فقرّب له طعاما فأكل، ثم قال: زوّدنى [2] واحملنى، فحمله على بعير، وخرج عبد الله بن حذف حتّى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أنّ القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عسكرهم، فوضعوا السّيوف فيهم حيث شاءوا، واقتحوا الخندق
__________
[1] ص: «اللهاذم» تصحيف. وفى تاريخ الطبرى: «لا أضيعن الليلة» .
[2] ك: «زدنى» .(19/103)
هرّابا فمتردّ وناج، ودهش ومقتول أو مأسور، واستولى المسلمون على ما فى العسكر، ولم يسلم رجل إلا بما عليه، فأمّا أبجر فأفلت؛ وأمّا الحطم فإنّه دهش، وطار فؤاده، فقام إلى فرسه- والمسلمون خلالهم- فلمّا وضع رجله فى الرّكاب انقطع به فمرّ به، عفيف بن المنذر والحطم يستغيث؛ يقول: ألا رجل يعقلنى! فعرف صوته، فقال:
أعطنى رجلك، فأعطاه رجله فنفحها فأطنّها [1] من الفخذ، وتركه، فقال: أجهز علىّ؛ فقال: لا، إنّى أحبّ [2] ألّا تموت حتى أمضّك [3] . وجعل الحطم لا يمرّ به أحد من المسلمين فى الليل إلا قال: هل لك فى الحطم أن تقتله! حتى مرّ عليه قيس بن عاصم فقتله، فلمّا رأى فخذه نادرة [4] ، قال: وا سوأتاه لو علمت الذى به لم أحرّكه! وخرج المسلمون بعد ما أخذوا الخندق على القوم يطلبونهم، فلحق قيس بن عاصم أبجر، فطعنه قيس فى العرقوب فقطعه، فكانت رادّة، وأصبح العلاء فقسّم الأنفال، ونفّل رجالا من أهل البلاء ثيابا.
وأما أهل عمان ومهرة واليمن، فإنّ حذيفة بن محصن الحميرىّ وعرفجة سارا إلى القوم، فاقتتل المسلمون وأهل عمان قتالا شديدا فهزم المسلمون [المرتدين] [5] ، وقتلوا منهم فى المعركة عشرة آلاف، وسبوا الذّاررىّ، وجمعوا الغنائم، وبعثوا الخمس إلى أبى بكر، وقسّموا ما بقى، ثم خرجوا نحو مهرة، فكشف الله جنود المرتدّين، وقتل
__________
[1] أطنها: قطعها.
[2] ص: «أحبك» .
[3] ك: «أفضك» .
[4] نادرة: ساقطة.
[5] تكملة من ص.(19/104)
رئيسهم، وركبهم المسلمون، فقتلوا منهم من شاءوا، وأصابوا من شاءوا، وخمّسوا الغنائم، وبعثوا بالخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، وقسّموا ما بقى.
وأمّا من بقى من بقية الأمراء الذين عقد لهم أبو بكر رضى الله عنه، وبعثهم إلى من ارتدّ من قبائل العرب، فإنّ كل أمير سار إلى من بعثه إليه فمن رجع عن الردة، وفاء إلى الإسلام قبل منه ومن أبى قتل، وأطفأ الله تلك النيران.
روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنّه قال: لقد أقمنا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما كدنا نهلك فيه، لولا أنّ الله تعالى منّ علينا بأبى بكر، جمعنا على أن نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عرينة، ونعبد الله حتى يأتينا اليقين.
فعزم الله لأبى بكر على قتالهم، فو الله ما رضى منهم إلا بالخطّة المخزية أو الحرب المجلّية، فأما الخطة المخزية فأن يقرّوا بأنّ من قتل منهم فى النار، وأنّ من قتل منّا فى الجنة، وأن يدوا قتلانا، ونغنم ما أخذنا منهم، وما أخذوا منّا مردود علينا، وأمّا الحرب المجلّية فأن يخرجوا من ديارهم. وكانت هذه الحروب التى ذكرناها.
وهذه الوقائع كلّها فى سنة إحدى عشرة، وكان فيها حوادث أخر غير ما ذكرناها، نذكرها إن شاء الله تعالى فى حوادث السنين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه بعد نهاية الغزوات. والله أعلم.(19/105)
ذكر مسير خالد بن الوليد الى العراق
وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية كان إرسال خالد بن الوليد إلى العراق فى المحرم سنة ثلاث عشرة من الهجرة [1] .
قالوا: وكان الّذى هاج أبا بكر رضى الله عنه؛ أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه:
من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فقال قيس بن عاصم:
أما إنّه غير خامل الذّكر، ولا مجهول النّسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة [2] ، ذلك المثنّى بن حارثة الشيبانى.
ثم قدم المثنّى على أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، ابعثنى على قومى، فإنّ فيهم إسلاما. أقاتل بهم أهل فارس، وأكفيك أهل ناحيتى من العدوّ؛ ففعل أبو بكر رضى الله عنه ذلك.
وقدم المثنّى إلى العراق، فقاتل، وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد ويقول: إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ، وأذلّ الله المشركين، مع أنّى أخبرك يا خليفة رسول الله أنّ الأعاجم تخافنا وتتّقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ابعث خالد بن الوليد مددا للمثنّى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 261. وذكر الخبر فى سنة 12، وانظر الاستيعاب 1456.
[2] العمارة: الحى العظيم، وفى الاستيعاب: «الغارة» .(19/106)
الشام ألحّ على أهل العراق؛ حتى يفتح الله عليه. حكاه أبو عمر بن عبد البر من حديث الأصمعى عن سلمة بن بلال عن أبى رجاء العطاردى [1] .
قال: كتب أبو بكر الصّديق رضى الله عنه إلى المثنّى بن حارثة:
إنّى قد ولّيت خالد بن الوليد، فكن معه؛ وكان المثنّى بسواد الكوفة، فخرج خالد فتلقّاه، وقدم معه البصرة.
وحكى أبو الحسن علىّ بن محمد الموصلى المعروف بابن الأثير فى تاريخه: «الكامل. قال: أرسل [2] أبو بكر رضى الله عنه خالد بن الوليد من اليمامة إلى العراق، وقيل: بل قدم إلى المدينة من اليمامة، فأرسله إلى العراق، وأوصاه أن يبدأ بفرج الهند، وهو الأبلّة، وأن يتألّف أهل فارس، وكلّ من كان فى ملكهم من الأمم، فصار حتى نزل بيانقيا، وباروسما وألّيس، فصالحه أهلها على عشرة آلاف دينار سوى جزية [3] كسرى، وكان على كلّ رأس أربعة دراهم فأخذ منهم الجزية، ثم سار حتّى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس الطائىّ، وكان أميرا عليها بعد النّعمان بن المنذر، فدعاهم إلى الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة فاختاروا الجزية، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أوّل جزية أخذت من الفرس فى الإسلام، هى والقريّات التى صالح عليها، واشترط على أهل الحيرة أن يكونوا عيونا للمسلمين، فأجابوا إلى ذلك.
ثم سار خالد لقتال هرمز، فلمّا سمع هرمز بهم كتب إلى أردشير
__________
[1] الاستيعاب 1457.
[2] الكامل لابن الأثير 2: 261 وما بعدها.
[3] ابن الأثير «خرزة» .(19/107)
الملك بالخبر واستمدّه والتقيا، وخرج هرمز، ودعا خالدا للبراز ووطّأ أصحابه على الغدر به، فبرز إليه خالد، ومشى نحوه راجلا، وبرز هرمز، واقتتلا، فاحتضنه خالد، وحمل أصحاب هرمز، فما شغله ذلك عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو، فأنهى أهل فارس وركبهم المسلمون؛ وسمّيت هذه الوقعة: ذات السّلاسل، وكانت عدّة أصحاب خالد ثمانية عشر ألفا، ونجا قباذ وأنوشجان، وأخذ خالد سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وبعث بالفتح والأخماس إلى أبى بكر، وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وبعث المثنّى بن حارثة فى آثارهم، وبعث مقرّن إلى الأبلّة ففتحها، وجمع الأموال بها والسّبى.
وقيل: إن الأبلّة فتحت فى خلافة عمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحاصر المثنّى حصن المرأة، فافتتحه، وأسلمت المرأة.
ذكر وقعة الثنى
قال [1] : ولما وصل كتاب هرمز إلى أردشير بخبر خالد، أمدّه بقارن بن قريانس، فلقيه المنهزمون، فرجعوا معه وفيهم قباذ وأنوشجان، فنزلوا الثّنى- وهو النهر- وسار إليهم خالد، والتقوا، واقتتلوا، فبرز قارن فقتله معقل بن الأعشى، وقتل عاصم أنوشجان وقتل عدىّ قباذ، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفا؛ سوى من غرق فى الماء، فقسّم خالد الفئ، بعد أن خمّسه،
__________
[1] ساير المؤلف فى هذه التسمية ابن الأثير 2: 263. وأما الطبرى فقد أسماها «وقعة المذار» . والعرب تسمى كل نهر ثنيا.(19/108)
وأرسل بالأخماس إلى المدينة، وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت غنيمة عظيمة، وأخذ الجزية من الفلاحين، وكانوا ذمّة، وكان فى السّبى أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيّا.
ذكر وقعة الولجة
قال: [1] ولمّا وصل الخبر إلى أردشير بعث الأندرزغر [وكان فارسا من مولدى السّواد، وأرسل بهمن جازويه فى أثره فى جيش، وكان مع الأندرزغر] [2] الفرس والعرب الضّاحية والدهاقين، فعسكروا بالولجة، فجاءهم خالد إليها وكمن لهم كمينا، وقاتلهم قتالا شديدا، وخرج كمين خالد من خلفهم فانهزمت الأعاجم، وأخذهم خالد من أمامهم، والكمين من خلفهم، فقتل منهم خلق كثير.
[ومضى] [2] الأندرزغر منهزما، فمات عطشا.
وكانت هذه الوقعة فى صفر سنة اثنتى عشرة، فأصاب خالد ابنا لجابر بن بجير، وابنا لعبد الأسود [3] من بكر بن وائل.
ذكر وقعة أليس
قال: لمّا أصاب خالد بن الوليد يوم الولجة ما أصاب من نصارى بكر بن وائل، الّذين أعانوا الفرس، غضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الفرس، واجتمعوا على ألّيس [4] ، وعليهم عبد الأسود
__________
[1] ابن الأثير. 3: 263.
[2] تكملة من ص.
[3] ك: «بن بكر بن وائل» .
[4] ك: «اجتمعوا على الفرس» .(19/109)
العجلىّ، وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وأمره بالقدوم على نصارى العرب، فقدم عليهم بهمن جابان، وأمره بالتوقف عن المحاربة حتى يقدم عليه، وسار بهمن إلى أردشير يشاوره فيما يفعل، فوجده مريضا فتوقّف؛ واجتمع على جابان نصارى عجل، وهم اللّات وضبيعة وجابر بن بجير، وعرب الضّاحية من أهل الحيرة، فسار إليهم خالد والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا؛ فقال خالد:
اللهمّ إن هزمتهم فعلىّ ألّا أستبقى منهم من قدرت عليه؛ حتّى أجرى من دمائهم نهرهم، فانهزمت فارس، فنادى منادى خالد:
الأسر الأسر! إلا من امتنع فاقتلوه، فأقبل بهم المسلمون أسراء، ووكّل بهم من يضرب أعناقهم، فضرب أعناقهم يوما وليلة؛ فقال له القعقاع: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، فأجرى عليه [الماء] [1] فسمّى ذلك الماء نهر الدم، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، وكانت الوقعة فى صفر أيضا.
ثم سار إلى أمغيشيا، وأصاب فيها ما لم يصب مثله من الغنائم، وأخربها، وبعث إلى أبى بكر بالسّبى والغنائم؛ فقال أبو بكر:
عجز النّساء أن يلدن مثل خالد. رضى الله تعالى عنهما.
__________
[1] من ابن الأثير.(19/110)
ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة
قال: [1] ثم سار خالد من أمغيشيا إلى الحيرة، وحمل الرّجال والأثقال فى السفن، فخرج مرزبان الحيرة، وهو الأزادبه، فعسكر عند الغريّين وأرسل ابنه، فقطع الماء عن السّفن، فبقيت على الأرض، فسار خالد نحوه فلقيه على فرات بادقلى، فقتله، وقتل أصحابه، فلما بلغ الأزاذبة قتل ابنه هرب بغير قتال، ونزل المسلمون على الغريّين، وتحصّن أهل الحيرة فحصرهم فى قصورهم، وافتتح المسلمون الدّروب والدّور، وأكثروا القتل، فنادى القسّيسون والرّهبان: يا أهل القصور! ما يقتلنا غيركم! فنادى أهل القصور المسلمين: قد قبلنا واحدة من ثلاث: إمّا الإسلام، أو الجزية، أو المحاربة، فكفّوا عنهم، وصالحهم على مائة ألف وتسعين ألفا.
وقيل: مائتى ألف وتسعين ألفا.
وكان فتح الحيرة فى شهر ربيع الأوّل، وكتب لهم خالد كتابا، فلمّا كفر أهل السواد ضيّعوه، فلما افتتحها المثنّى ثانية عاد بشرط آخر، فلمّا عادوا كفروا، وافتتحها سعد بن أبى وقاص، ووضع عليهم [أربعمائة] [2] ألف. فقال خالد: ما لقيت قوما كأهل فارس، وما لقيت من أهل فارس كأهل ألّيس.
__________
[1] ابن الأثير 2: 265، 266.
[2] من ابن الأثير.(19/111)
ذكر ما كان بعد فتح الحيرة
قال [1] : وكان الدّهاقين يتربّصون بخالد، ما يصنع أهل الحيرة، فلمّا صالحهم واستأمنوا له أتته الدّهاقين من تلك النّواحى، فصالحوه على ألفى ألف. وقيل: ألف ألف، سوى ما كان لآل كسرى.
وكتب إلى أهل فارس يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فإن أجابوه وإلّا حاربهم. وجبى الخراج فى خمسين ليلة، وأعطاه للمسلمين، ولم يبق لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، لاختلافهم بموت أردشير، إلّا أنّهم مجمعون على حرب خالد، وهو مقيم بالحيرة.
ذكر فتح الأنبار
قال: ثم [2] سار خالد إلى الأنبار، وإنّما سمّيت الأنبار، لأن أهراء [3] الطعام كانت بها أنابير، وكان [على] [4] من بها من الجند شيرزاد صاحب ساباط، فلمّا التقوا أمر خالد رماته برشق السّهام، وأن يقصد واعيونهم، فرشقوا رشقا واحدا، ثم تابعوا، فأصابوا ألف عين، فسمّيت هذه الواقعة ذات العيون، فلما رأى شيرزاد ذلك، أرسل فى طلب الصّلح، فصالحه خالد على أن يلحقه مأمنه فى جريدة، وليس معهم من المتاع شىء.
__________
[1] ابن الأثير 2: 268.
[2] الكامل لابن الأثير 2: 269.
[3] الأهراء: مخازن الغلال.
[4] تكملة من ص.(19/112)
وخرج شيرزاد إلى بهمن جاذويه، ثم صالح خالد من حول الأنبار وأهل كلواذى. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده.
ذكر فتح عين التمر
قال: ولما [1] فرغ خالد من الأنبار، استخلف عليها الزّبرقان اين بدر، وسار إلى عين التّمر، وبها مهران بن بهرام جوبين فى جمع عظيم من العجم، وعقّة بن أبى عقّة فى جمع عظيم من العرب؛ من النّمر، وتغلب، وإياد؛ وغيرهم. فقال عقّة لمهران: إنّ العرب أعلم بقتال العرب منكم، فدعنا وخالدا؛ فقال: نعم، وإن احتجتم إلينا أعنّاكم، فالتقى عقّة بخالد، فحمل خالد عليه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأسره، فانهزم أصحابه من غير قتال، وأسر أكثرهم.
فلما بلغ الخبر مهران، هرب فى جنده وترك الحصن [2] ، فانتهى المنهزمون إليه وتحصّنوا به، فنازلهم خالد، فسألوا الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى، وقتل عقّة، ثم قتلهم عن آخرهم، وسبى [كلّ من] [3] بالحصن وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلّمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسّمهم فى أهل البلاد، منهم: أبو زياد مولى ثقيف، وأبو عمرة جدّ عبد الله بن عبد الأعلى
__________
[1] ابن الأثير 2: 369.
[2] ص: «ونزل الحصن» .
[3] من ص.(19/113)
الشاعر، وسيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان بن عفان.
وأرسل إلى أبى بكر بالخبر والخمس والسّبى، فكان أول سبى قدم المدينة من العجم، وجعل خالد على عين التمر عويمرا السّلمىّ.
ذكر خبر دومة الجندل
قال: ولمّا [1] فرغ خالد من عين التّمر أتاه كتاب عياض بن غنم؛ يستمده على من بإزائه من المشركين، فسار إليه، وكان بإزائه بهراء وكلب، وغسّان، وتنوخ، والضجاعم، وكانت دومة الجندل على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، فأمّا أكيدر فأشار بالصّلح، ولم ير قتال خالد، فلم يقبلوا منه، فخرج عنهم، وسمع خالد بمسيره، فأرسل إلى طريقه، وأخذه أسيرا وقتله وأخذ ما كان معه، وسار حتى نزل بدومة، وجعلها بينه وبين عياض، وخرج الجودى إلى خالد فى جمع ممّن عنده من العرب، وأخرج طائفة إلى عياض، فهزمهم عياض، وهزم خالد من يليه، وأسر الجودى، وانهزموا إلى الحصن، فلما امتلأ أغلقوا الباب دون أصحابهم، فبقوا حوله، فقتلهم خالد، وقتل الجودى وقتل الأسرى إلّا أسرى كلب، فإنّ بنى تميم قالوا لخالد: قد أمّنّاهم، وكانوا حلفاءهم، فتركهم لهم، ثم أخذ الحصن فقتل المقاتلة، وسبى الذّريّة، فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال.
وأقام خالد بدومة الجندل، فطمع الأعاجم، وكاتبهم عرب
__________
[1] ابن الأثير 2: 270.(19/114)
الجزيرة غضبا لعقّة، فكانت وقعة حصيد والخنافس، بين القعقاع بن عمرو، خليفة خالد على الحيرة، وبين روزبة وزرمهر.
فقتل روزبه بحصيد، وانهزم الأعاجم إلى الخنافس؛ فتبعهم المسلمون، وهربوا إلى المصيّخ، إلى الهذيل بن عمران.
ثم كانت وقعة مصيخ
قال: [1] ولما انتهى الخبر إلى خالد كتب إلى القعقاع وأبى ليلى، وواعدهم فى وقت معلوم يجتمعون بالمصيّخ لقتال هذيل بن عمران ومن معه، فأغاروا عليه من ثلاثة أوجه وهم نائمون فقتلوهم، وأفلت الهذيل فى نفر قليل، وكثر فيهم القتل.
وقعة الثنى والزميل
وكان [2] ربيعة بن بجير بالثّنى والزّميل- وهما شرقىّ الرّصافة- قد خرج غضبا لعقّة، فلمّا أصاب خالد أهل المصيّخ سار إلى الثّنى وبيّتهم من ثلاثة أوجه، وأوقع بهم وقتلهم، فلم يفلت منهم مخبر، وسبى وغنم، وبعث بالخبر والخمس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه، فاشترى علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- بنت ربيعة [ابن بجير] [3] التّغلبىّ، فولدت له عمر ورقيّة.
__________
[1] ابن الأثير 2: 272.
[2] ابن الأثير 2: 273.
[3] من ص وابن الأثير.(19/115)
ذكر وقعة الفراض
قال: ثم [1] سار خالد إلى الفراض، وهى تخوم الشّام والجزيرة، فأفطر فيها شهر رمضان لاتّصال الغزوات، وحميت الرّوم، واستعانوا بمن يليهم من الفرس فأعانوهم، واجتمع معهم تغلب وإياد والنّمر، وساروا إلى خالد، وبلغوا الفرات، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الرّوم ومن معهم، وأمر خالد ألّا يرفع عنهم السيف، فقتل فى المعركة، وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض عشرا، ثم أذن بالرّجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة سنة ثنتى عشرة، وخرج من الفراض سرّا، ومعه عدّة من أصحابه يعسف [2] البلاد، حتى أتى مكّة فحجّ ورجع، وكانت غيبته عن الجند يسيرة؛ ولم يعلم بحجّه إلّا من أفضى إليه بذلك.
ذكر فتوح الشام
قال: وفى [3] سنة ثلاث عشرة وجه أبو بكر رضى الله عنه الجنود إلى الشأم، بعد منصرفه من مكّة إلى المدينة، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، وبعث يزيد بن أبى سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، وأمرهم أن يسلكوا على البلقاء من علياء الشام.
وقيل: أوّل لواء عقده أبو بكر رضى الله عنه، عند توجيهه الجنود إلى الشام لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير،
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 274.
[2] يعسف البلاد: يضرب فيها سيرا.
[3] تاريخ ابن الأثير 2: 275 وما بعدها.(19/116)
وولّى يزيد بن أبى سفيان- وكان عزله عن رأى عمر- وقدم عكرمة ابن أبى جهل على أبى بكر فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين، فجعل أبو بكر عكرمة ردءا للنّاس. وبلغ الرّوم ذلك، فكتبوا إلى هرقل، فخرج هرقل حتى أتى حمص، فأعدّ لهم الجنود، وأرسل أخاه إلى عمرو، فخرج نحوه فى تسعين ألفا، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفا سوى عكرمة؛ فإنّه فى ستة آلاف، فكتبوا إلى عمرو بن العاص: ما الرأى؟ فكاتبهم أنّ الرأى الاجتماع، وذلك أنّ مثلنا إذا اجتمع لا يغلب من قلّة.
فاتّعدوا اليرموك ليجتمعوا به، وكان المسلمون كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كتبوا به إلى عمرو، فجاءهم كتابه بمثل ما رأى عمرو.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالرّوم منزلا واسع المطرّد ضيق المهرب، ففعلوا، ونزلوا الواقواصة، وهى على ضفّة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وأقبل المسلمون، فنزلوا عليهم بحذائهم، فأقاموا صفر وشهرى ربيع لا يقدرون من الروم على شىء، حتى إذا انسلخ شهر ربيع الأول، كتبوا إلى أبى بكر يستمدونه، فكتب إلى خالد بن الوليد يلحق بهم، وأن يسير فى نصف العسكر، ويستخلف على النّصف الآخر المثنّى ابن حارثة الشّيبانىّ، ففعل. والله تعالى أعلم بالصواب.(19/117)
ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره إلى أن التقى بجنود المسلمين بالشام
لما [1] ورد كتاب أبى بكر الصّديق رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد، يأمره بالمسير إلى الشام فى نصف العسكر سار كما أمره، فلما انتهى إلى سوى أغار على أهله، وهم بهراء، وأتاهم وهم يشربون الخمر، ومغنيهم يقول:
ألا علّلانى قبل جيش أبى بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندرى
ألا علّلانى بالزّجاج وكرّرا ... علىّ كميت اللّون صافية تجرى
ألا علّلانى من سلافة قهوة ... تسلّى هموم النفس من جيّد الخمر
أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم قبل الصّباح مع النّسر
فهل لكم فى السّير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر [2]
فقتل المسلمون مغنّيهم، وسال الدّم فى تلك الجفنة، وأخذوا أموالهم، وقتل حرقوص بن النعمان البهرانىّ. ثم سار خالد حتى أتى أرك، فصالحوه، ثم أتى تدمر فتحصن أهلها، ثم صالحوه، ثم أتى القريتين، فقاتل أهلها وظفر بهم وغنم،
__________
[1] ابن الأثير 2: 279 وما بعدها.
[2] المعصرات: جمع معصر؛ وهى الفتاة التى دخلت فى شبابها.(19/118)
وأتى حوارين [1] فقاتل أهلها فهزمهم، وسار حتى نزل ثنيّة العقاب، بالقرب من دمشق ناشرا رايته، وهى راية سوداء كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تسمّى العقاب، فسمّيت الثّنيّة بها، ثم سار فأتى مرج راهط [2] ، فأغار على غسّان، فقتل، وسبى، وأرسل سريّة إلى كنيسة بالغوطة، فقتلوا الرّجال، وسبوا النّساء، ثم سار حتى وصل إلى بصرى، وعليها أبو عبيدة ابن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبى سفيان، فجمع له صاحب بصرى، فسار إليه خالد هو وأبو عبيدة، فلقيهم خالد، فظفر بهم وهزمهم، فدخلوا حصنهم وطلبوا الصّلح، فصالحهم على كلّ رأس دينار فى كلّ عام، وجريب حنطة، فكانت بصرى أوّل مدينة فتحت بالشّام على يد خالد بن الوليد، وأهل العراق.
وبعث الأخماس إلى أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. ثم سار فطلع على المسلمين فى شهر ربيع الآخر، وطلع باهان على الروم منذرا لهم.
واتفق قدوم خالد وقدوم باهان، ومع باهان القسيسون والشمامسة والرّهبان يحرّضون الرّوم على القتال، وخرج باهان، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، ورجع [3] ماهان والرّوم إلى خندقهم، وقد نال المسلمون منهم، فلزموا خندقهم غاية شهرهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] حوارين، من قرى حلب.
[2] مرج راهط، بنواحى دمشق.
[3] ك: «وجمع باهان والروم» .(19/119)
ذكر وقعة أجنادين
هذه الوقعة قد ذكرها ابن الأثير [1] رحمه الله بعد وقعة اليرموك، واعتمد فى ذلك على أبى جعفر الطبرى رحمه الله، فإنّه أوردها على منواله، ويقتضى سياق التاريخ أن تكون مقدّمة على وقعة اليرموك؛ وذلك أن خالد بن الوليد لما قدم بصرى وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ابن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، صالح أهلها على الجزية على ما تقدّم، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص، وهو مقيم بالعربات، واجتمعت الروم بأجنادين- وهى بين اليرموك وبيت جبرين من أرض فلسطين- وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه.
وقيل: كان على الرّوم القبقلار. وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم، فنزلوا بأجنادين، فبعث القبقلار عربيّا إلى المسلمين يأتيه بخبرهم، فعاد إليه، فقال له: ما وراءك؟
فقال: باللّيل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجموه، لإقامة الحقّ فيهم، فقال: إن كنت صدقتنى فبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. ثم التقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وظهر المسلمون عليهم، وانهزم الروم، وقتل القبقلار وتذارق، واستشهد رجال من المسلمين.
ثم جمع هرقل للمسلمين، فالتقوا باليرموك.
والله سبحانه أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.
__________
[1] ابن الأثير 2: 286. 287، وانظر تاريخ الطبرى 3: 415- 418.(19/120)
ذكر وقعة اليرموك
قال: واجتمع [1] المسلمون باليرموك، وقد تكامل عددهم ستّة وثلاثين ألفا، منهم جيش خالد تسعة آلاف، وجيش عكرمة ستّة آلاف. وقيل فى عددهم غير ذلك. وكان الرّوم فى مائتى ألف وأربعين ألف مقاتل، منهم: ثمانون ألف مقيّد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف راجل. وذلك فى جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وخرجوا للّقاء، فلما أحسّ المسلمون بخروجهم، قام خالد بن الوليد، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه؛ وقال: إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغى فيه الفخر. أخلصوا بجهادكم، وأريدوا الله بعملكم، وهلمّوا فلنتعاور [2] الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلّكم؛ ودعونى أميركم اليوم. فأمّروه، وهم يرون أنّ الأمر أطول مما صاروا إليه، وخرجت الروم فى تعبئة لم ير الرّاءون مثلها قطّ، وخرج خالد فى تعبئة لم يعبّئها العرب قبل ذلك، فخرج فى ستة وثلاثين كردوسا [3] إلى أربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وجعل عليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجعل على كردوس
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 394 وما بعدها. ابن الأثير 2: 281 وما بعدها.
[2] ص: «فلتتعاون» .
[3] الكردوس: القطعة العظيمة من الخبل.(19/121)
من كراديس العراق إنسانا، وشهد اليرموك ألف رجل من الصحابة، فيهم من أهل بدر نحو المائة. فقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقلّ المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم! وإنّما تكثر الجنود بالنّصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرّجال.
ثم أمّر خالد عكرمة والقعقاع بن عمرو- وكانا مجنّبنى القلب- فأنشبا القتال، فنشب والتحم الناس، وتطارد الفرسان؛ فإنّهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة، فسأله النّاس عن الخبر، فأخبرهم بسلامة وأمداد تقبل إليهم؛ وإنّما كان قد جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره بوفاة أبى بكر سرّا، وأخبره بالّذى أخبر به الجند، فشكره وأخذ الكتاب، فجعله فى كنانته. وخرج جرجة [1] من عسكر الرّوم، وكان أحد عظمائهم، فوقف بين الصّفّين ليخرج إلى خالد، فخرج إليه، وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفّين حتى اختلفت أعناق دابّتيهما، وقد أمن كلّ منهما صاحبة.
فقال جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحرّ لا يكذب، ولا تخادعنى، فإن الكريم لا يخادع المسترسل، قد أنزل الله على نبيكم سيفا، فأعطاه لك، فلا تسلّه على قوم إلّا هزمهم الله! قال: لا، قال: ففيم سمّيت سيف الله؟ قال:
إنّ الله بعث فينا نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فدعانا، فنفرنا منه، ثم إن بعضنا صدّقه وبعضنا باعده وكذّبه، فكنت ممّن كذّبه وقاتله
__________
[1] ص: «جرحة» .(19/122)
ثم هدانى الله فتابعته؛ فقال: أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين، ودعا لى بالنصر، فسمّيت سيف الله بذلك، فأنا أشدّ المسلمين على الكافرين المشركين؛ فقال: صدقت، فأخبرنى، إلام تدعونى؟ قال خالد: إلى الإسلام أو الجزية، أو الحرب. قال فما منزلة الذى يجيبكم ويدخل فيكم؟ قال:
منزلتنا واحدة، قال: فهل له فى الأجر والذّخر مثلكم؟ قال: نعم، وأفضل؛ لأنّنا اتّبعنا نبيّنا وهو حىّ يخبرنا بالغيب، ونرى منه العجائب، وأنتم لم تروا مثلنا، ولم تسمعوا ما سمعنا، فمن دخل بنيّة وصدق، كان أفضل منّا. فقلّب جرجة ترسه، ومال مع خالد يعلّمه الإسلام، وأسلم، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشنّ [1] عليه قربة من الماء وصلّى به ركعتين.
وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنّها منه حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فقال عكرمة بن أبى جهل: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى كلّ موطن، وأفرّ منكم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار ابن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى أثبتوا [2] جميعا جراجا، فمنهم من برئ، ومنهم من استشهد.
وحمل خالد ومعه جرجة- والرّوم خلال المسلمين- فنادى الناس
__________
[1] شن: صب.
[2] أثبتو: جرحوا وبهم رمق.(19/123)
فثابوا، وتراجعت الرّوم إلى مواقعهم، وزحف خالد بالمسلمين إليهم حتى تصافحوا بالسيوف، وضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النّهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصلّ صلاة سجد فيها إلّا الركعتين مع خالد، وصلّى الناس الظّهر والعصر إيماء، وتضعضع الرّوم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، فانهزم الفرسان، وخرجت خيلهم تشتدّ فى الصحراء.
ولما رأى المسلمون خيل الروم أفرجوا لها، فذهبت، فتفرّقت فى البلاد، وأقبل خالد ومن معه على الرّجل، ففضّوهم؛ فكأنّما هدم بهم حائط، واقتحموا فى خندقهم، فاقتحمه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، فتهاوى فيها عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقترن، وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل فى المعركة من الفرسان والرجال، وقاتل النساء يومئذ، وكانت هزيمة الرّوم مع اللّيل. وصعد المسلمون العقبة وأصابوا ما فى عسكر الرّوم، قتل الله صناديد الرّوم ورءوسهم وأخا هرقل؛ وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص- أو بحمص- فنادى بالرّحيل عنها، وجعلها بينه وبين المسلمين، وأمّر عليها أميرا كما أمّر على دمشق.
هذا ما كان من واقعة اليرموك على سبيل الاختصار روى عن عبد الله بن الزّبير، قال: كنت مع أبى باليرموك وأنا صبىّ لا أقاتل؛ فلمّا اقتتل النّاس نظرت إلى أناس على تلّ لا يقاتلون، فركبت فذهبت إليهم؛ فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش(19/124)
من مهاجرة الفتح، فرأونى حدثا فلم يتقونى. قال: فجعلوا إذا مال المسلمون، وركبهم الرّوم يقولون: إيه بنى الأصفر! وإذا مالت الرّوم، وركبهم المسلمون قالوا: ويح بنى الأصفر! فلما هزمت الرّوم أخبرت أبى بذلك، فضحك وقال. قاتلهم الله! أبوا إلا ضغنا! لنحن خير لهم من الرّوم.
وقد حكى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله، أنّ أبا سفيان يوم اليرموك كان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله، الله! إنّكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنّهم ذادة الرّوم وأنصار الشّرك! اللهم إنّ هذا يوم من أيّامك، الّلهم أنزل نصرك على عبادك. والله أعلم.
هذا ما وقع فى خلافة أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من الغزوات والحروب، والفتوحات، فلنذكر ما هو خلاف ذلك من الحوادث على السنين، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.(19/125)
ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما ذكرناه
سنة إحدى عشرة
فيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنها، وذلك فى ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان، وهى يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة، أو نحوها. وقيل: توفّيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أشهر؛ قاله أبو جعفر [1] .
ثم قال: والثّبت عندنا أنها توفّيت بعد ستة أشهر، وغسّلها علىّ بن أبى طالب، وأسماء بنت عميس، وصلّى عليها العباس ابن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلىّ والفضل بن عباس؛ قاله الواقدىّ.
قال أبو عمر: فاطمة [2] أوّل من غطّى نعشها من النّساء فى الإسلام؛ وذلك أنّها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء، إنّى قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب، فيصفها. فقالت أسماء يا بنت رسول الله، ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبا. فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متّ فاغسلينى أنت وعلىّ، ولا تدخلى علىّ أحدا، فلمّا توفيت جاءت عائشة تدخل؛ فقالت أسماء: لا تدخلى، فشكت إلى أبى بكر. فقالت: إنّ هذه الخثعميّة تحول بيننا وبين بنت رسول الله، وقد جعلت لها مثل
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 240.
[2] الاستيعاب 1897، 1898.(19/126)
هودج العروس؛ فجاء أبو بكر، فوقف على الباب. فقال: يا أسماء، ما حملك على أن [منعت] [1] أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدخلن على بنت رسول الله، وجعلت لها مثل هودج العروس؟.
قالت: أمرتنى ألّا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذى صنعت وهى حيّة، فأمرتنى أن أصنع ذلك لها. قال أبو بكر: فاصنعى ما أمرتك، ثم انصرف [2] .
وفيها انصرف معاذ بن جبل عن اليمن.
واستقضى أبو بكر عمر بن الخطاب رضى الله عنهم.
وفيها أمّر أبو بكر رضى الله عنه على الموسم عتّاب بن أسيد؛ وقيل:
بل حجّ بالنّاس عبد الرّحمن بن عوف عن تأمير أبى بكر إيّاه.
سنة اثنتى عشرة
فيها مات أبو مرثد الغنوىّ، واسمه كنّاز بن حصن- ويقال ابن حصين- حليف حمزة بن عبد المطلب؛ صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وابنه مرثد، وابنه أنيس بن مرثد؛ وشهد بدرا هو وابنه مرثد، وشهد هو المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات وهو ابن ستّ وستين سنة.
وفيها، فى ذى الحجّة مات أبو العاص بن الربيع، واختلف فى اسمه، فقيل: لقيط، وقيل مهشم، وقيل: هشيم، والأكثر لقيط بن الرّبيع بن عبد العزّى بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ
__________
[1] من الاستيعاب 1898.
[2] بعدها فى الاستيعاب: «فغسلتها» .(19/127)
العبشّمىّ ويسمى جرو [1] البطحاء، وهو صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابنته زينب، وأمّه هالة بنت خويلد، أخت خديجة أمّ المؤمنين، وأوصى إلى الزّبير بن العّوام، وتزوّج علىّ ابنته.
وحجّ بالنّاس فى هذه السّنة أبو بكر الصّديق رضى الله عنه، واستخلف على المدينة عثمان بن عفّان رضى الله عنه. وقيل: بل حجّ عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه. والله تعالى أعلم بالصّواب.
ذكر وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومدة خلافتة
قد اختلف فى وقت وفاته رضى الله عنه؛ فقال ابن اسحاق:
فى يوم الجمعة لتسع [2] من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة.
وقال غيره: إنّه مات عشىّ يوم الاثنين. وقيل: ليلة الثلاثاء.
وقيل: عشىّ يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة.
قال ابن عبد البر: هذا قول أكثرهم [3] .
وقيل: مكث فى خلافته سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليال.
وقال ابن اسحاق: سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال.
وقيل: سنتين وثلاثة أشهر واثنتى عشرة ليلة.
وقال غيره: وعشرة أيام.
وقال آخرون: وعشرين يوما.
واختلف أيضا فى السّبب الذى مات منه، فذكر الواقدىّ:
أنّه اغتسل فى يوم بارد، فحمّ. ومرض خمسة عشر يوما.
__________
[1] ك: «قرم» .
[2] ص: «لسبع ليال بقين» .
[3] الاستيعاب 977.(19/128)
وقال الزبير بن بكّار: كان به طرف من السّل. وروى عن سلّام ابن [أبى] [1] مطيع: أنه سمّ، وأن اليهود سمّته فى حريرة، وهى الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكفّ الحارث، وقال لأبى بكر: أكلنا طعاما مسموما، سمّ سنة، فمات بعد سنة.
وقيل: أصل مرضه الغمّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وانتهت سنّه رضى الله عنه عند وفاته إلى سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثلاثا وستين سنة.
قال أبو عمر بن عبد البر: لا يختلفون فى أن سنّه انتهت إلى ذلك، إلّا ما لا يصح [2] .
وقد كان آخر ما تكلّم به: توفّنى مسلما، وألحقنى بالصالحين.
وغسّلته زوجته أسماء بنت عميس بوصيّة منه وابنه عبد الرحمن، وأوصى أن يكفّن فى ثوبيه، ويشترى معهما ثوب ثالث، وقال:
الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت، إنّما هو للمهملة [3] والصّديد.
وصلّى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكبّر أربعا، وحمل على السّرير الذى حمل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سرير عائشة رضى الله عنها، وكان من خشبتى ساج منسوجا باللّيف فى ميراث عائشة، بأربعة آلاف درهم اشتراه مولى لمعاوية، وجعله للمسلمين. ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر بن الخطاب وعثمان وطلحة، وجعل رأسه عند كتفى النّبى صلّى الله عليه وسلّم، وألصقوا لحده بلحده، ودفن رضى الله عنه ليلا.
__________
[1] تكملة من ص.
[2] الاستيعاب 977.
[3] المهملة: القيح.(19/129)
ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه رضى الله عنه
غير ما تقدّم قد ذكرنا فيما تقدّم من كتابنا هذا فى هذا السّفر وما قبله نبذة من أخباره، ولمعة من آثاره، وطرفا من مآثره السنيّة، وجملة من فضائله التى هى بجزيل الخيرات مليّة، وأحببنا أن نورد فى هذا الموضع نبذة أخرى غير ما قدّمنا، ونختم هذا الفصل بشىء من مناقبه كما بدأنا، ولا نشترط الاستيعاب لمناقبه ومآثره لتوفّرها، ولا الحصر لفضائله الجزيلة لتعدّدها وتكرّرها، بل نورد من كل نوع منها طرفا يحتوى على خصال منيعة، وأخلاق شريفة، ويتحقّق سامعه أنّه لو أنفق ملء أحد ذهبا ما بلغ مدّه ولا نصيفه.
كان رضى الله تعالى عنه قد تقلّل من الدنيا جهد طاقته، واقتصر منها على بعض ما يسدّ به بعض خلّته وفاقته، وتجنّب أموال المسلمين جهده، وأنفق فى سبيل الله وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان عنده؛ نطق بفضله القرآن، جاهد فى دين الله فأذّلّ الله له وبه أهل الشّرك والطّغيان، وشمّر عن السّاعد فى قتال أهل الرّدّة حين استذلّهم الشيطان، وأقدم على حربهم بنفسه وجيوشه حين اشرأبّ النفاق ولمعت بوارقه، وناضلهم بكتبه وكتائبه حين ظهر الكفر ونشرت خوافقه، فأخمد الله تعالى به ما كان قد اضطرم من نيران الرّدة، وأفاء تلك القبائل التى كانت لحرب الإسلام مستعدة؛ إلّا من استمرّ منهم على كفره، وما نزع عن شرّه ومكره، وأبى إلّا جحود هذا الدّين(19/130)
وقتال شعبه، ونفر عن الرّجوع والانضمام إلى حزبه؛ فإن الله تعالى قتله شرّ قتلة، وأباح للمسلمين ماله وأهله ونسله.
روى أنّه لما ارتدت العرب، خرج أبو بكر رضى الله عنه شاهرا سيفه إلى ذى القصّة، فجاءه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فأخذ بزمام راحلته، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: شم سيفك [1] لا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام
، وكان له رضى الله عنه بيت مال بالسّنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة؛ فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟
قال: لا، فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين، فلا يبقى فيه شىء، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه فى داره.
ولما توفّى جمع عمر الأمناء، وفتح بيت المال فلم يجد فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة، فترحّموا عليه.
وفى خلافته رضى الله عنه: انفتح معدن بنى سليم، فكان يسوّى فى قسمته بين السّابقين الأوّلين والمتأخّرين فى الإسلام، وبين الحرّ والعبد، والذّكر والأنثى. فقيل له: ليقدّم أهل السّبق على قدر منازلهم. فقال: إنّما أسلموا لله، ووجب أجرهم عليه، يوفّيهم ذلك فى الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.
وكان يشترى الأكسية ويفرّقها فى الأرامل فى الشتاء.
قال أبو صالح الغفارىّ: كان عمر رضى الله عنه يتعهّد امرأة
__________
[1] شم: اغمد.(19/131)
عمياء فى المدينة بالليل، فيقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، ففعل ما أرادت، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر رضى الله عنه، كان يأتيها ويقضى أشغالها سرّا وهو خليفة؛ فقال:
أنت هو لعمرى! وكان منزل أبى بكر رضى الله عنه بالسّنح [1] عند زوجته حبيبة بنت خارجة، فأقام هناك ستة أشهر بعد ما بويع، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة، وربّما ركب فرسه، فيصلّى بالنّاس؛ فإذا صلّى العشاء رجع إلى السّنح. وكان إذا غاب صلّى بالنّاس عمر، وكان يغدو كلّ يوم إلى السّوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربّما خرج هو بنفسه فيها، وربّما رعيت له، وكان يحلب للحىّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم:
الآن لا يحلب لنا منائح [2] دارنا، فسمعها، فقال: بل لعمرى لأحلبنّها لكم، وإنى لأرجو ألا يغيّرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، ثمّ تحوّل إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته. وقال: لا تصلح أمور النّاس مع التجارة، وما يصلح إلا التّفرغ لهم؛ والنظر فى شأنهم، فترك التجارة، وأنفق من مال المسلمين، ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحجّ ويعتمر؛ فكان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين
__________
[1] السنح، إحدى محال المدينة.
[2] المنيحة: الناقة تدر اللبن؛ وجمعها منائح.(19/132)
بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر. وقيل: إنّه قال:
انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال؟ فاقضوه عنّى، فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف. وقيل: إنّه قال لعائشة رضى الله عنها: أما إنّا منذ ولّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنّا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فىء المسلمين إلّا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة، فإذا متّ فابعثى بالجميع إلى عمر؛ فلما مات بعثته إليه، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه على الأرض؛ وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، يكرّر ذلك، وأمر برفعه. فقال له عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبى بكر عبدا، وناضحا [1] ، وشقّ قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردّها عليهم. فقال:
لا، والذى بعث محمدا لا يكون هذا فى ولايتى، ولا خرج أبو بكر منه وأتقلّده أنا.
وقد قيل: إنّه رضى الله عنه، كان يأخذ من بيت المال فى كلّ يوم ثلاثة دراهم أجرة، وإنه قال لعائشة: انظرى يا بنيّة ما زاد فى مال أبيك منذ ولى هذا الأمر فردّيه على المسلمين.
فنظرت فإذا بجرد [2] قطيفة لا تساوى خمسة دراهم، ومحشّة [3] ، فجاء الرّسول إلى عمر بذلك والنّاس حوله، فبكى عمر، وبكى النّاس؛ وقال: رحمك الله أبا بكر! لقد كلّفت من بعدك تعبا طويلا! فقال الناس: اردده يا أمير المؤمنين إلى أهله.
__________
[1] الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء.
[2] جرد قطيفة، قطيفة بالية.
[3] المحشة: حديدة تحرك بها النار.(19/133)
قال: كلّا، لا يخرجه من عنقه فى حياته، وأردّه إلى عنقه بعد وفاته. ثم أمر بذلك، فحمل إلى بيت المال.
وحكى أنّ زوجته اشتهت حلوا، فقال: ليس لنا ما نشترى به.
فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا فى عدّة أيام ما نشترى به؛ قال: افعلى، ففعلت ذلك؛ فاجتمع لها فى أيام كثيرة شىء يسير، فلمّا عرّفته ذلك أخذه، فردّه فى بيت المال. وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما استفضلت فى كلّ يوم، وغرامة لبيت المال فى المدة الماضية من ملك كان له.
قيل: ولمّا حضرته الوفاة أتته عائشة رضى الله عنها وهو يعالج الموت، فتمثّلت:
لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر [1]
فنظر إليها كالغضبان، ثم قال: ليس كذلك، ولكن قولى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
[2] .
إنّى قد نحلتك حائط كذا، وفى نفسى منه! فردّيه على الميراث؛ وقال: إنّما هو أخواك وأختاك! قالت: من الثانية؟ إنّما هى أسماء. قال: ذات بطن بنت خارجه- يعنى زوجته- وكانت حاملا، فولدت أمّ كلثوم بعد موته.
وهو رضى الله عنه أوّل وال فرضت له رعيّته نفقته، وأوّل خليفة ولّى وأبوه حىّ، وأوّل من جمع القرآن بين اللّوحين بمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسماه مصحفا، وهو أوّل من سمّى خليفة؛ رضوان الله عليه.
__________
[1] البيت لحاتم الطائى، ديوانه 18.
[2] سورة ق 19.(19/134)
ذكر أولاد أبى بكر وأزواجه
تزوّج رضى الله عنه فى الجاهلية قتلة- ويقال: قتيلة- بنت عبد العزّى بن عبد [بن] [1] أسعد بن مضر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤىّ، فولدت له عبد الله وأسماء.
وتزوّج أيضا فى الجاهلية أمّ رومان- بفتح الراء وضمها- واسمها زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب ابن أذينه بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة.
أسلمت وهاجرت؛ وكانت قبل أبى بكر تحت عبد الله بن الحارث ابن سخبرة بن جرثومة الخير بن عادية بن مرّة الأزدىّ، وكان قدم بها مكّة، فحالف أبا بكر قبل الإسلام، ثم توفّى عن أمّ رومان، فولدت له الطّفيل، ثم خلف عليها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة؛ فالطّفيل أخوهما لأمّهما، توفيت أم رومان فى ذى الحجة سنة أربع، أو سنة خمس، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قبرها، واستغفر لها. وقال: اللهمّ لم يخف عليك ما لقيت أمّ رومان فيك وفى رسولك.
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: «من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أمّ رومان»
. وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أسماء بنت عميس الخثعميّة؛ وهى أخت ميمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلّم لأمّها، وكانت
__________
[1] من ص، وفى ابن الأثير: قتيلة بنت عبد العزى بن عامر بن لؤى.(19/135)
عند جعفر بن أبى طالب، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك محمد بن أبى بكر، ثم تزوّجها بعده علىّ بن أبى طالب، فولدت له يحيى بن علىّ. وزعم ابن الكلبى أن عون بن علىّ، أمّه أسماء، ولم يقله غيره.
وقيل: كانت أسماء بنت عميس تحت حمزة بن عبد المطلب، فولدت له ابنة تسمّى أمة الله. وقيل: أمامة، ثم خلف عليها بعده شدّاد بن الهاد الليّثى، ثم العتوارىّ، حليف بنى هاشم، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن بن شدّاد، ثم خلف عليها بعد شدّاد جعفر بن أبى طالب. وقيل: التى كانت تحت حمزة وشدّاد سلمى بنت عميس أختها أسماء، والله تعالى أعلم بالصواب.
وتزوّج رضى الله عنه فى الإسلام أيضا أمّ حبيبة بنت خارجة ابن زيد بن أبى زهير الأنصارية، من بنى الحارث بن الخزرج، فولدت له بعد وفاته أمّ كلثوم.
ولنصل هذا الفصل بذكر شيىء من أولاد أبى بكر رضى الله عنهم.
وأمّا عبد الله بن أبى بكر رضى الله عنهما، فكان قديم الإسلام إلّا أنّه لم يسمع له بمشهد إلّا شهوده الفتح وحنينا والطائف.
ورمى بالطائف بسهم؛ قيل: رماه به أبو محجن، فاندمل جرحه، ثم انتقض عليه، فمات فى شوّال سنة إحدى عشرة.
وكان قد ابتاع الحلّة التى أرادوا دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها بسبعة دنانير ليكفّن فيها، فلما حضرته الوفاة، قال: لا تكفّنونى فيها، فلو كان فيها خير كفّن رسول الله(19/136)
صلّى الله عليه وسلم فيها، ودفن بعد الظهر، وصلّى عليه أبوه، ونزل قبره عمر بن الخطاب وطلحة وعبد الرحمن أخوه.
وكان عبد الله رضى الله عنه زوج عاتكة بنت زيد بن عمرو ابن نفيل العدويّة، أخت سعيد بن زيد، وكانت من المهاجرات، وكانت حسناء جميلة بارعة، فأولع بها، وشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها لذلك؛ فقال: هذه الأبيات:
يقولون طلقها وخيّم مكانها ... مقيما، تمنّى النّفس أحلام نائم
وإنّ فراقى أهل بيت جميعهم ... على كبرة منّى لإحدى العظائم
أرانى وأهلى كالعجول تروّحت ... إلى بوّها قبل العشار الرّوائم
فعزم عليه أبوه حتى طلقها، ثم تبعتها نفسه، فهجم عليه أبو بكر رضى الله عنه وهو يقول:
أعاتك لا أنساك ماذرّ شارق ... وما ناح قمرىّ الحمام المطوّق
أعاتك قلبى كلّ يوم وليلة ... إليك بما تخفى النفوس معلّق
فلم أر مثلى طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها فى غير جرم تطلّق
لها خلق جزل ورأى ومنصب ... وخلق سوىّ فى الحياء ومصدق
فرقّ له أبوه، وأمره بمراجعتها فارتجعها؛ وقال هذه الأبيات:
أعاتك قد طلّقت فى غير ريبة ... وروجعت للأمر الذى هو كائن
كذلك أمر الله غاد ورائح ... على النّاس فيه ألفة وتباين
وما زال قلبى للتفرّق طائرا ... وقلبى لما قد قرّب الله ساكن(19/137)
فإنّك ممّن زيّن الله وجهه ... وليس لوجه زانه الله شائن
فلما مات عبد الله صارت عاتكة ترثية بهذه الأبيات:
رزئت بخير النّاس بعد نبيّهم ... وبعد أبى بكر وما كان قصّرا
فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك، ولا ينفك جلدى أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكرّ وأحمى فى الهياج وأصبرا
إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا
ثم تزوّجت بعده زيد بن الخطاب، على اختلاف فى ذلك؛ فقتل عنها يوم اليمامة شهيدا، فتزوّجها عمر بن الخطاب فى سنة اثنتى عشرة، فأولم عليها، ودعا عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم علىّ بن أبى طالب؛ فقال له: دعنى أكلّم عاتكة: قال: نعم، فأخذ بجانب الحذر. ثم قال: يا عديّة نفسها، أين قولك:
فآليت لا تنفكّ عينى حزينة ... عليك ولا ينفك جلدى أغبرا
فبكت. فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟! كلّ النساء يفعلن هذا، ثم قتل عنها عمر، فقالت تبكيه:
عين جودى بعبرة ونحيب ... لا تملّى على الجواد النّجيب
فجعتنى المنون بالفارس المعلم ... يوم الهياج والتّثويب
قل لأهل الضّرّاء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب
وقالت أيضا ترثيه بهذه الأبيات:
منع الرقاد فعاد عينى عائد ... مما تضمّن قلبى المعمود(19/138)
يا ليلة حبست علىّ نجومها ... فسهرتها والشّامتون رقود
قد كان يسهرنى حذارك مرّة ... فاليوم حقّ لعينى التّسهيد
أبكى أمير المؤمنين ودونه ... للزائرين صفائح وصعيد
ثم تزوّجها الزّبير بن العوّام فقتل عنها؛ فقالت ترثيه بهذه الأبيات:
غدر ابن جرموز بفارس بهمّة ... يوم اللّقاء وكان غير معرّد
يا عمرو لو نبّهته لوجدتة ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا بن فقع القردد
ثكلتك أمّك إن ظفرت بمثله ... فيما مضى ممن يروح ويغتدى
والله ربّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة المتعمّد
ثم خطبها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه بعد انقضاء عدّتها، فأرسلت إليه. إنّى لأضنّ بك يا بن عمّ رسول الله عن القتل! وإنما ذكرنا ما ذكرنا من خبر عاتكة فى هذا الموضع على سبيل الاستطراد؛ فالشّىء بالشىء يذكر، فلنذكر عبد الرحمن ابن أبى بكر.
وأمّا عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنه؛ فهو أسنّ ولد أبى بكر، وكان يكنى أبا عبد الله. وقيل: أبا محمد، بابنه محمد الذى يقال له: أبو عتيق، والد عبد الله بن أبى عتيق، وأدرك أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو وأبوه وجدّه، وجدّ أبيه؛ أربعتهم، أجمعوا على أنّ هذه المنقبة ليست(19/139)
لغيرهم، روى البخارىّ رحمه الله، قال: قال موسى بن عقبة: ما نعلم أحدا فى الإسلام أدركوا هم وأبناؤهم النّبىّ صلى الله عليه وسلم أربعة إلّا هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن ابن أبى بكر، وابنه عتيق بن عبد الرحمن.
وعبد الرحمن شقيق عائشة؛ شهد عبد الرحمن بدرا وأحدا مع قومه، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فذكر أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «متّعنى بنفسك» . ثم أسلم عبد الرحمن، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هدنة الحديبية.
وكان اسمه فى الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكان رضى الله عنه من أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، حضر اليمامة مع خالد بن الوليد، فقتل سبعة من كبارهم، منهم محكّم اليمامة طفيل، رماه بسهم فى نحره فقتله.
ولما فتحت دمشق نفله عمر ليلى بنت الجودى، وكان قد رآها قبل ذلك، وكان يتشبّب بها. وشهد عبد الرحمن الجمل مع عائشة، وكان ابنه محمد يومئذ مع علىّ.
قال أبو عمر بن عبد البر: ولما [1] قعد معاوية على المنبر، ودعا إلى بيعة يزيد، كلّمه الحسين بن علىّ وعبد الله بن الزّبير، وعبد الرّحمن بن أبى بكر، فكان كلام عبد الرحمن: أهرقليّة! إذا مات كسرى كان كسرى مكانه! لا نفعل والله ابدا. وبعث إليه معاوية
__________
[1] الاستيعاب 825.(19/140)
بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد فردّها عبد الرحمن.
وقال: أبيع دينى بدنياى! وخرج إلى مكة، فمات بها قبل أن تمّ البيعة ليزيد.
ويقال: إنه [مات] فجأة بموضع يقال له: الحبشىّ [1] على نحو عشرة أميال من مكّة، وحمل إلى مكة فدفن بها.
وقيل: إنّه توفى فى نومة نامها، وكانت وفاته فى سنة ثلاث وخمسين. وقيل: سنة خمس وخمسين، والأول أشهر.
ولما اتّصل خبر وفاته بعائشة أمّ المؤمنين أخته، ظعنت من المدينة حاجّة حتى وقفت على قبره، وتمثّلت بهذه الأبيات:
وكنّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدّهر حتى قبل لن يتصدّعا [2]
فلمّا تفرّقنا كأنّى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقالت: أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث متّ مكانك، ولو حضرتك ما بكيتك! رضى الله عنهما.
وأما محمّد بن أبى بكر رضى الله عنهما، فإنه ولد فى عقب ذى الحجة سنة عشر من الهجرة بذى الحليفة، أو بالشجرة، وسمّته عائشة محمدا، وكنّته أبا القاسم، ثم كان محمد بعد وفاة أبى بكر فى حجر علىّ بن أبى طالب لما تزوّج أمّه أسماء بنت عميس، وكان محمّد على رجّالة علىّ يوم الجمل، وشهد معه أيام صفّين، ثم ولّاه مصر، فقتل بها. واختلفوا فى قتله، فقيل: قتله معاوية بن حديج صبرا،
__________
[1] الحبشى: جبل بأسفل مكة.
[2] البيتان لمتمم بن نورة من قصيدة مفضلية.(19/141)
وذلك فى سنة ثمان وثلاثين؛ وقيل: إنّه لمّا ولّاه على مصر سار إليه عمرو بن العاص من قبل معاوية فاقتتلوا، فانهزم أصحاب محمد وفرّ هو، فدخل خربة فيها حمار ميّت، فدخل فى جوفه، فأحرق فى جوف الحمار؛ وقيل: بل قتله معاوية بن حديج فى المعركة، ثم أحرق فى جوف الحمار بعد ذلك، وقيل: إنّه أتى عمرو بن العاص فقتله صبرا بعد أن قال له: هل معك عهد؟ هل معك عقد من أحد؟
فقال: لا، فأمر به فقتل.
وكان علىّ يثنى على محمد خيرا، ويفضّله؛ لانه كانت له عبادة واجتهاد؛ وكان ممّن دخل على عثمان حين أرادوا قتله، فقال له عثمان:
لو رآك أبوك لم يرض بهذا المقام منك! فخرج عنه وتركه، روى محمد بن طلحة، عن كنانة مولى صفيّة بنت حيىّ- وكان شهد يوم الدّار- أنّه لم ينل محمد بن أبى بكر دم عثمان بشىء. قال:
محمد بن طلحة: فقلت: لكنانة: فلم قيل: إنّه قتله؟ قال: معاذ الله أن يكون قتله! إنّما دخل عليه، فقال له عثمان: يا بن أخى، لست بصاحبى، وكلّمه عثمان بكلام فخرج ولم ينل دمه بشىء. فقلت لكنانة: فمن قتله؟ قال: رجل من أهل مصر يقال له: جبلة ابن الأيهم.
وأمّا عائشة رضى الله عنها فقد تقدّم ذكرها فى السيرة النبوية فى أزواج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّهات المؤمنين رضى الله عنهنّ.
وأما أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنه فهى قديمة الإسلام.
قال ابن إسحاق: أسلمت بعد سبعة عشر، وكانت تحت الزّبير(19/142)
ابن العوام رضى الله عنه، وهاجرت إلى المدينة وهى حامل بعبد الله ابن الزبير، فوضعته بقباء، وكانت تسمّى ذات النّطاقين، وقد تقدّم الخبر فى تسميتها بذلك فى سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة إلى الهجرة.
توفيت أسماء بمكّة فى جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين بعد مقتل ابنها عبد الله، وقد بلغت مائة سنة.
وأمّ كلثوم [1] بنت أبى بكر رضى الله عنه، تزوّجها طلحة بن عبيد الله رضى الله عنهما، فولدت له عائشة بنت طلحة، فتزوجها عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق. ولعائشة بنت طلحة أخبار تقدّم ذكرها، وتزوّجت عائشة بعد عبد الله مصعب بن الزبير، ولم تلد من أحد من أزواجها غير عبد الله، ولدت له عمران، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة، تزوجها الوليد بن عبد الملك، وكان ابنها طلحة أجود أجواد قريش، وله يقول الحزين الدّيلىّ:
فإن تك با طلح أعطيتنى ... عذافرة تستخفّ الضّفارا
فما كان نفعك مرّة ... ولا مرّتين ولكن مرارا
أبوك الذى صدّق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا
وأمّك بيضاء تيميّة ... إذا نسب الناس كانت نضارا
وطلحة هذا، ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه.
وطلحة هذا هو جدّى الذى أنسب إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
__________
[1] ص: «وأما أم كلثوم» .(19/143)
ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه
لمّا ولّى أبو بكر رضى الله عنه، قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال. وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء، فاستعملهما. فمكث عمر سنة لا يأتية رجلان فى محاكمة، وكان يكتب لأبى بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومن حضر، وكان حاجبه شديد مولاه، وكان عامله على مكّة عتّاب بن أسيد، ومات فى اليوم الّذى مات فيه أبو بكر.
وقيل: مات بعده.
وكان على الطّائف عثمان بن أبى العاص، وعلى صنعاء المهاجر ابن أبى أميّة، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية، وعلى زبيد أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء الحضرمىّ.
وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وعبد الله بن ثور إلى جرش، وعياض بن غنم إلى دومة الجندل.
وكان على الشام أبو عبيدة بن الجراح. وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص؛ كلّ رجل منهم على جند وعليهم خالد بن الوليد رضى الله عنه.
وكان خاتمة خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال الزّبير بن بكّار: وكان نقش خاتمه: «نعم القادر الله» . وقال غيره: كان نقش خاتمه: «عبد ذليل لربّ جليل» .(19/144)
وعاش أبو قحافة بعده ستة أشهر وأياما.
وفى المعجم الكبير للطّبرانىّ، قال: ومات أبو بكر، فورثه أبواه، وكانا قد أسلما، وماتت أمّ أبى بكر قبل أبيه، ومات أبوه وله سبع وتسعون سنة.
والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم.(19/145)
ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه
هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح من عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ ابن غالب القرشىّ العدوىّ، ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند كعب بن لؤىّ. وأمة حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم- على ما صححه أبو عمر بن عبد البر-[1] وخطّأ من قال: إنّها بنت هشام بن المغيرة، وقال: لو كانت بنت هشام لكانت أخت أبى جهل، وإنما هى بنت عمّه لأن هاشما وهشاما أخوان، فهاشم والد حنتمة أمّ عمر، وهشام والد الحارث، وأبى جهل، وهاشم ابن المغيرة جدّ عمر لأبيه يقال له: ذو الرّمحين.
ولد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وروى أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن جده، قال: سمعت عمر يقول: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين.
قال الزّبير بن بكّار: كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه من أشرف قريش، وإليه كانت السّفارة فى الجاهلية؛ وذلك أنّ قريشا كانت إذا وقعت بينهم حرب، أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر بعثوه منافرا ومفاخرا، ورضوا به. وقد تقدم خبر إسلامه، وإظهار الله تعالى الإسلام به، وإجابة
دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حين قال: «اللهم أعزّ
__________
[1] الاستيعاب 1144 وما بعدها.(19/146)
الإسلام بأحدا الرجلين عمر بن الخطاب، أو بأبى جهل بن هشام»
. فاستجيب فى عمر.
قال ابن مسعود: مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر.
ولقّب بالفاروق لإعلانه بالإسلام، ففرق بين الحقّ والباطل لمّا أسلم؛ رضى الله عنه.(19/147)
ذكر نبذة من فضائل عمر رضى الله عنه ومناقبه
وفضائله رضى الله عنه كثيرة، ومناقبه جمّة مشهورة، قد قدّمنا منها فى ترجمة أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما ما تقدّم، ولنورد فى هذا الفصل من مناقبه خلاف ذلك:
روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه»
. ونزل القرآن بموافقته فى أشياء؛ منها ما رآه فى أسرى بدر، وفى تحريم الخمر، وفى حجاب أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم، وفى مقام إبراهيم.
وروى عن عقبة بن عامر وأبى هريرة رضى الله عنهما، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو كان بعدى نبىّ لكان عمر»
. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قد كان فى الأمم قبلكم محدّثون، فإن كان فى هذه الأمة أحد فعمر بن الخطاب»
. وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى رأيت الرّىّ يخرج من أظفارى، ثم أعطيت فضلى عمر» . قالوا:
فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم
. وعن جابر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:(19/148)
«دخلت الجنّة، فرأيت فيها دارا- أو قال: قصرا- وسمعت فيه ضوضأة، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فظننت أنى أنا هو؛ فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فلولا غيرتك يا أبا حفص لدخلته. فبكى عمر وقال: عليك يغار يا رسول الله! أو قال عليك أغار!»
. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتنى فى المنام، والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص منها إلى كذا، ومنها إلى كذا، ومرّ علىّ عمر بن الخطاب يجرّ قميصه، فقيل: يا رسول الله، ما أولّت ذلك؟ قال: الدّين»
. ومن رواية الّليث بن سعد، عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: «بينا أنا نائم والنّاس يعرضون علىّ، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثّدى ومنها دون ذلك، وعرض علىّ عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، وعليه قميص يجرّه» ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدّين»
. وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: خير النّاس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، وقال: ما كنّا نبعد أنّ السّكينة [1] تنطق على لسان عمر.
وقال ابن مسعود رضى الله عنه: لو وضع علم أحياء العرب فى كفّة ميزان، ووضع علم عمر لرجح عليهم علم عمر. ولقد كانوا يرون أنّه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق فى نفسى من عمل سنة.
__________
[1] السكينة، هنا: الإلهام.(19/149)
ذكر صفة عمر رضى الله عنه
قد اختلف الناس فى صفة عمر رضى الله عنه؛ فقيل: كان شديد الأدمة [1] طوالا أكثّ اللحية، أصلع أعسر يسرا، يعمل بيديه جميعا، يخضب بالحناء والكتم [2] ، هكذا وصفه زرّ بن حبيش وغيره بأنّه كان شديد الأدمة.
قال أبو عمر: وهو الأكثر عند أهل العلم بأيّام الناس وسيرهم وأخبارهم.
قال [3] : ووصفه أبو رجاء العطاردىّ- وكان مغفلا- فقال:
كان عمر طويلا جسيما أصلع شديد الصّلع، أبيض شديد حمرة العينين، فى عارضيه خفّة، سبلته [4] كثيرة الشعر، فى أطرافها صهبة [5] .
وذكر الواقدىّ من حديث عاصم بن عبيد الله بن عمر عن، أبيه، قال: إنّما جاءتنا الأدمة من قبل أخوالى بنى مظعون، قال:
وكان أبيض، لا يتزوج إلا لطلب الولد.
قال أبو عمر: وعاصم بن عبيد الله لا يحتجّ بحديثه، ولا بأحاديث الواقدىّ. قال: زعم الواقدىّ أنّ سمرة عمر وأدمته
__________
[1] الأدمة: السمرة.
[2] الكتم: نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر.
[3] الاستيعاب 1144: وما بعدها.
[4] السبلة: ما على الشارب من الشعر.
[5] الصهب، محركة والصهبة: حمرة أو شقرة فى الشعر.(19/150)
إنّما جاءت من أكله الزّيت عام الرّمادة [1] قال: وهذا منكر من القول.
وأصحّ ما فى هذا الباب حديث سفيان الثّورىّ، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، قال: رأيت عمر شديد الأدمة. وقال أنس: كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر يخضب بالحناء بحتا.
وعن مجاهد أنّ عمر كان لا يغيّر شيبه.
وقال هلال بن عبد الله: رأيت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، رجلا آدم ضخما كأنّه من رجال سدوس، فى رجليه روح [2] .
وقال بعضهم فى صفته: كان طويلا من النّاس كراكب الجمل، أمهق [3] أصلع.
استخلفه أبو بكر رضى الله عنه قبل وفاته؛ وذلك أنه لمّا نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف. فقال: أخبرنى عن عمر، فقال: إنّه أفضل من رأيك فيه إلّا أنّ فيه غلظة؛ فقال أبو بكر: ذلك لأنّه يرانى رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا ممّا هو عليه، وقد رمقته، فكنت إذا غضبت على رجل أرانى الرّضا عنه، وإذا لنت له أرانى الشّدة عليه. ودعا عثمان فقال له: أخبرنى عن عمر، فقال:
سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما:
__________
[1] قال فى القاموس: عام الرمادة فى أيام عمر هلكت فيه الناس والأموال.
[2] قال فى القاموس: «الروح، بالتحريك: وسعة فى الرجلين دون الفجح، وكان عمر رضى الله عنه أروح» .
[3] الأمهق: الأبيض كالجص لا يخالطه حمرة، وليس بنير.(19/151)
لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركته ما عدوت عثمان، ولا أدرى لعله تارك، والخيرة له ألّا يلى من أموركم شيئا، ولوددت أنّى كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مضى من سلفكم.
ودخل طلحة على أبى بكر فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت [1] ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربّك فسائلك عن رعيّتك؛ فقال: أجلسونى؛ فأجلسوه، فقال: بالله تفرّقنى، أو بالله تخوّفنى! إذا لقيت ربّى فساءلنى قلت:
استخلفت على أهلك خير أهلك. ثم أحضر أبو بكر عثمان بن عفان خاليا، فقال: اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة إلى المسلمين؛ أمّا بعد- ثم أغمى عليه- فكتب عثمان: أما بعد؛ فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علىّ، فقرأ عليه، فكبرّ أبو بكر وقال: خفت أن يختلف الناس إن متّ فى غشيتى، قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله. فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على النّاس، فجمعهم، وأرسل الكتاب مع مولى له، ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه لم يألكم نصحا، فسكت النّاس، فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا.
وكان أبو بكر قد أشرف على الناس، وقال: أترضون بمن
__________
[1] ك: «وقد لقيت» .(19/152)
استخلفت عليكم؟ فإنّى ما استخلفت ذا قرابة، وإنّى قد استخلفت عليكم عمر، فاسمعوا له وأطيعوا، وإنّى والله ما ألوت من جهد الرأى، فقالوا: سمعنا وأطعنا، ثم أحضر أبو بكر عمر، فقال: قد استخلفتك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله، ثم قال: يا عمر؛ إنّ لله حقّا باللّيل لا يقبله فى النّهار، وحقّا فى النّهار لا يقبله فى الليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، ألم تر يا عمر أنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ وثقله عليهم! وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا حقّ إلّا أن يكون ثقيلا! ألم تر يا عمر أنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفّته عليهم، وحقّ الميزان لا يوضع فيه غدا باطل إلّا أن يكون خفيفا! ألم تر يا عمر أنّما نزلت آية الرخاء مع آية الشّدة، وآية الشدّة مع آية الرّخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا؛ لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيديه! ألم تر يا عمر أنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت: إنّى لأرجو ألّا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنّه تجاوز [1] لهم ما كان من شىء، فإذا ذكرتهم قلت: أين عملى من أعمالهم! فإن حفظت وصيتى، فلا يكون غائب أحبّ إليك من الموت، ولست بمعجزه.
وتوفّى أبو بكر رضى الله عنه، فلما دفن صعد عمر المنبر، فخطب النّاس ثم قال: إنّما مثل العرب مثل جمل أنف [2]
__________
[1] ك: «تجاوزتم لهم» .
[2] الجمل الأنف: المأنوف. وفى نهاية ابن الأثير: وهو الذى عقر الخشاش أنفه فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذى به. وقيل: الذلول» .(19/153)
اتّبع قائده، فلينظر قائده حيث يقود. وأمّا أنا فو ربّ الكعبة لأحملنّكم على الطريق.
وكان أول كتاب كتبه إلى أبى عبيدة بن الجراح بتوليته جند خالد بن الوليد، وبعزل خالد لأنّه كان عليه ساخطا خلافة أبى بكر كلها لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل فى حربه، وأوّل ما تكلم به عزل خالد، وقال: لا يلى لى عملا أبدا.
ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه
وفى خلافته رضى الله عنه كثرت الفتوحات على المسلمين، ولنبدأ من ذلك بذكر فتوح دمشق، وما والاه من المدن والثغور والحصون، ثم نذكر فتوحات العراق، وما والاه، ثم فتوح مصر، وما والاها، لتكون الفتوحات متوالية، ولا ينقطع خبرها بأخبار غيرها، ولا يتداخل فتوح بفتوح، ثم نذكر الغزوات إلى أرض الروم، ثم نذكر الوقائع بعد ذلك خلاف الفتوحات والغزوات على حكم السنين على ما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى على ذلك.(19/154)
ذكر فتوح مدينة دمشق
قال: لمّا [1] هزم الله تعالى أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب الحميرىّ، وسار حتى نزل بالصّفّر؛ فأتاه الخبر أن الذين انهزموا من الرّوم اجتمعوا بفحل [2] ، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص؛ فكتب إلى عمر بذلك، فأمره أن يبدأ بدمشق فإنّها حصن الشام وبيت المملكة، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، فإذا فتحت دمشق سار إلى فحل، ثم يسير إلى حمص هو وخالد ابن الوليد، ويترك شرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص بالأردنّ وفلسطين، فأرسل أبو عبيدة طائفة من المسلمين، فنزلوا بالقرب منها، وبثق [3] الرّوم الماء حول فحل، فوحلت الأرض، ونزل عليهم المسلمون، فكان أوّل محصور بالشام أهل فحل، ثم أهل دمشق.
وبعث أبو عبيدة أيضا جندا، فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جندا فكانوا بين دمشق وفلسطين وسار هو وخالد بن الوليد، فقدما دمشق، وعليها نسطاس [4] ؛ فنزل أبو عبيدة على ناحية، وخالد على ناحية؛ ويزيد بن أبى سفيان على ناحية، وحصرهم المسلمون سبعين ليلة، وقاتلوهم بالزّحف والمجانيق، فكان هرقل بالقرب من حمص، فأمّد أهل دمشق بخيل، فمنعتها خيول المسلمين، وخذل
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 293، وما بعدها وتاريخ الطبرى: 434 وما بعدها.
[2] فحل: اسم موضع بالشام.
[3] بشق السيل موضع كذا: خرقه وشقه فانبثق.
[4] ك: «فطاس» .(19/155)
أهل دمشق. وولد للبطريق الذى على دمشق مولود، فصنع وليمة، فأكل القوم وشربوا، فعلم خالد بذلك دون غيره، وكان قد اتّخذ حبالا كهيئة السلاليم، فلمّا أمسى ذلك اليوم نهض بمن معه وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدىّ وأمثاله، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السّور فارتقوا إلينا، واقصدوا [1] الباب؛ وارتقى هو وأصحابه على السّور فى تلك الحبال، ثم انحدر ببعض من معه، وترك بذلك المكان الذى صعد منه من يحميه، وأمرهم بالتكبير، وجاء المسلميون إلى الباب وإلى الحبال، وقصد خالد الباب، وقتل من دونه، ثم قتل البوّابين، وفتح الباب، وقتل من عنده من الروم، ودخل أصحابه المدينة، وثار أهلها لا يدرون ما الخبر، فلما رأوا ذلك قصدوا أبا عبيدة، وبذلوا له الصلح، فقبله منهم، وفتحوا له الباب، وقالوا: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كلّ باب بصلح ممّن يليهم، ودخل خالد عنوة، والتقى والقوّاد وسط المدينه هذا قتلا ونهبا، وهذا صفحا وتسكينا، فأجروا جهة خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة؛ الدينار والعقار ودينار عن كل رأس، واقتسموا الأسلاب.
وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، وأنّه قسّم الغنيمة على من حضر الفتح، وعلى الجنود التى على فحل وحمص وغيرهم، فجاء كتاب عمر إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال جند العراق إلى سعد بن أبى وقاص، فأرسلهم، وأمّر عليهم هاشم بن عتبة، وسار أبو عبيدة إلى فحل. والله أعلم.
__________
[1] ك: «وانضدوا» تحريف.(19/156)
ذكر شىء مما قبل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها
حكى عن كعب الأحبار، قال: أوّل حائط وضع على وجه الأرض بعد الطّوفان حائط حرّان ودمشق ثم بابل.
واختلف فيمن اختطّ دمشق؛ فقيل: إن نوحا عليه السلام اختطها بعد حرّان. وقيل: نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص دمشق، وبنى مدينتهم وسمّاها جيرون.
وقيل: هى إرم ذات العماد.
وقيل: إن جيرون وبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان ابن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما.
وعن وهب بن منبّه، قال: دمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل، وكان حبشيّا، وهبه له نمرود حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، فسماها على اسمه، وكان إبراهيم جعله على كل شىء له، وسكنها الرّوم بعد ذلك بزمان.
وقيل: إنّ بيور اسب الملك بنى مدينة بابل، وبنى مدينة صور، وبنى مدينة دمشق.
وقيل: كان زمن معاوية رجل صالح [بدمشق] [1] ، كان الخضر عليه السلام يأتيه فى أوقات، فبلغ ذلك معاوية، فجاء إلى الرجل وسأله أن يجمع بينه وبين الخضر، فذكر الرجل ذلك للخضر،
__________
[1] تكملة من ص.(19/157)
فأبى؛ فقال معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك؛ وحدّثناه، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق كيف كان، فسأله؛ فقال: نعم صرت إليها، فرأيت موضعها بحرا مستجمعا فيه المياه، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها فرأيتها غيضة، ثم غبت عنها خمسمائة سنة، ثم صرت إليها، فرأيتها بحرا كعادتها الأولى، ثم غبت عنها خمسمائة عام، وصرت إليها فرأيتها قد ابتدىء فيها بالبناء ونفر يسير فيها.
وعن أبى البخترىّ قال: ولد إبراهيم عليه السلام على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمسين سنة من جملة الدهر الذى هو سبعة آلاف سنة، وذلك بعد بنيان دمشق بخمس سنين، وقال: جيرون عند باب مدينة دمشق من بناء سليمان، بنته الشياطين، وكان الشيطان الذى بناه يقال له: جيرون فسمّى به. وقيل: إن دمشق بناها دمشقين [1] غلام كان مع الإسكندر.
وقيل: إنّ الذى بنى دمشق بناها على الكواكب السبعة، وجعل لها سبعة أبواب، وصوّر على باب كيسان زحل، وقيل: وجد فى كتاب: باب كيسان لزحل، وباب شرقى للشمس، وباب توما للزّهرة، وباب الصغير للمشترى، وباب الجابية للمرّيخ، وباب الفراديس لعطارد، وباب الفراديس الآخر المسدود للقمر.
وقيل: إن ملك مصر بنى حصن دمشق؛ الذى هو حول المسجد، وداخل المدينة على مساحة مسجد بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد
__________
[1] معجم البلدان: «دماشق» .(19/158)
بيت المقدس، فوضعها على أبوابه؛ فهذه الأبواب التى على الحصن هى أبواب بيت المقدس. حكاه أبو القاسم علىّ بن الحسن بن هبة الله الدمشقى المعروف بابن عساكر فى تاريخ دمشق.
ونعود إلى فتوح الشام.
ذكر غزوة فحل
وفحل [1] بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة وبعده لام، وهو بلد معروف بغور الشّام. قال: لما فتحت دمشق فى سنة ثلاث عشرة استخلف أبو عبيدة عليها يزيد بن أبى سفيان، وسار إلى فحل، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان. وكانت العرب تسمى هذه الغزوة ذات الرّدغة وبيسان وفحل.
وكان خالد بن الوليد على المقدّمة، وعلى النّاس شرحبيل بن حسنة وعلى المجنّبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار ابن الأزور، وعلى الرّجل عياض بن غنم.
فنزل شرحبيل بالنّاس على فحل، وبينهم وبين الروم تلك الأوحال، وكتبوا إلى عمر، وأقاموا ينتظرون جوابه، فخرج عليهم الرّوم، وعليهم سقلار بن مخراق فأتوهم، والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى الصباح، ويومهم إلى الليل، فانهزم الرّوم، وقد أظلم الليل عليهم، فحاروا، وأصيب رئيسهم سقلار والذى يليه [فيهم] [2] نسطورس، وظفر المسلمون بهم، وركبوهم، فلم يعرف
__________
[1] تاريخ الطبرى 3: 442: وتاريخ بن الأثير 2: 295.
[2] تكملة من ابن الأثير.(19/159)
الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى تلك الأوحال التى كانوا أعدّوها مكيدة للمسلمين، فلحقهم المسلمون، فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل، والقتل بالرّداغ، فأصيبت الروم، وهم ثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلّا الشّريد، فصنع الله للمسلمين وهم كارهون؛ كرهوا البثوق والأوحال، فكانت عونا لهم على عدوّهم، وغنموا أموالهم، وانصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص.
وقد اختلف فى فتح فحل ودمشق، وذكروا أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين على رأى من جعلها بعد اليرموك؛ اجتمع الروم بفحل، فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحت، وكانت فحل فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق فى شهر رجب سنة أربع عشرة.
وقيل: كانت وقعة اليرموك فى سنة خمس عشرة، ولم يكن للروم بعدها وقعة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ذكر فتح بلاد ساحل دمشق
هذه الفتح أورده ابن الأثير [1] فى حوادث سنة ثلاث عشرة، قال: لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبى سفيان على دمشق، وسار إلى فحل، وسار يزيد إلى مدينة صيداء وبيروت، وجبيل وعرقة [2] ، وعلى مقدّمته أخوه معاوية، ففتحها فتحا يسيرا، وجلا كثير من أهلها، وتولّى فتح عرقة معاوية بنفسه فى ولاية يزيد.
ثم غلب الروم على بعض هذه السواحل فى آخر خلافة عمر، وأول خلافة عثمان، وفتحها معاوية، ثم رمّها وشحنها [3] بالمقاتلة.
__________
[1] الكامل لابن الأثير 2: 296.
[2] بعدها فى ابن الأثير: «وهى سواحل دمشق» .
[3] شحنها: جعل فيها الكفاية لضبطها.(19/160)
ذكر فتح بيسان وطبرية
قال: لما [1] قصد أبو عبيدة حمص من فحل، أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان، فقاتلوا أهلها، وقتلوا منها خلقا كثيرا، ثم صالحهم من بقى على صلح دمشق، وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طبريّة، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضا، وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها الناس، وكتبوا بالفتح إلى عمر بن الخطاب، رضى الله تعالى عنه.
ذكر الوقعة بمرج الروم
كانت [2] هذه الوقعة فى سنة خمس عشرة؛ وذلك أنّ أبا عبيدة وخالدا سارا بمن معهما إلى حمص، فنزلا على ذى الكلاع، وبلغ هرقل الخبر فبعث توذر البطريق حتى نزل بمرج الرّوم غرب دمشق، ونزل أبو عبيدة بالمرج أيضا، ونازله يوم نزوله شنس الرّومىّ فى مثل خيل توذر مددا لتوذر، وردءا لأهل حمص، فكان خالد بإزاء توذر، وأبو عبيدة بإزاء شنس، فسار توذر يقصد دمشق، فاتّبعه خالد فى جريدة وبلغ يزيد بن أبى سفيان الخبر [3] ، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد فأخذهم من خلفهم، فقتل توذر،
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 296 وتاريخ الطبرى 3: 443.
[2] تاريخ ابن الأثير 2: 340 وتاريخ الطبرى 3: 598.
[3] ك: «خالد بن أبى سفيان» والمثبت يوافق ما فى ابن الأثير.(19/161)
ولم يفلت من عسكره إلا الشّريد، وغنم المسلمون ما معهم، فقسّمه يزيد فى أصحابه وأصحاب خالد، وعاد يزيد إلى دمشق، ورجع خالد إلى أبى عبيدة، فوجده قد قاتل شنس بمرج الروم، فقتلت الروم مقتلة عظيمة، وقتل شنس، وتبعهم المسلمون إلى حمص بالسير إليها، وسار هو إلى الرّيف، وسار أبو عبيدة إلى حمص.
ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيرز ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس
قال [1] : وفى سنة خمس عشرة سار أبو عبيدة إلى حمص بعد وقعة ملك الروم، فسلك طريق بعلبك وحصرها، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم وصالحهم، وسار عنهم ونزل حمص ومعه خالد بن الوليد، فقاتل أهلها، ولقى المسلمون بردا شديدا، وحاصر الرّوم حصارا طويلا، وكان هرقل قد أرسل إليهم يعدهم المدد، وأمر أهل الجزيرة جميعها بالتّجهيز إلى حمص، وسيّر سعد بن أبى وقاص السرايا من العراق إلى هيت فحصرها، وسار بعضهم إلى قرقيسياء فتفرق أهل الجزيرة، وعادوا عن نجدة أهل حمص، وكان أهل حمص يقولون: تمسّكوا بالمدينة [2] فإنّهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطّعت أقدامهم، فكانت أقدام الروم تسقط ولا يسقط للمسلمين إصبع، فلما خرج الشتاء قام شيخ من الرّوم، ودعاهم إلى مصالحة المسلمين، فلم يجيبوه، وقام آخر فلم يجيبوه، فكبّر المسلمون تكبيرة
__________
[1] ابن الأثير 2: 341.
[2] ابن الأثير: «بمدينتكم» .(19/162)
فانهدم كثير من دور حمص، وتزلزلت حيطانهم، وكبّروا الثانية والثالثة، فأصابهم أعظم من ذلك، وخرج أهلها يطلبون الصلح، ولم يعلم المسلمون بما حدث فيهم، فصالحوهم على صلح دمشق.
وأنزلها أبو عبيدة السّمط بن الأسود الكندىّ فى بنى معاوية، والأشعث ابن ميناس فى السّكون، والمقداد فى بلىّ؛ وغيرهم، وبعث بالأخماس إلى عمر مع عبد الله بن مسعود.
ثم استخلف أبو عبيدة على حمص عبادة بن الصّامت. وسار إلى حماة، فتلقاه أهلها مذعنين، فصالحهم على الجزية عن رءوسهم، والخراج عن أرضهم، ومضى نحو شيزر، فخرجوا إليه فصالحهم على مثل صلح أهل حماة.
وسار إلى معرّة النعمان- وكانت تعرف بمعرّة حمص، ونسبت بعد ذلك إلى النّعمان بن بشير الأنصارى، فصالحوه على مثل صلح أهل حمص.
ثم أتى اللّاذقية فقاتله أهلها، وكان لها باب عظيم يفتحه جمع من الناس، فعسكر المسلمون على بعد منها، ثم أمر فحفر حفائر عظيمة، تستر الحفرة منها الفارسين، ثم أظهروا أنهم عائدون عنها، ورحلوا، فلمّا أجنّهم الليل عادوا، واستتروا فى تلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقيّة [وهم يرون أن المسلمين قد انصرفوا] [1] ، فأخرجوا سرحهم، وانتشروا بظاهر البلد، فلم يرعهم إلّا والمسلمون يصيحون بهم، ودخلوا المدينة معهم،
__________
[1] تكملة من ص.(19/163)
وملكت عنوة، وهرب قوم من النّصارى، ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا إلى أرضهم على خراج يؤدونه قلّوا أو كثروا، فردّت لهم كنيستهم، وبنى المسلمون بها مسجدا جامعا؛ بناه عباده بن الصامت، ثم وسّع فيه بعد ذلك.
ولما فتح المسلمون اللّاذقية جلا أهل جبلة من الرّوم عنها، وفتح المسلمون مع عبادة بن الصّامت أنطرطوس، وكان حصنا فجلا عنه أهله، وبنى معاوية أنطرطوس ومصّرها، وأقطع بها القطائع للمقاتلة، وكذلك فعل ببانياس، وفتحت سلمية؛ وقيل: إنها سميت سلمية لأنّه كان بقربها مدينة تدعى المؤتفكّة، انقلبت بأهلها، ولم يسلم منها غير مائة نفس، فبنوا لأنفسهم مائة منزل، وسميت «سل مائة» ، ثم حرّفها النّاس. فقالوا:
سلمية، ثم مصّرها صالح بن علىّ بن عبد الله بن عباس.
ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية
وما تكلم به عند ذلك قال [1] : ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنّسرين، فلما زحف ونزل الحاضر زحف إليه الروم، وعليهم ميناس، وكان أعظمهم بعد هرقل، فقتل هو ومن معه على دم واحد.
وسار خالد حتى نزل قنّسرين فتحصّن أهلها منه، ثم صالحوه على صلح أهل حمص، فأبى خالد إلّا إخراب المدينة، فأخربها، فلمّا بلغ ذلك هرقل- وكان بالرّها- سار إلى سميساط، ثم منها
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 343 وتاريخ الطبرى 3: 601.(19/164)
إلى القسطنطينية، ولمّا سار علا نشزا، ثم التفت إلى الشّام.
فقال: سلام عليك يا سوريّه، سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إليك رومىّ أبدا إلا خائفا، حتى يولد الولد المشئوم وليته لا يولد، فما أحلى فعله، وأمرّ فتنته على الرّوم. ثم سار وأخذ أهل الحصون التّى بين إسكندونه وطرسوس معه لئلّا يسير المسلمون فى عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وخلت تلك الحصون وشتّتها هرقل، فكان المسلمون إذا مرّوا بها لا يجدون بها أحدا، وربّما كمن عندها الرّوم، فأصابوا غرّة ممّن يتخلف من المسلمين، فاحتاط المسلمون لذلك.
والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المّآب.
ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم
وهى [1] سرمين، وقورس، وتلّ عزاز، ومنبج، ودلوك، ورعبان وبالس، وقاصرين، وجرجومة، ودرب بغراس، ومرعش، وحصن الحدث. قال: ولما فرغ أبو عبيدة من قنّسرين سار إلى حلب فبلغه أنّ أهل قنّسرين مضوا، وغدروا، فوجّه إليهم السّمط الكندىّ فحصرهم وفتحها، ووصل أبو عبيدة إلى حاضر حلب، وهو قريب منها يجمع أصنافا من العرب، فصالحهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك، وأتى حلب وعلى مقدّمته عياض بن الفهرىّ، فتحصّن أهلها، وحصرهم المسلمون، فلم يلبثوا أن طلبوا الصّلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وحصنهم وكنائسهم، فأعطوا ذلك، واستثنى عليهم موضع المسجد.
__________
[1] تاريخ بن الأثير 2: 344.(19/165)
وكان عياض بن غنم هو الذى صالح، فأجاز أبو عبيدة ذلك وقيل: صولحوا على أن يقاسموا منازلهم وكنائسهم، وقد قيل:
إنّ أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا؛ لأنّ أهلها انتقلوا إلى أنطاكية، وتراسلوا فى الصّلح، فلمّا تم الصّلح رجعوا، وسار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية، وقد تحصّن بها خلق كثير من قنّسرين وغيرها، فلما فارقها لقيه جمع العدوّ فهزمهم، وألجأهم إلى المدينة، وحصرها من نواحيها، فصالحوه على الجزية أو الجلاء، فجلا بعضهم وأقام بعضهم ثم نقضوا، فوجّه إليهم عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة، ففتحاها على الصّلح الأول.
وكانت أنطاكية عظيمة الذّكر عند المسلمين، فلما فتحت كتب عمر إلى أبى عبيدة أن يرتّب جماعة من المسلمين بها مرابطة، ولا يحبس عنهم العطاء.
وبلغ أبا عبيدة أنّ جمعا من الرّوم بين معّرة مصرين وحلب، فسار إليهم فهزمهم، وقتل عدة من البطارقة، وسبى وغنم، وفتح معرّة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله، فبلغت بوقة، وفتحت قرى الجومه وسرمين وتبرين، وغلبوا على جميع أرض قنّسرين وأنطاكية.
ثم أتى أبو عبيدة حلب، وقد التاث أهلها، فلم يزل بهم حتى أذعنوا وفتحوا المدينة، وسار يريد قورس، وعلى مقدّمته عياض ابن غنم، فلقيه راهب من أهلها، فسأله الصلح، فبعث به إلى أبى عبيدة، فصالحه على صلح أنطاكية، وبثّ خيله، فغلبوا على جمع أرض قورس، وفتح تلّ عزاز.(19/166)
وكان سلمان بن ربيعة الباهلىّ فى جيش أبى عبيدة، فنزل فى حصن بقورس، يعرف بحصن سلمان، ثمّ سار أبو عبيدة إلى منبج، وعياض على مقدّمته، فلحقه، وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية، وسيّره إلى ناحية دلوك ورعبان، فصالحه أهلها على مثل صلح أهل منبح، واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بخبر الرّوم.
وولّى أبو عبيدة كلّ كورة فتحها عاملا، وضمّ إليه جماعة، وشحن النواحى المخوفة، وسار إلى بالس، وبعث جيشا مع حبيب ابن مسلمة إلى قاصرين فصالحه أهلها على الجزية والجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلاد الرّوم، وأرض الجزيرة، واستولى المسلمون على الشام من هذه النّاحية إلى الفرات، وعاد أبو عبيدة إلى جهة فلسطين وكان بجبل اللّكام مدينة يقال لها: جرجومة، ففتحها حبيب من أنطاكيه صلحا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وسيّر أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلكوا درب بغراس من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم، وهو أوّل من سلكه، فلقى جمعا من الرّوم، ومعهم عرب من غسّان [وتنوخ] [1] وإياد يريدون اللّحاق بهرقل فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة. وسيرّ جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد، ففتحها بالأمان على إجلاء أهلها، فجلاهم وأخربها، وسيّر جيشا مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحدث ففتحه؛ وإنما سمّى الحدث لأنّ المسلمين لقوا عليه غلاما حدثا، فقاتلهم فى أصحابه، فقيل: درب الحدث. وقيل: لأنّ المسلمين أصيبوا به فسمّىّ بذلك، وكان بنو أميّة يسمّونه درب السّلامة، والله أعلم.
__________
[1] من ص.(19/167)
ذكر فتح قيسارية وحصن غزة
وفى [1] سنة خمس عشرة أيضا فتحت قيساريّة. وقيل فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين. وذلك أنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى يزيد بن أبى سفيان: أن يرسل معاوية أخاه إلى قيساريّة، وكتب عمر إلى معاوية يأمره بذلك، فسار معاوية إليها وحصر أهلها، فرجعوا إليه، وقاتلوه، فبلغت قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، ثم كملت فى الهزيمة مائة ألف وفتحها، وكان علقمة بن مجزّز قد حصر القيقار بغزّة وجعل يراسله فلم يشفه أحد ممّا يريد، فأتاه كأنّه رسول علقمة وكلّمه، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له فى الطريق، فإذا مرّ به قتله، ففطن به علقمة، فقال: إنّ معى نفرا يشركوننى فى الرّأى فأنطلق فآتيك بهم، فبعث القيقار إلى ذلك الرّجل ألّا يتعرّض له.
فخرج علقمة من عنده، ولم يعد إليه، وفعل كما فعل عمرو بن العاص رضى الله عنه مع الأرطبون.
__________
[1] تاريخ، ابن الأثير 2: 346، وتاريخ الطبرى 3: 603، 604.(19/168)
ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة
وسبسطية ونابلس وتبنى واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا قال: لمّا [1] انصرف أبو عبيدة وخالد بن الوليد بعد فحل إلى حمص- كما قدّمنا- نزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بيسان فافتتحها، وصالحه أهل الأردنّ، واجتمع عسكر الرّوم بعزّة وأجنادين وبيسان إلى الأرطبون بأجنادين، فسار عمرو وشرحبيل إليهم بها، واستخلف عمرو على الأردنّ أبا الأعور، وكان الأرطبون أدهى الرّوم وأبعدها غورا، وكان قد وضع بالرّملة جندا عظيما، وبإيلياء كذلك، فلمّا بلغ عمر بن الخطّاب الخبر قال: قد رمينا أرطبون الرّوم بأرطبون العرب، فانظروا عمّ تنفرج.
وكان معاوية قد شغل أهل قيساريّة عن عمرو، وجعل عمرو علقمة بن حكيم، ومسروقا العكّى على قتال [أهل] [2] إيلياء، فشغلوا من بها عنه، وتتابعت الأمداد من عمر رضى الله عنه إلى عمرو، فأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على شىء، ولا تشفيه الرّسل، فسار إليه بنفسه، ودخل إليه كأنّه رسول، ففطن به أرطبون، وقال: لا شكّ أن هذا الأمير، أو من يأخذ الأمير
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 346 وما بعدها.
[2] من ص.(19/169)
برأيه، فأمر إنسانا أن يقعد على طريقة، فإذا مرّ به يقتله؛ فأدرك عمرو، فقال له: قد سمعت منىّ، وسمعت منك، وقد وقع قولك منىّ بموقع، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر إلى هذا الوالى لنكاتفه فأرجع وآتيك بهم، فإن رأوا ما رأيت فقد رآه الأمير وأهل العسكر، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم. فقال: نعم، وردّ الرجل الّذى أمره بقتله، فخرج عمرو من عنده، وعلم الرّومىّ بعد مفارقته أنّه خدعه. فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت هذه الواقعة عمر. فقال: لله درّ عمرو! ثم التقوا، واقتتلوا بأجنادين قتالا شديدا كقتال اليرموك، فانهزم أرطبون إلى إيلياء، ففتح عمرو غزّة، وقيل: فتحت غزّة فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، ثم فتح سبسطية ونابلس بأمان على الجزية، وفتح مدينة لدّوتبنى وعمواس، وبيت جبرين ويافا. وقيل: فتحها معاوية رضى الله عنه، وفتح رفح.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(19/170)
ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء
كان [1] فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، سنة خمس عشرة. وقيل: ستّ عشرة، وذلك أن عمرو بن العاص لما فتح هذه الجهات الّتى ذكرناها، أرسل إلى أرطبون رجلا يتكلّم بالرّوميّه، وقال له: اسمع ما يقول، وكتب معه كتابا، فوصل إليه، وأعطاه الكتاب، وعنده وزراؤه، فقال لهم: لا يفتح عمرو شيئا من فلسطين بعد أجنادين. فقالوا له: من أين علمت ذلك؟
فقال: صاحبها صفته كذا وكذا، وذكر صفة عمر، فعاد الرسول إلى عمرو، وأخبره بذلك، فكتب عمرو إلى عمر رضى الله عنهما، يقول: إنى أعالج عدوّا شديدا، وبلادا قد ادّخرت لك، فرأيك.
فعلم عمر أن عمرا لم يقل ذلك إلا لشىء سمعه، فسار عن المدينة.
وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أنّ أبا عبيدة حصر بيت المقدس، فطلب أهله أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشّام، وأن يكون المتولّى للعقد عمر بن الخطّاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة، واستخلف عليها علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكتب عمر إلى أمراء الأجناد بموافاته بالجابية ليوم سمّاه لهم، وأن يستخلفوا على أعمالهم، فوافوه، وكان أوّل من لقيهم يزيد بن أبى سفيان وأبو عبيدة ثم خالد بن الوليد على الخيول، عليهم الدّيباج والحرير، فنزل عن فرسه، ورماهم بالحجارة، وقال:
ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم! إيّاى تستقبلوننى فى هذا
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 347، تاريخ الطبرى 3: 607.(19/171)
الزّى! وانّما شبعتم منذ سنتين [1] ، وتالله لو فعلتم ذلك على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم. فاعتذروا بالسلاح. ودخل عمر الجابية وعمرو وشرحبيل لم يقدما عليه، فبينما عمر بالجابية إذ فزع الناس إلى السّلاح. فقال: ما شانكم؟ قالوا: ألا ترى إلى الخيول والسّيوف! فنظر فإذا كردوسة [2] ، فقال: مستأمنة فلا تراعوا، فإذا هم أهل إيلياء يصالحونه على الجزية، وكان الّذى صالحه العوّام، لأن أرطبون والتّذارق دخلا مصر لمّا بلغهما مقدم عمر.
وأخذوا كتابه على إيلياء وحيّزها، والرّملة وحيّزها. وجعل عمر رضى الله عنه علقمة بن حكيم على نصف فلسطين، وأسكنه الرّملة، وجعل علقمة بن مجزّز على نصفها الآخر، وأسكنه إيلياء، وضمّ عمرو بن العاص وشرحبيل إليه بالجابية، فلقياه راكبا، فقبّلا ركبته، فضمّ كلّ واحد منهما محتضنا [3] ، ثم سار إلى البيت المقدس وركب فرسه، فرأى به عرجا، فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه، فجعل يتجلجل به، فنزل وضرب وجهه وقال:
لا أعلم من علّمك هذه الخيلاء؟ ثم لم يركب برذونا بعده، ولا كان ركبه قبله، وفتحت إيلياء على يديه، ولحق أرطبون ومن أبى الصلح بمصر، فلما ملكها المسلمون قتل. وقيل: بل لحق بالرّوم، فكان على صوائفهم، والتقى هو وصاحب صائفة [4]
__________
[1] ك: «سنتان» .
[2] الكردوسة: القطعة من الخيل، وفى ك وابن الأثير: «كردوس» .
[3] ابن الأثير: «محتضنهما» .
[4] الصائفة: غزوة الروم لأنهم كانوا يغزون صيفا لمكان البرد والثلج من الروم.(19/172)
المسلمين، ومع المسلمين رجل من قريش [1] ، فقطع أرطبون يده، وقتله القرشى [2] ، وفيه يقول ويشير إلى يده:
فإن يكن أرطبون الرّوم أفسدها ... فإنّ فيها بحمد الله منتفعا
وإن يكن أرطبون الرّوم قطّعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا
ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين
قال [3] : وفى سنة سبع عشرة قصد الرّوم أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيّج للرّوم على ذلك أنّ أهل الجزيرة أرسلوا إلى ملكهم، وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوه المعونة بأنفسهم. ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم، ضمّ أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنّسرين إليهم، فاستشاره أبو عبيدة فى المناجزة أو التحصن، فأشار بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم، وكتب إلى عمر بذلك.
وكان عمر قد اتخذ بكل مصر خيولا على قدره من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، والقيّم عليها سلمان بن ربيعة الباهلىّ، وفى كل مصر من الأمصار
__________
[1] ابن الأثير والطبرى: «من قيس يقال له ضريس» .
[2] الطبرى وابن الأثير: «القيسى» .
[3] ابن الأثير 2: 370، وتاريخ الطبرى 3: 599.(19/173)
الثمانية على قدره، فإن كانت ثابتة ركبها المسلمون وساروا إلى أن يتجهز الناس.
وكتب عمر إلى سعد بن أبى وقّاص: أن أندب النّاس مع القعقاع ابن عمرو وسرّحهم من يومهم؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به.
وكتب إليه أيضا: سرّح سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة؛ فإن أهل الجزيرة هم الّذين استثاروا الرّوم على أهل حمص، وأمره أن يسرّح عبد الله بن عتبان إلى نصبين، ثم ليقصدا حرّان والرّها، وأن يسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرّح عياض بن غنم، فإن كانت حرب فأمرهم إلى عياض. فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومه نحو حمص.
وخرج عياض بن غنم ومن ندب إلى الجزيرة، وتوجّه كلّ أمير منهم إلى الكورة الّتى أمّر عليها، وخرج عمر من المدينة، وأتى الجابية إعانة لأبى عبيدة، فلمّا بلغ أهل الجزيرة الّذين أعانوا الرّوم على أهل حمص خبر الجنود الإسلاميّة تفرقوا إلى بلادهم، فأشار خالد على أبى عبيدة بالخروج إلى الرّوم، فخرج إليهم وقاتلهم، وفتح الله عليه، وقدم القعقاع بعد ثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم فى ذلك.
فكتب إليهم: أن أشركوهم فى المغنم، فإنّهم نفروا إليكم، وانفرق لهم عدوّكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا؛ يكفون حوزتهم ويمدّون الأمصار؛ فلمّا فرغوا رجعوا. والله أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(19/174)
ذكر فتح الجزيرة وأرمينية
قد اختلف أصحاب التّواريخ فى فتح الجزيرة وإرمينية، فمنهم من يقول: إن ذلك من فتوح أهل العراق، ومنهم من يقول: إنّها من فتوح أهل الشام. والأكثر على أنّها من فتوح أهل الشّام، ونحن نذكر القولين إن شاء الله تعالى:
فأمّا من قال: إنّها من فتوح العراق فإنّه يقول [1] : إنّ سعد بن أبى وقّاص لمّا أمره عمر رضى الله عنه أن يبعث الجنود التى ذكرناها آنفا إلى نصيبن وحرّان والرّها والجزيرة مع من ذكرنا، وإن كان قتال فأمرهم إلى عياض بن غنم. فخرج عياض ومن معه؛ فأرسل سهيل بن عدىّ إلى الرّقّة، فصالحوه على الذّمّة، وخرج عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه وفعلوا كفعل أهل الرّقّة، وخرج الوليد بن عقبة، فقدم على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، فنهض معهم مسلمهم وكافرهم إلّا إياد بن نزار، فإنّهم دخلوا إلى أرض الرّوم، ولما أخذوا الرّقّة ونصيبين ضمّ عياض إليه سهيلا وعبد الله، وسار بالنّاس إلى حرّان، فأجابه أهلها إلى الجزية، فقبل منهم. ثمّ إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرّها، فأجابوهما إلى الجزية، وأجروا كلّ ما أخذوا من الجزيرة عنوة مجرى الذّمّة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا، ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة.
__________
[1] ابن الأثير 2: 372، تاريخ الطبرى 4: 53.(19/175)
قال: ولمّا بلغ عمر رضى الله عنه أن إيادا دخلت الرّوم، كتب إلى ملك الرّوم يتهدّده إن لم يخرجهم، فأخرجهم، فخرج منهم أربعة آلاف، وتفرّقت [بقيتهم] [1] ممّا يلى الشّام والجزيرة من أرض الرّوم، فكلّ إيادىّ فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف.
وقال ابن إسحاق: إنّ فتح الجزيرة كان فى سنة تسع عشرة، وقال: إنّ عمر كتب إلى سعد بن أبى وقّاص: إذا فتح الله الشّام والعراق فابعث جندا إلى الجزيرة. فبعث عياض بن غنم، و [بعث] [2] معه جيشا فيه أبو موسى الأشعرىّ، وعمر بن سعد ليس له فى الأمر شىء، فسار عياض ونزل على الرّها، فصالحه أهلها وأهل حرّان، ثم بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض إلى دارا فافتتحها. ووجّه عثمان بن أبى العاص إلى إرمينية الرابعة فقاتل أهلها، ثم صالحوه على الجزية، فعلى هذه الأقوال تكون الجزيرة وإرمينية من فتوح العراق.
وأمّا من قال إنّها من فتوح الشام، فإنه يقول: إنّ أبا عبيدة سيّر عياض بن غنم إليها ففتحها، وكان قد كتب إلى عمر بن الخطّاب بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض ابن غنم- إذ أخذ خالد بن الوليد إلى المدينة- فصرفه إليه، فسيّره أبو عبيدة إلى المدينة ففتحها، وذلك فى سنة سبع عشرة.
وقيل: إن أبا عبيدة لمّا توفّى استخلف عياضا، فورد عليه
__________
[1] من ص.
[2] من ص.(19/176)
كتاب عمر بولاية حمص وقنّسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة فى سنة ثمانى عشرة للنّصف من شعبان فى خمسة آلاف، وعلى ميمنته سعيد بن عامر الجمحىّ، وعلى ميسرته صفوان بن المعطّل، وعلى مقدّمته ميسرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرّقّة، فأغاروا على الفلّاحين، وحصروا المدينة، وبثّ عياض السّرايا، فأتوه بالأسرى والأطعمة، وحصرها ستّة أيام، فطلب أهلها الصّلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريّهم وأموالهم ومدينتهم. وقال عياض:
الأرض لنا، قد وطئناها وملكناها، فأقرّها فى أيديهم على الخراج، ووضع عنهم الجزية. ثم سار إلى حرّان فجعل عليها عسكرا، عليهم صفوان وحبيب بن مسلمة، فحصراها، وسار هو إلى الرّها، فقاتله أهلها ثم انهزموا، فحصرهم فى مدينتهم، فطلبوا الصلح فصالحهم، وعاد إلى حرّان، فوجد صفوان وحبيبا قد غلبا على حصون وقرى من أعمالها، فصالحه أهل حرّان على مثل صلح الرّها، وفتح سميساط، وأتى سروج وراس كيفا والأرض البيضاء، فصالحه أهلها على مثل صلح الرّها، ثم غدر أهل سميساط، فرجع إليهم وفتحها، ثم أتى قريّات الفرات، وهى جسر منبج وما يليها ففتحها، وبعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة، على يد حبيب أيضا، ورتّب فيها جندا من المسلمين مع عاملها. قال: وسار عياض إلى رأس عين، وهى عين الوردة، فامتنعت عليه، فتركها، وسار إلى تل موزن ففتحها على صلح الرّها سنة تسع عشرة. وسار إلى آمد، فصالحه أهلها بعد قتال، وفتح ميّافارقين على صلح الرّها ثم سار إلى نصيبين، فقاتله أهلها، ثم صالحوه على مثل ذلك،(19/177)
وفتح طور عبدين، وحصن ماردين. وقصد الموصل، ففتح أحد الحصنين. وقيل: لم يصلها، وأتاه بطريق الزّوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب إلى بدليس، وبلغ خلاط فصالحه بطريقها، وانتهى إلى العين الحامضة من إرمينية، ثم عاد إلى الرّقّة ومضى منها إلى مدينة حمص، ومات فى سنة عشرين؛ فعلى هذا الخبر يكون ذلك من فتوح أهل الشام.
وعلى كلا القولين ففتحها على يد عياض بن غنم.
قال: ولما مات عياض استعمل عمر بن الخطّاب سعيد بن عامر ابن حذيم، فلم يلبث إلّا قليلا ومات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصارىّ، ففتح رأس عين بعد قتال شديد. وقيل: إنّ عياضا أرسل عمير بن سعد إليها ففتحها. وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه أرسل أبا موسى الأشعرىّ إلى رأس عين بعد وفاة عياض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتهى فتوح الشام فى خلافة عمر رضى الله عنه؛ فلنذكر فتوح العراق، وما والاه.
وإذا انتهت الفتوحات إن شاء الله تعالى ذكرنا الغزوات إلى أرض الرّوم من الشام.(19/178)
ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس
وغيرها وغزو الترك وفتح خراسان وسجستان وغير ذلك من الوقائع كان ابتداء أمر العراق أن المثنّى بن حارثة الشّيبانىّ قدم على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه فى مرضه الّذى مات فيه، فأوصى أبو بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش معه إلى العراق، فلمّا أصبح عمر من اللّيلة الّتى مات فيها أبو بكر ندب النّاس إلى الخروج مع المثنّى بن حارثة، ثم بايع النّاس، وندبهم وهو يبايع ثلاثا، فلم ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين، وأكرهها إليهم لشدّة سلطانهم وشوكتهم، فلمّا كان اليوم الرابع ندب النّاس إلى العراق، فكان أوّل منتدب أبو عبيد بن مسعود الثّقفىّ، وهو والد المختار، وسعد بن عبيدة الأنصارىّ، وسليط بن قيس، وهو بدرىّ.
وتتابع النّاس، وتكلّم المثنّى بن حارثة، فقال: أيّها النّاس، لا يعظمنّ عليكم هذا الوجه، فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقّى السّواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها. فأجتمع النّاس. وقيل لعمر: أمّرّ عليهم رجلا من التّابعين من المهاجرين والأنصار، فقال:: والله لا أفعل، إنّما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدوّ، فإذا فعل فعلهم قوم، وتثاقلواهم، كان الّذين ينفرون خفافا وثقالا ويسبقون أولى بالرّياسة، والله لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم أنتدابا، ثم دعا أبا عبيد وسعدا وسليطا. وقال لسعد وسليط: لو سبقتماه لولّيتكما، وأمّر أبا عبيد، وقال له:
اسمع من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر،(19/179)
ولم يمنعنى أن أؤمرّ سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفى التسرّع إلى الحرب ضياع، وأوصى أبا عبيد بجنده.
وأمر عمر المثنّى بالتقدّم حتى يقدم عليه أصحابه، وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الرّدة، ففعلوا، وسار المثنّى فقدم الحيرة فى عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر وقعة النمارق
كانت [1] هذه الوقعة فى سنة ثلاث عشرة، وذلك أن بوران كانت يومئذ على الفرس، فأرسلت إلى رستم بن الفرّخزاذ- وكان على فرج خراسان- فحضر، فتوّجته، ودعت مرازبة فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، فدانت له فارس، فكتب رستم إلى الدّهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث فى كلّ رستاق رجلا يثور بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلى، وبعث نرسى إلى كسكر، وواعدهم يوما، وبعث جندا لمصادمة المثنّى، وبلغ المثنّى الخبر فحذر، وعجل جابان ونزل النّمارق، وثاروا، وخرج أهل الرّساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنّى من الحيرة، فنزل خفّان لئلّا يؤتى من خلفه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد، فلمّا قدم أقام أيّاما ليستريح هو وأصحابه، واجتمع إلى جابان بشر كثير بالنّمارق، فسار إليه أبو عبيد، وجعل المثنّى على الخيل، وكان على مجنّبتى جابان جشنس ماه ومردانشاه، فالتقوا واقتتلوا بالنّمارق قتالا شديدا،
__________
[1] ابن الأثير: 3: 298، الطبرى 3: 446.(19/180)
فهزم الله الفرس، وأسر جابان؛ أسره مطر بن فضّة التّيمى، وأسر مردانشاه، أسره أكتل بن شمّاخ العكلىّ فقتله. وأمّا جابان فإنّه خدع مطرا، وقال: هل لك أن تؤمنّنى، وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك، وكذا وكذا؟ فخلّى عنه، فأخذه المسلمون، وأتوا به أبا عبيد، وأخبروه أنّه جابان، وأشاروا عليه بقتله؛ فقال:
إنّى أخاف الله أن أقتله، وقد أمّنه رجل مسلم، والمسلمون كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم، وتركه.
وأرسل فى طلب من انهزم حتى أدخلوهم عسكر نرسى وقتلوا منهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر وقعة السقاطية بكسكر
ولما [1] لحق من انهزم من الفرس بكسكر وبها نرسى، وهو ابن خالة الملك، سار أبو عبيد إليهم من النّمارق، والمثنّى فى تعبئته التى قاتل فيها، وكان على مجنّبتى نرسى بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما والزّوابى، وكانت بوران ورستم قد بلغهما خبر هزيمة جابان، فبعثا الجالينوس إلى نرسى مددا، فعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا من مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت الفرس، وهرب نرسى وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وجمعوا الغنائم.
وأقام أبو عبيد وبعث المثنّى إلى باروسما، وبعث والقا إلى
__________
[1] ابن الأثير 2: 399، تاريخ الطبرى 3: 450.(19/181)
الزّوابى، وعاصما إلى نهر جور، فهزموا من كان قد تجمّع هناك وأخربوا، وسبوا أهل زندورد وغيرها، وبذل لهم فرّوخ وفرونداذ على أهل باروسما والزّوابى وكسكر ونهر جوبر الخراج معجّلا، فأجابوه إلى ذلك وصاروا صلحا.
والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمد.
ذكر وقعة الجالينوس
قال: ولمّا [1] بعث رستم الجالينوس سار فنزل بباقسياثا من باروسما، فسار إليه أبو عبيد، وهو على تعبئته فالتقوا بها واقتتلوا، فهزم الله الفرس، وهرب الجالينوس، وغلب أبو عبيد على تلك النّواحى، ثمّ ارتحل حتى قدم الحيرة.
ذكر وقعة قس الناطف
ويقال لها: وقعة الجسر ووقعة المروحة ومقتل أبى عبيد وغيره لما [2] رجع الجالينوس إلى رستم منهزما، قال رستم: أىّ العجم أشدّ على العرب؟ قالوا: بهمن جاذوبه المعروف بذى الحاجب- وإنّما قيل له ذو الحاجب لأنّه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعها كبرا- فوجّهه ومعه فيله، وردّ الجالينوس، وقال لبهمن: إن انهزم
__________
[1] ابن الأثير 2: 300، وذكرها الطبرى فى الموقعة التى قبلها.
[2] تاريخ بن الأثير 2: 301، تاريخ الطبرى 3: 454.(19/182)
الجالينوس مرّة ثانية فأضرب عنقه. فأقبل بهمن جاذويه ومعه «درفس كابيان» راية كسرى، وكانت من جلود النّمور، طولها أثنا عشر ذراعا فى عرض ثمانية أذرع، فنزل بقسّ النّاطف، وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت امرأته دومة أمّ المختار أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت أبا عبيد بما رأت؛ فقال: هذه إن شاء الله الشّهادة، وعهد إلى النّاس وقال: إن قتلت فعلى النّاس فلان، فإن قتل ففلان ...
حتى أمّر الّذين شربوا من الإناء، ثم قال: إن قتل [أبو القاسم] [1] فعلى النّاس المثنّى. وبعث إليهم بهمن جاذويه يقول: إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبره إليكم؛ فنهاه الناس عن العبور، فأبى وترك الرأى، وقال: لا تكونوا أجرأ على الموت منّا، فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، فالتقوا واقتتلوا، فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة وإلى خيل الفرس، عليهم التّجافيف، رأت شيئا منكرا لم يكن رأت مثله، فلم تقدم عليهم، فاشتدّ الأمر على المسلمين، فترجّل أبو عبيد والناس، ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسّيوف، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلّا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطنها، واقلبوا عنها أهلها؛ ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ودفع الّذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك، فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله، وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبى عبيد فضربه أبو عبيد بالسّيف، وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه وقام عليه، فلمّا بصر به
__________
[1] من ص.(19/183)
الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثمّ أخذ الّلواء الّذى كان أمّره بعده، فقاتل الفيل حتى تنحّى عن أبى عبيد، فاجترّه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الّذى بعد أبى عبيد، وتتابع سبعة من ثقيف كلهم يأخذ الّلواء ويقاتل حتّى يموت، ثم أخذ المثنّى اللواء فهرب عنه النّاس، فلمّا رأى عبد الله بن مرثد الثّقفىّ ذلك بادر إلى الجسر فقطعه، وقال: أيها النّاس، موتوا على مامات عليه أمراؤكم أو تظفروا. وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق، وحمى المثنّى وفرسان من المسلمين الناس، وقاتل أبو زبيد الطائىّ حميّة للعرب، وكان نصرانيّا، ثم جاء العلوج وعقدوا الجسر، وعبر النّاس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنّى وحمى جانبه، فلما عبر ارفضّ عنه أهل المدينة، وبقى المثنّى فى قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه. وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقى ثلاثة آلاف، وقتل من الفرس ستّة آلاف، وأخبر عمر عمّن سار فى البلاد استحياء من الهزيمة، فاشتدّ ذلك عليه، وقال: الّلهم إنّ كلّ مسلم فى حلّ منىّ، أنا فئة كلّ مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان أنحاز إلىّ لكنت له فئة [1] .
قال: وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس، وأنّهم قد ثاروا برستم، فرجع إلى المدائن.
وكانت هذه الوقعة فى شعبان سنة ثلاث عشرة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] فئة، أى موئل.(19/184)
ذكر وقعة أليس الصغرى
قال [1] : لمّا عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاء به من الخبر، فخرجا حتى إذا أخذا بالطريق، وبلغ المثنّى فعلهما، فاستخلف على النّاس عاصم بن عمر، وخرج فى جريدة [2] خيل يريدهما، فظنّا أنّه هارب، فاعترضاه، فأخذهما أسيرين. وخرج أهل ألّيس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى، فعقد لهم بها ذمّة، وقتلهما وقتل الأسرى. والله تعالى أعلم.
ذكر وقعة البويب
ولما [3] بلغ عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وقعة الجسر، ندب الناس إلى المثنّى، وكان فيمن ندب بجيلة، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله، فأتوا العراق، وقالوا: لا نكون إلّا بالشّام، فعزم عليهم عمر ونفّلهم ربع الخمس، فأجابوا، وسيّرهم إلى المثنّى، وبعث عصمة بن عبد الله الضّبّىّ فيمن معه، وكتب إلى أهل الرّدّة فلم يأته أحد إلّا رمى به المثنّى. وبعث المثنّى الرّسل إلى من يليه من العرب، فتوافوا إليه فى جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النّمرىّ فى جمع عظيم من النّمر، نصارى، وقالوا: نقاتل مع قومنا. وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذانىّ إلى الحيرة، فسمع المثنّى ذلك وهو بين القادسيّة وخفّان، فاستبطن فرات بادقلى،
__________
[1] ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 459.
[2] الجريدة: خيل لا رجالة فيها.
[3] تاريخ ابن الأثير 2: 303، تاريخ الطبرى 3: 460.(19/185)
وكتب إلى جرير وعصمة ومن أتاه من الأمداد بالخبر، وأمرهم بقصد البويب، ومهران بإزائه من وراء الفرات، فأجتمع المسلمون بالبويب ممّا يلى الكوفة اليوم، وأرسل مهران إلى المثنّى يقول: إما أن تعبر إلينا، وإمّا أن نعبر إليك، فقال المثنّى: اعبروا، فعبر مهران فنزل بشاطئ الفرات، وعبّى المثنّى أصحابه، وكان فى شهر رمضان، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوّهم، فأفطروا، وأقبل الفرس فى ثلاثة صفوف، مع كلّ صفّ فيل، ورجّالتهم أمام فيلهم، ولهم زجل [1] .
فقال المثنّى: إنّ الذى تسمعون فشل، فالزموا الصّمت، ثم التقوا، واقتتلوا أشدّ قتال وأعظمه، فقتل مهران؛ قتله غلام نصرانىّ من تغلب، واستولى على فرسه، فجعل المثنّى سلبه لصاحب خيله، وكان التّغلبى قد جلب خيلا هو وجماعة من تغلب، فلمّا رأوا القتال قاتلوا مع العرب، وانهزمت الفرس، وسبقهم المثنّى إلى الجسر فأفترق الأعاجم مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين، وقتل منهم قتلى كثيرة، فكانوا يحزرون [2] القتلى مائة ألف، وسمّى ذلك اليوم يوم الأعشار، وأحصى مائة رجل، قتل كلّ رجل منهم عشرة. وتبعهم المسلمون إلى الّليل، ومن الغد إلى الّليل، وأرسل المثنّى الخيل فى طلب العجم، فبلغوا السّيب، وغنموا من الغنائم والسّبى والبقر شيئا كثيرا، فقسّمه المثنّى فيهم، ونفّل أهل البلاء، وأعطى بجيلة ربع الخمس. وأرسل إليه الّذين تبعوا
__________
[1] زجل، أى صوت.
[2] الحزر: التخمين.(19/186)
من انهزم يعرّفونه بسلامتهم، وأنّه لا مانع دون القوم، ويستأذنونه فى الإقدام، فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط؛ فتحصّن أهله منهم، وأستباحوا القرى، ورجعت مسالح الفرس إليهم، وسرّهم أن يتركوا ما وراء دجلة.
ذكر خبر سوقى الخنافس وبغداد
قال [1] : ثم خلّف المثنّى بالحيرة بشير بن الخصاصيّة، وسار يمخر السّواد، وأرسل إلى ميسان ودست ميسان، وأدنى المسالح، ونزل ألّيس (قرية من قرى الأنبار) ، وجاء المثنّى رجلان أحدهما أنبارىّ فدلّه على سوق الخنافس، والثانى حيرىّ ودلّه على سوق بغداد، فبدأ بسوق الخنافس؛ لأنّها كانت تقوم قبل سوق بغداد، وكان يجتمع بها تجّار مدائن كسرى والسّواد، وتخفرهم ربيعة وقضاعة؛ فأغار المثنّى على الخنافس يوم سوقها، فانتسف السّوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع فأتى الأنبار، فنزل أهلها إليه، وأتوه بالأعلاف والزّاد، وأخذ منهم الأدلّاء على سوق بغداد، وسار ليلا، فصبّحهم فى أسواقهم فوضع السّيف فيهم، وأخذ ما شاء، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلّا الذهب والفضّة والحرّ من كلّ شىء، ثم عاد راجعا حتى أتى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السّواد، ويشنّون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسور مثقب إلى عين التّمر، ولمّا رجع المثنّى إلى الأنبار بعث المضارب [2] إلى الكباث، وعليه فارس العنّاب التّغلبىّ، ثم لحقهم
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 306، الطبرى 3: 472.
[2] ابن الأثير: «المضارب العجلى» .(19/187)
المثنّى فسار معهم، فوجدوا الكباث وقد سار من كان به عنه، فسار المسلمون خلفهم، فقتلوا فى أخريات أصحاب فارس العناب، وأكثروا القتل ورجعوا إلى الأنبار، وسرّح المثنّى فرات بن حيّان التغلبى وعتيبة بن النّهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء بنى تغلب بصفّين، ثم اتّبعهما واستخلف على النّاس عمرو بن أبى سلمى الهجيمىّ، فلما دنوا من صفّين فرّ من بها، وعبروا الفرات إلى الجزيرة وفنى الزّاد الّذى كان مع المثنّى وأصحابه، فأكلوا رواحلهم إلّا ما لا بدّ منه حتّى جلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دبا وحوران فقتلوا من بها، وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء، وأخذوا العير فقال لهم المثنّى: دلّونى؛ فقال أحدهم: أمّنونى على أهلى ومالى، وأدلّكم على حىّ من تغلب، فأمّنه المثنّى، وسار بهم يومه، فهجم العشىّ على القوم والنّعم صادرة عن الماء، وأصحابها جلوس بأفنية البيوت، فقتل المقاتلة، وسبى الذّرّية، واستاق الأموال.
وأخبر المثنّى أنّ جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة؛ فخرج المثنّى وعلى مجنّبتيه النّعمان بن عوف ومطر الشّيبانيّان، وعلى مقدّمته حذيفة بن محصن الغلفانىّ، فساروا فى طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاءوا من النّعم، وعادوا إلى الأنبار.
ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتّى أغاروا على صفّين، وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم فى الماء، فجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمران [1]
__________
[1] يذمران: يحضان.(19/188)
الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكّرانهم يوما من أيّام الجاهليّة، كانوا حرّقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنّى وقد غرّقوهم. فبلغ ذلك عمر، فبعث إلى عتيبة وفرات، فاستدعاهما وسألهما عن قولهما، فأخبراه أنّهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل [1] ، إنّما هو مثل، فاستحلفهما على ذلك وردّهما إلى المثنّى.
وكانت هذه الوقائع الّتى ذكرناها بالعراق فى سنة ثلاث عشرة.
ثمّ كانت وقعة القادسيّة، والله أعلم.
ذكر خبر القادسية وأيامها
كان [2] ابتداء أمر القادسيّة أنّ الفرس لمّا مات ملكها أزدشير تفرّقت آراؤها، وكان المسلمون قد فتحوا من بلادهم ما ذكرناه فى خلافة أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فى حياة أزدشير، ثم تابعوا الغارات عليهم، فاجتمعت الفرس وقالوا لرستم والفيرزان- وهما على أهل فارس-: لا زال بكما الاختلاف حتى أوهنتما [3] أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم.
فاجتمعوا واستدعوا نساء كسرى وسراريّه، وكشفوا عمّن بقى من نسل الملوك الأكاسرة، فدلّوهم على يزدجرد، من ولد شهريار ابن كسرى، فاستدعوه وملّكوه عليهم وأطاعوه. فبلغ خبرهم المثنّى ابن حارثة، فكتب بذلك إلى عمر، فلم يصل الكتاب حتّى نقض
__________
[1] ذحل، أى وتر، وفى ك: «دحل» تحريف.
[2] ابن الأثير 2: 309 وما بعدها، تاريخ الطبرى 3: 477 وما بعدها، وذكر ذلك فى حوادث سنة 14.
[3] ص: «أوهيتما» .(19/189)
من كان له عهد من أهل السّواد، فخرج المثنّى حتّى نزل بذى قار، ونزل النّاس بالطّفّ فى عسكر واحد.
ولما وصل كتاب المثنّى إلى عمر قال: والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب؛ وكتب إلى عمّاله على العرب: ألّا يدعوا من له نجدة أو رأى، أو فرس، أو سلاح إلّا وجّهوه إليه، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.
فاجتمع إليه النّاس، ولم يدع رئيسا ولا ذا رأى وشرف، ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا استشارهم فى الخروج بنفسه لغزو الفرس، وأجمع رأى وجوه أصحاب النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث رجلا من المسلمين ويضمّ إليه الجنود، واتّفق رأيهم على سعد بن أبى وقّاص، وكان على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوى الرأى والنّجدة والسّلاح، فجاء كتابه إلى عمر يقول: قد انتخبت لك ألف فارس، كلّهم له نجدة ورأى؛ إليهم انتهت أحسابهم.
فأمره بحرب العراق وضمّ إليه الجيوش، فخرج فى أربعة آلاف، وأمدّه عمر بعد خروجه بألفى يمانىّ، وألفى نجدىّ. وكان المثنّى بن حارثة فى ثمانية آلاف، فلمّا سار سعد توفّى المثنّى قبل وصوله، واجتمع مع سعد ثمانية آلاف، ثم أتته قبائل العرب، فكان جميع من شهد القادسيّة بضعة وثلاثين ألفا؛ منهم تسعة وتسعون بدريا، وثلاثمائة وبضعة عشر ممّن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرّضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممّن كان شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصّحابة، فعبّأهم سعد بن أبى وقّاص، وأمّر الأمراء، وعرّف على(19/190)
كلّ عشرة عريفا، وجعل أهل السّابقة على الرّايات؛ وسار بالجيوش حتى نزل القادسيّة بين العتيق والخندق بحيال القنطرة، وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس أحد، فأرسل عاصم بن عمرو يطلب غنما أو بقرا، فلم يقدر عليها، وتحصّن منه من هناك، فأصاب رجلا بجانب أجمة، فسأله عن البقر والغنم، فقال: لا أعلم؛ فصاح ثور من الأجمة: كذب عدوّ الله، ها نحن، فدخل عدوّ الله، فاستاق البقر وأتى بها العسكر، فقسّمها سعد على النّاس. ثم بثّ الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما قام بهم زمانا، فاستغاث أهل السّواد إلى يزدجرد وقالوا: إمّا أن تدفع العرب، وإمّا أن نعطيهم ما بأيدينا، فأرسل إلى رستم وأمره بالمسير للقاء المسلمين، فاستعفاه من ذلك وسأله أن يجهّز الجالينوس، فأبى يزدجرد إلّا مسيره، فعسكر بساباط، ثم استعفاه ثانية من المسير، فأبى عليه.
واتّصلت الأخبار بسعد، فكتب إلى عمر فأجابه: لا تكربنّك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله، وتوكّل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والجلد يدعونه، فإنّ الله تعالى جاعل دعاءهم توهينا لهم؛ فأرسل نفرا، منهم: النّعمان بن مقرّن، وبسر بن أبى رهم، وحملة بن جويّة، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيّان، وعدىّ بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة الأسدىّ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسّان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب، والمغيرة بن شعبة، والمثنّى بن حارثة، إلى(19/191)
يزدجرد دعاة، فقدموا عليه، فأحضر وزراءه، وأحضر رستم، واستشارهم فيما يقول لهم، وأجتمع النّاس ينظرون إليهم، ثم أذن إليهم، وأحضر التّرجمان، وقال له: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا، والولوع ببلادنا؟ من أجل أنّنا تشاغلنا عنكم أجترأتم علينا! فقال النّعمان بن مقرّن لأصحابه: إن شئتم تكلّمت عنكم، ومن شاء آثرته. قالوا: بل تكلّم؛ فقال: إنّ الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير. وينهانا عن الشّرّ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلّا وقاربه منها فرقة، وتباعد عنه فرقه، ثم أمر أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين؛ مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرّفنا جميعا فضل ما جاء به على الّذى كنّا عليه من العداوة والضّيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهوين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كلّه، فإن أبيتم فأمر من الشّر هو أهون من آخر شرّ منه، الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمنا عليه. على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم.
وإن بذلتم الجزية قبلنا ومنعناكم، وإلّا قاتلناكم.
فتكلّم يزدجرد فقال: إنّى لا أعلم أمّة فى الأرض أشقى ولا أقلّ عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضّواحى فيكفوننا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غدر لحقكم فلا يغرّنكم منّا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم،(19/192)
وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فأسكت [1] القوم.
فقام المغيرة بن زرارة فقال: أيّها الملك؛ إنّ هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وليس كلّ ما أرسلوا به قالوه، ولا كلّ ما تكلّمت به أجابوك عليه، فجاوبنى لأكون الّذى أبلغك وهم يشهدون على ذلك. وأمّا ما ذكرت من سوء الحال فهى على ما وصفت أو أشدّ، ثمّ ذكر من سوء عيش العرب، وإرسال النبىّ صلّى الله عليه وسلم إليهم نحو قول النّعمان، وقتال من خالفهم أو الجزية؛ ثم قال: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنحّى نفسك.
فقال: لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكم، ثم قال: لا شىء لكم عندى؛ واستدعى بوقر [1] من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثمّ سوقوه حتّى يخرج من باب المدينة. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنّى مرسل إليكم [رستم] [3] حتى يدفنكم ويدفنه معكم فى خندق القادسيّة، ثم أورده بلادكم حتّى أشغلكم فى أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور.
فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب، وقال: أنا أشرفهم، أنا سيّد هؤلاء؛ فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب، وقال لسعد عند عوده: أبشر فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم [4] .
__________
[1] أسكت، مثل سكت.
[2] الوقر: الحمل الثقيل.
[3] من ص.
[4] الأقاليد: جمع أقلود وهو المفتاح.(19/193)
وقال يزدجرد لرسنم: ما كنت أرى أنّ فى العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابا منهم، ولقد صدقنى القوم، لقد وعدوا أمرا ليدركنّه أو ليموتنّ عليه، على أنّى وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التّراب على رأسه.
فقال رستم: أيّها الملك؛ إنّه أعقلهم. وخرج رستم وبعث فى أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرّسول تلافينا أرضنا، وإن أعزوه سلبكم الله أرضكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم.
فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شكّ، وكان منجّما كاهنا.
ولما سار الوفد أغار سواد بن مالك التّميمىّ على النّجاف والفراض، فاستاق ثلاثمائة دابّة من بعير وحمار وثور، وأوقرها سمكا، وصبّح العسكر، فقسّمه سعد بين النّاس؛ فسمّى يوم الحيتان. وكانت السّرايا تسرى إلى طلب الّلحوم، فإنّ الطّعام كان كثيرا عندهم.
وكانوا يسمّون الأيّام بها، منها يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سريّة أخرى، فأغاروا فأصابوا إبلّا لبنى تغلب والنّمر فأستاقوها.
وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدّمته الجالينوس فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستّين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وجعل فى الميمنة الهرمزان، وفى الميسرة مهران بن بهرام الرازىّ. وأرسل سعد السّرايا ورستم بالنّجف، والجالينوس بين النّجف والسّيلحين.
وطاف فى السّواد، فبعث سوادا وحميضة كلّ منهما فى مائة، فأغاروا على النّهرين، وبلغ رستم الخبر، فأرسل إليهم خيلا، وسمع سعد أنّ خيله قد وغلت، فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا الأزدىّ فى آثارهم،(19/194)
فلحقهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلّصوا ما بأيديهم، فلمّا رأته الفرس هربوا، ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعد عمرو ابن معدى كرب وطليحة الأسدىّ طليعة، فسارا فى عشرة، فلم يسيروا إلّا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطّفوف قد ملئوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلّا التقدّم، ومضى حتّى دخل عسكر رستم، وبات فيه، فهتك أطناب بيت رجل واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحلّ فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به [1] النّاس، فركبوا فى طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة، ثم آخر فقتله، ثم ثالث، فرأى مصرع صاحبيه وهما أبنا عمّه، فازداد حنقا، فلحق به طليحة، فكرّ عليه طليحة فأسره، ولحق النّاس، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارس وأخبره الخبر، فسأل التّرجمان الفارسىّ فطلب الأمان، فأمّنه سعد، فقال:
أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمّن قتل؛ باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن، وسمعت بالأبطال، ولم أسمع بمثل هذا، أنّ رجلا قطع عسكرين إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند، وهتك عليهم البيوت، فلمّا أدركناه قتل الأوّل، وهو يعدّ بألف فارس، ثم الثّانى وهو نظيره، ثم أدركته أنا، وما خلّفت بعدى من يعدلنى، وأنا الثّائر بالقتيلين، فرأيت الموت
__________
[1] نذر به: علم به.(19/195)
واستؤسرت، ثم أخبره عن الفرس. وأسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسيّة، وسمّاه سعد مسلما.
ثم سار رستم وقدّم الجالينوس وذا الحاجب حتى وصل إلى القادسيّة، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله أربعة أشهر، رجاء أن يضجروا فينصرفوا، ووقف على العتيق بحيال [عسكر] [1] سعد، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه.
وبات رستم ليلته. ثم أصبح وأرسل إلى سعد أن أرسل إلينا رجلا نكلّمه ويكلمنا، فأرسل إليه ربعىّ بن عامر، فأظهر رستم زينته، وجلس على سرير من ذهب، وبسط البسط والنّمارق والوسائد المنسوجة بالذّهب، وأقبل ربعىّ على فرسه، وسيفه فى خرقة، ورمحه مشدود بعصب [وقدّ] [1] ، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، ونزل وسطها بوسادتين شقّهما، وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التّهاون، وعليه درع؛ وأخذ عباءة بعيره فتدرّعها وشدّها على وسطه، فقالوا له: ضع سلاحك؛ فقال: لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى، فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له.
فأقبل يتوكّأ على رمحه ويقارب خطوة، فلم يدع نمرقة ولا بساطا إلّا أفسده وهتكه، فلمّا دنا من رستم جلس على الأرض، وأركز رمحه على البسط؛ فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنّا لا نستحلّ العقود على زينتكم، فقال له التّرجمان- واسمه عبود
__________
[1] من ص.
[2] من ص.(19/196)
من أهل الحيرة- ما جاء بكم؟ قال: الله، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أباه قاتلناه حتى يقضى الله إلى الجنّة أو الظّفر.
فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتّى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإنّ ممّا سنّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألّا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن متردّدون عنكم ثلاثا فانظر فى أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إمّا الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فتقبل؟؟؟ فنكفّ عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك؛ أو المنابذة فى اليوم الرّابع إلّا أن تبدأنا، وأنا كفيل بذلك عن أصحابى.
فقال: أسيّد أصحابك أنت؟ قال: لا، ولكنّا كالجسد الواحد، بعضنا من بعض، يجير أدنانا على أعلانا.
فخلا رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم أو سمعتم كلاما قطّ أعزّ وأوضح من كلام هذا الرّجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسّيرة؛ إنّ العرب تستخفّ بالّلباس، وتصون الأحساب؛ ليسوا مثلكم.
فلمّا كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن أبعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل فى نحو من ذلك(19/197)
الزّىّ، فلم ينزل عن فرسه حتّى وقف على رستم. فقال له: انزل، قال: لا أفعل، فقال: ما جاء بك ولم يأت الأوّل؟ قال: إنّ أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا فى الشّدة والرّخاء، وهذه نوبتى. فقال:
ما جاء بكم؟ فأجابه نحو الأوّل. فطلب رستم الموادعة إلى يوم ما.
فقال: نعم، ثلاثا من أمس، فردّه.
وأقبل رستم على أصحابه فقال: ويحكم! ألا ترون ما أرى؟
جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقّر ما نعظّم، وأقام فرسه على زبرجنا [1] ؛ وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو فى يمن الطائر، يقوم على أرضنا دوننا.
فلمّا كان الغد أرسل أن ابعثوا لنا رجلا، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة، فأقبل عليهم، وعليهم التّيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة سهم [2] ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه [3] ؛ فقال: قد كان يبلغنا عنكم الأحلام [4] ، ولا أرى قوما أسفه منكم؛ إنّا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنّكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الّذى صنعتم أن تخبرونى أنّ بعضكم أرباب بعض؛ وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، وأنا لم آتكم ولكن دعوتمونى، اليوم علمت
__________
[1] الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر.
[2] الغلوة: مقدار مرمى السهم.
[3] معكوه: دلكوه بالتراب.
[4] الأحلام: جمع حلم وهو العقل.(19/198)
أنّكم مغلوبون، وأنّ ملكا لا يقوم على هذه السّيرة ولا [على] [1] هذه العقول.
فقالت السّفلة: صدق والله الأعرابىّ.
وقالت الدّهاقين [2] : والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمّة! ثمّ تكلّم رستم، فحمد قوته، وعظّم أمرهم، وذكر تمكّنهم فى البلاد، وقوّة سلطانهم، وذكر معيشة العرب وما هم عليه من الفاقة، وقال: كنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم، فنأمر لكم بشىء من التّمر والشّعير، ثم نردّكم، وقد علمت أنّه لم يحملكم على ما صنعتم إلّا الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكلّ رجل منكم بوقر [3] تمر وتنصرفون عنا؛ فإنّى لست أشتهى أن أقتلكم.
فتكلّم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ الله خلق كلّ شىء ورزقه، فمن صنع شيئا فإنّما هو بصنعه. فأمّا الّذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه، والله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم؛ وأمّا الّذى ذكرت فينا من سوء الحال والضيق فلسنا ننكره، والله ابتلانا به، والدّنيا دول، ولم يزل أهل الرّخاء يتوقّعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاكم الله تعالى لكان شكركم يقصر عمّا أوتيتم، فأسلمكم ضعف الشكر
__________
[1] من ص وابن الأثير.
[2] الدهاقين: جمع دهقان. وهو زعيم فلا حى العجم، أو رئيس الإقليم.
[3] الوقر، بالكسر: الحمل.(19/199)
إلى تغيّر الحال، ولو كنّا فيما ابتلينا به أهل الكفر لكان عظيم ما أبتلينا به مستجلبا من الله رحمة يردّه بها عنّا؛ إنّ الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا؛ ثم ذكر مثل ما تقدّم من ذكر الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وقال: إنّ عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه.
فقال رستم إذا تموتون دونه! فقال المغيرة: يدخل من قتل منّا الجنّة، ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقى منّا بمن بقى منكم.
فاستشاط رستم غضبا، ثم حلف ألّا يرتفع الصّبح غدا حتى أقتلكم أجمعين.
وأنصرف المغيرة، وخلا رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرّجال، صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرّهم ألّا يختلفوا، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شىء. فلجّوا وتجلّدوا، فقال: أطيعونى يا أهل فارس؛ إنّى لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردّها.
ثم أرسل إليه سعد ثلاثة من ذوى الرّأى، فقالوا له: إنّ أميرنا يدعوك لما هو خير لنا ولك؛ والعافية أن تقبل ما دعاك إليه، ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك، وداركم لكم وأمركم فيكم، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا، وكنّا عونا لكم على من أرادكم، فاتّق الله ولا يكوننّ هلاك قومك على يديك، وليس بينك وبين أن نغتبط بهذا الأمر إلّا أن تدخل فيه، وتطرد [به] [1] الشيطان عنك؛ فقال
__________
[1] من ص.(19/200)
لهم: إنّ الأمثال أوضح من كثير من الكلام، إنّكم كنتم أهل جهد وقشف [1] ، لا تنتصفون ولا تمتنعون، فلم نسىء جواركم، وكنّا نميركم [2] ونحسن إليكم، فلمّا طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، وصفتم لقومكم ذلك، ووعدتموهم ثم أتيتمونا، وإنّما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال:
وما ثعلب! فانطلق الثّعلب فدعا الثّعالب إلى ذلك الكرم، فلمّا اجتمعوا إليه شدّ صاحب الكرم النقب الذى كنّ يدخلن منه فقتلهنّ.
فقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا ونحن نميركم؛ فإنّى لا أشتهى أن أقتلكم. ومثلكم أيضا كالذّباب يرى العسل فيقول: من يوصلنى إليه وله درهمان، فإذا دخله غرق ونشب [3] ، فيقول: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟
وقال: ما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عدّة! قال: فتكلّم القوم، وذكروا سوء حالهم، وما منّ الله تعالى عليهم من إرسال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلافهم أوّلا، واجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأمّا ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك، ولكن إنّما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشّجر، وأجرى إليها الأنهار وزيّنها بالقصور، وأقام فيها فلّاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنّاتها، فخلا
__________
[1] : القشف قذر الجلد وسوء الحال.
[2] نميركم: نطعمكم.
[3] نشب، أى وقع فيما لا مخلص منه.(19/201)
الفلّاحون فى القصور على ما لا يحبّ، فأطال إمهالهم فلم يستجيبوا [1] ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فان ذهبوا عنها يختطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولا [2] لهؤلاء، فيسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن ما نقول حقا ولم يكن إلّا الدّنيا لما صبرنا عن الّذى نحن فيه من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبرجكم، ولقارعناكم [3] عليه؛ فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل أعبروا إلينا. ورجعوا من عنده عشيّا، وأرسل سعد إلى النّاس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم شأنكم والعبور، فأرادوا الجواز على القنطرة فمنعهم المسلمون، وقالوا: أمّا شىء غلبناكم عليه فلا نردّه عليكم، فباتوا يسكرون [4] العتيق بالتّراب والقصب والبراذع حتّى الصباح، وجعلوا طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار. ورأى رستم من اللّيل كأنّ ملكا نزل من السّماء، فأخذ قسىّ أصحابه فختم عليها، ثم صعد بها إلى السّماء، فاستيقظ مهموما، واستدعى خاصّته فقصّها عليهم، وقال:
إنّ الله ليعظنا لو أتّعظنا، ثمّ ركب، وعبر وعليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه وعبر الفرس العتيق، ثم كانت الحرب. والله تعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.
__________
[1] ابن الأثير: «فلم يستحيوا» .
[2] خولا: خدما.
[3] قارعناكم: قاتلناكم.
[4] سكر النهر: سد فاه بالتراب.(19/202)
ذكر يوم أرماث
كان [1] يوم أرماث يوم الاثنين من المحرّم سنة أربع عشرة؛ وذلك أن الفرس لمّا عبروا العتيق، جلس رستم على سريره وضرب عليه عليه طيّاره، وعبّى فى القلب ثمانية عشر فيلا، عليها الصناديق والرّجال، وفى المجنّبتين خمسة عشر [2] ؛ ثمانية وسبعة، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالا على كلّ دعوة رجلا [3] ، أوّلهم على باب إيوانه، وآخرهم مع رستم، فكلّما فعل شيئا قال الّذى معه للّذى يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثانى ذلك للثالث، وهكذا إلى أن ينتهى إلى يزدجرد فى أسرع وقت.
قال: وأخذ المسلمون مواقفهم، وكان بسعد دماميل وعرق النّسا، فلا يستطيع الجلوس؛ إنّما هو مكبّ على وجهه، وفى صدره وسادة، وهو على سطح القصر يشرف على النّاس، فذكر النّاس ذلك، وعابه بعضهم فقال فى ذلك شعرا:
نقاتل حتّى أنزل الله نصره [4] ... وسعد بباب القادسيّة معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم
__________
[1] ابن الأثير 2: 324، وأرماث هو اليوم الأول من أيام القادسية.
[2] ابن الأثير: «وفى المجنبتين ثمانية أو سبعة» .
[3] كذا فى ابن الأثير وفى ك «رجل» .
[4] فى ياقوت: «ألم تر أن الله أنزل نصره» .(19/203)
فبلغت أبياته سعدا، فقال: اللهم إن كان كاذبا وقال الّذى قاله رياء وسمعة فاقطع عنّى لسانه، فإنّه لواقف فى الصّفّ يومئذ أتاه سهم غرب [1] ، فأصاب لسانه، فما تكلّم بكلمة حتّى لحق بالله تعالى. ونزل سعد إلى النّاس فاعتذر إليهم، وأراهم ما به من القروح فى فخذيه وأليتيه، فعذره النّاس وعلموا حاله. ولمّا عجز عن الرّكوب استخلف خالد بن عرفطة على النّاس، فاختلف عليه، فأخذ نفرا ممّن شغب عليه فحبسهم فى القصر، منهم أبو محجن الثّقفىّ، وقيل: بل كان قد حبس فى الخمر.
وأعلم سعد النّاس أنّه قد استخلف خالدا، وإنّما يأمرهم خالد بأمره، فسمعوا وأطاعوا. وأرسل سعد نفرا من ذوى الرأى والنّجدة، منهم المغبرة، وحذيفة، وعاصم، وطليحة، وقيس الأسدىّ، وغالب، وعمرو بن معدى كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشمّاخ، والحطيئة وأوس بن معراء، وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض النّاس على القتال ففعلوا، وكان صفّ المشركين على شفير العتيق، وصفّ المسلمين على حائط قديس، والخندق من ورائهم، وكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، وأمر سعد النّاس فقرءوا سورة الجهاد، وهى الأنفال، فلمّا فرغ القرّاء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلّوا الظهر فإذا صلّيتم فانّى مكبّر فكبّروا واستعدّوا، فإذا سمعتم الثانية فكبّروا ولتستتمّ عدّتكم [2] ، ثم إذا كبّرت الثالثة فكبّروا، ولينشّط فرسانكم النّاس، فإذا كبّرت الرابعة فازحفوا
__________
[1] سهم غرب: لا يدرى راميه.
[2] ابن الأثير: «والبسوا عدتكم» .(19/204)
حتّى تخالطوا عدوّكم، وقولوا: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. فلما كبّر سعد الثالثة برز أهل النّجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم [1] .
فبرز غالب بن عبد الله الأسدى، فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوّجا، فأسره غالب وأتى به سعدا. وخرج عاصم ابن عمرو [2] فطارد فارسيّا، فانهزم، فاتّبعه عاصم حتى خالط صفّهم فحموه، فأخذ عاصم رجلا على بغل وعاد به، فإذا هو خبّاز الملك، معه طعام من طعام الملك وخبيصة [2] ، فأتى به سعدا فنفّله [3] أهل موقفه.
وخرج فارسىّ يطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدى كرب، فأخذه وجلد به الأرض وذبحه، وأخذ سواريه ومنطقته.
وحملت الفيلة على المسلمين، ففرّقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمّن معها.
__________
[1] بعدها فى ابن الأثير: «فاعتوروا الطعن والضرب» ، وقال غالب بن عبد الله الأسدى:
قد علمت واردات المسائح ... ذات اللسان والبيان الواضح
أنى سمام البطل المسالح ... وفارج الأمر المهم الفادح
[2] فى ابن الأثير: وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أنى امرؤ يعانيه السبب ... مثل على مثلك يغريه العتب
[2] الخبيصة: نوع من الحلوى.
[3] نفله: أعطاه، والنفل الغنيمة.(19/205)
فأرسل سعد إلى بنى أسد أن دافعوا عن بجيلة ومن معها، فخرج طليحة بن خويلد، وحمّال بن مالك فى كتائبهما، فباشروا الفيلة حتّى عدلها ركبانها، وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة.
وقام [1] الأشعث بن قيس فى كندة، فأزالوا من بإزائهم من الفرس، ثم حمل الفرس، وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرّابعة من سعد، فاجتمعت الفرس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبّر سعد الرابعة، فزحف المسلمون إليهم، ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة، فحادت الخيول عنها، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بنى تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا:
بلى والله.
ثمّ نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وآخرين، [لهم] [2] ثقافة، فقال: يا معشر الرّماة؛ ذبّوا ركبان الفيلة عنهم بالنّبل، ويا معشر [أهل] [2] الثّقافة؛ استدبروا الفيلة، فقطّعوا وضنها [3] .
وخرج يحميهم وقد جالت الميمنة والميسرة، وأقبل أصحاب عاصم، فأخذوا بأذناب الفيلة فقطّعوا وضنها، وأرتفع عواؤهم، فما بقى فيل إلّا عوى، وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، وردّ الفرس عنهم إلى مواقفهم، ودام القتال حتّى غربت الشمس، وحتّى ذهبت هدأة [4]
__________
[1] ك: «وبهذا قام» .
[2] من ص.
[3] الوضن: جمع وضين؛ وهو بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج.
[4] هدأة من الليل: جزء منه.(19/206)
من اللّيل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وقد أصيب من أسد تلك الليلة خمسمائة، وكانوا ردءا للنّاس، وكان عاصم حامية للنّاس.
وكان سعد تزوّج سلمى امرأة المثنّى بن حارثة بعده، فلما جال النّاس فى هذا اليوم، جعل سعد يتململ جزعا على النّاس وهو لا يطيق الجلوس، فلمّا رأت ما يصنع الفرس، قالت: وامثنّاه، ولا مثنّى للخيل اليوم! فلطم وجهها وقال: أين المثنّى عن [1] هذه الكتيبة الّتى تدور عليها الرحا؟ يعنى أسدا وعاصما؛ فقالت: أغيرة وجبنا! فقال: والله لا يعذرنى أحد ان لم تعذرينى، وأنت ترين مابى ...
والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
ذكر أغواث
قال: [2] لما أصبح سعد وكّل بالقتلى من ينقلهم ليدفنوا، وأسلم الجرحى إلى النّساء يقمن عليهم، فبينا الناس على ذلك إذ طلعت نواصى الخيل من الشّام، وكان عمر لمّا فتحت دمشق قد كتب إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال أهل العراق، فأرسلهم وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدّمته القعقاع بن عمرو، فتعجّل القعقاع، فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطّعوا أعشارا وهم ألف، كلّما بلغ عشرة مدّ البصر سرّحوا عشرة، وتقدّم هو فى عشرة، فأتى الناس فسلّم عليهم،
__________
[1] ك: «من» .
[2] هو اليوم الثانى من أيام القادسية.(19/207)
وبشّرهم بالجنود، وحرّضهم على القتال؛ وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البزاز، فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع، ونادى:
بالثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر! واقتتلا، فقتله القعقاع.
وجعلت خيله ترد إلى اللّيل، ونشط الناس، وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وانكسرت الأعاجم لقتل ذى الحاجب، فطلب القعقاع البراز، فخرج إليه الفيرزان والبندوان، فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسّيوف، فإنما يحصد الناس بها، فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس فى هذا اليوم ما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيلة؛ كانت توابيتها قد تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا عملها، وحمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وجلّلوها وبرقعوها، وطافت بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتثبّهون بالفيلة، ففعلوا فى يوم أغواث، كما فعل الفرس فى يوم أرماث، فنفرت خيل الفرس من الإبل، فلقوا منها أعظم ما لقى المسلمون من الفيلة، وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وقيل: وكان آخرهم يزرجمهر الهمذانىّ.
وكان أبو محجن الثّقفىّ، واسمه مالك بن حبيب، وقيل:
عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة(19/208)
ابن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف، قد حبس فى القصر وقيّد.
واختلف فى سبب ذلك؛ فقيل: كان قد خالف على خالد بن عرفطة خليفة سعد، وقيل: بل كان عمر قد جلده فى الخمر مرارا ثمانية وهو لا يتوب ولا يقلع، فنفاه إلى جزيرة فى البحر، وبعث معه رجلا، فهرب منه ولحق بسعد، فكتب إليه عمر بحبسه. وقيل: بل كان مع سعد، فأتى به وهو سكران، فأمر به إلى القيد، فلما التحم القتال قال:
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا
إذا قمت عنّانى الحديد وأغلقت ... مصارع من دونى تقيم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا أخاليا
وقد شفّ جسمى أنّنى كلّ شارق ... أعالج كبلا مصمتا قد برانيا
فلّله درّى يوم أترك موثقا ... وتذهل عنّى أسرتى ورجاليا
حبيسا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيرى يوم ذاك العواليا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألّا أزور الحوانيا
ثم قال لسلمى أبنه خصفة امرأة سعد: ويحك! خلّينى، ولك عهد الله إن سلّمنى الله أن أجىء حتى أضع رجلى فى القيد، وإن قتلت استرحتم منّى، فحلّت عنه، فوثب على فرس لسعد يقال لها:
البلقاء، ثم أخذ الرّمح وانطلق حتى كان بحيال الميمنة كبّر، ثم حمل على ميسرة الفرس، ثم رجع من خلف المسلمين وحمل على(19/209)
ميمنتهم، وكان يقصف [1] النّاس قصفا منكرا، فتعجب النّاس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه. وقال بعض الناس: هو الخضر. وقال بعضهم: لولا أنّ الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنّه ملك.
وجعل سعد يقول حين ينظر إليه وإلى الفرس: الصّبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبى محجن. وأبو محجن فى القيد، فلما انتصف الّليل وتراجع المسلمون والفرس، أقبل أبو محجن فدخل القصر، وأعاد رجليه فى القيد، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الحتوفا [2]
وأنّا وفدهم فى كلّ يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا [3]
وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائى ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: فى أىّ شىء حبسك؟ فقال: أما والله ما حبسنى بحرام أكلته ولا شربته؛ ولكنّى كنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لسانى، فقلت مرتجلا فى ذلك أبياتا:
إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة ... تروّى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننّى بالفلاة فإنّنى ... أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها
__________
[1] يقصف الناس: يضربهم ضربا منكرا.
[2] الحتوف: القتل.
[3] العريف: رئيس الجماعة.(19/210)
فلذلك حبسنى، فلمّا أصبحت أتت سعدا فصالحته وأخبرته بخبر أبى محجن، فأطلقه، وقال: اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشىء تقوله حتّى تفعله، قال: لا جرم [والله] [1] لا أجيب لسانى إلى قبيح أبدا.
وقد قيل: إنّ سعدا لمّا أخبر بأمره دعاه وحلّ قيوده، وقال:
لا تجلدنّ على الخمر أبدا: فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فقد كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم.
وقيل: بل قال: قد كنت أشربها إذ يقام علىّ الحدّ وأطهر منها، فأمّا إذ بهرجتنى [2] فو الله لا أشربها أبدا.
ذكر يوم عماس، وهو اليوم الثالث
قال: [3] وأصبح الناس فى هذا اليوم وبين الصفّين من صرعى المسلمين ألفان من جريح وقتيل، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر، وجرحاهم إلى النّساء، [وكان النساء] [4] والصّبيان يحفرون القبور ويداوون الجرحى. وأمّا قتلى المشركين فبين الصّفّين لم ينقلوا، وبات القعقاع تلك الليلة يسرّب أصحابه إلى المكان الّذى كان فارقهم فيه، وقال: إذا طلعت الشّمس فاقتلوا مائة مائة، فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للنّاس رجاء جديدا. ولم يشعر به أحد، وأصبح النّاس على مواقفهم.
__________
[1] من ص.
[2] بهرجتنى: زيفتنى ولم تسمع قولى.
[3] ابن الأثير 2: 331 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 3: 550 وما بعدها
[4] من ص.(19/211)
فلما بزغت الشمس أقبل أصحاب القعقاع، فحين رآهم كبّر وكبّر المسلمون، وتقدّموا وتكتّبت [1] الكتائب، واختلف الطّعن والضّرب، والمدد متتابع، فما جاء آخر أصحابه حتّى انتهى إليهم هاشم، فأخبر بما صنع القعقاع، فعبّى أصحابه سبعين سبعين، وكان فيهم قيس بن هبيرة المعروف بابن المكشوح المرادىّ، فكبّر وكبّر المسلمون، ثم حمل على الفرس فقاتلهم حتى خرق صفّهم إلى العتيق ثمّ عاد، وكانت الفرس قد أصلحوا توابيتهم وأعادوها على الفيلة، وأقبلت الرّجّاله حول الفيلة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرّجّالة فرسان يحمونهم، فلم تنفر الخيل منهم كما كانت؛ لاختلاط خيل الفرس ورجالها بها.
قال: ولما رأى سعد الفيول، وقد فرّقت الكتائب وعادت لفعلها، أرسل إلى القعقاع وعاصم ابنى عمرو: أن اكفيانى الفيل الأبيض، وكان بإزائهما والفيول كلّها آلفة له.
وقال لحمّال والرّبيل: اكفيانى الفيل الأجرب وكان بإزائهما، فحمل القعقاع وعاصم برمحيهما وتقدّما فى خيل ورجل حتّى وضعاهما فى عينى الفيل الأبيض، فنفض رأسه، وطرح ساسته، ودلّى مشفره.
فضربه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، وقتلوا من كان عليه. وحمل حمّال والرّبّيل الأسديّان على الفيل الأجرب، فطعنه حمّال فى عينه فأقعى، ثم استوى، وضربه الرّبيل فأبان مشفره، فتحيّر الفيل؛ إذا جاء إلى صفّ المسلمين زجروه بالرّماح ليرجع، وإذا أتى صفّ الفرس نخسوه ليتقدّم، فولّى الفيل وألقى نفسه فى العتيق،
__________
[1] تكتبت: اجتمعت.(19/212)
وتبعته الفيلة فخرقت صفوف الأعاجم. واقتتل الفريقان حتّى المساء وهم على السّواء، فلما أمسى النّاس اشتدّ القتال، وصبر الفريقان فخرجا على السّواء. ثم كانت ليلة الهرير. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيدنا محمد.
ذكر ليلة الهرير
قيل: [1] وإنّما سمّيت بذلك لتركهم الكلام، وإنّما كانوا يهرّون هريرا، وهى الّليلة الّتى تلى يوم عماس. قال: وخرج مسعود بن مالك الأسدىّ، وعاصم بن عمرو، وقيس بن هبيرة وأشباههم، فطاردوا القوم، فإذا هم لا يشدّون ولا يريدون غير الزّحف، فقدّموا صفوفهم، وزاحفهم النّاس بغير إذن سعد، فكان أوّل من زاحفهم القعقاع، فقال سعد: الّلهم اغفرها له وانصره، قد أذنت له إذ لم يستأذنّى. ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا، فكبّر واحدة، فحملت أسد ثم النّخع، ثم بجيلة، ثم كندة، وسعد يقول عند حملة كلّ منهم: الّلهم اغفرها لهم، وانصرهم؛ ثم زحف الرؤساء، ورحا الحرب تدور على القعقاع، ولمّا كبّر الثّالثة لحق النّاس بعضهم بعضا، وخالطوا القوم، فاستقبلوا اللّيل بعد ما صلّوا العشاء، واقتتلوا ليلتهم إلى الصّباح، فلمّا كان عند الصّبح انتهى النّاس، فاستدلّ سعد بذلك على أنّهم الأعلون.
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 334.(19/213)
ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس
قال: وأصبح النّاس من ليلة الهرير- وتسمّى ليلة القادسيّة- وهم حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلّها؛ فسار القعقاع فقال: إنّ الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإنّ النّصر مع الصّبر.
فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء صمدوا لرستم حتى خالطوا الّذين دونه، فلمّا رأت ذلك القبائل قام فيهم رؤساؤهم، وقالوا:
لا يكوننّ هؤلاء أجدّ فى أمر الله منكم، ولا هؤلاء- يعنى الفرس- أجرأ على الموت منكم، وحملوا وخالطوا من بإزائهم، فاقتتلوا حتى قام قائم الظّهيرة، فكان أوّل من زال الفيرزان والهرمزان، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النّقع [1] ، وهبّت ريح عاصف دبور، فقلعت طيّار رستم عن سريره، فهوى فى العتيق، ومال الغبار على الفرس، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السّرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين أطارت الرّيح الطيّار، واستظلّ بظلّ بغل من بغال كانت قد قدمت عليها حمول، فضرب هلال بن علّفة [2] حمل البغل الّذى تحت رستم، فقطع حباله وسقط عليه، فأزاله رستم عن ظهره، ثمّ ضربه هلال ضربة، ففرّ نحو العتيق، وألقى نفسه فيه، فاقتحمه هلال عليه، وأخذ يرجله
__________
[1] النقع: التراب.
[2] ك: «علقمة» .(19/214)
ثم خرج به، وضرب جبينه بالسّيف حتّى قتله، ثم صعد على السّرير وقال: قتلت رستم وربّ الكعبة؛ إلىّ إلىّ! فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء، ولم يظفر بقلنسوته، وكانت بمائة ألف.
وقيل: إنّ هلال بن علّفة لمّا قصد رستم رماه بنشابة أثبتت قدمه بالرّكاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله، ثم احتزّ رأسه فعلّقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين، وقام الجالينوس على الردم [1] ، ونادى الفرس إلى العبور، وانهزموا وأخذهم السيف والإسار، وأخذ ضرار بن الخطّاب الدّرفس، وهو العلم الأكبر الّذى كان للفرس، فعوّض عنه بثلاثين ألفا، وكانت قيمته ألف ألف ومائتى ألف، وجعل فى بيت المال.
وقتل فى هذه المعركة من الفرس عشرة آلاف سوى من قتل قبلها، وأما المقترنون فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا.
وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل فى ليلة الهرير ويوم القادسيّة ستّة آلاف، فدفنوا بالخندق، ودفن من كان قبل ليلة الهرير على مشرّق.
وكان ممن استشهد فى حرب القادسيّة بنو خنساء الأربعة، وكان من خبرهم أنّ أمّهم الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشّريد السّلميّة، حضرت القادسيّة ومعها بنوها الأربعة، وهم رجال، فقالت لهم من أوّل الّليل: يا بنىّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين،
__________
[1] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: الرمرم.(19/215)
وو الله الذى لا إله إلّا هو، إنّكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم؛ وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثّواب الجزيل فى حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الباقية، خير من الدّار الفانية؛ يقول الله عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[1] ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها، واضطرمت لظّى على سبّاقها [2] ، وجلّلت نارا على أوراقها، فتيمّموا وطيسها، وجالدوا رئيسها؛ عند احتدام خميسها، [3] تظفروا بالغنم والكرامة، فى دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها، عازمين على قولها، فلمّا أضاء لهم الصّبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أوّلهم يقول:
يا إخوتى إنّ العجوز النّاصحه ... قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات تبيان واضحه ... فباكروا الحرب الضّروس الكالحه
وإنّما تلقون عند الصّائحه ... من آل ساسان كلابا [4] نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه ... وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
__________
[1] سورة آل عمران 200.
[2] الاستيعاب: «سياقها» .
[3] الخميس: الجيش.
[4] الاستيعاب: «الكلاب» .(19/216)
وتقدّم فقاتل حتّى قتل، ثم حمل الثّانى وهو يقول:
إنّ العجوز ذات حزم وجلد ... والنّظر الأوفق والرّأى السّدد
قد أمرتنا بالسّداد والرّشد ... نصيحة منها وبرّا بالولد
فبادروا الحرب حماة فى العدد ... إمّا لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم غنم الأبد [1] ... فى جنّة الفردوس والعيش الرّغد
وقاتل حتى استشهد. ثم حمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصى العجوز حرفا ... قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرّا صادقا ولطفا ... فباكروا الحرب الضّروس زحفا
حتى تلفّوا آل كسرى لفّا ... أو تكشفوهم عن حساكم كشفا
إنّا نرى التّقصير منكم ضعفا ... والقتل منكم نجدة وعرفا [2]
وقاتل حتّى استشهد. ثم حمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخرم ... ولا لعمرو ذى السّناء الأقدم
إن لم أرد فى الجيش جيش الأعجم ... ماض على الهول خضمّ خضرم
إمّا لفوز عاجل ومغنم ... أو لوفاة فى السّبيل الأكرم
وقاتل حتى قتل؛ رحمهم الله [3] .
فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذى شرّفنى بقتلهم، وأرجو من ربّى أن يجمعنى بهم فى مستقرّ رحمته.
فكان عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- يعطى الخنساء أرزاق
__________
[1] الاستيعاب: «عز الأبد» .
[2] الاستيعاب: «فيكم نجدة وزلفى» .
[3] الاستيعاب 4: 827 أو ما بعدها.(19/217)
أولادها الأربعة؛ لكلّ واحد مائتى درهم؛ حتى قبض رضى الله عنه.
حكاه أبو عمر بن عبد البرّ فى ترجمة الخنساء.
تعود إلى بقيّة أخبار القادسيّة؛ قال:
وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله مثله، وأمر سعد القعقاع وشرحبيل باتّباعهم، وخرج زهرة بن الحويّة التّميمىّ فى آثارهم فى ثلاثمائة فارس، فلحق الجالينوس، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا أكثر الفرس وأسروهم.
قيل: رئى شابّ من النّخع وهو يسوق ثمانين أسيرا من الفرس، وكان الرجل يشير إلى الفارسىّ فيأتيه فيقتله؛ وربّما أخذ سلاحه فقتله به؛ وربّما أمر الرجل فقتل صاحبه.
ولحق سلمان بن ربيعة الباهلىّ وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة من الفرس قد نصبوا راية وقالا: لا نبرح حتّى نموت. فقتلهم سلمان ومن معه، وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضعة وثلاثون كتيبة من الفرس، استحيوا من الفرار، فقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، لكلّ كتيبة منها رئيس، فقتلهم المسلمون.
وكتب سعد إلى عمر بالفتح، وبعدّة من قتلوا، ومن أصيبب من المسلمين، وسمّى من يعرف، وبعث بذلك سعد بن عميلة الفزارىّ، واستأذنه فيما يفعل. وأقام بالقادسيّة ينتظر جوابه، فأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلّف النساء والصّبيان بالعتيق، ويجعل(19/218)
معهم جندا كثيفا، ويشركهم فى كلّ مغنم؛ ما داموا يخلفون المسلمين فى عيالاتهم؛ ففعل.
قيل: وكانت وقعة القادسية فى سنة ستّ عشرة. وقيل: فى سنة خمس عشرة، وأوردها أبو جعفر الطّبرىّ فى سنة أربع عشرة، وأوردها أبو الحسن بن الأثير فى تاريخه الكامل، فى حوادث سنة أربع عشرة؛ وذكر الخلاف فيهما. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فلنذكر ما كان بعد القادسية والله تعالى أعلم.
ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام
يوم برس، ويوم بابل، ويوم كوثى.
وهذه الوقائع والأيّام الّتى نذكرها فى هذا الموضع تحت هذه التّرجمة، قد أوردها أبو الحسن علىّ بن الأثير- رحمه الله- فى تاريخه (الكامل) [1] فى حوادث سنة خمس عشرة، كأنّه رجّح قول أهل الكوفة: إنّ وقعة القادسيّة كانت فى سنة خمس عشرة.
قال: لمّا فرغ سعد من القادسيّة أقام بها بعد الفتح شهرين، وكاتب عمر فيما يفعل، فكتب إليه بالمسير إلى المدائن كما قدّمنا، فسار من القادسيّة لأيّام بقين من شوّال، وكلّ الناس فارس [2] ، قد نقل الله إليهم ما كان فى عسكر الفرس، فوصلت مقدّمة المسلمين برس وعليها عبد الله بن المعتمّ، وزهرة بن الحويّة وشرحبيل
__________
[1] الكامل 2: 354.
[2] ابن الأثير: «وكل الناس مؤد» .(19/219)
ابن السّمط، فلقيهم بها بصبهرى فى جمع من الفرس، فهزمهم المسلمون إلى بابل، وبها رؤساء القادسية: النّخيرجان، ومهران الرّازىّ، والهرمزان وأشباههم.
وقد استعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى منهزما من برس، فوقع فى النهر، ومات من طعنة، كان طعنه زهرة، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فصالح زهرة، وعقد للمسلمين الجسور، وأخبرهم بمن اجتمع ببابل من الفرس، فأرسل زهرة إلى سعد يعرّفه بذلك، فقدم سعد إلى برس، وسيّر زهرة فى المقدّمة، وأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشما، فنزلوا على الفيرزان ببابل، واقتتلوا، وانهزم الفرس، وانطلقوا على وجهين:
فسار الهرمزان نحو الأهواز، فأخذها، وأخرج الفيرزان نحو نهاوند، فأخذها وبها كنوز كسرى.
وسار النّخيرجان ومهران إلى المدائن، وقطع الجسر، وأقام سعد ببابل، وقدّم زهرة بين يديه بكير بن عبد الله اللّيثى، وكثير بن شهاب السّعدىّ حين عبرا الصراة، فلحقا بأخريات القوم، وفيهم فيومان والفّرخان فقتلاهما، وجاء زهرة فجاز سورا، وتقدّم نحو الفرس وقد نزلوا بين كوثى والدّير، وقد استخلف النّخيرجان ومهران على جنودهما شهريار، فنازلهم زهرة، فبرزوا لقتاله، وطلب شهريار المبارزة، فخرج إليه أبو نباتة نايل بن جعشم الأعرجىّ، وكان من شجعان تميم، فظفر به وقتله، وأخذ فرسه وسواريه(19/220)
وسلبه، وانهزم أصحابه، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فقدّم إليه نايلا وألبسه سلاح شهريار وسواريه، وأركبه برذونه، فكان أوّل عربىّ سوّر بالعراق. وأقام سعد بها أيّاما.
وقيل: كانت هذه الوقائع فى سنة ستّ عشرة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية
قال [1] : ثم مضى زهرة إلى بهرسير فى المقدّمات، فتلقّاه شيرزاد دهقان ساباط بالصّلح، فأرسله إلى سعد فصالحه على الجزية، ولقى سعد كتيبة كسرى الّتى تدعى بوران، وكانوا يحلفون كلّ يوم ألّا يزول ملك فارس ما عشنا، فهزمهم، فقتل هاشم بن عتبة المقرّط، وهو أسد كان كسرى قد ألفه، فقبّل سعد رأس هاشم وبعثه فى المقدّمة إلى بهرسير، ووصلها سعد والمسلمون، فلمّا رأوا إيوان كسرى، كبّر ضرار بن الخطّاب، وقال: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وكبّر النّاس معه، فكانوا كلّما وصلت طائفة كبّروا، ثم نزلوا على المدينة، وكان نزولهم فى ذى الحجّة سنة خمس عشرة.
والله أعلم.
__________
[1] ابن الأثير 2: 354.(19/221)
ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير
كان [1] فتحها فى صفر سنة ستّ عشرة. وذلك أنّ سعد بن أبى وقّاص نزل عليها وحاصرها شهرين، ونصب عليها عشرين منجنيقا، وقاتل أهلها قتالا شديدا، وأرسل سعد الخيول، فأغارت على من ليس له عهد، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه، فقال: من جاءكم ممّن يعين عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به، فخلّى سعد عنهم، وأرسل إلى الدّهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذّمّة؛ فتراجعوا.
قال: واشتدّ الحصار على أهل المدائن الغربيّة، حتى أكلوا السّنانير والكلاب، فبينما هم يحاصرونهم إذ أشرف عليهم رسول، فقال: يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا مايلينا من دجلة إلى جبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم! لا أشبع الله بطونكم! فقال له أبو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله عزّ وجلّ بما لا يدرى لا هو ولا من معه، فرجع الرّجل، فقطع الفرس دجلة إلى المدائن الشّرقيّة الّتى فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفزّر، ما قلت للرّسول؟ قال: والله ما أدرى [2] ، وأرجو أن أكون قد نطقت بالّذى هو خير [3] ، فنادى سعد فى
__________
[1] أبن الأثير 2: 354، 355.
[2] ابن الأثير: «والذى بعث محمدا يا لحق ما أدرى» .
[3] بعدها فى ابن الأثير: «وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم» .(19/222)
النّاس، فنهدوا إليهم [1] ، فما ظهر على المدينة [أحد] [1] ولا خرج إلّا رجل ينادى بالأمان، فأمّنوه؛ فقال لهم: ما بقى فى المدينة أحد يمنعكم؛ فدخلوا فما وجدوا فيها غير الأسارى وذلك الرّجل، فسألوه: لأىّ شىء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك بالصّلح فأجبتموه: ألّا صلح بيننا وبينكم أبدا حتى نأكل عسل أفريدون بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: يا ويلتيه [3] ، إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم ترّدّ علينا، فساروا إلى المدينة القصوى، ودخل المسلمون المدينة، وأنزلهم سعد المنازل. والله أعلم.
__________
[1] نهدوا: هموا.
[2] من ابن الأثير.
[3] فى الأصول: «تأويله» ، وصوابه من ابن الأثير.(19/223)
ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها إيوان كسرى
قال [1] : وأقام سعد ببهرسير أيّاما من صفر، ثم قصد المدائن، وقطع دجلة، وهى تقذف بالزّبد لكثرة المدّ؛ وكان سبب عبوره أنّ علجا [2] جاءه فقال: ما مقامك؟ لا يأتى عليك ثالث حتى يذهب يزدجرد بكلّ شىء فى المدائن، فهيّجه ذلك على العبور، فقام وخطب النّاس، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، ويخلصون إليكم فى سفنهم إذا شاءوا، وليس وراءكم ما تخافون منه، فقد كفاكم الله أهل الأيّام، وقد رأيت من الرّأى أن تجاهدوا العدوّ؛ إلّا أنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم؛ فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرّشد، فافعل.
فندب الناس على العبور، وقال: من يبدأ ويحمى لنا الفراض [3] حتى تتلاحق به النّاس؛ لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس فى ستّمائة من أهل النّجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فتقدّمهم عاصم فى ستين فارسا، قد اقتحموا دجلة، فلمّا رآهم الأعاجم، وما صنعوا أخرجوا للخيل الّتى تقدّمت مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصما وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرّماح الرّماح! أشرعوها، وتوخّوا العيون، فالتقوا،
__________
[1] ابن الأثير 2: 256.
[2] العلج: الرجل من كفار العجم.
[3] الفراض: جمع فرضة، وهى محطة السفن من النهر.(19/224)
فطعنهم المسلمون فى عيونهم، فولّوا ولحقهم المسلمون، فقتلوا أكثرهم، ومن نجا صار أعور، وتلاحق الستمائة بالسّتين [1] .
ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها؛ أذن للنّاس فى الأقتحام، وقال: نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلّى العظيم. واقتحم الناس دجلة يتحدّثون كما يتحدّثون فى البرّ، وطبّقوا دجلة حتّى ما يرى من الشّاطىء شىء.
قال: ولم يكن بالمدائن أعجب من دخول الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبقى أحد إلّا انتشرت [2] له جرثومة من الأرض يستريح عليها؛ حتى ما يبلغ الماء حزام فرسه، فعبروا سالمين، لم يعدم منهم أحد، ولا عدم لأحد شى إلّا قدح لمالك بن عامر سقط منه فجرى فى الماء، ثم ألقته الرّيح إلى الشّاطىء، فأخذه صاحبه، فلمّا رأى الفرس عبورهم خرجوا هرّابا نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك. ولمّا هرب حمل أصحابه من بيت المال ما قدروا عليه ممّا خفّ، ومن النّساء والذّرارىّ، وتركوا فى الخزائن من المتاع والثّياب والألطاف ما لا تدرك قيمته، وتركوا ما قد أعدّوه للحصار من الأطعمة والغنم والبقر، وكان فى بيت المال ثلاثة آلاف ألف، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسيّة النصف، وبقى النّصف.
وكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهى كتيبة
__________
[1] بعدها فى ابن الأثير: «غير متعتعين» .
[2] ابن الأثير: «اشمخرت» .(19/225)
عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء وهى كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا فى سككها وأحاطوا بالقصر الأبيض وبه من بقى من الفرس، فأجابوا [1] إلى الجزية والذّمّة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة فى آثارهم إلى النّهروان، و [سرّح] [2] مقدار ذلك فى كلّ جهة.
وكان سلمان الفارسىّ رائد المسلمين وراعيهم. دعا أهل بهرسير ثلاثا، وأهل القصر الأبيض ثلاثا. واتّخذ سعد إيوان كسرى مصلّى، ولم يغيّر ما فيه من التماثيل، ولمّا دخل الإيوان، قرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
[3] .
وصلّى فيه صلاة الفتح ثمانى ركعات لا يفصل بينهنّ [4] ، وأتمّ الصلاة لأنّه نوى الإقامة، وكانت أوّل جمعة أقيمت بالمدائن فى صفر سنة ستّ عشرة.
__________
[1] فى ابن الأثير: «ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية» .
[2] زيادة من ابن الأثير.
[3] سورة الدخان 25- 28.
[4] بعدها فى ابن الأثير: «ولا يصلى جماعة» .(19/226)
ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها
قال: [1] وجعل سعد على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلىّ، فجمع ما فى القصر والإيوان والدور، وأحصى ما يأتيه به أهل الطّلب، ووجدوا بالمدائن قبابا تركيّة مملؤءة سلالا مختومة برصاص فيها آنية الذهب والفضّة، فكان الرجل يطوف ويبيع الذّهب بالفضّة مثلا [2] بمثل، ورأوا كافورا كثيرا فحسبوه ملحا فعجنوا به فوجدوه مرّا. وأدرك الطّلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النّهروان فازدحموا عليهم، فوقع منهم بغل فى الماء فأخذه المسلمون وفيه حلية كسرى وثيابه، وخرزاته ووشاحه، ودرعه المجوهر. ولحق بعض المسلمين بغلين مع فارسين فقتلهما، وأخذ البغلين فأوصلهما إلى صاحب الأقباض، وهو يكتب ما يأتيه به النّاس، فاستوقفه حتّى ينظر ما جاء به؛ فإذا على أحدهما سفطان [3] فيهما تاج كسرى مفسّخا [4] ، وكان حمله على أسطوانتين، وفيه الجوهر، وعلى البغل الثّانى سفطان فيهما ثياب كسرى من الدّيباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر، وغير الدّيباج منسوجا منظوما. وأدرك القعقاع فارسيّا فقتله وأخذ منه عيبتين فى إحدهما
__________
[1] ابن الأثير 2: 358.
[2] ابن الأثير: «متماثلين» .
[3] السفط: وعاء كالجوالق، وفى الأصلين «يسقطان» تحريف؛ صواب من ابن الأثير.
[4] ابن الأثير: «مرصعا» .(19/227)
خمسة أسياف، وفى الأخرى ستّة أسياف، وأدرع منها درع كسرى، ومغافره وسيفه، ودرع هرقل وسيفه، ودرع شوبين وسيفه، ودرع سياوخش وسيفه، ودرع النعمان وسيفه، وبقيّة السّيوف لهرمز وقباذ وفيروز.
وكان الفرس قد استلبوا أدراع ملوك الهند والترك والرّوم وسيوفهم لمّا غزوهم، فأحضر القعقاع ذلك إلى سعد فخيّره فى الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، ونفّل سائرها إلّا سيف كسرى [وسيف] [1] النعمان، فبعث بهما إلى عمر بن الخطاب؛ لتسمع العرب بذلك بعد أن حسبهما فى الأخماس، وبعث بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون.
قال: وأدرك عصمة بن خالد الضّبىّ رجلين معهما حماران، فقتل أحدهما وهرب الآخر، وأخذ الحمارين وأتى بهما إلى صاحب الأقباض، فإذا على أحدهما سفطان فى أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضّة على ثفره ولبّته [2] الياقوت والزّبرجد، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّلة بالجوهر. وفى الآخر ناقة من فضّة عليها شليل [3] من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يصنعها على أسطوانتى التّاج.
وأدّى المسلمون الأمانة فى المغنم، ولما جمعت الغنائم خمّسها سعد، وقسّم ما بقى من الخمس والنّفل [4] بين الناس، وكانوا ستّين ألفا كلّهم فارس،
__________
[1] من ص.
[2] ابن الأثير: «ولبابه» .
[3] الشليل: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل.
[4] النفل بالفتح: الغنيمة.(19/228)
أصاب كلّا منهم اثنا عشر ألفا، ونفّل من الأخماس فى أهل البلاء، وقسّم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم فى الدّور، فأقاموا بالمدائن؛ حتّى نزلوا إلى الكوفة بعد فراغهم من جلولاء، وتكريت، والموصل.
قال: وأرسل سعد فى الخمس كلّ شىء يتعجّب منه العرب، وأراد أن يخرج خمس القطيف فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب نفوسكم بأربعة أخماسه، ونبعث به إلى أمير المؤمنين [يضعه] [1] حيث يشاء؟ قالوا: نعم، فبعث به إلى عمر.
والقطيف: بساط واحد طوله ستّون ذراعا، وعرضه مثل ذلك مقدار جريب. كانت الأكاسرة إذا ذهبت الرّياحين بعد الشّتاء شربوا عليه، فكأنّهم فى رياض، فيه طرق كالقصور، وفصوص كالأنهار، أرضه مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدرّ، وفى حافاته كالأرض المزروعة والمبقلة بالنّبات والورق من الحرير على قضبان الذّهب، وأزهاره الذّهب والفضّة، وثماره الجوهر وأشباه ذلك.
فلمّا وصل إلى عمر استشار المسلمين فيه، فأشاروا بقطعه، فقطّعه بينهم، فأصاب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، ولم تكن أجود من غيرها.
__________
[1] زيادة من ابن الأثير.(19/229)
ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان
كانت [1] وقعة جلولاء فى أول ذى القعدة سنة ستّ عشرة، بينها وبين المدائن تسعة أشهر، وسببها أنّ الفرس لمّا هربوا من المدائن انتهوا إلى جلولاء، فافترقت الطّرق بأهل أذربيجان والباب، وأهل الجبال وفارس، فقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم فإن كانت لنا فهو الّذى نحبّ، وإن كانت الأخرى كنّا قد قضينا الّذى علينا، وأبلينا عذرا. فاجتمعوا واحتفروا خندقا، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، وتقدّم يزدجرد إلى حلوان، فبلغ ذلك سعدا، فأرسل إلى عمر، فبعث إليه أن سرّح هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص إلى جلولاء، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين السّواد والجبل، وليكن الجند اثنى عشر ألفا. ففعل سعد ذلك.
وسار هاشم من المدائن فى وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فمرّ ببابل مهروذ، فصالحه دهقانها؛ على أن يفرش له جريب الأرض دراهم ففعل، ثم قدم جلولاء فحاصرهم فى خنادقهم، وأحاط بهم، وطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا، وراجعهم المسلمون نحو ثمانين يوما، كلّ ذلك ينصر المسلمون
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 24 وما بعدها ابن الأثير 2: 361 وما بعدها.(19/230)
عليهم، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران، ومن سعد إلى المسلمين.
وخرج الفرس يوما فقاتلوا قتالا شديدا، وأرسل الله عليهم ريحا حتى أظلمت عليهم البلاد، فسقط فرسانهم فى الخندق، فجعلوا فيه طرقا تصعد منها خيلهم، ففسد الخندق، فنهض المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله، ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أعجل.
وانتهى القعقاع من الوجه الذى زحف منه إلى باب الخندق، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله، فحملوا وهم لا يشكّون أنّ هاشما فى الخندق، فإذا هم بالقعقاع، فانهزم الفرس يمنة ويسرة، واتّبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلّا القليل، وقتل منهم يومئذ مائة ألف، فجلّلت القتلى المجال، وما بين يديه وما خلفه، فسميّت جلولاء بما جلّلها من قتلاهم [1] ، وسار القعقاع فى الطلب حتى بلغ خانقين، فأدرك مهران الرازىّ فقتله، وأدرك الفيرزان، فنزل وتوقّل [2] فى الجبل فنجا، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهنّ إلى هاشم فقسّمهنّ، فاستولدهنّ المسلمون، وممّن ينسب إلى ذلك السّبى أمّ الشّعبىّ.
قال: ولمّا بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الرّىّ، واستخلف على حلوان خسرشنوم [3] ، فلمّا وصل القعقاع قصر
__________
[1] بعدها فى ابن الأثير: «فهى جلولاء الوقيعة» .
[2] وقل فى الجبل: صعد، كتوقل.
[3] ابن الأثير: «خسر سنوم» .(19/231)
شيرين خرج إليه خسرشنوم، وقدم إليه الزّينبىّ دهقان حلوان، فقتله القعقاع، وهرب خسرشنوم، واستولى المسلمون على حلوان، وكان فتحها فى ذى القعدة، وبقى القعقاع بها إلى أن تحوّل سعد إلى الكوفة، فلحقه، واستخلف على حلوان قباذ، وكان أصله خراسانيّا، وكتبوا إلى عمر بالفتح، واستأذنوه فى العبور فأبى، وقال:
لوددت أنّ بين السّواد والجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الرّيف السّواد، إنّى آثرت سلامة المسلمين [على الأنفال] [1] .
قال: وجمعت الغنائم وقسّمت بعد الخمس، فأصاب كلّ فارس تسعة آلاف، وتسعة من الدّوابّ، وقسّم الفىء على ثلاثين ألفا.
وقيل: إنّ الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف، وبعث سعد بالخمس إلى عمر، وهو ستّة آلاف ألف، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه، فكلّمه عمر فيما جاء له، فوصفه له، فقال له عمر: هل تستطيع أن تقوم فى النّاس بمثل ما كلّمتنى؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك! فقام فى النّاس فتكلّم بما أصابوا وبما صنعوا، وبما يستأنفون من من الانسياح فى البلاد.
فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا [بالفعال] [1] أطلقوا ألسنتنا.
__________
[1] من ابن الأثير.(19/232)
قال: ولمّا قدم الخمس على عمر قال: والله لا يجنّه سقف حتى أقسمه، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه فى المسجد، فلمّا أصبح عمر جاء فى النّاس فكشف عنه، فلمّا جاء ونظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال عبد الرحمن ابن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله انّ هذا لموطن شكر.
فقال عمر: [والله ما ذاك يبكينى، وبالله] [1] ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلّا ألقى الله بأسهم بينهم.
ومنع عمر رضى الله عنه من قسمة السّواد لتعذّر ذلك بسبب الآجام والغياض، ومفيض [2] المياه، وما كان لبيوت النّار، ولسكك البرد، وما كان لكسرى ومن معه، وخاف الفتنة بين المسلمين فلم يقسّمه، ومنع من بيعه، فلا يحلّ بيع شىء من أرض السّواد ما بين حلوان والقادسيّة.
قال: واشترى جرير أرضا على شاطىء الفرات، فردّ عمر ذلك الشراء وكرهه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] من ابن الأثير.
[2] ابن الأثير: «وتبعيض المياه» .(19/233)
ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة
قد اختلف المؤرّخون فى وقت ولايته البصرة، وهل كانت من قبل عمر بن الخطّاب أو من قبل سعد بن أبى وقّاص بأمر عمر. فأمّا من يقول: إنّ ولايته من قبل عمر، فإنّه جعلها فى سنة أربع عشرة، وأنّ نزوله البصرة كان فى شهر ربيع الأوّل أو الآخر، بعثه عمر إليها، وكان بالبصرة قطبة بن قتادة السّدوسىّ يغير بتلك النّواحى، كما يغير المثنّى بالحيرة، فكتب إلى عمر يعلمه مكانه؛ وأنه لو كان معه عدد يسير لظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجّه إليه شريح بن عامر أحد بنى سعد بن بكر، فأقبل إلى البصرة ونزل بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة الأعاجم، فقتلوه.
فبعث عمر عتبة بن غزوان، وقال له: إنّى قد استعملتك على أرض الهند وهى حومة من حومات العدوّ، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، ويعينك عليها. وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمىّ أن يمدّك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة ومكايدة للعدو، فإذا قدم عليك فاستشره وادع إلى الله، فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبى فالجزية، وإلّا فالسّيف، وأوصاه ثم قال له: انطلق أنت ومن معك؛ حتى إذا كنتم فى [أقصى] [1] أرض العرب، وأدنى أرض العجم فأقيموا.
__________
[1] من ص.(19/234)
فسار عتبة ومن معه حتى إذا كانوا بالمربد [1] تقدّموا حتّى بلغوا حيال الجسر، فنزلوا، فبلغ صاحب الفرات خبرهم، فأقبل فى أربعة آلاف، فالتقوا فقاتلهم، عتبة بعد الزّوال وهو فى خمسمائة، فقتلهم أجمعين، ولم يبق إلّا صاحب الفرات، فأخذ أسيرا.
وأمّا من يقول: إنّ سعد بن أبى وقّاص أرسله، فقال: إنّ البصرة مصّرت فى سنة ستّ عشرة بعد جلولاء وتكريت، فأرسله سعد إليها بأمر عمر، وإنّ عتبة لمّا نزل البصرة أقام بها نحو شهر، فخرج إليه أهل الأبلّة، وكان بها خمسمائة أسوار [2] يحمونها، وكانت مرفأ السّفن من الصّين، فقاتلهم عتبة فهزمهم؛ حتّى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، وألقى الله الرّعب فى قلوب الفرس، فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خفّ، وعبروا الماء، وأخلوا المدينة ودخلها المسلمون وأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا، فاقتسموه بعد أن خمّسه عتبة، وكان المسلمون ثلاثمائة، وكان فتحها فى شهر رجب أو شعبان، ثم نزل موضع مدينة الرّزق، وخطّ موضع المسجد، وبناه بالقصب. وكان أوّل مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبى بكرة، فلمّا ولد نحر أبوه جزورا فكفتهم لقلّة الناس، ثم جمع الله أهل دستميسان، فلقيهم عتبة فهزمهم وأخذ مرزبانها أسيرا، وأخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر مع أنس بن حجيّة. فقال له عمر: كيف النّاس؟ فقال: انهالت عليهم الدّنيا، فهم يهيلون الذّهب والفضّة، فرغّب النّاس فى البصرة فأتوها، واستعمل عتبة مجاشع بن مسعود على جماعة وسيّرهم إلى
__________
[1] المربد: سوق بالبصرة.
[2] الأسوار، بضم الهمزة، الفارس من فرسان العجم، وجمعه أساورة.(19/235)
الفرات واستخلف المغيرة بن شعبة على الصّلاة؛ إلى أن يقدم مجاشع فإذا قدم فهو الأمير.
وسار عتبة إلى عمر، فطفر مجاشع بأهل الفرات. وجمع الفيلكان (عظيم من الفرس) ، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب فاقتتلوا. فقال نساء المسلمين: لو لحقنا بهم، فكنّا معهم؛ فاتّخذن من خمرهنّ رايات، وسرن إلى المسلمين.
وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت بالبصرة؟ فقال: مجاشع بن مسعود. قال: أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر! وأخبره ما كان من المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات بالطّريق. وقيل فى وفاته غير ذلك:
وكان ممّن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى، وأرطبان جدّ عبد الله بن عون بن أرطبان. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ذكر فتح تكريت والموصل
وفى [1] سنة ستّ عشرة فى جمادى فتحت تكريت؛ وذلك أنّ الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت، وخندق عليه ليحمى أرضه ومعه الرّوم وإياد، وتغلب، والنّمر، والشّهارجة، فبلغ ذلك سعدا فكتب إلى عمر، فأمره: أن سرّح عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة.
__________
[1] ابن الأثير 2: 364.(19/236)
فسار عبد الله إلى تكريت، وحصر الأنطاق ومن معه أربعين يوما، وتزاحفوا فى المدّة أربعة وعشرين زحفا، ثم أرسل عبد الله إلى العرب الّذين مع الأنطاق يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، وأعلموا أنّ الرّوم قد نقلوا متاعهم إلى السّفن، فأرسل إليهم:
إذا سمعتم التكبير فاعلموا أنّا على أبواب الخندق، فخذوا الأبواب التى تلى دجلة، وكبّروا، واقتلوا من قدرتم عليه، ففعلوا ذلك، وأخذت الرّوم السيوف من كلّ جانب.
وأرسل عبد الله ربعىّ بن أفكل إلى الحصنين وهما نينوى وهو الحصن الشّرقىّ، والموصل وهو الحصن الغربىّ، وقال: اسبق الخبر، وسرّح معه تغلب، وإياد، والنّمر، فأظهروا الظّفر والغنيمة، وبشروهم، ووقفوا بالأبواب. وأقبل ابن الأفكل فاقتحم الحصن فسألوا الصّلح، وصاروا ذمّة، وقسّمت الغنيمة، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الرّاجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس إلى عمر، وولّى الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
وقيل: إنّ فتح الموصل كان فى سنة عشرين لمّا استعمل عمر عتبة بن فرقد لقصدها، وأنه فتح المرج، وبانهذرا، وباعذرا، وحبتون، وداسن وجميع معاقل الأكراد، وقردى وبازبدى، وجميع أعمال الموصل.
وقيل: إنّ عياض بن غنم لمّا فتح بلد أتى الموصل ففتح أحد الحصنين، وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر، ففتحه على الجزية والخراج، والله سبحانه وتعالى أعلم.(19/237)
ذكر فتح ما سيذان
لما [1] رجع هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص من جلولاء إلى المدائن بلغ سعدا أنّ آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا وخرج بهم إلى السّهل، فأرسل إليهم ضرار بن الخطّاب فى جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان واقتتلوا، فأسرع المسلمون فى المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيرا فقتله، ثم خرج فى الطّلب حتى انتهى إلى السّيروان، فأخذ ماسبذان عنوة، وهرب أهلها فى الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحوّل سعد إلى الكوفة، فسار إليه، واستخلف على ماسبذان ابن الهذيل الأسدىّ، فكانت أحد فروج الكوفة.
وقيل: إنّ فتحها كان بعد وقعة نهاوند، والله أعلم.
ذكر فتح قرقيسيا
وفى [2] سنة ستّ عشرة أيضا، أرسل سعد بن أبى وقّاص عمر بن مالك بن عتبة فى جند، وجعل على مقدّمته الحارث بن يزيد العامرىّ، فخرج نحو هيت، فنازل من بها، وقد خندقوا عليهم، وكان أهل الجزيرة لمّا أمدّوا هرقل على أهل حمص كما ذكرنا، بعثوا جندا إلى أهل هيت، فلمّا رأى عمر اعتصامهم بخندقهم، ترك الأخبية على حالها، وخلّف عليهم الحارث [3] فى نصف النّاس،
__________
[1] ابن الأثير 2: 366.
[2] تاريخ ابن الأثير 2: 366.
[3] ابن الأثير: «الحارث بن يزيد» .(19/238)
وسار بالنّصف الثانى إلى قرقيسيا، فجاءها على غرّة فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزية. وكتب إلى الحارث: إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا وإلا خندق على خندقهم خندقا، واجعل أبوابه ممّا يليك حتى أرى رأيى. فراسلهم، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى
وفى [1] سنة سبع عشرة فتحت الأهواز، ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كان فى سنة ستّ عشرة [2] ، وكان سبب هذا الفتح:
أنّ الهرمزان، وهو أحد البيوتات السّبعة من أهل فارس لمّا انهزم يوم القادسيّة قصد خوزستان فملكها، وكان يغير على أهل بيسان، ودستميسان من مناذر، ونهر تيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان أمير البصرة سعدا، فأمدّه بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجّه عتبة بن غزوان سلمى بن القين، وحرملة بن مريطة- وكانا من المهاجرين- فنزلا على حدود ميسان، ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بنى العمّ، فخرج إليهما غالب الوائلىّ، وكليب ابن وائل والكليبىّ، تواعدوا فى يوم، أنّ سلمى وحرملة يخرجان إلى الهرمزان، وأنّ غالبا وكليبا يثور أحدهما بمناذر، والآخر بنهر تيرى،
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 2: 379 وما بعدها.
[2] ابن الأثير: «وقيل سنة عشرين» .(19/239)
فلمّا: كان فى ليلة الموعد خرج سلمى وحرملة صبيحتها، وأنهضا نعيما ومن معه، والتقوا هم والهم مزان بين دلث ونهر تيرى، واقتتلوا؛ فبينما هم على ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهر تيرى، فانهزم بمن معه، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا، واتّبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بجبال سوق الأهواز، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين، فعندها طلب الهرمزان الصّلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز؛ فإنه لا يردّ عليهم، وجعل عتبة سلمى بن القين على مناذر مسلحة، وأمرها إلى غالب، وجعل حرملة على نهر تيرى، وأمرها إلى كليب، فكان سلمى وحرملة على مسالح البصرة، ثم وقع بين غالب وكليب وبين الهرمزان اختلاف فى حدود الأرضين، فحضر سلمى وحرملة لينظرا [1] فيما بينهم، فوجدا [2] الحقّ بيد غالب وكليب فحالا [3] بينه وبينهما، فكفر الهرمزان ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد وكثف [جنده] [4] .
فكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب إلى عمر فأمره بقصده، وأمدّ المسلمين بحرقوص بن زهير السّعدىّ، وكانت له صحبة، وأمّره على القتال، وما غلب عليه.
__________
[1] ك، ص: «لينظروا؛» والصواب ما أثبته من ابن الأثير.
[2] ك: «فوجدوا» .
[3] ك: «فجالا» بالجيم.
[4] من ابن الأثير.(19/240)
وسار الهرمزان ومن معه، وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: [إمّا] [1] أن تعبر إلينا أو نعبر إليك. قال: اعبروا إلينا، فعبروا فوق الجسر، واقتتلوا ممّا يلى سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها، واتّسقت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- وبعث إليه بالأخماس.
ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين
ولما [2] انهزم الهرمزان من سوق الأهواز، جهّز حرقوص جزء ابن معاوية فى أثره، فاتّبعه وقتل من أصحابه حتى انتهى إلى قرية الشغر، فأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهى مدينة سرّق، فأخذها صافية، ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه.
وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إليه وإلى حرقوص بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمّر جزء البلاد، وشقّ الأنهار، وأحيا الموات، وراسلهم الهرمزان فى طلب الصّلح، فأجاب عمر إلى ذلك، وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، فاصطلحوا على ذلك.
ونزل حرقوص جبل الأهواز، فشقّ على النّاس الاختلاف إليه،
__________
[1] من ص.
[2] ابن الأثير 2: 382.(19/241)
فبلغ ذلك عمر، فأمره بنزول السّهل، وألا يشقّ على مسلم ولا معاهد، وبقى حرقوص إلى يوم صفّين، ثم صار حروريّا وشهد النّهروان مع الخوارج. والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر فتح رامهرمز
قد [1] اختلف النّاس فى وقت هذا الفتح، فقيل: كان فى سنة سبع عشرة. وقيل: سنة تسع عشرة. وقيل: فى سنة عشرين.
وكان سببه أن يزدجرد وهو بمرو لم يزل يثير أهل فارس، أسفا على ما خرج من ملكهم، فتحرّكوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النّصرة، فنمى الخبر إلى حرقوص بن زهير، وجزء وسّلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بذلك.
فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا مع النّعمان ابن مقرّن وعجّل، فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحقّقوا أمره.
وكتب إلى أبى موسى الأشعرى، وهو على البصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمّر عليهم سهل بن عدىّ، أخا سهيل، وابعث معه البراء بن مالك وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم.
فخرج النّعمان بن مقرّن فى أهل الكوفة، وسار إلى الأهواز على
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 83، ابن الأثير 2: 382.(19/242)
البغال، يجنبون [1] الخيل، فخلف حرقوصا وسلمى وحرملة، وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلمّا سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه، بادر رجاء أن يقتطعه، فالتقيا بأربك (موضع عند الأهواز) ، واقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله عزّ وجلّ الهرمزان، فترك رامهرمز، ونزل تستر، وسار النعمان إلى رامهرمز فنزلها وصعد على إيذج [2] فصالحه تيرويه عليها ورجع إلى رامهرمز، وأقام بها، ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز، وهم يريدون رامهرمز.
فأتاهم خبر الوقعة ومسير الهرمزان إلى تستر، فساروا نحوه، وسار أيضا النّعمان وحرقوص وسلمى وحرملة وجزء، فاجتمعوا على تستر، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز، وهم فى الخنادق، وأمدّهم عمر رضى الله عنه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعله على أهل البصرة، وعلى جميع النّاس أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل.
وقتل البراء بن مالك فى هذا الحصار مائة مبارز سوى من قتل فى غير المبارزة، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور، وزاحفهم المسلمون [3] أيام تستر ثمانين زحفا يكون مرّة لهم ومرّة عليهم، فلمّا كان آخر زحف فيها، واشتدّ القتال، قال المسلمون: يا براء، اقسم على ربّك ليهزمنّهم، وكان مجاب الدّعوة فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى، فهزموهم حتى أدخلوهم
__________
[1] يقال: جنب الدابة إذا قادها إلى جنبه.
[2] الطبرى: «ثم صعد لا يذج» .
[3] الطبرى: «المشركون» .(19/243)
خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، فدخلوا مدينتهم [1] ، وأحاط بها المسلمون، فضاقت المدينة بهم. فبينما هم كذلك إذ خرج إلى النعمان رجل يستأمنه على أن يدلّه على مدخل يدخلون منه، ورمى فى ناحية أبى موسى بسهم مكتوب عليه: إن أمّنتمونى دللتكم على مكان تأتون منه المدينة، فأمّنوه فى سهم، ورمى إليهم بسهم آخر وقال: اسلكوا من قبل مخرج الماء؛ فإنّكم ستفتحونها.
فندب أبو موسى النّاس فانتدبوا، وندب النّعمان أصحابه مع الرّجل الّذى جاءهم، فالتقوا هم وأهل البصرة على مخرج الماء، فدخلوا فى السّرب، ولمّا دخلوا المدينة كبّروا وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها، فأناموا كل مقاتل.
وقصد الهرمزان القلعة، فتحصّن بها، ولحق به جماعة، وطاف به الّذين دخلوا البلد، فنزل إليهم على حكم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان قسم الفارس ثلاثة آلاف، والرّاجل ألفا.
وجاء صاحب السّهم والرّجل الذى خرج بنفسه فأمّنوهما، ومن أغلق بابه معهما.
وخرج أبو سبرة فى أثر المنهزمين إلى السّوس، فنزل عليها، ومعه النّعمان وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر، فكتب بردّ أبى موسى إلى البصرة، فانصرف إليها، وأرسل أبو سبرة وفدا إلى عمر رضى الله عنه، فيهم: أنس بن مالك والأحنف بن قيس، ومعهم
__________
[1] الطبرى: «وأرزوا إلى مدينتهم» .(19/244)
الهرمزان فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الدّيباج المذهب، وتاجه كان مكلّلا بالياقوت و [عليه] [1] حليته؛ ليراه عمر والمسلمون.
فوجدوا عمر فى المسجد متوسّدا برنسه، وكان قد لبسه لوفد قدم عليه من الكوفة، فلمّا انصرفوا توسّده ونام، فجلسوا وهو نائم والدّرة فى يده.
فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، فقال: أين حرسه وحجّابه؟ فقالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. فقال:
ينبغى أن يكون نبيّا، قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء [وكثر الناس] [1] .
فاستيقظ عمر واستوى جالسا، ثم نظر إليه، وقال: ألهرمزان؟
قالوا: نعم، فقال: الحمد لله الذى أذلّ بالإسلام هذا وأشباهه، فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوبا صفيقا [2] . فقال له عمر:
كيف رأيت عاقبة الغدر، وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنّا وإيّاكم فى الجاهليّة، كان الله قد خلّى بيننا وبينكم [فغلبناكم] ، [3] فلمّا كان الأمر معكم غلبتمونا. ثم قال له عمر: ما حجّتك وما عذرك فى انتقاضك مرّة بعد أخرى؟ قال: أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء، فأتى به فى قدح غليظ.
فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا، فأتى به فى
__________
[1] من تاريخ الطبرى.
[2] ثوب صفيق: ثخين كثير الغزل، ضد السخيف.
[3] تكملة من ص.(19/245)
إناء يرضاه. فقال: إنّى أخاف أن أقتل وأنا أشرب. فقال له عمر:
لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه؛ فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لى فى الماء؛ وإنما أردت أن أستأمن به. قال: فإنّى قاتلك، قال: قد أمّنتنى. قال: كذبت، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد أمّنته. فقال: يا أنس، أنا أؤمّن قاتل مجزأة ابن ثور والبراء بن مالك! وكان الهرمزان قتلهما بيده فى هذه الوقعة، ثم قال: والله لتأتينّى بمخرج أو لأعاقبنّك، قال: قد قلت لا بأس عليك حتى تخبرنى وحتى تشرب، فقال عمر رضى الله عنه: خدعتنى، والله لا أنخدع إلّا أن تسلم، فأسلم، ففرض له فى ألفين فى كلّ سنة، وأنزله المدينة.
والله أعلم.
ذكر فتح السوس
ولما [1] نزل أبو سبرة على السّوس فى سنة سبع عشرة بعد فتح تستر كان بها شهريار أخو الهرمزان، فأحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرّات، كل ذلك يصيب أهل السوس فى المسلمين، فأشرف عليهم الرّهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ ممّا عهد إلينا علماؤنا أنّ السّوس لا يفتحها إلّا الدّجّال، أو قوم فيهم الدّجّال، فإن كان فيكم فستفتحونها، وكان صاف بن صيّاد مع المسلمين فى خيل النّعمان. ثم ناوش أهلها المسلمين مرّة، وصاحوا بهم
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 89 وما بعدها، تاريخ ابن الأثير 2: 386 وما بعدها.(19/246)
وغاظوهم، فأتى صاف باب السّوس فدقّه برجله، فقال: انفتح، وهو غضبان فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، وألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا:
الصّلح الصّلح! فأجابهم المسلمون إلى ذلك بعد أن دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا، ثم افترقوا.
فسار النعمان حتى أتى أهل نهاوند، وكان كتاب عمر قد ورد بصرفه إليها لمّا تجمّعت الأعاجم بها، وسار المقترب، فنزل على جنديسابور. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر مصالحة جنديسابور
قال [1] : وسار المسلمون عن السّوس فى سنة سبع عشرة، فنزلوا جنديسابور وزرّ [2] بن عبد الله يحاصرهم، فأقاموا بها، فلم يفجأ النّاس إلّا وقد فتحت الأبواب، وأخرجوا أسواقهم، وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: أرسلتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية [على أن تمنعونا] [3] فقالوا: ما فعلنا، فإذا عبد يدعى مكنفا [4] كان أصله منها، فعل هذا، فقال المسلمون: هو عبد؟ قالوا: نعم، قالوا: نحن لا نعرف العبد من الحرّ، فإن شئتم فاغدروا، فكتبوا بذلك إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأجاز ذلك، وانصرفوا عنهم. والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] ابن الأثير 2: 387.
[2] ابن الأثير: «ربن» .
[3] من ص وابن الأثير.
[4] ابن الأثير: «مكثفا» .(19/247)
ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس
وفى سنة سبع عشرة أذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فى الانسياج فى بلاد الفرس، وكان سبب ذلك أنّ عمر لما أتى بالهرمزان قال للوفد: لعلّ المسلمين يؤذون أهل الذّمّة، فلهذا ينتقضون بكم! قالوا: ما نعلم لا وفاء. قال: فكيف هذا! فلم يشفه أحد، قال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إنّك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد، وإنّ ملك فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا مادام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شىء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأنّ ملكهم هو الذى يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم، ونزيل ملكهم، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتنى والله، ورجع إلى قوله، وانتهى إلى رأيه، وأذن للمسلمين فى الانسياح. فأمر أبا موسى الأشعرىّ أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة، فيكون هنالك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولّاه مع سهيل بن عدىّ، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خرّة وسابور إلى مجاشع بن مسعود السّلمىّ، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبى العاص الثّقفى ولواء فساودرا بجرد إلى سارية ابن زنيم الكنانىّ، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان، إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التّغلبىّ، فخرجوا ولم يتهيّأ مسيرهم إلى سنة ثمانى عشرة، وأمدّهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن(19/248)
عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة بن النّضر وبعبد الله بن عقيل وبربعىّ بن عامر، وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعىّ، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق.
وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، وسنذكره إن شاء الله تعالى عند ذكرنا لفتوح هذه الجهات والمسير إليها، والله تعالى أعلم.
ذكر غزوة فارس من البحرين
كانت هذه الغزوة فى سنة سبع عشرة، وكان عمر رضى الله عنه يقول لمّا أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه، ولا يصلون إلينا.
وكان العلاء بن الحضرمىّ على البحرين فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه فعزله عمر، ثم أعاده، وكان يناوئ سعد بن أبى وقّاص، ففاز العلاء فى قتال أهل الرّدّة بالفضل، فلمّا ظفر سعد بأهل القادسيّة، وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم ممّا فعله العلاء. فأراد العلاء أن يصنع فى الفرس شيئا، فلم ينظر فى الطاعة والمعصية بجدّ، وكان عمر رضى الله عنه نهاه وغيره عن الغزو فى البحر.
فندب العلاء الناس إلى فارس، فأجابوه، وفرّقهم جندا، فجعل على أحدها الجارود بن المعلّى، وعلى الآخر سوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع النّاس، وحملهم فى البحر إلى فارس، فخرجوا من البحر إلى إصطخر، وبإزائهم أهل(19/249)
فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فاقتتلوا قتالا شديدا بمكان يدعى طاوس، فقتل ابن السّوّار والجارود، وكان خليد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجّالة، فقتلوا من الفرس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة، ولم يجدوا فى الرجوع إلى البحر سبيلا، وأخذت الفرس عليهم طريقهم، فعسكروا وامتنعوا.
فلمّا بلغ عمر ما صنع العلاء، أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال:
إنّى قد ألقى فى روعى كذا وكذا، نحو الّذى وقع، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، وهو تأمير سعد عليه.
فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة اثنى عشر ألف مقاتل، فيهم: عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة والأحنف ابن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم حتى التقى بخليد، وتوالت الأمداد، ففتح الله على المسلمين، وأصابوا من المشركين ما شاءوا. والله تعالى أعلم.
ذكر وقعة نهاوند وفتحها
كانت [1] هذه الوقعة فى سنة إحدى وعشرين. وقيل: فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة تسع عشرة.
وكان الذى هيّج أمر نهاوند أنّ المسلمين لمّا خلّصوا جند العلاء، وفتحوا الأهواز، كاتب الفرس ملكهم، وهو بمرو، وحرّكوه،
__________
[1] ابن الأثير 3: 2 وما بعدها، وتاريخ الطبرى 4: 114 وما بعدها.(19/250)
فكاتب الملوك ما بين الباب والسّند وخراسان وحلوان، فاجتمعوا بنهاوند، ولمّا وصلها أوائلهم بلغ سعدا الخبر، فكتب به إلى عمر؛ وثار بسعد أقوام ووشوا به، وألّبوا عليه، وسعوا إلى عمر ولم يشغلهم ما نزل بالنّاس عنه.
فقال عمر: والله لا يمنعنى ما نزل بكم من النّظر فيما لديكم، وكان من عزل سعد ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين.
وقدم سعد على عمر، وقد استخلف على الكوفة عبد الله بن عبد الله عتبان، فأقرّه عمر.
قال: ونفرت ملوك الأعاجم لكتاب يزدجرد، واجتمعوا بنهاوند على الفيرزان فى خمسين ومائة ألف مقاتل. وكان سعد قد كاتب عمر بالخبر كما ذكرنا، ثم شافهه به لمّا قدم عليه، وقال له:
إنّ أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح، وأن يبدءوهم ليكون أهيب لهم على عدوّهم.
فجمع عمر النّاس واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه، فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين، ثم أستنفرهم فأكون لهم ردءا؛ حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحبّ؛ فإنّ فتح الله تعالى عليهم صببتهم فى بلدانهم.
فقال له طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين، قد أعلمتك الأمور، وعجمتك البلايا [1] ، واحتنكتك التّجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو فى يديك، ولا نكلّ عليك، إليك هذا الأمر،
__________
[1] ابن الأثير: «البلابل» .(19/251)
فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، وقدنا ننقذ؛ فإنّك ولىّ هذا الأمر؛ وقد بلوت وجرّبت واختبرت، فلم ينكشف شىء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. ثم عاد فجلس.
فعاد عمر لمقالته، فقام عثمان بن عفّان رضى الله عنه، فقال:
أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشّام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين؛ فإنّك إذا سرت [1] قلّ عندك ما قد تكاثر من عدد القوم. وقد كنت أعزّ عزا، وأكثر. يا أمير المؤمنين إنّك لا تستبقى بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام، فاشهده برأيك وأعوانك، ولا تغب عنه.
وجلس.
فعاد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمقالته، فقام إليه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: أمّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنّك إن أشخصت أهل الشّام من شامهم، سارت الرّوم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها، وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهمّ إليك ممّا بين يديك من العورات، والعيالات. [أقرر هؤلاء] [2] فى أمصارهم، واكتب لأهل
__________
[1] ابن الأثير: «إذا سرت بمن معك» .
[2] من ابن الأثير.(19/252)
البصرة أن يتفرّقوا ثلاث فرق، فرقة فى حرمهم وذراريّهم، وفرقة فى أهل عهدهم؛ حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك قالوا: هذا أمير العرب فى أصلها، فكان ذلك أشدّ لكلبهم [1] عليك. وأمّا ما ذكرت من مسير القوم فالله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما تكره.
وأمّا عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة؛ ولكن بالنصر.
فقال عمر: هذا هو الرأى، وكنت أحبّ أن أتابع عليه.
وقيل: إنّ طلحة وعثمان أشارا عليه بالمقام، والله تعالى أعلم.
ثم قال عمر: أشيروا علىّ برجل أولّيه ذلك الثّغر، وليكن عراقيّا. فقالوا: أنت أعلم بجندك، وقد وفدوا عليك. فقال:
والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكونّن أوّل الأسنّة إذا لقيها غدا. فقيل:
من هو؟ قال: النّعمان بن مقرّن المزنىّ. فقالوا: هو لها.
وكان النّعمان يومئذ معه جمع من أهل الكوفة قد افتتحوا جنديسابور والسّوس كما قدّمنا، فكتب إليه عمر رضى الله عنه يأمره بالمسير إلى ماه، فيجمع [2] الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا سار بهم إلى الفيرزان ومن معه.
وقيل: بل كان النّعمان بكسكر، فسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين، فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار، وكتب عمر
__________
[1] ك: «لكلمتهم» .
[2] ابن الأثير: «لتجتمع» .(19/253)
إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر [1] الناس مع النّعمان.
فندب النّاس، فخرجوا وعليهم حذيفة بن اليمان، ومعه نعيم ابن مقرّن، فقدموا على النّعمان، وتقدّم عمر إلى الجند الّذين كانوا بالأهواز أن يشغلوا الفرس عن المسلمين، وعليهم المقترب، وحرملة، وورقاء، فأقاموا بتخوم أصفهان، وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع النّاس على النّعمان، وفيهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، وجرير بن عبد الله البجلىّ والمغيرة بن شعبة، وغيرهم.
فرحل [النّعمان] [2] وعبّى أصحابه وهم ثلاثون ألفا، فجعل على مقدّمته نعيم بن مقرّن، وعلى مجنّبته حذيفة وسويد بن مقرّن، وعلى المجرّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود.
وقد توافت إليه أمداد المدينة، فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى الأسبيذهان، والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنّبته الزردق ويهمن جاذويه، وقد توافى إليه بنهاوند كلّ من غاب عن القادسيّة. فلمّا رآهم النعمان كبّر وكبّر معه النّاس، فتزلزلت الأعاجم، وحطّت العرب الأثقال، وضرب فسطاط النّعمان، فابتدره أصحاب الكوفة، من كان من أشرافها، فضربوه، منهم: حذيفة ابن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصيّة، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والأشعث بن قيس الكندى وسعيد بن قيس الهمدانىّ، ووائل
__________
[1] ابن الأثير: «ليستنفر» .
[2] من ص.(19/254)
ابن حجر وغيرهم، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النّعمان القتال بعد حطّ الأثقال فاقتتلوا يومى الأربعاء والخميس، والحرب بينهم سجال، ثم انجحروا فى خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون، وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار إن شاءوا خرجوا، وإن شاءوا أقاموا، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم؛ حتى إذا كان يوم الجمعة تجمّع أهل الرأى من المسلمين، وقالوا:
نراهم علينا بالخيار، وأتوا النعمان فى ذلك، وهو يروّى فى الّذى رأوا فيه، فأخبروه، فبعث إلى من بقى من أهل النّجدات والرأى، فأحضرهم، وقال: قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم، وأنّهم لا يخرجون إلينا إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الّذى فيه المسلمون من التّضايق، فما الرأى الذى به نستخرجهم إلى المناجزة، وترك التطويل؟
فتكلّم عمرو بن ثبىّ، وكان أكبر النّاس [يومئذ سنّا] [1] ، وكانوا يتكلّمون على الأسنان، فقال: التّحصّن عليهم أشدّ من المطاولة عليكم، فدعهم وقاتل من أتاك منهم، فردّوا عليه رأيه [جميعا] [2] .
وتكلّم عمرو بن معدى كرب فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم، فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: إنّما تناطح بنا الجدران، وهى أعوان علينا.
__________
[1] من ابن الأثير.
[2] من ابن الأثير.(19/255)
فقال طليحة بن خويلد الأسدىّ: أرى أن تبعث خيلا مؤدية لينشبوا القتال، فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا إلينا.
فقاتلناهم حتّى يقضى الله فيهم وفينا ما أحبّ، فأمر [النعمان] القعقاع بن عمرو، وكان على المجرّدة، فأنشب القتال، وأخرجهم من خنادقهم كأنّهم جبال من حديد، وقد تواثقوا [1] ألّا يفرّوا وقرن بعضهم ببعض، كلّ سبعة فى قران، وألقوا حسبك الحديد بينهم؛ لئلّا ينهزموا، فلمّا خرجوا نكص القعقاع، فاغتنمتها الأعاجم ففعلوا كما ظنّ طليحة. وقالوا: هى هى.
ولحق القعقاع بالنّاس، وانقطع الفرس عن حصنهم، وأمر النّعمان أصحابه أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا، واستتروا بالحجف [2] من الرّمى، وأقبل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح، والنّعّمان ينتظر بالقتال أحبّ السّاعات كانت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وذلك عند الزّوال، فلمّا كان قريبا من تلك الساعة ركب النّعمان فرسه، وسار فى النّاس يحرّضهم على القتال، ويذكّرهم ويمنّيهم الظّفر، وقال: إنّى مكبّر ثلاثا، فإذا كبّرت الثالثة فإنّى حامل، فاحملوا، فإن قتلت فالأمير بعدى حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم قال: اللهمّ أعزز دينك بنصر عبادك. وقيل: بل قال: اللهمّ إنّى أسألك أن تقرّ عينى اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، واقبضنى شهيدا.
__________
[1] ابن الأثير: «توافقوا» .
[2] الحجف: التروس من جلود بلا خشب.(19/256)
فبكى النّاس ثم رجع إلى موقفه، فكبّر ثلاثا، والنّاس سامعون مطيعون مستعدّون للقتال، وحمل وحمل النّاس، وانقضّت رايته نحوهم انقضاض العقاب، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بوقعة كانت أشدّ منها، وصبر المسلمون صبرا عظيما، وانهزم الأعاجم، وقتل منهم ما بين الزّوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة حتى زلق النّاس والدّوابّ فى الدماء، فلمّا أقرّ الله عين النّعمان بالفتح استشهد، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمى بسهم فى خاصرته فمات، فسجّاه أخوه نعيم بن مقرّن بثوب، وأخذ الرّاية وناولها حذيفة، وتقدّم إلى موضع النّعمان.
وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم، لئلا يهن الناس، ودام القتال فى الفرس حتى أظلم اللّيل، فانهزموا، ولزمهم المسلمون وعمى عليهم قصدهم، فأخذوا نحو اللهب [1] الّذى كانوا دونه، فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستّة، بعضهم على بعض فى قياد واحد فيقتلون جميعا، وعقرهم حسك الحديد، فمات منهم فى اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل منهم فى المعركة.
وقيل: قتل فى اللهب ثمانون ألفا، وفى المعركة ثلاثون ألفا سوى من قتل فى الطّلب، ولم يفلت [2] إلّا الشّريد، ونجا الفيرزان من الصّرعى، فهرب نحو همذان، واتّبعه [3] نعيم بن مقرّن، وقدم
__________
[1] اللهب: شق فى الجبل.
[2] كذا فى ابن الأثير، وفى الأصول: «لم يقتل» .
[3] ابن الأثير: «فاتبعه» .(19/257)
القعقاع أمامه، فأدركه بثنيّة همذن، وهى إذ ذاك مشحونة من بغال وحمر موقرة عسلا.
فحبسه الدّوابّ [1] فلمّا لم يجد طريقا نزل عن دابّته، وصعد فى الجبل، فأدركه القعقاع، فقتله المسلمون على الثّنيّة، وقالوا:
إنّ لله جنودا منها العسل، واستاقوا تلك الدّوابّ بأحمالها، وسمّيت الثّنيّة ثنيّة العسل، ودخل المنهزمون همذان، والمسلمون فى آثارهم، فنزلوا عليها، وأخذوا ما جولها، فلمّا رأى ذلك خسر شنوم استأمتهم.
ولمّا تمّ الظّفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النّعمان، فقال لهم أخوه معقل: قد أقرّ الله عينه [بالفتح] [2] وختم له بالشّهادة، فاتّبعوا حذيفة، ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة [بعد الهزيمة] [2] واحتووا على ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوه إلى صاحب الأقباض، وهو السائب بن الأقرع.
وانتظروا إخوانهم الّذين على همذان مع نعيم والقعقاع، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النّار، وقال لحذيفة، أتؤمّننى ومن شئت، على أن أخرج لك ذخيرة لكسرى تركت عندى لنوائب الزّمان؟ قال نعم، فأحضر جوهرا نفيسا فى سفطين، فأرسلوهما [3] مع الأخماس إلى عمر رضى الله عنه بعد أن نفّل حذيفة منها، وأرسل ما بقى [4] مع السائب بن الأقرع الثّقفىّ.
__________
[1] بعدها فى ابن الأثير: على أجله» .
[2] من ابن الأثير.
[3] ابن الأثير: «فأرسلهما» .
[4] ابن الأثير: «البافى» .(19/258)
قال السائب: فلمّا فرغت القسمة احتملت السّفطين، وجئت بهما إلى عمر، فإذا هو قد خرج يتوقّع الأخبار، وكان قد رأى الواقعة فبات يتململ، فقال ما وراءك؟ فقلت: فتح الله على المسلمين، واستشهد النّعمان بن مقّرن، فأعظم الفتح، واسترجع على النّعمان وبكى حتى نشج [1] ، ثمّ أخبرته بالسّفطين فقال لى:
أدخلهما بيت المال حتّى ننظر فى شأنهما، والحق بجندك.
قال: ففعلت، وخرجت مسرعا إلى الكوفة، وبات عمر، فلمّا أصبح بعث فى أثرى رسولا، فما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيرى، وأناخ بعيره على عرقوب بعيرى، وقال، الحق بأمير المؤمنين.
قال: فركبت معه، وقدمت على عمر، فلمّا رآنى قال: مالى وللسائب! قلت: وماذا؟ قال: ويحك، والله ما هو إلّا أن نمت اللّيلة التى خرجت فيها، فأتت الملائكة تستحثّنى إلى السّفطين يشتعلان نارا، يقولون، لنكوينّك بهما، فأقول: إنى سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عنّى فبعهما فى أعطية المسلمين وأرزاقهم.
قال: فخرجت بهما فوضعتهما فى مسجد الكوفة، فابتاعهما منّى عمرو بن حريث المخزومىّ بألفى ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا.
قال: وكان سهم الفارس بنهاوند ستّة آلاف، والرّاجل ألفين.
__________
[1] نشج الباكى: غص بالبكاء من غير انتحاب.(19/259)
ولمّا قدم سبى نهاوند المدينة، جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلّا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدى، وكان من نهاوند، فأسرته الرّوم، وأسره المسلمون.
وكان المسلمون يسمّون [فتح] [1] نهاوند فتح الفتوح؛ لأنّه لم يكن للفرس بعده اجتماع، وملك المسلمون بلادهم. والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله وحده.
ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما
لما [2] انصرف أبو موسى الأشعرىّ من نهاوند، وكان قد جاء مددا على بعث أهل البصرة، فمرّ بالدّينور، فأقام عليها خمسة أيّام، وصالحه أهلها على الجزية، ومضى، فصالحه أهل الشّيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب الأقرع إلى الصّيمرة وهى مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحا، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيّدنا محمّد.
ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما
لما [3] انهزم المشركون من نهاوند دخل من سلم منهم همذان، فحاصرهم نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو، فلمّا رأى ذلك خسرشنوم استأمنهم، وقبل الجزية على أن يضمن همذان ودستبى، وألّا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وأمّنوه هو ومن معه
__________
[1] من ص.
[2] ابن الأثير 3: 7.
[3] ابن الأثير 3: 7.(19/260)
من الفرس، وأقبل كلّ من كان هرب، وبلغ الخبر أهل الماهين، فاقتدوا بخسرشنوم، وراسلوا حذيفة، فأجابهم، ودخل ماه دينار، وبهراذان على مثل ذلك. وكان قد وكّل النّسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم، فحاصرهم وافتتحها، فنسبت إلى النّسير.
ولمّا رجع نعيم والقعقاع، كفر أهل همذان مع خسرشنوم، فخرج نعيم بن مقرّن إليها فى سنة اثنتين وعشرين، واستولى على جميع بلادها وحاصرها، فسأله أهلها الصلح ففعل، وفتحها الثانية، وقبل منهم الجزية. وقيل إن فتحها كان فى سنة أربع وعشرين، بعد وفاة عمر بستّة أشهر. والله أعلم.
قال: وبينما نعيم بهمذان فى الفتح الثّانى، وهو فى اثنى عشر ألفا من الجند، فكاتب الديلم، وأهل الرّىّ، وأذربيجان، إذ خرج موتى فى الدّيلم، ونزل بواج الرّوذ، وأقبل الزّينبىّ أبو الفرّخان فى أهل الرّىّ وأقبل إسفنديار أخو رستم فى أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصّن منهم أمراء المسالح، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذانىّ، وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج الرّوذ قتالا شديدا، وكانت وقعة عظيمة تعدل وقعة نهاوند، فانهزم الفرس أقبح هزيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأرسل نعيم إلى عمر بقصد الرّىّ، وقتال من بها، والمقام بها بعد فتحها.
وقيل: إنّ المغيرة بن شعبة، وهو عامل الكوفة أرسل جرير ابن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها، وأصيب بسهم فى عينه، فقال: أحتسبها عند الله الّذى زيّن بها وجهى.(19/261)
وقيل: كان فتحها على يد المغيرة نفسه. وقيل: فتحها قرظة ابن كعب الأنصارىّ رضى الله عنه، والله تعالى أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ذكر فتح أصبهان وقم وكاشان
وفى [1] سنة إحدى وعشرين بعث عمر رضى الله عنه عبد الله ابن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان، وكان شجاعا من أشراف الصّحابة، ووجوه الأنصار، وأمدّه بأبى موسى الأشعرىّ، وجعل على مجنّبتيه عبد الله بن ورقاء الرّياحىّ وعصمة بن عبد الله، فسار إلى نهاوند ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها. وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النّعمان الّذين بنهاوند نحو أصبهان، وعلى جندها الأسبيذان، وعلى مقدّمته شهريار بن جاذويه (شيخ كبيرفى جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدّمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فبرز الشيخ ودعا إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء فقتله عبد الله، وانهزم الفرس؛ فسمّى ذلك الرّستاق برستاق الشّيخ، وصالحهم الأسبيذان على الرّستاق، وهو أوّل رستاق أخذ من أصبهان.
ثم سار عبد الله إلى مدينة جىّ، وهى مدينة أصبهان، والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بها، وحاصرها، فصالحه
__________
[1] ابن الأثير 3: 8.(19/262)
الملك عليها، على الجزية على من أقام، وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجزاهم ومن أبى وذهب كانت أرضه للمسلمين.
وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز، وقد صالح القوم، فدخل القوم فى الذّمة إلا ثلاثين رجلا من أهل أصبهان لحقوا بكرمان، ودخل عبد الله ومن معه المدينة، وكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه:
أن سرحتّىّ تقدم على سهيل بن عدىّ؛ حتى تكون معه على قتال من بكرمان. فاستخلف على أصبهان السّائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل وصوله إلى كرمان، وافتتح أبو موسى قمّ وقاشان.
ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان
وفى [1] سنة اثنتين وعشرين بعث المغيرة بن شعبة وهو أمير الكوفة البراء بن عازب فى جيش إلى قزوين، وأمره إن فتحها أن يغزو الدّيلم.
فسار حتّى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه، ثم طلبوا الأمان، فأمّنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فأرسل أهلها إلى الدّيلم يطلبون النّصرة منهم، فوعدوهم، فوصل المسلمون إليهم، فخرجوا لقتالهم والدّيلم وقوف على الجبل لا يمدّون يدا، فلمّا رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصّلح، فصالحهم على مثل صلح أبهر. وغزا الدّيلم حتّى أدّوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والطيّلسان، وفتح زنجان عنوة.
ولمّا ولّى الوليد بن عقبة الكوفة، غزا الدّيلم، وجيلان، وموقان، والبير والطّيلسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] ابن الأثير 3: 11.(19/263)
ذكر فتح الرى
قال [1] : وسار نعيم بن مقرّن من واج الرّوذ بأمر عمر حتّى قدم الرّىّ، وخرج الزّينبىّ أبو الفرّخان منها، فلقى نعيما طالبا ومسالما ومحالفا لملك الرّىّ وهو سياوخش بن مهران بن بهرام بن جوبين، فاستمدّ سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس، وجرجان، فأمدّوه، والتقوا مع المسلمين فى سفح جبل الرّىّ الّذى بجانب مدينتها، فاقتتلوا.
وكان الزينبىّ قال لنعيم: إنّ القوم قد كثروا وأنت فى قلّة، فابعث معى خيلا لأدخل بها مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإذا خرجنا نحن عليهم فإنّهم لا يثبتون لك. فبعث معه خيلا من اللّيل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبىّ المدينة، والقوم لا يشعرون، وبيّتهم نعيم، فشغلهم عن مدينتهم، واقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم، فانهزموا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأفاء الله تعالى على المسلمين بالرّىّ نحوا مما فى المدائن، وصالحهم الزينبىّ على الرّىّ، وأخرب نعيم مدينتهم، وهى الّتى يقال لها: العتيقة. فأمر الزينبىّ فبنى مدينة الرّىّ، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس، وراسله المصمغان فى الصّلح على شىء يفتدى به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك.
وقد قيل: إنّ فتح الرّىّ كان على يد قرظة بن كعب بن ثعلبة
__________
[1] ابن الأثير 3: 11.(19/264)
الخزرجىّ فى سنة ثلاث وعشرين، حكاه أبو عمر بن عبد البرّ.
وقيل: فى سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم. بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.
ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان
قال [1] : لمّا أرسل نعيم بن مقرّن إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بالفتح والأخماس كتب إليه عمر رضى الله عنه بإرسال سويد بن مقرّن ومعه هند بن عمرو وغيره إلى قومس، فسار سويد نحوها، فلم يقم له أحد، فأخذها سلما، وعسكر بها، وكاتبه الّذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والّذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصّلح والجزية، وكتب لهم بذلك.
ثم سار سويد إلى جرجان، فعسكر ببسطام، وكتب إلى ملك جرجان وهو رزبان صول، فصالحه على الجزية وكفاية حرب جرجان، وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقّاه رزبان قبل دخوله جرجان، ودخل معه، وعسكر سويد بها حتى جبى الخراج، وسدّ فروجها بترك دهستان، ورفع الجزية عمّن قام معه بمنعها، وأخذها من الباقين.
وقيل: كان فتحها فى سنة ثمانى عشرة. وقيل: فى سنة ثلاثين فى خلافة عثمان.
قال: وأرسل الإصبهبذ صاحب طبرستان إلى سويد فى الصّلح، على أن يتوادعا بها ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد،
__________
[1] ابن الأثير 3: 12.(19/265)
فقبل ذلك منه، وكتب له كتابا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.
ذكر فتح أذربيجان
كان [1] عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، بعث بكير بن عبد الله إلى أذربيجان، وأمر نعيم بن مقرّن أن يمدّه بسماك بن خرشة، فأمّده به بعد فتح الرّىّ، فسار بكير حتى طلع بجبال جرميذان، فطلع عليه إسفنديار بن الفرّخزاذ مهزوما من واج الرّوذ، فاقتتلوا، فهزم الله الفرس وأخذ إسفنديار أسيرا، فقال له إسفنديار: الصّلح أحبّ إليك أم الحرب؟ قال: بل الصّلح. قال: أمسكنى عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم، أو أجىء لهم لم يقوموا لك، وجلوا إلى الجبال الّتى حولها، ومن كان على التحصين تحصّن ليوم ما، فأمسكه عنده وصارت إليه البلاد [2] إلّا ما كان من حصن.
وقدم عليه سماك بن خرشة، وإسفنديار فى أسره، وقد افتتح [3] ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.
وكتب بكير إلى عمر يستأذنه فى التّقدّم، فأذن له أن يتقدّم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عتبة بن فرقد، فأقرّ عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الّذى كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد. وكان بهرام بن الفرّخزاذ قصد
__________
[1] ابن الأثير 3: 13.
[2] من ابن الأثير.
[3] ك: «انفتح» .(19/266)
طريق عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلمّا بلغ خبره إسفنديار وهو فى الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصّلح، وطفئت نيران الحرب، فصالحه وأجاب أهل أذربيجان إلى ذلك، وعادت سلما، وكتب بكير وعتبة بذلك إلى عمر، وبعثا بالخمس.
ولمّا جمع عمر لعتبة عمل بكير، كتب لأهل أذربيجان كتابا بالصّلح.(19/267)
ذكر فتح الباب
كان [1] فتح الباب فى سنة اثنتين وعشرين، وكان عمر رضى الله تعالى عنه ردّ أبا موسى الأشعرىّ إلى البصرة، وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النّور [2] إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن ابن ربيعة، وكان يدعى ذا النّور أيضا، وعلى مجنّبتيه [3] حذيفة بن أسيد الغفارىّ وبكير بن عبد الله اللّيثىّ، وكان بكير قد سبقه إلى الباب عند منصرفه من أذربيجان، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلىّ.
وكان عمر قد أمدّ سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة، وجعل مكانه زياد بن حنظلة، فسار سراقة وعبد الرحمن بن أمامة، فلمّا أطلّ عبد الرحمن على الباب كاتبه ملكها شهريار، (من ولد شهريار الملك) ، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال له: إنّى نازل بإزاء عدوّ كلب، وأمم مختلفة ليس لهم أحساب [4] ، ولا ينبغى لذى الحسب والعقل أن يعينهم على ذى الحسب، وأنتم قد غلبتم على بلادى وأنا منكم، ويدى فى أيديكم، وجزيتى إليكم، والنّصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تسومونا الجزية، فتوهّنونا لعدوّكم، فسيّره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، وقال: لا بدّ من الجزية ممّن يقيم ولا يحارب العدوّ، فأتّفقا على ذلك، وأجازه عمر رضى الله عنه- وأرضاه واستحسنه.
__________
[1] ابن الأثير 3: 14.
[2] ك: «ذا النون» .
[3] ك: «مجنبته» .
[4] ك: «حساب» .(19/268)
ذكر فتح موقان
ولما [1] فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله، وسلمان ابن ربيعة، وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبإرسالهم إلى عمر، فسرّ بذلك.
ثم مات سراقة بعد أن استوثق له الأمر، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، ولم يفتتح أحد من القوّاد إلا بكير بن عبد الله؛ فإنّه صالح أهل موقان على الجزية؛ على كل محتلم دينار، وذلك بعد أن فضّ أهل موقان، ثم تراجعوا.
وقيل: كان الفتح فى سنة إحدى وعشرين، وأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو التّرك. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر غزو الترك
قال [2] : ولمّا أمر عمر رضى الله عنه عبد الرحمن بن ربيعة بغزو التّرك خرج بالنّاس [حتى قطع الباب] [3] فقال له شهريار:
ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر والترك. قال: إنّا لنرضى منهم
__________
[1] ابن الأثير 3: 14.
[2] ابن الأثير 3: 14.
[3] من ابن الأثير.(19/269)
أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنّا لا نرضى حتى نغزوهم فى ديارهم، وتالله إنّ معنا أقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الرّوم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخلوا فى هذا الأمر بنيّة فلا يزال النّصر معهم، فغزا بلنجر، فقالوا: ما اجترأ علينا إلّا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا وتحصّنوا، ورجع بالغنيمة والظّفر. وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر، وعاد ولم يقتل منهم أحد، ثم غزاها أيّام عثمان بن عفّان رضى الله عنه غزوات، فظفر كما كان يظفر.
ثم غزاهم بعد أن كان من أهل الكوفة فى حقّ عثمان رضى الله عنه ما نذكره، فتذامرت التّرك واجتمعوا فى الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين بسهم على غرّة، فقتله، وهرب الرّامى عن أصحابه، فلمّا نظر التّرك إلى المسلم وقد قتل خرجوا على عبد الرحمن ومن معه، واقتتلوا أشدّ قتال، ونادى مناد من الجوّ: صبرا عبد الرّحمن، وموعدكم الجنّة! فقاتل حتى قتل، وانكشف أصحابه، وأخذ الراية أخوه سلمان بن ربيعة، فنادى مناد من الجوّ: صبرا سلمان. فقال سلمان: أو ترى جزعا! وخرج بالنّاس على جيلان إلى جرجان، ولم تمنعهم هذه الحرب من [اتخاذ جسد] [1] عبد الرّحمن، فهم يستسقون به حتّى الآن. والحمد لله وحده، وصلّى الله على من لا نبىّ بعده.
__________
[1] من ابن الأثير.(19/270)
ذكر غزو خراسان
وفى [1] سنة اثنتين وعشرين غزا الأحنف بن قيس خراسان، على قول بعضهم. وقيل: بل كان فى سنة ثمان عشرة، وسبب ذلك أنّ يزدجرد لمّا سار إلى الرّىّ بعد هزيمة أهل جلولاء، انتهى إليها، وبها أبان جاذويه، فوثب أبان عليه وأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان، تغدر بى! قال: لا؛ ولكن قد تركت ملكك، فصار فى يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شىء، وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصّكاك بكلّ ما أعجبه، وختم عليها وردّ الخاتم، ثم أتى بعد ذلك سعدا فردّ عليه كلّ شىء فى كتابه.
وسار يزدجرد من الرّىّ إلى أصبهان، ثم إلى كرمان والنّار معه، ثم قصد خراسان والنّار معه، فنزل مرو، وبنى للنّار بيتا، واطمأنّ وأمن أن يؤتى، ودان له من بقى من الأعاجم.
وكاتب الهرمزان، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر رضى الله عنه للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطّبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن صخر العبدى. وقيل فيه: صحار بن عبّاس بن شراحبيل، ثم سار نحو مرو الشّاهجان، فأرسل إلى نيسابور مطرّف بن عبد الله ابن الشّخّير، وإلى سرخس الحارث بن حسّان.
__________
[1] ابن الأثير 3: 16.(19/271)
فلمّا دنا الأحنف من مرو، خرج يزدجرد منها إلى مرو الرّوذ، ونزل الأحنف مرو الشّاهجان.
وكتب يزدجرد إلى خاقان ملك التّرك وإلى ملك الصّغد وإلى ملك الصّين يستمدّهم.
وخرج الأحنف من مرو الشّاهجان، واستخلف عليها خالد ابن النّعمان الباهلىّ بعد أن لحقته أمداد الكوفة. فلمّا سمع به يزدجرد سار من مرو الرّوذ إلى بلخ، ونزلها الأحنف، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد، وعبر النّهر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم، وافتتح ما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد إلى مرو الرّوذ، واستخلف على طخارستان ربعىّ ابن عامر، وكتب إلى عمر بالفتح. فقال عمر: وددت أنّ بيننا وبينها بحرا من نار. فقال علىّ: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنّ أهلها سينقضّون [منها] [1] ثلاث مرّات، وكتب إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النّهر ولا يجوزه.
قال: ولمّا عبر يزدجرد مهزوما، أنجده خاقان التّرك، وأهل فرغانة والصّغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان، فنزلا بلخ.
ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمروالرّوذ، فنزل المشركون عليه بها، وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النّهر إليه، خرج ليلا يتسمّع؛ لعلّه يسمع برأى ينتفع به، فمرّ برجلين ينقّيان علفا، وأحدهما يقول لصاحبه: أسندنا الأسير إلى هذا الجبل؛
__________
[1] من ابن الأثير.(19/272)
فكان النّهر بيننا وبين عدوّنا خندقا، وكان الجبل فى ظهورنا [1] ، فلا يأتونا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عزّ وجلّ. فرجع، فلمّا أصبح جمع النّاس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من البصرة عشرة آلاف، ومن الكوفة نحو منهم.
وأقبلت التّرك ومن معها فنزلوا بهم، وجعلوا ينادونهم ويراوحونهم وينجحرون فى اللّيل. فخرج الأحنف ليلة طليعة لأصحابه؛ حتّى إذا كان قريبا من عسكر خاقان وقف، فلمّا كان وجه الصّبح خرج فارس من التّرك وهو مطوّق، فضرب بطبله، ثم وقف، فحمل عليه الأحنف، فاقتتلا، فقتله الأحنف، وأخذ طوقه، ووقف واحد آخر وآخر بعده، ففعل بهما كذلك، ثم انصرف إلى سكره.
وكانت عادة التّرك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من رجالهم أكفاء، كلّهم يضرب بطبله، ثم يخرجون بعدهم، فلمّا خرجوا وجدوا فرسانهم، فتطيّر خاقان من ذلك، وقال: قد طال مقامنا، وأصيب فرساننا، وليس لنا فى قتال هؤلاء القوم خير، ورجع.
وارتفع النّهار ولم ير المسلمون أحدا، وأتاهم الخبر بانصراف التّرك إلى بلخ، وكان يزدجرد ترك خاقان يقاتل بمروالرّوذ، وانصرف إلى مرو الشّاهجان، فلمّا وصلها تحصّن حارثة بن النّعمان ومن معه، فحصرهم، واستخرج خزائنه من موضعها.
وأراد أن يلحق خاقان لمّا بلغه انصرافه عن مرو الرّوذ إلى بلخ؛ فأشار عليه أهل فارس بمصالحة المسلمين، فأبى ذلك، فاعتزلوه
__________
[1] ك: «ظهورها» .(19/273)
وقاتلوه، فانهزم، واستولوا على خزائنه، وتوجّه هو نحو خاقان وعبر النّهر إلى فرغانة، وأقام ببلد التّرك مدّة خلافة عمر- رضى الله عنه- إلى أن كفر أهل خراسان فى زمن عثمان، فكاتبوه وكاتبهم، ثم قتل على ما سنذكره- إن شاء الله تعالى- فى خلافة عثمان.
قال: ثم أقبل أهل فارس بعد انهزام يزدجرد على الأحنف، وصالحوه ودفعوا له الخزائن، وتراجعوا إلى بلادهم، واغتبطوا بالمسلمين، فأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسيّة.
وسار الأحنف إلى بلخ ونزلها، ثم رجع إلى مرو الرّوذ، وكتب بهذا الفتح إلى عمر.
قال: ولمّا عبر خاقان ويزدجرد إلى النّهر، لقيا [1] رسول يزدجرد الّذى كان أرسله إلى ملك الصّين، فأخبره أن ملك الصّين قال له:
صف لى هؤلاء القوم الّذين أخرجوكم من بلادكم، فإنّى أراك تذكر قلّة منهم، وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم. فقال: سلنى عمّا أحببت.
فقال: أيوفون بالعهد؟ قال: نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إمّا دينهم فان أحببنا أجرونا مجراهم، أو الجزية، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم فى أمرائهم؟ قلت: أطوع قوم لرشيدهم. قال: فما يحلّون وما يحرّمون؟ فأخبره. قال: هل يحلّون ما حرّم عليهم، أو يحرّمون ما أحلّ لهم؟ قال: لا. قال: هؤلاء القوم لا يزالون على الظّفر
__________
[1] ك: «لقوا» .(19/274)
حتى يحلّوا حرامهم ويحرّموا حلالهم، ثم قال: أخبرنى عن لباسهم، فأخبره، وعن مطاياهم. قال: الخيل العراب، ووصفها لهم.
قال: نعم الحصون! ووصف له الإبل وبركها وقيامها. فقال:
هذه صفة دوابّ طوال الأعناق.
وكتب معه إلى يزدجرد: إنّه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجند أوّله بمرو وآخره بالصّين الجهالة بما يحقّ علىّ، ولكنّ هؤلاء القوم الّذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلا لهم سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك.
فأقام بزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان.
قال: ولمّا وصل كتاب الفتح إلى عمر رضى الله عنه، جمع النّاس وخطبهم، وقرأه عليهم، وحمد الله على إنجاز وعده، ثم قال:
ألا وإنّ ملك المجوسيّة قد هلك، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضّرّ بمسلم، ألا وإنّ الله تعالى قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم، لينظر كيف تعملون، فلا تبدّلوا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإنّى لا أخاف على هذه الأمّة إلّا من قبلكم.
وقيل: إنّ فتح خراسان كان فى زمن عثمان رضى الله عنه، وسنذكره إن شاء الله سبحانه وتعالى فى موضعه.(19/275)
ذكر فتح شهرزور والصامغان
وفى [1] سنة اثنتين وعشرين كان فتح شهرزور؛ فتحها عتبة ابن فرقد صلحا على مثل صلح حلوان بعد قتال [2] ، وصالح أهل الصّامغان، وداراباذ على الجزية والخراج، وقتل خلقا كثيرا من الأكراد، وكتب إلى عمر: إنّ فتوحى قد بلغت أذربيجان، فولّاه إيّاها، وولىّ هرثمة بن عرفجة الموصل، ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها فى آخر خلافة الرّشيد.
والله تعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النّصير، والحمد لله وحده.
ذكر فتح توج
كان [3] فتحها فى سنة ثلاث وعشرين؛ وذلك أنه لمّا خرج أهل البصرة الّذين توجّهوا إلى بلاد فارس أمراء عليها، كان معهم سارية بن زنيم، فساروا، وأهل فارس مجتمعون بتوّج، فلم يقصدهم المسلمون، وتوجّه كلّ أمير إلى الجهة التى أمر بها، وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم، كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتّت أمورهم، فقصدهم مجاشع بن مسعود بسابور وأزدشير فالتقوا بتوّج، واقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس
__________
[1] ابن الأثير 3: 19.
[2] بعدها فى ابن الأثير: «فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت» .
[3] ابن الأثير 3: 19.(19/276)
وقتلهم المسلمون شرّ قتلة، وغنموا ما فى عسكرهم، وحصروا توّج فافتتحوها، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنمو ما فيها.
وتوّج هى [التى] [1] استنقذتها جيوش العلاء بن الحضرمىّ أيّام طاوس، ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقرّوا بها، وأرسل مجاشع ابن مسعود بالبشارة والأخماس إلى عمر رضى الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب.
ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدنية شيراز وأرّجان وسينيز وجنابا وجهرم
وفى [2] سنة ثلاث وعشرين قصد عثمان بن أبى العاص [3] إصطخر [4] فالتقى هو وأهلها بجور، فاقتتلوا، وانهزم الفرس، وفتح المسلمون جور، ثمّ إصطخر، وقتلوا ما شاء الله، وفرّ منهم من فرّ. فدعاهم عثمان إلى الجزية والذّمّة، فأجابه الهربذ إليها، وتراجعوا.
وكان عثمان قد جمع الغنائم وخمّسها، وبعث الخمس إلى عمر، وفتح كازرون والنّوبندجان وغلب على أرضها.
وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، وأرّجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضا جنابا ففتحها، وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز، ولقيه جمع من الفرس بناحية جهرم [فهزمهم] [5] وفتحها.
__________
[1] من ابن الأثير.
[2] ابن الأثير 3: 20.
[3] ابن الأثير: «أبى العاص الثقفى» .
[4] ابن الأثير: «أهل إصطخر» .
[5] من ص.(19/277)
وقيل: إنّ فتح إصطخر كان فى سنة ثمان وعشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر فتح فساودرابجرد
وفى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد سارية بن زنيم الدّيلىّ فساودرابجرد، وانتهى إلى عسكرهم وحاصرهم ما شاء الله تعالى.
ثم استمدّوا وتجمّعوا، وتجمّعت إليهم الأكراد من فارس [2] ، فدهم المسلمين أمر عظيم، وأتاهم الفرس من كلّ جانب، فرأى عمر رضى الله تعالى عنه فيما يرى النّائم تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النّهار، فنادى من الغداة: الصّلاة جامعة، حتى إذا كان فى السّاعة التى رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان قد رآهم والعدوّ فى صحراء، إن أقام المسلمون فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى الجبل لم يؤتوا إلّا من وجه واحد.
فقام عمر فقال: يأيّها النّاس، إنّى رأيت هذين الجمعين ...
وأخبر بحالهما، وصاح عمر رضى الله عنه وهو يخطب: يا سارية، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إنّ لله جنودا؛ ولعلّ بعضهم أن يبلّغهم.
فسمع سارية ومن معه الصّوت، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزمهم الله. وأصاب المسلمون مغانم، وأصابوا سفطا فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية، وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر، فقدم
__________
[1] ابن الأثير 3: 21.
[2] ابن الأثير: «أكراد فارس» .(19/278)
عليه، وأخبره الخبر، وقصة الجوهر، فصاح به عمر وقال:
لا ولا كرامة! اقسمه بين الجند، وطرده، وردّ السّفط.
وسأل أهل المدينة الرّسول، هل سمعوا يوم الوقعة شيئا؟ قال:
سمعنا: «يا سارية الجبل» . وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه، ففتح الله سبحانه وتعالى علينا. والله أعلم بالصّواب، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
ذكر فتح كرمان
وفيها [1] قصد سهيل بن عدىّ كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وحشد [له] [2] أهلها واستعانوا بالقفص، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم، فقتل النّسير بن عمرو العجلىّ مرزبانها [3] ، وفتحها المسلمون.
وقيل: إنّ الّذى فتحها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعىّ فى خلافة عمر، ثم أتى الطّبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال:
أقطعنى الطّبسين، وأراد أن يفعل. فقيل: إنّها رستاق، فامتتع.
__________
[1] ابن الأثير 3: 22.
[2] من ص.
[3] المرزبان، من ألقاب رؤساء الفرس.(19/279)
ذكر فتح سجستان
فى [1] سنة ثلاث وعشرين أيضا قصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها فالتقوا فى أدنى أرضهم، فهزمهم المسلمون واتّبعوهم حتى حاصروهم بزرنج، فطلبوا الصّلح على زرنج وما سادوا عليه من الأرضين، واصطلحوا على الخراج، فكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والتّرك، وأمما كثيرة.
وقيل فى فتح سجستان غير هذا، وسنذكره إن شاء الله تعالى فى موضعه.
ذكر فتح مكران
وفيها [2] قصد الحكم بن عمرو التغلبىّ مكران، ولحق به شهاب بن المخارق وسهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النّهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمدّ ملكهم ملك السّند، فأمّده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فهزموا، وقتل منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، واتّبعهم المسلمون يقتّلونهم أياما؛ حتى انتهوا إلى النّهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدىّ. فلمّا قدم المدينة سأله عمر عن مكران،
__________
[1] ابن الأثير 3: 22.
[2] ابن الأثير 3: 23.(19/280)
فقال: يا أمير المؤمنين، هى أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوّها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير منها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شرّ منها.
فقال عمر: أسجّاع أنت أم مخبر! لا والله لا يغزوها لى جيش أبدا، وكتب إلى مهيل والحكم ألّا يجوزنّ مكران أحد من جنودكما، وأمرهما ببيع الفيلة الّتى غنمها المسلمون، وقسم أثمانها على الغانمين.
ذكر فتح بيروذ من الأهواز
وهى بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثنّاة من أسفل، وضمّ الراء وسكون الواو وذال معجمة.
قال: لمّا [1] فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع كثير من الأكراد وغيرهم، وكان عمر رضى الله عنه قد عهد إلى أبى موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة كما ذكرنا؛ حتى لا يؤتى المسلمون فى أعقابهم. فسار أبو موسى والتقى معهم فى شهر رمضان، سنة ثلاث وعشرين ببيروز من بين نهر تيرى ومناذر، فقام المهاجر ابن زياد وقد تحنّط، فقاتل حتى قتل، واشتدّ جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر، وعظم عليه فقده، فرقّ له أبو موسى واستخلفه على جنده.
وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان، وكان مع المسلمين بها حتى
__________
[1] ابن الأثير 3: 24.(19/281)
فتحت، ثم رجع إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد بيروذ، وغنم ما كان تجمّع بها.
وأوفد أبو موسى وفدا إلى عمر بالأخماس، وطلب ضبّة بن محصن الغنوىّ أن يكون فى الوفد، فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبى بيروذ ستّين غلاما. فانطلق ضبّة إلى عمر شاكيا، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلمّا قدم ضبّة على عمر سلّم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبا ولا أهلا! فقال: أما الرّحب فمن الله، وأمّا الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إنّ أبا موسى انتقى ستّين غلاما من أبناء الدّهاقين لنفسه، وله جارية تغدّى جفنة، وتعشّى جفنة تدعى عقيلة، وله قفيزان، وله خاتمان؛ وفوّض إلى زياد بن أبى سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف.
فاستدعى عمر أبا موسى، فلمّا قدم عليه حجبه أيّاما، ثم استدعاه، فسأل عمر ضبّة عمّا قال: فقال: أخذ ستّين غلاما لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء، ففديتهم وقسّمته بين المسلمين، فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان، فقال أبو موسى: قفيز لأهلى أقوتهم به، وقفيز للمسلمين فى أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبّة: ما كذب ولا كذبت.
فلمّا ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر، فعلم أنّ ضبّة قد صدقه. قال: وولّى زيادا، قال: رأيت له رأيا ونبلا(19/282)
فأسندت إليه عملى. قال: وأجاز الحطيئة بألف، قال: سددت فمه بمالى أن يشتمنى، فردّه عمر، وأمره أن يرسل إليه زيادا وعقيلة، ففعل.
فلمّا قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسّنن، والقرآن، فرآه فقيها، فردّه، وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة، وقال عمر: ألا إنّ ضبّة غضب على أبى موسى وردّه مراغما، أن فاته أمر من أمر الدنيا يصدق عليه، وكذب فأفسد كذبه صدقه. فإيّاكم والكذب! فإنّه يهدى إلى النّار.
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد
قال [1] : كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين، أمّر عليهم أميرا من أهل العلم، فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعىّ وقال له: سر باسم الله تعالى، وقاتل فى سبيل الله من كفر بالله؛ فإذا لقيتم عدوّكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزّكاة، وليس لهم من الفىء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الّذى لكم، وعليهم مثل الّذى عليكم، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصّنوا منكم وسألوا أن ينزلوا على حكم الله ورسوله، أو ذمّة الله ورسوله، فلا تجيبوهم؛ فإنكم لا تدرون ما حكم الله رسوله، وذمّتهما فيهم، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، ولا تمثّلوا.
__________
[1] ابن الأثير 3: 25.(19/283)
فساروا حتّى لقوا عدوّا من الأكراد المشركين، فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فأبوا فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا المقاتلة، وسبوا الذّريّة فقسّمها بينهم، ورأى سلمة جوهرا فى سفط، فاسترضى عنه المسلمين وبعثه إلى عمر، فغضب ووجأه فى عنق رسوله وأعاده، فباعه سلمة، وقسم ثمنه فى المسلمين، فكان الفصّ يباع بخمسة دراهم، وقيمته عشرون ألفا.
ذكر فتوح مصر وما والاها
كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص والزّبير بن العوّام رضى الله عنهما، وقد اختلف فى السّنة التى فتحت مصر فيها، فقيل:
فى سنة عشرين. وقيل: سنة ستّ عشرة. والصحيح أنها فتحت قبل عام الرّمادة، وكان عام الرّمادة فى سنة ثمانى عشرة؛ فإنّ عمرو ابن العاص حمل منها الطّعام إلى المدينة فى بحر القلزم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى حوادث السّنين.
وقد اختلف أيضا فى سبب مسير عمرو إليها، واختلف فى كيفيّة الفتح، وكيف كان.
وقد روى الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم- رحمه الله- فى فتوح مصر [1] أخبارا بأسانيد متّصلة إلى جماعة ممّن شهدوا الفتح وغيرهم، اختصرنا ذكرها، مدارها على ابن لهيعة عن عبد الله بن أبى جعفر وعيّاش بن عبّاس العتبانىّ وعلىّ بن يزيد
__________
[1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 53 وما بعدها.(19/284)
ابن أبى حبيب، واللّيث بن سعد وغيرهم، دخل حديث بعضهم فى حديث بعض. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله وحده.
ذكر مسير عمرو الى مصر
قالوا: لمّا قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى الجابية، قام إليه عمرو بن العاص رضى الله عنه، وخلا به فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لى أن أسير إلى مصر، وحرّضه عليها وقال: إنّك إنّك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا، وأعجز عن القتال والحرب. فتخوّف عمر على المسلمين وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظّم أمرها عنده، ويهوّن عليه فتحها، حتّى ركّن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلّهم من عكّ، ويقال: ثلاثة آلاف وخمسمائة. وقيل: ثلثهم من غافق، وقال له:
سر وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله تعالى، فإذا أدركك كتابى بالأنصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها فانصرف، وإن أنت وصلتها قبل ذلك فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو من جوف اللّيل، ولم يشعر به أحد من النّاس، واستخار عمر الله تعالى، فكأنّه تخوّف على المسلمين فى وجههم ذلك.
فكتب إلى عمرو أن ينصرف بمن معه، فأدركه الكتاب [1] وهو
__________
[1] أبن عبد الحكم: «فأدرك الكتاب عمرا» .(19/285)
برفح، فتخوّف إن هو أخذ الكتاب، وفتحه أن يجد فيه الانصراف، فلم يأخذه من الرّسول، ودافعه حتّى انتهى إلى قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل عنها، فقيل: إنّها من أرض مصر، فأخذ الكتاب وقرأه على المسلمين، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى: قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل مصر أن أرجع؛ ولم يلحقنى كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله عزّ وجلّ.
وقد قيل: إنّ عمرو بن العاص كان بفلسطين، فقدم [1] بأصحابه إلى مصر بغير إذن عمر، وكتب إليه يعلمه، فكتب عمر إليه، فأتاه كتابه وهو دون العريش، فلم يقرأ كتابه حتّى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه:
من عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد، فإنّك سرت إلى مصر ومن معك، وبها جموع الرّوم؛ وإنّما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا بكلّ أمّتك [2] ما كانوا لذلك، وما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع.
فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: من مصر.
فتقدّم كما هو. ويقال: بل كان عمرو فى جنده بقيساريّة، فكتب إلى عمر بن الخطّاب، وعمر إذ ذاك بالجابية، وهو يستأذنه على [3] المسير إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحّوا من منزلتهم كأنّهم
__________
[1] ك: «فتقدم» .
[2] ابن عبد الحكم: «ثكل أمك» .
[3] ك: «يستأذنه بالمسير» .(19/286)
يريدون أن يتحوّلوا من منزل إلى منزل، فسار بهم ليلا، فلمّا فقده أمراء الأجناد استنكروا فعله، ورأوا أن قد غرّر، فرفعوا ذلك إلى عمر، فكتب إليه:
إلى العاصى ابن العاص، أمّا بعد، فإنّك قد غرّرت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك وقد دخلت فامض، واعلم أنّى ممدّك.
ويقال: إنّ عمر رضى الله عنه كتب إلى عمرو بعد فتح الشّام:
أن اندب النّاس إلى المسير معك، فمن خفّ معك فسر به. وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، وأسرع فى الخروج، ثم دخل عثمان بن عفّان رضى الله عنه على عمر، فأخبره عمر بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عمرا فيه إقدام وحبّ للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة؛ فيعرّض المسلمين للتهلكة رجاء فرصة لا يدرى تكون أم لا! فندم عمر على كتابه إلى عمرو، وكتب إليه أن ينصرف إن كان لم يدخل أرض مصر على ما تقدّم.
قالوا: ونفرت راشدة وقبائل من العرب مع عمرو، فسار بهم، فأدركه عيد النّحر بالعريش، فضحّى هناك. ولمّا بلغ المقوقس مسير عمرو إلى مصر، توجّه إلى الفسطاط، وكان يجهّز الجيوش على عمرو، وكان على القصر رجل من الرّوم، يقال له: الأعيرج واليا تحت يد المقوقس.(19/287)
وتقدّم عمرو فكان أوّل موضع قوتل به الفرما، قاتله الرّوم هناك قتالا شديدا.
قال: وكان بالإسكندرية أسقفّ للقبط يقال له: أبو ميامين، فلمّا بلغه قدوم عمرو كتب إلى القبط يعلمهم أنّه لا يكون للرّوم دولة، وأنّ ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو.
فيقال: إنّ القبط الّذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم سار عمرو من الفرما لا يدافع إلّا بالأمر الخفيف، حتّى نزل بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتّى فتح الله عليه، ثم مضى حتّى أتى أمّ دمين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم، وجاء رجل من لخم- قيل: هو خارجة بن حذافة إلى- عمر، فقال له: اندب معى خيلا حتّى آتى من ورائهم عند القتال [1] ، فأخرج معه خمسمائة فارس، فسار بهم من وراء الجبل حتّى دخلوا مغار بنى وائل قبيل الصّبح، وكانت الرّوم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، وبثّوا فى أفنيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين [2] أصبحوا، وخرجت الخيل من ورائهم فانهزموا حتّى دخلوا الحصن، وهو القصر الّذى يقال له: بابليون.
__________
[1] ك: «الباب» .
[2] ك: «حتى» .(19/288)
ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط إلى الجزيرة
قال [1] : ولمّا انهزموا إلى القصر حصرهم عمرو بن العاص ومن معه حينا، وقاتلهم قتالا شديدا صباحا [2] ، ثم كتب إلى عمر يستمدّه، فأمّده بأربعة آلاف رجل، على كلّ ألف منهم رجل [وكتب إليه: قد أمددتك بأربعة آلاف] [3] على كلّ ألف رجل:
الزّبير بن العّوام والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصّامت، وسلمة بن مخلد، ومنهم من جعل بدل سلمة خارجة بن حذافة وقال عمر له فى كتابه: اعلم أنّ معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة. وقيل: إنّه لمّا أشفق عمر، أرسل الزّبير فى اثنى عشر ألفا، فلمّا قدم تلقّاه عمرو، ثم أقبلا، فركب الزّبير وطاف بالخندق، وفرّق الرّجال حوله، وألحّ عمرو إلى القصر، ونصب عليه المنجنيق. وأبطأ الفتح. فقال الزّبير: إنّى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلّما إلى جانب الحصّن من ناحية سوق الحمام، ثمّ صعد، وأمرهم أنّهم إذا سمعوا التّكبير أن يجيبوه جميعا، فلم يشعر الرّوم إلّا والزّبير على الحصن يكبّر وبيده السّيف، وتحامل النّاس على السّلّم حتى
__________
[1] ابن عبد الحكم 61.
[2] ابن عبد الحكم: «يصبحهم ويمسيهم» .
[3] من ابن لحكم.(19/289)
خشى عمرو أن ينكسر بهم، فنهاهم، ولمّا صاروا بأعلى الحصن كبّروا جميعا، وأجابهم المسلمون من خارج الحصن، فما شكّ أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جميعا، فهربوا، فعمد الزّبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون؛ فحينئذ سأل المقوقس الصّلح على نفسه ومن معه؛ على أن يفرض للعرب على القبط دينارين على كلّ رجل منهم، فأجابهم عمرو إلى ذلك.
وكان مكثهم على باب القصر حتّى فتحوه سبعة أشهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال ابن عبد الحكم: وقد [1] سمعت فى فتح القصر وجها آخر، ورواه بسنده إلى خالد بن يزيد، عن جماعة من التّابعين، يزيد حديث بعضهم على حديث بعض، قالوا: لمّا حصر المسلمون بابليون، وبه جماعة من الرّوم، وأكابر القبط وعليهم المقوقس، فقاتلهم شهرا، فلمّا رأى القوم الجدّ من المسلمين تنحىّ المقوقس وجماعة من أكابر القبط ورؤسائهم، وخرجوا من باب القصر القبلىّ، ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة.
قال: وهى موضع الصّناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى زمن زيادة النّيل، وتخلّف الأعيرج بالقصر بعد المقوقس، ثم تحوّل إلى الجزيرة فى السّفن. والله أعلم.
__________
[1] ابن عبد الحكم 64 وما بعدها.(19/290)
ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت
وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية قال [1] : وأرسل المقوقس إلى عمرو يقول: إنّكم قد ولجتم بلادنا [2] ، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم فى أرضنا؛ وإنّما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلّتكم الرّوم ومعهم من العدد والسّلاح، وقد أحاط بكم هذا النّيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع منهم؛ فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الرّوم؛ فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلّكم أن تندموا ...
ونحو ذلك من الكلام.
فلما أتت رسول المقوقس عمرا حبسهم عنده يومين وليلتين؛ حتى خاف عليهم المقوقس وقال لأصحابه: أترون أنّهم يقتلون الرّسل ويحبسونهم، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنّما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين، ثم ردّهم عمرو. وأجابه مع رسله: إنّه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال: إمّا أن دخلتم فى الإسلام وكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم
__________
[1] ابن عبد الحكم 65.
[2] ابن عبد الحكم: «فى بلادنا» .(19/291)
فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون. وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم، وهو خير الحاكمين.
فلمّا جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتم هؤلاء؟
قالوا: رأينا قوما، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتّواضع أحبّ إليهم من الرّفعة، ليس لأحدهم فى الدّنيا رغبة ولا نهمة؛ إنّما جلوسهم على التّراب، وأكلهم على الرّكب، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السّيّد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصّلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشّعون فى صلاتهم.
فقال المقوقس: والّذى يحلف به، لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد؛ ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النّيل لم يجيبونا بعد اليوم، إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم. ثم ردّ رسله إلى المسلمين، أن ابعثوا إلينا رسلا منكم، نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه ان يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، أحدهم عبادة بن الصّامت، وأمره أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلّا إلى إحدى هذه الثّلاث خصال.
فلمّا دخلوا على المقوقس تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود. وقدّموا غيره يكلّمنى. فقالوا جميعا:
إنّ هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا، والمقدّم(19/292)
علينا، وإنّما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دونتا بما أمره به، وأمرنا ألّا نخالف رأيه وقوله، قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنّما ينبغى أن يكون دونكم.
قالوا: إنّه وإن كان أسود كما ترى، فإنّه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السّواد فينا.
فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود وكلّمنى برفق، فإنّى أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علىّ ازددت [1] لذلك هيبة، فتقدّم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابى ألف رجل كلّهم أشدّ سوادا منى، وأفظع منظرا؛ ولو سمعتهم ورأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابى، وإنّى بحمد الله مع ذلك ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى؛ وذلك إنّما رغبتنا وهمّتنا الجهاد فى سبيل الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا ممّن حارب الله لرغبة فى دنيا ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله عزّ وجلّ أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب أم كان لا يملك إلّا درهما؛ لأنّ غاية أحدنا من الدّنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره [2] ، وشملة يلتحفها. فإن كان أحدنا لا يملك إلّا ذلك كفاه؛ وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الّذى بيده، وبلّغه ما كان فى الدّنيا؛ لأنّ الدّنيا ليست بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، وإنّما النّعيم والرّخاء فى الآخرة؛
__________
[1] ك: «أردت» ، تخريف.
[2] ك: «ليله ونهاره» .(19/293)
وبذلك أمرنا ربّنا عزّ وجلّ، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألّا تكون همّة أحدنا من الدّنيا إلّا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله فى رضا ربّه، وجهاد عدوّه.
فلمّا سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرّجل قطّ؟ لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندى من منظره، إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظنّ ملكهم إلّا سيغلب على الأرض كلّها.
ثم أقبل على عبادة فقال: أيّها الرجل الصّالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذكرت، وما ظهرتم على من كان إلّا لحبّهم الدّنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الرّوم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنّجدة والشّدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنّكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم فى ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرقّ عليكم لضعفكم وقلّتكم، وقلّة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، تقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.
فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الرّوم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم؛ فلعمرى ما هذا بالذى تخوّفنا به، ولا بالّذى يكسرنا عمّا نحن(19/294)
فيه؛ إن كان ما قلتم حقا؛ فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالهم، وأشدّ تحريضا عليهم؛ لأنّ ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه؛ إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنّته، وما من شىء أقرّ لأعيننا ولا أحبّ إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين:
إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا؛ وإنّها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإنّ الله عزّ وجلّ قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[1] .
وما منّا رجل إلّا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشّهادة وألّا يردّه إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منّا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ منّا ربّه أهله وولده؛ وإنّما همّنا ما أمامنا.
وأمّا قولك: إنّا فى ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السّعة؛ لو كانت الدّنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر ممّا نحن عليه، فانظر الّذى تريد فبيّنه لنا؛ فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل؛ بذلك أمرنى أميرى، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قبل إلينا.
إمّا أجبتم إلى الإسلام الّذى هو الدّين الّذى لا يقبل الله تعالى
__________
[1] سورة البقرة 249.(19/295)
غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته. أمرنا الله أن نقاتل من من خالفه ورغب عنه؛ حتى يدخل فيه، فإن فعل فإنّ له مالنا، وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التّعرض لكم، وإن أبيتم إلّا الجزية، فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كلّ عام أبدا، ما بقينا وبقيتم، ونقاتل من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم وبلادكم وأموالكم، ونقوم بذلك إن كنتم فى ذمّتنا، وكان لكم به عهد الله إلينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلّا المحاكمة بالسّيف حتى نموت عن آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم، هذا ديننا الّذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلّا أن تتّخذونا خولا أو نكون لكم عبيدا ما كانت الدّنيا.
فقال عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. قال: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال؟ فرفع عبادة يديه فقال: لا وربّ هذه السّماء، وربّ هذه الأرض، وربّنا وربّ كلّ شىء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما تريدون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذّلّ! أمّا ما أرادوا من(19/296)
دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا؛ أن نترك دين المسيح بن مريم، وندخل فى دين غيره ولا نعرفه. وأمّا ما أرادوا من أن يسبونا ويجعلونا عبيدا أبدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منّا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فراجع صاحبك على أن نعطيكم فى مرّتكم هذه ما تمنّيتم وتنصرفون.
فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثّلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين.
قالوا: وأىّ خصلة تجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم؛ أمّا دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأمّا قتالهم فأنا أعلم أنّكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثّالثة. قالوا:
أفنكون لهم عبيدا أبدا! قال: نعم، تكونون عبيدا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم، وأموالكم وذراريّكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدا تباعون وتمزّقون فى البلاد، مستعبدين أبدا فى البلاد. أنتم وأهلوكم وذراريّكم.
قالوا: فالموت أهون علينا. فأمروا بقطع الجسر بين الفسطاط والجيزة، وبالقصر من القبط والرّوم جمع كثير، فألحّ عليهم المسلمون عند ذلك بالقتال؛ حتى ظفروا بمن فى القصر، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأسروا من أسروا، وانحازت السّفن كلّها إلى الجزيرة.
هذا والمسلمون قد أحدق بهم الماء من كلّ وجه، لا يقدرون على أن(19/297)
يتقدّموا نحو الصّعيد ولا غيره من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟ ما تنتظرون؟ فو الله لنجيبنّهم إلى ما أرادوا طوعا، أو لنجيبنّهم إلى ما هو أعظم منه كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا؛ فعند ذلك أذعنوا إلى الجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.
فأرسل المقوقس إلى عمرو يقول له: إنّى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التى أرسلت إلىّ بها، فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الرّوم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم، وحبّى صلاحهم، ورجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت فى نفر من أصحابى وأصحابك؛ فإن استقام الأمر بيننا تمّ ذلك لنا جميعا، وإن لم يتمّ رجعنا إلى ما كنّا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك فقالوا: لا تجبهم إلى شىء من الصّلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلّها لنا فيئا وغنيمة كما صار القصر لنا وما فيه.
فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثّلاث الّتى عهد إلىّ فيها أجبتهم إليها، وقبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين عن كلّ نفس: شريفهم(19/298)
ووضيعهم وضعيفهم، ومن بلغ الحلم منهم، ليس على الشّيخ الفانى، ولا على الصّغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا النساء شىء، وعلى أنّ للمسلمين عليهم النّزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين، أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيّام، مفترض ذلك عليهم، وأنّ لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرّض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كلّه على القبط خاصّة، وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصّة من بلغ منهم الجزية، وفرض عليه الديناران، رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدّة، فكان جميع من أحصى منهم بمصر أكثر من ستّة ألاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كلّ سنة.
وروى عن يحيى بن ميمون الحضرمىّ، قال: بلغت عدّتهم ثمانية آلاف ألف.
قال: وشرط المقوقس للرّوم أن يخيّروا، فمن أحبّ منهم أن يقيم على مثل هذا المقام أقام على ذلك لازما له، مفترضا عليه ممّن أقام بالإسكندرّية، وما حولها من أرض مصر كلّها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الرّوم خرج، وعلى أنّ للمقوقس الخيار فى الرّوم خاصّة، حتى يكتب إلى ملك الرّوم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعا عليه، وكتبوا به كتابا، وكتب المقوقس إلى ملك الروم كتابا يعلمه بالأمر كلّه.
فكتب إليه يقبّح رأيه ويعجّزه ويردّ عليه ما فعل، وأمره بقتال(19/299)
المسلمين بالرّوم إن أبى القبط القتال، وكتب إلى جماعة الرّوم بمثل ذلك.
فجمع المقوقس الرّوم وقال: اعلموا يا معشر الرّوم أنّى والله لا أخرج ممّا دخلت فيه، بعد أن ذكر لهم شجاعة العرب وصبرهم وجلدهم وحبّهم الموت وغير ذلك من حالهم، ثم قال: والله إنّى لأعلم أنّكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنّون أن لو كنتم أطعتمونى؛ وذلك أنّى قد عاينت ورأيت، وعرفت ما لم يعاين الملك، ولم يره ولم يعرفه. أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السّنة! ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص فقال له: إنّ الملك قد كره ما فعلت، وعجزّنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الرّوم ألّا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك، أو تظفر بهم، ولم أكن أخرج ممّا دخلت فيه، وعاقدتك عليه؛ وإنّما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، فقد تمّ صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض.
وأمّا الرّوم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال، قال عمرو: وما هى؟ قال:
لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم، وألزمنى ما ألزمتهم، وقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم مقيمون لك عل ما تحبّ.
وأما الثانية، فإن سألك الرّوم بعد اليوم أن تصالحهم(19/300)
فلا تصالحهم حتّى تجعلهم فيئا وعبيدا؛ فإنّهم أهل ذلك؛ فإنّى نصحتهم فاستغشّونى [1] .
وأمّا الثّالثة: فأطلب إليك إن أنا متّ أن تأمرهم [2] يدفنونى فى أبى يحنّس بالإسكندريّة.
فأجابه عمرو إلى ما طلب على أن يقيموا له الجسرين جميعا، والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندريّة، ويقيموا لهم الأنزال والضّيافة والأسواق، ففعلوا ذلك، وسارت القبط أعوانا للمسلمين على الرّوم.
__________
[1] ابن عبد الحكم 73: «فاستغشوا نصحى» .
[2] ص: «إن تأمرهم يدفنى» .(19/301)
ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان من الحروب بينهم إلى أن فتحت الإسكندرية
قال [1] : واستعدّت الرّوم واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الرّوم، فيها جمع من الرّوم عظيم بالعدّة والسّلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص، ومن معه، وذلك حين أمكنه الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطّرق، وأقاموا الجسور والأسواق، وخرج عمرو فلم يلق من الروم أحدا حتّى بلغ ترنوط، فلقى بها طائفة من الرّوم، فقاتلوه قتالا خفيفا، فهزمهم، ومضى بمن معه حتى لقى جمع الرّوم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيّام، ثم فتح الله على المسلمين، وانهزم الرّوم.
وقيل: بل لمّا انهزموا من ترنوط، بعث عمرو بن العاص شريك ابن سمىّ فى آثارهم، وكان على مقدّمة عمرو، فأدركهم شريك عند الكوم [2] ، فقاتلهم، فمن النّاس من يقول: إنّه هزمهم، ومنهم من يقول: إنّه قاتلهم إلى الكوم، فاعتصم به، وأحاطت به الرّوم، فأمر شريك أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصّدفى، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحطّ عليهم من الكوم، وطلبته الرّوم فلم تدركه، فأتى عمرا
__________
[1] ابن عبد الحكم 73.
[2] ابن عبد الحكم: «عند الكوم الذى يقال له كوم شريك» .(19/302)
فأخبره، فأقبل عمرو نحو الروم فأنهزموا، وبالفرس الأشقر [1] هذا سمّيت خوخة الأشقر الّتى بمصر؛ وذلك أنّه نفق [2] فدفنه صاحبه هناك، فسمّى المكان به.
قال: ثمّ التقى عمرو والرّوم لسليطس، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، ثم هزمهم الله [3] . ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا هناك بضعة عشر يوما، وكان ابنه عبد الله بن عمرو على المقدّمة، ففشت فيه الجراحة وصلّى عمرو بالنّاس صلاة الخوف، بكلّ طائفة ركعة وسجدتين.
ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الرّوم مقتلة عظيمة، واتّبعوهم حتّى بلغوا الإسكندرية فتحصّن بها الرّوم، وكانت عليهم حصون منيعة، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس، إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط، يمدّونهم بما احتاجوا من الأطعمة والأعلاف.
هذا ورسل ملك الرّوم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب، والأمداد تأتيهم من قبله، وكان يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندريّة كان ذلك انقطاع ملك الرّوم وهلاكهم؛ لأنّه ليس للرّوم كنائس أعظم من كنائس الإسكندريّة، ونجهّز الملك ليباشر القتال بنفسه، وأمر ألّا يتخلّف عليه أحد من الرّوم، وقال: ما بقاء
__________
[1] ابن عبد الحكم: «الفرس الأشقر الذى يقال له: «أشقر صدف وكان لا يجارى سرعة» .
[2] نفق، أى هلك.
[3] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو» .(19/303)
الرّوم بعد الإسكندرية! فلمّا فرغ من جهازه أهلكه الله فمات وكفى الله المسلمين مؤنته.
وكان موته فى سنة تسع عشرة، فكسر الله بموته شوكة الرّوم، ورجع جمع كبير ممّن كان توجّه لإعانة أهل الإسكندرية، فاستأسدت العرب عند ذلك، وألحّت بالقتال، فقاتلوا قتالا شديدا، فبرز رجل من الروم، وبرز له مسلمة بن مخلد، فصرعه الرّومىّ وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه ليقتله حتّى حماه رجل من أصحابه، وكان مسلمة لا يقام له؛ ولكن غلبته المقادير، فشقّ ذلك على المسلمين.
وكان مسلمة ثقيل للبدن، كثير اللّحم، فاشتدّ غضب عمرو، وقال: ما بال الرّجل المستّه الّذى يشبه النّساء يتعرّض إلى مداخل الرجال ويتشبّه بهم! فغضب مسلمة من ذلك ولم يراجعه، ثم اشتدّ القتال حتّى اقتحم المسلمون حصن الإسكندريّة، وقاتلوا فيه، ثم جاشت الرّوم حتّى أخرجوهم جميعا من الحصن، إلّا أربعة، منهم عمرو ابن العاص، ومسلمة بن مخلد، فأغلقوا الحصن عليهم، والتجئوا إلى ديماس [1] من حمّامات الروم، فأنزل الرّوم روميّا يتكلّم بالعربيّة، فقال لهم: إنّكم قد سرتم أسارى فى أيدينا، فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم.
ثم قال لهم: إنّ فى أيدى أصحابكم منّا رجالا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود ونفادى بكم أصحابنا، ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.
__________
[1] الديماس: الحمام.(19/304)
ثم قال لهم الرّومّى: فهل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم، أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله؛ على أن يبرز منّا رجل، ومنكم رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلّينا سبيلكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه.
فبرز رجل من الرّوم وقد وثقت الرّوم بنجدته وشدّته، فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: أنا أكفيك إن شاء الله.
فقال عمرو: دونك؛ فربّما فرّجها الله بك. فبرز مسلمة للرّومّى فتجاولا ساعة، ثم أعان الله مسلمة فقتله، وكبّر وكبّر أصحابه، ووفى لهم الرّوم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن، فخرجوا، والرّوم لا يدرون أن أمير القوم فيهم، ثم بلغهم ذلك، فأسفوا على ما فاتهم منه، وندم عمرو واستحبا من مقالته لمسلمة ما قال، فاستغفر له عمرو.
قال [1] : ولمّا أبطأ الفتح على عمر، كتب إلى عمرو:
أمّا بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، وأنكم تقاتلونهم منذ سنتين؛ وما ذاك إلّا لما أخذتم [2] وأحببتم من الدنيا ما أحبّ عدوّكم، وإنّ الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نيّاتهم.
وقد كنت وجّهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أنّ الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف؛ إلّا أن يكونوا غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب النّاس وحضّهم على قتال
__________
[1] ابن عبد الحكم: 79.
[2] ابن عبد الحكم: «أحدثتم» .(19/305)
عدوّهم، ورغّبهم فى الصّبر والنّيّة، وقدّم أولئك الأربعة فى صدور النّاس، ومر النّاس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزّوال يوم الجمعة؛ فإنّها ساعة نزول الرّحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النّصر. ففعلوا ففتح الله عليهم.
قال [1] : ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فى قتال الرّوم، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنعقد له على الناس، فيكون هو الّذى يباشر القتال ويكفيكه. فقال عمرو:
ومن ذاك؟ قال: عبادة بن الصّامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلمّا دنا منه أراد النّزول، فعزم عمرو عليه ألّا يفعل، وقال: ناولنى سنان رمحك، فناوله عبادة إيّاه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولّاه قتال الرّوم.
فتقدّم عبادة فصافّ [2] الرّوم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندريّة من يومه ذلك، وكان حصارهم الإسكندرية أربعة عشر شهرا، خمسة أشهر فى حياة هرقل، وتسعة أشهر بعد موته، وفتحت يوم الجمعة مستهلّ المحرّم، سنة عشرين، وقتل من المسلمين على الإسكندرية فى طول هذه المدة اثنان وعشرون رجلا.
__________
[1] ابن عبد الحكم 79.
[2] كذا فى ابن عبد الحكم، وفى الأصول: «فصادف» .(19/306)
ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية
قال:: ولمّا [1] فتحت، الإسكندريّة هرب الرّوم منها فى البرّ والبحر، فخلّف عمرو من أصحابه بها ألف رجل، ومضى فى طلب من انهزم من الروم فى البر، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية، فقتلوا من كان بها من المسلمين إلّا من هرب منهم، وبلغ ذلك عمرا، فكرّ راجعا إليها، ثأتاد رجل يقال له ابن بسّامة، كان بوابا بالإسكندريّة، فسأل عمرا أن يؤمنّه على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك، ففتح له ابن بسّامة، فدخل عمرو، وكان مدخله من ناحية القنطرة التى يقال لها قنطرة سليمان، وكان مدخله الأوّل من باب المدينة الذى من ناحية كنيسة الذّهب، ووفى عمرو لابن بسّامة [2] .
وبعث عمرو إلى عمر بن الخطّاب معاوية بن حديج بشيرا بالفتح، فقال معاوية: ألا تكتب معى كتابا؟ فقال عمرو: وما أصنع بالكتاب! ألست رجلا عربيا تبلّغ الرسالة، وما رأيت وحضرت! فقدم على عمر فأخبره [3] الخبر، فخرّ ساجدا، وجمع النّاس وأخبرهم، ثمّ كتب عمرو بعد ذلك إلى عمر:
__________
[1] ابن عبد الحكم: ص 80 وما بعدها.
[2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «وقد بقى لابن بسامة عقب بالإسكندرية إلى اليوم» .
[3] ابن عبد الحكم: «فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية» .(19/307)
أمّا بعد، فإنّى قد فتحت مدينة لا أصف ما فيها؛ غير أنّى أصبت فيها أربعة آلاف بنية [1] ، بأربعة آلاف حمّام، وأربعين ألف يهودىّ عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.
قال ابن عبد الحكم [2] : لمّا فتح عمرو الإسكندريّة وجد فيها اثنى عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر.
قال: ورحل [3] منها فى اللّيلة التى دخل فيها عمرو بن العاص، أو فى اللّيلة التى خافوا فيها دخوله سبعون ألف يهودىّ.
قال: وقال حسين بن شفىّ بن عبيد: كان بالإسكندرية فيما أحصى من الحمّامات اثنا عشر ديماسا، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كلّ مجلس منها يسع جماعة نفر. وكان عدّة من بالإسكندريّة من الرّوم مائتى ألف من الرّجال، فلحق بأرض الرّوم أهل القوّة، وركبوا السّفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحمل فيها ثلاثون ألفا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى من الأسارى ممّن بلغ الخراج، فأحصى يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصّبيان، فاختلف النّاس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثر النّاس يريدون قسمها.
فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فكتب إليه عمر:
لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوّة لهم على جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، وكانت مصر كلّها صلحا بفريضة دينارين
__________
[1] ابن عبد الحكم: «منية» تحريف.
[2] فتوح مصر لابن عبد الحكم 82.
[3] ابن عبد الحكم: «ترحل» .(19/308)
دينارين على كلّ رجل لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه أكثر من ذلك؛ إلّا أنّه يلزم بقدر ما يتوسّع فيه من الأرض والزّرع، إلا الإسكندريّة، فإنّهم كانوا يؤدّون الجزية والخراج على قدر ما يرى من وليّهم؛ لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة من غير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة.
قال: وكانت قرى من مصر قاتلت المسلمين، وظاهروا الرّوم عليهم، وهى: بلهيب، وقرية الخيس، وسلطيس، وقرسطا، وسخا. فسبوا، فوقعت سباياهم بالمدينة، فردّهم عمر بن الخطّاب إلى قراهم، وصيّرهم وجماعة القبط ذمّة، وكتب بردّهم.
وقيل: إنّما كتب عمر فى أهل سلطيس خاصّة يقول: من كان منهم فى أيديكم، فخيّروه بين الإسلام، فإن أسلم فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وان اختار دينه فخلّوا بينه وبين قريته، وأن تجعل القرى الّتى ظاهرت مع الإسكندريّة ذمّة للمسلمين، يضربون عليها الخراج.(19/309)
ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة
قال [1] : وقد ذهب آخرون إلى أنّ مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
روى عن سفيان بن وهب الخولانىّ، قال: لمّا فتحنا مصر بغير عهد قام الزّبير بن العوّام، فقال: اقسمها يا عمرو، فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر، فأجابه أن أقرّها حتّى يغزو منها حبل الحبلة.
وقيل: إنّ الزّبير صولح على شىء أرضى به.
وروى ابن لهيعة بسنده إلى عمرو بن العاص أنّه قال: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد، إن شئت قتلت، وإن شئت خمّست، وإن شئت بعت إلّا أهل أنطابلس؛ فإنّ لهم عهدا نوفى لهم به.
وعن ربيعة بن أبى عبد الرّحمن أن عمرو بن العاص فتح مصر بغير عهد ولا عقد، وأنّ عمر بن الخطاب حبس درّها وضرعها [2] ؛ أن يخرج منه شىء نظرا للإسلام وأهله.
وعن عروة بن الزّبير: أنّ مصر فتحت عنوة.
وعن عبد الملك بن جنادة قال: كتب حيّان بن شريح- وكان من أهل مصر من موالى قريش- إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل
__________
[1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 88 وما بعدها.
[2] ابن عبد الحكم: «وصرها» .(19/310)
جزية موتى القبط على أحيائهم. فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد [1] .
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيّان، أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم.
وعن عبد الله بن بكير قال: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية فى سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذّف به، فسخّر رجلا من القبط، فكلّم فى ذلك فقال: إنّهم بمنزلة العبيد إن احتجت إليهم.
وعن ابن شهاب أنه قال: كان فتح مصر، بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطّاب جميعا ذمّة، وحملهم على ذلك، ومضى ذلك فيهم إلى اليوم.
ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب
لمّا رأيت جماعة من المؤرّخين اقتصروا فى أخبار الإسكندريّة عند ذكرهم لفتوحها على ما ذكرت أو نحوه، ومنهم من اختصر ذلك، واقتصر على مجرّد الفتح، ولم يتعرّضوا إلى ما سواه من أخبارها، آثرت أن أضمّ إلى ما شرحته من أخبار فتحها ذكر أخبار بنائها، وسببه وما شاهدوه بأبنيتها من العجائب، وكيف تحيّل على وضعها حتّى تمّت، ودفع ظلمة الضّرر عن سكّانها لمّا ادلهمّت، لأنّ مثل هذا الثّغر العظيم الّذى شاع فى الآفاق ذكره واشتهر، وحمد
__________
[1] بعدها فى ابن عبد الحكم: «إنما أخذوا عنون بمنزلة العبيد» .(19/311)
من التجأ إليه ممّن نبت به الغربة وعاقبة السّفر، وحقّق باختياره صدق الخبر عنه وتيقّن الخبر، لا يقتصر فيه على هذه النّبذة التى ذكرناها، واللّمعة الّتى أوردناها؛ بل يتعيّن بسط القول فيه، وأن يتكلّم المؤلّف إذا انتهى إليه بملء فيه. وربّما اعترض علىّ معترض لم يطالع مجموع ما ألّفت، ولا وقف على جملة ما صنّفت، فيقول: كيف اقتصر على فتوح مصر على مجرّده وهى أصل بلاده، وقاعدة عباده، وبسط القول فى الإسكندرية وهى على الحقيقة من مضافاتها، وولاية من جملة ولاياتها! وقد تجول فيه خيل الاعتراض، ويعدل عن الانشراح إلى الانقباض، ويتوّهّم أنّ ذلك عن عجز أو قصر، وإن بسط العذر فيقول: عن ملال وضجر. وليس الأمر- ولله الحمد- كذلك؛ لأنّا ذكرنا أخبار مصر فى كتابنا هذا فى أربعة مواضع سلفت منه، فذكرنا خصائصها وما فضّلت به على غيرها فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وكلّ ذلك فى السّفر الأوّل من كتابنا فى خصائص البلاد، وذكرنا أخبار نيلها فى الباب السّابع من القسم الرّابع من الفنّ الأوّل فى الأنهار، وذكرنا أخبار ما بها من المبانى القديمة والآثار العظيمة، فى الباب الثّالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل.
وذكرنا أخبار من ملكها من ملوك الأمم قبل الطّوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار، وغير ذلك من أخبارها وعجائبها، وذلك فى الباب الثانى(19/312)
من القسم الرّابع من الفنّ الخامس، وهو فى السّفر الثّانى عشر، والثالث عشر من هذا الكتاب، فلا اعتراض بعد ذلك علىّ ولا تقصير تنتسب نسبته إلىّ.
ولنأخذ الآن فى أخبار الإسكندرية، قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله [المسعودىّ] رحمه الله فى كتابه المترجم «بمروج الذّهب» [1] .
ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونىّ لمّا استقام ملكه فى بلاده، سار يختار أرضا صحيحة الهواء، والتّربة والماء، فانتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فى موضعها آثار بنيان وعمدا كثيرة من الرّخام، وفى وسطها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد: «أنا شدّاد بن عاد، شددت بساعدىّ البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، الّتى لم يبن مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هاهنا كإرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم وكرم [2] ، من جميع العشائر والأمم، [وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم] [3] ، فأصابنى ما أعجلنى، وعمّا أردت إليه قطعنى مع وقوع [4] ما أطال همّى وشجنى، وقلّ نومى وسكنى، فارتحلت بالأمس عن دارى، لا لقهر ملك جبّار، ولا خوف جيش جرّار، ولا عن رغبة [5] ولا صغار؛ ولكن لتمام الأقدار [6] ، وانقطاع الآثار،
__________
[1] مروج الذهب 1: 370 وما بعدها.
[2] المسعودى: «إقدام وكرم» .
[3] من المسعودى.
[4] فى الأصلين: «وقوعها» ، وما أثبته من المسعودى.
[5] المسعودى: «رهبة» .
[6] المسعودى: «المقدار» .(19/313)
وسلطان العزيز الجبّار، فمن رأى أثرى، وعرف خبرى، وطول عمرى، ونفاذ بصرى، وشدّة حذرى، فلا يغترّ بالدّنيا بعدى» ...
وكلام كثير يرى فيه فناء الدّنيا، ويمنع من الاغترار بها، والسّكون إليها، لم يذكره المسعودىّ.
قال [1] : فنزل الإسكندر مفكّرا يتدبّر هذا الكلام ويعتبر، ثم بعث بحشر الصّنّاع من البلاد، وخطّ الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا، وأمر بنقل الرّخام والمرمر والأحجار من جزيرة صقلّية، وبلاد إفريقيّة، وأقريطيش، وأقاصى [بحر] [2] الرّوم [3] .
وجزيرة رودس وغيرها، فنقلت فى المراكب، وأمر الصّنّاع والفعلة أن يدوروا بما رسم لهم من أساس المدينة، وعمل على كلّ قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منطوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرّخام كان أمام مضربه.
وعلّق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر النّاس والقوّام على الصّنّاع والبنّائين والفعلة، أنّهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها. وأحبّ الإسكندر أن يجعله فى وقت يختاره، وطالع سعد [4] يأخذه، فخفق الإسكندر يوما برأسه، فأخذته سنة فى حال ارتقابه للوقت [5] .
فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير فحرّكه، وخرج صوت
__________
[1] المصدر نفسه.
[2] من المسعودى.
[3] بعدها فى المسعودى: «مما يلى مصبه من بحر أقيانوس» .
[4] المسعودى: «يختاره ذى طالع سعيد» .
[5] المسعودى: «ارتقابه؟؟؟ الوقت المحمود» .(19/314)
الجرس، وتحرّكت الحبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصّغار، وكان قد عمل ذلك بحركات فلسفيّة.
فلمّا سمع الصّنّاع حسّ أصوات الجرس وصنعوا الأساس [1] دفعة واحدة وارتفع الضّجيج بالتّحميد والتّقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأخبر به، فقال:
أردت أمرا والله أراد غيره، ويأبى الله إلّا ما يريده، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إيّاها.
قال: ولمّا [2] أحكم بناؤها، وثبّت أساسها، وجنّ اللّيل عليهم، خرجت دوابّ من البحر أتت على جميع ذلك البنيان؛ فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدء الخراب فى عمرانها، وتحقّق مراد البارى فى زوالها. وتطيّر من فعل الدّوابّ، وتكرّر ذلك من فعل الدّوابّ فى كلّ يوم، والإسكندر يوكّل به من يحرسه، وهو يصبح خرابا، فقلق لذلك، وراعه ما رأى، ففكّر ما الّذى يصنع! وأىّ حيلة يعمل فى رفع أذى الدّوابّ عن المدينة، فسنحت له الفكرة ليلة، فلمّا أصبح أمر الصّنّاع أن يتّخذوا تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع فى عرض خمسة أشبار، وجعل فيه جامات من الزّجاج، وطليت بالقار وغيره من الأطلية التى تمنع الماء أن يدخل التّابوت، وجعل فيه مواضع للحبال، ودخل فيه ومعه رجلان من كتّابه ممّن له علم بإتقان التّصوير، وأمر أن يستر [3] عليه، وعليهم باب
__________
[1] المسعودى: «فلما رأى الصناع تحرك الحبل وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس ... » .
[2] المصدر نفسه 1: 371 وما بعدها.
[3] المسعودى: «أن يسد عليه الأبواب» .(19/315)
التّابوت، ويطلى بتلك الأطلية [1] ، وأمر بمركبين، فعلّق التّابوت بينهما وجعل فى أسفله من الخارج مثقلات الرّصاص والحديد، وشدّ حباله إلى المركبين، وأخرجهما إلى اللّجّة، وسمّر بعضها بخشب إلى بعض لئلّا يفترقا، وأرخوا التّابوت فى البحر، فاستقرّ بقراره، فنظر من تلك الجامات إلى دوابّ البحر وحيواناته؛ فإذا بصور شياطين على أمثال النّاس، رءوسهم كرءوس السّباع، وفى أيديهم الفئوس والمقامع والمناشير، يحاكون بذلك صنّاع المدينة، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصّور، وأحكموها فى القراطيس على هيئاتها وأشكالها وقدودها، ثم حرّك الحبال، فرفعه من بالمركب.
فلمّا خرج أمر المصوّرين بتصوير تلك الصّور، وصنعها من النّحاس والحديد والحجارة، فعملت تماثيلها، ثم نصبها على الأعمدة بشاطئ البحر، وأمر بالبناء فبنى، فلمّا جنّ اللّيل، وظهرت تلك الدّوابّ من البحر، نظرت إلى أشكال صورها على العمد فرجعت إلى البحر ولم تعد، فتمّ بناء الإسكندريّة، وشيّدت، فأمر أن يكتب على أبوابها: «هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنّجاح، واليمن والسّرور، والثّبات على الدّهور [2] ، فلم يرد البارى ملك السّموات والأرض ومفنى الأمم أن أبنيها [3] كذلك، فبنيتها وأحكمتها، وشيّدت سورها، وآتانى الله من كلّ شىء [علما وحكما، وسهّل فى وجوه الأسباب، فلم يتعذّر علىّ فى العالم شىء] [4] ممّا
__________
[1] المسعودى: «الأطلية الدافعة للماء» .
[2] المسعودى: «فى الدهور» .
[3] المسعودى: «نبنيها» .
[4] من المسعودى.(19/316)
أردته، ولا امتنع علىّ شىء ممّا طلبته، لطفا من الله عزّ وجلّ وصنعا لى، وصلاحا لعباده [1] من أهل عصرى، والحمد لله ربّ العالمين، لا إله إلّا الله هو ربّ كلّ شىء. ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث من العمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى آخر وقت دثور العالم.
وكان بناؤها طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة تدوّرها [2] ، ويسير تحتها الفارس، وبيده رمح لا يطبق به حتّى يدور جميع أبراجها وقناطرها، وعمل لتلك العقود والأبراج مخاريق للضّياء، ومنافذ للهواء.
قال: وكانت الإسكندريّة تضيئ باللّيل من غير مصباح لشدّة بياض الرّخام والمرمر، وأسواقها وأزقّتها وشوارعها مقنطرة بها لئلّا يصيب أهلها المطر.
قال: وكان عليها سبعة أسوار من أحجار [3] مختلفة الألوان، بينها خنادق، بين كلّ خندق وسور فصل [4] .
قال: وربّما علّق فيها شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض السّور أبصار النّاس لشدّة بياضه، فلمّا سكنها أهلها كانت آفات البحر تخطف أهل المدينة باللّيل، فيصبحون وقد فقد منهم العدد الكثير، فأهمّ ذلك الإسكندر، فاتّخذ الطّلّسّمات على أعمدة هنا لك،
__________
[1] المسعودى: «صلاحا لى ولعباده» .
[2] المسعودى: «عليها دور المدينة» .
[3] المسعودى: «من أنواع الحجارة» .
[4] المسعودى: «فصلان» .(19/317)
تدعى المسالّ، وهى باقية إلى هذا العصر، فامتنع الدّوابّ من التّعرّض إلى أهلها بعد ذلك، فأمنوا.
وأمّا المنارة فقد ذكرناها فى الباب الثالث من القسم الخامس من من الفنّ الأوّل فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادة ذكرها ثانيا.
نعود إلى أخبار فتوح مصر إن شاء الله تعالى:(19/318)
ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية إلى الفسطاط- واختطاطه
قال [1] ابن لهيعة: إنّ عمرو بن العاص لمّا فتح الإسكندريّة ورأى بيوتها وبناءها، همّ أن يسكنها، وقال: مساكن قد لقيناها.
فكتب إلى عمر يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إذا جرى النّيل.
فكتب عمر إلى عمرو: إنى لا أحبّ أن ينزل المسلمون منزلا يحول بينى وبينهم الماء فى شتاء ولا صيف. فتحوّل عمرو من الإسكندريّة إلى الفسطاط؛ وإنما سمّيت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لمّا توجه إلى الإسكندرية، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرّخ.
فقال عمرو: لقد تحرّم منّا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ فى موضعه، وأوصى به صاحب القصر، فلمّا قفل المسلمون من الإسكندريّة قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط- يريدون فسطاط عمرو، وكان مضروبا فى موضع دار عمرو بن العاص الّتى عمرّت بعد- واختطّ عمر والمسجد الجامع العمرى، وكان ما حوله حدائق وأعناب، فنصبوا الحبال حتى استقامت لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتّى وضعوا القبلة، واتخذ عمرو فى المسجد منبرا.
__________
[1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 91 وما بعدها.(19/319)
فكتب إليه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه:
أمّا بعد، فإنّه بلغنى أنك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما يحسبك أن تقوم قائما، والمسلمون تحت قدميك! فعزمت عليك لما كسرته.
قال: واختطّ الناس بعد ذلك. فكتب عمرو إلى عمر: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع.
فكتب إليه عمر: أنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، ففعل، فكان يباع بها الرّقيق.
قال: ولمّا اختطّ المسلمون تركوا بينهم وبين البحر والحصن فضاء لتغريق دوابّهم وإبادتها، فلم يزل كذلك حتّى ولى معاوية ابن أبى سفيان، فاشترى دور قوم منهم، وأقطعهم من ذلك الفضاء، فسمّيت القطائع، وبناها أولئك دورا لهم بدل دورهم.
قال: واختّطت همدان ومن والاها الجيزة، فكتب عمرو إلى عمر يعرّفه أمر الخطط.
فكتب إليه عمر يقول له: كيف رضيت أن تفرّق أصحابك! ولم يكن ينبغى لك أن ترضى لأحد من أصحابك، أن يكون بينك وبينه بحر لا تدرى ما يفجؤهم. فلعلّك لا تقدر على غياثهم حتّى ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبوا عليك وأعجبهم موضعهم، فابن عليهم من فئ المسلمين حصنا.
فعرض عمرو ذلك عليهم، فأبوا، وأعجبهم موضعهم بالجزيرة،(19/320)
فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن الّذى بالجيزة، فى سنة إحدى وعشرين، وفرغ من بنائه فى سنة اثنتين وعشرين. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وإبطال عمرو تلك العادة
قال [1] ابن لهيعة: لمّا فتح عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بؤونة من أشهر القبط [2] ، فقالوا له: أيها الأمير، إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجرى إلّا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا:
إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشّهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضيناهما، وجعلنا عليها من الحلىّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النّيل. فقال لهم عمرو: إنّ هذا لا يكون فى الإسلام، وإنّ الإسلام يهدم ما كان قبله.
فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى، لا يجرى كثيرا ولا قليلا؛ حتّى همّوا بالجلاء، فلمّا رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بذلك، فكتب إليه: قد أصبت، إنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النّيل إذا أتاك كتابى. فلمّا قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة؛ فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر:
__________
[1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 149، 150.
[2] فتوح مصر: «من أشهر العجم» .(19/321)
أمّا بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القّهار الّذى يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة فى النّيل قبل يوم الصّليب بيوم، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء، فأصبحوا وقد أجرى الله [1] عز وجل النيل ستة عشر ذراعا فى ليلة، وانقطعت تلك السّنّة السّيّئة عن أهل مصر.
ذكر ما قرر فى أمر الجزية من الخراج
قال [2] : وكانت فريضة مصر لحفر خلجانها، وإقامة جسورها، وعمارة قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا، معهم الطّور والمساحى والأداة يعتقبون ذلك لا يدعونه [3] شتاء ولا صيفا.
ثمّ كتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى عمرو أن يختم على رقاب أهل الذّمّة بالرّصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزّوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا. وألّا يضربوا الجزية إلّا على من جرت عليه المواسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبّهون بالمسلمين فى لبوسهم.
قال: ولمّا استوسق لعمرو بن العاص الأمر، وأقرّ قبط مصر على جباية الرّوم، وكانت جبايتهم بالعدل: إذا عمرت القرية، وكثر أهلها زيد عليهم، فإذا قلّ أهلها وخربت نقصوا. فكانوا يجمعون خراج كلّ قرية وما فيها من الأرض العامرة، فيبدرون [3] فيخرجون من الأرض فدادين لكنائسهم وحمّاماتهم. ثم يخرج منها عدد لضيافة المسلمين،
__________
[1] ابن عبد الحكم: «وقد أجره الله» .
[2] ابن عبد الحكم 151 وما بعدها.
[3] فى الأصلين: «فيبدون» ، وما أثبته من فتوح مصر.(19/322)
ونزول السّلطان، فإذا فرغوا، نظروا إلى ما فى كلّ قرية من الصّنّاع والأجراء فقسّموا عليهم بقدر احتمالهم؛ فإن كانت فيها جالية قسموا عليها بقدر احتمالها، وقلّما كانت تكون إلا للرجل المنتاب أو المتزوّج، ثم ينظر ما بقى من الخراج فيقسّمونه بينهم على عدد الأرض، ثم يقسّمون ذلك بين من يريد الزّرع منهم على قدر طاقتهم، فإن عجز أحد وشكا ضعفا عن زرع أرضه، وزّعوا [1] ما عجز عنه على الاحتمال، وإن كان منهم من يريد الزّيادة، أعطى ما عجز عنه أهل الضّعف؛ فإنّ تشاحّوا قسموا ذلك على عدّتهم، وكانت قسمتهم على قراريط، الدنيار بأربعة وعشرين قيراطا، يقسّمون هذه الأرض على ذلك.
قال: وكذلك روى عن النّبىّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:
«إنّكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا» .
قال: وجعل [عليهم] [2] لكلّ فدّان نصف إردبّ قمحا، وويبتين من شعير إلّا القرط فلم تكن عليه ضريبة، والويبة يومئذ ستّة أمداد كأنّه يريد بذلك البدار.
قال: وروى عن اللّيث بن سعد رحمه الله، أنّ عمرو بن العاص جبى مصر اثنى عشر ألف ألف دينار.
وقال غير اللّيث: جباها المقوقس قبله بسنة عشرين ألف ألف دينار. قال اللّيث: وجباها عبد الله بن سعد حين استعمله عليها عثمان أربعة عشر ألف ألف دينار.
__________
[1] فى الأصلين: «زرعوا» وما أثبته من ابن عبد الحكم.
[2] تكملة من ص.(19/323)
فقال عثمان لعمرو: يا أبا عبد الله: درّت بعدك اللّقحة بأكثر من درّها الأوّل. فقال عمرو: أضررتم بولدها.
وكتب عمر إلى عمرو أن يسأل المقوقس عن مصر، من أىّ شىء تأتى عمارتها وخرابها؟ فسأله عمرو، فقال: تأتى عمارتها وخرابها من وجوه خمسة، أن يستخرج خراجها فى إبّان واحد، عند فراغ أهلها من زرعهم، ويرفع خراجها فى إبّان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، وتحفر فى كلّ سنة خلجها، وتسدّ ترعها وجسورها، ولا يقبل محل أهلها، يريد البغى، فإن فعل هذا فيها عمرت، وإن فعل بخلاف هذا خربت، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ذكر خبر المقطم
روى [1] عن اللّيث بن سعد، قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطّم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك. وقال [أكتب] [2] فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه، اسأله لم أعطاك به ما أعطاك وهى لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال:
إنّا لنجد صفتها فى الكتب، أنّ فيها غراس الجنّة. فكتب بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عمرو: انّا لا نعلم غراس الجنّة إلّا للمؤمنين،
__________
[1] فتوح مصر لابن عبد الحكم 156 وما بعدها.
[2] من ص وفتوح مصر.
[3] فتوح مصر: «ماء» .(19/324)
فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين، ولا تبعه بشىء، فكان أوّل رجل دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر.
قالوا: والمقطّم ما بين القصير إلى مقطع الحجارة، وما بعد ذلك فمن اليحموم.
وقد اختلف فى القصير، فقال ابن لهيعة: ليس بقصير موسى النبىّ عليه السّلام؛ ولكنّه موسى السّاحر.
وقال كعب الأحبار: هو قصير عزيز مصر، كان إذا جرى النيل يترفّع فيه. ويقال: بل كان موقدا يوقد فيه لفرعون إذا هو ركب من منف إلى عين شمس، وكان على المقطّم موفد آخر؛ فإذا رأوا النار علموا بركوبه، فأعدّوا له ما يريد، وكذلك إذا انصرف.
والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر خبر خليج أمير المؤمنين
وهذا [1] الخليج كانت السّفن تسير فيه من مصر إلى بحر القلزم، تحمل الطّعام والأصناف إلى مكّة والمدينة.
وكان من خبره على ما روى عن اللّيث بن سعد أنّ النّاس بالمدينة أصابهم جهد شديد فى خلافة عمر بن الخطّاب فى عام الرّمادة، فكتب إلى عمرو:
من عبد الله أمير المؤمنين، إلى العاصى ابن العاص.
سلام عليك، أمّا بعد؛ فلعمرى يا عمرو ما تبالى إذا شبعت
__________
[1] فتوح مصر 162 وما بعدها.(19/325)
أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معى، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه! يردّد قوله.
فكتب إليه عمرو:
لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص.
أمّا بعد. فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، وقد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندى، والسّلام عليك ورحمة الله.
وبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة، وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا، فلمّا قدمت على عمر وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كلّ بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطّعام. وبعث عبد الرحمن بن عوف والزّبير بن العوّام وسعد بن أبى وقّاص أن يقسّموها على النّاس، ويدفعوا [1] إلى أهل كلّ بيت بعيرا بما عليه، وأن يأكلوا الطّعام، وينحروا البعير فيأكلوا لحمه، ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذى كان فيه الطّعام لما أرادوا.
فوسّع الله بذلك على النّاس، فلمّا رأى ذلك عمر حمد الله، وكتب إلى عمرو أن يقدم عليه، هو وجماعة أهل مصر، فقدموا عليه.
فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله تعالى قد فتح على المسلمين مصر، وهى كثيرة الخير والطّعام، وقد ألقى فى روعى لما أحببت من الرّفق بأهل الحرمين والتّوسعة عليهم [2] ، أن أحفر خليجا من نيل مصر حتّى يسيل فى البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطّعام
__________
[1] ك: «فدفعوا» .
[2] يعدها فى ابن عبد الحكم «حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين.»(19/326)
إلى المدينة ومكّة، فإنّ حمله [على] [1] الظّهر يتعذّر، ولا نبلغ منه ما نريد. فانطلق أنت وأصحابك، فتشاوروا فى ذلك حتّى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم، وقالوا: نتخوّف أن يدخل فى هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا الأمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا.
فرجع عمرو بذلك إلى عمر، فلمّا رآه ضحك وقال: والّذى نفسى بيده لكأنىّ أنظر إليك يا عمرو، وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرت به، فثقل ذلك عليهم، وقالوا لك كذا وكذا، للّذى كان منهم. فقال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت.
فقال عمر: يا عمرو، انطلق بعزيمة منّى حتى تجدّ فى ذلك، ولا يأتى عليك الحول حتّى تفرغ منه إن شاء الله تعالى. فانصرف عمرو، ثمّ احتفر الخليج الّذى كان فى حاشية الفسطاط الّذى يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النّيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتّى جرت فيه السّفن، فحمل فيه ما أراد من الطّعام إلى المدينة ومكّة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمّى خليج أمير المؤمنين، ثمّ لم يزل يحمل فيه الطّعام إلى زمن عمر بن عبد العزيز، ثمّ ضيّعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرّمل، فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التّمساح من ناحية طحا القلزم.
__________
[1] من ص.(19/327)
قال: ويقال: إنّ عمرو بن العاص قال لعمر بن الخطّاب.
لمّا قدم عليه: يا أمير المؤمنين، قد عرفت أنّه كانت تأتينا سفن فيها تجار من أهل مصر قبل الإسلام، فلمّا فتحنا مصر انقطع ذلك الخليج، واستدّ، وتركته التّجار؛ فإن شئت أن تحفره فننشىء به سفنا يحمل فيها الطعام إلى الحجاز فعلته. فقال له عمر: نعم، فافعل.
فلمّا ذكر عمرو ذلك لأصحابه كرهوه على ما تقدّم، فعزم عمر على عمرو أن يحفره فحفره.
ويقال: إنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه لمّا كتب إلى عمرو بما كتب واستغاثه، كتب [عمرو] [1] إليه:
أمّا بعد، فيا لبّيك ثمّ يا لبّيك، أتتك [2] عير أوّلها عندك وآخرها عندى، مع أنّى أرجو أن أجد السّبيل إلى أن أحمل إليك فى البحر. ثم إنّ عمرا ندم على كتابه فى الحمل إلى المدينة، وقال: إن أمكنت عمر من هذا خرّب مصر ونقلها إلى المدينة، فكتب إليه:
إنّى نظرت فى أمر البحر، فإذا هو عسر لا يلتأم ولا يستطاع. فكتب إليه عمر: إلى العاصى بن العاص: قد بلغنى كتابك، تعتلّ فى الّذى كنت كتبت إلىّ به من أمر البحر، وايم الله لتفعلنّ أو لأقلعنّك بأذنك ولأبعثنّ من يفعل ذلك.
فعرف عمرو أنه الجدّ من عمر، ففعل، فبعث إليه عمر ألا تدع
__________
[1] من ص.
[2] ص: «جاءت» .(19/328)
بمصر شيئا من طعامها وكسوتها وبصلها وعدسها وخلّها إلّا بعثت إلينا منه.
ويقال: إنّما دلّ عمرو بن العاص على الخليج رجل من قبط مصر، أتاه فقال له: أرأيت إن دللتك على مكان تجرى فيه السّفن حتى تنتهى إلى المدينة ومكّة، أتضع عنّى الجزية. وعن أهل بيتى؟
قال: نعم، وكتب إلى عمر، فقال: افعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر الخبر عن فتح الفيوم
روى [1] عن سعيد بن غفير وغيره، قالوا: لما تمّ الفتح للمسلمين، بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى الّتى حولها، فأقامت بالفيّوم سنة لم يعلم المسلمون بمكانها؛ حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فبعث عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصّدفىّ، فلمّا سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهمّوا بالانصراف فقال: لا تعجلوا، سيروا [2] ، فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيّوم، فهجموا عليها، فلم يكن عند أهلها قتال، وألقوا بأيديهم.
قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصّدفى- وهو صاحب الفرس الأشقر على فرسه- ينفض المجابة، ولا علم له بما خلفها من الفيّوم، فلمّا رأى سوادها رجع إلى عمرو، فأخبره بذلك.
ويقال: [بل] [3] بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصّعيد، فسار حتّى أتى القيس، فنزل بها، وبه سمّيت، فذكر ذلك لعمرو.
__________
[1] فتوح مصر 169.
[2] بعدها فى ابن عبد الحكم: «فإن كان كذب، فما أقدركم على ما أردتم» .
[3] من ص.(19/329)
فقال ربيعة بن حبيش: كفيت، فركب فرسه، فأجاز عليه البحر، وكانت أنثى، فأتاه بالخبر، ويقال: إنّه أجاز من ناحية الشّرقيّة حتى انتهى إلى الفيّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرت
كان [1] فتح زويلة فى سنة إحدى وعشرين؛ وذلك أن عمرو بن العاص بعث عقبة بن نافع الفهرىّ إليها، فافتتحها صلحا، وما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقيل: فتحها فى سنة عشرين، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله وحده.
ثم سار عمرو بن العاص من مصر فى سنة اثنتين وعشرين إلى برقة، فصالح أهلها على الجزية، وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه، فلمّا فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب، فحاصرها شهرا، فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيّها، فخرج رجل من بنى مدلج يتصيّد فى سبعة نفر فسلكوا غرب المدينة، فلمّا رجعوا اشتدّ عليهم الحرّ، فأخذوا على جانب البحر ولم يكن السّور متّصلا بالبحر، وكانت سفن الرّوم فى مرساها تقابل بيوتهم، فرأى المدلجىّ وأصحابه مسلكا فى البحر إلى البلد، فدخلوا منه، وكبّروا، فلجأ الرّوم إلى سفنهم؛ لأنّهم ظنّوا أنّ المسلمين قد دخلوا المدينة، فنظر عمرو ومن معه، فرأى السّيوف فى المدينة، وسمعوا الصّياح، فأقبل
__________
[1] بعدها فى عبد الحكم: «وكان يقال لفرسة الأعمى» .
[2] ابن عبد الحكم 170 وما بعدها.(19/330)
الجيش حتّى دخل المدينة، فلم يفلت من الروم إلّا بما خفّ حمله فى مراكبهم.
وكان أهل حصن سبرت قد اطمأنّوا، فجهّز [1] إليهم جيشا كثيفا، فصبّحوها وقد فتح أهلها الباب، وسرّحوا مواشيهم فدخلها المسلمون مغالبة وغنموا ما فى الحصن، وعادوا إلى عمرو.
ثم سار عمرو إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدّونها جزية، وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا بيعه من أولادهم فى جزيتهم.
قال المؤرّخ: وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من بلاد الغرب؛ أنّهم كانوا بنواحى فلسطين، فلما قتل ملكهم جالوت، ساروا نحو الغرب، وتفرقوا، فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة برقة، وتعرف قديما بأنطابلس- وقيل فيها: أنطابلس- وانتشروا فيها حتى بلغوا السّوس، ونزلوا ونزلت هوّارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة مدينة سبرت، وجلا من كان بها من الرّوم [من أجل ذلك] [2] كذلك، وأقام الأفارق وهم خدم الرّوم على صلح يؤدّونه لمن غلب على بلادهم.
انتهت الفتوحات فى خلافة عمر رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] ص «فجرد» .
[2] زيادة من فتوح مصر.(19/331)
ذكر الغزوات إلى أرض الروم
كان أوّل من غزا أرض الروم من المسلمين أبو بحريّة عبد الله ابن قيس فى سنة عشرين، وقيل: أوّل من دخلها ميسرة بن مسروق العبسى، فسلم وغنم، ثمّ غزاها معاوية بن أبى سفيان فى سنة اثنتين وعشرين، ودخلها فى عشرة آلاف فارس من المسلمين.
وفى سنة ثلاث وعشرين غزا معاوية الصائفة، ومعه عبادة بن الصّامت وأبو أيّوب الأنصارى وأبوذرّ وشدّاد بن أوس.
وفيها فتح معاوية رضى الله عنه عسقلان على صلح.(19/332)
ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوحات والغزوات
سنة ثلاث عشر: فى هذه السّنة، توفى الأرقم بن أبى الأرقم يوم مات أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، وهو الّذى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا بداره بمكّة أوّل ما أرسل صلّى الله عليه وسلّم.
سنة أربع عشرة: فى هذه السنة أمر عمر رضى الله عنه بالقيام فى شهر رمضان فى المساجد، وجمعهم على أبىّ بن كعب، وكتب إلى الأمصار بذلك.
وفيها، ضرب عمر رضى الله عنه ابنه عبد الله وأصحابه فى شراب شربوه، وضرب أيضا أبا محجن الثّقفىّ فى الشّراب.
وفيها حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس.
وكان العمّال على مكّة: عتّاب بن أسيد فى قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبى وقّاص، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى البحر عثمان بن أبى العاص، وقيل: العلاء بن الحضرمىّ، وعلى عمارة حذيفة بن محصن.
وفيها مات أبو قحافة، والد أبو بكر الصّديق رضى الله عنهما، ومات سعد بن عبادة الأنصارىّ، وكان أسنّ من أسلم ممّن بنى هاشم رضى الله عنه.(19/333)
ذكر فرض العطاء وعمل الديوان
سنة خمس عشرة: وفى هذه السنة فرض عمر رضى الله عنه للمسلمين الفروض، ودوّن الدّواوين، وأعطى العطايا على السّابقة فى الإسلام لا على البيوت.
قال: ولمّا فرض العطايا أعطى صفوان بن أميّة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو فى أهل الفتح أقلّ ممّا أعطى من قبلهم، فامتنعوا من أخذه، وقالوا: لا نعترف أن يكون أحد أكرم منّا، فقال:
إنّى إنّما أعطيتهم على السّابقة فى الإسلام لا فى الأحساب، فقالوا:
نعم إذن، وأخذوا.
وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشّام، فلم يزالا مجاهدين حتّى أصيبا فى بعض تلك الدّروب. وقيل: ماتا فى طاعون عمواس.
وقيل: لمّا أراد عمر وضع الدّيوان، قال له علىّ بن أبى طالب، كرّم الله وجهه وعبد الرّحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهم: ابدأ بنفسك. فقال: لا، بل أبدأ بعمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ الأقرب فالأقرب. ففرض للعبّاس، وبدأ به، وجعل له خمسة وعشرين ألفا، [وقيل: فرض له اثنى عشر ألفا] [1] ثم فرض لأهل بدر لكلّ منهم خمسة آلاف، وألحق بهم أربعة لم يكونوا منهم، وهم: الحسن والحسين أبو ذرّ وسلمان [2] رضى الله تعالى عنهم.
__________
[1] من ص.
[2] ك: «وعثمان» .(19/334)
وفرض لمن بعد بدر إلى الحديبية لكلّ منهم أربعة آلاف، وفرض لمن بعد الحديبية إلى قتال الرّدّة، لكل منهم ثلاثة آلاف، كان منهم من شهد الفتح.
وفرض لأهل الأيّام قبل القادسيّة، وأهل الشّام، فى ألفين ألفين.
وفرض لأهل البلاء منهم فى ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسيّة بأهل الأيام! قال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا.
وقيل له: قد سوّيت من بعدت داره بمن قربت داره، وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحقّ بالزّيادة، لأنّهم كانوا ردءا للحتوف، وشجى؟؟؟ للعدوّ، فهلّا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوّينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد. والله أعلم.
وفرض لمن بعد القادسيّة واليرموك ألفا ألفا.
وفرض للرّوادف الّتى فى خمسمائة خمسمائة، وللرّوادف الثلث فى ثلاثمائة، سوّى كلّ طبقة فى العطاء، قويّهم وضعيفهم، عربيّهم وعجميّهم. وفرض للرّوادف الربع فيها فى مائتين وخمسين.
وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين.
وأعطى نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رضى الله عنهن عشرة آلاف عشرة آلاف إلّا من جرى عليها الملك. فقال نسوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفضّلنا عليهنّ فى القسمة، فسوّ بيننا؛ ففعل، وفضّل عائشة(19/335)
رضى الله عنها بألفين لمحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيّاها، فلم تأخذها.
وجعل لنساء أهل بدر خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعدهم إلى الأيّام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسيّة مائتين مائتين، ثم سوّى بين النّساء بعد ذلك.
وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستّين مسكينا وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبين، ففرض لكلّ إنسان منهم ولعياله جرييين فى الشّهر.
وقال عمر رضى الله عنه قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، [ألف] [1] يجعلها الرجل فى أهله، وألف يتزوّدها معه، وألف يتجهّز بها، وألف يرتفق بها، فمات قبل أن يفعل.
وقال له رجل عند فرض العطاء: يا أمير المؤمنين، لو [كنت] [1] تركت فى بيوت الأموال عدّة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك. وقانى الله شرّها، وهى فتنة لمن بعدى، بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله، [طاعة الله ورسوله] [1] ، هما عدّتنا الّتى بهما أفضينا إلى ما ترون؛ فإذا كان المال ثمن دين أحدكم هلكتم.
وقال عمر رضى الله عنه للمسلمين: إنّى كنت امرأ تاجرا [2]
__________
[1] من ص.
[2] ك: «تجرا» .(19/336)
يغنى الله عيالى بتجارتى، وقد شغلتمونى بأمركم هذا، فما ترون أنّه يحلّ لى فى هذا المال؟ فأكثر القوم، وعلىّ رضى الله عنه ساكت، فقال: ما تقول يا علىّ؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك غيره. فقال القوم: القول ما قال علىّ. فأخذ قوته [1] ، واشتدت حاجة عمر رضى الله عنه. فاجتمع نفر [2] من الصّحابة منهم عثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، فقالوا: لو قلنا لعمر فى زيادة يزيدها إيّاه فى رزقه؟ فقال عثمان رضى الله عنه: هلمّوا فلنستبرئ ما عنده من وراء وراء. فأتوا حفصة ابنته فأعلموها الحال، واستكتموها ألّا تخبر بهم عمر.
فلقيت عمر فى ذلك، فغضب وقال: من هؤلاء لأسؤنّهم؟ قالت:
لا سبيل إلى علمهم. قال: أنت بينى وبينهم، ما أفضل ما اقتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشّقين كان يلبسهما للوفد والجمع، قال: فأىّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبز شعير، فصببنا عليه وهو حارّ أسفل عكّة [2] لنا، فجعلتها دسمة حلوة، فأكل منها. فقال:
أىّ بسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء ثخين كنّا نرقعه برقعة فى الصّيف فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثّرنا بنصفه، قال: يا حفصة، فأبلغيهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
[1] ك: «قوة» ، تحريف.
[2] ك: «رجالا» .
[3] العكة: إناء يوضع فيه السمن.(19/337)
قدّر فوضع الفضول مواضعها، وتبلّغ بالتّرجية، فو الله لأضعنّ الفضول مواضعها، ولأتبلّغنّ بالترجية؛ وإنّما مثلى ومثل صاحبىّ كثلاثة سلكوا طريقا، فمضى الأول وقد تزوّد فبلغ المنزل، وتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتّبعه الثالث؛ فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق [1] بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما.
سنة ست عشرة: وفى هذه السّنة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وفيها غرّب [2] عمر رضى الله عنه أبا محجن الثّقفىّ إلى ناصع.
وفيها حمى الرّبذة بخيل المسلمين.
وفيها ماتت مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى عليها عمر، ودفنها بالبقيع؛ وذلك فى المحرّم.
وفيها كتب عمر التّاريخ بمشورة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه.
وفيها حجّ عمر بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى ونعم الوكيل.
__________
[1] ك: «لزم» .
[2] ك: «عذب» .(19/338)
ذكر بناء الكوفة والبصرة
سنة سبع عشرة: فى هذه السنة اختطّت الكوفة والبصرة، وتحوّل سعد بن أبى وقّاص من المدائن إلى الكوفة، وكان سبب ذلك أنّ سعدا أرسل إلى عمر بما فتح الله عليه، فلمّا رأى الوفد سألهم عن تغيّر ألوانهم وحالهم؛ فقالوا: وخومة [1] البلاد [غيّرتنا] [2] ، فأمرهم أن يرتادوا منزلا ينزله النّاس.
وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد نزفت بطونها، وخفّت أعضاؤها، وتغيّرت ألوانها. وكان مع سعد، فكتب عمر إلى سعد: أخبرنى ما الّذى غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ الّذى غيّرهم وخومة البلاد، وأنّ العرب لا يوافقها إلّا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه، أن ابعث سلمان وحذيفة فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بينى وبينكم بحر ولا جسر، فأرسلهما سعد.
فخرج سلمان حتّى أتى الأنبار، فسار فى غربىّ الفرات لا يرضى شيئا حتّى أتى الكوفة، وخرج حذيفة فى شرقىّ الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة- وكلّ رملة وحصباء مختلطين فهو كوفة- فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أمّ عمرو، ودير
__________
[1] ك: «حومة» تحريف.
[2] تكملة من ص.(19/339)
سلسلة وخصاص خلال ذلك [1] ، فأعجبتهما البقعة، فنزلا وصليّا، ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزلا مباركا. فلمّا رجعا إلى سعد بالخبر، وقدم كتاب عمر أيضا عليه، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتمر، أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتّى نزل الكوفة فى المحرّم سنة سبع عشرة، فلمّا نزلها سعد كتب إلى عمر:
نّى قد نزلت بكوفة، منزلا بين الحيرة والفرات، برّيّا بحريّا، نبت الحلفاء والنّصىّ [2] ، وخيّرت المسلمين بينها وبين المدائن، من أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولمّا استقرّوا عرفوا أنفسهم، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوّتهم. واستأذن ل الكوفة فى بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فاستقرّ لهم فيها فى الشهر الّذى نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات فيها ها. فكتب إليهم [عمر] [3] : إنّ العسكرة أشدّ لحربكم، وأذكر، وما أحبّ أن أخالفكم، فابتنى أهل المصرين بالقصب.
ثمّ إنّ الحريق وقع بالكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشدّ نا، وكان الحريق فى شوّال. فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر اذنه فى البنيان باللّبن، فقدموا عليه بخبر الحريق، واستأذنوه،
__________
[1] ك: «وخلال ذلك» .
[2] النصى: نبت أبيض ناعم.
[3] من ص.(19/340)
فقال: افعلوا، ولا يزيد بناء، أحدكم عن ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا بالبنيان، والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة.
فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى أهل البصرة بمثل ذلك، وكان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل البصرة عاصم بن الدّلف أبو الجرباء، وقدّر المناهج أربعين ذراعا، وما بين ذلك عشرين ذراعا، والأزقّة سبعة أذرع، والقطائع سبعين ذراعا. وأوّل شىء خطّ فيهما مسجداهما، وقام فى وسطهما رجل شديد النّزع، فرمى فى كلّ ناحية بسهم، وأمر أن يبنى ما وراء ذلك. وبنى ظلّة فى مقدّمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة فى الحيرة، وجعلوا على الصّحّن خندقا لئلّا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله، وهى قصر الكوفة، بناه روزبة من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له، حتّى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه.
قال: وبلغ عمر أنّ سعدا قال: وقد سمع أصوات النّاس من السّوق: سكّتوا عنّى التّصويت، وإنّ النّاس يسمّونه قصر سعد.
فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأمره أن يحرق باب القصر، ثم يرجع، ففعل. وبلغ سعدا ذلك، فقال: هذا رسول أرسل لهذا! فاستدعاه، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد، وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها، وأبلغه كتاب عمر إليه وفيه:
__________
[1] من ص.(19/341)
بلغنى [1] أنّك اتّخذت قصرا جعلته حصنا، ويسمّى قصر سعد، وبينك وبين النّاس باب، فليس بقصرك؛ ولكنّه قصر الخبال، انزل منه ممّا يلى بيوت الأموال، وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله.
فحلف له سعد ما قال الّذى قالوا، ورجع محمد، وأبلغ عمر قوله، فصدّقه.
وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان وعليها ضرار بن الخطّاب، وقرقيسياء وعليها عمرو بن مالك، أو عمرو بن عقبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتمر.
وكان بها خلفاؤهم إذا غابوا عنها.
وولى سعد الكوفة بعد ما اختطّت ثلاث سنين ونصفا، سوى ما كان بالمدائن قبلها. والله تعالى أعلم.
ذكر عزل خالد بن الوليد
وفى هذه السّنة عزل خالد بن الوليد عمّا كان عليه من التّقدّم على الجيوش، وسبب ذلك أنّه أدرب [2] هو وعياض بن غنم، فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية بعد رجوع عمر إلى المدينة.
وقيل: إنّ مسير خالد مع عياض كان لفتح الجزيرة، فبلغ النّاس
__________
[1] ص: «بلغه» .
[2] يقال أدرب القوم؛ إذا دخلوا أرض العدو من بلاد الروم.(19/342)
ما أصاب خالد، فانتجعه رجال وكان فيهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف، ودخل خالد الحمّام؛ قيل: حمّام آمد، فتدلّك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر:
بلغنى أنّك تدلّكت بخمر، والله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه منه، فلا تمسّها أجسادكم. فكتب إليه: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّ آل المغيرة ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه.
فلمّا فرّق خالد فى الّذين انتجعوه الأموال، سمع بها عمر، فكتب إلى أبى عبيدة بن الجرّاح مع البريد أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتّى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف، وإن زعم أنّها من إصابة، فقد أقرّ بخيانة. واعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله.
وكان خالد على قنّسرين من قبل أبى عبيدة، فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثمّ جمع النّاس وجلس على المنبر، وقام البريد قبالة خالد، فسأل خالدا من أين أجاز الأشعث؟ فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يتكلّم.
فقال بلال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته فلم يمنعه، ووضع قلنسوته، وأقامه وعقله بعمامته، وقال له: أمن مالك(19/343)
أجزت؟ أم من إصابة أصبتها؟ فقال: لا، بل من مالى، فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثمّ عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا.
قال: فأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول هو أم غير معزول! ولم يشافهه أبو عبيدة بذلك تكرمة له.
فلمّا تأخّر قدومه على عمر ظنّ الّذى كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع خالد إلى قنسرين فخطب النّاس، وودّعهم، ثم رجع إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم سار إلى المدينة. فلمّا قدم على عمر شكاه وقال: شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنّك فى أمرى لغير مجمل، فقال له عمر: من أين هذا الثّراء؟ فقال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد على ستّين ألفا فلك.
فقوّم عمر ماله، فرآه عشرين ألفا، فجعلها عمر فى بيت المال، ثمّ قال: يا خالد، والله إنّك علىّ لكريم، وإنّك إلىّ لحبيب.
وكتب إلى الأمصار: إنّى لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ النّاس فخّموه وفتنوا به. فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، ولا يكونوا بعرض فتنة، وعوّضه عمّا أخذ منه. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل(19/344)
ذكر بناء المسجد الحرام
[وفى هذه السنة اعتمر عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكّة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم فى بيت المال حتى أخذوا، وكانت عمرته فى شهر رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، واستأذنه فأذن لهم وشرط عليهم، أنّ ابن السبيل أحقّ بالظلّ والماء] [1] .
ذكر عزل المغيرة بن شعبة
وفى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه المغيرة بن شعبة عن البصرة، واستعمل عليها أبا موسى الأشعرىّ، وكان سبب ذلك أنّه كان بينه أو بين أبى بكرة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طربق، وكانا فى مشربتين، فى كل واحدة منهما كوّة مقابلة للأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدّثون فى مشربته، فهبّت الرّيح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليردّه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّته، وهو بين رجلى امرأة، فقال للنّفر: قوموا وانظروا، فنظروا، وهم: أبو بكرة ونافع بن كلدة، وزياد بن أبيه، وهو أخو أبى بكرة لأمّه، وشبل بن معبد البجلىّ، فقال لهم: اشهدوا. قالوا: ومن هذه؟
قال: أمّ جميل بنت الأفقم، وكانت من بنى عامر بن صعصعة، وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النّساء يفعلن ذلك
__________
[1] من ص.(19/345)
فى زمانها، فلمّا قامت عرفوها. فلمّا خرج المغيرة إلى الصّلاة منعه أبو بكرة.
وروى أبو الفرج الأصبهانىّ صاحب الأغانى [1] فى كتابه بسند رفعه إلى أنس بن مالك وغيره: أنّ المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار الإمارة وسط النّهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: آتى حاجة. فيقول له: حاجة ماذا! إنّ الأمير يزار ولا يزور. قال: وكانت المرأة التى يأتيها جارة لأبى بكرة.
قال: فبينا أبو بكرة فى غرفة له مع أخويه نافع، وزياد، ورجل آخر يقال له: شبل بن معبد، وكانت غرفة جارته تحت غرفة أبى بكرة، فضربت الرّيح باب المرأة ففتحته، فنظر القوم؛ فإذا هم بالمغيرة ينكحها، فقال أبو بكرة: هذه بليّة ابتليتم بها، فانظروا، فنظروا؛ فإذا أبو بكرة نزل، فجلس حتّى خرج إليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا.
قال: وذهب ليصلّى بالنّاس الظّهر، فمنعه أبو بكرة، فقال:
والله ما تصلّى بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال النّاس: دعوه فليصلّ، فإنّه الأمير. ثم تقاربوا فى الرّواية فقاموا: وكتبوا إلى عمر، فبعث أبا موسى أميرا على البصرة، وأمره بلزوم السّنّة، فقال:
أعنّى بعدّة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّهم فى
__________
[1] الأغانى 16: 95 وما بعدها (طبعة دار الكتب) .(19/346)
هذه الأمّة كالملح. قال: خذ من اخترت، فأخذ تسعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام ابن عامر، وخرج بهم فقدم البصرة، ودفع كتاب إمرته إلى المغيرة وفيه:
أمّا بعد: فإنّه بلغنى نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلّم إليه ما فى يدك، والعجل.
فرحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشّهود، فقدموا على عمر، فقال له:
المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأونى، أمستقبلهم أم مستدبرهم؟
وكيف رأوا المرأة فعرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر! وإن كانوا مستدبرىّ فبأىّ شىء استحلّوا النّظر فى منزلى على امرأتى! والله ما أتيت إلّا امرأتى، وكانت تشبهها.
فشهد أبو بكرة أنّه رآه على أمّ جميل، يدخله كالميل فى المكحلة، وأنّه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك.
وأمّا زياد فإنّه قال: رأيته جالسا بين رجلى امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.
قال: هل رأيت كالميل فى المكحلة؟ قال: لا، قال: هل تعرف المرأه؟ قال: لا، ولكن أشبّهها.
قال: ففتح، وأمر بالثّلاثة فجلدوا الحدّ، فقال المغيرة: اشفنى من الأعبد. قال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمّت الشّهادة لرجمتك بأحجارك.
وفى هذه السنة تزوّج عمر أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب،(19/347)
وهى بنت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل بها فى ذى القعدة.
وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس فى هذه السنة.
وفى هذه السنة أسلم كعب الأحبار.
وفيها، فى ذى الحجة حوّل عمر رضى الله عنه المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت.
سنة ثمان عشرة: وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندىّ على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة، وكعب هذا ممّن أسلم على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، وكان لولايته القضاء سبب نذكره.
سبب ولاية كعب بن سور قضاء البصرة
حكى عن الشّعبىّ، أنّه كان جالسا عند عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فجاءت امرأة فقالت: ما رأيت رجلا [قطّ] [1] أفضل من زوجى، إنّه ليبيت ليله قائما، ونهاره صائما فى اليوم الحارّ ما يفطر، فاستغفر لها عمر، وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنى بالخير وقاله، فاستحيت المرأة وقامت راجعة.
فقال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين، هلّا أعدت المرأة على زوجها إذ جاءتك تستعديك! فقال: أكذلك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردّوا علىّ المرأة، فردّت. فقال لها: لا بأس بالحقّ أن تقوليه،
__________
[1] من ص.(19/348)
إنّ هذا زعم أنّك جئت تشتكين أنّه يجتنب [1] فراشك، قالت:
أجل، إنّى امرأة شابّة، وإنّى أبتغى ما تبتغى النّساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، فقال: أمير المؤمنين أحقّ أن يقضى بينهما، فقال: عزمت عليك لتقضينّ بينهما؛ فإنّك فهمت من أمرهما ما لم أفهم! قال: فإنّى أرى أنّ لها يوما من أربعة أيّام؛ وكان زوجها له أربع نسوة، فإذا لم يكن له غيرها فإنّى أقضى لها بثلاثة أيّام ولياليهنّ يتعبّد فيهنّ، ولها يوم وليلة.
فقال عمر: والله جاء رأيك الأوّل أعجب إلىّ من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة. فلم يزل قاضيا على البصرة إلى أن قتل يوم الجمل؛ وذلك أنّه لمّا اصطفّ النّاس للقتال خرج وبيده المصحف فنشره، وجال بين الصّفين يناشد النّاس فى دمائهم، فأتاه سهم غرب [2] فقتله.
وقد قيل: إنّ المصحف كان فى عنقه، وعليه برنس وبيده عصا وهو آخذ بخطام الجمل، فأتاه سهم فقتله.
وروى أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله بسنده إلى محمد بن سيرين، قال: جاءت [3] امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فقالت:
إنّ زوجى يصوم النهار، ويقوم اللّيل، فقال: ما تريدين؟
أتريدين أن أنهاه عن صيام النّهار، وقيام اللّيل! قال: ثم رجعت
__________
[1] ك: «تجنب» .
[2] سهم غرب، بالسكون ويحرك: لا يدرى راميه.
[3] الاستيعاب لابن عبد البر 1318- 1320.(19/349)
إليه فقالت مثل ذلك، فأجابها بمثل جوابه، ثم جاءت الثالثة فقالت له كما قالت، فأجابها بمثل جوابه. وكان عنده كعب بن سور، فقال كعب: إنّها امرأة تشتكى زوجها.
فقال عمر: أمّا إذا فطنت لها فاحكم بينهما، فقام كعب:
وجاءت بزوجها فقالت:
يأيّها القاضى الفقيه أرشده ... ألهى حليلى عن فراشى مسجده
زهده فى مضجعى وتعبّده ... نهاره وليله ما يرقده
ولست من أمر النّساء أحمده ... فامض القضا يا كعب لا تردّده
فقال الزّوج:
إنّى امرؤ قد شفّنى ما قد نزل ... فى سورة النّور وفى السّبع الطّول
وفى كتاب الله تخويف جلل ... فردّها عنّى وعن سوء الجدل
فقال كعب:
إنّ السعيد بالقضاء من فصل ... ومن قضى بالحقّ حقّا وعدل
إنّ لها عليك حقّا يا بعل ... من أربع واحدة لمن عقل
امض لها ذاك ودع عنك العلل
ثم قال: أيّها الرجل إنّ لك أن تتزوّج من النّساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيّام، ولامرأتك هذه يوم، ومن أربع ليال ليلة، فلا تصلّ فى ليلتها إلّا الفريضة.
فبعثه عمر قاضيا على البصرة. والله تعالى أعلم.(19/350)
ذكر القحط وعام الرمادة
وفى [1] هذه السّنة أصاب النّاس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرّمادة، وكانت الريح تسفى ترابا كالرّماد، فسمّى لذلك عام الرّمادة، واشتدّ الجوع حتّى كان الوحش يأوى إلى الإنس، وكان الرجل يذبح الشّاة فيعافها من فيحها [2] ، وأقسم عمر لا يذوق سمنا ولا لبنا، ولا لحما؛ حتّى يحيا النّاس.
وكتب إلى الأمراء المقيمين بالأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه عمر قسمتها فيمن حول المدينة، فقسّمها وانصرف إلى عمله، وتتايع النّاس، واستغنى أهل الحجاز.
وأرسل عمرو بن العاص الطّعام من مصر فى البرّ والبحر، فصار الطعام فى المدينة كسعر مصر.
واستسقى عمر رضى الله عنه بالعبّاس بن عبد المطّلب عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وذلك أنّ أهل بيت من مزينة، قالوا لصاحبهم وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا، فاذبح لناشاة، فقال: ليس فيهنّ شىء، فلم يزالوا به حتّى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى:
يا محمّداه! فأرى فى المنام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاه،
__________
[1] الكامل لابن الأثير 2: 388.
[2] ابن الأثير: «قبحها» .(19/351)
فقال: أبشر بالحياة، ائت عمر فأقرأه منّى السلام، وقل له:
إنّى عهدتك، وأنت فى العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر.
فجاء بلال حتّى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره ففزع وقال: رأيت مسّا؟
قال: لا. قال: فأدخله، فأدخله، فأخبره الخبر، فخرج عمر فنادى فى النّاس، وصعد المنبر، قال: نشدتكم الله الّذى هداكم للإسلام، هل رأيتم شيئا تكرهون؟ قالوا: اللهمّ لا، ولم ذاك؟
فأخبرهم ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنّما استبطأناك فى الاستسقاء، فاستسق بنا. فنادى فى النّاس، فخرج وخرج معه العبّاس ماشيا، فخطب وأوجز، وصلّى، ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنّا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنّا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلّا بك، اللهم فاسقنا، وأحى العباد والبلاد.
وأخذ بيد العبّاس، وإنّ دموع العبّاس تتحادر على لحيته، فقال:
اللهمّ إنّنا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك، وبقيّة آبائه، وأكبر رجاله، فإنّك تقول- وقولك الحقّ: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة) [1] ، فحفظتهما بصلاح أبيهما، فاحفظ اللهمّ نبيّك فى عمّه، فقد دنونا إليك مستشفعين ومستغفرين، ثم أقبل على النّاس؛ فقال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا.
والعبّاس يقول وعيناه تذرفان. ولحيته تجول على صدره:
اللهمّ أنت الرّاعى فلا تهمل الضّالة. ولا تدع الكبير بدار مضيعة؛
__________
[1] سورة الكهف 82.(19/352)
فقد ضرع الصّغير، ورقّ الكبير، وارتفعت الشّكوى، وأنت تعلم السّرّ وأخفى.
اللهمّ فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنّه لا ييئس إلا القوم الكافرون.
فنشأت طريرة [1] من سحاب، فقال النّاس: ترون، ترون! ثم مشت فيها ريح، ثم هدرت ودرّت، فو الله ما برحوا حتّى اعتلقوا الحذاء، وقلّصوا المآزر، فطفق النّاس بالعبّاس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئا لك ساقى الحرمين! فقال الفضل [2] بن العباس بن عتبة بن أبى لهب فى ذلك:
بعمّى سقى الله الحجاز وأهله ... عشيّة يستسقى بشيبته عمر
توجّه بالعبّاس فى الجدب راغبا ... إليه، فما إن رام حتّى أتى المطر
ومنّا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه
وفى هذه السنة كان طاعون عمواس بالشّام، وعمواس قرية بين الرّملة وبيت المقدس. قال ابن عبد البرّ: وقيل: إنّ ذلك لقولهم: عم واس. قال ذلك الأصمعىّ.
__________
[1] الطريرة: الطريقة من السحاب.
[2] ك: «الفضيل بن الفضل» .(19/353)
مات فيه خمسة وعشرون ألفا، منهم: أبو عبيدة بن الجراح، واسمه عامر بن الجرّاح. وقيل عبد الله بن عامر بن الجرّاح.
قال أبو عمر: والصّحيح [1] أنّ اسمه عامر بن عبد الله ابن الجرّاح بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك [ابن النّضر بن كنانة] [2] القرشىّ الفهرىّ. شهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم [وهاجر الهجرة] [2] الثانية إلى أرض الحبشة، وكان نحيفا معروق الوجه، طوالا [أجنأ] [3] وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وكان رضى الله عنه من كبار الصّحابة وفضلائهم، وأهل السّابقة [منهم] [2] .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لكلّ أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح
. وقد تقدّم فى أثناء السّيرة النّبوية خبر وفد نجران، وسؤالهم أن يبعث معهم من يحكم بينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ائتونى العشيّة أبعث معكم القوىّ الأمين» ، فبعثه معهم.
وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه: أنّ أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا.
فأخذ بيد أبى عبيدة، وقال: هذا أمين هذه الأمّة.
وقال أبو بكر رضى الله عنه يوم السّقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين، يعنى عمر وأبا عبيدة.
__________
[1] والاستيعاب 794.
[2] من ص.
[3] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره.(19/354)
وقال له عمر رضى الله عنهما؛ إذ دخل عليه الشّام، وهو أميرها:
كلّنا غيّرته الدّنيا غيرك.
وكانت سنّه يوم توفّى ثمانيا وخمسين سنة، وكانت وفاته رضى الله عنه بالأردنّ، وصلّى عليه معاذ بن جبل، ونزل فى قبره هو وعمرو ابن العاص، والضّحّاك بن قيس.
وقبر أبى عبيدة بالقرب من قرية عميا من غور الشّام معروف هناك، قد زرته أنا غير مرّة رضى الله عنه.
ومنهم [1] : معاذ بن جبل، وهو أبو عبد الرّحمن معاذ بن جبل ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدىّ بن كعب بن عمرو بن إدّى ابن سعد بن علىّ بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصارىّ الخزرجى ثم الجشمىّ.
وقد نسبه بعضهم فى نسب بنى سلمة بن سعد بن علىّ، قال ابن اسحاق: معاذ بن جبل من بنى جشم بن الخزرج، وإنّما ادّعته بنو سلمة، لأنّه كان أخا سهل بن محمّد بن الجدّ بن قيس لأمّه.
قال الواقدىّ وغيره: كان معاذ بن جبل طوالا، حسن الشّعر عظيم العنينين، أبيض، برّاق الثّنايا، لم يولد له قطّ.
وقال ابن الكلبىّ، عن أبيه: إنّه ولد له عبد الرّحمن بن معاذ.
مات بالشام فى الطّاعون أيضا، فانقرض بنو إدّى بموته.
وقيل: إنّ عبد الرحمن قاتل مع أبيه يوم اليرموك. ومعاذ بن جبل أحد السّبعين الّذين شهدوا بيعة العقبة، وآخى رسول الله صلّى الله
__________
[1] أى وممن توفى فى هذه السنة.(19/355)
عليه وسلّم بينه وبين عبد الله بن مسعود، قاله الواقدىّ، وقال:
هذا ما لا خلاف عندنا فيه.
وقال ابن اسحاق: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين جعفر بن أبى طالب.
شهد معاذ بدرا والمشاهد كلّها، وبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاضيا إلى الجند من أرض اليمن، يعلّم النّاس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضى بينهم، وجعل إليه قبض الصّدقات من العمّال الّذين باليمن، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قسّم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبى أميّة على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبل على الجند، وأبى موسى الأشعرى على زبيد وزمعة وعدن والسّاحل.
وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجّهه إلى اليمن، بم تقضى؟ قال: بما فى كتاب الله عزّ وجلّ. قال: فإنّ لم تجده؟
قال بما فى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟
قال: أجتهد برأيى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الّذى وفّق رسول رسول الله لما يحبّ رسول الله»
. وروى أبو عمر بن عبد البرّ بسنده عن كعب بن مالك، قال:
كان [1] معاذ بن جبل شابّا جميلا، من أفضل شباب قومه [2] ، سمحا، لا يمسك؛ فلم يزل يدّان حتّى أغلق ماله كلّه من الدّين، فأتى
__________
[1] الاستيعاب 1402 وما بعدها.
[2] الاستيعاب: «من أفضل سادات قومه» .(19/356)
النّبىّ صلّى الله عليه وسلم، فطلب إليه ان يسأل غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، ولو تركوا لأحد من أجل أحد لتركوا لمعاذ بن جبل من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فباع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماله كلّه فى دينه، حتّى قام معاذ بغير شىء، حتى إذا كان [عام] [1] فتح مكّة، بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلّم إلى طائفة من أهل اليمن ليجبره فمكث معاذ باليمن أميرا.
وكان أوّل من اتّجر فى مال الله هو، فمكث حتّى أصاب وحتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا قدم قال عمر لأبى بكر:
ارسل إلى هذا الرّجل فدع له ما يعيّشه، وخذ سائره منه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: إنّما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا؛ إلّا أن يعطينى. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك لمعاذ، فقال معاذ: إنّما أرسلنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجبرنى، ولست بفاعل، ثمّ أتى معاذ عمر وقال: قد أطعتك، وأنا فاعل ما أمرتنى به، إنّى رأيت فى المنام أنّى فى حومة ماء؛ قد خشيت الغرق فخلّصتنى منه يا عمر.
فأنى معاذ أبا بكر، فذكر ذلك له، وحلف له أنّه لا يكتمه شيئا فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئا، قد وهبته لك، فقال: هذا خير حلّ [2] ، وطاب، فخرج معاذ عند ذلك إلى الشام. قال أبو عمر: كان عمر قد استعمله فى الشام [حين مات أبو عبيدة] [3] ولما مات
__________
[1] من الاستيعاب.
[2] فى الأصلين: «حين» ، والمثبت من الاستيعاب.
[3] من ص.(19/357)
أبو عبيدة، استعمل عمر بن الخطّاب معاذ بن جبل على الشّام، فمات من عامه؛ وذلك فى الطّاعون، فاستعمل موضعه عمرو بن العاص.
وقال المدائنىّ: مات معاذ بناحية الأردنّ فى طاعون عمواس فى سنة ثمانى عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين.
وقال غيره: كان سنّه يوم مات ثلاثا وثلاثين سنة.
وقبر معاذ بغور الشّام، بالقرب من قرية [1] القصير من شرقيّها معووف هناك، قد زرته غير مرّة، وبينه وبين قبر أبى عبيدة نحو من [مرحلة] [2] .
ومنهم يزيد بن أبى سفيان بن حرب بن أميّة بن عبد شمس ابن عبد مناف، كان أفضل بنى أبى سفيان، وكان يقال له يزيد الخير. أسلم يوم فتح مكة، وشهد حنينا، واستعمله أبو بكر رضى الله تعالى عنه وأوصاه [3] ، وخرج يشيّعه راجلا.
وروى أبو بشر الدّولابىّ: أنّه مات سة تسع عشرة بعد أن افتتح قيساريّة.
ومنهم الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشىّ المخزومىّ، وهو أخو أبى جهل لأبويه.
أسلم يوم الفتح، وحسن [4] إسلامه، وشهد حنينا، وأعطاه
__________
[1] ك: «عمارة» .
[2] تكملة من ص.
[3] ك: «فأرضاه» .
[4] ك: «وشهد إسلامه» .(19/358)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة من الإبل، وأعطى المؤلّفة قلوبهم، ثم خرج إلى الشّام فى خلافة عمر رضى الله عنه راغبا فى الرّباط والجهاد فتبعه أهل مكّة يبكون فراقه، فقال: إنّها النّقلة إلى الله تعالى، وما كنت لأوثر [1] عليكم [أحدا] [2] ، فلم يزل بالشّام يجاهد حتّى مات فى طاعون عمواس.
وقال المدائنىّ: إنّه قتل يوم اليرموك، فى شهر رجب سنة خمس عشرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومنهم سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤىّ بن غالب القرشىّ العامرىّ. يكنى أبا يزيد، وكان أحد الأشراف من قريش وسادتهم، وهو الّذى عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية وقاضاه كما تقدّم.
أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب فى سهيل بن عمرو: «دعه فعسى أن يقوم مقاما نحمده»
، فكان المقام الّذى قامه فى الإسلام أنّه لما ماج أهل مكّة عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وارتدّ من ارتدّ من العرب، قام سهيل خطيبا فقال: والله إنّى لأعلم أنّ هذا الدّين سيمتدّ امتداد الشّمس من طلوعها إلى غروبها، فلا يغرّنكم هذا عن أنفسكم،- يعنى أبا سفيان- فإنّه يعلم من هذا الأمر ما أعلم؛ ولكنه قد جثم على صدره بحسد بنى هاشم.
__________
[1] ك: «الأمير» تحريف.
[2] تكملة من ص.(19/359)
وأتى فى خطبتة بمثل ما جاء به أبو بكر الصّديق رضى الله عنه بالمدينة.
وروى ابن المبارك عن جرير بن حازم [1] ، قال: سمعت الحسن يقول: حضر النّاس باب عمر بن الخطّاب، وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال. فقال أبو سفيان:
ما رأيت كاليوم قطّ؛ إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيّها القوم: إنّى والله قد أرى الّذى فى وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم.
أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتا من بابكم هذا الّذى تنافسون عليه، ثم قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى أن الله يرزقكم شهادة ثم. نفض ثوبه فقام ولحق بالشّام.
وقال المدائنىّ: إنّه قتل باليرموك، والله تعالى أعلم.
ومنهم: عتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثّقفى، مات وأبوه حّىّ، ومات غير هؤلاء، رحمهم الله تعالى.
__________
[1] ك: «حاذرة» تحريف.(19/360)
ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون
قال [1] : لمّا هلك النّاس بالطاعون، كتب أمراء الأجناد إلى عمر رضى الله عنه بما فى أيديهم من المواريث، فجمع النّاس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لى أن أطوف على المسلمين فى بلدانهم؛ لأنظر فى آثارهم، فأشيروا علىّ، وكان أراد أن يبدأ بالعراق، فصرف كعب الأحبار رأيه عن ذلك، فخرج إلى الشّام، واستخلف على المدينة علىّ بن أبى طالب، وجعل طريقه على أيلة، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه النّاس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم- يعنى نفسه- فساروا أمامه، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها.
وقيل للمتلقّين: قد دخل أمير المؤمنين، فرجعوا، وأعطى عمر الأسقّفّ [2] بها قميصه وقد تخرّق ظهره؛ ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقفّ قميصا غيره، [فلم يأخذه] [3] فلمّا قدم إلى الشام قسّم فيها الأرزاق، وسمّى الشّواتى والصّوئف، وسدّ فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدور بها، واستعمل عبيد الله بن قيس على السّواحل من كلّ كورة، واستعمل معاوية على دمشق
__________
[1] ابن الأثير 2: 393.
[2] الأسقف عند النصارى. القسيس، وهو دون المطراك.
[3] من ص.(19/361)
وخراجها بعد وفاة أخيه يزيد بن أبى سفيان، وعزل شرحبيل بن حسنة، وقام بعذره فى النّاس، وقال: إنّى لم أعزله عن سخطة، ولكنّى أريد رجلا أقوى من رجل، وكان شرحبيل على خيل الأردنّ، فضمّ ذلك إلى معاوية.
قال: ولمّا قدم عمر رضى الله تعالى عنه تلقّاه معاوية فى موكب عظيم، فلما رآه عمر قال: هذا كسرى العرب، فلمّا دنا منه قال:
أنت صاحب الموكب العظيم! قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: مع ما يبلغنى من وقوف ذوى الحاجات ببابك! قال: مع ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض، جواسيس العدوّ بها كثيرة، فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما يرهبهم، فإن أمرتنى فعلت، وإن نهيتنى انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شىء الا تركتنى فى مثل رواجب الفرس [1] ، لئن كان ما قلت حقّا، إنّه لرأى لبيب، وإن كان باطلا إنّها لخدعة أريب. قال: فمرنى يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك.
قال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادره وموارده جشّمنا ما جشّمناه.
وروى أبو عمر بن عبد البرّ: أنّ عمر بن الخطّاب رزق معاوية على عمله بالشّام عشرة آلاف دينار فى كلّ سنة.
قال المؤرّخ: واستعمل عمر رضى الله عنه عمرو بن عنبسة على
__________
[1] الرواجب: مفاصل أصول الأصابع.(19/362)
الأهراء [1] ، وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء، من ورثة كلّ منهم، ورجع عمر إلى المدينة فى ذى القعدة من السّنة.
قال: ولمّا كان بالشّام وحضرت الصّلاة قال له النّاس: لو أمرت بلالا فأذّن! فأمره، فأذّن، فما بقى أحد ممّن أدرك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وبلال يؤذّن إلّا بكى حتّى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم.
وحجّ عمر رضى الله بالنّاس فى هذه السّنة.
سنة تسع عشرة: فى هذه السنة سالت حرّة ليلى وهى بالقرب من المدينة نارا، فأمر [عمر] [2] بالصّدقة، فتصدّق النّاس، فانطفأت.
وفيها مات أبىّ بن كعب. وقيل: مات سنة عشرين، وقيل اثنتين وعشرين. وقيل: اثنتين وثلاثين، والله تعالى أعلم.
وحجّ عمر رضى الله تعالى عنه بالنّاس فى هذه السّنة.
سنة عشرين من الهجرة: فى هذه السّنة عزل عمر رضى الله عنه قدامة بن مظعون [3] عن البحرين، وولّى عثمان بن أبى العاص.
__________
[1] ك: «الأهواز، تحريف.
[2] من ص.
[3] بعدها فى ابن الأثير: «وحده فى شرب الخمر» .(19/363)
وقيل: بل استعمل أبا هريرة على البحرين، واليمامة [1] ، [وقيل: استعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة] [2] .
وكان سبب عزل قدامة، أنّ الجارود بن المعلّى سيّد عبد القيس قدم على عمر من البحرين، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قدامة شرب فسكر، وإنّى رأيت حدّا من حدود الله حقّا علىّ أن أرفعه إليك. فقال عمر: من يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال بم تشهد؟ قال: لم أره يشرب، ولكن رأيته سكران يقئ. فقال عمر: لقد تنطّعت فى الشّهادة.
ثمّ كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا حدّ كتاب الله. فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ [فقال: شهيد] [2] . فقال: قد أدّيت شهادتك.
فصمت الجارود، ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حدّ الله فقال عمر: ما أراك إلّا خصما، وما شهد أحد بعد إلّا رجلا واحدا.
فقال الجارود: إنّى أنشدك الله! فقال عمر: لتمسكنّ عنّى لسانك وإلّا سؤتك. فقال: يا عمر، أما والله ما ذاك بالحقّ أن يشرب ابن عمّك الخمر وتسوءنى! ثم قال: يا عمر، إن كنت تشك فى شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهى امرأة قدامة.
__________
[1] فى ابن الأثير: «واستعمل أبا بكرة على اليمامة والبحرين.
[2] من ص.(19/364)
فأرسل عمر إلى هند ابنة الوليد ينشدها، فأقامت الشّهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة: إنّى حادّك، فقال: لو شربت كما يقولون ما كان لكم أن تحدّونى، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عزّ وجلّ:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ...
[1] الآية.
فقال عمر: أخطأت التأويل، إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حرّمه عليك، ثم أقبل عمر على النّاس فقال: ما ترون فى جلد قدامة؟
فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان مريضا، فسكت على ذلك أيّاما، ثم أصبح يوما قد عزم [2] على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون فى جلد قدامة؟ فقالوا: ما نرى أن تجلده ما كان وجعا، فقال عمر:
لأن [3] يلقى الله تحت السّياط أحبّ إلىّ من أن ألقاه وهو فى عنقى. ائتونى بسوط تامّ، وأمر بقدامه فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره، فلم يزل كذلك حتّى حجّ عمر وقدامة معه، فلمّا قفلا من حجّهما، ونزل عمر بالسّقيا نام، فلمّا استيقظ قال: عجّلوا علىّ بقدامة، فو الله لقد أتانى آت فى منامى فقال: سالم قدامة فإنّه أخوك.
فلمّا أتوه أبى أن يأتى، فأمر عمر به إن أبى أن يجرّوه إليه، فجاءه فاستغفر له عمر وكلّمه، فكان ذلك أوّل صلحهما.
__________
[1] سورة المائدة 93.
[2] ص: «قدم» .
[3] ك: «لئن» .(19/365)
حكاه أبو عمر. قال: وكان قدامة خال عبد الله وحفصة ابنى عمر رضى الله عنهم [1] .
ذكر اجلاء يهود خيبر منها
وفى هذه السّنة أجلى عمر رضى الله عنه يهود خيبر،
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا فتح الله عليه خيبر، دعا أهلها فقال لهم: إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال [على] [2] أن تعملوها، وتكون ثمارها بيننا وبينكم، وأقرّكم على ما أقرّه الله عزّ وجلّ
. فقبلوا ذلك [واشترط عليهم] [2] ، أنّا متى شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وقد تقدّم ذكر ذلك مستوفى فى السّيرة النّبويّة، فى غزاة خيبر.
فلمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرّهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرّهم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقرّهم عمر رضى الله عنه بعده إلى هذه السّنة.
ثم بلغه
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فى وجعه الّذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعنّ فى جزيرة العرب دينان»
، ففحص عن ذلك حتّى أتاه الثّبت، فأرسل إلى يهود فقال: إنّ الله قد أذن لى فى إجلائكم،
وقد بلغنى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان
، فمن كان عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد
__________
[1] الاستيعاب 1277.
[2] من ص.(19/366)
فليتجهّز [1] للجلاء، فأجلى من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ابن إسحاق: حدّثنى نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر قال: خرجت أنا والزّبير بن العوّام، والمقداد ابن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعهّدها، فلمّا قدمنا تفرقنا فى أموالنا.
قال عبد الله: فعدا [2] علىّ تحت الليل شىء وأنا نائم على فراشى، فنزعت يداى من فرقى [3] ، فلمّا أصبحت استصرخت علىّ صاحباى، فأتيانى فسألانى: من صنع بك هذا؟ فقلت: لا أدرى، فأصلحانى ثم قدما بى على عمر، فقال [4] : هذا عمل [5] اليهود.
ثمّ قام فى الناس خطيبا فقال: أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر، فقدعوا يديه كما بلغكم، مع عدوتهم على الأنصارىّ قبله، لا نشكّ أنّهم أصحابه، ليس هناك عدوّ غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به؛ فإنّى مخرج اليهود، فأخرجهم.
قال: وركب عمر فى المهاجرين والأنصار، وأخرج معه جبار ابن صخر بن أميّة- وكان خارص [6] أهل المدينة وحاسبهم- وزيد
__________
[1] ك: «فليستجهز» .
[2] ك: «فعدا» .
[3] ك: «مرفقى» .
[4] ك: «فقلت» .
[5] ك: «عملت» .
[6] الخارص: هو الذى يقطع النخل، وفى ك: «حارص» .(19/367)
ابن ثابت، وهما قسّما خيبر على أهلها على أصل جماعة السّهمان التى كانت عليها.
وفيها أيضا أجلى نصارى نجران إلى الكوفة.
وفيها بعت عمر علقمة بن مجزز المدلجى إلى الحبشة، وكانت تطرفت بلاد الشام، فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل فى البحر أحدا أبدا- يعنى للغزو.
وقيل: كان ذلك فى سنة إحدى وثلاثين فى خلافة عثمان رضى الله عنه.،.
ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة
سنة إحدى وعشرين: [وفى هذه السنة] [1] عزل عمر بن الخطاب رضى الله عنه سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة؛ حين شكاه أهلها، وولّى عمّار بن ياسر الصّلاة، وعبد الله بن مسعود بيت المال، وعثمان ابن حنيف مساحة الأرض، ثم عزل عمّارا؛ لأنّ أهل الكوفة شكوه، فاستعفى.
وأعاد سعدا على الكوفة ثانية، ثم عزله، وولىّ جبير بن مطعم، ثم عزله قبل أن يخرج إليها، وكان سبب عزله أنّ عمر رضى الله عنه ولاه، وقال له: لا تذكره لأحد، فسمع المغيرة بن شعبة أنّ عمر
__________
[1] من ص.(19/368)
خلا بجبير بن مطعم، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير لتعرض عليها طعام السّفر، فقالت: نعم، جيئينى به.
فلمّا علم المغيرة جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن ولّيت.
وأخبره الخبر، فعزله، وولّى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها إلى أن قتل [عمر] [1] .
وقيل: إنّ عمر رضى الله عنه لمّا أراد أن يعيد سعدا إلى الكوفة أبى عليه، وقال: أتأمرنى أن أعود إلى قوم يزعمون أنّى لا أحسن أن [أصلّى، فتركه وولّى خالد بن الوليد] [2] .
وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين، قيل: كانت وفاته بحمص، ودفن فى قرية على ميل منها. وقيل: بل توفّى بالمدينة.
ولمّا حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أوزهاءها وما فى جسدى موضع شبر الّا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثمّ هأنذا أموت على فراشى كما يموت العير! فلا نامت أعين الجبناء.
حكى أبو عمر: أنّه لم تبق امرأة من بنى المغيرة إلّا وضعت لمّتها على قبر خالد بن الوليد، أى حلقت رأسها.
قال المؤّرخ: وكان الأمراء فى هذه السّنة على الأمصار، عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة. ومعاوية
__________
[1] من ك.
[2] من ص.(19/369)
ابن أبى سفيان على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسّواحل وأنطاكية وقلقية ومعّرة مصرين، والعمّال على بقية الأمصار من ذكرنا.
وفيها ولد الحسن البصرى والشّعبىّ. وفيها مات العلاء [ابن] [1] الحضرمىّ أمير البحرين، فاستعمل عمر رضى الله عنه مكانه أبا هريرة.
وحجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.
سنة اثنتين وعشرين: فى هذه السنّة ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكان عمّاله على الأمصار من ذكرنا إلّا الكوفة والبصرة؛ فإنّ عامله على الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى.
سنة ثلاث وعشوين: وفى هذه السنّة حجّ عمر رضى الله عنه بالنّاس، وحجّ معه أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهى آخر حجّة حجّها.
وفيها كان مقتل عمر رضى الله عنه وأرضاه بمنّه وكرمه.
__________
[1] من ص.(19/370)
ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته
قد [1] اختلف فى تاريخ مقتله رضى الله عنه، فقال الواقدىّ:
لثلاث بقين من ذى الحجّة سنة ثلاث وعشرين. وقال الزّبير: لأربع بقين من ذى الحجّة.
وروى عن معدان بن أبى طلحة اليعمرىّ، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة.
وكانت خلافته رضى الله تعالى عنه عشر سنين ونصفا وخمس ليال، وعمره ثلاث وستّون سنة على الصّحيح.
وقتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وذلك أنّ عمر رضى الله عنه خرج يوما يطوف فى الأسواق، فلقيه أبو لؤلؤة فيروز- وكان نصرانيّا، وقيل: مجوسيّا- وقد ذكرنا ما كان يقوله لمّا قدم سبى نهاوند: أكل عمر كبدى، فلمّا لقيه قال: يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة بن شعبة؛ فإنّه يكلّفنى خراجا كثيرا، قال: كم يحمّلك؟ قال: مائة درهم فى الشّهر. وقيل: إنّه قال: درهمان فى كلّ يوم، قال: وما صناعتك؟ قال: نجّار نقّاش حدّاد. قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغنى أنّك تقول:
لو أردت أن أصنع رحا تطحن بالرّيح لفعلت. قال: نعم، قال:
__________
[1] انظر خبر؟؟؟ مقتله رضى الله عنه فى تاريخ ابن الأثير 3: 26 وما بعدها.(19/371)
فاعمل لى رحا. قال: إن سلمت لأعملنّ لك رحا يتحدّث بها أهل المشرق والمغرب.
فقال عمر: قد أوعدنى العلج الآن، ثم انصرف عمر إلى منزله.
فلمّا كان من الغد جاء كعب الأحبار إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنّك ميّت فى ثلاث، قال: وما يدريك؟ قال:
أجده فى كتاب التوارة، قال عمر: إنّك لتجد عمر بن الخطّاب فى لتّوراة؟ قال: اللهم لا؛ ولكنّى أجد صفتك وحليتك. قال: وعمر لا يجد وجعا، ثم جاءه من الغد وقال: بقى يومان، ثم جاءه من غد الغد وقال: قد مضى يومان، وقد بقى يوم.
فلمّا أصبح خرج عمر إلى الصّلاة، وكان يوكّل بالصفوف رجلا، فإذا استوت كبّر، ودخل أبو لؤلؤة فى النّاس، وفى يده خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، فضرب عمر ستّ ضربات، إحداهنّ تحت سرّته، وهى الّتى قتلته، وقتل معه كليب بن البكير اللّيثىّ وجماعة غيره.
روى أنه طعن معه اثنا عشر رجلا، وقيل: ثلاثة عشر، مات منهم ستّة، فلمّا وجد عمر حرّ السّلاح سقط، وأمر عبد الرّحمن ابن عوف فصلّى بالنّاس وهو طريح، فاحتمل، فأدخل بيته ودعا عبد الرّحمن، فقال: إنّى أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير علىّ بذلك؟ قال: عمر: اللهمّ لا، فقال: والله لا أدخل فيه أبدا.
قال: فهبنى صمتا؛ حتّى أعهد إلى النّفر الّذين توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راض، ثم دعا عليّا، وعثمان.(19/372)
والزّبير، وسعدا، وقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا، فإنّ جاء وإلّا فاقضوا أمركم.
أنشدك الله يا علىّ، إن وليت من أمور النّاس شيئا على ألّا تحمل بنى هاشم على رقاب النّاس.
أنشدك الله يا عثمان، إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل بنى أبى معيط على رقاب النّاس.
أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور النّاس شيئا ألّا تحمل أقاربك على رقاب النّاس.
قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصلّ بالنّاس صهيب، ثم دعا أبا طلحة الأنصارىّ فقال: قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوص الخليفة من بعدى بالأنصار الّذين تبوّءوا الدّار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوص الخليفة بالعرب؛ فإنّهم مادّة الإسلام، أن تؤخذ من صدقاتهم حقّها، فتوضع فى فقرائهم، وأوص الخليفة بذمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوفى لهم بعهدهم.
اللهمّ هل بلّغت! لقد تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الرّاحة، ثم قال لابنه عبد الله: انظر من قتلنى؟ فقال: قتلك أبو لؤلؤة، فقال: الحمد لله الّذى لم يجعل منيّتى على يد رجل [ما] [1] سجد لله سجدة واحدة، وأرسل عبد الله ابنه إلى عائشة، فاستأذنها
__________
[1] من ص.(19/373)
أن يدفن مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر رضى الله عنه، ثم قال:
يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإن تساووا فكن مع الحزب الّذى فيه عبد الرّحمن بن عوف.
يا عبد الله، ائذن للنّاس، فدخل عليه المهاجرون والأنصار، فجعلوا يسلّمون عليه، فيقول لهم: هذا عن ملإ منكم؟
فيقولون: معاذ الله! ودخل كعب الأحبار مع النّاس، فلما رآه عمر رضى الله تعالى عنه قال:
وأوعدنى كعب ثلاثا أعدّها ... ولا شكّ أنّ القول ما قاله كعب
وما بى حذار الموت إنّى لميّت ... ولكن حذار الذّنب يتبعه الذّنب
قال: ولمّا طعن أبو لؤلؤة عمر، ومن طعن معه، رمى عليه رجل من أهل العراق برنسا، ثم نزل عليه، فلمّا رأى أنّه لا يستطيع أن يتحرّك، وجأ نفسه فقتلها.
قال أبو عمر بن عبد البرّ: ومن أحسن شىء يروى فى مقتل عمر وأصحّه ما رواه بسنده إلى عمرو بن ميمون، قال: [1] شهدت عمر يوم طعن ومات، وما منعنى أن أكون فى الصّفّ المقدّم إلّا هيبته- وكان رجلا مهيبا- فكنت فى الصّفّ الّذى يليه، فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، ففاجأ عمر قبل أن تستوى الصّفوف، ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو يقول:
دونكم الكلب فإنّه قد قتلنى، وماج النّاس وأسرعوا إليه، فجرح
__________
[1] الاستيعاب 1153.(19/374)
ثلاثة عشر رجلا، فانكفأ عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر، فماج النّاس بعضهم فى بعض حتّى قال قائل: الصّلاة يا عباد الله، طلعت الشمس.
فقدّموا عبد الرّحمن بن عوف فصلّى بنا بأقصر سورتين فى القرآن، (إذا جاء نصر الله والفتح) و (إنّا أعطيناك الكوثر) ، واحتمل عمر، ودخل النّاس عليه، فقال: يا عبد الله بن عبّاس، اخرج فناد فى النّاس: أعن ملإ منكم هذا؟ فخرج ابن عبّاس، فقال:
أيّها النّاس، إنّ أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم هذا؟ فقالوا:
معاذ الله! والله ما علمنا ولا اطّلعنا. وقال: ادعوا إلىّ الطبيب فدعى الطبيب فقال: أىّ الشّراب أحبّ إليك؟ فقال: النّبيذ، فسقى نبيذا فخرج من بعض طعناته، فقال النّاس: هذا دم، هذا صديد، فقال: اسقونى لبنا، فسقى لبنا، فخرج من الطّعنة، فقال له الطّبيب: لا أرى أن تمسى، فما كنت فاعلا فافعل.
وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى عوف بن عوف بن مالك الأشجعىّ:
أنّه [1] رأى فى المنام، كأنّ النّاس جمعوا، فإذا فيهم [رجل] [2] فرعهم فهو فوقهم بثلاثة أذرع.
قال: فقلت: من هذا؟ فقالوا: عمر. قلت: ولم؟ قالوا:
لأنّ فيه ثلاث خصال، لأنّه لا يخاف فى الله لومة لائم، وأنّه خليفة مستخلف، وأنّه شهيد مستشهد.
قال: فأتى أبو بكر فقصّها عليه، فأرسل إلى عمر فدعاه ليبشّره،
__________
[1] الاستيعاب 1156.
[2] من الاستيعاب.(19/375)
فجاء عمر فقال لى أبو بكر: اقصص، قال: فلمّا بلغت خليفة مستخلف، زبرنى [1] عمر وانتهرنى، وقال: اسكت، تقول هذا وهو حىّ! قال: فلمّا كان هذا بعد، وولى عمر، مررت بالمسجد وهو على المنبر، فدعانى وقال: اقصص علىّ رؤياك، فقصصتها، فلمّا قلت: إنّه لا يخاف فى الله لومة لائم قال: إنّى لأرجو أن يجعلنى الله منهم، قال فلمّا قلت: «خليفة مستخلف» قال: قد استخلفنى الله، وأسأله أن يعيننى على ما ولّانى، فلما أن ذكرّت: «شهيد مستشهد» ، قال: أنّى لى بالشّهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو! ثم قال:
بلى يأتى الله بها إن شاء، يأتى الله بها إن شاء [2] .
وقد روى معمر عن الزّهرى، عن سالم، عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهم: أنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم رأى على عمر قميصا أبيض، فقال: أجديد قميصك هذا، أم غسيل؟ قال: بل غسيل.
قال: «البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا، ويرزقك الله قرّة عين فى الدّنيا والآخرة» ، قال: وإيّاك يا رسول الله.
وروى عن عائشة رضى الله عنها، قالت: ناحت الجنّ على عمر قبل أن يقتل بثلاث، فقالت:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه بأسوق
__________
[1] زبرنى: نهرنى.
[2] الاستيعاب 1156.(19/376)
جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله فى ذاك الأديم الممزّق
فمن يسع أو يركب جناحى نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق من أكمامها لم تفتّق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفّ سبنتى أزرق العين مطرق [1]
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] السبنتى: النمر.(19/377)
ذكر قصة الشورى
قال: وقيل [1] لعمر: لو استخلفت يا أمير المؤمنين؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى [2] : سمعتك وسمعت نبيّك يقول: إنّه أمين هذه الأمّة، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيّا لاستخلفته، وقلت لربّى إن سألنى: سمعت نبيّك يقول: «إنّ سالما شديد الحبّ لله» .
فقال له رجل: أدلّك على عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله! ما أردت بهذا ويحك! كيف أستخلف من عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا فى أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتى، إن كان خيرا قد أصبنا منه، وإن كان شرّا قد صرف عنّا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد، ويسأل عن أمّة محمّد! أما لقد جهدت نفسى، وحرمت أهلى، وإن نجوت كفافا لا أجر ولا وزر، إنّى لسعيد. أنظر فإن استخلفت، فقد استخلف من هو خير منّى، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، ولن يضيّع الله دينه.
فخرجوا، ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهدا! فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتى أن أنظر فأولّى رجلا أمركم، وهو أحراكم أن يحملكم على الحقّ- وأشار إلى علىّ- فرهقتنى غشية،
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 34 وما بعدها.
[2] ك: «إن يسألنى» .(19/378)
فرأيت رجلا دخل الجنّة، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمه إليه، ويصيّره تحته، فعلمت أنّ الله بالغ أمره، فما أردت أن أتحمّلها حيّا وميّتا.
عليكم هؤلاء الرّهط الّذين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
إنّهم من أهل الجنّة، وهم: علىّ وعثمان وعبد الرّحمن وسعد، والزّبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فلتختاروا منهم رجلا، فإذا ولّوا واليا فأحسنوا موازرته وأعينوه، وخرجوا.
فقال العبّاس لعلىّ: لا تدخل معهم، إنّى أكره الخلاف، قال:
إذن ترى ما تكره، فلما أصبح عمر دعا عليّا، وعثمان، وسعدا، وعبد الرّحمن، والزبير، فقال: إنّى نظرت فوجدتكم رؤساء النّاس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم، وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنكم راض. إنّى لا أخاف النّاس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّى أخافكم فيما بينكم، فيختلف النّاس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، فتشاورا فيها. ووضع رأسه وقد نزفه الدّم، فدخلوا فتناجوا؛ حتى ارتفعت أصواتهم.
فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد، فسمعه عمر: فانتبه، وقال: أعرضوا عن هذا، فإذا أنا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، وليصلّ بالنّاس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شىء له من الأمر، وطلحة شريككم فى الأمر، فإن قدم فى الأيّام الثّلاثة فأحضروه، وإن مضت الأيّام الثّلاثة قبل قدومه فامضوا(19/379)
لأمركم. ومن لى بطلحة؟ فقال سعد بن أبى وقّاص: أنا لك به، ولا يخالف إن شاء الله تعالى.
فقال عمر رضى الله عنه: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله، وما أظن أن يلى هذا الأمر إلا أحد هذين الرّجلين: علىّ أو عثمان.
فإن ولّى عثمان، فرجل فيه لين، وإن ولّى علىّ ففيه دعابة [1] وأحر به أن يحملهم على الحقّ، وإن تولّوا سعدا فأهلها هو وإلّا فليستعن به الوالى؛ فإنّى لم أعزله عن ضعف ولا جناية، ونعم ذو الرأى عبد الرّحمن ابن عوف! فاسمعوا منه.
وقال لأبى طلحة الأنصارى: يا أبا طلحة، إنّ الله تعالى طالما أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرّهط حتّى يختاروا رجلا منهم.
وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتمونى فى حفرتى، فاجمع هؤلاء الرّهط فى بيت حتّى يختاروا رجلا.
وقال لصهيب: صلّ بالنّاس ثلاثة أيام، وأدخل هؤلاء الرّهط بيتا، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسّيف، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضى اثنان رجلا، واثنان رجلا، فحكّموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه النّاس، فخرجوا، فقال علىّ لقوم معه من بنى هاشم: ان أطع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبدا، وتلقّاه
__________
[1] ك: «رعاية» تحريف.(19/380)
عمّه العبّاس فقال: عدلت عنّا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بى عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرّحمن، فسعد لا يخالف ابن عمّه، وعبد الرّحمن صهر عثمان لا يختلفان فيولّيها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى.
فقال له العبّاس: لم أدفعك فى شىء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر فى الشّورى ألّا تدخل معهم فأبيت.
احفظ عنّى واحدة، كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرّهط؛ فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا حتّى يقوم به لنا غيرنا. وايم الله لا تناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير.
فلمّا مات عمر ودفن، جمع المقداد أهل الشّورى فى بيت المسور ابن مخرمة، وقيل: فى بيت المال. وقيل: فى حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم.
وجاء عمر بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنّا فى أهل الشّورى! فتنافس القوم فى الأمر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة:
أنا كنت لأن تدفعوها أخوف منّى لأن تنافسوها، [لا] [1] والّذى
__________
[1] من ص.(19/381)
ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة الّتى أمر، ثم أجلس فى بيتى فأنظر ما تصنعون.
فقال عبد الرّحمن: أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن نولّيها أفضلكم، فلم يجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها.
قال عثمان: أنا أوّل من رضى، قال القوم: قد رضينا، وعلىّ ساكت، فقال ما تقول أبا الحسن؟ قال: أعطنى موثقا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم لرحمه، ولا تألوا [الأمّة، فقال: اعطونى مواثقكم على أن تكونوا معى على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلىّ ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين] [1] قال: فأخذ منهم ميثاقا، وأعطاهم مثله.
فقال لعلىّ: تقول: إنّى أحقّ من حضر هذا الأمر، لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وسابقتك وحسن أثرك فى الدّين، ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك ولم تحضر إلى هؤلاء الرّهط، من تراه أحقّ به؟ قال: عثمان، وخلا بعثمان فقال:
تقول: شيخ من بنى عبد مناف وصهر رسول الله وابن عمه ولى سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عنّى؟ ولكن لو لم تحضر، أىّ هؤلاء أحقّ به؟ قال علىّ. ولقى علىّ سعدا فقال: اتّقوا الله الّذى تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابنى هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [وبرحم عمّى حمزة ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيرا لعثمان علىّ. ودار عبد الرحمن ليلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف النّاس
__________
[1] من ص.(19/382)
يشاورهم؛ حتّى إذا كانت اللّيلة الّتى صبيحتها يستكمل الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق فى هذه اللّيلة كثير غمض، انطلق فادع الزّبير وسعدا؛ فدعاهما، فبدأ بالزّبير فقال له: خلّ عبد بنى مناف، وهذا الأمر، قال: نصيبى لعلىّ.
وقال لسعد: اجعل نصيبك لى، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلىّ أحبّ إلىّ، أيّها الرّجل، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رءوسنا.
فقال: قد خلعت نفسى على أن اختار، ولو لم أفعل لم أردها، إنّى رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل ما رأيت أكرم منه، فمرّ كأنّه سهم لم يلتفت إلى شىء منها؛ حتّى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه، فاتّبع أثره حتّى خرج منها، ثم دخل فحل عبقرىّ يجرّ خطامه ومضى قصد الأوّلين، ثم دخل بعير رابع فوقع فى الرّوضة، ولا والله لا أكون الراتع الرابع، ولا يقوم مقام أبى بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النّاس عنه.
قال: وأرسل المسور، فاستدعى عليّا فناجاه طويلا وهو لا يشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتّى فرّق بينهما الصّبح، فلمّا صلّوا الصبح جمع الرّهط، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السّابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التحم المسجد بأهله، فقال:
أيّها النّاس، إنّ النّاس قد أحبّوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فأشيروا علىّ.
__________
[1] ك: «قطعتها» .(19/383)
فقال عمّار بن ياسر: إذا أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليّا.
فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار إن بايعت عليّا، قلنا:
سمعنا وأطعنا.
وقال ابن أبى سرح: إذا أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان.
فقال عبد الله بن أبى ربيعة: صدقت، إن بايعت عثمان قلنا:
سمعنا وأطعنا.
فشتم عمّار ابن أبى سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلّم بنو هاشم وبنو أميّة، فقال عمّار: أيّها النّاس، إنّ الله أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم! فقال رجل من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبى وقّاص: يا عبد الرّحمن. افرغ قبل أن يفتتن النّاس، فقال عبد الرحمن: إنّى قد نظرت وشاورت، فلا تجعلنّ فيها أيّها الرّهط على أنفسكم سبيلا، ودعا عليّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملنّ بكتاب الله وسنّة رسوله، وسيرة الخليفتين من بعده؟ فقال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمى وطاقتى.
ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلىّ، فقال: نعم، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذاك فى رقبة عثمان، فبايعه.
وقيل: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته الّتى عمّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متقلّدا سيفه؛ حتّى ركب المنبر،(19/384)
فوقف وقوفا طويلا، ثم دعا دعاء لا يسمعه النّاس، ثم تكلّم فقال:
أيّها النّاس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرّجلين: إمّا علىّ، وإمّا عثمان.
فقم إلىّ يا علىّ، فقام إليه فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهمّ لا، ولكن على جهدى من ذاك وطاقتى.
قال: فأرسل يده ثمّ نادى: قم إلىّ يا عثمان، فأخذ بيده، وهو فى موقف علىّ الّذى كان فيه، فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ نعم، قال:
فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: اللهمّ اسمع واشهد ثلاثا، اللهمّ إنّى قد جعلت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان، قال: فازدحم النّاس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من المنبر، وأقعد عثمان على الدّرجة الثّانية، فجعل النّاس يبايعونه، وتلكّأ علىّ.
فقال عبد الرّحمن: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
[1] .
فرجع علىّ يشقّ النّاس حتى بايع عثمان وهو يقول: خدعة، وأىّ خدعة!
__________
[1] سورة الفتح 10.(19/385)
وقيل: لمّا بايع عبد الرحمن عثمان قال علىّ: ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، والله ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، والله كلّ يوم [هو] [1] فى شأن.
فقال عبد الرحمن: يا علىّ، لا تجعل على نفسك حجّة ولا سبيلا، فخرج علىّ وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون.
فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، إنّى لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا، لا أقول ولا أعلم أنّ رجلا أقضى بالعدل، ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعوانا عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد، اتّق الله؛ فإنّى خائف عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت؟ ومن هذا الرّجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطّلب، والرجل علىّ بن أبى طالب.
فقال علىّ: إنّ النّاس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر بينها
__________
[1] من ص.(19/386)
فتقول: إن ولّى عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وإن كانت فى غيرهم تداولتموها بينكم.
قال: وقدم طلحة فى اليوم الرّابع الذى بويع فيه عثمان، فقيل له:
بايعوا لعثمان، فقال: كلّ قريش راض به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك، إن أبيت رددتها.
قال: أتردّها؟ قال: نعم. ثم قال أكلّ النّاس بايعوك؟ قال، نعم.
قال: قد رضيت، لا أرغب عمّا أجمعوا عليه، وبايعه.
حكاه ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] ، عن عمرو بن ميمون.
وفيه زيادة عن الطّبرىّ.
وروى أبو جعفر الطّبرىّ رحمه الله فى قصّة الشّورى، عن المسور بن مخرمة نحو ما تقدّم؛ الّا أنّه ذكر زيادات ذكرنا بعضها فى أثناء هذه القصّة، ونذكر بقيّتها الآن.
قال [2] : لما دفن رضى الله عنه جمعهم عبد الرحمن وخطبهم، وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق.
فتكلّم عثمان رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى اتخذ محمدا نبيّا وبعثه رسولا، وصدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبا، أو قرب رحما، صلّى الله عليه، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم، عند تفرّق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل
__________
[1] الكامل لابن الأثير 3: 34- 40.
[2] الطبرى 4: 234 وما بعدها.(19/387)
علينا غيرنا الّا من سفه الحقّ، ونكل عن القصد، وأحر [1] بها يابن عوف أن تترك، وأجّدر بها [2] أن تكون إن خولف أمرك، وترك دعاوءك، فأنا مجيب وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم، وأستغفر الله لى ولكم.
ثمّ تكلّم الزبير بعده، فقال: أمّا بعد، فإنّ داعى الله لا يجهل ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء، ولىّ الأعناق، ولن يقصّر عما قلت إلّا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقىّ، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدّت، تراح على أهلها، وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدّعوة، وإظهار السّنّة، لئلّا نموت موتة [3] عميّة، ولا نعمى عمى جاهليّة، فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم، وأستغفر الله لى ولكم.
ثم تكلّم سعد فقال. الحمد لله بديئا، بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم أنارت الطّرق، واستقامت السّبل، وظهر الحقّ، ومات كلّ باطل، إيّاكم أيّها النّفر وقول الزّور، وأمنيّة أهل الغرور! فقد سلبت الأمانىّ قوما قبلكم، ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذوا الله عدوّا، ولعنهم لعنا كثيرا، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...
[4]
__________
[1] فى الأصلين: «وأحرها» ، وما أثبته من الطبرى.
[2] الطبرى: «وأحذر بها» .
[3] الطبرى: «ميتة» .
[4] سورة المائدة 78، 79.(19/388)
إلى قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
إنّى نكبت قرنى [1] وأخذت سهمى الفالج [2] ، وأخذت لطلحة بن ابن عبيد الله ما ارتضيت لنفسى، فأنّا كفيل به، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يابن عوف، بجهد النّفس، وقصد النّصح، وعلى الله قصد السبيل وإليه الرّجوع، واستغفر الله لى ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلّم علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى بعث محمدا منّا نبيّا، وبعثه إلينا رسولا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب؛ لنا حقّ إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الابل، ولو طال السّرى. لو عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجادلنا عليه حتّى نموت، لن يسرع أحد قبلى إلى دعوة حقّ، وصلة رحم، ولا قوّة الّا بالله.
اسمعوا كلامى، وعوا منطقى، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السّيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضّلالة، وشيعة لأهل الجهالة ثم قال [3] :
فإن تك جاسم هلكت فإنّى ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم
__________
[1] كذا فى الطبرى. والقرن هنا الجعبة، ونكب قرنه، أى نثر ما فيه من السهام.
وانظر اللسان
[2] الفالج: المنتصر.
[3] الطبرى: «ثم أنشأ يقول» .(19/389)
مطيع فى الهواجر كلّ عىّ ... بصير بالنّوى من كلّ نجم
فقال عبد الرحمن: أيّكم يطيب نفسا أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه. وذكر نحو ما تقدم.
فلنرجع إلى بقيّة أخبار عمر رضى الله عنه.
قال: ومات عمر لأربع بقين من ذى الحجّة، قاله الواقدىّ.
وقال غيره: يوم الاثنين لليلتين بقيتا منه، وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد هلال المحرّم، سنة أربع وعشرين فى حجرة عائشة رضى الله عنها، ورأسه قبالة كتفى أبى بكر رضى الله عنهما، وصلّى عليه صهيب الرّومىّ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.(19/390)
ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم وأزواجه
تزوّج رضى الله عنه فى الجاهليّة زينب بنت مظعون بن حبيب ابن وهب بن حذافة بن جمح، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة أمّ المؤمنين رضى الله عنهم.
وتزوّج مليكة بنت جرول الخزاعىّ فى الجاهليّة [فولدت له عبيد الله ففارقها فى الهدنة، وقيل: كانت أمّ عبد الله وأمّ زيد الأصغر أمّ كلثوم بنت جرول الخزاعىّ] [1] . وكان الإسلام فرّق بينها وبين عمر.
وتزوّج قريبة بنت أبى أميّة المخزومىّ فى الجاهليّة، ففارقها فى الهدنة أيضا، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه. وفريبة أخت أمّ سلمة زوج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم.
وتزوّج أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومىّ فى الإسلام، فولدت له فاطمة، فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها.
وتزوّج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح الأوسىّ فى الإسلام، فولدت له عاصما فطلّقها، وقيل: لم يطلّقها.
وتزوّج أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وأمّها فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصدقها أربعين ألفا فولدت رقيّة وزيدا.
__________
[1] من ص.(19/391)
وتزوّج لهيّة [1] ، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر. وقيل: كانت أمّ ولد، وكانت عنده فكيهبة أمّ ولد فولدت له زينب، وهى أصغر ولد عمر.
وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقد تقدّم خبرها عند ذكر عبد الله بن أبى بكر.
ومن أولاده رضى الله عنه: عبد الرّحمن، وكنيته أبو شحمة؛ وقيل: إنه كان له ولد يقال له: مجبّر.
ولنفصّل هذا الفصل بذكر شىء من أخبار من أدرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أولاد عمر، ومن ولد فى حياته [أما عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فإنّه أسلم مع أبيه، وهو صغير لم يبلغ الحلم وكان أول مشاهده] [2] الخندق.
وقيل: أحد؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّه يوم بدر لصغر سنّه، وشهد الحديبية، وكان رضى الله عنه من أهل الورع والعلم، كثير الاتّباع لآثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شديد التّحرّى والاحتياط فى فتواه. وكان لا يتخلّف عن السّرايا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير الحجّ.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحفصة بنت عمر: «إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم من اللّيل»
، فما ترك بعدها قيام الليل. وقعد عن حرب علىّ لمّا أشكلت عليه لورعه، ثم ندم على ذلك
__________
[1] ك. «لهبة» .
[2] من ص.(19/392)
حين حضرته الوفاة، فقال: ما أجد فى نفسى من أمر الدّنيا شيئا إلا أنّى لم أقاتل مع علىّ الفئة الباغية.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عبّاس.
وأفتى فى الإسلام ستّين سنة، ونشر نافع عنه علما جمّا.
وروى عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه وغيره: أنّ مروان بن الحكم دخل فى نفر على عبد الله بن عمر بعد ما قتل عثمان، فعرضوا عليه أن يبايعوا له، فقال: كيف لى بالنّاس؟ قال: تقاتلهم ونقاتل معك، قال: والله لو اجتمع علىّ أهل الأرض، إلا أهل فدك ما قاتلتهم فخرجوا من عنده ومروان يقول:
إنى أرى فتنة تغلى مراجلها ... والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا
قال: وكانت وفاة عبد الله بمكّة سنة ثلاث وسبعين، بعد قتل ابن الزّبير بثلاثة أشهر أو نحوها، وقيل: ستّة أشهر، وأوصى أن يدفن فى الحلّ، فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، فدفن بذى طوى، بمقبرة المهاجرين.
وكان الحجاج قد أمر رجلا فسمّ زجّ رمحه، وزحمه فى الطّريق، ووضع الزّجّ فى ظهر قدمه؛ وذلك أنّ الحجاج خطب يوما، وأخّر الصّلاة، فقال ابن عمر: إنّ الشّمس لا تنتظرك، فقال الحجّاج:
لقد هممت أن أضرب الذى فيه عيناك. فقال: إن تفعل فإنّك سفية سلط [1] . وقيل: إنّه أخفى قوله ذلك عن الحجّاج فلم يسمعه.
__________
[1] السلط والسليط: الطويل اللسان.(19/393)
وكان عبد الله يتقدّم فى المواقف بعرفة وغيرها [إلى المواضع] [1] الّتى كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقف فيها، فكان ذلك يعزّ على الحجّاج، فأمر الحجاج رجلا معه حربة مسمومة، فلما دفع النّاس من عرفة، لصق به ذلك الرّجل، فأمرّ الحربة على قدمه وهو فى غرز راحلته، فمرض منها إيّاما، فدخل عليه الحجّاج يعوده، فقال: من فعل ذلك بك يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: وما تصنع به؟ قال: قتلنى الله إن لم أقتله.
قال: ما أراك فاعلا، أنت الذى أمرت الّذى نخسنى بالحربة. قال لا نفعل يا أبا عبد الرحمن وخرج عنه. وقيل: إنّه قال للحجّاج: إذ قال له: من فعل بك؟ قال: أنت الّذى أمرت بإدخال السّلاح فى الحرم، فلبث أيّاما ثم مات رضى الله عنه، وصلّى عليه الحجّاج.
وأما عبد الرّحمن الأكبر، فإنّه أدرك لسنّه رسول الله صلّى الله عليه ولم يحفظ عنه.
وعبد الرحمن الأوسط وهو أبو شحمة هو؛ الذى ضربه عمرو ابن العاص بمصر فى الخمر، ثم حمله إلى المدينة فضربه أبوه أدب الوالد، ثم مرض ومات بعد شهر.
كذا رواه معمر عن الزّهرىّ، عن سالم، عن أبيه، وأهل العراق! يقولون: إنّه مات تحت سياط عمر.
قال ابن عبد البرّ: وذلك غلط. وقال الزّبير: أقام عليه عمر حدّ الشراب، فمرض ومات وعبد الرحمن الأصغر، هو أبو المجبّر، واسم المجبّر عبد الرحمن
__________
[1] من ص.(19/394)
ابن عبد الرحمن بن عمر، سمّى المجبّر لأنّه وقع وهو غلام فتكسّر، فأتى به إلى عمته حفصة أمّ المؤمنين، فقيل لها: انظرى إلى ابن أخيك المكسّر فقالت: ليس بالمكسّر ولكنّه المجبّر.
وقال الزّبير: هلك عبد الرحمن الأصغر، وترك ابنا صغيرا، أو حملا، فسمّته حفصة: عبد الرحمن، ولقّبته المجبّر، «وقالت:
لعلّ الله يجبره.
وعبيد الله بن عمر ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل أنّه روى عنه، ولا سمع منه، وهو الّذى حدّه عمر فى شرب الخمر، وهو الّذى وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه نصرانيّا اسمه جفينة من أهل الحيرة، وقد اتهمهما أنّهما أغريا أبا لؤلؤة بقتل عمر. وقتل أيضا ابنة لأبى لؤلؤة طفلة، ولما ضرب الهرمزان بالسّيف قال: لا إله إلّا الله، فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد ابن أبى وقّاص وحبسه فى داره، وأحضره عند عثمان. وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلنّ رجالا ممّن شرك فى دم أبى، يعرّض بالمهاجرين والأنصار.
قالوا: وإنّما قتل هؤلاء، لأنّ عبد الرحمن أبى بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشيّة أمس الهرمزان، وأبا لؤلؤة، وجفينة، وهم يتناجون، فلمّا رأونى ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه فى وسطه، وهو الخنجر الذى ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله.
فلمّا أحضره عثمان قال: أشيروا علىّ فى هذا الّذى فتق فى الإسلام ما فتق، فقال علىّ: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل(19/395)
عمر أمس، ونقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إنّ الله قد أعفاك أن يكون لك هذا الحدث، ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه، وقد جعلتها دية، واحتملتها [1] فى مالى.
وقيل فى فداء عبيد الله غير ذلك.
[قال القماذيان بن الهرمزان [2]] : كانت العجم بالمدينة يستروح [3] بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبى، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال له: ما تصنع به؟ قال: أسنّ به، فرآه رجل، فلمّا أصيب عمر قال: رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله.
فلمّا ولّى عثمان أمكننى منه، فخرجت به وما فى الأرض أحد إلّا معى، إلّا أنّهم يطلبون إلىّ فيه، فقلت لهم: ألى قتله؟ قالوا: نعم، وسبّوا عبيد الله، قلت: أفلكم منعه؟ قالوا: لا، وسبّوه، فتركته لله ولهم، فحملونى، فو الله ما بلغت المنزل إلّا على رءوس النّاس.
والأوّل أصح وأشهر؛ لأنّ عليّا لما ولى الخلافة أراد قتل عبيد الله، فهرب منه إلى معاوية بالشّام، ولو كان إطلاقه بأمر ولىّ الدّم لم يعرض له علىّ رضى الله عنه.
قال أبو عمر: وكان عبيد الله من أنجاد قريش وفرسانهم، قتل بصفّين مع معاوية، وكان يومئذ على الخيل، فرماه أبو زبيد الطائىّ.
__________
[1] ك: «وأحتملها» .
[2] من ص.
[3] ك: «يتزوج» .(19/396)
وقيل: كان قد خرج فى اليوم الذى قتل فيه، وجعل امرأتين له بحيث تنظران إلى فعله وهما: أسماء بنت عطارد بن حاجب التّميمىّ، وبحريّة بنت هانئ بن قبيصة، فلمّا برز شدّت عليه ربيعة فنشب [1] بينهم فقتلوه، وكان على ربيعة يومئذ زياد بن خصفة التّميمىّ، فقيل له: إنّ هذه بحريّة، فسقط عبيد الله ميّتا قرب فسطاطه، وقد بقى طنب من طنبة الفسطاط لا وتد له، فجرّوه، وشدّوا الطّنب برجله، وأقبلت امرأتاه حتّى وقفتا عليه، فبكتا وصاحتا، فخرج زياد بن خصفة [فقيل له: إن هذه بحرية بنت هانئ] [2] فقال: ما حاجتك يا بنت أخى؟ فقالت: زوجى قتل، تدفعه إلىّ، قال:
نعم، فخذيه، فحملته على بغل، فذكر أنّ يديه ورجليه خطّتا على الأرض من فوق البغل [3] ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمّد.
__________
[1] ك: «فثبت» .
[2] من ص الاستيعاب.
[3] الاستيعاب 1011، 1012.(19/397)
ذكر عمال عمر رضى الله عنه وعنهم على الامصار
قد ذكرنا عمّا له فى حوادث السّنين، ورأينا أن نجمعهم فى هذا الموضع فنقول: كان عمّاله رضى الله عنهم: على مكّة عتّاب ابن أسيد، وعلى اليمن والطائف يعلى بن منية، وعلى البحرين واليمامة العلاء بن الحضرمىّ، ثمّ عثمان بن أبى العاص، ثم قدامة ابن مظعون، ثم أبا بكرة، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة- أول من كان بها- قطبة بن قتادة السّدوسىّ، يغزو بتلك الناحية، كما كان المثنّى يفعل بناحية الحيرة. ثم كتب إلى عمر يعلمه بمكانه، ويستمدّه، فوجّه إليه شريح بن عامر، أحد بنى سعد بن عمرو بن بكر، فسار إلى الأهواز، فقتاء الأعاجم بدارس، فاستعمل عمر عتبة بن غزوان، ففتح الأبلّة، ثم سار إلى عمر، فأعاده إلى عمله، فمات فى الطّريق، فكانت إمارته ستّة أشهر، فاستعمل بعده أبا سبرة بن أبى رهم على أحد الأقوال، ثم المغيرة بن شعبة، ثم عزله كما تقدّم بيانه، فاستعمل أبا موسى الأشعرى، ثمّ صرفه إلى الكوفة، واستعمل عمر بن سراقة، ثم صرفه إلى الكوفة، وصرف أبا موسى إلى البصرة فعمل عليها ثانية، ثمّ صرفه وأعاده ثالثة.
وعلى مضافات البصرة جماعة [فكان على مناذر غالب الوائلىّ، وعلى نهر تيرى حرملة بن مريطة، وعلى سوق الأهواز حرقوص بن زهير.(19/398)
وعلى الكوفة وما يليها] [1] ، أوّل من استعمل عليها سعد بن أبى وقّاص، فكان عليها إلى سنة عشرين، فعزله لشكاية أهلها، وأقرّ خليفته على الكوفة، وهو عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم استعمل عمر عمّار بن ياسر بن مسعود كما تقدّم، ثم المغيرة بن شعبة.
وعلى ثغور الكوفة من قدّمنا ذكره، وعلى الجزيرة وما يليها عياض بن غنم، ثم ضمّه عمر إلى أبى عبيدة، واستعمل حبيب ابن مسلمة على خراج الجزيرة وعجمها، والوليد بن عقبة على عربها، وعلى الموصل من كان على حربها ربعىّ بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة ابن هرثمة؛ وذلك فى سنة ستّ عشرة.
وقيل: كان على الحرب والخراج [بها عتبة بن فرقد، وقيل كان ذلك إلى عبد الله بن مغنم، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح] [3] ، وكان تحت يده جماعة على الأعمال، فكان خالد بن الوليد على قنّسرين، وحمص، ويزيد بن أبى سفيان على دمشق ومعاوية على الأردنّ، وعلقمة بن مجزّز على فلسطين وعبد الله بن قيس على السواحل. فلما مات أبو عبيدة استعمل عمر معاذ بن جبل فمات من عامه، فاستعمل يزيد بن أبى سفيان، فمات، فاستعمل معاوية على دمشق والأردنّ، ثم استقر فى سنة إحدى وعشرين عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنّسرين والجزيرة، ومعاوية بن أبى سفيان على البلقاء
__________
[1] من ص.
[2] من ص.
[3] من ص.(19/399)
والأردنّ، وفلسطين، والسّواحل، وأنطاكية، وقلقية، ومعرّة مصرين.
وعلى مصر عمرو بن العاص، وكان العمّال فى سنة وفاته إلى آخر سنة ثلاث وعشرين.
وعلى مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعىّ، وعلى الطائف سفيان ابن عبد الله الثّقفىّ. وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبى ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبا موسى الأشعرىّ، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص:
عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية، وعلى البحرين وما والاها عثمان ابن أبى العاص الثقفىّ.
كتابه
عبد الله بن خلف الخزاعىّ وزيد بن ثابت، وعلى بيت المال زيد ابن أرقم.
قضاته
يزيد بن أخت النّمر بالمدينة.
وأبو أمية شريح بن الحارث الكندّى بالكوفة، ويقال: إنّ شريحا أقام قاضيا ستّين سنة إلى أيّام الحجّاج، فعطّل ثلاث سنين، وامتنع من الحكم، وذلك فى أيّام فتنة ابن الزّبير. ولمّا ولّى الحجّاج استعفاه، فأعفاه، ومات سنة سبع وثمانين وله مائة وعشرون سنة.(19/400)
وقيل: مائة سنة، وليس هو فى عداد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم، بل من كبار التّابعين.
وعلى قضاء البصرة كعب بن سور.
وعلى قضاء مصر قيس بن العاص السّهمىّ، ثم كعب بن سيّار بن ضبّه، ثمّ عثمان بن قيس بن أبى العاص.
وكان حاجبه يرفأ مولاه، وخاتمه خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال أبو عمر بن عبد البرّ: كان نقش خاتمة: «كفى بالموت واعظا يا عمر» .(19/401)
ذكر خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه
هو أبو عبد الله، وقيل: أبو عمرو، وقيل فى تكنيته بأبى عبد الله:
إنّ رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولدت له ابنا فسمّاه عبد الله، فاكتنى به، ومات، ثم ولد له عمرو، فاكتنى به إلى أن مات.
وقيل: إنّه كان يكنى أبا ليلى عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف،، ويجتمع مع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عبد مناف، ولقّب بذى النّورين، لأنه تزوّج ابنتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [رقيّة وأمّ كلثوم] [1] .
وقيل للمهلّب بن أبى صفرة: لم قيل: عثمان ذو النّورين؟ قال:
لأنه لا نعلم أن أحدا أرسل سترا على ابنتى نبىّ غيره.
وأمّه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بنت عبد شمس بن عبد مناف، وأمّها البيضاء، أمّ حكيم بنت عبد المطّلب، عمّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولد فى السّنة السادسة بعد عام الفيل. والله وسبحانه وتعالى أعلم.
بالصّواب، وهو حسبى ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد.»
__________
[1] من ص.(19/402)
ذكر صفته ونبذة من فضائله
كان رضى الله عنه طويل القامة، حسن الوجه وقيل: كان ربعة، ليس بالقصير ولا بالطّويل، حسن الوجه رقيق البشرة، كبير اللّحية، عظيما أسمر اللّون، كثير الشّعر، ضخم الكراديس [1] ، بعيد ما بين المنكبين، وكان يصفّر لحيتّه، ولما كبر شدّ أسنانه بالذّهب، وهو رضى الله عنه أحد العشرة الّذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، ومات وهو عنهم راض.
وله رضى الله عنه فضائل ومآثر وسابقة فى الإسلام قال علىّ رضى الله وعنه: كان عثمان أوصلنا للرّحم، وكان من الّذين آمنوا واتّقوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين.
واشترى رضى الله عنه بئر رومة، وكانت ركيّة ليهودىّ، يبيع للمسلمين ماءها،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يشترى بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه فى دلائهم، وله بها مشرب فى الجنّة؟»
. فأتى عثمان اليهودىّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلّها، فاشترى منه نصفها باثنى عشر ألف درهم فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبى يومين، وإن شئت علىّ يوم ولك يوم، قال: لا، بل لك يوم ولى يوم. فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلمّا رأى اليهودىّ ذلك، قال: أفسدت علىّ ركيّتى، فاشتر النّصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يزيد فى مسجدنا؟»
__________
[1] الكردوسة: كل عظمين التقيا فى مفصل.(19/403)
فاشترى عثمان رضى الله عنه موضع خمس سوار، فزاده فى المسجد.
وجهّز رضى الله عنه جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا، وأتمّ الألف بخمسين فرسا.
وعن قتادة رضى الله عنه، قال: حمل عثمان ما فى جيش العسرة على ألف بعير، وسبعين فرسا.
وعن محمد بن بكير: أنّ عثمان رضى الله عنه، كان يحيى اللّيل بركعه يقرأ فيها القرآن. وروى أنّه كان يصوم الدّهر رضى الله عنه.
ذكر بيعة عثمان رضى الله عنه
بويع له بالخلافة كما تقدّم فى قصّة الشّورى، وقد اختلف فى يوم بيعته، وهو مرّتب على الخلاف فى تاريخ وفاة عمر رضى الله عنهما، فقيل: [فى] [1] يوم السّبت غرّة المحرم، سنة أربع وعشرين.
ولم يذكر أبو عمر بن عبد البرّ غيره [2] .
وقيل: يوم الاثنين لليلة بقيت من ذى الحجّة، سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته شهر المحرّم، سنة أربع وعشرين، قاله أبو جعفر.
قال: وقيل: لعشر خلون من المحرّم بعد مقتل عمر بثلاث ليال.
__________
[1] من ص.
[2] الاستيعاب 1044.(19/404)
قال: استخلف وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذّن صهيب، واجتمعوا فى ذلك بين الأذان والإقامة، فخرج فصلّى بالنّاس، وزادهم مائة مائة، ووفّد أهل الأنصار، وهو أوّل من صنع ذلك.
قال: وقيل: لمّا بايع أهل الشّورى عثمان رضى الله عنه، خرج وهو أشدّهم كآبة، فأتى منبر النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم [فخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبىّ صلى الله عليه وسلم] [1] وقال:
أيها النّاس، إنّكم فى دار قلعة [2] ، وفى بقيّة أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبّحتم أو مسّيتم، ألا وإنّ الدّنيا طويت على الغرور فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ*
[3] واعتبروا بمن مضى، ثم جدّوا ولا تغفلوا؛ فإنّه لا يغفل عنكم.
أين أبناء الدّنيا وإخوانها الّذين أثاروها وعمروها، ومتّعوا بها طويلا! ألم تلفظهم! رموا بالدّنيا حيث رمى الله بها. واطلبوا الآخرة؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قد ضرب لها مثلا وللّذى هو خير، فقال:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ...
إلى قوله:
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا
. [4]
__________
[1] من ص.
[2] دار قلعة، أى ليست دار إقامة، يقال: هم على قلعة، أى على رحلة، وفى حديث على: «أحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، أى تحول دار وارتحال.
[3] سورة فاطر 5.
[4] سورة الكهف 46. والخطبة فى تاريخ الطبرى 4: 243.(19/405)
وكان أوّل كتاب كتبه إلى عمّاله:
أمّا بعد [1] ؛ فإنّ الله تعالى أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباة، وأنّ صدر هذه الأمّة خلقوا رعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمّتكم أن يصيروا جباة، ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء.
ألا وإنّ أعدل السّيرة أن تنظروا فى أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنّوا بالذّمة فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالّذى عليهم، ثم العدوّ الذى تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء.
وكان أول كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد فى الفروج:
أمّا [2] بعد، فإنّكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر رضى الله عنه ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملإ منّا، ولا يبلغنا عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله بكم، ويستبدل بكم غيركم.
فانظروا كيف تكونون، فإنّى أنظر فيما ألزمنى الله النّظر فيه والقيام عليه.
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 244.
[2] تاريخ الطبرى 4: 245.(19/406)
ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان
ذكر خلاف أهل الاسكندرية
وفى [1] سنة خمس وعشرين نقض أهل الإسكندرية الصّلح؛ وذلك أنّ الرّوم حضروا إليهم من القسطنطينيّة، ونفذ منهم منّويل الخصىّ، واتفقوا مع من بها من الرّوم، ولم يوافقهم المقوقس، وثبت على صلحه، فثبت لذلك.
وسار عمرو بن العاص إليهم، وسار إليه الرّوم، واقتتلوا أشدّ قتال، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندريّة، وقتلوا منهم فى البلدة مقتلة عظيمة، وقتل منّويل الخصىّ.
وكان الرّوم لمّا خرجوا من الإسكندريّة أخذوا أموال أهل تلك القرى، من وافقهم ومن خالفهم، فلمّا ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الّذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إنّ الرّوم أخذوا أموالنا ودوابّنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنّا على الطّاعة، فردّ عليهم ما غرموا من أموالهم بعد إقامة البيّنة.
وهدم عمرو سور الإسكندريّة.
ذكر غزو ارمينية وغيرها وما وقع من الصلح
كان [2] عثمان رضى الله عنه قد استعمل سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، ثم عزله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط- وهو أخو عثمان لأمّه- فعزل الوليد عتبة بن فرقد عن أذربيحان،
__________
[1] فتوح مصر 175، 176.
[2] تاريخ الطبرى 4: 248، ابن الأثير 3: 43.(19/407)
فنقضوا العهد فغزاهم الوليد فى سنة خمس وعشرين، وجعل على مقدّمته ابن شبيل الأحمسىّ، وأغار على أهل موقان وما جاورها، ففتح وغنم وسبى، وطلب أهل كور أذربيجان الصّلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، فقبض المال ثم بثّ سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلىّ إلى أهل إرمينية فى اثنى عشر ألفا فقتل وسبى وغنم، ثم انصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد.
وعاد الوليد وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة [1] .
قال: ولمّا نزل الوليد بن عقبة الحديثة، أتاه كتاب عثمان رضى الله عنه يقول: إنّ معاوية كتب إلىّ أنّ الرّوم قد أجلبت على المسلمين فى جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدّهم أخوانهم من أهل الكوفة. فابعث إليهم رجلا له نجدة وبأس فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف من المكان الّذى يأتيك كتابى فيه، والسّلام.
فقام الوليد فى النّاس، وأعلمهم الحال، وندبهم مع سلمان ابن ربيعة الباهلىّ، فانتدب معه ثمانية آلاف، فمضوا حتّى دخلوا مع أهل الشّام إلى أرض الرّوم، فشنّوا الغارات، فأصاب النّاس ما شاءوا، وافتتحوا حصونا كثيرة.
وقيل: إنّ الذى أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة، كان سعيد بن العاص لمّا كان على الكوفة؛ وكان سبب ذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزى حبيب بن مسلمة فى أهل الشّام إرمينية، فوجّهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها، وضيّق على من كان بها،
__________
[1] ك: «الحديبية» تحريف.(19/408)
فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم، فلحقوا ببلاد الرّوم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهرا، ثم بلغه أنّ بطريق إرمنياقس- وهى ملطية، وسيواس وقونية، وما والاها من البلاد إلى خليج القسطنطينيّة- واسمه الموريّان، قد توجّه نحوه فى ثمانين ألفا من الرّوم. فكتب إلى معاوية بذلك، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص، يأمره بإمداد حبيب، فأمدّه بسلمان فى ستة آلاف، فأجمع حبيب على تبييت الرّوم، فسمعته امرأته أمّ عبد الله بنت يزيد الكلبيّة، فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان، ثم بيّتهم، فقتل من وقف له، ثم أتى السّرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، ولمّا انهزمت الرّوم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار فيها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال.
ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها، فلقيه صاحب مكس، وهى من البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط وهى القرية التى يكون بها القرمز الّذى يصبغ به، فنزل على نهر دبيل، وسرّح الخيول إليها وحصرها، فتحصّن أهلها، فنصب عليهم منجنيقا، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه، وبثّ السّرايا فبلغت خيله ذات اللّجم؛ وإنّما سمّيت ذات اللّجم لأنّ المسلمين أخذوا لجم خيلهم، فكبسهم الرّوم قبل أن يلجموها، ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم.
ثم وجّه سريّة إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة، وقدم عليه بطريق البسفرجان، فصالحه على بلاده، وأتى(19/409)
السّيسبان فحاربه أهلها فهزمهم، وغلب على حصونهم. وسار إلى جرزان، وفتح عدّة حصون ومدن تجاورها صلحا.
وسار سلمان بن ربيعة إلى أرّان، ففتح البيلقان صلحا، على أن يؤمّنهم على دمائهم وأموالهم، وحيطان مدنهم، واشترط عليهم، الجزية والخراج، ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثّرثور (نهر بينه وبينها نحو فرسخ) فقاتله أهلها أيّاما، وشنّ الغارات على قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان، ودخلها، ووجّه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام، فقاتلوه فظفر بهم، فأقرّهم على الجزية، وأدّى بعضهم الصّدقة وهم قليل، ووجّه سريّة إلى شمكور ففتحوها، وهى مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتّى أخربها السّاورديّة، وهم قوم تجمّعوا لمّا انصرف يزيد بن أسيد عن إرمينية، فعظم أمرهم، ثم عمّرها بغا فى سنة أربعين ومائتين، وسمّاها المتوكّليّة، نسبة إلى المتوكّل.
وسار سلمان إلى مجمع الرّسّ والكرّ، ففتح قبلة، وصالحه صاحب شكّى وغيرها على الإتاوه، وصالحه ملك شروان، وسائر ملوك الجبال فأهل مسقط والشّابران، ومدينة الباب. والله تعالى أعلم بالصواب.(19/410)
ذكر غزو معاوية الروم
وفى [1] سنة خمس وعشرين، غزا معاوية بن أبى سفيان الرّوم، فبلغ عمّورية فوجد الحصون الّتى بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشّام والجزيرة؛ حتى انصرف من غزاته. ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحرّ العبسىّ الصائفة وأمره أن يفعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ذكر فتح كابل
وفى [2] سنة خمس وعشرين بعث عثمان بن عفّان رضى الله عنه عبد الله بن عامر إلى كابل، فبلغها فى قول، وكانت أعظم من خراسان ولم يزل إلى أن مات معاوية، فامتنع أهلها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 44، تاريخ الطبرى 4: 247.
[2] تاريخ ابن الأثير 3: 44.(19/411)
ذكر غزو افريقية وفتحها
وفيها [1] بعث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبى سرح إلى أطراف إفريقيّة غازيا بأمر عثمان فغنم وعاد، وكتب إلى عثمان بستأذنه فى غزوها، فأذن له، وعزل عمرو بن العاص عن خراج مصر. واستعمل عبد الله بن سعد فى سنة ستّ وعشرين، فتنازعا الأمر.
فكتب عبد الله إلى عثمان أنّ عمرا كسر علىّ الخراج، وكتب عمرو إنّ عبد الله كسر علىّ مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمرا واستقدمه، واستعمل عبد الله على حرب مصر وخراجها، وأمره أن يغزو إفريقيّة وقال: إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس نفلا.
وأمّر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع ابن الحارث على جند، وسرّحهما، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله ابن سعد على صاحب إفريقيّة، ثم يقيم عبد الله فى عمله [فخرجوا] [2] ووصلوا إلى أرض إفريقيّة فى عشرة آلاف من شجعان الإسلام، فصالحهم أهل إفريقيّة على مال يؤدّونه، ولم يقدموا على دخول إفريقيّة والتّوغّل فيها لكثرة أهلها.
ثم أرسل عبد الله إلى عثمان يستشيره فى قصد إفريقيّة، وفتحها، فجهّز إليه عثمان جماعة من أعيان الصّحابة، منهم عبد الله بن عبّاس وغيره، فسار بهم ابن سعد إلى إفريقيّة.
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 45 وما بعدها.
[2] من ص.(19/412)
فكان من أمر فتح إفريقيّة ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الباب السّادس من القسم الخامس من هذا الفنّ فى أخبار إفريقيّة، وبلاد المغرب بما هو أبسط من هذا القول، وهو السّفر الثّانى والعشرون من هذه النّسخة.
قال: لمّا فتحت سبيطلة وهى دار الملك، وجد فيها من الأموال ما لم يكن فى غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرّاجل ألف دينار.
وبعث عبد الله بن سعد جيوشه فى البلاد، فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وبعث عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل البلاد، فحصره وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقيّة على الفىء، ألف وخمسمائة ألف دينار.
وسار عبد الله بن الزّبير إلى عثمان بالبشارة، وتنفّل [1] بابنة الملك، ثم عاد عبد الله بن سعد من إفريقيّة إلى مصر، وكان مقامه بها سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلّا ثلاثة عشر رجلا، وحمل خمس إفريقيّة إلى المدينة، فابتاعه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار، فوضعها عنه عثمان وهو مما أخذ عليه، وأنكره الصّحابة رضى الله تعالى عنه، وقال فى ذلك عبد الرحمن بن حنبل أحد الصّحابة رضى الله تعالى عنهم:
أحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرا سدى
ولكن جعلت لنا فتنة ... لكى نبتلى بك أو تبتلى
__________
[1] فى ابن الأثير 3: 46: «ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك» .(19/413)
دعوت الطريد فأدنيته ... خلافا لما سنّه المصطفى
وولّيت قرباك أمر العباد ... خلافا لسنّة من قد مضى
وأعطيت مروان خمس الغنيم ... ة آثرته وحميت الحمى
وما لا أتانى به الأشعرىّ ... من الفىء أعطيته من دنا
فإنّ الأمينين قد بيّنا ... منار الطّريق عليه الهدى
فما أخذا غيلة درهما ... ولا قسّما درهما فى هوى
قال: ولما فتحت إفريقيّة أمر عثمان عبد الله بن نافع بن عبد القيس أن يسير إلى الأندلس، فأتاها من البحر، ففتح الله تعالى على المسلمين.
وفى سنة سبع وعشرين فتحت إصطخر، وهو الفتح الثانى، وكان فتحها الآن على يد عثمان بن أبى العاص.
وقد ذكرنا الأول فى خلافة عمر. وفيها غزا معاوية بن سفيان رضى الله تعالى عنه قبرس.
ذكر فتح جزيرة قبرس
كان [1] فتحها على يد معاوية بن أبى سفيان، واختلف فى وقته، فقيل: فتحت فى سنة ثمان وعشرين، وقيل: فى سنة تسع وعشرين، وقيل: فى سنة ثلاث وثلاثين.
وكان قد ألحّ على عمر رضى الله عنه فى غزو البحر، وذكر قرب
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 258، 262، تاريخ ابن الأثير 3: 48.(19/414)
[الرّوم] [1] من حمص، وقال: إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم.
فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: أن صف لى البحر وراكبه، فكتب إليه عمرو: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، ليس إلّا السّماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة، والشّكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.
فلمّا قرأ كتاب عمرو، كتب إلى معاوية: والّذى بعث محمدا بالحقّ لا أحمل فيه مسلما أبدا، وقد بلغنى أنّ بحر الشّام يشرف على أطول شىء من الأرض، فيستأذن الله كلّ يوم وليلة فى أن يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر، لمسلم أحبّ إلىّ ممّا حوت الرّوم. فإيّاك أن تعرّض إلىّ، فقد علمت ما لقى العلاء منّى.
وترك ملك الرّوم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، فلمّا كان زمن عثمان كتب معاوية إليه يستأذنه فى غزو البحر مرارا، فأجابه إلى ذلك وقال: لا تنتخب [الناس] [1] ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا، فاحمله وأعنه، ففعل.
واستعمل عبد الله بن قيس الحارثىّ حليف بنى فزارة، وسار المسلمون إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر، فاجتمعوا عليها فصالحهم أهلها على جزية، وهى سبعة آلاف دينار فى كلّ سنة، ويؤدّون للرّوم مثلها، لا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين
__________
[1] من ص.(19/415)
[منعهم] [1] ممّن أرادهم من ورائهم. وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوّهم من الرّوم، ويكون طريق المسلمين إلى العدوّ عليهم، فقبلوا ذلك منهم، وعادوا عنهم.
وشهد هذه الغزاة جماعة من الصحابة، منهم: أبو ذرّ الغفارى، وعبادة بن الصّامت، ومعه زوجته أمّ حرام بنت ملحان، وأبو الدّرداء شدّاد بن أوس.
وفى هذه الغزاة ماتت أمّ حرام، ألقتها بغلتها بجزيرة قبرس فاندقّ عنقها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرها أنّها من أوّل من يغزو فى البحر.
قال: وبقى عبد الله بن قيس على البحر، فغزا خمسين غزاة فى البحر، من بين شاتية، وصائفة، لم ينكب أحد من جنده، وكان يدعو الله أن يعافيه فى جنده، ثم خرج هو فى قارب طليعة، فانتهى إلى المرفأ من أرض الرّوم، وعليه مساكين يسألون، فتصدّق عليهم، فرجعت امراة منهم إلى قريتها، فقالت: هذا عبد الله بن قيس فى المرفأ فبادروا إليه، وهجموا عليه، فقتلوه، بعد أن قاتلهم، فأصيب وحده، ونجا الملّاح حتّى أتى أصحابه فأعلمهم، فجاءوا حتّى رسوا بالمرفأ وعليهم سفيان بن عوف الأزدىّ، فخرج إليهم فقاتلهم.
وقيل لتلك المرأة بعد ذلك: بأىّ شىء عرفت عبد الله بن قيس؟
قالت: كان كالتّاجر، فلمّا سألته أعطانى كالملك، فعرفته بهذا.
ولمّا كانت سنة اثنتين وثلاثين أعان أهل قبرس الرّوم على غزو
__________
[1] من ابن الأثير.(19/416)
المسلمين بمراكب أعطوهم إيّاها، فغزاهم معاوية فى سنة ثلاث وثلاثين ففتحها عنوة، فقتل وسبى، ثم أقرّهم على صلحهم، وبعث إليهم اثنى عشر ألفا فبنوا المساجد، وبنى بها مدينة.
وقيل: كانت الغزوة الثانية فى سنه خمس وثلاثين.
وفى سنة ثمان وعشرين غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الرّوم. والله تعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح إصطخر ودرابجرد
وفى سنة تسع وعشرين نقض أهل فارس بعييد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله، وانهزم المسلمون.
فبلغ الخبر عبد الله بن عامر أمير البصرة، فاستنفر أهل البصرة وسار إلى فارس، فالتقوا بإصطخر، واشتدّ القتال، فهزم المسلمون الفرس، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وفتحت إصطخر عنوة، وأتى درابجرد، وقد غدر أهلها، ففتحها وسار إلى مدينة جور، فانتقضت إصطخر، فلم يرجع إليها، وتمّم السير إلى جور فحاصرها، وكان هرم بن حيّان محاصرا لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر، ويغزون نواحى كانت تنتقض عليهم، فلم يزل عبد الله بن عامر عليها حتّى فتحها.
وكان سبب فتحها أنّ بعض المسلمين قام يصلّى ذات ليلة، وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجرّه وعدا به حتّى دخل
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 50: 51.(19/417)
المدينة من مدخل خفىّ، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتّى دخلوها منه وفتحوها عنوة، فلمّا فرغ ابن عامر منها عاد إلى إصطخر وفتحها عنوة بعد أن حاصرها ورماها بالمجانيق، وقتل بها خلقا كثيرا من الأعاجم، وأفنى أكثر أهل البيوتات، ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجئوا إليها.
وقيل: إنّ أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور، فملكها عنوة، وعاد إلى جور، وأتى درابجرد فملكها، وكانت منتقضة أيضا، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها فى ذلّ.
وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن استعمل على بلاد فارس هرم بن حيّان اليشكرىّ، وهرم بن حيّان العبدىّ، والخرّبت ابن راشد، والتّرجمان الهجيمىّ.
وأمره أن يفرّق كور خراسان على جماعة، فيجعل الأحنف بن قيس على المروين. وحبيب بن قرّة اليربوعىّ على بلخ، وخارجة ابن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس ابن هبيرة وقيسا السّلمىّ على نيسابور، والله أعلم.
ذكر غزو طبرستان
فى [1] سنة ثلاثين غزا سعيد بن العاص عامل الكوفة طبرستان ومعه الحسن والحسين وابن عبّاس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان. وابن الزّبير وغيرهم، ولم يغزها غيره أحد على أصحّ الأقوال.
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 54.(19/418)
وقد ذكرنا فيما تقدّم فى خلافة عمر رضى الله عنه فتحها، والخلاف فيه.
قال: فأتى سعيد جرجان، فصالحوه على مائتى ألف، ثم أتى طميسة وهى كلّها من طبرستان، متاخمة جرجان على البحر، فقاتله أهلها، فصلّى صلاة الخوف وحاصرهم، فسألوه الأمان فأعطاهم، على ألّا يقتل منهم رجلا واحدا، واحتوى على ما فى الحصن، وفتح سعيد نامية، وليست مدينة، هى صحارى.. والله أعلم.
ذكر غزو الصوارى
كانت [1] هذه الغزوة فى سنة إحدى وثلاثين، وقيل فى سنة أربع وثلاثين، وكان سببها أنّ المسلمين لمّا فعلوا بأهل إفريقيّة ما فعلوا عند فتحها، عظم ذلك على قسطنطين بن هرقل، فخرج فى جمع لم يجمع الرّوم مثله مذ كان الإسلام.
قيل: خرج فى خمسمائة مركب، وقيل: فى ستّمائة، وخرج المسلمون، وعلى أهل الشّام معاوية بن سفيان، وعلى البحر عبد الله ابن سعد بن أبى سرح، فالتقوا، وقرّبوا السّفن بعضها إلى بعض، فاقتتلوا بالسّيوف والخناجر، فأنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحا، ولم ينج من الرّوم إلا الشّريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصّوارى بعد الهزيمة أيّاما ورجع.
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 58.(19/419)
وأمّا قسطنطين فإنّه وصل فى مركبه إلى صقلّية، فقال أهلها:
أهلكت النّصرانيّة، وأفنيت رجالها، لو أتانا أهل المغرب لم يكن عندنا من يمنعهم، ثم أدخلوه الحمّام وقتلوه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان
قال [1] : لمّا فتح عبد الله بن عامر بلاد فارس على ما قدّمناه، هرب يزدجرد إلى خراسان، فوجّه عبد الله فى طلبه مجاشع بن مسعود وقيل: غيره، فأتبعه إلى كرمان، وكثر الثّلج والبرد، فهلك جيش مجاشع، ورجع هو.
واختلف فى قتل يزدجرد، فقيل: هرب من كرمان إلى مرو ومعه خرّزاذ أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق، وأوصى به ما هويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالا فمنعه مخافة أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى التّرك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه وقتلوا أصحابه، فخرج ماشيا إلى وسط المرغاب، فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله.
وقيل: بل قتله أهل مرو، ولم يسنتنصروا بالتّرك. وقيل: غير ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.
__________
[1] ابن الأثير 3: 59.(19/420)
ذكر فتح خراسان
قال: [1] كان أهل خراسان قد غدروا لمّا قتل عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه، ونقضوا، فلمّا افتتح عبد الله بن عامر بلاد فارس عاد إلى البصرة، واسخلف على إصطخر شريك بن الأعور الحارثىّ، فبنى شريك مسجد إصطخر، ثم تجهّزا بن عامر من البصرة، واستخلف عليها زياد بن أبيه، وسار إلى كرمان واستعمل عليها مجاشع بن مسعود السّلمى، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا.
واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحارثىّ، وكانوا قد أعدّوا له أيضا، ونقضوا الصّلح.
وسار عبد الله بن عامر إلى نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأتى الطّبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلها، وسار إلى قوهستان فقاتله أهلها، فقاتلهم حتّى ألجأهم إلى حصنه، وقدم عليه ابن عامر، فصالحه أهلها على ستّمائة ألف درهم، وبثّ سراياه ففتحت البلاد، وفتح بهق، وبشت، (وهى بالشّين المعجمة) ، وليست بست المعروفة، ثم فتح نيسابور بعد أن استولى على أعمالها، وبعد أن حاصرها أشهرا.
وكان لكلّ ربع منها مرزبان من القرى يحفظه، فطلب أحدهم الأمان والصّلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم،
__________
[1] ابن الأثير 3: 61.(19/421)
وولّى نيسابور قيس بن الهيثم السّلمىّ، وسيّر جيشا إلى نسا، وبيورد ففتحوهما صلحا، وسيّر سريّة أخرى إلى سرخس، فقاتل أهلها، ثم طلبوا الأمان والصّلح على مائة رجل، فصالح مرزبانها على ذلك، فأحبيب إلى ذلك، وسمّى مائة رجل، ولم يذكر نفسه، فقتله، ودخل سرخس عتوة، وأتى مرزبان طوس إلى عبد الله، فصالحه على ستّمائة ألف درهم.
وبعث جيشا إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فسار مرزبانها إلى ابن عامر وصالحه على هراة، وباذغيس وبوشنج على ألفى ألف درهم، ومائتى ألف درهم.
وكانت مرو كلّها صلحا إلا قرية السّنج، (وهى بكسر السين المهملة) ، فإنّها فتحت عنوة.
ووجّه الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمرّ برستاق يعرف برستاق الأحنف، فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم، ومضى إلى مرو الرّوذ، فقاتله أهلها، فهزمهم، ثم صالحهم مرزبانها على ستّمائة ألف درهم.
فاجتمع أهل طخارستان والجوزجان والطّالقان، والفارياب ومن حولهم، فلقوه فى خلق كثير، فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم قتلا ذريعا، وعاد إلى مرو الرّوذ، ولحق بعض العدوّ بالجوزجان، فوجّه إليهم الأحنف بن قيس الأقرع بن حابس التّميمىّ فى جيش، وقال: يا بنى تميم، تحابّوا وتباذلوا تعتدل أموركم،(19/422)
وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلّوا فيسلم لكم جهادكم.
فسار الأقرع فلقى العدوّ بالجوزجان، فكانت بالمسلمين جولة، ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، وفتح الأحنف الطالقان صلحا، وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر.
ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهى مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعين ألف. وقيل: سبعمائة ألف.
فاستعمل على بلخ أسيد بن المتشمّس، ثم سار إلى خوارزم، وهى على نهر جيحون، فلم يقدر عليها، فعاد إلى بلخ.
ولمّا تمّ هذا الفتح لعبد الله بن عامر، قال النّاس: ما فتح لأحد ما فتح عليك فارس، وكرمان، وسجستان، وخراسان، فقال: لأجعلنّ شكرى لله على ذلك؛ أن أخرج محرما من موقفى هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان، واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيس فى أرض طخارستان، فلم يأت بلدا منها إلا صالحه أهلها، وأذعنوا له، إلا سمنجان، فإنّه فتحها عنوة. والله سبحانه وتعالى أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.(19/423)
ذكر فتح كرمان
قال [1] : لمّا سار عبد الله إلى خراسان استعمل مجاشع بن مسعود السّلمىّ على كرمان كما ذكرتا، وأمره أن يفتتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوة، واستبقى أهلها وأمّنهم، وبنى بها قصرا يعرف بقصر مجاشع، وأتى السّيرجان، وهى مدينة كرمان فأقام عليها أيّاما يسرة، وقد تحصّن أهلها فقاتلهم وفتحها عنوة، فجلا كثير من أهلها.
وفتح جيرفت عنوة، وسار فى كرمان فدوّخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمّع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم، فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثير من أهل كرمان، فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران، وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم، واحتفروا لها القنىّ فى مواضع منها، وأدّوا العشر منها.
والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمد وصحبه وسلّم.
__________
[1] ابن الأثير 3: 64.(19/424)
ذكر فتح سجستان وكابل وغيرها
قد ذكرنا [1] أنّ عبد الله بن عامر استعمل على سجستان الربيع ابن زياد الحارثىّ وسجستان من الفتوحات فى خلافة عمر، ولمّا نقض أهلها؛ سار الربيع وقطع المفازة حتى حصن زالق، فأغار على أهله فى يوم مهرجان وأخذ الدّهقان، فافتدى نفسه بأن ركز [2] عنزة [3] وغمرها ذهبا وفضّة، وصالحه على صلح فارس، ثم أتى بلدة يقال لها: كركويه فصالحه أهلها، وسار إلى زرنج، فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرننج فنازلها، وقاتله أهلها، وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون، وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وأتى الرّبيع ناشروذ ففتحها، ثم شرواذ فغلب عليها، وسار إلى زرنج فنازله أهلها، فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه ليحضر عنده، فأمّنه، وجلس الربيع على جسد من أجساد القتلى، واتّكأ على آخر، وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلمّا رآهم المرزبان هاله ذلك، فصالحه على ألف وصيف مع كلّ وصيف جام من ذهب ودخل المسلمون المدينة.
ثم سار منها إلى سناروذ، وهو واد، فعبره، وأتى القرية الّتى بها
__________
[1] ابن الأثير 3: 64.
[2] ك: «غرز» .
[3] العنزة: رميح بين العصا والرمح، فيه زج.(19/425)
مربط فرس رستم الشّديد، فقاتله أهلها فظفر بهم. ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة، وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملا، فأخرج أهلها العامل، وامتنعوا.
فكانت ولاية الرّبيع سنة ونصفا، سبى فيها أربعين ألف رأس وكان كاتبه الحسن البصرىّ، فاستعمل ابن عامر عبد الرّحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها، فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفى ألف درهم وألف وصيف.
وغلب عبد الرّحمن على ما بين زرنج والكشّ من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرّخّج على ما بينه وبين الداون، فلمّا انتهى إلى بلد الداون وحصرهم فى جبل الزّوز، ثم صالحهم ودخل الزّوز، وهو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتيين وقال للمرزبان: دونك الذّهب والجوهر، وإنّما أردت أن أعلمك أنّه لا يضرّ ولا ينفع.
وفتح كابل، وزابلستان، وهى ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج، فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر، وانصرف فأخرج أهلها أميرا وامتنعوا.
وفى سنة اثنتين وثلاثين غزا معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينيّة ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل: فاختة. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.(19/426)
ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله
فى سنة [1] اثنتين وثلاثين جمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطّبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، وأقبل فى أربعين ألفا.
وقال قيس بن الهيثم أمير خراسان من قبل ابن عار لعبد الله ابن خازم: ما ترى؟ فقال: أرى أن تخلّى البلاد؛ فإنّى أميرها، ومعى عهد ابن عامر؛ إن كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا كان قد افتعله، فكره قيس منازعته وخلّاه والبلاد.
وأقبل إلى ابن عامر فلامه، وقال: تركت البلاد خرابا، وأقبلت! فقال: جاءنى تعهّدك..
ولمّا توجّه قيس بن خازم إلى قارن فى أربعة آلاف، أمرهم أن يحملوا الودك، فلمّا قربوا من ذلك، وقرب من الودك، أمر النّاس أن يدرج كلّ رجل منهم على زجّ رمحه خرقة أو قطنا، ثم يكثّروا دهنه، ثم سار حتّى أمسى، فقدّم أمامه ستمائة من أصحابه، ثم اتّبعهم، وأمر النّاس أن يشعلوا النيران فى أطراف الرّماح، وانتهت مقدّمته إلى معسكر قارن نصف اللّيل [فناوشوهم] [2] ، وهاج النّاس على دهش، وكانوا قد أمنوا من البيات، ودنا ابن خازم منهم، فرأوا النيران يمنة ويسرة تتقدّم وتتأخّر، وترتفع وتنخفض، فهالهم ذلك
__________
[1] ابن الأثير 3: 68.
[2] من ص.(19/427)
وأهل المقدّمة يقاتلونهم ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن وانهزم المشركون، واتبعوهم يقتّلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيا كثيرا.
وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضى وأقرّه على خراسان، فكان عليها حتّى انقضت حرب الجمل.
وقيل: لمّا جمع قارن اسشار قيس بن عبد الله عبد الله بن خازم فيما يصنع [1] ؟ فأشار عليه أن يلحق بابن عامر، فيخبره بكثرة العدوّ، وقال له: إنك لا تطيق كثرة من قد أتاك، فاخرج بنفسك ونقيم نحن بالحصون ونطاولهم حتّى يأتينا مددكم.
فخرج قيس، فلمّا أبعد أظهر ابن خازم عهدا، وقال: قد ولّانى ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به كاتقدّم.
وفى سنة ثلاث وثلاثين غزا معاوية حصن المرأة من أرض الرّوم، بناحية ملطية.
وفيها سار الأحنف بن قيس إلى خراسان، وفتح المروين: مرو الرّوذ ومرو الشّاهجان.
انتهت الفتوحات والغزوات، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلّى الله على سيّدنا محمد
__________
[1] ك: «ما يصنع» .(19/428)
ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السّنين
سنة أربع وعشرين
فى [1] هذه السّنة كثر الرّعاف بالنّاس، فسمّى عام الرّعاف.
وفيها استعمل عثمان سعد بن أبى وقّاص على الكوفة، وعزل المغيرة بن شعبة عنها، فعمل سعد عليها سنة وبعض أخرى.
وقيل: بل أقرّ عثمان عمّال عمر رضى الله عنه سنة؛ لأنّ عمر رضى الله عنه أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة، واستعمل سعدا.
وحجّ عثمان بالنّاس.
سنة خمس وعشرين
فى هذه [2] السّنة عزل عثمان سعد بن أبى وقّاص عن الكوفة فى قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبى معيط بن أبى عمرو ذكوان بن أميّة بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمّه، وسبب ذلك أنّ سعدا [3] رضى الله عنه اقترض من عبد الله بن مسعود قرضا، فلمّا تقاضاه ابن مسعود رضى الله عنه لم يتيسّر له قضاؤه، فارتفع بينهما الكلام فقال سعد: ما أراك إلّا ستلقى شرّا، هل أنت إلّا ابن مسعود، عبد [من] [4] هذيل! فقال: أجل، والله إنّى لابن مسعود، وانّك لابن حمينة [5] .
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 41.
[2] ابن الأثير 3: 42.
[3] فى الأصول: «عثمان» : وهو خطأ صوابه من ابن الأثير.
[4] من ص.
[5] ك: «حمته» .(19/429)
وكان هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص حاضرا فقال: إنكما لصاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ينظر إليكما. ثمّ ولّى عبد الله، فخرج واستعان بأناس على استخراج المال من سعد، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضا.
فكان ذلك أوّل ما نزغ به الشيطان بين أهل الكوفة، وأوّل مصر [1] نزغ الشيطان بين أهله الكوفة.
وبلغ الخبر عثمان، فغضب وعزل سعدا، وأقرّ عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملا لعمر، وعثمان بعده، فلمّا قدم الكوفة قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك! قال: لا تجزعنّ أبا اسحاق، كلّ ذلك لم يكن؛ وإنما هو الملك يتغدّاه قوم ويتعشّاه قوم آخرون. قال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا.
وقيل: لمّا قدم الوليد أميرا على الكوفة، أتاه ابن مسعود فقال:
ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. قال ابن مسعود: ما أدرى صلحت بعدنا أم فسد النّاس!.
وفيها ولد يزيد بن معاوية، وقيل: فى سنة اثنتين وعشرين وقد تقدّم.
وحجّ بالنّاس عثمان.
__________
[1] ك: «مصرع نزل» تحريف، وصوابه فى ص وابن الأثير.(19/430)
سنة ست وعشرين
فى هذه السنة زاد عثمان بن عفان رضى الله فى المسجد الحرام ووسّعه، وابتاع أملاك قوم وامتنع آخرون، فهدم عليهم، ووضع الإيراد فى بيت المال، فصاحوا بعثمان فحبسهم، وقال: قد فعل بكم عمر هذا فلم تصيحوا! فكلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم.
وفيها استعمل عثمان رضى الله عنه عبد الله بن أبى سرح على مصر، وكان أخا عثمان من الرّضاعة، وعزل عمرو بن العاص.
سنة سبع وعشرين
فى هذه السنة حجّ عثمان بالنّاس.
وفيها من الغزوات ما تقدّم بيانه.
سنة ثمان وعشرين
فى هذه السّنة تزوّج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيّة، فأسلمت قبل أن يدخل بها.
وفيها بنى عثمان رضى الله عنه الزوّراء.
وحج بالنّاس عثمان رضى الله عنه فى هذه السّنة،(19/431)
سنة تسع وعشرين
ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك
قيل [1] : كان عزل أبى موسى الأشعرىّ عن البصرة، وعزل عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمال عبد الله بن عامر على أعمالها فى هذه السّنة.
وقيل: كان لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان [وكان سبب عزل أبى موسى أن أهل إيذج والأكراد كفروا فى السنة الثالثة من خلافة عثمان] [2] فنادى أبو موسى فى النّاس وحضّهم على الجهاد، وذكر من فضل الماشى للجهاد ما ذكر، فحمل قوم على دوابّهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجّالة لينالوا فضل الماشى.
وقال آخرون: لا نعجل حتّى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل، فلمّا خرج أخرج ثقله على أربعين بغلا، فعلقوا بعنان دابّته، فقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب فى المشى كما رغّبتنا، فضربهم بسوط، وتركوا دابّته، وأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كلّ ما نعلم نحبّ أن تسألنا عنه، فأبدلنا ما سواه، فقال: من تحبّون؟ فقال: غيلان بن خرشة، وفى كلّ أحد عوض من هذا العبد الذى قد أكل أرضنا.
__________
[1] ابن الأثير 3: 49.
[2] من ص.(19/432)
أما منكم خسيس فترفعونه! أما منكم فقير فتجبرونه. يا معشر قريش حتّى متى يأكل هذا الشيخ الأشعرىّ هذه البلاد! فعزل عثمان أبا موسى؛ وأمّر عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ القرشىّ العبشمىّ، وهو ابن خال عثمان، وممّن ولد على عهد النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم.
وعزل أيضا عثمان عثمان بن أبى العاص عن عمان والبحرين، واستعمل عبد الله على ذلك كلّه، وكان إذ ذاك ابن خمس وعشرين سنة.
واستعمل عثمان رضى الله عنه على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، فأثخن فى خراسان حتّى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا اصلحها.
واستعمل على سجستان عبد الله بن عمير اللّيثى، فأثخن فيها إلى كابل.
وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر، فأثخن فيها حتى بلغ النّهر وبعث على كرمان عبد الرّحمن بن عبيس.
ثم عزل عبد الله بن عمير عن سجستان. واستعمل عبد الله بن عامر فأقرّه عليها سنة ثم عزله. واستعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرّحمن بن عبيس، وأعاد عدىّ بن سهيل، وصرف عبد [2] الله ابن معمر إلى فارس؛ واستعمل مكانه عمير بن عثمان، واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكرىّ، واستعمل على سجستان فى سنة أربع عمران بن الفضل البرجمىّ.
__________
[1] ك: «فترفعوه» .
[2] ابن الأثير: «عبيد الله» .(19/433)
ذكر الزيادة فى مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم
وفى [1] سنة تسع وعشرين أيضا فى شهر ربيع الأول، زاد عثمان رضى الله عنه فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستّة أبواب، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص. والله تعالى أعلم وهو حسبى.
ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك
وفى [2] هذه السّنة حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس، وضرب فسطاطه بمنى، وهو أوّل فسطاط ضرب بمنى، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة، فكان أوّل ما تكلّم به النّاس فى عثمان ظاهرا حين أتمّها، فعاب عليه ذلك غير واحد من الصّحابة، وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه:
ما حدث أمر، ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلّون ركعتين، وأنت صدرا من خلافتك. فقال:
رأى رأيته.
وبلغ الخبر عبد الرّحمن بن عوف، وكان معه، فجاءه وقال:
ألم تصل فى هذا المكان ركعتين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 51.
[2] تاريخ ابن الأثير 3: 53.(19/434)
وعمر، وصلّيتهما أنت! قال: بلى؛ ولكنّى أخبرت من بعض النّاس أنّ بعض من حجّ من اليمن وجفاة النّاس قالوا: إنّ الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجّوا بصلاتى، وقد اتّخذت بمكّة أهلا ولى بالطّائف مال، فقال له عبد الرحمن: ما فى هذا عذر، أمّا قولك: اتخذت بها أهلا، فإنّ زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وإنما تسكن بسكناك. وأمّا مالك بالطّائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال. وأمّا قولك عن حاجّ اليمن وغيرهم فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينزل عليه الوحى والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلّوا ركعتين، وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأى رأيته.
وقيل: كان ذلك سنة ثلاثين، والله أعلم.(19/435)
سنة ثلاثين
ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص
فى هذه السنة [1] ، عزل عثمان رضى الله عنه الوليد بن عقبة عن الكوفة، واستعمل عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزله أنّ أهل الكوفة نسبوه أنّه يشرب الخمر، وذكروا ذلك لعثمان، فاستدعاه وطلب من ذكر ذلك عنه، فقال: أتشهدون أنّه يشرب الخمر؟ فقالوا لا، قال فكيف قلتم عنه إنّه شربها؟ فقالوا اعتصرناها من لحيته، وهو يقئ الخمر، فأمر بجلده، فجلده عبد الله بن جعفر بن أبى طالب أربعين.
وقيل: إنّ الوليد مكر وصلّى بأهل الصّبح أربعا، ثم التفت إليهم وقال: أأزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا [معك [2]] فى زيادة منذ اليوم، فقال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ... أنّ الوليد أحقّ بالعذر [3]
نادى وقد تمّت صلاتهم ... أأزيدكم؟ سكرا وما يدرى [4]
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشّفع والوتر
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 52، الاستيعاب 1552.
[2] من ص.
[3] ديوانه 85.
[4] الديوان: «ثملا وما يدرى» .(19/436)
وقال أيضا:
تكلّم فى الصّلاة وزاد فيها ... علانية وجاهر بالنّفاق [1]
ومجّ الخمر فى سنن المصلّى ... ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدونى ... فما لكم وما لى من خلاق!
قالوا: ولمّا استعمل سعيد بن العاص، قال بعض شعرائهم:
فررت من الوليد إلى سعيد ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا [1]
يلينا من قريش كلّ يوم ... أمير محدث أو مستشار
لنا نار نخوّفها فنخشى ... وليس لهم ولا يخشون نار
قال: واستعمل عثمان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة وهو والد عمرو بن سعيد الأشدق، فسار إلى الكوفة ومعه من كان فد شخص من أهل الكوفة مع الوليد، فلمّا وصلها صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإنى لكارة؛ ولكنّى لم أجد بدّا إذ أمرت أن أأتمر. ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، وو الله لأضربنّ وجهها حتّى أقمعها أو تعيينى، وإنّى لرائد نفسى اليوم. ونزل.
وسأل عن أهل الكوفة، فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان:
إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت حتى لا ينظر إلى ذى شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها.
فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، ففضّل أهل السّابقة والقدمة،
__________
[1] الاستيعاب 1555.(19/437)
ممّن فتح الله عليه تلك البلاد؛ وليكن من نزلها غيرهم تبعا لهم إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق، وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء. واحفظ لكلّ منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسيّة، فقال: أنتم وجوه النّاس، والوجه ينبى عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذى الحاجة.
وأدخل معهم من يحتمل من اللّواحق والرّوادف، وجعل القرّاء فى سمره، ففشت القالة فى أهل الكوفة.
فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع النّاس وأخبرهم بما كتب، فقالوا له: أصبت لا تطمعهم، هم ليسوا له بأهل؛ فإنّه إذا نهض فى الأمور من ليس لها بأهل لها لم يحتملها وأفسدها.
فقال عثمان: يا أهل المدينة، استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.(19/438)
ذكر جمع القرآن
كان سبب ذلك أنّ حذيفة بن اليمان كان قد توجّه مددا لعبد الرّحمن ابن ربيعة لحصار الباب، وكان مع سعيد بن العاص عامل الكوفة، فخرج معه سعيد بن العاص حتّى بلغ أذربيجان، فأقام حتى عاد حذيفه، فلمّا عادا ورجعا، قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت فى سفرتى هذه أمرا لئن نزل بالنّاس ليختلفنّ فى القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدا.
قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أنّ قراءتهم خير من قراءة غيرهم، وأنّهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنّهم قرءوا على أبى موسى، ويسمّون مصحفه لباب القلوب.
فلمّا وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة النّاس بذلك، وحذّرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكثير من التّابعين.
فتفاوض حذيفة، وابن مسعود، فغضب سعيد وقام، وتفرّق النّاس وسار حذيفة إلى عثمان، وأخبره بما رأى، وقال:
أنا النّذير العريان، فأدرك الأمّة.
فجمع عثمان الصّحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه، فأرسل إلى(19/439)
حفصة بنت عمر رضى الله عنهما: أن أرسلى إلينا بالصّحف لننسخها وكانت هذه الصّحف هى التى كتبت فى أيّام أبى بكر رضى الله عنه، وكانت عنده ثم عند عمر، ثم كانت عند حفصة، فأخذها عثمان منها، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزّبير وابن عبّاس وسعيد بن العاص وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها فى المصاحف.
وقال عثمان: إن اختلفتم فاكتبوا بلغة قريش؛ فإنّما نزل بلسانها.
قال زيد: فجعلنا نكتب؛ فإذا اختلفنا فى شىء جمعنا أمرنا على رأى واحد، فاختلفنا فى التّابوت، فقلت: التّابوه. وقال النّفر القرشيّون التّابوت. فأبيت أن أرجع إليهم، وأبوا أن يرجعوا إلىّ فرفعنا ذلك إلى عثمان، فقال: اكتبوا التّابوت.
قال زيد: وذكرت آية كنت سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم أجدها عند أحد حتّى وجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصارىّ وهى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم) [1] .
قال: وكتبت أربع نسخ، فبعث نسخة إلى الكوفة، وأخرى إلى البصرة، وأخرى إلى الشّام، وأمسك واحدة لنفسه، وأعاد الصّحف إلى حفصة، وأمر أن يحرق ما سوى ذلك.
__________
[1] سورة التوبة 128، 129.(19/440)
وقيل: إنّ النّسخ كانت سبعة، وأنّه وجّه نسخة إلى مكّة، وأخرى إلى اليمن، وأخرى إلى البحرين، والأوّل أصحّ.
قال: فعرف النّاس فضل عثمان إلّا أهل الكوفة، فإنّ المصحف لمّا قدم عليهم فرح به الصحابة، وامتنع عبد الله بن مسعود ومن وافقهم. فقام ابن مسعود. فيهم فقال: ولا كلّ ذلك، فإنكم قد سبقتم سبقا بيّنا، فاربعوا على ظلعكم.
ولمّا قدم علىّ رضى الله عنه إلى أهل الكوفة، قام إليه رجل، وعاب عثمان بجمعه الناس على الصّحف، فنهاه، وقال: لو وليت منه ما ولى عثمان سلكت سبيله رضى الله عنهما.
وفيها زاد عثمان رضى الله عنه النّداء الثّالث يوم الجمعة على الزّوراء، الله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم
وفيها سقط خاتم النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم من يد عثمان فى بئر أريس وهى على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد، ولمّا سقط من يده، نزحوا ما فيها من الماء فما قدروا عليه، فلمّا أيس منه، صنع خاتما آخر على مثاله ونقشه، فكان فى إصبعه حتى قتل.
وقيل: إنّه نقش عليه: «آمنت بالّذى خلق فسوّى» .
وقيل: كان عليه «لتنصرنّ أو لتندمنّ» ، والله تعالى أعلم.(19/441)
ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة
وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر رضى الله عنه وفى [1] سنة ثلاثين أخرج عثمان رضى الله عنه أباذرّ الغفارىّ، واسمه جندب بن جنادة.
وقد ذكر فى سبب ذلك أمور كثيرة، منها ما أورده أبو أحمد يحيى بن جابر البلاذرىّ، فى كتاب «جمل أنساب الأشراف» وغيره.
قال البلاذرىّ: لمّا أعطى عثمان رضى الله عنه مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبى العاص- وهو أخو مروان- ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت الأنصارى مائة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشّر الكافرين بعذاب أليم: ويتلو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..
[2] الآية.
فرفع مروان ذلك إلى عثمان، فأرسل إلى أبى ذرّ، أن انته عمّا يبلغنى عنك، فقال: أينهانى عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله! فو الله لأن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إلىّ من أن أسخط الله برضاه، فأغضب ذلك عثمان، وصبر وكفّ عنه، ثم قال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 56 وما بعدها.
[2] سورة التوبة 34.(19/442)
كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال أبو ذرّ: يابن اليهوديّين أتعلّمنا ديننا! فقال عثمان: ما أكثر ذاك لى وأولعك بأصحابى! الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشّام، إلا أنّه كان يقدم حاجّا، ويسأل عثمان الإذن له فى مجاورة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذن له فى ذلك.
وقيل: إنّه إنّما صار إلى الشام لأنّه [رأى البناء قد بلغ سلعا، فقال لعثمان:
إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا بلغ البناء [سلعا] [1] فالهرب»
، فأذن لى آتى الشّام فأغزو هناك. فأذن له، فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت صلة فلا حاجة لى فيها. وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله فهى الخيانة، وإن كانت من مالك فهى الإسراف، فسكت معاوية.
وكان أبو ذرّ يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هى فى كتاب الله، ولا سنّة نبيّه، والله إنّى لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقا مكذّبا، وأثرة بغير تقى.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذرّ مفسد عليك الشّام، فتدارك أهله إن كانت لك بهم حاجة.
فكتب معاوية إلى عثمان، فكتب إليه عثمان:
أمّا بعد، فاحمل جندبا إلىّ على أغلظ مركب وأوعره.
__________
[1] من ص.(19/443)
فوجّه معاوية مع أبى ذرّ من سار معه الليل والنهار، فلمّا قدم المدينة جعل يقول: [تستعمل] [1] الصّبيان، وتحمى الحمى، وتقرّب أولاد الطّلقاء! فبعث إليه عثمان: الحق بأىّ أرض شئت. فقال: بمكّة؟ فقال:
لا، قال: فبيت المقدس؟ قال: لا، فبأحد المصرين؟ قال:
لا، قال: ولكنى مسيّرك إلى الرّبذة، فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات.
وذكر البلاذرى فيما حكاه كلاما كثيرا، وقع بين عثمان بن عفّان وعلىّ بن أبى طالب رضى الله عنهما بسبب ذلك أغضينا عن ذكره وحكى أنّ أبا ذرّ بلغه أنّ معاوية يقول: إنّ المال مال الله، ألا إنّ كلّ شىء فلله، وأنّه يريد أن يحتجبه دون الناس، ويمحو اسم المسلمين: فأتاه أبو ذرّ فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّى مال المسلمين.
مال الله! فقال: يرحمك الله يا أبا ذرّ! ألسنا عباد الله، والمال ماله، قال: فلا تقله، قال: سأقول مال المسلمين.
وكان أبو ذرّ يذهب إلى أنّ المسلم لا ينبغى أن يكون فى ملكه أكثر من قوت يومه وليلته إلّا شىء ينفقه فى سبيل الله أو يعدّه لغريم، ويأخذ بظاهر القرآن: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...
[2] الآية، وكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر
__________
[1] من ص.
[2] سورة التوبة 34.(19/444)
الأغنياء، واسوا الفقراء، بشّروا الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء.
وشكا الأغنياء ما يلقون منهم إلى معاوية، فأرسل معاوية إليه بألف دينار فى جنح اللّيل، فأنفقها، فلمّا صلّى معاوية الصّبح دعا معاوية رسوله الذى أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبى ذرّ، فقل له:
أنقذ جسدى من عذاب معاوية، فإنه أرسلنى إلى غيرك، وأنّى أخطأت بك، ففعل ذلك. فقال له أبو ذرّ. يا بنىّ، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخّرنا ثلاثة أيّام حتّى نجمعها.
فلمّا رأى معاوية أنّ فعله صدّق قوله كتب إلى عثمان: إنّ أباذرّ قد ضيّق علىّ، وقد كان كذا وكذا، الّذى يقوله الفقراء.
فكتب إليه عثمان: إنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلّا أن تشب، فلا تنكإ القرح، وجهّز أبا ذرّ، وابعث معه دليلا، وكفكف النّاس ونفسك ما استطعت.
فبعث له بأبى ذرّ، فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس فى أصل جبل سلع قال، بشّر أهل المدينة بغارة شعواء، وحرب مذكار [1] ودخل على عثمان فقال له: ما بال أهل الشّام يشكون ذرب [2]
__________
[1] مذكار: قوية.
[2] ذرب اللسان: حدته.(19/445)
لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذرّ، علىّ أن أقضى ما علىّ، وأن أدعو الرّعيّة إلى الاجتهاد والاقتصاد، وما علىّ أن أجبرهم على الزّهد.
فقال أبو ذرّ: لا ترضوا من الأغنياء حتّى يبذلوا المعروف، ويحسنوا إلى الجيران والإخوان، ويصلوا القرابات [1] ، فقال:
كعب الأحبار- وكان حاضرا: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه، فضربه أبو ذرّ فشجّه، وقال: يابن اليهوديّة، ما أنت وما ها هنا! فاستوهب عثمان كعبا شجّته، فوهبه، فقال أبو ذرّ لعثمان:
تأذن لى فى الخروج من المدينة؛ فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنى بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا؟ فأذن له، فبلغ الرّبذة [2] ، وبنى بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة [3] من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه فى كلّ يوم عطاء، وكذلك أجرى على رافع بن حديج، وكان قد خرج أيضا من المدينة لشىء سمعه.
قال: وكان أبو ذرّ يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابيّا، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب يثقل يد الرّجل، فقال:
انظروا إلى هذا الّذى يزهّد فى الدّنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنّها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسا [4] لحوائجنا.
وروى البخارىّ رحمه الله فى صحيحه بسنده إلى زيد بن وهب، قال: مررت بالرّبذة، فإذا أنا بأبى ذرّ- رضى الله عنه، فقلت له:
__________
[1] ك: «القرابة» .
[2] ك: «فنزل الربذة» .
[3] الصرمة: القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين.
[4] كذا فى الأصلين، ولعلها: «فئوسا» .(19/446)
ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت فى الشّام، فاختلفت أنا ومعاوية فى الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها فى سبيل الله. قال معاوية: نزلت فى أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بينى وبينه فى ذاك [كلام] [1] ، وكتب إلى عثمان رضى الله عنه يشكونى، فكتب إلىّ عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر علىّ النّاس حتّى كأنّهم لم يرونى قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان رضى الله عنه فقال لى: إن شئت تنحّيت فكنت قريبا؛ فذلك الّذى أنزلنى هذا المنزل، ولو أمّروا علىّ حبشيّا لسمعت وأطعت.
وأقام أبو ذرّ بالرّبذة إلى سنة اثنتين وثلاثين، فمات بها رضى الله عنه، ولمّا حضرته الوفاة قال لابنته: استشرفى يا بنيّة، هل ترين أحدا؟ قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتى بعد، ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الّذين يدفنوننى- فإنّه سيشهدنى قوم صالحون- فقولى لهم: يقسم عليكم أبو ذرّ ألّا تركبوا حتى تأكلوا؛ فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظرى، هل ترين أحدا؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب. قال: استقبلى الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومات. فخرجت ابنته، فتلقّتهم [2] وقالت: رحمكم الله،
__________
[1] من ص.
[2] ص: «فلقيتهم» .(19/447)
اشهدوا أبا ذرّ قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم، ونعمة عين، لقد أكرمنا الله بذلك.
وكان فيهم ابن سعود- رضى الله عنه- فبكى، وقال: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال «يموت وحده، ويبعث وحده»
. فغسّلوه وكفّنوه، وصلّوا عليه ودفنوه، فقالت لهم ابنته:
إنّ أبا ذرّ يقرأ عليكم السّلام، وأقسم ألّا تركبوا حتّى تأكلوا، ففعلوا، وحملوا أهله معهم حتّى أقدموهم مكّة، ونعوه إلى عثمان، فضمّ ابنته إلى عياله.
وقيل: كانت وفاته فى سنة إحدى وثلاثين.
وقيل: إنّ ابن مسعود لم يحمل أهل أبى ذرّ معه، إنّما تركهم حتّى قدم على عثمان بمكّة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم، فحملهم معه.(19/448)
سنة احدى وثلاثين
فيها حجّ عثمان رضى الله عنه بالنّاس.
وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وصخر ابن حرب، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
سنة اثنتين وثلاثين
فى هذه السّنة مات العبّاس بن عبد المطّلب، وكان قد كفّ بصره، وله من العمر ثمان وثمانون سنة.
ومات عبد الله بن مسعود، وصلّى عليه عمّار بن ياسر، وقيل:
عثمان.
وتوفّى عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الّذى أرى أمر الأذان.
وتوفّى عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم.(19/449)
ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه
هو أبو محمّد عبد الرحمن بن عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب القرشىّ الزّهرىّ.
وكان اسمه فى الجاهليّة عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الرّحمن.
وأمّه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة.
ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دار الأرقم، وكان من المهاجرين الأوّلين، جمع الهجرتين جميعا؛ إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة مهاجرا [1] إلى المدينة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد السّتّة الّذين جعل عمر رضى الله عنه الشّورى فيهم.
وشهد عبد الرحمن بدرا، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دومة الجندل، وعمّمه بيده، وأسدلها بين كتفيه، وقال له: سر باسم الله، وأوصاه بوصايا الأمراء، ثم قال: إن فتح الله عليك فتزوّج بنت ملكهم أو شريفهم.
وكان الأصبغ بن ثعلبة بن ضمضم الكلبىّ شريفهم، فتزوّج عبد الرحمن ابنته تماضر بنت الأصبغ، فهى أمّ أبى سلمة الفقيه
__________
[1] ك «ثم قدم قبل الهجرة وهاجر إلى المدينة» .(19/450)
ابن عبد الرحمن، وكان له من الولد سالم الأكبر، مات قبل الإسلام، وإبراهيم، وحميد، وإسماعيل، وعروة قتل بإفريقيّة، وسالم الأصغر، وأبو بكر، وعبد الله الأكبر قتل بإفريقيّة، والقاسم، وعبد الله الأصغر، هو أبو سلمة الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، ومصعب، وعثمان، ومحمد، [ومعن] [1] وزيد، وأمّ القاسم ولدت فى الجاهلية، وجويرية، وهم لأمّهات أولاد شتّى ذكرهنّ الزّبير بن بكّار.
ولعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، فضائل كثيرة، ومناقب جمّة؛ منها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى خلفه فى سفر.
وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم. أنّه قال: «عبد الرحمن ابن عوف سيّد من سادات المسلمين»
. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عبد الرحمن بن عوف أمين فى السماء، وأمين فى الأرض»
. وكان رضى الله عنه رجلا طويلا، أجنأ [2] ، أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، لا يغيّر لحيته ولا رأسه.
وروى عن سهلة بنت عاصم زوجته قالت: كان عبد الرحمن أبيض أعين [3] ، أهدب الأشفار [4] ، أقنى [5] ، طويل النّابين
__________
[1] من ص.
[2] رجل أجنأ: أشرف كاهله على صدره.
[3] أعين: واسع العين.
[4] الشفر: أصل منبت العين فى الجفن.
[5] قنا الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه.(19/451)
الأعليين، وربّما أدميا شفته، له جمّة [1] ، ضخم الكفّين، غليظ الأصابع، جرح [يوم أحد] [2] إحدى وعشرين جراحة، وجرح فى رجله، فكان يعرج منها.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ [3] : كان عبد الرّحمن تاجرا مجدودا [4] فى التّجارة وكسب مالا كثيرا، وخلّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا [5] فكان يأخذ من ذلك قوت أهله سنة، وخلّف مالا كثيرا جدا.
روى عمرو بن دينار، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن بن عوف التّى طلّقها فى مرضه عن ثلث الثّمن، بثلاث وثمانين ألفا.
وروى غيره أنّها صولحت بذلك على ربع الثمن من ميراثه.
وحكى ابن الأثير فى تاريخه الكامل: أن عبد الرّحمن بن عوف رضى الله عنه أوصى لكلّ رجل بقى من أهل بدر بأربعمائة دينار، وكان عدّتهم يومئذ مائة رجل، وقسّم ماله على ستّة عشر سهما، فكان كلّ سهم ثمانين وألف دينار.
وقال أبو عمر: وروى أنّه أعتق فى يوم واحد ثلاثين عبدا. ولمّا حضرته الوفاه بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إنّ مصعب
__________
[1] الجمة: مجتمع الشعر.
[2] من ص.
[3] الاستيعاب 847 وما بعدها.
[4] مجدودا: محظوظا.
[5] الناضح: البعير يستقى عليه.(19/452)
ابن عمير كان خيرا منّى، توفّى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يكن له ما يكفّن فيه، وإنّ حمزة بن عبد المطلب كان خيرا منّى لم نجد له كفنا، وإنّى أخشى أن أكون ممن عجّلت له طيّباته فى حياته الدنيا، أو أخاف أن أحتبس [1] عن أصحابى بكثرة مالى.
وقد تقدّم أن هذا المال الّذى اكتسبه كان ببركة دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكانت وفاته رضى الله عنه بالمدينة. فى هذه السّنة.
وقيل: فى سنة إحدى وثلاثين، وصلّى عثمان رضى الله عنه عليه بوصيّة منه، ودفن بالبقيع.
واختلف فى مبلغ سنّة، فقيل: توفّى وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين. والله أعلم.
__________
[1] ك: «أحبس» .(19/453)
سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم
فى [1] هذه السّنة سيّر عثمان رضى الله عنه نفرا من أهل الكوفة إلى الشّام، وكان سبب ذلك أنّ سعيد بن العاص لمّا ولّاه عثمان الكوفة اختار وجوه النّاس، وأهل القادسيّة، وقرّاء أهل الكوفة، فكان هؤلاء يدخلون عليه فى منزله، وإذا خرج فكلّ النّاس يدخلون عليه، فدخلوا عليه يوما، فبينما هم يتحدّثون، قال حبيش ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إنّ من له مثل [2] النشاستج لحقيق أن يكون جواد، والله لو كان لى مثله لأعاشكم الله [به] [2] عيشا رغدا.
فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الّذى يلى الكوفة، فقالوا: فضّ الله فاك، والله لقد هممنا بك، فقال أبوه:
غلام فلا تجاوزه، فقالوا: يتمنّى سوادنا، ويتمنّى لكم أضعافه.
فثار به الأشتر وجندب وابن ذى الحنكة [3] ، وصعصعة، وابن الكوّاء، وكميل، وعمير بن ضابئ، فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه،
__________
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 69، وتاريخ الطبرى 4: 317- 329، وفيها ذكر هذا الخبر فى حوادث سنة 33
[2] من ص.
[3] ك: «الحبلة» .(19/454)
فضربوهما حتى غشى عليها، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا، وفيم طليحة، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى النّاس، فقال: أيّها النّاس، قوم تنازعوا، وقد رزق الله العافية.
فردّهم، فتراجعوا. وأفاق الرجلان، فقالا: قاتلنا غاشيتك، فقال:
لا يغشّونى أبدا، فكفّا ألسنتكما ولا تجرّئا النّاس، ففعلا، وقعد أولئك النّفر فى بيوتهم، وأقبلوا يقعون فى عثمان رضى الله عنه.
وقيل: بل كان السّبب فى ذلك أنّه كان يسمر عند سعيد وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحىّ، والأسود بن يزيد وعلقمة ابن قيس النّخعيّان، ومالك بن الأشتر، غيرهم.
فقال سعيد: إنّما هذا السّواد بستان قريش، فقال الأشتر: تزعم أنّ السّواد الذى أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! وتكلّم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدىّ، وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من هاهنا لا يفوتنّكم الرّجل، فوثبوا عليه فوطئوه وطئا شديدا حتّى غشى عليه، ثم جرّوا برجله فنضح بماء فأفاق، وقال: قتلنى من انتخبت، فقال: والله لا يسمر عندى أحد أبدا، فجعلوا يجلسون فى مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا، واجتمع إليهم النّاس حتّى كثروا.
فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان فى إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إنّ نفرا قد خلقوا(19/455)
للفتنة، فقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل [منهم] [1] وإن أعيوك فارددهم [2] علىّ.
فلمّا قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان عليهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغدّى ويتعشّى معهم.
فقال لهم يوما: إنّكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، وحزتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغنى أنّكم نقمتم قريشا؛ ولو لم تكن قريش كنتم أذلّة، إنّ أئمتكم لكم جنّة، فلا تفترفوا عن جنّتكم، وإنّ أئمتكم يصبرون [3] لكم على الجور، ويحملون عنكم المئونة، والله لتنتهنّ أو ليبتلينّكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرّعيّة فى حياتكم وبعد وفاتكم.
فقال صعصعة: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر النّاس، ولا أرفقها، ولا أمنعها فى الجاهليّة فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة؛ فإنّ الجنّة إن اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، وعلمت أنّ الّذى أغراكم على هذا قلّة العقول؛ وأنت خطيبهم، ولا أرى لك عقلا، أعظّم عليك أمر الإسلام وتذكّرنى الجاهليّة! أخزى الله قوما أعظموا أمركم.
افقهوا عنّى- ولا أظنّكم تفقهون- أنّ قريشا لم تعزّ فى جاهليّة ولا
__________
[1] من ص.
[2] ك: «فردوهم» .
[3] ك: «يصرون» .(19/456)
إسلام إلّا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا بأشدّهم؛ ولكنّهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا فى جاهليّة- والنّاس بأكل بعضهم بعضا- إلا بالله، فبوّأهم [1] حرما آمنا، يتخطّف النّاس من حولهم، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا، إلّا وقد أصابه الدّهر فى بلده وحرمته؛ إلّا ما كان من قريش؛ فإنّهم لم يردهم أحد من النّاس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل؛ حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم، واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، فلا يصلح ذلك إلّا عليهم، فكان الله تعالى يحوطهم فى الجاهليّة، وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه! أفّ لك ولأصحابك!.
أمّا أنت يا صعصعة، فإنّ قريتك شرّ القرى، أنتنها نبتا، وأعمقها واديا، وأعرفها بالشّرّ وألأمها، ألأم العرب ألقابا وأصهارا، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخطّ، وفعلة فارس، حتّى أصابتكم دعوة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، لم تسكن البحرين فتشركهم فى دعوة النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم. فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك [2] الإسلام وخلطك بالناس [3] أقبلت تبتغى دين الله عوجا، وتنزع إلى الذّلّة، ولا يضرّ ذلك قريشا، ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرّفكم بالشّرّ فأغرى بكم النّاس
__________
[1] ك: «مأواهم» .
[2] ك: «أنذرك» .
[3] ك: «بالإسلام» .(19/457)
وهو صارعكم، ولا ندركون بالشر أمرا أبدا؛ إلّا فتح الله عليكم شرّا منه وأخزى.
ثمّ قام وتركهم، فتقاصرت إليهم أنفسهم.
فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إنى قد أذنت فاذهبوا [1] حيث شئتم، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضرّه، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإنّ البطر لا يعترى الخيار، فاذهبوا حيث شئتم، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلمّا خرجوا دعاهم وكلّمهم نحو كلامه الأوّل، وكتب إلى عثمان أنّه قدم علىّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشىء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنّما همّهم الفتنة، وأموال أهل الذّمّة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالّذين ينكئون أحدا إلّا مع غيرهم، فانه سعيدا ومن عنده عنهم؛ فإنّهم ليسوا لأكبر من شغب أو نكير.
قال: ولمّا خرجوا من دمشق قالوا: لا نرجع إلى الكوفة، فإنّهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص، فدعاهم وقال: يا آلة الشّيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا! قد رجع الشيطان محسورا، وأنتم بعد نشاط، خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم [2] ، يا معشر من لا أدرى، أعرب أم عجم! لا تقولوا لى ما يبلغنى أنّكم قلتم لمعاوية: أنا ابن خالد بن
__________
[1] ك: «تذهب» ، تحريف.
[2] ك: «إن لم يؤذكم» .(19/458)
الوليد، أنا أبن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الرّدّه.
والله لمّن بلغنى يا صعصعة أنّ أحدا ممّن معى دقّ أنفك، ثمّ أمضّك، لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. وأقامهم شهرا، كلّما ركب أمشاهم. فلمّا مرّ به صعصغة قال: يابن الخطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشّرّ، مالك لا تقول كما بلغنى أنّك قلت لسعيد ومعاوية! فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتّى قال: تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان؛ احلل حيث شئت، قال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ فقال، ذاك إليك، فرجع إليه.
وقد حكى بعض المؤرّخين من أخبارهم نحوما ما تقدم، وزاد فيه:
إنّ معاوية لمّا عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، كان ممّا قال لهم: والله إنّى لا آمركم بشىء إلا قد بدأت فيه بنفسى، وأهل بيتى، وقد عرفت قريش أنّ أبا سفيان كان أكرمها، وابن أكرمها؛ إلّا ما جعل الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه انتخبه وأكرمه، وإنى لأظنّ أنّ أبا سفيان لو ولد النّاس لم يلد إلّا حازما.
قال صعصعة: كذبت، لقد ولدهم خير من أبى سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس.
فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم من القابلة فتحدث(19/459)
عندهم طويلا ثمّ قال: أيّها القوم، ردّوا خيرا أو اسكتوا، وتفكّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم المسلمين فاطلبوه فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة، لك أن تطاع فى معصية الله عزّ وجلّ!. فقال: أليس أوّل ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا.
قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: فإنّى آمركم الآن، إن كنت فعلت فإنّى أتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته، وطاعة نبيّه، ولزوم الجماعة، وأن توقّروا أئمّتكم، وتدلّوهم على أحسن ما قدرتم عليه.
فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ فى المسلمين من هو أحقّ به منك؛ من كان أبوه أحسن قدما من أبيك فى الإسلام وهو أحسن قدما فى الإسلام من أبيك.
فقال: والله إنّ لى فى الإسلام قدما، ولغيرى كان أحسن قدما منّى، ولكن ليس فى زمانى أحد أقوى على ما أنا فيه منّى، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيرى أقوى منّى لم تكن عند عمر هوادة لى ولا لغيرى، ولم أحدث من الحدث ما ينبغى أن أعتزل عملى، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلىّ فاعتزلت عمله، فمهلا فإنّ فى ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر.
ولعمرى، لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيّكم، ما استقامت(19/460)
لأهل الإسلام يوما وليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإنّ لله لسطوات، وإنّى لخائف عليكم أن تتابعوا فى متابعة الشّيطان، ومعصية الرّحمن فيحلّكم بذلك دار الهوان فى العاجل والآجل.
فوثبوا عليه، وأخذوا رأسه ولحيته. فقال: مه! إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم فىّ ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمرى إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم.
فكتب إلى عثمان نحو ما تقدّم، فكتب إليه يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص إلى الكوفة، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم، فضجّ سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيّرهم إليه، فأنزلهم وأجرى عليهم رزقا. وكانوا [1] :
الأشتر، وثابت بن قيس الهمدانى، وكميل بن زياد، وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وجندب بن زهير الغامدىّ، وجندب بن كعب الأزدىّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعىّ، وابن الكّواء.
وفيها مات المقداد بن عمرو، المعروف بابن الأسود، وتوفّى الطّفيل والحصين ابنا الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم.
وحجّ عثمان بالنّاس.
__________
[1] ك: «وهم كانوا» .(19/461)
سنة أربع وثلاثين ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرىّ
وفى [1] هذه السنة توجّه سعيد بن العاص أمير الكوفة إلى عثمان، وقد استعمل على أعماله قبل مسيره بسنة وبعض أخرى على أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى الرّىّ سعيد بن قيس، وعلى همذان النّسير العجلىّ، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى الموصل حكيم بن سلام الحرّانى، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى الباب سليمان بن ربيعة، وعلى حلوان عتيبة ابن النّهّاس. وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وخلت الكوفة من الرّؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، ومعه الّذين كان ابن السّوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال:
إنّما نستعفى من سعيد. فتركه، وكاتب يزيد النّفر الّذين كانوا سيّروا من الكوفة إلى الشّام فى القدوم عليه، فسار الأشتر والّذين كانوا عند عبد الرّحمن بن خالد، فسبقهم الأشتر. فلم يفجأ النّاس بالكوفة يوم جمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول:
جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدا يريده
__________
[1] ابن الأثير 3: 73.(19/462)
على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولى البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أنّ فيكم بستان قريش، فاستخلف النّاس، وجعل أهل الرأى ينهونهم فلا يسمعون منهم.
فخرج يزيد، وأمر مناديا ينادى: من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فبقى أشراف النّاس وحلماؤهم فى المسجد، وعمرو ابن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأمر النّاس بالاجتماع والطاعة.
فقال له القعقاع بن عمرو: أتردّ السّيل عن أدراجه؟ هيهات! لا والله لا يسكّن الغوغاء إلّا المشرفيّة [1] ويوشك أن تنتضى، ثم يعجّون [2] عجيج العدّان [3] ، ويتمنّون ما هم فيه اليوم، فلا يردّه الله عليهم أبدا، فاصبر. قال: أصبر، وتحوّل إلى منزله.
وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة، وهى قريب من القادسيّة، ومعه الأشتر، ووصل إليهم سعيد بن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك، فقال: إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وإلىّ رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل. ثم انصرف عنهم، ومضى حتّى قدم على عثمان فأخبره الخبر، وأنّ القوم يريدون البدل، وأنهم يختارون أبا موسى. فولّاه عثمان، وكتب إليهم:
أمّا بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد،
__________
[1] المشرفية: سيوف تنسب إلى مشارف، قرى من أرض العرب تدنو إلى الريف.
[2] يعجون: يصيحون.
[3] ابن الأثير: «العيدان» ، الطبرى؛ العتدان. والعتود: الجدى الذى استكرش.(19/463)
وو الله لأقرضنّكم عرضى، ولأبذلنّكم صبرى، ولأصلحنّكم جهدى، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه [إلّا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه] [1] إلّا ما استعفيتم منه. أنزل فيه عند ما أحببتم؛ حتى لا تكون لكم على الله حجّة، ولنصبرنّ كما ما أمرنا؛ حتّى تبلغوا ما تريدون.
ورجع الأمراء من قرب الكوفة، فرجع جرير من قرقيسياء، وعتيبة [بن النهاس] [1] من حلوان، وخطبهم أبو موسى، وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان. فأجابوه إلى ذلك، وقالوا: صلّ بنا.
فقال: لا، إلّا على السّمع والطاعة لعثمان، قالوا: نعم، فصلّى بهم.
وأتاه ولاته فولّاهم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو حسبى.
__________
[1] من ص.(19/464)
ذكر ابتداء الخلاف على عثمان
ومن ابتدأ بالجرأة عليه كان [1] أوّل من ابتدأ بالجرأة عليه عبد الرحمن بن عوف؛ وذلك أنّ إبلا من إبل الصدقة جىء بها إلى عثمان، فوهبها لبعض بنى الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأخذها، وقسّمها بين النّاس وعثمان فى الدار.
وكان أول من اجترأ عليه فى المنطق جبلة بن عمرو السّاعدىّ، مرّ به عثمان وهو فى نادى قومه وبيده جامعة [2] ، فسلّم عثمان، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردّون على رجل فعل كذا وكذا! ثم قال لعثمان: والله لأطرحنّ هذه الجامعة فى عنقك، أو لتتركنّ بطانتك هذه الخبيثة؛ مروان وابن عامر [وابن سعد] [3] ، ومنهم من نزل القرآن بذمّه، وأباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه.
وحكى أبو جعفر الطّبرىّ: أنّه مرّ به وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقال يا نعشل [4] والله لأقتلنّك ولأحملنّك على قلوص جرباء، ولأحملنّك إلى حرّة النّار [5] .
قال: ثم جاءه مرّة أخرى، وعثمان على المنبر، فأنزله عنه
__________
[1] ابن الأثير 3: 75 وما بعدها. وتاريخ الطبرى 4: 365 وما بعدها.
[2] الجامعة: الغل يوضع فى العنق.
[3] من ص، وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح.
[4] فى القاموس: نعثل رجل من أهل مصر، قيل: كان يشبه عثمان رضى الله عنه، ويقال له إذا نيل منه» .
[5] الطبرى 4: 365.(19/465)
قال أبو جعفر: وعن أبى حبيبة، قال [1] : خطب عثمان النّاس فى بعض أيّامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنّك قد ركبت نهابير [2] ، وركبنا معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة، وشهر يديه، قال أبو حبيبة: فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
قال: ثمّ خطب الناس بعد ذلك، فقام إليه جهجاه الغفارىّ فصاح: يا عثمان، ألا إنّ هذه شارف [3] ، قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك فى الجامعة، ولنحملنّك على الشّارف، ثم نطرحك فى جبل الدّخان.
فقال عثمان: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلا عن ملإ من النّاس، وقام إلى عثمان شيعته من بنى أميّة، فحملوه فأدخلوه الدّار [4] .
وروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه، قال:
أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم التى كان يخطب عليها أبو بكر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شظيّة منها فيها، فبقى الجرح حتّى أصابته الأكلة، فرأيتها تدوّد.
ونزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج
__________
[1] الطبرى 4: 366.
[2] النهابير: المهالك.
[3] الشارف من النوق: المسنة الهرمة.
[4] الطبرى 4: 366.(19/466)
بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر، فقتل [1] .
هذا ما كان من أمر أهل المدينة.
وأمّا ما كان من أهل الأمصار، فكان سبب خلافهم أنّ عبد الله ابن سبأ المعروف بابن السّوداء، كان يهوديّا، فأسلم أيّام عثمان، ثم تنقّل فى الحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام، يريد إضلال النّاس، فلم يقدر منهم على ذلك، وأخرجه أهل الشّام، فأتى مصر، فأقام فيهم، وقال لهم: العجب ممن يصدّق أنّ عيسى يرجع، ويكذّب أنّ محمدا يرجع، ووضع لهم الرّجعة، فقبلوا ذلك معه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنّه كان لكلّ نبىّ وصىّ، وعلىّ وصىّ محمّد، فمن أظلم ممّن لم يجز وصيّة رسول الله، ووثب على وصيّه! وإنّ عثمان أخذها بغير حقّ، فانهضوا فى هذا الأمر، وابدءوا بالطّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر تستميلوا به النّاس. وبثّ دعاته، وكاتب من استفسد فى الأمصار، وكاتبوه، ودعوا فى السّرّ [2] إلى ما عليه رأيهم.
ثم كان أهل الكوفة أوّل من قام فى ذلك، فاجتمع ناس منهم فتذاكروا أعمال عثمان، فاجتمع رأيهم أن يرسلوا إليه عامر بن عبد الله التّميمىّ، ثم العنبرىّ، وهو الّذى يدعى عامر ابن عبد القيس، فأتاه، فدخل عليه فقال: إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا فى أعمالك، فوجدوك قد ارتكبت أمورا عظاما، فاتّق الله وتب إليه.
__________
[1] كذا فى الطبرى وفى الأصلين: «فقيل» .
[2] ك: «السير» .(19/467)
فقال عثمان: انظروا إلى هذا، فإنّ النّاس يزعمون أنّه قارئ، ثم هو يجىء فيكلّمنى فى المحقّرات، وو الله ما يدرى أين الله؟
فقال عامر: بل والله إنّى لأدرى أنّ الله لبالمرصاد.
فأرسل عثمان إلى معاوية، وعبد الله بن سعد، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عامر، فجمعهم وشاورهم، وقال لهم:
إن لكلّ أمير وزراء ونصحاء وإنكم وزرائى ونصحائى، وأهل ثقتى، وقد صنع النّاس ما قد رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالى، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم.
فقال ابن عامر: أرى يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتّى يذلّوا لك، ولا تكون همّة أحدهم إلا فى نفسه وما هو فيه من دبر [1] دابّته وقمل فروته.
وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الّذى تخاف، فإنّ لكلّ قوم قادة، متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: هذا هو الرأى لولا ما فيه.
وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام.
وقال ابن سعد: إنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال، تعطف عليك قلوبهم.
ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، انّك قد ركبت
__________
[1] الدبر: داء فى الإبل.(19/468)
لنّاس بمثل بنى أميّة. فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما، وامض قدما.
فقال له عثمان: مالك قمل فروك، أهذا الجدّ منك! فسكت عمرو حتّى تفرّقوا، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علىّ من ذلك؛ ولكنّى علمت أن بالباب من يبلّغ النّاس قول كلّ رجل منّا، فأردت أن يبلغهم قولى، فيثقوا بى، فأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا.
ثم ردّ عثمان عماله إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز الناس فى البعوث، وردّ سعيد بن العاص إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة فردّوه كما نقدم، وتكاتب أهل الأمصار، لمّا أفسد أمرهم ابن السوداء [1] ، وصار أهل كلّ مصر يكتب إلى أهل المصر الآخر بعيوب يضعونها لولاتهم، وينالون منهم حتى ذاع ذلك فى سائر البلاد، ووصل إلى المدينة.
فيقول أهل كلّ مصر: إنا لفى عافية مما ابتلى به هؤلاء. ثمّ تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغيرهم، بعضهم إلى بعض فى سنة أربع وثلاثين أن اقدموا فإنّ الجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وعظّموا عليه، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذبّ، إلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدىّ، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس، فكلّموا علىّ ابن أبى طالب رضى الله وأرضاه وكرّم وجهه.
__________
[1] ابن السوداء: عبد الله بن سبأ.(19/469)
ذكر كلام على لعثمان وجوابه له
قال [1] : ولمّا اجتمع الناس إلى علىّ رضى الله عنه، وكلّموه، دخل إلى عثمان فقال: إن الناس ورائى، وقد كلّمونى فيك، والله ما أدرى ما أقول لك، ولا أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شىء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشىء فنبلّغك، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وصحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسمعت منه، ونلت صهره، وما ابن أبى قحافة بأولى بالعمل منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشىء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك [2] إلى شىء، فالله، الله فى نفسك، فإنك والله ما تبصّر عن عمى، وما تعلّم من جهالة، وإن الطريق لواضح بيّن، وإن أعلام الدّين لقائمة.
اعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله [عند الله] [3] إمام عادل، هدى وهدى، وأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مكروهة [4] ، فو الله إنّ كلّا لبيّن، وإن السّنن [5] لقائمة لها أعلام، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وأضلّ [6] ، فأمات سنة معلومة
__________
[1] الطبرى 4: 336، وما بعدها، ابن الأثير 3: 76، 77.
[2] ك: «سقناك» .
[3] من ص والطبرى.
[4] ك: «متروكة» ، وكذلك الطبرى.
[5] ك: «السنة» .
[6] الطبرى: «وضل به» .(19/470)
وأحيا بدعة متروكة، وإنّى أحذّرك الله وسطواته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة الذى [1] ، يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها وتتركهم شيعا؛ لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرجون فيها مرجا.
فقال عثمان: قد علمت والله ليقولنّ الّذى قلت، أما والله لو كنت مكانى ما عنّفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، أن وصلت رحما، وسددت خلّة، وآويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان عمر ولىّ. أنشدك الله يا علىّ، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم، قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال:
نعم، قال: فلم تلومنى أن ولّيت ابن عامر فى رحمه وقرابته؟
قال علىّ: إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّى إن بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به أقصى العقوبة، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك.
قال عثمان: وهم أقرباؤك أيضا. قال: أجل، إنّ رحمهم منّى لقريبة؛ ولكنّ الفضل فى غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية، فقد ولّيته؟ قال علىّ:
أنشدك الله! هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ (غلام له) ؟
قال: نعم، قال: فإنّ معاوية يقطع الأمور دونك، ويقول للنّاس: هذا أمر عثمان، وأنت تعلم ذلك، فلا تغيّر عليه.
__________
[1] الطبرى: «المقتول» .(19/471)
ثمّ خرج علىّ من عنده، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر ثم قال:
أمّا بعد، فانّ لكلّ شىء آفة، ولكلّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمّة، وعاهة هذه النّعمة، طعّانون يرونكم ما تحبّون، يسترون عنكم ما تكرهون، ويقولون لكم ويقولون، أمثال النّعام، يتبعون أوّل ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نغصا، ولا يردون [1] إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور [2] ، ألا فقد عبتم علىّ والله بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله؛ ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأتكم كتفى، وكففت يدى ولسانى عنكم، فاجترأتم علىّ. أما والله لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا، وأحرى أن قلت هلمّ أتى إلىّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابى، وأخرجتم منّى خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفّوا عنّى ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإنّى قد كففت [3] عنكم من لو كان هو الذّى يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقى هذا، ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلى، ولم يكونوا يختلفون عليه.
__________
[1] ك: «ولا يرون» .
[2] بعدها فى الطبرى: «وتعذرت عليهم المكاسب» .
[3] ك: «كفكفت» .(19/472)
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعرأضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون فى دمن الثّرى
فقال له عثمان: اسكت لاسكّت، دعنى وأصحابى، ما منطقك فى هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق! فسكت مروان، ونزل عثمان [1]
__________
[1] بعدها فى ابن الأثير 3: 77 «عن المنبر، فاشتد قول الناس وعظم، وزاد تألبهم عليه» .(19/473)
ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله
وما يقول النّاس فيهم قال [1] : لما تكاتب أهل الأمصار بعيوب ولاتهم التى وضعوها، وشاع ذلك، وأتت الأخبار إلى المدينة، أتى أهل المدينة إلى عثمان وقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نخبرك عن النّاس بما يأتينا، وأخبروه، فاستشارهم فأشاروا أن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الأمصار، ليأتوه بأخبار العمّال، فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى إلى البصرة، وعمّار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشّام.
وفرّق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمّار، فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام النّاس ولا عوامّهم. وتأخّر عمّار حتّى ظنّوا أنّه اغتيل، فجاء كتاب عبد الله بن أبى سرح يذكر أنّ عمّارا قد استماله قوم وانقطعوا إليه، منهم عبد الله بن السّوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.
فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: إنّى آخذ [عمّالى [2]] بموافاتى فى كلّ موسم، وقد رفع إلىّ أهل المدينة أن أقواما يضربون ويشتمون، فمن ادّعى شيئا من ذلك فليواف الموسم، ليأخذ بحقّه منّى أو من عمّالى، أو تصّدقوا فإنّ الله يجزى المتصّدقين.
__________
[1] تاريخ الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها.
[2] من ص.(19/474)
فلمّا قرئ كتابه فى الأمصار بكى الناس بكاء شديدا، ودعوا لعثمان رضى الله عنه. وقدم عمّال الأمصار إلى مكّة فى الموسم: عبد الله عامر أمير البصرة، وعبد الله بن سعد أمير مصر، ومعاوية أمير الشّام وأدخل معهم فى المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص.
فقال عثمان رضى الله عنه: ويحكم! ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة! إنّى والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بى، فقالوا: ألم تبعث؟ ألم نرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم ترجع رسلك ولم يشافههم أحد بشىء، والله ما صدقوا ولا برّوا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، ولا يحلّ الأخذ بهذه الإذاعة. فقال: اشيروا علىّ.
فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى فى السّرّ، فيتحدّث به النّاس، ودواء ذلك طلب هؤلاء، وقتل الّذين يخرج هذا من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من النّاس الّذى عليهم إذا أعطيتهم الّذى لهم، فإنّه خير من أن تدعهم.
وقال معاوية: قد ولّيتنى فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير، والرّجلان أعلم بناحيتيهما، والرأى حسن الأدب.
وقال عمرو: أرى أنّك قد لنت لهم، وتراخيت عليهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريق صاحبيك، فتشتدّ فى موضع الشدّة، وتلين فى موضع الّلين.
فقال عثمان: قد سمعت كلّ ما أشرتم به علىّ، ولكل أمر باب(19/475)
يؤتى منه. إنّ هذا الأمر الّذى يخاف على هذه الأمة كائن، وإنّ بابه الّذى يغلق عليه فيكفكف به، اللين والمؤاتاة إلّا فى حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علىّ حجة حقّ. وقد علم الله أنّى لم آل الناس خيرا، وأنّ رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرّكها. سكّنوا النّاس، وهيّئوا لهم [1] حقوقهم؛ فإذا تعوطيت حقوق الله عزّ وجلّ فلا تدهنوا فيها.
وكان هذا بمكّة. فلمّا قدم عثمان المدينة دعا عليّا وطلحة والزّبير، وعنده معاوية، فحمد معاوية الله، ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه، وولاة أمر هذه الأمّة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولّى عمره، ولو انتظرتم به الهرم لكان قريبا؛ مع أنّى أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شىء فهذه يدى لكم به، ولا تطمعوا النّاس فى أمركم، فو الله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبدا إلّا إدبارا [2] .
فقال علىّ بن أبى طالب: مالك وذاك لا أمّ لك! قال: دع أمّى فإنّها ليست بشرّ أمّهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وأجبنى عمّا أقول لك.
فقال عثمان: صدق ابن أخى، أنا أخبركم عنّى وعمّا وليت، إنّ صاحبىّ الّلذين كانا قبلى ظلما أنفسهما، ومن كان منهما بسبيل
__________
[1] ك والطبرى: «وهبوا» .
[2] ك: «الأدبار» .(19/476)
احتسابا، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعطى قرابته، فأنا فى رهط أهل عيلة، وقلّة معاش، فبسطت يدى فى شىء من ذلك المال لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فأمرى لأمركم تبع.
فقالوا: أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفا. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين.
ولمّا رأى معاوية ما النّاس فيه قال لعثمان: اخرج معى إلى الشام فإنّهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك ما لا قبل لك به، فقال: لا أبيع جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وإن كان فيه قطع خيط عنقى.
قال: فأبعث إليك جندا منهم يقيمون معك لنائبة إن نابت المدينة، فقال: لا أضيّق على جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
والله إنك لتغتالنّ، فقال: حسبى الله ونعم الوكيل.
وخرج معاوية، فمرّ بنفر من المهاجرين؛ فيهم علىّ وطلحة والزّبير وعلى معاوية ثياب سفره، فقام عليهم، فقال: إنّكم قد علمتم أنّ هذا الأمر كان النّاس يتغالبون عليه حتّى بعث الله نبيّه، فكانوا متفاضلين بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم، والنّاس لهم تبع، وإن طلبوا الدّنيا بالتغالب سلبوا ذلك وردّه الله إلى غيرهم، وإنّ الله على البدل لقادر، وإنى قد خلّفت(19/477)
فيكم شيخا، فاستوصوا به [خيرا] [1] ، وكاتفوه تكونوا أسعد منه بذلك.
وودّعهم ومضى إلى الشّام.
فقال علىّ رضى الله تعالى عنه: كنت أرى فى هذا خيرا.
فقال الزّبير: والله ما كان قطّ أعظم فى صدرك وصدورنا منه اليوم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
[1] من ص.(19/478)
سنة خمس وثلاثين
ذكر مسير من سار إلى عثمان رضى الله عنه من أهل الأمصار قال [1] : ولمّا فصل الأمراء عن المدينة، وقدموا على أمصارهم وذلك فى سنة خمس وثلاثين، وكان المنحرفون عن عثمان قد اتّعدوا يوما يخرجون فيه بالأمصار جميعا إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيّأ لهم ذلك. ولمّا رجع الأمراء ولم يتمّ لهم الوثوب تكاتبوا فى القدوم إلى المدينة، لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء، لتطير فى النّاس فخرج المصريّون وفيهم الرحمن بن عديس البلوىّ فى خمسمائة.
وقيل: ستّمائة، وقيل: فى ألف، وفيهم كنانة بن بشر الّليثى، وسوادان بن حمران السّكونىّ، وعليهم جميعا الغافقىّ بن حرب العكّىّ.
وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدىّ، والأشتر النّخعىّ، وزياد بن النّضر الحارثىّ، وعبد الله بن الأصمّ العامرىّ، وهم عداد أهل مصر.
وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة العبدىّ، وذريج ابن عبّاد العبدىّ، وبشر بن شريح القيسى، وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.
__________
[1] الطبرى 4: 340 وما بعدها، ابن الأثير 3: 77 وما بعدها.(19/479)
فخرجوا جميعا فى شوّال، وأظهروا أنّهم يريدون الحجّ، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم فى طلحة، وتقدّم ناس من أهل الكوفة فنزلوا على الأعوص وهواهم فى الزّبير، وجاءهم ناس من أهل مصر وهواهم فى علىّ، ونزل عامّتهم بذى المروة.
فاجتمع نفر من أهل مصر وأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، وأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزّبير، واجتمعوا بهم فكلّ طردهم وأبعدهم، فعادوا إلى أصحابهم.
وقيل: إنّ عثمان لما بلغه نزولهم بذى خشب، جاء إلى علىّ وكلّمه فى ردّهم، فقال علىّ: على أىّ شىء أردّهم؟ فقال عثمان: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لى.
فركب علىّ ومحمد بن مسلمة وابو المضرّس وكلّموهم فى الرّجوع، فرجعوا، فعاد علىّ إلى عثمان برجوعهم، فسرّ بذلك.
فلمّا فارقه جاء مروان بن الحكم إلى عثمان من الغد فقال له:
تكلّم وأعلم النّاس أنّ أهل مصر رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن أميرهم كان باطلا قبل أن يأتى النّاس من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع ردّه، ففعل عثمان، فلمّا خطب النّاس قال عمرو بن العاص: اتّق الله يا عثمان، فإنّك قد ركبت أمورا وركبناها معك، فتب إلى الله نتب.
فناداه عثمان: وانّك هنالك! قملت والله جببتك، منذ عزلتك(19/480)
عن العمل، فنودى من ناحية أخرى: تب إلى الله، فرفع رأسه وقال:
اللهمّ إنى أوّل تائب. وخرج عمرو بن العاص حتّى أتى فلسطين.
وفى رواية عن علقمة بن وقّاص: إنّ عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب، فقال: يا عثمان، إنّك قد ركبت بالنّاس النّهابير وركبوها، فتب إلى الله وليتوبوا. فالتفت إليه عثمان وقال: وإنّك لهنا يابن النابغة! ثمّ رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله، اللهمّ أنا أوّل تائب إليك.
قال ابن الأثير الجزرىّ: وقيل [1] : إنّ عليّا لمّا رجع من عند المصريّين بعد رجوعهم أتى عثمان، فقال: تكلّم كلاما يسمعه النّاس منك، ويشهدون عليك ويشهد الله على ما فى قلبك من النّزوع والإنابة [2] ؛ فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن أن يجىء ركب آخر من الكوفة والبصرة، فتقول: يا علىّ، اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتنى قد قطعت رحمك، واستخففت بحقّك.
فخرج عثمان فخطب خطبة نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التّوبة، وقال أنا أول من اتّعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلى نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم فليروا رأيهم، فو الله لئن ردّنى الحقّ عبدا لأستنّ بسّنة العبد، ولأذلّنّ ذلّ العبد، وما عن الله مذهب إلّا إليه، فو الله لأعطينّكم [3] الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه، ولا أحتجب عنكم.
__________
[1] تاريخه 3: 82.
[2] ابن الأثير: «الأمانة» .
[3] ك: «لأعطيتم» .(19/481)
فرقّ النّاس وبكوا حتّى أخضلت [1] لحاهم، وبكى هو أيضا، فلمّا نزل وجد مروان وسعيد بن العاص ونفرا من بنى أميّة فى منزله، لم يكونوا شهدوا خطبته.
فلمّا جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟
فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان: لا، بل اصمت، فإنّهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالة لا ينبغى له أن ينزع عنها.
فقال لها مروان: ما أنت وذاك؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت: مهلا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبى وهو غائب تكذب عليه! وإنّ أباك لا يستطيع أن يدفع عنه. أما والله لولا أنّه عمّه، وأنّه يناله غمّه لأخبرتك عنه بما لم أكذب. قال:
فأعرض عنها مروان، وقال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أسكت؟
قال: تكلّم، فقال: بأبى أنت وأمّى! والله لوددت أنّ مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع، فكنت أوّل من رضى بها، وأعان عليها؛ ولكنّك قلت ما قلت حين قد بلغ الحزام الطّبيين، وبلغ السّيل الزّبى، وحين أعطى الخطّة الذّليلة الذّليل، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها، أحسن من توبة يخاف عليها، وأنت إن شئت تقرّ بالتّوبة، ولم تقرّ بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من النّاس.
فقال عثمان: فاخرج إليهم وكلّمهم، فإنّى أستحيى أنّ أكلّمهم، فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال:
__________
[1] أخضلت: ابتلت.(19/482)
ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنّكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه! إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنّا، والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منّا أمر لا يسرّكم، ولا تحمدوا غبّ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنّا والله ما نحن بمغلوبين على ما فى أيدينا.
فرجع النّاس، وأتى بعضهم عليّا فأخبره الخبر، فأقبل على عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال:
نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للنّاس؟ قال: نعم، فقال علىّ.
أى عباد الله، يا للمسلمين! إنّى إن قعدت فى بيتى قال لى: تركتنى وقرابتى قرابتى وحقّى، وإنّى إن تكلّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث يشاء، بعد كبر السّنّ، وصحبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقام مغضبا حتّى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلّا بتحرّفك عن دينك، وعن عقلك، مثل جمل الظّعينة. يقاد حيث يشاء ربّه. والله ما مروان بذى رأى فى دينه ولا نفسه، ولا وايم الله إنّى لأراه يوردك ثمّ لا يصدرك، وما أنا عائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على رأيك.
فلمّا خرج علىّ دخلت على عثمان امرأته نائلة فقالت: قد سمعت قول علىّ لك، وليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء قال: فما أصنع؟ قالت: تتّقى الله، وتتّبع سنّة صاحبيك؛ فإنّك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند النّاس قدر ولا هيبة(19/483)
ولا محبّة؛ وإنّما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علىّ فاستصلحته فانّ له قرابة [منك] [1] ، وهو لا يعصى.
فأرسل عثمان إلى علىّ فلم يأته وقال: قد أعلمته أنّى غير عائد، فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، فجلس بين يدى عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة، فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف، فأسوئ وجهك، فهى والله أنصح لى منك، فكفّ مروان.
وأتى عثمان إلى علىّ بمنزله ليلا وقال له: إنّى غير عائد، وإنّى فاعل، فقال له علىّ: بعد ما تكلّمت على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، فخرج مروان إلى النّاس يشتمهم على بابك ويؤذيهم! فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتنى وجرأت النّاس علىّ، فقال له علىّ: والله إنّى لأكثر النّاس ذبّا عنك؛ ولكنّى كلّما جئت بشئ أظنّه لك رضا، جاء مروان بأخرى، فسمعت قوله، وتركت قولى. ولم يعد علىّ يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فغضب غضبا شديدا حتّى دخلت الرّوايا على عثمان رضى الله عنه. والله أعلم.
__________
[1] من ص.(19/484)
ذكر مقتل عثمان رضى الله عنه
ولمّا [1] عاد المصريّون وغيرهم، ظنّ أنّ الفتنة قد ركدت، والبلية قد سكنت، فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتّكبير فى نواحيها، وقد عاد القوم، فجاءهم أهل المدينة وفيهم علىّ، فقال: ما ردّكم بعد ذهابكم! وقيل: إنّ الّذى سألهم محمّد بن مسلمة، فأخرجوا صحيفة فى أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصّدقة، ففتّشنا متاعه، فوجدنا فيه هذه الصّحيفة، يأمر فيها عامل مصر بجلّد عبد الرحمن بن عديس وغيره، وصلب بعضنا.
قيل: وكان الّذى أخذت منه الصّحيفة أبو الأعور السّلمىّ.
فدخل علىّ ومحمد بن مسلمة على عثمان وأعلموه بما قال القوم، فأقسم بالله ما كتبه ولا علم به. فقال محمد: صدق، هذا من فعل مروان، ودخل عليه المصريّون، فلم يسلّموا عليه بالخلافة، وتكلّموا، فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذّمّة، وأنّه استأثر بالغنائم، فإن قيل له فى ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين، وذكر أشياء ممّا أحدثها عثمان بالمدينة.
وقال: خرجنا من مصر نريد قتلك، فردّنا علىّ ومحمد بن مسلمة، وضمنا لنا النزوع عن كلّ ما تكلّمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا، فرأينا
__________
[1] ابن الأثير 3: 84 وما بعدها، الطبرى 4: 365 وما بعدها.(19/485)
غلامك وكتابك وعليه خاتمك، تأمر بجلدنا والمثلة بنا، وطول حبسنا. فحلف أنّه ما كتب ولا أمر ولا علم فقال محمّد وعلىّ: صدق [عثمان] [1] . قال المصريّون: فمن كتبه؟ قال: لا أدرى. قالوا: فيجترأ عليك، ويبعث غلامك وجمل الصّدقة، وينقش على خاتمك، ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم! [قال: نعم] [2] . قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حقّ، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع.
لضعفك عن هذا الأمر، وغفلتك، وخبث بطانتك، ولا نترك هذا الأمر بيد من يقطع الأمر دونه.
فقال: لا أنزع قميصا ألبسنيه الله؛ ولكنّنى أتوب وأنزع.
قالوا: قد رأيناك تتوب، ثمّ تعود، ولسنا منصرفين حتّى نخلعك، أو نقتلك [3] ، أو تلحق أرواحنا بالله، وإن منعك أهلك وأصحابك قاتلناهم.
فقال: أمّا أن أتبرّأ من خلافة الله فالقتل أحبّ إلىّ من ذلك، وأمّا قتالكم من منعنى فإنّى لا آمر بقتل أحد بقتالكم، فمن قاتل فبغير أمرى.
وكثرت الأصوات واللّغط، فقام علىّ وأخرج القوم ومضى إلى منزله.
__________
[1] من ص.
[2] من ص.
[3] ك: «نتركك» .(19/486)
قال: لمّا رجع أهل مصر، رجع أهل الكوفة وأهل البصرة فكأنّما كانوا على ميعاد [واحد [1]] ؛ فقال لهم علىّ رضى الله عنه: كيف علمتم يا أهل الكوفة، ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر، وقد سرتم مراحل حتّى رجعتم! هذا والله أمر بيّت بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا فى هذا الرجل، ليعتزلنا.
قال: ثم أحاط القوم بعثمان، ولم يمنعوه من الصلاة، ولا منعوا من اجتماع النّاس به وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم، ويأمرهم بالحثّ للمنع عنه، وبعرّفهم ما النّاس فيه، فخرج أهل الأمصار على الصّعب والذّلول.
فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ [2] ، وبعث عبد الله ابن سعد معاوية بن حديج. وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو.
وقام بالكوفة نفر يحضّون على إعانة أهل المدينة، منهم عقبة ابن عمرو، وعبد الله بن أبى أوفى، وحنظلة الكاتب وغيرهم من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ومن التابعين مسروق الأسود وشريح وعبد الله بن عليم وغيرهم.
وقام بالبصرة عمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام ابن عامر وغيرهم من الصحابة.
__________
[1] من ص.
[2] ك: «العنزى» .(19/487)
وقام بالشّام جماعة من الصّحابة والتّابعين، وكذلك بمصر.
قال: ولمّا جاءت الجمعة التى على إثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلّى بالنّاس، ثم قام على المنبر وقال: يا هؤلاء، الله الله، فو الله إنّ أهل المدينة ليعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمّد، فامحوا الخطأ بالصواب.
وقام محمد بن سلمة وقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم ابن جبلة، وقام زيد بن ثابت، فأقعده محمد بن أبى قتيرة [1] ، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا النّاس حتّى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتّى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فأدخل داره، واستقتل نفر من أهل المدينة معه، منهم سعد بن أبى وقّاص، والحسن ابن علىّ وزيد بن ثابت وأبو هريرة، فعزم عليهم عثمان بالانصراف، فانصرفوا، وجاءه علىّ وطلحة والزّبير يعودونه، وعنده جماعة من بنى أميّة، منهم مروان بن الحكم، فقالوا كلّهم لعلىّ: أهلكتنا وصنعت هذا الصّنع! والله لئن بلغت الذى تريد لنمرّن عليك الدّنيا، فقام مغضبا، وعاد هو والجماعة إلى منازلهم.
قال: وصلّى عثمان بالنّاس فى المسجد بعد ما نزلوا به ثلاثين يوما، ثمّ منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ، وتفرّق أهل المدينة فى حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يجلس أحد ولا يخرج إلّا بسيفه؛ ليمتنع به [2] .
__________
[1] ك: «قبيرة» .
[2] ك: «لينتفع» .(19/488)
قال: وفى أثناء ذلك استشار عثمان نصحاءه فى أمره، فأشاروا عليه بالإرسال إلى علىّ فى ردّهم، ويعطيهم ما يرضيهم؛ ليطاولهم حتّى تأتيه أمداده، فقال: إنّهم لا يقبلون التعلّل، وقد كان منّى فى المرّة الأولى ما كان.
فقال مروان: أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنّهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم.
فدعا عليّا وقال له: قد ترى ما كان من أمر النّاس، ولا آمنهم على دمى، فارددهم فإنّى أعطيهم ما يريدون من الحقّ منّى و [من] [1] غيرى.
فقال علىّ: النّاس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، وقد كنت أعطيتهم عهدا فلم تف به، فلا تفردنى هذه المرّة فإنّى معطيهم عليك الحقّ.
قال: أعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج علىّ إلى الناس فقال لهم: إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه، وقد زعم أنّه منصفكم من نفسه ومن غيره، فقال النّاس: قبلنا، فاستوثق منه لنا؛ فإنّا لا نرضى بقول دون فعل، فدخل عليه علىّ فأعلمه، فقال: اضرب بينى وبينهم أجلا يكون لى فيه مهلة، فإنه لا أقدر على ردّ ما كرهوا فى يوم واحد منك. فقال له علىّ: أمّا ما كان بالمدينة فلا أجل لك فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك.. قال: نعم، فأحلّنى فيما فى المدينة ثلاثة أيّام، فأجابه إلى ذلك.
وكتب بينهم كتابا على ردّ كلّ مظلمة، وعزل كلّ عامل كرهوه،
__________
[1] من ص.(19/489)
فكفّ الناس عنه، فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسّلاح، واتخذ جندا. فلمّا مضت الأيّام الثلاثة ولم يغيّر شيئا ثار به القوم.
وخرج عمرو بن حزم إلى المصريّين فأعلمهم الخبر، وهم بذى خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عمّاله، وردّ مظالمهم.
فقال: إن كنت أستعمل من أردتم، وأعزل من كرهتم، فلست فى شىء من الأمر، والأمر أمركم. فقالوا: والله لتفعلنّ أو لتخلعنّ أو لتقتلنّ. فأبى عليهم، فحصروه، واشتد الحصار، فأرسل إلى علىّ وطلحة والزّبير فحضروا، فأشرف عليهم وقال:
يأيّها الناس، اجلسوا، فجلس المحارب والمسالم، ثم قال: يا أهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدى، ثم قال: أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، وأن يجمعكم على خيركم! أتقولون إن الله لم يستجب لكم، وهنتم عليه، وأنتم أهل حقّه! أم تقولون:
هان على الله دينه، فلم يبال من ولّى، والدّين لم يتفرّق أهله حينئذ [1] ؟
أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، إنما كان عن مكابرة فوكّل الله الأمّة إذ عصته ولم يشاوروا فى الإمامة! أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمرى! وأنشدكم بالله! أتعلمون لى سابقة خير وقدم خير قدّم الله لى ما يوجب على كلّ من جاء بعدى أن يعرفوا لى فضلها، فمهلا لا تقتلونى فإنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر
__________
[1] ك: «يومئذ» .(19/490)
بعد إيمانه، أو قتل نفسا بغير حق. فإنكم إن قتلتمونى وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدا.
قالوا: أمّا ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر، ثم ولّوك فإنّ كلّ ما صنع الله الخيرة، ولكن الله جعلك بليّة ابتلى بها عباده.
وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد كنت كذلك، وقد كنت أهلا للولاية، ولكن أحدثت ما علمته، ولا نترك إقامة الحقّ عليك مخافة الفتنة عاما [1] قابلا.
وأمّا قولك: إنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد فى كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت، قتل من سعى فى الأرض فسادا، أو قتل من بغى، ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شىء من الحقّ ومنعه وقاتل دونه. وقد بغيت ومنعت الحقّ وحلت دونه، وكابرت عليه، ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسّكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنّك لم تكابرنا عليه فإنّ الّذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنّما يقاتلون لتمسّك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك.
فسكت عثمان ولزم الدار، وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا، إلا الحسن بن علىّ، ومحمد بن طلحة، وعبد الله بن الزّبير وأشباها لهم، واجتمع إليهم ناس كثير، وكانت مدة الحصار أربعين يوما، فلمّا مضت ثمانى عشرة ليلة، قدم ركبان من الأمصار فأخبروا خبر من تهيّأ لهم من الجنود، فحالوا بين النّاس وبينه، ومنعوه
__________
[1] ك: «عاملا» تحريف.
[2] ك: «لتقيتك» .(19/491)
كلّ شىء حتّى الماء، فأرسل إلى علىّ سرّا، وإلى طلحة والزّبير، وإلى أزواج النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم، يقول لهم: إنّهم قد منعونى الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا، فكان أوّلهم إجابة علىّ، وأمّ حبيبة، فجاء علىّ فى الناس فقال: يأيّها الناس، إنّ الّذى تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين، ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرّجل الماء ولا المادّة؛ فإنّ الرّوم وفارس لتأسر فتطعم، وتسقى.
فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، فرمى بعمامته فى الدّار بأنّى قد نهضت ورجعت، وجاءت أمّ حبيبة على بغلة لها إداوة [1] ، فضربوا وجه بغلتها فقالت: إنّ وصايا بنى أميّة عند هذا الرّجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل، فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسّيف، فنفرت، وكادت تسقط عنها، فتلقّاها النّاس، ثمّ ذهبوا بها إلى منزلها.
فأشرف عثمان يوما، فسلّم عليهم، ثم قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنّى اشتريت بئر رومة من مالى ليستعذب بها، فجعلت رشائى فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: فلم تمنعونى أن أشرب منها حتّى أفطر على ماء الملح! ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّى اشتريت أرض كذا فزدتها [2] فى المسجد؟ قيل: نعم.
قال: فهل علمتم أنّ أحدا منع أن يصلّى فيه قبلى؟ ثم قال: أنشدكم الله! هل تعلمون أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنّى كذا وكذا أشياء فى شأنه؟
__________
[1] الإدواة: الإناء.
[2] ك: «فزودتها» .(19/492)
ففشا النّهى فى النّاس، يقولون: مهلا عن أمير المؤمنين فقام الأشتر: فقال: لعلّه قد مكر به وبكم.
قال: وبلغ طلحة والزبير ما لقى علىّ وأمّ حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقى عثمان يسقيه آل حزم فى الغفلات.
قال: وخرجت عائشة رضى الله عنها إلى الحج، فاستتبعت أخاها محمدا، فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ.
فقال له حنظلة الكاتب: تستتبعك أمّ المؤمنين فلا تتبعها، وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ! وإنّ هذا الأمر إن صار إلى التّغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول وبالله المستعان، وعليه التّكلان:
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلّا ذليلا
وكانوا كاليهود أو كالنّصارى ... سواء كلّهم ضلّوا السّبيلا
قال: ثم أشرف عثمان على النّاس، واستدعى عبد الله بن عبّاس، فأمره أن يحجّ بالنّاس، وكان ممن لزم الباب، فانطلق.
قال: ولمّا رأى المصريّون أنّ أهل الموسم يريدون قصدهم بعد الحجّ مع ما يليهم من مسير أهل الأمصار، قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الّذى وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرّجل، فيشتغل النّاس عنّا. فتقدّموا إلى الباب، فمنعهم الحسن، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان(19/493)
وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصّحابة، واجتلدوا فزجرهم عثمان، وقال: أنتم فى حلّ من نصرتى، فأبوا، ففتح الباب ليمنعهم، فلمّا خرج ورآه المصريّون رجعوا، فركبهم هؤلاء، وأقسم عثمان على الصّحابة ليدخلنّ، فدخلوا، فأغلق الباب دون المصريّين فثاروا إلى الباب، وجاءوا بنار، فأحرقوا السّقيفة التّى على الباب، وثار بهم أهل الدار، وعثمان يصلّى، قد افتتح طه، فما شغله ما سمع حتّى أتى عليها، فلمّا فرغ جلس إلى المصحف فقرأ: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
[1] قال: ثمّ قال عثمان للحسن: إن أباك الآن لفى أمر عظيم من أمرك، فأقسمت عليك لما خرجت عليه، فتقدّموا فقاتلوا، ولم يستمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق الثّقفىّ حليف بنى زهرة وكان تعجّل الحج فى عصابة لينصروا عثمان وهو معه فى الدار، وارتجز.
قد علمت ذات القرون الميل ... والحلى والأنامل الطّفول
لتصدقن بيعتى خليلى ... بصارم ذى رونق مصقول
لا أستقيل إذ أقلت قيلى
وحكى أبو عمر [2] أنّ المغيرة بن الأخنس قال لعثمان حين أحرقوا بابه:
والله لا قال الناس عنّا: إنّا خذلناك، وخرج بسيفه وهو يقول:
لمّا نهّدمت الأبواب واحترقت ... تيمّمت منهنّ بابا غير محترق
__________
[1] سورة آل عمران 173.
[2] الاستيعاب 1444.(19/494)
حقا أقول لعبد الله آمره ... إن لم تقاتل لدى عثمان فانطلق
والله أتركه ما دام بى رمق ... حتّى يزايل بين الرأس والعنق
هو الإمام فلست اليوم خاذله ... إنّ الفرار علىّ اليوم كالسّرق
وحمل على النّاس فضربه رجل على ساقة فقطعها، ثم قتله، فقيل إنّ الّذى قتله تقطّع جذاما [1] بالمدينة.
وقال قتادة: لمّا أقبل أهل مصر إلى المدينة فى شأن عثمان رأى رجل منهم فى المنام كأنّ قائلا يقول له: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنّار، وهو لا يعرف المغيرة، رأى ذلك ثلاث ليال، فجعل يحدّث أصحابه. فلمّا كان يوم الدّار. خرج المغيرة فقاتل [2] ، والرجل ينظر إليه فقتل ثلاثة، فلمّا قتلهم وثب إليه الرجل فحذفه، فأصاب رجله، ثم ضربه حتّى قتله، ثم قال: من هذا؟ فقالوا: المغيرة بن الأخنس، فقال: لا أرانى إلّا صاحب الرؤيا المبشّر بالنّار، فلم يزل بشرّ حال حتّى هلك.
وخرج الحسن بن علّى وهو يقول:
لا دينهم دينى ولا أنا منهم ... حتّى يسير إلى طمار شمام [3]
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... وردّ أحزابا على رغم معدّ
__________
[1] فى الأصول: «خذاما» ، وما أثبته من الاستيعاب.
[2] الاستيعاب: «يقاتل» .
[3] طمار: المكان العالى من الجبل وغيره. وشمام: اسم جبل بالعالية.(19/495)
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنّا غداة الرّوع فى الدّار نصرة ... نشافههم بالضّرب والموت ثاقب
وكان آخر من خرج عبد الله بن الزّبير، وأقبل أبو هريرة والنّاس محجمون، فقال: هذا يوم طاب فيه الضّرب، ونادى: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
[1] .
وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله، فقال: يا قوم، لا تسلّوا سيف الله فيكم، فو الله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسّيف، ويلكم! مدينتكم محفوفة بالملائكة، فإن قتلتموه ليتركنّها.
فقالوا: يابن اليهودية، ما أنت وهذا! فرجع عنهم.
قال: ثمّ اقتحموا على عثمان داره، من دار عمرو بن حزم حتّى ملئوها ولم يشعر من بالباب منهم، ففى ذلك يقول الأحوص يهجو آل حزم.
لا ترثينّ لحزمىّ رأيت به ... ضرّا ولو طرح الحزمىّ فى النّار [2]
الباخسين لمروان بذى خشب ... والمدخلين على عثمان فى الدّار
قال: ولمّا صاروا فى الدّار ندبوا رجلا ليقتله، فدخل عليه فقال: اخلعها ونتركك. قال: لست خالعا قميصا كساينة الله تعالى حتّى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشّقاوة، فخرج
__________
[1] سورة غافر 41.
[2] ديوانه 132، وروايته: «لا تأوين» .(19/496)
عنه، فأدخلوا عليه رجلا من بنى ليث، فقال: لست بصارحبى لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا، ولن تضيّع، فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إنّ النّبىّ صلّى الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما، فرجع وفارق أصحابه.
ودخل عليه جماعة كلّهم يرجع، آخرهم محمد بن أبى بكر، فلمّا خرج ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقى، فضربه الغافقىّ بحديدة، وضرب المصحف برجله، فدار المصحف، واستقرّ بين يديه، وجاء سودان ليضربه فأكبّت عليه نائلة بنت الفرافصة، واتّقت السيف بيدها فقطع أصابعها وشيئا من الكفّ، ونصف الإبهام فولّت، فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجز، وضرب عثمان فقتله.
وقيل: إنّ الّذى قتله كنانة بن بشر التّجيبىّ، وكان عثمان قد رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فى تلك الليلة وهو يقول له: إنّك تفطر اللّيلة عندنا.
ولما قتل قطر من دمه على المصحف على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ.
قال: ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، فقال عثمان:
من كفّ يده فهو حرّ، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما فى البيت، وخرجوا، وأغلقوا الباب على ثلاثة قتلى.(19/497)
فلمّا خرجوا وثب غلام لعثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النّساء، وأخذ كلثوم التّجيبىّ ملاءة كانت على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وانتهب القوم بيت المال.
قال: ووثب عمرو بن الحمق على صدر عثمان وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وأراد قطع رأسه، فوقعت نائلة وأمّ البنين عليه فصحن وضربن الوجوه، فقال ابن عديس: اتركوه، وأقبل عمير ابن ضابئ البرجمىّ فوثب على عثمان، فكسر ضلعا من أضلاعه، وقال له: سجنت أبى حتّى مات فى السّجن.
وكان قتله يوم الجمعة لثمانى عشرة، أو سبع عشرة ليلة خلت من ذى الحجّة، سنة خمس وثلاثين. ذكره المدائنى عن أبى معشر عن نافع، وعن أبى عثمان النّهدىّ؛ أنّه قتل وسط أيّام التّشريق.
وقال ابن اسحاق: قتل عثمان على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرا، واثنين وعشرين يوما من مقتل عمر بن الخطّاب، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من متوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الواقدىّ رحمه الله: قتل يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذى لحجة يوم التروية. وقد قيل: إنه قتل يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذى الحجة.
روى هذه الأقوال كلّها أبو عمر بن عبد البرّ.
__________
[1] من ص.
[2] الاستيعاب 1048.(19/498)
واختلف فى مدة الحصار. فقال الواقدىّ: حاصروه تسعة وأربعين يوما. وقال الزّبير بن بكّار: حاصروه شهرين وعشرين يوما؛ وقيل غير ذلك.
وقد تقدّم أنّه رضى الله عنه صلّى بالنّاس بعد أن نزلوا به ثلاثين يوما، ثم منعوه الصّلاة، وصلّى بالنّاس أميرهم الغافقىّ.
وقد قيل: إنّه لمّا منع عثمان الصلاة جاء سعد القرظ وهو المؤذّن إلى علىّ بن أبى طالب، فقال: من يصلّى بالنّاس؟ فقام: خالد بن زيد، وهو أبو أيّوب الأنصارىّ، فصلّى أياما، ثم صلّى علىّ بعد ذلك بالنّاس.
وقيل: بل أمر علىّ سهل بن حنيف فصلّى بالنّاس من أوّل ذى الحجّة إلى يوم العيد، ثم صلّى علىّ بالنّاس العيد، وصلّى بهم حتى قتل عثمان. والله أعلم.
حكى أبو عمر بن عبد البرّ فى مقتل عثمان، قال: كان [1] أول من دخل عليه الدار محمّد بن أبى بكر، فأخذ بلحيته فقال: دعها يابن أخى، فو الله لقد كان أبوك يكرمها، فاستحيا وخرج، ثم دخل عليه رومان بن سرحان، رجل أزرق قصير مجدور، عداده فى مراد، وهو من ذى أصبح، معه خنجر، فاستقبله به، وقال: على على أىّ دين أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل ولكنى عثمان ابن عفّان، وأنا على ملّة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
قال: كذبت، وضربه على صدغه فقتله، فخرّ، فأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة.
__________
[1] الاستيعاب 1044: 1045.(19/499)
ودخل رجل من أهل مصر معه السّيف مصلتا فقال: والله لأقطعنّ أنفك، فعالج المرأة فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السّيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان يقال له رباح، ومعه سيف عثمان: أعنّى على هذا، وأخرجه، فضربه الغلام بالسيف فقتله.
قال: وأقام عثمان يومه ذلك مطروحا إلى اللّيل، فحمله رجال على باب ليدفنوه، فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبرا قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلّى عليه جبير بن مطعم.
وقال محمد بن طلحة: حدّثنى كنانة مولى صفية بنت حيىّ بن أخطب، فقال: شهدت مقتل عثمان، فخرج من الدار أمامى أربعة من شباب قريش مضرّجين بالدّم، محمولين، كانوا يذودون عن عثمان وهم الحسن بن علىّ، وعبد الله بن الزّبير، ومحمد بن حاطب، ومروان ابن الحكم.
قال محمد بن طلحة: فقلت له: هل ندى محمّد بن أبى بكر بشىء من دمه؟ فقال: معاذ الله، دخل عليه فقال له عثمان: يابن أخى لست بصاحبى، وكلّمه كلاما فخرج، ولم يندّ بشىء من دمه.
قال: فقلت لكنانة: من قتله؟ قال: رجل من أهل مصر، يقال له: جبلة بن الأيهم، ثم طاف بالمدينة ثلاثا يقول: أنا قاتل نعثل.
وروى أبو عمر أيضا بسنده إلى مالك بن أنس، قال [1] :
لمّا قتل عثمان ألقى على المزبلة ثلاثة أيّام، فلمّا كان فى اللّيل أتاه اثنا عشر رجلا، منهم حويطب بن عبد العزّى وحكيم بن حزام،
__________
[1] الاستيعاب 1047.(19/500)
وعبد الله بن الزّبير، وجدىّ بن مالك بن أبى عامر، فاحتملوه، فلمّا صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه ناداهم قوم من بنى مازن: والله لئن دفنتموه هاهنا، لنخبرنّ النّاس غدا، فاحتملوه، وكان على باب، وإنّ رأسه كان على الباب يقول: طق طق حتّى صاروا به إلى حشّ كوكب [1] فاحتفروا له، وكانت عائشة بنت عثمان معها مصباح فى حقّ [2] ، فلمّا أخرجوه ليدفنوه صاحت، فقال لها ابن الزّبير: والله لئن لم تسكتى لأضربنّ الذى فيه عيناك، فسكتت، فدفن.
قال مالك: وكان عثمان يمرّ بحشّ كوكب فيقول: إنّه سيدفن هاهنا رجل صالح. [3] .
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أرادوا أن يصلّوا على عثمان رضى الله عنه فمنعوه، فقال أبو جهم بن حذيفة: دعوه، فقد صلّى عليه الله ورسوله.
وقد قيل: إنّ علىّ بن أبى طالب، وطلحة، والزبير، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وعامر بن نمير من أصحابه شهدوا جنازته.
وقيل: إنه كفّن فى ثيابه ولم يغسل.
واختلف فى سنة يوم قتل.
فقال ابن اسحاق: قتل وهو ابن ثمانين سنة. وقال غيره:
قتل وهو ابن ثمان وثمانين، وقيل: تسعين.
وقال قتادة: قتل وهو ابن ستّ وثمانين سنة.
__________
[1] حش كوكب: مكان خارج البقيع.
[2] الاستيعاب: فى جرة.
[3] الاستيعاب 1048.(19/501)
وقال الواقدىّ: لا خلاف عندنا أنه قتل، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، وهو قول أبى اليقظان.
ودفن ليلا بموضع يقال له: حشّ كوكب، وكوكب رجل من الأنصار (الحشّ: البستان) ، كان عثمان قد اشتراه وزاده فى البقيع، وهو أوّل من قبر فيه.
قال: وقد قيل: إنه صلّى عليه عمرو بن عثمان ابنه، وقيل: بل صلّى عليه حكيم بن حزام، وقال: بل صلّى عليه المسور بن مخرمة. وقيل:
بل جبير بن مطعم. وقيل: بل مروان بن الحكم، وقيل: كانوا خمسة أو ستة وهم: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم ابن حذيفة، ونيار بن مكرم، وزوجتاه نائلة وأمّ البنين بنت عيينة.
ونزل قبره دينار، وأبو جهم، وجبير، وكان حكيم ونائلة وأمّ البنين يدلونه، فلمّا دفنوه غيّبوا قبره.
وروى أبو الفرج الاصفهانى بسند رفعه إلى نائلة بنت الفرافصه:
كتبت [1] إلى معاوية، وبعثت بقميص عثمان رضى الله عنه مع النعمان بن بشير وعبد الرحمن بن حاطب بن أبى بلتعة:
من نائلة بنت الفراقصة، إلى معاوية بن أبى سفيان:
أمّا بعد، فإنّى أذكّركم بالله الذى أنعم عليكم، وعلّمكم الإسلام وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من غواية الكفر [2] ، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم النعمة، فأنشدكم الله تعالى، وأذكّركم حقه
__________
[1] الأغانى 16: 324 وما بعدها.
[2] الأغانى: «من الكفر» .(19/502)
وحق خليفته أن تنصروه بعزمة الله عليكم، فإنه قال تعالى:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ.
وإن أمير المؤمنين بغى عليه، ولو لم يكن له عليكم [حقّ] [1] إلا حقّ الولاية ثمّ أتى عليه بما أتى لحقّ على كلّ مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه فى الإسلام، وحسن بلائه؛ فإنه أجاب داعى الله، وصدّق كتابه ورسوله، والله أعلم به إذا انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا، وشرف الآخرة.
وإنّى أقصّ عليكم خبره، لأنّى مشاهدة أمره كلّه حتى أفضى إليه.
إن أهل المدينة حصروه فى داره يحرسونه ليلهم ونهارهم، قياما على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شىء قدروا عليه حتى منعوه الماء يحضرونه الأذى، ويقولون له الإفك. فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبى بكر وعمّار بن ياسر، وكان علىّ مع المحرّضين [2] للمصريّين فى أهل المدينة، ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذى أمر الله تبارك وتعالى به، فظلت تقاتل خزاعة، وبكر، وسعد بن بكر، وهذيل، وطوائف من مزينة، وجهينة، [3] وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكنّى قد سمّيت الّذين كانوا أشدّ الناس عليه فى أول أمره وآخره، ثمّ إنه رمى بالنبل والحجارة، فقتل ممّن كان فى الدار ثلاثة نفر، فأتوه
__________
[1] من ص والأغانى.
[2] ك: «الحضريين» تصحيف، صوابه فى ص والأغانى.
[3] ك: «هجين» تصحيف.(19/503)
يصرخون إليه ليأذن لهم فى القتال، فنهاهم عنه، وأمرهم أن يردّوا إليهم نبلهم فردّوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلّا جرأة فى الأمر وإغراقا، ثم أحرقوا باب الدار.
فجاءه نفر من أصحابه وقالوا: إنّ فى المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر النّاس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتّى يأتوك، فانطلق، وقد كان نفر من قريش على عامّتهم السّلاح، فلبس درعه، وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعا، فوثب عليه القوم، فكلّمهم الزبير، وأخذ عليهم الميثاق فى صحيفة، بعث بها إلى عثمان رضى الله عنه: إنّ عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعرّوه بشىء، فكلّموه وتحرّجوا، فوضع السلاح فلم يكن إلّا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبى بكر؛ حتى أخذوه بلحيته ودعوه باللّقب، فقال: أنا عبد الله وخليفته، فضربوه فى رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه فى صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدّم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت فى العظم، فسقطت عليه، وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا به، فأتتنى بنت شيبة بن ربيعة، فألقت بنفسها معى عليه، فوطئنا وطئا شديدا وعرّيبا من ثيابنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم، فقتلوه رحمه الله فى بيته، وعلى فراشه.
وقد أرسلت إليكم بثوبه، وعليه دمه، وإنّه والله لئن كان أثم من قتله لا يسلم من خذله، فانظروا أين أنتم من الله عزّ وجلّ، فإنّا نشتكى ما مسّنا إليه، ونستنفر وليّه، وصالح عباده. ورحمة(19/504)
الله على عثمان، ولعن الله من قتله، وصرعهم فى الدّنيا والآخرة مصارع الخزى والمذلّة، وشفى منهم الصّدور.
فحلف رجال من أهل الشام ألّا يطئوا النساء حتّى يقتلوا قتلة عثمان، أو تذهب أرواحهم. وكان أمرهم فى القتال ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة إلا اثنى عشر يوما، قاله ابن إسحاق. وقال غيره: إلّا ثمانية أيام. وقيل: إلّا ستّة عشر يوما.
روى عن عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها، أنها قالت، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ادعوا لى بعض أصحابى، فقلت:
أبو بكر؟، قال لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت: ابن عمّك علىّ؟ قال: لا، فقلت: عثمان؟ قال: نعم
. فلمّا جاء قال لى بيده [1] فتنحّيت، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسارّه ولون عثمان متغيّر، فلمّا كان يوم الدّار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال:
لا، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلىّ عهدا، وأنا صابر نفسى عليه.
وعن موسى بن طلحة، قال: أتينا عائشة رضى الله عنها لنسألها عن عثمان فقالت: اجلسوا أحدّثكم عمّا جئتم له: إنّا عتبنا على عثمان رضى الله عنه فى ثلاث خلال- ولم تذكرهنّ- فعمدوا إليه حتّى إذا ماصوه كما يماص الثوب اقتحموا عليه الفقر الثّلاثة:
حرمة البيت الحرام، والشهر الحرام، وحرمة الخلافة؛ ولقد قتلوه، وإنّه لمن أوصلهم للرّحم وأتقاهم لربّه.
__________
[1] ك: «بعده» ، والأصوب ما أثبته من ص.(19/505)
وعن أبى جعفر الأنصارىّ قال: دخلت مع المصريّين على عثمان، فلمّا ضربوه خرجت أشتدّ، حتّى ملأت فروجى عدوا، حتّى دخلت المسجد؛ فإذا رجل جالس فى نحو عشرة، عليه عمامة سوداء، فقال: ويحك! ما وراءك؟ قال: قلت: قد والله فرغ من الرّجل، قال: تبّا لكم آخر الدّهر! فنظرت، فإذا هو علىّ رضى الله عنه.
وروى عن مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عثمان يخطب يقول: يأيّها الناس، ما تنقمون علىّ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرا! قال الحسن: وسمعت مناديا ينادى: يأيّها النّاس، اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، حتّى والله سمعته يقول:
اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل، واغدوا على السّمن والعسل.
قال الحسن: أرزاق دارّه، وخير كثير، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلّا يودّه وينصره، فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق، ولكنّهم لم يصبروا، وسلّوا السيف مع من سلّ، فصار عن الكفّار مغمدا، وعلى المسلمين مسلولا إلى يوم القيامة.
وعن محمد بن سيرين، قال: كثر المال فى زمن عثمان حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم.
وقد ذكر بعض من أرّخ أسبابا كثيرة، جعلها من أقدم على قتل عثمان ذريعة له، وتمسّك بها، أغضينا عن ذكرها، وهو رضى الله عنه مبرّأ من كلّ سوء ونقص، فلنذكر خلاف ذلك.(19/506)
ذكر أزواج عثمان وأولاده
تزوّج رضى الله عنه رقيّة، وأمّ كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له رقيّة عبد الله، هلك. وتزوّج فاخته بنت غزوان، فولدت له رقيّة عبد الله الأصغر. وتزوّج أمّ عمرو بنت جندب الدّوسيّة، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر، ومريم، وتزوّج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزوميّة، ولدت له الوليد، وسعيدا، وأم سعيد، وتزوّج أمّ البنين بنت عيينة بن حصن الفزاريّة، فولدت له عبد الملك، هلك. وتزوّج رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة وأمّ أبان، وأمّ عمرو، وتزوّج نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة.
وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ فى سبب زواج عثمان نائلة سندا رفعه إلى خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: تزوّج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هندا بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه: قد بلغنى أنّك تزوّجت امرأة، فاكتب إلىّ نسبها وجمالها، فكتب إليه: أما بعد، فإنّ نسبها أنّها بنت الفرافصة بن الأحوص، وجمالها أنّها بيضاء مديدة.
فكتب إليه: إنّ كان لها أخت فزوّجنيها، فكتب سعيد، وبعث إلى الفرافصة يخطب إحدى بناته على عثمان رضى الله عنه، فأمر الفرافصة ابنه ضبّا فزوّجها إيّاه، وكان ضبّ مسلما، والفرفصة(19/507)
نصرانيا، فلمّا أرادوا حملها، قال لها أبوها: يا بنتى إنّك تقدمين على نساء من نساء قريش، هنّ أقدر على الطّيب منك، فاحفظى عنّى خصلتين: تكحّلى وتطيّبى بالماء حتّى تكون ريحك ريح من أصابه مطر.
فلمّا قدمت على عثمان قعد على سريره، ووضع لها سريرا حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته فبدا الصّلع، فقال: يا بنت الفرافصة، لا يهولنّك ما ترين من صلعى، فإنّ وراءه ما تحبّين، وقال: إما أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك. فقالت: أمّا ما ذكرت من الصّلع فإنّى من نساء أحبّ بعولتهنّ إليهنّ السادة الصّلع، وأمّا قولك: إمّا أن تقومى إلىّ، وإمّا أن أقوم إليك، فو الله ما تجشّمت من جنبات السّماوة أبعد ممّا بينى وبينك، بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها ودعا لها بالبركة، ثم قال لها:
اطرحى عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعى درعك. فنزعته، ثم قال لها: حلّى إزارك.
فقالت: ذا إليك، فحلّ إزارها، وكانت من أحظى نسائه عنده [1] .
ولدت له مريم. وقيل: ولدت له أمّ البنين بنت عيينة عبد الملك، وعثمة [2] وولدت له نائلة عنبسة، وكان له منها أيضا ابنة تدعى أمّ المؤمنين وأمّ البنين، كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبى سفيان.
وقتل عثمان وعنده رملة بنت شيبة، ونائلة وأمّ البنين، وفاخته، غير أنّه طلّق أمّ البنين وهو محصور.
فهؤلاء أزواجه فى الجاهليّة والإسلام، وأولاده رضى الله تعالى عنه.
__________
[1] الأغانى 16: 323، 324.
[2] ك: «عقبة» .(19/508)
كتابه وقضاته وحجابه وأصحاب شرطته
كاتبه مروان بن الحكم، وقاضيه كعب بن سور، وحاجبه عمران، مولاه، وصاحب شرطته عبد الله بن قنفذ التّميمىّ، وهو أوّل من اتّخذ صاحب شرطة، وكان على الدّيوان وبيت المال زيد بن ثابت.
والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبى ونعم الوكيل.
ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله
كان عمّاله فى هذه السنة على مكّة عبد الله بن الحضرمىّ، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثّقفىّ، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وكان قد خرج منها ولم يولّ عثمان عليها أحدا، وعلى الكوفة أبو موسى الأشعرىّ، وعلى الصّلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزنىّ وسماك الأنصارى، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير ابن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندىّ، وعلى حلوان عتيبة بن النّهّاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النّسير، وعلى الرّىّ وأصفهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة بن عمرو [1] ، وعلى الشّام معاوية بن أبى سفيان. ولمعاوية عمّال وهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد على حمص، وحبيب بن مسلمة الفهرى على قنّسرين، وأبو الأعور السّلمى على الأردنّ، وعلقمة بن حكيم الكنانى على فلسطين وعبد
__________
[1] ك: «عمر» .(19/509)
الله بن قيس الفزارىّ على البحر، وكان عامل عثمان على مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، ثم سار إلى عثمان فى رجب سنة خمس وثلاثين، واستخلف عنه بمصر عقبة بن عامر، فقام محمد ابن أبى حذيفة فى شّوال، وأخرج عقبة، وتأمّر بمصر، وعاد عبد الله ابن سعد فلم يمكنه، فتوجّه إلى عسقلان، ومات بها.
وكان القاضى بمصر عّمار بن قيس بن أبى العاص، ثم مات بعد مقتل عثمان فلم يكن بمصر قاض إلى أيّام معاوية بن أبى سفيان رضى الله تعالى عنهم. والله تعالى أعلم، وهو حسبى ونعم الوكيل.(19/510)
ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر
ولما قتل رضى الله عنه رثاه جماعة، منهم: حسّان بن ثابت وغيره فكان مما قال حسّان بن ثابت:
إن تمس دار ابن أروى اليوم خالية ... باب صريع وباب مخرق خرب [1]
فقد يصادف باغى الخير حاجته ... فيها ويأوى إليها الجود والحسب
وقال أيضا ممّا رثاه به فى أبيات أخرى:
من سرّه الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأدبة فى دار عثمانا [2]
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
صبرا فدى لكم أمّى وما ولدت ... قد ينفع الصبر فى المكروه أحيانا
لتسمعنّ وشيكا فى ديارهم ... الله أكبر واثارات عثمانا
وقد قيل: إنّ البيت الثانى من هذه الأبيات، «ضحّوا بأشمط» ليس له، وقال بعضهم: هو لعمران بن حطان وقال أبو عمر: وقد زاد أهل الشّام فيها أبياتا لم أر لذكرها وجها [3] قال ابن الأثير [4] : يعنى ما فيها من ذكر علىّ رضى الله عنه، وهو:
__________
[1] ديوانه 22.
[2] ديوانه 409.
[3] الاستيعاب 1049.
[4] الكامل 3: 96، 97.(19/511)
يا ليت شعرى وليت الطير تخبرنى ... ما كان شأن علىّ وابن عفّانا [1]
وقال أيضا:
قتلتم ولىّ الله فى جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتد [2]
فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرّشيد المسدّد
وقال كعب بن مالك:
يا للّرجال لأمر هاج لى حزنا ... لقد عجبت لمن يبكى على الدّمن [3]
إنّى رأيت قتيل الله مضطهدا ... عثمان يهدى إلى الأجداث فى كفن
يا قاتل الله قوما كان أمرهم ... قتل الإمام الذكىّ الطيّب الرّدن
لم يقتلوه على ذنب ألمّ به ... إلّا الّذى نطقوا زورا ولم يكن
وقال أيضا- ونسبت لحسّان وقيل: للوليد بن عقبة، والله تعالى أعلم
وكفّ يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أنّ الله ليس بغافل [4]
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال ... عداوة والبغضاء بعد التّواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن النّاس إدبار السّحاب الحوافل
وقال حميد بن ثور الهلالىّ:
إنّ الخلافة لمّا أظعنت ظعنت ... من أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا [5]
__________
[1] ابن الأثير 3: 96.
[2] ديوانه 103.
[3] ديوانه 282.
[4] الاستيعاب 105.
[5] ديوانه 114.(19/512)
صارت إلى أهلها منهم ووارثها ... لمّا رأى الله فى عثمان ما انتهكوا
وقال قاسم بن أميّة بن أبى الصّلت:
لعمرى لبئس الذّبح ضحيتم به ... وخنتم رسول الله فى قتل صاحبه [1]
وقالت زينب بنت الزّبير بن العوّام:
أعطشتم عثمان فى جوف داره ... شربتم كشرب الهيم شرب حميم [2]
وكيف بنا أم كيف بالنّوم بعد ما ... أصيب ابن أروى وابن أمّ حكيم
وقالت ليلى الأخيليّة:
قتل ابن عفّان الإما ... م وضاع أمر المسلمينا [3]
وتشّتتت سبل الرّشا ... د لصادرين وواردينا
فانهض معاوى نهضة ... تشفى بها الداء الدّفينا
أنت الّذى من بعده ... تدعى أمير المؤمنينا
وقال أيمن بن خريم [4] :
ضحّوا بعثمان فى الشّهر الحرام ضحى ... فأىّ ذبح حرام ويلهم ذبحوا
وأىّ سنّة كفر سنّ أوّلهم ... وباب شرّ على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضلّ الله سعيهم ... بسفك ذاك الدم الذّاكى الذى سفحوا
ورثاه غيرهم ممّن لو ذكرنا شعرهم لأنبسط به الخبر.
__________
[1] الاستيعاب 1051 ونسبه إلى القاسم بن أمية بن أبى الصلت.
[2] الاستيعاب 1051.
[3] الاستيعاب 1051، وفيه: أيمن بن خزيمة.
[4] الاستيعاب 1051.(19/513)
تم الجزء التاسع عشر من كتاب نهاية الأرب ويليه الجزء العشرون وأوله أخبار على بن أبى طالب كرم الله وجهه.(19/514)
فهرس الجزء التاسع عشر
من كتاب نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى
.... صفحة
الباب الثانى من القسم الخامس فى أخبار الخلفاء الراشدين:
أبى بكر وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب وابنه الحسن 7
ذكر خلافة أبى بكر الصديق 8
ذكر نبذة من فضائله ومآثره فى الجاهلية والاسلام 10
ذكر صفته 24
ذكر ما ورد من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على أمته من بعده 24
ذكر بيعته وخبر يوم السقيفة وما وقع بين المهاجرين والأنصار من التراجع فى الامارة 29
ذكر ما تكلم به بعد بيعته وما قاله عمر بن الخطاب بعد البيعة الأولى وقبل البيعة الثانية 42
ذكر انفاذ جيش أسامة 46
ذكر أخبار من ادعى النبوة من الكذابين وما كان من أمرهم وتجهيز أبى بكر الجيوش اليهم والى من ارتد من قبائل العرب 49
ذكر غزوة أبى بكر وقتاله أهل الردة وعبس وذبيان 61
ذكر عقد أبى بكر الألوية وتجهيزه الجيوش لقتال أهل الردة وما كاتب به من ارتد 64
ذكر خبر طليحة الأسدى وما كان من أمره وأمر من اتبعه من قبائل العرب 69
ذكر خبر تميم وأمر سجاح ابنة الحارث بن سويد 75
ذكر مسير خالد الى البطاح ومقتل مالك بن نويرة 82
ذكر خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة 85
ذكر الحروب الكائنة بين المسلمين وبين أهل اليمامة وقتل مسيلمة 89
ذكر خبر ثابت بن قيس بن شماس فى مقتله 97
ذكر أهل البحرين ومن ارتد منهم وانضم الى الحطم وما كان من أمرهم 98(19/515)
... صفحة
ذكر مسير خالد بن الوليد إلى العراق وما افتتحه وما صالح عليه وما قرره من الجزية 106
ذكر وقعة الثنى 108
ذكر وقعة الولجة 109
ذكر وقعة أليس 109
ذكر وقعة فرات بادقلى وفتح الحيرة 111
ذكر ما كان بعد فتح الحيرة 112
ذكر فتح الأنبار 112
ذكر فتح عين التمر 113
ذكر خبر دومة الجندل 114
وقعة مصيخ 115
وقعة الثنى والزميل 115
ذكر وقعة الفراض 116
ذكر فتوح الشام 116
ذكر مسير خالد بن الوليد الى الشام وما فعل فى مسيره الى أن التقى بجنود المسلمين بالشام 118
ذكر وقعة أجنادين 120
ذكر وقعة اليرموك 121
ذكر ما وقع فى خلافة أبى بكر غير ما تقدم 126
سنة احدى عشرة 126
سنة اثنتى عشرة 127
ذكر وفاة أبى بكر الصديق ومدة خلافته 128
ذكر نبذة من أخباره وأحواله ومناقبه غير ما تقدم 130
ذكر أولاده وأزواجه 135
ذكر أسماء قضاته وعماله وكتابه وحاجبه وخادمه 144
خلافة عمر بن الخطاب 146
ذكر نبذة من فضائله ومناقبه 148
ذكر صفته 150
ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافته 154
ذكر فتوح مدينة دمشق 155
ذكر شىء مما قيل فى أمر مدينة دمشق ومن بناها 157(19/516)
... صفحة
ذكر غزوة فحل 159
ذكر فتح بلاد ساحل دمشق 160
ذكر فتح بيسان وطبرية 161
ذكر الوقعة بمرج الروم 161
ذكر فتح بعلبك وحمص وحماة وشيزر ومعرة النعمان وسلمية واللاذقية وأنطرسوس 162
ذكر فتح قنسرين ودخول هرقل القسطنطينية 164
ذكر فتح حلب وأنطاكية وغيرهما من العواصم 165
ذكر فتح قيسارية وحصن غزة 168
ذكر بيسان ووقعة أجنادين وفتح غزة وبسطية ونابلس وتبنى 169
ذكر فتح بيت المقدس وهو ايلياء 171
ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمين 173
ذكر فتح الجزيرة وأرمينية 175
ذكر فتوح العراقين وما والاها من بلاد فارس وغيرها 179
ذكر وقعة النمارق 180
ذكر وقعة السقاطية بكسكر 181
ذكر وقعة الجالينوس 182
ذكر وقعة قس الناطف (ويقال لها وقعة الجسر) 182
ذكر وقعة أليس الصغرى 185
ذكر وقعة البويب 185
ذكر خبر سوقى الخفانس وبغداد 187
ذكر خبر القادسية وأيامها 189
ذكر يوم أرماث 203
ذكر يوم أغواث 207
ذكر يوم عماس (وهو اليوم الثالث) 211
ذكر ليلة الهربر 213
ذكر يوم القادسية وقتل رستم وهزيمة الفرس 214
ذكر ما كان بعد القادسية من الحروب والأيام 219
ذكر خبر بهرسير وهى المدينة الغربية 221
ذكر فتح المدائن الغربية وهى بهرسير 222
ذكر فتح المدائن الشرقية التى فيها ايوان كسرى 224(19/517)
... صفحة
ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها 227
ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان 230
ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة وفتحه الأبلة 234
ذكر فتح تكريت والموصل 236
ذكر فتح ماسبدان 238
ذكر فتح قرقيسيا 238
ذكر فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرى 239
ذكر صلح الهرمزان وأهل تستر مع المسلمين 241
ذكر فتح رامهرمز 242
ذكر فتح السوس 246
ذكر مصالحة جنديسابور 247
ذكر انسياح الجيوش الاسلامية فى بلاد الفرس 248
ذكر غزو فارس من البحرين 249
ذكر وقعة نهاوند وفتحها 250
ذكر فتح دينور والصيمرة وغيرهما 260
ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما 260
ذكر فتح أصبهان وقم وقاشان 262
ذكر فتح قزوين وأبهر وزنجان 263
ذكر فتح الرى 264
ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستان 265
ذكر فتح أذربيجان 266
ذكر فتح الباب 268
ذكر فتح موقان 269
ذكر غزو الترك 269
ذكر غزو خراسان 271
ذكر فتح شهرزور والصامغان 276
ذكر فتح توج 276
ذكر فتح اصطخر وجور وكازرون والنوبندجان ومدينة شيراز وأرجان وسينينير وجنابا والنوبندجان وجهرم 277
ذكر فتح فسا ودرابجرد 278
ذكر فتح كرمان 279(19/518)
... صفحة
ذكر فتح سجستان 280
ذكر فتح مكران 280
ذكر فتح بيروذ من الأهواز 281
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعى والأكراد 282
ذكر فتوح مصر وما والاها 284
ذكر مسير عمرو بن العاص الى مصر 285
ذكر حصار القصر وما قيل فى كيفية الاستيلاء عليه وانتقال الروم والقبط الى الجزيرة 285
ذكر ارسال المقوقس الى عمرو فى طلب الصلح وجواب عمرو له واجتماع المقوقس وعبادة بن الصامت وما وقع بينهما من الكلام وقبول المقوقس الجزية 291
ذكر مسير عمرو لقتال الروم وما كان بينهم من الحروب الى أن فتحت الاسكندرية 302
ذكر الفتح الثانى وما وجد بالاسكندرية وعدة من ضربت عليه الجزية 307
ذكر من قال ان مصر فتحت عنوة 310
ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب 311
ذكر تحول عمرو بن العاص من الاسكندرية الى الفسطاط واختطاطه 319
ذكر خبر أصل النيل وكيف كانت عادة القبط وابطال تلك العادة 321
ذكر ما قرر فى أمر الجزية والخراج 322
ذكر خبر المقطم 324
ذكر خبر خليج أمير المؤمنين 325
ذكر الخبر من فتح الفيوم 329
ذكر فتح زويلة وطرابلس الغرب وبرقة وحصن سبرة 330
ذكر الغزوات الى أرض الروم 332
ذكر ما اتفق فى خلافة عمر بن الخطاب غير الفتوح والغزوات 333
سنة ثلاث عشرة 333
سنة أربع عشرة 333
سنة خمس عشرة 334
ذكر فرض العطاء وعمل الديوان 334
سنة ست عشره 338(19/519)
... صفحة
سنة سبع عشرة 339
ذكر بناء البصرة والكوفة 339
ذكر عزل خالد بن الوليد 342
ذكر بناء المسجد الحرام 345
ذكر عزل المغيرة بن شعبة 345
سنة ثمان عشرة 348
ولاية كعب بن سور قضاء البصرة 348
ذكر القحط وعام الرمادة 351
ذكر طاعون عمواس وتسمية من مات فيه 353
ذكر قدوم عمر الى الشام بعد الطاعون 361
سنة تسع عشرة 363
سنة عشرين 364
ذكر اجلاء يهود خيبر منها 366
سنة احدى وعشرين 366
ذكر عزل سعد بن أبى وقاص عن الكوفة ومن ولى بعده فى هذه السنة 368
سنة اثنتين وعشرين 370
سنة ثلاث وعشرين 370
ذكر خبر مقتل عمر بن الخطاب ومدة خلافته 371
ذكر قصة الشورى 378
ذكر أولاد عمر بن الخطاب وأزواجه 391
ذكر عمال عمر على الأمصار 398
كتابه 400
قضاته 400
ذكر خلافة عثمان بن عفان 402
ذكر صفته ونبذة من فضائله 403
ذكر بيعته 404
ذكر الفتوحات والغزوات فى خلافة عثمان 407
ذكر خلاف أهل الاسكندرية 407
ذكر غزو أرمينية وغيرها وما وقع من الصلح 407
ذكر غزو معاوية الروم 411(19/520)
... صفحة
ذكر فتح كابل 411
ذكر غزو افريقية وفتحها 412
ذكر فتح جزيرة قبرس 414
ذكر نقض أهل فارس وغيرهم وفتح اصطخر ودرابجرد 417
ذكر غزو طبرستان 418
ذكر غزو الصوارى 419
ذكر مقتل يزدجرد آخر ملوك بنى ساسان 420
ذكر فتح خراسان 421
ذكر فتح كرمان 424
ذكر فتح سجستان 425
ذكر خروج قارن ببلاد خراسان وقتله 427
ذكر ما وقع فى خلافة عثمان غير الغزوات والفتوحات على حكم السنين 429
سنة أربع وعشرين 429
سنة خمس وعشرين 429
سنة ست وعشرين 431
سنة سبع وعشرين 431
سنة ثمان وعشرين 432
سنة تسع وعشرين ذكر عزل أبى موسى الأشعرى عن البصرة وعثمان بن العاص عن عمان والبحرين واستعمال عبد الله بن عامر على ذلك 432
ذكر الزيادة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم 434
ذكر اتمام عثمان الصلاة وما تكلم الناس به فى ذلك 434
سنة ثلاثين 436
ذكر عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاية سعيد بن العاص 436
ذكر جمع القرآن 439
ذكر سقوط خاتم النبى صلى الله عليه وسلم 441
ذكر خبر أبى ذر الغفارى فى اخراجه الى الربذة وما تكلم الناس به فى ذلك ووفاة أبى ذر 442
سنة احدى وثلاثين 449
سنة اثنتين وثلاثين 449
ذكر وفاة عبد الرحمن بن عوف وشىء من أخباره ونسبه 450
سنة ثلاث وثلاثين 454(19/521)
... صفحة
ذكر خبر من سار من الكوفة الى الشام وما كان من أمرهم 454
سنة أربع وثلاثين 462
ذكر خبر يوم الجرعة وعزل سعيد وخروجه عن الكوفة واستعمال أبى موسى الأشعرى 462
ذكر ابتداء الخلاف على عثمان ومن ابتدأ بالجرأة عليه 465
ذكر كلام على لعثمان وجوابه له 470
ذكر ارسال عثمان الى الأمصار ليأتوه بأخبار عماله وما يقوله الناس فيهم 474
سنة خمس وثلاثين 479
ذكر خبر مقتل عثمان 485
ذكر أزواجه وأولاده 507
ذكر كتابه وحجابه وأصحاب شرطته 509
ذكر عماله على الأمصار فى سنة مقتله 509
ذكر شىء مما رثى به عثمان من الشعر 511(19/522)
المراجع
الاستيعاب فى معرفة الأصحاب لابن عبد البر (مكتبة نهضة مصر)
تاريخ ابن الأثير (نشرة منير الدمشقى)
تاريخ الطبرى (نشرة دار المعارف)
تاريخ المسعودى (نشرة المكتبة التجارية 1948 م)
ديوان حاتم (طبع ببيروت سنة 1968 م)
ديوان حسان (نشرة المكتبة التجارية سنة 1929 م)
ديوان الحطيئة (مطبعة التقدم بالقاهرة)
ديوان حميد بن ثور (طبع دار الكتب)
السيرة الحلبية (طبع بولاق 1292 هـ)
فتوح مصر لأبن عبد الحكم (طبع أوربا)
نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى (طبع دار الكتب)(19/523)
الجزء العشرون
[تتمة الفن الخامس في التاريخ]
[تتمة القسم الخامس من الفن الخامس في أخبار الملة الإسلامية]
[تتمة الباب الثاني من القسم الخامس في أخبار الخلفاء الراشدين]
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه توفيقى] [1]
ذكر خلافة على بن أبى طالب رضى الله عنه
هو أبو الحسن علىّ بن أبى طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت، وهاجرت، وهى أوّل هاشميّة ولدت (هاشميّا، وهو أوّل خليفة أبواه) [2] هاشميّان، ثم ابنه الحسن، ثم محمد الأمين، رضى الله عنهم [3] .
ذكر صفته رضى الله تعالى عنه
قال ابن الأثير الجزرىّ فى تاريخه [4] : كان- رضى الله عنه- شديد الأدمة، قصير القامة [5] ، كبير البطن، أصلع الرأس، عريض اللحية.
__________
[1] ذكر هذا الافتتاح فى نسخة (ص) ، ولم يثبت فى نسختى (ك) و (ن) .
[2] سقط هذا من نسخة (ك) ، وثبت فى (ص) و (ن) .
[3] جاء فى أسد الغابة ج 5 ص 517 أن فاطمة بنت أسد «هى أول هاشمية ولدت لهاشمى وهى أيضا أول هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت الحسن، ثم زبيدة امرأة الرشيد ولدت الأمين، لا نعلم غيرهن، ثم إن هؤلاء الثلاثة لم تصف لهم الخلافة» .
[4] الكامل ج 3 ص 199.
[5] الذى قاله ابن الأثير فى تاريخه: «هو إلى القصر أقرب» وهذا هو المناسب لما يأتى.(20/1)
وقال أبو عمر ابن عبد البر [1] رحمه الله: أحسن ما رأيت فى صفته رضى الله عنه- أنه كان ربعة [2] من الرجال، إلى القصر ما هو، أدعج [3] العينين، حسن الوجه، كأنّه القمر ليلة البدر حسنا، ضخم البطن عريض المنكبين، شثن الكفّين [4] ، أغيد [5] ، كأنّ عنقه إبريق فضّة، أصلع ليس فى رأسه شعر إلّا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبيه مشاش [6] كمشاش السبع الضارى، لا يبين [7] عضده من ساعده، قد ادّمجت ادّماجا [8] إذا مشى تكفّأ [9] ، وإن أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفّس، وهو إلى السّمن ما هو، شديد الساعد واليد، إذا مشى إلى الحرب هرول [10] ، ثبت الجنان [11] قوىّ شجاع، منصور على من لاقاه، رضى الله عنه.
__________
[1] فى كتابه «الاستيعاب فى أسماء الأصحاب» ج 3 ص 57، ثم انظر (وقعة صفين) ص 262.
[2] ليس بالطويل البائن ولا بالقصير البائن، وقد جاء ذلك فى وصف النبى صلى الله عليه وسلم، كما تقدم ج 18 ص 237، إلا أن النبى كان أقرب إلى الطول، وعليا كان أقرب إلى القصر.
[3] شديد سواد العينين مع سعتهما.
[4] أى أنهما تميلان إلى الغلظ.
[5] مائل العنق لين الأعطاف.
[6] المشاش: رءوس العظام.
[7] فى الاستيعاب: «لا يتبين» ، وهما بمعنى واحد.
[8] أورد صاحب الرياض النضرة ج 2 ص 156 صفة على رضى الله عنه مشتملة على مثل ما هنا، ثم قال فى شرح هذا الموضع منها: «يريد أن عظمى عضده وساعده الينهما قد اندمجا.
وهكذا هو فى صفة الأسد، والضارى: المتعود للصيد» 10 هـ فيكون «ادّمجت» بتشديد الدال بمعنى «اندمجت» ، ويجوز أن يكون «أدمجت» بضم الهمزة وسكون الدال وكسر الميم، لقول اللغويين: رجل مدمج بسكون الدال أى كالحبل المحكم الفتل.
[9] أسرع فى المشى كأنه يميل إلى قدام من سرعة مشيه.
[10] أسرع فى المشى دون أن يعدو.
[11] ثابت القلب.(20/2)
ذكر نبذة من فضائله رضى الله تعالى عنه
هو- رضى الله عنه- أوّل من أسلم، عند بعضهم، على ما فى ذلك من الاختلاف فيه وفى أبى بكر، رضى الله عنهما، وأيّهما سبق إلى الإسلام ...
وقد ذكرنا ذلك كله فى ابتداء السيرة النبويّة، فى السّفر الرابع عشر من هذه النسخة [1] ، فلا فائدة فى إعادته، فلنذكر من فضائلة خلاف ذلك:
أجمعوا [2] على أنه- رضى الله عنه- صلّى إلى القبلتين، وهاجر وشهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلّا غزوة تبوك [3] ،
فإنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام خلّفة بالمدينة على عياله، وقال له: أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبىّ بعدى
. رواه جماعة من الصحابة [4] .
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا آخى بين المهاجرين، [ثم آخى بين المهاجرين والأنصار [5]] ، قال فى كل واحد منهما لعلىّ: «أنت أخى فى الدنيا والآخرة» ، وآخى بينه وبين نفسه.
ولذلك قال علىّ لأصحاب الشّورى [6] : أنشدكم [7] الله، هل
__________
[1] أنظر ص 180 من السفر السادس عشر من هذه النسخة المطبوعة.
[2] الاستيعاب ج 3 ص 33.
[3] تبوك: موضع بين وادى القرى والشام، وقد سبق «ذكر غزوة تبوك» فى الجزء السابع عشر ص 352.
[4] أنظر صحيح مسلم ج 15 ص 175 والرياض النضرة ج 2 ص 162 وغيرهما.
[5] سقطت هذه الجملة من (ك) ، وثبتت فى (ص) ، (ن) كما فى الاستيعاب ج 3 ص 35 وقد سبق فى نهاية الأرب ج 16 ص 347 قوله: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار» .
[6] روى ابن عبد البر بسنده عن أبى الطفيل قوله: لما احتضر عمر جعلها شورى بين على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد، فقال لهم على: أنشدكم الله.. الخ
[7] أنشدكم: أسألكم وأستحلفكم.(20/3)
فيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينه- إذ آخى بين المسلمين- غيرى؟ قالوا: اللهمّ لا وربّنا. وكان يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد غيرى إلّا كذّاب.
وروى بريدة وأبو هريرة وجابر والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، كلّ منهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم غدير خمّ [1] : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» وفى رواية بعضهم «اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه»
. وقد ذكرنا [2] فى غزوة خيبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ليس بفرّار، يفتح الله على يديه»
وأنّه أعطى الراية لعلىّ، ففتح الله على يديه.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو شابّ، ليقضى بينهم، فقال: يا رسول الله إنّى لا أدرى ما القضاء؟ فضرب
__________
[1] «خم» اسم رجل صباغ، أضيف إليه الغدير الذى بالجحفة بين مكة والمدينة.
وقد جاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 169 قول البراء بن عازب: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودى فينا: «الصلاة جامعة» وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فصلى الظهر، وأخذ بيد على وقال: ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى، فأخذ بيد على وقال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
، وجاءت فى صحيح مسلم ج 15 ص 179 رواية أخرى عن زيد ابن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى «خما» بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال فى آخر الحديث: أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أ: كركم الله فى أهل بيتى
. وانظر البداية والنهاية ج 17 ص 346.
[2] ج 17 ص 252- 253، وانظر فى صحيح البخارى الحديثين 3465، 3466 وانظر صحيح مسلم بشرح النووى ج 15 ص 176.(20/4)